المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلة نقد المرويات (3)   مقارنة المرويات   بقلم إبراهيم بن عبد الله اللاحم   الجزء الأول   مؤسسة - مقارنة المرويات - جـ ١

[إبراهيم اللاحم]

فهرس الكتاب

سلسلة نقد المرويات (3)

مقارنة المرويات

بقلم

إبراهيم بن عبد الله اللاحم

الجزء الأول

مؤسسة الريان ناشرون

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

مقارنة المرويات

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1433 هـ - 2012 م

ص: 4

‌مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فهذا هو القسم الثالث من سلسلة نقد المرويات: (مقارنة المرويات)، يصدر الآن في جزأين، يتضمنان ثلاثة أبواب، الباب الأول للمسائل المتعلقة بأهمية جمع الطرق، ومصادرها، وكيف يرتبها الباحث، والتعريف ببعض ما يمر بالباحث من مصطلحات، وإلمامة سريعة بوسائل النقد في عصر الرواية، وهذه كلها مقدمات لا بد أن يدركها الباحث، ويحسن التعامل معها.

ثم بعد ذلك في الباب الثاني القضايا المتعلقة بتفرد الراوي بالحديث، وفي الباب الثالث -وهو أطولها- قضايا الاختلاف، وعلل الأحاديث.

سرت في هذا القسم على الطريقة السابقة في القسمين الأولين: التعرض لأكبر قدر ممكن من قضايا النقد، والإكثار من ضرب الأمثلة في القضية المعينة، وذكر ما يقع من مخالفات للمنهج الصحيح في النقد في مناسبات ذلك، والحرص على ربط مسائل هذا العلم بعضها ببعض.

وقد سألني بعض الإخوان ممن قرأ الكتابين الأولين «الجرح والتعديل» ، و «الاتصال والانقطاع» ، عن منهج تخريج الأحاديث في هذه السلسلة، فبعض الأحاديث يطول تخريجها، وبعضها يقصر، ثم قد يوجد الحديث في مصادر عالية وقد ذكر في التخريج ما هو دونها ولم تذكر، فأحببت أن أوضح ذلك للقارئ.

فمنهج التخريج -باختصار- يرتكز على الاكتفاء بتخريج الحديث في

ص: 5

قضيته المقصودة عند ذكره، ولا يزاد عليها، فإذا كان المقصود طرق الحديث عن أحد رواته -مثلا-، كان التخريج لهذه الطرق فقط دون ما عداها.

يضاف إلى ذلك أن هذه الطرق إن كانت في شيء من الكتب الستة و «مسند أحمد» ، فيكتفى بها، ولا يزاد عليها، مع الالتزام باستيعاب التخريج منها، وإن كان هناك طرق يحتاج إليها غير موجودة في هذه المصادر السبعة، يكون الخروج إلى غيرها من المصادر، وأذكر منها حينئذ ما يفي بالحاجة.

وعلى هذا فرب حديث في تخريجه مصادر نازلة، كالطبراني، والبيهقي، ونحوهما، مع أن الحديث موجود في مصادر عالية، مثل «مصنف عبدالرزاق» ، و «مصنف ابن أبي شيبة» ، و «مسند الحميدي» ، وغيرها، والسبب هو ما ذكرته، أن ما في هذه المصادر من طرق موجود في الكتب الستة و «مسند أحمد» ، فيكتفى بها، وما في المصادر النازلة غير موجود في هذه المصادر السبعة، فتضاف حينئذ.

وبهذين الضابطين في منهج التخريج أمكن تفادي إطالة الحواشي، فبها يتضخم الكتاب، وربما ضاع الغرض من التخريج، فعلى القارئ أن ينتبه لهذا حين يريد الاستفادة من التخريج.

وأود هنا أن أقدم شكري الجزيل للأخوين الفاضلين محمد بن صالح الدباسي، ومحمد بن عبدالله السريِّع، فقد تفضلا بقراءة هذا القسم، وتصحيحه بعد طباعته، ولفتا نظري إلى أشياء مهمة.

كما أشكر الباحثة الفاضلة الدكتورة سارة بنت عزيز الشهري، فقد كانت

ص: 6

لها يد خفية في إعداد هذا القسم، وقصة ذلك أنها أحسنت الظن بي، فطلبت أن أكون مشرفا على رسالتها للدكتوراه، وموضوعها:«الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» جزء من أول الكتاب، فكان في ذلك فائدة كبيرة بالنسبة لي، فقد طورت بحرصها وجدها طريقة الإشراف على الرسائل لدي في جوانب كثيرة.

وأيضا -وهو المقصود هنا- استفدت من أسئلتها ومباحثاتها معي في إعداد هذا القسم، فكنت أتلمس فيما تسأل عنه وتناقش فيه حاجة الباحث الناظر في طرق الأحاديث والمقارنة بينها، فأضفت قضايا لم تكن موجودة، وأعدت ترتيب بعض القضايا وموضعها في الكتاب.

ثم إنني تلقيت من كثير من الإخوان بعض الملاحظات على الكتابين الأولين، فلهم مني شكري وتقديري، وآمل أن أتلقى منهم ومن غيرهم ما أسدد به هذا الكتاب أيضا، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه.

أسأل الله تعالى للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

كتبه

إبراهيم بن عبدالله اللاحم

ص: 7

‌تمهيد

يقصد بمقارنة المرويات: عرض المرويات بعضها على بعض، والتأمل فيها، وتمييز ما يتفق منها وما يختلف، بغرض الوصول إلى رأي راجح في المتن المروي عنه صلى الله عليه وسلم، هل يصح ويثبت عنه، أو لا؟ .

وتتضمن هذه المقارنة وهذا العرض: النظر في طرق الحديث الواحد، وشواهده، وما في الباب من أحاديث أخرى معارضة له، وما يروى عن أحد رواته مما يعارضه ويخالفه، والنظر كذلك في معارضة القرآن له أو موافقته، وأشياء أخرى غير هذه.

وما ينقل عن غيره صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، وكذلك الحوادث التاريخية، يطبق عليه هذا المنهج في الجملة، مع اختلاف الأصول التي يحاكم إليها النص موضع الدراسة.

والمتأمل في عمل أئمة النقد يرى بوضوح أن نقد المرويات بجميع أبوابه وقضاياه قائم على العرض والمقارنة، فما تقدم في الجرح والتعديل، وفي اتصال الإسناد وانقطاعه، أمكن الوصول إليه بهذه الطريقة، أي أن وضع الراوي في درجته اللائقة به، ومعرفة سماعه ممن فوقه، استخدم النقاد في الوصول إليه مقارنة مروياته فيما بينها، ومقارنة مروياته بمرويات غيره، لكن الذي ظهر لنا هو نتائج تلك المقارنة، وإدراك ذلك له أثره في نقد المرويات بالنسبة للمتأخر، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القضية في أماكن من القسمين السابقين، وتأتي

ص: 8

الإشارة إليها أيضا، فهي قضية في غاية الأهمية، يحسن التأكيد عليها في كل مناسبة.

والباحث هناك لا يقوم بمقارنة المرويات للوصول إلى درجة الراوي، ولا إلى سماعه ممن يروي عنه، إلا في النادر جدا، لكونه قد كفي هذا الأمر، ووصلته أحكام جاهزة مبنية على تلك المقارنة.

أما الآن فالوضع مختلف، فالباحث ليس بصدد معرفة درجة الراوي بصفة عامة، ولا معرفة سماعه ممن فوقه، وإنما غرضه الآن أدق من ذلك، وهو الوصول إلى نتيجة راجحة في حديث الراوي الذي بين يديه بخصوصه، إذ النتيجة هذه لا تتوقف على معرفة رتبة الراوي، وسماعه ممن فوقه، وإنما تتوقف كذلك على النظر في حديثه هذا هل أصاب فيه أو أخطأ؟ وإذا كان قد أصاب فيه فما درجة هذا الحديث؟ وإذا كان قد أخطأ فيه فما درجة هذا الخطأ؟ .

وعقدة المسألة ترجع إلى أمر في غاية الأهمية، إذا لم يتصوره الباحث ولم يدركه فليدع النقد، وليعلم أنه وقع في هوة تتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وهذا الأمر هو أن الأحكام التي أطلقها النقاد على الرواة وعلى سماع بعضهم من بعض، هي أحكام مجملة، لا مانع من وجود ما يخالفها في تفاصيل أحاديث الرواة حديثا حديثا، فالنقاد يوثقون الرواة مع تجويز الخطأ عليهم، بل والنص عليه، فليس هناك أحد معصوم من الخطأ، ويضعفون الرواة، مع تجويز أن يكونوا قد حفظوا بعض حديثهم، وليس هناك من سبيل إلى معرفة الحديث الذي بين يدي الباحث هل هو مما أصاب فيه أو مما أخطأ فيه، إلا بالنظر فيه، والقيام بالمقارنة المشار إليها.

ص: 9

والأمر كذلك بالنسبة للاتصال والانقطاع، فلا يكفي معرفة سماع الراوي ممن فوقه، بل لا بد أن يترجح سماعه ذلك الحديث بعينه منه.

واتضح مما تقدم أن الغرض من المقارنة، والبحث عن طرق وروايات أخرى للحديث، ليس تقوية الحديث فقط، كما هو مترسخ في أذهان كثير من الباحثين، فيرددون في مقدمات بحوثهم العبارة التالية أو نحوها: فإن كان الإسناد صحيحا اكتفيت به، وإن كان حسنا أو ضعيفا بحثت له عن متابعات وشواهد لتقويته، فهذه عبارة تومئ إلى خلل في منهج البحث، إذ لا يصح أصلا أن يكون غرض الباحث هو التفتيش عما يرفع الضعف، ويجبره، فإن هذه تعد نتيجة قصدها الباحث، كان لها أثرها في حرص كثير من الباحثين على رفع درجة الحديث بالمتابعات والشواهد، فوق أنها تومئ إلى فهم ناقص للغرض الذي من أجله نحتاج إلى جمع الطرق والشواهد، وأحاديث الباب، يضاف إلى ذلك إغفالها أمورا أخرى لا بد من عرض الحديث عليها.

فالباحث إذن وهو يجمع طرق الحديث وشواهده، وما يلزم النظر فيه، لا يصح أن يكون غرضه محددا، فغرضه الصحيح هو انتظار النتيجة المناسبة في النهاية، وليس البحث عنها، ولو كان هناك نتيجة يصح البحث عنها مسبقا لكانت بضد ما في أذهان هؤلاء الباحثين، ألا وهي البحث عما يضعف الحديث، لأسباب ليس هذا موضع شرحها، ويهمنا منها هنا كلام أئمة النقد، كما في قول عبدالرحمن بن مهدي: «لأن أعرف علة حديث هو عندي، أحب إلي من أن

ص: 10

أكتب حديثا ليس عندي»

(1)

.

وفي لفظ له: «لأن أعرف علة حديث هو عندي، أحب إلي من أكتب عشرين حديثا ليس عندي»

(2)

.

ولهذا السبب استحب أئمة النقد الإكثار من كتابة الحديث، وكتابة الجميع دون انتقاء وانتخاب، مسند الحديث، ومرسله، مرفوعه وموقوفه، ومقطوعه، وأحاديث الضعفاء، ليعرض بعضه على بعض، فيتبين الصواب من الخطأ.

قال ابن المبارك: «ما جاء من منتقٍ -يعني منتقي الحديث- خير قط»

(3)

.

وقال أيضا: «ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت»

(4)

.

وقال أيضا: «إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض»

(5)

.

وروى الميموني، قال: «تعجب إلي أبو عبدالله -يعني أحمد بن حنبل- ممن يكتب الإسناد، ويدع المنقطع، ثم قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادا وأكبر، قلت: بينه لي، كيف؟ قال: يكتب الإسناد متصلا وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسنادا منه، وهو يرفعه ثم يسنده، وقد كتبه هو على أنه متصل، وهو يزعم

(1)

«علل الحديث» لابن أبي حاتم 1: 10.

(2)

«معرفة علوم الحديث» ص 112، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 295، وانظر أيضا: 2: 191.

(3)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 187.

(4)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 156.

(5)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 296.

ص: 11

أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، معناه: لو كتب الإسنادين جميعا عرف المتصل من المنقطع، يعني ضعف ذا، وقوة ذا»

(1)

.

ومراده أن الحديث الواحد يختلف على أحد رواته، فيروى عنه مرة متصلا، ومرة منقطعا، وقد يكون المنقطع أقوى إسنادا إليه، فإذا لم يكتب الإسناد المنقطع وكتب المتصل فقط لم تتبين هذه العلة.

وذكر أحمد بعض قرنائه في الطلب، ومتى عرفهم، فذكر إسحاق بن راهويه، فقال:«عند عبدالرزاق، وكان ربما انتخب الكتب، ثم أعود أنا فأكتب ما تركه»

(2)

.

وقال يحيى بن معين: «اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة»

(3)

.

وقال أيضا: «لو لم نكتب الشيء من ثلاثين وجها ما عقلناه»

(4)

.

وقال أيضا: «من لم يكتب حديث معاوية بن سلام مسنده ومنقطعه فليس هو صاحب حديث»

(5)

.

وقال ابن المديني: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين لك خطؤه»

(6)

.

وهكذا يقال في فهم الحديث والاستنباط منه، هو بحاجة إلى جمع طرقه

(1)

«الكفاية» ص 395، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:191.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 256.

(3)

«الجامع لأخلاق الراوي» ، 2:212.

(4)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 658، و «المجروحين» 1: 33، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:212.

(5)

«الجرح والتعديل» 8: 383.

(6)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 212.

ص: 12

ورواياته، كما قال أحمد:«الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا»

(1)

.

والأصل عندهم هو الكتابة عن الراوي جميع ما عنده، ويسمونه الكتابة على الاستيعاب، أو على الوجه، أو على الولاء، وهو بضد الانتخاب والانتقاء، وإنما يحسن الانتخاب والانتقاء في مواضع، وقد لخص الخطيب البغدادي ذلك بقوله: «إذا كان المحدث مكثرا، وفي الرواية متعسرا، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه، وينتخبه، فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره، ويتجنب المعاد من رواياته، وهذا حكم الواردين من الغرباء، الذين لا يمكنهم طول الإقامة والثواء.

وأما من لم يتميز للطالب معاد حديثه من غيره، وما يشارك في روايته مما يتفرد به، فالأولى أن يكتب حديثه على الاستيعاب، دون الانتقاء والانتخاب»

(2)

.

واليوم قد ذهب عصر الكتابة والحفظ، ولم يبق إلا البديل عنه، وهو التفتيش عن الطرق والروايات، وأحاديث الباب الموافقة والمخالفة، والنظر فيها، ثم عرض الحديث على أصول أخرى غير الحديث، وهذه القضايا لها وسائل لتحقيقها، ولها أيضا قواعد يسير عليها الباحث.

وأبواب هذا الكتاب بفصولها الغرض منها شرح كيفية جمع الطرق، وأحاديث الباب، وكيفية عرض المرويات ومقارنتها، وما يحكم ذلك من قواعد

ص: 13

وضوابط، حرصت فيها على الإكثار من الأمثلة التطبيقية لكل قضية أتناولها، تكون مفتاحا لطالب العلم، ينطلق منها إلى التطبيق على أمثلة أخرى قد تمر به في بحوثه، فإن مجرد التنظير وشرح القواعد والضوابط غير كاف أبدا، فلا بد -بعد معرفتها- من طول الممارسة، والصبر، والأناة، لتتكون لدى الباحث ملكة يستطيع بها معرفة اختلاف الأسانيد واتفاقها، ثم كيفية عرض هذه الأسانيد وهذه الطرق للقارئ، مع فهم كلام النقاد حولها، وحسن الاستدلال به في موضعه، فإن نقد المرويات ذوق يرزقه الشخص إذا أخذ بأسبابه، وهو الذي كان النقاد يعبرون عنه بأنه إلهام أو كهانة

(1)

، ويقصدون به أنه مجموعة من المعارف يتم توظيفها في لحظة معينة، للحكم على حديث، وغير المشارك لهم في هذه المعارف لا يتقبل ذهنه ما يصدر عنهم من أحكام، أو ما يسيرون عليه من قواعد.

فالمطلوب إذن من الناقد للسنة في العصور المتأخرة هو النظر في الطرق، وكثرة الممارسة، وإدمان القراءة في كتب النقاد، ليستطيع مشاركة النقاد في هذا العلم، بالقدر الذي تؤدي إليه الأسباب الممكنة، وهو -كما تقدم- إدراك الاتفاق والاختلاف في الأسانيد، وتشعبها، وعرض الروايات بعضها على بعض، وحسن عرض ذلك وتلخيصه عند الحاجة، مع فهم كلام النقاد، وعدم النفرة منه، ووضعه في مكانه المناسب له، وترتيبه، وشرحه، والاستدلال له، وقد يحتاج الباحث إلى تطبيق قواعدهم وما يسيرون عليه في مواقف لم يجد لهم فيها

(1)

انظر: «الجرح والتعديل» 1: 349، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 10، و «معرفة علوم الحديث» ص 113، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:255.

ص: 14

كلاما، مع الحذر الشديد، ومزيد اليقظة والانتباه.

قال الخطيب البغدادي: «أشبه الأشياء بعلم الحديث: معرفة الصرف، ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدرهم بلون، ولا مَسٍّ، ولا طراوة، ولا دنس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج والزائف، والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به»

(1)

.

وقال ابن رجب: «لا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه، كأحمد، وابن المديني، وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك، وفهمه، وفقهت نفسه فيه، وصارت له فيه قوة نفس وملكة - صلح له أن يتكلم فيه»

(2)

.

وقال السخاوي: «الله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا، تفرغوا وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك -إن شاء الله- معرفة السنن

ص: 15

النبوية، ولا قوة إلا بالله»

(1)

.

والغرض من هذه النقول هنا التأكيد على طول الممارسة، وكثرة المطالعة في كتب النقاد الأوائل، ليستطيع فهم كلامهم، وعدم إنكاره، والسير على طريقتهم.

وسيأتي في مناسبات عديدة مزيد تأكيد على هذه القضية، وبيان القدر الذي يشارك الباحث فيه أئمة النقد.

* * *

(1)

«فتح المغيث» 1: 274.

ص: 16

‌الباب الأول

مقدمات في مقارنة المرويات

وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول: مصادر طرق الأحاديث واختلافها كثرة وقلة.

الفصل الثاني: مصطلحات في مقارنة المرويات.

الفصل الثالث: الرسم التوضيحي لأسانيد الحديث.

الفصل الرابع: النقد في عصر الرواية.

ص: 17

‌الفصل الأول

مصادر طرق الأحاديث واختلافها كثرة وقلة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: مصادر طرق الأحاديث.

المبحث الثاني: كثرة طرق الأحاديث وقلتها.

ص: 19

‌المبحث الأول

مصادر طرق الأحاديث

أول ما يذكر في مصادر طرق الأحاديث كتب الرواية الجامعة، وهي التي تعرف بأمّات كتب السنة، مثل الصحاح، والجوامع، والمصنفات، والسنن، والمسانيد، والمستخرجات، وما ألف على شاكلة هذه الكتب تحت مسميات أخر، مثل كتاب الطحاوي «شرح مشكل الآثار» ، وكتاب الطبري «تهذيب الآثار» ، وغيرها، فهذه كتب ألفت بقصد جمع السنة النبوية، وفق منهج كل مؤلف، وغرضه من تأليف كتابه، فهي إذن المصدر الأساس لطرق الأحاديث.

ويلتحق بهذه الكتب ما ألفه أئمة الحديث على طريقة الإفراد، أي إفراد موضوع معين بالتأليف، ومن أمثلة هذا النوع من المؤلفات:«الصلاة» لأبي نعيم، و «الزهد» لوكيع، ولهناد بن السري، ولأحمد، و «فضائل الصحابة» لأحمد، و «الأدب المفرد» ، و «جزء القراءة خلف الإمام» للبخاري، و «الشمائل المحمدية» للترمذي، و «خصائص علي» للنسائي، و «تعظيم قدر الصلاة» للمروزي، و «الأموال» لأبي عبيد، ولابن زنجويه، و «الطهور» لأبي عبيد، و «الدعاء» للطبراني، وكتب ورسائل ابن أبي الدنيا، وغير ذلك كثير جدا.

ويتميز هذا النوع من المؤلفات بكثرة الأحاديث ووفرة طرقها، خاصة منها ما كان موضوع الكتاب فيه ضيقا، إذ المجال رحب للمؤلف ليسوق من الطرق ما يريد، لا سيما إذا تخفف من شرطه، فكتاب (الأدب) في «صحيح البخاري» ،

ص: 21

لا يقارن عدد الأحاديث وطرقها فيه بما في كتابه الآخر «الأدب المفرد» ، لأن الأول في ضمن كتاب شامل للأدب وغيره، مع نزول شرطه في «الأدب المفرد» ، وهكذا كتابه الآخر «جزء القراءة خلف الإمام» فيه من الأحاديث وطرقها ما يفوق بكثير ما في كتابه «الصحيح» مما يتعلق بهذه المسألة.

وهكذا يقال فيما ألف في هذا العصر -عصر الرواية- من الأجزاء الحديثية التي تجمع أحاديث صحابي واحد، أو راو واحد من رواة الحديث، أو ما ينفرد به راو، أو جمع طرق حديث معين، ونحو ذلك.

ومن مصادر الطرق أيضا ما ألف في عصر الرواية مما له صلة بعلوم أخرى، كالتفسير، والفقه، والعقائد، والتاريخ، والأدب، وغير ذلك.

ففي التفسير يذكر «تفسير الطبري» ، و «تفسير ابن أبي حاتم» ، و «تفسير سعيد بن منصور» .

وفي الفقه مثل كتاب «الحجة على أهل المدينة» لمحمد بن الحسن، و «الأم» للشافعي، و «الأوسط» لابن المنذر، و «شرح معاني الآثار» للطحاوي، وغيرها.

وفي العقائد مثل «الشريعة» للآجري، و «السنة» لعبدالله بن أحمد، و «التوحيد» لابن خزيمة، و «الإيمان» لابن منده، و «الأسماء والصفات» للبيهقي، وغيرها.

وفي التاريخ مثل «سيرة ابن إسحاق» ، و «طبقات ابن سعد» ، و «تاريخ الطبري» .

ص: 22

ومن مصادر الطرق أيضا ما ألف بغرض نقد الراوي أو المروي، ويشمل ذلك شريحة واسعة جدا من الكتب، ابتداء من الكتب الأولى التي كان فيها نقد الراوي والمروي مختلطا، مثل «سؤالات أبي داود لأحمد» ، و «مسائل أبي داود عن أحمد» ، و «العلل ومعرفة الرجال» لأحمد، رواية عبدالله، ورواية المروذي، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» ، و «سؤالات ابن الجنيد لابن معين» .

ثم الكتب المخصصة لنقد المرويات، وهي التي عرفت بكتب العلل، مثل «علل ابن المديني» ، و «علل الترمذي الكبير» ، و «علل ابن أبي حاتم» ، و «علل الدارقطني» .

والكتب المخصصة للرواة أنفسهم، مثل «التاريخ الكبير» ، و «التاريخ الأوسط» وهما للبخاري، و «الضعفاء» للعقيلي، و «الكامل» لابن عدي، و «المجروحين» لابن حبان.

ويدخل في هذه الكتب تواريخ البلدان، مثل «تاريخ واسط» لبحشل، و «تاريخ جرجان» للسهمي، و «تاريخ أصبهان» لأبي نعيم، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي.

ويدخل فيها أيضا معاجم الشيوخ، مثل «معجم شيوخ الإسماعيلي» ، و «المعجم الأوسط» ، و «المعجم الصغير» للطبراني، وغيرها.

وخلاصة ما تقدم أن كل كتاب مما ألف في عصر الرواية فهو مصدر أصيل، يحتاجه الباحث، لا غنى له عنه.

ص: 23

ثم نأتي إلى‌

‌ المصادر الفرعية، وهي التي ألفت بعد عصر الرواية

، أي بعد أن تحولت الرواية إلى رواية مصنفات من تقدم، وهي مصادر واسعة جدا، مثل كتب ابن الجوزي، وابن عساكر، وعبدالغني المقدسي، وابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، وابن كثير، وابن رجب، والعراقي، وابن الملقن، وابن حجر، سواء ما كان منها يروي فيه مؤلفه أحاديثه بالأسانيد، أو مما حذفت أسانيده.

فهذا النوع من المصادر هو أيضا مورد معين لطرق الأحاديث، يحتاجه الباحث، لا يستغني عنه، فقد حفظت هذه المصادر كثيرا من الأسانيد التي فقدت مصادرها الأصلية، فكتاب «المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية» لابن حجر حفظ أسانيد كثيرة لمسانيد مفقودة الآن، مثل «مسند مسدد» ، و «مسند العدني» .

ثم هناك جانب آخر مهم جدا يبرز أهمية هذه المصادر البديلة، وهي أنها تارة تكون نسخا أخرى لمصادر أصلية وصلت إلينا، فيوجد فيها أسانيد ليست في المصادر الأصلية، كما يستفاد منها حين يكون هناك إشكال في أسانيد الأحاديث أو متونها، فكم من إسناد في مصدر أصلي تم تصويبه من «تحفة الأشراف» للمزي، أو من «إتحاف المهرة» لابن حجر.

وفي الكلام على مصادر الأحاديث وطرقها أنبه على عدد من الأمور:

الأول: يتساءل كثير من الباحثين عن الطريقة المثلى للوصول إلى طرق الأحاديث في مصادرها، والتأكد من أن الباحث لم يفته شيء منها.

ص: 24

والإجابة عن هذا التساؤل قد تبدو ظاهرة في الوقت الحاضر، فالحاسب الآلي قد تكفل بذلك كله، خاصة بعد التوسع في إدراج المصادر المفهرسة، وشمولها للمخطوطات أيضا، فقد قضى الحاسب الآلي ببرامجه المتنوعة على الطرق القديمة، مثل «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي» ، و «مفتاح كنوز السنة» ، و «تحفة الأشراف» ، وغيرها من كتب الفهرسة.

وهذه الإجابة لا إشكال فيها، فلا أحد ينكر الثمرة التي جناها الباحثون من الحاسب الآلي وبرامجه، فاختصرت الوقت والجهد، ولا زالت الجهود مستمرة لإخراج برامج أكثر دقة وأوسع نطاقا.

وفي رأيي أن الباحث مع وجود هذه الخدمة لا يستغني عن الجرد المباشر للمصادر، فالبحث عن الطرق يختلف اختلافا جذريا عن مجرد تخريج متن حديث، فطرق الأحاديث ربما ذكرت في بعض المصادر دون ذكر متنها، أو مع ذكر طرف من المتن قد لا يكون هو الذي مع الباحث، وربما اعتاض المؤلف أو السائل عن سرد المتن بذكر موضوع الحديث، وقد يأتي الطريق في أثناء طرق حديث آخر، يشير إليه المؤلف لغرض استوجب ذلك.

وكل هذا موجب -فيما أرى- لقيام الباحث بالجرد المباشر للمصادر، خاصة ما كان منها ليس المقصود منه الرواية كالسؤالات، وكتب العلل، وكتب النقد بصفة عامة.

ثم ههنا أمر آخر، وهو أن برامج الحاسب الآلي قد تكون خالية من حواشي

ص: 25

الكتب، وفي هذه الحواشي فوائد يحتاجها الباحث، ومنها ما يتعلق بجمع الطرق، فيكون المحقق قد قام بتخريج الحديث، وذكر شيئا من مصادر طرقه، وقد ينبه المحقق على أشياء في نسخ الكتاب المخطوطة هي من غرض الباحث.

ومما يجدر ذكره هنا في وسائل جمع طرق الحديث تلك الجهود العظيمة التي قام بها عدد من الباحثين في رسائلهم العلمية، للماجستير، أو للدكتوراه، خاصة ما كان منها يستلزم التوسع في جمع الطرق، وهي التي يكون موضوعها أحاديث معللة، فهي -بلا جدال- وسيلة هامة بالنسبة للباحث، تساعده في سرعة إنجاز عمله، وفي توسعه في جمع الطرق.

ومما ينبه عليه الباحث المتخصص في السنة النبوية أن يدرك تمام الإدراك أن أي وسيلة يستخدمها تساعده في الوصول إلى طرق الأحاديث في مصادرها لا ينبغي أن تتجاوز كونها وسيلة توصله إلى مقصوده، فإذا أوصلته انتهى المطلوب منها، وبقي عليه جهده في تأمل ما في المصدر، فلا يقلد تلك الوسيلة في شيء مما يتعلق بالنظر في الحديث، لا في إسناده، ولا في متنه، فالباحث هو المسؤول الأول عن كل شيء يثبته في بحثه، ومن دله على موضع طريق لحديثه وقفت مهمته عند هذا الحد.

والوسائل قد تخطئ في عزو طريق، أو في صفته، أو في صلته بالحديث، وغير ذلك، فلا حجة للباحث إذا قلدها، وعليه أن يستحضر أن توافر وسائل الدلالة على مواضع الطرق وإن كان قد اختصر الوقت والجهد، لكنه أضاف

ص: 26

أعباء كثيرة على الباحثين، فالوصول إلى المعلومة جزء أولي من مهمة الباحث، والجهد الأكبر هو في التعامل مع هذه المعلومة، وسهولة الوصول إلى طرق الأحاديث وسع جدا من دائرة نظر الباحث، وزاد من أعبائه، فالتعامل مع طرق الأحاديث -قبل النظر فيها من جهة قواعد الحكم على الحديث- هو بحد ذاته فن يحتاج إلى دربة ومران، وسيأتي لذلك فصل خاص به، وهو الفصل الثالث من هذا الباب.

ثم على الباحث أن يستحضر أيضا سعة مصادر طرق الأحاديث وتنوعها، فمن المحتمل جدا أن يفوت الباحث شيء من أسانيد حديثه، رغم وجود ذلك فيما وصل إلينا من كتب ومؤلفات، فعليه أولا أن يلتمس العذر لغيره ممن فاته شيء من ذلك، ثم هو يكون سريع الاستحضار لأحاديثه التي يبحث فيها، فإذا وقف على طريق -ولو بعد حين- ألحقه بمكانه، واستفاد منه، فهكذا كان نقاد المرويات، يسير نقدها في عروقهم، وهي شغلهم الشاغل، كما قال علي بن المديني:«ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة»

(1)

.

الأمر الثاني: تبين من عرض مصادر طرق الأحاديث سعة دائرة هذه المصادر، وتنوعها، بما لا يمكن الإحاطة به، فإذا ضممنا إلى ذلك حال هذه المصادر، من جهة روايتها عن مؤلفيها، وأن الكتاب الواحد مثل «صحيح البخاري» ، و «سنن أبي داود» ، و «سنن النسائي الكبرى» ، يكون له عدة روايات عن مؤلفه.

ص: 27

ثم هذه الروايات مَرَّ عليها عصور متعاقبة، فصار لكل منها في بعض الأحيان فروع من الروايات، ولكل فرع نسخ متعددة.

وضممنا إلى ذلك كله حفظ هذه المصادر إلى زماننا هذا، أو فقدانها، ثم تنوع الموجود منها ما بين مخطوط ومطبوع، وتعدد طبعات الكتاب الواحد أحيانا، ومنها الطبعة الجيدة المحققة، والطبعة الرديئة.

إذا عرفنا ذلك كله -وغيره مما يتعلق بهذه المصادر- أدركنا بسهولة أن أحوال هذه المصادر من الجهات المتقدم ذكرها قد شكل علما مستقلا برأسه، يتفاوت فيه الباحثون جدا، فنحن بأمَسِّ الحاجة إلى من يولي عنايته هذا الأمر، ويخصص فيه قراءاته وبحوثه، ويكون فيه مرجعا للباحثين.

وأكثر من ذلك أن بعض مصادر السنة يمكن أن تحتمل من يتخصص فيها، فلو أخذنا -مثلا- «صحيح البخاري» ، أو «موطأ مالك» ، أو «سنن أبي داود» لرأينا ما يتعلق به من الجهات المتقدمة ما يحتمل أن يتوجه له بعض الباحثين، ويتخصص فيه.

ولا شك أن هناك جهودا قد بذلت لحصر مطبوعات المصادر والمؤلفات في السنة النبوية، وصدرت كتب في ذلك، كما أن هناك بعض الفضلاء من الباحثين له اهتمام بالمصادر، وما يتعلق بها من أحوال، غير أن الحاجة -فيما أرى- فوق ذلك بكثير، وفي الأقسام العلمية في الجامعات -وهذا مما يؤسف له- عزوف عن التوجه إلى هذا النوع من البحوث.

ص: 28

الأمر الثالث: من مصادر المرويات -وهذا قليل- ما لا يصح عمن نسب إليه، وقد تصح نسبته إليه لكنه في نفسه متهم بالكذب، مثل «المسند» المنسوب للإمام زيد بن علي، فراويه عن زيد هو عمرو بن خالد الكوفي الواسطي، وهو متروك يضع الحديث، أطبق أئمة النقد على تكذيبه، ومما قيل فيه قول وكيع:«كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط»

(1)

، وقال أحمد:«كذاب، يروي عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب»

(2)

.

و«مغازي الواقدي» ، فالواقدي نفسه -واسمه محمد بن عمر- أخباري مشهور، وهو متروك الحديث عند أئمة النقد، وصرح بعضهم بأنه يضع الحديث.

و«مسند الربيع بن حبيب» ، والربيع هذا نكرة لا يعرف.

و«المجالسة» للدينوري، وهو كتاب كبير جدا، ومؤلفه أحمد بن مروان الدينوري المالكي، وثقه مسلمة بن قاسم، وأما الدارقطني فقال فيه:«هو عندي ممن كان يضع الحديث»

(3)

.

و«تنوير المقباس من تفسير ابن عباس» ، هو من رواية صالح بن محمد الترمذي، عن محمد بن مروان السدي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، والثلاثة الأولون كلهم متروكون، رموا بوضع

(1)

«الكامل» 5: 1774.

(2)

«الضعفاء الكبير» 3: 269.

(3)

«لسان الميزان» 1: 310.

ص: 29

الحديث، وقد جمع هذا التفسير في وقت متأخر، جمعه الفيروزآبادي من كتب التفسير التي تورد تفسير ابن عباس بهذا الإسناد.

وقد سئل أحمد عن تفسير الكلبي فقال: «من أوله إلى آخره كذب، فقيل له: يحل النظر فيه؟ قال: لا»

(1)

.

وهذه الكتب السابقة كلها مطبوعة، ويتساءل كثير من الباحثين عن التخريج منها والعزو إليها، وهذه صفتها، والجواب أن هذه المصادر تعامل معاملة الأسانيد التي فيها رواة متهمون، ثم يبين حالها، كما يخرج الباحث حديثا من «سنن ابن ماجه» ، أو من «المعجم الأوسط» للطبراني، أو من «الكامل» لابن عدي، وفيه من نسب إلى الكذب والوضع، ثم يبين حاله، فكذلك هنا، يبين حال المؤلف أو من في الطريق إليه من رواة إسناده، فلا فرق بين تخريج حديث من «سنن ابن ماجه» في إسناده عمرو بن خالد المذكور -وقد أخرج له ابن ماجه-، ثم بيان حال عمرو، وبين تخريج حديث من «مسند زيد بن علي» ، ثم بيان حال عمرو.

والذي يخشى منه أن يدع الباحث المؤلف ومن قبله، ويبدأ بنقد الإسناد بعده، اعتمادا على أنه وجد الإسناد في كتاب.

والأمر ذاته يجري في المؤلفين ومن يروي عنهم، وإن لم يصل الكلام فيهم إلى حد الترك، والرمي بالكذب، كأن يكون المؤلف أو من يروي عنه فيه ضعف، فيحتاج الباحث إلى نقد الإسناد به.

ص: 30

الأمر الرابع: ذكرت في تمهيد هذا الباب أن البحث عن طرق الأحاديث في مصادر السنة هو البديل عن كتابة الأسانيد في عصر الرواية، وحفظها، وأنبه هنا إلى أنه ليس المقصود بهذا أنه بمنزلته، فمن قام بجمع الطرق فهو مثل أئمة النقد في الرواية، كلا -والله- فلا يقاربه ولا يدانيه، لأسباب عديدة، منها أن وجود الحفاظ النقاد في زمن الرواية قد منحهم وسائل خاصة بهم، لا يمكن للمتأخرين مجاراتهم فيها كما سيأتي في الفصل الرابع من هذا الباب.

ومنها أن كثيرا مما ألف في السنة النبوية لم يصل إلينا، سواء ما ألف في جمع السنة، أو في نقدها، خاصة ما يتعلق بالنقد، ومقارنة المرويات، فإن أكثره مفقود

(1)

، وما أكثر ما يذكر النقاد وجوها وأسانيد معلقة، ولا يقف عليها الباحث بعد جهد وتعب، وسيأتي نماذج لذلك في ثنايا هذا الكتاب.

وإنما كان البحث في المصادر الموجودة هو البديل لأنه هو الممكن، والباحث بعد تتبعه للطرق، وتفتيشه عنها، وجمعها، يعتمد -بعد اعتماده على الله تعالى- على من تهيأت لهم الأسباب، وهم أئمة النقد وحفاظه، متمما لعملهم، مستحضرا للقدر الذي هو فيه، وللوسائل الممكنة له، وسيمر بنا التأكيد على هذا في مناسباته.

ومن جانب آخر لا ينبغي أن يفهم من الحث على جمع الطرق، والتنقيب الشديد عنها في مصادرها أنه حث على التطويل في التخريج، ودراسة الأسانيد،

ص: 31

هكذا بإطلاق، فليس هذا هو المقصود، إذ الكلام السابق هو فيما ينظر فيه الباحث، أما القدر الذي يثبته في بحثه فالحديث عنه له مجال آخر، ففي النية إفراده بباب خاص، أتعرض فيه لكيفية عرض التخريج والدراسة.

وهذه قضية طالما تكرر بحثها بين المنتسبين لتخصص السنة، وبين غيرهم، بل يجري بحثها بين المتخصصين أنفسهم، إذ يتوقف بعض الباحثين في قضية التوسع في جمع الطرق، وفي التخريج، وربما ألحقه بعضهم بما يعرف بـ (الترف العلمي).

وأوضح هنا أن التوسع الذي يرغب فيه حيث يكون الحديث بحاجة لذلك، والمقام يناسب التخريج الموسع، سواء بالنسبة لخاصية موضوع البحث، أو بالنسبة للباحث، وحاجته إلى التدرب، وسأوضح هذا بجلاء في الباب الذي وعدت به، وهو باب عرض التخريج والدارسة.

وههنا أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن قضية التوسع في التخريج، وجمع الطرق من الكتب المشهورة، وغير المشهورة، هو الآن متعين أكثر منه فيما مضى، لسبب في غاية الأهمية، وهو أن جماعة ممن يعتمد على ظواهر الأسانيد، أولعوا في العصور المتأخرة بالبحث عن الطرق، والتفتيش عنها في الكتب والأجزاء، حتى إذا ظفروا بإسناد -في أي مصدر كان-، اعتمدوا عليه، وصححوه، أو عضدوا به غيره، واغتر كثير من الناس بهؤلاء، وظنوا ما فعلوه فتحا في الإسلام، يناقشك الشاب بكل ثقة وجرأة، بأن الشيخ الفلاني توسع في الطرق وجمعها مما لم يصل إليه أحمد، وابن معين، فأحكامه أقرب إلى الصواب، فكان من الواجب على أهل

ص: 32

التخصص العودة إلى النقطة التي بدأ منها النقاد الأوائل، وبيان حقيقة هذه الطرق التي يقف عليها فلان وفلان، فلو لم يكن في جمع الطرق من قبل الباحث المتخصص الذي ينظر إليها وفق منهج النقاد الأوائل، إلا هذه الفائدة، لكانت كافية، فكيف وفي جمع الطرق فوائد أخرى جليلة، تظهر لمن مارس هذا العلم، ويأتي شيء منها في ثنايا هذا الكتاب.

وفي الجملة فإن من ينكر التوسع في جمع الطرق بإطلاق، هم في الغالب لا يحسنون جمعها، ولا الاستفادة منها والنظر فيها، ومن جهل شيئا أنكره، وعسى أن يكون في هذا الكتاب وأمثاله ما يجلي الحقيقة، ويرشد إلى الصواب، والله الموفق.

* * *

ص: 33

‌المبحث الثاني

كثرة طرق الأحاديث وقلتها

الأحاديث ليست على نمط واحد في كثرة الطرق وقلتها، سواء عن صحابي الحديث، أو عن كل راو بعينه، وهذه بعض الأمثلة التي توضح ذلك وتشرحه.

المثال الأول:

قال الترمذي: حدثنا عبدالأعلى بن واصل، حدثنا الحسين بن عطية، قال: حدثنا أبو عاتكة، عن أنس بن مالك قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم»

(1)

.

انفرد بإخراجه الترمذي، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي

(2)

.

المثال الثاني:

حديث أبي هريرة: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» .

رواه أحمد، عن محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة

(3)

، قام باحث بدراسة هذا الإسناد، وحكم عليه

(1)

«سنن الترمذي» حديث (726).

(2)

«التحقيق في أحاديث التعليق» 2: 90، وينظر:«تنقيح التحقيق» 2: 316، و «زوائد السنن الأربع على الصحيحين في كتاب الصيام» لعمر المقبل 2:575.

(3)

«مسند أحمد» 2: 232.

ص: 34

بحكمه الأولي، ثم قام بجمع طرق الحديث.

الطرق الأخرى للحديث كثيرة، لكن كلها ترجع إلى محمد بن فضيل، لم يجد الباحث طرقا أخرى تصله بعمارة بن القعقاع، ولا بأبي زرعة، ولا بأبي هريرة.

فقد وجد الباحث طرقا تصله بطبقة واحدة وهي الطبقة الأولى التي فيها أحمد، فقد رواه معه عن محمد بن فضيل رواة كثيرون، منهم زهير بن حرب، وقتيبة بن سعيد، وأحمد بن إشكاب، ومحمد بن عبدالله بن نمير، وأبو كريب محمد بن العلاء، ويوسف بن عيسى، وعلي بن المنذر، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم

(1)

.

فهذه الطرق كلها تعود إلى محمد بن فضيل.

المثال الثالث:

روى أحمد، عن حسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن بشر بن حرب، عن أبي سعيد الخدري، حديث:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة هكذا، ورفع يديه حيال ثندوته، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض»

(2)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (6406)، (6682)، (7563)، و «صحيح مسلم» حديث (2694)، و «سنن الترمذي» حديث (3467)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10666)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3806)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 10: 288، 13: 449، و «مسند أبي يعلى» حديث (6096)، و «صحيح ابن حبان» حديث (831)، (841)، و «الدعاء» للطبراني حديث (1692)، و «حلية الأولياء» 10: 400، و «الأسماء والصفات» ص 499، و «شعب الإيمان» حديث (591)، و «تحفة الأشراف» 10:443.

(2)

«مسند أحمد» 3: 14، 96.

ص: 35

خرجه أحد الباحثين، فوجد أن ابن أبي شيبة قد رواه عن حسن بن موسى، كما رواه أحمد، وأن عددا من الرواة قد رووه عن حماد بن سلمة مع حسن بن موسى، منهم: روح بن عبادة، ويونس بن محمد، وعفان، وأبو داود الطيالسي، وعلي بن الجعد

(1)

، ولم يقف على طريق آخر إلى بشر بن حرب غير طريق حماد بن سلمة، ولا إلى أبي سعيد غير هذا الطريق.

المثال الرابع:

روى أحمد، عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبدالرحمن السدي، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن أنس بن مالك:«أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا، قال: أهرقها، قال أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا»

(2)

.

روى الحديث مع أحمد عن وكيع: ابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، ورواه مع وكيع، عن سفيان الثوري: عبدالرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وقبيصة، والفريابي، وأبو داود الحفري، وغيرهم، ورواه عن إسماعيل السدي، مع سفيان الثوري: إسرائيل بن يونس، وقيس بن الربيع، ورواه عن يحيى بن عباد، مع السدي: ليث بن أبي سليم

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 13، 85، 96، و «مسند الطيالسي» حديث (2174)، و «الجعديات» حديث (3363)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 10: 287، و «شرح معاني الآثار» 2:177.

(2)

«مسند أحمد» 3: 119، 180.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (1983)، و «سنن أبي داود» حديث (3675)، و «سنن الترمذي» حديث (1293 - 1294)، و «مسند أحمد» 3: 260، و «مصنف بن أبي شيبة» 8: 202، و «الأموال» لأبي عبيد حديث (282)، و «سنن الدارمي» حديث (2115)، و «المنتقى» حديث (854)، و «مسند أبي يعلى» حديث (4045)، و «مسند أبي عوانة» 5: 274 - 275، و «سنن الدارقطني» 4: 265، 266، و «سنن البيهقي» 6:37.

ص: 36

فهذا الحديث وجد له الباحث طرقا أخرى إلى جل رواة الإسناد، فوجد الباحث لهذا الحديث طرقا إلى وكيع في الطبقة الأولى، وإلى سفيان الثوري في الثانية، وإلى السدي في الثالثة، وإلى يحيى بن عباد في الرابعة، وبقي أنس بن مالك لم يقف الباحث على طريق آخر إليه غير طريق يحيى بن عباد.

المثال الخامس:

روى أحمد عن بهز بن أسد، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا في المسجد، إذ جاء أعرابي فبال في المسجد

» الحديث

(1)

.

ورواه مع أحمد، عن بهز بن أسد: عبدالله بن هاشم، ورواه مع بهز بن أسد، عن عكرمة بن عمار: عمر بن يونس الحنفي، وأبو الوليد الطيالسي، والنضر بن محمد، وأبو حذيفة موسى بن مسعود، ورواه مع عكرمة، عن إسحاق بن عبدالله: همام بن يحيى، ورواه مع إسحاق، عن أنس: ثابت البناني، ويحيى بن سعيد الأنصاري

(2)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 191.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (219 - 221)، (6025)، و «صحيح مسلم» حديث (284 - 285)، و «سنن الترمذي» حديث (148)، و «سنن النسائي» حديث (53 - 55)، و «مسند أحمد» 3: 111، 114، 167، 226، و «مسند أبي عوانة» 1: 214 - 215، و «صحيح ابن حبان» حديث (1401)، و «سنن البيهقي» 2: 412 - 413، 10:103.

ص: 37

هذه أحاديث مختلفة بالنسبة لوقوف الباحث على طرق أخرى إلى رواة إسناده الأصل، وهناك احتمالات أخرى للأحاديث، فقد يقف الباحث على طرق أخرى تصله بالطبقة الأولى والثانية، ثم لا يجد في الثالثة شيئا، ثم يعود فيقف على طرق تصله بالطبقة الرابعة، وهكذا.

والمهم هنا معرفة أن عدد الطرق في كل طبقة يختلف من حديث لآخر، ولا يمكن أن ينضبط هذا الأمر، وكل باحث مسؤول عن نتيجة بحثه بالنسبة لعدد الطرق التي يذكرها في دراسته للحديث، ويختلف هذا من باحث لآخر، فلو قال الباحث مثلا: لم أقف على هذا الحديث إلا بهذا الإسناد - لا يلزم أن يكون ذلك هو واقع الحال، فقد يقف باحث آخر على إسناد آخر، أو ربما أسانيد أخر، فجمع الطرق من أهم القضايا التي يظهر فيها الاختلاف بين الباحثين قوة وضعفا، ومعنى هذا أن الباحث لا ينبغي له التسليم بما يقوله الآخرون، فكم ترك الأول للآخر.

ذكر أحد الباحثين ما أخرجه أحمد، عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، وعبدالله بن عثمان بن خثيم، عن عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: «من قال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة

» الحديث

(1)

، وقال في تخريجه بعد

(1)

«مسند أحمد» 1: 412.

ص: 38

أن ذكر أن رجاله ثقات، وأن فيه انقطاعا بين عون، وابن مسعود:«لم أقف عليه في غير هذا الموضع»

(1)

.

وللحديث طريق آخر إلى عون بن عبدالله، فقد رواه المسعودي، عن عون، عن أبي فاختة، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود، وقيل عن المسعودي بإسقاط أبي فاختة

(2)

، وجاء من طريق القاسم بن عبدالرحمن، عن ابن مسعود

(3)

.

وذكر باحث آخر ما رواه الترمذي عن يحيى بن أكثم، عن عبدالعزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن المرأة لتأخذ للقوم -يعني تجير على المسلمين-»

(4)

، واكتفى بتخريجه من «العلل الكبير» للترمذي أيضا

(5)

.

والحديث رواه إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن عبدالعزيز بن أبي حازم بلفظ:«يجير على المسلمين أدناهم»

(6)

، وكذا رواه سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، لكن قال:«يجير على أمتي أدناهم»

(7)

، ورواه أبو صالح، عن أبي هريرة

(1)

وانظر أيضا حاشية «مسند أحمد» 7: 32 حديث (3916) تحقيق الأرنؤوط.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 10: 329، و «المعجم الكبير» حديث (8918)، و «المستدرك» 2:377.

(3)

«الدعاء» لمحمد بن فضيل حديث (51).

(4)

«سنن الترمذي» حديث (1579).

(5)

«العلل الكبير» 2: 676.

(6)

«الكامل» 6: 2088، و «المستدرك» 2: 141، و «سنن البيهقي» 9:94.

(7)

«مسند أحمد» 3: 365.

ص: 39

بلفظ: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم»

(1)

، فيظهر أن يحيى بن أكثم رواه بالمعنى، والحديث واحد.

ويشار هنا إلى أنه ليس كل من ترك طرقا للحديث لم يذكرها فهو مقصر، أو محل لأن يستدرك عليه، فذكر طرق الحديث يخضع لمنهج الباحث الذي التزم به واختاره ليناسب موضوع بحثه، وكذلك حاجة الحديث الذي يبحث فيه، وهكذا يقال في عدد الطرق التي يوردها، يخضع كذلك لمنهجه الذي اختطه لنفسه، ولحاجة الحديث الذي بين يديه.

وسيأتي الحديث عن هذه القضايا وما يتعلق بها في باب خاص، وهو المتعلق بكتابه التخريج والدراسة، يسر الله تعالى الوصول إليه.

* * *

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1371)، و «مسند أحمد» 3:365.

ص: 40

‌الفصل الثاني

مصطلحات في مقارنة المرويات

ص: 41

هناك مصطلحات كثيرة تستخدم في مقارنة المرويات، يأتي بعضها في مباحثه الخاصة، ولكن هناك مصطلحات يكثر دورانها ولا تختص بقضية معينة، ومن هذه المصطلحات:

‌ المدار

، والوجه، والمتابعة، والشاهد.

فأما المدار فهو راو تدور عليه أسانيد أحاديث معينة، أو أسانيد حديث واحد، ومعنى دورانها عليه أنها كلها تجتمع عنده، وترجع إليه.

فلو نظرنا في حديث أبي هريرة الماضي في الفصل السابق، وهو حديث: «كلمتان خفيفتان على اللسان

» لوجدنا أن له طرقا كثيرة، كلها ترجع إلى أحد رواة الإسناد، وهو محمد بن فضيل، ومن محمد إلى أبي هريرة إسناده واحد، فنقول عن محمد بن فضيل: عليه مدار طرق حديث أبي هريرة.

وحديث أنس: «أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا

»، له طرق في طبقاته الأولى، حتى وصل الحديث إلى يحيى بن عباد راويه عن أنس، فلم يشاركه أحد في الرواية عن أنس، فيحيى بن عباد إذن يقال عنه إنه مدار حديث أنس هذا.

وحديث أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا في المسجد، إذ جاء أعرابي فبال في المسجد

»، له أيضا طرق في جميع طبقاته، فمداره إذن هو صحابيه أنس بن مالك.

فإن لم يكن للحديث سوى إسناد واحد فليس له حينئذ مدار.

وما تقدم هو المدار المطلق، ومعناه أن الحديث كل طرقه ترجع إلى صاحب المدار، ولا يخرج عن هذا الإطلاق شيء، وفي المقابل هناك مدارات نسبية، ليس

ص: 43

لها ضابط معين، فالمدار بالنسبة لشيء معين، كأن يكون أحد رواة الإسناد، فلو افترضنا مثلا أن هناك حديثا عن ابن عمر، ورواه عن ابن عمر جماعة، كسالم ابنه، ونافع، وعبدالله بن دينار، وسالم يرويه عنه الزهري فقط، ومن الزهري تفرعت الأسانيد، فنقول حينئذ عن إسناد سالم: مداره على الزهري، وهكذا في إسناد نافع لو تفرد بالحديث عنه مالك، فهذا كله مدار نسبي، وإلا فأصل الحديث مداره المطلق صحابيه، وهو ابن عمر.

ومثل هذا يقال في المصادر، فلو كان للحديث راو واحد تعود إليه الأسانيد في مصادر مخصوصة، كـ «الصحيحين» ، أو الكتب الستة، فيقال: هذا الحديث أخرجه الشيخان، ومداره عندهما على فلان، أو أخرجه الستة، ومداره عندهم على فلان، وقد يكون له طرق أخرى خارج هذه الكتب.

وكذلك قد يكون لبعض الحديث مدار، فيروي الحديث جماعة، وينفرد واحد منهم بلفظة فيه، يرويها عنه جماعة، فيقال: زيادة كذا مدارها على فلان، وإن كان قد توبع في بقية الحديث.

وكذلك قد يشتهر الحديث عن راو، فيعبر عنه بأنه مداره، مع وجود متابعات له تحتاج إلى نظر، كما في قول الحاكم عن حديث صفوان بن عسال في طلب العلم: «ومدار هذا الحديث على حديث عاصم بن بهدلة، عن زر

، وله عن زر بن حبيش شهود ثقات غير عاصم بن بهدلة، فمنهم المنهال بن عمرو

»

(1)

.

(1)

«المستدرك» 1: 100.

ص: 44

وفي كثير من الأحيان يجتمع في الحديث الواحد مدار مطلق ومدار نسبي، أو مدارات نسبية، وتصور ذلك بعدما تقدم أمر سهل.

وأما‌

‌ الوجه

فهو عبارة عن الطريق، فيقال: أخرجه فلان من هذا الوجه، أي من هذا الطريق، وهذا الحديث قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي هريرة، أو عن الزهري -مثلا- من وجوه كثيرة، أي من طرق كثيرة، وروي عنه من غير وجه، أي من أكثر من طريق

(1)

، والوجه بهذا المعنى يكون مسبوقا بحرف (من).

ويستخدم الوجه مسبوقا بحرف (على)، فيقصد به حينئذ صفة للإسناد أو المتن بعد المدار، فيقولون: روي هذا الحديث عن فلان على وجهين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو اختلف فيه على أوجه كثيرة، فالمقصود به صفة جاء عليها الإسناد أو المتن بعد المدار.

وربما استخدم بعض الأئمة من متأخري عصر الرواية أحيانا في الاختلاف في الإسناد خاصة الوجه مسبوقا بحرف (من)، فيقولون: اختلف على فلان من وجوه، والخطب سهل، والأحسن هو ما ذكرته أولا، والله أعلم.

وأما‌

‌ المتابعة

فهي إسناد آخر للحديث عن أحد رواته، فإذا وقف الباحث على إسناد آخر للحديث عن أحد رواته، فمعنى ذلك أن الراوي الذي عنده في إسناده الأول قد توبع، ويقولون في التعبير عن ذلك: تابعه فلان، وفلان.

وزاد المتأخرون في التسميات، فقسموا المتابعات إلى متابعات تامة،

(1)

انظر مثلا: «سنن الترمذي» 1: 34، 5: 758، 760، 761، 762.

ص: 45

ومتابعات قاصرة، فالتامة هي رواية أخرى عن شيخ الراوي نفسه، والقاصرة رواية أخرى عن شيخ الشيخ، أو من فوقه إلى الصحابي، وكلما ارتفع الإسناد درجة زاد قصور المتابعة، فيقال: متابعة قاصرة بدرجة، أو بدرجتين

الخ.

مثال ذلك حديث أنس في الفصل السابق، وهو ما رواه أحمد، عن بهز بن أسد، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، في قصة الأعرابي، لو افترضنا أن الباحث اعتمد إسناد أحمد للحديث، فهذا عنده هو الإسناد الأصل.

والحديث يرويه أيضا عبدالله بن هاشم، عن بهز بن أسد، فرواية عبدالله هذه متابعة لأحمد، وهي متابعة تامة، لأنه رواه عن شيخه مباشرة وهو بهز.

ورواه أيضا عن عكرمة بن عمار: عمر بن يونس الحنفي، وثلاثة آخرون، فهذه متابعة لأحمد، لكنها قاصرة، يروونه عن شيخ شيخ أحمد، وهو عكرمة، وهي قاصرة بدرجة.

ورواه عن إسحاق بن أبي طلحة أيضا: همام بن يحيى، فهي متابعة لأحمد، لكنها قاصرة بدرجتين.

ورواه عن أنس أيضا: يحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني، فهي متابعة لأحمد، لكنها قاصرة بثلاث درجات.

ويلاحظ في المتابعات أنها مسألة نسبية في شيئين:

الأول: في تحديد المتابع والمتابع، فمرجع ذلك إلى الباعث الأول على دراسة

ص: 46

الحديث كله، فما تقدم من كون أحمد هو المتابَع، وعبدالله بن هاشم هو المتابِع، إنما كان ذلك، لأن الإسناد الأصل الذي وقف عليه الباحث أولا هو إسناد أحمد، وقد يكون اختاره لكونه الأعلى، أو الأتم لفظا، ولكن لا بأس بقلب التسمية، فيكون أحمد هو المتابع، وعبدالله بن هاشم هو المتابع، وذلك عند باحث آخر، اختار أن يكون إسناده الأصل هو إسناد عبدالله بن هاشم، لغرض من الأغراض، وبغير تصور هذا الأمر لا يمكن ضبط المتابعات.

الثاني: في التمام والقصور، فما تقدم ذكره في متابعات أحمد القاصرة هي بالنسبة له، أما لو أخذنا كل طبقة لوحدها فالمتابعات تامة، فمثلا رواية عمر بن يونس الحنفي ومن معه للحديث عن عكرمة بن عمار هي بالنسبة لبهز بن أسد متابعة تامة، وما فوقها مباشرة قاصرة بدرجة واحدة، وهذا يقع كثيرا عند الباحث، إذ قد تكون حاجته في دراسة رواية في وسط الإسناد، فيبحث لها عن متابعات، فيبتدئ التمام والقصور من هذه الطبقة.

وأما‌

‌ الشاهد

فيراد به في الغالب رواية صحابي آخر للحديث نفسه، فهو يرجع إلى معنى المتابعة، إذ الصحابي قد تابع الصحابي الآخر، لكن جرى الاصطلاح على اعتبار رواية الصحابي حديثا مستقلا، فإذا قالوا: صح في هذا الأمر حديثان، فمعناه صح من رواية صحابيين، وإن كان المتن واحدا.

وربما سمى بعض العلماء الشاهد متابعا، كما يسمي بعضهم المتابع شاهدا، فإنه يشهد للمتابع أيضا، والخطب في ذلك سهل، كما قال ابن حجر

(1)

،

(1)

«نزهة النظر» ص 102.

ص: 47

ويعرف المراد من سياق الكلام.

نعم، قد استقر الاصطلاح في وقتنا الحاضر على أن المتابع ما كان من طرق عن الصحابي نفسه، والشاهد ما كان عن صحابي آخر، لكن هذا لا ينبغي أن ينزل عليه كلام الأولين إذا أرادوا خلاف ذلك، وهذه قضية لا تختص بهذا الموضع، وأوردتها هنا لمناسبتها، فقد كان بعض الأئمة يستخدمون كلمة (الاستشهاد) في الكلام على رواة الكتب الستة، ويقصدون بها معنى خاصا، وهو التخريج للراوي تعليقا، كما نراه في كلام المزي، والذهبي

(1)

، وغيرهما.

قال المزي في ترجمة أسامة بن زيد الليثي: «استشهد به البخاري في «الصحيح» ، وروى له في «الأدب» ، وروى له الباقون»

(2)

، فعلق عليه أحد الباحثين بقوله:«وفي قول المزي: روى له مسلم - نظر، لما ذكره الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب «الوهم والإيهام» من أن مسلما -رحمه الله تعالى- لم يحتج به، إنما روى له استشهادا كالبخاري».

كذا قال الباحث، خلط بين اصطلاحين، وكلمة ابن القطان ليس فيها:«كالبخاري»

(3)

، ومراد ابن القطان أن مسلما لم يعتمد عليه، وإنما أخرج له في الشواهد، وهذا غير مراد المزي بالاستشهاد، فمراده تعليق البخاري له، وأما غير

(1)

انظر مثلا: «تقييد المهمل» 2: 591، و «تهذيب الكمال» 2: 211، 224، 260، و «سير أعلام النبلاء» 4: 531، 6: 343، 7:134.

(2)

«تهذيب الكمال» 2: 350.

(3)

«بيان الوهم والإيهام» 4: 84.

ص: 48

البخاري -ومنهم مسلم- فروى له موصولا، سواء كان في الشواهد أو في الأصول.

وقضية المصطلحات ومراعاة الباحث لمراد من أطلقها من الأهمية بمكان بالنسبة لدراسة الأسانيد، وسأعرج عليها في مناسباتها في هذا الكتاب.

* * *

ص: 49

‌الفصل الثالث

الرسم التوضيحي لأسانيد الحديث

ص: 51

المقصود بالرسم التوضيحي للأسانيد: وضع شجرة لأسانيد الحديث، بحيث يكون الإسناد الذي مع الباحث أصل الشجرة، ثم تتفرع منه الأسانيد الأخرى التي يقف عليها الباحث، مثل شجرة الأنساب، فإن أسانيد الحديث يشبهونها بالأنساب، ويكون نهاية الإسناد كالصحابي نقطة تفرعها.

والهدف من الرسم التوضيحي التسهيل على الباحث في تنظيم المتابعات حين صياغة التخريج، ومعرفة الاتفاق والاختلاف في الحديث الواحد إسنادا ومتنا.

واستخدام الرسم التوضيحي معروف عند الأئمة، قال ابن رشيد في كلامه عن محب الدين الطبري:«ومن سماعه على عم أبويه: سنن أبي داود، رواية اللؤلؤي، ورأيت له صورة شجرة مغصنة، كتب فيها أسانيده في سنن أبي داود»

(1)

.

ويختلف الباحثون في بعض الأمور المتعلقة بالشكل النهائي للرسم، فمن الباحثين من يحرص على جمع طرق الحديث كلها في صفحة واحدة مهما كان حجمها، ليتمكن من إلقاء نظرة واحدة عليها متى أراد، ومنهم من يوزعها على صفحات متعددة، فيضع كل تابعي ورد الحديث من طريقه في صفحة مستقلة، وبعضهم يكتب أولا مسودة لهذه الطرق ثم يقسمها على صفحات بحسب ما تتسع له الصفحة، بغض النظر عن اعتبار معين.

ومن جهة ثانية فبعض الباحثين يكتب الصحابي في يمين الصفحة أو في يسارها، ثم تتفرع منه الأسانيد أفقيا، والبعض الآخر يكتبه في أعلى الصفحة، ثم

(1)

«ملء العيبة» 5: 237.

ص: 53

تتفرع منه الأسانيد رأسيا، والخطب في كل ذلك سهل.

وأهم نقطة يقع فيها اختلاف بين الباحثين هي عند وقوع اختلاف بين رواة الإسناد في رفع الحديث ووقفه، أو في وصله وإرساله، أو في زيادة راو وحذفه، فإن بعض الباحثين يجمعها جميعا في رسم واحد، ثم يوضح في نهاية كل إسناد ما وقع فيه من مخالفة مع الإسناد الأصل، فبعد أن يكتب معلومات التخريج كالجزء والصفحة، ورقم الحديث، وهل الحديث بلفظه أو بمعناه أو بنحوه، يكتب المخالفة الواقعة في الإسناد، فيقول: موقوف، أو مرسل، أو ليس فيه ابن عباس، أو بإسقاط فلان، ونحو ذلك، أو يكتب كلمة موقوف، أو مرسل، في أسفل الصفحة، ويأخذ خطا من كل رواية بهذه الصفة إلى تلك الكلمة، فيميز بهذا الرواية الموقوفة أو المرسلة.

وبعض الباحثين يفصل بينهما، فيجعل الموصول لوحده في صفحة، والمرسل لوحده، أو المرفوع لوحده، والموقوف لوحده، مع أن الجميع يلتقون عند راو واحد، ويرى أن هذا أكثر وضوحا حين الرجوع إلى الرسم.

ويزيد بعض الباحثين الرسم التوضيحي إتقانا بأمور أخرى، مثل وضع دائرة بالأحمر على اسم الراوي إذا كان هذا الراوي مصنفا، مثل ما إذا أخرج البخاري حديثا من طريق مالك في «الموطأ» ، أو عبدالرزاق في «المصنف» ، فإنه يضع الدائرة على اسم مالك، أو عبدالرزاق، وتحته معلومات التخريج من كتابه، لكي ينتبه له حين صياغة التخريج.

ص: 54

ثم إن الباحث سيمر به أثناء جمعه للطرق كلام للأئمة على أسانيد الحديث أو بعضها، أو على متنه، فيسجل ذلك كله مع الرسم التوضيحي، إما عند كتابته لمعلومات التخريج، فإذا وصل إلى أبي داود مثلا، وكتب الجزء والصفحة، ورقم الحديث، نقل كلام أبي داود، وإما على جانب الورقة.

وهناك بعض التنبيهات للباحث حين يريد إلحاق الأسانيد التي وقف عليها بإسناده الأصل في الرسم التوضيحي:

أولا: في بعض كتب السنة يذكر في الإسناد رواية تلميذ المؤلف، الراوي للكتاب عنه، فيقول التلميذ: حدثنا فلان، ويعني به صاحب الكتاب، وقد بقي هذا بعد طباعة الكتب، مثل ما هو موجود في «مصنف ابن أبي شيبة» ، يقول الراوي عنه: حدثنا أبو بكر، يعني به ابن أبي شيبة، وكذلك «صحيح ابن خزيمة» ، وغيرهما.

وقد يوجد تلميذ الراوي للكتاب عن المؤلف، كما في قول القطيعي في أسانيد «مسند أحمد»: حدثنا عبدالله، حدثنا أبي.

وعلى الباحث أن يتنبه لهذا، فإسناد المؤلف يبدأ بعده، فإذا جاء في «مصنف ابن أبي شيبة»: حدثنا أبو بكر، حدثنا وكيع، فأبو بكر هذا هو ابن أبي شيبة، والإسناد عنده يبدأ من وكيع.

وربما وقع بعض الباحثين في الخطأ، فيقول مثلا: رواه ابن خزيمة، عن شيخه أبي بكر، عن أبي الطاهر بن السرح، وأبو الطاهر هذا شيخ ابن خزيمة، وأبو بكر هو ابن خزيمة نفسه.

ص: 55

والباحث حين يريد إلحاق مثل هذه الأسانيد برسمه التوضيحي يحذف من قبل المؤلف، فإذا وصل إلى وكيع وضع تحته «مصنف ابن أبي شيبة» وإذا وصل إلى أبي الطاهر وضع تحته «صحيح ابن خزيمة» .

ثانيا: في بعض كتب السنة يعمد تلميذ المؤلف الراوي للكتاب عنه إلى رواية أحاديث بأسانيد خاصة به، لا يمر فيها على شيخه صاحب الكتاب، مثل عبدالله بن أحمد في «مسند أحمد» ، ومثل الحسين بن الحسن المروزي في «الزهد» لابن المبارك، ويوجد هذا أيضا بقلة في «صحيح مسلم» ، و «سنن ابن ماجه» ، وغيرهما.

وربما جاء في بعض الكتب أسانيد خاصة بتلميذ التلميذ، كما يفعله القطيعي في «فضائل الصحابة» لأحمد، فهو يرويه عن عبدالله، عن أبيه، وله فيه أسانيد خاصة به، وكذلك يفعل ابن صاعد في «الزهد» لابن المبارك، وهو يرويه عن الحسين المروزي، عن ابن المبارك، وله فيه أسانيد خاصة به.

وهذا الصنيع عرف بالزيادات، فيقولون: زيادات عبدالله على «مسند أبيه» ، وزيادات القطيعي على «فضائل الصحابة» لأحمد، وهكذا، وقد يعبر عنه بالزوائد أيضا.

والباحث إذا أراد نقل إسناد من هذه الكتب وأمثالها عليه أن يدقق فيه، خشية أن يكون لتلميذ المؤلف، أو لتلميذ التلميذ أيضا، وإذا استعجل الباحث ربما وقع في خطأ نسبة تخريج إسناد إلى غير مخرجه.

روى حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» .

ص: 56

خرجه أحد الباحثين فقال: «أخرجه أحمد، وابنه (3/ 278 - 279)» .

وقال باحث آخر في تخريجه: «أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائده على المسند 3/ 279، من طريق عبيدالله بن عمر القواريري، بهذا الإسناد (يعني عن حرمي بن عمارة

)، وأخرجه أحمد 3/ 278 من طريق أبي عبدالله السلمي، قال: حدثني حرمي بن عمارة، بهذا الإسناد».

وهو في «مسند أحمد» في المكانين من زوائد عبدالله، فلم يخرجه أحمد من هذا الطريق، رواه عبدالله في المكان الأول عن أبي عبدالله السلمي، عن حرمي، وفي المكان الثاني عن عبيدالله بن عمر القواريري، عن حرمي، وأبو عبدالله السلمي هذا من تلاميذ أحمد، وليس من شيوخه، ولم يذكر في الرواة عنه سوى عبدالله بن أحمد

(1)

، وكان أحمد في -في بعض الروايات عنه- ينكر على حرمي بن عمارة روايته لهذا الحديث عن شعبة

(2)

.

ثالثا: بعض الرواة، تارة يأتي بكنيته، وتارة باسمه، مثل أبي الوداك جبر بن نوف الأكثر أن يأتي بكنيته، وربما جاء باسمه، ومثل أبي وائل شقيق بن سلمة، الأكثر أن يأتي بكنيته، وربما جاء باسمه، ومثل أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، تارة يأتي باسمه، والأكثر أن يأتي بكنيته.

وكذلك اللقب مع الاسم، كالأعمش، فإنه أكثر ما يأتي بلقبه، وقد يأتي

(1)

«تاريخ بغداد» 14: 404.

(2)

«الضعفاء الكبير» 1: 270.

ص: 57

مسمى، فإن بعض الرواة كشعبة لا يلقبونه، بل يقولون: حدثنا سليمان.

وكذلك النسبة مع الاسم، كالفريابي محمد بن يوسف، تارة يأتي بنسبته، وتارة باسمه.

ويلتحق بهذا نسبة الراوي إلى أبيه تارة، وإلى جده القريب أو البعيد تارة أخرى، كعبدالله بن زياد بن سليمان بن سمعان، ويقال له أيضا: عبدالله بن سمعان، ومحمد بن يحيى بن خالد الذهلي شيخ البخاري، يسميه البخاري: محمد بن خالد، وأحمد بن عبدالله بن يونس، يقال له كثيرا: أحمد بن يونس، ومحمد بن عبدالله بن نمير، يقال له: محمد بن نمير.

وربما يأتي الراوي في الأسانيد على أكثر من ذلك، كالزهري، فإنه يأتي هكذا كثيرا، ويأتي أيضا بصيغة: ابن شهاب، ويأتي بصفة نادرة باسمه محمد بن مسلم، وأكثر ما يقع هذا التنوع إذا كان مشهورا باسمه وكنيته، أو باسمه ولقبه، أو باسمه ونسبته، أو بهما جميعا، فيستخدم الرواة عنه هذا وهذا.

وقد يقع ما تقدم على سبيل التعمية، وتوعير معرفة الراوي، وهو داخل فيما يعرف بتدليس الشيوخ

(1)

.

والقاعدة هنا أن على الباحث وهو بصدد كتابة الرسم التوضيحي أن يفسر كل راو يمر به تفسيرا كاملا، فيكشف اسمه، واسم جده، وكنيته، ولقبه، وجميع ما يتعلق به، فإذا مر في مصدر آخر بكنيته -مثلا- وقد وقف عليه قبل

(1)

انظر ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 188، 481.

ص: 58

ذلك باسمه يعرف أنه هو، ولا يعده إسنادا آخر للحديث، وقد رأيت كثيرا من الطلاب يقع في هذا، كما يقع فيه بعض الباحثين في ابتداء أمرهم، وقل باحث إلا وقد وقع في مثل هذا.

ويشبه ما تقدم ما إذا كان الراوي واحدا، ولكن اختلف في اسمه، أو في نسبته، فهو راو واحد وإن تعددت أسماؤه، فالتفريع عليه في الرسم التوضيحي يكون مرة واحدة.

وبضد ما تقدم أن يشترك الرواة في الاسم، أو الاسم واسم الأب، وقد يشتركون في الجد أيضا، وقد يتفق مع هذا الاشتراك في الطبقة، والتلاميذ والشيوخ، أو التقارب في ذلك، مثل السفيانين، والحمادين، وعطاء بن يسار، وعطاء بن السائب، فإذا اشترك مثل هؤلاء في رواية حديث قد يظنه الباحث واحدا، وذلك في حال كون الراوي لم ينسب بما يميزه.

وقد يقع الاشتراك في الاسم والنسبة بسبب الاختصار، مثل أن يأتي عند أحمد: حدثنا ابن نمير، ويأتي كذلك عند مسلم، فالذي عند أحمد هو الأب عبدالله بن نمير، والذي عند مسلم هو ولده محمد بن عبدالله، ومثل ابن أبي زائدة، هم ثلاثة، يقال لكل منهم: ابن أبي زائدة، زكريا بن أبي زائدة، وولداه يحيى وعمر، وهذا كثير في الرواة، فيتنبه له.

والباحث كما طولب بتمييز رواة إسناده الأصل، مطالب أيضا بتمييز الرواة الذي يقف على أسانيدهم في مرحلة جمع الطرق، فالباب واحد، وقد تقدم

ص: 59

في «الجرح والتعديل» فصل خاص بتمييز الرواة، وذكرت هناك بعض الأمثلة على وقوع الأخطاء في تمييز الرواة قديما وحديثا

(1)

.

وأذكر هنا مثالا واحدا وقع فيه الخطأ في تمييز الراوي في الإسناد الأصل، وفي الطرق الأخرى، فروى أحد الأئمة من طريق أبي قرة، عن سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصلها أربعا» .

قال أحد المشايخ في تخريجه: «

وسفيان هو ابن عيينة، وأخرجه عبدالرزاق (5529)، والحميدي (976)، والدارمي 1/ 370، ومسلم (881)، والترمذي (523)، والطحاوي 1/ 336، والبيهقي 3/ 240، والبغوي (879) من طرق عن سفيان (يعني ابن عيينة) بهذا الإسناد».

كذا قال الشيخ، وسفيان الذي في الإسناد الذي يخرجه هو الثوري، وليس ابن عيينة، وسفيان عند الدارمي، والبيهقي، هو الثوري كذلك.

وروى هذا الحديث أيضا إمام آخر، عن عبدالله بن إدريس، عن سهيل، فقال بعض الباحثين في تخريجه:«وأخرجه الطيالسي (2406)، وابن حبان (2478)، من طريق أبي عوانة، وعبدالرزاق (5529)، والدارمي (1575)، ومسلم (881)، وابن خزيمة (1874)، والبيهقي 3/ 240، من طريق سفيان الثوري، والحميدي (976)، والترمذي (523)، والنسائي في «الكبرى»

(1)

«الجرح والتعديل» ص 458 - 536.

ص: 60

(496)

، وابن خزيمة (1873) و (1874)، والطحاوي 1/ 336، وابن حبان (2480)، والبغوي (879)، من طريق سفيان بن عيينة

»، ثم ذكر بقية الرواة عن سهيل.

كذا خرجه الباحث، ورواية عبدالرزاق هي عن ابن عيينة، وليست عن الثوري، وهو مصرح به في إسناد عبدالرزاق، ورواية النسائي، وابن حبان، هي عن الثوري، وليست عن ابن عيينة.

رابعا: يستخدم كثير من الأئمة في مصنفاتهم حين تكثر الأسانيد للحديث الواحد طريقة التحويل، وذلك من أجل الاختصار، وممن يكثر من هذا الإمام مسلم، وابن خزيمة، والدارقطني، وغيرهم، ويفعله أيضا البخاري، وأبو داود، وغيرهما، وخلاصة هذه الطريقة أن طرق الحديث الواحد في كثير من الأحيان تجتمع في راو واحد، يكون مدارها، إما نسبيا، أو مطلقا، ثم يتحد السند بعده، فبدلا من تكرار ذكره مع كل طريق يسوق المصنف الطرق أولا إلى هذا الراوي، ويستخدم بعد كل طريق علامة التحويل (ح)، فإذا فرغ من سوق الطرق إلى هذا الراوي قال: كلهم، أو جميعا عن فلان، وربما جمعوها على صحابي الحديث إن كان هو المدار.

مثال ذلك -وهو مثال مختصر- قول مسلم: حدثنا عثمان بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا جرير، ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة - كلاهما عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض

ص: 61

الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر»

(1)

.

فقوله: (كلاهما) يعني جريرا، وأبا أسامة، فهما جميعا يرويانه عن الأعمش، وكان الأصل أن يقول مسلم: حدثنا عثمان بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال

، ثم يسوق المتن، ثم يسوق الإسناد الآخر كاملا ومتنه، لكن هذا فيه إطالة، فعدل مسلم إلى طريقة التحويل.

وليس لطريقة التحويل هذه ضابط معين، فهم يتفننون في تطبيقها

(2)

، فمثلا ربما كرر مسلم ذكر الأعمش في الإسنادين، عوضا عن قوله:(كلاهما)، كما في هذا المثال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، ح، وحدثنا منجاب بن الحارث التميمي -واللفظ له- أخبرنا ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث

(3)

.

ومعنى هذا أن الإسناد الأول -وهو إسناد أبي معاوية، ووكيع- هو عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث

الخ.

وربما ذكره مرة وتركه أخرى، كما في الحديث رقم (661)، والحديث رقم (712)، وربما لم يذكر (كلاهما) أو ما يقوم مقامها، ولا يكرر المدار أيضا، كما في الإسناد الثاني من الحديث رقم (432)، والإسناد الثالث من الحديث رقم (436)، وكما في الحديث رقم (2998) عند أبي داود.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (77).

(2)

انظر: «المحدث الفاصل» ص 610.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (105).

ص: 62

وكما أسلفت فليس لهذه الطريقة ضابط معين، وقد يدعونها في موضع يصلح لتطبيقها، وذلك بحسب النشاط والفتور، كما أنهم ربما احتاجوا إلى تحويل داخل تحويل، فتتداخل الطرق، كما فعل مسلم في الحديث رقم (319).

ولا شك أن التحويل فيه اختصار للأسانيد، لكنه غير خال من إشكالات، إذ ربما سقط على المؤلف اسم راو، كما في قول البخاري: «حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، ح، وقال الليث: حدثني عبدالرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، أن سعيد بن المسيب أخبره، أن أبا هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال

» الحديث»

(1)

.

قال أبو مسعود الدمشقي: «هكذا في كتاب البخاري، أردف حديث الليث، عن عبدالرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، على حديث شعيب، ولم يقل في حديث شعيب عمن، وإنما يرويه شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وكذلك رواه البخاري، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، في كتاب الصيام

(2)

، ولم يقل: عن سعيد بن المسيب».

قال الجياني بعد أن نقل عن أبي مسعود ما تقدم: «وهذا تنبيه حسن جدا، ويمكن أن يكون البخاري اكتفى بما ذكره في كتاب الصيام، لكن هذا النظم فيه إلباس»

(3)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (7242).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (1965).

(3)

«تقييد المهمل» 2: 755، وانظر:«هدي الساري» ص 382.

ص: 63

وكذلك في قول مسلم: «حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، ح، وحدثنا أبو كريب، وإسحاق الحنظلي، عن محمد بن بشر، عن مسعر، ح، وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن مسعر - كلهم عن سعد بن إبراهيم، عن عبدالله بن شداد

»

(1)

.

قال أبو مسعود الدمشقي: «هكذا رواه مسلم: حدثنا أبو بكر، حدثنا وكيع، وأسقط منه سفيان، فتوهم الناس أنه: وكيع، عن مسعر، وإنما رواه أبو بكر في «المسند» ، وفي (المغازي)، وفي غير موضع (يعني من «مصنفه») عن وكيع، عن سفيان، عن سعد»

(2)

.

وقد يقع التحويل ممن فوق المؤلف، كما في الحديث الذي رواه مسلم، قال: «حدثنا زهير بن حرب، حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، أخبرني وهب بن كيسان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس، ح، وحدثني الزهري، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن ابن عباس، ح، وحدثني محمد بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس

»

(3)

.

فالقائل: وحدثني الزهري

، وحدثني محمد بن علي

، هو هشام بن عروة

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2411).

(2)

«تقييد المهمل» 3: 913، و «تحفة الأشراف» 7:410. والحديث في «مصنف ابن أبي شيبة» 12: 86.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (354).

(4)

«تحفة الأشراف» 5: 183.

ص: 64

وربما وقع في مثل هذا إشكال أيضا، مثال ذلك ما رواه مسلم، قال: «حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، ح، وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر

»

(1)

.

فالقائل: وحدثني هو معاوية بن صالح، كما هو الراجح، وقد قيل إنه ربيعة بن يزيد

(2)

.

والمقصود هنا أن الباحث حين يريد نقل هذه الطرق إلى الرسم التوضيحي يجب عليه أن يتمعن فيها جيدا، وفي توزيعها عند المؤلف، ويقع الطلاب والباحثون المبتدئون كثيرا في الخطأ في التعامل مع الطرق حين استخدام المصنفين لهذه الطريقة، لا سيما مع تشعب الأسانيد وكثرة التحويل، فقد ساق ابن خزيمة طرق حديث عائشة في (فرك المني) فيما يقرب من صفحة ونصف

(3)

، بل ربما وقع في الخطأ -والحالة هذه- صاحب الخبرة في التعامل مع الأسانيد، فقد رأيت أئمة وباحثين كبارا وقعوا في مثل هذا.

ومن الأمثلة على التداخل في الأسانيد ومظنة الوقوع في الخطأ: الإسناد الثاني من الحديث رقم (749) عند مسلم.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (234).

(2)

«تقييد المهمل» 3: 785 - 789، وقد وقع بسبب هذا التحويل خلط في الأسانيد، وفي الكلام عليها، انظر: حاشية أحمد شاكر على «سنن الترمذي» حديث (55).

(3)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (288).

ص: 65

خامسا: ويشبه ما تقدم في الفقر السابقة وهو أدق منه: عطف الأسانيد بعضها على بعض، وهو نوع من التحويل، لكن دون استخدام أداة التحويل (ح)، فيكتفى بواو العطف، ويقوم بالعطف مصنف الكتاب، أو أحد الرواة فوقه.

ومن أمثلة ذلك قول أحمد: «حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، وعبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، أخبرنا الزهري، عن علي بن حسين، عن ابن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه

» الحديث»

(1)

.

فقوله: وعبدالرزاق، معطوف على قوله: حدثنا محمد بن جعفر، فأحمد يروي الحديث عن محمد بن جعفر، وعبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري.

وقال أحمد أيضا: «حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثنا قتادة، وابن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس قال: «سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن أهل الكتاب يسلمون علينا، فكيف نرد عليهم؟ قال: فقولوا: وعليكم» ، وحجاج مثله، قال شعبة: لم أسأل قتادة عن هذا الحديث، هل سمعته من أنس؟ »

(2)

.

فهذا الحديث يرويه أحمد عن ثلاثة من شيوخه، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، وهم: يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر المعروف بغندر، وحجاج بن محمد المصيصي، والنقل الأخير عن شعبة هو من رواية حجاج فقط.

(1)

«مسند أحمد» 1: 218.

(2)

«مسند أحمد» 3: 115.

ص: 66

ورواه أحمد مرة أخرى عن الثلاثة جميعا فساقه سياقة أخرى بالعطف أيضا، قال: «حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، والحجاج قال: حدثني شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، وحدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثنا قتادة، عن أنس -والمعنى واحد-: «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

»، وقال حجاج: قال شعبة: لم أسأل قتادة عن هذا الحديث، هل سمعه من أنس؟ »

(1)

.

وقال أحمد أيضا: «حدثنا سفيان، قال: سمعت إبراهيم بن ميسرة، وحدثنا محمد بن المنكدر، سمعتهما يقولان: سمعنا أنسا يقول: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين» ، »

(2)

.

فسفيان بن عيينة يرويه عن إبراهيم بن ميسرة، ومحمد بن المنكدر، عن أنس.

وروى أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، وابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى ذهب من الليل ما شاء الله

»

(3)

.

فسفيان يرويه عن عمرو بن دينار، عن عطاء، ويرويه أيضا عن ابن جريج، عن عطاء.

(1)

«مسند أحمد» 3: 273.

(2)

«مسند أحمد» 3: 110.

(3)

«مسند أحمد» 1: 221، وانظر:«صحيح ابن خزيمة» حديث (342)، و «المعجم الكبير» حديث (11391).

ص: 67

وقال ابن جرير: «حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، ومنصور، عن أبي الضحى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، قالا: «محمد هو المنذر، وهو الهاد» ، »

(1)

.

فقوله: ومنصور

، معطوف على قوله: عن السدي

، فسفيان الثوري يرويه عن السدي، عن عكرمة، ويرويه عن منصور، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح.

وعطف الأسانيد بعضها على بعض بالواو لا يخلو من إشكالات أيضا، فقد لا يكون في السياق الذي أمام الباحث إسناد معطوف عليه أصلا، كما في قول البخاري: «حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبدالله بن وهب، قال: وأخبرني ابن جريج، أن الحسن بن مسلم أخبره، عن طاوس، عن ابن عباس

»، فذكر الحديث في صلاة العيد وخطبتها

(2)

.

قال ابن حجر في كلامه على هذا الحديث: «وقول ابن وهب: وأخبرني ابن جريج، معطوف على شيء محذوف»

(3)

.

ورأيت في «صحيح مسلم» مواضع يقع فيها العطف على إسناد لم يذكره مسلم، قد نقله كما هو معطوفا، أو تكون الواو مقحمة، ينظر مثلا: حديث (379)، وحديث (515) -الإسناد الثاني منه-، وحينئذ فالعطف لا اعتبار له.

(1)

«تفسير ابن جرير» 13: 106.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (4895).

(3)

«فتح الباري» 8: 640.

ص: 68

ولا شك أن بيان سبب العطف أولى، كما في رواية الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: وأخبرني عطاء بن يزيد الليثي، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث

» الحديث، قال سفيان:«كان الزهري حدثنا قبله حديث أنس، ثم أتبعه هذا، فقال: وأخبرني عطاء بن يزيد»

(1)

.

ومن الإشكالات أيضا صفة الإسناد الأول بعد الملتقى، وكذلك تحديد المعطوف عليه، وسقوط أداة العطف، أو زوغان البصر عنها، أو استبدالها بعن.

فرواية سفيان السابقة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وعن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، يحتمل فيها أن تكون رواية عمرو، عن عطاء، هي أيضا عن ابن عباس، ويحتمل أن تكون عن عمرو، عن عطاء مرسلا، ليس فيه ابن عباس، وهذا هو الراجح

(2)

.

ومن ذلك ما رواه سفيان بن عيينة أيضا، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعن عباد بن تميم، عن عمه: «أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل -أو لا ينصرف- حتى يسمع

(1)

«مسند الحميدي» حديث (477)، و «تاريخ ابن أبي خيثمة» حديث (965).

(2)

ينظر: «صحيح البخاري» حديث (7239)، و «مسند الحميدي» حديث (492)، و «تحفة الأشراف» 5: 87، 96، وانظر مثالا آخر لسفيان بن عيينة في:«مسند الحميدي» حديث (788 - 789).

ص: 69

صوتا، أو يجد ريحا»، وفي بعض رواياته: عن سعيد بن المسيب، وعباد بن تميم

(1)

.

وكذا رواه محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، إلا أنه رواه بلفظ:«لا وضوء إلا فيما وجدت الريح، أو سمعت الصوت» ، دون قصة

(2)

.

فرواية سعيد بن المسيب يحتمل أن تكون مرسلة، ويحتمل أن تكون من روايته عن عبدالله بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كرواية عباد بن تميم

(3)

.

وروى مسلم قال: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن قتادة، وحميد، عن أنس

»

(4)

.

قال أبو علي الجياني: «ظاهر هذا الإسناد أن شعبة يرويه عن قتادة، وحميد، عن أنس، وباطنه أن أبا خالد الأحمر يرويه عن حميد، عن أنس، وعن شعبة، عن قتادة، عن أنس»

(5)

، ثم روى بإسناده إلى أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حميد، وشعبة، عن قتادة، عن أنس

(6)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (137)، و «صحيح مسلم» حديث (361)، و «سنن أبي داود» حديث (176)، و «سنن النسائي» حديث (160)، و «سنن ابن ماجه» حديث (513).

(2)

«مسند أحمد» 4: 39، و «صحيح البخاري» بعد حديث (2056).

(3)

انظر: «صحيح البخاري» حديث (177)، (2056)، و «مسند أحمد» 4: 40، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (534)، و «تحفة الأشراف» 4: 336، و «فتح الباري» لابن حجر 1:237.

(4)

«صحيح مسلم» حديث (1877).

(5)

«تقييد المهمل» 3: 885.

(6)

وهو في «مصنف ابن أبي شيبة» 5: 289، كما ساقه مسلم، لكن وقع في إحدى النسخ: «عن

قتادة، عن حميد، عن أنس» فأثبتها المحقق، وخطأ الصواب الذي في النسخة الأخرى: «عن قتادة، وحميد

»، وقد رواه عبدالله بن أحمد في زياداته على «المسند» 3: 278، عن أبي بكر بن أبي شيبة كما ساقه أبو علي الجياني، فيحتمل أن تكون هذه رواية ابن أبي شيبة في «مسنده» ، وما عند مسلم من «المصنف» .

ص: 70

قال النووي تعقيبا على إسناد ابن أبي شيبة هذا: «فيه أيضا إيهام، فإن ظاهره أن حميدا يرويه عن قتادة، وليس المراد كذلك، بل المراد أن حميدا يرويه عن أنس كما سبق»

(1)

.

وقال مسلم أيضا: «حدثنا عمرو الناقد، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، قال: ويحيى بن يمان حدثنا، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء» ، »

(2)

.

فالقائل: ويحيى بن يمان حدثنا، هو عمرو الناقد، نبه عليه الجياني، وذكر أنه وقع في بعض نسخ «صحيح مسلم»: حدثنا عمرو الناقد، قال: حدثنا عبدة، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن هشام، قال الجياني:«وهذا وهم، ليس يروي عبدة، عن يحيى بن يمان»

(3)

.

وقال الزيلعي في تخريجه لحديث: «ثم روى -يعني البيهقي- من حديث

(1)

«شرح صحيح مسلم» 13: 24.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2972).

(3)

«تقييد المهمل» 3: 935.

ص: 71

عبدالله بن الأجلح: حدثنا أبي، عن يزيد الفقير، عن أبيه قال: سمعت الفضل بن فضالة، يحدث أبي، عن أبي حرب بن الأسود الديلي، عن أبيه -دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه-»

(1)

.

كذا ساقه الزيلعي مطولا، والصواب أنهما إسنادان، فعبدالله بن الأجلح يرويه عن أبيه، عن يزيد الفقير، عن أبيه، ويرويه عبدالله بن الأجلح أيضا عن الفضل بن فضالة، عن أبي حرب بن الأسود، عن أبيه

(2)

، فلعل الواو سقطت من نسخة الزيلعي، أو ند بصره عنها.

وروى الإسماعيلي من طريق عمار بن رجاء، عن أبي داود، عن شعبة، وحماد، عن عاصم، وشعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: قال عمر: «أيكم يحفظ ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة

» الحديث

(3)

.

مَرَّ أحد الباحثين بهذا الإسناد، ففسر حمادا بأنه حماد بن أبي سليمان، وأن في الإسناد حينئذ تحريفا، وتقديما وتأخيرا، والصواب: عن أبي داود، عن شعبة، عن حماد، وعاصم، والأعمش، واستدل على ذلك برواية الترمذي (2258)، عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن الأعمش، وحماد، وعاصم بن بهدلة، عن أبي وائل.

كذا قال، والإسناد عند الإسماعيلي مستقيم، وحماد في الإسناد هو حماد

(1)

«تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في كتاب الكشاف» 3: 21.

(2)

«دلائل النبوة» 6: 414.

(3)

«معجم الإسماعيلي» حديث (395).

ص: 72

بن سلمة، وليس حماد بن أبي سليمان، فأبو داود فيه يرويه عن شعبة، وحماد بن سلمة، عن عاصم، وعن شعبة وحده عن الأعمش، وأما ما في الترمذي فيرويه أبو داود عن شعبة وحده عن شيوخه الثلاثة، ومن بينهم حماد بن أبي سليمان

(1)

.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، وعن عبدالكريم، عن معاذ بن سعوة، عن سنان بن سلمة مرسلا في هدي التطوع، مختصرا

(2)

.

مَرّ بعض الباحثين بهذا الإسناد، واستظهروا أن الصواب فيه: عن عطاء، عن عبدالكريم، بدون واو، وبنوا عليه أن سقطا قد وقع فيما أخرجه ابن قانع من طريق عبيدالله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن عبدالكريم، عن معاذ بن سعوة، عن سنان بن سلمة

(3)

، فرجحوا سقوط عطاء من الإسناد.

والذي يظهر أنهما إسنادان، فابن أبي ليلى يرويه عن عطاء بن أبي رباح، مرسلا، ويرويه عن عبدالكريم بن أبي المخارق، عن معاذ بن سعوة، عن سنان بن سلمة مرسلا

(4)

.

(1)

ينظر: «مسند الطيالسي» حديث (408)، و «علل ابن أبي حاتم» 2:407.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» حديث (98) من الجزء الساقط من «المصنف» .

(3)

«معجم الصحابة» 1: 319، وهو أيضا في «معجم الصحابة» لأبي القاسم البغوي حديث (1205).

(4)

انظر: «علل ابن أبي حاتم» (المناسك) تحقيق تركي الغميز المسألة (63).

وينظر أمثلة أخرى في العطف وإشكالاته: «تقييد المهمل» 2: 687، 709، 714، و «إكمال تهذيب الكمال» 10:388.

ص: 73

والخلاصة مما تقدم أن على الباحث أن يدقق جيدا في الأسانيد التي يقع فيها عطف، ليتأكد من الإسناد وصفته، ويدقق كذلك في الأسانيد التي يرتاب فيها أن يكون فيها عطف سقطت أداته.

سادسا: يقع الاختلاف كثيرا بين الرواة إما في إسناد حديث أو في متنه، فإذا أراد المصنف أن يبين ويفصل رواية هذا من رواية هذا فعل ذلك وهو يسوق الإسناد، فيضع في وسط الإسناد ما يعرف بالجملة المعترضة، وربما أخر بيان ذلك في ختام الرواية، وهذا كثير جدا، فليزم الباحث التدقيق في سياق المؤلف للإسناد، والتأني في قراءته، والحرص على أن لا يفوته شيء ذكره المؤلف لاحقا.

ومن أمثلة ذلك قول أحمد: «حدثنا أبو معاوية، ووكيع -المعنى-، قالا: حدثنا الأعمش، عن مجاهد، قال وكيع: سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس، عن ابن عباس، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين

»

(1)

.

فقوله: «حدثنا أبو معاوية، ووكيع -المعنى-» ، هذا قول أحمد، ومراده أن الروايتين بمعنى واحد، رواية أبي معاوية ورواية وكيع، وهي كلمة تتردد كثيرا في المصادر، عند أحمد، وأبي داود، وغيرهما، وربما غلط فيها بعض الباحثين، فظنها نسبة للراوي.

وقوله: «قال وكيع: سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس، عن ابن عباس» ، هذه الجملة لو أخذناها على ظاهرها لكان وكيع يروي عن مجاهد، وهو لم يدرك

(1)

«مسند أحمد» 1: 225.

ص: 74

مجاهدا، فغرض أحمد أن يبين صيغة رواية الأعمش، عن مجاهد، في رواية وكيع، وفي رواية أبي معاوية، ففي رواية وكيع يقول الأعمش: سمعت مجاهدا، وفي رواية أبي معاوية ليس فيه التصريح بالتحديث، فأراد أحمد بهذا بيان أن الأعمش صرح بالتحديث في رواية وكيع، وإنما فعل هذا أحمد لغرض مهم، ذلك أن الأعمش مدلس، خاصة عن مجاهد

(1)

، وتصريحه بالتحديث ينفي ذلك.

وقال أحمد أيضا: «حدثنا يزيد، أخبرنا سفيان الثوري، وحماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه -قال حماد في حديثه: عن أبي سعيد الخدري، لم يجز سفيان أباه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» ، »

(2)

.

والمقصود من هذا البيان أن رواية الثوري لم يذكر فيها أبا سعيد، فجعله عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، مرسلا، وأما رواية حماد بن سلمة ففيها ذكر أبي سعيد.

وروى أحمد، عن يحيى بن سعيد، حدثنا حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر،

(1)

ينظر ما تقدم في «الاتصال والانقطاع» ص 339، 424.

(2)

«مسند أحمد» 3: 83، وهكذا ساقه زهير بن حرب في روايته له عن يزيد بن هارون، أخرجه عنه أبو يعلى حديث (1350)، ورواه محمد بن يحيى الذهلي عن يزيد بطريقة العطف، هكذا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، وحماد بن سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد

، أخرجه ابن ماجه حديث (745)، والبيهقي 2: 434، وبين البيهقي بعده أن رواية سفيان مرسلة.

ص: 75

فتلاحى رجلان، فرفعت، فقال: خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر، فتلاحى رجلان فرفعت، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»، ثم قال أحمد: حدثنا عبيدة، وقال:«التمسوها في التاسعة التي تبقى»

(1)

.

فعبيدة بن حميد يروي الحديث عن حميد، عن أنس، عن عبادة، واختصر أحمد الإسناد، فغرضه بيان اختلاف روايته عن رواية يحيى القطان في هذا القدر من الحديث.

وقال ابن ماجه: «حدثنا جميل بن الحسن، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، ح، وحدثنا عبدالرحمن بن عمر، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا سعيد، وهشام بن أبي عبدالله، عن قتادة -وهذا حديث عبدالرحمن- عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبدالله، عن أبي موسى الأشعري: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا

» الحديث».

فالحديث يرويه قتادة، عن يونس بن جبير، وقول ابن ماجه:«وهذا حديث عبدالرحمن» أراد به أن اللفظ الذي سيسوقه للحديث إسنادا ومتنا بعد قتادة هو رواية عبدالرحمن بن عمر، عن محمد بن أبي عدي، عن سعيد، وهشام، عن قتادة.

سابعا: سيجد الباحث وهو يجمع طرق حديثه أن هناك نوعين من الأسانيد، الأول: الأسانيد المسندة، وهي التي يسوقها مؤلف المصدر بإسناده، ابتداء من شيخه، وهذه الأسانيد لا خفاء في ضرورة احتفاء الباحث بها وتقييده لها.

(1)

«مسند أحمد» 5: 319.

ص: 76

والثاني: الأسانيد المعلقة، وهي التي يحذف المؤلف بعض إسناده، وذلك من أول الإسناد، فيسقط شيخه، أو شيخه وشيخ شيخه، وقد يسقط أكثر من ذلك.

والتعليق بدأ مبكرا، منذ عصر الرواية الأول، فالصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يسمعه، يكون قد علق الإسناد، وكذلك التابعي، وإذا قال تابع التابعي: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أيضا تعليق، غير أن هذا كان عندهم داخلا في مسمى الإرسال، إذ كان الإرسال يشمل كل سقط في الإسناد.

ومصطلح التعليق استخدم فيما بعد، أطلق على صنيع المصنفين، كالبخاري مثلا، فالأسانيد التي يحذف منها البخاري شيخه، أو يحذف معه شيخ شيخه -أو يزيد على ذلك- سموه تعليقا، وشمل ذلك ما حذف منه المصنف جميع الإسناد، كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قالت عائشة، أو قال ابن عباس.

والتعليق موجود في كثير من مصادر السنة، مثل «صحيح البخاري» ، و «صحيح مسلم» ، و «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» ، وغيرها، على تفاوت بينها في القلة والكثرة، فمثلا يكثر ذلك في «صحيح البخاري» ، و «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» ، على حين أنه قليل جدا يعد على الأصابع في «صحيح مسلم» .

وهم يفعلون ذلك في الغالب للاختصار، فإذا ساق طريقا مسندا أو أكثر، قد يتبعه بروايات معلقة، يقصد بها شد ذلك الإسناد وتقويته، أو بيان تصريح بالتحديث، أو زيادة في اللفظ، أو مخالفة لبعض رواة الإسناد الذي ساقه، ولو ساق جميع ذلك مسندا لطال كتابه، وقد يعلق ابتداء، فلا يسوق طريقا مسندا

ص: 77

للحديث، كما يفعله البخاري في أحاديث يذكرها ليستدل بها، ليست على شرطه، أو ربما ليضعفها.

وقد كثر هذا النوع من الأسانيد جدا في المصادر التي غرضها الأساس نقد المرويات، وليس روايتها وجمعها، مثل كتب السؤالات، وكتب العلل، مثل:«علل ابن المديني» ، «وعلل ابن أبي حاتم» ، و «علل الدارقطني» ، و «مسند البزار» ، وغيرها، وفي كثير منها يكون ما يعلقه المؤلف أكثر بكثير مما يسنده، والقارئ في «علل ابن أبي حاتم» -مثلا- يلحظ ذلك بسهولة.

وهؤلاء أيضا دفعهم للتعليق قصد الاختصار، ولو ساق المؤلف جميع أسانيده مسندة لطال الكتاب جدا، فـ «علل الدارقطني» طبع في خمسة عشر مجلدا، ولو أسند الدارقطني جميع ما فيه لربما زاد على المئة مجلد، وهكذا يقال في «مسند البزار» ، هو في عدة مجلدات، مع كونه يعلق أسانيد كثيرة جدا.

ثم هذه الكتب ليس مقصودها الأول جمع المرويات، وإنما غرضها الأساس نقدها، وهذا يكفي فيه في الغالب ذكر الطريق من قبل السائل، أو من قبل المجيب، أو المؤلف.

وإذا كان الأمر كذلك في هذه الكتب مع تقدم عصرها فلا شك أن التعليق سيكثر جدا في الكتب التي ألفت بعد عصر الرواية، مثل كتب التخريج، وكتب الشروح، وغيرها.

والطرق المعلقة لها قواعدها الخاصة بها فيما يتعلق بالاستفادة منها في النظر

ص: 78

في حال الحديث، وفيما يثبته الباحث منها في التخريج، وكيفية صياغته، وسيأتي هذا كله في أماكنه من هذا الكتاب.

والذي يهمنا هنا ما يتعلق بمرحلة جمع الطرق، فالمطلوب من الباحث أن يحتفي بالطرق المعلقة كاحتفائه بالطرق المسندة، ويقيدها أثناء جمعه للطرق، بالغة ما بلغت، والحاجة إليها قد تكون في بعض الأحاديث أشد من أسانيد للحديث وجدها الباحث مسندة.

والباحث إذا وصل إلى مكان الحديث في المصدر ووجده قد ساق إسناده ولم يعلقه لا يكتفي بتقييد إسناده، وعليه أن يقرأ ما قبله وما بعده، خشية أن يكون المؤلف أضاف شيئا من الطرق لم يسندها، وإذا كان الباحث مستعجلا ربما فاته شيء منها.

ومن جهة ثانية، فتعليق الطرق يختلف عند المؤلفين والنقاد بصفة عامة عن ذكرها مسندة، إذ يحرصون على اختصارها ما أمكن، ولهذا فالمطلوب من الباحث حين يريد جمعها أن يتمعن فيها جيدا قبل إثباتها في رسمه التوضيحي، ولا يثبتها فيه حتى يتضح له مسار هذه الطرق.

فالمؤلف أو الناقد وهو يذكر الرواة عن المدار ربما زاد في بعض الرواة عن المدار بذكر من دونه أيضا، وذلك في سياق واحد، بغرض بيان حال الإسناد قبله، أو لكونه قد روي عنه رواية أخرى، فيريد الناقد بيان من روى هذه عنه، ومن روى هذه.

ص: 79

وممن يفعل هذا كثيرا الدارقطني في «علله» ، لكونه يسوق طرقا كثيرة، واختلافات عالية ونازلة، وسوقه للأسانيد في الغالب لا غموض فيه، كما في قوله وقد سئل عن حديث زيد بن يثيع، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن تستخلفوا أبا بكر تجدوه زاهدا في الدنيا

» الحديث، قال: «هو حديث يرويه زيد بن يثيع، واختلف عنه، فرواه أبو إسحاق، واختلف عن أبي إسحاق أيضا، فقال يونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل -من رواية عبدالحميد بن أبي جعفر الفراء عنه-، وفضيل بن مرزوق، وجميل الخياط: عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي

، وقال إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع مرسلا، لم يذكر عليا

»

(1)

.

فذكر في هذا النص روايتين عن إسرائيل، الأولى من رواية عبدالحميد بن أبي جعفر الفراء عنه، وهي الموصولة بذكر علي، والثانية المرسلة، ولم يذكر الدارقطني من رواها عن إسرائيل، ولعل ذلك لكونها هي المشهورة عن إسرائيل.

وربما كان في السياق شيء من الغموض، فيحتاج الباحث إلى حسن التعامل مع النص حينئذ، وذلك بالاستعانة بطبقات الرواة، ومصادر التخريج.

مثال ذلك أن الليث بن سعد روى عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحاب الحمر؟ قال: لم ينزل علي في الحمر شيء، إلا هذه الآية الفاذة

» الحديث.

(1)

«علل الدارقطني» 3: 214.

ص: 80

سئل عنه أبو زرعة فقال: «هذا وهم، وهم فيه الليث، إنما الصحيح كما رواه مالك، وحفص بن ميسرة، وابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

فظاهر النص أن الثلاثة -وهم: مالك، وحفص، وابن أبي فديك- يروونه عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، وليس هذا هو المقصود، فالمقصود أن مالكا، وحفص بن ميسرة، وكذا هشام بن سعد، فيما يرويه عنه ابن أبي فديك، الثلاثة يروونه عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد

(2)

.

ومراد أبي زرعة أن الليث خالفه ابن أبي فديك في الرواية عن هشام بن سعد، عن زيد، وكذلك مالك، وحفص بن ميسرة، حين روياه عن زيد بن أسلم، فخولف الليث في طبقتين.

وقد مر عدد من الباحثين بعبارة أبي زرعة فاستشكلوها، وحملها بعضهم أولا على ظاهرها، ووجد في المصادر أن مالكا، وحفص بن ميسرة، إنما يرويان الحديث عن زيد مباشرة، فنصب اختلافا على مالك، وحفص بن ميسرة، على وجهين، أحدهما ما في المصادر، وهو كونهما يرويانه عن زيد مباشرة، والثاني ما ذكره أبو زرعة، وهو أنهما يرويانه عن هشام بن سعد، عن زيد، ثم عاد الباحث وأبدى احتمالا آخر، وهو أن يكون في النسخ تحريف وسقط، وقال:

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 218.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (2371)، و «صحيح مسلم» حديث (987)، و «سنن أبي داود» حديث (1659)، و «موطأ مالك» 2:444.

ص: 81

«والصواب -والله أعلم- في العبارة: إنما الصحيح كما رواه مالك، وحفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، وما رواه ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم» .

وما ذكر الباحث أنه الصواب هو مراد أبي زرعة بلا شك، غير أن العبارة مستقيمة، لا سقط فيها ولا تحريف، وهي طريقة للنقاد، لا بد للباحث أن يدركها لئلا يستشكل كلامهم، وليتقن مسار الأسانيد حين يستخدمونها، وأيضا يتعود عليها ليستخدمها هو، حيث يحتاج لتلخيص الطرق، وعرضها للقارئ، كما سيأتي معنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.

ومما ينبغي التنبه له كذلك فيما يورده النقاد من طرق معلقة - أنهم يحذفون من وسط الإسناد بعد المدار بعض رواته، لكون السياق دالا عليهم، يفعلون هذا كثيرا، من باب الاختصار، وتلخيص الكلام.

ومن صور ذلك أن يقول الناقد -مثلا-: روى هذا الحديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ورواه أبان بن يزيد، عن أبي سلمة مرسلا، ورواه الأوزاعي، عن أبي سلمة، عن عائشة.

فرواية أبان بن يزيد، والأوزاعي، ليست عن أبي سلمة مباشرة، والمقصود أن أبان بن يزيد رواه عن يحيى بن أبي كثير فجعله عن أبي سلمة مرسلا، وأن الأوزاعي رواه عن يحيى بن أبي كثير، فجعله عن أبي سلمة، عن عائشة، وأسقط ذكر يحيى في عرض روايتيهما للعلم به، فإن أبان بن يزيد، والأوزاعي، من

ص: 82

أصحاب يحيى بن أبي كثير، وقد تقدم ذكره في الإسناد الأول، فالمدار عليه.

وأكتفي هنا بمثال واحد، قال الدوري:«حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن عسيب الفحل» ، قال يحيى: وحدث به ابن أبي شيبة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ، إنما هو حديث ابن أبي ليلى»

(1)

.

فقول ابن معين: وحدث به ابن أبي شيبة، عن ابن جريج، عن عطاء، مراده: حدث به عن وكيع، عن ابن جريج، عن عطاء، فابن أبي شيبة لم يدرك ابن جريج.

وربما أسقط الناقد أكثر من راو، فيقول مثلا: ورواه الأوزاعي، عن عائشة، أي عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة.

وربما وقع بسبب الاختصار شيء من الغموض، إما بسبب الاختصار الشديد، أو لمخالفته شيئا مما وقف عليه الباحث خارج كلام الناقد، فيحتاج حينئذ إلى التأمل في السياق، والنظر في المصادر الأخرى، وكلام النقاد الآخرين، وغير ذلك، مثله مثل قضايا هذا الفن الأخرى، قد تكون ظاهرة لا تحتاج إلى عناء، وقد تحتاج إلى نظر الباحث واجتهاده، والغالب في اختصار النقاد للأسانيد وضوح غرضهم ومقصدهم، فهذا يكون الأمر فيه بدهيا بالنسبة للباحث المتخصص، وما يندر منه يعالجه الباحث وفق ما يحف به من قرائن.

فمن ذلك قول أبي داود: «سمعت أحمد ذكر له حديث جرير، عن منصور،

ص: 83

عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة

»، قال: هذا: سفيان وغيره، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني يرويه سفيان وغيره، عن منصور، عن ربعي، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فاحتاج أبو داود إلى بيان مراد أحمد في صفة رواية سفيان الثوري ومن معه، حيث اختصرها أحمد جدا.

وقال أبو داود أيضا: «سمعت أحمد سئل عن حديث عقبة بن عامر: «أن أخته نذرت أن تحج حافية

»، قال: روح يقول: يحيى بن أيوب، وابن بكر، وعبدالرزاق يقولان: سعيد بن أبي أيوب -يعني: يقولون عن ابن جريج، عنهما-»

(2)

.

أوضح أبو داود أن روح بن عبادة، ومحمد بن بكر، وعبدالرزاق، يروون هذا الحديث عن ابن جريج، فسمى روح شيخ ابن جريج: يحيى بن أيوب، وسماه الآخران: سعيد بن أبي أيوب

(3)

.

(1)

«مسائل أبي داود» ص 391، وحديث حذيفة أخرجه أبو داود حديث (2326)، والنسائي حديث (2125)، وحديث الرجل أخرجه النسائي حديث (2126)، والدارقطني 2: 161، وقد قيل فيه عن منصور، عن ربعي مرسلا، وهذه رواية الحجاج بن أرطاة، أخرجه النسائي حديث (2127).

(2)

«مسائل أبي داود» ص 444.

(3)

وقد وافق محمد بن بكر، وعبدالرزاق: هشام بن يوسف، وحجاج بن محمد، كما وافق روح بن عبادة: أبو عاصم الضحاك بن مخلد، انظر هذه الروايات في:«صحيح البخاري» حديث (1866)، و «صحيح مسلم» حديث (1644)، و «سنن أبي داود» حديث (3299)، و «سنن النسائي» حديث (2338)، و «مسند أحمد» 4:152.

ص: 84

وسأل الترمذي البخاري عما رواه أزهر بن سعد، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي: «أن فاطمة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مَجل يديها

» الحديث، فقال البخاري:«يقولون: هو في كتاب أزهر، عن ابن عون، عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل»

(1)

.

فقد يفهم من كلام البخاري أن الإرسال في موضعين، بين ابن عون، وعبيدة، بإسقاط ابن سيرين، وبين عبيدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، بدون ذكر علي، غير أن هناك دلائل تشير إلى أن مقصوده بالإرسال عدم ذكر علي فقط، وأنه اختصر الإسناد، فاقتصر على ذكر محل الاختلاف، وهو ذكر علي أو حذفه.

فالنقاد الآخرون غير البخاري -وقد اتفقوا مع البخاري على تعليل الموصول بالمرسل- كلهم ذكر محمد بن سيرين، وإنما اختلفوا في صفة الإرسال بعد ذلك، هل هي بعدم ذكر عبيدة، أو بعدم ذكر علي؟ ومن ذلك قول البزار بعد أن أخرج الحديث بإسناده عن أزهر، وأشار إلى حديث آخر وصله أزهر أيضا: «وأخرجه إلي بشر بن آدم -ابن بنت أزهر- من أصل كتاب أزهر، فإذا فيه: عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة مرسلا، وكذلك حديث: «جاءت فاطمة

(1)

«العلل الكبير» 2: 909.

ص: 85

رضي الله عنها

» مرسلا أيضا»

(1)

.

وعلى هذا فعبارة البخاري تكتب هكذا: «يقولون: هو في كتاب أزهر، عن ابن عون: عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل» ، بوضع نقطتين بعد ابن عون، فما بعدهما هو مراد البخاري، وهو محل الاختلاف بين الموصول والمرسل.

وسئل الدارقطني عن حديث أبي سعيد الخدري، عن أبي بكر الصديق، أنه قال: «ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟

» الحديث، فقال: «يرويه الجريري، عن أبي نضرة، واختلف عنه، فرواه عقبة بن خالد، ويعقوب الحضرمي، عن شعبة، عن الجريري، عن أبي سعيد

، وغيرهما يرويه عن شعبة مرسلا، وكذلك رواه ابن علية، وابن المبارك، وعدة، عن سعيد (يعني الجريري) مرسلا، وهو الصحيح»

(2)

.

وصفة المرسل في كلام الدارقطني الأقرب أن يكون قصد به إسقاط أبي سعيد، في مقابل الموصول بذكره، لكن وجدت رواية شعبة على صفتين في الإرسال، إحداهما بإسقاط أبي سعيد، وهذه رواية عبدالرحمن بن مهدي

(3)

، والثانية بإسقاط أبي سعيد، وأبي نضرة، وجعله عن الجريري مرسلا، وهذه رواية

(1)

«مسند البزار» حديث (551).

(2)

«علل الدارقطني» 1: 234. والموصول له طرق أخرى عن شعبة، ينظر: «سنن الترمذي» حديث (3667)، و «فضائل الصحابة» لخيثمة بن سليمان حديث (129)، و «تاريخ ابن عساكر» 30: 37.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (3667).

ص: 86

عفان بن مسلم

(1)

، فاحتملهما كلام الدارقطني، وإن كان الأقرب هو الأول.

والوقوف على روايتي ابن علية، وابن المبارك، يساعد كثيرا في إيضاح كلام الدارقطني.

وقد رأيت اضطرابا من بعض الباحثين في التعامل مع ما يعلقه النقاد، وفهم مسار الأسانيد، فمنهم من يبالغ في البيان، ويملأ حواشي الكتاب بالتنبيه على مراد الناقد حين ينقل نصه، فيقول في الحاشية: مراده كذا، مراده كذا، مع وضوح المراد، وسهولة فهمه من السياق، فهذا الصنيع غير مناسب.

ومن الباحثين من غابت عنه القضية من أساسها، أو حين يعالج نصا معينا، فقد ذكر أحد الباحثين قول ناقد: «روى سعيد: «من باع عبدا وله مال

»، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عمر، ورواه هشام، وهمام، عن عكرمة -وهو ابن خالد- عن الزهري».

فعلق عليه الباحث بكلام قال في نهايته: «أما الإسناد الثاني فعلته التعليق، والانقطاع أيضا، لأنه لم يثبت أن هشاما، وهماما، من تلاميذ عكرمة بن خالد، بل شيخهما في هذا الحديث هو قتادة، وقد سقط من الإسناد هنا، بدليل ما ذكره المزي

».

كذا قال الباحث، والناقد لم يرد أن هشاما، وهماما، رويا الحديث عن عكرمة بن خالد بلا واسطة، فمراده أنهما روياه عن قتادة، فجعلاه عنه، عن عكرمة بن خالد، عن الزهري، فلا انقطاع في الإسناد.

ص: 87

ونقل الترمذي عن البخاري قوله في حديث: «الصلاة مثنى، مثنى

»، وقد اختلف فيه شعبة، والليث بن سعد، على عبد ربه بن سعيد في الإسناد: «روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد، فأخطأ في مواضع، فقال: عن أنس بن أبي أنس، وهو عمران بن أبي أنس، وقال: عن عبدالله بن الحارث، وإنما هو: عبدالله بن نافع بن العمياء، عن ربيعة بن الحارث، وقال شعبة: عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو: ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، عن الفضل بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم

»

(1)

.

فتصدى أحمد شاكر لتخريج رواية شعبة، وذكر أن شعبة يرويه عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، ثم قال: «ومن هنا تعرف خطأ البخاري -فيما نقله عنه الترمذي هنا

- من أن شعبة لم يذكر في الإسناد عبدالله بن نافع بن العمياء».

كذا قال، والبخاري لم يخطئ، غاية ما فعل أنه اختصر الإسناد بالنص على موضع الخطأ، وأما الصواب فطواه البخاري، فشعبة مشترك فيه مع الليث بن سعد، فكلاهما قد ذكر عبدالله بن نافع بن العمياء، لكن شعبة أخطأ فقال: عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، والصواب ما رواه الليث وقال فيه: عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن ربيعة بن الحارث، ونقل الترمذي كلام البخاري في «السنن» ، و «العلل الكبير» ، ولم يعترضه بشيء، وقد أخرج

(1)

«سنن الترمذي» حديث (385)، و «العلل الكبير» 1:258.

ص: 88

رواية شعبة، وفيها ذكر عبدالله بن نافع بن العمياء.

ومما ينبغي التنبه له في قضية الأسانيد المعلقة ما يوجد من أسانيد تبدو لأول وهلة أنها معلقة غير موصولة، بسبب الفصل بينها وبين الإسناد الموصول أولا بالمتن، فيساق الإسناد أولا بدونها، فيظنه من لم يتمعن فيه أنه معلق.

وقد وقع هذا كثيرا في «صحيح البخاري» فيظنه بعض الشراح أو غيرهم من تعليقات البخاري، ويضطر ابن حجر في شرحه للكتاب إلى التنبيه على أنه موصول

(1)

، وربما ذكره على الاحتمال الراجح

(2)

.

ومن أمثلة ذلك في غيره ما رواه أحمد قال: «حدثنا عتاب، قال: حدثنا عبدالله، قال: أخبرنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: «أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير» ، قال: رفعه الحكم، قال شعبة: وأنا أكره أن أحدث برفعه، قال: وحدثني غيلان، والحجاج، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، لم يرفعه».

ذكر أحد الباحثين رواية غيلان بن جامع ، والحجاج بن أرطاة، وعزاها إلى «مسند أحمد» ونبه إلى أنها معلقة، والصواب أنها موصولة بالإسناد المذكور قبل، فأحمد يرويه عن عتاب، عن عبدالله بن المبارك، عن شعبة، عن غيلان، والحجاج.

(1)

«فتح الباري» 1: 196، 374، 522، 2: 19، 51، 166، 485، 515، 3: 5، 5: 239، 261، 6: 113، 442، 614.

(2)

«فتح الباري» 6: 245.

ص: 89

ثامنا: في جمع طرق الحديث تمهيدا للنظر فيها ومعالجتها العبرة بمدار الحديث، فأي طرق لهذا المتن تمر بذلك المدار فهي بغية الباحث، ولا تأثير في هذه المرحلة لما وقع بعد المدار، وعلى أي صفة هو.

وعلى هذا لو افترضنا أن الحديث الذي مع الباحث يرويه في إسناد الباحث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، ثم وجد الباحث رواية سفيان بن عيينة لهذا الحديث بعينه عن عمرو بن دينار، عن جابر، ووجد رواية شعبة لهذا الحديث أيضا عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة، فالروايتان اللتان وقف عليهما الباحث من حديث جابر، ومن حديث أبي هريرة، هما من طرق حديثه، فالعبرة بالمدار وهو عمرو بن دينار، وهكذا لو جاء عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد مرسلا، فهو أيضا من طرق حديثه.

واعتبار المدار قطب الرحى في جمع الطرق إحدى الخطوات الأولى الهامة في الطريق الصحيح لنقد المرويات، ومتى أغفل الباحث ذلك في مرحلة جمع الطرق، باعتبار هذه شواهد للحديث -كما هو متقرر في أذهان كثير من الباحثين- فقد وضع الباحث قدمه في خطوة هامة أيضا في الطريق الخطأ لنقد المرويات، وسيأتي لهذا زيادة بيان في عدة مواضع من هذا الكتاب في مناسبات هذه القضية.

وما يقال في المدار المطلق للحديث يقال أيضا في المدارات النسبية له، فلو افترضنا أن سفيان، وشعبة، روياه كرواية حماد بن زيد، وجاء عن شعبة أيضا بصفة أخرى، كجعل الحديث عن جابر، أو أبي هريرة، فهذا كله من بغية الباحث

ص: 90

وطلبته، لا يصح له أن يهمله، وهكذا، في صور وتشعبات لا تنتهي، أسها الأول هذه المرحلة -مرحلة جمع الطرق وتنسيقها-.

وإذا أدركنا أن المدار-مطلقا كان أو نسبيا- هو محل نظر الباحث أثناء جمعه للطرق، فمن المهم هنا التأكيد على ضرورة اعتنائه بصفة الإسناد والمتن بعد المدار، فيدقق جيدا في الإسناد الذي وقف عليه، ويتمعن فيه من جهة صفة الرواية الموجودة فيه، هل هي موقوفة، أو مرفوعة؟ وهل هي موصولة، أو مرسلة؟ وهل فيها زيادة راو، أو حذف راو؟ ونحو ذلك.

فهذا التدقيق في صفة الروايات له أثره البالغ في المراحل اللاحقة، فأي زلة فيه قد تنهي عمله برمته، ومع كثرة الأسانيد، وسعة المصادر، وتنوعها، قد يغفل الباحث لحظة فيقع في الخطأ، خاصة إذا كان في ابتداء أمره، في مرحلة الماجستير، أو الدكتوراه -مثلا-.

ومما يلزم لإتقان ذلك أن يكون لدى الباحث خبرة بصيغ الرواية والتحديث، ومصطلحاتها، يفرق بين الرواية عن الشخص، والرواية لقصة الشخص، وبين أن يكون الاسم موجودا في الإسناد، أو موجودا في المتن، يعرف الفرق بين صيغ الرفع الصريحة، وغير الصريحة، وصيغ الوقف.

والمتأمل في عمل الباحثين يرى خللا في هذا الجانب، فتسرد الروايات والطرق دون تمييز، وأكثر ما يكون ذلك -كما أسلفت- في بداية الطريق.

مَرّ بي في تحقيق كتاب ابن الجوزي: «التحقيق في أحاديث التعليق» حديث

ص: 91

أيوب السختياني، عن سليمان بن يسار: «أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فأمرت أم سلمة أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم

» الحديث، وقد ساقه ابن الجوزي من طريق معلى بن أسد، عن وهيب بن خالد، عن أيوب

(1)

.

فقمت بتخريجه من طريق موسى بن إسماعيل، وعفان بن مسلم، عن وهيب، وفي روايتهما: عن أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة بالقصة

(2)

، هكذا فيها: سليمان بن يسار، عن أم سلمة، صورته أنه يرويه عنها، ولم أبين ذلك في التخريج.

وخرجته أيضا من طريق إسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، وعبدالوارث بن سعيد، عن أيوب السخيتاني، وفي رواية سفيان بن عيينة خاصة: عن أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة أنها قالت: «كانت فاطمة بنت أبي حبيش تستحاض

»

(3)

، ولم أبين ذلك.

ثم خرجته من طريق نافع، عن سليمان بن يسار، وقد اختلف فيه على نافع، وعلى من دونه، وموضع الشاهد هنا أنني ذكرت من طرقه طريق أنس بن عياض، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة، هكذا ذكرته، والصواب أنه عن رجل من الأنصار: «أن امرأة كانت

(1)

«التحقيق في أحاديث التعليق» حديث (336).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (278)، و «مسند أحمد» 6:322.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (302).

ص: 92

تهراق الدماء

»

(1)

.

وقرأت لأحد الباحثين تخريجا لهذا الحديث، صنع فيه مثل ما صنعت سواء بسواء.

والخطأ الذي وقعنا فيه في صميم مشكلة البحث، فمشكلته تدور حول الصواب في رواية سليمان له عن أم سلمة، هل هو يرويه عنها مباشرة، أو بواسطة رجل، أو يرسله فيروي القصة بنفسه؟ .

وذكر ابن حجر طرق حديث الأعمش، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا حسد إلا في اثنتين

» الحديث، فقال محققه مستدركا عليه:«ويزاد: أحمد 2/ 479: ثنا محمد بن جعفر، وروح بن عبادة، كلاهما عن شعبة، وعن يحيى بن آدم، عن يزيد بن عبدالعزيز، كلاهما عن الأعمش، عنه، به»

(2)

.

كذا قال الباحث، ورواية يزيد بن عبدالعزيز هي عن الأعمش، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري.

وتعرض أحد الباحثين لتخريج رواية الدراوردي، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .

ثم قال الباحث: «وأخرجه البيهقي في «السنن» 10/ 192، وفي «الشعب» (7977)، من طريق يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان به».

(1)

«سنن أبي داود» حديث (276).

(2)

«إتحاف المهرة» 14: 504.

ص: 93

ورواية يحيى بن أيوب هذه من مرسل ابن عجلان، ليس فيها ذكر القعقاع بن حكيم، ومن بعده، والبيهقي ساقها علة لحديث الدراوردي

(1)

.

وذكر أحد الباحثين رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، عن مروان بن الحكم، عن عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن من الشعر حكمة» .

قال الباحث في تخريجه: «وأخرجه الطيالسي (556)، والشافعي 2/ 188 - ومن طريقه البيهقي 10/ 237 - عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، عن مروان بن الحكم، عن عبدالرحمن بن الأسود مرسلا» .

كذا قال الباحث، ورواية أبي داود الطيالسي موصولة، ليست مرسلة.

وتعرض باحث آخر لرواية يونس بن يزيد، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» ، فقال الباحث:«ورواه عنبسة بن خالد -فيما أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» 3/ 4، ومن طريقه البيهقي في «السنن» 10/ 69 - عن يونس، عن ابن شهاب، حدث أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن عائشة مرفوعا، قال البيهقي: هذا يدل على أنه لم يسمعه من أبي سلمة، وإنما سمعه من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة».

كذا نقل الباحث عن المصدرين، والذي في «المعرفة والتاريخ» هكذا: عن

(1)

«سنن البيهقي» 10: 192، و «شعب الإيمان» حديث (7608 - 7609).

ص: 94

ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن

، ثم هو فيه من كلام عائشة، ففيه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» .

وقام أحد الباحثين بتخريج حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي بردة، عن الأغر المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» ، فارتكب في تخريج الوجه الثاني

-وهو عن أبي بردة، عن الأغر المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أخطاء في العزو، وفي صفة الروايات.

منها أنه خرج رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن أبي بردة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من «سنن النسائي الكبرى» (6/ 116 ح 10277)، والذي في «السنن»: عن أبي بردة، عن رجل من أصحابه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعزا إلى النسائي في «السنن الكبرى» (6/ 116 ح 10281) طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي بردة، عن الأغر المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه بهذا الرقم من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي بردة، عن الأغر المزني، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجه لم يذكره الباحث، وأما رواية شعبة بدون ذكر ابن عمر فهي عند النسائي برقم (10280).

وخرج أيضا من «مسند البزار» (8/ 120 ح 3123)، طريق أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، وهذا الموضع عند البزار ليس من هذا الطريق، وإنما هو من طريق المغيرة بن أبي الحر، عن سعيد بن أبي بردة، عن

ص: 95

أبي بردة، وأما طريق أبي إسحاق فهو في (7/ 372 ح 2970).

ووقوع الباحثين في مثل هذا -وهو كثير جدا- يقودنا إلى التنبيه على مثل ما تقدم في الفصل الذي قبل هذا، وهو استفادة الباحث من جهود السابقين في جمع الطرق غير أنه لا يعتمد عليهم في استقصائها، فقد يفوتهم شيء يقف عليه هو، فكذلك هنا، يستفيد من جهود من سبقه في العزو والتخريج، لكن لا يركن إلى عزوهم وتخريجهم، ووصفهم للروايات، وتصنيفها، وعليه أن يراجع المصادر، وينقل منها مباشرة.

ويوصى الباحث كذلك إذا رجع إلى المصدر -أيا كانت السبيل التي وصل بها إليه- أن يتأنى كثيرا، ويدقق في الإسناد الذي فيه، ويقرأه مرات عديدة، ويتأكد من رواته، ومن صفة الرواية فيه، قبل أن يلحقه برسمه التوضيحي.

وبهذا المنهج تقل الأخطاء عند الباحث، فليس المطلوب منه أن لا يخطئ أبدا، فهذا من تكليف ما لا يطاق، وإنما المطلوب أن لا تكثر منه الأخطاء، وتتراكم عليه مع أخطاء غيره.

تاسعا: يكثر في المصادر التحريف والسقط، في الأسانيد والمتون، ويهمنا هنا ما يتعلق بالأسانيد، فتتحرف الأسماء، وصيغ التحديث، وربما سقط بعض الإسناد فتداخل مع غيره، وقد يجتمع هذا كله.

وهذا داء قديم، شكى منه الأولون، ومن طالع كتاب أبي علي الجياني «تقييد المهمل وتمييز المشكل» رأى قدرا كبيرا مما وقع لبعض النسخ والروايات لـ «صحيحي البخاري ومسلم» ، مع شدة الاعتناء بهما.

ص: 96

ثم استفحل هذا الداء في الوقت الراهن بصفة مفزعة، لانتشار الطباعة، وطباعة الكتب دون تحقيق، أو بتحقيق غير جيد -وما أكثر ذلك-.

ومن أمثلة هذا الإسناد الماضي في الفقرة سادسا، فقد وقع في «مسند أحمد» هكذا: حدثنا أبو معاوية، ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش، ومجاهد

، وفيه خطأ، فأبو معاوية، ووكيع، لا يرويانه عن الأعمش، ومجاهد، وإنما يرويانه عن الأعمش، عن مجاهد.

ومر بعض الباحثين وهو يحقق كتابا مشهورا من كتب السنة بحديث محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان

» الحديث، فقال الباحث في تخريجه بعد أن خرجه من مصادر عديدة من طريق محمد بن فضيل:«وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 10/ 400 من طريق العباس بن يزيد بن فضيل، عن عمارة، به».

كذا صنع الباحث، والسقط ظاهر في هذا الإسناد، وليس في الرواة من اسمه العباس بن يزيد بن فضيل، وهذا الحديث يتفرد به محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، لا يعرف إلا من طريقه، كما تقدم في المبحث الثاني من الفصل الأول، ولعل الصواب: العباس بن يزيد، عن ابن فضيل، والعباس بن يزيد هو البحراني، يروي عن محمد بن فضيل.

وروى مسلم بإسناده عن إسماعيل بن علية، عن حميد الطويل، عن أبي

ص: 97

رافع، عن أبي هريرة: «أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب

» الحديث

(1)

.

كذا وقع في النسخة، وفيها سقط، فحميد يرويه عن بكر بن عبدالله المزني، عن أبي رافع، قال ابن حجر:«سقط بكر بن عبدالله من السند في أكثر النسخ من «صحيح مسلم» ، وثبت في بعضها من رواية بعض المغاربة، وكذا هي عندي بخط أبي الحسن المرادي الراوي عن الفراوي»

(2)

.

وروى عبدالرزاق، عن ابن جريج، وعمرو بن دينار، أن حسن بن محمد أخبره: «أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم دفنت بالليل

» الحديث

(3)

.

كذا وقع في النسخة، وصوابه:

عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار

، فعبدالرزاق لم يدرك عمرو بن دينار، وإنما يروي الحديث عنه بواسطة ابن جريج، ورواه مرة أخرى عن ابن عيينة، عن عمرو

(4)

.

ومن ذلك ما وقع في بعض طبعات «تفسير الطبري»

عن عمرو بن الحارث، عن أبي الشيخ، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : «الرؤيا الصالحة

(1)

«صحيح مسلم» حديث (371).

(2)

«النكت الظراف» 10: 385، وانظر:«تقييد المهمل» 3: 797.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (6554).

(4)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (6555).

ص: 98

يبشر بها العبد

»

(1)

.

فقوله: عن أبي الشيخ، صوابه: عن أبي السمح، واسمه دراج

(2)

، وقد خرج أحد المشايخ الفضلاء في تحقيقه لكتاب من كتب السنة هذا الحديث، فنقل هذا الإسناد من «تفسير الطبري» كما هو، وجعل أبا الشيخ متابعا لأبي السمح، وهو هو وقع فيه تحريف.

ومن ذلك ما وقع في «تفسير الطبري» أيضا: حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا أبو فضيل، قال: حدثنا أبي، عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة، عن عمرو بن حمزة البجلي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء

»

(3)

.

والصواب في هذا الإسناد هكذا: حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا أبي، وعمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة

(4)

.

وقد قيل في هذا الإسناد عن «عمر» مكان «أبي هريرة» ، خرجه جماعة منهم

(1)

«تفسير الطبري» 11: 135.

(2)

«مسند أحمد» 2: 219، و «تفسير الطبري» 11: 137، و «شعب الإيمان» حديث (4432).

(3)

«تفسير الطبري» 11: 132.

(4)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (11236)، و «شعب الإيمان» حديث (8584)، لكن وقع فيه:«عن أبيه، عن عمارة بن القعقاع» وهو خطأ، وفي تخريج محققه ما يدل على أنه اعتمد هذا الخطأ، وانظر:«الإخوان» لابن أبي الدنيا حديث (5)، و «مسند أبي يعلى» حديث (6110)، و «صحيح ابن حبان» حديث (573).

ص: 99

أبو نعيم في «الحلية» ، ووقع فيه أيضا تحريف، لكنه أخف مما وقع في تفسير الطبري، فوقع فيه هكذا:

عن قيس بن الربيع، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن عمرو بن جرير، عن عمر

(1)

.

وذكره الشيخ أيضا في تحقيقه للكتاب المشار إليه، شاهدا لحديث أبي هريرة، ثم قال:«وهذا إسناد جيد» .

وصواب الإسناد:

عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عمر

(2)

، وأبو زرعة هذا لم يدرك عمر بن الخطاب

(3)

.

وسئل الدارقطني عن حديث حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يحسر الفرات عن جبل من ذهب» ، فقال:«يرويه خبيب بن عبدالرحمن، واختلف عنه، فرواه عبيدالله بن عمر، عن خبيب مرفوعا، واختلف عن شعبة، فرفعه الحميدي، عن شعبة، ووقفه غيره، والصحيح عن شعبة الموقوف، والصحيح عن عبيدالله المرفوع»

(4)

.

كذا في النسخة: الحميدي، عن شعبة، والحميدي لم يدرك شعبة، ففي العبارة تصحيف أو سقط، ولا بد

(5)

.

(1)

«حلية الأولياء» 1: 5.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3527)، و «شعب الإيمان» حديث (8585 - 8586)، و «تفسير الواحدي» 2: 552، و «تفسير الطبري» 11: 132، و «تفسير ابن أبي حاتم» حديث (10453).

(3)

«شعب الإيمان» بعد حديث (8584)، و «تهذيب التهذيب» 12:99.

(4)

«علل الدارقطني» 10: 277.

(5)

وهو في الطبعة الجديدة بتحقيق الشيخ محمد الدباسي (5/ 192) على الصواب: «فرفعه الجُدِّي

عن شعبة»، وذكر المحقق أنها في إحدى النسختين هكذا.

ص: 100

وكما يقع الخطأ والتحريف في المصادر الأصلية، يقع أيضا في المصادر المؤلفة عليها، أو الناقلة عنها، مثال ذلك ما وقع في «إتحاف المهرة» لابن حجر، في سياقه لأسانيد حديث يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن أنس الماضي ذكره في المبحث الثاني من الفصل الأول، فقد وقع فيه:«رواه أحمد، عن وكيع، عن سفيان، وعن أسود، عن إسرائيل، عن ليث، وعن حسين، عن إسرائيل، كلهم عن السدي، عنه (يعني عن يحيى بن عباد)، به، قط (يعني الدارقطني) فيه (يعني في الأشربة): عن الحسين بن إسماعيل، عن يعقوب الدورقي، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عنه به»

(1)

.

كذا وقع في النسخة، ومثله بالنسبة لرواية أحمد ما في «أطراف المسند»

(2)

، وفي المصدرين خطأ، فرواية الليث التي عند أحمد إنما هي عن يحيى بن عباد مباشرة، لا عن السدي عنه

(3)

، ورواية معتمر بن سليمان التي عند الدارقطني هي عن الليث، عن يحيى بن عباد، وليست عن المعتمر، عن أبيه، عن يحيى

(4)

.

وذكر ابن حجر في ترجمة (الزهري، عن أنس) حديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة» ، ثم قال في تخريجه: «الطحاوي في الكراهة، عن

(1)

«إتحاف المهرة» 2: 379.

(2)

«أطراف المسند» 1: 546.

(3)

انظر: «مسند أحمد» 3: 260.

(4)

انظر: «سنن الدارقطني» 4: 265، 266، و «سنن الترمذي» حديث (1293).

ص: 101

فهد، عن الحماني، وعن ابن أبي داود، حدثنا محمد بن المنهال، كلاهما عن يزيد بن زريع، عنه به»

(1)

.

فسياق الإسناد هكذا معناه أن يزيد بن زريع يرويه عن الزهري، وليس هذا هو المراد، فيزيد يرويه عن معمر، عن الزهري، وسقط اسم معمر من النسخة، وهو على الصواب عند الطحاوي

(2)

.

وفي حديث واحد وقع خطأ في المصدر الأصلي، أمكن تصحيحه من مصدر فرعي، والعكس كذلك، فقد روى ابن خزيمة، قال: «حدثنا الصنعاني، حدثنا بشر، حدثنا حميد، قال: إما سمعت أنسا، وإما عن ثابت، عن أنس، ح، وحدثنا محمد بن يحيى بن فياض، حدثنا عبدالصمد، حدثنا حميد، عن ثابت، عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شيخا كبيرا يهادى بين ابنيه

» الحديث»

(3)

.

فقوله في الإسناد الثاني: «حدثنا عبدالصمد» تحريف، والصواب:«حدثنا عبدالأعلى» ، وتصويبه من «إتحاف المهرة» ، قال ابن حجر في ذكر طرق حديث أنس هذا من ابن خزيمة:«خز، في الحج: حدثنا محمد بن يحيى ابن فياض، حدثنا عبدالأعلى، عنه (يعني عن حميد) به، وعن الصنعاني، عن بشر بن المفضل، عن عبدالأعلى، حدثنا حميد، قال: إما سمعت أنسا، وإما عن ثابت، عن أنس، به»

(4)

.

(1)

«إتحاف المهرة» 2: 310.

(2)

«شرح معاني الآثار» 4: 321.

(3)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (3044).

(4)

«إتحاف المهرة» 1: 517.

ص: 102

وقوله في «الإتحاف» في الإسناد الثاني: «عن بشر بن المفضل، عن عبدالأعلى، حدثنا حميد» صوابه: «عن بشر بن المفضل، حدثنا حميد» ، ليس فيه عبدالأعلى، فبشر يرويه مباشرة عن حميد، وهو على الصواب في «صحيح ابن خزيمة» .

وبعض الباحثين يدقق ويراجع حين يعرف أن المصدر كثير الأخطاء والتحريف في طباعته، ويستروح لعمل غيره إذا كان الكتاب قليل الأخطاء، ولا شك أن هذا الباحث ستقل عنده الأخطاء، فلا يقارن بمن يجمع الأسانيد من أي مصدر كان دون تمحيصها والنظر في صوابها، غير أن من يستروح لعمل غيره قد يقع في الخطأ أيضا.

تعرض أحد الباحثين للاختلاف الواقع على معمر بن راشد في روايته عن الزهري، حديث نومه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر، فذكر الباحث الاختلاف على معمر في هذا الحديث وصلا وإرسالا، وذكر أشهر من رواه مرسلا، ومن رواه موصولا، فعبدالرزاق يرويه عن معمر، عن الزهري، عن سعيد مرسلا، وأبان العطار يرويه عن معمر، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة موصولا، فهاتان روايتان مشهورتان عن معمر

(1)

.

ثم ذكر الباحث أنه وقف على متابع لأبان، وهو عبدالله بن المبارك، وعزا

(1)

رواية عبدالرزاق هي في «المصنف» حديث (2237)، ورواية أبان العطار أخرجها أبو داود حديث (436)، وذكر الدارقطني في «العلل» 7: 287 ، أن سعيد بن أبي عروبة، ويزيد بن زريع، روياه كذلك عن معمر مرسلا.

ص: 103

روايته لـ «سنن النسائي»

(1)

، وبنى على هذه الرواية حفظ الوجهين عن معمر، نظرا لقوة ابن المبارك في معمر، في مقابل رواية عبدالرزاق، وهو أيضا قوي في معمر، ورد بهذه المتابعة على من رجح حفظ الإرسال عن معمر، وأطال في ذلك وردده.

ولو صحت هذه الرواية لكان كلام الباحث متجها، غير أنها لا تصح، فالصواب أن رواية ابن المبارك أيضا مرسلة، وما وقع من الوصل خطأ في النسخة أمكن تصحيحه من «تحفة الأشراف»

(2)

.

وروى أبو يعلى قال: «حدثنا عبيدالله، حدثنا خالد، ويحيى، قالا: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم

» الحديث»

(3)

.

كذا وقع في النسخة، والصواب: قالا: حدثنا سعيد، وهو ابن أبي عروبة، وليس شعبة، هكذا هو في المصادر من طريق خالد بن الحارث، ويحيى

القطان، وغيرهما، وهو عند البيهقي من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي،

عن خالد، ويحيى، جميعا

(4)

، وقد رواه أبان العطار، وهمام، عن قتادة

(1)

«سنن النسائي» حديث (619).

(2)

«تحفة الأشراف» 10: 73، 13:215.

(3)

«مسند أبي يعلى» تحقيق سليم أسد (3191)، وتحقيق إرشاد الأثري حديث (3180).

(4)

«صحيح البخاري» حديث (750)، و «سنن أبي داود» حديث (913)، و «سنن النسائي» حديث (1192)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1044)، و «مسند أحمد» 3: 109، 115، 116، 140، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 240، و «مسند عبد بن حميد» حديث (1196)، و «سنن الدارمي» حديث (1302)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (475 - 476)، و «مسند أبي يعلى» حديث (2918)، (2965)، (3160)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2284)، و «سنن البيهقي» 2:282.

ص: 104

أيضا

(1)

، وأما شعبة فكان ينكر أن يكون قتادة سمع هذا من أنس

(2)

.

وبمناسبة الحديث عن تحقيق الكتب فمن المهم جدا بالنسبة للباحث أن يتنبه لتصرفات المحققين لكتب المرويات التي يقومون بتحقيقها، فلا يقلدهم فيما يتصرفون فيه بالزيادة والنقص، أو التغيير، فإن كثيرا منهم يفعل ذلك دون دراسة وتمحيص، فإذا وجد في المصادر شيئا يخالف نسخه المخطوطة للكتاب الذي يحققه تصرف في الإسناد وفق ما في هذه المصادر، غير مفرق بين ما هو من خطأ النساخ ويحسن تغييره أو الإشارة إليه، وبين ما هو هكذا في أصل الرواية عند المؤلف، وهذا موضع دقيق جدا، أحد أعمدة قواعد التحقيق للكتب، وربما غير المحقق بناء على اجتهاده ونظره في الطرق، وإن لم ترشده المصادر إليه.

ومثله ما إذا اختلفت نسخ الكتاب، واختار المحقق ما جاء في بعضها، وجعل ما في غيرها خطأ، أو مرجوحا، فالباحث غير ملزم برأي المحقق، بل ليس له أن يتابعه إلا بعد نظر وفحص.

أخرج عبدالرزاق، عن سفيان الثوري، عن محارب بن دثار، عن سليمان

(1)

«مسند أحمد» 3: 258، و «مسند الطيالسي» حديث (2131).

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 222. وانظر مثالا آخر في «صحيح ابن حبان» حديث (2264) طبعة الحوت، وحديث (2267) طبعة الأرنؤوط، و «إتحاف المهرة» 2: 175.

ص: 105

بن بريدة، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، حتى كان يوم الفتح، فصلى الظهر والعصر والمغرب بوضوء واحد»

(1)

.

وزاد محقق الكتاب بين معكوفتين (عن أبيه) بعد سليمان بن بريدة، وعلل ذلك بأنه وجده في المصادر هكذا من حديث بريدة، وفي بعضها عزوه لعبدالرزاق، وأطال في ذلك.

وما صنعه المحقق خطأ فاحش لا يقلد فيه، ويخرج الإسناد من «المصنف» كما هو مرسلا، فهذا الحديث اختلف فيه على الثوري، فرواه جماعة منهم عبدالرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وعبدالرزاق -كما هو في هذه الرواية- مرسلا، ورواه وكيع، ومعتمر بن سليمان، ومعاوية بن هشام، عن الثوري موصولا بذكر بريدة بن الحصيب، والمشهور في الوصل رواية وكيع، ورجح النقاد رواية الإرسال، لجلالة عبدالرحمن، وأبي نعيم، وتقدمهما في الثوري

(2)

.

وقد رواه سفيان أيضا عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، ولم يختلف عن سفيان في ذلك، اتفق عليه أصحابه، ومنهم عبدالرزاق

(3)

.

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (157).

(2)

«سنن الترمذي» حديث (61)، و «سنن ابن ماجه» حديث (510)، و «تفسير الطبري» 6: 114، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (13)، و «علل ابن أبي حاتم» 1:58.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (277)، و «سنن أبي داود» حديث (172)، و «سنن الترمذي» حديث (61)، و «سنن النسائي» حديث (133)، و «مسند أحمد» 5: 350، 351، 358، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (158)، و «شرح معاني الآثار» 1: 41، و «سنن البيهقي» 1: 162، 172.

ص: 106

وأخرج أبو يعلى عن محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن روح، عن عبدالله بن سمعان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن القعقاع بن حكيم، عن أبيه، عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطأ بنعليه في الأذى

» الحديث

(1)

.

حذف محقق الكتاب جملة (عن أبيه)، وقال في الحاشية:«في الأصلين: عن القعقاع بن حكيم، عن أبيه، عن عائشة، وما علمنا للقعقاع رواية عن أبيه، وليس في الرواة عن عائشة من اسمه حكيم، وكأن الناسخ نسخ القعقاع، ونظر إلى سعيد المقبري، فظن أنه يروي عن أبيه، عن أبي هريرة هذا الحديث، فأثبته خطأ، والله أعلم» .

فالباحث حين يخرج هذا الإسناد من «مسند أبي يعلى» يذكره بإثبات هذه الجملة، ورأي المحقق لا يصح أن يتابعه فيه، فهي موجودة في الإسناد في مصادر أخرى، فأخرجه ابن عدي، عن أبي يعلى به

(2)

، وأخرجه العقيلي، عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن المنهال به

(3)

، والإسناد كله من مجازفات عبدالله بن زياد بن سمعان، فهو متروك الحديث، متهم بالكذب، فلا يستقيم ما ذكره المحقق من مبررات حذف الجملة.

وروى الدارقطني من طريق محمد بن عبدالملك بن زنجويه، حدثنا عبدالله

(1)

«مسند أبي يعلى» حديث (4869).

(2)

«الكامل» 4: 1445.

(3)

«الضعفاء الكبير» 2: 256.

ص: 107

بن الزبير، حدثنا سفيان، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله بن مسعود، قال: «ناولت النبي صلى الله عليه وسلم حجرين وروثة

» الحديث

(1)

.

هكذا في النسخة، إلا أنه سقط منها لفظة (حدثنا) بين عبدالملك، وعبدالله بن الزبير، غير أن محقق الكتاب زاد عليها حين أضافها، فجاء عنده الإسناد هكذا:

محمد بن عبدالملك بن زنجويه [حدثنا محمد بن] عبدالله بن الزبير، حدثنا سفيان

ولم يصب المحقق في هذه الزيادة، إذ صار الراوي في الإسناد كما أثبته المحقق محمد بن عبدالله بن الزبير أبا أحمد الزبيري، وسفيان على هذا هو الثوري، يروي عن إسرائيل بن يونس، وهو أصغر منه، والصواب أنه عبدالله بن الزبير الحميدي، صاحب «المسند» المعروف، وسفيان هو ابن عيينة، وقد ذكر الدارقطني روايته على هذه الصفة قبل ذلك، فذكر أن الحميدي رواه عن ابن عيينة، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، وساقه بإسناده بعد ذلك، وأما أبو أحمد الزبيري فذكر الدارقطني أنه يرويه عن إسرائيل مباشرة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه

(2)

، وهكذا أدى اجتهاد المحقق إلى اختلاط الأسانيد، فلا يقلده الباحث في ذلك.

وروى ابن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن شعبة، عن قتادة، وحميد،

(1)

«علل الدارقطني» 5: 34.

(2)

«علل الدارقطني» 5: 25، 26.

ص: 108

عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها

» الحديث.

هكذا في إحدى نسخ الكتاب، وفي الإسناد عطف، فأبو خالد يرويه عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، ويرويه، عن حميد، عن أنس، لكن المحقق أثبت الإسناد من نسخة أخرى هكذا: عن شعبة، عن قتادة، عن حميد، عن أنس، فجعله من رواية قتادة، عن حميد، وذكر في الحاشية أنه جاء في نسخة بالواو، أي عن أبي خالد، عن شعبة، عن قتادة، وحميد، عن أنس، وأن ما فيها خطأ.

كذا صنع محقق الكتاب، وما خطأه هو الصواب، كما تقدمت الإشارة إليه في الخامس من هذه التنبيهات.

وروى ابن خزيمة من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن قتادة، عن عقبة بن وساج، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«صلاة الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بخمس وعشرين»

(1)

.

هكذا في نسخته الخطية، لكن محققه غير الإسناد فجعله هكذا: عن شعبة، عن قتادة، وعقبة بن وساج، عن أبي الأحوص، والصواب ما في النسخة الخطية، هكذا هو في «إتحاف المهرة» ، عن ابن خزيمة

(2)

، وهو أيضا كذلك في المصادر الأخرى

(3)

.

(1)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (1470).

(2)

«إتحاف المهرة» 10: 416.

(3)

«مسند أحمد» 1: 437، و «التاريخ الكبير» 6: 432، و «مسند البزار» حديث (455)، و «مسند الشاشي» حديث (704)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 122، و «المعجم الكبير» حديث (10100)، غير أنه سقط من «مسند أحمد» ذكر قتادة، وقد نبه عليه محققوه، حديث رقم (4158) طبعة مؤسسة الرسالة.

وانظر مثالا آخر في «صحيح ابن خزيمة» حديث (183)، و «إتحاف المهرة» 2:644.

ص: 109

وروى الخطيب من طريق عبدالرحمن بن مهدي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عمرو بن شعيب، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توطأ عقباه، ولكن عن يمين وشمال» .

فعلق عليه المحقق بقوله: «الظاهر أنه سقط باقي الإسناد: عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو»

(1)

.

كذا قال، وكأنه قال ذلك لما رآه عند الحاكم من طريق شيبان، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن شعيب بن محمد، عن عبدالله بن عمرو، ومن طريق أمية بن خالد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو

(2)

.

وما استظهره المحقق ليس بظاهر، فهذه رواية، وما عند الحاكم روايتان أخريان، فبينهما اختلاف أيضا.

وأخرج ابن خزيمة من طريق روح، عن المسعودي، عن أبي صخرة جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن بريدة بن الحصيب، قال: «دخل قوم على

(1)

«الجامع لأخلاق الراوي» 1: 397.

(2)

«المستدرك» 4: 279 - 280.

ص: 110

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يسألونه، ويقولون: أعطنا

» الحديث

(1)

.

هكذا في جميع نسخ الكتاب الخطية، غير أن محقق الكتاب حذف اسم بريدة بن الحصيب، بحجة أنه خطأ، وأثبت مكانه عمران بن حصين، لكونه وجده في بعض مصادر التخريج عن عمران.

وتصرف المحقق غير مناسب أبدا، وذكر بريدة في الإسناد صواب، فهكذا يرويه المسعودي، عن أبي صخرة جامع بن شداد، في بعض الطرق عن المسعودي، على اختلاف عليه في ذكر الواسطة بين جامع بن شداد، وعبدالله بن بريدة.

وأما جعله عن عمران بن حصين فهي رواية الثوري، والأعمش، وكذا المسعودي في بعض الطرق إليه، وكان المسعودي يضطرب فيه، لكونه اختلط، وسيأتي بيان ذلك في الفصل الثاني من الباب الثالث.

وروى ابن حبان، عن أبي يعلى، عن عبيدالله بن عمر القواريري، عن يحيى القطان، عن عبيدالله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن عمر بن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: «أن عمار بن ياسر صلى ركعتين فخففهما، فقال له عبدالرحمن بن الحارث: يا أبا اليقظان، أراك قد خففتهما

» الحديث.

هكذا أخرجه، وعلق عليه بقوله: «هذا إسناد يوهم من لم يحكم صناعة العلم أنه منفصل غير متصل، وليس كذلك، لأن عمر بن أبي بكر سمع هذا الخبر عن جده عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن عمار بن ياسر، على ما ذكره

(1)

«التوحيد» حديث (593).

ص: 111

عبيدالله بن عمر، لأن عمر بن أبي بكر لم يسمعه من عمار، على ظاهره»

(1)

.

يريد ابن حبان أن ظاهر الإسناد هو رواية عمر بن عبدالرحمن بن أبي بكر للقصة بنفسه، لقوله هو: «أن عمار بن ياسر

»، وهو لم يدرك عمارا، فهو منقطع، ولكن حقيقة الإسناد أن عمر سمعه من جده صاحب القصة مع عمار، فهو متصل.

هكذا يقول ابن حبان، يعلق على هذا الإسناد كما رواه هو، سواء أصاب في هذا الإسناد، والتعليق عليه، أو أخطأ، وقد اضطر ابن حبان إلى هذا التعليق لكونه سقط عليه من الإسناد جملة (عن أبيه)، بعد عمر، فعمر يرويه عن أبيه أبي بكر بن عبدالرحمن، هكذا هو في «مسند أبي يعلى» ، بهذا الإسناد

(2)

، وهكذا رواه جماعة عن يحيى القطان

(3)

.

وقد اجتهد محقق «صحيح ابن حبان» ، فأضاف جملة (عن أبيه) في الإسناد، ونبه عليه، غير أن الباحث حين التخريج لا يقلده في هذا، بل ينقل الإسناد من ابن حبان كما رواه هو، وليس كما في المصادر الأخرى، فهو خطأ رواية إذن، وليس خطأ نساخ، وبإضافة هذه الجملة لا يستقيم تعليق ابن حبان.

وجاء في إحدى طبعات «مصنف ابن أبي شيبة» هذا الإسناد: حدثنا

(1)

«صحيح ابن حبان» حديث (1889).

(2)

«مسند أبي يعلى» حديث (1615).

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (611)، و «مسند أحمد» 4: 319، و «مسند البزار» حديث (1420).

ص: 112

ابن نمير، عن مجالد، عن عامر، عن [الحارث] بن عبدالله، عن علي، عن

النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن عشرة

» الحديث

(1)

.

وذكر محقق النسخة أن كلمة (الحارث) سقطت من جميع نسخ «المصنف» المخطوطة، وأنه زادها من بعض مصادر التخريج.

ولم يصب المحقق في هذه الزيادة، فالصواب: عن جابر بن عبدالله، عن علي، هكذا رواية ابن نمير، عن مجالد، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في موضع آخر هكذا

(2)

، وهي رواية مشهورة وقع فيها وهم

(3)

، فقد رواه الجماعة عن مجالد، عن عامر، عن الحارث بن عبدالله، عن علي، وكذلك رواه جماعة عن عامر الشعبي، وهي الروايات التي وجدها المحقق في بعض مصادر تخريج الحديث، ورواه أشعث بن عبدالرحمن، عن مجالد، عن عامر، عن جابر بن عبدالله، وعن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون ابن نمير خلط بين الإسنادين، أو مجالد فعل ذلك حين حدث به ابن نمير، ويحتمل أن يكون ذلك وقع من ابن أبي شيبة

(4)

.

وبسبب تصرفات المحققين للكتب واجتهاداتهم فالباحث يوصى بقراءة حواشي الكتب، وما ينبه عليه المحقق، فقد يكون ما لم يثبته هو الصواب.

(1)

«مصنف ابن أبي شيبة» حديث (17256).

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» حديث (37189).

(3)

«علل الدارقطني» 3: 155، و «تحفة الأشراف» 7:350.

(4)

ينظر رسالة «الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» لسارة الشهري، حديث (15).

ص: 113

و‌

‌قضية التغيير في النسخة خطأ قد شكى منه الأولون

، فروى أبو الأحوص سلام بن سليم، عن سعيد بن مسروق -والد سفيان الثوري-، عن عباية بن رفاعة، عن أبيه، عن جده رافع بن خديج، قال: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نلقى العدو غدا، وليس معنا مدى

» الحديث

(1)

.

ورواه الثوري، وشعبة، وزائدة، وغيرهم، عن سعيد بن مسروق، عن عباية، عن جده رافع، ليس فيه:«عن أبيه»

(2)

.

ورواية أبي الأحوص رواها البخاري عن مسدد، عنه، وقد جاءت هكذا في معظم روايات ونسخ «صحيح البخاري» ، قال أبو علي الجياني:«وسقط قوله: عن أبيه، في نسخة ابن السكن وحده، إنما عنده: عن عباية بن رفاعة، عن جده، وأظنه من إصلاح ابن السكن، والأولى في رواية أبي الأحوص أن يكون فيه: عن أبيه، عن جده، لأنه تنص الرواية كما حفظت عن راويها، على ما فيها» .

ثم ذكر أبو علي الجياني أن عبدالغني بن سعيد الحافظ ظن أن الإسقاط من

(1)

«صحيح البخاري» حديث (5543)، و «سنن أبي داود» حديث (2821)، و «سنن الترمذي» حديث (1491 - 1492)، (1600)، و «سنن النسائي» حديث (4416).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (2488)، (3075)، (5498)، (5503)، (5506)، (5509)، (5543 - 5544)، و «صحيح مسلم» حديث (1968)، و «سنن الترمذي» حديث (1491 - 1492)، (1600)، و «سنن النسائي» حديث (4308)، (4415)، (4421 - 4422)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3137)، (3178)، (3183)، و «مسند أحمد» 3: 463، 4: 140، 142.

ص: 114

البخاري، بسبب أن عبدالغني وقف على رواية ابن السكن، قال أبو علي:«وإنما تكلم عبدالغني على ما وقع في رواية ابن السكن، فإنه روى عنه بإسقاط أبيه، وظن عبدالغني أنه من عمل البخاري، وليس كذلك، لأن الأكثر من الرواة (يعني عن البخاري) يقولون: عنه، عن أبيه، عن جده»

(1)

.

وروى مسلم، عن الصلت بن مسعود، قال: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث البداءة بالعشاء إذا وضع وقد أقيمت الصلاة، وفي بعض نسخ «صحيح مسلم»: حدثنا الصلت بن مسعود، قال: حدثنا سفيان بن موسى، عن أيوب

(2)

.

وسفيان بن موسى هذا بصري يروي عن أيوب السختياني، لكنه غير مشهور، والمشهور بالرواية عن أيوب السختياني هو سفيان بن عيينة، كما أن ابن عيينة يروي أيضا عن أيوب آخر، وهو أيوب بن موسى، ولذا حصل في تفسير هذا الإسناد اضطراب، الشاهد منه ما ذكره أبو علي الجياني، قال:«ورأيت في بعض النسخ من كتاب مسلم قد غُيِّر هذا الإسناد، ورُدَّ: سفيان، عن أيوب بن موسى، وهذا خطأ»

(3)

.

وخلاصة ما تقدم أن على الباحث التدقيق في الإسناد حين يريد إلحاقه بأسانيد حديثه، والحذر من التحريف والسقط الذي يقع كثيرا في المصادر،

(1)

«تقييد المهمل» 2: 722 - 724.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (559)، و «تقييد المهمل» 3:813.

(3)

«تقييد المهمل» 3: 815.

ص: 115

خاصة إذا كان الإسناد عرضة لذلك، كأن يكون بعض رواته يشتبه مع غيره في صورة الخط، كشعبة وسعيد، أو سفيان وشيبان، أو هشام وهمام، فهذه الأسماء ونحوها يكثر الخلط بينها في النسخ والطباعة، ويمكن للناظر في حواشي كتب الأطراف، مثل «أطراف مسند أحمد» ، و «إتحاف المهرة» لابن حجر، أن يدرك هذا بسهولة.

عاشرا: رب قائل يقول: ما تقدم في هذا الفصل كله حول الرسم التوضيحي، هو مرحلة مبكرة تسبق عرض التخريج، والنظر في الطرق، وما أدى إليه من الجهة الأهم، وهو حال الحديث صحة وضعفا، ولهذا فإني سأسير في هذه المرحلة على طريقة (قَمِّش، ثم فتش)، أي أنني سأكتب الرسم التوضيحي من مصادر التخريج، ومما أستفيده من جهود الباحثين، كما هو على صورته، وحسب ما أفهمه من مسارات الأسانيد في الحال، ولا أنشغل في هذه المرحلة بالنظر في وقوع التصحيف والتحريف، أو في تداخل الأسانيد، وأكون قد أجلت هذا إلى مرحلة كتابة الأسانيد وعرضها، والنظر فيها.

وأكثر من هذا، أن يقول باحث: ليس من طريقتي أن أكتب رسما توضيحيا للأسانيد، فأنا أبدأ مباشرة بكتابة التخريج بعد وقوفي على الأسانيد في مصادرها.

وما يصنعه هذان الباحثان لا إشكال فيه من الناحية العلمية، فالرسم التوضيحي اقترح للتسهيل على الباحث، ومساعدته في إتقان عمله حين يقوم بعرض التخريج، والنظر في الأسانيد، فهو وسيلة إذن، ومطالبة الباحث بإتقانه، والتأكد من صواب الأسانيد، ومساراتها، قصد به أيضا التسهيل عليه حين كتابة

ص: 116

التخريج، فيتفرغ للصياغة، ومعالجة الطرق، ويكون همه واحدا.

ثم إن الرسم التوضيحي يكون بمثابة المرجع بالنسبة للباحث في الحديث الذي قام بجمع طرقه، فما يدعه من طرق لا يحتاج إليها في صياغة التخريج، يجدها في رسمه التوضيحي حين يحتاج إلى النظر فيه مرة أخرى لغرض آخر.

ومن لم يستخدم الرسم التوضيحي، أو استخدمه بصورته الأولية، فهذه التنبيهات بالنسبة له تكون في مرحلة صياغة التخريج، والنظر في الطرق ودراستها، فلا مفر له عنها، إذ هي في جملتها تتعلق بقضايا علمية، يحتاجها الباحث وهو في طريقه إلى مرحلة لاحقة، وليست جوانب تنظيمية بحتة، بحيث يعفى منها الباحث، فتداخل الأسانيد على الباحث، أو إثباته إسناد حديث وقع فيه تصحيف من النساخ أو الطباعة، واعتماده عليه، هو نقطة ضعف في بحثه، سواء كان يستخدم الرسم التوضيحي، أو لا يستخدمه، وسواء كان يعتني به أو لا، أو يؤجل ذلك، فالمهم بالنسبة للفن وأهله ما يقدمه الباحث لقارئه، ومدى إتقان الباحث له.

وكثير من قضايا التنبيهات السابقة ستتكرر معنا في المباحث اللاحقة في هذا الكتاب، فهي مسائل علمية، لا بد من صياغة عقل الباحث وطريقة تفكيره في البحث ما هو؟ وما آلياته؟ ليحسن التعامل معها.

والذي يحذر منه الباحث ما تقرر في أذهان بعض الباحثين، وهو أنني مطالب بإتقان عملي وما أقوم به، أما ما يقع فيه الآخرون فخارج مسؤوليتي، فإذا نقلت إسنادا محرفا، أو نصا وقع فيه سقط، فالعهدة فيه على المصدر الذي نقلت منه،

ص: 117

وعلى صاحبه، فهل يصح أن أطالب بتتبع أخطاء الآخرين، وأقوم بتصحيحها؟ .

وهذا كلام مرفوض من أساسه، فالبحث العلمي لا يتجزأ، وما يقع في المصادر من أخطاء عهدتها على المصدر وصاحبه قبل أن تنقل ما فيه إلى بحثك، أما بعد نقله فعهدة ذلك عليك بلا شك، وحسب الباحث أن ينوء بما يقع فيه هو من سهو وخطأ، فإذا ضم إليه نقله لأخطاء الآخرين، تراكمت الأخطاء في بحثه، وفقد القارئ ثقته بالباحث.

وأنا مدرك تمام الإدراك لصعوبة المهمة، ومدى ما يلاقيه الباحث المتيقظ من جهد وعناء، في سبيل مراجعة الأسانيد، والنصوص، بحيث يمكن القول بأن ثلث جهد الباحث أو يزيد يستنفد وراءها، يضاف إلى ذلك ما يتطلبه الأمر أحيانا من مراجعة عدة طبعات للكتاب الواحد، ومراجعة شروحه، والناقلين عنه، بل مراجعة مخطوطات الكتب المطبوعة.

وقيام الباحث الجاد بمثل هذه الأعمال فوق أنه سبيل مهم لإتقان البحث، وكسب ثقة القارئ، فهو أيضا مجال رحب للتدرب على اكتشاف الخطأ ومعالجته.

وقضايا البحث العلمي ليست هبات توزع، أو حقوقا شخصية يتنازل عنها، فقد شاء الله تعالى للمتخصصين في السنة النبوية أن يكون هذا من صميم تخصصهم، وسيرى القارئ هذا بوضوح في مباحث لاحقة، ومن لم يوطن نفسه على تحمل هذا وتبعاته، فإن فنون العلم واسعة جدا، يختار منها ما يشاء، بل إن مسالك الحياة واسعة أيضا، يختار منها ما يشاء.

ص: 118

والباحث المتخصص في السنة النبوية هو موقع بالإنابة عن أئمة النقد، وهم كانوا موقعين عن الله في تمييز صحيح السنة من ضعيفها، فالمهمة عظيمة إذن، والطريق إليها كان شاقا جدا في عصرهم، وهو لا يزال على مشقته أو زادت، وقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا، وهو المتعلق بجمع الطرق، أن الباحث في مرحلة جمع الطرق والبحث عنها في المصادر، ينوب عن أئمة النقد الذين كانت هذه الطرق محفوظة في رؤوسهم، فكذلك ما يتعلق بالنظر الأولي فيها من جهة التصحيف والتحريف والتداخل، فهذا كان أيضا جزءا من مهمتهم، والله الموفق والهادي.

* * *

ص: 119

‌الفصل الرابع

النقد في عصر الرواية

وفيه: مدخل، وخمسة مباحث:

المبحث الأول: التثبت من الرواة.

المبحث الثاني: مراجعة كتب الرواة.

المبحث الثالث: تمييز أحاديث الرواة.

المبحث الرابع: مجالس التحديث.

المبحث الخامس: الباحث والنقد في عصر الرواية.

ص: 121

‌مدخل:

من أعظم الأسس التي قامت عليها الرواية أنه لا يسلم من الخطأ والسهو أحد، فكل معرض لذلك، ولا عيب فيه، ولهم في تأكيد هذا الأساس كلمات مشهورة، منها قول سفيان الثوري:«ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك»

(1)

.

وقال مالك: «ومن ذا الذي لا يخطئ؟ »

(2)

.

وقال ابن المبارك: «ومن يسلم من الوهم؟ »

(3)

.

وقال النسائي في كلامه على حديث أخطأ فيه عبدالله بن المبارك بعد أن أثنى عليه: «ولكن لا بد من الغلط، قال عبدالرحمن بن مهدي: الذي يبرئ نفسه من الخطأ مجنون، ومن لا يغلط؟ »

(4)

.

وقال أحمد: «ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟ »

(5)

.

وقال أحمد أيضا وقد ذكر له مهنا أن محمد بن جعفر المعروف بغندر يغلط: «أليس هو من الناس؟ »

(6)

.

(1)

«الكفاية» ص 144.

(2)

«الآداب الشرعية» 2: 155.

(3)

«شرح علل الترمذي» 1: 436.

(4)

«سنن النسائي الكبرى» في كلامه على الحديث رقم (2538) طبعة مؤسسة الرسالة.

(5)

«تهذيب الكمال» 31: 338، وانظر أيضا:«تاريخ بغداد» 12: 274.

(6)

«الآداب الشرعية» 2: 154.

ص: 123

وقال ابن معين: «لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما العجب ممن يحدث فيصيب»

(1)

.

وقال أيضا: «من لا يخطئ في الحديث فهو كذاب»

(2)

.

وقال مسلم: «ليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا -وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيا وإتقانا لما يحفظ وينقل- إلا والغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله»

(3)

.

وقال الترمذي: «وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم»

(4)

.

وذكر ابن عدي أن عفان بن مسلم أخطأ في أحاديث مراسيل وصلها، وأحاديث موقوفة رفعها، ثم قال:«هذا مما لا ينقصه، لأن الثقة -وإن كان ثقة- فلا بد أنه يهم في الشيء بعد الشيء»

(5)

.

وذكر أبو حفص البرمكي للدارقطني أن عمرو بن يحيى المازني أخطأ في ذكره الحمار موضع البعير، حين توجه النبي صلى الله عليه وسلم لخيبر، وأن أحمد لم يضعفه بذلك، فقال الدارقطني: «مثل هذا في الصحابة، روى رافع بن عمرو المزني، قال:

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 657.

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 658.

(3)

«التمييز» ص 124.

(4)

«سنن الترمذي» 5: 747.

(5)

«الكامل» 5: 2021.

ص: 124

«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بغلة بمنى» ، وروى الناس كلهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة، أو جمل، أفيضعف الصحابي بذلك؟ »

(1)

.

وفي هذا السياق كثر من النقاد الإشارة إلى أخطاء الحفاظ الثقات، بعد بيان منزلتهم في الحفظ والإتقان، مثل الزهري، والثوري، ومالك، وحماد بن زيد، ويحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم.

ومن أغراضهم في النص على أن الرواة بشر، لا يمكن أن يسلم أحد منهم من الغلط، وكذلك النص على أغلاط كبار الثقات الحفاظ - شحذ همم الرواة لتجنب الوقوع في الخطأ والوهم، وأخذ الحيطة والحذر، ابتداء من السماع وإتقانه، والحرص على الكتابة، ثم العرض، وانتهاء بالأداء وإتقانه أيضا، وأهمية التحديث من كتاب، ومراجعته قبل التحديث، والحذر من الاعتماد على الحفظ وحده، وما يتخلل ذلك من محافظة الراوي على مسموعه، سواء كان مكتوبا ومحفوظا، من حين سماعه إلى حين أدائه، والاستعانة على ذلك بالمذاكرة، وكثرة المراجعة.

ومن الأغراض كذلك تهيئة نفوس الرواة، وضرورة استعدادهم لتقبل وقوعهم في الخطأ والوهم، وعدم الأنفة من ذلك.

وغرض ثالث مهم جدا -هو بيت القصيد هنا- وهو اليقظة التامة، والانتباه الشديد لما يقع من الرواة من أخطاء، وعدم السكوت عليها كائنا من كان المخطئ.

ص: 125

والمتتبع لمسيرة الرواية في عصرها يلحظ بسهولة تحقق هذه الأغراض الثلاثة، ويهمنا منها هنا الحديث عن الغرض الثالث، وهو النقد، فالنقد سار جنبا إلى جنب مع الرواية، فنقاد الحديث وصيارفته هم أيضا من أساطين الرواية وحفاظ الحديث، والرواة -خاصة المكثرين منهم- هم نقاد أيضا، لديهم ملكة النقد، ولديهم الاستعداد له، وإن لم يكثروا منه، أو لم يشتهروا بذلك، وتدون أقوالهم، وتنقل إلينا، كما تقدم مثله في نقد الرواة أنفسهم

(1)

.

ومن غير المستغرب أن يحدث أحد الرواة بحديث، أمام جمع غفير من الآخذين عنه، فيخطئ في حديث، فيضج المجلس كله يناديه أنك أخطأت، فهذا الحديث ليس عن فلان، إنما هو عن فلان، أو هذا الحديث ليس من حديثك أصلا، فيتراجع الراوي عن التحديث به ويتوقف فيه

(2)

.

ومن المهم بالنسبة للباحث أن يجتهد بقدر الإمكان ليقترب من ذلك العصر، ويتأمل ما يدور في مجالس التحديث، ومجالس المذاكرة والنقد، وسيتحقق له أغراض كثيرة بإذن الله تعالى، تتعلق بشخصيته النقدية، وسلوكه للمنهج الصحيح في النقد.

وقد رأيت أن أخصص هذا الفصل لنعيش في محيط ذلك المجتمع العلمي

(1)

«الجرح والتعديل» ص 385.

(2)

ينظر: «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 229 - 230، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 188، و «الجرح والتعديل» 1: 336 - 337، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 43 - 45.

ص: 126

الرفيع، ونقترب من النظر إلى تلك المجالس الحافلة بالنشاط للوصول إلى الحقيقة، والبحث عنها، ونقترب كذلك من التمعن في شخصية الناقد، وكيف تأهل للنقد، والوسائل التي كانت متوافرة لهم في ذلك الوقت للوقوف على الخطأ، أو التحقق من وقوعه.

وأختم الفصل بالحديث عن الأغراض التي آمل أن تتحقق للباحث بعد قراءته لمباحثه.

ص: 127

‌المبحث الأول

التثبت من الرواة

جرى في عصر الرواية الاستثبات من الرواة عن روايتهم، فيبلغ الراوي حديث عن راو آخر، فإذا لقيه سأله عنه، إما طلبا للعلو، أو للتأكد من صحة الرواية، والتأكد من سلامتها كما بلغته.

والإجابة تارة تكون بالإيجاب، وتصويب ما روي عنه، وتارة تكون بالنفي المطلق، وتارة تكون بتغيير في الرواية، إما مع النص على ما في الرواية الأولى من خطأ، أو السكوت عن ذلك، وربما صاحب تصحيح الخطأ النص على أن الوهم كان منه هو، أو تحميل الخطأ من روى عنه، أو التردد في ذلك.

فأما البقاء على الرواية الأولى فهو الغالب، وأمثلته كثيرة جدا، فمن ذلك أن عبدالله بن وهب روى عن أسامة بن زيد، عن إبراهيم بن عبدالله بن حنين، عن أبيه، عن علي مرفوعا حديث نهيه صلى الله عليه وسلم له عن لبس المعصفر، ثم قال أسامة: «فدخلت على عبدالله بن حنين -وهو يومئذ شيخ كبير، وعليه ملحفة كثيرة العصفر- فسألته عن هذا الحديث، فقال عبدالله: سمعت عليا يقول

»

(1)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن أمية بن صفوان بن عبدالله الجمحي، قال: سمعت جدي عبدالله بن صفوان يقول: سمعت حفصة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

«المعرفة والتاريخ» 3: 181، وانظر:«صحيح مسلم» حديث (480)، و «مسند أحمد» 1:132.

ص: 128

يقول: «ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه

» الحديث

(1)

، قال سفيان:«وكان عمير بن قيس يحدثه عن أمية، وكنت لا أجترئ أن أسأله عنه، كان يجالس خالد بن محمد، وعبدالله بن شيبة، وكانوا من أكبر قريش يومئذ، وكانوا يجلسون في سوق الليل، وهم يومئذ على باب المسجد، واستعانني أمية أنظر له خالد بن محمد، فما أدري وجدته أم لا؟ فلما استعانني اجترأت عليه فسألته، فحدثني به»

(2)

.

وروى سفيان أيضا عن سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبدالله بن معبد بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: «كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر

» الحديث

(3)

، قال سفيان:«أخبرنيه زياد بن سعد قبل أن أسمعه، فقلت له: أقرئ سليمان منك السلام؟ فقال: نعم، فلما قدمت المدينة أقريته منه السلام، وسألته عنه»

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2883)، و «سنن النسائي» حديث (2880)، و «سنن ابن ماجه» حديث (4063)، و «مسند أحمد» 6:286.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (286).

(3)

«صحيح مسلم» حديث (479)، و «مسند أحمد» 1:219.

(4)

«مسند الحميدي» حديث (489)، و «المعرفة والتاريخ» 2:701. وانظر أمثلة أخرى في: «صحيح مسلم» حديث (274)، (580)، و «سنن أبي داود» حديث (150)، و «مسند الحميدي» حديث (259)، (549 - 550)، (648)، (837)، (1272)، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 193 فقرة (180)، و «المحدث الفاصل» ص 214، 234، و «الجامع لأخلاق الراوي» 1: 120 - 122.

ص: 129

وأما نفي الرواية، أو تغييرها فكثير جدا كذلك، ومنه ما رواه عبدالرزاق قال:«أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا عمرى ولا رقبى، فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهي له حياته وموته» ، قال: والرقبى أن يقول: هذا للآخر مني ومنك موتا، والعمرى أن يجعله حياته، بأن يعمر حياته.

قلت لحبيب: فإن عطاء أخبرني عنك في الرقبى، قال: لم أسمع من ابن عمر في الرقبى شيئا، ولم أسمع منه إلا هذا الحديث في العمرى، ولم أخبر عطاء في العمرى شيئا

»

(1)

.

وروى عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عمرو بن دينار حديث عبدالملك بن مروان في الوصية، ثم قال حماد:«فسألت عنه عمرو بن دينار، فقلب معناه غير ما قال قتادة، فقلت له: إن قتادة حدثنا عنك بكذا وكذا، قال: إني أوهمت يوم حدثت به قتادة»

(2)

.

وروى أحمد، عن محمد بن جعفر غندر، قال:«حدثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس، أنه قال فيمن غشي قبل أن يطوف بالبيت يوم النحر: «عليه بدنة» ، قال: فحدثت به أيوب، فقال لعمرو بن دينار: عمن هو؟ فقال عمرو: سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس، فقال له

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (16920).

(2)

«الجعديات» رقم (1032) ، و «المحدث الفاصل» ص 389.

ص: 130

أيوب: عن ابن عباس؟ قال عمرو: سمعت طاوسا -وترك ابن عباس-»

(1)

.

وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، قصة تيممهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المناكب والآباط، ومنهم من يقول عن الزهري، عن عبيدالله، عن ابن عباس، عن عمار، ومنهم من لم يذكر بينهما أحدا

(2)

.

وروى الزهري أيضا عن عبيدالله، عن عمر بن الخطاب «أنه أمر بالوضوء من مس الإبط» .

قال الحميدي بعد أن روى حديث التيمم عن سفيان بن عيينة، عن الزهري:«حضرت سفيان (يعني ابن عيينة) وسأله يحيى بن سعيد القطان، فحدثه، وقال فيه: حدثنا الزهري، ثم قال: حضرت إسماعيل بن أمية أتى الزهري، فقال: يا أبا بكر، إن الناس ينكرون عليك حديثين تحدث بهما، فقال: ما هما؟ قال: «تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المناكب» ، فقال الزهري: أخبرني عبيدالله بن عبدالله، عن أبيه، عن عمار، قال: وحديث عمر: «أنه أمر بالوضوء من مس الإبط» ، فرأيت الزهري كأنه أنكره، وقد كان عمرو بن دينار حدثناه عن الزهري قبل ذلك، فذكرته لعمرو، فقال: بلى، قد حدثنا به»

(3)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 181.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (318 - 320)، و «سنن النسائي» حديث (313 - 314)، و «سنن ابن ماجه» حديث (565 - 566)، (571)، و «مسند أحمد» 4: 263، 320، 321، و «مسند الحميدي» حديث (143)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 32، و «سنن البيهقي» 1:208.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (143)، و «المعرفة والتاريخ» 2: 729، و «المحدث الفاصل» ص 563، و «سنن البيهقي» 1:208.

ص: 131

ولهذين الحديثين قصة أخرى مع سفيان بن عيينة، ذلك أن حديث التيمم رواه بعض أصحاب سفيان عنه، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، وهكذا رواه ابن ماجه، عن محمد بن أبي عمر العدني، عن سفيان.

قال الحميدي بعد أن حكى قصة سؤال الزهري عن الحديثين: «ثم سمعت بعد ذلك بعض أصحابنا يقول: إنه دخل على سفيان في شفاعة، فسأله عن حديث التيمم، فحدثه به عن عمرو، فقلت للذي حدثني: ما أراه ذهب إلا إلى مس الإبط، وأخبرته بعض هذه القصة، أو بنحو منها، ثم لم يزل في نفسي حتى سألت سفيان عنه، فقال: هو عن الزهري، ليس عن عمرو (يعني أنه يروي حديث التيمم عن الزهري دون واسطة)، ولكن الذي حدثنا عمرو حديث الإبط، وأخبرته عن الرجل الذي حكى عنه، فقال سفيان: إما لم يحفظ علي، وإما أكون أنا وهمت»

(1)

.

وسئل الزهري عما حُدِّث به عنه، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين، فأهدي لنا طعام، فأفطرنا

» الحديث، فنفى أن يكون سمعه من عروة، وذكر أنه سمعه من رجل يحدث به على باب أحد خلفاء بني أمية، وقصة ذلك مشهورة جدا

(2)

.

وبلغ سفيان بن عيينة أن الزهري يروي حديثا لأبي هريرة بلفظ: «بئس

(1)

«المعرفة والتاريخ» 2: 729.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 250 - 251، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 3: 260، و «معرفة الرجال» 2: 182 - 183، و «المعرفة والتاريخ» 2: 740 - 741.

ص: 132

الطعام طعام الأغنياء»، فأفزعه ذلك، قال سفيان:«قلت للزهري: يا أبا بكر كيف هذا الحديث: «شر الطعام طعام الأغنياء» ، فضحك فقال: ليس هو «شر الطعام طعام الأغنياء» ، قال سفيان: وكان أبي غنيا فأفزعني هذا الحديث حين سمعت به، فسألت عنه الزهري، فقال: حدثني عبدالرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة يقول: «شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين

»، »

(1)

.

وروى علي بن المديني، عن يحيى القطان قال:«كان معي أطراف عوف: عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاس، ومحمد، عن أبي هريرة: «أن موسى عليه السلام كان رجلا حييا، فقال بنو إسرائيل: هو آدر» ، قال: فسألت عوفا، فترك محمدا، وقال: خلاس، مرسل»

(2)

.

وقال ابن المديني أيضا: «قال يحيى بن سعيد القطان: روى شعبة، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في العطاس، ثم لقيت ابن أبي ليلى، فحدثنا عن أخيه عيسى، عن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1432)، و «المعرفة والتاريخ» 2:737.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 236. وقد رواه روح بن عبادة، عن عوف بذكر خلاس، ومحمد بن سيرين، ورواه مرة أخرى بالاقتصار على محمد بن سيرين، وثالثة بالاقتصار على خلاس، وكذلك رواه النضر بن شميل، عن عوف بالاقتصار على خلاس، وهو خلاس بن عمرو، ولم يسمع من أبي هريرة، ينظر: «صحيح البخاري» حديث (3404)، (4799)، و «سنن الترمذي» حديث (3221)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (11424 - 11425)، و «مسند أحمد» 2: 514، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (118)، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 1: 432، و «شرح مشكل الآثار» حديث (67).

ص: 133

عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وروى أحمد، عن يحيى القطان أنه قال بعد أن حدثه به ابن أبي ليلى، عن علي:«فقلت له: عن أبي أيوب؟ قال: علي»

(2)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن بعض أهله، عن جده:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة» ، ثم قال سفيان:«كان ابن جريج أخبرنا عنه، قال: أخبرنا كثير، عن أبيه، قال: فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن بعض أهلي عن جدي»

(3)

.

وروى علي بن المديني، عن عبدالرحمن بن مهدي قال: «كان السمان

-يعني أزهر- يحدثني عن سفيان، عن عيسى بن عيسى الحناط، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبدالله، في القطع، فسألت سفيان عنه، فقال: عيسى بن أبي عزة،

(1)

«سنن الترمذي» 5: 745.

(2)

«مسند أحمد» 1: 122. وحديث أبي أيوب رواه أيضا عن ابن أبي ليلى غير شعبة، ينظر في طرقه: «سنن الترمذي» حديث (2741)، و «عمل اليوم والليلة» للنسائي حديث (213)، و «مسند أحمد» 5: 419، 422، و «مسند الشاشي» حديث (1106)، و «شعب الإيمان» حديث (8895).

وحديث علي رواه أيضا عن ابن أبي ليلى جماعة غير القطان، ينظر:«سنن الترمذي» حديث (2741)، و «عمل اليوم والليلة» حديث (212)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3715)، و «مسند أحمد» 1: 120، 122، و «مسند أبي يعلى» حديث (306).

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2016)، و «مسند أحمد» 6: 399، و «مسائل أبي داود» ص 384، و «مسند الحميدي» حديث (578).

ص: 134

عن الشعبي، عن عبدالله».

قال ابن أبي حاتم بعد أن ساق هذا: «يعني أن الصحيح هو: عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن عبدالله، مرسل، وأن الذي رواه أزهر السمان غلط»

(1)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبدالله بن عمرو قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح

»

(2)

.

قال الحميدي: «فقيل لسفيان: هذا مما حفظت من الزهري؟ فقال: نعم، كأنه يسمعه، إلا أنه طويل فحفظت هذا منه، فقال له بليل: فإن عبدالرحمن بن مهدي يحدث عنك أنك قلت: لم أحفظه، فقال: صدق، لم أحفظه كله، وأما هذا فقد أتقنته»

(3)

.

وقال عبدالله بن أحمد: «قلت له (يعني لأبيه): سمعت منه (يعني عمرو بن عاصم) عن حرب بن سريج، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة؟ قال: ما سمعت هذا منه، لا ببغداد، ولا بالبصرة، وما سمعت هذا قط، قلت: إن رجلا يزعم أنك قلت له: إنما حفظته عنه ولم أكتبه، فقال: ما سمعته منه، فكيف أحدث به؟ لعل هذا الرجل سمعه من غيري، ما سمعته فأحفظه وأكتبه عنه وأحدث به، لعل هذا الرجل سمعه من غيري،

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 259.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1306)، و «سنن الترمذي» حديث (916)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4106)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3051)، و «مسند أحمد» 2:160.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (580).

ص: 135

وما سمعت أنا هذا الحديث من أحد، ولا من عمرو بن عاصم»

(1)

.

وربما كان السائل للراوي والمستفهم منه هو السامع للرواية الأولى، كأن يسأل عنه شيخه بعد فترة لمزيد التثبت، أو يرى اختلافا بين الروايتين، فيستوقفه ذلك، ويستفهم من شيخه.

روى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة حديث: «لا عدوى ولا طيرة

»، وحديث:«لا يورد ممرض على مصح» ، ثم قال:«كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: «لا عدوى» ، وأقام على أن «لا يورد ممرض على مصح» ، فقال الحارث بن أبي ذباب -وهو ابن عم أبي هريرة-: قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر، قد سكتَّ عنه، كنت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك، وقال:«لا يورد ممرض على مصح» ، فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة، فرطن بالحبشية، فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا، قال أبو هريرة: قلت: أبيت».

قال أبو سلمة: «ولعمري، لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى» ، فلا أدري أنسي أبو هريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر»

(2)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 27.

وانظر أمثلة أخرى في: «صحيح مسلم» حديث (710)، و «مسند الحميدي» حديث (17)، (342)، (507)، (781)، (843)، و «مسائل حرب» ص 454، و «المعرفة والتاريخ» 2: 726، 730.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2221)، وانظر:«صحيح البخاري» حديث (5770 - 5771)، و «سنن أبي داود» حديث (3911)، و «العلل ومعرفة الرجال» 3:200.

ص: 136

وروى عروة بن الزبير، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد

» الحديث، قال عروة في رواية عنه:«فحدثت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن عبدالله بن عمرو حج بعد، فقالت: يا ابن أختي انطلق إلى عبدالله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه، فجئته فسألته، فحدثني به كنحو ما حدثني، فأتيت عائشة فأخبرتها، فعجبت فقالت: والله لقد حفظ عبدالله بن عمرو»

(1)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد قال: شهدت إبراهيم بن سعد، وذكر عن الزهري: «{الْمَاعُونَ}: المال، بلسان قريش» ، قيل له: إنك حدثتنا عن الزهري، عن سعيد، قال: لا، وأنكره، إنما هو عن الزهري، قال أحمد: رواه عنه غير واحد عن سعيد، قال أحمد: ربما حدث بالشيء من حفظه»

(2)

.

وروى عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم النبيل، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم» ، ثم قال عمرو بن علي: «قلت لأبي عاصم: أنت أمليت علينا هذا من الرقعة ليس فيه

(1)

«صحيح البخاري» حديث (100)، (7307)، و «صحيح مسلم» حديث (2673)، و «سنن الترمذي» حديث (2652)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5907 - 5908)، و «مسند أحمد» 2: 162، 190، 203، و «مسند الحميدي» حديث (581).

(2)

«مسائل أبي داود» ص 405، وانظر:«مسائل صالح» ص 207، و «المنتخب من العلل للخلال» ص 197.

ص: 137

عائشة، فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه»

(1)

.

و‌

‌تراجع الراوي عن روايته الأولى، أو توقفه، قد يعقبه تراجع عنه أيضا

، روى ابن محرز قال:«سمعت يحيى بن معين يقول لأبي خيثمة وغيره: تحفظون هذا: عن نصير بن أبي الأشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تداووا من العذرة بالقسط والورس» ؟ ، فقيل ليحيى بن معين: من حدث بهذا؟ فقال: أبو نعيم.

ثم إن بعض أصحابنا أفاده رجل بعد نحو من سنتين، فذهب المفاد به إلى يحيى بن معين مع أحاديث، فأنكره يحيى، وقال: ما أعرف هذا؟ فرجع الرجل إلى صاحبه وقد غلظ عليه الأمر، فادعى المفيد شهادتي، وذكر حضوري وغيري ذلك المجلس، ثم قال ليحيى بن معين: يا أبا زكريا سمعتك تذكره عن أبي نعيم، فقال: شبه لك، ما سمعت بهذا إلا منك.

ثم قال لنا يوم الثلاثاء بعد المغرب لست بقين من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومئتين: ذاك الحديث حدثنا أبو نعيم، فقلت له: يا أبا زكريا كان من قصته كيت وكيت، فسمعته من أبي نعيم؟ فقال: نعم، سمعناه من أبي نعيم»

(2)

.

ولهذا السبب جاء عن بعض الأئمة نهيهم عن التحديث عن الأحياء، خشية أن يسأل الراوي، ويكون قد نسي، فينفي الرواية، أو ينفي صفتها، فينسب إليه هو الوهم، أو يكون عرضة للتكذيب.

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (5409)، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:12.

(2)

«معرفة الرجال» 2: 64.

ص: 138

قال الرمادي: «حدثنا عبدالرزاق، قال حدثنا سفيان الثوري، عن جابر، قال: «سألت عامرا، والحكم، عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، قال: فقال عامر: ليس بشيء، وقال الحكم: يمين يكفرها.

قال عبدالرزاق: فقلت للثوري: إن معمرا أخبرنا عن ابن طاوس، عن أبيه، قال:«إذا قال الرجل: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو كافر، أو حمار، أو أخزاه الله -وأشباه هذا-، فهي يمين يكفرها» ، فأخذ بتلابيبي، فقام إلى معمر، فسأله عنه، فحدثه به.

قال عبدالرزاق: فلما مضى إلى معمر قلت: لا أدري لعل معمرا قد نسي هذا الحديث، فأكون افتضحت على يدي الثوري، قال: فجاء حتى وقف عليه، فقال: يا أبا عروة أخبرك ابن طاوس، عن أبيه قال: «إذا قال الرجل: هو يهودي، أو نصراني

» فذكر الحديث؟ قال: فقال له معمر: نعم، وحدثه به.

فشكوت إلى معمر ما دخلني، فقال لي معمر: إن قدرت أن لا تحدث عن رجل حي فافعل»

(1)

.

وقال ابن عبدالحكم: «ذاكرت الشافعي يوما بحديث وأنا غلام، فقال: من حدثك به؟ قلت: أنت، فقال: ما حدثتك به من شيء فهو كما حدثتك، وإياك والرواية عن الأحياء»

(2)

.

(1)

«الكفاية» ص 140، وأثر طاوس أخرجه عبدالرزاق حديث (15975).

(2)

«الكفاية» ص 140.

ص: 139

ومن جانب آخر كانوا يوصون من سئل عن شيء نسب إليه أن لا يبادر إلى نفيه، إن لم يتذكره في الحال، خشية أن يكون عنده فينفيه، ثم يقف عليه بعد ذلك في كتبه، أو يتذكره، فيصعب عليه أن يقر به بعد أن نفاه.

قال أبو موسى محمد بن المثنى العنزي: «قال لي عبدالله بن داود: لا تقل لشيء تسأله: إني لم أسمعه، فإني ابتليت به، سألني رجل مرة قال: سمعت من فلان؟ قلت: لا، وذكر أحاديث فقال: سمعت هذه منه؟ قلت: لا، فبينا أنا أقلب كتبي ذات يوم إذ ذكرت ما قال لي، فجعلت أتمنى أن لا أراه عندي، فإذا الشيخ عندي، ووجدت تلك الأحاديث عندي، فقلت: يا أبا عبدالرحمن تحدث عنه؟ فقال: لو حدثت عنه ما كان علي شيء فيما بيني وبين الله تعالى، لأن كتبنا أحفظ منا، وما أحب أن أحدث عنه بشيء»

(1)

.

وقال عبدالرزاق: «قال لي وكيع: أنت رجل عندك حديث، وحفظك ليس بذاك، فإذا سئلت عن حديث فلا تقل: ليس هو عندي، ولكن قل: لا أحفظه»

(2)

.

وذكر أبو زرعة ما يعرض للراوي من النسيان، خاصة في التحديث من الحفظ، معتذرا بذلك عن أخطاء وقع فيها أبو بكر بن أبي شيبة، وصححها له: «يكون مثل هذا كثير، هذا علي بن المديني ذاكر بباب لعبدالرحمن بن مهدي في التسليم واحدة -وعبدالرحمن كان له في هذا باب- فقال علي: هذا كله كذب،

(1)

«الكفاية» ص 231.

(2)

«الكفاية» ص 232.

ص: 140

فلما كان بعد أيام روى الباب عن عبدالرحمن»

(1)

.

وبعض الرواة إذا سئل عن مثل هذا فلم يتذكره صار يرويه عمن كان حدثه أولا، عن نفسه هو، فيقول: حدثني فلان أنني حدثته بكذا، أو يقول: عن فلان قال: حدثتني أنت عن فلان، ولكل من الدارقطني، والخطيب البغدادي، والسيوطي كتاب في هذا الباب، جمع فيه أخبار‌

‌ من حدث ونسي

(2)

.

ويحسن هنا الإشارة إلى صلة سؤال الراوي عما نقل عنه بالجرح والتعديل، وذلك من جهة أن الاستثبات من الشيخ إن كان الجواب بالإيجاب، كان هذا في صالح الشيخ نفسه، فهو دليل على تثبته وعدم اضطرابه، وفي صالح الناقل عنه، وأنه حافظ لما ينقله، وإن كان بالنفي أو بالتغيير أثر هذا -إذا كثر- على أحدهما، بحسب القرائن، فقد يكون الشيخ نفسه يضطرب، أو يهم إذا حدث من حفظه، وقد يكون الناقل عنه غير حافظ، أو غير صادق.

وهذا مما يضاف على ما ذكرت في أول «الجرح والتعديل» في وسائل الحكم على الراوي.

وفي النصوص السابقة ما يوضح هذا، ومنه أيضا قول الزهري عن نفسه: «ما استعدت حديثا قط، ولا شككت في حديث، إلا حديثا واحدا، فسألت

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 340.

(2)

وانظر: «المحدث الفاصل» ص 514، و «الكفاية» ص 138 - 139، 379 - 384، و «تنقيح التحقيق» 3:144.

ص: 141

صاحبي فإذا هو كما حفظت»

(1)

.

وقول شعبة في استدلاله على حفظ سفيان الثوري: «ما حدثني سفيان عن إنسان بحديث، فسألته عنه، إلا كان كما حدثني به»

(2)

.

وفي رواية عنه: «ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته -يعني ذلك الشيخ- يأتي بخلاف ما حدث عنه، ما خلا سفيان الثوري، فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وإذا سألته وجدته على ما قال سفيان»

(3)

.

وهناك نوع آخر من التثبت من الرواية، وهو في الغالب يكون بديلا عن سؤال الشيخ نفسه والتثبت منه، وذلك بسبب موت الشيخ، أو بعده، فيعتاض عن هذا بذكر رواية أخرى للحديث عن شيخه، وفيها مخالفة لروايته.

وهذا النوع كثير جدا في عصر الرواية، يحدث الراوي بالحديث، فيبلغه بعض من حضره أن فلانا يخالفه في روايته، أو أن أصحاب الشيخ خالفوه في روايته، إما في متن الحديث، أو في إسناده، ثم يتصرف من بلغته المخالفة بحسب وثوقه بحفظه هو وكيفية سماعه، وبحسب قوة المخالف له، وما يحتف بذلك من قرائن.

وكثير من الرواة يحدث من حفظه، فإذا بلغه قول المخالف رجع إلى كتابه ليستوثق، أو يفعل هذا المخالف، إذا ثبت الآخر على قوله، وقد يتبين أن لقول

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 186.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 156، 157، و «الجرح والتعديل» 1: 67، و «تاريخ بغداد» 9:169.

(3)

«الجرح والتعديل» 1: 67.

ص: 142

كل منهما وجها.

وقد حفلت مجالس التحديث والمذاكرة بهذا النوع من المراجعات، فأضفى ذلك على جهدهم رونقا وبهاء.

وفوق ذلك -وهو أمر بالغ الأهمية- تسليم الرواة بذلك واستسلامهم له، فاستعدوا للمخالفة، وصارت هاجسهم في كل حين، وصدر عنهم كلمات كثيرة تنبئ عن هذه الحال، مثل قول شعبة:«إذا خالفني سفيان في الحديث فالحديث حديثه»

(1)

.

وقال حماد بن زيد: «ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة، يعاود صاحبه مرارا، ونحن كنا إذا سمعناه مرة اجتزينا به»

(2)

.

وقال أحمد: «كان حماد بن زيد لا يعبأ إذا خالفه الثقفي، ووهيب، وكان يهاب -أو يتهيب- إسماعيل بن علية إذا خالفه»

(3)

.

وقال يحيى بن سعيد القطان: «ما بالبصرة، ولا بالكوفة، ولا بالحجاز، أثبت من معاذ بن معاذ، وما أبالي إذا تابعني من خالفني»

(4)

.

وقال أيضا: «طلبت الحديث مع رجلين من العرب: خالد بن الحارث بن

(1)

«مسائل حرب» ص 466، «الجرح والتعديل» 1: 63، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:43.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 168، و «الكامل» 1: 91، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:42.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 264، و «تاريخ بغداد» 6:232.

(4)

«الجرح والتعديل» 8: 249، و «تاريخ بغداد» 13:133.

ص: 143

سليم الهجيمي، ومعاذ بن معاذ العنبري، وأنا مولى لقريش، لتيم، فوالله ما سبقاني إلى محدث قط وكتبا شيئا حتى أحضر، وما أبالي إذا تابعني معاذ، وخالد بن الحارث، من خالفني من الناس»

(1)

.

وجاء عن يحيى القطان مثل هذا في عفان بن مسلم الصفار، وأنه كان يتهيب مخالفته، قال أحمد:«كان يحيى بن سعيد يقول: إذا خولفت أحب أن يوافقني عفان»

(2)

، وقال يحيى بن سعيد أيضا:«ما أحد يخالفني في الحديث أشد علي من عفان»

(3)

.

وقال يحيى بن معين: «كان يحيى بن سعيد إذا تابعه عفان على شيء ثبت عليه وإن كان خطأ، وإذا خالفه عفان في حديث عن حماد رجع عنه يحيى، لا يحدث به أصلا»

(4)

.

ومن الأمثلة على هذه المراجعات ما روى عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قصة مبيته عند خالته ميمونة، وصلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وفي آخره:«ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره، يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن»

(5)

.

(1)

«تاريخ بغداد» 13: 132.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 344 ، 363، 3: 435، و «الكامل» 5:2021.

(3)

«تاريخ بغداد» 12: 275.

(4)

«تاريخ بغداد» 12: 275.

(5)

«صحيح مسلم» حديث (763)، و «سنن أبي داود» حديث (610)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (916)، و «مسند أحمد» 1: 249، 347، 367.

ص: 144

قال ابن جريج بعد أن رواه عن عطاء بمعناه: «فقال له عمرو بن دينار

-وكان في المجلس-: هيه! ! زد يا أبا محمد، فقال عطاء: ما هيه؟ هكذا سمعت، فقال عمرو: أخبرني كريب، عن ابن عباس أنه قال: ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه بلال فآذنه بالصلاة، فصلى ولم يتوضأ»

(1)

.

وروى شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا:«أيما رجل باع نخلا قد أبرت فثمرتها للأول، وأيما رجل باع مملوكا وله مال فماله لربه الأول، إلا أن يشترط المبتاع» ، ثم قال شعبة:«فحدثته بحديث أيوب، عن نافع، أنه حدثه بـ (النخل) عن النبي صلى الله عليه وسلم، و (المملوك) عن عمر، فقال عبد ربه: لا أعلمها جميعا إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة أخرى: عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشك-»

(2)

.

وكان شعبة يروي عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي بن أبي طالب في سهمان الخيل، قال وكيع:«كان شعبة رفعه إلى علي -يعني حديث سهمان الخيل- فقيل له: إن سفيان يوقفه على هانئ بن هانئ، فقال: سفيان أحفظ مني»

(3)

.

(1)

«مسند الحميدي» حديث (472)، و «مسند أبي عوانة» 2: 318، ورواية كريب، عن ابن عباس مشهورة جدا، انظر:«تحفة الأشراف» 5: 202، 205، 206، 209، و «إتحاف المهرة» 7: 679، 680.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (4986).

(3)

«سؤالات أبي داود» ص 308، وانظر:«الجرح والتعديل» 1: 65، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:43.

ص: 145

وقال يحيى بن معين: «قال حجاج الأعور: قيل لشعبة: إن مستلم بن سعيد خالفك في حرف «إذا وضعت لمَتَلك» ، وكان شعبة يقول:«لمثلك» -حديث أبي الدرداء: «ثم جاء ملكان أسودان أزرقان» - قال شعبة: ما كنت أظن أن ذاك يحفظ حديثين»، ثم قال يحيى:«القول قول مستلم، وصَحَّف شعبة»

(1)

.

وروى عبدالرحمن بن مهدي قال: «لما حدث سفيان، عن حماد (يعني ابن أبي سليمان)، عن عمرو بن عطية التيمي، عن سلمان قال: «إذا حككت جسدك فلا تمسحه ببزاق، فإنه ليس بطهور» ، قلت له: هذا حماد يروي عن ربعي بن حراش، عن سلمان، قال: من يقول ذا؟ قلت: حماد بن سلمة، قال: امضه، قلت: حدثنا شعبة، قال: امضه، قلت: حدثنا هشام الدستوائي، قال: هشام؟ قلت: نعم، ثم أطرق هنيهة، ثم قال: امضه، سمعت حمادا يحدث عن عمرو بن عطية، عن سلمان.

فمكثت زمانا أحمل الخطأ على سفيان، حتى نظرت في كتاب غندر، عن شعبة فإذا هو: عن حماد، عن ربعي بن حراش، عن سلمان، قال شعبة: وقد قال حماد مرة: عن عمرو بن عطية التيمي، عن سلمان، فعلمت أن سفيان إذا حفظ الشيء لم يبال من خالفه»

(2)

.

وقال محمد بن عبدالله بن نمير: «حدثنا عبدالرحمن، ويحيى، عن سفيان،

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 559، وانظر:«معرفة الرجال» 1: 144.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 64، و «المجروحين» 1: 50، و «المحدث الفاصل» ص 394، و «تاريخ بغداد» 9:168.

ص: 146

عن منصور، عن مجاهد، وابن الأصبهاني، عن عكرمة:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} : «نفخ فيه الروح» ، قلت ليحيى بن سعيد: وكيع يقول: عن ليث، فقال: سبحان الله! أنا أقول لسفيان: لا تحدثني عن جابر، وأنت تقول: عن ليث»، ثم قال محمد:«ذكرت لوكيع، قال وكيع: منصور كان أحب إلينا»

(1)

.

ومراد يحيى القطان أنه يأبى على سفيان أن يحدثه عن جابر الجعفي، فكيف يقبل منه أن يحدثه عن ليث بن أبي سليم؟ ويستدل يحيى بهذا على أنه قد حفظ الإسناد، وأنه عن منصور، عن مجاهد.

ومراد وكيع أن ليثا ضعيف بالنسبة لمنصور، فكون سفيان يحدثهم بالحديث عن منصور، عن مجاهد، أحب إليهم، ويستدل بهذا على أنه قد حفظ الإسناد، وأنه عن ليث، عن مجاهد.

وقال أحمد: «قال عبدالرحمن بن مهدي في حديث إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك: «أن عمر بعث جيشا فوعظهم

»، قال عبدالرحمن:«أسرف عليهم» ، يقول: كأنه تهددهم في موعظته، فقلت لعبدالرحمن: إن أبا كامل قال: «أشرف» ، فقال لي عبدالرحمن: سل بهزا، فسألته، فقال بهز:«أشرف عليهم» ، فأخبرت به عبدالرحمن -يعني كأنه قنع بقول بهز-

»

(2)

.

وذكر أحمد مرة أخرى قصة ذهابه إلى بهز لسؤاله، فقال بعد أن ساق القصة

(1)

«المعرفة والتاريخ» 2: 717، وانظر:«تفسير ابن جرير» 18: 10.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 18، و «مسائل صالح» ص 255.

ص: 147

مطولة، وفيها الحديث بتمامه:«فأتيت بهزا لأسأله، فلم يخرج إلي، فقلت له: إنما أريد أن أسألك عن كلمة من حديث، فقال: ما هي؟ فقلت: في حديث إبراهيم بن سعد: «أشرف عليهم» أو «أسرف عليهم» ؟ فقال لي من خلف الباب: «أشرف عليهم» ، »

(1)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد -وذكر حديث ابن عباس في صلاة الكسوف- أن عبدالرحمن قال كذا وكذا ركعة فيه، وكان وكيع يخالفه، فعرض عليه -يعني على وكيع- بعد ذلك فرجع عنه، صار إلى ما قال عبدالرحمن»

(2)

.

وذكر أحمد هذه القصة مرة أخرى، وأنه ذكر لوكيع مخالفة إسماعيل بن علية، ويحيى القطان، في العدد، وأن وكيعا رجع إلى قولهما، قال أحمد:«كان وكيع يقول في حديث الكسوف، حديث سفيان، عن حبيب، عن طاوس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكسوف ست ركعات في أربع سجدات» ، قلت له: إن إسماعيل بن علية، ويحيى بن سعيد، قالا:«ثمان ركعات في أربع سجدات» ، فلما كان بعد ذلك رجع إلى ثمان»

(3)

.

(1)

«المنتخب من العلل للخلال» ص 198، وفيه قول أحمد في تفسير «أشرف عليهم» ، قال:«أشرف عليهم من مكان مرتفع» ، والحديث أخرجه أبو داود حديث (2960)، مختصرا ليس فيه موضع الشاهد.

(2)

«سؤالات أبي داود» ص 160.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 343. والحديث من رواية طاوس، عن ابن عباس، انظر: «صحيح مسلم» حديث (909)، و «سنن أبي داود» حديث (1183)، و «سنن الترمذي» حديث (560)، و «سنن النسائي» حديث (1466 - 1467)، و «مسند أحمد» 1: 225، 346، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 467.

ص: 148

وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا»

(1)

.

قال الحميدي بعد أن أن رواه عن سفيان: «فقيل لسفيان: فإن نافع بن عمر الجمحي لا يسنده، قال: لكني أحفظه وأسنده كما قلت لك، إن المكيين إنما أخذوا كتابا جاء به حميد الأعرج من الشام، قد كتب عن الزهري، فوقع إلى ابن جرجة، وكان المكيون يعرضون ذلك الكتاب على ابن شهاب، فأما نحن فإنما كنا نسمع من فيه»

(2)

.

وروى جماعة عن عاصم بن كليب، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي سل الله الهدى والسداد

» الحديث، وفيه أشياء تتعلق باللباس، ومنهم من اقتصر على بعضه

(3)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (394)، و «صحيح مسلم» حديث (264)، و «سنن أبي داود» حديث (9)، و «سنن الترمذي» حديث (8)، و «سنن النسائي» حديث (21)، و «مسند أحمد» 5:421.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (378)، و «المعرفة والتاريخ» 2: 734، و «تاريخ ابن أبي خيثمة» حديث (966)، و «الإرشاد» حديث (82).

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2078 بعد حديث 2095)، و «سنن أبي داود» حديث (4225)، و «سنن الترمذي» حديث (1786)، و «سنن النسائي» حديث (5226 - 5227)، (5301 - 5302)، (5391)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3648)، و «مسند أحمد» 1: 124، 134.

ص: 149

قال الحميدي: «كان سفيان (يعني ابن عيينة) يحدث به عن عاصم بن كليب، عن أبي بكر بن أبي موسى، فقيل له: إنما يحدثونه عن أبي بردة بن أبي موسى، فقال: أما الذي حفظت أنا فعن أبي بكر، فإن خالفوني فيه فاجعلوه عن ابن أبي موسى، فكان سفيان بعد ذلك ربما قال: عن ابن أبي موسى، وربما نسي فحدث به على ما سمع: عن أبي بكر»

(1)

.

وروى أبو خيثمة زهير بن حرب، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة في امرأة محرمة مشطت امرأة حلالا، قال:«لا بأس به، إنما تقتل قمل غيرها» ، قيل لسفيان: إن محمد بن مسلم قد خالفك فقال: عكرمة، عن ابن عباس، فقال سفيان:«سمعته منه ثمانين مرة»

(2)

.

وقال عبدالله بن أحمد: «قرأت على أبي: غندر، عن سعيد، عن أبي معشر،

(1)

«مسند الحميدي» حديث (52)، و «تاريخ ابن أبي خيثمة» حديث (997)، وانظر:«صحيح مسلم» حديث (2078 بعد حديث 2095)، و «سنن النسائي» حديث (5225)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9536)، و «علل الدارقطني» 4: 169، و «الكفاية» ص 224، و «تحفة الأشراف» 7:459.

(2)

«معرفة الرجال» 2: 176، وانظر أمثلة أخرى لسفيان بن عيينة في:«صحيح البخاري» حديث (5383)، و «مسند الحميدي» حديث (8)، (83)، (226 - 227)، (250)، (281)، (293)، (306)، (312)، (315)، (338)، (341)، (380)، (587)، (619)، (621)، (934)، (1076)، و «مسائل حرب» ص 474، و «المعرفة والتاريخ» 2: 720 - 745.

ص: 150

عن النخعي: «أنه كان يكره ذلك، ويقول: إذا علم أنه لا يجد ماء فلا يمسها

-يعني امرأته-».

سمعت أبي يقول: حدثنا هذا الحديث يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، فقال أبو أحمد البصري الذي يقال له: الأبوابي: إن يزيد بن زريع حدثنا به لم يقل: عن ابن مسعود، فترك يزيد ابن مسعود.

قال أبي: وقد حدثنا غير واحد -منهم يحيى بن سعيد، وعبدالأعلى، وغندر- لم يذكر واحد منهم ابن مسعود، وقال الخفاف: قال سعيد: ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى ابن مسعود»

(1)

.

وقال عبدالله بن أحمد: «سألت يحيى (يعني ابن معين) عن محمد بن مصعب القرقساني، فقال لي: ليس بشيء، وقال: كان لي رفيقا، وكان صاحب غزو كثير، فحدثنا يوما عن أبي الأشهب، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين: «أنه كره بيع السلاح في الفتنة» ، قال يحيى: قلت أنا لمحمد بن مصعب: هذا يروونه عن أبي رجاء قوله، فقال: هكذا سمعته، ثم قال يحيى: لم يكن من أصحاب الحديث»

(2)

.

وفي أحيان كثيرة يكون المبلغ للراوي هو المخالف له، أو من المخالفين له، وربما جرى حوار ومناقشة بينهما.

حدث أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث (القضاء بين العباد) الطويل، وفي

ص: 151

آخره قصة آخر أهل الجنة دخولا، وقول الله عز وجل له:«هذا لك ومثله معه» ، وكان أبو سعيد الخدري جالسا مع أبي هريرة يستمع إليه، ولا يغير عليه شيئا، حتى انتهى أبو هريرة إلى هذه الجملة، فقال أبو سعيد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هذا لك وعشرة أمثاله» ، قال أبو هريرة: حفظت: «مثله معه»

(1)

.

وروى عمرو بن دينار، وابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها»

(2)

.

قال سفيان بن عيينة بعد أن رواه عن عمرو: «فقال له عمرو بن قيس: يا أبا محمد إنما حدثناه عطاء، عن جابر، فقال عمرو: والله لقد سمعته من عطاء يحدثه عن ابن عباس قبل أن يقدم علينا جابر مكة

»

(3)

.

وقال أحمد: «زعموا أن زهيرا، وزائدة، واختلفا في حرف في حديث ابن مسعود: «لينهكن قوم أصابعهم أو لتنهكنها النار» ، فجعل الآخر يحلف أنه ما قال «أو» ، »

(4)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (806)، (6573 - 6574)، (7437 - 7438)، و «صحيح مسلم» حديث (182)، و «مسند أحمد» 2: 275، 293، 450، 534.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5456)، و «صحيح مسلم» حديث (2031)، و «سنن أبي داود» حديث (3847)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (6775 - 6776)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3269)، و «مسند أحمد» 1: 221، 293، 346، 370.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (490).

(4)

«سؤالات أبي داود» ص 317، وانظر:«المعجم الكبير» حديث (9211 - 9213).

ص: 152

وروى جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس قال:«كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة» ، وقد روي هذا أيضا عن همام بن يحيى، عن قتادة

(1)

.

ورواه شعبة، وهشام الدستوائي، وغيرهما، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن البصري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا

(2)

.

قال أحمد: «قال عفان: جاء أبو جزي -واسمه نصر بن طريف- إلى جرير بن حازم يشفع لإنسان يحدثه، فقال جرير: حدثنا قتادة، عن أنس قال: «كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة» ، قال: فقال أبو جزي: كذب -والله- ما حدثناه قتادة إلا عن سعيد بن أبي الحسن»، قال أحمد: «وهو قول أبي جزي

-يعني أصاب-، وأخطأ جرير»

(3)

.

وربما وقعت المخالفة لشيخ الراوي، فيدع الراوي رواية شيخه إلى رواية من يخالفه، فقد روى جماعة عن الحكم بن عتيبة، عن ميمون بن مهران، عن

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2583)، و «سنن الترمذي» حديث (1691)، و «سنن النسائي» حديث (5389).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (2584)، و «سنن النسائي» حديث (5390)، و «الضعفاء الكبير» 1:199.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 239، 543، و «كنى الدولابي» 1: 140، و «الضعفاء الكبير» 1:199. وقد صوب المرسل أيضا جمع من النقاد، حتى قال الدارمي عن المرسل: «وزعم الناس أنه هو المحفوظ»، انظر: «سنن أبي داود» حديث (2585)، و «سنن الدارمي» حديث (2501)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 313، و «علل الدارقطني» 13: 150، و «سنن البيهقي» 4: 143، و «تحفة الأشراف» 1: 301.

ص: 153

ابن عباس، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع

» الحديث

(1)

.

ورواه بعض أصحاب شعبة عنه موقوفا، ثم يقول شعبة:«رفعه الحكم، وأنا أكره أن أحدث برفعه، حدثني غيلان، والحجاج، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، لم يرفعه»

(2)

.

ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن معرفة الراوي بمخالفة غيره له ليس بالأمر اليسير عليه، فالراوي حين يبلغه ذلك يكون قد وضع في موقف دقيق عليه أن يتجاوزه بإتقان، وإلا زَلَّت به قدمه.

وبيان ذلك من ثلاث جهات،‌

‌ الأولى: أن الراوي قد يتراجع عن روايته إلى رواية مخالفه

، مع أن الصواب كان معه، فيضطر مرة أخرى إلى الرجوع إلى روايته الأولى.

ومن أمثلة ذلك أن سفيان الثوري، وزائدة بن قدامة، وشريك، وغيرهم، رووا عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي حديث صفة الوضوء

(3)

.

ورواه شعبة فسمى خالد بن علقمة: مالك بن عرفطة، وقد خطأه النقاد في ذلك

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1934)، و «مسند أبي عوانة» 5: 18، 19.

(2)

«مسند أحمد» 1: 289، و «مسند أبي عوانة» 5:19.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (112)، و «سنن الترمذي» حديث (49)، و «سنن النسائي» حديث (91)، و «مسند أحمد» 1: 115، 123، 125، 135، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 56، و «سنن الدارقطني» 1: 89، و «علل الدارقطني» 4:46.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (113)، و «سنن الترمذي» حديث (49)، و «سنن النسائي» حديث (93)، و «مسند أحمد» 1: 122، 139، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 515، و «التاريخ الكبير» 3: 163، و «مسند البزار» حديث (793)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 56، و «سنن الدارقطني» 1: 63، و «علل الدارقطني» 4: 49، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 2: 79، و «تهذيب التهذيب» 3:108.

ص: 154

وكان أبو عوانة الوضاح بن عبدالله يرويه أولا كرواية الجماعة، ثم تابع شعبة على قوله، ثم قيل له: إن شعبة يخطئ فيه، فرجع إلى الصواب، قال أبو داود:«قال أبو عوانة يوما: حدثنا مالك بن عرفطة، عن عبد خير، فقال له عمرو الأغضف: رحمك الله يا أبا عوانة، هذا خالد بن علقمة، ولكن شعبة يخطئ فيه، فقال أبو عوانة: هو في كتابي: خالد بن علقمة، ولكن قال لي شعبة: هو مالك بن عرفطة» .

ثم قال أبو داود: «حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مالك بن عرفطة، وسماعه قديم، حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، وسماعه متأخر، كان بعد ذلك (يعني أبا عوانة) رجع إلى الصواب»

(1)

.

ونحو هذا لابن المديني، وأبي حاتم

(2)

.

وروى نوح بن حبيب قال: «حضرنا عبدالرحمن بن مهدي فحدثنا عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، في قوله عز وجل:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، فقال رجل: يا أبا سعيد حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان،

(1)

«تحفة الأشراف» 7: 417، وانظر:«موضح أوهام الجمع والتفريق» 2: 78.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 29، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 2:79.

ورواية أبي عوانة كرواية الجماعة أخرجها أبو داود حديث (111)، والنسائي حديث (92)، وأحمد 1: 154، وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند 1: 141، وكرواية شعبة أخرجها الخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» 2:78.

ص: 155

عن أبيه، عن أبي الضحى، قال: فسكت عبدالرحمن، وقال له آخر: يا أبا سعيد حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، قال: فسكت، وقال: حافظان! ! ، ثم قال: دعوه.

ثم أتوا به يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبدالرحمن بن مهدي حدث بهذا الحديث عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، فأخبر أنك تخالفه، ويخالفه وكيع، فأمسك عنه، وقال: حافظان، فدخل يحيى بن سعيد ففتش كتبه فخرج وقال: هو كما قال عبدالرحمن: عن سفيان، عن منصور، فأخبر وكيع بقصة عبدالرحمن والحديث، وقوله: حافظان، فقال وكيع: عافى الله أبا سعيد، لا ينبغي أن يقبل الكذب علينا، ثم نظر وكيع فقال: هو كما قال عبدالرحمن، اجعلوه عن منصور»

(1)

.

وقال أبو زرعة: «كنا عند أبي بكر بن أبي شيبة، ومعنا كيلجة، فقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن عيينة، عن عبدالله بن أبي بكر، عن أنس، أنه قال: «يتبع الميت ثلاث

»، فقال كيلجة: هو عن عبيدالله بن أبي بكر، فقال: عن عبيدالله بن أبي بكر، فقلت: يا أبا بكر تركت الصواب وتلقنت الخطأ، إنما روى هو عن عبدالله بن أبي بكر، وسفيان لم يلق عبيدالله بن أبي بكر، فقال: لقنني هذا، فقلت: كلما لقنك هذا تريد أن تقبله؟ »

(2)

.

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 255، وقد أخرجه الطبري في «تفسيره» 13: 106، عن أبي كريب، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى قال:«محمد هو المنذر وهو الهاد» .

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 338، والحديث أخرجه البخاري حديث (6514)، ومسلم حديث (2960)، والترمذي حديث (2379)، من طرق عن سفيان، عن عبدالله بن أبي بكر، عن أنس مرفوعا.

ص: 156

‌الثانية: أن الراوي إذا أخطأ في حديث، ثم تبين له الصواب، عليه أن يعلن ذلك ويصححه

، وقد يشق هذا إذا كان في مجلس تحديث وتفرق الطلبة.

قال الخطيب البغدادي: «وليس يكفيه في الرجوع أن يمسك عن رواية ذلك الحديث في المستقبل حسب، بل يجب عليه أن يظهر للناس أنه كان قد أخطأ فيه، ورجع عنه»

(1)

.

وقال إسحاق بن منصور: «صرت أنا ورجل خراساني، وآخر بصري، إلى وهب بن جرير، فحدثنا بحديث وهم فيه، فإذا أنا في المنزل، إذ أتاني فقال لي

-وأصلح ذلك الحديث-: اكفني الخراساني، وأنا أكفيك البصري»

(2)

.

وقال موسى بن هارون الحمال: «سمعت أبي يقول: كان يزيد بن هارون يقول في مجلسه الأعظم غير مرة: حديث كذا وكذا أخطأت فيه»

(3)

.

وكتب عبدالرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف برستة، من بلده أصبهان، إلى أبي زرعة الرازي في الري كتابا قال فيه:«وإني رويت عندكم عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ، فوقع ذلك من نفسي، فلم أكن أنساه حتى قدمت ونظرت في الأصل، فإذا هو عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن

(1)

«الكفاية» ص 145.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 40.

(3)

«الكفاية» ص 146.

ص: 157

خف عليك فأعلم أبا حاتم -عافاه الله- ومن سألك من أصحابنا، فإنك في ذلك مأجور -إن شاء الله- والعار خير من النار»

(1)

.

‌الثالثة: الراوي إذا ظهر غلطه، وأصر على روايته ولم يرجع عنها، أثر ذلك في درجته في الرواية

، وربما وصل الأمر إلى تركه، كما توارد على تقرير هذا عدد من النقاد

(2)

، فهذا جانب مهم على الراوي أن يراعيه حين ينبه على شيء ما في روايته.

ويتجاذب هذا جانب آخر مؤثر أيضا في درجة الراوي، وهو أن عليه التريث وعدم العجلة في الرجوع عن روايته إلى ما يقال له، وإن فعل ذلك وتكرر منه وصف بأنه يقبل التلقين، كما تقدم قول يحيى بن سعيد القطان:«إذا كان الشيخ يثبت على شيء واحد -خطأ كان أو صوابا- فلا بأس به، وإذا كان الشيخ كل شيء يقال له يقول، فليس بشيء» .

وقوله: «إذا كان الشيخ إذا لقنته قبل فذاك بلاء، وإذا ثبت على شيء واحد

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 336، والحديث رواه أيضا أحمد 3: 59، عن عبدالرحمن بن مهدي فجعله عن أبي سعيد كذلك، وهذا هو المشهور عن سفيان الثوري، ثم عن الأعمش، ولكن قد روي عن الثوري، وعن الأعمش، من حديث أبي هريرة، وكأن المحفوظ حديث أبي سعيد، انظر:«صحيح البخاري» حديث (538)، (3259)، و «سنن ابن ماجه» حديث (679)، و «مسند أحمد» 3: 52، 53، 59، و «شرح معاني الآثار» 1: 186، و «سنن البيهقي» 1: 437، و «فتح الباري» 2:19.

(2)

انظر: ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 79، 271، ويضاف من مراجع المسألة:«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 38 - 45.

ص: 158

فذاك ليس به بأس»

(1)

.

وهذا هو الذي يفسر لنا تراجع الراوي أحيانا عن روايته إذا نبه عليها، وثباته على روايته أحيانا أخرى، وربما التزم -مع ثباته- الإشارة إلى الرواية المخالفة، وقد يصاحب ذلك تقويته لها، وترجيحه إياها على روايته.

روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعا حديث (كفارة من أتى امرأته وهي حائض)، ثم بلغ شعبة أن بعض أصحاب الحكم يرويه موقوفا، فرواه شعبة مرة وقال:«أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلان وفلان، فقالا: غير مرفوع» ، فقال له بعض جلسائه:«حدثنا بحفظك، ودع ما قال فلان وفلان» ، فقال شعبة:«والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوح، وأني حدثت بهذا وسكت عن هذا»

(2)

.

وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبدالله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث يوم جمعة، فقالت: إني صائمة

» الحديث، قال سعيد في بعض الطرق عنه: «ووافقني عليه

(1)

تقدم هذا في الكلام على تلقين الراوي في «الجرح والتعديل» ص 54.

(2)

«سنن الدارمي» حديث (1112)، وانظر:«سنن أبي داود» حديث (264)، (2168)، و «سنن النسائي» حديث (288)، (368)، و «سنن ابن ماجه» حديث (640)، و «مسند أحمد»

1: 229، 286، و «سنن الدارمي» حديث (1111)، و «المنتقى» حديث (108 - 110)، و «سنن البيهقي» 1: 314 - 315، و «الكفاية» ص 224.

ص: 159

مطر، عن سعيد بن المسيب»

(1)

.

ومراده أن مطرا الوراق رواه عن قتادة فجعله عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، كما رواه هو، يشير بذلك إلى مخالفة جماعة من أصحاب قتادة لهما في الإسناد، قال يحيى القطان: «كان ابن أبي عروبة إذا سئل عن حديث جويرية قال: يخالفوني فيه

، كأنه يتقيه»

(2)

.

وقد رواه شعبة، وهمام، وغيرها، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن جويرية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها

»، ومنهم من يقول: عن أبي أيوب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية

»

(3)

.

وروى شعبة، عن قتادة، عن داود السراج، عن أبي سعيد الخدري قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة

».

هكذا هو موقوف في أكثر الطرق إلى شعبة، ومنهم من رواه عنه مرفوعا،

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2753)، و «مسند أحمد» 2: 189، و «مصنف ابن أبي شيبة»

3: 43، و «شرح معاني الآثار» 2: 78، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2161 - 2162)، و «صحيح ابن حبان» حديث (3611).

وقد رواه كذلك معمر، عن قتادة، لكنه أرسله فلم يذكر عبدالله بن عمرو، أخرجه عبدالرزاق حديث (7804).

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 230، وانظر أيضا: 3: 91.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (1986)، و «سنن أبي داود» حديث (2422)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2754)، و «مسند أحمد» 6: 324، 430، و «شرح معاني الآثار» 2:78.

ص: 160

والراجح وقفه من طريقه، وكان يقول بعد أن يرويه موقوفا: «وقال لي هشام

-وكان أحفظ عن قتادة، وأكثر مجالسة له مني-: هو عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وروى شعبة، عن عبدالله دينار، عن ابن عمر مرفوعا في ليلة القدر:«من كان متحريها فليتحرها في ليلة سبع وعشرين» ، ثم قال:«وذكر لي رجل ثقة عن سفيان أنه كان يقول: إنما قال: «من كان متحريها فليتحرها في السبع البواقي» ، فلا أدري قال ذا ، أو ذا؟ -شعبة شك-»

(2)

.

وروى جماعة من أصحاب سفيان بن عيينة، عنه، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي بعد الجمعة أربعا» ، قال الحميدي بعد أن رواه عن سفيان:«قال سفيان: وقال غيري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا» ، وهذا أحسن، وأما الذي حفظت أنا فالأول»

(3)

.

وممن رواه عن سهيل باللفظ الثاني: سفيان الثوري، وعبدالله بن إدريس، وخالد بن عبدالله الواسطي، وجرير بن عبدالحميد، وأبو عوانة، وإسماعيل بن

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (907 - 9610)، و «الجعديات» حديث (981)، ورواية هشام الدستوائي أخرجها النسائي في «السنن الكبرى» حديث (9611)، وأحمد 3:23.

(2)

«مسند أحمد» 2: 157، و «مسائل صالح» ص 209، وذكر أحمد أن الثقة هو يحيى بن سعيد القطان، والحديث قد رواه جماعة عن عبدالله بن دينار كما رواه سفيان فهو المحفوظ، وانظر:«مسند أحمد» 2: 27، 62، 74، و «شرح معاني الآثار» 3: 84، 91، و «صحيح ابن حبان» حديث (3681)، و «سنن البيهقي» 4:311.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (976)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1873).

ص: 161

زكريا، وغيرهم

(1)

، وقد جاء عن ابن عيينة أيضا كروايتهم

(2)

، ووافق ابن عيينة على اللفظ الأول زهير بن معاوية، وعبدالعزيز الدراوردي، وكذا روي عن أبي عوانة

(3)

.

وقضية ثبات الراوي أو تراجعه عن روايته بعد أن تبلغه رواية المخالف مسألة دقيقة، تستحق من يوليها عنايته، ويجمع أمثلتها، ويجتهد في استنباط الأسباب التي تدفع بالراوي إلى الثبات، أو الرجوع، وفي «مسند الحميدي» أمثلة كثيرة مما عرض لسفيان بن عيينة، أو لمن فوقه، ونقل الفسوي عن الحميدي أشياء ليست في «المسند»

(4)

، فيمكن أيضا تخصيص هذا الإمام بهذه الدراسة

(5)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (881)، و «سنن أبي داود» حديث (1131)، و «سنن النسائي» حديث (1425)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (496)، (1743)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1132)، و «مسند أحمد» 2: 249، 499، و «مسند الطيالسي» حديث (2528)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2477)، و (2479)، (2481)، (2486)، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» 1: 311 - 318.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (523)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (5529)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1874)، و «شرح معاني الآثار» 1:336.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1131)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1873)، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» 1:313.

وانظر أمثلة أخرى بهذا المعنى في: «مسند الحميدي» حديث (243)، (270)، و «مسائل أبي داود» ص 444، و «الكفاية» ص 224 - 226.

(4)

«المعرفة والتاريخ» 2: 718 - 745.

(5)

وانظر شيئا من الضوابط في هذه المسألة في: «مسائل أبي داود» ص 429 - 430، 431، و «الجرح والتعديل» 1: 353 - 354، 356 - 357، و «سؤالات السلمي للدارقطني» ص 289 - 291، 291، 292 - 295، و «الجامع لأخلاق الرواي» 2: 38 - 45، و «الكفاية» ص 143 - 147، ص 247 - 248، و «تاريخ بغداد» 2: 7، 8: 403، 12: 210، و «هدي الساري» ص 402.

ص: 162

‌المبحث الثاني

مراجعة كتب الرواة

الناقد في عصر الرواية في مقدوره للتأكد من صواب رواية أن يراجع كتاب الراوي، وينظر فيه، وقد كان لنقد المرويات بهذه الوسيلة -بصفة عامة- حضوره المميز، إذ قام النقاد بجهد كبير جدا في هذا الجانب، يقف منه المتأمل حائرا مبهوتا، وهو جانب لم يول العناية التي يستحقها من قبل الباحثين إلى الآن، وهو جدير بالعناية والتتبع والرصد، فله أثره البالغ في نقد المرويات، وفي الكلام على الرواة أنفسهم.

وقد تقدم شيء من الحديث عنه في «الجرح والتعديل» في الوسائل التي استخدمها النقاد للحكم على الرواة

(1)

، وفي اختلاف حال الراوي بين تحديثه من حفظه وتحديثه من كتابه

(2)

، وأيضا في «الاتصال والانقطاع» في قضية صيغ الأداء، ومراجعتها

(3)

.

وأول ما يلفت الانتباه في قضية الاستفادة من مراجعة كتب الرواة في نقد

(1)

«الجرح والتعديل» ص 69 - 77.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 120 - 137.

(3)

«الاتصال والانقطاع» ص 280.

ص: 163

المرويات نفسها هو وجود الحديث في كتاب الراوي، أو عدم وجوده، فالراوي نفسه إذا حدث بحديث ولم يجده في كتابه استراب فيه، وتوقف عن روايته.

روى ابن المبارك، عن شريك، عن عطية الثقفي، عن القاسم بن عبدالرحمن: «أن عمر أتي بسارق قد سرق

» الحديث، ثم قال ابن المبارك:«نظرت في كتاب شريك في حديث عطية هذا فأنكره شريك، وأنكرته»

(1)

.

وقال عبدالرحمن بن مهدي: «ذاكرني أبو عوانة بحديث، فقلت: ليس هذا من حديثك، فقال: لا تقل يا أبا سعيد، هو عندي مكتوب، قلت: فهاته، قال: يا سلامة هات الدرج، ففتش فلم يجد شيئا، فقال: من أين أتيت يا أبا سعيد؟ فقلت: هذا ذوكرت به وأنت شاب فعلق بقلبك، فظننت أنك قد سمعته»

(2)

.

وقال أحمد: «حدثنا عبدالرزاق، قال: كنت حدثت به، ثم لم أجده عندي، فارتبت به، قول -يعني طاوس-: «الفريضة ثلث العلم» ، »

(3)

.

وروى البخاري عن محمد بن بشار، عن سهل بن حماد، عن شعبة، عن قطن، عن أبي يزيد المدني، بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من لم يرحم صغيرنا فليس منا» ، ثم قال البخاري: «وعن أبي داود (يعني الطيالسي) عن شعبة، عن سعيد بن قطن، سمع أبا زيد الأنصاري بهذا، فنظر أبو داود في كتابه فلم يجده، والأول

(1)

«الضعفاء الكبير» 2: 195.

(2)

«المجروحين» 1: 54.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 174.

ص: 164

-مع إرساله- أثبت»

(1)

.

وكذا يفعل النقاد، إذا لم يجدوا الحديث في كتاب الراوي استرابوا فيه، وربما حملوه هو عهدة الخطأ، حيث حدث به من حفظه فأخطأ فيه، وربما جعلوا ذلك من الراوي عنه، وقد تكون المراجعة لكتاب أحد تلامذة الراوي المعروفين بضبط حديث ذلك الشيخ، فإذا لم يجدوا الحديث فيه عن شيخه أعلوه بذلك.

قال أحمد في حديث وكيع، عن شعبة، عن عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في (الشفعة):«ليس هو في كتاب غندر (يعني عن شعبة)، »

(2)

.

وروى جماعة عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن أبي حاجب سوادة بن عاصم، عن الحكم بن عمرو الغفاري:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة»

(3)

.

قال أحمد في نقده: «يضطربون فيه عن شعبة، وليس هو في كتاب غندر

»

(4)

.

(1)

«التاريخ الصغير» 2: 68، و «التاريخ الكبير» 7:190.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 333.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (82)، و «سنن الترمذي» حديث (64)، و «سنن النسائي» حديث (342)، و «سنن ابن ماجه» حديث (373)، و «مسند أحمد» 4: 213 - 214، 5: 66، و «شرح معاني الآثار» 1:24.

(4)

«تنقيح التحقيق» 1: 215، ومراد أحمد اضطرابهم في متن الحديث، انظر:«التحقيق في أحاديث التعليق» لابن الجوزي حديث (23) بتحقيقي.

ص: 165

وقال عبدالله بن أحمد: «حدثني مجاهد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا مسعر، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: «أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواكي: فقال: اللهم اسقنا غيثا مغيثا

»، فحدثت بهذا الحديث أبي، فقال أبي: أعطانا محمد بن عبيد كتابه عن مسعر، فنسخناه، فلم يكن هذا الحديث فيه، ليس هذا بشيء -كأنه أنكره من حديث محمد بن عبيد-، قال أبي: وحدثناه يعلى أخو محمد قال: حدثنا مسعر، عن يزيد الفقير مرسلا

»

(1)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد سئل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأئمة من قريش» ، قال: ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصل»

(2)

.

وقال أبو داود أيضا: «سمعت أحمد ذكر حديث الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا» ، فقال: هذا -أراه- ريح، وسمعت أحمد ذكر هذا الحديث فقال: ليس

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 346، والحديث رواه أيضا أبو داود حديث (1169)، عن محمد بن أحمد المعروف بابن أبي خلف، عن محمد بن عبيد به، فكأن العهدة في وصله على محمد بن عبيد نفسه، فالحديث ليس في كتابه، حدث به من حفظه، وهو مع ثقته قد قال قال فيه أحمد:«كان يخطئ ولا يرجع عن خطئه» ، انظر:«تهذيب التهذيب» 9: 329

(2)

«مسائل أبي داود» ص 386، و «المنتخب من علل الخلال» ص 159، والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي حديث (2247)، والبزار كما في «كشف الأستار» حديث (1578)، وأبو يعلى حديث (3644)، والبيهقي 8:144.

ص: 166

هذا -يعني هذا الحديث- في كتاب الدراوردي، كان يحدثه حفظا، فقال أحمد: كتابه أصح من حفظه»

(1)

.

وروى الأثرم عن أحمد نحو هذا، قال: «قال أبو عبدالله: الدراوردي إذا حدث من حفظه فليس بشيء -أو نحو هذا-، فقيل له: في تصنيفه؟ فقال: ليس الشأن في تصنيفه، إن كان في أصل كتابه وإلا فلا شيء، كان يحدث بأحاديث ليس لها أصل في كتابه، قال: يقولون: إن حديث هشام بن عروة

ليس له أصل في كتابه»

(2)

.

وروى الدراوردي أيضا عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا:«أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية»

(3)

.

قال ابن معين: «لم يوجد في كتاب الدراوردي، وأخبرني من سمع كتاب العلاء -يعني من الدراوردي- إنما كانت صحيفة ليس هذا فيها، وكانت قصة واحدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح»

(4)

.

وروى عبدالرزاق، عن معمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا:«الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة»

(5)

.

(1)

«مسائل أبي داود» ص 418.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 758، والحديث أخرجه أبو داود حديث (3735).

(3)

«سنن الترمذي» حديث (3800).

(4)

«من كلام يحيى بن معين» ص 114.

(5)

«مسند البزار» حديث (7886)، و «مسند أبي يعلى» حديث (6014)، و «سنن البيهقي» 6:329.

ص: 167

قال ابن رجب: «أنكره أحمد، ومحمد بن يحيى، قالا: لم يكن في أصل عبدالرزاق»

(1)

.

وقال عبدالله بن علي بن المديني: «سألت أبي عن أبي حفص الفلاس (يعني عمرو بن علي) فقال: قد كان يطلب، قلت: روى عن عبدالأعلى، عن هشام، عن الحسن: «الشفعة لا تورث» ، فقال: ليس هذا في كتاب عبدالأعلى، عن هشام، عن الحسن»

(2)

.

وروى جماعة عن إبراهيم بن سليمان أبي إسماعيل المؤدب، عن هرير بن عبدالرحمن بن رافع بن خديج، عن جده رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبلال:«نور بالفجر قدر ما يبصر القوم مواقع نبلهم»

(3)

.

ورواه أبو نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن هرير بن عبدالرحمن، عن جده رافع، وقد قيل عن أبي نعيم في تسمية شيخه غير هذا أيضا

(4)

.

ذكر أبو حاتم رواية أبي نعيم هذه وتسميته لشيخه إبراهيم بن إسماعيل بن

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 757، وانظر:«علل الدارقطني» 9: 253.

(2)

«تاريخ بغداد» 12: 209.

(3)

«التاريخ الكبير» 3: 301، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 139، و «المعجم الكبير» حديث (4414)، و «الأسماء والكنى» 1: 97، وفي الأخير تحريف.

(4)

«مسند أبي بكر أبي شيبة» حديث (83)، و «المعجم الكبير» حديث (4415)، و «نصب الراية» 1:238.

ص: 168

مجمع، وهو من رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي نعيم، ثم قال أبو حاتم:«سمعنا من أبي نعيم كتاب إبراهيم بن إسماعيل، الكتاب كله، فلم يكن لهذا الحديث فيه ذكر، وقد حدثنا غير واحد عن أبي إسماعيل المؤدب» .

قال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي: الخطأ من أبي نعيم، أو من أبي بكر بن أبي شيبة؟ » قال: «أرى قد تابع أبا بكر رجل آخر، إما محمد بن يحيى أو غيره، فعلى هذا يدل أن الخطأ من أبي نعيم -يعني أن أبا نعيم أراد أبا إسماعيل المؤدب، وغلط في نسبته، ونسب إبراهيم بن سليمان إلى إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع-»

(1)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته»

(2)

، يعني في الوضوء.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة

، قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، قلت: هو صحيح، قال: لو كان صحيحا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة

»

(3)

.

وروى عبدالله بن عمران، عن يحيى بن الضريس، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية

» الحديث

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 143، وانظر أيضا: 1: 139.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (30)، و «سنن ابن ماجه» حديث (429).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 60.

(4)

«روضة العقلاء» ص 217، و «طبقات المحدثين بأصبهان» 2: 160، و «حلية الأولياء» 7:128.

ص: 169

قال أبو حاتم في نقده: «نظروا في كتب يحيى فلم يصيبوه عن الثوري»

(1)

.

وروى ابن عدي عن الحسين بن أبي معشر أبي عروبة الحراني، عن مخلد بن مالك، عن العطاف بن خالد، عن نافع، عن ابن عمر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد من خدش» ، ثم قال ابن عدي:«سمعت ابن أبي معشر يقول: كتبنا عن مخلد بن مالك كتاب عطاف قديما، ولم يكن فيه هذا الحديث، كأن ابن أبي معشر أومى إلى أن لُقِّن مخلد هذا الحديث»

(2)

.

وروى يحيى بن حسان، وعبدالغفار بن داود، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم»

(3)

.

قال الطحاوي: «ليس هذا الحديث في أصل الليث، عن يحيى بن سعيد، وإنما حدث به عنه يحيى بن حسان، وعبدالغفار بن داود»

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 316، وانظر أمثلة أخرى لأبي حاتم في «علل ابن أبي حاتم» (487)، (1835)، (2579).

(2)

«الكامل» 5: 2015.

(3)

«السنن المأثورة» حديث (306)، و «شرح معاني الآثار» 2: 92، و «صحيح ابن حبان» حديث (3541)، و «معرفة السنن والآثار» حديث (8727).

(4)

«معرفة السنن والآثار» للبيهقي حديث (8727)، وقد رواه يحيى بن عبدالله بن بكير، عن الليث فلم يذكر عمرة، جعله عن يحيى بن سعيد، عن عائشة مرسلا، ورجح هذا أبو حاتم، وأبو زرعة، انظر:«علل ابن أبي حاتم» (710)، (762).

ص: 170

وروى جماعة عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود مرفوعا في (الوضوء بالنبيذ)

(1)

.

قال الدارقطني في نقده لهذا الحديث: «لا يثبت هذا الحديث، لأنه ليس في كتب حماد بن سلمة المصنفات

»

(2)

.

وقضية عدم وجود الحديث مطلقا في كتاب الراوي لها صلة قوية بالتفرد، والتفرد نوع من الاختلاف، فهو مخالفة بالترك، فالمتفرد خالف أصحاب الراوي الذي تفرد عنه، فانفرد برواية الحديث.

ولها صلة بالاختلاف من جهة ثانية، وهي أن أحد المختلفين إذا لم توجد روايته في كتابه ضعفت بذلك، وقدمت عليها الرواية المخالفة، كما تقدم آنفا في قصة أبي داود الطيالسي، وروايته عن شعبة حديثا خولف فيه، وكذلك رواية محمد بن عبيد، عن مسعر، ومخالفة أخيه يعلى له، وقصة أبي نعيم ومخالفته لجماعة في تسمية شيخه.

والاستفادة العظمى من النظر في كتب الرواة تبرز حين يوجد اختلاف على راو من الرواة في رواية حديث عنه على صفتين أو أكثر، فيستعان بكتب الرواة لترجيح إحدى الصفتين، إما كتاب الشيخ المختلف عليه، أو كتاب أحد تلامذته، وقد يكون هذا التلميذ أحد المختلفين على الشيخ، وربما كان النظر في

(1)

«مسند أحمد» 1: 455، و «شرح معاني الآثار» 1: 95، و «سنن الدارقطني» 1:77.

(2)

«علل الدارقطني» 6: 346، ونحوه في «السنن» 1:77. وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (410)، (1264)، (1835)، (2208)، (2802).

ص: 171

الكتاب هو كاشف الاختلاف، وقد تكون المخالفة بين راو وكتاب شيخه، أو كتاب أحد تلامذته، وربما وقعت المخالفة بين الراوي وكتابه هو.

وكل هذه الصور شحنت بها كتب النقد، فكان لهذه الوسيلة أثرها البالغ جدا في معرفة الصواب من روايتين جاءتا عن راو واحد، أو أكثر من روايتين.

قال ابن المديني: «قلت لعبدالرحمن -يعني ابن مهدي-: إن الزهري روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك في الصلاة، قال عبدالرحمن: حدثني رجل أنه رأى هذا الحديث عند ابن أخي ابن شهاب في كتب الزهري: عن سليمان بن أرقم، عن الحسن

»

(1)

.

وجاءت الحكاية من وجه آخر عن ابن المديني، وفيها أن الذي رآه في كتاب ابن أخي الزهري هو عبدالرحمن بن مهدي نفسه

(2)

.

وقد رواه يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري كذلك، وجاء عن الزهري من وجهين آخرين ذكر سليمان بن أرقم، والحسن، وبسليمان أعله النقاد، فإنه متروك الحديث، فالزهري ربما أسقطه، وربما أسقط الحسن أيضا

(3)

.

وروى شريك بن عبدالله، عن عاصم بن عبيدالله، عن عبدالله بن عامر،

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 260.

(2)

«الكامل» 3: 1029، و «سنن الدارقطني» 1: 166، 171، و «سنن البيهقي» 1:147.

(3)

«الرسالة» ص 469، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 67، و «الكامل» 3: 1026، و «سنن الدارقطني» 1:166.

ص: 172

عن زيد بن ثابت: «البراءة من كل عيب براءة» ، وقيل عن شريك بهذا الإسناد: عن زيد بن ثابت، وابن عمر

(1)

.

قال ابن المبارك في نقده لهذا الحديث: «جاء به شريك على غير ما كان في كتابه، ولم نجد لهذا الحديث أصلا»

(2)

.

وسئل عنه يحيى بن معين فقال: «ليس يثبت، تفرد به شريك، وكان في كتابه: عن أشعث بن سوار»

(3)

.

وروى جماعة منهم عقيل، وشعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وغيرهم، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن عبدالله بن عدي بن الحمراء قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزْوَرَة، فقال: والله إنك لخير أرض الله

» الحديث

(4)

.

قال أحمد: «سمعت كتاب صالح بن كيسان -يعني حديث إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان- من سعد -يعني سعد بن إبراهيم أخا يعقوب بن إبراهيم- وكان حدثنا عن ابن عدي بن الخيار، فحدثنا به يعقوب، فدعا

(1)

«مصنف ابن أبي شيبة» 6: 300 حديث (1140)، و «سنن البيهقي» 5:328.

(2)

«الضعفاء الكبير» 2: 195، و «سنن البيهقي» 1: 328، و «تهذيب التهذيب» 4:337.

(3)

«سنن البيهقي» 5: 328.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (3925)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4252 - 4253)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3108)، و «مسند أحمد» 4: 305، و «أخبار مكة» حديث (2514)، و «الآحاد والمثاني» حديث (622)، و «تهذيب الكمال» 15: 290، و «إتحاف المهرة» 8:255.

ص: 173

بالأصل، فإذا فيه: ابن عدي بن الحمراء»

(1)

.

وجاء من وجه آخر عن أحمد أن يعقوب بن إبراهيم يخطئ فيه أيضا، فكان في نسخته: عبدالله بن عدي بن الخيار، فلما راجع أصله وجده على الصواب: عبدالله بن عدي بن الحمراء.

ويقال إن أصل الخطأ من والدهما إبراهيم بن سعد

(2)

، فلعله كان حين يحدث به حفظا يخطئ فيه، وهو في الأصول على الصواب.

وروى أبو أسامة حماد بن أسامة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا (قصة ذي اليدين)

(3)

.

قال المروذي: «قال أحمد: قال يحيى بن سعيد: إنما هو في كتاب عبيدالله مرسل، وما ينبغي إلا كما قال يحيى، وأنكره»

(4)

.

وقال الأثرم: «قلت لأبي عبدالله: حديث السهو حديث ابن عمر يرويه غير أبي أسامة؟ فقال: أبو أسامة وحده، وكأنه ضعفه، قال أبو عبدالله: زعموا أن يحيى بن سعيد قال: إنما هو عن عبيدالله، عن نافع، مرسل»

(5)

.

(1)

«مسائل أبي داود» ص 442.

(2)

«تصحيفات المحدثين» 1: 85 - 87.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1017)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1213).

(4)

«علل المروذي» ص 148.

(5)

«تنقيح التحقيق» 1: 438.

ص: 174

وروى جماعة عن أزهر بن سعد السمان، عن عبدالله بن عون، عن إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم

» الحديث

(1)

.

قال عمرو بن علي الفلاس بعد أن رواه عن أزهر كما تقدم: «فحدثت به يحيى بن سعيد، فقال: ليس في حديث ابن عون: عن عبدالله، فقلت له: بلى فيه، قال: لا، فقلت: إن أزهر حدثنا عن ابن عون، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبدالله، قال: رأيت أزهر جاء بكتابه ليس فيه: عن عبدالله» ، قال عمرو بن علي:«فاختلفت إلى أزهر قريبا من شهرين للنظر فيه، فنظر في كتابه، ثم خرج فقال: لم أجده إلا عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وروى أحمد بن سنان الواسطي قال: «سألت عبدالرحمن بن مهدي وهو يحدثنا بأحاديث مالك، عن أبي الأسود، عن عروة، فمن حسنها قلت له: من أبو الأسود هذا يا أبا سعيد؟ قال: هذا محمد بن عبدالرحمن بن نوفل، ربيب عروة، أخو هشام بن عروة من الرضاعة، وهو الذي يقول هشام في حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعا ينتزعه من

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2533)، و «مسند أحمد» 1: 417، و «مسند البزار» حديث (1782)، و «السنة» لابن أبي عاصم حديث (1467)، و «مسند الشاشي» حديث (793)، و «تاريخ بغداد» 12:52.

(2)

«معرفة علوم الحديث» ص 41، و «الجامع لأخلاق المراوي» 2: 40، وفيه:«قريبا من شهر» ، وانظر:«الضعفاء الكبير» 1: 133.

ص: 175

الناس

»، فقال هشام: وحدثني أخي محمد بن عبدالرحمن بن نوفل، عن أبي قال:«لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا» ، فقلت: قد كتبته يا أبا سعيد، وليس هو هكذا، فقال: بلى، أخرج إلي أبو أسامة كتابه وهو هكذا.

قال أحمد بن سنان: وكنت كتبته عن أبي أسامة بالكوفة قبل أن أنحدر إلى البصرة، فلما قدمت واسطا لم يكن لي همة إلا أن أنظر في كتابي، فنظرت فإذا الحديث قد أملى علينا عن هشام، عن أبيه تاما، فلما أتمه قال هشام: أخبرني من سمع أبي يقول: «لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا

» حتى ذكر الحديث بتمامه»

(1)

.

علق الشيخ عبدالرحمن المعلمي على هذه الحكاية بقوله: «كأن أبا أسامة حدثهم من حفظه (يعني فلم يستحضر اسم محمد بن عبدالرحمن بن نوفل فأبهمه)، وابن مهدي أخذ من كتابه» .

وقال عبدالله بن أحمد: «قرأت على أبي: عبدالرحمن، عن مالك، عن نافع: «أن ابن عمر رأى رجلا صلى ركعتي الفجر، ثم اضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن أفصل، فقال: وأي فصل أفضل من التسليم؟ » ، سمعت أبي يقول: قرأت على عبدالرحمن، وعارضني به من كتابه: مالك، أنه بلغه عن ابن عمر، قال عبدالرحمن: وقرئ على مالك»

(2)

.

(1)

» الجرح والتعديل» 1: 254.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 191.

ص: 176

وروى أحمد، عن سفيان بن عيينة قال:«كان بعض الشيوخ يتقي حديث عاصم بن عبيدالله»

(1)

، ورواه أحمد أيضا دون كلمة «بعض»

(2)

، قال أبو داود:«سمعت أحمد يقول: قال ابن عيينة: كان بعض المشايخ يتقون حديث عاصم بن عبيدالله، وكان أحمد ذكره فلم يذكر «بعض» ، ثم قال: نظرت في الكتاب فيه «بعض» ، »

(3)

.

وروى جماعة عن أزهر بن سعد السمان، عن عبدالله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي قال: «شكت إليَّ فاطمة مجل يديها من الطحن، فقلت: لو أتيت أباك

» الحديث

(4)

.

قال علي بن المديني بعد أن رواه هكذا عن أزهر: «رأيته في أصله مرسلا عن محمد، وكلمت أزهر في ذلك، وشككته فأبى، وقال: عن عبيدة»

(5)

.

وكذا نقده بما في كتاب أزهر: البخاري، والبزار، وذكر البزار أن بشر بن آدم، ابن بنت أزهر، أخرج إليه كتاب أزهر الأصل فرآه فيه مرسلا، مع حديث آخر لأزهر، عن ابن عون، وصله أزهر أيضا من حفظه بما يخالف ما في كتابه

(6)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 214.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 210، و «الجرح والتعديل» 6:347.

(3)

«سؤالات أبي داود» ص 206.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (3408 - 3409)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9172)، و «مسند أحمد» 1: 123، و «أمالي المحاملي» حديث (143).

(5)

«الضعفاء الكبير» 1: 132.

(6)

«العلل الكبير» 2: 909، و «مسند البزار» حديث (548 - 549).

ص: 177

وروى إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن أنس بن عياض، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:«أن جيشا غنموا في زمان رسول صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منهم الخمس»

(1)

.

قال الدوري: «سمعت يحيى يقول في حديث أبي ضمرة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: «أن جيشا غنموا طعاما

»: قرأه عليَّ أبو ضمرة

-ومن أصل كتابه-: عن نافع، مرسل»

(2)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وطاوس، عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم»

(3)

.

قال الحميدي: «قال سفيان: حدثنا بهذا الحديث عمرو مرتين، مرة قال فيه: سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول

، ومرة سمعته يقول: سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس

، ولا أدري أسمعه عمرو منهما، أو كانت إحدى المرتين وهم؟ »

(4)

.

وروى هذا يعقوب بن سفيان، عن الحميدي، وزاد فيه قول سفيان:

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2701).

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 43.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (1835)، (5695)، و «صحيح مسلم» حديث (1202)، و «سنن أبي داود» حديث (1835)، و «سنن الترمذي» حديث (839)، و «سنن النسائي» حديث (2847)، و «مسند أحمد» 1:221.

(4)

«مسند الحميدي» حديث (500).

ص: 178

«وقد ذكر لي أنه سمعه منهما» ، ثم قال الحميدي:«ورأيت في كتاب ابن أخي عمرو بن دينار، وهذا الحديث عنهما»

(1)

.

وروى يحيى بن سليمان الرازي البزاز والد أبي حصين البزاز، عن حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان كلمات: سبحان الله، والحمد لله

».

قال أبو حاتم بعد أن بين أن هذا خطأ، والصواب: «ألا إنما هو كلمات

»: «قال لنا أبو حصين: رأيت في كتاب أبي هذا الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا» ، وقد تأكل ما بعده، فجاء الرازيون فلقنوه:«الإيمان كلمات» ، وإنما موضعه موضع دارس قد تأكل»

(2)

.

وروى بعض أصحاب محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عنه، عن أخيه عيسى، والحكم بن عتيبة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب مرفوعا، حديث (رفع اليدين في تكبيرة الإحرام)

(3)

، ومنهم من لم يذكر الحكم بن عتيبة

(4)

.

ورواه بعض أصحاب محمد بن عبدالرحمن، عنه، عن يزيد بن أبي زياد، عن

(1)

«المعرفة والتاريخ» 2: 745.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 155.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (752)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 236، و «مسند أبي يعلى» حديث (1689)، و «شرح معاني الآثار» 1: 224، لكن وقع في «سنن أبي داود»: عن عيسى، عن الحكم.

(4)

«شرح معاني الآثار» 1: 224.

ص: 179

عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء

(1)

.

قال عبدالله بن أحمد: «حدثني أبي، عن محمد بن عبدالله بن نمير، قال: نظرت في كتاب ابن أبي ليلى، فإذا هو يرويه عن يزيد بن أبي زياد، قال أبي: وحدثنا وكيع، سمعه من ابن أبي ليلى، عن الحكم، وعيسى، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وكان أبي يذكر حديث الحكم، وعيسى، يقول: إنما هو حديث يزيد بن أبي زياد، كما رآه ابن نمير في كتاب ابن أبي ليلى، قال أبي: ابن أبي ليلى كان سيئ الحفظ، ولم يكن يزيد بن أبي زياد بالحافظ»

(2)

.

وروى رويم بن يزيد، عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل

» الحديث

(3)

.

وهو مشهور من حديث رويم بن يزيد، لكن رواه أيضا محمد بن أسلم الطوسي، عن قبيصة بن عقبة، عن الليث كذلك

(4)

.

(1)

«سنن الدارقطني» 1: 293.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 369.

(3)

«العلل الكبير» 2: 874، و «كشف الأستار» حديث (1196)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3618)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2555)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (113)، و «المستدرك» 1: 455، و «سنن البيهقي» 5: 256، و «تاريخ بغداد» 8:429.

(4)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (2555)، و «المستدرك» 1: 455، و «حلية الأولياء» 9: 250، و «التمهيد» 24:159.

ص: 180

ورواه قتيبة بن سعيد، وعبدالله بن صالح كاتب الليث، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مرسلا

(1)

.

قال أحمد بن سلمة عن الموصول: «ذاكرت به مسلم بن الحجاج، فقال: أخرج إلي عبدالملك بن شعيب بن الليث كتاب جده، فرأيت في كتاب الليث على ما رواه قتيبة»

(2)

.

وروى الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة الدمشقي، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا

» الحديث

(3)

.

ورواه محمد بن بكار، وأخوه جامع بن بكار، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم -وهو متروك الحديث- عن الزهري

(4)

.

وقد توارد جمع من الرواة على أنهم رأوه في أصل يحيى بن حمزة: عن سليمان بن أرقم، ومن هؤلاء: محمد بن الوليد أبو هبيرة الدمشقي، ودحيم، وابن منده

(5)

.

(1)

«شرح مشكل الآثار» حديث (114)، و «علل ابن أبي حاتم» 2:254.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 254.

(3)

«مراسيل أبي داود» حديث (259)، و «سنن النسائي» حديث (4868).

(4)

«مراسيل أبي داود» حديث (258)، و «سنن النسائي» حديث (4869).

(5)

«مراسيل أبي داود» حديث (258)، و «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 455، و «ميزان الاعتدال» 2:201.

ص: 181

وروى هشام بن إسماعيل، وهشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن عبدالله بن العلاء بن زَبْر، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقرأ فيها، فلبس عليه

» الحديث

(1)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث وذكر له رواية هشام بن إسماعيل، فقال: «هذا وهم، دخل لهشام بن إسماعيل حديث في حديث، نظرت في بعض أصناف محمد بن شعيب، فوجدت هذا الحديث رواه محمد بن شعيب، عن محمد بن يزيد البصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فترك آية

» هكذا مرسل، ورأيت بجنبه حديث عبدالله بن العلاء، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح

»، فعلمت أنه سقط على هشام بن إسماعيل متن حديث عبدالله بن العلاء، وبقي إسناده، وسقط إسناد حديث محمد بن يزيد البصري، فصار متن حديث محمد بن يزيد البصري بإسناد حديث عبدالله بن العلاء بن زبر، وهذا حديث مشهور، يرويه الناس عن هشام بن عروة.

فلما قدمت السفرة الثانية رأيت هشام بن عمار يحدث به عن محمد بن شعيب، فظننت أن بعض البغداديين أدخلوه عليه، فقلت له: يا أبا الوليد هذا ليس من حديثك، فقال: أنت كتبت حديثي كله؟ فقلت: أما حديث محمد بن

(1)

«سنن أبي داود» حديث (907)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2242)، و «المعجم الكبير» حديث (13216)، و «سنن البيهقي» 3: 212، و «تحفة الأشراف» 5:357.

ص: 182

شعيب فإني قدمت عليك سنة بضعة عشر، فسألتني أن أخرج لك مسند محمد بن شعيب، فأخرجت إلي حديث محمد بن شعيب، فكتبت لك مسنده، فقال: نعم، هي عندي بخطك، قد أعلمت الناس أن هذا بخط أبي حاتم، فسكت»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «حضرت أحمد بن سنان، وقد حدثنا عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن أبي بردة، عن أبي موسى: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عطس، فقيل له: يرحمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يهديكم الله ويصلح بالكم» ، فقال أبي لأحمد بن سنان: إنما هو عن أبي حمزة، عن أبي بردة، فأبى أن يقبل.

ثم صار أبي إلى محمد بن عبادة فسأله أن يخرج له حديث يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، فأخرج كتابه فإذا هو: حماد بن سلمة، عن أبي حمزة، كما قال أبي، فكتبنا عن ابن عبادة هذا الحديث، ثم أخبر أبي ابني أحمد بن سنان بأنه وجد في كتاب ابن عبادة: عن يزيد، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة، كما قال أبي، فتحيرا، وقالا: ننظر في الأصل.

فلما كان الغد حملوا إلى أبي أصل أحمد بن سنان، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة -معجما على الحاء والزاي كما قال أبي- وقالا: وقع الغلط في التحويل، فحدثنا أحمد بن سنان من الرأس عن يزيد، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، كما قال أبي، واعتذروا من ذلك»

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 77.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 353.

ص: 183

وروى جماعة عن عيسى بن يونس، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل، قال:«احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم»

(1)

.

ورواه أبو أسامة حماد بن أسامة، عن عيسى بن يونس موقوفا من فعل معاذ.

سئل أبو زرعة عن الرواية الأولى، وذكر له بعض من رواه عن عيسى بن يونس، فقال: «هذا خطأ، في كتاب عيسى بن يونس: عن الأحوص بن حكيم، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم

»، مرسل»

(2)

.

وروى صالح بن محمد الحافظ المعروف بجزرة، عن هشام بن عمار، عن محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري (يعني عن سعيد بن المسيب) حديث مقتل عثمان، قال صالح:«فجهدت به (يعني هشام بن عمار) الجهد أن يقول: حدثنا ابن أبي ذئب، فأبى أن يقول: إلا: عن ابن أبي ذئب، فقال لي محمود ابن ابنة محمد بن عيسى: هو في كتاب جدي: عن إسماعيل بن يحيى بن عبيدالله، عن ابن أبي ذئب» ، قال صالح:«وإسماعيل بن يحيى هذا يضع الحديث»

(3)

.

(1)

«مسند البزار» حديث (2658)، و «المعجم الكبير» 20: 93 حديث (180).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 258.

(3)

«موضح أوهام الجمع والتفريق» 1: 45، وانظر:«التاريخ الكبير» 1: 203، و «علل ابن أبي حاتم» 2: 425، و «الكامل» 6:2250. وقد تقدمت هذه القصة في «الاتصال والانقطاع» ص 230، حيث ذكرتها هناك مثالا على رمي راو بالتدليس، ثم يتبين أن الإسقاط ليس منه.

ص: 184

وذكر الدارقطني حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس في أمر بلال بالأذان شفعا، والإقامة وترا، وذكر من رواه هكذا عن سعيد، ثم عقبه برواية من رواه عن سعيد، عن قتادة مرسلا، ثم قال:«هو في مصنفات سعيد مرسلا»

(1)

.

فاتضح مما تقدم من أمثلة أهمية النظر في كتب الرواة لكشف الخطأ، وللترجيح بين الروايات عند وقوع الاختلاف، واعتماد النقاد على اختلاف طبقاتهم على هذه الوسيلة.

ومما يحسن التنبيه عليه أن هذا الأمر بالنسبة لهم ليس بالأمر السهل، فهناك عقبات تواجه الناقد وهو يتحقق من الصواب بالنظر في الكتاب، منها أن الرواة لهم أصول عتيقة سمعوا بواسطتها من شيوخهم، أو قيدوها وقت السماع، ولهم فروع لتلك الأصول، تعرف بالنسخ، لكونها نسخت من الأصول، وذلك للتحديث منها في وقت الكبر، ومجيء الرواة للسماع منهم، فيحتفظون بالأصل

(1)

«علل الدارقطني» 12: 246.

وانظر أمثلة أخرى في: «العلل ومعرفة الرجال» (709 - 714) ، و «مسائل أبي داود» (2004) ، و «مسائل صالح» (1241) ، (3961)، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 538، و «جزء رفع اليدين في الصلاة» ص 79، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2374)، و «الضعفاء الكبير» 2: 87، و «علل ابن أبي حاتم» (211)، (397)، (538)، (1022)، (1547)، (1606)، (1743)، (1799)، (2079)، (2165)، (2202)، (2416)، (2802)، و «المنتخب من علل الخلال» ص 207، و «الإرشاد» 2: 495، و «شرح علل الترمذي» ، 2: 756، و «النكت الظراف» 1:32.

ص: 185

خوفا عليه، وللكثير من الرواة مصنفات، خاصة من تدور الرواية عليهم، مثل ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، ومعمر، وحماد بن سلمة، ووكيع بن الجراح، وعبدالرزاق، وغيرهم، جمعوها من أصولهم، أو من فروعها، فالناقد عليه أن يتتبع الحديث في مراحله هذه، وهل له وجود فيها؟ وما يحصل له من تغيير، وقد تقدم في «الجرح والتعديل» أمثلة لذلك

(1)

، وتقدم أيضا في أول هذا المبحث من كلام أحمد في عبدالعزيز الدراوردي، وفي كلامه عن حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء، وتقدم كذلك آنفا في قصة أبي حاتم مع أحمد بن سنان.

وكذلك فإن أصول الرواة وكتبهم ليست على درجة واحدة من الإتقان والصحة، ابتداء من السماع، إذ قد يكتب الراوي بعد السماع بفترة تطول أو تقصر، ثم قد يعارض ويصحح بعد الكتابة، أو يغفل ذلك، وقد تختلط الأحاديث في الكتاب على الراوي، أو يندرس شيء منه، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في «الجرح والتعديل»

(2)

، وهو ما يفسر وجود أخطاء في الكتب نفسها، وقد قام النقاد بجهد عظيم في سبيل فحص كتب الرواة وأصولهم، ومعرفة ما كتبه الراوي وسمعه من شيخه، وما كتبه ولم يقض له سماعه منه، أو لم يقض له سماع شيء منه، ومعرفة من كان يملي على تلامذته، ومن يمتنع من

(1)

«الجرح والتعديل» ص 74 - 77، ويضاف من مراجع المسألة:«العلل ومعرفة الرجال» 1: 344، 3: 199، و «مسائل حرب» ص 465، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 169، و «تاريخ بغداد» 13: 313، و «تهذيب الكمال» 4:548.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 120 - 125.

ص: 186

الإملاء، ومعرفة ما تمت معارضته بعد الكتابة، وبيان من كان يكتب عند السماع، ومن كان يكتب من حفظه، أو من إملاء غيره، ومن كان من المشايخ يأذن بالكتابة حال تحديثه، ومن كان يأبى ذلك

(1)

.

ومن أمثلة ما وقع فيه خطأ في الكتاب، قول أحمد:«حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي سعيد الرقاشي، عن ابن عباس: «لا تأكل من الجبن إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب» ، وكان في كتابنا: عن سليمان التيمي، فقال وكيع: عاصم الأحول، وهو الصواب، وكنا نسخناه من كتاب ابن أبي شيبة»

(2)

.

ومراد أحمد أنهم نسخوه من كتاب أبي بكر بن أبي شيبة لقراءته فيما بعد

(1)

ينظر أيضا في هذه القضايا وما في معناها: «العلل ومعرفة الرجال» 1: 175، 234، 460، 2: 332، 355، 418، 3: 383، و «سؤالات أبي داود» ص 263، و «علل المروذي» ص 44، و «مسائل إسحاق بن هانئ» 2: 219، و «مسائل حرب» ص 472، 492، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 268، 308، و «معرفة الرجال» 2: 237، وسؤالات ابن الجنيد» ص 242، و «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 433، 471، 2: 715، و «المعرفة والتاريخ» 2: 184، 238، 434 - 436، 829 - 830، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 1: 262، و «الجرح والتعديل»

1: 353، 6: 67، و «الكامل» 6: 2264، 7: 2496، و «المحدث الفاصل» ص 385، و «تصحيفات المحدثين» 1: 35، 46، و «سؤالات السلمي للدارقطني» ص 292 - 295، و «الجامع لأخلاق الراوي» 1: 235، 272 - 280، 2: 27، 88، و «تاريخ بغداد» 2: 270، 10: 312، 11: 448، 12: 273، 274، و «الكفاية» ص 148، 272، 237 - 259، و «سير أعلام النبلاء» 12: 427 - 428.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 335.

ص: 187

على وكيع، غير أن وكيعا حدثهم بخلاف ما في كتاب ابن أبي شيبة، وصوب أحمد ما حدثهم به وكيع، وأن في كتاب ابن أبي شيبة خطأ.

وقال أحمد أيضا: «كان في كتاب محمد بن عبيد في حديث إسماعيل بن أبي خالد عشرة أحاديث خطأ»

(1)

.

وأيضا -وهذا أمر بالغ الأهمية- يقوم الناقد بمهمة جليلة أثناء نظره في الكتاب للتأكد من صواب رواية، فقد يكون أصل الراوي قد حصل فيه تحريف فيما بعد، فقد وقع هذا لبعض الرواة في أصولهم، فضعفهم النقاد بذلك

(2)

.

ومن أمثلته في أحاديث بعينها أن الوليد بن مسلم روى عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة بن شعبة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله» .

ورواه ابن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حدثت عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة مرسلا، ليس فيه المغيرة بن شعبة، هكذا رواه عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، وبرواية ابن المبارك هذه أعل النقاد رواية الوليد بن مسلم، وأنه ارتكب فيها تدليس التسوية، وأخطأ في ذكر المغيرة بن شعبة

(3)

.

(1)

«مسائل حرب» ص 459. وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (1861)، (2463)، (2674)، و «سؤالات السهمي للدارقطني» ص 74 - 77، و «علل الدارقطني» 3: 98، و «معرفة السنن» للبيهقي 1: 144.

(2)

تقدم شيء من هذا في «الجرح والتعديل» ص 69 - 73.

(3)

انظر: «الاتصال والانقطاع» ص 275.

ص: 188

وقد أشكل على هذا أن نعيم بن حماد رواه عن ابن المبارك كرواية الوليد بن مسلم، ثم تبين بعد فحص هذه الرواية أن أصل نعيم بن حماد قد وقع فيه تغيير، قال أحمد بعد أن ذكر رواية عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك:«وقد كان نعيم بن حماد حدثني به عن ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم به عن ثور، فقلت له: إنما يقول هذا الوليد، فأما ابن المبارك فيقول (يعني في روايته عن ثور): حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة، فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أسأل عنه، فأخرج إلي كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: عن المغيرة، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه زيادة في الإسناد لا أصل لها، فجعل يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث»

(1)

.

وروى أبو كريب محمد بن العلاء، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبي موسى مرفوعا:«المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»

(2)

.

وقد اشتهر عند النقاد أن هذا الحديث من أفراد أبي كريب، عن أبي أسامة، وكذلك تفرد به أبو أسامة، عن بريد، لكن جاءت متابعات لأبي كريب لا تصح، ومنها متابعة محمد بن يزيد أبي هشام الرفاعي، قال البرذعي بعد أن نقل عن أبي زرعة أنه سمعه من أبي كريب: «فقلت له: (يعني لأبي زرعة) حدثنا به أبو السائب

(1)

«التلخيص الحبير» 1: 168.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2062).

ص: 189

سلم بن جنادة السوائي، عن أبي أسامة، فقال: أبو السائب روى هذا؟ فقلت: نعم، هو حدثنا به، فقال: هذا حديث أبي كريب.

وقال لي أبو زرعة: كان أبو هشام الرفاعي يرويه أيضا، فسألت أبا هشام أن يخرج إلي كتابه، ففعل، فرأيته في كتابه بين سطرين، بخط غير الخط الذي في الكتاب.

ثم قال لي: ما ظننت أن أبا السائب يروي مثل هذا -أو نحو ما قال أبو زرعة-، وأعاد علي غير مرة: هذا حديث أبي كريب»

(1)

.

وقد يختلف قول من نظر في كتاب الراوي، فيحتاج الناقد إلى الموازنة بين الناقلين، قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن سلام، عن جده، عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة

» الحديث طويل، فقيل لأبي: إن سفيان بن وكيع أخرج هذا من أصل أبيه العتيق.

فقال: ليس هذا بشيء، حدثنا علي الطنافسي، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى، عن معاذ بن جبل، مرسل، فمن أين كتبه علي عنه؟ أليس من كتابه؟ »

(2)

.

ومهما يكن من عوائق في استفادة النقاد من كتب الرواة، إلا أن الكتاب في

ص: 190

الجملة أقوى من الحفظ، كما تقدم النقل عنهم

(1)

.

ومن ذلك أيضا قول أبي نعيم -وذكر عنده حماد بن زيد، وابن علية، وأن حمادا حفظ عن أيوب، وابن علية كتب- فقال:«ضمنت لك أن كل من لا يرجع إلى كتاب لا يؤمن عليه الزلل»

(2)

.

وقال أحمد: «ما كان أحد أقل سقطا من ابن المبارك، كان رجلا يحدث من كتاب، ومن حدث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كبير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان يكون له سقط، كم يكون حفظ الرجل؟ »

(3)

.

وسئل يحيى بن معين: أيهما أحب إليك، ثبت حفظ، أو ثبت كتاب؟ قال:«ثبت كتاب»

(4)

.

وهذا كله يبرز بشكل جلي اهتمام النقاد بالنظر في كتب الرواة، خاصة حين يرتابون في رواية.

* * *

(1)

«الجرح والتعديل» ص 125 - 127.

(2)

«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 467.

(3)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 11.

(4)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 39، وانظر:«الكفاية» ص 230.

ص: 191

‌المبحث الثالث

تمييز أحاديث الرواة

أئمة النقد لقوة وسعة حفظهم، وكثرة ممارستهم لأحاديث الرواة، ومذاكرة بعضهم بعضا، يعرفون أن فلانا قد روى عن هذا الراوي شيئا، أو لم يرو عنه، وإذا كان قد روى عنه فكم روى عنه من الأحاديث؟ كما يدركون صفة ونوع الأحاديث الأليق بالراوي.

فإذا جاء الاسم مبهما في الإسناد يشترك فيه اثنان أو أكثر فبإمكان الناقد أن يرجح هل هو من حديث فلان، أو من حديث فلان؟ وإذا وقع تحريف في اسم راو، فانتقل الاسم إلى غيره، ميزوا هذا وعرفوه.

وإذا أخطأ بعض الرواة فنقل حديث راو إلى آخر أدرك الناقد هذا، لمعرفته بصفة ونوع الأحاديث التي يرويها كل منهما.

وإذا تفرد راو عن آخر، عن شيخ له بحديث، قالوا في نقدهم للمتفرد: شيخك لم يرو عن شيخه سوى ثلاثة أحاديث -مثلا-، فما جئت به خطأ منك.

وربما حدث الراوي بحديث فقالوا له: ليس هذا من حديثك، هذا من حديث فلان.

والقارئ في كتب النقد يرى بوضوح اهتمام النقاد بعدد من الجوانب تخدم هذا الغرض النبيل، منها أنهم ينصون على من روى عن الراوي، فيقولون: فلان

ص: 192

روى عنه فلان، وفلان، أو فلان لم يرو عنه سوى فلان، وفلان، كما ينصون على شيوخ الراوي إثباتا، ونفيا، فيقولون: فلان روى عن فلان وفلان، أو فلان لم يرو عن فلان، وربما عقدوا فصولا للمقارنة بين روايين مشهورين، بذكر من روى عنه أحدهما، ولم يرو عنه الآخر

(1)

.

ومن الجوانب كذلك النص على عدد الأحاديث التي عند الراوي، إما بإطلاق، أو عن شيخ معين، وقد يكون هذا منقولا عن الراوي نفسه، وهذا أيضا كثير جدا.

ومن ذلك قول أحمد: «سمع شعبة من يزيد بن البراء بن عازب حديثا واحدا»

(2)

.

وقال عبدالله بن أحمد لأبيه: «طلحة الأعلم؟ قال: روى عنه الثوري، قلت: كيف حديثه؟ قال: وكم حديثه؟ حديث واحد»

(3)

.

وقال أحمد أيضا: «عبدالله بن السائب الذي روى عنه هارون بن عنترة، هو الذي روى عنه الأعمش، وسمع منه الثوري ثلاثة أحاديث»

(4)

.

وقال أيضا: «ابن علية سمع من أبي التياح حديثا واحدا»

(5)

.

(1)

ينظر: «العلل ومعرفة الرجال» 1: 471 - 477.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 99، و «مسائل صالح» ص 258.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 529.

(4)

«مسائل أبي داود» ص 426.

(5)

«مسائل أبي داود» ص 426، وانظر النصين التاليين لهذا النص في هذا المصدر.

ص: 193

وقال أيضا بعد أن روى عن عبدالله بن نمير، عن الحارث بن حصيرة حديثا

-ولم يسق متنه-: «لم يسمع منه ابن نمير إلا حديثا واحدا -يعني هذا الحديث-»

(1)

.

وقال أحمد بعد أن ساق حديثين من حديث شعبة، عن عباس الجريري:«لا أعلم شعبة حدث عن عباس الجريري إلا هذين الحديثين»

(2)

.

وقال ابن معين: «كان أبو أسامة يروي عن عبيدالله بن عمر خمسمئة حديث إلا عشرين، كتبتها كلها عنه، وكان ابن نمير يروي عنه أربعمئة حديث أو أكثر، كتبتها كلها عنه، وروى عنه عبدة نحوا من مئتين، كتبتها عنه»

(3)

.

وهناك جانب آخر بالغ الأهمية في هذا المقام، وهو معرفة شهرة الراوي بحديث معين، فيقول النقاد إنه يعرف بحديث كذا، ينبه النقاد بذلك على خطأ من نقله إلى غيره، عن قصد أو غير قصد، والحديث كذلك يشتهر عن راو بعينه فإذا جاء عن غيره توقفوا فيه، وقد شحنت كتب النقد بهذا، خاصة كتاب العقيلي «الضعفاء» ، وكتاب ابن عدي «الكامل» ، وكتاب الخليلي «الإرشاد» .

ومن الجوانب كذلك صفة ونوعية الأحاديث التي يرويها الراوي، بمعرفة

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 339.

(2)

«مسائل صالح» ص 227، وفيه فصل عن عدد ما روى شعبة عن بعض شيوخه، مما هو في كتاب غندر، عن شعبة، انظر: ص 423 - 424، 227 - 229، وانظر أيضا:«العلل ومعرفة الرجال» 2: 176، فقرة (1919)، و «مسائل أبي داود» ص 411، 428.

(3)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 654.

ص: 194

متونها، أو أسانيدها، فإذا نقلت إلى غيره ميزوا ذلك، وقالوا: تشبه أحاديث فلان، ولا تشبه أحاديث فلان، قال الآجري:«سمعت أبا داود يقول: إسماعيل بن سالم سمع من أبي صالح ذكوان، ومن أبي صالح باذام، قيل: هذا يشتبه؟ قال: إن حديث هذا لا يخفى من حديث هذا»

(1)

.

فهذه المعارف -وغيرها مما يلتحق بها- سخرها النقاد لكشف أخطاء الرواة، فكان هذا غرضا مهما جدا من هذا السبر، وهذا الجهد العظيم الذي قام به هؤلاء، فهو يندرج تحت وصية شعبة في قوله:«ما سمعت من علي بن بذيمة إلا حديثين، فمن حدثكم بثلاثة فكذبوه»

(2)

.

وسأذكر الآن عددا من النصوص، تتضمن تطبيقات النقاد في تسخيرهم هذه المعارف لنقد الأحاديث نفسها.

فمن النصوص فيما تقدم ما رواه عبدالله بن أحمد، قال:«حدثني أبو معمر، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: كنت عند سفيان، فحدثه زائدة، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، قال: «هم الشهداء» ، فقال له سفيان: إنك لثقة، وإنك لتحدثنا عن ثقة، وما يقبل قلبي أن هذا من حديث سلمة.

فدعا بكتاب، فكتب: من سفيان بن سعيد، إلى شعبة، وجاء كتاب شعبة:

(1)

«سؤالات الآجري لأبي داود» 1: 218.

(2)

«الكامل» 1: 91، والنص في «المعرفة والتاريخ» 3: 182، بجزئه الأول.

ص: 195

من شعبة، إلى سفيان: إني لم أحدث بهذا عن سلمة، ولكن حدثني عمارة بن أبي حفصة، عن حجر الهجري، عن سعيد بن جبير»

(1)

.

وقال أحمد: «لم يكن جرير الرازي بالذكي في الحديث،

، كان اختلط عليه حديث أشعث، وعاصم الأحول، حتى قدم عليه بهز بن أسد، فقال له: هذا حديث عاصم، وهذا حديث أشعث، فعرفها، فحدث بها الناس»

(2)

.

وقد جاء هذا عن جرير نفسه، قال جرير:«اضطرب علي حديث أشعث، وعاصم، فقلت لبهز بن أسد البصري، فخلصها لي، وكانت في دفتر واحد»

(3)

.

وقال يحيى بن معين: «حدث أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع» ، وقد حدث به شبابة، وأخرجه في كتابه، فلما حدث به أبو داود، قيل له: يا أبا داود، إنما هذا حديث شبابة، فقال أبو داود: دعوه، دعوه»، ثم قال يحيى:«وحديث شبابة ليس يحدث به غيره»

(4)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد قيل له: شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد» ؟ فقال: إنما هو قتادة، عن سعيد، قيل لأحمد: حدث به سويد، عن يزيد بن زريع (يعني عن شعبة)، قال: يزيد

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 454، وانظر:«التاريخ الكبير» 3: 73، و «تفسير ابن جرير» 24:20.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 543.

(3)

«معرفة الرجال» 1: 114.

(4)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 229، وانظر:«الإرشاد» 2: 491، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 44 - 45.

ص: 196

لا يحدث بمثل هذا»

(1)

.

وقال أبو داود أيضا: «قلت لأحمد: حديث سليمان بن حيان، عن ابن عجلان، ويحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: «ألحد للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي بكر، وعمر» ؟ فقال: ليس هذا من حديث يحيى، وابن عجلان»

(2)

.

وسئل أبو حاتم عن حديث رواه عبدالله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا

» الحديث

(3)

، فذكر أن الصواب ما رواه عبدالعزيز الدراوردي، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن صفية بنت أبي عبيد، قالت: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول

ثم قال أبو حاتم: «وكان أحمد بن حنبل يقول: تشبه أحاديث الدراوردي، عن عبيدالله، أحاديث عبدالله بن عمر، وقد بان مصداق ما قال أحمد في هذا الحديث، لأن الدراوردي روى عن أبي بكر بن نافع كما وصفنا، ثم أردف: عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر مثله، وليس يشبه حديث عبيدالله، إذ كان غلطا،

(1)

«مسائل أبي داود» ص 384، ومراد أحمد أن الصواب فيه: عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلا.

(2)

«مسائل أبي داود» ص 411، والحديث -دون ذكر أبي بكر وعمر- معروف من رواية العمري عبدالله بن عمر، عن نافع، رواه عنه وكيع بن الجراح، انظر:«مسند أحمد» 2: 24، 6: 136، و «طبقات ابن سعد» 2: 295، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (1129).

وانظر أمثلة أخرى لأحمد، وابنه عبدالله:«العلل ومعرفة الرجال» (1724 - 1725)، (2738)، (3080 - 3081).

(3)

حديث ابن عمر علقه أيضا ابن حبان في «المجروحين» 2: 7.

ص: 197

والناس يروون عن عبدالله العمري كما وصفنا»

(1)

.

وتأيد ما قاله أبو حاتم بأن يحيى القطان، وعبدالله بن رجاء، روياه عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، وهو أيضا علة لحديث أبي بكر بن نافع في جعله الحديث لعمر بن الخطاب، فالصواب ما رواه عبيدالله بن عمر

(3)

.

وقال أحمد أيضا في أحاديث معقل بن عبيدالله الجزري، عن أبي الزبير:«يشبه حديثه حديث ابن لهيعة» -يعني حديث ابن لهيعة، عن أبي الزبير-.

قال ابن رجب بعد أن ذكر هذا عن أحمد: «ومن أراد حقيقة الوقوف على ذلك فلينظر إلى أحاديثه عن أبي الزبير، فإنه يجدها عند ابن لهيعة، عن أبي الزبير، كما يرويها معقل سواء» ، ثم ذكر أمثلة لهذا

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 269، وروايتا الدراوردي أخرجهما البخاري في «التاريخ الصغير» 2: 59، والطبراني في «الأوسط» حديث (9172)، والضياء في «المختارة» حديث (138)، على الصفة التي ذكر أبو حاتم معطوفتين، وقد تقدم كلام أحمد في قلب الدراوردي أحاديث عبدالله بن عمر، وجعلها عن أخيه عبيدالله بن عمر في «الجرح والتعديل» ص 103.

وقد وقع لعبدالرزاق في روايته عن عبدالله بن عمر، وأخيه عبيدالله بن عمر، مثل ما وقع للدراوردي، ووقع له أيضا أنه روى عن الثوري، عن عبيدالله بن عمر أحاديث هي من رواية أخيه عبدالله بن عمر، انظر:«الكامل» 5: 1948، و «شرح علل الترمذي» 2: 770، 809.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2230)، و «مسند أحمد» 4: 68، و «التاريخ الصغير» 2:59.

(3)

انظر: «التاريخ الصغير» 2: 59، و «شرح علل الترمذي» 2:811.

(4)

«شرح علل الترمذي» 2: 793، 866.

ص: 198

ومما ذكر حديث معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عمر مرفوعا في قصة الرجل الذي توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء

(1)

.

وهذا الحديث ذكره أبو الفضل بن عمار المعروف بالشهيد فيما انتقده على مسلم، وقال:«وهذا الحديث إنما يعرف من حديث ابن لهيعة، عن أبي الزبير، وابن لهيعة لا يحتج به، وهو خطأ عندي، لأن الأعمش رواه عن أبي سفيان، عن جابر، فجعله من قول عمر»

(2)

.

وحديث معقل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عمر مرفوعا، أعله كثير من النقاد بما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن عمر موقوفا

(3)

، وهذا يؤيد قول من قال إن حديث معقل يرجع إلى حديث ابن لهيعة.

وقال الآجري: «سمعت أبا داود يحدث عن وهب بن جرير، عن أبيه، سمع يحيى بن أيوب، عن أبي وهب الجيشاني، قال أبو داود: جرير بن حازم روى هذا عن ابن لهيعة، طلبتها بمصر فما وجدت منها حديثا واحدا عند يحيى بن أيوب، وما فقدت منها حديثا واحدا من حديث ابن لهيعة، أراها صحيفة اشتبهت على وهب بن جرير»

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (243).

(2)

«علل الأحاديث في صحيح مسلم» ص 55، وحديث ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، أخرجه ابن ماجه حديث (666)، وأحمد 1: 21، 23، وأما حديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، فأخرجه ابن أبي شيبة 1:42.

(3)

«مسند البزار» حديث (232)، و «سنن البيهقي» 1: 84، و «النكت الظراف» 8:16.

(4)

«سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 128. وانظر أمثلة أخرى عن النقاد في تعليلهم الأحاديث

بأنها تشبه أحاديث فلان، ولا تشبه أحاديث فلان، أو لا تشبه البلد الفلاني، ونحو ذلك:«شرح علل الترمذي» 2: 861 - 872، فقد ذكر أمثلة، وانظر:«مسائل أبي داود» (1861) ، و «علل ابن أبي حاتم» (1531)، (1868)، (1879)، (2011).

ص: 199

وقال عثمان بن سعيد البرذعي: «شهدت أبا زرعة، وذكر له صالح جزرة رجلا سماه له -أنسيت اسمه-، فقال له صالح: روى عن شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: «أبردوها بماء زمزم» ، فوقع على أبي زرعة الضحك العظيم مما قال، وذاك أن هذا ليس من حديث شعبة، إنما رواه همام

»

(1)

.

وقال البرذعي أيضا: «ذكرت لأبي زرعة، عن مسدد، عن محمد بن حمران، عن سلم بن عبدالرحمن، عن سوادة بن الربيع: «الخيل معقود في نواصيها

»، فقال لي: راوي هذا كان ينبغي لك أن تكبر عليه، ليس هذا من حديث مسدد، كتبت عن مسدد أكثر من سبعة آلاف، وأكثر من ثمانية آلاف، وأكثر من تسعة آلاف، ما سمعته قط ذكر محمد بن حمران.

قلت له: روى هذا الحديث يحيى بن عبدك، عن مسدد، فقال: يحيى صدوق، وليس هذا من حديث مسدد، فكتبت إلى يحيى، فكتب إلي: لا جزى الله الوراق عني خيرا، أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد، في أحاديث مسدد، ولم أميزها منذ عشرين سنة، حتى ورد كتابك، وأنا أرجع عنه، فقرأت كتابه على

(1)

«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 577، وحديث همام أخرجه البخاري حديث (3261)، والنسائي في «السنن الكبرى» حديث (7614)، و «أحمد» 1:291.

ص: 200

أبي زرعة، فقال: هذا كتاب أهل الصدق»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سمعت أبا زرعة يقول: سمعت من بعض المشايخ أحاديث، فسألني رجل من أصحاب الحديث، فأعطيته كتابي، فرد علي الكتاب بعد ستة أشهر، فأنظر في الكتاب فإذا أنه قد غَيَّر في سبعة مواضع، فأخذت الكتاب وصرت إلى عنده، فقلت: ألا تتقي الله، تفعل مثل هذا! ! ، فأوقفته على موضع موضع، وأخبرته، وقلت له: أما هذا الذي غيرت فإنه هذا الذي جعلت عن ابن أبي فديك فإنه عن أبي ضمرة مشهور، وليس هذا من حديث ابن أبي فديك، وأما هذا فإنه كذا وكذا فإنه لا يجيء عن فلان، وإنما هذا كذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفته على كله، ثم قلت له: فإني حفظت جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبت على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى علي مثل هذا

»

(2)

.

وقال أبو زرعة أيضا: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة مرة عن وكيع، عن مسعر، عن عاصم بن عبيدالله، قال: «رأيت سالما توضأ مرة» ، فقلت: إنما هو وكيع، عن سفيان، فقال: لا، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عاصم بن عبيدالله، فقلت: ليس هذا من حديث مسعر، حدثنا أبو نعيم، ومحمد بن كثير، عن سفيان، عن عاصم، ولم يسمع مسعر من عاصم بن عبيدالله شيئا، قال: بلى، مسعر، عن

(1)

«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 579، والحديث أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» 4: 184، والبزار كما في «كشف الأستار» حديث (1688)، عن أبي كامل الجحدري، عن محمد بن حمران به.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 332، وبعدها قصة أخرى مختصرة بنحو هذه القصة.

ص: 201

عاصم، عن الشعبي، فقلت: هذا عاصم -وذكر عاصما آخر- إنما قلت لك: عاصم بن عبيدالله لم يسمع مسعر منه شيئا، فسكت، فلما كان بالعشي قال: قد أصبته، هو كما قلت أنت، حدثنا وكيع، والفضل بن دكين، عن سفيان»

(1)

.

وروى قيس بن الربيع، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان، قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء قبله، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بركة الطعام: الوضوء قبله، والوضوء بعده»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم، فقال: «هذا حديث منكر، لو كان هذا الحديث صحيحا كان حديثا، وأبو هاشم الرماني ليس هو، ويشبه هذا الحديث أحاديث أبي خالد الواسطي عمرو بن خالد، عنده من هذا النحو أحاديث موضوعة عن أبي هاشم، وعن حبيب بن أبي ثابت.

روى عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة، خمسة، ستة، ومن لم يفهم ورأى تلك الأحاديث التي يروي عنه ابن جريج، وحسين المعلم، يظن أن أبا خالد هذا هو الدالاني، والدالاني ثقة، وهذا ذاهب الحديث، ومن يفهم لم يخف عليه هذا»

(3)

.

وقد توارد النقاد على استنكار هذا الحديث وتضعيفه، منهم أحمد،

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 338، وانظر أيضا: 1: 336.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3761)، و «سنن الترمذي» حديث (1846)، و «مسند أحمد» 5:441.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 10.

ص: 202

وابن المديني، وغيرهما، ونص ابن المديني على أن هذا الحديث مما أدخله ابن قيس بن الربيع على أبيه

(1)

.

وروى جماعة عن محمد بن فضيل، عن أبي حيان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي

» الحديث

(2)

.

وأبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي، وهو ثقة.

ذكر أبو حاتم هذا الحديث، ثم قال:«حدثنا علي الطنافسي، وعبدالمؤمن بن علي، عن ابن فضيل هكذا، وأنا أنكر هذا، لأن أبا حيان لم يسمع من عطاء، ولم يرو عنه، وليس هذا الحديث من حديث عطاء» .

قال ابن أبي حاتم: «قلت: من تراه؟ قال: بحديث أبي جناب أشبه»

(3)

.

وأبو جناب هو يحيى بن أبي حية، وهو ضعيف.

وقال ابن أبي حاتم: «سمعنا من محمد بن عزيز الأيلي الجزء السادس من

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3761)، و «سنن الترمذي» حديث (1846)، و «الكامل» 6: 2068، 2069، و «سنن البيهقي» 7: 276، و «تهذيب السنن» 5: 297، وحاشية «علل ابن أبي حاتم» ص 1069، تحقيق سعد الحميد وآخرين.

(2)

«سنن الدارمي» حديث (16)، و «أخبار مكة» حديث (2328)، و «كشف الأستار» حديث (2411)، و «مسند أبي يعلى» حديث (5662)، و «صحيح ابن حبان» حديث (6505)، و «المعجم الكبير» حديث (13582)، و «الغرائب والأفراد» (أطرافه حديث 3128)، و «دلائل النبوة» 6:14.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 392.

ص: 203

مشايخ عقيل، فنظر أبي في كتابي، فأخذ القلم فعلم على أربعة وعشرين حديثا، خمسة عشر حديثا منها متصلة بعضها ببعض، وتسعة أحاديث في آخر الجزء متصلة، فسمعته يقول: ليست هذه الأحاديث من حديث عقيل عن هذه المشيخة، إنما ذلك من حديث محمد بن إسحاق عن هؤلاء المشيخة.

ونظر إلى أحاديث عن عقيل، عن الزهري، وعقيل، عن يحيى بن أبي كثير، وعقيل، عن عمرو بن شعيب، ومكحول، وعقيل، عن أسامة بن زيد الليثي، فقال: هذه الأحاديث كلها من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي، عن نافع، والأوزاعي، عن أسامة بن زيد، والأوزاعي، عن مكحول، وأن عقيلا لم يسمع من هؤلاء المشيخة هذه الأحاديث»

(1)

.

وروى الخليلي من طريق ابن أبي حاتم، قال: «سمعت أبي يقول: دخلت قزوين سنة ثلاث عشرة ومئتين، مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه، فدفع إلينا مَشْرسا فيه مسند أبي بكر، فأول حديث رأيته فيه: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن المغيرة بن سبيع، عن أبي بكر الصديق، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال من أرض يقال لها: خراسان

»، فقلت: ليس هذا من حديث شعبة، عن أبي التياح، وإنما هو من حديث سعيد بن أبي عروبة، وعبدالله بن شوذب، عن أبي التياح.

فقلت لخالي: لا أكتب عنه إلا أن يرجع عن هذا، فقال خالي: أستحي أن

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 352.

ص: 204

أقول، فخرجت ولم أسمع منه شيئا»

(1)

.

وروى أيوب بن سويد، عن أسامة بن زيد، أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث عن سراقة بن مالك، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم، فقال:«روى ابن وهب، عن أسامة بن زيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب -ولم أسمع منه غيره- يقول: «لا ربا إلا فيما يكال ويوزن، مما يؤكل ويشرب» ، فقد أفسد هذا الحديث حديث أيوب، وقد كنت أسمع منذ حين يذكر عن يحيى بن معين أنه سئل عن أيوب بن سويد، فقال:«ليس بشيء» ، وسعيد بن المسيب، عن سراقة، لا يجيء، وهذا حديث موضوع، بابة حديث الواقدي»

(3)

.

(1)

«الإرشاد» 2: 696، وقد ذكر الحكاية مختصرة ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 3: 407، ونقل عن والده قوله في داود:«متروك الحديث، كان يكذب» .

والحديث أخرجه الترمذي حديث (2237)، وابن ماجه حديث (4072)، وأحمد 1: 4، 7، من طريق سعيد بن أبي عروبة به، وأخرجه البزار حديث (46 - 47)، وأبو يعلى حديث (34 - 36)، من طريق عبدالله بن شوذب به.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (5120)، وقال بعده:«أيوب بن سويد ضعيف» .

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 209، وانظر: 2: 231. وقول سعيد بن المسيب في الربا أخرجه يعقوب الفسوي في «المعرفة والتاريخ» 3: 181، عن أحمد بن عمرو أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب به، وقال ابن وهب بعده: «لم يسمع أسامة إلا هذا الحديث وحده من سعيد بن المسيب».

ص: 205

وقد أكثر أبو حاتم من تطبيقات التعليل بكون الإسناد لا يعرف هكذا بتمامه، فهو إسناد مركب، وربما جرى التعبير عن ذلك بنفي السماع، فمن ذلك أيضا قول ابن أبي حاتم:«سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة، عن المطعم بن المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، أن معاوية قال لابن الحنظلية: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .

قال أبي: هذا عندي وهم، رواه أبو إسحاق الفزاري، عن المطعم بن المقدام، عن جَسْر بن الحسن، عن يعلى بن شداد، عن سهل بن الحنظلية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أشبه.

قلت لأبي: فلم لم تحكم للحديث المرسل؟ فقال: المطعم، عن الحسن، ليس له معنى، لم يسمع منه، والحسن البصري، عن سهل بن الحنظلية، لا يجيء، وأبو إسحاق الفزاري أحفظ وأتقن من يحيى بن حمزة»

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 309، ورواية يحيى بن حمزة أخرجها ابن قانع في «معجم الصحابة» 1: 268، والطبراني في «المعجم الكبير» حديث (5623)، و «مسند الشاميين» حديث (914)، وفي بعض الطرق إليه لم يذكر معاوية.

وانظر أمثلة أخرى لأبي حاتم، وأبي زرعة في:«علل ابن أبي حاتم» (56)، (122)، (253)، (379)، (503)، (596)، (711)، (795)، (805)، (839)، (868)، (1078)، (1092)، (1117)، (1284)، (1610)، (1686)، (1714)، (1742)، (1838)، (1868)، (1968)، (2117)، (2345)، (2350).

ص: 206

وروى إبراهيم بن بشار، عن سفيان بن عيينة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبي موسى مرفوعا:«كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»

(1)

.

قال العقيلي: «ليس له أصل، ولم يتابعه عليه أحد عن ابن عيينة، وعند ابن عيينة، عن بريد أربعة أحاديث

، ليس عنده غيرها -أي غير الأربعة-»

(2)

.

وروى العقيلي أيضا من طريق إبراهيم بن صرمة، عن يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:«تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد خمسا وعشرين درجة» .

قال العقيلي: «ليس هذا الحديث بمحفوظ من حديث يحيى بن سعيد، وإنما يعرف من حديث يزيد بن الهاد، عن عبدالله بن خباب، عن أبي سعيد، وهذا الشيخ يحدث عن يحيى بأحاديث ليست بمحفوظة من حديث يحيى، فيها شيء يحفظ من حديث ابن الهاد، وفيها مناكير، وليس ممن يضبط الحديث»

(3)

.

ونقل ابن عدي عن يحيى بن محمد بن صاعد قوله: «انقلبت على إبراهيم بن صرمة نسخة ابن الهاد، فجعلها عن يحيى بن سعيد في الأحاديث كلها»

(4)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (1705).

(2)

«الضعفاء الكبير» 1: 47، وانظر:«التاريخ الكبير» 2: 140، و «سنن الترمذي» حديث (1705).

(3)

«الضعفاء الكبير» 1: 55.

(4)

«الكامل» 1: 252، وحديث يزيد بن الهاد أخرجه البخاري حديث (646)، وأحمد 3: 55، من طريق حيوة بن شريح، وأحمد 3: 55، من طريق عبدالعزيز بن أبي حازم - كلاهما عن يزيد بن الهاد به.

ص: 207

وذكر أبو علي الحافظ تحديث عبدان الأهوازي لهم، عن القطعي، عن محمد بن بكر البرساني، عن ابن عون، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، في رفع اليدين في الصلاة إذا ركع ورفع.

قال الحاكم: «فقلت لأبي علي: ما علة هذا؟ قال: لا أدري، قلت: لعله: ابن جريج، بدل ابن عون، قال: ليس ذا عند البرساني، عن ابن جريج، ثم قال: وعبدان ثبت، وحدثنا به من أصل كتابه»

(1)

.

وروى الخليلي عن أحمد بن عبدالرحمن الشيرازي الحافظ قوله: «سألت عبدالله بن عدي الجرجاني الحافظ، عن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني، فقال: كنا بالبصرة عند زكريا بن يحيى الساجي، فقرأ عليهم إبراهيم حديثين، عن أحمد بن عبدالرحمن -ابن أخي ابن وهب-، عن عمه، عن مالك، عن الزهري، فأصغيت إليه فقلت: هذان الحديثان من حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، لا عن مالك.

فأخذ الساجي كتابه فتأمل، وقال لي: هذا كما قلت، وقال لإبراهيم: ممن أخذت هذا؟ فأحال على بعض أهل البصرة، فقال الساجي: علي بصاحب الشرطة حتى أسود وجه هذا، فكلموه، وتشفعوا، حتى عفا عنه، ثم مَزَّق الكتاب».

ص: 208

(1)

«الإرشاد» 1: 408. وانظر أمثلة أخرى لتعليل النقاد للحديث بأنه ليس من حديث فلان، أو أن فلانا لم يرو عن فلان، أو بذكر عدد ما عند الراوي عن شيخه من الأحاديث، ونحو ذلك في: «مسائل أبي داود» (1861)، (1946)، (2003)، و «العلل ومعرفة الرجال» (2225 - 2227)، و «علل ابن أبي حاتم»، (306)، (1140)، (1233)، (1325)، (1511)، (1610)، (1868)، (1902 - 1903)، (1920)، (2226)، (2569)، (2788)، و «الجرح والتعديل»: 356، و «الضعفاء الكبير» 1: 110، و «التتبع» ص 464 - 465.

ص: 209

‌المبحث الرابع

مجالس التحديث

لمعرفة ما يدور في مجالس التحديث أثره البالغ على الرواة، ومعرفة صوابهم من خطئهم، وهذا لا ينحصر في أمر معين، فمنه ما يتعلق بطريقة الشيخ في التحديث، مثل كونه يحدث من كتاب، أو من حفظه، وكونه قصد الرواية والتحديث، أو أتى بالحديث على سبيل المذاكرة، وكونه يملي على تلاميذه، أو يأبى ذلك، وكونه يقبل بمعارضة ما كتب عنه، أو يمتنع منه، وأيضا كونه يقبل بأن يكتب عنه في المجلس، أو يرفضه، ومنه ما يتعلق بالآخذين عنه، مثل الكتابة في المجلس، أو بعده، ومثل العودة للشيخ لمعارضة ما كتب، وكذلك معرفة من كان يطلب الحديث مع الراوي.

وكذلك ما يقع من حوادث في مجالس التحديث، مما يكون له تأثير على سماع بعض الآخذين عن الشيخ، وذهوله.

والمتأمل في عمل النقاد يرى بوضوح تسخيرهم لهذه المعارف وما في معناها لنقد الأسانيد، وبيان ما فيها من خلل، وبيان أسباب غلط الرواة.

وأول ما يلفت الانتباه في هذه القضية تفريق النقاد بين مجلس التحديث، ومجلس المذاكرة، وكثرة ما نقل عنهم من ضرورة التمييز بينهما، إذ مجلس التحديث قصد به التحديث والرواية، فالشيخ مستعد لذلك، باذل لجهده في أداء ما كان قد تحمله، مدرك لتبعات مجلسه هذا.

ص: 210

وأما مجلس المذاكرة فأغراضه تختلف تماما عن غرض الرواية، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك

(1)

، فيقع التسامح فيه، حتى صار هذا عرفا عندهم، يعيبون به من تشدد في المذاكرة.

وربما أوردوا فيها روايات وأحاديث فإذا طلب منهم بعض من حضر كتابتها أبوا عليه، إما لأن شيخه في هذا الحديث ليس عنده بمنزلة من يستجيز الرواية عنه، وإنما ذكره في المجلس على سبيل المذاكرة

(2)

، أو أن الحديث خطأ، أو لأنه لم يستعد للرواية، وربما ذهب وأحضر كتابه حين يوافق على ما طلب منه ليروي من الكتاب، تفاديا للوقوع في الخطأ.

روى أبو موسى محمد بن المثنى العنزي، قال:«سألت عبدالرحمن -يعني ابن مهدي- عن حديث، وعنده قوم، فساقه، فذهبت أكتبه، فقال: أي شيء تصنع؟ فقلت: أكتبه، فقال: دعه، فإن في نفسي منه شيئا، فقلت: قد جئت به، فقال: لو كنت وحدك لحدثتك به، فكيف أصنع بهؤلاء؟ » .

قال الخطيب بعد أن روى هذا: «كان أبو موسى من الملازمين لعبدالرحمن، فقوله: لو كنت وحدك لحدثتك به، أراد أنه متى بان له أن الحديث على غير ما حدثه به أمكنه استدراكه لإصلاح غلطه، ولا يمكنه ذلك مع الغرباء الذين

(1)

«الجرح والتعديل» ص 63.

(2)

انظر ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 262، وانظر أيضا:«العلل ومعرفة الرجال»

3: 456 فقرة (5931)، و «تهذيب الكمال» 28:553.

ص: 211

حضروا عنده، والله أعلم، وكان عبدالرحمن بن مهدي يُحَرِّج على أصحابه أن يكتبوا عنه في المذاكرة شيئا»

(1)

.

ثم روى الخطيب بإسناده عن عبدالرحمن قوله: «حرام عليكم أن تأخذوا عني في المذاكرة حديثا، لأني إذا ذاكرت تساهلت في الحديث» .

وروى الخطيب أيضا من طريق أحمد بن محمد التستري، عن أبي زرعة الرازي، عن إبراهيم بن موسى، عن عبدالرحمن بن الحكم المروزي، عن نوفل بن المطهر قال: قال لنا عبدالله بن المبارك: «لا تحملوا عني في المذاكرة شيئا» ، قال أبو زرعة: وقال لي إبراهيم: «لا تحملوا عني في المذاكرة شيئا» ، قال أحمد: وقال لي أبو زرعة: «لا تحملوا عني في المذاكرة شيئا»

(2)

.

وقال الجوزجاني: «الحديث حديثان: حديث يراد به الله، يقيم به المرء دينه

، وحديث يراد به المذاكرة، فإذا ذكرته عند أهل العلم لم يقبلوه منك حجة

»

(3)

.

وقال الحاكم: «كان أبو علي النيسابوري لا يسامح في المذاكرة، بل يواجه بالرد في الملأ، فوقع بينه وبين عبدان لذلك»

(4)

.

ص: 212

وقال الذهبي: «إذا قال: حدثنا فلان مذاكرة، دلَّ على وَهْن مّا، إذ المذاكرة يتسمح فيها»

(1)

.

وبسبب التسامح في المذاكرة قال الخطيب: «واستحب لمن حفظ عن بعض شيوخه في المذاكرة شيئا، وأراد روايته، أن يقول: حدثناه في المذاكرة، فقد كان غير واحد من متقدمي العلماء يفعلون ذلك»

(2)

.

والأمر كما ذكر الخطيب، ينبهون على صفة الرواية، وأيضا يتكئون عليها في نقد ما يرونه خطأ.

قال علي بن المديني: «ذاكرني بعض أصحابي بحديث عن ابن أبي ذئب، عن عبدالله بن رافع، وهذا خطأ، وإنما هو عبدالله بن أبي نافع: «أنه صلى خلف أبي هريرة، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها»

(3)

.

وروى أبو كريب محمد بن العلاء، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري، عن

(1)

«الموقظة» ص 64، وانظر نصوصا أخرى في التسمح في المذاكرة في:«علل ابن أبي حاتم» 2: 26، و «المجروحين» 3: 40، و «سير أعلام النبلاء» 14: 564، و «شرح علل الترمذي» 2:647.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 37.

(3)

«سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني» ص 163، وقوله:«وإنما هو عبدالله بن أبي نافع» ، كذا في النسخة، وقد ذكر البخاري في «التاريخ الكبير» 5: 88، «عبدالله بن أبي رافع، سمع أبا هريرة رضي الله عنه قوله، قاله ابن أبي الفديك، عن ابن أبي ذئب» ، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 5: 53، كذلك، وذكر أنه روى عن أبي هريرة، وروى عنه ابن أبي ذئب، ولم يزد على هذا.

ص: 213

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»

(1)

.

وقد استنكر هذا الحديث بهذا الإسناد جماعة، منهم أحمد، والبخاري، وأبو زرعة، قال البخاري:«كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة»

(2)

.

وروى الترمذي، عن الحسن بن علي الخلال، عن يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال:«أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي» ، ثم قال الترمذي:«حدثني الحسن بن علي بهذا أو شبهه في المذاكرة»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن: «في المرأة يكون بعجزها الجرح

»، قال أبي: رواه مسكين، عن شعبة، عن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، بنحوه، قال أبي: حدثنا النفيلي، عن مسكين، قال أبي: وكان يذاكرني»

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2062).

(2)

«سنن الترمذي» 5: 760، و «مسائل أبي داود» ص 376، و «سؤالات البرذعي لأبي زرعة» 2: 581، و «شرح علل الترمذي: 2: 645 - 647.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (666)، وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم حديث (2313)، وأحمد 3: 401، 6: 465، وانظر فيه ما تقدم في «الاتصال والانقطاع» ص 34 - 35.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 18.

ص: 214

وقال البرذعي: «قلت لأبي زرعة: إن جعفر بن أحمد الزنجاني حدثنا عن يحيى بن معين، عن رفدة بن قضاعة، بحديث الأوزاعي في الرفع، فقال: إن هذا يحتاج إلى أن يحبس في السجن، قلت: إنه يقول: حدثنا يحيى، عن رفدة، فقال: لم يسمع يحيى من رفدة شيئا، ولم يسمع من هشام بن عمار شيئا، فكتبت إلى جعفر بذلك، فقال لي: إنما رأيت يحيى يذاكر به ويقول: رواه رفدة، ولا أدري ممن سمعه؟ »

(1)

.

وكذلك مما اهتم به النقاد كثيرا في مجالس التحديث كون الراوي يحدث حفظا، أو يحدث من كتابه، وذلك لما بين الحالين من الفرق المؤثر في احتمال صواب أو خطأ الراوي، كما قال الخطيب:«وينبغي للطالب إذا دَوَّن عن المحدث ما رواه له من حفظه أن يبين ذلك حال تأديته، لتبرأ عهدته من وهم إن كان حصل فيه، فإن الوهم يسرع كثيرا إلى الرواية عن الحفظ»

(2)

.

وقد تقدم في المباحث السابقة أمثلة لنص الرواة على صفة الرواية، ويأتي

(1)

«أسئلة البرذعي لأبي رزعة» 2: 578، و «تاريخ دمشق» 18: 155، وقد وقع في الأول: «

إن أحمد بن جعفر الزنجاني حدثنا عن يحيى بن معين

»، ووقع فيه أيضا:«فكتبت إلى ابن جعفر بذلك» ، والصواب ما في تاريخ دمشق، وجعفر مترجم في «الجرح والتعديل» 2:474.

وحديث رفدة، عن الأوزاعي أخرجه ابن ماجه حديث (861) عن هشام بن عمار، عن رفدة، عن الأوزاعي، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة» ، وانظر:«المجروحين» 1: 304، و «الكامل» 2: 1036، و «تهذيب التهذيب» 3:284.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 41.

ص: 215

كذلك في مواضع أخرى.

ومن ذلك أيضا قول أحمد: «حديث أبي إسحاق، عن سليم بن عبد، عن حذيفة في صلاة الخوف، كان وكيع حدثنا به في الكتب عن شريك، وقال بعد ذلك مرة أخرى: سفيان، عن أبي إسحاق، فلا أدري -يعني سمعه منهما جميعا، أو من أحدهما-»

(1)

.

وروى أحمد، عن وكيع، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء لا ينجسه شيء» ، ثم قال أحمد:«حدثنا به وكيع في «المصنف» عن عكرمة مرسلا، ثم جعله بعد عن ابن عباس»

(2)

.

وروى أحمد أيضا عن عبدالله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو المعافري، عن عمرو بن أبي نعيمة، عن أبي عثمان مسلم بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار

» الحديث، ونص أحمد على أنه سمعه من عبدالله بن يزيد من كتابه

(3)

.

وروى جماعة عن قبيصة بن عقبة، عن فطر بن خليفة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»

(4)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 342.

(2)

«مسند أحمد» 1: 308، ونحوه لإسحاق بن راهويه، انظر:«الأسماء المبهمة» للخطيب حديث (148).

(3)

«مسند أحمد» 2: 321.

(4)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3194)، و «كشف الأستار» حديث (998)، و «سنن البيهقي» 4:266.

ص: 216

ورواه محمود بن غيلان، ومحمد بن يوسف الفريابي، عن قبيصة بن عقبة، عن فطر، عن عطاء مرسلا ليس فيه ابن عباس، ونص محمود بن غيلان على أنه سمعه من قبيصة من كتابه

(1)

.

وأما الجوانب الأخرى مما يقع في مجالس التحديث، مثل حدوث قصة توجب ذهول الراوي، أو معرفة من كان يكتب مع الراوي، ونحو ذلك، فمن أمثلته ما روى علي بن المديني، عن عبدالرحمن بن مهدي، قال:«سألت سفيان عن حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: «لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يسفك دما حراما» ، فأنكر أن يكون عن أبي وائل، وقال: إنما سمعه من عبدالملك بن عمير، أنا ذهبت به إليه»

(2)

.

وروى سفيان الثوري، عن الركين بن الربيع، عن أبي النعمان، عن المغيرة بن شعبة، أنه قال في العنين:«يؤجل سنة»

(3)

.

ورواه شعبة، عن الركين بن الربيع، عن أبي طلق، عن المغيرة بن شعبة

(4)

.

سئل سفيان عن مخالفة شعبة له في شيخ الركين، فضحك وقال: «كنت أنا وشعبة عند الركين، فمر ابن لأبي النعمان يقال له: أبو طلق، فقال الركين:

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3195)، و «سنن البيهقي» 4:266.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 67، 82.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (10724)، و «سنن البيهقي» 7:226.

(4)

«الجعديات» حديث (677)، و «سنن البيهقي» 7:226.

ص: 217

سمعت أبا أبي طلق، فذهب على شعبة (أبا أبي طلق) فقال: أبو طلق»

(1)

.

وروى جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني»

(2)

.

قال حماد بن زيد في نقده لرواية جرير: «كنا عند ثابت، وعنده حجاج بن أبي عثمان، فقال حجاج: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن ابن أبي قتادة، عن أبيه، فذكر الحديث، فظن جرير أنه حدث به ثابت، عن أنس، فرواه»

(3)

.

وروى مندل بن علي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أتى أحدكم أهله فلا يتجردان تجرد العيرين» .

وبلغت هذه الرواية شريك بن عبدالله فأنكرها على مندل، وذكر أنه كان هو ومندل بن علي عند الأعمش، وعنده عاصم الأحول، فحدث عاصم، عن

(1)

«الكامل» 1: 98، و «سنن البيهقي» 7:226.

(2)

«مسند الطيالسي» حديث (2140)، و «مسند عبد بن حميد» حديث (1257)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (4205)، و «المعجم الأوسط» حديث (9387).

(3)

«مسائل أبي داود» ص 385، و «مراسيل أبي داود» حديث (64)، و «العلل ومعرفة الرجال» 2: 83، و «سنن الترمذي» حديث (517)، و «العلل الكبير» 1: 277، و «الكامل» 2: 551، و «علل الدارقطني» 12: 22، والحديث مشهور جدا عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، في «الصحيحين» وغيرهما، وذكر ابن عدي أن خطأ جرير في روايته له عن ثابت، عن أنس، وأن ثابتا يرويه عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، كذا ذكر ابن عدي، وحكاية حماد بن زيد التي اعتمد عليها النقاد -ومنهم ابن عدي- تدل على أنه لا مدخل لثابت في رواية هذا الحديث أصلا، والله أعلم.

ص: 218

أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وفي رواية عن شريك أنه قال: أنا أخبرت الأعمش بهذا عن عاصم، عن أبي قلابة

(1)

.

وقد روى الحديث أيضا أبو معاوية، وسفيان بن عيينة، وغيرهما، عن عاصم، عن أبي قلابة مرسلا

(2)

.

وقال عبيدالله بن عائشة العيشي: «قال شعبة لأبي عوانة: كتابك صالح، وحفظك لا يسوى شيئا، مع من طلبت الحديث؟ قال: مع منذر الصيرفي، قال: منذر صنع بك هذا»

(3)

.

وروى قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الجمع بين الصلاتين تقديما.

ورواية قتيبة استنكرها جماعة من النقاد، منهم البخاري، وأبو داود، وأبو حاتم، والترمذي، وابن يونس، والحاكم، وغيرهم، قال البخاري: «قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد، حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني، -قال البخاري-: وكان خالد

(1)

«مسند البزار» حديث (1701)، و «الضعفاء الكبير» 4: 266، و «المعجم الكبير» حديث (10443)، و «الكامل» 5: 2448، و «تاريخ بغداد» 13:248.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 4: 402، و «علل الدارقطني» 5:109.

(3)

«تاريخ بغداد» 13: 464، و «المحدث الفاصل» ص 400، واستظهر ابن حجر أن منذرا الصيرفي هو منذر بن زياد الطائي، وهو متروك الحديث، رموه بالكذب والوضع، انظر:«لسان الميزان» 6: 89.

ص: 219

المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ»

(1)

.

وذكر أبو حاتم أن الصواب ما رواه أبو صالح كاتب الليث بن سعد، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل بهذا الحديث، وقد رواه أيضا غير أبي صالح، عن الليث، ورواه كذلك، حماد بن خالد، عن هشام بن سعد بألفاظ مختلفة

(2)

.

وإذ رجع الحديث إلى طريق أبي الزبير، فهشام بن سعد قد خالف الجماعة من أصحاب أبي الزبير، وفيهم الثوري، ومالك، وزهير بن معاوية، إذ رووه عن أبي الزبير، فذكروا الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ولم يذكروا التقديم

(3)

.

وروى فضيل بن حسين أبو كامل الجحدري، عن محمد بن جعفر غندر،

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1220)، و «سنن الترمذي» حديث (554)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 91، و «علل الدارقطني» 6: 42، و «معرفة علوم الحديث» ص 119 - 121، و «سنن البيهقي» 3: 163، و «تاريخ بغداد» 12: 465 - 467، و «تهذيب الكمال» 23: 535، و «سير أعلام النبلاء» 12: 427 - 428.

وخالد المدائني هو أبو الهيثم خالد بن القاسم المدائني، متروك الحديث، صحب الليث بن سعد، وكان يقلب حديثه ويزيد فيه، انظر ترجمته في «لسان الميزان» 2:383.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1208)، و «مسند أحمد» 5: 233، و «المعجم الكبير» 20: 58 حديث (103)، و «سنن الدارقطني» 1: 392، و «سنن البيهقي» 3:162.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (706)، وبعد الحديث (2281)، و «سنن النسائي» حديث (586)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1070)، و «مسند أحمد» 5: 228، 230، 236، 237، و «المعجم الكبير» 20: 58 - 59 حديث (104)، (106 - 107).

ص: 220

عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الأذنان من الرأس» ، قال ابن عدي بعد أن أخرجه:«من حديث غندر ليس بالمحفوظ» ، ثم روى بإسناده عن أبي كامل قوله:«لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث الواحد، أفادنيه عنه عبدالله بن سلمة الأفطس»

(1)

.

وعبدالله هذا متروك الحديث، ولذا قال ابن حجر:«والأفطس ضعيف جدا، فلعله أدخله على أبي كامل»

(2)

.

والمعروف عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الأذنان من الرأس»

(3)

.

وروى ثابت بن موسى العابد، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»

(4)

.

قال محمد بن عبدالله بن نمير وقد ذكر له الحديث: «باطل، شُبِّه على ثابت، وذلك أن شريكا كان مزاحا، وكان ثابت رجلا صالحا، فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك وكان شريك يقول: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت فرأى ثابتا، فقال يمازحه: «من كثرت صلاته

(1)

«الكامل» 3: 992، 4:1513.

(2)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 1: 412.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (23)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 17، و «تفسير ابن جرير» 6: 118، و «سنن الدارقطني» 1:99.

(4)

«سنن ابن ماجه» حديث (1333).

ص: 221

بالليل، حسن وجهه بالنهار»، فظن ثابت -لغفلته- أن هذا الكلام الذي قال شريك هو متن الإسناد الذي قرأه، فحمله على ذلك، وإنما ذلك قول شريك، والإسناد الذي قرأه متنه معروف»

(1)

.

ونقل سعيد بن عمرو البرذعي عن محمد بن يحيى الذهلي تعظيمه لأبي زرعة الرازي، وثناءه عليه، إلى أن قال سعيد:«ثم جعل يعظم على جلسائه خطر ما حكى له من علة حديث ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك» ، وكنت حكيت له عن أبي زرعة أن محمد بن إسحاق اصطحب مع معاوية بن يحيى الصدفي من العراق إلى الري، فسمع منه هذا الحديث في طريقه، وقال (يعني محمد بن يحيى): لم أستفد منذ دهر علما أوقع عندي ولا آثر من هذه الكلمة، ولو فهمتم عظيم خطرها لاستحليتموه كما استحليته

»

(2)

.

(1)

«الكامل» 2: 526، و «تهذيب الكمال» 4: 379، وانظر:«علل ابن أبي حاتم» 1: 74، و «أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 503، و «المجروحين» 1:207.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 330، وقد ذكر نحو كلام أبي زرعة الدارقطني في «العلل» 14: 92، قال: «ويقال إن محمد بن إسحاق أخذه من معاوية يحيى الصدفي

»، والحديث أخرجه أحمد 6: 272، من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق قال: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة، وأخرجه البزار (كشف الأستارحديث 501)، وأبويعلى حديث (4738)، وابن عدي 6: 2395، والدارقطني في «العلل» 14: 92، من طرق عن معاوية بن يحيى، عن الزهري، وانظر:«صحيح ابن خزيمة» (137)، و «سنن البيهقي» 1: 38، و «المنار المنيف» 19 - 22.

ص: 222

‌المبحث الخامس

الباحث والنقد في عصر الرواية

في المباحث الأربعة السابقة عرضت صورة لحال نقد المرويات في عصر الرواية، مقتصرا على ما لدى الناقد في ذلك الوقت من وسائل خاصة بعصر الرواية، إما لأنها ذهبت مع الرواة أنفسهم، مثل مناقشة الراوي، وسؤاله، والنظر في كتب الرواة، وما يدور في مجالس التحديث، وإما لأن تطبيق الوسيلة يحتاج إلى حفظ واسع للأسانيد، وخبرة بأحوال الرواة، ومقدرة نقدية عالية، وذلك يتعلق بتمييز أحاديث الرواة.

وأود التنبيه هنا إلى أن ما ذكرته ليس على سبيل الحصر، وإنما اقتصرت على أشهرها وأكثرها استخداما، وهناك أشياء يرجح بها النقاد وهي من الوسائل الخاصة بهم، مثل ترجيح صواب الرواية، لأن حال الراوي تمنع أن يخطئ هذا الخطأ الفادح، لو قيل بخطأ الرواية، كما في قول أبي حاتم مصوبا رواية للثوري ذهب بعض النقاد -كأبي زرعة وغيره- إلى خطأ الثوري فيها:«محال أن يغلط بين هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإنما أكثر ما يغلط الناس إذا كان حديثا واحدا من اسم شيخ إلى شيخ آخر، فأما مثل هؤلاء فلا أرى يخفى على الثوري»

(1)

.

والمتتبع للنقد في عصر الرواية لن يعدم وقوفه على أشياء أخر يرجح بها الناقد، وليس بمقدورنا استخدامها بإطلاق.

ص: 223

وغرضي من شرح هذه الوسائل وإبرازها يمكن إجماله في عدة أمور:

‌الأمر الأول: معرفة هذه الوسائل بمثابة التوطئة والتمهيد للدخول في الأبواب اللاحقة

، وما فيها من قضايا تتعلق بممارسة الباحث للنقد، والقواعد التي يسير عليها في ذلك، ولهذا السبب سأحيل على فصلنا هذا في عدد من المناسبات ليس بالقليل.

الأمر الثاني: ظهر من عرض هذه الوسائل أنها خاصة بالنقد في عصر الرواية، بوجود الرواة، وكتبهم، ومجالسهم، ووجود النقاد بينهم، وعلى هذا فمن غير الممكن بالنسبة للباحث المتأخر أن يمارس النقد بواسطتها، وهذا ظاهر جدا في مناقشة الرواة، والنظر في كتبهم، وحضور مجالس التحديث، فمن غير الممكن بالنسبة للباحث أن يقول مثلا: سألت فلانا، أو لقيت فلانا، أو كنت في مجلس فلان، أو نظرت في كتاب فلان، وكذلك الحال بالنسبة لتمييز أحاديث الرواة، فليس بالإمكان أن يقول الباحث إن فلانا لم يرو عن فلان، أو أن عدد أحاديث فلان عن فلان كذا، أو أن أحاديث فلان عن فلان تشبه أحاديثه عن فلان.

وأخطر ما يكون محاولة التشبه بالنقاد من بعض الباحثين، فبعض الباحثين إذا رأى -مثلا- رواية عن عبدالرزاق خارج «المصنف» من رواية أحمد في «المسند» ، أو من رواية محمود بن غيلان عند الترمذي في «السنن» ، تخالف ما في «المصنف» ، رجح ما في «المصنف» ، باعتباره كتابا لعبدالرزاق، ومثله ابن أبي شيبة في «المصنف» ، مع ما يوجد من روايات عنه خارج «المصنف» ، مثل «صحيح مسلم» ، و «سنن ابن ماجه» ، وغيرهما.

ص: 224

وهذا مزلق خطير، فمصنف الراوي الذي كتبه وألفه لعامة الناس سبقه كتابات للراوي أصح من هذا «المصنف» ، فقبله أصوله العتيقة، ونسخه التي يحدث منها، وقد تقدم أنها أصح بسبب ما يقع للراوي أثناء تحويل الحديث منها إلى مؤلف له من وهم أو سبق نظر ونحو ذلك، بالإضافة إلى أن وضع الحديث في مؤلف قصد به إفادة عامة الناس، مصنف على الموضوعات، قد يتطلب من المؤلف أن يتصرف في الإسناد أو المتن، فيختصرهما، أو يروي الحديث بالمعنى، ونحو ذلك.

والرواة -في الغالب- سمعوا من الراوي إما من أصوله العتيقة، أو من فرع عنها، التي هي النسخة، وعليه فسماع أحمد -مثلا- من عبدالرزاق، أقرب إلى الصواب من رواية عبدالرزاق التي في «المصنف» ، وهكذا يقال في رواية عبدالرزاق في «المصنف» مع رواية محمود بن غيلان عند الترمذي.

ثم ههنا أمر آخر، وهو أن بعض مصنفات الأئمة أملاها من حفظه، فمرجعها إلى الحفظ إذن، وليس إلى كتاب، مثل «مسند الطيالسي» ، هو مجالس مما أملاه أبو داود الطيالسي في زيارته لأصبهان، وقد أملى تلك المجالس من حفظه، وكذلك «مسند البزار» ، أملاه البزار بمصر من حفظه، ومثله «علل الدارقطني» ، كان يسأل عن الحديث فيجيب من حفظه.

وليس معنى ذلك ترجيح ما هو خارج «المصنف» على ما يوجد في «المصنف» دائما، ذلك أن رواية الترمذي هي أيضا قد وضعها الترمذي في مصنف له، الذي هو «السنن» ، فقد يكون الخلل أتى من جهة المصنف الجديد،

ص: 225

حيث أراد التحويل من أصوله، أو من نسخه، إلى مصنفه هو.

والخلاصة أن قضية استفادة الباحث من النظر في كتب الرواة استقلالا أراه مزلة قدم، مع أن هذا الموطن -فيما أرى- يحتاج إلى مزيد بحث وتحرير.

ويشبه ما تقدم أن بعض الباحثين حين نظره في إسناد وقع فيه تفرد، أو وقع فيه اختلاف على راو من الرواة، يرجح أحد الوجهين بكون الوجه الآخر إسناده غريب، فاحتمال خطأ راويه أقرب، ويعتمد الباحث في ذلك على مطالعته في «تحفة الأشراف» ، فيقول -مثلا-: وهذا الإسناد غريب، لم يخرج بواسطته في الكتب الستة شيئا، ورأيت بعض الباحثين يكثر من هذا.

وفي رأيي أن في هذا الصنيع شيئا من الجرأة، فالحكم بأن هذا الإسناد غريب، أو أنه مركب، أو أن رواية فلان عن فلان لا تجيء، إنما هو خاص بالنقاد، وإلا فما يدرينا أن رواية المطعم بن المقدام، عن الحسن البصري، ليس لها معنى، وأن رواية الحسن، عن سهل بن الحنظلية، لا تجيء؟ أرجح أنه لو وقف بعض المتأخرين على مثل هذا لذهب يقيم الدليل على ثبوت السماع.

ويتأكد هذا إذا عرفنا أن غرابة الإسناد ووعورته ربما تكون دليلا على ترجيح رواية من أتى بهذا الإسناد، كما سيأتي في الفصل الثاني من الباب الثالث، فبين الموطنين تشابه شديد.

الأمر الثالث: إذا قيل إن هذه الوسائل خاصة بأئمة النقد فالمقصود أنهم يختصون بتطبيقها استقلالا، وأما من تأخر عنهم فليس بمقدوره هذا، غير أنه

ص: 226

يشاركهم تطبيقها من جهة قبولها والاحتفاء بها، والتسليم لهم فيما ورد عنهم من هذا القبيل، واعتماده في جملة ما يعتمده الباحث من وسائل أخرى للنظر في الحديث، فإذا قال الناقد: هو في كتاب فلان على صفة كذا، أو قال: سألت عنه فلانا فقال كذا، اعتمد الباحث هذا، وضمه إلى ما لديه من دلائل أخرى في الحديث.

وكذلك البناء على أقوالهم ونصوصهم في هذا الشأن، مما يمكن البناء عليه، فإذا نص الراوي على أنه لم يسمع من فلان إلا حديثا واحدا، أو حديثين -مثلا-، أو جاء ذلك عن غير الراوي ممن هو في عصر الرواية، فبإمكان الباحث الاستفادة من هذا حين يقف على حديث يزيد على ما نص عليه، فيعله بذلك، أو يرجح غيره عليه، إن كان قد خولف فيه راويه، ويشبه هذا ما تقدم في التدليس، في الحكم بانقطاع ما هذا شأنه

(1)

.

ومثله ما إذا أطلق الناقد كلمة في عموم أحاديث راو عن آخر، وأنها تشبه أحاديثه عن فلان، فبإمكان الباحث أن يطبق هذا على أعيان الأحاديث، ويدرج نص هذا الناقد في جملة ما ينظر فيه من دلائل.

وأما ما يسلكه بعض الأئمة المتأخرين، وكذلك يكثر منه بعض الباحثين، من إعادة النظر فيما ورد عن النقاد في عصر الرواية، ومناقشته، ورفضه أحيانا، وربما التشديد في العبارة على أئمة النقد، فكل هذا خلاف المنهج العلمي الصحيح، فهو إهمال لجهود عظيمة قام بها أولئك النقاد، مع ما فيه من قصور

(1)

انظر: «الاتصال والانقطاع» ص 235.

ص: 227

في تصور المنهج الذي تنقد بواسطته المرويات.

وأمثلة ما ذكرته كثيرة جدا، لا يمكن حصرها، فمن ذلك حديث قتيبة بن سعيد الماضي في المبحث الرابع، وقول البخاري لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب؟ فأجاب قتيبة بأنه كتبه مع خالد المدائني، فذكر البخاري أنه يدخل الأحاديث على الشيوخ.

تكلم على هذا الحديث جماعة من الأئمة المتأخرين، والمشايخ المعاصرين، فرفضوا هذا النقد، وصححوا الحديث، وغاية ما أجابوا به أن قتيبة ثقة مأمون.

والبخاري يعلم علم اليقين أن قتيبة ثقة مأمون، لكنه يعلم أيضا أن هذا الحديث الذي رواه بذلك الإسناد، باللفظ المذكور، منكر جدا لا يصح، وقد قامت قرائن أخرى -ذكرتها هناك- على هذا، فاستنكار البخاري للحديث ليس مبنيا على سؤاله وجواب قتيبة، وإنما هو يبحث عن سبب وقوع قتيبة في رواية هذا المنكر، فوجده في جواب قتيبة.

وقصة البخاري مع قتيبة بن سعيد وردت بعدة ألفاظ، أسوق الآن أحد ألفاظها، ومنه يتضح مستند البخاري في إنكاره الحديث، وسؤاله لقتيبة بن سعيد، وفيها أيضا إقرار قتيبة للبخاري، ورجوعه إلى رأيه، قال محمد بن يوسف الفربري: «سأل أبو عبدالله (يعني البخاري) أبا رجاء -يعني قتيبة- إخراج أحاديث ابن عيينة، فقال: منذ كتبتها ما عرضتها على أحد، فإن احتسبت ونظرت فيها، وعلمت على الخطأ منها - فعلت، وإلا لم أحدث بها، لأني لا آمن

ص: 228

أن يكون فيها بعض الخطأ، وذلك أن الزحام كان كثيرا، وكان الناس يعارضون كتبهم، فيصحح بعضهم من بعض، وتركت كتابي كما هو، فسر البخاري بذلك، وقال: وفقت.

ثم أخذ يختلف إليه كل يوم صلاة الغداة، فينظر فيه إلى وقت خروجه إلى المجلس، ويعلم على الخطأ منه، فسمعت البخاري ردَّ على أبي رجاء يوما حديثا، فقال: يا أبا عبدالله، هذا مما كتب عني أهل بغداد، وعليه علامة يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، فلا أقدر أغيره، فقال له أبو عبدالله: إنما كتب أولئك عنك لأنك كنت مجتازا، وأنا قد كتبت هذا عن عِدَّة على ما أقول لك، كتبته عن يحيى بن بكير، وابن أبي مريم، وكاتب الليث، عن الليث، فرجع أبو رجاء، وفهم قوله، وخضع له»

(1)

.

وقضية إدخال الحديث على الشيخ قضية مشهورة جدا في باب الرواية، غير مستغربة، وهي تؤثر على الراوي في درجته إذا كثر إدخال الأحاديث عليه، ولم يتنبه، أو نبه على ذلك ولكنه أصر ولم يرجع عنها، كما تقدم شرح ذلك

(2)

.

ومما يلاحظ في هذا المقام أن الرواة أنفسهم، مع ثقتهم وحفظهم، يقرون بوقوع ذلك منهم، فهذا عبدالله بن مسلمة القعنبي، أحد الحفاظ الثقات، ومن أشهر وأقوى من روى عن مالك «الموطأ» ، وقع له مثل هذا، لكنه تداركه، وقصة

(1)

«سير أعلام النبلاء» 12: 427.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 53 - 61، 69 - 76.

ص: 229

ذلك ذكرها أبو زرعة، قال البرذعي وقد ذكر عددا من الأحاديث يرويها جعفر بن عبدالواحد الهاشمي، فبين أبو زرعة أنها موضوعة لا أصل لها: «ثم قال أبو زرعة: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد كنت أرى جعفرا هذا، وأشتهي أن أكلمه، لما كان عليه من السكينة والوقار، ونسبه في العنقاء، رجل تصلح له الخلافة، من ولد العباس، يرجع إلى حفظ وفقه، قد خرج إلى مثل هذا! ! نسأل الله الستر والعافية.

ثم قال لي: ما أخوفني أن تكون دعوة الشيخ الصالح أدركته، قلت: أي شيخ؟ قال: القعنبي، بلغني أنه دعا عليه، فقال: اللهم افضحه، لا أحسب ما بلي به إلا بدعوة الشيخ، قلت: كيف دعا عليه؟ قال: بلغني أنه أدخل عليه حديثا -أحسبه عن ثابت، جعله عن أنس- فلما فارقه رجع الشيخ إلى أصله فلم يجده، فاتهمه، فدعا عليه»

(1)

.

و‌

‌قضية إدخال حديث أو أكثر على راو قد يلجأ الناقد إليها لتبرئة ذلك الراوي من عهدة النكارة فيما يرويه

، فهي إذن -في بعض صورها- دفاع عن الرواة، وقد تقدم مثله في رمي بعض الرواة بالتدليس

(2)

، ومن لم يدرك هذا قلب المراد، فأبى إلا أن يتحمل ذلك الراوي العهدة، وصار عمله جناية على الراوي من حيث أراد الدفاع عنه.

(1)

«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 570 - 575، و «تاريخ بغداد» 7: 173 - 174، والحديث المشار إليه أورده ابن أبي حاتم في «العلل» 2: 193، المسألة (2074)، ونقل عن أبيه القصة.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 212 - 214.

ص: 230

ومن أمثلة ذلك -وفيه أيضا النقد بكتاب الراوي- قول ابن عدي: «حدثنا أحمد بن الحسين الصوفي، ثنا محمد بن سهل بن عسكر أبو بكر البخاري، حدثنا عبدالرزاق بن همام، قال: سألت مالك بن أنس عن المواقيت، فقال: «وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق» ، قال: قلت: عمن يا أبا عبدالله؟ قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

سمعت ابن صاعد يقول: قرأ علينا ابن عسكر كتاب «المناسك» عن عبدالرزاق فليس فيه هذا الحديث، فذكره ابن صاعد مرسلا عن إسحاق بن راهويه، عن عبدالرزاق، وهذا الحديث يعرف بابن راهويه، عن عبدالرزاق

وحكى ابن صاعد أن هذا الحديث ليس عند ابن عسكر، عن عبدالرزاق، وكان الصوفي لا بأس به، ولكن قال لي عبدان الأهوازي: إن البغداديين يلقنون المشايخ، ويرفعون أحاديث موقوفة، ويصلون أحاديث مراسيل، ويلقنون الشيوخ

، فلا آمن أن يكون هذا الحديث الذي حدثناه الصوفي، عن ابن عسكر، من تلك الأحاديث، لأن ابن صاعد قد نفى أن يكون هذا الحديث عند ابن عسكر»

(1)

.

وذكر أحد المشايخ حديث سفيان بن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة،

(1)

«الكامل» 5: 1950، وانظر أمثلة أخرى في:«علل ابن أبي حاتم» (1160)، (1410)، (1627)، (1775)، (1822)، (2074)، (2346)، (2352)، (2564)، و «الجرح والتعديل» 3: 355، 5: 87، و «أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 1: 417، و «المجروحين» 2: 40، و «تاريخ بغداد» 14: 35، و «تاريخ دمشق» 56: 335، و «ميزان الاعتدال» 1: 152، 4: 282، 3:656.

ص: 231

في تخليل اللحية، الماضي في المبحث الثاني، وتعليل أبي حاتم له بأنه ليس في مصنفات ابن أبي عروبة، فرد الشيخ هذا بأنها علة غير قادحة، وصحح الإسناد، مع أن أبا حاتم قد ذكر علتين أخريين، إحداهما تفرد سفيان بالحديث عن سعيد، وسفيان ليس من أصحاب سعيد المعروفين، والثانية أنه لم يصرح بالتحديث عن سعيد، وهو معروف بالتدليس، فنقد أبي حاتم إذن من عالي النقد وجليله.

وذكر الشيخ أيضا حديث جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس مرفوعا:«إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» الماضي في المبحث الرابع، وقد أطبق النقاد على تعليله، وأنه لا يصح بهذا الإسناد، ويذكرون في نقده قول حماد بن زيد إنهم كانوا في مجلس ثابت، فحدث حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، بهذا الحديث، فظن جرير أنه سمعه من ثابت، عن أنس، فحدث به هكذا، ثم قال الشيخ في رد كلام النقاد:«حفظه إياه عن ثابت، عن أنس، لا ينفيه أن يرويه حجاج الصواف، من حديث أبي قتادة» .

كذا قال الشيخ، وقصة حماد بن زيد ليست هي الدليل الوحيد على خطأ جرير، ولو كانت هي الدليل الوحيد لكان كافيا، فقد انضم إليها تفرد جرير به عن ثابت، وجرير متكلم في حفظه، وفي روايته عن ثابت خاصة، والحديث معروف من حديث أبي قتادة، فهو من حديث أنس منكر جدا، ولهذا ضرب أبو الوليد الطيالسي على هذا الحديث

(1)

.

ص: 232

ومر أحد المشايخ بالحديث الماضي في المبحث الثاني، وهو ما رواه مجاهد بن موسى، عن محمد بن عبيد، عن مسعر، عن يزيد الفقير، عن جابر، قال: «أتت النبي صلى الله عليه وسلم بواكي

» الحديث، وقول أحمد في نقده: «أعطانا محمد بن عبيد كتابه عن مسعر، فنسخناه، فلم يكن هذا الحديث فيه، ليس هذا بشيء

»، فقال الشيخ:«إسناده صحيح بظاهره، وتعليل الإمام أنه ليس في كتاب محمد بن عبيد، عن مسعر، لا يوجب -فيما يظهر لنا- تضعيف الرواية، فإن الثقة قد يروي الحديث عن حفظه، وهو ضابط له، ولم يدخله في كتابه لسبب من الأسباب، منها تأخر سماعه عن باقي مسموعات الشيخ» .

كذا قال الشيخ، وهو كلام لا معنى له أبدا، وأحمد لم يكتف بهذا، بل ذكر أنه سمعه من يعلى بن عبيد أخي محمد، عن مسعر، عن يزيد الفقير، مرسلا، فهذا دليل آخر غير كون الحديث ليس في كتاب محمد بن عبيد.

وذكر أبو الفضل بن عمار الشهيد في الأحاديث التي انتقدها وهي في «صحيح مسلم» ما رواه يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يجوع أهل بيت عندهم التمر»

(1)

، وبهذا الإسناد حديث:«نعم الإدام الخل»

(2)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2046)، و «سنن أبي داود» حديث (3831)، و «سنن الترمذي» حديث (1820)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3327).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1621)، و «سنن الترمذي» حديث (1845)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3316).

ص: 233

ثم روى بإسناده عن أحمد بن صالح المصري الحافظ قوله بعد أن رواهما عن يحيى بن حسان: «نظرت في كتب سليمان بن بلال، فلم أجد لهذين الحديثين أصلا، وحدثني ابن أبي أويس، قال: حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام، عن رجل من الأنصار: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل قوما: ما إدامكم؟ قالوا: الخل، قال: نعم الإدام الخل»

(1)

.

عقب أحد الباحثين على كلام أحمد بن صالح ونظره في كتاب سليمان بن بلال بقوله: «فكان ماذا؟ فسليمان بن بلال ثقة، كبير القدر، كثير الحديث، فأن يكون عنده من الحديث ما هو من محفوظه دون أن يكون مكتوبا، فهذا لا يمكن رده في علم الرواية» .

كذا قال الباحث، يُدَرِّس -بلا خجل- أئمة النقد أصول النقد، وأحمد بن صالح ثار الشك عنده في الحديثين بتفرد سليمان بن بلال بهما من بين أصحاب هشام على كثرتهم، ثم بعدم وجودهما في كتب سليمان بن بلال، وهذا أحد أصول النقد، والباحث لم يكن عنده به علم، ثم أكد أحمد بن صالح شكه برواية ابن أبي الزناد، عن هشام، فترجح وجود الخطأ

(2)

.

وذكر أبو الفضل بن عمار الشهيد أيضا أن مسلما روى عن القواريري، عن أبي بكر الحنفي، عن عاصم بن محمد العمري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري،

(1)

«علل الأحاديث في صحيح مسلم» ص 109.

(2)

وانظر ما يأتي في الفصل الأول من الباب الثاني، فقد استنكرهما أيضا جمع من النقاد.

ص: 234

عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله عز وجل: أبتلي عبدي المؤمن، فإن لم يشكني إلى عواده أطلقته من أسار علته، ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، ثم ليأتنف العمل»

(1)

.

قال أبو الفضل في نقده: «هذا حديث منكر، وإنما رواه عاصم بن محمد، عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه، وعبدالله بن سعيد شديد الضعف، قال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحدا أضعف من عبدالله بن سعيد.

ورواه معاذ بن معاذ، عن عاصم بن محمد، عن عبدالله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهو حديث يشبه أحاديث عبدالله بن سعيد»

(2)

.

ذكر أحد المشايخ المعاصرين كلام أبي الفضل بن عمار ونقله من «شرح علل الترمذي» لابن رجب

(3)

، ثم اعترضه بقوله:«معاذ بن معاذ هو العنبري، وأبو بكر -واسمه عبدالكبير بن عبدالمجيد- كلاهما ثقة محتج به في «الصحيحين» ، فلا أرى استنكار هذا برواية ذاك بدون حجة ظاهرة، سوى دعوى أن حديثه

(1)

كذا ذكره أبو الفضل بن عمار عن «صحيح مسلم» ، لكن الحديث غير موجود في النسخ المشهورة من «صحيح مسلم» ، ولم يذكره أصحاب الأطراف، انظر:«النكت الظراف» 10: 301، فيحتمل أن يكون في بعض الروايات عن مسلم، ويكون مسلم قد حذفه لما تبين له علته، والحديث أخرجه الحاكم 1: 349، والبيهقي 3: 375، من طريق علي بن المديني، عن أبي بكر الحنفي به.

(2)

«علل الأحاديث في صحيح مسلم» ص 117.

(3)

«شرح علل الترمذي» 2: 868.

ص: 235

يشبه أحاديث عبدالله بن سعيد الواهي، فإن هذه المشابهة إن كانت كافية لإقناع من كان من النقاد الحذاق فليس ذلك بالذي يكفي لإقناع الآخرين الذين قنعوا بصدق الراوي وحفظه وضبطه، ثم لم يشعروا بذلك الشبه، أو شعروا به ولكن لم يروا من الصواب في شيء جعله علة قادحة يستنكر الحديث من أجلها، ويسلم للقادح بها، مع مخالفته لقاعدة أخرى هي أهم وأقوى من القاعدة التي بنى ابن رجب عليها رد هذا الحديث، وهي أن زيادة الثقة مقبولة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وما المانع أن يكون الحديث قد رواه عن أبي سعيد المقبري كل من ولديه: سعيد الثقة، وعبدالله الضعيف، وأن عاصما أخذ الحديث عنهما كليهما، فكان تارة يرويه عن سعيد فحفظه عنه أبو بكر الحنفي، وتارة عن عبدالله فحفظه معاذ بن معاذ؟ لا يوجد قطعا ما يمنع من القول بهذا، بل هو أمر لا بد منه

» الخ.

كذا قال الشيخ، وهو كلام غير محكم أبدا، وبمثله هزلت الدراسات الحديثية المعاصرة جدا إلا ما شاء ربك، وطرد مثل هذا الكلام معناه بسذاجة متناهية إلغاء جميع العلل التي أعل بها المحدثون أحاديث الثقات، فإن التجويز العقلي لا حدود له، وقول الشيخ إن كلام أبي الفضل بن عمار لا يكفي لإقناع الآخرين غير النقاد الحذاق - لا أدري من المراد بالآخرين، وإذا أقنع النقاد الحذاق فما الحاجة إلى إقناع غيرهم؟ .

ثم إن قوله إن أبا الفضل بنى استنكاره على أن الحديث يشبه أحاديث عبدالله بن سعيد الواهي - فيه قصور، فأبو الفضل ارتكز أولا على رواية معاذ

ص: 236

بن معاذ، وهو الحافظ الثقة الثبت جدا، فلا يقاربه ولا يدانيه أبو بكر الحنفي، ثم عضد أبو الفضل رواية معاذ بن معاذ بأن متن الحديث يشبه أحاديث عبدالله.

وتأيدت رواية معاذ بن معاذ بأن الحديث معروف عن عبدالله بن سعيد من غير طريق عاصم بن محمد، فقد رواه عنه أيضا محمد بن فضيل، وعبدالرحمن بن أبي الجون

(1)

.

وأيضا فقول الشيخ: «وما المانع أن يكون الحديث قد رواه عن أبي سعيد المقبري كل من ولديه: سعيد الثقة، وعبدالله الضعيف

» - لم يحرر جيدا، فإن عبدالله بن سعيد ليس هو ولد أبي سعيد المقبري، وإنما هو ولد ابنه سعيد، فرواية أبي بكر الحنفي، عن عاصم بن محمد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه أبي سعيد، عن أبي هريرة، ورواية معاذ بن معاذ، عن عاصم بن محمد، عن عبدالله بن سعيد، عن أبيه سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فعلى ما ذكره الشيخ من الاحتمال يكون عاصم بن محمد قد سمع الحديث من سعيد بن أبي سعيد الثقة الجليل، عن أبيه أبي سعيد، عن أبي هريرة، فحدث به كذلك لأبي بكر الحنفي، وسمعه من ابنه عبدالله بن سعيد الضعيف جدا، عن أبيه، عن أبي هريرة، فحدث به كذلك لمعاذ بن معاذ، دون أن يبين له أنه عنده أيضا عن والده سعيد، عن والده أبي سعيد، عن أبي هريرة، فجمع لمعاذ بن معاذ بين النزول في الطبقة، وبين الضعف الشديد للشيخ، فهل يعقل مثل هذا الكلام؟ .

(1)

«المرض والكفارات» حديث (78)، (215)، و «الموضوعات» 3:199.

ص: 237

والحديث له علة أخرى، فقد رواه أبو صخر حميد بن زياد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة موقوفا عليه

(1)

.

ورب قائل يقول: وجدنا في عدة نصوص توقف النقاد في قبول التعليل بهذه الأمور المذكورة، مثل إنكار الراوي ما حدث به عنه، ونظر الناقد في كتاب الراوي، وكون فلان لم يرو عن فلان، ونحو ذلك.

فمن النصوص في هذا أن يحيى بن سعيد القطان ذكر له حديث أبي عوانة، عن منصور، عن إبراهيم النخعي، في المرأة الموسرة تريد أن تحج فيمنعها زوجها، قال:«تحج مع ذي محرم من أهلها، ولا تطيعه» ، قيل ليحيى: إن هذا لم يوجد في كتابه، فقال يحيى:«إن أبا عوانة كان مأمونا»

(2)

.

وروى ابن جريج عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل

» الحديث

(3)

.

وروى إسماعيل بن علية، عن ابن جريج قوله: «فلقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه

»

(4)

.

(1)

«سنن البيهقي» 3: 375.

(2)

«تاريخ بغداد» 13: 461.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2083)، و «سنن الترمذي» حديث (1102)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5394)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1879)، و «مسند أحمد» 6:47.

(4)

«مسند أحمد» 6: 47.

ص: 238

وقد رد رواية ابن علية هذه جماعة من النقاد، فقال أحمد وقد سئل عنها:«كتب ابن جريج مدونة، فيها أحاديثه، من حدث عنهم: ثم لقيت عطاء، ثم لقيت فلانا، فلو كان محفوظا عنه لكان هذا في كتبه ومراجعاته»

(1)

.

وقال ابن معين: «ليس يقول هذا إلا ابن علية، وابن علية عرض كتب ابن جريج على عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، فأصلحها له»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سمعت أبي يقول: سألت يحيى بن معين، وقلت له: حدثنا أحمد بن حنبل بحديث إسحاق الأزرق، عن شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أبردوا بالظهر» ، وذكرته للحسن بن شاذان الواسطي، فحدثنا به، وحدثنا أيضا عن إسحاق، عن شريك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله، قال يحيى: ليس له أصل، إنما نظرت في كتاب إسحاق، فليس فيه هذا.

قلت لأبي: فما قولك في حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أنكره يحيى؟ قال: هو عندي صحيح، وحدثنا

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 408. وعن أحمد رواية أخرى أنه اعتمد على إنكار الزهري له في تضعيف هذا الحديث، قال حرب في «مسائله» ص 463: «قيل لأحمد: سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام: «أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل»، قال: هذا لا يصح، لأن الزهري سئل عنه فأنكره، وعائشة زوجت حفصة بنت عبدالرحمن -بنت أخيها-، والحديث عنها، فهذا لا يصح».

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 3: 86، و «سنن الترمذي» حديث (1102)، و «سنن البيهقي» 7:106.

ص: 239

أحمد بن حنبل رحمه الله بالحديثين جميعا عن إسحاق الأزرق.

قلت لأبي: فما بال يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده؟ قال: كيف! نظر في كتابه كله! ، إنما نظر في بعض، وربما كان في موضع آخر»

(1)

.

وروى أبو داود الحفري، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مسلم البطين، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تغير وجهه، ثم قال: نحوا من ذا، أو قريبا من ذا

(2)

.

وقيل عن سفيان الثوري، عن إبراهيم بن أبي حفصة، عن مسلم البطين به

(3)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة عن هذا الحديث، فأجاب أبو زرعة بأن الصحيح الوجه الثاني، وأنه قد رواه جماعة عن الثوري، ثم قال ابن أبي حاتم: «ثم ذاكرت به أبي، فقال: الصحيح عندي: عن إبراهيم بن مهاجر، ولا أعلم روى الثوري عن إبراهيم بن أبي حفصة إلا حديثا واحدا، عن سعيد بن جبير،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 136، وحديث المغيرة أخرجه ابن ماجه حديث (680)، وأحمد 4: 250، وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» 8: 243، و «التاريخ الصغير» 1:234.

وانظر مثالا آخر لأبي حاتم في «علل ابن أبي حاتم» (2208).

(2)

«مسند أحمد» 1: 387، و «المعجم الكبير» حديث (8618)، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 1:297.

(3)

«موضح أوهام الجمع والتفريق» 1: 297، و «تاريخ دمشق» 33: 163، من طريق قبيصة بن عقبة، عن الثوري.

ص: 240

قال: «الخال يعطى من الزكاة» .

وقال أبو زرعة: ولا أعلم روى إبراهيم بن مهاجر، عن مسلم البطين شيئا.

فذكرت ذلك لأبي، فقال: هذا مما روى عنه، ولا أعلم إبراهيم بن أبي حفصة روى عن مسلم البطين

»

(1)

.

والجواب عن هذه النصوص وأمثالها سهل جدا، ذلك أن الاعتراض على دليل معين، لا يعني رفض الأصل الذي يندرج تحته هذا الدليل، وإلا لم يبق أصل يستدل به، فالسنة النبوية -مثلا- الأصل الثاني في التشريع بعد كتاب الله تعالى، ولو استدل مستدل بحديث، ثم اعترض عليه بأن الحديث لا يثبت، أو ليس فيه دلالة، لم يكن في هذا الاعتراض من قائله ذهاب إلى عدم الاستدلال بهذا الأصل كله، وهذا ظاهر جدا.

والاعتراض على أفراد الأدلة متضمن عند التأمل للإقرار بالأصل الذي تنتمي إليه، فالنصوص المذكورة تحمل في طياتها تأكيدا للأصول التي استخدمها النقاد في نقدهم للأحاديث، التي مضى الحديث عنها في المباحث الأربعة السابقة، فاعتراض أحمد على حكاية ابن علية، عن ابن جريج، متضمن لقبول أحمد بأن الراوي إذا أنكر ما نسب إليه ونفاه فذلك موجب للتوقف في روايته، لكن أحمد

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 245، وقد نقل الخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» 1: 298، عن الحفاظ من أهل العلم بالحديث أن الصواب رواية قبيصة، وأن رواية أبي داود الحفري وهم، وهذا يوافق اختيار أبي زرعة.

ص: 241

اعترض على ثبوت ذلك عن ابن جريج، فأعل الحكاية بتفرد ابن علية بها، وبأنها غير موجودة في كتب ابن جريج، ومثله يقال في كلام ابن معين.

ونلحظ في جواب أحمد أمرا آخر، وهو استناده في تضعيف الحكاية إلى كونها غير موجودة في كتب ابن جريج، وهذا أحد الأصول التي سبق الحديث عنها.

وكذلك الحال في قول أبي حاتم في رده على إنكار ابن معين لحديث إسحاق الأزرق، ففي جواب أبي حاتم اعتماده أصل أن الحديث يتوقف فيه إذا لم يكن في كتاب الراوي، وإنما اعترض باحتمال أن يكون ابن معين نظر في بعض الكتاب، ولم يتمعنه جيدا، فكأن أبا حاتم يقول: لو تأكدت أن الحديث ليس في كتاب إسحاق لكان هناك كلام آخر.

ومن نافلة القول التنبيه إلى أن الوسيلة التي يستخدمها الناقد في نقده ليست بمعزل عن الوسائل الأخرى، فمناقشة الناقد للراوي، أو نظره في كتابه، أو معرفة الناقد بأحاديث الراوي، أو معرفته بشيء ما حدث في مجلس التحديث، هي وسائل مضمومة عند الناقد إلى وسائل أخر، سيأتي الحديث عنها في الأبواب اللاحقة، فربما تتعاضد الوسائل، وتقود إلى أمر واحد، فتتضح الصورة للناقد، وربما تتعارض الوسائل، فيحتاج إلى مزيد نظر وتأمل، بل ربما يتعارض تطبيق الوسيلة الواحدة، فيزداد الأمر غموضا، كما تقدم آنفا في حوار أبي حاتم، وأبي زرعة، ويأتي أيضا مزيد شرح وتوضيح لتعارض الوسائل في الأبواب اللاحقة.

ص: 242

والنقد مهما بلغت قوته هو عرضة للنقد أيضا، فعلمهم ومنهجهم الذي ساروا عليه يلزمهم بهذا، وقد التزموه، فرأينا سموا في الغاية، ونبلا في الهدف، وصدورا رحبة لتقبل النقد في الرواية، وتقبله أيضا حين يوجه للنقد نفسه.

وقد تقدم مثل هذا في «الجرح والتعديل»

(1)

، وهو يجري في كافة مسائل النقد، ولا غضاضة فيه، بل هو مفخرة لهم، ولمن سار على طريقتهم.

وأما الذي يحذر منه فهو رفض أصول النقاد التي اعتمدوها في النقد، ومقابلتها بمجرد كلام خطابي، مثل التهويل في خطورة تغليط الثقات، فهذه المطية قد ركبها عامة المتأخرين إلا من شاء الله، ومن تأمل هذا الخطاب لا ينقضي عجبه منه، فالثقة -كما تقدم- يقر على نفسه بالغلط، ويتراجع، ويخاف من مخالفة الآخرين له، وهؤلاء يأبون عليه ذلك، ثم إن كونه ثقة إنما أخذناه من كلام النقاد، وهم أيضا الذين نأخذ منهم أنه أخطأ في ذلك الحديث، والوسائل التي قادتهم إلى كونه ثقة، هي نفسها الوسائل التي قادتهم إلى تخطئته في الحديث المعين، والله أعلم.

* * *

(1)

«الجرح والتعديل» ص 205 - 212.

ص: 243

‌الباب الثاني

التفرد وأحكامه

وفيه: مدخل، وأربعة فصول:

الفصل الأول: موقف أئمة النقد من التفرد.

الفصل الثاني: ضوابط النظر في التفرد.

الفصل الثالث: موقف المتأخرين من التفرد.

الفصل الرابع: التفرد وكلام أئمة النقد.

ص: 245

‌مدخل:

مر بنا في الفصل الأول من الباب الأول أن الأحاديث تختلف في عدد طرقها، فربما وقف الباحث على طريق آخر يصله بأول راو عنده في إسناده الأصل، أو أكثر من طريق، وكذلك في الراوي الثاني، والثالث، إلى صحابي الحديث، وقد يتخلف ذلك كله أو بعضه، فقد لا يقف على طريق آخر مطلقا، وقد يقف على طريق يصله بالراوي الأول فقط، أو بأحد الرواة فوقه، على ما تم شرحه هناك.

وأي راو من رواة الإسناد الأصل لا يوقف على من يتابعه في الرواية عن شيخه يقال عنه إنه تفرد برواية هذا الحديث عنه، فإن لم يوقف على متابع لشيخه، أو من فوقه حتى الصحابي، فهذا هو الذي يعرف عند أهل الحديث ب‌

‌التفرد المطلق، أو الغرابة المطلقة

، بمعنى أن الحديث ليس له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا الطريق، وإن وقف على متابع لشيخه، أو من فوقه حتى الصحابي، فهذا هو التفرد النسبي، أو الغرابة النسبية، ومعناه أن الراوي قد تفرد بالرواية عن شيخه، لكن الحديث له طريق آخر يلتقي بشيخ الشيخ، أو بمن فوقه، ومحل شرح هذا وتوضيحه في كتب مصطلح الحديث

(1)

.

وقضية التفرد قضية ضخمة جدا في باب نقد المرويات، ابتدأ الاهتمام بها

(1)

انظر: «سنن الترمذي» 5: 758 - 763، و «مقدمة ابن الصلاح» ص 192، و «شرح علل الترمذي» 2: 625 - 652، و «فتح المغيث» 1: 253 - 257.

ص: 247

وتطبيقها -كغيرها من قواعد النقد الكبار- في وقت مبكر جدا في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، بعيد وفاته صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وبعد تطور النقد وظهوره كفن مستقل يمكن القول إنها -مع ما يتصل بها من مسائل- أهم قضية في باب النقد، فهي أسه الأكبر، يستطيع الناظر أن يرى هذا بسهولة، وهو يقرأ في كتب النقد، سواء منها ما كان أصلا مخصصا لنقد الراوي، مثل كتب الرجال، أو لنقد المروي، مثل كتب العلل، أو ما كان شاملا لذلك كله مثل كتب السؤالات، بل ما كان مخصصا لجمع المرويات، مثل كتب الجوامع، وكتب السنن، وغيرها.

وسيجد اهتمام النقاد الأولين بها متمثلا في جوانب متعددة، منها كثرة المصطلحات التي عبروا بها عن التفرد، مثل (الغرابة)، (التفرد)، (النكارة)، (الطرافة)، (الحسن)، (الفائدة)، (ضيق المخرج).

وكثرة المؤلفات في الأسانيد التي وقع فيها تفرد، وضخامة بعضها، سواء بإطلاق، أو عن راو معين، أو تفرد جهة معينة بالحديث.

ونصهم على التفرد في الحديث المعين بعد تخريجه، مثل ما يفعله الترمذي في «سننه» ، والبخاري في «تاريخه الكبير» ، والطبراني في معجميه «الأوسط» و «الصغير» ، وابن عدي في «كامله» ، وأبو نعيم الأصبهاني في «الحلية» ، و «ذكر أخبار أصبهان» ، وأبو الشيخ الأصبهاني في «طبقات المحدثين بأصبهان» ، وغيرهم كثير.

ص: 248

ونصهم عن تفرد الراوي، إما بإطلاق، أو عن شيخ معين له، وعدهم أحيانا لعدد ما يرويه متفردا به، سواء كان ذلك في سياق مدح الراوي، أو في سياق جرحه -وهو الأكثر-

(1)

.

ثم قضية التفرد لها متعلقات متعددة بالنسبة لنقد المرويات، فمن جهة لها أثرها الكبير في الوصول إلى درجة الراوي نفسه، وقد تقدم شرح هذا في «الجرح والتعديل»

(2)

.

ولها تعلق بمسألة المخالفة، إذ قد يتفرد الراوي برواية عن شيخه، ويشاركه غيره في الرواية عن الشيخ، ولكن يخالفه في صفتها، وهذه سيأتي الحديث عنها مفصلا في الباب الثالث (الاختلاف).

ولها تعلق بقضية الاعتضاد -والشد بالطرق- أي متى يمكن للباحث أن يعضد الإسناد الذي وقع فيه تفرد إذا وقف له على متابع؟ ومتى يمكن له أن يعضد به إسنادا آخر؟ وكذلك المعارضة، إذ ربما يجتمع مع التفرد في الإسناد، أن يعارض أصلا آخر، وسيأتي الحديث عن هذا الموضوع بشقيه في الباب الرابع (الاعتضاد والمعارضة).

وللتفرد أثره الكبير على الإسناد نفسه موضع الدراسة والحكم، وهذا هو الذي سأتحدث عنه هنا في هذا الباب، وذلك في أربعة فصول.

(1)

تحدثت عن جوانب اهتمام النقاد بالتفرد بشيء من التفصيل في «شرح نزهة النظر» ، ص 143 - 151.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 86 - 90.

ص: 249

‌الفصل الأول

موقف أئمة النقد من التفرد

ص: 251

من يطالع كتب أئمة النقد، سواء منها ما خصص لنقد المرويات، ككتب العلل، أو ما خصص للرواة أنفسهم، مثل كتب التواريخ، والضعفاء، أو كان مشتركا، مثل السؤالات، وكذلك كتب الرواية نفسها، يرى بوضوح أن موقف أئمة النقد من تفرد الراوي بالحديث يسير في اتجاهين بارزين.

فأما الاتجاه الأول: فهو توقفهم في تفرد الراوي، ورد الحديث وتضعيفه بهذا التفرد.

ويمكن أن يلحظ هذا في كثرة ما ورد عنهم من كلمات في التحذير من الغرائب، وما يتفرد به الرواة، فلهم في ذلك كلمات مشهورة متداولة، منها قول علي بن الحسين:«ليس من العلم ما لا يعرف، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن»

(1)

.

وقال يزيد بن أبي حبيب: «إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف فخذه، وإلا فدعه»

(2)

.

وقال مالك: «شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس»

(3)

.

وقال أبو يوسف: «من طلب غرائب الحديث كذب»

(4)

.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 621.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 19.

(3)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 100.

(4)

«الكامل» 1: 53، و «المحدث الفاصل» ص 562، و «الكفاية» ص 142.

ص: 253

وقال ابن المبارك: «العلم هو الذي يجيئك من ههنا، ومن ههنا -يعني المشهور-»

(1)

.

وقال عبدالرحمن بن مهدي: «لا يكون الرجل إماما من يسمع من كل أحد، ولا يكون إماما في الحديث من يحدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما في الحديث من يتبع شواذ الحديث، والحفظ هو الإتقان»

(2)

.

وقال خالد بن الحارث: «جاءني يحيى الأصفر، فقال: أخرج إلي كتاب الأشعث لعلي أجد فيه شيئا غريبا، فقلت: لو كان فيه شيء غريب لمحوته»

(3)

.

وقال أحمد ينعى على بعض طلبة الحديث: «تركوا الحديث، وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم»

(4)

.

وقال أيضا: «لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء»

(5)

.

وقال أحمد أيضا: «إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب، أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة، وسفيان، فإذا

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 621.

(2)

«الجرح والتعديل» 2: 35.

(3)

«المحدث الفاصل» ص 564.

(4)

«الكفاية» ص 142.

(5)

«الكامل» 1: 53.

ص: 254

سمعتهم يقولون: هذا لا شيء، فاعلم أنه حديث صحيح»

(1)

.

ومراده أن اهتمام طلبة الحديث والرواية في وقته انصب على تتبع ما فيه غرابة، والبحث عنه، لعدم شهرته، فالمحدث إذا سمعه طلب منه فيما بعد، حين يتصدى للرواية، لقلة من يرويه، أما المشهور فهو عند كل أحد، فلا يأبهون به، وهذا معنى قوله:«فإذا سمعتهم يقولون: هذا لا شيء، فاعلم أنه صحيح» .

وقال أبو داود في وصف أحاديث كتابه «السنن» : «والأحاديث التي وضعتها في كتاب «السنن» أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك، ويحيى بن سعيد، والثقات من أهل العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبا شاذا، فأما الحديث المشهور المتصل فليس يقدر أن يرده عليك أحد»

(2)

.

وقال الخطيب البغدادي شارحا حال بعض طلبة الحديث في زمانه أيضا: «أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا،

ص: 255

والثابت مصدوفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضيين»

(1)

.

ونقل ابن رجب، عن البرديجي قوله في سياق ما إذا انفرد شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائي، بحديث عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين، عن الصحابة، ولا يعرف ذلك الحديث -وهو متن الحديث- إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكرا» ، ثم قال البرديجي:«فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ، مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي - ننظر في الحديث، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس بن مالك، من وجه آخر، لم يدفع، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك، كان منكرا» .

وقال أيضا: «إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثا لا يصاب إلا عند الرجل الواحد - لم يضره أن لا يرويه غيره، إذا كان متن الحديث معروفا، ولا يكون منكرا، ولا معلولا»

(2)

.

(1)

«الكفاية» ص 141. وانظر كلمات أخر للأئمة في التحذير من الغرائب: «المحدث الفاصل» ص 561 - 565، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 100 - 101، 159 - 160، و «الكفاية» ص 141 - 142، و «أدب الإملاء والاستملاء» ص 57 - 59.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 653 - 654، وانظر:«التعديل والتجريح» للباجي 1: 302.

ص: 256

وتكلم الحاكم على الحديث الشاذ فقال: «هو غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راو، أو أرسله واحد فوصله واهم، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة»

(1)

.

وذكر الخليلي تعريف الشافعي وجماعة من أهل الحجاز للشاذ بأنه ما يرويه الثقات على لفظ واحد، ويرويه ثقة خلافه زائدا، أو ناقصا، ثم قال:«والذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ: ما ليس له إلا إسناد، يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه، ولا يحتج به»

(2)

.

فهذه النصوص يستفاد منها أن النقاد يضعفون الحديث ويستنكرونه بتفرد الراوي إذا كان ضعيفا، ولا إشكال في ذلك، ولكنهم أيضا قد يضعفون ويستنكرون ما يتفرد به الثقات ومن في حكمهم أو يتوقفون فيه، وربما احتاج الناقد منهم لإذهاب ما في نفسه من تفرد الراوي أن يحلفه على السماع، مع أنه ثقة متثبت، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم:«سمعت أبي وذكر حديث عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته» ، قال شعبة: استحلفت عبدالله بن دينار: هل سمعتها (كذا) من ابن عمر؟ فحلف لي، قال أبي: كان شعبة بصيرا بالحديث جدا، فهما فيه، كان إنما حلفه لأنه كان ينكر هذا

(1)

«معرفة علوم الحديث» ص 119.

(2)

«الإرشاد» 1: 176.

ص: 257

الحديث، حكم من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه أحد، لم يرو عن ابن عمر أحد سواه علمنا»

(1)

.

وكان شعبة لذلك يعد هذا الحديث مع ثلاثة أحاديث أخر رأس ماله

(2)

.

وهذا المعنى المتقدم -وهو أن الثقة ومن في حكمه قد يستنكر عليه بعض ما يتفرد به- هو المراد بقولهم في تعريف الحديث الصحيح، والحسن:«ألا يكون شاذا» ، فالشذوذ هنا هو التفرد وخطأ الراوي.

ومن فسر الشذوذ بأنه تفرد الراوي مع المخالفة، كما اشتهر ذلك في كتب المصطلح المتأخرة، وقع في إشكال، إذ التفرد بهذا المعنى داخل في المعلل، وهو أيضا مذكور في التعريف، ولا يصح الاقتصار على ذكر المعلل، لأن هذا يخرج الرد بالتفرد مع عدم المخالفة، كما هو منهج النقاد، وإن كانوا يستخدمون في الأغلب مصطلح النكارة في كلامهم على الأحاديث بأعيانها بدل الشذوذ.

هذا ما يتعلق بكلامهم النظري، فإذا جئنا إلى تطبيق منهجهم هذا على أفراد الأحاديث، وجدنا كما هائلا من الأحاديث التي نصوا على نكارتها وضعفها مما يتفرد به الضعفاء والمتروكون، إما حديث واحد يوردونه وينصون عليه، أو جملة أحاديث، كنسخة يرويها عن شيخ له، ونحو ذلك، ولا أجدني بحاجة إلى ضرب الأمثلة على هذا.

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 170، وانظر: 1: 163، 164، و «المعرفة والتاريخ» 2:703.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 1: 25، وانظر:«الكامل» 1: 83، 89، 2:738.

ص: 258

وأما استنكارهم لأحاديث يتفرد بها الثقة ومن في حكمه فهو أيضا ليس بالقليل، بل هو كثير جدا، خاصة فيمن ينزل عن رتبة الثقة قليلا، وإن لم يكن في حجم وضخامة النوع الأول، وهو أمر بدهي، إذ لو كان بحجمه لما كان هؤلاء الرواة ثقات، فكثرة المناكير في حديث الراوي مسقط له.

ومن الأمثلة على استنكارهم ما يتفرد به الثقة ومن في حكمه ما رواه عبدالله بن أحمد قال: «قال أبي: قال أبو خيثمة: أنكر يحيى بن سعيد، ومعاذ، حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم محرما صائما» ، قال أبي: أنكراه على الأنصاري محمد بن عبدالله»

(1)

.

ونقل نحو هذا عن أحمد أيضا مهنا بن يحيى، قال:«سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم» ، فقال: ليس بصحيح، وقد أنكره يحيى بن سعيد [على] الأنصاري»

(2)

.

ونقل الأثرم عن أحمد سبب خطأ الأنصاري، قال: «سمعت أبا عبدالله ذكر الحديث الذي رواه الأنصاري، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، عن ابن عباس

، فضعفه، وقال: كانت ذهبت للأنصاري كتب، فكان بعد يحدث من كتب غلامه أبي حكيم -أراه-، قال: فكأن هذا من تلك»

(3)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 28.

(2)

«مجموع فتاوى ابن تيمية» 25: 252، وما بين المعكوفين زيادة لا بد منها.

(3)

«تاريخ بغداد» 5: 410.

ص: 259

واستنكره أيضا علي بن المديني، قال يعقوب بن سفيان: «سئل علي بن المديني عن حديث الأنصاري

، قال: ليس من ذاك شيء، إنما أراد حديث حبيب، عن ميمون، عن يزيد بن الأصم:«تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرما» ، »

(1)

.

وكذا استنكره النسائي، فقال بعد أن أخرجه:«هذا حديث منكر، لا أعلم أحدا رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة»

»

(2)

.

وروى حفص بن غياث، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال:«كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام»

(3)

.

استنكره جماعة من النقاد، قال الأثرم: «قلت له -يعني لأبي عبدالله أحمد بن حنبل- الحديث الذي يرويه حفص

، فقال: ما أدري ما ذاك -كالمنكر له- ما سمعت هذا إلا من ابن أبي شيبة، عن حفص، قال لي أبو عبدالله: ما سمعته

(1)

«المعرفة والتاريخ» 3: 7، و «تاريخ بغداد» 5: 410، وقوله:«تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرما» كذا ورد في جواب ابن المديني، والمشهور بهذا الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وقد قيل فيه عن يزيد، عن ميمونة نفسها، انظر:«صحيح مسلم» حديث (1410)، و «سنن أبي داود» حديث (1843)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3232)، (4505)، و «مسند أحمد» 6:331.

(2)

«السنن الكبرى» ، حديث (3231)، والحديث أخرجه أيضا الترمذي حديث (776)، وأحمد 1: 315، غير أنه عند الترمذي:«احتجم وهو صائم» ، وعند أحمد:«احتجم وهو محرم» .

(3)

«سنن الترمذي» حديث (1880)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3301)، و «مسند أحمد» 2: 108، و «مصنف ابن أبي شيبة» 8: 205، و «شرح معاني الآثار» 4: 273، و «صحيح ابن حبان» حديث (5322)، (5325)، و «تاريخ بغداد» 8:195.

ص: 260

من غير ابن أبي شيبة؟ قلت له: ما أعلم أني سمعته من غيره، وما أدري رواه غيره أم لا، ثم سمعته أنا بعد من غير واحد عن حفص، قال أبو عبدالله: أما أنا فلم أسمعه إلا منه، ثم قال: إنما هو حديث يزيد بن عطارد»

(1)

.

وقال ابن معين: «لم يحدث به أحد إلا حفص، وما أراه إلا وهم فيه، وأراه سمع حديث عمران بن حدير، فغلط بهذا»

(2)

.

وقال ابن المديني: «نعس حفص نَعْسَة -يعني حين روى حديث عبيدالله بن عمر- وإنما هو حديث أبي البزري» ، قال أبو داود بعد أن روى هذا:«كان حفص بأخرة دخله نسيان، وكان يحفظ»

(3)

.

ونقل الترمذي عن البخاري قوله فيه: «هذا حديث فيه نظر» ، ثم قال الترمذي:«لا يعرف عن عبيدالله إلا من وجه رواية حفص، وإنما يعرف من حديث عمران بن حدير، عن أبي البزري، عن ابن عمر، وأبو البزري اسمه يزيد بن عطارد»

(4)

.

وقال أبو زرعة حين سئل عنه معللا له: «رواه حفص وحده»

(5)

.

وقال أبو حاتم: «إنما هو حفص، عن محمد بن عبيدالله العرزمي، وهذا

(1)

«تاريخ بغداد» 8: 195.

(2)

«تاريخ بغداد» 8: 195.

(3)

«سؤالات الآجري لأبي داود» 1: 337.

(4)

«العلل الكبير» 2: 792.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 10، و «تاريخ بغداد» 8:195.

ص: 261

حديث لا أصل له بهذا الإسناد»

(1)

.

فتلخص من كلام النقاد أن حفصا غلط حين روى هذا المتن عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وإنما يروى هذا المتن من طريق عمران بن حدير، عن يزيد بن عطارد أبي البزري السدوسي، عن ابن عمر

(2)

، وأشار أبو حاتم إلى أنه عند حفص بإسناد آخر، فهو عنده عن محمد بن عبيدالله العرزمي، وهو يروي عن نافع، لكنه متروك الحديث، فلعل حفصا لما حدث به من حفظه أبدله بعبيدالله بن عمر.

وروى شبابة بن سَوَّار، عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت»

(3)

.

واستنكره على شبابة جماعة من النقاد، وأن شعبة إنما روى بهذا الإسناد حديث:«الحج عرفة»

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 9.

(2)

أخرجه أحمد 2: 12، 24، 29، والطيالسي حديث (1904)، وابن أبي شيبة 8: 205، والدارمي حديث (2131)، وابن الجارود حديث (867)، وابن حبان حديث (5243).

(3)

«سنن الترمذي» 5: 761، و «سنن النسائي» حديث (5644)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3404)، و «تاريخ بغداد» 9:296.

(4)

أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» حديث (4180)، وأحمد 4: 309، 310، والطيالسي حديث (309)، (1310)، والدارمي حديث (1887)، والبخاري في «التاريخ الكبير» 5: 243، والطحاوي 2: 209، وفي «شرح مشكل الآثار» حديث (3369)، والدارقطني 2: 240، والحاكم 2: 278، والبيهقي 5: 173، من طرق كثيرة عن شعبة.

وأخرجه أبو داود حديث (1949)، والترمذي حديث (889 - 890)، (2975)، والنسائي حديث (3016)، (3044)، وفي «الكبرى» حديث (4012)، (4050)، وابن ماجه عقب حديث (3015)، وأحمد 4: 309، 335، من طريق سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء.

ص: 262

هذا مع أن شبابة أحد المكثرين عن شعبة، وقد روى عنه مع الجماعة حديث الحج، ولهذا دافع عنه ابن المديني بأن من سمع من رجل ألفا، وألفين، لا ينكر منه أن يجيء بحديث غريب

(1)

.

وروى سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«نعم الإدام الخل» ، و «بيت لا تمر فيه جياع أهله» .

سئل عنهما أبو حاتم فقال: «هذا حديث منكر بهذا الإسناد»

(2)

.

وقال ابن رجب: «ذكرنا أن كثيرا من الحفاظ استنكروه (يعني الحديث الأول) على سليمان بن بلال، منهم أحمد، وأبو حاتم، وأحمد بن صالح، وغيرهم، وكذلك قال جماعة منهم في حديث: «بيت لا تمر فيه جياع أهله» ، بهذا الإسناد»

(3)

.

وقال المروذي: «وذكرت له (يعني لأحمد) حديث الحسين الجعفي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر: «أسلم سالمها الله» ، فأنكره إنكارا شديدا، وقال: هذا عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، انظر الوهم من قبل من هو؟ »

(4)

.

وقال الميموني: «سمعته (يعني أحمد) وذكر عبدالوارث، فقال: كان أسن

(1)

«الكامل» 4: 1365، و «تاريخ بغداد» 9:297.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 293.

(3)

«شرح علل الترمذي» 2: 651، والحديث الأول له علة تقدم ذكرها في المبحث الخامس من الفصل الرابع، من الباب الأول، حيث ذكرت هناك كلام أحمد بن صالح على الحديثين.

(4)

«علل المروذي» ص 148.

ص: 264

من إسماعيل بن علية بسنتين، وقد سمع من غير واحد لم يسمع منه إسماعيل، ثم ذكر ضبط عبدالوارث، وأنه كان صاحب نحو، ثم قال: وقد غلط في غير شيء، ثم قال: روى عن أيوب أحاديث لم يروها أحد من أصحابه -وهو عنده مع هذا ثبت ضابط-»

(1)

.

وقال أبو زرعة الدمشقي: «سألت أحمد بن حنبل عن حديث أنس بن مالك: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وعبدالله بن رواحة آخذ بغرزه

»، قال: لو قلت إنه باطل، ورده ردا شديدا»، ثم رواه أبو زرعة، عن أحمد بن شبويه، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس

(2)

.

وقال الآجري: «سألت أبا داود عن حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف قبل القراءة هنية، فيسأل الله من فضله» - قال: منكر جدا، من رواه؟ قلت: حدثونا بهذا من حديث الوليد بن مسلم، قال: كل منكر يجيء عن الوليد بن مسلم إذا حدث عن الغرباء، يخطئ، قال: وحدث عن حماد بن سلمة، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:«نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}» قال: هذا باطل، ما جاء به إلا الوليد بن مسلم

»

(3)

.

وروى أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن عاصم بن أبي النجود، عن

(1)

«علل المروذي» ص 222.

(2)

«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 455.

(3)

«سؤالات الآجري» 2: 187، وفيه حديثان آخران مما استنكره أبو داود على الوليد بن مسلم.

ص: 265

أبي وائل، عن حذيفة قال: قال عمر: «أيكم يحفظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة

» الحديث.

استنكره أبو زرعة، وأبو حاتم، على أبي داود الطيالسي، فلا يعرف من حديث شعبة، وإنما يعرف من حديث حماد بن سلمة، عن عاصم، وممن رواه عنه أبو داود الطيالسي

(1)

.

وقال أبو زرعة: «كنت سمعت رجاء الحافظ حين قدم علينا فحدثنا عن علي بن المديني، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا» ، فأنكرته، ولم أكن دخلت البصرة بعد، فلما التقيت مع علي سألته، فقال: من حدث بهذا عني مجنون، ما حدثت بهذا قط، وما سمعت هذا من معاذ بن هشام قط»

(2)

.

وروى طلق بن غنام، عن شريك، وقيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»

(3)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (2258)، و «مسند الطيالسي» حديث (408)، و «مسند البزار» حديث (2893)، و «علل ابن أبي حاتم» 2: 407، و «معجم الإسماعيلي» حديث (395)، و «المعجم الأوسط» حديث (4835).

(2)

«أسئلة البرذعي» ص 388.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (3535)، و «سنن الترمذي» حديث (1264)، و «سنن الدارمي» حديث (2600)، و «التاريخ الكبير» 4: 360، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1831 - 1832)، و «المعجم الأوسط» حديث (3595)، و «سنن الدارقطني» 3: 35، و «المستدرك» 2: 46، و «سنن البيهقي» 10: 271، و «فوائد تمام» حديث (707)، و «ذكر أخبار أصبهان» 1:269.

ص: 266

قال ابن أبي حاتم: «سمعت أبي يقول: طلق بن غنام هو ابن عم حفص بن غياث، وهو كاتب حفص بن غياث، روى حديثا منكرا، عن شريك، وقيس

، قال أبي: ولم يرو هذا الحديث غيره»

(1)

.

وروى محمد بن حرب الأبرش، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم فقال: «هذا حديث منكر»

(3)

، وقال مرة:«لم يروه غير محمد بن حرب»

(4)

.

وأخرج النسائي عن يزيد بن سنان، عن مكي بن إبراهيم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال:«متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج» ، ثم قال النسائي: «هذا حديث معضل، لا أعلم رواه غير مكي، وهو لا بأس به،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 375.

(2)

«سنن ابن ماجه» حديث (1665)، و «شرح معاني الآثار» 2: 63، و «صحيح ابن حبان» حديث (3548)، و «المعجم الكبير» حديث (13387)، (13403)، و «المعجم الأوسط» حديث (6293)، (7961).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 247.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 262.

ص: 267

لا أدري من أين أتي؟ »

(1)

.

في أشياء كثيرة جدا من هذا القبيل، سيأتي شيء منها في الفصول اللاحقة من هذا الباب.

وقد يعترض على ما تقدم، بأن توقفهم في تفرد الراوي إذا كان ثقة أو في حكمه يحتمل أن يكون ذلك مع المخالفة، فيخالف الراوي غيره ممن هو أوثق منه، أو يخالف جماعة، فيصل مرسلا، أو يرفع موقوفا، ونحو ذلك.

والجواب: أن استنكار حديث الراوي ورده بسبب المخالفة كثير جدا أيضا، لكن ليس هو المقصود هنا، فهذا له شأن آخر، سيأتي تفصيل الكلام فيه في الباب الثالث.

وأما المقصود هنا فهو تفرد الراوي في الرواية عن شيخه دون مخالفته لغيره، فلم يصل مرسلا، أو يرفع موقوفا، أو يبدل راو بآخر، بل تفرد بالإسناد أصلا، والأمثلة التي سقتها كلها بهذه المثابة، حسب ما يظهر من كلام النقاد.

وههنا أمر آخر، وهو أن هذا الاعتراض مبني على أن الراوي إذا خالف فرفع حديثا وقفه غيره، أو وصل مرسلا، أو أبدل راويا بآخر، ونحو ذلك، أعظم مما إذا تفرد بإسناد شذ فيه، وحكم عليه بالخطأ، لأن الأول ظهر غلطه، والآخر أمره محتمل.

(1)

«تذكرة الحفاظ» 1: 361، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 576، وقد وقع آخر النص في المصدر الثاني محرفا، وعزياه جميعا إلى «عمل اليوم والليلة» للنسائي، ولم أجده فيه.

ص: 268

والواقع أن الأمر عند أئمة النقد في الجملة بخلاف ذلك، فتفرد الراوي بشيء يستنكر عليه أعظم عندهم من روايته لشيء يخالفه غيره فيه، ويتبين غلطه، وذلك لأن من أخطأ على شيخه فرفع موقوفا، أو وصل مرسلا، قد تابعه في أصل الحديث غيره، إما واحد أو أكثر، وهذه تسمى متابعة، ومخالفته له بعد ذلك في بعض الحديث إسنادا أو متنا شأن آخر، فقد وجدت المتابعة في أصل الحديث، وأما من تفرد بجملة الإسناد عن الشيخ، وقد غلط في ذلك، فلم يتابع مطلقا.

ثم إن القول بأنه لم يخالف غير دقيق، فهو قد خالف غيره ممن ترك رواية هذا الذي تفرد به، فهي إذن مخالفة بالترك، وهي عندهم أشد من المخالفة بالفعل، إذا تبين غلطها.

ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود قال: «سمعت أحمد يقول: عند أبي داود، عن هشام -يعني الدستوائي- حديث منكر، عن قتادة، عن أنس قال: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحتجمون: سبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين» ، قلت له: حدثنا به مسلم، عن هشام -أعني عن قتادة- مرسلا، فأعجبه، وقال: كان عند فلان -سماه أبو عبدالله- عن علي بن المبارك، عن قتادة مرسلا»

(1)

.

فأحمد استنكر الحديث على أبي داود الطيالسي في روايته له عن هشام الدستوائي، فإنه لم يكن سمعه من أحد عن هشام، فلما أبلغه أبو داود أنه سمعه من مسلم بن إبراهيم، عن هشام مرسلا فرح به وأعجبه، إذ قد توبع أبو داود

ص: 269

الطيالسي، غاية ما فيه أنه غلط فوصله بذكر أنس، ثم ذكر أحمد ما يؤيد رواية مسلم، عن هشام، وهو أن علي بن المبارك قد رواه عن قتادة أيضا مرسلا.

وقال أبو داود أيضا: «سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث علي بن عاصم، عن ابن سوقة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من عزى مصابا فله مثل أجره» ، فقيل لأحمد: رواه غير علي بن عاصم؟ قال: لا نعلمه رواه غيره، قلت: ولا يوقف، قال: لا يرويه غيره، قيل له: محمد بن الفضل بن عطية، فلم يعبأ به»

(1)

.

ونحو هذا جاء عن يعقوب بن شيبة، قال عن الحديث: «حديث كوفي منكر، يرون أنه لا أصل له مسندا ولا موقوفا

، ولا نعلم أحدا أسنده ولا وقفه غير علي بن عاصم، وقد رواه أبو بكر النهشلي -وهو صدوق ضعيف الحديث- رواه عن محمد بن سوقة فلم يجاوز به محمدا إلى أحد فوقه، وقال: يرفع الحديث، وهذا الحديث من أعظم ما أنكره الناس على علي بن عاصم، وتكلموا فيه، مع ما أنكر عليه سواه»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن عبدة، عن يحيى بن كثير

، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، عن

(1)

«مسائل أبي داود» ص 410، وانظر مثالا آخر لأحمد في «العلل ومعرفة الرجال» 2: 203، و «مسائل أبي داود» ص 416، و «مسائل إسحاق بن هانئ» 2: 216، ويحتمل أن يكون الكلام في هذ المثال ليحيى القطان.

(2)

«تاريخ بغداد» 11: 453.

ص: 270

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضئوا من لحوم الإبل، ولا توضئوا من لحوم الغنم» .

سمعت أبي يقول: كنت أنكر هذا الحديث لتفرده، فوجدت له أصلا، حدثنا ابن المصفى، عن بقية، قال: حدثني فلان -سماه-، عن عطاء بن السائب، عن محارب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

قال: وحدثني عبيدالله بن سعد الزهري، قال: حدثنا عمي يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثني عطاء بن السائب الثقفي، أنه سمع محارب بن دثار يذكر عن ابن عمر نحو هذا، ولم يرفعه.

قال أبي: حديث ابن إسحاق أشبه، موقوفا»

(1)

.

والشاهد هنا أن أبا حاتم أخرج الحديث عن حد التفرد والنكارة المطلقة بهذه المتابعات، ومنها -وهو الراجح عنده- ما يعل الحديث، وأنه موقوف على ابن عمر.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن ابن أبي خداش، سمع ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المماليك: «ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون

» الحديث.

قال أبي: لم أجد هذا الحديث عند الحميدي في «مسنده» ، ولا عند علي بن

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 28، وبقية بن الوليد قد اختلف عليه في تسمية شيخه، انظر الحديث بطرقه في:«سنن ابن ماجه» حديث (497)، و «الأوسط» لابن المنذر 1: 139، و «تاريخ جرجان» ص 477.

ص: 271

المديني، فإن كان محفوظا فهو غريب، قلت: على ما يصنع؟ قال: لعله أن يكون عندهما موقوفا»

(1)

.

ويلحظ في السؤال والجواب أن أبا حاتم متوقف في رواية ابن أبي عمر، مستنكر لها، وكان يبحث عن متابع له يرفع الغرابة عن روايته، ويقصر النكارة على رفع الحديث فقط.

ويظهر أنه حال إجابته عن هذا السؤال هنا لم يقف عليه موقوفا، وقد سئل عنه مرة أخرى فذكر أنه وقف عليه، لكنه لم يسم راوي الموقوف عن ابن عيينة، وفي الجواب الثاني يوضح أبو حاتم سبب استنكار المرفوع.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي عمر العدني

، قال أبي: لم يكن هذا الحديث عند الحميدي، ولا عند علي بن المديني، ولم نجده عند أحد من أصحاب ابن عيينة، ولم أزل أفتش عن هذا الحديث، وهمني جدا، حتى رأيت في موضع: عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس موقوفا، فقلت: إن رفعه ليس له معنى، والصحيح موقوف.

وقد كان روى ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم المقبرة هذه -يعني مقبرة مكة-

»، فلم يعرف بذلك الإسناد إلا هذا وحده، حتى كتبت عن ابن أبي عمر ذاك الحديث»

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 307.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 270. والحديث الموقوف على ابن عباس رواه الشافعي، وعلي بن

المديني، عن ابن عيينة، انظر:«مسند الشافعي» حديث (216)، و «تاريخ ابن أبي خيثمة» (1021)، و «سنن البيهقي» 8:8.

ص: 272

وفي أجوبة كثيرة لأبي حاتم يظهر منها أن الغرابة عنده تزول بالمتابع وإن كان مخالفا كاشفا لعلة في الإسناد

(1)

، وجاء هذا عن غيره أيضا، والظاهر أن المراد زوال الغرابة المطلقة

(2)

.

وروى نافع بن يزيد الكلاعي، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة

» الحديث بطوله

(3)

.

قال الطحاوي بعد أن رواه من طرق عن نافع بن يزيد: «فسألت أنا إبراهيم بن أبي داود عن هذا الحديث، وقلت له: هل رواه عن عقيل غير نافع بن يزيد؟ قال: نعم، حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه أنس بن مالك» .

ونلحظ في السؤال حرص الطحاوي على رفع تفرد نافع بن يزيد، وقد

(1)

ينظر: «علل ابن أبي حاتم» : المسائل: (84)، (904)، (1233 - 1234)، (1287)، (1850 - 1851)، (1946)، (2205).

(2)

ينظر: «الكامل» 4: 1343، و «تاريخ بغداد» 13: 320 - 321.

(3)

«مسند البزار» حديث (2357)، و «تفسير ابن جرير» 23: 167، و «شرح مشكل الآثار» حديث (4593 - 4596)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3617)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2898)، و «المستدرك» 2: 181، و «حلية الأولياء» 3:374.

ص: 273

وثقه أحمد بن صالح المصري وغيره، لكن قال أبو حاتم:«لا بأس به» ، وقال النسائي:«ليس به بأس» ، وقد تفرد بهذا الحديث عن عقيل، والحديث خبر عمن تقدم، وفي سياقه غرابة، فيحتاج نافع بن يزيد إلى متابع، ولهذا قال ابن كثير بعد أن أورده موصولا:«وهذا غريب رفعه جدا، والأشبه أن يكون موقوفا»

(1)

.

وهو كما قال ابن كثير، غريب جدا، وكأنه لم يقف عليه مرسلا، فأبدى احتمال أن تكون علته الوقف.

وفي الجواب ما يدل على أن المتابع المخالف يحتاج إليه لرفع التفرد، وإن كان فيه مخالفة، ولهذا قال إبراهيم في الجواب:«نعم» ، ويونس بن يزيد قد تابع نافع بن يزيد، وهو فوقه في الرتبة، خاصة في عقيل، والقول قوله في إرسال الحديث، فصار هذا المرسل أقوى من الإسناد المتصل الذي تفرد به نافع بن يزيد، فهو علة له، وجابر له، علة له من جهة أن الراجح إرساله، وجابر له من جهة رفع التفرد عن أصل الحديث.

وقد سأل ابن أبي حاتم أبا زرعة عن حديث رواه بقية بن الوليد، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه لم ير بالقزِّ والحرير للنساء بأسا» ، فقال أبو زرعة:«هذا حديث منكر» ، فسأله ابن أبي حاتم إن كان يعرف له علة، فأجاب بالنفي.

فمثل هذا الحديث لا يظن باحث أن عدم وجود العلة له خفف من ضفعه،

(1)

«البداية والنهاية» 1: 511.

ص: 274

بل زاده ضعفا، فصار منكرا عن جميع من يحتمل أن يكون صدر منه، ولو كان له علة، لكان من قول ابن عمر مثلا، أو من قول نافع، أو من مراسيله، أو من مراسيل عبيدالله بن عمر، أما الآن فهو منكر بإطلاق، شديد الضعف.

وهكذا يقال في الحكم على الرواة، ف‌

‌إذا كان الراوي يخالف في بعض ما يرويه الثقات، أو يختلف عليه، فأمره أخف من كونه يروي شيئا منكرا لا يرويه غيره

.

قال ابن أبي حاتم: «سئل أبو زرعة عن عاصم بن عبيدالله، فقال: قال لي محمد بن عبدالله بن نمير: عاصم بن عبيدالله أحب إليك أم ابن عقيل؟ فقلت: ابن عقيل يختلف عليه في الأسانيد، وعاصم منكر الحديث في الأصل، وهو مضطرب الحديث»

(1)

.

وأما الاتجاه الثاني الذي يسير فيه كلام النقاد، وتصرفاتهم، فهو أنه قد اشتهر عنهم الاهتمام بالغرائب، وكتابتها، قال عبدالله بن أحمد: «سألت أبي عن محمد بن الحسن الواسطي الذي يقال له: المزني، قال: ليس به بأس

، وقد حدثتكم عنه، كتبت عنه عن إسماعيل -يعني ابن أبي خالد- أحاديث غرائب، كتبت عنه أول سنة انحدرت إلى البصرة، ولم ألقه في السنة الثانية، كان قد مات قديما»

(2)

.

(1)

«الجرح والتعديل» 6: 348، وانظر أيضا في تخفيف النكارة إذا وقف على علة للحديث:«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» ص 568 - 569، 574 - 575، و «الكامل» 1: 175، 347، 365، 3: 1178، 5:2021.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 299.

ص: 275

وقال عبدالله أيضا: «قدمت من الكوفة سنة ثلاثين ومائتين، فعرضت عليه أحاديث أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك، فقال: عند أبي بكر بن أبي شيبة أحاديث حسان غرائب، عن شريك، لو كان ههنا سمعناها منه»

(1)

.

وقال حميد بن زنجويه لعلي بن المديني: «إنك تطلب الغرائب، فأت عبدالله بن صالح، واكتب كتاب معاوية بن صالح، تستفد مئتي حديث»

(2)

.

وسأل ابن أبي حاتم أبا زرعة الرازي، عن معاوية بن عبدالله الزبيري، فقال:«لا بأس به، كتبنا عنه بالبصرة، أخرج إلينا جزءا عن عائشة (يعني عائشة بنت الزبير بن هشام بن عروة)، فانتخبت منه أحاديث غرائب، وتركت المشاهير»

(3)

.

ولشدة اهتمام النقاد بهذا النوع من الأحاديث، فقد اشتهر عندهم تخصيص كتاب أو جزء، يجمع فيه الناقد ما يمر به من هذا النوع

(4)

.

وفوق ذلك أن النقاد قد صححوا من الأحاديث الغريبة غرابة مطلقة أو نسبية شيئا كثيرا، وفي «الصحيحين» من ذلك قدر كبير، وقد جمع الضياء

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 350.

(2)

«الكامل» 6: 2400.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 268 ، وانظر مثالا آخر لأبي زرعة مع أحمد في:«الجرح والتعديل» 1: 343 - 344.

(4)

ينظر في مظاهر احتفاء الأئمة بالغرائب وكتابتها، مقدمة التحقيق لـ «نسخة يحيى بن معين» لعصام السناني ص 189 - 236.

ص: 276

المقدسي ما فيهما من الغرائب المطلقة فبلغ بها مئتي حديث

(1)

، فضلا عن الغرائب النسبية.

وهذان الاتجاهان في موقف النقاد من التفرد لا يتعارضان، فالنهي عن كتابة الغرائب إنما ذلك ما يأتي عن الضعفاء، ومن دونهم، قال أبو زرعة، وقد سأله البرذعي، عن هيصم بن شداخ -وقد اتهمه أبو زرعة- هل يخرج حديث وأمثاله في «الفوائد» ، وذكر له بعض ما يرويه عن الأعمش، فقال أبو زرعة: «يخرج مثل ابن إسحاق، مثل الحكم بن عبدالملك، أما حديث باطل مثل هذا: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله

»

(2)

.

والأمر كما قال الخطيب: «والغرائب التي كره العلماء الاشتغال بها، وقطع الأوقات في طلبها، إنما هي ما حكم أهل المعرفة ببطوله، لكون رواته ممن يضع الحديث، أو يدعي السماع، فأما ما استغرب لتفرد راويه به، وهو من أهل الصدق والأمانة، فذلك يلزم كتبه، ويجب سماعه وحفظه»

(3)

.

و‌

‌كتابة النقاد لأحاديث غرائب عمن يجوزون الكتابة عنه لا يعني صحة تلك الأحاديث

، فالناقد حين الكتابة يغلب عليه كونه راويا، لا يلزم أن يكون ما كتبه كله صوابا عنده، فقد يكون يراه صوابا، وقد يكون يراه خطأ، أو يتبين له

ص: 277

ذلك فيما بعد، وقد يكون من طريقة بعضهم الكتابة عن الكل، ثم التمييز حين النقد والرواية، كما تقدم شرحه في «الجرح والتعديل»

(1)

.

فمن المهم جدا معرفته أن الناقد قد يكتب حديثا غريبا، وقد يظهر مع ذلك فرحه به واستحسانه له، لكونه ليس عنده قبل أن يقف عليه، وهو مع ذلك يستنكره ويراه خطأ، وما يفعله بعض الباحثين من التعويل على ذلك في تقوية الحديث ليس بجيد.

روى جماعة كثيرون عن أبي نوح عبدالرحمن بن غزوان المعروف بقراد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام، وفيه طول، وألفاظ منكرة

(2)

.

قال عباس الدوري بعد أن رواه عن قراد: «ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد أبي نوح، وسمع هذا الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، -قال-: وإنما سمعاه من قراد لأنه من الغرائب والأفراد التي تفرد بروايتها عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه»

(3)

.

(1)

«الجرح والتعديل» ص 245 - 247.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (3620)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 11: 479 حديث (11782)، و «المستدرك» 2: 615، و «دلائل النبوة» لأبي نعيم حديث (10) ، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم حديث (1259).

(3)

«فوائد حديثية» لابن القيم ص 32 - 33، ونحوه في «البداية والنهاية» لابن كثير 3: 440، ومقولة الدوري أخرجها البيهقي في «دلائل النبوة» 2: 26، والخطيب في «تاريخ بغداد»

10: 253، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» 3: 5، دون قوله: «وإنما سمعاه

».

ص: 278

والتقى أحمد بن حنبل، أحمد بن صالح المصري، فجرت بينهما قصة شهدها أبو بكر بن زنجويه، قال: «

فقام إليه، ورَحَّب به، وقرَّبه، وقال له (القائل أحمد بن حنبل): بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فتعال حتى نذكر ما روى الزهري، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكران، ولا يغرب أحدهما على الآخر، حتى فرغا، فما رأيت أحسن من مذاكرتهما، ثم قال أحمد بن حنبل: تعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد الصحابة، فجعلا يتذاكران، ولا يغرب أحدهما على الآخر.

إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: عند الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يسرني أن لي حمر النعم، وأن لي حلف المطيبين» ، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا؟ فجعل أحمد بن حنبل يبتسم، ويقول: رواه عن الزهري رجل مقبول -أو صالح-: عبدالرحمن بن إسحاق، فقال: من رواه عن عبدالرحمن؟ فقال: حدثنا رجلان ثقتان: إسماعيل بن علية، وبشر بن المفضل، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: سألتك بالله إلا أمليته علي، فقال أحمد: من الكتاب، فقام ودخل وأخرج الكتاب وأملى عليه، فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث كان كثيرا، ثم ودعه وخرج»

(1)

.

(1)

«تاريخ بغداد» 4: 196، و «سير أعلام النبلاء» 12:169.

ص: 279

فهذا الحديث كتبه أحمد بن حنبل، ويذاكر به، ويرويه، مع أنه يراه منكرا، إذ استنكره على عبدالرحمن بن إسحاق، قال المروذي:«قلت لأبي عبدالله: فعبدالرحمن بن إسحاق كيف هو؟ قال: أما ما كتبنا من حديثه، فقد حدث عن الزهري بأحاديث -كأنه تفرد بها-، ثم ذكر حديث محمد بن جبير في الحلف، حلف المطيبين، فأنكره أبو عبدالله، وقال: ما رواه غيره»

(1)

.

وروى محمد بن عثمان بن صفوان المكي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خالطت الصدقة مالا إلا أهلكته»

(2)

.

قال أبو داود: «قلت لأحمد: هشام بن عروة

، قال: هذا كتبته عن شيخ كان بمكة، يقال له: محمد بن عثمان بن صفوان، قلت لأحمد: كيف حديثه؟ قال: هو حديث منكر»

(3)

.

فهذا الحديث كتبه أحمد، وكان أيضا يفسر معناه، وأن المراد به الرجل يأخذ الصدقة -وهي الزكاة- وهو موسر أو غني، إنما هي للفقراء

(4)

، وأحمد يراه حديثا منكرا.

وروى عبدالله بن عمران الرازي، عن يحيى بن الضريس، عن عكرمة بن

(1)

«علل المروذي» ص 64، والحديث أخرجه أحمد 1:190.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (237)، و «كشف الأستار» حديث (881).

(3)

«مسائل أبي داود» ص 398.

(4)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 304.

ص: 280

عمار، عن الهرماس قال:«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا: لبيك بحجة وعمرة»

(1)

.

قال أبو حاتم: «ذكرته لأحمد بن حنبل، فأنكره» ، ثم قال أبو حاتم:«أرى دخل لعبدالله بن عمران حديث في حديث»

(2)

.

فهذا الحديث أنكره أحمد، وهو قد كتبه عن عبدالله بن عمران

(3)

.

وكذلك الحال بالنسبة لرواية الأفراد والغرائب، قد يحدث الناقد بشيء منها إذا كان عن الثقات ومن في حكمهم، وأما المناكير عن الضعفاء ومن دونهم فالغالب أن الناقد لا يحدث بشيء منها، ولهذا نجد في النصوص عنهم امتناعهم عن التحديث بذلك، وأمرهم بأن يضرب على الحديث.

ومن ذلك قول البرذعي: «كان في كتابنا عن أبي زرعة، عن عبدالرحمن بن عبدالملك بن شيبة، عن ابن أبي فديك، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرب إلى أحدكم الحلواء فليأكل منها ولا يردها» ، وعنه، عن ابن أبي فديك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:«كان أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع» ، فسألت أبا زرعة عنهما،

(1)

«مسند أحمد» 3: 485، و «الآحاد والمثاني» حديث (1254)، و «المعجم الكبير» 22: 203 حديث (534)، و «المعجم الأوسط» حديث (4327)، و «إتحاف المهرة» 13:619.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 292.

(3)

«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» ص 348.

ص: 281

فأمرني أن أضرب عليهما، ولم يقرأهما»

(1)

.

وعبدالرحمن بن عبدالملك هذا قال فيه أبو زرعة: «لم يكن بين تحديث عبدالرحمن بن عبدالملك بن شيبة وبين موته كثير شيء، اختلفت إلى بيته عشرين ليلة أنظر في كتبه»

(2)

.

وقال أبو حاتم فيه: «يختلف إلى عبدالعزيز الأويسي وهو شاب يكتب عنه، فرآه أبو زرعة هناك، فذاكر أبا زرعة بأحاديث غرائب لم تكن عنده، فسأله أن يحدثه، فصار إليه، ونظر في كتبه»

(3)

.

ومما يتنبه له هنا أن إدخال الناقد الحديث في مصنف له ينطبق عليه قاعدة روايته للحديث، فلا يلزم من إدخاله له رضاه عنه، ولا قبوله، ومن نظر في الجزء المطبوع من «منتخب علل الخلال» ، وما فيه من الأحاديث التي ضعفها أحمد، وهي في «مسنده» ، أدرك ذلك بسهولة، وقد قال ابن القيم في بحث له حول هذه المسألة:«والإمام أحمد لم يشترط في «مسنده» الصحيح، ولا التزمه، وفي «مسنده» عدة أحاديث سئل هو عنها، فضعفها بعينها، وأنكرها»، ثم ذكر أمثلة، وقال بعدها:«وهذا باب واسع جدا، لو تتبعناه لجاء كتابا كبيرا»

(4)

.

(1)

«أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 400.

(2)

«الجرح والتعديل» 5: 259.

(3)

«الجرح والتعديل» 5: 259.

(4)

«الفروسية» ص 188 - 201.

ص: 282

وربما كان غرض المؤلف من كتابه -أو أحد أغراضه- جمع هذه الأفراد والغرائب، وإن كان يستنكرها، كما يفعل البزار في «مسنده» .

ومن أمثلة ذلك عنده قوله في زائدة بن أبي الرقاد: «منكر الحديث» ، وضعفه مرة، وقال مرة:«ليس به بأس، حدث عنه جماعة من أهل البصرة، وإنما كتبنا من حديثه ما لم نجده عند غيره» ، وقال أيضا:«لا نكتب من حديثه إلا ما ليس عند غيره» ، وقال أيضا:«إنما ينكر من حديثه ما يتفرد به»

(1)

.

والخلاصة أن الناقد بعد أن يبلغه حديث تفرد به راو ثقة يحكم عليه بما يؤدي إليه اجتهاده، فقد يراه صحيحا غريبا، وقد يراه منكرا، ولا علاقة بين كتابة الأفراد والغرائب، وروايتها، وبين الحكم عليها.

والحكم في التفرد كغيره من مسائل هذا الفن، يخضع لنظر الناقد وما لديه من قرائن وأدلة، وربما وصل فيه إلى ما وصل إليه غيره، لاجتماع قرائن وتعاضدها، وقد يخالف غيره، وسيأتي معنا أمثلة لهذا في الفصل الرابع.

ومن هذا الباب قول يعقوب بن شيبة في قيس بن أبي حازم: «

، وهو متقن الرواية، وقد تكلم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره وعظمه، وجعل الحديث عنه من أصح الإسناد، ومنهم من حمل عليه، وقال: له أحاديث مناكير، والذين أطروه حملوا هذه الأحاديث على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا:

(1)

«مسند البزار» حديث (92)، و «كشف الأستار» حديث (347)، (616)، (1895)، (3063). ومراد البزار بالكتابة هنا في «المسند» .

ص: 283

هي غرائب

»

(1)

.

وربما وقع التردد من الناقد الواحد، فقد روى حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس مرفوعا:«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»

(2)

، تفرد به حرمي، عن شعبة، وسئل عنه أحمد مرة فأنكره على حرمي بن عمارة

(3)

، وسئل عنه مرة أخرى فقال:«أرجو أن يكون محفوظا»

(4)

.

وفي رأيي أن موضوع التفرد من أدق قضايا نقد المرويات، فهو مزلة قدم بالنسبة للباحث، يجب عليه فيه أن يكون متوازنا، فإن إهماله ضعف، والإسراف فيه ضعف أيضا، ولا شك أن الباحث بحاجة إلى ما ينير الطريق له حين نظره في التفرد، وسأحاول ذلك في الفصل التالي (ضوابط النظر في التفرد).

* * *

(1)

«تهذيب الكمال» 24: 14.

(2)

«مسند أحمد» 3: 278، 279، و «مسند أبي يعلى» حديث (2909)، و «الكامل» 3: 1298، و «الإرشاد» حديث (137).

(3)

«الضعفاء الكبير» 1: 270.

(4)

«مسائل أبي داود» ص 340.

ص: 284

‌الفصل الثاني

ضوابط النظر في التفرد

ص: 285

يوجد في كلام النقاد على قضية التفرد إشارات إلى بعض ضوابطه، سواء في الحديث عن القضية بعينها، أو على أحاديث وقع فيها تفرد، فيشير الناقد حين حكمه على الحديث إلى ما يصلح أن يكون ضابطا، يمكن تطبيقه على غيره من الأحاديث.

ومن أول من خص التفرد بالحديث عنه وبيانه مسلم بن الحجاج في مقدمة «صحيحه» ، فإنه قال: «حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه، قبلت زيادته.

فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم»

(1)

.

وما ذكره مسلم من قبول ما يتفرد به من أمعن في موافقة الثقات عن شيخه، مبني على أن الراوي قد لا يستوعب ما عند شيخه، وإذا استوعبه فقد

(1)

«صحيح مسلم» 1: 7.

ص: 287

لا يحدث به كله، كما في قول أحمد:«عند سعد بن إبراهيم شيء لم يسمعه يعقوب، كتاب عاصم بن محمد العمري»

(1)

.

ويعقوب هذا أخو سعد بن إبراهيم، وقد أكثرا جميعا عن والدهما إبراهيم بن سعد.

وسئل أحمد، عن نوح بن يزيد، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، في حديث إبراهيم بن سعد، فقال:«نوح بن يزيد أحب إلي من يعقوب، روى نوح عن إبراهيم شيئا ليس عند يعقوب»

(2)

.

وقال أحمد أيضا: «حدث عبدالرزاق، عن معمر، أحاديث لم يسمعها ابن المبارك، وحدث ابن المبارك أيضا بشيء لم يسمعه عبدالرزاق»

(3)

.

وسأل عبدالله بن أحمد أباه عن حديث للأعمش، فأجابه، ثم قال أحمد:«وقال يحيى بن معين: لم أسمعه من أبي معاوية، وإنما حدثناه أبو معاوية ببغداد، وكان يحيى ربما فاته الشيء»

(4)

.

ومن نظر في كلام النقاد على أصحاب الرواة المكثرين، كسعيد بن المسيب، ونافع، وقتادة، والأعمش، وشعبة، وغيرهم، أدرك بسهولة تفاوتهم

ص: 288

في مقدار ما يروونه عنهم.

ومن ذلك قول ابن المديني: «لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من سعيد بن المسيب، روى عنه الزهري، وقتادة، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن حرملة بن عمرو الأسلمي، وغيرهم، فإذا كل واحد منهم لا يكاد يروي ما يرويه الآخر، ولا يشبهه، فعلمت أن ذلك لسعة علمه، وكثرة روايته»

(1)

.

وقال أيضا في أصحاب الأعمش: «أثبت الناس في الأعمش وأعلمهم به سفيان الثوري، وأروى الناس عنه أبو معاوية، عند أبي معاوية عن الأعمش نحو من ألف وسبعمائة، وكتاب حفص بن غياث صحيح، وعنده عن الأعمش قريب من ألف حديث، وجرير الرازي

، وهو أقل عددا من أبي معاوية، وعند جرير عن الأعمش ما ليس عند أبي معاوية، أربعمئة ونيف وخمسين، ووكيع بن الجراح حسن السماع من الأعمش، عنده نحو من سبعمئة

»

(2)

.

ويظهر ذلك أيضا في رواية بعض الأصحاب عن بعض ما فاتهم عن الشيخ، فالليث بن سعد أحد أصحاب الزهري، وهو يروي كثيرا عن عقيل بن خالد، عن الزهري، وعن يونس بن يزيد، عن الزهري، ويونس أيضا أحد أصحاب الزهري المكثرين عنه، وربما روى عن عقيل بن خالد، عن الزهري، وكذلك سفيان بن عيينة، أحد المكثرين عن الزهري، ويروي أيضا عن معمر، عن الزهري.

(1)

«تاريخ المقدمي» ص 200، وانظر:«سؤالات ابن أبي شيبة» ص 83.

(2)

«تاريخ المقدمي» ص 204.

ص: 289

وإنما يستنكر بداهة أن يروي الراوي عن شيخ له أصحاب كثيرون ثقات، فينفرد عنهم بشيء، كما قال شعبة لما قيل له: متى يترك حديث الرجل؟ قال: «إذا حَدَّث عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون

»

(1)

.

وفي هذا السياق يفهم ما يأتي عن النقاد من كلمات في تعليل استنكارهم لبعض الأحاديث، كأن يقول الناقد: أين أصحاب فلان عن هذا الحديث؟ أو لو كان عنده لرواه أصحابه، ونحو ذلك.

قال صالح بن محمد البغدادي المعروف بجزرة في عبدالرحمن بن أبي الزناد: «قد روى عن أبيه أشياء لم يروها غيره، وتكلم فيه مالك بسبب روايته كتاب «السبعة» عن أبيه، وقال: أين كنا نحن من هذا؟ ! »

(2)

.

وقال الدوري: «سمعت يحيى، وسألته عن حديث حكيم بن جبير، حديث ابن مسعود: «لا تحل الصدقة لمن كان عنده خمسون درهما» يرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى بن معين: يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد، ولا نعلم أحدا يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم، لو كان هكذا لحدث به الناس جميعا عن سفيان، ولكنه حديث منكر، هذا الكلام قاله يحيى، أو نحوه»

(3)

.

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 163، و «المحدث الفاصل» ص 410، و «الكفاية» ص 145.

(2)

«تاريخ بغداد» 10: 230. وكتاب «السبعة» هو في رأي الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وما اختلفوا فيه، وقد نسبه ابن النديم في «الفهرست» ص 315 إلى عبدالرحمن بن أبي الزناد نفسه.

(3)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 1: 234.

ص: 290

ثم ينظر في هذا المتفرد، إن أكثر من ذلك سقط هو في نفسه، كما هو حال كثير من الضعفاء والمتروكين، إنما ضعفوا بسبب كثرة المناكير في حديثهم عن أناس مشهورين.

روى الجوزجاني عن أحمد قوله في فرقد السبخي: «فرقد روى عن مُرَّة منكرات» ، ثم عقبه الجوزجاني بقوله:«وصدق أحمد، كوفي، كيف صار عنده عن مُرَّة أحاديث عن أبي بكر الصديق مرفوعة، لم يشركه في شيء منها أحد من أهل الكوفة؟ »

(1)

.

وقوله: «كوفي» يعني به مُرَّة الطيب، فإنه كوفي، فكيف تفرد بهذا الأحاديث عنه فرقد السبخي، وهو بصري، ولم يروها عن مُرَّة أحد من أهل الكوفة؟ .

وإن لم تكثر هذه المنكرات في عموم روايات الراوي بقيت هي منكرات، مع تقوية الراوي إما بصفة عامة، أو تقويته في غير شيخه الذي يروي عنه مناكير، وقد تقدم لهذا أمثلة فيما مضى، وتأتي أمثلة أخرى لاحقا.

ومن ذلك أيضا أن جماعة رووا عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبي مسعود الأنصاري مرفوعا: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله

» الحديث

(2)

.

(1)

«أحوال الرجال» ص 170.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (674)، و «سنن أبي داود» حديث (582 - 584)، و «سنن الترمذي» حديث (235)، (2772)، و «سنن النسائي» حديث (779)، (782)، و «سنن ابن ماجه» حديث (980)، و «مسند أحمد» 4: 118، 121، 5:272.

ص: 291

اشتهر هذا الحديث عن إسماعيل بن رجاء، وعرف به، ورواه الحسن بن يزيد الأصم، عن السدي، عن أوس بن ضمعج

(1)

، فاستنكره النقاد على الحسن بن يزيد، قال أبو حاتم لما سئل عن هذه المتابعة:«إنما رواه الحسن بن يزيد الأصم، عن السدي، وهو شيخ، أين كان الثوري، وشعبة، عن هذا الحديث؟ وأخاف ألا يكون محفوظا»

(2)

.

وكذا استنكره ابن عدي عليه مع أحاديث أخر عن السدي

(3)

.

وروى برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، والباب مغلق عليه، فجئت فاستفتحت

» الحديث

(4)

.

سئل عنه أبو حاتم فقال: «لم يرو هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غير برد، وهو حديث منكر ليس يحتمل الزهري مثل هذا الحديث، وكان برد يرى القدر»

(5)

.

وبرد هذا وثقه الجمهور، ومنهم من لينه، لكنه ليس من أصحاب الزهري، ولذا قال الجوزجاني بعد كلامه عن أصحاب الزهري المعروفين: «قوم رووا عن

(1)

وكان الحسن يسميه: أوس بن ضبعج، وخطأه أحمد في ذلك، انظر:«العلل ومعرفة الرجال» 1: 387.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 92.

(3)

«الكامل» 2: 738.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (922)، و «سنن الترمذي» حديث (601)، و «سنن النسائي» حديث (1205)، و «مسند أحمد» 6: 31، 183، 234.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 165.

ص: 292

الزهري قليلا، أشياء يقع في قلب المتوسع في حديث الزهري أنها غير محفوظة، منهم برد بن سنان، وروح بن جناح، وغيرهما»

(1)

.

وتعرض الذهبي أيضا لبعض الضوابط في تفرد الثقة، وسأنقل كلامه بطوله، ثم أعقب عليه، قال: «مثل يحيى القطان يقال فيه: إمام، وحجة، وثبت، وجهبذ، وثقة ثقة، ثم ثقة حافظ،

، ثم ثقة متقن، ثم ثقة عارف، وحافظ صدوق، ونحو ذلك.

فهؤلاء الحفاظ الثقات: إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام عنده مئتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين، ثلاثة، ومن كان بعدهم فأين ما ينفرد به؟ ما علمته، وقد يوجد.

ثم ننتقل إلى اليقظ الثقة المتوسط المعرفة والطلب، فهو الذي يطلق عليه أنه ثقة، وهم جمهور رجال (الصحيحين)، فتابعيهم إذا انفرد بالمتن خرج حديثه ذلك في الصحاح.

وقد يتوقف كثير من النقاد في إطلاق الغرابة مع الصحة في حديث أتباع الثقات، وقد يوجد بعض ذلك في الصحاح دون بعض.

وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم، وحفص بن غياث: منكرا، فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة، أطلقوا النكارة على ما

ص: 293

انفرد به، مثل عثمان بن أبي شيبة، وأبي سلمة التبوذكي، وقالوا: هذا منكر

»

(1)

.

فقسم الذهبي في كلامه السابق الثقات قسمين، الثقات الحفاظ، وهم الذين عرفوا بالحفظ والإتقان، وندرة الخطأ، فهؤلاء يقبل تفرد التابعين منهم عن الصحابة، وتفرد تابعي التابعين عن التابعين.

والقسم الثاني الثقات، وهم جماعة يوصف الواحد منهم بأنه ثقة، لكنه ليس من الحفاظ المتقنين، وهم مع ذلك متوسطو المعرفة، أي المعرفة بنقد الحديث، فلا يؤمن أن يخطئ الواحد منهم، ولا يتنبه لذلك، فهؤلاء يقبل تفرد التابعين منهم عن الصحابة، ويتوقف فيما عدا ذلك.

فيلحظ أن الذهبي سبر عمل الأئمة في استنكار ما يتفرد به الثقة فوجدهم يراعون أمرين،‌

‌ الأول: قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط

، فلا شك أن هذا يجبر ما يقع منه من تفرد، ومن هذا الباب قول مسلم:«للزهري نحو تسعين حرفا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد، بأسانيد جياد»

(2)

.

وكلام الذهبي يفهم منه أن‌

‌ تفرد الصدوق

ونحوه لا إشكال في عده منكرا، وقد صرح الذهبي بذلك في مكان آخر، فقال:«إن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحا غريبا، وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرا»

(3)

.

(1)

«الموقظة» ص 77.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1647)، وانظر:«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 672.

(3)

«ميزان الاعتدال» 3: 140.

ص: 294

وقال أيضا متعقبا ابن القطان في تقويته حديثا لثابت بن عجلان وأنه لايضره تفرده وقد وثق: «أما من عرف بالثقة فنعم، وأما من وثق ومثل الإمام أحمد يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد هذا يعد منكرا»

(1)

.

ومما يتنبه له هنا ما قد يكون في الراوي من تفصيل في بعض حالاته، أو في بعض شيوخه

(2)

، فيكون التعامل معه في كل حال بما يناسبه، فلو كان في الأصل ثقة ثبتا، وهو في بعض شيوخه صدوق أو دون ذلك، فلا بد من مراعاة هذا، وهو أمر ظاهر، وإنما نبهت عليه لكثرة إغفاله من الباحثين.

ومن أمثلة ذلك ما رواه عبدالرزاق، عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن عائشة، قالت:«أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم وشيقة لحم وهو محرم، فلم يأكله»

(3)

.

قال ابن رجب: «ذكر لأحمد حديث عبدالرزاق

، فجعل أحمد ينكره إنكارا شديدا، وقال: هذا سماع مكة»

(4)

.

ومراده أن سماع عبدالرزاق من سفيان الثوري بمكة فيه شيء، وإنما ضبط

(1)

«ميزان الاعتدال» 1: 365.

(2)

انظر: ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 100 - 157.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (8324)، و «مسند أحمد» 6:225.

(4)

«شرح علل الترمذي» 2: 771.

ص: 295

عنه باليمن حين قدم عليهم سفيان، وقد تقدم ذكر هذا

(1)

.

وروى وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن أم حبيبة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم، فقال:«هذا حديث ليس له أصل، لم يروه غير وهب»

(3)

.

ووهب بن جرير -مع ثقته- قد تكلم في روايته عن شعبة، تكلم فيها عبدالرحمن بن مهدي، وعفان بن مسلم، وذكر عفان أنها أحاديث عبدالرحمن الرصاصي، شيخ يروي عن شعبة

(4)

.

والثاني: طبقة الراوي، فلا شك أن التفرد يحتمل في رواية التابعي عن الصحابي، وكذلك -مع الحفظ والضبط- يحتمل في رواية تابع التابعي عن التابعي، وأما بعد ذلك، أي في عصر انتشار الرواية، وحرص الرواة على التقصي والتتبع، والرحلة إلى البلدان الأخرى بغرض الرواية، وانتشار الكتابة، فإن وقوع التفرد -وهو تفرد صحيح- فيه بعد، فالغالب أن يكون خطأ من المتفرد، ولذا يستنكره الأئمة من الثقة الضابط أيضا.

(1)

«الجرح والتعديل» ص 107.

(2)

«مسند أبي يعلى» حديث (7131)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2312)، و «المعجم الكبير» 23 حديث (482)، و «الجامع لأخلاق الراوي» 1:204.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 123.

(4)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 313.

ص: 296

وهذا الإمام مالك -وهو من هو في الحفظ والإتقان، ومن طبقة تابعي التابعين- ارتاب في سؤال أهل العراق له عن حديثه عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا:«السفر قطعة من العذاب» ، فسأل عن ذلك، فقيل له: لم يروه عن سمي أحد غيرك، فقال:«لو عرفت ما حدثت به» ، وكان مالك لهذا السبب ربما أرسله

(1)

.

وقد روي أنه قال ذلك في حديثه عن الزهري، عن أنس، في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر، وقد تفرد به عن الزهري، فكان يسأل عنه، وسمعه منه من هو أسن منه، كابن جريج وغيره

(2)

.

وقال محمد بن عبدالله بن نمير: «كان وكيع إذا كان في كتابه حديث ينكره أمسك عنه، لم يحدث به، فإذا جاء إليه بنو أبي شيبة والحفاظ ذاكرهم بشيء منه، فإن ذكروه وقالوا: حُدِّثنا به عن فلان - ذكره، وإن شكوا فيه أمسك عنه»

(3)

.

ويذكر بهذه المناسبة -أي استبعاد وقوع التفرد في الطبقات المتأخرة، وهو صحيح- قصة أبي حاتم وهو عند أبي الوليد الطيالسي، قال أبو حاتم: «قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب علي حديثا غريبا مسندا صحيحا لم أسمع به فله علي درهم يتصدق به، وقد حضر على باب أبي الوليد خلق من الخلق،

(1)

«فتح الباري» 4: 623. ومعنى يسأل عنه أي يطلب منه أن يحدث به.

(2)

«التعديل والتجريح» 1: 300.

(3)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 45.

ص: 297

أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يلقى علي ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان، فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب علي حديثا»

(1)

.

وقضية ظهور حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن متأخر وإن كان في عصر الرواية من أعظم الدلائل على نكارته، فقد كانت العناية بسنته وجمعها قد بلغ الغاية التي ليس فوقها غاية، فمن المستحيل أن يفوت شيء على عموم الرواة في طبقات متعددة، ثم يظهر فجأة في زمن متأخر، خاصة إذا كان في أصل من أصول الشرع، والحاجة إليه ماسة في الاستدلال والتشريع.

ومما يؤكد هذا أن الحديث إذا كان قد تم تداوله في الزمن الأول بإسناد معين، ثم ظهر في زمن متأخر إسناد جديد، فهو دليل قاطع على نكارة المتن بالإسناد الجديد.

وقد تقدم في المبحث الثالث من الفصل الرابع من الباب الأول الإشارة إلى هذا، وأن النقاد الأوائل قد قاموا بعبء كبير في هذا السبيل.

ومن أمثلة ذلك أن الأعمش يروي عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن علي أنه قال: إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق»

(2)

.

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 355.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (78) ، و «سنن الترمذي» حديث (3736)، و «سنن النسائي» حديث (5033) ، (5037) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (114)، و «مسند أحمد» 1: 84، 95، 128.

ص: 298

ورواه يحيى بن عبدك القزويني، عن حسان بن حسان البصري، عن شعبة، عن عدي بن ثابت

(1)

.

قال أبو حاتم: «الحديث معروف بالأعمش، ومن حديث شعبة غلط، ولو كان هذا عند شعبة كان أول ما يسأل عن هذا الحديث»

(2)

.

ومراد أبي حاتم أن شعبة بصري، والحديث في فضائل علي، فلو كان عنده لكان أولى أن يشتهر عنه من شهرته عن الأعمش، فهو كوفي.

وذكر ابن حجر في «إتحاف المهرة» في ترجمة (عبدالله بن شداد - عن عائشة)، قال:«حديث ظاهره الصحة، له علة، ذكرته للمعرفة: قال الآجري: قيل لأبي داود: سفيان -هو الثوري- عن عبدالملك بن عمير، عن عبدالله بن شداد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي» ، فقال: هذا باطل، ما كان حديث قط بهذا الإسناد، ولا يكون، فقيل له: حدث بهذا عبدالرزاق، قال: ولو حدث بهذا عبدالرزاق أهل صنعاء لعلمنا أنه باطل، ولو كان هذا عند سفيان لما احتاجوا إلى هذه المراسيل»

(3)

.

يريد أبو داود أن من يشترط الولي في النكاح احتج بأحاديث فيها علل من جهة إرسالها، وهذا إسناد مستقيم، لو كان صحيحا لما احتاجوا لتلك المراسيل.

(1)

«معجم شيوخ الصيداوي» ص 237، و «الحلية» 4: 185، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 2:468.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 400، وانظر مثالا أخر لأبي حاتم في «علل ابن أبي حاتم» (1225).

(3)

«إتحاف المهرة» 17: 21.

ص: 299

وروى الخليلي عن أبي عبدالله الحاكم، عن أبي أحمد الحاكم قوله:«قال لي أبو عروبة بحران: يا أبا أحمد، بلغني أن ببغداد شيخا يروي عن محمد بن يحيى القطعي، عن عاصم بن هلال البارقي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عتق فيما لا يملك» ؟ فقلت: نعم، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد الحافظ، حدثنا محمد بن يحيى به.

فقال لي: يا أبا أحمد، لم يعمل شيئا، لو كان هذا الحديث عند أيوب، عن نافع، لما احتج به الناس منذ مئتي سنة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده».

ثم روى الخليلي حديث أيوب، عن أبي حفص عمر بن إبراهيم المقرئ، عن يحيى بن صاعد به، وفيه:«قال ابن صاعد: هذا حديث لا أعرف له علة»

(1)

.

وكلمة أبي عروبة الحراني هذه في حديث ابن عمر في غاية الأهمية، فهذا المتن إنما يعرفه الأولون من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده

(2)

، ولو كان عند أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، لاحتفوا به، فإنه من أصح الأسانيد، ولم يحتاجوا لإسناد عمرو بن شعيب، مع ما فيه من كلام

(3)

.

وفي كتب الفقه المتأخرة أمثلة كثيرة لهذا النوع، أحاديث يستدل بها الفقهاء

(1)

«الإرشاد» 1: 459.

(2)

أخرجه أبو داود حديث (2190)، والترمذي حديث (1181)، وابن ماجه حديث (2047)، وأحمد 2: 189، 190، 207.

(3)

وانظر في سبب وقوع ابن صاعد في الخطأ: «الكامل» 5: 1873.

ص: 300

لمذاهب أئمتهم المتقدمين، لم يستدل بها الأولون، لكونها لم تظهر في زمنهم، أو ظهرت ولكن بأسانيد جديدة، تلتقط من كتب متأخرة في عصر الرواية.

والجميع يدرك أن التفرد كثر جدا في مؤلفات من تأخر بعد عصور النقد، أعني في نهاية القرن الثالث، وما بعده، مثل «مسند البزار» ، و «المعجم الكبير» للطبراني، و «سنن الدارقطني» ، و «مستدرك الحاكم» ، و «سنن البيهقي» ، فضلا عن الكتب المخصصة للأفراد والغرائب، مثل «المعجم الأوسط» ، و «المعجم الصغير» للطبراني، و «الأفراد» للدارقطني، و «غرائب مالك» له، وكتب التراجم، مثل كتب أبي نعيم الأصبهاني، والخطيب البغدادي، وكتب الرجال، مثل «الضعفاء الكبير» للعقيلي، و «المجروحين» لابن حبان، و «الكامل» لابن عدي، وغير ذلك كثير جدا، ف‌

‌ضابط تأخر الزمن وأثره في الرد بالتفرد، والحكم على الحديث بالنكارة، ينبغي أن يستخدمه الباحث كثيرا فيما لم يقف عليه إلا في هذه الكتب

.

نقل ابن حجر في ترجمة الطبراني عن أبي بكر بن أبي علي قوله: «كان الطبراني واسع العلم، كثير التصانيف

، وقد عاب عليه إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي جمعه الأحاديث بالأفراد، مع ما فيها من النكارة الشديدة والموضوعات، وفي بعضها القدح في كثير من القدماء، من الصحابة وغيرهم

»

(1)

.

وقال ابن رجب بعد أن نقل كلمة الخطيب التي ينعى فيها على بعض طلبة الحديث في زمانه، لاشتغالهم بالغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف،

(1)

«لسان الميزان» 3: 75.

ص: 301

قال: «وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيرا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح، كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل «مسند البزار» ، و «معاجم الطبراني» ، و «أفراد الدارقطني» ، وهي مجمع الغرائب والمناكير»

(1)

.

وسيأتي في الباب الثالث، في المبحث الثالث من الفصل الثاني منه، التأكيد على قانون عظيم من قوانين الرواة، يتم تسخيره للنقد، وهو أن الرواة في عصر الرواية يبحثون عن الأتم صورة ومعنى، فيستفاد من هذا أنه إذا اشتهر عندهم حديث بإسناد، ثم ظهر بعدهم بإسناد أتم منه، فلا يصح قبول ما ظهر متأخرا، فهو خطأ ولا بد.

ثم إن ما ذكره مسلم، وما حرره الذهبي من عمل الأئمة، هي ضوابط عامة، تزداد قوة بأشياء أخرى غير حال الراوي، مثل طول الحديث وغرابة لفظه، أو كونه أصلا في بابه، أو أحد رواته من أهل بلد يرويه عن راو آخر من

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 624. وانظر في الكلام على الكتب المتأخرة، وكثرة الغريب والمنكر فيها: «الموضوعات» 1: 99، و «مجموع فتاوى ابن تيمية» 17: 126، و «الحطة في ذكر الصحاح الستة» ص 120 - 123، ومقدمة التحقيق لـ «نسخة ابن معين» لعصام السناني، ص 194 - 212، وشرحي لكتاب ابن حجر «نزهة النظر» في موضوع (الغريب)، وانظر مثالا على حديث تفرد به أحد أصحاب هذه الكتب، وأمكن نقده من وجوه، منها أنه لا يوجد في دواوين السنة الأولى: «سنن الدارقطني» 1: 182، و «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيم 3: 251، و «تنقيح التحقيق» لابن عبدالهادي 2: 326 - 327.

ص: 302

غير بلده، ولا يعرف ذلك في بلد الشيخ

(1)

.

وكذلك هذه الضوابط لا يفهم منها أنهم لا يستنكرون الحديث بالتفرد إلا مع وجودها، فهناك أمور دقيقة قد تصاحب التفرد توجب التوقف فيه واستنكار الحديث، وإن لم تتوافر ضوابط الرد المذكورة، ولذا قال ابن رجب:«أكثر الحفاظ المتقدمين يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته وحديثه، كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه»

(2)

.

وما ذكره ابن رجب يمكن التمثيل له بحديث شبابة، عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر في الدباء والمزفت، الماضي ذكره في الفصل الأول، فإن شبابة أحد المكثرين عن شعبة، ولذا دافع عنه ابن المديني من هذه الجهة، غير أن الأئمة تواردوا على استنكار حديثه هذا، وذلك لما انضم إلى التفرد من كون عبدالرحمن بن يعمر ليس له إلا حديث واحد، يرويه أيضا شعبة، وكذا سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء، عنه، وهو حديث «الحج عرفة» ، فيبعد جدا أن يكون بهذا الإسناد حديث آخر عند شعبة، ويفوت سائر أصحابه على كثرتهم، ويحفظه واحد منهم، مع أن فيهم من هو مقدم على شبابة، إما في الكثرة

(1)

انظر من أمثلة ذلك: «علل ابن أبي حاتم» (960)، (1140)، (1325)، (1392)، (1948)، (2886).

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 582.

ص: 303

أو الحفظ أو كليهما، مثل محمد بن جعفر، ويحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، ومعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي داود الطيالسي، وغيرهم

(1)

.

ومن ذلك أيضا ما رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: متى كنت نبيا؟

» الحديث

(2)

، استنكره أحمد وقال: هو من خطأ الأوزاعي

(3)

.

والأوزاعي من كبار أصحاب يحيى بن أبي كثير، ومن المقدمين فيه، نص عليه أحمد وغيره

(4)

، ولم يمنع هذا أحمد من استنكار حديثه الذي تفرد به عنه، فالأوزاعي قد حفظ عنه غير خطأ في حديث يحيى، فإن كتابه عن يحيى قد احترق، أو ضاع، فكان يحدث عنه من حفظه

(5)

، يضاف إلى ذلك ما في المتن من نكارة.

ولا ينبغي أن يفهم من تحرير ضوابط قبول التفرد أو رده على أن ما استنكره

(1)

انظر في أصحاب شعبة: «شرح علل الترمذي» 2: 702 - 705.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (3609)، و «المستدرك» 2: 609، و «ذكر أخبار أصبهان» 2: 226، و «دلائل النبوة» 2:130.

(3)

«علل المروذي» ص 150.

(4)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 618، 653، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 38، و «الجرح والتعديل» 9: 60، 61.

(5)

انظر: ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 439 - 440.

ص: 304

النقاد ينظر فيه الباحث وفق هذه الضوابط، ثم قد يوافقهم أو يخالفهم، فهذا غير مراد، فالنقاد إذا تواردوا على استنكار حديث، فالتسليم لهم واجب، سواء أدركنا سبب استنكارهم، أو خفي علينا ذلك، ومثله إذا استنكر الواحد منهم حديثا، ولم يخالفه غيره، ينبغي التسليم له كذلك، وسيأتي مزيد شرح لأهمية كلام النقاد في التفرد في الفصل الرابع.

فمعرفة هذه الضوابط -والحالة هذه- تفيد الباحث من جهة كونه يعرف الحكم بدليله، وهذا ما يفرقه عن العامي، وكذلك قد يحتاج هو إلى تطبيق هذه الضوابط في حالات أخرى، مثل أن يكون النقاد قد اختلفوا في الحكم على تفرد بالقبول، أو الرد، فيضطر الباحث إلى الموازنة بينهم، وكذلك في حال وقوف الباحث على تفرد لم يجد للأئمة فيه حكما، فيجتهد هو في تطبيقها.

* * *

ص: 305

‌الفصل الثالث

موقف المتأخرين من التفرد

ص: 307

تعد مسألة التفرد وتأثيرها على حكم الناظر في الإسناد إحدى المسائل البارزة التي خالف فيها المتأخرون ما عليه أئمة النقد، فما زال الاهتمام بالتفرد يخف شيئا فشيئا بعد الثلاثمائة، حتى استحكم جدا في الوقت الحاضر.

وقد كان هناك جهود من بعض الأئمة المتأخرين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسد الهوة الواسعة بين المنهجين، كما تقدم في الفصل الذي قبل هذا في كلام الذهبي، وابن رجب، غير أن تأثير هذه الجهود كان محدودا، والتيار كان جارفا.

ومخالفة المتأخرين لأئمة النقد في هذه المسألة ذات شقين، الأول: البحوث والتقريرات النظرية، والثاني: التطبيق العملي.

فأما الأول فمنه قول ابن حزم: «إذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به، ولزمت طاعته والقطع به، سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه، أو رواه كذاب من الناس، وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق

»

(1)

.

وقال أيضا: «إذا روى العدل زيادة على ما روى غيره، فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه، فالأخذ بتلك الزيادة فرض، ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض، ولا فرق بين أن يروي الراوي العدل حديثا فلا يرويه أحد غيره، أو يرويه غيره مرسلا، أو يرويه ضعفاء، وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث

، وهذه الزيادة،

ص: 309

وهذا الإسناد، هما خبر واحد عدل حافظ، ففرض قبولهما، ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما، أو لم يروه سواهما

»

(1)

.

ويذكر أبو محمد عبدالحق الإشبيلي في كتاب «الأحكام الوسطى» عن النقاد، تعليل بعض الأحاديث بأن راويها قد انفرد بها، أو لم يتابع، فيتعقبه ابن القطان في كتابه «بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام» ، ومن ذلك قوله ملخصا هذا الأمر: «وهناك اعتلالات أخر يعتل بها أيضا أبو محمد على طريقة المحدثين

، فمن ذلك انفراد الثقة بالحديث، أو بزيادة فيه، وعمله فيه هو الرد -ثم ذكر أمثلة على ذلك، ثم قال-: والذي له من هذا النوع هو كثير جدا مما لم نذكر، مما هو عندنا صحيح لم يضره هذا الاعتلال

، وإنما أقصد في هذا الباب إلى ذكر مثل مما ضعف به أحاديث ينبغي أن يقال فيها: إنها صحيحة، لضعف الاعتلال عليها، كهذا الاعتلال الذي هو الانفراد، فإنه غير ضار، إذا كان الراوي ثقة، وأصعب ما فيه الانفراد بزيادة لم يذكرها رواة الخبر الثقات، وأخفها أن يجيء بحديث لا نجده عند غيره»

(2)

.

وذكر ابن الصلاح في حديثه عن مصطلح (المنكر) ما نصه: «بلغنا عن أبي بكر أحمد بن هارون البرديجي الحافظ: أنه الحديث الذي ينفرد به الرجل، ولا يعرف متنه من غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه، ولا من وجه آخر، فأطلق البرديجي ذلك، ولم يفصل، وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة،

(1)

«الإحكام في أصول الأحكام» 1: 264 - 266.

(2)

«بيان الوهم والإيهام» 5: 456 - 461، وانظر أيضا: 3: 282، 396.

ص: 310

أو الشذوذ، موجود في كلام كثير من أهل الحديث، والصواب فيه التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ

»

(1)

.

وكان ابن الصلاح قد ذكر في حديثه عن مصطلح (الشاذ) تعريف الحاكم والخليلي للشاذ، الماضي ذكرهما في الفصل الأول من هذا الباب، لكنه لم يرتض كلامهما، وقال: «بل الأمر على تفصيل نبينه فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه، فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط - كان ما انفرد به شاذا مردودا، وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره، إنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المتفرد، فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه، وضبطه، قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه -ثم ضرب أمثلة لذلك، ثم قال-: وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارما له، مزحزحا له عن حيز الصحيح.

ثم هو بعد دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الضابط المقبول تفرده، استحسنا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف، وإن كان بعيدا عن ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر

»

(2)

.

وكلام ابن الصلاح في تعريف الحديث (الصحيح)، و (الحسن) يدور حول ما ذكره هنا، من أن حديث الراوي الثقة يصحح، فإن خف ضبطه فهو الحديث

ص: 311

الحسن، وإن كان ضعيفا فهو الذي يضعف حديثه

(1)

.

ومن المعلوم أن المصنفات في (مصطلح الحديث) بعد ابن الصلاح دارت في الغالب حول كتابه، إما بالشرح، أو الاختصار، أو النظم، فوافق ابن الصلاح على ما ذكره جمع غفير ممن ألف في مصطلح الحديث منذ عصره إلى وقتنا الحاضر

(2)

.

ويلحظ أن الثلاثة -ابن حزم، وابن القطان، وابن الصلاح- لم يخف عليهم أن أئمة النقد ربما ردوا ما ينفرد به الثقة استنكارا له، فأشار الثلاثة في معرض كلامهم إلى ذلك، لكنهم لم يرتضوه.

ولا شك أن مخالفة أئمة النقد في قضية من صميم قضايا النقد، يترتب عليها قبول أو رد ما لا يحصى من الأحاديث - أمر ليس بالهين، لا سيما بالنسبة لمن تصدى لجمع مصطلحاتهم وشرحها، ولهذا سلك أئمة آخرون مسلكا آخر في موقفهم من كلام أئمة النقد، وهو مسلك التأويل، فلجأ هؤلاء إلى تفسير النكارة الواردة في كلام النقاد على أحاديث الثقات بما لا يعارض تصحيحها وقبولها، فالنكارة معناها حينئذ على ما هي عليه في أصل اللغة: التفرد، فهي إذن وصف

(1)

«مقدمة ابن الصلاح» ص 151، 176.

(2)

انظر مثلا: «الإرشاد» للنووي ص 94 - 96، و «الخلاصة» للطيبي ص 68، و «اختصار علوم الحديث» لابن كثير، ص 56، و «التقييد والإيضاح» للعراقي ص 105 - 107، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» لابن حجر 2: 652، 674، و «تدريب الراوي» للسيوطي 1: 235، و «توجيه النظر» للجزائري ص 515 - 518، و «منهج النقد» لنور الدين عتر ص 432، و «أصول الحديث» لمحمد عجاج الخطيب ص 347.

ص: 312

كاشف لحال الإسناد، لا حكم عليه، فوصف الإسناد أو الحديث بأنه منكر إذا كان راويه ثقة معناه أن راويه تفرد به، وهو مع ذلك صحيح.

قال النووي تعليقا على كلام مسلم الذي شرح به معنى المنكر: «هذا الذي ذكر رحمه الله هو معنى المنكر عند المحدثين - يعني به المنكر المردود، فإنهم قد يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث، وهذا ليس بمنكر مردود، إذا كان الثقة ضابطا متقنا»

(1)

.

وقال ابن كثير: «فإن كان الذي تفرد به عدل ضابط حافظ قبل شرعا، ولا يقال له: منكر، وإن قيل له ذلك لغة»

(2)

.

واعتمد ابن حجر هذا في أماكن كثيرة، وخاصة في كلامه على الرواة

(3)

.

وأما بعد ابن حجر فصار هذا كالأمر المسلم به، لا يناقش فيه

(4)

.

وقد يبدو لأول وهلة أن المسلك الثاني هو الأسلم، لأن فيه تأويلا لكلام النقاد، لا ردا له، وعند التأمل فإن المسلك الأول أسلم بلا شك، فهو نظر في كلام المتقدمين، وتقرير له على حقيقته، ثم مخالفته باجتهاد أخطأ أو أصاب، وأما

(1)

«شرح صحيح مسلم» 1: 57.

(2)

«اختصار علوم الحديث» ص 56.

(3)

«تهذيب التهذيب» 8: 389، و «هدي الساري» ، ص 437، 455.

(4)

انظر مثلا: «الحاوي للفتاوى» للسيوطي 2: 283، و «قواعد في علوم الحديث» للتهانوي ص 258 - 260، 433، و «الرفع والتكميل» للكنوي، ص 199 - 212، و «منهج النقد» لنور الدين عتر ص 432.

ص: 313

المسلك الثاني فهو تقييد لكلام النقاد، وقصر له على بعض أفراده، مع أن نصوصهم وأقوالهم تأباه، وذلك لأمور:

الأول: جعل النكارة في كلام النقاد على معنيين، اصطلاحي بمعنى التضعيف والرد، ولغوي بمعنى التفرد - بعيد جدا، فكلامهم كله محمول على الاصطلاح، والتفريق يحتاج إلى دليل قوي، كيف والدليل يدل على نقيضه؟ فإن كلامهم على تفرد الثقة واستنكاره يصحبه في الغالب ما يشير إلى المراد، وهو رده وتضعيفه، كما في الأمثلة السابقة في الفصلين الأول والثاني، إذ قد يسميه وهما، أو خطأ، أو يقول: لا أصل له، ونحو ذلك.

والمتأمل في إطلاقهم لفظ (النكارة)، وما تصرف منه مثل: حديث منكر، وأحاديث مناكير، واستنكر عليه، وأنكرت من حديثه، وكان فلان ينكر عليه حديث كذا، وذكرت له الحديث الفلاني فأنكره، ونحو ذلك، يدرك أن المقصود به التضعيف والرد.

ثم إن تمييز نوع النكارة في نصوص النقاد إذا قيل به، كيف يمكن ضبطه؟ إن رجع الأمر إلى درجة الراوي لم يكن للتفرد حينئذ كبير معنى، ونصوصهم تدل على أن الأمر في هذا النوع من النقد يدور عليه.

ثم إن ربطه بدرجة الراوي يجعل الأمر مضطربا، فإن الراوي متى كان فيه توثيق معتبر، فهو في حيز القبول، أمكن أن يذهب ذاهب إلى تفسير النكارة في حديث استنكر عليه بأن المقصود بها التفرد، لا التضعيف، وجوابهم عن هذا سيكون ضعفه ظاهرا.

ص: 314

الثاني: النقد بالتفرد لم يقتصر على لفظ (النكارة)، فقد استعملوا فيه مصطلحات أخرى كثيرة، كالتعبير عنه بأنه خطأ، أو لا أصل له، أو باطل، أو لم يتابع عليه، أو روى أحاديث لم يتابع عليها، ونحو ذلك، فهذه ألفاظ لا يمكن صرفها إلى معنى لغوي، فيحصل التناقض في معنى واحد، لمجرد أن النقاد عبروا عنه بألفاظ مختلفة، من باب التنويع والتفنن.

الثالث: أطلق النقاد كثيرا على حديث الثقة إذا تفرد وخالف غيره من الثقات بأنه منكر، كما تقدمت الإشارة إليه قريبا، فما المانع أن يذهب من يرى قبول زيادة الثقة مطلقا إلى تفسير النكارة ههنا أيضا على المعنى اللغوي، فإنه موجود فيها، فيسقط بهذا التضعيف بالمخالفة، وما كان جوابا عنه، فهو أيضا جواب عن حمل الاستنكار في التفرد دون مخالفة على المعنى اللغوي.

وأما الشق الثاني في مخالفة المتأخرين لأئمة النقد في النظر إلى التفرد، فهو الجانب التطبيقي، أي في حال الحكم على إسناد وقع فيه تفرد، فما زال المتأخرون يبتعدون شيئا فشيئا عن منهج النقاد في هذه المسألة حتى أشرفوا في ذلك على الغاية في الوقت الحاضر، فلا أثر لرد تفرد الثقة ومن في حكمه، بل إن أكثرهم لا يبحث في ذلك أصلا، ولا يعرج عليه، مع وجود نقد الحديث الذي بين يديه من النقاد الأوائل أو من بعضهم بالتفرد، ومن يكلف نفسه بالنظر في أقوال النقاد فإنما يفعل ذلك لرده ومناقشته، كأن يقول بعد نقل كلام الناقد: كذا قال، وفلان ثقة فلا يضر تفرده، أو يقول: قال فلان: لم يتابع عليه، نعم لم يتابع عليه فكان ماذا؟ ونحو هذه العبارات.

ص: 315

وسأعرض الآن نماذج تطبيقية توضح الفرق بين منهج المتأخرين ومنهج أئمة النقد.

فمن ذلك حديث حفص بن غياث، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: «كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي

»، الماضي في الفصل الأول، فقد استنكره على حفص بن غياث جمع من النقاد، وذكروا أنه أخطأ فيه، فهذا الحديث أخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، كما تقدم، وكذا توارد عدد من المشايخ المعاصرين على وصف الإسناد بأنه صحيح.

وحديث محمد بن حرب الأبرش، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:«ليس من البر الصيام في السفر» ، الماضي في الفصل الأول، استنكره أبو حاتم على محمد بن حرب، وقد أخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، كما تقدم، وقال عنه البوصيري:«إسناد صحيح، رجاله ثقات»

(1)

، وكذا صححه جمع من المشايخ المعاصرين.

وحديث برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي والباب مغلق عليه، فجئت فاستفتحت

»، وهو الحديث الماضي في الفصل الثاني، وقد استنكره الجوزجاني، وأبو حاتم، على برد بن سنان، كما تقدم، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه»

(2)

، وصححه بعض المشايخ المعاصرين.

(1)

«مصباح الزجاجة» 2: 8.

(2)

«صحيح ابن حبان» حديث (2355).

ص: 316

وهذه الأحاديث الثلاثة لم يذكر من صححها من المشايخ كلام أئمة النقد، ولا عرج عليه.

وروى ضمرة بن ربيعة، عن سفيان الثوري، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك ذا رحم محرم فقد عتق»

(1)

.

قال أبو زرعة الدمشقي: «قلت لأحمد: فإن ضمرة يحدث عن الثوري، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: «من ملك ذا رحم محرم

»، فأنكره، ورده ردا شديدا، [وقال: لو قال رجل: هذا كذب، لم يكن مخطئا] وقال أحمد بن حنبل: بلغني أن ضمرة كان شيخا صالحا»

(2)

.

وقال ابن القيم: «قال الإمام أحمد عن ضمرة: إنه ثقة، إلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل، أحدهما هذا الحديث»

(3)

.

وقال الترمذي بعد أن ذكره: «لم يتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث» .

وقال النسائي: «لا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر» .

(1)

«سنن الترمذي» معلقا بعد حديث (1365)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4897)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2525)، و «سنن البيهقي» 10:289.

(2)

«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 459، و «تهذيب التهذيب» 4: 461، وما بين المعكوفين منه.

(3)

«تهذيب سنن أبي داود» 5: 409.

ص: 317

وعده الساجي في الأحاديث التي رواها ضمرة، وهي مناكير

(1)

.

وقال ابن المنذر: «قد تكلم الناس في الحديثين اللذين روينا في هذا الباب، حديث ابن عمر لم يروه عن الثوري غير ضمرة، وحديث الحسن، عن سمرة، وقد تكلم فيه، وليس منهما ثابت»

(2)

.

وقال البيهقي: «وهم فيه راويه

، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث (النهي عن بيع الولاء)، فقد رواه أبو عمير، عن ضمرة، عن الثوري، مع الحديث الأول».

فقد توارد هؤلاء الأئمة على استنكار الحديث وتضعيفه، لتفرد ضمرة بن ربيعة به عن سفيان الثوري، وضمرة وإن كان ثقة إلا أنه ليس من أصحاب الثوري المعروفين بكثرة الرواية عنه، ولهذا لا يذكره الأئمة عند كلامهم على أصحاب سفيان، وقد غلطوه في غير ما حديث يرويه عن سفيان الثوري

(3)

، وأيضا فقد استنكر له أحاديث أخر عن غير سفيان

(4)

.

وقد أشار البيهقي إلى سبب وهم ضمرة في حديثنا هذا، وهو أنه دخل له حديث في حديث، لأنه كان يرويهما جميعا، ثم إن الحديث لا يعرف عن عبدالله بن دينار، وله أصحاب كثيرون، ولا عن ابن عمر، وهو المعروف أيضا بكثرة

(1)

«إكمال تهذيب الكمال» 7: 37.

(2)

«الإشراف على مذاهب العلماء» 2: 280.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 18، 460، و «علل الدارقطني» 15:13.

(4)

انظر: «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 459 - 460، و «إكمال تهذيب الكمال» 7:37.

ص: 318

أصحابه، إلا من هذا الطريق، فهذا يدل على وهم ضمرة بن ربيعة كما ذهب إليه هؤلاء النقاد، فأصبح من اليسير فهم كلمة أحمد، وقوله إن من وصف هذا الحديث بأنه كذب لم يكن مخطئا، ومراده أن الوهم فيه من الظهور بحيث يتساوى في التضعيف والرد مع حديث الكذاب.

هذا كلام أئمة النقد، وموقفهم من حديث ضمرة، ولننظر الآن في كلام بعض المتأخرين على هذا الحديث، والمهم فيه طريقتهم في رد كلام النقاد، والتهوين من شأنه، بما يظهر فيه بعدهم عن إدراك قواعد التفرد والتضعيف به التي كان النقاد يعملونها.

قال ابن حزم: «فهذا خبر صحيح، كل رواته ثقات، تقوم به الحجة، وقد تعلل فيه

بأن ضمرة انفرد به، وأخطأ فيه، فقلنا: فكان ماذا إذا انفرد به؟

فأما دعوى أنه أخطأ فيه فباطل، لأنه دعوى بلا برهان»

(1)

.

وقال عبدالحق الإشبيلي: «عللوا هذا الحديث بأن ضمرة تفرد به، ولم يتابع عليه، وقال بعض المتأخرين: ليس انفراد ضمرة علة فيه، لأن ضمرة ثقة، والحديث صحيح إذا أسنده ثقة، ولا يضره انفراده به

»

(2)

.

ونقل ابن القطان هذا عن عبدالحق، ثم قال:«وهذا هو الصواب»

(3)

.

(1)

«المحلى» 10: 223.

(2)

«الأحكام الوسطى» 4: 15.

(3)

«بيان الوهم والإيهام» 5: 437.

ص: 319

وقال ابن التركماني متعقبا البيهقي في كلامه السابق آنفا: «ليس انفراد ضمرة به دليلا على أنه غير محفوظ، ولا يوجب ذلك علة فيه، لأنه من الثقات المأمونين

، والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحا، ولا يضره تفرده، فلا أدري من أين وهم في هذا الحديث راويه كما زعم البيهقي؟

»

(1)

.

وذكر هذا الحديث أحد المشايخ الفضلاء في كتاب له، ثم ذكر تعليل بعض النقاد له بتفرد ضمرة، وما أشار إليه البيهقي في بيانه لسبب وهم ضمرة، وأنه يروي بهذا الإسناد حديث (النهي عن بيع الولاء)، وهو المحفوظ بهذا الإسناد، ثم قال الشيخ: «هذا يدل على أن ضمرة قد حفظ الحديثين جميعا، وهو ثقة، فلا غرابة أن يروي متنين -بل وأكثر- بإسناد واحد، فالصواب أن الحديث بهذا الإسناد صحيح، وقد صححه جماعة

».

وقال أحد الباحثين متعقبا النقاد أيضا: «أما قول النسائي: إنه حديث منكر، وقول البيهقي: وهو غير محفوظ، وقول الترمذي:

، لم يتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث - ليس بسليم، لأن ضمرة ثقة، وفوق الثقة، فلا يضره التفرد بشيء لم يروه غيره، وما ذنبه إذا لم يحفظ غيره ما حفظه؟ فهل يعاقب برد ما تفرد به؟ ».

وقال باحث ثالث: «هذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات، لكن تكلم بعض أهل العلم في حديث ابن عمر هذا، لانفراد ضمرة بن ربيعة أحد رواته به، ولم

(1)

«الجوهر النقي» 10: 290.

ص: 320

يلتفت إلى ذلك آخرون، وصححوه».

ومع أن بعد المتأخرين عن منهج المتقدمين في النقد له أسباب كثيرة، تأتي الإشارة إلى شيء منها في بداية الفصل الثاني من الباب الثالث، إلا أنه يحسن هنا التنبيه على عقدة القضية في مسألة التفرد، وهو أمر سبقت الإشارة إليه، ووعدت بأن أعيد ذكره في مناسبات أخرى لأهميته، وخلاصته أن الناقد في عصر النقد يحكم على الراوي بعد النظر في حديثه، إذ قد تقدم في «الجرح والتعديل»

(1)

في شرح وسائل الحكم على الراوي أن هذه الوسيلة أهم الوسائل، وأكثرها استعمالا، فالحكم على الراوي فرع على النظر في حديثه، وأما المتأخر فالحكم على الحديث فرع على درجة الراوي المتقررة سابقا، فالصورة مقلوبة إذن.

فالناقد نظر في أحاديث الراوي مقارنا لها بما لديه من مخزون عظيم من أحاديث الرواة الآخرين، فما وافق فيه غيره كان لصالح الراوي، دالا على ثقته وضبطه، وما خالف فيه غيره، أو تفرد به، ينظر فيه الناقد، فما عده خطأ، أو منكرا، حكم عليه بذلك، ثم تكون الموازنة بين ما أصاب فيه، وما أخطأ فيه، فإن كان الغالب عليه الصواب، وأخطأ أو تفرد بأشياء منكرة قليلة، فهذا يوثقه الناقد، مع بقاء حكمه على ما أخطأ فيه أو استنكره عليه، لم يغيره كونه عنده ثقة، ولا يمكن أن يغيره، وإلا أدى هذا إلى الدور في الاستدلال، وإن كان الغالب عليه الخطأ والتفرد بما يستنكر ضعفه الناقد، مع بقاء حكمه عليه فيما وافق فيه

(1)

«الجرح والتعديل» ص 77 - 99.

ص: 321

غيره، فيصلح للاعتبار والاعتضاد، إن لم تكن أخطاؤه فاحشة جدا، يصل بها إلى حد الترك.

ولهذا السبب يأتي عن الناقد حكمه على بعض حديث الراوي بالنكارة، أو الخطأ، قبل استكمال النظر في حال الراوي، ورب حديث استنكره النقاد، ثم اختلفوا بعد ذلك في عهدة النكارة من يتحملها؟

وقد روى عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر مرفوعا:«الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا» .

وأنكر شعبة على عبدالملك بن عطاء هذا الحديث، وتابع شعبة على استنكاره جمع غفير من النقاد، منهم يحيى القطان، والشافعي، وأحمد، والبخاري، والنسائي، وغيرهم

(1)

.

ونقل عن شعبة كلام حول رواية عبدالملك عن عطاء هذا الحديث، وأن عبدالملك لو روى حديثا آخر مثل هذا لترك شعبة حديثه، وفي بعض الروايات: لو روى حديثين آخرين.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3518)، و «سنن الترمذي» حديث (1369)، و «سنن النسائي الكبرى» (التحفة 2: 292)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2494)، و «مسند أحمد» 3: 303، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 545، 2: 281، و «مسائل أبي داود» ص 415، و «العلل الكبير» 1: 572، و «الضعفاء الكبير» 3: 31، و «الكامل» 5: 1941، و «سنن البيهقي» 6: 106، و «تهذيب السنن» 5:166.

ص: 322

قال ابن القيم بعد أن نقل شيئا من هذا عن شعبة، وذكر توثيق عبدالملك، محررا قول من ذهب إلى تقوية الحديث:«لم يتكلم فيه أحد قط إلا شعبة، وتكلم فيه من أجل هذا الحديث، وهو كلام باطل، فإنه إذا لم يضعفه إلا من أجل هذا الحديث كان ذلك دورا باطلا، فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبدالملك، فلا يجوز أن يستفاد ضعفه من ضعف الحديث الذي لم يعلم ضعفه إلا من جهة عبدالملك، ولم يعلم ضعف عبدالملك إلا بالحديث، وهذا محال من الكلام»

(1)

.

وهذا التقرير من ابن القيم لا يحسن أن يعول عليه، ولا اعتراض على شعبة فيما ذهب إليه، فهو متمش مع منهج النقاد كلهم، وهو المنهج الذي لا يصح غيره، وقول ابن القيم في إثبات الدور في كلام شعبة: «فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبدالملك

»، قول منتقد، فالحديث يثبت ضعفه عند النقاد بقرائن والراوي لا يزال ثقة، وإنما يضعف الراوي بتكرر وقوع هذا منه، وهو ما ألمح إليه شعبة، فإذا لم يتكرر منه بما يوجب ضعفه بقي هو على ثقته، وبقي حديثه المنكر على نكارته، وقد يعظم الخطأ الواحد في عين ناقد فيجرح به الراوي.

وقضية تأثير الخطأ والمنكر على الراوي نفسه قضية دقيقة جدا، ينظر فيها لنوع الخطأ والنكارة، ولهذا نجد في كلام النقاد أحيانا كلمات تشير إلى تفاوت النكارة، وأنها على درجات، بحسب الشيخ الذي تفرد الراوي عنه، والمتن الذي

(1)

«تهذيب السنن» 5: 167.

ص: 323

يروى بذلك الإسناد، وطبقة الراوي، وغير ذلك

(1)

، وينظر فيها كذلك للقدر الذي يرويه الراوي من الأحاديث، ومقدار ما أخطأ فيه، وهذا يخضع لما يقف عليه الناقد من النوعين، وللاشتباه والتردد في تحميل عهدة الخطأ أحيانا.

وقد تقدم أيضا هذا في «الجرح والتعديل»

(2)

، لكن أعدت التنبيه عليه هنا لأهميته، وضرورة أن تكون الصورة واضحة للباحث، من جهة العلاقة بين الراوي وحديثه، وأن الدور في الاستدلال إنما يثبت على الحقيقة بالتلازم بين درجة الراوي، وحديثه، كما يفعله المتأخرون، لأننا إذا كنا نعرف -على طريقتهم- درجة الحديث من درجة راويه لا غير، ودرجة راويه إنما عرفت أصلا من النظر في حديثه، فهذا هو الدور الحقيقي.

وأما طريقة النقاد فلا دور فيها، فالحديث له درجة عند الناقد، دون اعتبار لدرجة راويه، ودرجة الراوي ينظر فيها إلى عموم حديثه، ما أصاب وما أخطأ فيه، ونوع الخطأ الذي وقع فيه.

روى جماعة عن الحسن بن سوار، عن عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس، عن عبدالله بن حنظلة الراهب قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك»

(3)

.

(1)

ينظر مثلا: «العلل ومعرفة الرجال» (4966)، و «علل ابن أبي حاتم» (1647)، و «الضعفاء الكبير» 2: 188، و «الكامل» 1: 419، و «تاريخ بغداد» 11:453.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 200 - 204.

(3)

«تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (71)، و «الضعفاء الكبير» 1: 228، و «معجم

الصحابة» لابن قانع ترجمة (534)، و «تلخيص المتشابه» ترجمة (194).

ص: 324

قال أبو إسماعيل الترمذي: «سألت أحمد عن هذا الحديث، فقال: هذا الشيخ ثقة ثقة، والحديث غريب، ثم أطرق ساعة، وقال: أكتبتموه من كتاب؟ قلنا: نعم»

(1)

.

وقال أبو إسماعيل أيضا: «ألقيت على أبي عبدالله أحمد بن حنبل، فقال: أما الشيخ فثقة، وأما الحديث فمنكر»

(2)

.

وقال العقيلي: «لا يتابع الحسن بن سوار على هذا، وقد حدث أحمد بن منيع وغيره عن الحسن بن سوار هذا، عن الليث بن سعد وغيره أحاديث مستقيمة، وأما هذا الحديث فمنكر»

(3)

.

وسئل أحمد، عن حديث ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن ابن المنكدر، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من جلس إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة» ، وقيل له: رواه رجل بحلب، وحسنوا الثناء عليه، فقال:«هذا باطل»

(4)

.

فالحديث باطل عند أحمد، ولم يلتفت إلى الثناء على من رواه، ولم يسأل عنه من هو؟ .

وروى الهذيل بن الحكم، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن عكرمة، عن

(1)

«تاريخ بغداد» 7: 318.

(2)

«الضعفاء الكبير» 1: 228.

(3)

«الضعفاء الكبير» 1: 228، وانظر أيضا:«العلل الكبير» 1: 384.

(4)

«علل المروذي» ص 143.

ص: 325

ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«موت الغريب شهادة»

(1)

.

والهذيل بن الحكم هذا قال فيه البخاري، وابن حبان:«منكر الحديث» ، زاد ابن حبان:«جدا»

(2)

، وقال العقيلي:«لا يقيم حديثه»

(3)

، وأما ابن معين فإنه قواه، قال ابن الجنيد: «سألت يحيى بن معين عن الهذيل بن الحكم، فقال: قد رأيته بالبصرة، وكتبت عنه، ولم يكن به بأس، قلت: ما روى عن عبدالعزيز بن أبي رواد

، قال يحيى: هذا حديثه الذي كان يسأل عنه، ليس هذا الحديث بشيء، هذا حديث منكر»

(4)

.

فهذا الحديث منكر عند الجميع، من ضعف الهذيل، ومن قواه، والذي قواه هو ابن معين، ولم يمنعه من استنكار الحديث كون المتفرد به ليس به بأس عنده

(5)

.

وروى عمرو بن أبي عمرو المدني، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به»

(6)

.

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (1613).

(2)

«التاريخ الصغير» 2: 152، و «المجروحين» 3: 95، إلا أن ابن حبان تردد في عهدة النكارة في أحاديثه هل هي منه أو من شيخه عبدالعزيز بن أبي رواد؟ .

(3)

«الضعفاء الكبير» 4: 365.

(4)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 327.

(5)

وانظر مثالا آخر لابن معين في «تاريخ الدوري» 2: 522.

(6)

«سنن أبي داود» حديث (4462)، و «سنن الترمذي» حديث (1456)، و «سنن ابن ماجه»

حديث (2561)، و «مسند أحمد» 1: 300، و «مسند عبد بن حميد» حديث (575)، و «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (870)، و «مسند أبي يعلى» حديث (2743)، و «المنتقى» حديث (820)، و «المستدرك» 4: 355، و «سنن البيهقي» 8:231.

ص: 326

وهذا الحديث استنكره جماعة من النقاد، فنقل ابن رجب، عن أحمد قوله:«كل أحاديثه عن عكرمة مضطربة» ، ثم قال ابن رجب:«لكنه نسب الاضطراب إلى عكرمة، لا إلى عمرو»

(1)

.

وقال ابن معين: «ثقة، ينكر عليه حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» ، »

(2)

.

وقال البخاري: «صدوق، لكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع عكرمة»

(3)

.

وتعلق الترمذي براويه عن عمرو بن أبي عمرو، وقد أخرجه هو من طريق عبدالعزيز الدراوردي، عن عمرو، وذكر الترمذي أن محمد بن إسحاق رواه عن عمرو، فقال فيه:«ملعون من عمل عمل قوم لوط» ، ولم يذكر القتل

(4)

.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 798.

(2)

«الكامل» 5: 1768.

(3)

«العلل الكبير» 2: 622.

(4)

«سنن الترمذي» 4: 85.

وحديث ابن إسحاق أخرجه أحمد 1: 217، 317، وقد رواه الدراوردي أيضا، وغيره، وانظر:«مسند أحمد» 1: 317، و «مساوئ الأخلاق» حديث (437)، و «المعجم الكبير» حديث (11546)، و «المستدرك» 4: 356، و «سنن البيهقي» 8:23.

ص: 327

ونقل ابن حجر أن النسائي استنكر هذا الحديث

(1)

، ولم يذكر السبب.

فاتفق هؤلاء النقاد على ضعف الحديث ونكارته، ثم عزا أحمد ذلك إلى عكرمة، وابن معين إلى عمرو، وأراد البخاري تبرئتهما فأشار إلى أن عمرو بن أبي عمرو لم يسمع من عكرمة، فالعهدة على الواسطة الذي لم يذكر، وأما الترمذي فتعلق بمن دون عكرمة.

ومثله ما رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: «قالوا: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟

»، قال الترمذي:«سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه» ، ثم قال الترمذي:«وهو حديث غريب من حديث الوليد بن مسلم، رواه رجل واحد من أصحاب الوليد»

(2)

.

فظاهر كلام الترمذي أنه يجعل العهدة على راويه عن الوليد بن مسلم، وهو عند الترمذي أبو بدر شجاع بن الوليد، وقد تقدم في الفصل الثاني عن أحمد أن الخطأ من الأوزاعي.

فيلاحظ هنا أن النقاد اتفقت كلمتهم على استنكار الحديث، ويبقى بعد ذلك أمر غير مؤثر عندهم، وهو البحث في عهدة الخطأ والنكارة.

وقد تقدم في «الاتصال والانقطاع» أن الناقد إذا بلغه أحاديث منكرة عن الراوي، وكان يحسن الظن به ويقويه، فزع إلى رميه بالتدليس دفاعا عنه

(3)

،

(1)

«التلخيص الحبير» 4: 61.

(2)

«العلل الكبير» 2: 925.

(3)

«الاتصال والانقطاع» ص 212.

ص: 328

وتقدم هنا في الفصل الرابع من الباب الأول في المبحث الخامس منه أن الناقد قد يرجح بأن هذه الأحاديث أدخلت عليه وهو لا يعلم، ولا يلجأ الناقد إلى تقوية هذه الأحاديث بمجرد كون راويها كذلك عنده، إذ هي منكرة.

ومن أمثلة ذلك أيضا في التدليس أن ابن معين كان يذهب إلى تقوية محمد بن كثير القرشي الكوفي، وأنه لا بأس به، والجمهور على أنه ضعيف منكر الحديث، وسئل عنه ابن معين مرة فقواه، فذكر له السائل حديثين مما استنكره النقاد عليه، فأشار ابن معين إلى احتمال أن يكون دلسهما، ثم قال:«وإن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب، وإلا فإني رأيت حديث الشيخ مستقيما»

(1)

.

فاستقامة حديث هذا الراوي عند ابن معين، وكونه يرى أنه لا بأس به، لم يقدم ولم يؤخر في نظر ابن معين لهذين الحديثين، فهما منكران، وبهما نسب الراوي إلى الكذب، إن كان رواهما، فهما اللذان حكما على الراوي، وليس العكس.

وبضد هذا ما حصل لابن المديني مع عبدالسلام بن حرب، فإنه وقف له أولا على منكرات، ثم وقف على باقي حديثه فرآه مستقيما، فغير رأيه فيه، والمنكرات باقية كما هي، ولهذا قصة ذكرها ابن المديني، قال: «كنت أستنكر بعض حديثه حتى نظرت في حديث من يكثر عنه، فإذا حديثه مقارب، عن مغيرة والناس، وذلك أنه كان عسرا، فكانوا يجمعون غرائبه في مكان، فكنت أنظر إليها

ص: 329

مجموعة فأستنكرها»

(1)

.

وروى الربيع بن يحيى الأشناني، عن الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر:«جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة، للرخص من غير خوف ولا سفر»

(2)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال:«باطل عندي، هذا خطأ، لم أدخله في التصنيف، أراد: أبا الزبير، عن جابر، أو: أبا الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، والخطأ من الربيع»

(3)

.

وأبو حاتم استنكر هذا الحديث على الربيع، لكنه احتمله منه، وقال فيه حين سئل عنه:«ثقة، ثبت»

(4)

.

وأما الدارقطني فرأى مثل هذا الخطأ مؤثرا، لفداحته، فقال فيه حين سئل عنه:«ليس بالقوي، يروي عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر (الجمع بين الصلاتين)، وهذا يسقط مئة ألف حديث»

(5)

.

وقال أبو زرعة في عمر بن عبدالله بن أبي خثعم: «واهي الحديث، حدث

(1)

«سير أعلام النبلاء» 8: 336.

(2)

«شرح معاني الآثار» 1: 161، و «ذكر أخبار أصبهان» 2: 18، و «التمهيد» 12:217.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 116.

(4)

«الجرح والتعديل» 3: 471.

(5)

«سؤالات الحاكم للدارقطني» ص 206، وانظر:«سؤالات البرقاني للدارقطني» ص 30.

ص: 330

عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث، لو كانت في خمسمئة حديث لأفسدتها»

(1)

.

وروى مسكين بن أبي فاطمة، عن حوشب بن عقيل، عن الحسن، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الغسل يوم الجمعة ليستل الخطايا من أصول الشعر استلالا»

(2)

.

قال أبو حاتم في نقده لهذه الرواية: «هذا منكر، الحسن، عن أبي أمامة، لا يجيء، وَوَهَن أمر مسكين عندي بهذا الحديث»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه أبو غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصلوات الخمس، فأتم ركوعها، وسجودها، كان له عند الله عهد أن لا يعذبه» .

قال أبي: سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنت أنكره، ولم أفهم عورته حتى رأيته الآن

، حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن عبادة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

، فعلمت أن الصحيح هذا، وأن محمد بن مطرف لم يضبط هذا الحديث، وكان محمد بن مطرف ثقة»

(4)

.

(1)

«سؤالات البرذعي لأبي زرعة» 2: 543.

(2)

«المعجم الكبير» حديث (7996).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 198، وانظر أيضا: 1: 210، و «الجرح والتعديل» 8:329.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 89، ورواية زيد بن أسلم، عن عطاء، أخرجها أبو داود حديث (425)، وأحمد 5: 317، والطبراني في «الأوسط» حديث (4655)، (9311)، وأبو نعيم في

«الحلية» 5: 130، والبيهقي 2: 215، من طرق عن أبي غسان محمد بن مطرف به، لكن فيه زيادة أبي عبدالله الصنابحي، أو عبدالله الصنابحي، بين عطاء بن يسار، وعبادة.

وأما رواية زيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، فلم أقف عليها عند غير أبي حاتم، لكن الحديث مشهور عن محمد بن يحيى، له عنه طرق كثيرة، وفي بعضها زيادة راو بين ابن محيريز، وعبادة، انظر:«إتحاف المهرة» 6: 435، و «مسند أحمد» تحقيق الأرنؤوط الأحاديث (22693)، (22720)، (22752).

ص: 331

فالحديث إذن منكر عند أبي حاتم، بغض النظر عن درجة راويه، قبل أن يطلع أبو حاتم على علته، وبعد أن اطلع عليها

(1)

.

والخلاصة أنه‌

‌ لا علاقة بين كون الراوي ثقة، وبين نكارة حديثه، ولا بين النكارة وتبين مصدر الغلط

، بل قد يكون وضوح سبب الغلط مخففا للنكارة، كما تقدم شرحه.

ومما يؤكد ما تقدم -وهو أن درجة الحديث لا تؤخذ من حال راويه فقط- أن رواية الراوي قد تكون صحيحة في نفسها، وإن كان راويها ليس في درجة من يحكم لروايته بذلك، كما قال أبو حاتم في أحمد بن إبراهيم الخراساني:«شيخ مجهول، والحديث الذي رواه صحيح»

(2)

.

(1)

وانظر أمثلة أخرى في «العلل ومعرفة الرجال» (2421) ، و «المنتخب من علل الخلال» ص 300، و «علل ابن أبي حاتم» (2258)، (2681)، و «الجرح والتعديل» 3: 418 ترجمة (1911)، 5: 410، ترجمة (1905)، 6: 66، ترجمة (349)، و «الضعفاء الكبير» 1: 228، و «تهذيب الكمال» 19: 505، 27: 574، و «إكمال تهذيب الكمال» 4: 103

(2)

«الجرح والتعديل» 2: 39.

ص: 332

وقال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن المنذر القزاز: «سألت أبي عنه، فقال: لا أعرفه، وعرضت عليه حديثه، فقال: حديث صحيح»

(1)

.

وكان من المفترض أن يكون عمل المتأخر ينصب على تأييد أقوال النقاد، وتكميله، كأن يستنكر الناقد حديثا، دون أن يذكر السبب، فيجتهد المتأخر في توجيهه، وبيان سبب النكارة، أو يختلف النقاد في سبب النكارة، وتحميل الخطأ، فيجتهد في الموازنة بين أقوالهم، واستبعاد ما يظهر كونه مرجوحا.

فالاختلاف في عهدة النكارة في حديث (اللواط) الآنف الذكر يمكن للباحث أن يستبعد من الاحتمالات ما ذهب إليه الترمذي، فإن الحديث قد رواه جماعة عن عمرو بن أبي عمرو غير الدراوردي.

وكذلك حديث أبي هريرة: «متى كنت نبيا؟

»، لم يتفرد به شجاع بن الوليد، فقد رواه جماعة غيره عن الوليد بن مسلم.

وروى المعافى بن عمران، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم»

(2)

.

(1)

«الجرح والتعديل» 2: 78. وينظر أمثلة أخرى للانفصال بين حديث الراوي، ودرجة الراوي: «العلل ومعرفة الرجال» (5251) ، و «مسائل أبي داود» (1914)، و «مسائل ابن هانئ» (2292) ، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 1: 312، و «علل ابن أبي حاتم» (964)، و «الجرح والتعديل» 2: 88.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1739)، و «سنن النسائي» حديث (2652)، (2655)، و «سنن

الدارقطني» 2: 236، و «الكامل» 1: 408، و «سنن البيهقي» 5: 28، وهو عند أبي داود مختصر بميقات أهل العراق فقط.

ص: 333

فهذا الحديث استنكره جماعة من النقاد، فجعل أحمد عهدة النكارة على أفلح بن حميد، قال أبو داود:«قلت لأحمد: أفلح بن حميد؟ قال: هذا شيخ قد احتملوه، وجعل كأنه يستضعفه، قال: يكثر من الرأي، قلت: رأي القاسم؟ قال: نعم، قال: روى حديثا منكرا، حديث المواقيت، قلت: وصح ذلك عندك، رواه غير المعافى؟ قال: المعافى ثقة»

(1)

.

وقد استنكر عليه أحمد غير هذا الحديث أيضا، قال أبو داود:«كان أحمد تكلم فيه، وسمعت أحمد يقول: لم يحدث عنه يحيى، وروى أفلح حديثين منكرين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر» ، و «حدَّد لأهل العراق ذات عرق»

(2)

.

وروى ابن صاعد حديث المواقيت من طريقه، ثم قال:«كان أحمد بن حنبل ينكر هذا الحديث مع غيره على أفلح بن حميد، فقيل له: يروي عنه غير المعافى؟ فقال: المعافى بن عمران ثقة»

(3)

.

وفي السؤال الموجه لأحمد عن ثبوت الحديث عنه ما يشير إلى احتمال أن تكون النكارة من الراوي عنه: المعافى بن عمران، وقد أشار إلى ذلك ابن عدي،

(1)

«مسائل أبي داود» ص 412.

(2)

«إكمال تهذيب الكمال» 2: 261.

(3)

«الكامل» 1: 408.

ص: 334

فقال بعد أن ساق الحديث، وكلام ابن صاعد:«وأفلح بن حميد أشهر من ذاك، وقد حدث عنه ثقات الناس، مثل ابن أبي زائدة، ووكيع، وابن وهب، وآخرهم القعنبي، وهو عندي صالح، وأحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة كلها، وهذا الحديث ينفرد به معافى عنه، وأنكر أحمد على أفلح في هذا الحديث قوله: «ولأهل العراق ذات عراق» ، ولم ينكر الباقي من إسناده ومتنه شيئا»

(1)

.

وأما مسلم فتعلق بالراوي عن المعافى بن عمران عنده، فقال:«ليس بمستفيض عن المعافى، إنما روى هشام بن بهرام، وهو شيخ من الشيوخ، ولا يقر الحديث بمثله إذا تفرد»

(2)

.

فالباحث لا ينبغي له أن يتعرض للبحث في أصل نكارة هذه اللفظة، فهي منكرة عند الجميع، لكن له أن يرجح فيمن يتحمل عهدتها، فيستبعد أولا رأي مسلم، إذ قد رواه عن المعافى أيضا محمد بن علي أبو هاشم الموصلي، وغيره.

ويمكن أيضا أن يستبعد المعافى بن عمران بكون أفلح بن حميد قد استنكر عليه عن القاسم غير هذا الحديث، كما يومئ إليه كلام أحمد.

فأمام المتأخر عمل كثير يقوم به، غير أنه حمل نفسه فوق طاقتها -والله لا يكلف نفسا إلا وسعها- فانتصب للنقد مستقلا، وسلك منهجا مغايرا، بإدراك لذلك من بعضهم، ودون إدراك من البعض الآخر.

(1)

«الكامل» 1: 408.

(2)

«التمييز» ص 214.

ص: 335

ومما يتعجب منه في عمل المتأخرين تناقضهم في موقفهم من أقوال النقاد، إذ يعتمدون عليهم في درجات الرواة، ويقلدونهم في ذلك، ثم يدعونهم فيما يستنكرونه على هؤلاء الرواة، والقارئ يلحظ ذلك في النص الواحد حين ينقلونه عن المتقدمين، فحديث (اللواط) الآنف الذكر، وكذلك حديث عمرو بن أبي عمرو الآخر في (الواقع على بهيمة) -وبعض الرواة يرويهما عنه حديثا واحدا- سلك فيهما المتأخرون ضروبا من مخالفة أئمة النقد في المنهج، في الاتصال والانقطاع، وفي قضيتنا هذه قضية التفرد، وفي الشد والاعتضاد بالطرق الأخرى، وغير ذلك

(1)

.

وقد أشار السخاوي إلى هذا التناقض، فقال بعد أن ذكر منزلة أئمة النقد في الحكم على الأحاديث: «وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث -كابن خزيمة، والإسماعيلي، والبيهقي، وابن عبدالبر- لا ينكر عليهم، بل يشاركهم، ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعني

»

(2)

.

ورأيت بعض الباحثين المعاصرين جمع جرامزه فوثب وثبة ظن أنه بلغ فيها عنان السماء، وقدماه لم ترتفعا عن الأرض، إذ ذهب إلى نكارة حديث (اللواط)،

(1)

انظر: «الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم» ص 173 - 177.

(2)

«فتح المغيث» 1: 274.

ص: 336

وأطال في النقول عن أئمة النقد، لكنه في نفس الكتاب الذي يحققه ذهب يقوي مارواه عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، ومنها حديث (البهيمة)، وهو أشد نكارة من حديث (اللواط)، ثم كلام أحمد، والبخاري، يدل على أن أحاديث هذه النسخة كلها مناكير ضعيفة.

ومما يظهر تناقض كثير من المتأخرين في هذه المسألة أنهم يدفعون استنكار النقاد لبعض ما يرويه الثقات ومن في حكمهم، وفي المقابل عضوا بالنواجذ على ما تقرر عند النقاد أن من أحاديث الضعفاء ما يترجح حفظهم له، معتمدين في ذلك كلام النقاد في كون ضعفهم غير شديد، فهم في درجة الاعتبار، على أن تطبيق المتأخرين لشروط اعتماد ترجيح حفظ الضعيف لما يرويه فيه خلل كبير جدا، كما سيأتي في موضعه.

ومن التناقض أيضا في قضية التفرد تسليم المتأخرين باشتراط رواية أكثر من راو عن الشخص لترتفع جهالته، فيكثرون من القول بأن هذا الشخص لم يرو عنه سوى راو واحد، وليس فيه توثيق معتبر، فهو مجهول، مع كون الراوي عنه ثقة، ولا يلتفتون لتفرد الراوي بالحديث، وكونه مظنة أن يخطئ فيه.

والخلاصة أن قضية (التفرد) وتشعباتها وقع من المتأخرين في تطبيقها تناقض ظاهر، ومع ذلك فلا بد من التسليم بأن المتكلمين على الأحاديث من المتأخرين لا يشعرون بالتناقض، في هذه المسألة وغيرها، فهم مخطئون معذورون.

وقد كنت -مثل كثيرين غيري- أظن أن مخالفة المتأخرين لمنهج أئمة النقد

ص: 337

في التفرد خاص بما يرويه الثقة ومن في حكمه، فالمتأخر ليس عنده تضعيف بالتفرد لما يرويه هؤلاء، وأما ما يتفرد به الضعيف فهم يوافقون أئمة النقد على تضعيفه ورده بالتفرد.

ثم ظهر لي أن‌

‌ مخالفة المتأخرين لأئمة النقد في تفرد الضعيف أقوى وأشد

، فالمناكير عن الضعفاء أكثر بكثير منها عن الثقات ومن في حكمهم، والمتأخرون -كما تقدم- ربطوا درجات الأحاديث بمراتب الرواة فقط، غير ملتفتين لقرائن الإسناد الأخرى ومنها التفرد، فأحاديث الضعفاء عندهم ضعيفة فقط، لأن رواتها ضعفاء، وعلى هذا فهي قابلة للاعتضاد على طريقتهم.

وأما أئمة النقد فليس النظر عندهم فقط لدرجة الراوي، فالحديث يحكمون ببطلانه، وبكونه موضوعا، وليس في إسناده من رمي بالكذب والوضع، وهذا كثير جدا عندهم في أحاديث الضعفاء، بل قد يوجد عندهم في أحاديث الثقات أيضا، كما تقدم في هذه الفصول.

ومن أمثلته في الضعفاء ما رواه معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -وقال مرة: عن أبي سعيد الخدري-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أيام التشريق كلها ذبح» .

سئل عنه أبو حاتم، فقال:«هذا حديث كذب بهذا الإسناد» ، وأبى مرة أن يقرأه على الناس، وقال:«هذا حديث موضوع عندي»

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 286، 2: 38، وانظر:«الكامل» 6: 2396، و «سنن البيهقي» 9:296.

ص: 338

وراويه عن الزهري معاوية بن يحيى الصدفي لم يتهم بالكذب، فهو ضعيف، خاصة في الزهري، وقد تفرد بهذا عنه، ولم يشاركه أحد من أصحاب الزهري، على كثرتهم، فاستحق حديثه هذا أن يوصف بالوضع.

وقد رأيت أحد المشايخ المعاصرين نقل كلام ناقد في حكمه على حديث بالبطلان، ثم عقبه الشيخ بأن هذا الحكم مبالغة من الناقد، كذا قال، نظر إلى صورة الإسناد فقط، وهذه إحدى مشكلات النقد عند المتأخرين، وهي متفرعة من أصل خطأ عندهم: قياس الأحاديث برواتها، وليس قياس الرواة بأحاديثهم، ويتفرع منها قضايا أخرى ابتعد فيها المتأخرون جدا عن منهج النقد عند أئمته.

ولإدراك هذا جيدا ينظر تعقبات المتأخرين لابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» ، فقد أوسعوه نقدا، في أعيان الأحاديث، وفي كلامهم عليه في كتب المصطلح، وكنا نظن زمنا أن الصواب دائما أو غالبا مع من تعقبه، وعند التحقق تبين عكس ذلك، وأن الصواب في الغالب مع هذا الإمام، وفي حواشي المعلمي على «الفوائد المجموعة» للشوكاني كلام كثير حول نقد طريقتهم، وكذا صنع في المقدمة.

ثم ههنا أمر آخر، وهو أن طريقة المتأخرين جنت على الرواة أيضا، فالمتأخر حين ينظر في الإسناد جُلُّ نظره منصب على رواته، فأيهم وجده أشد ضعفا ممن سواه نقد الإسناد به، وإن كان الحديث لم يصح عنه إلى الآن، لأمر أغفله المتأخر، وأهم ذلك ما يتعلق بالتفرد، فحين ألغى المتأخر النقد به فالحديث عنده ثابت إلى هذا الراوي، فهو حلقة الضعف في الإسناد.

ص: 339

ومن أمثلة ذلك حديث أبي هريرة مرفوعا: «أد الأمانة إلى من ائتمنك

» الماضي في الفصل الأول من هذا الباب، فأبو حاتم حكم عليه بالنكارة بسبب تفرد طلق بن غنام به عن شريك، وقيس بن الربيع، وكل من رأيته تكلم على هذا الحديث من المتأخرين انصب نظره على شريك، وقيس بن الربيع، فهما دون طلق بن غنام، إذ هو ثقة، ثم رجع فعضد أحدهما بالآخر، وصحح الحديث أو حسنه، والإسناد لم يصح إليهما أصلا، فهو منكر عنهما.

وروى الترمذي عن أحمد بن محمد بن نيزك، عن أسود بن عامر، عن صالح بن عمر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أحب إلى الله العمل فيهن من عشر ذي الحجة

» الحديث.

ثم قال الترمذي: «سألت محمدا (يعني البخاري) وعبدالله بن عبدالرحمن (يعني الدارمي) عن هذا الحديث، فلم يعرفاه من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة»

(1)

.

ذكر هذا أحد الباحثين عن الترمذي، وعلق على الإسناد بقوله:«في سند الحديث محمد بن عمرو بن علقمة، وفيه ضعف» ، ثم ذكر شواهد للحديث قال في آخرها عن حديث أبي هريرة:«أقل أحواله أن يكون حسنا» .

وبغض النظر عن تقصير الباحث في دراسة الرواة قبل محمد بن عمرو،

(1)

«العلل الكبير» 1: 346.

ص: 340

فابن نيزك هذا ليس فيه توثيق، سوى أن ابن حبان ذكره في «الثقات»

(1)

، وقال فيه ابن عقدة:«في أمره نظر»

(2)

، بغض النظر عن هذا، فقد وقع الباحث في الإشكال الذي ذكرته، وهو تحميل الراوي عهدة الحديث، وهو لم يصح عنه، فمحمد بن عمرو بريء من هذا الحديث، وكلام الإمامين -البخاري، والدارمي- صريح في أنه منكر عنه.

وذكر هذا الحديث أيضا أحد المشايخ المعاصرين من مصدر آخر، لكن جاء عنده أحمد بن محمد بن نيزك منسوبا لجده، ثم قال:«وهذا سند حسن، لولا أني لم أعرف ابن نيزك هذا» .

ومعنى هذا أنه لو عرف ابن نيزك بالثقة لما تردد في تحسين الإسناد، وقد منعه من تصحيحه حال محمد بن عمرو، فقد تكلم فيه من قبل حفظه، ولم يلتفت الشيخ للتفرد الحاصل قبله في ثلاث طبقات، فلا يصح عنه أصلا.

* * *

(1)

«الثقات» 8: 47.

(2)

«تاريخ بغداد» 5: 108.

ص: 341

‌الفصل الرابع

التفرد وكلام أئمة النقد

ص: 343

معنى التفرد -كما تقدم- أن الراوي لم يشاركه أحد في رواية هذا الحديث، سواء عن شيخه، أو عمن فوقه أيضا.

والنظر في التفرد معناه دراسة التفرد حين وقوعه، وهل الراوي مصيب في روايته للحديث، رغم أنه لم يشاركه أحد، أو مخطئ في روايته، وما يتصل بذلك من إعمال لضوابط النظر في التفرد، وتطبيقها.

وهذان الأمران -الحكم بوقوع التفرد، والحكم بصواب الرواية أو خطئها- عظيمان جدا في باب النقد، سواء من جهة الحديث المروي ودرجته، أو من جهة الراوي وأثر ذلك في الحكم عليه، نظرا لكثرة الأحاديث التي وقع فيها تفرد، وكثرة الرواة الذين وقع منهم تفرد، كثرة بالغة لا حدود لها.

والحكم بهما يحتاج إلى اطلاع واسع على طرق الأحاديث، وملكة قوية في النقد، ومعرفة بأصحاب الرواة، وطبقاتهم، ومعرفة ما عند كل راو من الأحاديث، وتتبع دقيق لمتون السنة النبوية، ومسار الاحتجاج بها، وزمن ذلك.

وكل هذه المتطلبات -وغيرها- إنما يفي بها كغيرها من قضايا النقد على الحقيقة أئمة النقد في عصر الرواية، ولهذا فمن الضروري جدا الاعتناء بكلامهم، وتتبعه، وجمعه، والإستناد إليه، حين يتصدى الباحث للنظر في إسناد حديث وقع فيه تفرد.

وفي البحث عن كلامهم، والاعتماد عليه، قضايا متعددة، سأتناولها في هذا الفصل من عدة جوانب.

ص: 345

أولا:‌

‌ كلام أئمة النقد على التفرد له مصادر خاصة، ومصادر عامة

، فأما المصادر الخاصة فيقصد بها كل ما ألفه النقاد بغرض النص على التفرد، سواء حمل عنوانه هذا المعنى، أو حمل معنى آخر، وسواء كان المراد بالتفرد بإطلاق، أو كان خاصا بتفرد راو بعينه، أو عن راو بعينه، أو غير ذلك.

فهذا النوع من المؤلفات قصد به جمع الأحاديث التي وقع فيها تفرد، فكلها إذن من كلام النقاد ونصهم على التفرد.

وليس لهذا النوع من المؤلفات حد معين، فهي من الكثرة بحيث يمكن القول بأنها لا حصر لها، مع كثرة العناوين التي تدل عليها، فالأحاديث الغرائب، والأفراد، والحسان، والفوائد، والمنتقاة، كلها عناوين دالة على مقصود المؤلفين بهذا النوع من المؤلفات، ناهيك عن كتب ألفت تحت مسميات أخر، وقصد بها التفرد.

ثم هذه المؤلفات منها ما هو كبير في مجلدات، ومنها ما هو متوسط، ومنها ما هو صغير الحجم على طريقة الأجزاء، وقد تقدم في أول هذا الباب أن الرواة تعارفوا على وضع كتب لهم باسم «الفوائد» ، يضع فيه الراوي ما يراه غريبا من حديث شيوخه.

ثم لما اتسعت الرواية، وكثرت، اضطر الرواة حين يريدون السماع من شيخ معين أن ينتقوا من حديثه ما ليس عند غيره، فيفرد لوحده، ويسمعونه منه، وقد يفعلونه لكونه عسرا في الرواية، كما تقدم في الفصل الثالث، في قصة ابن المديني مع عبدالسلام بن حرب.

ص: 346

ومن النقاد من قصد التأليف في جمع الغرائب والأفراد.

فلهذه الأسباب مجتمعة -وغيرها- كثرت المؤلفات في التفرد كثرة بالغة، كما أسلفت.

ومن الكتب الكبيرة في هذا الموضوع معجما الطبراني: «الأوسط» ، و «الصغير» .

قال الطبراني في أول «معجمه الصغير» : «هذا أول كتاب فوائد مشايخي الذين كتبت عنهم بالأمصار، خرجت عن كل واحد منهم حديثا واحدا

»

(1)

.

وأما «الأوسط» فقال فيه الذهبي: «يأتي فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب، فهو نظير كتاب «الأفراد» للدارقطني»

(2)

.

وكتاب «الغرائب والأفراد» للدارقطني، قال عنه ابن كثير:«لم يسبق إلى نظيره»

(3)

، وقد وضع له ابن طاهر أطرافا، وهو المطبوع الآن، وطبع من الأصل جزء صغير.

ومن الكتب أيضا: «الفوائد» ليحيى بن معين، رواية أبي بكر المروزي عنه، وهو مطبوع، ورواية الصوفي عنه، و «الفوائد» لتمام الرازي، وهو مطبوع، و «فوائد أبي بكر الشافعي» المعروف بالغيلانيات، وهو مطبوع، و «جزء الألف

(1)

«المعجم الصغير» ص 21.

(2)

«تذكرة الحفاظ» 3: 912.

(3)

«اختصار علوم الحديث» ص 61.

ص: 347

دينار» لأبي بكر القطيعي، وهو مطبوع، «وغرائب شعبة» لابن المظفر، وهو مطبوع.

و«غرائب مالك» للدارقطني، وللخطيب.

وغيرها كثير جدا، ما بين مطبوع، ومخطوط، ومفقود

(1)

.

وأما المصادر العامة فيقصد بها ما يوجد فيها كلام للنقاد في التفرد، وإن لم تكن مخصصة لذلك، على تفاوت بينها في الكثرة والقلة.

وهذا النوع من المصادر يشمل كتب الرواية، مثل «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» ، و «سنن النسائي» ، و «سنن الدارقطني» ، و «سنن البيهقي» ، و «مسند البزار» ، و «الإيمان» لابن منده، وغيرها، فينص المؤلفون على التفرد، ومنهم من يكثر من ذلك، كما يفعل الترمذي، والبزار، وابن منده.

ويشمل أيضا كتب النقد العامة بأنواعها، «التواريخ» ، و «السؤالات» ، و «كتب العلل» ، فهي مليئة بأقوال النقاد ونصوصهم في التفرد، وما يتصل به من قضايا، وهي المورد الأول لنصوص النقاد الأوائل، مثل شعبة، والقطان، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، وقد طبع منها شيء كثير.

ويشمل أيضا كتب الرجال، مثل «التاريخ الكبير» للبخاري، و «ضعفاء

(1)

ينظر في هذه المؤلفات: مقدمة تحقيق كتاب «الغيلانيات» 1: 27 - 67، ومقدمة تحقيق كتاب «الفوائد» ليحيى بن معين، رواية الصوفي ص 208 - 210، 216 - 236.

ص: 348

العقيلي»، و «الكامل» لابن عدي، و «المجروحين» لابن حبان، فإنهم يذكرون في ترجمة الراوي شيئا مما انتقد عليه، وكثير منه في التفرد، ينصون على ذلك.

وفي كتب تواريخ البلدان كلام كثير أيضا يتعلق بالتفرد، والنص عليه، مثل «ذكر أخبار أصبهان» لأبي نعيم، و «تاريخ بغداد» للخطيب.

بل يوجد في كتب المناقب، مثل «الحلية» لأبي نعيم، النص على التفرد والغرابة.

ثم بعد ذلك كتب المتأخرين غير المسندة، مثل كتب المزي، وابن كثير، والزيلعي، والعراقي، وابن حجر، فهي مورد عظيم أيضا لنصوص النقاد في التفرد، ويوجد فيها نقول من كتب للأولين قد فقدت، فهي إذن قائمة مقام الأصل.

وندرك مما تقدم أن أمام الباحث بحر لا ساحل له من المصنفات، عليه أن يجول فيها، ويبحث عن كلمة لناقد، أو إشارة منه إلى وقوع تفرد، وبقدر الجهد المبذول في هذا وأمثاله يتفاوت الباحثون، وتبرز الفروق الفردية بينهم.

ثانيا:‌

‌ في كلام النقاد على التفرد مقامان

، المقام الأول: الحكم بوقوع التفرد، وهذا عباراته ظاهرة، كأن يقول الناقد: تفرد به فلان، أو لم يروه إلا فلان، أو لا يعرف إلا من حديث فلان، أو لا أعرفه إلا من حديث فلان، أو لم يروه عن فلان سوى فلان، أو غريب من حديث فلان، ونحو هذه العبارات.

وكذلك إذا أودعه في كتاب قصد به جمع الغرائب والأفراد.

ص: 349

والمقام الثاني: الحكم في هذا التفرد، هل هو صواب أو خطأ؟ وهذا قد تكون عبارة الناقد صريحة في الحكم به، كأن يقول: هو صحيح، أو هو خطأ، أو أخطأ فيه فلان، أو باطل، أو لا يصح، أو لا يعرف، أو لا أعرفه، أو يقول تلميذه: سألته عنه فلم يعرفه، ونحو ذلك.

وقد تكون بالإشارة والإيماء، كأن يقول: تفرد به فلان -وهو ثقة- فهذا إشارة إلى تقويته، ما لم يدل السياق على خلاف ذلك، أو يقول: لم يتابع عليه فلان، فهذا إشارة إلى تضعيفه ورده.

ومن الإشارة أيضا أن يكون كلامه خرج موضع جواب لسؤال، كأن يسأل عن الحديث، فيقول: لم يروه إلا فلان، أو تفرد به فلان، ونحو ذلك، فهذا الظاهر منه نقده لهذا التفرد، وعدم قبوله.

سأل الترمذي شيخه البخاري عن الحديث الماضي في الفصل الأول، وهو حديث عائشة مرفوعا:«ما خالطت الصدقة مالا إلا أهلكته» ، فقال:«هكذا حدثونا عن محمد بن عثمان بن خلف مرفوعا، وهذا حديثه، ولا أعلم أحدا رفع هذا الحديث غيره»

(1)

.

فالذي يفهم من سياق السؤال والجواب أنه استنكار للحديث ورد له، وإن لم يصرح البخاري بذلك.

وكذلك إذا نقل الناقد حكما لناقد قبله وسكت عليه، فالظاهر أنه يقول به

(1)

«العلل الكبير» 1: 327.

ص: 350

ويعتمده، خاصة إذا كان جوابا لسؤال، كأن يسأل الناقد عن حديث فيذكر عن ناقد قبله أنه استنكره على أحد رواته لتفرده به.

ومن الإشارة أيضا أن يفهم من السياق أن الناقد قصد بذكر التفرد الثناء على الراوي، وبيان جلالته وسعة حفظه، أو عكس ذلك، كأن يكون في معرض تليينه والقدح فيه.

فأما القدح فهو كثير جدا في الرواة، فجلُّ ما يذكر في كتب الرجال قصد به القدح في الراوي بهذا التفرد.

وأما القبول والثناء على الراوي فمثل ثنائهم على الزهري، بذكر ما يتفرد به، كما تقدم في قول مسلم:«للزهري نحو من تسعين حرفا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد، بأسانيد جياد»

(1)

.

وقد يفهم رأي الناقد من تصرفه، فإذا وضع الناقد حديثا في كتاب يجمع فيه الأحاديث الصحيحة فهو حكم منه بصحته، كما في صنيع البخاري ومسلم، وإذا أخرجه في كتاب قصد به ذكر أخطاء الرواة وما انتقد عليهم، فالظاهر أنه يستنكره على هذا الراوي الذي ذكره في ترجمته، مثل صنيع العقيلي في «الضعفاء» ، وابن عدي في «الكامل» ، وابن حبان في «المجروحين» .

مثاله حديث الصدقة الماضي آنفا، فقد ذكره ابن عدي في ترجمة (محمد بن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (164)، وانظر نماذج من أحاديث تفرد بها الزهري:«علل ابن أبي حاتم» المسائل: (860)، (1258)، (1722)، (2611).

ص: 351

عثمان الجمحي) ولم يزد على أن قال: «ومحمد بن عثمان بن صفوان يعرف بهذا الحديث، ولا أعلم أنه رواه عن هشام بن عروة غيره»

(1)

.

وفي الجملة فإن مجرد إشارة الناقد إلى التفرد يصلح أن يكون متكأ لأن نأخذ منه أن الناقد يشير إلى ضعف في الإسناد بسبب هذا التفرد، ما لم يظهر بالقرائن خلاف ذلك.

ثالثا:‌

‌ الغرض من الوقوف على كلام النقاد في التفرد الواقع في الإسناد هو الاعتماد على كلامهم

، والاحتجاج به، فالنقاد إذا اجتمعوا على تصحيح تفرد، أو على تضعيفه، وجب على الباحث أن يتابعهم، ولا يحق له حينئذ النظر في هذا التفرد، فقد كفي، وهذا العلم كغيره من العلوم، إجماع أهل الاجتهاد فيه حجة، كما سبق بيانه في مناسبة سابقة، في «الاتصال والانقطاع» ، وذكرت هناك كلام أبي حاتم في تقرير هذه المسألة

(2)

.

والأحاديث الصحيحة التي وقع الإجماع على قبول التفرد فيها وتصحيحها كثيرة، مثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات

» الحديث

(3)

.

(1)

«الكامل» 6: 2214.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 66 - 67.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (1)، (54)، (2529)، (3898)، (5070)، (6689)، (6953)، و «صحيح مسلم» حديث (1907)، و «سنن أبي داود» حديث (2201)، و «سنن الترمذي»

حديث (1647)، و «سنن النسائي» حديث (75) ، (3437) ، (3803) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (4227)، و «مسند أحمد» 1: 25، 43.

ص: 352

فهذا حديث وقع فيه تفرد بلفظه هذا في طبقاته الأربع، وقد صححه النقاد، واحتفوا به، فهو موافق للأصول، وفي مطلق النية أحاديث أخرى

(1)

.

وحديث عمر هذا أول حديث في «صحيح البخاري» ، ويشبهه آخر حديث فيه، وهو حديث محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة مرفوعا: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن

» الحديث، فقد وقع فيه التفرد أيضا في أربع طبقات كما تقدم في الفصل الأول من الباب الأول.

وأما التضعيف بالتفرد فقد تقدم في الفصول الثلاثة السابقة أمثلة على توارد النقاد على الرد والاستنكار، وفي بعضها نقل إجماعهم على ذلك.

وفي الاعتماد على إجماعهم لا يشترط أن ينقل الحكم بذلك عن جميع النقاد، فهذا غير ممكن، ولو اشترط لم يثبت إجماع في هذا العلم وغيره، ويكفي أن يتوارد عدد منهم على حكم بالتفرد، ولا مخالف لهم، فيجب الأخذ به.

ويلتحق بذلك ما إذا جاء حكم على تفرد وقع في حديث من الاثنين والثلاثة من النقاد، ولا مخالف لهم، بل لو جاء عن الواحد منهم ولا مخالف له، فالأسلم للباحث ألا ينازعه هذا الحكم، خاصة إذا كانت القرائن تؤيده، كأن

(1)

انظر: «فتح الباري» 1: 11.

ص: 353

يكون ظهور الحديث جاء متأخرا، ثم استنكره مثل ابن حبان، وابن عدي، والدارقطني، وأبي نعيم، والبيهقي، والخطيب، فينبغي الوقوف معه، فإن البحث عن أقوال للنقاد الآخرين، كأحمد، وابن المديني، وابن معين، في حديث على هذه الشاكلة ليس في مكانه.

وإذا وجد الباحث اختلافا بين النقاد، وكان جمهور النقاد على قول، فبإمكان الباحث أن يعتمد قول الجمهور، ويتكئ عليه، سواء بالقبول أو الرد.

فأما في الرد فقد تقدمت له بعض الأمثلة، منها حديث شبابة، عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر، في (الدباء والمزفت)، وقد مضى في الفصل الأول، فقد استنكره جمهور النقاد على شبابة، وأما ابن المديني فدافع عنه، ومضى معه أيضا حديث سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا:«نعم الإدام الخل» ، وحديث «بيت لا تمر فيه جياع أهله» ، استنكرهما جماعة من النقاد على سليمان بن بلال، وهما في «صحيح مسلم» .

وكذلك حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه أبي موسى مرفوعا: «المؤمن يأكل في معي واحد

» الحديث، استنكره جماعة من النقاد، وهو في «صحيح مسلم» ، لكنه عنده في الشواهد

(1)

.

وأما في القبول فمن أمثلته حديث عبدالرحمن بن أبي الموال، عن محمد بن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2062)، و «شرح علل الترمذي» 2:645.

ص: 354

المنكدر، عن جابر في (صلاة الاستخارة)

(1)

، استنكره أحمد على عبدالرحمن بن أبي الموال، قال أبو طالب: «سألت أحمد بن حنبل عن عبدالرحمن بن أبي الموال، قال: عبدالرحمن لابأس به

، يروي حديثا لابن المنكدر

، ليس يرويه أحد غيره، هو منكر، قلت: هو منكر؟ قال: نعم، ليس يرويه غيره، لا بأس به، وأهل المدينة إذا كان حديث غلط يقولون: ابن المنكدر، عن جابر، وأهل البصرة يقولون: ثابت، عن أنس، يحيلون عليهما»

(2)

.

وأما البخاري فأخرجه في «صحيحه» ، وقال الترمذي بعد أن أخرجه:«حديث جابر حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن أبي الموال، وهو شيخ مديني ثقة، روى عنه سفيان حديثا، وقد روى عن عبدالرحمن غير واحد من الأئمة» .

وقال ابن عدي في نهاية ترجمته وقد ذكر فيها استنكار أحمد لحديثه هذا: «هو مستقيم الحديث، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد روى حديث الاستخارة غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه ابن أبي الموال»

(3)

.

وحديث زكريا بن أبي زائدة، عن خالد بن سلمة، عن عبدالله البهي، عن

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1162)، (6382)، (7390)، و «سنن أبي داود» حديث (1358)، و «سنن الترمذي» حديث (480)، و «سنن النسائي» حديث (3253)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1383)، و «مسند أحمد» 3:344.

(2)

«الكامل» 4: 1616، وانظر:«مسائل حرب» ص 473.

(3)

«الكامل» 4: 1617.

ص: 355

عروة، عن عائشة:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه»

(1)

.

سأل ابن أبي حاتم أبا زرعة عنه، فقال:«ليس بذاك، هو حديث لا يروى إلا من ذا الوجه»

(2)

.

وقد أخرجه مسلم في «صحيحه» ، وعلقه البخاري في «صحيحه» جازما به

(3)

، وسأله عنه الترمذي فقال:«هو حديث صحيح»

(4)

.

وقال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر قول أبي زرعة السابق: «فذكرت قول أبي زرعة لأبي رحمه الله فقال: الذي أرى أن يذكر الله على كل حال، على الكنيف وغيره، على هذا الحديث»

(5)

.

ويتأكد ترجيح قول الجمهور إذا لاحت قرينة في قول مخالفهم، كما في تخريج الحديث في «الصحيحين» في الشواهد والمتابعات، أو يمرض الناقد رأيه، كأن يقول: أخشى أن يكون -أو أخاف أن يكون- غلطا، أو يقول: أرجو أن يكون محفوظا، أو لعله حفظه، ونحو ذلك.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (373)، و «سنن أبي داود» حديث (18)، و «سنن الترمذي» حديث (3384)، و «سنن ابن ماجه» حديث (302)، و «مسند أحمد» 6: 70، 153، 278.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 51.

(3)

«صحيح البخاري» 1: 407 كتاب (الحيض)(باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت).

(4)

«العلل الكبير» 2: 904.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 51.

ص: 356

رابعا: في البحث عن كلام النقاد على حديث ينظر فيه الباحث، لا يكتفى بجمع كلامهم على التفرد الواقع فيه على ما فيه نص على الحديث المعين هذا، فهناك كلمات للنقاد لا بد من الاستفادة منها وإن لم تكن نصا في الحديث المعين، مثل أن ينص ناقد على نكارة الحديث، ثم يأتي نص عن ناقد آخر في الراوي أنه روى حديثا منكرا، أو أنه يروي المناكير، وقد ينص على أنه يرويها عن شيخ يسميه، يكون هو الموجود في إسناد الحديث.

ومثله لو جاء نص عن ناقد أن فلانا روى حديثا منكرا -ولم يعينه-، ثم وقف الباحث على حديث لهذا الراوي تفرد به، سواء بنص ناقد آخر أو بدونه، فالظاهر أنه يعني هذا الحديث، ويتأكد هذا إذا كان الناقد نص على النكارة وسمى شيخه، ثم وجد الحديث عن هذا الشيخ.

ويدخل في هذا أيضا ما يأتي عن النقاد من كلمات على أسانيد معينة أنها لا يثبت بها حديث، أو أن هذا الباب لا يصح فيه شيء، أو لا يثبت فيه شيء، أو كل ما في الباب ضعيف، مع وجود التفرد في شيء منها، فيستدل بذلك على أن الناقد لم يقبل هذا التفرد.

وكل ما تقدم بالغ الأهمية بالنسبة للباحث وهو يجمع كلام النقاد، إذ عليه أن يدقق في العبارات، وأن لا يدع منها شيئا، سواء منها ما يتعلق بحديثه، أو بأحد رواته، أو بالسلسلة كلها، أو بالباب كله.

وسأضرب لذلك بعض الأمثلة، فروى عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت،

ص: 357

عن أنس، قال:«أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله، إن نساء أسعدننا في الجاهلية، أفنسعدهن في الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إسعاد في الإسلام، ولا شغار، ولا عقر في الإسلام، ولا جلب في الإسلام، ولا جنب، ومن انتهب فليس منا»

(1)

.

وروى عبدالرزاق أيضا عن معمر، عن ثابت، وأبان، وغير واحد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا شغار في الإسلام»

(2)

، وربما جاء هذا عن عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت وحده، عن أنس

(3)

.

وقد توارد عدد من الأئمة المتأخرين، والباحثين المعاصرين، على تصحيح هذا الحديث، ومنهم من يزيد على ذلك بأنه على شرط الشيخين.

وأما النقاد المتقدمون فقد استنكروه، فنص أحمد على ذلك في هذا الحديث بعينه، فإنه سئل عن رواية معمر، عن ثابت، وأبان وغير واحد

، فقال:«هذا عمل أبان -يعني حديث أبان- وإنما معمر -يعني لعله دلسه-»

(4)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 197، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6690)، وقد أخرج جملا منه أبو داود حديث (3222)، والترمذي حديث (1601)، والنسائي حديث (1851)، وعبد بن حميد حديث (1253)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» حديث (1895)، وابن حبان حديث (3146)، والبيهقي 4:62.

(2)

«مسند أحمد» 3: 165، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (10434)، و «المعجم الأوسط» حديث (3032).

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (1885)، و «مسند عبد بن حميد» حديث (1256).

(4)

«شرح علل الترمذي» 2: 865.

ص: 358

ومراد أحمد أن الحديث يرويه معمر، عن أبان بن أبي عياش، وهو متروك الحديث، وأما روايته له عن ثابت فهي منكرة، ولعله دلسه عنه، وغرض أحمد تبرئة معمر من هذا المنكر

(1)

.

وقال المروذي: «سألته عن حديث معمر، عن ثابت، عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار» ، فقال: هذا حديث منكر من حديث ثابت»

(2)

.

والشاهد هنا أن الباحث حين نظره في أقوال النقاد لا يكتفي باستنكار أحمد له، فقد جاء استنكاره عن ابن المديني أيضا، وإن لم ينص على هذا الحديث، فقد تكلم في رواية معمر، عن ثابت بإطلاق، فقال:«في أحاديث معمر، عن ثابت، أحاديث غرائب ومنكرة» ، وذكر ابن المديني أنها تشبه أحاديث أبان بن أبي عياش

(3)

، وهذا يوافق قول أحمد.

وكذا ابن معين، فقد جاء عنه قوله:«حديث معمر، عن ثابت، وعن جماعة مضطرب كثير الأوهام»

(4)

، وقال أيضا:«حديث معمر، عن ثابت، ضعيف»

(5)

.

وقال العقيلي في كلامه على أصحاب ثابت المعروفين: «أنكرهم رواية عن

(1)

ينظر: «الاتصال والانقطاع» ص 370.

(2)

«علل المروذي» ص 150.

(3)

«شرح علل الترمذي» 2: 691.

(4)

«إكمال تهذيب الكمال» 11: 30، 301، و «شرح علل الترمذي» 2:691.

(5)

«شرح علل الترمذي» 2: 804.

ص: 359

ثابت: معمر»

(1)

.

وروى عبدالرحمن بن إبراهيم القاص، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا:«من كان عليه صوم من رمضان فليسرده، ولا يقطعه»

(2)

.

وقد ذكر هذا الحديث عبدالحق الإشبيلي، ثم قال:«رواه عبدالرحمن بن إبراهيم القاص، وقد أنكره عليه أبو حاتم، ووثق، وضعف»

(3)

.

فتعقبه ابن القطان بقوله: «كذا قال، وهو يروي عن العلاء، وروى عنه جماعة، ولا يتعين أن يكون الذي أنكره أبو حاتم عليه هو هذا الحديث بعينه، ولعله حديث آخر، قال أبو محمد بن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: ليس بالقوي، روى حديثا منكرا عن العلاء، وقال أيضا: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قال أبي: عبدالرحمن بن إبراهيم كان قاصا، من أهل المدينة، كان عنده كراسة فيها للعلاء بن عبدالرحمن، وليس به بأس»

(4)

.

والذي يظهر أن صنيع عبدالحق هو الصواب، فأبو حاتم استنكر له حديثا يرويه عن العلاء بن عبدالرحمن، وهذا الحديث تفرد به عن العلاء، فالظاهر أنه يعنيه.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 691.

(2)

«سنن الدارقطني» 2: 19، و «سنن البيهقي» 4:59.

(3)

«الأحكام الوسطى» 2: 238.

(4)

«بيان الوهم والإبهام» 5: 375، 2: 207، و «الجرح والتعديل» 5: 211، و «مسائل صالح» ص 307، وفيه -مع تقديم وتأخير- زيادة:«حدثنا عنه عفان» .

ص: 360

وقد قال أحمد فيما روى عنه ابنه صالح: «من أفطر من رمضان أو غيره، من مرض أو سفر، إن صام متتابعا فهو الذي لا اختلاف فيه، وإن صام متفرقا فهي رخصة، قال الله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وقد قيل: أحص العدة، وصم كيف شئت، وقال ابن عمر: صمه كما أفطرته» ، قال صالح:«وأنكر أبي على من يقول: لا يجزئه إلا متتابع»

(1)

.

فكلام أحمد -وقد عرف نسخة عبدالرحمن القاص، عن العلاء- يؤيد أن الحديث الذي استنكره أبو حاتم هو حديث الصوم هذا.

ثم لما كتبت هذا وجدت ابن حجر قد ذكر كلام عبدالحق، وتعقب ابن القطان له، ثم قال ابن حجر:«قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبدالرحمن»

(2)

، فحسم الأمر.

ومما يتصل بهذا الحديث أن أقوال النقاد الذين ضعفوا الراوي نفسه يضمها الباحث إلى أقوال من تكلم في حديثه المعين، ويجعلها ردا منهم لحديثه هذا بالتفرد، واستنكارا له، خاصة من تكلم فيه مع ذكر حديثه هذا.

فهذا الراوي قال فيه أبو داود: «هو عندي منكر الحديث»

(3)

.

وقال فيه النسائي: «ليس بالقوي»

(4)

.

(1)

«مسائل صالح» ص 263.

(2)

«التلخيص الحبير» 2: 218.

(3)

«سؤالات الآجري لأبي داود» 1: 387.

(4)

«الضعفاء والمتروكين» ص 67.

ص: 361

واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة:«ليس بشيء» ، وقال مرة:«ثقة»

(1)

.

وذكره العقيلي في «الضعفاء» ، وساق من مفاريده حديثين استنكرهما عليه

(2)

.

وقال ابن حبان: «منكر الحديث، يروي ما لا يتابع عليه، وليس بمشهور في العدالة فيقبل منه ما انفرد به

»

(3)

.

وكذا ضعفه الدارقطني بعد أن أخرج حديثه، ونقله عنه البيهقي مقرا له، ونقل تضعيفه عن نقاد آخرين.

وعلى هذا فيصح للباحث أن يذكر أن هؤلاء النقاد جميعا قد استنكروا حديث الصوم هذا على عبدالرحمن، وضعفوه بتفرده به.

ولا يصح أن يقال: لم لا يذكر الباحث في مقابل هذا أن من ذهب إلى تقوية عبدالرحمن يقبل تفرده بهذا الحديث، فهو صحيح أو حسن عنده؟ لأن تقوية الراوي لا يلزم منها تقوية حديثه المعين، وقد سبق شرح هذا في الفصل الأول، وسبق أيضا في الفصل الثاني بيان أن عدم إدراك هذا أو استحضاره حال الكلام على الحديث هو الذي أدى بالمتأخرين إلى مخالفة أئمة النقد، والاعتماد على حال الراوي فقط، كما فعل ابن القطان في كلامه على هذا الحديث، فقد انتهى إلى أنه حديث حسن، لأن عبدالرحمن مختلف فيه.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 343.

(2)

«الضعفاء الكبير» 2: 320.

(3)

«المجروحين» 2: 60.

ص: 362

والخلاصة في هذا الحديث أن جمعا من النقاد استنكروه على عبدالرحمن، ولا معارض لهم من النقاد ألبتة.

وروى أحمد بن عيسى بن عبدالجبار التنيسي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبدالله، عن عائشة قالت:«دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصرُه موضع سجوده حتى خرج منها»

(1)

.

سئل عنه أبو حاتم فقال: «هذا حديث منكر»

(2)

.

فأبو حاتم نص على نكارة الحديث، فلا يصح أن يقال: استنكار أبي حاتم يقابله تصحيح ابن خزيمة له، ذلك أن النقاد قد تواردوا على استنكار رواية أهل الشام عن زهير بن محمد، وهذا الحديث منها، ثم منهم من جعل سبب النكارة من زهير نفسه، وأنه حدث هناك من حفظه، ومنهم من ذكر أن أهل الشام غلطوا عليه، بل منهم من ذهب إلى أنه ليس زهير بن محمد المعروف، وإنما هو آخر قلب أهل الشام اسمه

(3)

.

وعمرو بن أبي سلمة تكلم فيه، وقال أحمد في خصوص روايته عن زهير:«روى عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبدالله، فغلط فقلبها عن زهير»

(4)

.

(1)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (3012)، و «المستدرك» 1: 479، و «سنن البيهقي» 5:158.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 298.

(3)

انظر ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 113.

(4)

«الضعفاء الكبير» 3: 272، و «الجرح والتعديل» 6: 235، و «تهذيب التهذيب» 8:44.

ص: 363

والراوي عن عمرو وهو أحمد بن عيسى قال فيه ابن عدي: «ذكر عنه غير حديث لا يحدث به غيره عن عمرو بن أبي سلمة، وغيره» ، ثم ذكر حديثا له عن عمرو، ثم قال:«وهذا حديث باطل بهذا الإسناد، مع أحاديث أخر يرويها عن عمرو بن أبي سلمة بواطيل» .

وكذا تكلم فيه ابن يونس، وابن حبان، والدارقطني، وكذبه مسلمة بن قاسم، وابن طاهر

(1)

.

فالخلاصة أن هذا الحديث منكر عند سائر النقاد، من نص منهم عليه، ومن أجمل القول في رواية أهل الشام عن زهير، ومن تكلم في عمرو بن أبي سلمة، أو في أحمد بن عيسى، ولا يؤثر اختلافهم في سبب نكارة هذه الأحاديث التي تروى بهذه النسخة، فكلها بهذه المثابة.

وروى إدريس بن يحيى الخولاني، عن عبدالله بن عَيَّاش القتباني، عن عبدالله بن سليمان المصري المعروف بالطويل، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم، فقال:«هذا حديث منكر»

(3)

.

(1)

«الكامل» 1: 194، و «المجروحين» 1: 146، و «لسان الميزان» 1: 240، و «تهذيب التهذيب» 1:65.

(2)

«مسند الروياني» حديث (1432)، و «صحيح ابن حبان» حديث (3467)، و «المعجم الأوسط» (6434)، و «معرفة علوم الحديث» ص 195، و «الحلية» 8:320.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 212.

ص: 364

وقال البزار في عبدالله بن سليمان: «حدث بأحاديث لم يتابع عليها»

(1)

.

وقال الطبراني بعد أن أخرجه: «لم يرو هذا الحديث عن نافع إلا عبدالله بن سليمان، ولا عن عبدالله بن سليمان إلا عبدالله بن عياش، تفرد به إدريس بن يحيى، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد» .

وبنحو هذا قال أبو نعيم، ثم نسبه للطبراني.

فكلام النقاد هذا كله حكم على الحديث بالنكارة، من صرح بذلك، ومن تكلم في أحد رواته، ومن نص على الغرابة والتفرد.

خامسا: في تصنيف الباحث للنقاد، والتدقيق في موقفهم من التفرد في حديث بين يديه، يراعي غرضه من النظر في هذا الحديث، فإن كان غرضه الحديث نفسه لم يبال فيما يجده من اختلافات بين النقاد حين يستنكرون الحديث، مثل أن يجعل بعضهم عهدة النكارة على راو، ويجعلها آخر على راو قبله، ويجعلها ثالث على راو بعده، أو يلمح بعضهم إلى احتمال عدم السماع، فعهدة النكارة على من أسقط من الإسناد.

وكذلك في التماس النقاد لسبب وقوع الراوي في الخطأ، وفي المسار الصحيح لهذا الحديث، ففي مثل هذا يقع اختلاف بين النقاد في تعيينه.

فهذه الاختلافات غير مؤثرة إطلاقا في كون هؤلاء النقاد يرون نكارة هذا الحديث، وتضعيفه ورده بالتفرد، كما تقدم.

(1)

«تهذيب التهذيب» 5: 245.

ص: 365

أما إذا كان غرض الباحث شيئا خاصا غير حال الحديث نفسه، مثل البحث في راو معين من رواة الإسناد، وكلام النقاد حوله، وما استنكر عليه، أو البحث في أسباب وقوع الرواة في الخطأ، فهنا يقف الباحث عند كلام النقاد، ويجعل اختلافهم مؤثرا في القضية التي يتناولها.

وقد تكرر فيما مضى -وسيأتي لاحقا- التنبيه على أن النقاد لهم غرض في الحديث نفسه، ودرجته، وهل يثبت أو لا؟ ولهم أغراض أخرى في الإسناد، مثل سماع الرواة بعضهم من بعض، وحال رواة الإسناد بإطلاق، أو في شيخ معين، فإن هذا كله إنما يعرف من خلال أحاديث الرواة، وتحديد ما أخطأ وما أصاب فيه الراوي.

سادسا: مما يلزم الباحث الاعتناء به في جمعه لأقوال النقاد في التفرد، ونظره فيها، أن يدقق جيدا في صفة التفرد الذي أراده الناقد، فقد تقدم في أول هذا الباب أن التفرد منه ما هو مطلق، ومنه ما هو نسبي، إما عن راو معين، أو بصفة معينة في الإسناد أو المتن، فالناقد قد يقول: هذا حديث منكر بهذا الإسناد، وقد يقول: هذا حديث منكر، ولا يزيد على ذلك، ولكن يتبين بعد الدراسة، والنظر في الطرق الأخرى، وكلام النقاد الآخرين، أن غرضه نكارة الحديث بهذا الإسناد فقط، وللحديث طريق آخر لا نكارة فيه.

فإذا روى الحديث سفيان بن عيينة -مثلا- عن شيخ له، واشتهر الحديث عن سفيان، ثم جاء إسناد فيه غرابة وتفرد عن سفيان الثوري، عن هذا الشيخ بعينه، واستنكر الناقد طريق سفيان الثوري، عرفنا أنه أراد نكارته من هذا

ص: 366

الطريق فقط، سواء صرح بذلك أو سكت.

وقد يقول الناقد: هذا حديث منكر بهذا الإسناد، وبعد التفتيش يتبين أنه لا إسناد لهذا المتن إلا هذا الإسناد، فغرض الناقد نكارته مطلقا، وقوله: بهذا الإسناد، زيادة تأكيد.

وقد ينفي الناقد النكارة والتفرد عن راو، ومراده إلى هذا الراوي، وأما بعده فهو منكر.

مثال ذلك أن معمر بن سليمان الرقي، روى عن عبدالله بن بشر، عن أبان، وحميد، عن أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقبل امرأته وهو صائم، قال: هي ريحانة يشمها إذا شاء»

(1)

.

سئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال:«أما من حديث حميد منكر، وأما أبان فقد روي عنه»

(2)

.

ومراد أبي زرعة أن الرواية عن حميد الطويل لا تصح عنه، فالحديث منكر عنه لم يروه أصلا، وأما أبان بن أبي عياش فليست بمنكرة عنه، فقد روي عنه الحديث من غير هذا الطريق، فجاء عنه من طريق مروان بن معاوية، وعبدالوارث بن سعيد

(3)

.

(1)

«الكامل» 4: 1559.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 261.

(3)

«ذكر أخبار أصبهان» 1: 125، و «المطالب العالية» حديث (1090).

ص: 367

والحديث وإن لم يكن منكرا عن أبان، لكنه منكر عن أنس، فأبان متروك الحديث، ولما سئل أبو حاتم عن رواية المسيب بن واضح، عن معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، قال:«هذا حديث باطل، وليس هو من حديث حميد، إنما هو حديث أبان»

(1)

.

فبين أولا بطلان الحديث كله، ثم بين أنه لا يصح عن حميد، وإنما الذي يرويه هو أبان بن أبي عياش.

والمقصود هنا أن تحديد مراد الناقد بالتفرد والتضعيف به، أو نفي ذلك، في غاية الأهمية بالنسبة للباحث، فيتأكد من مراد الناقد بالتأمل في سياق الكلام، وبالنظر في الطرق الأخرى، وأقوال النقاد الآخرين.

سابعا: مع أهمية كلام النقاد في التفرد، ورد هذا التفرد أو قبوله، فالباحث أمامه عمل كبير يقوم به، ليتمم عمل النقاد، لا ليقضي عليه، فكثير من الباحثين يظن أن الباحث انتهت مهمته إذا قيل له: ابحث عن كلام النقاد في الحديث وأثبته، وليس الأمر كذلك قطعا، فهناك أمور كثيرة تحتاج إلى جهد الباحث، وخبرته، وإظهار مقدرته النقدية.

وقد أخرت الكلام في هذه القضية بغرض التأكيد عليها وإبرازها، وتسهيل إدراكها على الباحث، إذ قد تقدم في هذا الباب مسائل كثيرة في التفرد يدرك الباحث من خلال عرضها أن نقد المرويات لا يزال بحاجة إلى جهده المبارك،

ص: 368

شريطة أن يكون راسخ الإيمان بالمهمة المنوطة به، محتفلا بها، مدركا لعظمها، مستشعرا لحاجته إلى الكثير من التدرب والممارسة ليقوم بها، قد تقرر لديه طبيعة هذه المهمة وحدودها، وأنها النيابة عن أئمة النقد، وتتميم الجهد العظيم الذي قاموا به، والابتعاد عن المناهج المخطئة في التعامل مع تفرد الراوي، التي أدت إلى تصحيح وتحسين مئات الأحاديث المنكرة الباطلة، ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورا وبهتانا.

ومن المناسب هنا أن أذكر الباحث بشيء من المهام المنوطة به فيما يتعلق بالتفرد.

فمن هذه المهام:

- جمع كلام النقاد من المصادر المتفرقة، وهي -كما تقدم إيضاح ذلك- من الكثرة والتنوع بمكان، ويشمل الجمع ما كان من كلامهم صريحا، وما كان إيماء وإشارة، وما استدل عليه بالتصرف، وما كان في الحديث المعين، أو في عموم أحاديث الراوي، أو في درجته هو، والتمعن في كلام الناقد، وتحديد مراده بالتفرد، هل هو مطلق أو نسبي؟ .

- تصنيف أقوال النقاد، من كان منهم يذهب إلى التضعيف والرد بهذا التفرد، ومن كان منهم يقبله، ومن توقف في ذلك أو تردد، أو جاء عنه قولان متعارضان، وما يتبع ذلك من تقرير وجود إجماع على الرد، أو القبول، أو وجود اختلاف، وتحديد درجة هذا الاختلاف، هل هو قوي أو ضعيف؟ .

ص: 369

- يجتهد الباحث في بيان سبب النكارة حين يذهب إليها الناقد، ويكون كلامه خاليا من ذلك، فينظر في الضوابط السابقة للتفرد، ويجتهد في تطبيقها على حديثه الذي ينظر فيه، فيقول مثلا: وإنما استنكروه على فلان لأنه ليس بالقوي في فلان، وقد تفرد به عنه، مع كثرة أصحابه، وفيهم حفاظ ثقات ملازمون له، ومع كون هذا المتن في أمر مهم، ونحو ذلك.

- في حال اختلاف النقاد في عهدة النكارة ومن يتحملها يسعى الباحث من خلال نظره في القرائن والطرق الأخرى أن يكون له رأي في هذا الاختلاف، فيقول مثلا: استنكره الترمذي على فلان، وبالنظر في الطرق فقد توبع من جماعة، فالظاهر رجحان قول أحمد أن النكارة من فلان.

أو يقول: فلان أشد ضعفا من فلان، فالظاهر أن النكارة منه، كما قاله ابن معين، وليس من فلان، كما ذهب إليه الدارقطني.

- في حال اختلاف النقاد في قبول أو رد الحديث بالتفرد، يجتهد الباحث في شرح أسباب القبول، وشرح أسباب الرد، مستعينا بضوابط التفرد، وما يجده من كلام للنقاد في هذا الحديث بعينه.

- إذا وجد الباحث اختلافا في القبول والرد، وكان معه من الدلائل والقرائن، وطول الممارسة، ما يستطيع به أن يرجح بين أقوالهم، فعل ذلك، وأبدى رأيه بعبارة مناسبة، تليق بعظم الموقف، وعظم من يشاركهم النقد.

وقد يتوقف عن الترجيح إن رأى أن نهاية إقدامه عند هذه النقطة، فلا

ص: 370

متقدم له ولا متأخر.

وقد يصرح بأنه اختار القبول أو الرد لأنه قول الجمهور.

- إذا مر بالباحث إسناد وقع فيه تفرد، ولم يجد لأئمة النقد فيه كلاما، فبإمكانه أن يجتهد في تطبيق ضوابط القبول والرد بالتفرد على هذا الإسناد.

ولو لم يكن عنده سوى هذه المهمة لكانت كافية، لما نراه من كثرة الغرائب والأفراد في الكتب المتأخرة، وليس للنقاد في كل حديث بعينه كلام، وقد اعتمدها المتأخرون كثيرا في تصحيح الأحاديث المروية بها، فحرموا أنفسهم مشاركة أئمة النقد هذا العلم الشريف، وجنوا على سنة نبيهم، فأكثروا من تصحيح ما لا يصح.

ونظرا لكون هذه القضية لم يتقدم لها مثال فيما مضى، فسأضرب لها مثالا، فقد روى الطبراني عن يحيى بن عثمان بن صالح، عن أحمد بن زيد القزاز، عن ضمرة بن ربيعة، عن عبدالله بن شوذب، عن أبي التياح، عن أنس مرفوعا:«أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» .

فهذا الحديث وضعه الضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة»

(1)

، بناء على ظاهر إسناده، لكنه حديث منكر جدا لا يصح، فالمشهور في هذا حديث أيوب بن سويد -وهو ضعيف- عن عبدالله بن شوذب، وقد ذكر الطبراني بعد

(1)

«الأحاديث المختارة» حديث (2783).

ص: 371

تخريجه أنه تفرد به أيوب

(1)

.

وأما طريق ضمرة فيحتمل أن يكون خطأ ممن دونه.

وأحمد بن زيد القزاز، لم يذكر في تلاميذ ضمرة بن ربيعة، ولا في شيوخ يحيى بن عثمان، وله ذكر في تراجم بعض شيوخه، والآخذين عنه، ولم أقف له على ترجمة

(2)

، ويحيى بن عثمان بن صالح متكلم فيه أيضا.

ولو صح الإسناد إلى ضمرة فالحديث منكر، فضمرة مع ثقته قد استنكر له النقاد أحاديث، تقدم منها في الفصل الثالث حديثه عن سفيان الثوري، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعا:«من ملك ذا رحم محرم فقد عتق» .

ومما استنكر عليه أيضا حديث آخر، يرويه عن عبدالله بن شوذب، عن ثابت، عن أنس، استنكره عليه أحمد

(3)

.

وقد قال الساجي: «صدوق يهم، عنده مناكير»

(4)

.

وفي أحاديث الباب كلها يقول الشافعي: «هذا الحديث ليس بثابت عند أهل الحديث»

(5)

.

(1)

«الكامل» 1: 362، و «المعجم الصغير» حديث (475)، و «سنن الدارقطني» 3: 35، و «المستدرك» 2:5.

(2)

«ذيل تاريخ بغداد» 17: 222، و «تاريخ دمشق» 53: 335، و «تهذيب الكمال» 2: 208، 30: 158، و «تاريخ الإسلام» 26:420.

(3)

«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 459.

(4)

«إكمال تهذيب الكمال» 7: 37.

(5)

«السنن الكبرى» 10: 271.

ص: 372

ويقول أحمد: «حديث باطل، لا أعرفه من وجه صحيح»

(1)

.

فهذه الأقوال كلها داخلة في استنكار هذا الطريق وتضعيفه ورده بالتفرد.

وروى جماعة عن محمد بن عمر بن يزيد الزهري، عن أبي داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل»

(2)

.

فتعرض أحد المشايخ المعاصرين لتخريج الحديث، فعزاه إلى أبي نعيم في «الطب» ، و «أخبار أصبهان» ، وذكر أنه فيها من طرق عن أبي داود الطيالسي، وانتهى إلى أن الإسناد حسن لذاته، والحديث ليس له إلا طريق واحد عن أبي داود الطيالسي، وهو طريق محمد بن عمر الزهري، لكن وقع تحريف عند أبي نعيم، فظنها الشيخ طرقا مختلفة.

ومحمد بن عمر هذا أخو الحافظ عبدالرحمن بن عمر الزهري المعروف برسته، وليس في ترجمته ذكر لحاله

(3)

، فهو مجهول، وقد تفرد به عن أبي داود الطيالسي، ولهذا لا يوجد هذا الحديث إلا في هذه المصادر النازلة، لكن منهج الشيخ أنه لا يلتفت لتأخر المصادر، ولا لظهور الحديث بعد عصر النقاد،

(1)

«التلخيص الحبير» 3: 113.

(2)

«طبقات المحدثين بأصبهان» 4: 176، و «معجم ابن المقرئ» حديث (675)، و «الطب النبوي» لأبي نعيم حديث (151)، و «ذكر أخبار أصبهان» 1: 195، 353، 2:69.

(3)

«فتح الباب في الكنى والألقاب» لابن منده ص 512، و «ذكر أخبار أصبهان» 2: 187، و «تاريخ الإسلام» 20:175.

ص: 373

ولو صح هذا عن أبي داود الطيالسي لاشتهر جدا، ولخرجه الأئمة في كتبهم.

وأكثر من ذلك أن الشيخ عتب على بعض الأئمة المتأخرين، وأنهم ظلموا هذا الحديث، فلم يذكروه إلا بإسناد عند الطبراني فيه راو متروك

(1)

، والحقيقة أن الشيخ بتحسينه طريق أبي داود هو الذي ظلم هذا الحديث.

قيل لأحمد: أتعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل» ؟ ، فقال:«لا أعرفه، إنما هذا عن منصور، عن مجاهد، عن عمر»

(2)

.

* * *

(1)

«المعجم الأوسط» حديث (28).

(2)

«منتخب علل الخلال» ص 84.

ص: 374

‌الباب الثالث

اختلاف الرواة

وفيه: مدخل، وفصول:

الفصل الأول: أنواع الاختلاف، ومنهج النقاد فيه، ومنهج المتأخرين.

الفصل الثاني: قرائن الترجيح والموازنة.

الفصل الثالث: مسائل متفرقة في النظر في الاختلاف.

الفصل الرابع: جهد الباحث وكلام النقاد.

الفصل الخامس: الاختلاف عن المدار والحكم النهائي.

ص: 375

‌مدخل:

يتفاوت الرواة تفاوتا كبيرا في أشياء عديدة، منها الصدق، والحفظ والإتقان، وملازمة الشيخ، والجمع بين الحفظ في الصدر والكتاب، والتحديث منهما، والالتزام باللفظ، وإتقان اللغة العربية، وغير ذلك مما تقدم شرحه في القسم الأول «الجرح والتعديل» ، وعلى هذا الأساس وضع النقاد مراتب للرواة.

ثم إن زمن تحديث الراوي بالحديث قد يمتد لفترة طويلة، فيحدث به مرات عديدة تصل في بعض الأحاديث إلى المئات، وتختلف مناسباتها، وأماكنها، فيرويه تاما، ويرويه أيضا مختصرا، أو ينشط فيسنده، ويفتر فيرسله، أو يرويه عن عدد من الشيوخ، فيكتفي أحيانا ببعضهم، وقد يكون ذلك كله على سبيل السهو والخطأ.

وترتب على هذا وغيره وجود اختلاف بين الرواة في رواية النصوص، وليس هذا بالقليل، بل هو كثير جدا، فقل حديث إلا وقد وقع فيه شيء من الاختلاف في إسناده أو متنه.

و‌

‌معنى الاختلاف:

أن يروي اثنان -أو أكثر- حديثا عن شيخ لهم -فهو المدار إذن- فيختلفون في صفة روايتهم لهذا الحديث عنه، إسنادا، أو متنا، وقد يكون الاختلاف في الشيخ نفسه، كاسمه ونسبه، ونحو ذلك.

فإذا جمع الباحث طرق الحديث، عليه أن يتمعن في أماكن التقاء الطرق، فإذا التقت عند راو نظر فيه، وفي صفة الرواية بعده، هل هي متفقة، أو مختلفة؟

ص: 377

وإذا كانت مختلفة فما صفة هذا الاختلاف؟ وهذا قد طلب منه أثناء جمعه للطرق، وكتابتها في رسم توضيحي، كما تقدم شرحه في الفصل الثالث من الباب الأول.

والآن يدخل الباحث في النظر في هذا الاختلاف، ما سببه، وما نتيجة النظر فيه؟

وفي باب (اختلافات الرواة في إسناد الحديث أو متنه) قضايا كثيرة جدا، إذ هو أحد أركان علم نقد المرويات، بل هو أعظم أركانه، وهو ما يعرف اصطلاحا بعلم العلل، وسأعرض لهذه القضايا في عدة فصول.

* * *

ص: 378

‌الفصل الأول

أنواع الاختلاف، ومنهج النقاد فيه ومنهج المتأخرين

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: أنواع الاختلاف.

المبحث الثاني: منهج النقاد في الاختلاف ومنهج المتأخرين.

ص: 379

‌المبحث الأول

أنواع الاختلاف

تنقسم الاختلافات الواقعة بين الرواة قسمين رئيسين، وتحت كل قسم أنواع متعددة.

‌القسم الأول: الاختلاف في إسناد الحديث:

ويندرج تحت هذا القسم أنواع:

‌النوع الأول: وصل الحديث وإرساله:

مثاله: ما رواه معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه قال:«أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة»

(1)

.

ورواه علي بن المبارك وغيره، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان مرسلا، ليس فيه جابر بن عبدالله

(2)

.

وروى الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبدالله بن السائب، قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1235)، و «مسند أحمد» 3:295.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 2: 208، و «سنن البيهقي» 3:152.

ص: 381

فليذهب»

(1)

.

ورواه عبدالرزاق، وهشام بن يوسف، وسفيان الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء مرسلا، ليس فيه عبدالله بن السائب

(2)

.

وروى حماد بن سلمة، وعبدالوهاب الثقفي -في بعض الروايات عنه- عن أيوب السختياني، عن عبدالله بن زيد أبي قلابة، عن عبدالله بن يزيد، عن عائشة قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»

(3)

.

ورواه معمر، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن علية، وعبدالوهاب الثقفي -في بعض الروايات عنه-، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه عبدالله بن يزيد، ولا عائشة

(4)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1155)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1290).

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (5670)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 180، و «سنن البيهقي» 3:301.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2135)، و «سنن الترمذي» حديث (1140)، و «سنن النسائي» حديث (3953)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1971)، و «مسند أحمد» 6: 144، و «تفسير الطبري» 5:315.

(4)

«سنن الترمذي» بعد حديث (1140)، و «سنن النسائي» بعد حديث (3953)، و «تفسير عبدالرزاق» 2: 120، و «طبقات ابن سعد» 2: 231، و «مصنف ابن أبي شيبة» 4: 386، و «تفسير الطبري» 5:315.

ص: 382

‌النوع الثاني: رفع الحديث ووقفه:

إما وقفه على صحابيه، أو على راو ممن دونه.

مثاله: ما رواه أبو خالد الأحمر، عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس مرفوعا:«لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها»

(1)

.

ورواه وكيع بن الجراح، عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس موقوفا عليه من قوله

(2)

.

وروى مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبدالله بن الزبير، عن عائشة مرفوعا: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية

» الحديث

(3)

.

ورواه سليمان التيمي، وأبو بشر جعفر بن إياس، عن طلق بن حبيب من قوله موقوفا عليه

(4)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (1165)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9001).

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (9002).

(3)

«صحيح مسلم» حديث (261)، و «سنن أبي داود» حديث (53)، و «سنن الترمذي» حديث (2757)، و «سنن النسائي» حديث (5055)، و «سنن ابن ماجه» حديث (293)، و «مسند أحمد» 6:137.

(4)

«سنن النسائي» حديث (5056 - 5057)، و «سنن الدارقطني» 1:95.

ص: 383

‌النوع الثالث: ذكر راو في الإسناد وحذفه:

وهذا النوع تقدمت له أمثلة كثيرة في الفصل الثالث من «الاتصال والانقطاع» المتعلق بالتدليس

(1)

.

ومن أمثلته أيضا: ما رواه هشيم، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن فضالة بن عبدالله الليثي، قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني الصلوات الخمس في مواقيتها

» الحديث

(2)

.

ورواه زهير بن إسحاق السلولي، وعلي بن عاصم، وخالد الواسطي -في بعض الطرق إليه-، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عبدالله بن فضالة، عن أبيه

(3)

، وقيل في الإسناد غير ذلك

(4)

.

وروى بعض أصحاب ابن المبارك، عنه، عن سفيان الثوري، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»

(5)

.

ورواه جماعة منهم عبدالرحمن بن مهدي، وهناد بن السري، وحسن بن

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 170 - 375.

(2)

«مسند أحمد» 4: 344، و «صحيح ابن حبان» حديث (1741).

(3)

«سنن أبي داود» حديث (428)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (996)، و «سنن البيهقي» 1:466.

(4)

«التاريخ الكبير» 5: 170، و «الجرح والتعديل» 5: 135، و «صحيح ابن حبان» حديث (1742).

(5)

«مقدمة ابن الصلاح» ص 480.

ص: 384

الربيع، وعتاب بن زياد، وعلي بن إسحاق، عن ابن المبارك، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، ليس فيه سفيان الثوري

(1)

.

ورواه جماعة منهم الوليد بن مسلم، وعيسى بن يونس، وصدقة بن خالد -وروي أيضا عن ابن المبارك-، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيدالله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، ليس فيه أبو إدريس الخولاني

(2)

.

‌النوع الرابع: إبدال بعض رواة الإسناد بغيرهم:

وقد يكون المبدل واحدا، هو شيخ المختلف عليه، أو شيخ شيخه، أو صحابي الحديث، وقد يبدل أكثر من راو، بل قد يبدل الإسناد كله بعد الشيخ المختلف عليه.

ومن أمثلته: ما رواه جماعة منهم عفان، وروح بن عبادة، وعبدالرحمن بن مهدي، وحجاج بن منهال، وهدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، أشعث بن عبدالرحمن، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير مرفوعا: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض

» الحديث

(3)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (972)، و «سنن الترمذي» حديث (1050)، و «مسند أحمد» 4:135.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (972)، و «سنن الترمذي» حديث (1051)، و «سنن النسائي» حديث (759)، و «مسند أحمد» 4: 135، و «المعجم الكبير» 16: 193 حديث (433 - 434).

(3)

«سنن الترمذي» حديث (2882)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10803)، و «مسند أحمد» 4: 274، و «صحيح ابن حبان» حديث (782).

ص: 385

ورواه عباد بن منصور، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي صالح الحارثي، عن النعمان بن بشير

(1)

، وكذا رواه النضر بن معبد، عن أبي قلابة

(2)

.

وقيل عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن أشعث بن عبدالرحمن الجرمي، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن شداد بن أوس

(3)

.

وروى جماعة منهم زهير بن معاوية، وعبدالوهاب الثقفي، وعبدالله بن نمير، وجرير بن حازم، ويزيد بن هارون، وسفيان بن عيينة -في بعض الروايات عنه- عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن عبدالرحمن الأنصاري، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخففهما

» الحديث

(4)

.

ورواه مروان بن معاوية الفزاري، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمرة، جعل محمد بن يحيى مكان محمد بن عبدالرحمن

(5)

.

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (10802)، و «المعجم الأوسط» حديث (1382).

(2)

«الكامل» 7: 2490.

(3)

«المعجم الكبير» حديث (7146).

(4)

«صحيح البخاري» حديث (1171)، و «صحيح مسلم» حديث (724)، و «سنن أبي داود» حديث (1255)، و «سنن النسائي» حديث (945)، و «مسند أحمد» 6: 164، 165، 186، 235، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (991)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1113)، و «مستخرج أبي عوانة» 2:275.

(5)

«تحفة الأشراف» 12: 415، ورواية مروان في «مسند أبي يعلى» حديث (4603)، لكن وقع فيه:«عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه، عن عائشة» ، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 386

ورواه هشيم بن بشير، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، جعل أبا بكر بن محمد مكان محمد بن عبدالرحمن

(1)

.

وروى جماعة منهم عاصم بن علي، وأبو داود الطيالسي، وحجاج بن محمد، ويزيد بن هارون، وأسد بن موسى، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»

(2)

.

ورواه جماعة منهم حميد بن الأسود، وعثمان بن عمر، وأبو بكر بن عياش، وشعيب بن إسحاق، وإسماعيل بن عمر، وروح بن عبادة، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة

(3)

.

ومسألة إبدال بعض رواة الإسناد فوق المدار بغيرهم يلاحظ الباحث فيها زمن الرواية، فقد غدت في عصر الرواية المتأخر -أي في نهاية القرن الثاني وما بعده- من تعدد الشيوخ للراوي الواحد، بسبب اتساع الرواية، وتحولها إلى هدف ومقصد للرواة، وعلى هذا فما يوجد مما ظاهره اختلاف على راو في تسمية شيخه ومن فوقه لا ينبغي للباحث أن يعامله على أنه اختلاف يجب أن ينظر فيه،

(1)

«تحفة الأشراف» 12: 415.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (6016)، و «مسند أحمد» 4: 31، 6: 385، و «مسند الطيالسي» حديث (1340)، و «المعجم الكبير» 22: 187، حديث (787)، و «شعب الإيمان» (9087).

(3)

«صحيح البخاري» بعد حديث (6016)، و «مسند أحمد» 2: 288، 336، 4: 31، و «المستدرك» 1: 10، 4:165.

ص: 387

ما لم يتبين عكس ذلك، كأن ينص ناقد على خطأ وجه فيه تغيير لاسم الشيخ، أو تكثر الطرق عند الباحث على صفة، وينفرد طريق بتسمية الشيخ، فيرتاب الباحث في ذلك، ويعده اختلافا، يطبق عليه قواعد الاختلاف.

وقد توقف كثير من الباحثين عند هذه القضية، فالباحث يقال له إن إبدال الإسناد بغيره كليا أو جزئيا فوق المدار موجب للتوقف والنظر، وعد ذلك اختلافا على الراوي، ثم يمر بالباحث كثير من الأحاديث يكون فيها لبعض الرواة عدد من الشيوخ في الحديث الواحد، ولا يعد النقاد ذلك اختلافا، بل يمرون عليه دون التفات لهذا التنوع، فأوجب هذا تساؤلا لدى الباحثين.

والمخرج منه هو ما ذكرته، في الزمن المتأخر من عصر الرواية لا إشكال في تعدد الشيوخ للراوي الواحد، فمحمد بن بشار -مثلا- يروي الحديث الواحد عن محمد بن جعفر، عن شعبة، ويرويه عن وكيع، عن شعبة، ويرويه عن يحيى القطان، عن شعبة، وربما رواه عن وكيع، عن سفيان الثوري، وعن القطان، عن الثوري، وهكذا، وكلما ارتفع الإسناد ضعف احتمال تعدد الشيوخ، وإذا نزل عن هذه الطبقة زاد احتمال تعددهم.

‌النوع الخامس: الاختلاف في تسمية راو، إما المختلف عليه، أو واحد من الرواة فوقه:

فيسميه بعضهم باسم، ويسميه بعضهم باسم آخر، أو يقلب اسمه، أو يكنيه بعضهم بكنية، وبعضهم بكنية أخرى، أو يقول بعضهم: ابن فلان، ويقول بعضهم: ابن أبي فلان، وربما سماه بعضهم، وأبهمه البعض الآخر، فيقول: عن رجل، أو عن عم فلان، أو ابن أخي فلان، ونحو ذلك.

ص: 388

مثاله ما رواه أبو عوانة، وزائدة بن قدامة، وشريك، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ورواه شعبة، فسمى خالد بن علقمة: مالك بن عرفطة

(2)

.

‌النوع السادس: الاختلاف في صيغ الأداء:

فيرويه بعضهم بالتصريح بالتحديث، وبعضهم بالصيغ المحتملة، كعن، وقال، وذكر، أو يرويه بعضهم بصيغة صريحة في الانقطاع، كأخبرت عن فلان، أو بلغني عنه، ويرويه بعضهم بصيغة محتملة، أو بصيغة صريحة في الاتصال، ونحو ذلك.

وهذا النوع تقدمت له أمثلة كثيرة في «الاتصال والانقطاع»

(3)

.

هذه أهم أنواع الاختلافات في الإسناد، ويتركب منها أنواع أخرى، كالإرسال مع الإبدال، أو الوقف مع الإبدال، أو مع زيادة راو وحذفه، في صور من الاختلافات لا تنتهي.

فالنوع الأول -وصل الحديث وإرساله- يلتقي مع النوع الرابع -إبدال راو بآخر-، فقد يكون الإرسال مع الإبدال.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (111 - 112)، و «سنن النسائي» حديث (91 - 92)، و «مسند أحمد» 1: 123، 125، 135، 154.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (113)، و «سنن النسائي» حديث (93 - 94)، و «مسند أحمد» 1: 122، 139.

(3)

انظر مثلا: «الاتصال والانقطاع» ص 267 - 307.

ص: 389

مثاله: ما رواه حماد بن يحيى الأبح، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك مرفوعا:«مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أو آخره»

(1)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

والنوع الثاني -رفع الحديث ووقفه- يلتقي أيضا مع النوع الرابع -إبدال راو بآخر-، فقد يكون الوقف مع الإبدال.

مثاله: ما رواه عبدالوارث بن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء» ، قال نافع:«فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات» .

ورواه إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن نافع، قال: قال عمر بن الخطاب

فذكره بمعناه

(3)

.

والنوع الأول -وصل الحديث وإرساله- يلتقي كثيرا مع النوع السادس

-صيغ الأداء- كما يظهر ذلك جليا من أمثلة الأخير.

وكذلك النوع الرابع -إبدال راو بآخر-، يجتمع مع النوع الخامس

-الاختلاف في تسمية الراوي-، فمنهم من لا يسميه أصلا، كما في حديث عائشة الماضي في النوع الرابع، فمن الرواة عن يحيى بن سعيد من رواه عنه، عمن

(1)

«سنن الترمذي» حديث (2869)، و «مسند أحمد» 3: 130، 143.

(2)

«مسند أحمد» 3: 143.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (462 - 463)، (571).

ص: 390

حدثه، عن عمرة، عن عائشة

(1)

.

وفي هذا المثال أيضا اختلاف في زيادة راو وحذفه، فمن الرواة عن يحيى من لم يذكر واسطة بينه وبين عمرة

(2)

، ومنهم من لم يذكر عمرة أيضا

(3)

.

ومن جهة ثانية بعض الأحاديث يشتد فيها الاختلاف، ويتنوع، فيروى الحديث موصولا، ومرسلا، وموقوفا، وبإبدال بعض رواته، إلى غير ذلك، كما أن الاختلاف في بعض الأحاديث يقع على أكثر من راو، إما في طبقة واحدة، أو في طبقات متعددة، فتعددت المدارات.

وهناك ما يمكن تسميته ب‌

‌الاختلاف الجزئي

، أي أن الاختلاف في الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف، أو ذكر راو وحذفه، أو غير ذلك، وقع في جزء من الحديث، فبعض الحديث يتفق على وصله -مثلا- وبعضه يقع فيه اختلاف.

وسيأتي في ثنايا الكتاب أمثلة لهذا كله.

‌القسم الثاني: الاختلافات في المتن:

الاختلاف بين الرواة له أسباب كثيرة، من أهمها فيما يتعلق بمتن الحديث: الرواية بالمعنى، إذ الأكثر على تجويزه، وهو الواقع في رواية السنة، فقل حديث

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (4792).

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (4793)، و «مسند أبي يعلى» حديث (4624)، و «شرح معاني الآثار» 1: 297، و «فوائد تمام» حديث (377).

(3)

«موطأ مالك» 1: 127.

ص: 391

-وإن كان لفظه قصيرا- إلا وقد روي في بعض رواياته بالمعنى، ويدخل في الرواية بالمعنى: اختصار الحديث والاكتفاء بمضمونه وما يفيده، وكذلك الاجتزاء ببعضه، وترك بعضه، خاصة إذا كان يتكون من عدة جمل، أو فيه عدد من القضايا، أو فيه قصة حذفها بعض الرواة، ونحو ذلك.

ولهذا السبب اهتم الأئمة النقاد ببيان ألفاظ الرواة، وموضع الاختلاف بينهم، كما نراه في «صحيح مسلم» ، وغيره، وإن كانوا قد اضطروا إلى عدم سوق لفظ كل راو، فاعتاضوا عن ذلك بالإحالة على لفظ يذكرونه، ثم يقولون بعده في الأسانيد الأخرى: بنحوه، أو بمثله، أو بمعناه، فعلوا ذلك للاختصار، توفيرا للورق، حيث حاجتهم إليه ماسة، وتخفيفا على طلبة الحديث، حين سفرهم وتنقلهم، كما تقدم مثله في اختصار ألفاظ الأداء

(1)

.

وقد كان بعض الأئمة -مثل شعبة بن الحجاج- يرى أن الإحالة على لفظ سابق غير كاف، ويقول: إن ذلك ليس بحديث

(2)

، ولا شك أن قوله هذا غاية في الدقة والإحكام، لكن التزامه صعب جدا، فكان العمل بخلافه.

ولما كانت أغراض الناظرين في الحديث غير متفقة، فالفقيه، والأصولي، والمفسر، واللغوي، والنحوي، وغيرهم، كل واحد منهم له غرض غير الذي للآخر، ورب حرف ذي أهمية كبرى عند أحدهم، لا يأبه له الآخر - لما كان

(1)

انظر: «الاتصال والانقطاع» ص 19.

(2)

انظر: ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 404.

ص: 392

ذلك كذلك، أصبح من العسير جدا تحديد أنواع للاختلاف في المتون يقال للباحث إن عليه أن يهتم بها، فكل ناظر في الحديث يريد أن يستدل بلفظ منه عليه أن يسبر ألفاظ الرواة في الموضع الذي يريد أن يستدل به

(1)

.

مثال ذلك حديث أبي هريرة مرفوعا: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار

» الحديث

(2)

.

فالواو في قوله: «يتعاقبون» شغلت النحاة وشراح الحديث، فالقاعدة هنا حذف واو الجماعة، والفاعل «ملائكة» ، وعند جمع طرق الحديث، والنظر في أسانيده ومداراته، ينصب نظر المخرج على هذه الجملة «يتعاقبون» ، وكيف رواها رواة الحديث، وهل اتفقوا أو اختلفوا؟

ومع هذا فهناك أنواع من اختلافات المتون ظاهرة لكل أحد، يحسن ذكرها ليقاس عليها غيرها.

‌النوع الأول: القول والفعل:

ومن أمثلته: ما رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مضمضوا من

(1)

انظر: «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد 2: 198، و «نظم الفرائد» ص 258، و «توجيه النظر» ص 312.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5868)، و «صحيح مسلم» حديث (2093)، و «سنن أبي داود» حديث (4221)، و «سنن النسائي» حديث (5306)، و «مسند أحمد» 3: 223، 225.

ص: 393

اللبن فإن له دسما»، وكذا جاء في بعض الطرق عن عقيل بن خالد، عن الزهري

(1)

.

ورواه جماعة، منهم يحيى بن سعيد القطان، وأبو عاصم، ومحمد بن مصعب، وأيوب بن خالد، وهقل بن زياد، عن الأوزاعي بلفظ:«أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا ثم تمضمض، وقال: إن له دسما»

(2)

.

وكذا رواه عن الزهري جماعة منهم يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، وصالح بن كيسان، ومعمر، وعقيل بن خالد -في بعض الطرق إليه-

(3)

.

‌النوع الثاني: قلب المتن:

ومن أمثلته: ما رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» ، وقلت أنا:«من مات يشرك بالله شيئا دخل النار»

(4)

، وكذا جاء في

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (498)، و «النكت الظراف» 5:58.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5609)، و «صحيح مسلم» حديث (358)، و «مسند أحمد» 1: 223، 227، 329، و «مسند أبي يعلى» حديث (2418)، و «مسند أبي عوانة» 1:271.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (211)، و «صحيح مسلم» حديث (358)، و «سنن أبي داود» حديث (196)، و «سنن الترمذي» حديث (89)، و «سنن النسائي» حديث (187)، و «مسند أحمد» 1: 337، 373، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (47).

(4)

«مسند أحمد» 1: 382، 425، و «مسند أبي عوانة» 1: 17 و «مسند أبي يعلى» حديث (5198)، و «التوحيد» لابن خزيمة 2: 848، حديث (562)، (564)، و «الإيمان» لابن منده

حديث (72).

ص: 394

بعض الطرق إلى سيار أبي الحكم، ومغيرة بن مقسم، عن أبي وائل

(1)

.

ورواه جماعة منهم شعبة، وابن نمير، ووكيع، وحفص بن غياث، وأبو حمزة السكري، عن الأعمش، بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار» ، وقلت أنا:«من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة»

(2)

، وكذا رواه عاصم بن أبي النجود، وسيار أبو الحكم، والمغيرة بن مقسم -في بعض الطرق إليهما- عن أبي وائل

(3)

.

وروى القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا:«إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»

(4)

.

وروى عبدالعزيز الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة هذا الحديث، فجعل الذي يؤذن بليل هو ابن أم مكتوم

(5)

، وكذا جاء من رواية

(1)

«الإيمان» لابن منده حديث (73).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (1283)، (4497)، (6683)، و «صحيح مسلم» حديث (92)، و «مسند أحمد» 1: 382، 425، 443، 462، 464.

(3)

«مسند أحمد» 1: 374، 402، 407، و «مسند أبي يعلى» حديث (5090)، و «التوحيد» لابن خزيمة حديث (563) ، (565)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2519).

(4)

«صحيح البخاري» حديث (623)، (1919)، و «صحيح مسلم» حديث (380)، (1092)، و «سنن النسائي» حديث (638).

(5)

«مسند أبي يعلى» حديث (4385)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (406)، و «صحيح ابن حبان» حديث (3473)، و «سنن البيهقي» 1:382.

ص: 395

أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة

(1)

.

وقد يقع القلب في جزء من متن الحديث، وأمثلته كثيرة.

‌النوع الثالث: تغيير معنى الحديث:

وهذا سببه أن الراوي يريد أن يختصر الحديث، أو لم يكن يحفظه جيدا، فيرويه بمعناه، وربما افترق المعنيان، بحيث يقوم احتمال آخر أن يكونا حديثين.

ومن أمثلته: ما تقدم في الفصل الثالث من الباب الأول في الاختلاف بين رواية سفيان بن عيينة، ورواية محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعباد بن تميم، عن عبدالله بن زيد، في الوضوء من الصوت والريح.

وروى ابن جريج، وسفيان بن عيينة، وأسامة بن زيد، وعلي بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:«قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما فأكل، ثم دعا بوضوء فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ» ، هذا لفظ ابن جريج

(2)

، وكذا رواه عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر

(3)

.

ورواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: «كان آخر

(1)

«مسند أحمد» 6: 185، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (407 - 408)، و «سنن البيهقي» 1:429.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (191)، و «سنن الترمذي» حديث (80)، و «مسند أحمد» 3: 304، 307، و «سنن البيهقي» 1:156.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (80)، و «مسند أحمد» 3: 375، 387.

ص: 396

الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار»

(1)

.

وروى همام بن يحيى، ويحيى بن المتوكل، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه»

(2)

.

ورواه روح بن عبادة، وأبو عاصم، وعبدالله بن الحارث، وحجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس:«أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، ثم طرحه» ، هكذا بهذا اللفظ، وبزيادة زياد بن سعد في الإسناد

(3)

، وكذا رواه جماعة عن الزهري، منهم يونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة، وإبراهيم بن سعد

(4)

.

وروى جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس، قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر، فيعرض له الرجل في الحاجة، فيقوم معه حتى يقضي حاجته، ثم يقوم فيصلي»

(5)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (192)، و «سنن النسائي» حديث (185).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (19)، و «سنن الترمذي» حديث (1746)، و «سنن النسائي» حديث (5228)، و «سنن ابن ماجه» حديث (303)، و «سنن البيهقي» 1:95.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2093)، و «مسند أحمد» 3: 206، و «مسند أبي عوانة» 5:490.

(4)

«صحيح البخاري» حديث (5868) ، و «صحيح مسلم» حديث (2093) ، و «سنن أبي داود» حديث (4221) ، و «سنن النسائي» حديث (5306)، و «مسند أحمد» 3: 223، 225.

(5)

«سنن أبي دواد» حديث (1120)، و «سنن الترمذي» حديث (517)، و «سنن النسائي» حديث (1418)، و «سنن ابن ماجه» حديث (117)، و «مسند أحمد» 3: 119، 127، 213، و «العلل الكبير» 1:276.

ص: 397

ورواه حماد بن سلمة، ومعمر، وغيرهما، عن ثابت، عن أنس، قال:«أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه، حتى نام القوم -أو بعض القوم- ثم صلوا»

(1)

.

وهكذا رواه عبدالعزيز بن صهيب، وحميد، عن أنس بمعناه

(2)

.

وروى مروان الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن ركعتي الفجر، فقضاهما بعدما طلعت الشمس»

(3)

.

ورواه يحيى بن سعيد القطان، عن يزيد بن كيسان، في قصة نومهم عن صلاة الفجر، وصلاته صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر، والفريضة، بعدما طلعت الشمس

(4)

.

وربما كان التغيير في جزء من الحديث، ومثاله ما رواه الترمذي عن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (376)، و «سنن أبي داود» حديث (201)، و «سنن الترمذي» حديث (518)، و «مسند أحمد» 3: 160، 161، 238، 268.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (642 - 643)، (6292)، و «صحيح مسلم» حديث (376)، و «سنن أبي داود» حديث (542)، (544)، و «مسند أحمد» 3: 101، 114، 130، 182، 199، 205، 232.

(3)

«سنن ابن ماجه» في (الصلاة)(باب ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر متى يقضيهما؟ ) حديث (1155)، و «مسند أبي يعلى» حديث (6185)، و «شرح مشكل الآثار» (باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يفوته أن يصلي ركعتي الفجر حتى يصلي الفجر أيصليهما عقيبا لها أم بعد ذلك؟ ) حديث (4142)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2652).

(4)

«صحيح مسلم» حديث (680)، و «سنن النسائي» حديث (622)، و «مسند أحمد» 2:428.

ص: 398

يحيى بن خلف، عن بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن عبدالله بن شقيق، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:«كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر اثنتين»

(1)

.

ورواه هشيم، وإسماعيل بن علية، وخالد بن عبدالله الواسطي، ويزيد بن زريع، عن خالد الحذاء مطولا، وفيه: «كان يصلي قبل الظهر أربعا

»

(2)

.

وقد أكثرت من الأمثلة لتغيير المعنى لأهميته القصوى، وخفائه أيضا

(3)

،

(1)

«سنن الترمذي» حديث (436)، و «الشمائل» حديث (270).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (730)، و «سنن أبي داود» حديث (1251)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (336)، و «مسند أحمد» 6: 30، 217.

(3)

وينظر أمثلة أخرى في:

1 -

«صحيح البخاري» حديث (4439، 5016، 5735، 5751) مع حديث (5017، 5748، 6319).

2 -

«سنن أبي داود» حديث (3722)، مع «صحيح البخاري» حديث (5625 - 5626)، و «صحيح مسلم» حديث (2320).

3 -

«سنن أبي داود» حديث (748).

4 -

«سنن الترمذي» حديث (1532)، و «العلل الكبير» 2:656.

5 -

«سنن الترمذي» حديث (239).

6 -

«العلل ومعرفة الرجال» (1601 - 1603).

7 -

«مسائل إسحاق بن هانئ» (2331)، و «فتح الباري» لابن رجب 1:476.

8 -

«العلل الكبير» 1: 556.

9 -

«المعرفة والتاريخ» 3: 110.

10 -

«علل ابن أبي حاتم» (107)، (265)، (393)، (399)، (453)، (668)، (1116).

11 -

«علل الدارقطني» 8: 12.

12 -

«بيان الوهم والإيهام» 5: 37 - 39.

13 -

«هدي الساري» ص 355.

ص: 399

فالمطلوب إذن بالنسبة للباحث أن يدقق جيدا في متون الأحاديث، ويلاحظ ما فيها من تغيير، خاصة حين تلتقي في مدار واحد، سواء كان عاليا، أو نازلا.

وقضية التغيير في المعنى لا تختص بالنظر في الطرق ودراستها، فلها تعلق بعمل من يقوم بمجرد العزو والتخريج، إذ يشتبه على المخرج لفظان بينهما ارتباط ما من جهة المتن فيتردد في جعلهما حديثا واحدا، أو جعلهما حديثين، ولهذا نرى اختلاف العلماء والمخرجين للأحاديث، فيجعل بعضهم الحديث متفقا عليه، ويجعله بعضهم من أفراد البخاري في لفظ، ومن أفراد مسلم في اللفظ الآخر، وكذلك المصادر الأخرى، وأمثلة هذا كثيرة جدا، يدركها من عانى مهمة التخريج والعزو، والمخرج قد يجتهد في ذلك بالنظر إلى المتن فقط، غير أنه لا بد أيضا من النظر في الأسانيد، وهذا هو وجه دخوله في موضوع الاختلاف بين الرواة، فيعده الباحث اختلافا ينظر فيه، ويطبق عليه قواعد الاختلاف الآتية في الفصول اللاحقة.

‌النوع الرابع: الزيادة في المتن والنقص منه:

ومن أمثلته: ما رواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن

ص: 400

عبدالرحمن، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين وعلى العمامة» ، وكذا رواه معمر -في بعض الروايات عنه- عن يحيى، غير أنه لم يذكر جعفرا في الإسناد، وقد جاء هذا -أي إسقاط جعفر- عن الأوزاعي أيضا.

ورواه أبان بن يزيد، وعلي بن المبارك، وشيبان بن عبدالرحمن، وحرب بن شداد، وبكر بن مضر، ومعمر -في بعض الروايات عنه-، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر، عن أبيه به، دون ذكر المسح على العمامة، إلا أن معمرا لم يذكر جعفر بن عمرو

(1)

.

وكذا روي من طريق آخر، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جعفر، عن أبيه، دون ذكر المسح على العمامة

(2)

.

وروى أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديث صفة اغتساله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وفيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه

» الحديث، وفي آخره: «ثم أفاض على سائر جسده، ثم

(1)

«صحيح البخاري» حديث (204)، (205)، و «سنن النسائي» حديث (119)، و «سنن ابن ماجه» حديث (562)، و «مسند أحمد» 5: 139، 179، 5: 288، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (746)، و «الأوسط» لابن المنذر حديث (491)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 68، و «المحلى» 2: 81، 86، و «فتح الباري» 1:308.

(2)

«مسند أحمد» 4: 139، 5: 288، و «التاريخ الكبير» 2: 194، لكن وقع سقط في «مسند أحمد» في الموضع الثاني.

ص: 401

غسل رجليه»

(1)

.

ورواه وكيع، عن هشام بن عروة، غير أنه لم يذكر غسل الرجلين، وقال في أوله:«فبدأ بغسل كفيه ثلاثا»

(2)

.

ورواه جماعة كثيرون منهم مالك، وعبدالله بن المبارك، ومعمر، وزائدة، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن نمير، وعلي بن مسهر، وجرير بن حازم، وجعفر بن عون، عن هشام، ولم يذكروا غسل الرجلين، ولم يذكروا عددا في غسل اليدين

(3)

.

ورواه عطاء بن السائب، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن عائشة، واختلف على عطاء أيضا، في تثليث غسل اليدين، حيث ذكره عنه جمع، ولم يذكره آخرون، وفي غسل الرجلين أيضا، فذكره عنه حماد بن سلمة، ولم يذكره جماعة آخرون، منهم شعبة، وزائدة، وغيرهما

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (316).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (316)، و «مسند أحمد» 6:52.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (248)، (262)، (272)، و «صحيح مسلم» حديث (316)، و «سنن أبي داود» حديث (242)، و «سنن الترمذي» حديث (104)، و «سنن النسائي» حديث (247)، (248 - 249)، و «مسند أحمد» 6: 52، 101، و «الأم» 1: 40، 41، و «مسند الحميدي» حديث (163)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3329)، و «سنن البيهقي» 1:175.

(4)

«سنن النسائي» حديث (243 - 246)، و «مسند أحمد» 6: 96، 115، 143، 161، 173، و «مسند الطيالسي» حديث (1577)، و «صحيح ابن حبان» حديث (1191)، و «سنن البيهقي» 1:174.

ص: 402

وقضية الزيادات في متون الأحاديث قضية بالغة الدقة بالنسبة لعد الزيادة التي يقف عليها الباحث اختلافا يجب النظر فيه، وتطبيق قواعد الاختلاف عليه، ذلك أن بعض الزيادات إنما جاءت من تصرف الرواة عمدا، وهو ما يعرف بتقطيع الحديث، والاكتفاء بجزء منه، خاصة عند المصنفين على الموضوعات، مثل كتب الصحاح، والجوامع، والمصنفات والسنن، فيذكر الراوي أو المؤلف من الحديث ما يتعلق بموضع الاستشهاد فقط، وهذا كثير جدا، وقد يكون الحديث مكونا من عدة جمل، يصلح كل منها أن يكون حديثا مستقلا، فيقطعه راو، ويجمعه راو آخر.

وهذا الأمر له صلة قوية بتخريج الحديث وعزوه، فقد يكون مع الباحث لفظ، ثم يجد هذا اللفظ في حديث مطول، ويجد أيضا هذا الحديث المطول أو بعض أجزائه في مواضع أخرى دون اللفظ الذي يقوم بتخريجه، فهل يستوفي ذلك كله في التخريج؟ يكثر ورود هذا السؤال لدى الباحثين، وسأعرض له بشيء من التفصيل في بابه الخاص به وهو (عرض التخريج والدراسة)، يسر الله تعالى الوصول إليه.

هذه أبرز الاختلافات في متون الأحاديث، ولا بد من العودة إلى التأكيد على أنه لا يمكن حصرها وضبطها، فقد يقع تغيير في كلمة، أو تقديم جملة على أخرى، أو اختلاف في الأعداد والمقادير، ونحو ذلك، فتكثر أنواعه جدا، وكل باحث له غرض في متن الحديث الذي يقوم بتخريجه، سيتنبه لموضع الاختلاف فيه إن وجد، وقد لا يتنبه لغيره لكونه ليس من غرضه.

ص: 403

ويشار هنا أيضا إلى أن‌

‌ الاختلاف في المتن قد يصاحبه اختلاف في الإسناد

، كما تقدم آنفا في حديث أنس في (الخاتم).

ومن أمثلته أيضا ما رواه جماعة -منهم الثوري، وشعبة- عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه»

(1)

.

ورواه أشعث بن سوار، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فهو عندي أحسن من القمر»

(2)

.

وروى سفيان الثوري، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: «بعث علي وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسمها بين زيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان، وبين الأقرع بن حابس الحنظلي

» الحديث في قصة التأليف

(3)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (3549)، (3551)، (5848)، (5091)، و «صحيح مسلم» حديث (2337)، و «سنن أبي داود» حديث (4072)، (4183)، (4184)، و «سنن الترمذي» حديث (1724)، (2811)، (3635) و «سنن النسائي» حديث (5075)، (5077)، (5247 - 5248)، (5329)، وسنن ابن ماجه» حديث (3599)، و «مسند أحمد» 4: 281، 290، مطولا ومختصرا.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2811)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9640).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (3344)، (4667)، (7432)، و «سنن أبي داود» حديث (4731)، و «سنن النسائي» حديث (4112)، و «مسند أحمد» 3: 68، 72، 73.

ص: 404

ورواه عمر بن سعيد الثوري -أخو سفيان- عن أبيه، عن عباية بن رافع بن خديج، عن رافع بن خديج، قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مئة من الإبل

» الحديث في قصة التأليف أيضا، وفيه أن ذلك في غزوة حنين

(1)

.

وتابع سفيان الثوري على روايته جماعة

(2)

، وكذا رواه عمارة بن القعقاع، عن عبدالرحمن بن أبي نعم

(3)

.

وقد تقدم في النوع الثالث من أنواع الاختلافات في المتن وهو الاختلاف في لفظ الحديث بما يتغير به معناه، أن هذه القضية من دقائق ما يمر بالباحث وهو ينظر في طرق الحديث وألفاظه، بغرض المقارنة بينها ودراستها، أو بغرض العزو المجرد، وينبه هنا إلى أن المقام يزداد غموضا إذا كان مع التغيير في المتن تغيير في الإسناد، بإبدال بعض رواته، ولهذا أكثرت آنفا من سوق الأمثلة له

(4)

، وهو أساسا يعتمد على الوقوف على كلام للنقاد حول الحديث، ويعتمد كذلك على حِسِّ الباحث ونباهته.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1060)، و «مسند الحميدي» حديث (412).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1064)، و «سنن النسائي» حديث (2577)، و «مسند أحمد» 3: 31، و «مسند الطيالسي» حديث (2348)، و «مستخرج أبي نعيم» حديث (1373).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (4351)، و «صحيح مسلم» حديث (1064)، و «مسند أحمد» 3:4.

(4)

وينظر أيضا من أمثلته: «مسائل أبي داود» (1859) ، و «علل ابن أبي حاتم» (491)، (730) ، (2832).

ص: 405

وهذه المسألة بتفرعاتها بحاجة إلى من يتصدى لها، ويجمع أمثلتها، مما نص عليه النقاد، ومما يقاس عليه، والتأكيد على أنها أساسا جزء من (الاختلافات) بين الرواة، أو ما يعرف بـ (علم العلل)، تطبق عليه قواعده الآتية في الفصول اللاحقة.

وفي ختام هذا الفصل المتعلق بأنواع اختلاف الرواة أود أن أشير إلى أن الباحث وهو يدقق في أسانيد الحديث وألفاظه في مصادرها سيواجه اختلافات في الأسانيد والمتون، من تغيير في اسم راو، إلى إسقاطه تماما، إلى تغيير في لفظ الحديث، ونحو ذلك، وعند تدقيقه ينكشف له أن هذا الاختلاف سببه ما يقع في المخطوطات والمطبوعات من تحريف وسقط، فمثل هذا ينحيه الباحث عن أن يكون اختلافا بين الرواة، ثم الباحث بعد ذلك بحسب منهجه، فقد يكون من منهجه التنبيه على ذلك في كل ما يصادفه، وقد يكون من منهجه إغفال ذلك تماما، والاكتفاء بإثبات الصواب، خشية إثقال البحث وحواشيه بكثرة التنبيهات، وقد يكون من منهجه أن يفعل ذلك مع كتب هي مظنة الضبط والإتقان، ولكن يقع فيها على سبيل الندرة ما يحسن التنبيه عليه، ويغفل ما عدا ذلك.

وقد تقدم في الفصل الثالث من الباب الأول أمثلة للتحريف والسقط في المصادر، ونبهت هناك إلى أن قضية التحريف والسقط في المصادر قد ألقت بظلالها على بحوث السنة النبوية، فالجميع يدرك صعوبة قيام الباحث بتحقيق مخطوط لكتاب واحد، فكيف بالنظر في الصواب والخطأ في كل مصدر يخرج منه، مخطوطا كان أو مطبوعا، فالباحث مسؤول عما يثبته في بحثه من أسانيد

ص: 406

ومتون، لا يجوز لأحد أن يعفيه من مسؤلية ذلك أبدا، ومن فعل هذا فأول من يجني عليه الباحث نفسه.

ومن مارس جمع طرق الأحاديث وألفاظها والنظر فيها، والتزم ما ذكرته آنفا سيرى بوضوح ما يعانيه الباحث من مشقة تصويب الأخطاء، وإكمال السقط، بحيث يمكن القول إن ما يعادل خمس وقت الباحث يذهب بهذا الاتجاه، والذي أقوله الآن هو أن هذا الجهد محفوظ للباحث، بل سيجني ثمرته أضعافا مضاعفة، فهو أولا -وهذا سبب الحديث عن القضية هنا- سيختصر أوجه الاختلاف على المدار، إذ سيتبين أن بعضها ليس اختلافا عليه، وإنما هو سقط وتحريف في مصدر أو أكثر، بل ربما انتهى الاختلاف تماما، فهو معقود أصلا بسبب ما صورته اختلاف في مصدر، ثم تبين أنه تحريف وقع فيه.

فإذا لم يبذل الباحث جهده في التحقق مما وقع في بعض المصادر طال عليه النظر في الاختلاف لاحقا، وفوق ذلك أنه سيضطر إلى عده اختلافا ينظر فيه، وربما أدى به إلى تخطئة بعض الرواة، مع براءتهم من الوقوع في الخطأ.

والأمر الآخر أن الباحث وهو يعالج ما يقف عليه مما يشتبه فيه أن يكون خطأ في النسخة - يتدرب على مواجهة مشكلات البحث، وتقليب النظر فيها، والبحث عن الاحتمالات الممكنة، والخلوص برأي فيها.

يضاف إلى هذا كله ما يكتسبه الباحث من خبرة في المصادر، وما هو منها محل الثقة من ناسخه، أو محققه، وما ليس كذلك، ويعرف أهمية الوقوف على

ص: 407

نسخ متعددة للمصدر الواحد، مخطوطة أو مطبوعة، ويتدرب كذلك على تصويب الأخطاء بالاستعانة بالمصادر المنقول عنها، والمصادر الناقلة، ويعرف أهمية كتب الأطراف بالنسبة لمصادرها الأصلية.

وفي هذه القضية أنبه على ثلاثة أمور:

الأول: حين يقال بأن الأخطاء في النسخ المخطوطة لا يعدها الباحث اختلافا يقصد بذلك النسخ بعد عصر الرواية، أي نسخ الكتب المصنفة، مثل الجوامع، والسنن، والمسانيد، والمصنفات، والمعاجم، والأجزاء، وغيرها، وهي التي كتبت بأيدي نساخ بعد عصر الرواية، وفي أزمان متأخرة، أما كتب الرواة أنفسهم، سواء كانت أصولا، أو فروعا، أو مصنفاتهم نفسها، إذا تحقق أن المصنف كتب النص هكذا، فهذه الأخطاء جزء من الاختلافات في الرواية، لا بد من معالجته وعده اختلافا، فكتب الرواة بأنواعها في عصر الرواية هي جزء من الرواية، فإنما هو الحفظ أو الكتاب، وقد يقع الاختلاف بين حفظ الراوي وكتابه، كما تقدم في الفصل الرابع من الباب الأول، ويأتي أيضا له أمثلة في الأبواب اللاحقة من هذا الباب فهو اختلاف إذن.

فما يقع في «صحيح البخاري» -مثلا- من مخالفة لغيره من المصادر متى تحقق أن البخاري رواه هكذا فيعتمد كما رواه، وهذا وأمثاله هو الذي تعامل معه أئمة النقد في معالجتهم للاختلافات، وما يقع من ذلك في بعض النسخ والروايات لـ «الصحيح» بعد البخاري من أخطاء النساخ فهذا هو الذي لا يدخل

ص: 408

في الاختلاف، وهكذا يقال في «صحيح مسلم» ، و «السنن الأربعة» ، و «مسند أحمد» ، و «مصنف عبدالرزاق» وغيرها من مصادر السنة، ويمكن الوقوف على أمثلة للنوعين في كتاب أبي علي الجياني «تقييد المهمل وتمييز المشكل» وهو خاص بدراسة «الصحيحين»

(1)

.

وسأضرب هنا بعض الأمثلة للنوعين، فأما الخطأ في عصر الرواية فمثاله ما أخرجه مسلم بن الحجاج في كتاب «التمييز» عن الحسن بن علي الحلوني، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثني أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبدالرحمن بن المسيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال:«قم فأذِّن: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن» .

ثم قال مسلم: «قال الحلواني: قلنا لأبي يوسف يعقوب: من عبدالرحمن بن المسيب؟ قال: كان لسعيد بن المسيب أخ يقال له: عبدالرحمن بن المسيب، وكان رجل من بني كنانة يقال له: عبدالرحمن بن المسيب، فأظن هذا هو الكناني» .

قال مسلم: «وليس الذي قال يعقوب في هذا بشيء، وذلك أن هذا إسناد سقطت منه واو واحدة، ففحش خطؤه، وإنما قال الزهري: أخبرني عبدالرحمن، وابن المسيب، يريد سعيد بن المسيب، وعبدالرحمن بن عبدالله بن كعب

، كذلك يحدثه ابن أخي الزهري، وحدث به موسى بن عقبة، ويونس، عن الزهري كذلك، ولعل هذا ممن دون صالح»

(2)

.

(1)

ينظر 2: 565 وما بعدها، و 3: 763 وما بعدها.

(2)

«تقييد المهمل» 2: 687.

ص: 409

فالخطأ في إسناد إبراهيم بن سعد هو خطأ في عصر الرواية، يدخل في الاختلاف على الزهري، وإن كان قد تبين وجه الخطأ في الإسناد، وهو سقوط الواو.

وروى ابن وهب، عن ابن جريج، عن عبدالله بن كثير بن المطلب، عن محمد بن قيس، عن عائشة الحديث الطويل في زيارته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع

(1)

.

وكذا رواه حجاج بن محمد، عن ابن جريج، إلا أنه قال: أخبرني عبدالله

-رجل من قريش-، ولم يسمه، هكذا رواه أحمد بن حنبل، عن حجاج

(2)

، ورواه يوسف بن سعيد، عن حجاج، عن ابن جريج: أخبرني عبدالله بن أبي مليكة

(3)

، وخطؤوا يوسف بن سعيد في ذلك

(4)

.

ورواه روح بن عبادة، عن ابن جريج، عمن سمع محمد بن قيس، عن محمد بن قيس

(5)

.

ورواه عبدالرزاق، عن ابن جريج، كرواية ابن وهب، سمى شيخ ابن جريج: عبدالله بن كثير، هكذا رواه عن عبدالرزاق محمد بن عبدالله العصار

(6)

، ويظهر

(1)

«صحيح مسلم» حديث (974)، و «سنن النسائي» حديث (3973).

(2)

«مسند أحمد» 6: 221، وانظر:«صحيح مسلم» حديث (974).

(3)

«سنن النسائي» حديث (2036)، و (3974).

(4)

«تقييد المهمل» 3: 829.

(5)

«تقييد المهمل» 3: 831، و «تحفة الأشراف» 12:300.

(6)

«صحيح ابن حبان» حديث (7110)، لكن جاء إسناد ابن حبان هذا في «إتحاف المهرة»

17: 528 هكذا: عبدالله رجل من قريش.

ص: 410

أن ابن معين يرويه كذلك عن عبدالرزاق، وفيه الواسطة بين ابن جريج، ومحمد بن قيس بن مخرمة

(1)

.

ورواه عبدالرزاق في «المصنف» عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة

(2)

، هكذا بلا واسطة بين ابن جريج، ومحمد بن قيس.

ورواية عبدالرزاق التي في «المصنف» ليست خطأ من النساخ، بل هي رواية مستقلة، أخطأ فيها عبدالرزاق حين أثبته في «المصنف» ، أو أخطأ عليه راوي «المصنف» إسحاق الدبري، وقد أخرجه الطبراني من طريق الدبري كما هو في «المصنف»

(3)

، وقال أبو علي الجياني:«هكذا روي لنا هذا الإسناد من طريق الدبري مقطوعا، لم يذكر فيه عبدالله بن كثير»

(4)

.

ومحمد بن عبدالله العصار الذي رواه عن عبدالرزاق على الصواب متقدم السماع من عبدالرزاق، وكان مع أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين في الرحلة إلى عبدالرزاق

(5)

.

وبناء على ما تقدم فقول بعض المشايخ عن رواية عبدالرزاق في «المصنف» : «وقد سقط من سنده (يعني المصنف) عبدالله بن كثير، فيستدرك من رواية

(1)

«تقييد المهمل» 3: 832.

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (6712).

(3)

«الدعاء» حديث (1246).

(4)

«تقييد المهمل» 3: 831.

(5)

«تاريخ جرجان» ص 424.

ص: 411

محمد بن عبدالله العصار»، هذا القول فيه قصور، ولا ينبغي أن يستدرك، فهذه رواية، وهذه رواية.

وأما الخطأ بعد عصر الرواية فمثاله ما رواه مسلم أيضا في مقدمة «صحيحه» عن عبدالله بن معاذ العنبري، عن أبيه، وعن محمد بن المثنى، عن عبدالرحمن بن مهدي، كلاهما عن شعبة، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»

(1)

.

هكذا جاء الإسناد في معظم النسخ والروايات لـ «صحيح مسلم» ، قال الجياني:«وفي نسخة أبي العباس الرازي وحده في هذا الإسناد: عن شعبة، عن خبيب، عن حفص، عن أبي هريرة، مسندا، ولا يثبت هذا، وقد أسنده مسلم بعد ذلك من طريق علي بن حفص المدائني، عن شعبة»

(2)

.

وما وقع في نسخة أبي العباس الرازي هو الموجود في طبعات «صحيح مسلم» ، وهو خطأ ممن بعد مسلم، فرواية معاذ، وعبدالرحمن بن مهدي، بالإرسال، ليس فيها أبو هريرة، وكذا رواه حفص بن عمر، وآدم بن أبي إياس، وسليمان بن حرب، ومحمد بن جعفر غندر، عن شعبة، وما وقع من زيادة (أبي هريرة) في رواية معاذ بن معاذ، وعبدالرحمن بن مهدي، لا يصح أن يدرج على أنه اختلاف عليهما، فقد تبين أن الخطأ ممن بعد مسلم، وهو خطأ في إحدى النسخ.

(1)

«صحيح مسلم» 1: 10.

(2)

«تقييد المهمل» 3: 765.

ص: 412

وأخرج أبو عوانة من طريق وهب بن جرير، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه بمنى قال هكذا بشقه الأيمن

» الحديث

(1)

.

هكذا هو في النسخة، وقد ذكره ابن حجر عن «مستخرج أبي عوانة» بذكر أنس فيه، فهو موصول

(2)

، وهكذا جاء من طرق عن وهب بن جرير

(3)

، فالظاهر أن ما وقع في «مستخرج أبي عوانة» خطأ في النسخة، وليس رواية.

الثاني: تنبيه الباحث إلى أن بعض ما يواجهه مما صورته اختلاف، وحقيقته ليست كذلك، إذ هو تحريف أو سقط في النسخ المخطوطة أو المطبوعة، لا ينبغي أن يتخذه الباحث ملاذا يتهرب به من معالجة الاختلافات الحقيقية، وعلى الباحث أن يبذل ما في وسعه للوصول إلى رأي راجح، ذلك أن بعض الباحثين يكثر أثناء التخريج من قوله -مثلا- وقد سقط من المصدر الفلاني اسم فلان، أو وقع في المصدر الفلاني اسم فلان كذا، وهو تحريف، أو أبدل اسم فلان في المصدر الفلاني باسم فلان، وهو خطأ من النساخ، أو خطأ مطبعي، وهكذا، وحقيقة الأمر أنه ليس كذلك، فهذه هي رواية هذا المصدر، فهو اختلاف في الرواية، وليس خطأ من النساخ، ويلزم على ذلك عده اختلافا، وتطبيق قواعد الاختلاف عليه.

(1)

«مستخرج أبي عوانة» حديث (3229).

(2)

«إتحاف المهرة» 2: 280.

(3)

«مسند أحمد» 3: 214، و «مسند عبد بن حميد» حديث (1219) ، و «المنتقى» حديث (484).

ص: 413

وقد نبهت فيما مضى في الفصل الثالث من الباب الأول إلى ضرورة انتباه الباحث لتصرفات المحققين للكتب، والناشرين لها، فإن كثيرا منهم لا يبالي بتغيير ما يجده في الكتاب الذي يحققه إذا كان ما فيه يخالف ما في مصادر أخرى، فيزيد وينقص، ويعدل، ظنا منه أن ما وقع عنده من خطأ النساخ، وليس هو كذلك، إنما هو اختلاف رواية، وهنا ينبه الباحث أن لا يقع فيما يقع فيه هؤلاء، فيتخلص من بعض الاختلافات على أنها أخطاء نساخ.

تعرض أحد الباحثين للنظر في الاختلاف الواقع على قتادة، في الحديث الذي يرويه قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي مرفوعا:«يغسل من بول الجارية، ويصب على بول الغلام» ، وقد اختلف فيه على قتادة كثيرا، ومما ذكره الباحث رواية سعيد بن أبي عروبة، وهو يرويه عند الباحث عن قتادة موقوفا على علي، قال الباحث في تخريجها: «ورواية سعيد أخرجها عبدالرزاق كتاب الصلاة / باب بول الصبي (1/ 381) ومسدد في المسند كما في الإتحاف (720 - المسندة) وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الطهارات / باب في بول الصبي

(1/ 114) وأبو داود (377) والبيهقي (2/ 582)، وسقط من سند عبدالرزاق وابن أبي شيبة (أبو الأسود).».

كذا صنع الباحث، ذكر أن عدم ذكر أبي الأسود سقط في سند عبدالرزاق، وابن أبي شيبة، وفرغ منه هكذا، وعبدالرزاق، وابن أبي شيبة، يرويانه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة، وهذان الطريقان غير الطريق الذي جاء فيه ذكر أبي الأسود، فهو إذن اختلاف على سعيد بن أبي عروبة، أغفله الباحث، وعده

ص: 414

سقطا في «المصنفين» .

وتعرض باحث آخر لتخريج ودراسة ما رواه جماعة عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر مرفوعا: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه

» الحديث، وقد قيل عن ثوير بالوقف على ابن عمر.

وممن يرويه عن ثوير بالوقف: سفيان الثوري، لكنه يذكر فيه مجاهدا بعد ثوير، وربما لم يسم ثويرا، فخرج الباحث في الوجه الموقوف رواية سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد، عن ابن عمر، وقال في تخريجها:«وأخرجه ابن المبارك في الزهد (127 ح 421) ومن طريقه البغوي في شرح السنة (15/ 233 ح 4397)، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد به (يعني عن ابن عمر) بنحوه» .

وعلق الباحث في حاشية بحثه على تخريجه من «الزهد» لابن المبارك بقوله: «في الزهد موقوف على مجاهد، وهو خطأ، والتصحيح من السنة للبغوي، فقد روى من طريقه» .

كذا قال الباحث، وهو يريد أنه خطأ في النسخة، وما قاله فغير لازم، فإن ما في «الزهد» رواية نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، وما في «السنة» للبغوي رواية إبراهيم بن عبدالله الخلاف، عن ابن المبارك، فهي رواية أخرى إذن.

والسبب الرئيس لوقوع الباحثين والمحققين في مثل هذا هو مرور مصدر نازل على صاحب مصدر عال، فـ «الصحيحان» ، و «السنن الأربع» ، و «مسند أحمد» وغيرها، يروي مؤلفوها كثيرا من طريق عبدالرزاق، وعبدالرزاق له كتابه

ص: 415

«المصنف» ، فيقوم الباحث أو المحقق بالاستعانة بالمصدر الأصل للنظر فيما جاء عن مصنفه في المصادر اللاحقة، أو العكس.

وهكذا يقال في مثل أبي بكر بن أبي شيبة، ومسدد، ومحمد بن أبي عمر العدني وغيرهم، فإن لهم مؤلفات، والمؤلفون في السنة بعدهم يروون كثيرا من طريقهم، ونجد هذا جليا في المصادر النازلة، مثل «مستدرك الحاكم» و «سنن البيهقي» و «السنة» للبغوي، وغيرها، مع المصادر المتقدمة عليهم زمنا.

والذي ينبه له الباحث هنا أن‌

‌ رواية مصدر نازل من طريق صاحب مصدر عال لا يلزم أن يكون يرويه عنه من هذا المصدر بعينه

، فإذا روى مسلم -مثلا- أو ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة حديثا، ثم وجدناه في «المصنف» لابن أبي شيبة، فلا يلزم من هذا أن مسلما يرويه من «المصنف» ، فقد يكون يرويه من «المسند» ، وهو كتاب آخر لابن أبي شيبة، وقد يكون يرويه من أصول ونسخ ابن أبي شيبة، قبل أن ينقلها إلى مؤلفاته، وقد يكون سمع منه من حفظه، فهما روايتان مختلفتان، لا يصح تصويب إحداهما بالأخرى.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل»

(1)

أن كثيرا من الرواة لهم أصول بها سمعوا من شيوخهم، ولهم نسخ يحدثون بها نسخوها من تلك الأصول، ولهم أيضا مصنفات جمعوها من تلك النسخ، وتقدم هناك أنه قد يحصل خطأ من

(1)

«الجرح والتعديل» ص 73 - 77، وانظر أيضا ما تقدم هنا في المبحث الثاني من الفصل الرابع من الباب الأول.

ص: 416

الراوي أثناء نقله من مرحلة إلى أخرى، وقد يتعمد هو التغيير، بأن يختصر الإسناد أو المتن، وقد يقطع المتن الواحد، وذلك لحاجته إلى الاختصار حين التصنيف، أو حين يكتب أطرافا يحدث بها، وقد قال الخلال في أبي بكر بن أبي شيبة في سياق كلامه على اختصار الحديث:«وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى»

(1)

.

والخلاصة -من كل ما تقدم- أن الباحث كما هو مطالب بأن لا يثقل نظره في الحديث باختلاف صوري، حقيقته من أخطاء النساخ والطابعين، هو مطالب أيضا بأن لا يغفل اختلافا، ويفرغ منه على أنه من أخطائهم، وليس هو كذلك.

وفيما أرى أن هذه القضية بحاجة إلى من يتصدى لها بخصوصها، فيوسعها بحثا، ويكثر من ضرب الأمثلة لها، ويحاول استنباط قواعد تعين الباحثين، فقد اكتفيت هنا بالإشارة إليها، لا يحتمل المقام أكثر من ذلك، وهي تتعلق بعملين جليلين بينهما صلة قوية، عمل الناظر في الأسانيد واختلافها، وعمل محقق لكتاب من كتب التراث، بل هي عند التدقيق يحتاجها كل باحث وإن لم يكن ينظر في الأسانيد، كما يحتاجها كل محقق لكتاب، وإن لم تكن فيه أسانيد.

الثالث: إذا بذل الباحث جهده في معالجة مخالفة في مصدر، ففي الغالب سيظهر له ترجيح في المسألة، فإما أن يعده خطأ في النسخة، ويعتمد ذلك، ولا يلحقه بالاختلاف بين الرواة، وإما أن يعده اختلافا من جهة الرواية، ويطبق

(1)

«فتح الباري» لابن رجب 2: 105.

ص: 417

عليه قواعد الاختلاف.

وفي بعض الحالات يواجه الباحث تكافؤا في الأدلة والقرائن، أو ما يقرب منه، فعليه حينئذ أن يشير إلى هذا، فيذكر احتمال وجود خطأ في النسخة، ويعالج ما وجد أيضا باحتمال أن يكون اختلافا من جهة الرواية.

ومن أمثلة ذلك حديث عائشة الماضي آنفا، في زيارته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، فقد ذكر ابن معين أن عبدالرزاق صحف في شيء من متنه، فكان يروي قوله صلى الله عليه وسلم:«ما لك يا عائشة، حشيا رابية؟ »

(1)

، هكذا:«ما لك يا عائشة؟ -حسبني رأيته-»

(2)

.

والموجود في «المصنف» المطبوع على الصواب، كما رواه بقية أصحاب ابن جريج، فيحتمل أن يكون عبدالرزاق نبه إلى الصواب، فرجع إليه في «المصنف» ، فرواية ابن معين عنه متقدمة، وكان يروي عنه من كتابه قبل النقل إلى «المصنف»

(3)

.

ويحتمل أن يكون بعض النساخ أو المحقق عدله إلى الصواب، أو يكون المحقق قرأها بمساعدة ما في المصادر على الصواب دون أن يشعر.

ومن ذلك أن أحد الباحثين وهو يخرج حديث ابن عمر في (صلاة الضحى)

(1)

أي: مالك قد وقع عليك الحشا -وهو الربو-، وكانت عائشة مسرعة فعلى نَفَسُها، انظر:«غريب الحديث» لابن الجوزي 1: 217، و «شرح صحيح مسلم» للنووي 7:43.

(2)

«تقييد المهمل» 3: 832.

(3)

انظر ما تقدم في «الجرح والتعديل» ص 127.

ص: 418

قال: «وأخرجه أبو يعلى في «المسند» ، كما في «المطالب العالية» لابن حجر 4/ 573 (654)، والبيهقي في «السنن الكبرى» 3/ 69 (4906)، من طريق أبي رافع إسماعيل بن رافع، عن إسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر، عن عبدالله بن عمر به».

وعلق عليه الباحث بقوله: «سقط من إسناد أبي يعلى عند ابن حجر في «المطالب» إسماعيل بن عبيدالله، وفيه بدل عبدالله بن عمر: عبدالله بن عمرو بن العاص، فلا أدري إن كان هو من باب الاختلاف في الإسناد، أو السقط والتحريف»

(1)

.

* * *

ص: 419

‌المبحث الثاني

منهج النقاد في الاختلاف ومنهج المتأخرين

تكلم على الأسانيد تصحيحا وتضعيفا خلق لا يحصون في كل عصر ومصر، وهؤلاء يختلفون في قوة تمكنهم من هذا العلم، والأخذ بأسبابه، كما يختلفون في قواعدهم التي ينطلقون منها للحكم على الأسانيد تصحيحا وتضعيفا.

والذي يهمنا هنا من قواعدهم ما يتعلق بموقفهم حين يقع اختلاف بين الرواة في حديث ما، فالمتتبع لمسيرة نقد المرويات، يرى مناهج مختلفة في النظر إلى هذه القضية.

والذي يهم أيضا معرفته من هذه المناهج هو ما كان عليه أئمة النقد الأولين، وهم أئمة نقد المرويات، وأئمة الجرح والتعديل في عصر الرواية، مثل شعبة، ويحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وأحمد، وابن المديني، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والنسائي، وغيرهم، كما يشمل ذلك طائفة تأخرت بعد هؤلاء وسارت على منهجهم، مثل أبي الفضل بن عمار الشهيد، والدارقطني، والبيهقي، وابن المواق، ونحوهم.

فهؤلاء يسيرون على منهج واحد، محكم بقواعد وأصول، تعارفوا عليها، وتناقلوها قولا وعملا طبقة بعد طبقة.

وهذا المنهج ينسب لهؤلاء الأئمة لأنهم طبقوه بتوسع وشمول، وأبرزوا

ص: 420

قواعده وأظهروها، وإلا فإن أس هذا المنهج وبذرته الأولى كانت على يد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل يتوسع ويتعمق شيئا فشيئا -بحسب الحاجة إليه- حتى وصل إلى ذروته في عصر النقد المشار إليه.

وربط منهجهم هذا بعمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأهمية بمكان، وقد قامت إحدى الباحثات الفاضلات بهذه المهمة

(1)

.

يقوم هذا المنهج على أساس مهم، حَكَّم فيه هؤلاء الأئمة قواعد الشرع، وأعملوا فيه النظر والعقل، وهذا الأساس هو أنه لا عصمة لأحد عن الكذب والتزوير، فلا بد من فحص الرواة، ثم بعد تمييز الصادقين منهم، فلا عصمة لأحد منهم كائنا من كان عن السهو والخطأ والوهم.

وقبل شرح طريقة عملهم لا بد من التذكير هنا بأنهم قاموا قبل ذلك بأربع خطوات هامة جدا، هي بمثابة الإعداد والتمهيد للخطوة الخامسة التي هي المقصودة بالحديث هنا، والخطوات الخمس معتمدة على مقارنة المرويات، أو ما يعرف بعرض الروايات بعضها على بعض، وذكري لعملهم هذا على شكل خطوات قصدت به تقريبه للأفهام، وذلك بترتيبه تنزلا من الدائرة الأوسع إلى التي تليها، وأما وجودها في عمل الأئمة وفي كلامهم فعلى ترتيب آخر.

ف‌

‌الخطوة الأولى: دراسة مرويات كل راو -ما أمكنهم ذلك- ومقارنتها بمرويات غيره

، لمعرفة صدقه من كذبه، ومعرفة درجة ضبطه، ثم الحكم على

ص: 421

الراوي في نفسه، وإعطائه الدرجة اللائقة به، كقولهم: ثقة ثبت، أو ثقة، أو صدوق، أو ضعيف، أو متروك، أو كذاب، وهو ما يعرف بالأحكام المطلقة على الرواة، أو التوثيق والتضعيف المطلق.

و‌

‌الخطوة الثانية: إجراء مقارنة بين الرواة، كقولهم: فلان أحفظ من فلان

، أو دون فلان، أو مثله، أو أحب إلي منه، ونحو ذلك، وهو ما يعرف بالأحكام النسبية على الرواة، أو التوثيق والتضعيف النسبي، يفعلون ذلك لمناسبة ما، إما لكونهم إخوة، أو لتقاربهما في السن والأخذ عن الشيخ، أو لتشابههما في الاسم، ونحو ذلك.

و‌

‌الخطوة الثالثة: النظر في هذا الراوي مرة أخرى في روايته عن كل شيخ من شيوخه

، لمعرفة درجته في كل واحد منهم خاصة، ذلك أن الراوي يأخذ حكما عاما، ثم قد يأخذ حكما خاصا عن شيخ معين من شيوخه، أو أكثر، فقد يكون ثقة إلا في شيخ معين له هو فيه ضعيف، أو في شيوخ معينين، والعكس كذلك، فقد يكون ضعيفا بوجه عام، قويا في شيخ من شيوخه أو أكثر، وهو ما يعرف بالأحكام المقيدة على الرواة، أو التوثيق والتضعيف المقيد.

و‌

‌الخطوة الرابعة: إجراء مقارنة بين بعض الرواة الأقران، لمعرفة منازلهم في شيخ لهم معين

اشتركوا في الرواية عنه، وهو ما يعرف بالأحكام النسبية المقيدة، أو التوثيق والتضعيف النسبي المقيد، وغالب هذه المقارنات تكون بين تلاميذ راوٍ مشهور، له أصحاب كثيرون، وأحاديث كثيرة، سواء كان من الصحابة،

ص: 422

كأبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وأنس، أو ممن بعدهم كنافع مولى ابن عمر، وقتادة، وشعبة، والأعمش، والزهري، وأبي إسحاق السبيعي، ونحوهم، وهو ما يعرف بعلم طبقات الرواة في الرتبة والدرجة، لا في الزمن، وهو باب مهم جدا، لأن هؤلاء وأمثالهم تدور غالب الأحاديث عليهم.

فهذه الخطوات الأربع قام الأئمة بها عن طريق مقارنة المرويات، وعرض الروايات بعضها على بعض، وقد تقدم شرحها وما يتعلق بها من مسائل في الكتاب الأول «الجرح والتعديل» ، وإنما ذكرتها هنا ملخصة لارتباطها الوثيق جدا بموضوع عمل الأئمة عند اختلاف الأسانيد، فالخطوات الأربع هذه بمثابة المواد الأولية لعمل جليل عظيم قاموا به، وإدراك الباحث لهذا الارتباط هو مفتاح فهمه لأسس وقواعد نقد المرويات بنظرة شاملة ومستوعبة.

والخطوة الخامسة -وهي موضوع الحديث هنا كما أسلفت-: أنهم إذا روي لهم الحديث المعين أو سئلوا عنه ورأوا أن بين رواته اختلافا في إسناد الحديث أو متنه احتاج الحديث عندهم حينئذ إلى دراسة ونظر، فلا يصححون الأوجه كلها، أو يحكمون لبعضها بأنه الصواب، وعلى بعضها بأنه خطأ، إلا بعد الدراسة والنظر، فليس عندهم حكم عام مطرد على جميع الأحاديث التي وقع فيها اختلاف، كأن يقال: الحكم لمن زاد، أو الحكم لمن نقص، أو الحكم للأكثر

الخ، وإنما كل حديث وجد فيه ذلك له عندهم نظر خاص به، يخضع الحكم النهائي فيه لمجموعة من القرائن والمرجحات يراعيها الإمام حين يصدر حكمه.

ص: 423

وهذه المرجحات وتلك القرائن سيأتي الحديث عنها لاحقا، لكني هنا أعيد ما سبق آنفا من أن معظمها كان قد تمت دراسته وإنضاجه في خطوات سابقة عندهم، وهي الخطوات الأربع التي قبل هذه الخطوة، فهذه المرجحات والقرائن بعضها في الرواة الذي جرى بينهم الاختلاف، من حيث درجاتهم في أنفسهم، ومن حيث المقارنة بينهم، ومن حيث صلتهم بشيخهم الذي اختلفوا عليه، وبعضها في الشيخ نفسه الذي جرى عليه الاختلاف، وبعضها في المروي إسنادا أو متنا.

هذه صور تقريبية لطريقة النقاد في التعامل مع الاختلافات بين الرواة، ذكرتها هكذا ليسهل فهمها، لكنها في واقع الأمر ليست على هذا الترتيب المعين عندهم، فأساسها كلها: مقارنة المرويات، ثم كانت النتائج كلها ثمرة هذه المقارنة، سواء في درجات الرواة، والمقارنة بينهم، ومراتبهم في شيوخهم، أو في الأحاديث نفسها، وما أثمر ذلك كله من قواعد للوصول إلى درجة الحديث، وصحته من ضعفه، مثل قواعد التفرد، واختلاف الرواة، والاعتضاد، يذكرونها في بيانهم وتعليلهم لأحكامهم، فاستفاد منها من جاء بعدهم، وأراد أن يحكم على الحديث.

ولم يأت هذا من الناقد في يوم وليلة، فهو ثمرة جهد جهيد، وزمن طويل، من التحصيل والتتبع، والمقارنة، فالناقد يمضي سنوات عديدة في الرواية والرحلة، حتى تكتمل عنده أدوات النقد، فيعملها، ويصدر أحكامه، مع بقاء هذه الأحكام عرضة للمراجعة، بحسب ما يستجد عنده من دلائل، وما يقف عليه من طرق، فقد يتراجع، وقد يتردد.

ص: 424

واستمر هذا طيلة عصر النقد، في طبقات متعددة من النقاد، يستفيد المتأخر من المتقدم، لكن لا يقلده، بل يعارضه أحيانا، حتى انتهى عصر الرواية، ودونت الكتب، وأصبحت الرواية لهذه الكتب فقط، فصار من يريد النظر في صحة الحديث وضعفه يعتمد على كلامهم، سواء في الرواة، أو في سماع بعضهم من بعض، أو في الأحاديث نفسها.

ومنهج أئمة النقد الذي ذكرته آنفا في الموازنة والنظر أشهر من أن يعرف به، فكل كلامهم على الأسانيد، وعلى الرواة أنفسهم مبني على المقارنة والموازنة، متمثلا بالخطوات الخمس التي أشرت إليها، فإذا قال الإمام عن حديث ما: الصواب فيه الوصل، أو الإرسال، أو الرفع، أو الوقف، أو قال عن راو إنه ثقة، أو ضعيف، أو متروك، أو ضعيف في فلان، أو ثقة لكن أحاديثه عن فلان مناكير، أو فلان أحفظ من فلان، أو أقوى منه في فلان، أو هما سواء، كل ذلك بناه على المقارنة والنظر، والباب كله واحد لا يختلف.

وقد حرصت جدا هنا على توضيح هذه الصورة وبيان شدة الارتباط بين الأعمال التي قام بها المحدثون النقاد، وهي تؤخذ في الدراسة مفرقة، بحيث يبدو الارتباط بينها ضعيفا، إن لم يكن مفقودا في أذهان كثير من الباحثين، وسأعود إلى هذه النقطة في مناسبات أخرى للحاجة إليها.

ومع وضوح طريقة عمل الأئمة عند اختلاف الأسانيد، وظهورها في كل عمل قاموا به، في مؤلفاتهم وفي إجاباتهم على أسئلة تلاميذهم، مع هذا كله فقد

ص: 425

اضطر الأئمة المتأخرون الذين سبروا عمل الأئمة في عصر النقد إلى توضيح وبيان طريقة أئمة النقد، فتوارد على هذا جمع من الأئمة المتأخرين.

وقبل أن أنقل شيئا من أقوالهم في تحرير منهج النقاد المتقدمين في اختلاف الرواة أود أن أشير إلى أن السبب الذي ألجأهم إلى تحرير ذلك المنهج، وشرحه وإيضاحه، وهذا يتلخص في شيئين:

‌الأول: عدم الدقة في تحرير منهج أئمة النقد في قضايا معينة متفرعة من الموضوع العام

، وهو (اختلاف الأسانيد)، مثل (تعارض الوصل والإرسال)، و (تعارض الرفع والوقف)، و (زيادة الثقة)، وذلك في بعض كتب المصطلح، وفي كتب أخرى، أو ذكر مذاهب في المسألة ليس من بينها المذهب المهم وهو ما عليه أئمة النقد.

فمن ذلك ما ذكره الخطيب في مسألة (تعارض الوصل والإرسال)، فإنه قال: «فقال أكثر أصحاب الحديث: إن الحكم في هذا للمرسل، وقال بعضهم: إن كان عدد الذين أرسلوه أكثر من الذين وصلوه فالحكم لهم، وقال بعضهم: إن كان من أرسله أحفظ من الذي وصله فالحكم للمرسل

، ومنهم من قال: الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطا للرواية فيجب قبول خبره، ويلزم العمل به، وإن خالفه غيره، وسواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، وهذا القول هو الصحيح عندنا

»

(1)

.

(1)

«الكفاية» ص 411.

ص: 426

وقد عقب ابن رجب على ما ذكره الخطيب من الأقوال في هذه المسألة بقوله: «كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين»

(1)

.

ومن ذلك أن الخطيب أيضا قال في (زيادة الثقة): «قال الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث: زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها، ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي، أولا يتعلق بها حكم، وبين زيادة توجب نقصانا من أحكام ثبتت بخبر ليس فيه تلك الزيادة

» إلى آخر كلامه

(2)

.

وما نسبه إلى أهل الحديث بعيد جدا عن قولهم، كما سبقت الإشارة إليه، وكما سيأتي تحريره من كلام الأئمة المتأخرين، ثم إن نسبة الخطيب هذا إلى الجمهور يتعارض مع ما تقدم عنه آنفا في مسألة (تعارض الوصل والإرسال)، فإنه ذكر عن أكثر أهل الحديث أن الحكم للمرسل، مع أن الواصل معه زيادة، وقد ذكروا في كتب المصطلح أجوبة عن هذا التعارض لا تخلو من تكلف

(3)

.

ويشبه صنيع الخطيب في نسبته الحكم للمرسل إلى أكثر أهل الحديث صنيع ابن الجوزي في (تعارض الرفع والوقف، والوصل والإرسال) فإنه كرر القول إن مذهب المحدثين الوقوف مع من وقف أو أرسل احتياطا

(4)

.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 638.

(2)

«الكفاية» ص 424.

(3)

«مقدمة ابن الصلاح» ص 186، 190، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2:695.

(4)

«التحقيق في أحاديث التعليق» الأحاديث 163، 166، 190، و «صيد الخاطر» ص 224.

ص: 427

ومن ذلك قول النووي: «زيادات الثقة مقبولة مطلقا عند الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول

»

(1)

.

وقال أيضا لما ذكر تعارض الوصل والإرسال وتعارض الرفع والوقف: «فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين، وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول، وصححه الخطيب البغدادي: أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر أو أحفظ، لأنه زيادة ثقة وهي مقبولة

»

(2)

.

وقال النووي أيضا في كلامه على انتقاد الدارقطني لـ «الصحيحين» : «ذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا، مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم، ولقواعد الأدلة، فلا تغتر بذلك»

(3)

.

كذا قال النووي، نسب القواعد التي مشى عليها الدارقطني في انتقاده إلى بعض المحدثين، ثم ضعفها جدا، وليست المناقشة في الأمر الثاني، فهذا اختياره، وإنما في الأمر الأول، إذ تلك القواعد متفق عليها بين أئمة أهل الحديث، وقد يقع بينهم اختلاف في تطبيقها بحسب اجتهاد الواحد منهم، لا سيما عند تعارضها، ولا إشكال في ذلك كما سيأتي التنبيه عليه، ولذا فقد نقد ابن حجر كلمة النووي هذه، لكنه أجمل ذلك

(4)

.

ص: 428

الثاني: وجود مناهج مختلفة تناولت نقد مرويات السنة النبوية، فيها مخالفة من بعيد أو قريب لمنهج أئمة النقد، وهذه المناهج يجمعها شيء واحد هو المحك في هذا الموضوع، وهو النظر إلى الأسانيد مفردة، وعدم الالتفات إلى تأثير بعض الأسانيد على بعضها الآخر، لا سيما حين يقع اختلاف.

ولا شك أنه من العسير جدا في هذه الدراسة المختصرة الإلمام بهذه المناهج، ودراسة جذورها، وبيان أثرها على الدراسات الحديثية، ونقد المرويات بصفة عامة، وأهم من ذلك أثرها في الغرض المهم من نقد المرويات، وهو التطبيق العملي، إذ لها أثر خطير جدا في الدراسات الفقهية، والعقدية، والنحوية، وغيرها، ففي النحو مثلا ذهب جماعة من النحويين ومنهم ابن مالك يستشهدون لقواعد نحوية -وقد تكون موضع اختلاف بين النحاة- بروايات مجردة في «صحيح البخاري»

(1)

، وقد اعترض عليهم في بعضها الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ، مستخدما منهج أئمة النقد في مقارنة الروايات

(2)

، فهذا في النحو فما الظن بأثر ذلك في العلوم الشرعية؟ ، ولذا سأكتفي هنا بذكر ما يفي بالغرض دون إطالة.

ومن أهم ما يذكر هنا ما يعرف بمنهج (الفقهاء والأصوليين)، فهو مشهور

(1)

انظر: «شرح التسهيل» لابن مالك 1: 391، 2: 116، 3: 52، 101، 334، 341، 374، و «شرح الكافية» لابن مالك 3: 1586، و «تكملة شرح التسهيل» لابنه 4:91.

(2)

انظر: «فتح الباري» شرح الأحاديث (35)، (555)، (4112)، (3677)، (5746)، (6579)، (6721).

ص: 429

عن جمهورهم، وذلك في مسائل مهمة متفرعة عما نحن فيه، مثل (تعارض الوصل والإرسال)، و (تعارض الرفع والوقف)، و (زيادات الثقات)، و (اشتراط انتفاء العلة في تصحيح الحديث)، ونحو ذلك، فإن للفقهاء والأصوليين منهجا معروفا في هذا، وهو أن الإسناد إذا اجتمعت فيه شروط الصحة الظاهرة وهي: عدالة الرواة، وضبطهم، واتصال الإسناد، فهو إسناد صحيح، وإن خولف بعض رواته، بأن رواه غيره من الثقات مرسلا مثلا، أو موقوفا، أو بحذف راو من الإسناد، أو بدون الزيادة.

وقد تقدم آنفا نسبة هذا إليهم عن الخطيب البغدادي، والنووي.

وممن نسبه إليهم أيضا: الحاكم أبو عبدالله، فقد قال في معرض حديثه عن أقسام الصحيح المختلف فيه:«القسم الثالث: خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين فيسنده، ثم يرويه جماعة من الثقات فيرسلونه» ، وذكر مثالا له ثم قال: «وهذا قسم مما يكثر، ويستدل بهذا المثال على جملة من الأخبار المروية هكذا، هذه الأخبار صحيحة على مذهب الفقهاء، فإن القول عندهم قول من زاد في متن الإسناد إذا كان ثقة، فأما أئمة الحديث، فإن القول فيها عندهم قول الجمهور الذين أرسلوه، لما يخشى من الوهم على هذا الواحد

»

(1)

.

وابن الصلاح، فقال بعد أن ذكر اختيار الخطيب في مسألة (تعارض الوصل والإرسال) الآنف الذكر:«وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله»

(2)

.

ص: 430

وابن دقيق العيد، فقد قال في كلامه على الحديث الصحيح: «مداره

-بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين- على صفة عدالة الراوي، العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه، ومن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك: أن يكون مسندا، وزاد أصحاب الحديث: ألا يكون شاذا ولا معللا، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء»

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد أيضا في إيضاح شرطه في الأحاديث التي أودعها كتابه «الإلمام بأحاديث الأحكام» ، مفرقا بين منهج أئمة الحديث، ومنهج أهل الفقه والأصول:«شرطي فيه ألا أورد إلا حديث من وثقه إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان (يعني الحديث) صحيحا على طريقة أهل الحديث الحفاظ، أو أئمة الفقه النظار، فإن لكل منهم مغزى قصده وسلكه، وطريقا أعرض عنه وتركه، وفي كل خير»

(2)

.

وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي: «للمحدثين أغراض في طريقهم احتاطوا فيها، وبالغوا في الاحتياط، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه قد روي موقوفا أو مرسلا»

(3)

.

ولو كان المطاف انتهى بهذا المذهب عند الفقهاء والأصوليين لهان الخطب،

ص: 431

لكنه تجاوز ذلك إلى بعض أهل الحديث المؤلفين فيه، ومن أشهر من ينسب إليه ممن ألف بالأسانيد ثلاثة أئمة: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.

أما ابن خزيمة، وابن حبان، فقد نصا على شرطهما فيما يخرجانه في «صحيحيهما» بعبارة متقاربة، فقال ابن خزيمة:«مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل العدل عن العدل، موصولا إليه صلى الله عليه وسلم، من غير قطع في أثناء الإسناد، ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى»

(1)

.

وقال ابن حبان: «نملي الأخبار بألفاظ الخطاب، بأشهرها إسنادا، وأوثقها عمادا، من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها»

(2)

.

وقد علق ابن حجر على شرط ابن خزيمة وابن حبان بقوله: «حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها، لكونها دائرة بين الصحيح والحسن، ما لم يظهر في بعضها علة قادحة، وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة: أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح، فلا، والله أعلم»

(3)

.

وما ذكره ابن حجر ظاهر جدا، لا سيما عند ابن حبان.

وأما الحاكم فقد أوضح شرطه في مقدمته أيضا، فإنه قال: «أجمع كتابا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج بمثلها،

ص: 432

إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له، فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك

، وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء الإسلام: أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة»

(1)

.

وكرر هذا في ثنايا الكتاب، مثل قوله حين أخرج حديثا اختلف في رفعه ووقفه:«فنحن على ما شرطنا في إخراج الزيادة من الثقة في الوصل والسند»

(2)

، وقوله حين ذكر حديثا اختلف في وصله وإرساله:«وهذا من الجنس الذي نقول: إن الثقة إذا وصله لم يضره إرسال غيره»

(3)

.

ومثل هذا يقال فيما يصححه ابن السكن في «صحيحه» ، والضياء المقدسي في «المختارة» ، وغيرهما.

فهؤلاء الأئمة كلهم ممن خصص كتابا للأحاديث الصحيحة سار فيه على طريقة الفقهاء والأصوليين، على تفاوت بين هؤلاء في درجة تطبيقها.

وأما من سار عليه من المنتسبين للحديث غير هؤلاء فجمع لا يمكن حصره، فقد انتشر هذا المذهب انتشارا واسعا، في كتب التخريج وغيرها، بل تجاوز بعضهم إلى تخطئة منهج أئمة الحديث، وعيبه بعد نسبته إليهم.

(1)

«المستدرك» 1: 2.

(2)

«المستدرك» 1: 42.

(3)

«المستدرك» 1: 49، وانظر أيضا 1: 48، 77، 86، 109، 112، وغيرها.

ص: 433

فممن سار عليه وطبقه ونافح عنه كثيرا ابن حزم، عند بحثه لهذا الموضوع، وفي تطبيقاته له

(1)

، ومن أشد ما قاله في هذا:«وأما دعوى ابن معين أو غيره ضعف حديث رواه الثقات، أو ادعوا فيه أنه خطأ، من غير أن يذكروا فيه تدليسا - فكلامهم مطرح مردود، لأنه دعوى بلا برهان»

(2)

.

وقال أيضا بعد أن ذكر حديثا اختلف فيه على المدار بزيادة راو وإسقاطه، وجزم ابن حزم بأنه سمعه مرة هكذا، ومرة هكذا:«وإلا فأي شيء في هذا مما يقدح في الرواية؟ وددنا أن تبينوا لنا ذلك، ولا سبيل إلا بدعوى فاسدة لهج بها قوم من أصحاب الحديث، وهم فيها مخطئون عين الخطأ، ومن قلدهم أسوأ حالا منهم»

(3)

.

ومنهم ابن الجوزي في بعض كتبه، فمن ذلك قوله في جواب من أعل حديثا بالوقف: «الرفع زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة

، ومن عادة المحدثين أنهم إذا رأوا من وقف الحديث ومن رفعه - وقفوا مع الواقف احتياطا، وليس هذا مذهب الفقهاء»

(4)

.

وقال مرة في كلامه على حديث: «قد ذكرنا أن مذهب المحدثين إيثار قول

(1)

انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» 1: 166، 264 - 271، 306، 327، و «المحلى» 1: 238، 2: 107، 6: 216، 234.

(2)

«المحلى» 6: 9.

(3)

«المحلى» 1: 238.

(4)

«التحقيق في أحاديث التعليق» حديث (163).

ص: 434

من وقف الحديث احتياطا، وليس هذا بشيء»

(1)

.

وقال في موضع آخر في موازنته بين مذهب الفريقين: «إن البخاري ومسلما تركا أحاديث أقوام ثقات، لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص الأكثرون من الحديث وزادوا، ولو كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة

، وكل هذا سوء فهم، ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، وقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة، ولا يقبل القدح حتى يبين سببه، وكل من لم يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين تأذى وساء فهمه، فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين»

(2)

.

كذا قال ابن الجوزي، وكلامه شبيه بكلام ابن حزم الآنف الذكر، وهو كلام في غاية البعد عن التحقيق العلمي والإنصاف، وابن الجوزي مع حدته في العبارة هنا فهو -سامحه الله- كثير التناقض في هذا الباب، يلجأ كثيرا إلى علل أهل الحديث حين يحتاج إليها

(3)

.

ومنهم كذلك ابن القطان الفاسي، فإنه تبنى مذهب ابن حزم بحذافيره، وردد كثيرا من عباراته بمعناها، فمن ذلك قوله:«لا عيب على الحديث أن يروى تارة مسندا، وتارة مرسلا»

(4)

، وقوله: «إذا كان رافعه ثقة، وواقفه ثقة، فهذا

(1)

«التحقيق في أحاديث التعليق» حديث (190)، وانظر أيضا: الأحاديث (141 - 143)، (161 - 162)، (164 - 166)، (223).

(2)

«صيد الخاطر» ص 224.

(3)

«التحقيق في أحاديث التعليق» الأحاديث (15)، (39)، (59)، (61)، (63).

(4)

«بيان الوهم والإيهام» حديث (1034).

ص: 435

لا يضره، ولا هو علة فيه

، فالقضاء للواقف على الرافع يكون خطأ»

(1)

.

وقال مرة معقبا على كلام الترمذي في تعليل حديث بالوقف، مشيرا إلى تضعيفه مذهب المحدثين:«وهذا عند الترمذي عِلَّة، أن يروى مرفوعا وموقوفا، وليس ذلك بصحيح من قوله وقول من ذهب مذهبه»

(2)

.

وقال مرة: «وهو نظر غير صحيح، أن تعل رواية ثقة حافظ وصل حديثا رواه غيره مقطوعا، أو أسنده ورواه مرسلا - لأجل مخالفة غيره له

، وهذا هو الحق في هذا الأصل، وكما اختاره أكثر الأصوليين، فكذلك أيضا اختاره من المحدثين طائفة، وإن كان أكثرهم على الرأي الأول»

(3)

.

ومنهم الإمام النووي جرى على مذهب الفقهاء والأصوليين في كتبه، مثل «المجموع» ، و «رياض الصالحين» ، و «الأذكار» ، و «شرح صحيح مسلم» ، و «الأربعون» ، واعتمد على هذا المذهب في أجوبته عن الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره على مسلم، فسلك ضروبا من التجويز العقلي لتفادي تخطئة الرواة.

(1)

«بيان الوهم والإيهام» حديث (1108).

(2)

«بيان الوهم والإيهام» حديث (1194).

(3)

«بيان الوهم والإيهام» حديث (2604)، وانظر أيضا الأحاديث:(1022)، (1024)، (1083)، (1114)، (1448)، (2462)، (2465)، (2468)، (2478)، (2493)، (2497)، (2517)، (2526)، (2552)، (2556)، (2565 - 2566)، (2568 - 2569)، (2585 - 2641).

ص: 436

ومن أغرب ما وقع له صنيعه في حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس

»

(1)

، فقد جاء عن ابن عمر في «صحيح مسلم» إنكاره تقديم الحج على صوم رمضان في عدها، وأنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا بتقديم الصوم، ثم جاءت عنه روايات بتقديم الحج، فقال النووي مجيبا عن هذا: «الأظهر -والله أعلم- أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة بتقديم الحج، ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضا على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر: لا ترد علي ما لا علم لك به

، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر، ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين كما ذكرنا، ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره، فهذان الاحتمالان هما المختاران في هذا»

(2)

.

فلكي يبعد نسيان أحد الرواة، أو روايته للحديث بالمعنى، اضطره ذلك إلى ما هو أعظم منه، إذ نسب النسيان إلى صحابي الحديث وهو ابن عمر، وقد ناقشه في ذلك العلائي، ثم ابن حجر

(3)

.

وزيادة على ذلك، ففي هذا الحديث بعينه وردت رواية عند أبي عوانة في

(1)

«صحيح البخاري» حديث (8)، (4513)، و «صحيح مسلم» حديث (16)، و «سنن الترمذي» حديث (2609)، و «سنن النسائي» حديث (5016)، و «مسند أحمد» 2: 26، 120، 143.

(2)

«شرح صحيح مسلم» 1: 179.

(3)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 799، و «فتح الباري» 1:50.

ص: 437

«مستخرجه» في قصة رد الرجل على ابن عمر بتقديم الصوم، وفيه قول ابن عمر للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن، عكس ما ورد في «صحيح مسلم» ، ورد ذلك ابن الصلاح بأن ما في «الصحيح» مقدم، فقال النووي دافعا قول ابن الصلاح:«هذا (يعني ما في «مستخرج أبي عوانة» ) محتمل أيضا صحته، ويكون قد جرت القضية مرتين لرجلين»

(1)

.

كذا قال النووي، وقد أوغل جدا في تطلب تصويب جميع الرواة الثقات.

وذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، وفي بعض الروايات: يوما

(2)

، فقال النووي جامعا بين الروايتين:«هما واقعتان، كان على عمر نذران، ليلة بمفردها، ويوما بمفرده، فسأل عن هذا مرة، وعن الآخر أخرى»

(3)

، عقب عليه العلائي بقوله: «ففي هذا الحمل من أجل تحسين الظن بالرواة - تطرق الخلل إلى عمر رضي الله عنه

»

(4)

.

ومع التزام النووي بهذا المنهج إلا أنه ربما تركه إلى منهج نقاد الحديث،

(1)

«شرح صحيح مسلم» 1: 179.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (2032)، (2042 - 2043)، و (3144)، (4320)، (6697)، و «صحيح مسلم» حديث (1656)، و «سنن أبي داود» حديث (3325)، و «سنن الترمذي» حديث (1539)، و «سنن النسائي» حديث (3829 - 3931)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3349 - 3355)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2129)، و «مسند أحمد» 1: 37، 2: 10، 20، 35، 81، 153.

(3)

«شرح صحيح مسلم» 11: 124.

(4)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 798.

ص: 438

ففي حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا: «إنما جعل الإمام ليؤتم به

» الحديث

(1)

، تكلم النووي على زيادة:«وإذا قرأ فأنصتوا» ، فضعفها، مستعينا بأقوال النقاد

(2)

.

وكما أسلفت فقد انتشر هذا المذهب في الكلام على الأحاديث انتشارا واسعا، لسهولة تطبيقه، واشتغال أئمة الحديث المتأخرين بكتب ضخمة في تخريج أحاديثها، فنراه في تخريجات العراقي، والهيثمي، والبوصيري، وابن حجر، والسيوطي.

وقد رأيت لابن حجر كلاما في بعض تعليقاته أراد به أن يقرب مذهب الفقهاء من مذهب أئمة النقد، وأن الخلاف بينهما لفظي في النهاية، قال: «زاد أهل الحديث قيدي عدم الشذوذ والعلة، لأن أحدا لا يقول: إن الحديث يعمل به وإن وجدت فيه علة قادحة، غايته أن بعض العلل التي ذكروها لا يعتبرها الفقهاء، فهم إنما يخالفونهم في تسمية بعض العلل علة، لا في أن العلة توجد ولا تقدح، فأهل الحديث يشترطون في الحديث الذي اجتمعت فيه الأوصاف مزيد تفتيش، حتى يغلب على الظن أنه سالم من الشذوذ والعلة، والفقهاء لا يشترطون في الحديث ذلك، بل متى اجتمعت الأوصاف الثلاثة سموه صحيحا، ثم متى ظهر

(1)

«صحيح مسلم» حديث (404)، و «سنن أبي داود» حديث (972 - 973)، و «سنن النسائي» حديث (829)، و (1063)، (1171 - 1172)، و (1279)، و «سنن ابن ماجه» حديث (901)، و «مسند أحمد» 4: 393، 394، 401، 405، 409، 410.

(2)

«شرح صحيح مسلم» 4: 123، و «المجموع» 3:298.

ص: 439

شاذا ردوه، فلا خلاف بينهما في المآل، وإنما الخلاف في تسميته في الحال بعد وجود الأوصاف الثلاثة، والفريقان مجمعون على أن العلة القادحة متى وجدت ضرت

»

(1)

.

هكذا يقرر ابن حجر، وليت الأمر على ما قال، وأن الخلاف لفظي، يزول في النهاية إذا اطلع على علة، لكنه في الواقع لا يزول، لأن الاختلاف بين المنهجين هو في القواعد التي يحكم على العلة إذا وجدت بأنها قادحة أو غير قادحة، وبين المنهجين فرق كبير جدا في هذه القواعد، نتج عنه فرق كبير أيضا في الحكم على أفراد الأحاديث حين تطبيق المنهجين.

فأما القواعد نفسها فقد تقدم عن جمع من الأئمة ومنهم ابن حجر تحرير منهجي الفريقين، وأما أفراد الأحاديث فأكثر من أن تحصى، وسيأتي في ثنايا هذا الكتاب الإشارة إلى أثر المنهجين في الحكم على الأحاديث.

وقول ابن حجر: «لأن أحدا لا يقول: إن الحديث يعمل به وإن وجدت فيه علة قادحة

» لا يفيد شيئا في التقريب بين المنهجين، لأن الشأن في وجود الاختلاف في القواعد التي يتحاكم إليها الفريقان في النظر إلى العلل، وإنما يكون الاختلاف لفظيا لو كانت القواعد واحدة، والاختلاف في وجوب النظر فيها قبل إصدار الحكم، أو في جوازه حتى تظهر علة.

ومن العسير جدا رصد هذا المنهج، والحديث عن آثاره في مثل هذا المجال

ص: 440

المختصر، لما تقدم، ولسبب آخر مهم جدا وهو استخدام بعض الأئمة للمنهجين جميعا، إما في كتب مختلفة، أو ربما في كتاب واحد، وبعضهم ربما نَظَّر شيئا وطبق غيره، فالحاكم -مثلا- له كلام في غاية القوة والصرامة في كتابه «علوم الحديث» ، لكنه في «المستدرك» على النقيض من ذلك، تسامح جدا، ولم يعبأ بمخالفة الثقة ونحوه لغيره، وضده الخطيب البغدادي، مال في كتابه «الكفاية» -كما تقدم آنفا- إلى منهج الأصوليين والفقهاء، لكنه في كتبه التطبيقية مثل «تمييز المزيد في متصل الأسانيد» ، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» سلك منهج كبار أئمة النقد.

ومثل هذا يقال في ابن حجر، فإنه قرر أشياء كثيرة في كتابه «النكت على كتاب ابن الصلاح» على طريقة أئمة النقد، وكذا في بعض كتبه التطبيقية، مثل كتابه الذي لخص به كتاب الخطيب الآنف الذكر في الإدراج، وكتابه في الحديث المعلل:«الزهر المطلول في الخبر المعلول» ، كما يشير إلى ذلك عزوه للكتابين، وفي كثير من تقريراته في كتبه الكبيرة كـ «فتح الباري» ، و «التلخيص الحبير» ، لكنه أيضا في كثير من تخاريجه وأحكامه على الأحاديث ينهج منهج النظر إلى الإسناد المفرد.

وهذا التذبذب بين المنهجين مرده إلى الطريقة التي دونت بها بعض قواعد المحدثين، وذلك بالتأثر بما كتبه الأصوليون والمتكلمون، إذ كان التأليف في أصول الفقه هو السابق، فالقارئ في بعض كتب المصطلح يرى أشياء متناقضة، فهو في (تعارض الوصل والإرسال)، و (تعارض الرفع والوقف)، و (زيادات الثقات)، يرى خليطا من الأقوال، وقد يُرجَّح له قول من يحكم للزائد في هذه الموضوعات، ثم في قضايا أخرى لا يمكن تقريرها وشرحها إلا على منهج واحد

ص: 441

وهو منهج كبار أئمة النقد، مثل (الشاذ)، و (المعلل)، و (المدرج)، و (المقلوب)، و (المزيد في متصل الأسانيد)، وغيرها، إذ هذه الأبواب قائمة على أحاديث الثقات، وإلا فقدت روحها ومضمونها، لأن أحاديث الضعفاء ضعفت بداية بسببهم.

والخلاصة أنه لأجل هذين الأمرين -عدم الدقة في تحرير منهج أئمة النقد، وانتشار مذهب الفقهاء والأصوليين- توارد جمع من الأئمة المتأخرين على شرح وإيضاح منهج وطريقة الأئمة المتقدمين أئمة النقد، والتأكيد على شرح موقفهم من الاختلاف، خاصة ما يتعلق بزيادات الثقات، فقال ابن دقيق العيد:«من حكى عن أهل الحديث -أو أكثرهم- أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو واقف ورافع، أو ناقص وزائد، أن الحكم للزائد، فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانونا مطردا، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول»

(1)

.

وقال ابن تيمية حين ذكر معارضة حديث للقرآن: «مع أن حذاق أهل الحديث يثبتون علة هذا الحديث من غير هذه الجهة، وأن راويه فلانا غلط فيه، لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمى: معرفة علل الحديث، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا، ولكن عرف من طريق آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف، أو أسنده وهو مرسل، أو دخل عليه حديث في حديث، وهذا فن شريف، وكان يحيى بن سعيد الأنصاري (كذا في النسخة، وصوابه: القطان)، ثم صاحبه علي بن المديني، ثم البخاري، من أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم،

(1)

«شرح الإلمام» 1: 27، وانظر:«النكت على كتاب ابن الصلاح» لابن حجر 2: 604.

ص: 442

وكذلك النسائي، والدارقطني وغيرهم، وفيه مصنفات معروفة»

(1)

.

وقال في كلام له عن شرط البخاري ومسلم: «

وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح، وليس الأمر كذلك، فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن: كيحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب «الصحيح» ، والدارقطني، وغيرهم، وهذه علوم يعرفها أصحابها»

(2)

.

وقال أيضا: «وكما أنهم (يعني أهل الحديث) يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ - فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها، بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا: علم علل الحديث، وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه

، والناس في هذا الباب طرفان، طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف

، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة، أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة - يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلا له في مسائل العلم، مع أن

ص: 443

أهل الحديث يعرفون أن مثل هذا غلط»

(1)

.

وقال ابن عبدالهادي في مناقشته لابن الجوزي وابن القطان في قولهما بتقديم من وصل الحديث أو رفعه دائما: «وهذه الطريقة التي سلكها المؤلف (يعني ابن الجوزي) ومن تبعه في أن الأخذ بالمرفوع والمتصل في كل موضع - طريقة ضعيفة، لم يسلكها أحد من المحققين وأئمة العلل في الحديث»

(2)

.

وقال العلائي في كلامه على مسألة (تعارض الوصل والإرسال): «كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن -كعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وأمثالهم- يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح، بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث»

(3)

.

وقال أيضا في كلامه على عموم اختلاف الرواة في الإسناد: «إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شيء من ذلك، مع أن كلهم ثقات محتج بهم - فههنا مجال النظر، واختلاف أئمة الحديث والفقهاء، فالذي يسلكه كثير من المحدثين -بل غالبهم- جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء

ص: 444

من وجوه الترجيح حكموا لها، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده»

(1)

.

وقال ابن حجر معقبا على الأقوال التي ذكرها ابن الصلاح في مسألة (تعارض الوصل والإرسال) عن الخطيب البغدادي، وقوله إن الصحيح في الفقه والأصول هو ترجيح الوصل دائما:«ثم إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، على أن لحذاق المحدثين في هذه المسألة نظرا آخر لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنما يدورون في ذلك مع القرائن»

(2)

.

وقال أيضا تعليقا على كلمة ابن طاهر: «لا خلاف نجده بين أهل الصنعة أن الزيادة من الثقة مقبولة» ، قال: «أي لا نجد أحدا من أهل الفن إلا وقد قبل زيادة الثقات، ولو في مكان من الأماكن، فهم مجمعون بهذا الاعتبار بالفعل، ولكنهم مختلفون في التفاصيل، فتجد هذا يقبل في مكان لا يقبل فيه آخر، ويقبل في آخر غيره، ومن تأمل تصرفهم حق التأمل علم أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، ولكنهم دائرون في أفرادها مع القرائن، فتارة يرجحون الوصل،

ص: 445

وتارة الإرسال، وتارة رواية من زاد، وتارة رواية من نقص، ونحو ذلك، وهذا هو المعتمد، وهو فعل جهابذة النقاد وأعلامهم»

(1)

.

ونلحظ في كلام هؤلاء الأئمة حرصهم على التأكيد على منهج أئمة النقد في زيادات الثقات، وذلك لتعويل بعض الأئمة المتأخرين على كلمات وردت عن النقاد ذكروا فيها أن زيادة الثقة مقبولة، وربما عبر بعضهم بزيادة الحافظ، مثل ما ورد عن البخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والبزار، والدارقطني

(2)

، ويلهج بهذا أيضا كثير من المشايخ والباحثين المعاصرين، في سعيهم لنفي الخلاف بين منهج أئمة النقد ومنهج المتأخرين.

وهذه الكلمات لا دلالة فيها على المراد، أما من الناحية العملية فالأمر ظاهر، فعمل هؤلاء الأئمة وغيرهم في تعليل أحاديث الثقات وزياداتهم في الإسناد والمتن أشهر من أن يمثل له، وسيأتي في ثنايا الكتاب أمثلة كثيرة لهذا، وفي هذا يقول ابن رجب مجيبا عما نقل عن البخاري من ترجيحه وصل حديث، وتعليله بأن ذلك زيادة ثقة: «وهذه الحكاية إن صحت فإنما مراده الزيادة في هذا الحديث، وإلا فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعا أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة، وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات،

(1)

«النكت الوفية بما في شرح الألفية» 1: 486.

(2)

«مسند البزار» حديث (2)، (23 م)، (2087)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 465، 2: 302، 318، و «سؤالات السلمي للدارقطني» ص 370، و «علل الدارقطني» 3: 98، و «الكفاية» ص 413.

ص: 446

ويرجح الإرسال على الإسناد»

(1)

.

وأما من الناحية النظرية فكذلك، جاءت عنهم كلمات أيضا تدل على أن الأمر ليس على إطلاقه، وأن المقصود بقبول زيادات الثقات أنها ليست كلها مردودة، فيقبل منها ما يقوم الدليل على ترجيح حفظه، ويرد منها ما ليس كذلك.

قال الشافعي: «إنما يُغَلَّط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ، وهم عدد، وهو منفرد»

(2)

.

وذكر الدارقطني حديثا وقع فيه اختلاف على أحد رواته، ثم قال:«وإسماعيل بن جعفر أحفظ من يحيى بن أيوب، وإسماعيل بن عياش، وقد زاد عليهما، وزيادة الثقة مقبولة»

(3)

.

وقال أيضا في كلامه على حديث آخر خالف فيه الثوري اثنين من الثقات: «لولا أن الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه لأن زيادة الثقة مقبولة»

(4)

.

وإلى جانب هذه التنبيهات القيمة من هؤلاء الأعلام في شرح وتوضيح منهج أئمة النقد حين اختلاف الرواة - فقد كان لبعضهم جهد مشكور في جانب آخر، هو الأهم، أعني الجانب التطبيقي، فقد تتبع بعض الأئمة أحكام أئمة

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 638.

(2)

«اختلاف الحديث» ص 30.

(3)

«العلل» 2: 182.

(4)

«شرح علل الترمذي» 2: 638.

ص: 447

آخرين ساروا على منهج الفقهاء والأصوليين، ونقدوا تلك الأحكام على ضوء منهج أئمة النقد.

فمن هؤلاء الحافظ أبو بكر محمد بن حيدرة الشاطبي الأندلسي، المعروف بابن مفوز، المتوفى سنة 505 وقد جاوز الأربعين بثلاث سنين، قال فيه الذهبي: «كان حافظا للحديث وعلله، عالما بالرجال، متقنا

»

(1)

.

ولابن مفوز رد على ابن حزم، وصفه ابن عبدالهادي بأنه رد حسن، وقال:«كتبته، وهو يدل على تبحره وإمامته»

(2)

.

وهو كما قال ابن عبدالهادي، فقد نقل عنه ابن القيم مناقشته لابن حزم في تصحيحه لحديث خطأ أئمة الحديث فيه أبا إسحاق السبيعي، فرد عليهم ابن حزم، وزاد على ذلك فصحح روايتين متعارضتين عن أبي إسحاق، وحملهما على تعدد الواقعة، فرد عليه ابن مفوز ردا محكما، أشار فيه إلى منهج أئمة الحديث، ومنهج الفقهاء الذين لا يعتبرون الأسانيد ولا ينظرون الطرق

(3)

.

ومن هؤلاء أيضا ابن عبدالهادي في كتابه: «تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق» ، تتبع فيه ابن الجوزي في كتابه «التحقيق في أحاديث التعليق» ، في الأحاديث التي نصر فيها منهج الفقهاء والأصوليين

(4)

.

(1)

«سير أعلام النبلاء» 19: 421.

(2)

«طبقات علماء الحديث» 4: 27.

(3)

«تهذيب سنن أبي داود» 1: 154.

(4)

انظر مثلا: «التنقيح» 1: 311، 366، 385، 387، 388.

ص: 448

ونرى نماذج لذلك أيضا في كلام ابن رجب على أحاديث حسنها النووي في «الأربعين» ، وناقشه ابن رجب بتعليلها على طريقة المتقدمين، ونقل كلامهم

(1)

.

كما نرى نماذج لذلك أيضا في كلام ابن حجر على أحاديث يصححها بعض الأئمة، وهي معلولة عند أئمة النقد، فكثيرا ما يقول:«مشى فلان (كابن حبان مثلا) على ظاهر الإسناد، فصحح الحديث»

(2)

.

واليوم -والعالم الإسلامي يشهد نهضة وإقبالا شديدا على دراسة السنة النبوية- يجد الباحث نفسه في ذات الموقف الذي اضطر بسببه جمع من الأئمة المتأخرين إلى تحرير منهج كبار أئمة النقد، إذ النهضة المعاصرة فتحت عينيها على حفظ وتطبيق ما في كتب المصطلح، وحمل الراية في بداية النهضة من أوغل جدا في سلوك منهج الفقهاء والأصوليين، والرد كثيرا على أئمة النقد، وإن حصل منهم إجماع أو ما يشبه الإجماع في الحديث المعين، أعني الشيخ أحمد شاكر.

ثم كثر المنتسبون إلى هذا العلم، المشتغلون بالأحاديث تصحيحا وتضعيفا كثرة بالغة، بسبب افتتاح أقسام الدراسات العليا في الجامعات الإسلامية، ومطالبة هذه الأقسام -حتى غير المتخصصة- الباحثين والباحثات بالحكم على الأحاديث، مع تأكيدهم عليهم أن يكون الحكم على الأسانيد مفردة، دون التعرض للعلل، لأن هذا من شؤون أئمة النقد كما يقولون.

(1)

انظر مثلا: «جامع العلوم والحكم» الحديث الثاني عشر، والحديث التاسع والثلاثين.

(2)

انظر مثلا: «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 726، 782.

ص: 449

ولا بد من الإشارة إلى فرق جوهري بين ما كان عليه الأئمة المتأخرون السائرون على منهج الفقهاء الأصوليين، وبين الباحثين في العصر الحاضر، وهو أن أكثر أولئك ساروا على منهج مع علمهم بوجود منهج آخر وهو منهج أئمة النقد، كما تقدم في كلام ابن حزم، وابن الجوزي، وابن القطان، وأما الباحثون المعاصرون فأكثرهم لا يدرك ذلك، ويأنف أن يقال له: إنك تسير على غير ما سار عليه أئمة النقد، مع أن الأمر ظاهر، إذ هو يكثر من تصحيح أحاديث قد ضعفوها، فمن أين أتى هذا؟ .

وقد حاورني شخص حين سمع بوجود منهجين وقال في كلامه: أريد من نص على هذا، بشرط تجنب ذكر اثنين، فذكر أستاذا فاضلا معاصرا، له جهود مشكورة موفقة في التنبيه على بعض الخلل في الدراسات الحديثية عند المتأخرين، وذكر الحافظ ابن رجب.

فقلت له: أما الأستاذ المعاصر فلك الحق في استثنائه، لأن خلافك معه ومع أمثاله، وأما ابن رجب فهو الفحل لا يقذع أنفه، فلو افترضنا أنه تفرد بالتنبيه على مثل ذلك ما ضره، فإن الحق معه، وسبيل التأكد من صحة ما يقوله ليس بالعسير لمن وفقه الله تعالى، فهذه كتبهم، وهذا صنيع المتأخرين.

ومع ذلك فسأتنزل معك وأدع ابن رجب

(1)

، ثم ذكرت له جماعة من الأئمة الذين نصوا على وجود المذهبين ممن تقدم نقل كلامهم آنفا، فما كان منه

(1)

ينظر بحثه لهذه المسألة في «شرح علل الترمذي» 2: 630 - 643.

ص: 450

إلا أن قال: أين نحن عن هذا؟ ولم إنكار وجود مذهبين متميزين في الدراسات الحديثية؟ فأجبته: لا أجد مبررا لهذا إلا أن أعزوه لثلاثة أسباب:‌

‌ الأول: صعوبة التحول عما نشأ عليه الشخص

، وتلقاه في فترة التعليم، واشتغل عليه فترة طويلة، ولهذا نرى بعض الباحثين قد سلم بوجود المنهجين، واقتنع بضرورة الالتزام بمنهج الأئمة النقاد، وربما شرحه وأوضحه، ولكنه عند التطبيق يدعه ويتكلم على الأحاديث بما نشأ عليه.

وقد قرأت كتابا لأحد الباحثين قدم له بمقدمة جيدة عن قرائن الترجيح عند الأئمة، وضرب لها الأمثلة، ثم في داخل الكتاب سرعان ما يدعها ويسلك مسلك الفقهاء والأصوليين، ومن سار على طريقتهم، بل ينقل أقوالهم وتقريراتهم على الأحاديث.

وتكلم باحث آخر في كتاب له نشره عن زيادة ثقة في متن الحديث، وضعفها، وكتب في ذلك صفحات مطولة، نقل فيها عن الأئمة المتأخرين تقريرهم لمنهج المتقدمين في قبول الزيادات أوردها.

ثم هو في أحاديث أخرى كأنه لم يقرأ حرفا مما سطره هنا، فحسن إسناد حديث فيه صدوق، قد خالف جماعة من الحفاظ، منهم سفيان الثوري، وشعبة، فزاد في الإسناد رجلا، ورواية الحفاظ بإسقاطه، فالإسناد منقطع، وأحاديث أخرى كثيرة ترك فيها ما أطال في تقريره والأخذ به في ذلك الموضع.

الثاني: خلل في التربية العلمية، فالاستعداد النفسي لتغيير الرأي متى ظهر

ص: 451

الحق في خلافه مفقود أو شبه مفقود، وكثير من الباحثين يظن أن من ينبه على وجود خلل في منهج ما إنما يقصد أصحابه بالتنقص والعيب.

الثالث: الطريقة التي سلكها بعض من تصدى للتنبيه على الخلل الموجود في مسيرة الدراسات النقدية للسنة، فقد سلك بعضهم -وهذا مما يؤسف له- مسلكا اتسم بالعنف والحدة، والغمز واللمز، بل والتعيير أحيانا، حتى مع بعض الأئمة، وعدم التماس الأعذار، ولا شك أن لهذا ردة فعل غير محمودة، فرأينا ردودا ومناقشات بعيدة عن الأدب العلمي، ورأينا التنابز بالألقاب، وأنا أبرأ إلى الله تعالى من الفريقين، وأحاول بقدر الاستطاعة أن أنتظم في سلك فئة قليلة في عددها كثيرة -بحول الله- بعدتها، تنبه ولا تعنف، تعذر ولا تعير، ترجح ما تراه الصواب، ترى العلم حقا مشتركا للجميع، لا يملكه أحد، هدفها خير الأمة وصلاحها، نسأل الله تعالى أن يسدد الخطا، وأن يوفق للصواب.

وسأعود إلى التأكيد على الفرق بين المنهجين في مناسبات لاحقة في بقية فصول هذا الباب (الاختلاف) يظهر فيها التطبيق العملي لهذا الفرق، مع غرض آخر قصدته وهو تنبيه الباحث حين يسير على نهج أئمة النقد على أن يكون شديد الحذر والانتباه، فقد تزل قدمه في إحدى مراحل النظر في الاختلاف، فيعود مرة أخرى إلى منهج المتأخرين، من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم، فيقضي على جهده كله، وهذا أمر بالغ الأهمية، فالمشوار طويل، والطريق وعرة.

وفي ختام هذا المبحث أود أن أشير إلى قضيتين مهمتين، الأولى: ليس من

ص: 452

غرضي هنا أن أستدل لسلامة منهج أئمة النقد، وضعف منهج من خالفهم، فقد ذكرت في مناسبة سابقة أن مهمة من يبحث في قواعد النقد هي تحرير منهج أئمته، فإذا عرفنا منهجهم أو قاعدتهم في قضية ما انتهت مهمة الباحث هنا، وصار الاستدلال لهذا المنهج أو لتلك القاعدة من نافلة القول.

الثانية:‌

‌ اختلاف منهج المتأخرين عن منهج أئمة النقد ليس خاصا بقضية وقوع اختلاف بين الرواة

، فقد تقدم مثله تماما في مسألة (التفرد)، في الباب الذي قبل هذا، ويأتي مثله أيضا في مسألة (الاعتضاد)، ومسألة (المعارضة).

وكل هذا يتعلق بمقارنة المرويات، وأما ما يتعلق بـ (الجرح والتعديل)، وقضايا (الاتصال والانقطاع)، فقد تقدم في الكتابين الأولين التنبيه في مناسبات عديدة إلى الخلل الواقع فيها في الدراسات النقدية المتأخرة.

والباب كله واحد، ينتظم عددا من المسائل، قد يشتهر بعضها ويخفى بعضها الآخر، غير أن المحصلة النهائية واحدة: ضعف متناه في نقد المرويات، ومجازفات لا حدود لها في التصحيح.

* * *

ص: 453

‌الفصل الثاني

قرائن الترجيح والموازنة

وفيه مدخل، وأربعة مباحث:

المبحث الأول: القرائن في الرواة المختلف عليهم.

المبحث الثاني: القرائن في الرواة المختلفين.

المبحث الثالث: القرائن في صفة الرواية.

المبحث الرابع: المتابعات للمدار ومن فوقه.

ص: 455

‌مدخل:

استخدم الأئمة في عصر النقد للموازنة والنظر حين يقع اختلاف بين الرواة في إسناد الحديث أو متنه قرائن كثيرة جدا يصعب حصرها، ولا سيما من باحث واحد، فالسبيل إلى ذلك أن تتضافر الجهود، وأن يحرص كل باحث اشتغل بالنظر في أحكام النقاد وتطبيقاتهم على تقييد ما يمر به من هذه القرائن والحصيلة النهائية الإلمام بهذه القرائن، أو بأكثرها.

وفي هذا الفصل كتبت ما وقفت عليه من هذه القرائن، ملتزما في ذلك شرطا مهما أكرره دائما، وهو أن‌

‌ القرينة لا تعد قرينة حتى ينص الناقد على استخدامها، لا أن تكون مستنبطة من كلامه

، فمتى وقفنا على نص لناقد يصرح فيه باستخدامها، وأنها السبب فيما حكم به - صح لنا أن نعدها قرينة، وصح لنا أيضا أن نتلمَّسها في أحكامهم التي لم ينصوا فيها على علة الحكم، وأن نستخدمها نحن أيضا في دراستنا للاختلاف، وكل ذلك بحذر شديد ورويَّة.

وقد بدا لي أن هذه القرائن تنقسم في الجملة أربعة أقسام: الأول: في الرواة المختلف عليهم، والثاني: في الرواة المختلفين، والثالث: في صفة الرواية في الاختلاف، والرابع: المتابعات للمدار ومن فوقه، وعلى هذا الأساس سيكون هذا الفصل في أربعة مباحث.

ص: 457

‌المبحث الأول

القرائن في الرواة المختلف عليهم

الراوي المختلف عليه في حديث معين يمثل حلقة وصل بين الرواة المختلفين عليه، ومن فوقه في الإسناد، والباحث حين دراسته لحديث وقع فيه اختلاف له نظر في حلقة الوصل هذه من جهتين، الأولى: المحفوظ عن هذا الراوي ما هو؟ هل هو وجه واحد من وجوه الاختلاف، أو أكثر من وجه؟ وبعبارة أخرى: ما الذي حَدَّث به هذا الراوي أصحابه المختلفين عليه؟ وجه واحد، أو أكثر من وجه؟ ، والثانية: حال إسناد الوجه الراجح والدرجة اللائقة به، ابتداء من الراوي المختلف عليه صعودا إلى من فوقه في الإسناد، إلى أن يصل الإسناد إلى صاحب النص.

ومثال ذلك: أن يختلف أصحاب أيوب السختياني عليه في حديث ما، فيرويه بعضهم عنه، عن نافع، عن ابن عمر، ويرويه بعضهم عنه، عن أنس بن مالك، فيكون البحث عن الذي حَدَّث به أيوب ما هو؟ هل هو عن نافع، عن ابن عمر، أو عن أنس بن مالك؟ أو حدث بالإسنادين جميعا؟ فهذه جهة، والجهة الثانية بعد الفراغ من معرفة المحفوظ عن أيوب. يكون النظر في أيوب ومن فوقه في الإسناد المحفوظ عنه، لإعطاء الإسناد الدرجة اللائقة به إن كان المحفوظ عنه واحدا، أو إعطائهما الدرجة اللائقة بهما إن كان الوجهان محفوظين عنه.

والنظر في الجهة الثانية ليس هذا موضع الحديث عنه، فسيأتي له فصل

ص: 458

خاص به -بعونه تعالى- وهو الفصل الخامس، والحديث الآن عن النظر في الجهة الأولى، في المحفوظ عن الراوي المختلف عليه.

وشرح ذلك أن نعرف أن بعض الاختلافات على الرواة سببها الرواة المختلف عليهم أنفسهم، فالواحد منهم يروي الحديث مرة على وجه، ومرة على وجه آخر، وربما رواه على وجه ثالث، أو أكثر.

والراوي يروي الحديث على أوجه في الرواية لأسباب عديدة، منها أنه لم يضبط هذا الحديث، أو لكونه يحدث حفظا ثم راجع كتابه فوجده على صفة أخرى، أو يكون قد حدث بالحديث في مكان على صفة، ثم حدث به في مكان آخر على صفة أخرى، ومثل هذا يقال في الزمان، قد يكون حدث به أولا على صفة، ثم في الآخر على صفة أخرى.

أو يكون الراوي يرى في الحديث إشكالا في جهة ما، فيقفه أو يرسله أحيانا متعمدا، أو يرى شيخه ضعيفا فيتخوف ألا يكون حفظه، فيتعمد التقصير به.

ومن الأسباب كذلك أن يكون الراوي قد سمعه من شيخه هكذا على التردد، فهو أيضا يرويه تارة على صفة، وتارة على صفة أخرى، وقد ينبه على ذلك.

ومنها أن يكون سمع الحديث عن شيخه بواسطة، ثم سمعه منه مباشرة، أو العكس، فهو يحدث به على الوجهين، أو يكون سمعه عن الراوي بواسطة، فهو يذكرها تارة، ويحذفها أخرى.

ومنها كذلك أن يكون سمع الحديث من عدد من الشيوخ، فهو يرويه تارة

ص: 459

عن هذا، وتارة عن هذا، إلى غير ذلك من الأسباب.

ومن المهم جدا للوصول إلى رأي صواب أو أقرب من غيره إلى الصواب الاعتناء بالنظر في الراوي المختلف عليه، وكيفية روايته، وذلك حين البحث في المحفوظ عن ذلك الراوي، وما الذي حَدَّث به؟ ففي كثير من الأحيان يغني النظر فيه عن النظر في أصحابه المختلفين عليه، والموازنة بين رواياتهم المختلفة في الحديث موضع البحث، وإذا لم يغن النظر في الراوي المختلف عليه عن النظر في أصحابه، ورواياتهم، فقد يكون النظر فيه عاملا مساعدا في الموازنة بين رواياتهم.

وقد رأيت من الباحثين -بصفة عامة- إغفال هذا الجانب، والقصد مباشرة إلى الموازنة بين الرواة عن المختلف عليه، والجزم بأن فلانا أصاب، لكونه الأحفظ، أو لغير ذلك، لكن الباحث لم يدقق في شيخهم الذي اختلفوا عليه، ولا في روايته لهذا الحديث موضع البحث.

وأول ما ينبغي التدقيق فيه روايته للحديث موضع البحث، فقد يقف الباحث على نص عن الراوي المختلف عليه، وأنه قد حَدَّث بالوجهين جميعا، إن كان الاختلاف على وجهين -مثلا- فالتردد منه، وقد تقدم في الفصل الثالث من الباب الأول، وهو الفصل المتعلق بالنقد في عصر الرواية، أن هناك نصوصا كثيرة جدا عن الرواة في مناقشتهم، والمحاورات بينهم، فهذا باب مهم جدا على الباحث أن يعتني به، فقد يوفر عليه الكثير من العناء، وسأذكر الآن نماذج أخرى لهذا.

فمن أمثلة ذلك أن يحيى بن سعيد القطان حدث بحديث عبيدالله بن عمر،

ص: 460

عن نافع، عن ابن عمر:«أنه كان يجمع بين العشاء والمغرب إذا جدَّ بالسير، بعدما يغيب الشفق، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما» ، ثم قال يحيى:«حدثت بهذا الحديث ست عشرة سنة بمكة، فكنت أقول: قبل أن يغيب الشفق، ثم نظرت في كتابي فإذا: بعدما يغيب الشفق»

(1)

.

وروى الترمذي عن يحيى بن موسى، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شجرة مباركة» ، ثم قال الترمذي:«هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبدالرزاق، عن معمر، وكان عبدالرزاق يضطرب في رواية هذا الحديث، فربما ذكر فيه: عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما رواه على الشك، فقال: أحسبه عن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما قال: عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، حدثنا أبو داود سليمان بن معبد، حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ولم يذكر فيه: عن عمر»

(2)

.

وقال أبو حاتم عن هذا الحديث: «حدث مرة عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه دهرا، ثم قال بَعْدُ: عن زيد بن أسلم، عن أبيه

-أحسبه- عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يمت حتى جعله عن زيد بن أسلم، عن

(1)

«المحدث الفاصل» ص 388، و «الكفاية» ص 220.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1851)، وانظر:«الشمائل» حديث (150)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (19568)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3319)، و «مسند البزار» حديث (275)، و «مستدرك الحاكم» 4:122.

ص: 461

أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك-»

(1)

.

وقد رواه محمد بن سهل بن عسكر، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال محمد بن سهل:«فقال له فتى من أهل مرو يقال له: أحمد بن سعيد: هذا الحديث كنت لا ترفعه، قال: ذلك على ما حدثنا، وهذا على ما نحدث»

(2)

.

وروى أحمد عن عبدالأعلى بن عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري: «أن نبي الله خرج ليلة في رمضان، فصلى أناس بصلاته

» الحديث، ثم قال أحمد:«حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، ثم رجع عنه -يعني عبدالرزاق- فقال: اضربوا عليه، فجعلناه عن الزهري مرسلا»

(3)

.

ويلي ذلك أن يأتي نص عن أحد أصحاب الراوي المختلف عليه يفيد أن شيخه قد رواه على الوجهين، أو يأتي النص عمن دونه في الإسناد، وهذا كثير جدا.

ومن أمثلة ذلك ما رواه أحمد، عن أبي كامل مظفر بن مدرك، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: «أن رجلا مَرَّ على قوم فسلَّم عليهم

» الحديث، ثم رواه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن الزهري مرسلا ليس فيه أبو الطفيل

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 15، وانظر:«مسائل أبي داود» ص 392، و «مسند البزار» حديث (275).

(2)

«الكفاية» ص 417.

(3)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 199.

(4)

«مسند أحمد» 5: 455.

ص: 462

قال عبدالله بن أحمد بعد أن رواهما عن أبيه: «بلغني أن إبراهيم بن سعد حدث بهذا الحديث من حفظه، فقال: عن أبي الطفيل، وحدث به ابنه يعقوب، عن أبيه، فلم يذكر أبا الطفيل، فأحسبه وهم، والصواب رواية يعقوب، والله أعلم»

(1)

.

وروى جماعة كثيرون من أصحاب ابن عيينة عنه، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة مرفوعا:«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، ورواه بعض أصحابه عنه بلفظ: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا

»

(2)

.

وقد ذكر أحمد أنه سمعه من سفيان هكذا، وهكذا، فأفاد نص أحمد أن الاختلاف من سفيان نفسه، قال أحمد بعد أن رواه بلفظ الصيام:«سمعته أربع مرات من سفيان، وقال مَرَّة: «من صام رمضان» ، وقال مرة:«من قام» ، »

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 5: 456، وانظر:«علل الدارقطني» 7: 41.

(2)

انظر: «مسند أحمد» تحقيق الأرنؤوط 12: 225 حديث (7280).

(3)

«مسند أحمد» 2: 241، كذا جاء هذا النص في «المسند» وقد جاء في «العلل ومعرفة الرجال» 1: 169 بلفظ: «سمعت من سفيان أربع مرار حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان» ، قال سفيان مرة:«من قام رمضان» ، ».

وهذا النص أظهر، ومراد أحمد أن سفيان مع تردده أكثر ما يذكره بلفظ الصيام، يدل عليه أن أكثر روايات أصحابه عنه بلفظ الصيام.

وانظر أمثلة أخرى يحكي الراوي فيها الاختلاف والتردد عن شيخه في: «صحيح البخاري» حديث (5762)، و «سنن أبي داود» حديث (1897)، و «مسند الحميدي» حديث (17)، (249)، (500)، (620)، (638)، (670)، (680)، (1261 - 1262)، و «مسائل صالح»

ص 255 (877)، و «علل ابن أبي حاتم» (861)، (880)، (1113) ، (1218)، (1650)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (412)، و «علل الدارقطني» 13: 405 - 406، و «سنن الدارقطني» 1: 206، 207، و «سنن البيهقي» 1: 325، و «تاريخ بغداد» 9:35.

ص: 463

والخلاصة أن النصوص عن الرواة المختلف عليهم، أو عن أصحابهم، مهمة جدا بالنسبة للناظر في الاختلاف الذي يقع عليهم، فقد يجد في النص ما يفيد أن الاختلاف إنما هو من الشيخ نفسه، وليس من أصحابه.

وهذا أحد الأسباب التي من أجلها يوصى الباحث بضرورة وقوفه هو على مصادر التخريج، والتمعن فيما يكون في أثناء الرواية أو بعدها من عبارات للرواة، قد تساعد الباحث في نظره في الاختلاف.

ويدل على ما تقدم أن مجرد رواية بعض الرواة عن الشيخ للوجهين هو بحد ذاته دليل على صحة الوجهين عنه، فإذا اختلف أصحاب الراوي عليه، فروى بعضهم الحديث على وجه، وبعضهم على وجه آخر -مثلا-، ثم وجدنا بعض أصحابه يروي عنه الوجهين جميعا سواء مقرونين أو مفرقين، أفاد هذا صحتهما عنه، هكذا يفعل الأئمة النقاد، فكأن من روى عنه الوجهين ينقل نصه أنه قد رواهما.

فمن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود قال: «قلت لأحمد: حديث أبي السائب مولى هشام بن زهرة؟ قال: قد جمعهما بعضهم، فأرجو أن يكون كلا الحديثين صحيح -يعني حديث مالك، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة

ص: 464

الكتاب فهي خداج»، ومن قال: عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة

»، ثم قال أبو داود:«رواه أبو أويس، وسليمان بن بلال -من رواية شيخ من أهل البصرة عنه-، وابن ثوبان، عن ابن عجلان، كلهم قالوا: عن العلاء، عن أبيه، وأبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة»

(1)

.

وكذا قال أبو زرعة، مثل ما قال أحمد، مصححا للوجهين عن العلاء، محتجا بمثل ما احتج به أحمد

(2)

.

وقال عبدالله بن أحمد: «حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن طارق، قال: «سألت الشعبي عن امرأة خرجت عاصية لزوجها، قال: لو مكثت عشرين سنة لم تكن لها نفقة» ، حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن موسى الجهني، عن الشعبي نحوه.

قال أبي: قيل ليحيى: إن الناس يروونه عن موسى الجهني، فقال: لو كان عن موسى كان أحب إلي، أنا كيف أقع على طارق؟ ، وكان موسى أعجب إلى يحيى من طارق، طارق في حديثه بعض الضعف.

قلت لأبي: فإن أبا خيثمة حدثناه، سمعه من الأشجعي، عن سفيان، عن

(1)

«مسائل أبي داود» ص 429.

(2)

«سنن الترمذي» 3: 202، و «العلل الكبير» 1: 235، وانظر:«صحيح مسلم» حديث (395)، و «سنن أبي داود» حديث (821)، و «سنن الترمذي» حديث (2953)، و «سنن النسائي» حديث (908)، و «سنن ابن ماجه» حديث (838)، و «مسند أحمد» تحقيق الأرنؤوط حديث (7291)، (7406)، و «علل الدارقطني» 9: 17 - 24.

ص: 465

طارق، وموسى الجهني، عن الشعبي، قال: أصاب يحيى، وأصاب وكيع»

(1)

.

وروى جماعة، عن عبدالوارث بن سعيد، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، حديث رقية النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، ورواه جماعة آخرون، عن عبدالوارث بن سعيد، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قصة رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قال الترمذي: «سألت أبا رزعة عن هذين الحديثين أيهما أصح، حديث أنس، أو حديث أبي سعيد؟ فقال: كلاهما صحيح، وقد رواهما عبدالصمد بن عبدالوارث، عن أبيه، الحديثين جميعا، وسألت محمدا فقال مثله»

(4)

.

وروى جماعة عن الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى الجمعة فليغتسل»

(5)

، ورواه الليث بن سعد، عن الزهري، عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه

(6)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 374.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5742)، و «سنن أبي داود» حديث (3890)، و «سنن الترمذي» حديث (973)، و «مسند أحمد» 3: 151، و «مسند أبي يعلى» حديث (3917).

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2186)، و «سنن الترمذي» حديث (972)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (7660)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3523)، و «مسند أحمد» 3: 28، 56.

(4)

«العلل الكبير» 1: 400، وانظر:«سنن الترمذي» حديث (972 - 973).

(5)

«صحيح البخاري» حديث (894)، (919)، و «صحيح مسلم» حديث (844)، و «سنن الترمذي» حديث (492)، و «سنن النسائي» حديث (1405)، و «مسند أحمد» 2:35.

(6)

«صحيح مسلم» حديث (844)، و «سنن الترمذي» حديث (493)، و «سنن النسائي» حديث (1406)، و «مسند أحمد» 2:120.

ص: 466

قال الترمذي: «سألت محمدا عن هذا الحديث أي الروايتين أصح؟ فقال: كلاهما صحيح، روى ابن جريج، عن الزهري، عن سالم، وعبدالله بن عبدالله بن عمر، عن ابن عمر

»

(1)

.

ومن دقائق هذه المسألة‌

‌ أن يكون الجامع بين الروايتين أحد المختلفين، فيشارك الجماعة في وجه، وينفرد عنهم بوجه آخر

، وصورته أن يروي جماعة عن شيخ لهم حديثا على صفة، ثم يرويه بعض هؤلاء الجماعة على صفة أخرى، فلا شك أن هذه الحالة في الدلالة على حفظ الوجهين دون التي قبلها، وربما استدل بها بعض الأئمة، قال ابن رجب وقد ذكر بعض الأمثلة عليها:«وهذا مما يستدل به الأئمة كثيرا على صحة رواية من انفرد بالإسناد، إذا روى الحديث بالإسناد الذي روى به الجماعة»

(2)

.

وما سبق كله في دلائل حفظ وجهين أو أكثر عن المختلف عليه في النظر في

(1)

«العلل الكبير» 1: 270، وانظر:«سنن الترمذي» 2: 365.

ورواية ابن جريج أخرجها مسلم حديث (844)، والنسائي في «السنن الكبرى» حديث (1673 - 1674)، وأحمد 2:149.

وانظر أمثلة أخرى لهذه المسألة في: «سنن الترمذي» حديث (1105)، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» رقم (474)، و «العلل الكبير» 1: 262، و «علل ابن أبي حاتم» (25) ، (367)، (469)، (552) ، (703) ، (1452)، و «علل الدارقطني» 6: 43، 9: 187، 189، 10: 16، 14:101.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 838 - 840، وانظر أيضا:«علل ابن أبي حاتم» (1027).

ص: 467

صفة الرواية عنه، وهناك دلائل تظهر من النظر في حال المختلف عليه بصفة عامة، ذلك أن من الرواة مَنْ يؤدي النظر في حاله إلى انبعاث احتمال كبير أن يكون الاختلاف منه، وليس من الرواة عنه.

وهؤلاء على ضربين،‌

‌ أحدهما: من يكون هذا شأنه في جميع أحواله، وهذا الضرب على ثلاثة أصناف

،‌

‌ الصنف الأول: الثقات الأثبات واسعو الرواية

، فسعة الرواية مع الثقة والتثبت دليل قوي على احتمال أن يكون الاختلاف منه، وأنه حقيقة يروي وجهين أو أكثر.

قال ابن رجب بعد أن ذكر تفرد الحافظ الثقة بإسناد عن شيخه مخالفا لجماعة أصحابه: «ويقوي قبول قوله إن كان المروي عنه واسع الحديث، يمكن أن يحمل الحديث من طرق عديدة، كالزهري، والثوري، وشعبة، والأعمش»

(1)

.

وقال أيضا: «اختلاف الرجل الواحد في الإسناد إن كان متهما فإنه ينسب به إلى الكذب، وإن كان سيئ الحفظ ينسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط، وإنما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه وقوي حفظه، كالزهري، وشعبة، ونحوهما»

(2)

.

ومن نصوص النقاد في تقرير هذه القاعدة في حق بعض الرواة ما ذكره ابن حجر في ترجمة (عكرمة مولى ابن عباس) في معرض الدفاع عنه: «روى ابن هبيرة قال: قدم علينا عكرمة مصر، فجعل يحدثنا بالحديث عن الرجل من

ص: 468

الصحابة، ثم يحدثنا بذلك الحديث عن غيره، فأتينا إسماعيل بن عبيد الأنصاري -وكان قد سمع من ابن عباس- فذكرنا ذلك له، فقال: أنا أخبره لكم، فأتاه فسأله عن أشياء كان سمعها من ابن عباس، فأخبره بها على مثل ما سمع، قال: ثم أتيناه فسألناه، فقال: الرجل صدوق، ولكنه سمع من العلم فأكثر، فكلما سنح له طريق سلكه.

وقال أبو الأسود: كان عكرمة قليل العقل، وكان قد سمع الحديث من رجلين، فكان إذا سئل حدث به عن رجل، ثم يسأل عنه بعد حين فيحدث به عن الآخر، فيقولون: ما أكذبه، وهو صادق»

(1)

.

وقال أحمد وقد سأله أبو داود عن اختلاف أحاديث الزهري: «منها ما روى عن رجلين، ومنها ما جاء عن أصحابه -يعني الوهم-»

(2)

.

ومراد أحمد أن بعض ما اختلف فيه على الزهري هو بسبب سعة روايته، وأنه حقيقة يروي هذه الأحاديث التي اختلف عليه فيها من أكثر من وجه، وبعض ما اختلف عليه فيه يكون بعض أصحابه وهم عليه فيه، وهذا الأخير لا إشكال فيه، والشاهد هنا هو الجزء الأول وهو أن بعض ما اختلف عليه فيه بسبب سعة روايته.

ونحو هذا قول الباجي وهو يتحدث عن صحة ما رواه أصحاب الطبقة

(1)

«هدي الساري» ص 427.

(2)

«سؤالات أبي داود» ص 219.

ص: 469

الأولى عن الزهري: «ما لم يختلفوا، فإذا اختلفوا وجب النظر في اختلافهم ليؤخذ بقول أكثرهم وأحفظهم، ما لم يبن أن الخلاف فيه من الزهري»

(1)

.

ولا يقال: ليس هذا خاصا بهؤلاء، فما من ثقة اختلف عليه إلا وبعض الاختلاف ليس سببه وهم الرواة عنه، إذ يجاب عن هذا بأن وجه الاستشهاد بكلام أحمد وغيره هو هذا التقسيم، فاقتضت حال الزهري وأمثاله أن يكون بعض الاختلاف عليه بسبب سعة روايته، وبعضه الآخر بسب الوهم عليه، وأما سائر الثقات ممن لا تكون حاله حال الزهري فقد يوجد عنه أن يروي الحديث على وجهين، لكن ليس من الكثرة بحيث يكون قسيما للاحتمال الآخر.

يدل على ذلك كلامهم في الثقة الثبت إذا لم يكن مكثرا، فمن ذلك قول عبدالرحمن بن مهدي:«لا ترى حافظا يختلف على أبي حصين»

(2)

.

وقال أيضا: «أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو مخطئ، ليس هم» ، فذكر الأربعة وهم: سلمة بن كهيل، وعثمان بن عاصم أبو حصين الأسدي، وعمرو بن مرة، ومنصور بن المعتمر

(3)

، وكل هؤلاء ليسوا من المكثرين من الرواية، بالنسبة لمن وصف بسعة الرواية

(4)

.

(1)

«التعديل والتجريح» 1: 298، ويظهر لي أنه أخذه من كلام البرديجي، ولم ينسبه إليه.

(2)

«تهذيب الكمال» 19: 403.

(3)

«الجرح والتعديل» 4: 170، 6: 160، 257، 8:177.

(4)

انظر: «ثقات العجلي» 2: 129، 299، و «المعرفة والتاريخ» 2: 174، و «تهذيب الكمال» 11: 315، 22:234.

ص: 470

ومن أمثلة ذلك من صنيع النقاد ما ذكره ابن أبي حاتم قال: «سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فطلعت الشمس فليصل إليها أخرى، فقلت له: ما حال هذا الحديث؟ .

قال أبي: قد روى هذا الحديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن عزرة بن تميم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

قال أبي: أحسب الثلاثة كلها صحاحا، وقتادة كان واسع الحديث، وأحفظهم سعيد بن أبي عروبة قبل أن يختلط، ثم هشام، ثم همام»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «وسألت أبي عن حديث اختلف على أبي إسحاق الهمداني، روى زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود، وروى الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، أنه قال: «من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض

» وذكر الحديث، فسمعت أبي يقول: كلاهما صحيحان، كان أبو إسحاق واسع الحديث»

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 85، ورواية سعيد بن أبي عروبة أخرجها أحمد 2: 236، ورواية هشام الدستوائي أخرجها النسائي في «السنن الكبرى» حديث (463)، ورواية همام أخرجها أحمد 2: 306، 347، 521.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 50، وقد جاء عن الثوري، وإسرائيل، كرواية زهير، وكذا جاء عن زهير مثل روايتهما، وهذا يؤيد ما ذكره أبو حاتم، انظر:«مصنف ابن أبي شيبة» 11: 233، و «سنن الدارمي» حديث (2861)، و «المعجم الكبير» حديث (8743)، و «المستدرك» 4: 333، و «سنن البيهقي» 6: 209، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» 2: 883 - 886.

ص: 471

والصنف الثاني: جماعة من الرواة يقع منهم الاختلاف في الرواية الواحدة عمدا، فقد اشتهر عن بعض الرواة تخوفهم، فكانوا يروون الحديث مثلا مرة مرفوعا، ويقفونه مرة أخرى عمدا، على سبيل الورع والتوقي، ومن هؤلاء: محمد بن سيرين، وعبدالله بن عون، ومسعر بن كدام، وغيرهم.

وقد عول الدارقطني كثيرا على تحميل هؤلاء وأمثالهم عهدة الاختلاف، لهذا السبب، ومن ذلك قوله في حديث ذكر الاختلاف فيه على ابن سيرين:«وقد تقدم قولنا في أن ابن سيرين من توقيه وتورعه، تارة يصرح بالرفع، وتارة يومئ، وتارة يتوقف، على حسب نشاطه في الحال»

(1)

.

وممن يقع منهم التعمد في الرواية الواحدة: المدلسون، فإذا جاءت رواية لمدلس عن شيخ له حديثا، ثم جاءت رواية أخرى بزيادة راو بينه وبين شيخه، أو قال في بعض الروايات: نبئت عنه، ونحو ذلك، فحال المدلس أوجبت أن يحمل هو عهدة الاختلاف، والرواية الناقصة رواها في حال قيامه بالتدليس، ولهذا أمثلة كثيرة جدا، تقدم شيء منها في التدليس

(2)

.

والصنف الثالث: من كان يضطرب في حديثه ويتردد، وهؤلاء منهم ثقات، والتردد يقع منهم في بعض حديثهم، ومن هؤلاء الإمام الحافظ الثقة

(1)

«علل الدارقطني» 10: 25، وانظر: 8: 116، 10: 14، 27، 29، 30، 11:294.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 263 - 301، 348 - 362.

ص: 472

سفيان بن عيينة، كان -فيما يظهر- يعتمد على حفظه كثيرا، سماعا وأداء

(1)

، فيقع منه التردد في الإسناد والمتن

(2)

، ورأيت النقاد يحيلون سبب الاختلاف الوارد عنه في بعض حديثه إليه، وإن لم يرد نص عنه

(3)

.

ومن الثقات أيضا: داود بن أبي هند، وثقة الأئمة، وقد سئل عنه أحمد فقال:«ثقة، ثقة»

(4)

، وسئل عنه مرة أخرى فقال:«ومثل داود يسأله عنه؟ »

(5)

.

وقد سئل عنه أحمد مرة أخرى، وعن إسماعيل بن أبي خالد، أيهما أعجب إليه، فقال:«إسماعيل أحفظ عندي منه، قَلَّ ما اختلف عن إسماعيل، وداود يختلف عنه»

(6)

.

(1)

انظر: «مسند الحميدي» حديث (26)، (89)، (96)، (203)، (233)، (243)، (268)، (270)، (387)، (423)، (459)، (551)، (580)، (879)، (898)، (902)، (916)، (953)، (1150)، (1279).

(2)

انظر: «مسند الحميدي» حديث (52)، (60 - 61)، (87)، (90)، (133)، (177)، (195/ 2)، (282)، (284)، (311)، (315)، (3481)، (354)، (395)، (413)، (459)، (461)، (491)، (495)، (805)، (518)، (536)، (577)، (634)، (704)، (783)، (863)، (904)، (931)، (972)، (989)، (1140)، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 3: 114، و «الكفاية» ص 417.

(3)

انظر: «مسند أحمد» 3: 421، و «مسائل أبي داود» ص 436، و «علل ابن أبي حاتم» (2537)، و «مسند البزار» حديث (3574).

(4)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 381، 2:375.

(5)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 416.

(6)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 328.

ص: 473

وقال فيه أيضا مرة: «كان كثير الاضطراب والخلاف»

(1)

.

ونحو هذا الكلام في وصف داود بالاضطراب قاله أحمد أيضا في عبدالملك بن عمير الكوفي، المعروف بالقبطي، أحد الثقات

(2)

.

وكذلك قاله جمع من النقاد في الأعمش، في سياق مقارنته بمنصور بن المعتمر

(3)

.

وأكثر هذا الصنف من درجة الصدوق فمن دونه، وقد تقدم في الفصل الأول من «الجرح والتعديل» أن من وسائل الحكم على الراوي النظر في ثباته أو اضطرابه فيما يرويه

(4)

، فالراوي قد يكون سبب نزوله عن درجة الثقة اضطرابه فيما يرويه، فالحكم عليه هو إذن فرع عن الحكم على رواياته التي اختلف عليه فيها، وأن هذا اضطراب منه، هكذا الحال بالنسبة للناقد، ونحن نستفيد من معرفة حاله التي توصل إليها الناقد لتطبيق ذلك على أحاديثه.

فحال الصدوق ومن دونه -إذا كان سبب نزوله عن درجة الثقة هو

(1)

«تهذيب التهذيب» 3: 205، وانظر مثالا لما اختلف فيه على داود، والعهدة عليه:«التحقيق في أحاديث التعليق» لابن الجوزي، بتحقيقي حديث (125).

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 249، 3: 54، و «مسائل صالح» ص 336، و «الجرح والتعديل» 5: 360، وانظر:«علل الدارقطني» 2: 152، 8:19.

(3)

تهذيب الكمال» 12: 76 - 91، 28: 546 - 555، وانظر:«علل ابن أبي حاتم» (2145)، و «علل الدارقطني» 2: 101 - 103، 8: 172، 11:343.

(4)

«الجرح والتعديل» ص 91 - 95.

ص: 474

الاضطراب والتردد- من أهم ما يوضح‌

‌ قوة العلاقة بين علم (الجرح والتعديل)، وعلم (اختلاف الرواة)

، وهو ما يعرف بعلم (العلل)، وأن الأول فرع عن الثاني، وقد سبق الحديث عن هذه القضية في مواضع، ووعدت بالتنبيه عليها في مناسباتها.

ومن أمثلة تحميل المختلف عليه عهدة الاختلاف، اعتمادا على مجمل حاله من صنيع النقاد، ما رواه ابن الجنيد قال:«قلت ليحيى: حديث سفيان، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن عبدالله بن مغفل، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الدجال قد أكل الطعام ومشى في الأسواق» ، هكذا حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، وحدثنا أبو موسى الهروي يقول: عن عمران بن حصين، فقال لي يحيى: إسحاق أثبت، قلت: فإن حماد بن سلمة يقول: عن علي بن زيد، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأيما الصحيح؟ قال: ما أدري، قلت: أما سبق إلى قلبك أن الحديث حديث حماد؟ قال: ما أدري، إن علي بن زيد لم يكن بالحافظ

»

(1)

.

وروى جرير بن عبدالحميد، وأبو كدينة يحيى بن المهلب، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا:«ليس على مسلم جزية، ولا يصلح قبلتان بأرض واحدة»

(2)

.

(1)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 325، وانظر طرق هذا الحديث في «مسند أحمد» 4: 444، و «مسند الحميدي» حديث (832)، و «مسند البزار» حديث (3574)، و «المعجم الكبير» 18: 155 حديث (339)، و «المعجم الأوسط» حديث (8150).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3032)، و «سنن الترمذي» حديث (633 - 634)، و «مسند أحمد» 1: 223، و «سنن الدارقطني» 4:156.

ص: 475

ورواه الثوري، وزهير بن معاوية، عن قابوس، عن أبيه مرسلا

(1)

.

سئل أبو حاتم عن هاتين الروايتين، فقال:«هذا من قابوس، لم يكن قابوس بالقوي، فيحتمل أن يكون مرة قال هكذا، ومرة قال هكذا»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه المبارك بن فضالة، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبدالله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوئين

» الحديث.

وروى هذا الحديث حماد بن سلمة، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى هذا الحديث الثوري فقال: عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أو عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه عبيدالله بن عمرو، وسعيد بن سلمة، فقالا: عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت لأبي زرعة: فما الصحيح؟ قال: ما أدري، ما عندي في ذا شيء.

قلت لأبي: ما الصحيح؟ قال أبي: ابن عقيل لا يضبط حديثه، قلت: فأيهما أشبه عندك؟ قال: الله أعلم.

(1)

«الأموال» لأبي عبيد حديث (121)، و «سنن الدارقطني» 4:157.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 314.

ص: 476

وقال أبو زرعة: هذا من ابن عقيل، الذين رووا عن ابن عقيل كلهم ثقات»

(1)

.

وقال أبو حاتم حين سئل عنه مرة أخرى: «هذا من تخليط ابن عقيل»

(2)

.

وكذا قال الدارقطني: «والاضطراب فيه من جهة ابن عقيل»

(3)

.

وسئل الدارقطني عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غَسَّل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» ، فقال: «يرويه القعقاع بن أبي حكيم، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، ورواه سهيل بن أبي صالح، واختلف عنه

»، وساق الاختلاف على سهيل ثم قال:«ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه»

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 39.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 44.

(3)

«علل الدارقطني» 7: 20. وانظر طرق هذا الحديث في: «سنن ابن ماجه» حديث (3122)، و «مسند أحمد» 6: 8، 136، 220، 225، 391، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (8130)، و «مسند عبد بن حميد» حديث (1146)، و «شرح معاني الآثار» 4: 177، و «مسند أبي يعلى» حديث (1792)، و «المعجم الكبير» حديث (920 - 923)، و «علل الدارقطني» 7: 19، و «المستدرك» 2: 391، و «سنن البيهقي» 9: 267 - 268، 273، 287.

(4)

«علل الدارقطني» 10: 161. وانظر طرق هذا الحديث في: «سنن أبي داود» حديث (3162)، و «سنن الترمذي» حديث (993)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1463)، و «مسند أحمد» 2: 272، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6111)، و «التاريخ الكبير» 1: 396، و «صحيح ابن حبان» حديث (1161)، و «المعجم الأوسط» حديث (989)، و «سنن البيهقي» 1: 300 - 301.

ص: 477

وسئل عن حديث مجاهد عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن النبيذ في الدباء، والحنتم، والمزفت

» الحديث، فقال: «يرويه يزيد بن أبي زياد، واختلف عنه

، ويشبه أن يكون الاختلاف من يزيد، لسوء حفظه»

(1)

.

والضرب الثاني: من يختص هذا الأمر -قوة تحميله عهدة الاختلاف- ببعض حاله، مثل أن يكون ثقة ثبتا في أحد شيوخه، طويل الملازمة له، واسع الرواية عنه، فإذا جاء عنه اختلاف ترجح جدا أن يكون منه، فلا يستبعد أن يروي عنه أكثر من وجه للحديث الواحد، ومثاله أبو معاوية مع الأعمش، أو حماد بن سلمة مع ثابت البناني.

فإذا روى بعض أصحاب أبي معاوية عنه، عن الأعمش بإسناد له حديثا، ورواه بعض أصحاب أبي معاوية عنه، عن الأعمش بإسناد آخر له، أمكن جدا أن يكون الإسنادان محفوظين عن أبي معاوية، لكثرة روايته عن الأعمش، وملازمته له، وقوته فيه.

وعكس ذلك أن يكون مضعفا في بعض شيوخه، موصوفا بالاضطراب عنه، أو مضعفا في روايته عن أهل بلد، موصوفا بالاضطراب عنهم، فيقوى الاحتمال إذا جاء عنه اختلاف أن يكون هو سببه.

(1)

«علل الدارقطني» 14: 340، وانظر أمثلة أخرى في:«علل ابن أبي حاتم» (11) ، (47)، (278)، (368) ، (1558) ، (1941) ، (2052)، (2250)، و «علل الدارقطني» 1: 174، 213، 2: 9، 22، 49، 127 و 158، 184، 4: 163، 6: 39، 45، 10: 178، 12: 448، 13: 117، 14: 354، 15: 142، 366.

ص: 478

ويلتحق بذلك ما إذا كان موصوفا بالخطأ في بعض حالاته، مثل أن يكون يخطئ إذا حدث من حفظه أو في حال تغيره، أو في تحديثه في بلد معين، فإذا أمكن معرفة أنه حدث بعض الأوجه في تلك الحالة يترجح حينئذ تحميله عهدة الاختلاف، وأنه حدث بعض الأوجه في حال استقامته، وبعضها في حال كونه موصوفا بالخطأ والاضطراب، فالاختلاف منه إذن، وغير خاف أن حكم الأئمة على راو بالقوة أو الضعف في جهة ما، كالبلد أو الشيخ، ونحو ذلك، إنما بنوه على أدلة، وقد يكون من هذه الأدلة ثباته أو تردده فيما يرويه مما يتعلق بتلك الجهة.

مثال ذلك أن جعفر بن برقان مضعف في شيخه الزهري، فسأل البرقاني الدارقطني عن سبب ذلك مع أنه قد لقيه، فقال:«ربما حدث الثقة عن ابن برقان، عن الزهري، ويحدثه الآخر عن ابن برقان، عن رجل، عن الزهري، أو يقول: بلغني عن الزهري»

(1)

.

ومن الأمثلة على تحميل الراوي عهدة الاختلاف بسبب اختلاف روايته في بلد عنها في بلد آخر، أن جماعة رووا عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» ، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «الجار لا يأمن جاره بوائقه

» الحديث

(2)

.

(1)

«سؤالات البرقاني للدارقطني» ص 21.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (6016)، و «مسند أحمد» 4: 31، 6: 285، و «مسند الطيالسي» حديث (1340)، و «المعجم الكبير» 22: 187 حديث (487)، و «شعب الإيمان» حديث (9534).

ص: 479

ورواه جماعة آخرون عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة

(1)

.

وقد سبر النقاد أحاديث ابن أبي ذئب، فوجدوه حَدَّث ببغداد أحاديث بخلاف ما حَدَّث بها بالمدينة، فحمّلوه فيها عهدة الاختلاف، منها هذا الحديث.

قال مهنا: «فسألت أحمد عن حديث ابن أبي ذئب هو خطأ، أو هو عنهما؟ قال: لا أدري، ولكن من روى عنه بالمدينة يقول: عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، ومن سمع ببغداد قال: عن أبي شريح»

(2)

، وكذا نقل أبو معين الرازي، عن أحمد

(3)

.

وروى عبدالرزاق وغيره عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قصة كيّه صلى الله عليه وسلم لأسعد بن زرارة من مرض كان به، فمات

(4)

، ورواه يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس

(5)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (6016)، و «مسند أحمد» 2: 288، 336، و «المستدرك» 1: 10، 4:165.

(2)

«المنتخب من علل الخلال» ص 247.

(3)

«فتح الباري» 10: 443، و «تغليق التعليق» 5: 91، وقد توسع ابن حجر في تأييد كلام أحمد، وانظر:«علل ابن أبي حاتم» 2: 238، و «علل الدارقطني» 8:160.

وانظر حديثا آخر لابن أبي ذئب أيضا، وكلام مسلم عليه في «التمييز» ص 191، و «شرح علل الترمذي» 2:780.

(4)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (19515)، و «طبقات ابن سعد» 3: 611، وقد قيل عن عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، لكن هذا لا يصح عن عبدالرزاق، انظر:«معرفة الصحابة» لأبي نعيم 4: 2270.

(5)

«سنن الترمذي» حديث (2050)، و «مسند أبي يعلى» (3582)، و «شرح معاني الآثار» 4: 321، و «صحيح ابن حبان» حديث (6080)، و «المستدرك» 3: 187، 4: 417، و «سنن البيهقي» 9:342.

ص: 480

ويزيد بن زريع بصري، وكان معمر حَدَّث بأحاديث في البصرة أخطأ في بعضها، وهذا منها.

قال أحمد لما سئل عنه: «باطل هذا، إنما هو حديث الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف»

(1)

.

وقال أبو حاتم عن حديث أنس: «هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، إنما هو الزهري، عن أبي أمامة بن سهل: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد

»، مرسل»

(2)

.

ومثله حديث: «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة

» الحديث، رواه معمر، عن الزهري مرسلا، ورواه أيضا -من رواية جماعة كثيرين عنه- عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وقد تواردت كلمات النقاد كأحمد، والبخاري، ومسلم، والبزار، وغيرهم، على أن معمرا رواه متصلا خارج اليمن

(3)

.

(1)

«مسائل إسحاق ابن هانئ» 2: 237.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 261، وانظر:«مسند البزار» حديث (6306)، و «علل الدارقطني» 12: 201، و «التمهيد» 24: 60، و «تاريخ دمشق» 59: 392، و «النكت الظراف» 1: 394، و «إتحاف المهرة» 2:310.

(3)

«مراسيل أبي داود» حديث (234)، و «سنن الترمذي» حديث (1128)، و «العلل الكبير» 1: 445، و «سنن ابن ماجه» حديث (1953)، و «مسند أحمد» 2: 13، 14، 44، 83، و «مسائل صالح» ص 330، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (12621)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 4: 317، 14: 216، و «التاريخ الصغير» 1: 298، و «شرح معاني الآثار» 3: 252، و «مسند أبي يعلى» حديث (5437)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 400، و «صحيح ابن حبان» حديث (4156 - 4157)، و «سنن الدارقطني» 3: 269، و «المستدرك» 2: 192، و «سنن البيهقي» 7: 181، 182، و «الاستذكار» (2754)، و «التلخيص الحبير» 3: 192، و «الإصابة» 8:65.

ص: 481

وجاء عن عبدالرزاق أن معمرا لما رجع إلى اليمن أخبرهم بخطئه في هذين الحديثين حين حدثهم بهما في البصرة

(1)

.

وروى أبو داود عن الحسن بن محمد، وسلمة بن شبيب، عن يزيد بن هارون، عن شريك، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعا يوم حنين

» الحديث، ثم قال أبو داود:«وهذه رواية يزيد ببغداد، وفي روايته بواسط تغير على غير هذا»

(2)

.

وقد قال أحمد: «يزيد بن هارون من سمع منه بواسط هو أصح ممن سمع منه بغداد، لأنه كان بواسط يلقن فيرجع إلى ما في الكتب»

(3)

.

ومن الأمثلة على تحميل المختلف عليه عهدة الاختلاف والسبب أنه يحدث

(1)

«تاريخ دمشق» 59: 392.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3562)، والحديث له طرق أخرى عن يزيد بإسناده ومتنه، باختلاف يسير، فالظاهر أنه كله سماع بغداد، انظر:«سنن النسائي الكبرى» حديث (5779)، و «مسند أحمد» 4: 401، 6: 465، و «شرح مشكل الآثار» حديث (4455)، و «سنن الدارقطني» 3: 39، و «المستدرك» 2: 47، و «سنن البيهقي» 6:89.

(3)

«مسائل صالح» ص 331، و «شرح علل الترمذي» 2:770.

وانظر أمثلة أخرى في: «مسند أحمد» 3: 46 حديث (15835) طبعة مؤسسة الرسالة، و «علل ابن أبي حاتم» (358) ، (603).

ص: 482

من حفظه بما يخالف حديثه من كتابه، ما رواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم:«أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يمشي أمام الجنازة» ، قال:«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم»

(1)

.

ورواه محمد بن بكر البرساني، وأبو زرعة وهب الله بن راشد، عن يونس، عن الزهري، عن أنس بن مالك:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها»

(2)

.

سئل أحمد عن حديث أنس هذا من رواية محمد بن بكر البرساني، فقال:«هذا -يعني الوهم- من يونس، لعله حدثه حفظا»

(3)

.

ومن ذلك -وسببه ما عرف عن الراوي أنه يخطئ في أسماء الرواة- قول أبي داود: «قلت لأحمد: الوليد الذي روى عنه شعبة، عن سلمة -أعني ابن كهيل-؟ قال: اختلفوا على شعبة، قال بعضهم: الوليد، وقال بعضهم: بكار، وقال بعضهم: ولاّد، شاب من أهل الكوفة، قال أحمد: كان -أرى- شعبة يضطرب فيه، يعني في اسم الوليد هذا»

(4)

.

(1)

«شرح معاني الآثار» 1: 479.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1010)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1483)، و «شرح معاني الآثار» 1: 481 - 482.

(3)

«مسائل أبي داود» ص 408.

(4)

» مسائل أبي داود» ص 443.

وخطأ شعبة في الأسماء عللوه بأنه كان يتشاغل بحفظ المتون، انظر: «تاريخ الدوري عن

ابن معين» 2: 215، و «معرفة الرجال» 1: 117، و «سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 180، و «ثقات العجلي» 1: 457، و «علل الدارقطني» 11: 314، و «تهذيب التهذيب» 4: 345، وانظر نماذج من أخطائه ما يأتي في الفصل التالي.

ص: 483

ومن ذلك -وسببه اختلاط الراوي أو تغيره- ما رواه سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد بمكة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه» ، ثم قال سفيان:«وقدم الكوفة فسمعته يحدث به، فزاد فيه: «ثم لا يعود» ، فظننت أنهم لقنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه -أو ساء حفظه-»

(1)

.

وروى أبو الأحوص سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لَمَّة، وللملك لَمَّة

» الحديث.

ورواه حماد بن سلمة، وعمرو بن قيس، وجرير بن عبدالحميد، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبدالله موقوفا.

ورواه إسماعيل بن علية، عن عطاء، عن أبي الأحوص، أو عن مرة، عن عبدالله موقوفا

(2)

.

(1)

«مسند الحميدي» حديث (724)، وانظر:«سنن أبي داود» حديث (750 - 751)، و «مسند الشافعي» حديث (215)، و «جزء رفع اليدين» للبخاري حديث (34)، و «سنن الدارقطني» 1:293.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2988)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (11051)، و «مسند البزار» حديث (2027)، و «تفسير الطبري» 3: 88، 89.

ص: 484

فهذا الاختلاف في الرفع والوقف، وفي شيخ عطاء، هو من عطاء بن السائب، فكان قد اختلط، وغالب هؤلاء سمع منه بعد الاختلاط، ومنهم -وهو حماد بن سلمة- من سمع منه مرتين، فالظاهر أن عطاء كان يضطرب فيه بعد اختلاطه، وقد سئل أبو حاتم عن رواية أبي الأحوص المرفوعة، ورواية حماد بن سلمة الموقوفة فقال: «هذا من عطاء بن السائب، كان يرفع الحديث مرة، ويوقفه أخرى، والناس يحدثون من وجوه عن عبدالله موقوفا

»

(1)

.

وروى جماعة من كبار أصحاب عبدالرزاق، منهم أحمد، وإسحاق، وغيرهما، رووا عنه عن معمر، عن الزهري. عن سالم، عن ابن عمر قال: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوبا أبيض

» الحديث

(2)

.

ورواه حفص بن عمر المهرقاني، وأبو مسعود الرازي، وزهير بن محمد المروزي، عن عبدالرزاق، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن عبيدالله، عن سالم، عن ابن عمر.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 242، وانظر مثالا آخر لعطاء بن السائب في «علل الدارقطني» 8:288.

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (20382)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10143)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3558)، و «مسند أحمد» 2: 89، و «مسند عبد بن حميد» حديث (723)، و «كشف الأستار» حديث (2504)، و «مسند أبي يعلى» حديث (5545)، و «صحيح ابن حبان» حديث (6897)، و «المعجم الكبير» حديث (13127).

ص: 485

قال الطبراني بعد أن أخرجه من طريق هؤلاء الثلاثة عن عبدالرزاق، محملا عبدالرزاق عهدة الاختلاف:«وهم فيه عبدالرزاق، وحدث به بعد أن عمي، والصحيح: عن معمر، عن الزهري، ولم يحدث به عن عبدالرزاق هكذا إلا هؤلاء الثلاثة»

(1)

.

وروى يزيد بن محمد -جد العقيلي- عن محمد بن الفضل السدوسي المعروف بعارم، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس لي من الأمر شيء، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» .

ورواه محمد بن إسماعيل الترمذي، وعلي بن عبدالعزيز البغوي، عن محمد بن الفضل، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس بن مالك.

ومحمد بن إسماعيل، وعلي بن عبدالعزيز، سمعا من محمد بن الفضل بعد اختلاطه، وأما يزيد بن محمد فسمع منه قبل الاختلاط، وكان محمد بن الفضل يرويه على الصواب قبل اختلاطه

(2)

.

(1)

«الدعاء» حديث (400)، وانظر مثالا لعطاء بن السائب في «علل الدارقطني» 8:288.

وانظر حديثين آخرين لعبدالرزاق من هذا الجنس في «مصنف عبدالرزاق» حديث (623)، (6038)، و «سنن الترمذي» حديث (3173)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (1439)، و «سنن ابن ماجه» حديث (657)، و «مسند أحمد» 1: 34، و «العلل ومعرفة الرجال» 3: 15 - 16 فقرة (3944 - 3945)، و «مسند عبد بن حميد» حديث (15)، و «مسند البزار» حديث (301)، و «الضعفاء الكبير» 4: 460، و «سنن الدارقطني» 1: 226، و «الكامل» 7: 2632، و «المستدرك» 1: 535، 2: 392، و «دلائل النبوة» 7: 54، و «شرح علل الترمذي» 2:753.

(2)

«الضعفاء الكبير» 4: 122.

ص: 486

وعرف عن جماعة من الرواة التصرف في متن الحديث، إما بالاختصار، أو بروايته بمعناه، وذلك لكونهم يحدثون من حفظهم، أو لحاجتهم إلى هذا الصنيع عند التصنيف على الأبواب، وربما وقع خلل في الاختصار والتحديث بالمعنى، فالأفهام تختلف، وإحكام اللغة يتفاوت فيه الرواة، فإذا اختلف على راو في متن الحديث -وقد نص النقاد على أنه يقع منه ما تقدم- أمكن أن يحمل عهدة الاختلاف، وأن يكون هذا بسببه.

قال الآجري: «سمعت أبا داود يقول: كان سليمان بن حرب يحدث بحديث، ثم يحدث به كأنه ليس ذاك الحديث»

(1)

.

رواه الخطيب البغدادي بإسناده، ثم قال:«كان سليمان بن حرب يروي الحديث على المعنى، فتتغير ألفاظه»

(2)

.

وممن نسب إليه التصرف في المتن أيضا: حماد بن سلمة، وهشيم، ووكيع بن الجراح، وعبدالرزاق، وأبو بكر بن أبي شيبة

(3)

.

وكذلك عرف جماعة من الرواة بتعمد التصرف في المتن أو الإسناد إذا رأوا فيهما مشكلا، كما سيأتي التنبيه على هذا في المبحث التالي، فإذا جاء الاختلاف

(1)

«سؤالات الآجري» 2: 44.

(2)

«تاريخ بغداد» 9: 34.

(3)

«مسائل حرب» ص 469، و «المعرفة والتاريخ» 2: 169، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 160، و «التمهيد» 8: 132، و «الكفاية» ص 167، 189 - 192، و «فتح الباري» لابن رجب 1: 476 - 477، و «تهذيب التهذيب» 11:130.

ص: 487

عن مثل هؤلاء أمكن أن يقال أيضا إن العهدة عليهم.

وأختم هذا المبحث بالتأكيد على ما بدأته به، من ضرورة النظر في الراوي الذي عليه الاختلاف، والتأمل فيما يأتي عنه وعن أصحابه لمعرفة الصحيح عنه من هذا الاختلاف، وهل حَدَّث بالأوجه المروية عنه، أو ببعضها؟

وسأضرب أمثلة للخلل الذي يقع في دراسة الاختلاف، إذا أغفل الناظر ما تقدم.

روى سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس:«أن امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم استحمَّت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من فضلها، فقالت: إني اغتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء» .

هكذا قال سماك في رواية جماعة من أصحابه، منهم سفيان الثوري في المشهور عنه، وأبو الأحوص، ويزيد بن عطاء، وأسباط بن محمد، وشعبة بن الحجاج -من رواية محمد بن بكر عنه-، وحماد بن سلمة -من رواية يحيى بن إسحاق عنه-، وإسرائيل بن يونس -من رواية عبدالرزاق عنه-.

ورواه جماعة آخرون عن سماك، عن عكرمة مرسلا، ليس فيه ابن عباس، منهم شعبة -من رواية أكثر أصحابه عنه-، وحماد بن سلمة -من رواية أبي داود الطيالسي، وحجاج بن منهال، عنه-.

ورواه شريك بن عبدالله، وإسرائيل بن يونس -من رواية فردوس عنه-، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة.

ص: 488

وقد روي عن سماك على غير هذه الأوجه الثلاثة أيضا، لكن هذه الثلاثة هي الأشهر عنه

(1)

.

ذكر ابن عبدالبر بعض الاختلاف على سماك، ثم قال مرحجا الموصول بذكر ابن عباس: «قد وصله جماعة عن سماك، منهم الثوري، وحسبك بالثوري حفظا وإتقانا

، وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه، والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على إسناده»

(2)

.

ولا إشكال فيما قاله ابن عبدالبر لو كان النظر مقتصرا على الرواة عن سماك، فلا شك أن أحفظهم الثوري، وقد تابعه جماعة على وصله، لكن النظر أيضا في

(1)

«سنن أبي داود» حديث (68)، و «سنن الترمذي» حديث (65)، و «سنن النسائي» حديث (324)، و «سنن ابن ماجه» حديث (370 - 372)، و «مسند أحمد» 1: 235، 284، 308، 6: 330، و «مسند الطيالسي» حديث (1625)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (396 - 397) و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 33، 143، 14: 160، و «سنن الدارمي» حديث (740)، و «كشف الأستار» حديث (250)، و «مسند أبي يعلى» حديث (2411)، و «المنتقى» حديث (48 - 49)، و «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) الأحاديث (26 - 31) والأخبار (1032 - 1039)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (91)، (109)، و «الجعديات» حديث (2353)، و «الأوسط في السنن» حديث (187)، (212)، و «شرح معاني الآثار» 1: 126، و «صحيح ابن حبان» حديث (1241 - 1242)، (1261)، و «المعجم الكبير» 8: 274 حديث (11715 - 11716)، 23: 425 حديث (1030)، 24: 18 حديث (39)، و «سنن الدارقطني» 1: 53، و «المستدرك» 1: 159، و «سنن البيهقي» 1: 188، و «التمهيد» 1: 332 - 333، 14: 165، و «الأسماء المبهمة» حديث (148).

(2)

«التمهيد» 1: 333.

ص: 489

سماك نفسه، وفي روايته عن عكرمة، وقد نص الأئمة على أن سماك بن حرب يضطرب في روايته عن عكرمة، بل نقل شعبة، وشريك أن الرواة كانوا يلقنون سماكا فيما يرويه عن عكرمة، يلقنونه: عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس

(1)

.

ولهذا قال أحمد في نقده للحديث، معتبرا حال سماك بن حرب:«أتقيه لحال سماك، ليس أحد يرويه غيره، -وقال-: هذا فيه اختلاف شديد، بعضهم يرفعه، وبعضهم لا يرفعه»

(2)

.

ولا إشكال في ضرورة متابعة الباحث لأئمة النقد إذا نصوا على سبب الاختلاف، وأنه من الراوي المختلف عليه في الحديث المعين، وكذلك إذا نصوا على حال الراوي العامة أو الخاصة، ثم وقف الباحث على حديث يوافق هذه الحالة، فله أن يجري حال الراوي على حديثه هذا، وإن لم يكن هناك نص صريح.

مثال ذلك ما ذكره ابن معين قال: «الحديث الذي يرويه عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: «كان يصلي قبل المغرب ركعتين» ، حدثنا به عبدالرزاق، عن معمر، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس»

(3)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 395، و «مسائل أبي داود» ص 440، و «معرفة الثقات» 1: 436، و «المعرفة والتاريخ» 3: 209، و «الكامل» 3: 1299، و «تهذيب الكمال» 12: 119، 120، و «سير أعلام النبلاء» 5: 247، 248.

(2)

«تنقيح التحقيق» 1: 36. وانظر مثالا آخر في «فتح الباري» 4: 274 مع «مسند أحمد» 9: 328 حديث (4705) تحقيق الأرنؤوط.

(3)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 363.

ص: 490

فهذا الاختلاف يمكن إرجاعه إلى عبدالرزاق، بالنظر إلى حاله، وأنه تغير حفظه في الآخر، وصار يتلقن، وفي كلام ابن معين إشارة لهذا.

والإشكال فيما إذا ترجح للباحث بناء على قرائن اعتمد عليها أن الاختلاف من الراوي، وأنه حدث بهذا مرة، وهذا مرة، هل له أن يذهب إلى ذلك دون أن ينص النقاد على اختلاف حال الراوي اختلافا يصلح أن يلحق به هذا الحديث؟

الظاهر أنه له ذلك، متى أفرغ جهده في البحث في هذا الحديث، وأطال النظر فيه، وقد وقفت على ما يؤيد هذا من صنيع النقاد، فيلتمسون سببا للاختلاف، وينسبونه إلى الراوي، وأنه اختلفت روايته لهذا الحديث، ولا نقف على كلام لهم يصلح أن يكون قاعدة في هذا الراوي يندرج تحتها حديثه المعين هذا.

ومن أمثلة ذلك أن جماعة من أصحاب هشيم رووا عنه، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان

» الحديث، ورواه آخرون عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران بن حصين، وقد قيل عنه بجمعهما

(1)

.

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (4184)، و «الأدب المفرد» حديث (1320)، و «العلل الكبير» 2: 802، و «شرح مشكل الآثار» حديث (3206)، و «صحيح ابن حبان» حديث (5704)، و «المعجم الصغير» حديث (1091)، و «المستدرك» 1: 52، و «حلية الأولياء» 3: 59 - 60، و «تاريخ بغداد» 4: 338، 6:192.

ص: 491

روى أبو داود عن أحمد قوله: «هذا جاء من هشيم -يعني اضطرب فيه- فحدث به مرة عن الحسن، عن أبي بكرة، ومرة عن الحسن، عن عمران

»

(1)

.

وروى الخلال هذا عن أبي داود، ثم قال:«وأخبرني المروذي عنه (يعني عن أحمد) قال: أما أهل واسط فيقولون: عن عمران بن حصين، وأما غيرهم فيقول: عن أبي بكرة، فقلت: أيهما الصحيح؟ قال: لا أدري»

(2)

.

وقال أبو نعيم: «هكذا حَدَّث به هشيم ببغداد عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، وبواسط عن عمران بن حصين»

(3)

.

وليس في ترجمة هشيم ذكر للفرق بين روايته بواسط، وروايته ببغداد.

وروى الدارقطني عن جماعة من شيوخه، عن أبي الأشعث أحمد بن المقدام، عن عمرو بن صالح الزهري قاضي رامهرمز، عن عبدالملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن مجاهد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي حديث (التسبيح)، ثم قال:«وحدث بهذا الحديث أبو الأشعث مرة ببغداد عن محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، عن عبدالملك بن أبي سليمان، ثم رجع عنه، فحدث به عن عمرو بن صالح، عن عبدالملك» ، ثم أسنده إليه

(4)

.

(1)

«مسائل أبي داود» ص 437.

(2)

«منتخب علل الخلال» ص 246.

(3)

«حلية الأولياء» 3: 60.

(4)

«علل الدارقطني» 3: 283 - 285.

ص: 492

فالذي يظهر أن الباحث متى ظهر له بعد تمعنه في الروايات عن المختلف عليه أن الاختلاف منه، وأن مرده إلى اختلاف حال الراوي في هذا الحديث المعين -كاختلاف الزمان، أو المكان- فله أن يرجح ذلك، والله أعلم.

* * *

ص: 493

‌المبحث الثاني

القرائن في الرواة المختلفين

الرواة المختلفون ركيزة أساس في النظر في الصواب عن المختلف عليه، فإذا اختلف أصحاب قتادة، أو الزهري، أو الأعمش، أو شعبة، أو الثوري عليه على وجهين أو أكثر، فالناظر في هذا الاختلاف له نظر في أصحاب المختلف عليه، الرواة لهذه الأوجه.

والنظر فيهم قد يقود إلى أنه لا يصح شيء من هذه الأوجه عن المختلف عليه.

فمن ذلك قول ابن الجنيد: «قلت ليحيى بن معين: مبارك، عن الحسن، عن الأحنف، عن العباس قال: «الذبيح إسحاق» ، ح، وحماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن الأحنف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الذبيح إسحاق» ، قلت ليحيى: أيهما أصح عندك؟ قال: لا تبالي أيهما كان، كأنه ضعفهما جميعا، قلت ليحيى: مبارك مثل علي بن زيد؟ قال: ما أقربه»

(1)

.

وروى عبدالحميد بن جعفر، عن حسين بن عطاء بن يسار، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: سألت أبا ذر عن صلاة الضحى، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى سجدتين لم يكتب من الغافلين

» الحديث

(2)

.

(1)

«سؤالات ابن الجنيد لابن معين» ص 456.

(2)

«التاريخ الكبير» 2: 392، و «الآحاد والمثاني» حديث (987)، و «مسند البزار» حديث (3890)، و «المجروحين» 1:243.

ص: 494

ورواه موسى بن يعقوب الزمعي، عن الصلت بن سالم، عن زيد بن أسلم، عن عبدالله بن عمرو، عن أبي الدرداء

(1)

.

سئل عنهما أبو حاتم، فقال:«جميعا مضطربين، ليس لهما في الرواية معنى»

(2)

.

وسئل الدارقطني عن حديث عطاء الخراساني، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه نهى أن يتطوع الرجل في مكانه الذي صلى فيه» ، فذكر الاختلاف فيه على عطاء، ثم قال:«وجميع من يرويه عن عطاء ضعيف، لا يمكن الحكم بقوله»

(3)

.

وسئل أيضا عن حديث سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حَلَّ بها البلاء

» الحديث، فقال:«يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، واختلف عنه، فرواه عبدالرحمن بن سعد بن سعيد، عن عمه يحيى بن سعيد، عن عائشة، وخالفه فرج بن فضالة، فرواه عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن علي، وكلاهما غير محفوظ»

(4)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 2: 392، و «الضعفاء الكبير» 2: 209، و «سنن البيهقي الصغرى» حديث (856).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 134.

(3)

«العلل» 7: 117، وانظر في طرقه أيضا:«سنن أبي داود» حديث (616)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1428)، و «الأفراد» للدارقطني (أطرافه حديث 4375).

(4)

«العلل» 14: 329، وانظر في طرقه:«سنن الترمذي» حديث (2210)، و «ذم الملاهي» ص 27، و «المعجم الأوسط» حديث (469).

ص: 495

وسئل الدارقطني أيضا عن حديث مصعب بن سعد، عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قتل دون ماله فهو شهيد» ، فقال:«يرويه أبو إسحاق، واختلف عنه، فرواه يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قاله إسماعيل بن عياش، عن يونس، وخالفه يزيد بن عطاء، رواه عن أبي إسحاق، عن عروة بن الجعد، عن سعد، وكلاهما غير ثابت»

(1)

.

ويونس بن أبي إسحاق ليس بذاك في حديث أبيه، والراوي عنه إسماعيل بن عياش ضعيف الحديث عن غير الشاميين، ويزيد بن عطاء راوي الوجه الثاني ضعفه الجمهور.

وقد يقوده النظر في الرواة عن المختلف عليه إلى صحة المروي عنه كله، وذلك بالنظر لحال هؤلاء الرواة، فكلهم ثقات، وهذا كثير، تقدمت له أمثلة في المبحث الأول، وذلك في بيان تحميل المختلف عليه عهدة الاختلاف بالنظر إلى حاله هو، إذ لا يتم ذلك إلا إذا كانت الأوجه الواردة عنه أسانيدها إليه قوية، وحاله أوجبت تحميله عهدة الاختلاف.

وقد تكون الأوجه الواردة عنه من القوة بحيث تصحح عنه، وإن لم تكن حاله توجب تحميله عهدة الاختلاف، وهذا كثير أيضا.

ومن ذلك قول ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه محمد بن مسلم، عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري، عن

(1)

«العلل» 4: 325.

ص: 496

أبي موسى الأشعري، قال:«لما نزلت هذه الآية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، أومأ النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو موسى: بشيء كان معه- قال: هم قوم هذا» .

قال أبي: حدثنا أبو الوليد، عن شعبة، عن سماك، عن عياض، قال: لما نزلت هذه الآية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، ليس فيه: عن أبي موسى، وقد روى عن شعبة جماعة مرسلا، قال: «لما نزلت

»، وكذا حدثنا أبو الوليد مرسلا.

قلت: فترى غلط فيه محمد بن مسلم؟ قال: لا، إن بندارا كان يحدث به أيضا عن أبي الوليد أيضا كذا، ويشبه أن يكون أبو الوليد كان يغلط فيه، فلما قيل له: إنه غلط، ترك أبا موسى من الإسناد

»

(1)

.

وأبو الوليد الطيالسي ثقة ثبت حافظ، ولكن لا مناص من تحميله عهدة الاختلاف بالنظر لقوة الطرق إليه.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 57. وقد رواه عن أبي الوليد موصولا كذلك محمد بن المثنى، وأبو قلابة الرقاشي، انظر: «تفسير ابن جرير» 6: 284، و «تاريخ دمشق» 32: 34، 47: 253، وكذا روي من طريق عبدالصمد بن عبدالوارث، عن شعبة، انظر: «تفسير ابن أبي حاتم» حديث (6535)، و «تاريخ دمشق» 2: 34، 47: 253.

وأما الرواية المشهورة عن شعبة بالإرسال فقد رواها جمع كثير من أصحابه، منهم عفان بن مسلم، ومحمد بن جعفر، وسليمان بن حرب، وحفص بن عمر، وغيرهم، انظر:«الطبقات الكبرى» 4: 107، و «مصنف ابن أبي شيبة» 12: 123 حديث (123111)، و «تفسير ابن جرير» 6: 284، و «المعجم الكبير» 17: 371 حديث (1016)، و «المستدرك» 2: 313، و «تاريخ بغداد» 2: 39، و «تاريخ دمشق» 47:252.

ص: 497

فهذان احتمالان، والاحتمال الثالث أن يقوده النظر في الرواة عن المختلف عليه إلى ترجيح بعض الأوجه على الأوجه الأخرى، قاده إلى ذلك استخدامه لقرائن الموازنة والترجيح بين الرواة المختلفين، وهي قرائن كثيرة، ترجع في جملتها إلى حصول غلبة الظن بأن راوي الوجه الراجح قد حفظ ما حدث به عن شيخه المختلف عليه، وسأذكر ما وقفت عليه منها، على سبيل الإجمال، بضم النظير إلى النظير، وهي هذه:

‌الأولى: الكثرة:

استخدم النقاد هذه القرينة على نطاق واسع جدا، ويمكن القول بأنها أكثر القرائن تداولا، بالتصريح أو التلميح، والترجيح بها أمر بدهي، فـ «العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد» ، كما قال الشافعي

(1)

.

وقال ابن المبارك: «الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثة: مالك، ومعمر، وابن عيينة، فإذا اجتمع اثنان على قول أخذنا به، وتركنا قول الآخر»

(2)

.

وقال ابن معين: «أصحاب سفيان الثوري ستة: يحيى بن سعيد، ووكيع بن الجراح، وابن المبارك، والأشجعي، وعبدالرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، ليس أحد من هؤلاء يحدث عن سفيان فيخالفه بعض هؤلاء الستة، فيكون القول قوله -

(1)

«اختلاف الحديث» ص 127، و «شرح علل الترمذي» 1: 425، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 688، وانظر:«اختلاف الحديث» ص 294، و «الأم» 8:563.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2072)، و «العلل الكبير» 1: 405، وفي النسخة سقط.

ص: 498

حتى يجيء إنسان فيفصل بينهما، فإذا اتفق من هؤلاء اثنان على شيء كان القول قولهما»

(1)

.

وقال البرديجي في كلامه عن أصحاب قتادة: «أحاديث شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها صحاح، وكذلك سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، إذا اتفق هؤلاء الثلاثة على الحديث فهو صحيح، وإذا اختلفوا في حديث واحد فإن القول فيه قول رجلين من الثلاثة

»

(2)

.

وقال مسلم في كلامه عن اختلاف أصحاب الراوي عليه، وانفراد واحد منهم عن الجماعة:«أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثا عن مثل الزهري، أو غيره من الأئمة، بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعين على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه على معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو بقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظا، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم من أئمة أهل العلم»

(3)

.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 213.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 697، وانظر أيضا:«التعديل والتجريح» للباجي 1: 301، ففيه كلام البرديجي بمعناه، ولم ينسبه إليه.

(3)

«التمييز» ص 172.

ص: 499

وقال الخطيب: «ويرجح بكثرة الرواة لأحد الخبرين، لأن الغلط عنهم والسهو أبعد، وهو إلى الأقل أقرب»

(1)

.

ولا شك أنه إذا كان الأقل شخصا واحدا فالوهم إلى روايته أقرب، إذ التفرد بحد ذاته -ولو لم يخالف- مظنة الخطأ، كما تقدم شرح ذلك في الباب الثاني، فإذا خولف المنفرد كان أدل على وهمه وغلطه في الموضع الذي غلط فيه، وإن كان استفاد من رواية مخالفه في أصل الرواية، كما تقدم شرحه هناك.

وتقدم هناك أيضا أن الراوي المنفرد هو نفسه يتخوف من تفرده، ويخشى أن يكون غلط فيه، وكذلك هنا، إذا خولف المتفرد فيما تفرد به خشي أن يكون أخطأ.

روى عبدالله بن محمد النفيلي، عن أبي معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبدالله بن سرجس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«في الحجم شفاء»

(2)

.

قال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر هذه الرواية لأبيه: «قال أبي: حلف لي النفيلي أنه سمعه، ولم يحدثني به، قال: أجبن عنه. قال أبي: هذا خطأ، يمكن أن يكون دخل له حديث في حديث، إنما رواه أبو معاوية، عن الشيباني، عن يُسَيْر بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الحجم شفاء» ، وليس لذاك أصل، وذكر لي أن يحيى بن معين كتب إليه أن لا يحدث به»

(3)

.

(1)

«الكفاية» ص 136.

(2)

«حلية الأولياء» 3: 121، و «الأحاديث المختارة» حديث (380 - 381).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 311. وحديث يسير بن عمرو أخرجه ابن أبي شيبة 7: 441 حديث (3730) عن أبي معاوية.

ص: 500

وروى النفيلي أيضا عن مسكين بن بكير، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيدالله، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا رقية إلا من عين أو حمة»

(1)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال:«رواه بعض أصحاب الأوزاعي، عن الأوزاعي، عمن سمع يزيد بن الأصم، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسم أحدا، فكان النفيلي يمتنع من تحديث حديث مسكين هذا، ويقول: لم أتابع عليه، والذي يرويه الدمشقيون، عن الأوزاعي، عمن سمع يزيد بن الأصم، أشبه، لأن الأوزاعي لو كان سمع من إسماعيل بن عبيدالله لم يكن عنه»

(2)

.

ويعبر النقاد عن الترجيح بالكثرة بعبارات مختلفة فيقولون: هذا الوجه هو المحفوظ، اتفق عليه اثنان، أو ثلاثة، أو يقولون: المحفوظ رواية الجماعة، أو ما رواه الجماعة هو المحفوظ، أو أولى أن يكون محفوظا، أو يقولون: الناس يروونه عن فلان هكذا، أو أصحاب فلان يروونه هكذا، أو خالف فلان الناس، ونحو هذه العبارات التي تفيد بنصها أو بإشارتها إلى أن سبب الترجيح هو كثرة رواة الوجه الراجح بالنسبة للمرجوح.

ومن أمثلة ذلك حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا: «إن للصلاة أولا وآخرا

» الحديث

(3)

.

(1)

«المعجم الأوسط» حديث (1050)، (3343).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 311.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (151)، و «مسند أحمد» 2:232.

ص: 501

ورواه جماعة عن الأعمش -منهم زائدة بن قدامة، وأبو إسحاق الفزاري، وعبثر بن القاسم- عن مجاهد قال: «كان يقال: إن للصلاة أولا وآخرا

» الحديث

(1)

.

قال ابن معين في تضعيف رواية محمد بن فضيل: «رواه الناس كلهم عن الأعمش، عن مجاهد مرسلا»

(2)

.

وقال أبو حاتم عن حديث محمد بن فضيل: «هذا خطأ، وهم فيه ابن فضيل، يرويه أصحاب الأعمش، عن الأعمش، عن مجاهد قوله»

(3)

.

وقال الدارقطني: «هذا لا يصح مسندا، وهم في إسناده ابن فضيل، وغيره يرويه عن الأعمش، عن مجاهد مرسلا»

(4)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه من عرفة

» الحديث

(5)

.

ورواه سفيان الثوري، وزهير بن معاوية، وعبدالله بن المبارك، وحماد بن زيد، ومحمد بن إسحاق، ومعمر، وغيرهم، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب،

(1)

«سنن الترمذي» حديث (151)، و «سنن الدارقطني» 1: 262، و «سنن البيهقي» 1:376.

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 4: 66، وانظر: 2: 534.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 101.

(4)

«سنن الدارقطني» 1: 262.

(5)

«مسند أحمد» 5: 200، و «أخبار مكة» للأزرقي، 2: 197، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2847)، و «مسند أسامة» للبغوي حديث (38 - 39)، (45).

ص: 502

عن أسامة بن زيد، ليس فيه ابن عباس

(1)

.

قال ابن معين في كلامه على رواية ابن عيينة: «أخطأ فيه ابن عيينة، إنما هو عن كريب سمعه من أسامة نفسه، كذا حدث به سفيان الثوري، وزهير، والناس كلهم»

(2)

.

وروى إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، عن مروان بن الحكم، عن عبدالله بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من الشعر حكمة»

(3)

.

ورواه يونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة، ومعمر، وغيرهم، عن الزهري، بهذا الإسناد، غير أنهم سموا شيخ مروان بن الحكم: عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث

(4)

.

وعقب ابن معين على رواية إبراهيم بن سعد بعد أن ساقها بقوله: «إلا أن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1280)، و «سنن أبي داود» حديث (1921)، و «سنن النسائي» حديث (3024 - 3025)، (3031)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3019)، و «مسند أحمد» 5: 200، 210، و «مسند أسامة» حديث (40 - 41)، و «مستخرج أبي عوانة» حديث (3486)، و «المعجم الكبير» حديث (450)، و «سنن البيهقي» 5:120.

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 218.

(3)

«مسند أحمد» 5: 125 و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 9، و «الآحاد والمثاني» حديث (1858)، و «شرح معاني الآثار» 4:297.

(4)

«صحيح البخاري» حديث (6145)، و «سنن أبي داود» حديث (5010)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3755)، و «مسند أحمد» 5: 125، 126.

ص: 503

يونس، ومعمرا، والناس أجمعين قالوا: عن الزهري

، عن عبدالرحمن بن الأسود، وهو الصواب، ولكن إبراهيم بن سعد قال كذا: عبدالله بن الأسود»

(1)

.

وقال عبدالله بن أحمد معقبا على رواية إبراهيم بن سعد أيضا: «هكذا يقول إبراهيم بن سعد في حديثه: عبدالله بن الأسود، وإنما هو عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب، كذا يقول غير إبراهيم بن سعد»

(2)

.

وسأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث رواه حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى في نعليه، ثم خلع نعليه، فخلع الناس نعالهم

» الحديث.

قال أبو حاتم: «رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم

، مرسلا، [و] أيوب أحفظ، وقد وهن أيوب رواية هذا الحديث، حديث حماد بن سلمة.

ورواه إبراهيم بن طهمان، عن حجاج الأحول، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والمتصل أشبه، لأنه اتفق اثنان: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 9.

(2)

«مسند أحمد» 5: 125.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 121، وانظر طرق هذا الحديث في:«سنن أبي داود» حديث (650)، و «مسند أحمد» 3: 20، 92، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (1516)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (786)، و «علل الدارقطني» 11: 328، و «سنن البيهقي» 2:403.

ص: 504

فذكر أبو حاتم أولا أن رواية أيوب ضعفت رواية حماد بن سلمة، فحماد يصله، وأيوب يرسله، فرواية أيوب إذن علة لرواية حماد، ثم عدل أبو حاتم عن هذا حين وجد راويا آخر غير حماد يصله، وهو حجاج بن حجاج الأحول، فحكم لهما، ورجح الموصول.

وروى إسماعيل بن علية، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه بمنى قال هكذا بشقه الأيمن، فأعطاه أبا طلحة

» الحديث.

هكذا رواه إسماعيل مرسلا، وسئل عنه أبو حاتم فقال:«الناس يروون هذا الحديث عن هشام، عن محمد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، وأسامة بن زيد الليثي، عن الزهري، عن عروة، عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري، عن عمر: «أنه طاف بالبيت بعد الصبح، ثم سار حتى أتى ذي طوى، ثم انتظر حتى طلعت الشمس

»، فقال أبي: أخطآ في هذا الحديث، روى كل أصحاب الزهري، عن الزهري هذا الحديث، عن حميد بن عبدالرحمن، عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري، عن عمر، وهو الصحيح»

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 293، ورواية الجماعة عن هشام بالوصل أخرجها مسلم حديث (1305)، وأبو داود حديث (1981 - 1982)، والترمذي حديث (912)، والنسائي في «السنن الكبرى» حديث (4102)، (4116)، وأحمد 3: 111، 208، 214، 256، و «مسند أبي يعلى» حديث (2827).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 282، وانظر طرق هذا الحديث في «موطأ مالك» 2: 368، و «مصنف عبدالرزاق، حديث (9008)، و «العلل ومعرفة الرجال» 3: 390، و «أخبار مكة» حديث (520)، و «شرح معاني الآثار» 2:187.

ص: 505

وروى أبو عامر العقدي، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثمانيا جميعا، وسبعا جميعا» .

سئل أبو زرعة عن هذه الرواية، فقال:«رواه شعبة، وحماد بن زيد، ومحمد بن مسلم، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، وهو الصحيح، والوهم ينبغي أن يكون من زكريا»

(1)

.

وروى خالد الحذاء -في الراجح عنه- عن أبي نعامة، عن أنس:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، لا يقرؤون -يعني لا يجهرون-»

(2)

.

قال الدارقطني: «وروى هذا الحديث الجريري، وعثمان بن غياث، وراشد الحماني، عن أبي نعامة -واسمه قيس بن عباية- عن ابن عبدالله بن مغفل، عن

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 183، وانظر في الروايات التي ذكرها أبو زرعة:«صحيح البخاري» حديث (543)، (562)، و (1174)، و «صحيح مسلم» حديث (705)، و «سنن أبي داود» حديث (1214)، و «سنن النسائي» حديث (588)، و «مسند أحمد» 1: 221، 273، 285، و «مسند الطيالسي» حديث (2735)، و «المعجم الكبير» حديث (12807)، وممن رواه عن عمرو كذلك: ابن جريج، ومعمر، انظر:«سنن النسائي» حديث (602)، و «مسند أحمد» 2: 366، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (4436).

(2)

«مسند أحمد» 3: 216، و «صحيح ابن حبان» حديث (1802)، و «علل الدارقطني» 12:246.

ص: 506

أبيه، وهو أشبه بالصواب، لأنهم ثلاثة، وقد خالفوا خالدا في الإسناد»

(1)

.

وهذه القرينة -كما أسلفت- كثر جدا من النقاد الترجيح بها، فالظن الغالب أن ما يرويه العدد الكثير هو المحفوظ، ولهذا فإن النقاد يتسامحون في سرد الرواة، فإذا كثروا ربما ذكروا فيهم الضعيف ومن دونه، اعتمادا على رواية الثقات منهم، وربما صرح الناقد بذلك، فيقول مثلا: حدث به عن فلان جماعة من الثقات الحفاظ، وغيرهم

(2)

.

ورأيت بعض الباحثين يلتزم بيان أحوال الرواة الضعفاء ومن دونهم، مع ظهور الترجيح برواية غيرهم، ولعل ذلك منهم على سبيل زيادة البيان في تحديد من عليه الاعتماد في الترجيح.

الثانية: الحفظ والتثبت:

استخدم الأئمة في الموازنة بين الرواة حين اختلافهم هذه القرينة بكثرة أيضا، فيقول الناقد مثلا: القول قول فلان لأنه أحفظ، أو المحفوظ رواية فلان فهو أحفظهم، أو فلان أحفظ من فلان، أو لا يقارن فلان بفلان، ونحو ذلك.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل» موضوعان لهما تعلق كبير بهذه القرينة، أحدهما موضوع (مراتب الجرح والتعديل)

(3)

، فالرواة على مراتب متفاوتة في

(1)

«علل الدارقطني» 12: 247، وحديث عبدالله بن مغفل أخرجه الترمذي حديث (244)، والنسائي حديث (907)، وابن ماجه حديث (815)، و «مسند أحمد» 4: 85، 5: 54، 55.

(2)

ينظر مثلا: «علل الدارقطني» 3: 115.

(3)

«الجرح والتعديل» ، ص 290 - 303.

ص: 507

القوة والتثبت، وأهم ما يستفاد من معرفة هذه المراتب هو معرفة الصواب من رواياتهم حين يختلفون على شيخ لهم.

والثاني موضوع (مقارنة الراوي بغيره)

(1)

، فقد قام النقاد بالمقارنة بين الرواة، كقولهم: إن فلانا أحفظ من فلان، وإنما تظهر أهمية الوقوف على هذه النصوص، وحسن الاستفادة منها، حين يقع اختلاف بين بعض هؤلاء الرواة الذين قارن الأئمة بينهم في الجملة.

قال الخطيب البغدادي: «والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط»

(2)

.

وقال أيضا: «

وقد يرجح أيضا بضبط راويه وحفظه وقلة غلطه، لأن الظن يقوى بذلك»

(3)

.

ومن أمثلة صنيع النقاد في هذه القرينة ما رواه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عائشة مرفوعا في قطع يد السارق بربع دينار، ثم قال سفيان: «وحدثناه أربعة عن عمرة، عن عائشة لم يرفعوه: عبدالله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى بن سعيد، وعبد ربه بن سعيد،

(1)

«الجرح والتعديل» ص 158 - 186.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 295.

(3)

«الكفاية» ص 435.

ص: 508

والزهري أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما دل على الرفع:«ما نسيت ولا طال علي: القطع في ربع دينار فصاعدا» ، »

(1)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد وذكرت له ما زاد هشيم في حديث عبيد بن عمير، عن عمر في (المفقود) على يحيى بن سعيد، فقال: يحيى أحفظ من هشيم»

(2)

.

ونقل إسحاق بن هانئ أن أحمد ذكر حديث حذيفة أنه تزوج مجوسية، ثم قال:«هذا رواه الداناج، وأبو وائل يقول: إنما تزوج بيهودية -كأنه (يعني أحمد) يبطل أن تكون مجوسية-، والداناج ثقة، وأبو وائل أوثق منه»

(3)

.

وروى ابن جريج، عن خصيف الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس، قصة عمر بن الخطاب، مع سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، في المسح على الخفين

(4)

.

وخالفه عتاب بن بشير، فرواها عن خصيف، عن سعيد بن جبير بالقصة

(5)

.

ورواه عثمان بن ساج، عن خصيف، عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس

(6)

.

(1)

«مسند الحميدي» حديث (280).

(2)

«سؤالات أبي داود» ص 345.

(3)

«مسائل إسحاق بن هانئ» 2: 168.

(4)

«مسند أحمد» 1: 366، و «تحفة الأشراف» 4:246.

(5)

«المعجم الكبير» حديث (12237).

(6)

«المعجم الكبير» حديث (11140).

ص: 509

سئل أبو زرعة عن هذا الاختلاف وذكر له رواية ابن جريج، وعتاب بن بشير، فقال:«ابن جريج عندي أحفظ من عتاب بن بشير»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عبدالوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: «لا تكتنوا بأبي عيسى، فإن عيسى لا أب له» ، قلت: وروى هذا الحديث هشام الدستوائي، عن أيوب، قال: قال عمر

، مرسلا.

فقالا: «هشام أحفظ، ومرسل أصح»

(2)

.

وروى حصين بن عبدالرحمن، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة:«أن رجلا صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد»

(3)

.

ورواه عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

قال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: عمرو بن مرة أحفظ»

(5)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «وسألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 64.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 251، ورواه معمر، عن أيوب، عن نافع، عن عمر بمعناه، أخرجه عبدالرزاق حديث (19857)، وهذا يؤيد رواية هشام.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (230)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1004)، و «مسند أحمد» 4:228.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (682)، و «سنن الترمذي» حديث (231)، و «مسند أحمد» 4:228.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 100.

ص: 510

عن عاصم، عن زر، عن أبي موسى، قال: «عرش إبليس على البحر وحوله الحيات

» وذكر الحديث، ورواه أبو عوانة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن أبي موسى.

قال أبي: أبو عوانة أحفظ من حماد»

(1)

.

وروى أبو أحمد الزبيري، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن يزيد، عن عمر قوله في قصة فاطمة بنت قيس: «لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت

» الحديث

(2)

.

قال الدارقطني: «رواه يحيى بن آدم -وهو أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه- عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عمر، لم يقل فيه: وسنة نبينا، وهو الصواب»

(3)

.

وروى عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبدالله بن الأشج، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لم يؤد المرء حق الله -أو الصدقة- في إبله

» الحديث

(4)

.

ورواه ابن لهيعة، عن بكير، عن صالح بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 250.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1480).

(3)

«علل الدارقطني» 2: 141، و «سنن الدارقطني» 4: 26، وانظر:«مسائل أبي داود» ص 252، 408.

(4)

«صحيح مسلم» حديث (987).

ص: 511

سئل الدارقطني عن هذا الاختلاف، فقال: «عمرو بن الحارث أثبت

»

(1)

.

والأمثلة على هذه القرينة كثيرة جدا، فقد استخدمها النقاد -كما تقدم- في الموازنة بتوسع، وهو أمر بدهي، فإن القرائن كلها تعود إلى معرفة الحافظ المتثبت في هذه الرواية بعينها، فأول ما يتبادر من ذلك درجات المختلفين في أنفسهم، ومعرفة طبقاتهم.

الثالثة: القوة في الشيخ:

إذا اختلف الرواة في حديث على شيخ لهم فمن أهم قرائن الموازنة بين رواياتهم وأكثرها شيوعا في كلام النقاد على الأحاديث التي فيها اختلاف: درجات هؤلاء المختلفين في شيخهم، ورتبهم في روايتهم عنه بصفة عامة.

والرواة -كما يتفاوتون في حفظهم وتثبتهم بإجمال، وتمت الاستفادة من هذه الناحية في القرينة التي قبل هذه- يتفاوتون كذلك بالنسبة لكل شيخ شيخ، ولا تلازم بين درجة الراوي بصفة مجملة، وبين درجته ورتبته في كل شيخ له، فرب راو هو في مجمل درجته ثقة، وهو في شيخ له في أعلى درجات الثقة والتثبت، وهو أيضا في شيخ له دون الثقة، بل قد يكون ضعيفا، وقد يكون الراوي ضعيفا في جملته، وهو في بعض شيوخه فوق ذلك، وفي بعضهم أشد ضعفا، وقد تقدم الكلام في هذه القضية في «الجرح والتعديل»

(2)

.

(1)

«علل الدارقطني» 10: 156.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 100 - 112، 174 - 175.

ص: 512

وتعليل تفاوت أصحاب الرواة في مراتبهم ظاهر، فبالإضافة إلى استعدادهم الفطري، وما منحه الله لكل منهم من قوة حافظة، أو ضعفها، وما هم عليه من التزام بأصول الرواية أو عدمه، هناك أحوال تحيط بسماعهم وأخذهم من شيوخهم، لها أثر كبير في تصنيفهم ورتبهم في الشيخ، فالراوي قد يلازم شيخه فترة طويلة، لكونه من أهل بلده، وأدرك من حياته مدة منحته طول الملازمة، وقد يزيد على ذلك، بأن يلازم شيخه في حضره وسفره.

وعكس ذلك أن تقل مدة مصاحبته لشيخه، كأن يدرك من حياته جزءا يسيرا، أو لا يكون من أهل بلده، فيلقاه عرضا، وربما صاحب ذلك انشغال الشيخ، أو مرضه، أو كونه عسرا في الرواية، ونحو ذلك.

وبعض الرواة لم يلق من روى عنه إلا في حال كبره، أعني التلميذ، والحافظة في حال الكبر دونها في حال الصغر.

وفي هذا المعنى كلام الجوزجاني في أصحاب الزهري، موضحا درجاتهم فيه، وأسباب ذلك، قال ابن رجب: «وسئل الجوزجاني: من أثبت في الزهري؟ قال: مالك من أثبت الناس فيه، وكذلك أبو أويس، وكان سماعهما من الزهري قريبا من السواء إذ كانا يختلفان إليه جميعا، ومعمر، إلا أنه يهم في أحاديث، ويختلف الثقات من أصحاب الزهري، فإذا صحت الرواية عن الزبيدي فهو من أثبت الناس فيه، وكذلك شعيب، وعقيل، ويونس بعدهم، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، والليث بن سعد، فأما الأوزاعي فربما يهم عن الزهري، وسفيان بن

ص: 513

عيينة كان غلاما صغيرا حين قدم عليهم الزهري، وإنما أقام يعني الزهري تلك الأيام مع بعض ملوك بني أمية بمكة أياما يسيرة، وفي حديثه يعني ابن عيينة عن الزهري اضطراب شديد. وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وسليمان بن كثير، متقاربون في الزهري -يعني في الضعف-، فأما ابن أبي ذئب فقد كان له معه صحبة إلا أنه يحكى عنه أنه لم يسمع من الزهري، ولكن عرض عليه، والزبيدي وشعيب لزماه لزوما طويلا، إذ كانا معه في الشام في قديم الدهر، وعقيل قد سأله عن مسائل كثيرة، تدل على خبر به، وكذا أبو أويس لزمه سنة وسنتين، فما وجدت من حديث يحكى عن الزهري ليس له أصل عند هؤلاء فتأن في أمره. وابن إسحاق روى عن الزهري إلا أنه يمضغ حديث الزهري بمنطقه حتى يعرف من رسخ في علمه أنه خلاف رواية أصحابه عنه، وإبراهيم بن سعد صحيح الرواية من الزهري.

وذكر قوما رووا عن الزهري قليلا أشياء يقع في قلب المتوسع في حديث الزهري أنها غير محفوظة، منهم برد بن سنان، وروح بن جناح، وغيرهما»

(1)

.

ونحو هذا لأبي بكر الحازمي في معرض كلامه على شرط البخاري ومسلم في انتقاء الرواة، موضحا الارتباط بين حال الراوي في نفسه، وحاله في شيخه، مشيرا إلى أسباب تفاوت مراتب أصحاب الرواة

(2)

.

وسأذكر الآن نماذج من تطبيقات النقاد لهذه القرينة، واستخدامهم لها، ثم

ص: 514

أعقب هذه الأمثلة ببعض التنبيهات.

فمن ذلك أن حماد بن زيد روى عن علي بن زيد، عن الحسن البصري، عن الضحاك بن سفيان الكلابي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا ضحاك، ما طعامك؟

» الحديث

(1)

.

سئل ابن معين عن هذه الرواية، وعن رواية حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك

» -هكذا مرسلا-، فقال:«حماد بن سلمة أعرف بعلي بن زيد، من حماد بن زيد»

(2)

.

وروى أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبي سعيد -من أزد شنوءة- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث

»

(3)

.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، ومعمر، عن قتادة، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن أبي هريرة

(4)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه وأبا زرعة عن هذا الاختلاف، فقالا جميعا:«سعيد أحفظهم»

(5)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 452، و «المعجم الكبير» حديث (8138).

(2)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 479.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1432).

(4)

«مسند أحمد» 2: 271، 489.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 109، 236.

ص: 515

وروى شعبة عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي»

(1)

.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سليمان اليشكري، عن جابر

(2)

، سئل أبو حاتم عنهما، فقال:«سعيد بن أبي عروبة لحديث قتادة أحفظ»

(3)

.

وروى عبدالحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله بعثا، ثم استقرأهم

» الحديث

(4)

.

ورواه عمر بن طلحة بن عمرو بن علقمة -ابن أخي محمد بن عمرو بن علقمة- عن المقبري، عن أبي هريرة، فأسقط عطاء مولى أبي أحمد.

ورواه الليث بن سعد، عن المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا، لم يذكر أبا هريرة

(5)

.

قال الدارقطني وقد سئل عن هذا الحديث فذكر الاختلاف فيه، ثم قال:«وقول الليث أشبه بالصواب» ، ثم أسند إلى ابن معين قوله: «أثبت الناس في

(1)

«صحيح البخاري» حديث (3114)، و «صحيح مسلم» حديث (2133)، و «مسند أحمد» 3:298.

(2)

«طبقات ابن سعد» 1: 107.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 253.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (2876)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8749)، و «سنن ابن ماجه» حديث (217)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1509)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2126)، (2578).

(5)

«سنن الترمذي» حديث (2876).

ص: 516

سعيد: الليث بن سعد»

(1)

.

وهذه القرينة من أهم قرائن الموازنة بين الرواة عند الاختلاف، استخدمها النقاد بكثرة بالغة، غير أن هناك أمورا يحسن التنبيه عليها، وهي:

الأول: درجة الرواة في شيوخهم من القضايا بالغة الأهمية بالنسبة للمتصدي لدراسة المرويات ونقدها، وهي جزء مهم من جرح الرواة وتعديلهم، فكما يعطى الراوي درجة في مجمل حاله، يعطى أيضا درجة في كل شيخ له على وجه الدقة، ما أمكن ذلك، والغرض الأساس من ذلك هو تسخير هذه الأحكام على الرواة في شيوخهم للحكم على مروياتهم عنهم، وهذا ما استخدمه النقاد بكثرة بالغة جدا.

وفي المتصدين للتصحيح والتضعيف ونقد المرويات من أغفل هذا الجانب، فالتركيز لديه على مرتبة الراوي المجملة، حيث يأخذها من المختصرات، ثم يصدر أحكامه على الأسانيد، وقد تقدم بيان خطر ذلك، وأثره على ضعف النقد، والجرأة الكبيرة التي وقعت في تصحيح عدد كبير من الأسانيد التي لا تصح

(2)

.

وتقدم كذلك هنا في الباب الثاني المتعلق بالتفرد، في الفصل الثاني منه، وهو الفصل الخاص بضوابط النظر في التفرد، فمنزلة الراوي في شيخه في غاية الأهمية بالنسبة للنظر في تفرده.

(1)

«علل الدارقطني» 10: 364، وانظر: 6: 140، 8: 152، 10:378.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 449 - 446.

ص: 517

وتبين آنفا الأهمية القصوى لمعرفة مراتب أصحاب الرواة في شيوخهم، فهي تبرز حين يختلفون على شيخهم في حديث معين، فالناقد يلجأ كثيرا إلى هذه المراتب لمعرفة الراجح عن هذا الشيخ.

وإذا أدركنا أن مراتب الرواة في شيوخهم جزء أساس من جرح الرواة وتعديلهم، فينبغي أن نستحضر هنا ما تقدم التنبيه عليه مرارا، ووعدت بالتركيز به في كل مناسبة له صلة بها، وهو أن جرح الرواة وتعديلهم هو فرع عن النظر في أحاديثهم، وعليه فالناقد الذي حكم على هذا الراوي بأنه في المرتبة المعينة في شيخه، إنما فعل ذلك بوسائل من أهمها النظر في أحاديثه عن شيخه، مقارنا لها بأحاديث رواة آخرين عن ذلك الشيخ، فتوصل بهذا إلى درجة الراوي في شيخه، فالأحكام على الأحاديث متقدمة على الأحكام على الرواة.

هكذا تبدو الصورة بالنسبة لنقد المرويات في ذلك العصر، وبها ندرك حجم الجهد الذي بذله أولئك النقاد، وأما من جاء بعدهم فإن معرفة درجات الرواة في شيوخهم يبدو سهلا بالنسبة له، ويبقى عليه حسن تطبيق هذه الدرجات حين نظره في الأسانيد، لا سيما حين يختلف الرواة على شيخهم، وهذه السهولة أتت من كون كلام أئمة النقد قد نقل إلينا الكثير منه، فزخرت كتب السؤالات، والتواريخ، والعلل بكلام النقاد، كأحمد، وابن المديني، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم، تارة عن طريق السؤال المباشر عن أصحاب الراوي ومراتبهم، أو عن بعضهم، وتارة عن طريق كلام الناقد في حديث معين وقع فيه اختلاف، فيذكر الراجح وسبب والترجيح، مبينا هنا

ص: 518

مراتب من وقع الاختلاف بينهم، بل إن بعض أئمة النقد خصص مؤلفا لهذا الغرض، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من مؤلفاتهم

(1)

.

وأشير هنا إلى‌

‌ وجود دراسات معاصرة لأصحاب بعض الرواة المعروفين بكثرة الأصحاب

(2)

، ونأمل أن تتواصل الجهود في هذا السبيل.

وقد يقول قائل: ذكرت الآن أن بعض كلام النقاد يوجد بإثر نقدهم للأحاديث، وبيان الراجح عند الاختلاف، فهذا يدل على أن أحكامهم على الرواة ووضع مراتب لهم في شيوخهم سابق على نقدهم للأحاديث، فهذا يعارض ما ذكرته قبل.

والجواب أن الناقد حين يسأل عن حديث، ليس معناه أن رأيه في هذا الحديث وليد الساعة، فهو يذكر ما ترجح لديه حين نظره في أحاديث الرواة، إذن هو يحكي شيئا سابقا، وذكره للقرينة هو ذكر لنتيجة أخرى أيضا.

ومن جهة ثانية، فإن هذه النتيجة بالنسبة لمراتب الرواة قد يكون توصل

(1)

«الجرح والتعديل» ص 174 - 175.

(2)

هناك عدد من الرسائل الجامعية، منها:«طبقات الرواة عن الزهري ممن له رواية في الكتب الستة» ، لفاروق البحريني، في الجامعة الإسلامية بالمدينة، و «طبقات الرواة عن هشام بن عروة في الكتب الستة» لعبدالله الشهري، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، و «طبقات الرواة عن ثابت البناني» لسميحة بشاوري، في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، كما نشر الباحث محمد التركي كتابين بعنوان:«معرفة أصحاب شعبة» ، و «معرفة أصحاب الأعمش» ، أجاد فيهما وأفاد، ومنه استفدت التنويه بهذه الرسائل.

ص: 519

إليها الناقد بالنظر في قدر كاف من الأحاديث للاستقراء، فإذا جاءت أحاديث لم ينظر فيها بخصوصها طبق عليها تلك النتيجة، وهذا لا يعارض القول بأن دراسة الأحاديث والنظر فيها سابق للأحكام على الرواة.

وههنا أمر آخر، وهو ما سبق ذكره من كون الناقد ربما اعتمد في الجرح والتعديل على آراء نقاد سابقين له، من شيوخه أو من قبلهم أيضا، خاصة في الأمر المشتهر، أو في قضايا لا تتوافر للناقد وسائل الحسم فيها، كما تقدم شرحه

(1)

، فيعود الأمر إذن إلى أن الحكم في مراتب الرواة عند الناقد الأول بناه على النظر في أحاديثهم، وهذا هو المقصود.

والغرض من كل ما تقدم التأكيد على أن المتصدي لنقد المرويات ينبغي عليه أن يكثر من مطالعة أقوال النقاد في مراتب أصحاب الرواة، مستحضرا عند نقده لحديث معين ما جمعه وطالعه من أقوال النقاد.

ومما يعين الباحث بالإضافة إلى كثرة مطالعته لأقوال النقاد في أصحاب الرواة: إكثاره من مطالعة سلاسل الأسانيد التي رويت بواسطتها أحاديث كثيرة، وهي أسانيد محدودة، بحكم أن الإكثار من الرواية تحملا وأداء يحتاج إلى ظروف معينة، مثل طول الملازمة، وقوة الحفظ، والتعمير، والتصدي للرواية، والصبر على الطلبة، وغير ذلك.

ولإدراك أن هذه الأسانيد محدودة يكفي معرفة أن ثلثي السنة المطهرة نقلها

(1)

«الجرح والتعديل» ص 217 - 218.

ص: 520

سبعة عشر صحابيا، وذلك بحسب الأسانيد الموجودة في «مسند بقي بن مخلد القرطبي» ، وهو أحد المسانيد الكبيرة، بحيث يقارن بمسند أحمد

(1)

.

وكل واحد من هؤلاء الصحابة لا بد أن يكون له أصحاب كثيرون نقلوا عنه ما يرويه، ولا بد أيضا أن يكون المكثرون منهم عددهم محدود، فإن الظروف اللازمة للإكثار ينحصر توافرها في العادة في عدد قليل، فعائشة -مثلا- أكثر عنها جماعة، منهم عمرة بنت عبدالرحمن، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبدالرحمن.

وكل واحد من هؤلاء له أصحاب بعضهم مكثرون عنه أيضا، وهكذا.

وقد اعتنى الأئمة ورواة الحديث بالمكثرين، وشاع مصطلح (ممن يجمع حديثه)، في التعريف بالراوي، يعني أنه ممن يتصدى إمام لجمع حديثه، والاعتناء به

(2)

.

ومع اتساع الفتوح، وانتشار رقعة الإسلام، صار هناك نوع من الإكثار يختص بالأمصار الإسلامية، كما قال ابن المديني.

والمقصود هنا أن الإكثار من الرواية وسعتها، وكثرة الأصحاب، مظنة وقوع الاختلاف بينهم في بعض ما يروونه عن شيخهم، وينتج عن هذا أن أكثر

(1)

مقدمة أكرم العمري لرسالة: «عدد ما لكل واحد من الصحابة من الحديث في مسند بقي» لابن حزم ص 23.

(2)

ينظر «علل ابن المديني» ص 36 - 40، و «المحدث الفاصل» ص 614 - 618، و «معرفة علوم الحديث» ص 240 - 249، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 293 - 294، 297 - 298.

ص: 521

الأحاديث التي وقع الاختلاف فيها هي من رواية هؤلاء، فمطالعة هذه السلاسل إذن ترسخها في ذهن الباحث، وتعينه على فهم كلام النقاد في الموازنة بين الأصحاب.

وقد اعتنى الأئمة أيضا بجمع الأحاديث التي رويت بهذه السلاسل، ويطلقون عليها:(ترجمة)، فيقولون: ترجمة مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وترجمة عبيدالله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، وقد سرد الخطيب نماذج لهذه التراجم

(1)

.

وبعض مسانيد الأئمة ترتب أحاديث كل صحابي على أساس هذه التراجم، مثل «مسند الطيالسي» ، و «مسند البزار» ، و «المعجم الكبير» .

ومما يعين في هذا الجانب أيضا كتب الأطراف، خاصة كتاب المزي:«تحفة الأشراف» ، فهو يمتاز بكثرة التفريع في الطبقات المتأخرة، فنقف على المكثرين في تلك الطبقات، فلو أخذنا أحاديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه، لوجدنا المزي قسمها على أصحاب ابن عمر، فنعرف المكثرين منهم، ثم نأخذ واحدا منهم وهو نافع مولاه فنجد المزي قسمها أيضا على أصحاب نافع، فنعرف المكثرين من أصحابه، ثم نأخذ واحدا منهم وهو عبيدالله بن عمر فنجد المزي قسمها أيضا على أصحابه، فنعرف المكثرين منهم، وهكذا.

وفوق ما تقدم أن المزي -وهذا من فوائد كتابه الجمة- لم يخل الكتاب من

ص: 522

إشارات إلى الاختلافات بين الرواة، فيقول عن الحديث مثلا: رواه فلان فجعله كذا وكذا، وقد تقدم هذا، أو سيأتي، وربما أحضر اختلافا من خارج الكتب التي اشتمل عليها كتابه، وهي الكتب الستة.

وكثير من الباحثين يعرف «تحفة الأشراف» على أنه كتاب فهرسة، ودلالة على مواضع الحديث في الكتب الستة، والحقيقة أنه كتاب صنعة حديثية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، خاصة إذا ضممنا إليه تعليقات الأئمة الذين طالعوه، ولخصها ابن حجر في كتابه:«النكت الظراف» ، وقد طبع مع «التحفة» ، ولهذا السبب فإني أرى أن الكتاب بحاجة إلى من يخصه بدراسة مستقلة، تبرز أهميته، وتظهر أثره في توسيع مدراك المتخصص في السنة النبوية، وعلى الخصوص في جانب اختلاف الرواة، الذي هو أساس علم (العلل).

الثاني: يذكر بعض الباحثين قرائن في الموازنة بين أصحاب الراوي إذا اختلفوا عليه، مثل تقديم رواية أهل بيت الراوي المختلف عليه على غيرهم، وتقديم رواية أهل البلد على رواية الغرباء، ونحو ذلك، لوجود نصوص عن النقاد تعتمد هذه القرائن.

فمن ذلك قول ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه الثوري، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: «كتب عمر إلى أمراء الأجناد ألا يأخذوا الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي» ، قال أبي: ومنهم من يقول: عن نافع، عن أسلم، عن عمر.

ص: 523

قلت لأبي: فأيهما الصحيح، قال: الثوري حافظ، وأهل المدينة أعلم بحديث نافع من أهل الكوفة»

(1)

.

وروى عبدالله بن المبارك المروزي، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»

(2)

.

ورواه جماعة من الشاميين وغيرهم، منهم عيسى بن يونس، وصدقة بن خالد، والوليد بن مسلم، وبشر بن بكر، عن ابن جابر، بإسقاط أبي إدريس

(3)

.

قال أبو حاتم حين سئل عن هذا الحديث: «الصحيح ما يقوله أهل دمشق، ليس بينهما أبو إدريس، وقد وهم ابن المبارك في زيادته أبا إدريس، لأن بسر بن عبيدالله روى عن واثلة، ولقيه، ولا أعلم أبا إدريس روى عن واثلة شيئا، وأهل الشام أضبط لحديثهم من الغرباء»

(4)

.

وهذا العمل من هؤلاء الباحثين بإفراد هذه القرائن بالذكر ليس عليه

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 311، وانظر:«شرح معاني الآثار» 4: 217.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (972)، و «سنن الترمذي» حديث (1050)، و «مسند أحمد» 4:135.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (972)، و «سنن أبي داود» حديث (3229)، و «سنن الترمذي» حديث (1051)، و «سنن النسائي» حديث (759)، و «مسند أحمد» 4: 135، و «علل الدارقطني» 7: 43، و «المستدرك» 3:221.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 368، وانظر أيضا في هذا الحديث: 1: 80، 349، وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (462) ، (494)، (819) ، (1725)، و «الاستذكار» 10:132.

ص: 524

إشكال كبير، غير أن المتأمل في هذه القرائن يجدها تؤول إلى قرينة: درجات أصحاب الرواة، فمردها إليها، وعلتها واحدة، فالسبب في تقديم رواية أهل بيت الراوي، أو أهل بلده، يعود إلى قضية طول الملازمة، والخصوصية، وهذه إحدى الركائز الأساس في تصنيف أصحاب الراوي بصفة عامة -كما تقدم-.

وقد كان الأئمة النقاد يهتمون كثيرا عند تصنيف أصحاب الراوي بقضية اختلاف البلد، فينصون على الغرباء منهم، وربما خصوا هؤلاء بتصنيف، وهؤلاء بتصنيف، كما فعل ابن المديني، ومسلم، في تصنيف أصحاب شعبة، فالثقات من أصحابه البصريين لهم تصنيف، والثقات الغرباء من أصحابه لهم تصنيف

(1)

.

ولا شك أن كون الراوي من أهل بلد شيخه أدعى إلى طول الملازمة، وتكرار السماع، والمراجعة، كما في قول ابن معين:«كان إذا قدم -يعني أيوب- من الحج قال لهم: خذوا عني قبل أن يتفلت مني -حديث نافع، والمشايخ المدنيين- وأما حديث أهل مصره: هشام، وابن عون، فكان لا يبالي»

(2)

.

الثالث: كلام النقاد في تصنيف أصحاب الراوي قد لا يتيسر في كل الرواة الذين يقع الاختلاف بينهم، وقد يتيسر في بعضهم دون بعض، إما لأن النقاد لم يصنفوهم أصلا، أو لأن تصنيفهم لم يصل إلينا، فإذا قلنا إن تصنيف أصحاب

(1)

انظر كتاب: «معرفة أصحاب شعبة» لمحمد التركي، وقد أشار في ثنايا الكتاب إلى أن مسلما تابع لابن المديني في هذا التصنيف، ينظر مثلا ص 120، 177.

(2)

«معرفة الرجال» 2: 237، وهكذا النص فيه «هشام، وابن عون» ، وهما من أقران أيوب.

ص: 525

الرواة، ووضع مراتب لهم، قد كفانا مؤونته الأئمة النقاد، فسهلوا علينا المهمة، لا بد أن نضيف إليه: بصفة عامة، وعليه يحتاج الباحث في الرواة الذين لا يجد لهم تصنيفا إلى استخدام ضوابط عامة تقوم مقام التصنيف الدقيق، وبواسطتها يستطيع الموازنة في الحديث الذي أمامه.

وهذه الضوابط قد تكون عامة للرواة كلهم، كما في تقديم أهل بيت الراوي على غيرهم، وتقديم أهل البلد على الغرباء، وقد تكون في الرواة موضع الموازنة، وذلك باللجوء إلى بعض صور التوثيق والتضعيف المقيدين، الماضي شرحها في «الجرح والتعديل»

(1)

، المتعلقة بالراوي مع شيوخه مثل تقوية الراوي أو تضعيفه في شيخ معين، وكذلك تقوية الراوي فيما رواه عن شيوخه الكبار الذين أدركهم في وقت قوة حافظته، وتضعيفه في شيوخه الصغار، فإذا وجدنا ذلك فيه وقد خالف غيره في رواية عنه أمكننا ترجيح روايته أو عدم ترجيحها بذلك، وإن لم نقف على تصنيف له في أصحاب الراوي، فإن هذا بمعنى التصنيف، ولهذا يذكره ابن رجب وغيره في معرض ذكرهم لكلام النقاد في مراتب أصحاب الرواة.

مثال ذلك أن أبا معاوية الضرير لين الحديث في غير الأعمش كما تقدم

(2)

، وقد روى عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ما يلبسه المحرم، قال:«ولا يلبس ثوبا مسه الزعفران، إلا أن يكون غسيلا»

(3)

.

(1)

«الجرح والتعديل» ص 100 - 112.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 105.

(3)

«مسند أحمد» 2: 41، و «المناسك» ص 429، و «شرح معاني الآثار» 2:137.

ص: 526

ورواه جماعة كثيرون من أصحاب عبيدالله بن عمر، منهم يحيى بن سعيد القطان، وزكريا بن أبي زائدة، وسفيان بن عيينة، وبشر بن المفضل، وحفص بن غياث، وعبدالله بن نمير، وعبدة بن سليمان، فلم يذكروا قوله:«إلا أن يكون غسيلا»

(1)

.

قال أحمد في نقد هذه الزيادة: «أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيدالله، ولم يجئ بهذه الزيادة غيره»

(2)

.

وكذلك المغيرة بن مسلم القسملي في أبي الزبير، قال ابن معين:«ما أنكر حديثه عن أبي الزبير»

(3)

.

وقد روى عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا:«الصبي إذا استهل ورث وصلي عليه»

(4)

.

وخالفه ابن جريج، فرواه عن أبي الزبير، عن جابر موقوفا

(5)

.

قال النسائي: «هذا (يعني الموقوف) أولى بالصواب، وعند المغيرة، عن

(1)

«سنن النسائي» حديث (2669)، و «مسند الحميدي» حديث (627)، و «مسند ابن عمر» حديث (47)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2597 - 2598)، (2684)، و «فتح الباري» 4:53.

(2)

«فتح الباري» 3: 404، وانظر مثالا آخر لأبي معاوية في «مسائل أبي داود» ص 404، وانظر:«شرح علل الترمذي» 2: 812.

(3)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 233.

(4)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (6358)، و «المستدرك» 4:348.

(5)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (6359).

ص: 527

أبي الزبير غير حديث منكر، وابن جريج أثبت من المغيرة»

(1)

.

وقال أحمد في منصور بن المعتمر: «منصور إذا نزل إلى المشايخ اضطرب، إلى أبي إسحاق، والحكم، وحبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، روى حديث أم سلمة في الوتر، خالف فيه

»

(2)

.

وحديث أم سلمة في الوتر يرويه منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن أم سلمة، وقيل عنه، عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، عن أم سلمة، وخالفه شعبة، وسفيان بن حسين، فروياه عن الحكم، عن مقسم، عن الثقة، عن عائشة، وميمونة، إلا أن سفيان بن حسين لم يرفعه، وفي بعض الطرق إلى شعبة: عن الثقة، عن الثقة، عن عائشة، وميمونة

(3)

.

والخلاصة أن الباحث مطالب بالاستفادة من كل شاردة وواردة من كلام النقاد للخروج برأي في مراتب الرواة الذين اختلفوا على شيخهم في الحديث موضع البحث، سواء بالنص من الناقد أو بالإشارة، وهو مجال واسع لظهور تفاوت قدرات الباحثين، وتحصيلهم العلمي، وبمثله نستطيع أن نبرز نقد المرويات على حقيقته، ذا روح تنبض بالحيوية والنشاط.

(1)

«تحفة الأشراف» 2: 330، 348.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 801.

(3)

«سنن النسائي الصغرى» حديث (1713 - 1715)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (431 - 433)، (1403 - 1406)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1192)، و «مسند أحمد» 6: 193، 290، 310، 321، 335، و «التاريخ الصغير» 1: 293، و «تاريخ بغداد» 5:137.

ص: 528

الرابع: في كلام النقاد على مراتب أصحاب الرواة يقع بينهم اختلاف في تصنيفهم، وفي منزلة الراوي في شيخه، وليس هذا بالقليل، وأكثره في أصحاب المرتبة الواحدة، لتقارب حالهم في شيخهم، فإذا عرفنا -مثلا- أن المرتبة الأولى من أصحاب نافع مولى ابن عمر فيها مالك، وعبيدالله بن عمر العمري، وأيوب السختياني، يقع الاختلاف بين النقاد في أي الثلاثة هو المقدم في نافع

(1)

.

وربما تناظر النقاد فيمن يقدم من أصحاب الراوي في قصص هي الغاية في النقد والتتبع والسبر، كما في مناظرة أحمد لابن المديني، فكان أحمد يذهب إلى أن مالكا هو المقدم في الزهري، بينما ذهب ابن المديني إلى تقديم سفيان بن عيينة، وتناظرا في ذلك

(2)

.

ويقع الاختلاف أيضا بين مراتب متفاوتة، فقد جعل ابن المديني أصحاب نافع مولى ابن عمر تسع طبقات، وكذا فعل النسائي، لكنهما اختلفا في تصنيف الرواة في بعض الطبقات، فالليث بن سعد -مثلا- عند ابن المديني في الطبقة السادسة، وهو عند النسائي في الرابعة، وجويرية بن أسماء عند ابن المديني في الطبقة الثامنة، وهو عند النسائي في الرابعة أيضا

(3)

.

وربما وجد الاختلاف عن الناقد الواحد، ففي رواية يقدم راويا، وفي رواية ثانية يقدم غيره عليه.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 667.

(2)

«المعرفة والتاريخ» 2: 163، و «تاريخ بغداد» 9: 170، و «شرح علل الترمذي» 2:671.

(3)

«ضعفاء النسائي» ص 131، و «شرح علل الترمذي» 2: 615 - 620.

ص: 529

ولا يخفى أن تصنيف أصحاب الراوي، وبيان منزلة كل منهم في شيخه، جزء من جرح الرواة وتعديلهم، غير أنه من قضايا الجرح والتعديل الدقيقة، بل هو أدقها، إذ يلاحظ فيه درجة الراوي في نفسه، ثم درجته في شيخه، ثم مقارنته بغيره في ذلك الشيخ.

والنظر في أحكام النقاد على الرواة جرحا وتعديلا له ضوابط، تقدم الحديث عنها بشكل مفصل في «الجرح والتعديل» ، وهذه الضوابط تدور حول أربعة أمور: ثبوت النص، وسلامته، وقائله، ودلالته، وشرحت هناك ما يتعلق بموضوعنا هنا: تصنيف الرواة في شيخهم، وضوابطه

(1)

.

الخامس: هناك نوع من تصنيف أصحاب الراوي يكون سببه الراوي نفسه، فالراوي له أحوال مختلفة قوة وضعفا، فمن روى عنه في حال قوته فله مرتبة، ومن روى عنه في حال ضعفه له مرتبة أخرى، وذلك مثل أن يكون اختلط في آخر عمره، أو ساء حفظه، أو كان يوثق في كتابه، ويضعف في حفظه، أو يوثق في رواية أهل بلد عنه لكونه ضبط حين حدثهم، ويضعف في رواية أهل بلد آخر عنه لكونه لم يضبط، أو يكون مدلسا ومن أصحابه من لا يأخذ عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، فيتم تصنيف الرواة عنه بحسب أحواله.

فهذا التصنيف لا ينبغي أن يختلط على الدارس للحديث الذي وقع فيه الاختلاف بالتصنيف للرواة على أساس مراتبهم في أنفسهم في شيخهم، وهو

(1)

«الجرح والتعديل» ص 438 - 451.

ص: 530

المقصود هنا في هذه القرينة، وأما ما كان بسبب الراوي نفسه فقد تقدم في المبحث الأول، في القرائن الخاصة بالراوي المختلف عليه، وإنما نبهت على هذا هنا لدقة الفرق بين التصنيفين، وورودهما في كلام النقاد أحيانا دون تمييز.

فالناقد إذا وازن بين أصحاب راو في روايتهم لحديث اختلفوا فيه على شيخهم، والتصنيف الذي اتكأ عليه راجع إلى درجاتهم هم في شيخهم، فالاختلاف سببه في نظر هذا الناقد من التلاميذ أنفسهم، أما إذا كان التصنيف راجعا إلى حال الشيخ، فالناقد يحمله هو عهدة الاختلاف، والاضطراب منه.

وقد تقدم في المبحث الأول أمثلة لأحاديث كان الاختلاف فيها بسبب الشيخ، وتقدم في مبحثنا هذا أمثلة للنوع الآخر، غير أني أذكر هنا مثالا واحدا يتضح به الأمر، وهو حديث اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فأبو إسحاق للنقاد تصنيف لأصحابه المشهورين سببه أبو إسحاق نفسه، وتغير حفظه لما شاخ وكبر، حتى أن بعضهم وصفه بالاختلاط، وفي هذا المثال يتضح الفرق بين هذا النوع من التصنيف، وبين النوع الذي سببه التلاميذ.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه شريك، وزهير، عن أبي إسحاق، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يلبي: لبيك اللهم لبيك» ، قال أبي: رواه سفيان، وأبو الأحوص، وإسرائيل، وغيرهم، ولم يرفعوه.

قلت لأبي: أيهما أصح؟ قال أبي: سفيان، وإسرائيل أتقن، وزهير متقن،

ص: 531

غير أنه تأخر سماعه من أبي إسحاق»

(1)

.

فأبو حاتم حين رجح رواية سفيان، وإسرائيل، ومن معهما، وذكر إتقانهما، عاد فنص على أن زهيرا متقن أيضا، لكن الخلل هنا جاء من المدار، وهو أبو إسحاق، فقد تأخر سماع زهير منه، وأبو إسحاق بآخره تغير حفظه.

وزهير هو ابن معاوية، وهو ثقة ثبت يقارن بسفيان الثوري في الحفظ والإتقان، وقد روى عن أبي إسحاق أحاديث يخالف فيها غيره، فجعل النقاد العهدة في ذلك على أبي إسحاق، وتأخر سماع زهير منه، ولو كانت العهدة على زهير لصار هناك شيء من التعارض بينه وبين ما وصف به من الحفظ والإتقان.

فمثل أبي إسحاق هناك تصنيفان لأصحابه، تصنيف لهم من حيث القوة، فقد روى عنه أيضا متوسطو الحفظ، وضعفاء، ومتروكون، فلا يصح أن يحمل هو عهدة ما خالفوا فيه، وتصنيف لهم من حيث قدم السماع وتأخره، فالعهدة عليه، فإذا كان من النوع الأخير فالترجيح حينئذ ليس سببه ترجيح بعض أصحاب الراوي على بعض من جهة حفظهم لحديثه وضبطهم له، وإنما من جهة المختلف عليه نفسه، وتفاوتهم في حال الرواية عنه، والعهدة عليه في الاختلاف.

وقد يقال: الحصيلة واحدة، فقد عرفنا الراجح من الاختلاف، وهذا هو المقصود، غير أن هذه نظرة فيها شيء من القصور، فمعرفة الراجح لا يكفي من

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 283، والمرفوع أخرجه أحمد 1: 267، 302.

وانظر مثالين آخرين في «علل ابن أبي حاتم» (279)، (858).

ص: 532

دراسة الحديث، فهناك أغراض أخرى، من أهمها ما تقدمت الإشارة إليه، وهو أن درجة الراوي نتيجة للنظر في حديثه، فإذا حملناه خطأ غيره أثر هذا في الدرجة التي يستحقها، وإذا برأناه من عهدة خطأ وقع منه أثر هذا في درجته أيضا.

مثال ذلك عباد بن العوام الواسطي، وثقة النقاد، ورفع أحمد من شأنه فقال:«كان يشبه أصحاب الحديث»

(1)

، وقد قال فيه أحمد أيضا:«مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة»

(2)

.

فتقييد الاضطراب في حديثه بسعيد له دلالته، فسعيد قد اختلط، فكأن أحمد يشير إلى تأخر سماعه منه.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل»

(3)

أن الإسماعيلي -فيما حكاه ابن حجر- نقل كلمة أحمد فأطلقها، أي لم يخصصها بسعيد، فصار الإشكال من جهتين، من جهة الإطلاق، والاضطراب في كلام أحمد مقيد بشيخ معين، ومن جهة كون الشيخ المعين هو سعيد بن أبي عروبة، وقد اختلط، فيحتمل أن تكون العهدة عليه، وقد قال أحمد فيه مرة أخرى، وذكر له عدة أحاديث عن سعيد بن أبي عروبة:«عند عباد، عن سعيد، غير حديث خطأ، فلا أدري سمعه منه بأخرة أم لا»

(4)

.

ومر بي قول أحمد فيما رواه الثوري، عن حصين، عن إبراهيم النخعي،

(1)

«المعرفة والتاريخ» 1: 427.

(2)

«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم 6: 83.

(3)

«الجرح والتعديل» ص 359.

(4)

«مسائل أبي داود» ص 400، ويحتمل أن يكون صواب العبارة:«فلا أدري سمع منه بأخرة أم لا» .

ص: 533

عن عبدالله بن مسعود «كان يرفع يديه في أول شيء ثم لا يعود» ، وقد سئل عنه أحمد فقال:«حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين، لم يجز به إبراهيم، وهشيم أعلم بحديث حصين»

(1)

.

فوضعت هذا النص في أمثلة استخدام النقاد لقرينة القوة في الشيخ، وعلى هذا فهشيم أقوى من سفيان الثوري في حصين بن عبدالرحمن خاصة، ويستثنى هذا مما توارد عليه الأئمة أن الثوري لا يخالفه أحد إلا كان القول قوله، كما تقدم هذا

(2)

.

ثم تبين لي أن هذا بسبب حصين، وأنه اختلط، فسماع الثوري منه متأخر، وعليه فالثوري لم يخطئ عليه، والوجهان محفوظان عنه، قال حرب بن إسماعيل:«سمعت أبا عبدالله يقول: ليس أحد أصح سماعا من حصين بن عبدالرحمن من هشيم، وقال: هو أصح من سفيان، وكأنه قال: إن حصينا تغير بآخره»

(3)

.

وغرضي من التأكيد على هذه المسألة هو تنبيه المتخصص إلى ضرورة النظرة الشمولية لقواعد هذه العلم، لئلا يقع في التناقض، وتتعارض قواعد العلم في ذهنه، خاصة عند التطبيق، وأيضا فإن ما يفرق العالم المتخصص في فن من الفنون عن غيره فهم الأحكام والقواعد لهذا الفن، وهو ما يعرف بمعرفة الحق بدليله أو تعليله.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 370.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 159 - 160.

(3)

«مسائل حرب» ص 475، وانظر:«شرح علل الترمذي» 2: 793، و «تهذيب التهذيب» 2:382.

ص: 534

وأمر آخر لا يقل أهمية عما مضى، وهو اختيار العبارة المناسبة لنتيجة النظر في الاختلاف موضع الدراسة، وعدم التناقض في العبارات، وهذا سيأتي شرحه في المبحث الرابع من الفصل الخامس.

الرابعة: جوانب القوة والضعف في الراوي:

اهتم النقاد بجوانب القوة والضعف في الراوي، فتلمسوا كل صغيرة وكبيرة يمكن أن تدل على ذلك، فإذا تحصل الناقد بعد سبره لحديث الراوي على عدد من الأحاديث تدل على أن الراوي قوي في جهة ما، أو ضعيف في جهة ما، أصدر حكمه عليه في تلك الجهة، تارة بقوله فيه ابتداء، وتارة حين يسأل عنه، إما لوحده أو مقارنا له بغيره، وتارة في كلامه على حديث من أحاديثه، وناسب السياق ذكر هذا الحكم.

وهذه الجوانب لا يمكن حصرها في جميع الرواة، فكل راو له أحواله، والحكم عليه له ملابسات تخصه، وقد رأيت بعض الباحثين يعدد هذه الجوانب، ويذكرها على أنها قرائن للموازنة بين الرواة، وفي رأيي أنها عبارة عن قرينة واحدة، وتحتها صور وتفاصيل، وقد تقدم في «الجرح والتعديل»

(1)

الحديث عن بعض هذه الجوانب إما في الراوي مفردا أو مقارنا بغيره، مثل ضعف الراوي في روايته من حفظه، وقوته في كتابه، وضعف روايته عن أهل بلد معين، وقوته عن بقية البلدان، أو العكس، وضعف الراوي إذا جمع بين عدد من شيوخه، وقوته في أول

(1)

«الجرح والتعديل» ص 108 - 157، 175 - 177.

ص: 535

عمره إلى أن تغير واختلط فضعف في الرواية، أو عكس ذلك لظرف من الظروف.

والباحث مطالب بالتنقيب والبحث في تراجم الرواة، للوقوف على ما يمكن أن يسخره في الموازنة بين الرواة حين يختلفون، وهو مجال واسع لظهور الفروق بين الباحثين، وتفاوت قدراتهم وصبرهم وتتبعهم، فإن كلام النقاد في هذه الجوانب قد لا يتوافر في كتب التراجم المعروفة، فمظنته في كتب السؤالات، وكتب العلل، والتواريخ، وكثير منها يفتقر للفهرسة العلمية الدقيقة، وقد ذكر ابن رجب وهو يتكلم على ما هو الأهم في معرفة علم (العلل)، واختلاف الرواة، والموازنة بينهم، أن ذلك مبني على معرفة مراتب الثقات، وتفاوتهم، وأيضا على ما يوجد في بعضهم من كلام في بعض الجوانب، وقال عن الأخير:«معرفة قوم من الثقات لا يوجد ذكر كثير منهم أو أكثرهم في كتب الجرح، قد ضعف حديثهم، إما في بعض الأماكن، أو في بعض الأزمان، أو عن بعض الشيوخ دون بعض»

(1)

.

وسأذكر الآن نماذج من صنيع النقاد في استخدام صور من هذه القرينة في النقد والموازنة بين الرواة.

فمن أمثلة ذلك أن أحمد يذكر أن وكيع بن الجراح، وعبدالرحمن بن مهدي، اختلفا في أحاديث عن سفيان الثوري، أحصاها أحمد فوجدها تزيد على ستين موضعا، وأن الصواب فيها في الغالب مع عبدالرحمن بن مهدي، وبعضها رجع

ص: 536

فيها وكيع إلى قول عبدالرحمن، بعد مراجعته لكتابه، وقد علَّل ذلك أحمد -أي كثرة صواب عبدالرحمن بن مهدي- بقوله:«إذا اختلف وكيع، وعبدالرحمن بن مهدي، فعبدالرحمن أثبت، لأنه أقرب عهدا بالكتاب»

(1)

.

وروى الأعمش، وسفيان الثوري، والمسعودي -من رواية خالد بن الحارث، والنضر بن شميل عنه-، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين قال: «جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني تميم أبشروا

» الحديث

(2)

.

ورواه روح بن عبادة، ويزيد بن هارون، وعبدالله بن يزيد المقرئ، عن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن بريدة الأسلمي، هكذا في رواية روح، وفي رواية يزيد: عن جامع بن شداد، عن ابن بريدة، عن أبيه، وفي رواية المقرئ: عن جامع بن شداد، عن رجل، عن بريدة

(3)

.

سئل أحمد عن هذا الاختلاف، وذكر له رواية الأعمش، وسفيان، ورواية

(1)

«مسند أحمد» 5: 153، 158، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 427، 3: 246، و «سؤالات أبي داود» ص 160، و «المعرفة والتاريخ» 2: 170 - 171، و «الجرح والتعديل» 5: 289، و «تاريخ بغداد» 10: 242 - 244، والجامع لأخلاق الراوي» 2:11.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (3190 - 3191)، (4365)، (4386)، (7418)، و «سنن الترمذي» حديث (3951)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (11240)، و «مسند أحمد» 4: 426، 431، 433، 436، و «تفسير الطبري» 12:4.

(3)

«التوحيد» حديث (593) وحاشيته، و «العظمة» حديث (208)، (211)، و «المستدرك» 2:341.

ص: 537

المسعودي فيما رواه عنه يزيد بن هارون، فقال:«الصواب ما رواه الأعمش، وسفيان، وسماع يزيد من المسعودي بآخره»

(1)

.

وهناك جوانب أخرى في الرواة تفيد في الموازنة والترجيح غير مشهورة لدى كثير من الباحثين، فمن هذه الجوانب أن يعرف الراوي بكونه يخطئ في أسماء الرواة، وممن عرف عنه ذلك شعبة بن الحجاج، كما تقدم في المبحث الأول من هذا الفصل، وعرف عن غيره أيضا مثل هشيم فقد نص أحمد على أن هشيما يتابع شعبة كثيرا

(2)

.

ومن أمثلة خطأ شعبة ما نقله إسحاق بن هانئ، قال: «وسئل (يعني أحمد) عن حديث حدث به أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، فقال: كان شعبة حدث به عن خالد بن عرفطة، فلما أخبر أبو عوانة تابع شعبة، فقال: خالد بن عرفطة، وقال: لعل شعبة أحفظ له مني، فلما قيل له: إن شعبة أخطأ فيه، رجع إلى قوله الأول، فقال: خالد بن علقمة.

وسمعت أبا عبدالله يقول: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال، وذكر حديث عبد ربه، عن عمران بن أبي أنس، حديث:«الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن» ، فقال هو: أنس بن أبي أنس، وإنما هو الصحيح: عمران بن أبي أنس.

ص: 538

وقيل له: إن ابن لهيعة وافق الليث بن سعد (يعني في تسميته عمران) فقال كلمة، ولم يلتفت إلى قول ابن لهيعة.

وسمعته -وذكر خطأ شعبة في الأسماء- فقال: جعل سلم بن عبدالرحمن: عبدالله بن يزيد، قيل له: حديث الشكال؟ قال: نعم»

(1)

.

ونحو هذا رواه أيضا ابنه عبدالله، إلا أنه لم يذكر حديث عمران بن أبي أنس، وفي روايته أيضا أن شعبة يسمي خالد بن علقمة: مالك بن عرفطة، وليس خالد بن عرفطة، كما ورد في رواية إسحاق، وهذا هو المعروف عن شعبة، فالظاهر أن ما في رواية إسحاق خطأ في النسخة، فإنها كثيرة التحريف.

وزاد عبدالله في روايته: «وأخطأ شعبة في اسم أبي الثورين، فقال: أبو السوار، وإنما هو أبو الثورين، قلت لأبي: من هذا أبو الثورين؟ فقال: رجل من أهل مكة مشهور، اسمه محمد بن عبدالرحمن، من قريش، قلت لأبي: إن عبدالرحمن بن مهدي زعم أن شعبة لم يخطئ في كنيته، فقال: هو السوار (كذا)، قال أبي: عبدالرحمن لا يدري -أو كلمة نحوها-»

(2)

.

وروى الفضل بن زياد أيضا عن أحمد تخطئته لشعبة في حديث أنس بن أبي أنس، وفي حديث الشكال، وفيه قول أحمد:«إنما وهم شعبة في الأسماء»

(3)

.

(1)

«مسائل إسحاق بن هانئ» 2: 245.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 515، وانظر أيضا: 2: 181 - 182، و «مسند أحمد» 2:457.

(3)

«المعرفة والتاريخ» 2: 202.

ص: 539

وحديث خالد بن علقمة الذي أشار إليه أحمد تقدم ذكره في المبحث الأول من الفصل الأول من هذا الباب، وهو حديث يرويه خالد، عن عبد خير الهمداني، عن علي، في صفة الوضوء، وقد رواه جماعة كثيرون عنه فسموه كذلك: خالد بن علقمة، منهم زائدة بن قدامة، وسفيان الثوري، وشريك، وقد توارد النقاد على تخطئة شعبة في تسميته

(1)

.

وأما حديث عمران بن أبي أنس، فيرويه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس -هكذا يسميه شعبة- عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ورواه الليث بن سعد، وابن لهيعة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، عن الفضل بن عباس

(3)

.

وقد توارد النقاد على تخطئة شعبة في هذا الإسناد في مواضع منه، أحدها

(1)

«سنن أبي داود» حديث (111 - 113)، و «سنن الترمذي» بعد حديث (49)، و «سنن النسائي» حديث (91 - 94)، و «مسند أحمد» 1: 123، 125، 135، 139، 154، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 515، و «التاريخ الكبير» 3: 163، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 56، 2: 29، و «سنن الدارقطني» 1: 63، و «تهذيب التهذيب» 3:108.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1296)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (616)، (1441)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1325)، و «مسند أحمد» 4:167.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (385)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (615)، (1440)، و «مسند أحمد» 1: 211، 4: 167، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1096).

ص: 540

ما ذكره أحمد، منهم البخاري، وأبو حاتم، والترمذي

(1)

.

وأما حديث الشكال فيرويه شعبة، عن عبدالله بن يزيد النخعي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الشكال من الخيل»

(2)

.

وتابع شعبة سفيان الثوري، لكنه خالف شعبة في اسم شيخه، فسماه سلم بن عبدالرحمن النخعي

(3)

، وهو الذي صوبه أحمد.

وأما حديث أبي الثورين فيرويه سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عنه، عن ابن عمر:«أنه نهاه عن صيام يوم عرفة» .

ورواه حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عبدالرحمن القرشي -وهو اسم أبي الثورين-.

ورواه شعبة، عن عمرو بن دينار، عن أبي السَّوَّار، وخطأه في ذلك أحمد، وكذا خطأه ابن معين، والبخاري، وأبو حاتم، وغيرهم، وقال يعقوب بن سفيان:«إن لم يكن لقب فقد أخطأ شعبة، إلا أن يكون كان يكنى بكنيتين»

(4)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (385)، و «مسند أحمد» 4: 167، و «التاريخ الكبير» 3: 283، و «العلل الكبير» 1: 258، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 119، 132، و «الجرح والتعديل» 2:289.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1875)، و «سنن النسائي» حديث (3568)، و «مسند أحمد» 2: 457، 461.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (1875) و «سنن أبي داود» حديث (2547)، و «سنن الترمذي» حديث (1698)، و «سنن النسائي» حديث (3569)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2790)، و «مسند أحمد» 2: 250، 436، 476.

(4)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2823)، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 528، و «التاريخ

الكبير» 1: 150، و «المعرفة والتاريخ» 2: 211، وكأن في النسخة سقطا، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 225، و «الجرح والتعديل» 7: 323، و «كنى الدولابي» 1: 133، و «تصحيفات المحدثين» 1: 44، و «المؤتلف والمختلف» للدارقطني 1: 334، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 2:339.

ص: 541

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه شعبة، عن منصور، عن الفيض [عن] ابن أبي حثمة، عن أبي ذر: «أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي عافاني، وأذهب عني الأذى» ، فقال أبو زرعة: وهم شعبة في هذا الحديث، ورواه الثوري فقال: عن منصور، عن أبي علي عبيد بن علي، عن أبي ذر، وهذا الصحيح، وكان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال

»

(1)

.

ومن الجوانب أيضا أن يعرف عن الراوي خطؤه في صيغ التحديث، فيبدل العنعنة بالتصريح، ونحو ذلك، فإذا كان الاختلاف من هذا النوع قدمت رواية غيره على روايته، وقد تقدم في «الاتصال والانقطاع» ذكر بعض هؤلاء

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 27، وانظر طرق الحديث في «مصنف ابن أبي شيبة» 10: 454، و «عمل اليوم والليلة» لابن السني حديث (22)، و «الدعاء» للطبراني حديث (372)، و «علل الدارقطني» 6: 235، و «تحفة الأشراف» 9: 194، و «جامع المسانيد» 9:488.

وانظر نماذج أخرى لشعبة في «مسند أحمد» 4: 397 حديث (19550) ، طبعة مؤسسة الرسالة، و «مسند الطيالسي» حديث (513) ، و «مسائل أبي داود» ص 440، و «العلل ومعرفة الرجال» 2: 157، 160، 171 - 172، 180، 287 - 288، 3: 336، و «علل المروذي» ص 54، و «مسائل إسحاق بن هانئ» 1: 44، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 256، و «علل ابن أبي حاتم» (242) ، (1192) ، (2296)، (2831)، (2838)، و «علل الدارقطني» 11: 314، و «سنن البيهقي» 8: 92، و «منتخب علل الخلال» ص 278، 310.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 119، 299، وانظر أيضا «العلل ومعرفة الرجال» 3: 267، (398)

و«علل ابن أبي حاتم» (343)، (404) ، (406) ، (1324).

ص: 542

ومن الجوانب كذلك أن جماعة من الرواة اشتهر عنهم التصرف في متن الحديث، إما بالاختصار، أو بروايته على المعنى، وقد تقدم في نهاية المبحث الذي قبل مبحثنا هذا ذكر بعضهم وأسباب فعلهم هذا، فإذا خالف من عرف عنه هذا غيره في متن الحديث فالقول قول مخالفه، وتكون قرينة على خطئه.

وقد تقدم في المبحث الأول من الفصل الأول أمثلة كثيرة على الرواية بالمعنى، ومن الأمثلة أيضا أن سليمان بن حرب روى عن شعبة، عن القاسم بن مهران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبزقن عن يمينه، ولا عن يساره، ولا بين يديه، ولكن تحت قدمه اليسرى

».

قال ابن أبي حاتم: «أخطأ سليمان بن حرب فيما روى من متن هذا الحديث، بأن لا يبزق عن يساره، فقد حدثنا أبي، عن أبي الوليد، وآدم العسقلاني، عن شعبة، عن القاسم بن مهران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره تحت قدمه» هكذا متن حديث أبي الوليد، وآدم، عن شعبة

»، ثم ذكر رواية هشيم للحديث عن القاسم بن مهران كذلك

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 191، وقد رواه أيضا جماعة آخرون عن شعبة كرواية أبي الوليد، وآدم، ورواه أيضا إسماعيل بن علية، وعبدالوارث بن سعيد، عن القاسم بن مهران، انظر:«صحيح مسلم» حديث (550)، و «سنن النسائي» حديث (308)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1022)، و «مسند أحمد» 2: 250، 415، و «مستخرج أبي عوانة» 1: 403، و «سنن البيهقي» 2:291.

ص: 543

ويلتحق به ما عرف عن جماعة من الرواة أهل نظر وفقه، أنهم إذا رأوا في الحديث شيئا مشكلا لمعارضته دليلا أقوى منه حذفوه من روايتهم، لاعتقادهم أن هذا الجزء لا يثبت، وربما فعلوه لأسباب أخرى، كوجود علة في بعض الحديث، أو يكون الجزء المسقط ليس من غرضه، كأن يكون موقوفا، وعرف ذلك عن مالك بن أنس، والبخاري، وغيرهما.

ويوجد هذا الصنيع في الأسانيد، يتصرف الراوي في الإسناد إذا رأى فيه ما يوجب ذلك.

والتصرف في الإسناد والمتن موجود بكثرة، إما ليستقيم الإسناد أو المتن بحسب رأي فاعله، أو لاستضعافه أحد رواته، أو دفاعا عن الراوي الذي يرونه قد أخطأ، وهو ما يعرف بـ (الستر على الواهم)

(1)

.

فمتى خولف من عرف عنه ذلك فالراجح قول مخالفه، وكذلك إذا عرفنا

(1)

ينظر: «صحيح البخاري» حديث (1)، (41)، (447)، (1170)، (1396)، (1838)، (1616 - 1617) ، (3363 - 3365) ، (5805)، (5983)، (7165)،

و«صحيح مسلم» حديث (333)، (1162)، و «مسند أحمد» 1: 315 حديث (2888)، 6: 106، 179 حديث (25460 - 2562) ترقيم طبعة مؤسسة الرسالة، و «مسند الحميدي» حديث (17)، (545)، (680) و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 79، و «أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 767 - 768، و «المعرفة والتاريخ» 2: 137 - 138، و «المراسيل» ص 115، و «صحيح ابن حبان» حديث (1851)، و «علل الدارقطني» 2: 9، 6: 63، 13: 445، و «الفصل للوصل» 1: 458 - 463، و «منتخب علل الخلال» ص 234، و «تقييد المهمل» 1: 216، 813، 2: 591، 605، 670، 752، 818، 823، 880، و «هدي الساري» ص 381.

ص: 544

هذا في حديث بعينه.

وهذه مسألة دقيقة جدا، أعني تصرف الراوي في الإسناد أو المتن عمدا، بالزيادة، أو النقصان، أو التعديل، بحاجة إلى من يخصها ببحث مستقل، لطرافتها، وعمقها، يوضح في هذا البحث أنواع تصرفاتهم، والأغراض التي دفعتهم لارتكاب هذا الصنيع، ومن يكثر منه، وغير ذلك.

وكذلك ما يعرف عن الراوي من تقصيره بالإسناد، وهو في الأصل تام، كوقف المرفوع، وإرسال الموصول، فيراعى هذا الجانب عند النظر في روايته ورواية مخالفه، وقد تقدم في المبحث الذي قبل هذا ذكر جماعة منهم وأسباب صنيعهم.

وقال المروذي: «سألته (يعني أحمد) عن هشام بن حسان، فقال: أيوب، وابن عون، أحب إليّ، وحَسَّن أمر هشام، وقال: قد روى أحاديث رفعها أوقفوها، وقد كان مذهبهم أن يقصروا بالحديث ويوقفوه»

(1)

.

وقال يعقوب بن شيبة: «حماد بن زيد أثبت من ابن سلمة، وكل ثقة، غير أن ابن زيد معروف بأنه يقصر في الأسانيد، ويوقف المرفوع، كثير الشك بتوقيه، وكان جليلا، ولم يكن له كتاب يرجع إليه فكان أحيانا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانا يهاب الحديث ولا يرفعه»

(2)

.

(1)

«علل المروذي» ص 71.

(2)

«إكمال تهذيب الكمال» 4: 139.

ص: 545

وذكر ابن رجب حديثا اختلف في رفعه ووقفه على أبي هريرة، ثم قال:«وليس وقف هذا الحديث مما يضر، فإن ابن سيرين كان يقف الأحاديث كثيرا ولا يرفعها، والناس كلهم يخالفونه ويرفعونها»

(1)

.

ومن دقائق جوانب الترجيح بين الرواة أن يعرف عن الراوي أنه يخطئ في جهة ما في الإسناد أو المتن، فإذا خالف غيره وأتى بضد ما كان يعرف به من الخطأ ترجحت روايته حينئذ، كأن يعرف بوصل المراسيل، أو برفع الموقوفات، فإذا أرسل هو أو وقف ترجحت روايته.

روى بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عبدالله بن عبيد بن عمير، عن أبيه قال: «قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكني أردت كثرة زيارة البيت

» الحديث

(2)

.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه بشر بن بكر

، قال أبي: رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عبدالله بن عبيد، قال: قال علي

، قال أبي: لم يذكر عبيد بن عمير، قال أبي: تدل رواية الوليد على أن الصحيح كما رواه، بلا عبيد بن عمير، لأن الوليد رفاع.

قلت: فإذا لم يوصله الوليد فهو مرسل أشبه، بلا عبيد بن عمير؟ قال: نعم»

(3)

.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 700.

(2)

«سنن البيهقي» 5: 21.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 278. وقد وصف الوليد بن مسلم بأنه كان رفاعا أيضا أحمد، انظر: «تهذيب الكمال» 31: 96، و «تهذيب التهذيب» 11: 155.

ص: 546

هذا ما ظهر لي من قرائن في الموازنة والترجيح بين الرواة المختلفين، وهي أربع قرائن، ذكرتها على سبيل الإجمال، ليسهل تصورها وفهمها، مع أن بعضها يمكن تفصيله -كما أسلفت- فتكثر هذه القرائن، والخطب سهل.

والقرائن الأربع واحدة منها ترجع إلى العدد، أي عدد من روى هذا الوجه، وعدد من روى الوجه الآخر، وثلاث منها ترجع إلى القوة، وهي: الحفظ، والمرتبة في الشيخ المختلف عليه، وما في الراوي من جوانب القوة والضعف.

* * *

ص: 547