المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلة نقد المرويات (3)   مقارنة المرويات   بقلم إبراهيم بن عبد الله اللاحم   الجزء الثاني   مؤسسة - مقارنة المرويات - جـ ٢

[إبراهيم اللاحم]

فهرس الكتاب

سلسلة نقد المرويات (3)

مقارنة المرويات

بقلم

إبراهيم بن عبد الله اللاحم

الجزء الثاني

مؤسسة الريان ناشرون

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

مقارنة المرويات

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1433 هـ - 2012 م

ص: 4

‌المبحث الثالث

القرائن في أوجه الاختلاف

يقوم الناظر في الحديث الذي وقع فيه اختلاف بإنعام النظر في صفة رواية كل وجه من وجوه الاختلاف فوق المدار، فربما يقف على قرائن تساعده في الموازنة والنظر، يضمها إلى ما وجده من قرائن في المدار نفسه، وفي الرواة المختلفين.

والمتأمل في صنيع النقاد يراهم استخدموا قرائن كثيرة في صفة الرواية، سأجتهد في عرضها بأمثلتها التوضيحية، على الطريقة السابقة في المبحثين اللذين قبل هذا، وهي ضم النظير إلى النظير، وإجمال ما يمكن إجماله في قرينة واحدة، تحتها قرائن فرعية تعود إليها، ما أمكن ذلك، والقرائن في صفة الأوجه إجمالا ترجع إلى ثلاث قرائن، وهي:

‌القرينة الأولى: السهولة والوعورة:

إذا اختلف الرواة على شيخهم، ورأى الناظر أن أحد الوجهين أسهل في الحفظ من الوجه الآخر، فإن رواية من روى الوجه السهل تعد مرجوحة، ورواية من روى الوجه الذي فيه وعورة راجحة، فوعورة الإسناد تدل على ضبط الراوي وحفظه، واعتنائه بروايته، وأما السهولة فعكس ذلك.

وهذه قرينة ضخمة جدا في باب الموازنة بين الروايات حين وقوع الاختلاف، يكثر استخدامها عند النقاد، وتتفرع فروعا كثيرة، كلها ترجع إلى هذا الأصل

ص: 5

الكبير، وسأذكر ما وقفت عليه من هذه الفروع، مع شرحها بأمثلتها.

وقبل ذلك أنبه إلى أن هذه القرينة الكبرى ترجع إلى أصل عظيم من أصول نقد المرويات، وهو أن ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصل فيه أنه مسبوق بالعدم، فهو لم يحدث، فنحتاج إلى ما يرفع هذا الأصل، وهو الإسناد الذي نعتمد عليه، فكل من وضع في روايته عقبة في طريق هذا الثبوت، فالأصل معه، فوعورة الطريق إذن مرجح لرواية من سلكه.

ولن أتحدث هنا عن هذا الأصل الكبير من أصول النقد، وأترك الآن تمعنه وصلة هذه القرينة به للقارئ، فإنه -مع غيره من أصول النقد العامة- محتاج إلى دراسة خاصة، يضم إليها الحديث عن الأصول العامة المخطئة التي يأخذ بها بعض المتصدين للنقد، وأثرت سلبا على الدراسات النقدية.

والأصول العامة غير القواعد المباشرة للنقد، المتعلقة بجرح الرواة وتعديلهم وسماع بعضهم من بعض، ومقارنة رواياتهم، فالقواعد تندرج تحت الأصول لكنها ليست هي.

و‌

‌قرينة السهولة والوعورة يندرج تحتها عدد من القرائن الفرعية، وهي:

أولا: سلوك الجادة وتركها:

الجادة هي الطريقة المسلوكة، ويقصد بها: الإسناد المعروف، الذي روي به أحاديث كثيرة، مثل نافع، عن ابن عمر، وعروة، عن عائشة، وأبي صالح، عن أبي هريرة، وثابت، عن أنس، ومحمد بن المنكدر، عن جابر، ونحو ذلك من

ص: 6

النسخ المشهورة.

فالراوي إذا روى الحديث -مثلا- عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه راو آخر عن مالك، عن نافع، عن أبي هريرة، أو غيره ممن لم يشتهر نافع بالرواية عنه، أو اشتهر لكن دون شهرة الأول يقول أئمة النقد إن الأول سلك الجادة، وأخذ طريقا معروفا تسبق إليه الأذهان، فروايته حينئذ مرجوحة، والثاني سلك طريقا غير معروفة كالأولى ويعسر حفظها وتذكرها، فروايته راجحة.

وكذلك لو رواه الثاني عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، مرفوعا، أو موقوفا، يقال عنه إنه ترك الجادة، لأن ابن عمر أكثر روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يسبق إلى الذهن، وهكذا لو أرسله فرواه عن مالك، عن نافع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن نافع، عن تابعي آخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الصور التي لا تنتهي.

وتتفاوت درجة الركون إلى هذه القرينة بحسب شهرة الجادة المسلوكة، وبحسب وعورة الطريق الأخرى، فالطريق الأخرى -مثلا- قد تكون شديدة الوعورة، فيها طول، وفيها رواة غير مشهورين، أو غير مشهورين برواية بعضهم عن بعض، وتكون أيضا مشهورة، ولكن دون شهرة الجادة المعروفة، وأبعد منها عن الذهن، فلو روى راو عن قتادة، عن أنس، سميت هذه جادة، فإذا روى الحديث نفسه راو آخر عن قتادة، عن الحسن البصري مرسلا، يقال عن روايته هذه إنه ترك الجادة، وروايته راجحة، وإن كان هذا الطريق معروفا، قد روي به أحاديث، لكن الأول أسهل منه، وأسبق إلى الذهن، وفيه صحابي، والصحابة

ص: 7

هم الأشهر بالرواية عنه صلى الله عليه وسلم، ولهذا يعد بعض العلماء مجرد رفع الحديث سلوكا للجادة، ووقفه تركا لها، فالقاعدة العامة تقديم من وقف على من رفع هي من هذا الباب

(1)

، وهكذا يقال في الوصل والإرسال.

وقد أكثر النقاد جدا من استخدام هذه القرينة، بالتصريح أو الإشارة، ويعدها بعض الباحثين أكثر القرائن تداولا واستخداما.

وعبارات النقاد في استخدامها متعددة، فيقولون عن الراوي بالإضافة إلى تعبيرهم بأنه سلك الجادة: أخذ طريق المجرة، أو لزم الطريق، أو سلك المحجة، أو هذا أهون عليه، أو أسهل عليه، ونحو هذه العبارات، وفي الأغلب الأعم أنهم يرجحون بها دون النص عليها.

هذه ملامح عامة لهذه القرينة، يزيدها إيضاحا عرض أقوال النقاد في تقريرها، وتطبيقاتهم لها.

فمن ذلك أن يحيى بن سعيد القطان، وأبا أسامة حماد بن أسامة، وعلي بن مسهر، ومحمد بن بشر، وخالد بن الحارث، رووا عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن زيد بن عبدالله بن عمر، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، إلا أن خالد بن الحارث قال: عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 610.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2065)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (6872) و «مسند أحمد» 6: 306، و «مصنف ابن أبي شيبة» 8: 209، و «المعجم الكبير» 23: حديث (926)، و «تحفة الأشراف» 13:20.

ص: 8

قال أبو بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد القطان:«كنت إذا أخطأت قال لي سفيان الثوري: أخطأت يا يحيى، فحدث يوما عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، فقلت: أخطأت يا أبا عبدالله، هذا أهون عليك، قال: فكيف هو يا يحيى؟ قلت: حدثنا عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن زيد بن عبدالله، عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

، فقال لي: صدقت يا يحيى»

(1)

.

وقد سلك بهذا الحديث الجادة أيضا حماد بن سلمة، فرواه عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وخطأه في ذلك أبو زرعة، وأبو حاتم

(2)

.

وروى يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن بشر، وعبدة بن سليمان، وإبراهيم بن طهمان، وعبيدة بن حميد، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبي الجراح مولى أم حبيبة، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس»

(3)

.

(1)

«تاريخ بغداد» 14: 136.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 26.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2554)، و «مسند أحمد» 6: 327، 426، و «مصنف ابن أبي شيبة» 12: 228، و «المعجم الكبير» 23: حديث (476)، و «علل الدارقطني» 15:282.

ورواية عبيدة بن حميد في «مسند أحمد» 6: 426، ليس فيها سالم، وقد أوردها ابن حجر في «أطراف المسند» 9: 376، و «إتحاف المهرة» 16: 958، بذكر سالم.

ص: 9

قال أبو بكر بن خلاد: «سمعت يحيى بن سعيد قال: حدث سفيان، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس» ، قال: فقلت له: تعست (أي: عثرت) يا أبا عبدالله، قال لي: كيف هو؟ قلت: حدثني عبيدالله، قال: حدثني نافع، عن سالم، عن أبي الجراح، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت»

(1)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن امرأة يقال لها: أنيسة، عن أم سعيد بنت مرة الفهرية، عن أبيها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة -وأشار سفيان بأصبعيه-»

(2)

.

قال الحميدي: «قيل لسفيان: فإن عبدالرحمن بن مهدي يقول: إن سفيان أصوب في هذا الحديث من مالك، قال سفيان: وما يدريه؟ أدرك صفوان؟ فقالوا: لا، ولكنه قال: إن مالكا قاله عن صفوان، عن عطاء بن يسار، وقاله سفيان، عن أنيسة، عن أم سعيد بنت مرة، عن أبيها، فمن أين جاء بهذا الإسناد؟ فقال سفيان: ما أحسن ما قال، لو قال لنا صفوان: عن عطاء بن يسار، كان أهون علينا من أن يجيء بهذا الإسناد الشديد»

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 6: 426.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (838)، و «الأدب المفرد» حديث (133)، و «المعجم الكبير» 20: حديث (758).

(3)

«المعرفة والتاريخ» 2: 706، و «سنن البيهقي» 6:283.

وقد ذكر رواية مالك هكذا أيضا ابن أبي حاتم في «علل الحديث» 2: 177، والذي في «الموطأ» 2: 948، رواية مالك، عن صفوان بن سليم، أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، فالظاهر أن مالكا يرويه على وجهين.

ص: 10

وروى سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن سعيد بن عبدالرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث، أنه سمع أبا بكر وهو واقف على قزح، وهو يقول: «أيها الناس أصبحوا

» الحديث

(1)

.

ورواه المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر.

قال أحمد: «قالوا لسفيان: إن منكدرا يقول: عن أبيه، عن جابر، قال: فمن أين أقع على: سعيد بن عبدالرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث: «رأيت أبا بكر واقفا على قزح

»؟ »، ثم قال أحمد:«وإنما هو عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع»

(2)

.

وقال الحميدي: «قال سفيان: لما قدم منكدر بن محمد المنكدر قلت: لأنظرن حفظه، فأتيته فقلت: كيف تحفظ حديث أبيك

، قال:«رأيت أبا بكر واقفا على قزح» ؟ قال: حدثني أبي، عن جابر، فقلت: هذا كان أهون عليه»

(3)

.

(1)

«حديث سفيان بن عيينة برواية المروزي» حديث (1)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 4: 30، و «سنن البيهقي» 5:125. وفي «حديث سفيان»: عبدالرحمن بن يربوع، بدل سعيد بن عبدالرحمن بن يربوع.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 192، ومراد أحمد أن الصواب في اسم شيخ محمد بن المنكدر: عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع، وليس سعيد بن عبدالرحمن بن يربوع، وانظر:«طبقات ابن سعد» 5: 5.

(3)

«المعرفة والتاريخ» 2: 701، وانظر:«الجرح والتعديل» 1: 40، و «الضعفاء الكبير» 4: 254، و «إكمال تهذيب الكمال» 11:377.

ص: 11

وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري، قال: «صلى عمر بن الخطاب الصبح بمكة

» الحديث.

ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، عن حميد بن عبدالرحمن، عن عبدالرحمن بن عبدٍ القاري.

فروى ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبدالأعلى، عن الشافعي قوله في نقده لرواية ابن عيينة:«اتبع سفيان بن عيينة في قوله: عن الزهري، عن عروة، عن عبدالرحمن: المجرة -يريد: لزم الطريق-» .

قال ابن أبي حاتم معلقا على كلام الشافعي: «وذلك أن مالكا، ويونس بن يزيد، وغيرهما، رووا عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن،

، عن عمر، فأراد الشافعي أن ابن عيينة وهم، وأن الصحيح ما رواه مالك»

(1)

.

وقال أبو داود: «سمعت أحمد سئل عن حديث الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ثائر الشعر، فقال: أما وجد هذا ما يسكن به شعره، ورأى رجلا وسخ الثياب

»، فقال: ما أنكره من حديث، ليس إنسان يرويه -يعني عن ابن المنكدر- غير حسان، قال أحمد: كان ابن المنكدر رجلا صالحا، وكان يعرف بجابر، مثل ثابت، عن أنس،

(1)

«آداب الشافعي ومناقبه» ص 277، و «سنن البيهقي» 2: 463، و «معرفة السنن والآثار» 5:156.

وقد تقدم تخريج هذا الحديث في المبحث الذي قبل هذا.

ص: 12

وكان يحدث عن يزيد الرقاشي، فربما حدث بالشيء مرسلا، فجعلوه عن جابر»

(1)

.

ومراد أحمد أن ثابتا معروف بالرواية عن أنس، ولكنه يروي أيضا عن يزيد الرقاشي، ويزيد هذا متروك الحديث، فيغلطون على ثابت، يجعلون روايته عن يزيد مما يرويه عن أنس، لشهرته بالرواية عن أنس، وكذلك محمد بن المنكدر معروف بالرواية عن جابر، ولكنه أيضا يحدث بأحاديث يرسلها، ليست عن جابر، فيغلط عليه الرواة، ويجعلونها عن جابر.

وذكر أحمد لأحاديث ثابت، عن يزيد الرقاشي، التي يحيلها الرواة خطأ إلى رواية عن ثابت، عن أنس، إنما هو على سبيل التمثيل، فالرواة يحيلون خطأ أيضا ما يرويه ثابت، عن الحسن البصري، وما يرويه مرسلا، وغير ذلك، إلى روايته عن أنس، وهكذا يقال فيما ذكره أحمد في شأن محمد بن المنكدر.

وقد أكثر أحمد من بيان إحالة أهل البصرة الأحاديث خطأ إلى سلسلة (ثابت، عن أنس) لشهرته بالرواية عنه، وشهرة هذه السلسلة بالبصرة، وإحالة أهل المدينة إلى سلسلة (محمد بن المنكدر، عن جابر) لشهرته بالرواية عنه، وشهرة هذه السلسلة بالمدينة

(2)

.

(1)

«مسائل أبي داود» ص 406، وحديث حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أخرجه أبو داود حديث (4062)، والنسائي حديث (5251)، وأحمد 3:357.

(2)

«مسائل إسحاق بن هانئ» 2: 197، و «الكامل» 4: 1616، و «شرح علل الترمذي» 2: 692 - 694، و «إكمال تهذيب الكمال» 4:103.

وانظر نماذج من أحاديث محمد بن المنكدر، عن جابر التي عدها العلماء خطأ من الرواة عنه في:«سنن الترمذي» حديث (926)، و «التاريخ الكبير» 1: 102، 133، وعلل ابن أبي حاتم (592) ، (614) ، (629) ، (878) ، (1146 - 1147) ، (1220) ، (1222) ، (1312)، (1399) ، (1863) ، (2147) ، (2339) ، (2699)، و «الكامل» 4:1616.

ونماذج من أحاديث ثابت، عن أنس في:«العلل الكبير» 1: 401، و «علل ابن أبي حاتم» (793) ، (923) ، (1209) ، (1012) ، (1212) ، (1323) ، (1400) ، (1806)، (1912) ، (2003 - 2004) ، (2008) ، (2051) ، (2069) ، (2185) ، (2237) ، (2686)، و «شرح علل الترمذي» 2:692.

ص: 13

وروى سهل بن حماد أبو عتاب، عن عبدالله بن المثنى، عن ثمامة بن عبدالله، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه

» الحديث

(1)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن ثمامة، عن أبي هريرة

(2)

.

قال ابن أبي حاتم: «قال أبو زرعة: وهذا (يعني حديث أبي هريرة) الصحيح، وقال أبي: هذا أشبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولزم أبو عتاب الطريق، فقال: عن عبدالله، عن ثمامة، عن أنس

»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه زهير بن عباد، عن حفص بن ميسرة، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن

(1)

«سنن الدارمي» حديث (2045)، و «مسند البزار» حديث (7323).

(2)

«مسند أحمد» 2: 263، 355، 388، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (125)، و «سنن الدارمي» حديث (2045).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 27.

ص: 14

النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، كأنما ناصيته بيد شيطان» .

قال أبي: هذا خطأ، كنا نظن أنه غريب، ثم تبين لنا علته، قلت: وما علته؟ قال: حدثنا العباس بن يزيد العبدي، وإياك، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن مليح بن عبدالله، عن أبي هريرة موقوفا، قال ابن عيينة: فقدم علينا محمد بن عمرو، فأتيته فسألته، فحدثني عن مليح بن عبدالله، عن أبي هريرة موقوفا.

وقال أبو زرعة: هذا خطأ، إنما هو عن ابن عجلان، عن محمد بن عمرو، عن مليح، عن أبي هريرة موقوفا.

قال أبي: فلو كان عند ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، لم يحدث عن محمد بن عمرو، عن مليح، عن أبي هريرة»

(1)

.

وروى صدقة بن عبدالله السمين، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا:«لا طلاق قبل نكاح»

(2)

.

سئل عنه أبو حاتم فقال: «هذا خطأ، والصحيح ما رواه الثوري، عن محمد بن المنكدر، قال: حدثني من سمع طاوس، فلو كان سمع من جابر لم يحدث عن رجل، عن طاوس، مرسلا»

(3)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 83، وانظر:«المعجم الأوسط» حديث (7692)، و «أطراف الغرائب والأفراد» 2: 332، و «علل الدارقطني» 8:16.

(2)

«المعجم الأوسط» حديث (459)، و «المستدرك» 2: 420، و «سنن البيهقي» 7:319.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 408، وانظر:(1220)، (1312).

ص: 15

وروى محمد بن سليمان ابن الأصبهاني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صلى في يوم اثنتي عشرة ركعة سوى الفريضة بنى الله له بيتا في الجنة»

(1)

.

سئل عنه أبو حاتم فقال بعد أن بين أنه خطأ: «كنت معجبا بهذا الحديث، وكنت أرى أنه غريب، حتى رأيت: سهيلا، عن أبي إسحاق، عن المسيب، عن عمرو بن أوس، عن أم حبيبة، فعلمت أن ذاك لزم الطريق»

(2)

.

وكذا قال ابن عدي: «هذا من ابن الأصبهاني، حيث قال: عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وكان هذا الطريق أسهل عليه، إنما روى هذا سهيل عن أبي إسحاق، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة»

(3)

.

وروى حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن قيس بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر تطليقة

» الحديث

(4)

.

ورواه الحارث بن عبيد أبو قدامة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس.

سئل عنهما أبو حاتم فقال: «الصحيح حديث حماد، وأبو قدامة لزم

(1)

«سنن النسائي» حديث (1810)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1142).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 107، وانظر أيضا 1: 144، وحديث أم حبيبة من هذا الطريق أخرجه النسائي، حديث (1801)، وابن خزيمة حديث (1189)، والحاكم 1: 312، وقد قيل عن سهيل على وجه آخر، يأتي في كلام ابن عدي التالي.

(3)

«الكامل» 6: 2234.

(4)

«طبقات ابن سعد» 8: 84، و «المعجم الكبير» 18: 365، و «المستدرك» 4:15.

ص: 16

الطريق»

(1)

.

وروى محمد بن سليمان ابن الأصبهاني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعا:«مدمن الخمر كعابد وثن»

(2)

.

وخالفه سليمان بن بلال، فراه عن سهيل، عن محمد بن عبدالله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قال ابن عدي بعد أن روى حديث ابن الأصبهاني: «هذا الخطأ من ابن الأصبهاني، حيث قال: عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، كان هذا الطريق أسهل عليه، وقد روي عن سهيل بإسناد آخر مرسلا»

(4)

.

وأما الأمثلة التي سلك فيها الراوي الجادة، ورجح النقاد قول من تركها، دون النص على هذه القرينة فهي كثيرة جدا، لا تكاد تحصى، فهي موجودة في كافة النسخ المشهورة، مثل قتادة، عن أنس، وأبي الزبير، عن جابر، وأبي صالح، عن أبي هريرة، وسالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، وعروة بن الزبير، عن عائشة،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 427.

(2)

«سنن ابن ماجه» حديث (3375)، و «التاريخ الكبير» 1:129.

(3)

» التاريخ الكبير» 1: 129، و «علل الدارقطني» 10:115.

(4)

«الكامل» 6: 2234، وانظر أمثلة أخرى في «العلل ومعرفة الرجال» (1058) ، و «علل ابن أبي حاتم» (582) ، (945) ، (1065) ، (1823) ، (2068) ، (2162) ، (2237) ، (2296) ، (2580) ، و «معرفة علوم الحديث» ص 118، و «سنن البيهقي» 2: 474، و «فتح الباري» لابن رجب 5: 365، و «فتح الباري» لابن حجر 3: 344، 9: 476، 10: 446، 546.

ص: 17

وعلقمة بن قيس، عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس.

ثم من نزل عن هؤلاء، مثل شعبة، عن قتادة، عن أنس، وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، والأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والزهري، عن عروة، عن عائشة.

والترجيح بترك الجادة يتأكد إذا كان من تركها أتى بإسناد فيه ضعف، أو فيه نزول، فإن الرواة يرغبون عن هذا، فلو كان عند الراوي بالسلامة منهما لكان هو الذي يرغب فيه، ويحدث به الراوي، وقد تقدم ذلك في الأمثلة السابقة، حيث نص عليه أبو حاتم

(1)

.

فترجيح الوقف على الرفع، والإرسال على الوصل، ينتظم كون الرفع والوصل أسهل على الراوي، إذ الحديث عادة يكون فيه صحابي، ويرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ترك ذلك فهو الذي حفظ، وينتظم أيضا كون الوصل والرفع أرغب عند الرواة، لحرصهم على الرواية لحديثه صلى الله عليه وسلم سالما من شيء في إسناده، فمن ترك الرفع أو الوصل فقد حفظ.

ويؤكد هذا أن‌

‌ مجرد عدول الراوي عن الإسناد القوي، أو الإسناد العالي، إلى ضدهما، دليل على حفظه، خاصة إذا كان الأضعف، أو الأنزل، فيه وعورة

، ولو لم يكن الآخر قد سلك جادة، وهو قد تركها، والترجيح بهذا حقه أن يكون قرينة مستقلة، فرغبة الراوي -خاصة إذا كان ذا معرفة وفهم- بالأقوى والأعلى،

(1)

وانظر أيضا: «علل ابن أبي حاتم» (642) ، (1247)، و «فتح الباري» 9:384.

ص: 18

فلا يعدل عنهما إلا وقد حفظ، والجامع بينه وبين سلوك الجادة، هو أن ترك الراوي لما يُرغب فيه مظنة لكونه هو الذي حفظ.

ومن أمثلة ذلك ما تقدم في الفصل الرابع من الباب الأول، في المبحث الأول منه، وهو الاختلاف بين يحيى القطان، ووكيع، في الرواية عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، أو عن الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، وقول وكيع -وهو الذي يجعله عن الثوري، عن ليث-:«منصور كان أحب إلينا» .

وروى ضمرة بن ربيعة، عن سفيان الثوري، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه طاف على نسائه في غسل واحد» .

سئل عنه أبو زرعة، فقال:«هذا خطأ، أخطأ ضمرة، إنما هو: الثوري، عن معمر، عن قتادة، عن أنس» ، ثم قال أبو زرعة:«لو كان عند الثوري عن حميد، عن أنس، كان لا يحدث به عن معمر، عن قتادة، عن أنس»

(1)

.

ومراد أبي زرعة أن إسناد الثوري، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، فيه نزول، فإن معمرا من أقران الثوري، فلو كان عنده عن حميد، عن أنس لم يحدث به بذلك الإسناد، ويدع هذا.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 18، ورواية الثوري، عن معمر، عن قتادة، رواها عنه جمع من أصحابه، منهم عبدالرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وغيرهما، انظر:«سنن النسائي الكبرى» حديث (9036)، و «سنن ابن ماجه» حديث (588)، و «مسند أحمد» 3: 185، و «مسند أبي يعلى» حديث (3129)، و «شرح معاني الآثار» 1: 129، و «الضعفاء الكبير» 4:454.

ص: 19

وروى إسحاق الأزرق، عن شريك، عن بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة مرفوعا:«أبردوا بالظهر»

(1)

.

ورواه أبو عوانة، عن طارق بن عبدالرحمن، عن قيس، قال: سمعت عمر بن الخطاب، قوله، ورواه وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس: كان يقال

(2)

.

قال ابن أبي حاتم: «قال أبي: أخاف أن يكون هذا الحديث (يعني الموقوف على عمر) يدفع ذاك الحديث (يعني حديث المغيرة المرفوع)، قلت: فأيهما أشبه؟ قال: كأنه هذا، يعني حديث عمر، قال أبي في موضع آخر: لو كان عند قيس، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يحتج أن يفتقر إلى أن يحدث عن عمر موقوف»

(3)

.

والرواية لها قوانين، كما أن النقد له قوانين، وقوانين الرواية توظف أحيانا في النقد، كما هو واقع هنا، و‌

‌من أهم قوانين الرواية حرص الرواة على الأتم صورة ومعنى

، وفي قصة لسفيان بن عيينة مع أصحابه ما يوضح هذا.

روى سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن حنظلة بن قيس الزرقي، أنه سمع رافع بن خديج يقول: «كنا أكثر الأنصار حقلا

» الحديث في قصة المخابرة، قال الحميدي بعد أن رواه عن سفيان بن عيينة: «فقيل لسفيان: فإن مالكا يرويه عن ربيعة، عن حنظلة، وما كان يرجوه إذا كان عند يحيى،

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (680)، و «مسند أحمد» 4:250.

(2)

«التاريخ الكبير» 2: 133.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 136، وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (309)، (573)، (1247)، (1858)، (2450)، و «التمهيد» 11:111.

ص: 20

ويحيى أحفظهما؟ فقال سفيان: لكنا حفظناه من يحيى»

(1)

.

والمعنى -والله أعلم- أنهم يسألون سفيان: لم يرويه مالك عن ربيعة، وهو عند يحيى بن سعيد، ويحيى أحفظهما؟ غرضهم من ذلك مراجعة سفيان خشية أن يكون غلط في روايته له عن يحيى بن سعيد، فأكد لهم حفظه له عن يحيى بن سعيد.

وفي ختام الحديث عن هذه القرينة أنبه إلى أنها إنما تستخدم في الاختلاف، حيث مدار مختلف عليه على وجهين أو أكثر، وأنبه على هذا وإن كان الكلام هنا كله في الاختلاف، والاختلاف لا بد له من مدار، لأني رأيت بعض الباحثين اختلط عليه الأمر، فيذكرها في موضع خطأ الراوي ونقله الحديث من إسناد إلى إسناد آخر جديد يخطئ فيه.

فمن ذلك توارد عدد من الباحثين على ذكر هذه القرينة في الحديث الماضي في المبحث الرابع من الفصل الرابع من الباب الأول، وهو ما رواه جرير بن حازم،

عن ثابت، عن أنس مرفوعا:«إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» ، فإن

(1)

والحديث مشهور عن الاثنين يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، انظر:«صحيح البخاري» حديث (2332)، (2346)، (2722)، و «صحيح مسلم» حديث (1547)، و «سنن أبي داود» حديث (3392 - 3393)، و «سنن النسائي» حديث (3907 - 3911)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2458)، و «مسند أحمد» 3: 363، 4: 140، 142، و «مسند الحميدي» حديث (406)، ووقع في قصة سفيان سقط استظهرت تتمته من السياق، استئناسا برأي محقق النسخة.

ص: 21

جريرا غلط فيه، فثابت لم يروه أصلا، وإنما رواه حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، وقد حدث به حجاج في مجلس ثابت، فظن جرير أنه مما سمعه من ثابت، ومع خطأ جرير فليس هناك جادة سلكها وتركها غيره، وإنما يكون ذلك لو كان الصواب فيه مثلا أنه عن ثابت، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، فرواه جرير، عن ثابت، عن أنس.

‌ثانيا: زيادة راو أو أكثر في الإسناد

، وحذفه:

إذا زاد بعض الرواة راويا أو أكثر في الإسناد، وأسقطه بعضهم، فرواية من زاده راجحة، ورواية من أسقطه مرجوحة، ومردّ ذلك إلى السهولة والوعورة، فحذفه من الإسناد أسهل للحفظ، فمن ذكر الزيادة فقد حفظ، إذ سلوكه للطريق الوعرة يدل على حفظه.

فوجه ترجيح قبول الزيادة هو أن حذفها أسهل للحفظ، وذكرها يحتاج إلى مزيد حفظ وتيقظ. فمن ذكرها فروايته أرجح.

قال ابن القطان في تقرير ترجيح الزيادة في الإسناد: «المحدث إذا روى حديثا عن رجل قد عرف بالرواية عنه والسماع منه، ولم يقل: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت، وإنما جاء به بلفظة (عن)، فإنه يحمل حديثه على أنه متصل، إلا أن يكون ممن عرف بالتدليس، فيكون له شأن آخر.

وإذا جاء عنه في رواية أخرى إدخال واسطة بينه وبين من كان قد روى الحديث عنه معنعنا، غلب على الظن أن الأول منقطع، من حيث يبعد أن يكون

ص: 22

قد سمعه منه، ثم حدث به عن رجل عنه، وأقل ما في هذا سقوط الثقة باتصاله، وقيام الريب في ذلك.

ويكون هذا أبين في اثنين لم يعلم سماع أحدهما من الآخر، وإن كان الزمان قد جمعهما.

وعلى هذا المحدثون، وعليه وضعوا كتبهم، كمسلم في كتاب «التمييز» ، والدارقطني في «علله» ، والترمذي، وما يقع منه للبخاري، والنسائي، والبزار، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، تجدهم دائبين يقضون بانقطاع المعنعن إذا روى بزيادة واحد بينهما، بخلاف ما لو قال في الأول: حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت

»

(1)

.

وقد يحكمون بقبول الزيادة وترجيحها، والحكم بالانقطاع، مع وجود التصريح بالتحديث، إذا قويت القرينة على ذلك.

ومن الأمثلة على استخدام النقاد لهذه القرينة، أن حجاجا الصواف روى عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» ، وفي بعض الروايات عن حجاج الصواف تصريح عكرمة بالتحديث عن الحجاج بن عمرو

(2)

.

ورواه معاوية بن سلام، ومعمر، وسعيد بن يوسف الرحبي، عن يحيى بن

(1)

«بيان الوهم والإيهام» 2: 415.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1862)، و «سنن الترمذي» حديث (940)، و «سنن النسائي» حديث (2860 - 2861)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3077)، و «مسند أحمد» 3:450.

ص: 23

أبي كثير، عن عكرمة، عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة، عن الحجاج بن عمرو، وفي بعض رواياته أن عبدالله بن رافع سأل الحجاج بن عمرو عمن حبس وهو محرم، فروى له الحديث

(1)

.

قال البخاري: «رواية معمر، ومعاوية بن سلام أصح»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه النعمان بن المنذر، عن مكحول، عن عنبسة، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حافظ على ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بيت في الجنة» .

فقال أبي: لهذا الحديث علة، روى ابن لهيعة، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن مولى لعنبسة بن أبي سفيان، عن عنبسة، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبي: هذا دليل أن مكحولا لم يلق عنبسة، وقد أفسده رواية ابن لهيعة.

قلت لأبي: لم حكمت برواية ابن لهيعة، وقد عرفت ابن لهيعة وكثرة أوهامه؟ قال أبي: في رواية ابن لهيعة زيادة رجل، ولو كان نقصان رجل كان أسهل على ابن لهيعة حفظه»

(3)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1863)، و «سنن الترمذي» حديث (940)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3078)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (617)، و «شرح معاني الآثار» 2: 249، و «المعجم الكبير» حديث (3214).

(2)

«العلل الكبير» 1: 395، و «سنن الترمذي» حديث (940).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 171، وكتب في حاشية إحدى نسخ الكتاب:«هذا فقه في التعليل» ، وقد وقع مثل هذا الاختلاف بهذا الإسناد في حديث:«من صلى أربعا قبل الظهر حرمه الله على النار» ، ينظر:«تحفة الأشراف» 11: 313، و «إتحاف المهرة» 16:951.

ص: 24

وروى الأعمش، ومنصور بن المعتمر -في المشهور عنهما- عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود حديث: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم

».

ورواه واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، ليس فيه عمرو بن شرحبيل

(1)

.

قال الترمذي بعد أن ساق رواية الأعمش، ومنصور، من طريق سفيان الثوري عنهما، ورواية واصل الأحدب:«حديث سفيان عن منصور، والأعمش، أصح من حديث واصل، لأنه زاد في إسناده رجلا»

(2)

.

و‌

‌يستمر ترجيح الزيادة ما لم يكن ذكر الزيادة أسهل في الحفظ وأسبق إلى الذهن، فيكون من زاد سلك الجادة، فيقدم عليه من ترك الزيادة

، وهذا مقام دقيق جدا في طريقة تطبيق القرينتين.

وأكثر ما يظهر هذا في حذف الصحابي من الأسانيد المشهورة، أو وقف

(1)

«صحيح البخاري» حديث (4477)، (4761)، (6001)، (6811)، (6861)، (7520)، (7532)، و «صحيح مسلم» حديث (86)، و «سنن أبي داود» حديث (2310)، و «سنن الترمذي» حديث (3181 - 3183)، و «سنن النسائي الصغرى» حديث (4024 - 4025)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (11368 - 11369)، و «مسند أحمد» 1: 380، 431، 434، 262، 464.

(2)

وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (1342) ، (1395) ، (2655).

ص: 25

الحديث، فإذا روى الحديث راو عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه آخر عن الأعمش، عن أبي صالح مرسلا، فقول من أرسله أولى أن يكون راجحا، فإن ذكر أبي هريرة أسهل في الحفظ، وأسبق إلى الذهن، لكثرة ما روى أبو صالح، عن أبي هريرة، وهكذا يقال في الرفع والوقف، وقد تقدم هذا في قرينة سلوك الجادة.

وكذلك لو زاد أحد الرواة عن شيخه اسم راو دون الصحابي هو جادة له، وحذفه آخر، فالراجح أن من حذفه قد حفظ، كما لو روى بعض أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة، ورواه بعضهم عن يحيى بن سعيد، أنه بلغه عن عائشة، فالقول قول من حذف عمرة.

ومثاله حديث أبي مرثد الماضي في المبحث الثاني، فقد راوه ابن المبارك، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد، ورواه جماعة عن ابن جابر فأسقطوا واثلة.

قال أبو حاتم: «بسر سمع من واثلة، وكثيرا ما يحدث بسر عن أبي إدريس، فغلط ابن المبارك، فظن أن هذا مما روى عن أبي إدريس، عن واثلة، وقد سمع هذا الحديث من واثلة نفسه

»

(1)

.

ويظهر كذلك في مجيء اسم شخص في متن الحديث في رواية، ومجيئه في الإسناد في رواية أخرى، فالذي ذكره في الإسناد سلك الجادة، إذ المتبادر إلى

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 80، وانظر: 1: 349، 368.

ص: 26

الذهن حين ورود اسم شخص أن يكون راويا، فمن ذكره في المتن قد ترك الجادة، وروايته حينئذ هي الراجحة.

وأكثر ما يرد ذلك في الصحابي، فيجعله بعض الرواة من مسنده، ويجعله بعضهم في القصة، أي في متن الحديث، وقد تقدم في «الاتصال والانقطاع» أمثلة لهذا

(1)

.

ومن دقيق أمثلة هذا النوع ما رواه جرير بن عبدالحميد، عن مغيرة بن مقسم، عن أبي وائل، عن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الولد للفراش، وللعاهر الحجر»

(2)

.

فالناظر في الإسناد لأول وهلة لا يتردد في أن صحابيه هو عبدالله بن مسعود، لشهرة أبي وائل بالرواية عنه، لكنه ليس هو، ولذا احتاج النسائي إلى أن يقول بعد إخراجه:«ولا أحسب هذا عن عبدالله بن مسعود» .

وهو كما قال، فإن عبدالله هو ابن حذافة السهمي، وليس هو في إسناد الحديث على الراجح، وإنما يروي أبو وائل قصته مرسلة، قال البخاري وقد سئل عن رواية جرير بن عبدالحميد الموصولة: «إنما هو: مغيرة، عن أبي وائل مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم

، وإنما هو: قال عبدالله بن حذافة للنبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 31 - 47.

(2)

«سنن النسائي» حديث (3486)، و «صحيح ابن حبان» حديث (4104).

(3)

«العلل الكبير» 1: 457، وهذا المرسل أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 4: 189 من طريق أبي عوانة، عن مغيرة، وأخرجه أيضا الحاكم في «المستدرك» 3: 631، من طريق سيار أبي الحكم، عن أبي وائل، وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» ، وهو في القسم المفقود، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» 5:15.

ص: 27

ويأتي أيضا فيمن دون الصحابي، ومثاله ما رواه أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن ابن مُعَيْن (أو معيز)، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه قال لرسول مسيلمة: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك»

(1)

.

ورواه سفيان الثوري، والمسعودي، وسلام أبو المنذر، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به

(2)

.

قال أبو حاتم بعد أن سئل عن رواية أبي بكر بن عياش، والثوري: «الثوري أحفظ من أبي بكر، وأرى أن عاصما حكى عن أبي وائل: أن رجلا يقال له أبو مُعَيْن مر بمسجد بني حنيف

، فجعل أبو بكر: عن ابن مُعَيْن، والثوري أفهم»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه سفيان بن حسين، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، وعن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، عن شريح بن أرطاة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في المباشرة للصائم.

فقالا: هذا خطأ، رواه شعبة، عن الحكم، فحدثنا أبي، عن آدم، وعبدالله بن رجاء، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، قال: كان علقمة، وشريح بن أرطاة، عند عائشة، فقالت عائشة:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل، ويباشر، وهو صائم»

(4)

.

(1)

«مسند أحمد» 1: 404، و «سنن الدارمي» حديث (2506)، و «شرح معاني الآثار» 3:211.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (8676)، و «مسند أحمد» 1: 390، 396، 406 و «مسند أبي يعلى» حديث (5097).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 303.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 232، ورواية شعبة المرسلة رواها عنه أيضا عبدالرحمن بن مهدي، وأبو داود الطيالسي، ومحمد بن جعفر، وسليمان بن حرب، ورواه الحسن بن محمد، عن ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، وشريح بن أرطاة، عن عائشة، هكذا موصول، والقول فيه أيضا ما قاله أبو حاتم، وأبو زرعة، انظر هذه الطرق في «سنن النسائي الكبرى» حديث (3087)، (3088)، (3091 - 3092)، و «مسند أحمد» 6: 126، و «مسند الطيالسي» حديث (1502)، و «سنن البيهقي» 4:229.

ص: 28

وفي كثير من الأحيان تجتمع القرينتان، ولهذا صور، من أشهرها أن يروي الحديث راو عن شيخ على الجادة المشهورة، ثم يرويه آخر عن الشيخ نفسه بزيادة راو في الإسناد، فتترجح رواية الثاني بالقرينتين، قرينة ترك الجادة، وقرينة زيادة الراوي.

ومن أمثلة ذلك حديث أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟

»، الآنف الذكر، فالجادة المعروفة أن يروي أبو وائل، عن ابن مسعود مباشرة، ليس بينهما أحد، وقد روي بها أحاديث كثيرة، وأبو وائل معروف بالرواية عن ابن مسعود، من كبار أصحابه، فلما جاءت زيادة عمرو بن شرحبيل، كان من زادها ترك الجادة، فدل على حفظه، وزاد في الإسناد رجلا فدل على حفظه أيضا.

ومن ذلك أن هشاما الدستوائي، وعلي بن المبارك، رويا عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم»

(1)

.

(1)

«سنن النسائي» حديث (3062 - 3065)، و «مسند أحمد» 6: 193، 241، 252، و «مسند إسحاق» حديث (843)، و «العلل الكبير» 1: 345، و «شرح معاني الآثار» 2: 91، و «التمهيد» 22: 139، ورواية هشام عند النسائي في حديث (3062)، ليس فيه عروة بن الزبير.

ص: 29

ورواه شيبان بن عبدالرحمن، ومعاوية بن سلام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عمر بن عبدالعزيز، عن عروة، عن عائشة

(1)

.

ورواه عقيل بن خالد، ومعمر، وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، وفي رواية عقيل تصريح أبي سلمة بالتحديث عن عائشة

(2)

.

قال البخاري: «كأن حديث شيبان عندي أحسن» .

وقال أبو حاتم وقد سئل عن حديث الزهري: «روى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم» ، وروى معاوية بن سلام، وشيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عمر بن عبدالعزيز، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، [و] حديث يحيى بن أبي كثير أشبه من حديث عقيل، كان الزهري أضبط من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن أخاف أن يكون لم يضبط عقيل عنه»

(3)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1106)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3066 - 3067)، و «مسند أحمد» 6: 280، ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، لكن اختلف فيه على الأوزاعي اختلافا كثيرا، ينظر حاشية «مسند أحمد» تحقيق الأرنؤوط 42:392.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3057 - 3059)، و «مسند أحمد» 6: 223، 232.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 251.

ص: 30

وكذا قال الدارقطني لما ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير: «القول قول شيبان ومن تبعه ممن ذكر فيه عمر بن عبدالعزيز»

(1)

.

وروى أيوب السختياني، وخالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة

»

(2)

.

ورواه عاصم الأحول -في المشهور عنه- وأبو غفار الطائي، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان

(3)

.

قال البخاري عن الرواية الثانية التي فيها الزيادة: «هذا أصح، وأحاديث أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، ليس فيها أبو الأشعث، إلا هذا الحديث الواحد»

(4)

.

ثالثا: الفصل والإدراج في الرواية:

إذا روى أصحاب الراوي عنه حديثا، وساقه بعضهم مساقا واحدا في

(1)

«علل الدارقطني» 15: 143.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2568)، و «سنن الترمذي» حديث (967 - 968)، و «مسند أحمد» 5: 276، 277، 282، 283.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2568)، و «سنن الترمذي» حديث (967 - 968) و «مسند أحمد» 5: 276، 277، 281، 284، و «مسند الطيالسي» حديث (988)، و «الأدب المفرد» حديث (521).

(4)

«العلل الكبير» 1: 398، و «سنن الترمذي» حديث (967).

ص: 31

إسناده ومتنه، وبعضهم فصَّل في روايته، فرواية من فصل مقدمة على رواية من ساقه مساقا واحدا، وهو أحرى أن يكون حفظ وأتقن، فكونها رواية واحدة أسهل عليه، فعدوله عن الأسهل إلى الأصعب دليل على حفظه وإتقانه لهذا الحديث.

ولهذا صور متعددة، منها أن يروي الرواة حديثا فيجعله بعضهم كله عن صحابي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخالفهم آخرون، فيجعلون بعضه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضه موقوفا على الصحابي، أو من دونه، أو يجعلون بعضه من رواية تابعيه عن صحابي آخر، أو عن التابعي مرسلا ليس فيه الصحابي، إلى غير ذلك.

وتطبيقات هذه القرينة واسعة جدا، وعليها بنى الخطيب البغدادي كتابه:«الفصل للوصل المدرج في النقل» ، والسبب في ذلك ظاهر، وهو كثرة تداخل الروايات، ومن يصدر عنه النص، فالصحابي أو التابعي يسوق الحديث مستدلا به على قول قاله، أو يعقب على النص النبوي بكلام من عنده، وممن يفعل هذا من الصحابة أبو هريرة، وعائشة، وكذلك يفعل من بعدهم، واشتهر بذلك جماعة مثل الزهري، ومحمد بن إسحاق، وإبراهيم بن طهمان، وعبدالله بن وهب، وغيرهم.

وأيضا عرف بعض الرواة بسعة الرواية، فيسوق الحديث الطويل بعضه بإسناد، وبعضه بإسناد آخر، أو أكثر من ذلك، وربما أرسل بعض الحديث، وممن عرف بذلك الزهري، ومحمد بن إسحاق، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وغيرهم.

ص: 32

قال مالك: «قال ربيعة للزهري: إذا حدثت فبين كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وقال أحمد في يونس بن يزيد: «كان يجيء عن سعيد بأشياء ليست من حديث سعيد

، كان يكتب -أرى- أول الكتاب، فينقطع الكلام، فيكون أوله عن سعيد، وبعضه عن الزهري، فيشتبه عليه، ويونس يروي أحاديث من رأي الزهري يجعلها عن سعيد»

(2)

.

وقال أبو حاتم: «كان الزهري يحدث بالحديث، ثم يقول على إثره كلاما، فكان أقوام لا يضبطون، فجعلوا كلامه في الحديث، وأما الحفاظ وأصحاب الكتب فكانوا يميزون كلام الزهري من الحديث»

(3)

.

ومن أشهر ما يمثل به لهذه القرينة حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه:«أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، يمشون أمام الجنازة» .

هكذا يرويه ابن عيينة، لم يختلف عليه في ذلك، وكان يدافع عن روايته.

ورواه عقيل، وزياد بن سعد، وابن جريج، وموسى بن عقبة، وغيرهم،

(1)

«القراءة خلف الإمام» للبخاري ص 49.

(2)

«تهذيب الكمال» 32: 555، وانظر:«علل المروذي» ص 56، و «مسائل إسحاق بن هانئ» 2:231.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 30. وانظر في غير الزهري: «مسند أحمد» 3: 173، و «علل ابن أبي حاتم» (170)، (859)، (967)، (981)، و «الفصل للوصل» 2: 620.

ص: 33

عن الزهري، عن سالم:«أن عبدالله بن عمر، كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، يمشون أمامها» .

قال أحمد: «هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

، إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة كأنه وهم»، ونحوه للنسائي.

وإنما قال ذلك أحمد، والنسائي، لأن جماعة من كبار أصحاب الزهري، منهم مالك، ويونس بن يزيد، ومعمر، صرحوا بفصل الموصول -وهو فعل ابن عمر- عن المرسل، وهو ما حكاه الزهري، عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فذكروا المرسل أولا، ثم قول الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة.

وتوارد أئمة النقد على ترجيح المرسل، كابن المبارك، وأحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، وأن ابن عيينة وهم في وصل الحديث كله، ولعله وقع في ذلك بسبب أن الزهري ربما عطف المرسل على الموصول، فجاءت صورته كله كأنه موصول، وقد وقع هذا لبعض الرواة المتأخرين في غير طريق ابن عيينة.

قال الترمذي: «وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح»

(1)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3179)، و «سنن الترمذي» حديث (1007 - 1009)، و «سنن النسائي» حديث (1943 - 1944)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2071 - 2072)،

و«سنن ابن ماجه» حديث (1482)، و «مسند أحمد» 2: 8، 37، 122، 140، و «موطأ مالك» 1: 225، و «مسند الطيالسي» حديث (1926)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6259)، و «العلل الكبير» 1: 404، و «مسند أبي يعلى» حديث (5421)، (5532)، و «شرح معاني الآثار» 1: 479، و «المعجم الكبير» حديث (13133 - 13136)، و «الفصل للوصل» 1: 358، و «التمهيد» 12:93.

ص: 34

وفي كتاب الخطيب المشار إليه آنفا أمثلة كثيرة.

و‌

‌يزداد الأمر غموضا في موضوع الإدراج إذا تصرف الراوي الذي وقع منه الإدراج، أو من دونه في الرواية، فاكتفى بسوق الرواية التي وقع فيها الإدراج

، وساقها على صفتها وهي مدرجة، فيصعب التمييز حينئذ، ويشتد الحمل عليه، فيقولون عنه إنه وهم وهما فاحشا، أو وهما غليظا.

ومن أمثلة ذلك حديث نافع، عن ابن عمر فيما يجتنبه المحرم، وفيه:«ولا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين» ، هكذا رواه جماعة من أصحاب نافع، منهم الليث بن سعد، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وجويرية بن أسماء، وغيرهم.

وروى هذا الجزء المتعلق بالمرأة عن نافع جماعة آخرون فوقفوه على ابن عمر، منهم مالك، وعبيدالله بن عمر، وأيوب السختياني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وفي رواية عبيدالله بن عمر سوقه في المرفوع، وفصله عنه بالتصريح بأنه قول ابن عمر.

ص: 35

ورواه جماعة آخرون عن نافع فلم يذكروا هذه الزيادة لا مرفوعة ولا موقوفة، منهم عمر بن نافع، وعبدالله بن عون، وغيرهما.

ورواه إبراهيم بن سعيد المدني، عن نافع، فرفع هذا الجزء، واقتصر عليه، فلم يذكر ما قبله، وكذا جاء في بعض الطرق إلى محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، وجويرية بن أسماء

(1)

.

ورجح النقاد في هذا الحديث وقف الجزء منه، وأنه من كلام ابن عمر، قال ابن حجر:«عبيدالله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه، وقد فصل المرفوع من الموقوف، وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه فقد شذ بذلك، وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأى أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم، فهو أولى»

(2)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1542)، (1838)، (5803)، (5805)، (5794)، و «صحيح مسلم» حديث (1177)، و «سنن أبي داود» حديث (1824 - 1827)، و «سنن الترمذي» حديث (833)، و «سنن النسائي» حديث (2672 - 2677)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2961)، و «مسند أحمد» 2: 32، 41، 54، 63، 65، 119، و «مسند الحميدي» حديث (627)، و «مصنف ابن أبي شيبة» ص 306 (كتاب الأيمان والحج)، و «سنن البيهقي» 5: 46، 49.

(2)

«فتح الباري» 4: 35. وانظر أمثلة أخرى وقع فيها إفراد الرواية المدرجة فشدد النقاد على من وقع منه ذلك في: «سنن ابن ماجه» حديث (510)، و «سنن الترمذي» حديث (9)، و «علل ابن أبي حاتم» (152)، و «الفصل للوصل» 1: 295 - 309، 458 - 470، 2: 601 - 611.

ص: 36

ومن هذا الباب -الفصل والإدراج- ما يطلق عليه: (الحمل)، وهو حمل رواية على رواية أخرى، وصورته أن يروي شخص رواية يقرن فيها بين اثنين أو أكثر من شيوخه، أو من فوقهم، سواء بعطف بعضهم على بعض، أو بطريقة تحويل الإسناد، ويسوقها مساقا واحدا في المتن والإسناد، ثم يوقف على رواياتهم مفردة من طريق آخر، وفي رواية بعضهم مخالفة في المتن أو الإسناد للرواية الأولى المقرونة، فيستشف من هذا أن راوي الرواية المقرونة قد ساق الرواية على صفة رواية الآخرين، وجعلها للجميع، والمقدم عند حدوث هذا: الرواية المفردة، فراوي الرواية المقرونة تجوز وسلك الأسهل عليه، ويقول النقاد في وصف صنيعه هذا: حمل رواية فلان على رواية فلان.

وقرن الرواية برواية أخرى كثير جدا عند الرواة، خاصة عند المؤلفين لكتب السنة، كما نراه واضحا في «صحيح مسلم» ، «وصحيح ابن خزيمة» ، من أجل الاختصار، وتلخيص الروايات، وربما وقع تجوز من الراوي في إدراج رواية بأخرى، وعدم التمييز بينهما، فالقاعدة أن الروايات المفردة مقدمة على الروايات المقرونة عند وقوع اختلاف بينها في المتن أو الإسناد.

وقد خصص الخطيب في كتابه الآنف الذكر الباب الأخير منه لهذا النوع، وذكر فيه أمثلة كثيرة، واستفتحها بالحديث المتقدم في قرينة زيادة راو وحذفه، وهو حديث أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم

» الحديث، فقد تقدم هناك أن الأعمش، ومنصور بن المعتمر، يرويانه عن أبي وائل، عن عمرو، عن ابن مسعود، وأن

ص: 37

واصلا الأحدب لا يذكر عمرو بن شرحبيل، وقد رواه عبدالرحمن بن مهدي، ومحمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن الثلاثة بذكر عمرو بن شرحبيل، ورواه يحيى بن سعيد القطان، عن الثوري، عن الثلاثة، فميز رواية واصل، بإسقاط عمرو، وهذا هو الصحيح عن واصل، فقد رواه شعبة، ومهدي بن ميمون، عن واصل كذلك، قال أبو بكر النيسابوري: «يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لعبدالرحمن بن مهدي، ولابن كثير، فجعل إسنادهم واحدا، ولم يذكر بينهم خلافا، وحمل حديث واصل على حديث الأعمش، ومنصور

».

ويحتمل أن يكون الإدراج ممن بعد الثوري

(1)

.

ومن الأمثلة أيضا الحديث الماضي آنفا وهو حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سالم، عن أبيه:«أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، يمشون أمام الجنازة» .

فهذا الحديث رواه همام بن يحيى، عن زياد بن سعد، ومنصور بن المعتمر، وبكر بن وائل الكوفي، وسفيان، بنحو هذا المتن

(2)

.

قال الترمذي في نقد رواية همام: «إنما هو سفيان بن عيينة، روى عنه همام» .

يريد الترمذي أن سفيان المذكور في رواية همام ولم ينسب هو سفيان بن عيينة، وإذا كان كذلك فالأقرب أن يكون هذا لفظه، وباقي الروايات محمولة

(1)

«علل الدارقطني» 5: 222، و «الفصل للوصل» 2: 767 - 784، و «فتح الباري» 12:115.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1008)، و «سنن النسائي» حديث (1944).

ص: 38

عليه، يدل على ذلك أنه أمكن الوقوف على رواية واحد منهم -وهو زياد بن سعد- مفردة بلفظ آخر، وهو: عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر:«أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، يمشون أمامها»

(1)

.

وعليه فلا تصح رواية زياد بن سعد، ومنصور بن المعتمر، وبكر بن وائل، من رواية همام عنهم، أن تكون عاضدة لرواية سفيان بن عيينة، لكونها محمولة على رواية سفيان فيما يظهر.

وروى الترمذي عن سعيد بن عبدالرحمن المخزومي، وغير واحد، عن سفيان بن عيينة، وعن علي بن حجر، عن هشيم، كلاهما -ابن عيينة، وهشيم- عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»

(2)

.

ورواه النسائي، عن علي بن حجر به بلفظ:«لا يتوارث أهل ملتين»

(3)

.

وكذلك رواه أحمد، ومسعود بن جويرية، عن هشيم بهذا اللفظ، غير أن مسعود بن جويرية أخطأ في إسناده

(4)

.

(1)

«مسند أحمد» 2: 37، و «المعجم الكبير» حديث (13133).

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2107).

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (6382)

(4)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 265، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (6381).

ص: 39

فتحرر إذن أن الصواب عن هشيم من رواية علي بن حجر هو بهذا اللفظ، وأما رواية الترمذي فقال المزي في نقدها:«كذا رواه الترمذي، عن علي بن حجر، عن هشيم، بلفظ سفيان بن عيينة، حمل حديث أحدهما على حديث الآخر، والمحفوظ عن علي بن حجر لفظ النسائي عنه»

(1)

.

ومن ذلك أيضا الحديث الماضي في الفصل الرابع من الباب الأول، في المبحث الأول منه، وهو حديث أبي هريرة:«من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا» ، فهذا هو اللفظ المشهور فيه عن سهيل بن أبي صالح، رواه الجماعة عنه، سفيان الثوري، وعبدالله بن إدريس، وأبو عوانة، وغيرهم.

ورواه سفيان بن عيينة، وزهير بن معاوية، وعبدالعزيز الدراوردي، عن سهيل، بلفظ الأمر، كما تقدم شرحه هناك.

وقد أخرجه الخطيب من طريق أحمد بن نجدة، عن سعيد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، والدراوردي، وأبي عوانة، عن سهيل، بلفظ الأمر كذلك.

ورواية أبي عوانة هذه لا شك أنها محمولة على رواية سفيان، والدراوردي، فالروايات المفردة عن أبي عوانة موافقة لرواية الجماعة عن سهيل

(2)

.

(1)

«تحفة الأشراف» 1: 56.

(2)

وانظر أمثلة أخرى لحمل رواية على رواية في «صحيح البخاري» حديث (1592)، و «مسند الطيالسي» حديث (872)، و «علل ابن أبي حاتم» (1194)، و «الكامل» 3: 1193، 1234، 1279، و «التتبع» ص 464 - 465، و «علل الدارقطني» 2: 180 - 181، و «الإرشاد» 2: 499 - 500، 3: 871، و «سنن البيهقي» 2: 142 - 143، و «فتح الباري» 3:455.

ص: 40

ولترجيح وقوع الحمل في الرواية لا يشترط الوقوف على رواية مفردة للراوي تخالف روايته المقرونة، إذا قامت قرينة أخرى، كشهرة هذه الرواية عن راو واحد، فإذا جاءت عن غيره في رواية مقرونة أمكن ترجيح وقوع الحمل حينئذ.

مثال ذلك الحديث الماضي في المبحث المشار إليه آنفا، وهو حديث أنس:«كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة» ، وهو من رواية جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس، مشهور عن جرير، خطأه النقاده فيه، وقد خالفه شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، فروياه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلا.

وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن عمرو بن عاصم، عن جرير، وهمام، عن قتادة عن أنس.

فرواية همام هذه لا تصلح أن تكون عاضدة لرواية جرير، لكونها وردت مقرونة معها، فلا بعد أن تكون محمولة عليها، يقال هذا وإن لم يوقف على رواية عن همام مفردة توافق رواية الجماعة، وذلك لشهرة الحديث الموصول عن جرير بن حازم، وأنه كان يخطئ فيه.

وروى أبو داود الطيالسي، عن أبي الأشهب جعفر بن حيان، وجرير بن حازم، وحماد بن نجيح، وسلم بن زرير، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين، وابن عباس، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظرت في الجنة فإذا أكثر أهلها الفقراء

» الحديث.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذه الرواية فخطأها، وعلل ذلك بأن بعض

ص: 41

أصحاب أبي رجاء رووه عنه، عن عمران وبعضهم رووه عنه، عن ابن عباس، قال أبو حاتم:«ولا أعلم واحدا منهم يجمع عن أبي رجاء بين ابن عباس، وعمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

ثم ذكر ابن أبي حاتم أن أبا الأشهب، وحماد بن نجيح، وصخر بن جويرية يروونه عن أبي رجاء، عن ابن عباس

(1)

، وأن سلم بن زرير يرويه عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين

(2)

، وزاد ابن أبي حاتم رواة له على كل وجه.

قال ابن أبي حاتم: «وأما جرير بن حازم فلا أدري كيف يروي، فإنه لم يقع عندنا»

(3)

.

وكذا قال الخطيب: «كذا روى أبو داود الطيالسي هذا الحديث، وخلط في جمعه بين رواية هؤلاء الخمسة» ، إلى أن قال: «وأما جرير بن حازم فلا نعلم كيف كان يرويه، لأنه لم يقع إلينا حديثه إلا من رواية أبي داود هذه، مجموعا مع رواية غيره، والحديث عند أبي رجاء، عن ابن عباس، وعن عمران جميعا، إلا أنا لا نعلم أحدا اجتمعت له الروايتان عن أبي رجاء غير أيوب السختياني، فرواه أيضا عن

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2737) ، و «سنن النسائي الكبرى» (9263 - 9264)، و «مسند أحمد» 1:234.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (3241) ، (6449)، و «مسند أحمد» 4:429.

وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» 4: 282، من طريق سلم بن زرير، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، وعمران بن حصين، ثم أشار البخاري إلى علتها.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 398.

ص: 42

أبي رجاء عن عمران بن حصين»

(1)

.

والشاهد هنا أن عدم الوقوف على رواية لجرير تخالف ما رواه عنه أبو داود، لا يمنع من تخطئه أبي داود فيها، وأنه حملها على رواية غيره، كما حمل رواية غيره على روايته، فجمع بين الصحابين، وقرينة ذلك أنه ظهر غلط أبي داود في الأربعة الآخرين.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل» الكلام في جماعة من الرواة عرفوا بحمل روايات شيوخهم بعضها على بعض، وبينها اختلاف، والنقاد يعدون ذلك خللا في حفظهم تكلموا فيهم بسببه

(2)

، وليس هذا الصنيع مقتصرا على هؤلاء، فهو كثير الوقوع من الرواة.

و‌

‌لكثرة وقوع الحمل من الرواة شدد المحدثون في الاكتفاء بذكر اسم أحد المقرونين في الإسناد، وحذف الآخر، خاصة إذا كان المسقط ضعيفا

، وذلك لاحتمال أن يكون الراوي عنهما قد دمج روايتيهما، وبينهما اختلاف، وعقد الخطيب في «الكفاية» بابا لذلك، وروى بإسناده عن حرب بن إسماعيل، عن

(1)

«الفصل للوصل» 2: 814، وقول الخطيب إن أيوب اجتمعت له الروايتان فيه شيء، فالرواية عنه بجعله عن عمران ابن حصين معللة، انظر:«صحيح مسلم» حديث (2737)، و «سنن الترمذي» حديث (2602) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9260 - 9261)، و «مسند أحمد» 1: 359، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 398، 2: 105، و «الجعديات» حديث (3079 - 384) و «المعجم الكبير» حديث (12769).

(2)

«الجرح والتعديل» ص 118 - 120.

ص: 43

أحمد، أنه قيل له: فإذا كان الحديث عن ثابت، وأبان، عن أنس، يجوز أن أسمي ثابتا، وأترك أبانا، قال: «لا، لعل في حديث أبان شيئا ليس في حديث ثابت،

-وقال-: إن كان هكذا فأحب أن يسميهما»

(1)

.

قال الخطيب بعد أن ضرب مثالا لهذا: «ولا يستحب للطالب أن يسقط المجروح، ويجعل الحديث عن الثقة وحده، خوفا من أن يكون في حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة، وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر، أو حمله عليه»

(2)

.

وقال ابن رجب بعد أن ذكر عن أحمد أن هذا لا يجوز فعله: «وهو كما قال، فإنه ربما كان سياق الحديث للضعيف، وحديث الآخر محمول عليه»

(3)

.

ومع هذا التشديد فقد وقع من الرواة إفراد إحدى الروايتين، وتكون هذه الرواية المفردة في الأصل محمولة على غيرها، ومثاله أن سفيان بن عيينة يروي عن ابن أبي نجيح، وليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي معمر عبدالله بن سخبرة، عن علي حديث (القيام للجنازة)، هكذا يرويه سفيان بن عيينة، يحمل رواية ابن أبي نجيح، على رواية ليث بن أبي سليم، ورواية ابن أبي نجيح في الأصل ليس فيها أبو معمر، فهي عن مجاهد، عن علي.

(1)

«الكفاية» ص 378، والنص في «مسائل حرب» ص 469، وفيه تحريف.

(2)

«الكفاية» ص 378.

(3)

«شرح علل الترمذي» 2: 864.

ص: 44

قال الحميدي بعد أن ساق رواية ليث مفردة، وفيها أبو معمر:«وكان سفيان ربما حدثنا به عن ابن أبي نجيح، وليث، عن أبي معمر، فإذا وقفناه عليه لم يدخل في حديث ابن أبي نجيح: أبا معمر»

(1)

.

قال ابن رجب: «وقد رواه ابن المديني وغيره عن ابن عيينة بهذين الإسنادين» -يعني الموصول والمنقطع-.

ثم قال ابن رجب: «وقد رواه ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح وحده، وذكر في إسناده [أبا معمر]، وهو وهم»

(2)

.

وممن أفرد رواية ابن أبي نجيح، وذكر فيها أبا معمر: محمد بن منصور، رواه عنه النسائي

(3)

، فإما أن يكون الإفراد منه، أو من النسائي، حذف ليث بن أبي سليم لضعفه.

والحديث مشهور عن ليث بن أبي سليم، بذكر أبي معمر، رواه أيضا جماعة عن ليث، منهم الثوري، وزائدة بن قدامة، وغيرهما

(4)

.

وروى سفيان الثوري وغيره، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو

(1)

«مسند الحميدي» حديث (50 - 51).

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 866، ووقع في النسخة: «

وذكر في إسناده مجاهدا، وهو وهم» وهذا خطأ، فالكلام في ذكر أبي معمر وحذفه، ورواية ابن أبي شيبة في «المصنف» 3:358.

(3)

«سنن النسائي» حديث (1922).

(4)

«مسند أحمد» 1: 141، 4: 413، و «مسند الطيالسي» حديث (157)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6311)، و «مصنف أبي شيبة» 3: 357، و «مسند أبي يعلى» حديث (266).

ص: 45

بن بجدان، عن أبي ذر مرفوعا: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين

» الحديث

(1)

.

ورواه جماعة منهم الثوري أيضا عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر، وقال بعضهم: رجل من بني قشير

(2)

.

ورواه عبدالحميد بن محمد، وأحمد بن بكار، وأبو جعفر النفيلي، وعمرو بن هشام -فيما حدث به عنه أبو عروبة الحراني-، وإبراهيم بن يوسف، وغيرهما، رووه عن مخلد بن يزيد، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، وأيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر

(3)

.

هكذا صنع مخلد بن يزيد، قال الدارقطني:«أحسبه حمل حديث أيوب على حديث خالد، لأن أيوب يرويه، عن أبي قلابة، عن رجل لم يسمه عن أبي ذر»

(4)

، وكذا قال الخطيب

(5)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (332)، و «سنن الترمذي» حديث (124)، و «مسند أحمد» 5: 155، 180، و «صحيح ابن حبان» حديث (1312).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (333)، و «مسند أحمد» 5: 146، 155، و «مسند الطيالسي» حديث (486)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (912)، و «علل الدارقطني» 2:252.

(3)

«صحيح ابن حبان» حديث (1310)، و «سنن الدارقطني» 1: 186، و «علل الدارقطني» 6: 253، و «سنن البيهقي» 1: 212، و «الفصل للوصل» 2:863.

(4)

«علل الدارقطني» 6: 253.

(5)

«الفصل للوصل» 2: 864.

ص: 46

وإلى هنا والأمر لا إشكال فيه، لكن رواه النسائي، عن عمرو بن هشام، عن مخلد بن يزيد، عن سفيان الثوري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر

(1)

، هكذا أفرد رواية الثوري، عن أيوب، وسمى فيها شيخ أبي قلابة، فإما أن يكون هذا من النسائي وإما أن يكون من عمرو بن هشام أفرده حين حدث به النسائي، فقد رواه جماعة -كما تقدم آنفا- عن عمرو بن هشام وجمع فيه بين أيوب، وخالد الحذاء.

والخلاصة أن الباحث حين نظره في الروايات عليه أن يدقق في الروايات المقرونة، إذ يحتمل أن يكون وقع فيها حمل لرواية على أخرى في المتن أو الإسناد، وإنما يعرف ذلك إذا وجد بعضها مفردا، ورأى أن الرواية المفردة فيها مخالفة للرواية نفسها وهي مقرونة، والأصل ترجيح الرواية المفردة على الرواية المقرونة، وهذا هو بيت القصيد هنا.

وعليه أيضا -من جهة ثانية- أن يدقق في الروايات المفردة متى ما ارتاب فيها، فيحتمل أيضا أن تكون أفردت من رواية مقرونة وقع فيها الحمل.

وأنا أدرك أن هذه القضايا من دقائق نقد الأسانيد، ولكن لا أرى مناصا عن التعرض لها وشرحها فهي تعرض -ولا بد- لمن يمارس النقد، وقد رأيت خللا في الالتفات لهذه القضية من قبل بعض الباحثين.

فمن ذلك حديث ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في المشي أمام

(1)

«سنن النسائي» حديث (321).

ص: 47

الجنازة، الماضي قريبا، ذهب أحد المشايخ الفضلاء يصحح رواية ابن عيينة، ويعضدها بروايات أخرى، ومنها رواية همام بن يحيى، عن منصور بن المعتمر، وزياد بن سعد، وبكر بن وائل، قرنها همام بروايته عن سفيان بن عيينة، ولم يعرج المصحح إلى قضية حمل الروايات بعضها على بعض، وشيوعه عند الرواة، خاصة في المتون، وقد أوضحت دليل الحمل هنا فيما في سبق، وانتهى الشيخ إلى تصحيح الموصول والمرسل عن الزهري، وأنه هو الذي يفعل هذا وهذا، يعني بحسب النشاط، ونقل هذه النتيجة عن الشيخ باحث آخر، واصفا لها بأنها كلام جيد.

وهذا النتيجة فوق أنها مخالفة لقواعد النقد فهي أيضا مخالفة لإجماع أئمة الحديث على ترجيح المرسل وتوهيم ابن عيينة، كما تقدم نقله عنهم.

وكذلك حديث علي في (القيام للجنازة) الماضي آنفا، توارد على تصحيحه جمع كثير من الباحثين، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر عبدالله بن سخبرة، عن علي، الذي رواه ابن أبي شيبة ومحمد بن منصور، عن سفيان، وجعلوه عاضدا لرواية ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، ولم يلتفتوا لكلام الحميدي، ورواية ابن المديني، بل لم يعرجوا عليهما أصلا.

وفوق ذلك أن أحد الباحثين وهو يعلق على كلام الحميدي ذكر رواية محمد بن منصور عند النسائي، ثم قال:«وهذا يرد ما زعم الحميدي من أن سفيان كان لا يدخل في حديث ابن أبي نجيح: أبا معمر» ، كذا قال الباحث.

وروى عبدالرزاق من رواية الجماعة -وفيهم أحمد، ومحمد بن يحيى الذهلي-

ص: 48

عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة

» الحديث

(1)

.

ورواه مالك، وسفيان بن عيينة، وإسماعيل بن أمية، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، مرسلا ليس فيه أبو سعيد

(2)

.

وكذلك رواه سفيان الثوري، عن زيد، من رواية يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، ومحمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، ورواه عبدالرزاق عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن زيد، قال: حدثني الثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وقد توارد أئمة النقد على تخطئة الوجه الموصول الذي يرويه معمر

(4)

.

وتعرض أحد المشايخ لطرق هذا الحديث، فذهب إلى تصحيح الموصول

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (7151) ، و «سنن أبي داود» حديث (1636)، و «مسند أحمد» 3: 56، والمستدرك» 1: 107، و «سنن البيهقي» 7: 22، و «التمهيد» 5:96.

(2)

«موطأ مالك» 1: 266، و «مصنف ابن أبي شيبة» 3: 210، و «تفسير ابن جرير» 10: 114، و «تهذيب الآثار» (الجزء المفقود) ص 414.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1636) ، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (7152) ، و «الأموال» لأبي عبيد حديث (1729)، (1984) ، و «الأموال» لابن زنجويه حديث (2057)، و «علل الدارقطني» 11:271.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (1636)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 221، و «علل الدارقطني» 11:270.

ص: 49

من رواية معمر، ومما احتج به لذلك أنه قد رواه أبو الأزهر السليطي، عن عبدالرزاق، عن معمر، والثوري، عن زيد بن أسلم، وقد رواه كذلك عن عبدالرزاق، محمد بن سهل بن عسكر في بعض الطرق إليه

(1)

، فجعل الشيخ سفيان الثوري متابعا لمعمر على وصل الحديث بذكر أبي سعيد.

ولا يخفى ما في هذا التقرير، فإن رواية عبدالرزاق عن الثوري هذه جاء فيها سفيان مقرونا مع معمر، ومعمر هو الذي يذكر أبا سعيد، وأما الثوري فيقول: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، هكذا يرويه عبدالرزاق في الرواية المفردة، مع أنه قد خالف الجماعة عن سفيان في زيادة: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم حفاظ ثقات مقدمون في سفيان الثوري.

وروى شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهمام بن يحيى، ومعمر، وسلام بن مسكين، وهشام الدستوائي -في رواية يزيد بن زريع، ومسلم بن إبراهيم، ووهب بن جرير- عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ريطتين وبرد أحمر»

(2)

.

ورواه عمران القطان، وهشام الدستوائي -في رواية محمد بن كثير،

(1)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (2374) و «سنن الدارقطني» 2: 121، و «علل الدارقطني» 11: 271، و «سنن البيهقي» 7:15.

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (6165)، و «طبقات بن سعد» 2: 284، و «كشف الأستار» حديث (812).

ص: 50

وأبي داود الطيالسي- عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة

(1)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، فبدأ أولا بالنظر في الاختلاف على هشام الدستوائي، ورجح الإرسال عنه، لكونه من رواية الأكثر والأحفظ، ولا إشكال في ذلك، لكنه ذكر أن رواية الوصل عن هشام قوية، لاجتماع محمد بن كثير، وأبي داود الطيالسي عليها، كذا حرره الباحث، وأبعد النجعة جدا، فالوصل عنه ضعيف، فرواية أبي داود الطيالسي تفرد بها أحمد بن عبدالله المنجوفي وهو صدوق، عن أبي داود، وفوق ذلك -وهو موضع الشاهد هنا- أنها جاءت مقرونة مع رواية عمران القطان، فلا بعد -إن صحت الرواية عن أبي داود- أن يكون قد حملها على رواية عمران القطان، ويحتمل أن يكون ذلك من المنجوفي الراوي عنه.

ولتقريب مسألة حمل بعض الروايات على رواية أخرى أذكر بمسألة شبيهة بها تقدمت في الفصل الثاني من الباب الأول، وهي مسألة عطف إسناد أو أكثر على إسناد آخر، فللعطف مشكلات تقدم الحديث عنها هناك، يهمنا منها هنا أن العطف يقع فيه تجوز وتسامح في صفته، فيعطف إسناد موصول -مثلا- على إسناد مرسل، فالناظر لأول وهلة يظن أن الإسنادين جميعا موصولان، وهكذا في الرفع والوقف.

(1)

«كشف الأستار» حديث (812) ، و «صحيح ابن حبان» حديث (6630)، و «علل الدارقطني» 7:306.

ص: 51

وقد تقدم لهذا أمثلة هناك، وأذكر الآن مثالا آخر، فقد روى إبراهيم بن الحجاج، وأبو سلمة التبوذكي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وحميد الطويل، عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى حبلا ممدودا بين ساريتين

»

(1)

.

قال الخطيب بعد أن أخرجه من طريق أبي سلمة: «ربما ظن من لم يمعن النظر أن حمادا روى هذا الحديث عن ثابت البناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وحميد الطويل، كليهما، عن أنس بن مالك، وليس الأمر كذلك، إنما رواه حماد، عن ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ورواه حماد أيضا عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

ثم أخرجه من طريق أحمد، عن عبدالرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، بالتفصيل الذي ذكره

(2)

، وقد رواه أحمد أيضا عن عفان، عن حماد بن سلمة كذلك

(3)

.

وفي مثل هذا يقع أيضا سوق الروايتين مساقا واحدا، وربما جرى إفراد الرواية المرسلة وسوقها موصولة، ظنا ممن فعل ذلك أنها موصولة في الأصل، فمن ذلك أن جماعة من أصحاب سفيان بن عيينة، منهم أحمد، وسعيد بن منصور، وغيرهما، رووا عنه، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وابن جريج، عن عطاء، عن

(1)

«مسند أبي يعلى» حديث (3831)، و «الفصل للوصل» 2: 858، و «الأسماء المبهمة» ص 410.

(2)

«الفصل للوصل» 2: 858، و «الأسماء المبهمة» ص 410، و «مسند أحمد» 3:184.

(3)

«مسند أحمد» 3: 256.

ص: 52

ابن عباس قال: «أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء

» الحديث

(1)

.

فهذا الحديث ظاهره أن رواية عطاء من كلا الطريقين -عمرو بن دينار، وابن جريج- فيها ابن عباس، لكن هذا الظاهر غير مراد، فرواية عمرو بن دينار، عن عطاء مرسلة، بين ذلك جماعة من أصحاب سفيان، فميزوا الموصول من المرسل، منهم علي بن المديني، والحميدي، وغيرهما، ونص الحميدي على أن سفيان يرويه بالصورة الموهمة لوصل رواية عمرو بن دينار بالعنعنة -يعني يتسامح في ذلك- فإذا قال: حدثنا، وسمعت، ميَّز المرسل من الموصول

(2)

.

ومشى على ظاهر الرواية جماعة من أصحاب ابن عيينة، أو من بعدهم، فساقوا الروايتين وفيهما جميعا ذكر ابن عباس، فيقولون: عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وربما قدم بعضهم رواية ابن جريج، وعطف عليها رواية عمرو.

ورواه آخرون فأفردوا رواية عمرو بن دينار، وذكروا فيها ابن عباس، وهؤلاء وهمهم أشد كما قال الإسماعيلي

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 221، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (342)، و «المعجم الكبير» حديث (11391).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (7239)، و «مسند الحميدي» حديث (492)، و «تحفة الأشراف» 5: 87، 96.

(3)

«سنن النسائي» حديث (531)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (1513)، و «سنن الدارمي» حديث (1218)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (342)، و «صحيح ابن حبان» حديث (1534)،

و«فتح الباري» 13: 229، والنسائي يرويه في الكتابين عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، وفيهما ذكر ابن عباس في رواية عمرو، كرواية ابن جريج، لكن ذكر المزي في «التحفة» 5: 87، 96، وابن حجر في «فتح الباري» 13: 229، أن رواية النسائي عن محمد بن منصور على التفصيل، كرواية ابن المديني، والحميدي، ومن معهما.

ص: 53

وروى الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فحملت فيها على بكر -وكان أوثق عملي في نفسي- فاستأجرت أجيرا، فقاتل رجلا

» الحديث.

ثم رواه الحميدي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء: «أن أجيرا ليعلى

» مرسلا.

قال الحميدي: «وكان سفيان ربما ضمهما فأدرج فيه الإسناد، وإذا فصلهما جعل حديث ابن جريج مسندا، وجعل حديث عمرو مرسلا»

(1)

.

وأخرجه النسائي عن عبدالجبار بن العلاء، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، ثم ذكر النسائي أن عبدالجبار بن العلاء حدثهم مرة أخرى عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن صفوان، عن يعلى، وابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى.

هكذا رواه عبدالجبار، جعل رواية سفيان، عن عمرو بن دينار مسندة،

(1)

«مسند الحميدي» حديث (788 - 789).

ص: 54

وساقها كذلك مع رواية ابن جريج، ثم أفردها مرة أخرى مسندة كذلك، وهي في الأصل مرسلة معطوفة، فيتوهم أنها مسنده كرواية بن جريج، وصفة العطف الموهم أن يقول سفيان: حدثنا عمرو بن دينار، عن عطاء، وابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى، فيوهم هذا السياق أن رواية عمرو هي عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى، وليست كذلك.

وقد قال يعقوب بن شيبة: «كان سفيان بن عيينة، ربما يحدث بالحديث عن اثنين، فيسند الكلام عن أحدهما، فإذا حدث به عن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله»

(1)

.

ولعل سفيان بن عيينة أخذ هذه الطريقة من شيخه الزهري، فإنه يفعل ذلك أيضا، فيقع الاشتباه

(2)

.

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 866.

(2)

انظر مثلا: «صحيح البخاري: حديث (137)، (177)، (2056)، و «صحيح مسلم» حديث (361)، و «سنن أبي داود» حديث (176)، و «سنن النسائي» حديث (160)، و «سنن ابن ماجه» حديث (513)، و «مسند أحمد» 4: 39، 40، و «مسند الحميدي» حديث (413).

وانظر أمثلة أخرى لأحاديث وقع فيها بسبب العطف وصل رواية هي في الأصل مرسلة، أو رفع رواية هي في الأصل موقوفة، وربما جرى إفرادها بعد الوصل أو الرفع، فيشد غموضها في «كشف الأستار» حديث (628)، و «أسئلة البرذعي لأبي زرعة» 2: 298 - 299، و «علل ابن أبي حاتم» (574)، (730)، (874) ، (923)، و «الضعفاء الكبير» 4: 412، و «علل الأحاديث في صحيح مسلم» ص 107، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 296، و «تحفة الأشراف» 2: 186، 187.

وبتتبع هذه الأمثلة وغيرها في مصادرها يظهر بعد كثير من الباحثين عن إدراك مثل هذه القضايا حين تعرضهم لدراسة الإسناد والحكم على الحديث، ولولا خشية الإطالة لذكرت شيئا من هذا.

ص: 55

ومثل ما يقال في عطف الأسانيد، يقال كذلك في سوق الأسانيد باستخدام طريقة التحويل، وكذلك تعليق الأسانيد وسردها مجتمعة، كما تقدم شرحه أيضا في الفصل الثالث من الباب الأول، فالأسانيد تساق مجتمعة، وقد يكون بينها اختلاف في الإسناد أو المتن، لم ينبه عليه من فعل ذلك، لأنه ليس من غرضه في هذا الموضع.

ويلتحق بهذا أيضا ما يعرف بالإحالة، وهي أن يسوق الراوي حديثا بإسناده، ثم يسوق إسنادا آخر يقف به عند صحابي الحديث، أو عند راو هو مدار الحديث، ولا يسوق ما بعده، ويقول: مثله أو نحوه

(1)

.

كل هذه الأساليب موجودة بكثرة في كتب السنة، كما في «الصحيحين» وغيرهما، ألجأهم إليها الاختصار، والبعد عن التطويل.

والذي أختم به هذه القرينة هو التأكيد على معناها ومضمونها، وهو أن الرواية إذا جاءت مفصلة عن راو معين، ثم جاءت عنه رواية أخرى مجملة، بخلاف الرواية المفصلة، فالأصل ترجيح الرواية المفصلة وتقديمها على الأخرى، مع التأكيد أيضا على أن بعض الروايات المفصلة والمفردة مأخوذة خطأ من روايات مجملة.

(1)

ينظر مثالا على ذلك: «صحيح البخاري» حديث (1940)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (411) ، (4296 - 4297) ، وفي هذا المثال يحتمل أن يكون الطحاوي تجوز فحمل رواية أحد شيخيه على رواية الآخر، ويحتمل أن يكون تجوز حين أحال إسناد حديث ومتنه على حديث قبله.

ص: 56

والبحث عن صفة كل رواية على وجه الدقة من القضايا الدقيقة في التعامل مع الأسانيد حين اختلافها، وبها وبأمثالها يمكن للباحث أن يشبع نهمه في البحث عن الصواب والوصول إليه أو الاقتراب منه -بتوفيق الله تعالى-، وبتطبيقها يتميز الباحث المتخصص من غيره، بل بها يتميز الباحثون المتخصصون فيما بينهم صبرا وأناة وفهما لقواعد هذا العلم، وما يقوله أئمة النقد.

وفوق ذلك بها وبأمثالها ندرك ما بذله أئمة النقد من جهود جبارة لا يقدر قدرها في نقد الأسانيد وفحص المرويات، وفيما نحن فيه يمكن للقارئ أن ينظر في حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته

» الحديث، وما جرى فيه للرواة من إدراج، وحمل، وإفراد مخطئ، وما بذله النقاد في تمييز ذلك من جهود

(1)

.

وجانب آخر يتعلق بإدراك الباحث لصنيع النقاد والمؤلفين، واضطرارهم أحيانا إلى سوق عدد من الروايات مجتمعة لغرض ما، وربما كان بينها اختلاف في جهة أخرى في الإسناد أو المتن لم ينبه عليه الناقد أو المؤلف، فإن الباحث إذا أدرك هذا لم يحتج إلى تعقبهم، ولم ينسبهم إلى الخطأ، فهم يفعلون هذا وهم مدركون له، ولكن لا مفر من فعلهم هذا، وإلا لطالت الكتب جدا، وحال هذا دون العناية بها، ووصولها إلى من بعدهم، ومن يريد أن يحتج برواية منها في غير ما أوردها الناقد لأجله لزمه أن يبحث عنها مفردة.

(1)

انظر: «الفصل للوصل» حديث (26)، (45).

ص: 57

أخرج البخاري من طريق جرير بن عبدالحميد، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر الحديث الطويل في قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج معه عشاء، وفيه عدة جمل، ثم أردفه بقوله:«قال النضر: أخبرنا شعبة، وحدثنا حبيب بن أبي ثابت، والأعمش، وعبدالعزيز بن رفيع، حدثنا زيد بن وهب بهذا»

(1)

.

فتعقبه الإسماعيلي متعجبا من هذا الإطلاق، فإن حديث شعبة ببعض الحديث وليس بجميعه.

قال ابن حجر مجيبا عن البخاري: «تبع الإسماعيلي على اعتراضه المذكور جماعة، منهم مغلطاي ومن بعده، والجواب عن البخاري واضح على طريقة أهل الحديث، لأن مراده أصل الحديث، فإن الحديث المذكور في الأصل قد اشتمل على ثلاثة أشياء، فيجوز إطلاق الحديث على كل واحد من الثلاثة إذا أريد

(2)

بقول البخاري: بهذا، أي بأصل الحديث لا خصوص اللفظ المساق

»

(3)

، ثم بين ابن حجر أن غرض البخاري بيان اتفاق هؤلاء الرواة عن زيد بن وهب على أن الحديث عنه، عن أبي ذر، وليس عن أبي الدرداء كما جاء في بعض الروايات.

وذكر عبدالحق الإشبيلي من حديث مالك، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن جابر:«من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا وراء الإمام» ، ثم

(1)

«صحيح البخاري» حديث (6443).

(2)

كذا في النسخة، ولعل الصواب: فالمراد.

(3)

«فتح الباري» 11: 263.

ص: 58

قال: «رواه يحيى بن سلام، عن مالك، بهذا الإسناد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرد برفعه، ولم يتابع عليه، ورواه أصحاب الموطأ موقوفا على جابر، وهو الصحيح» .

فتعقبه ابن القطان بكلام خشن، أدرج فيه تعقبه لعدد من الأئمة، بما يدل على أنه لم يتمعن طريقتهم، فأغلظ القول عليهم، وأنقل نصه للعبرة، وليتجنب الباحث الوقوع في مثل ما وقع فيه، فمن أهم صفات الباحث في أي فن إدراكه لطريقة أئمة هذا الفن، وما اصطلحوا عليه، لئلا يقع في التنبيه على ما هو بدهي لا يحتاج إلى تنبيه، أو التعقب والاستدراك في غير محله.

قال ابن القطان متعقبا عبدالحق: «الخطأ فيه بين، إلا أنه لما لم يعزه، جوّزنا أن يكون قد وجده كما قال، ويغلب على الظن أنه إنما اتبع فيما قال أبا عمر بن عبدالبر، فإنه الذي ذكر حديث مالك هذا، ثم أتبعه أن قال: رواه يحيى بن سلام، صاحب التفسير، عن مالك، عن أبي نعيم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصوابه موقوف كما في الموطأ.

هكذا قال أبو عمر، وهو خطأ، وكذلك أيضا فعل فيه الدارقطني، وهو غلط، فإن الذي روى يحيى بن سلام مرفوعا، ليس هكذا، وإنما هو:«من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلم يصل إلا وراء الإمام» .

وفرق عظيم بين اللفظين، فإن حديث مالك يقضي إيجاب قراءة الفاتحة في كل ركعة، فأما حديث يحيى بن سلام عنه، فيمكن أن يتقاصر عن هذا المعنى بأن يقال: إنما فيه إيجابها في الصلاة ويتفصَّى عن عهدته بالمرة الواحدة.

ص: 59

وسنورد رواية يحيى بن سلام بنصها في باب ما أغفل نسبته من الأحاديث إلى المواضع التي نقلها منها.

وههنا أيضا أمر آخر لغير ابن عبدالبر، والدارقطني، يجب التنبيه عليه، وهو أن أبا عبدالله بن البيع الحاكم، ذكر في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل طبقة من المجروحين: رابعة وهم قوم رفعوا أحاديث إنما هي موقوفة.

ثم قال في الباب: ويحيى بن سلام المصري، روى عن مالك، عن وهب ابن كيسان، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» .

وهو في الموطأ لمالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قوله، انتهى كلامه.

وهو أيضا خطأ، فإنه ليس في الموطأ هكذا، ولا رواه يحيى بن سلام هكذا.

وذلك أن هذا اللفظ لم يعرض فيه لأم القرآن بتعيين، لا في كل الصلاة ولا في ركعة منها.

وهؤلاء إنما يؤتون من قلة الفقه، فهم يسوون بين الألفاظ المتغايرة الدلالات وينبغي أن تسقط الثقة بمن هذه حاله»

(1)

.

وكل هؤلاء الأئمة لم يفتهم الفرق بين هذه الألفاظ، لكن غرضهم الرئيس هو قضية خطأ يحيى بن سلام في رفع هذا الحديث، وأما ما عداه من تفاصيل فإنما يؤخذ من الروايات المسندة لكل راو، وهذا بيت القصيد هنا.

(1)

«بيان الوهم والإيهام» 2: 241 - 243، وانظر أيضا: 2: 302 - 305.

ص: 60

‌القرينة الثانية: ذكر تفاصيل في المتن والإسناد تدل على الضبط:

ذكر تفاصيل في متن الحديث أو إسناده في رواية أحد الرواة المختلفين على شيخ لهم وإغفالها في رواية الآخر، يجعله النقاد دليلا على ترجيح رواية من ذكر التفاصيل، فحفظ الراوي لها يدل على اعتنائه بروايته وإتقانه وحفظه فهي زيادة عبء عليه، وترك الآخر لها يفيد عكس ذلك، فروايته مرجوحة إذن.

و‌

‌لهذه التفاصيل صور متعددة، مثل قصة في متن الحديث، أو في إسناده، أو كلمة لأحد رواة الإسناد، أو ورود اسم راو عرضا، إلى غير ذلك

.

ومبدأ الاستعانة بذكر بعض التفاصيل للدلالة على الحفظ والتثبت أمر مقرر معروف، استخدمه الصحابة بكثرة، فيقول الصحابي مثلا: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، أو على المنبر، أو وهو يفعل كذا، أو كنت إلى جنبه فقال كذا، فورود مثل هذه العبارات قصد بها في الأصل الإيحاء للسامع بقوة الاستحضار وعدم النسيان، وقد يزيد الراوي على ذلك بقوله: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، ونحو هذه العبارة.

ومن أقوال النقاد في تقرير هذه القرينة قول أحمد: «إذا كان في الحديث قصة، دل على أن راويه حفظه»

(1)

.

ومن أمثلة استخدام النقاد لهذه القرينة أن علي ابن المديني قال في كلامه على قيس بن أبي حازم ومن روى عنهم: «روى عن عمار، واختلفوا عن ابن أبي خالد

(1)

«هدي الساري» ص 363.

ص: 61

فيه، فقال بعضهم: عن ابن أبي خالد، عن يحيى بن عابس، قال عمار: ادفنوني في ثيابي، وقال بعضهم: إسماعيل، عن قيس، عن عمار: ادفنوني في ثيابي»

(1)

.

قال يحيى بن معين في كلامه على هذا الاختلاف: «حديث شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: قال عمار: ادفنوني في ثيابي، وإنما هو: إسماعيل، قال: سمعت يحيى بن عابس يحدث في مجلس قيس»

(2)

.

وروى سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب، قال: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه نظر إلى امرأة مقتولة

» الحديث

(3)

.

سئل أبو حاتم وأبو زرعة عن هذا فقالا: «هذا خطأ، يقال: إنه من وهم الثوري، إنما هو: المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن الربيع -أخي حنظلة-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كذا يرويه مغيرة بن عبدالرحمن، وزياد بن سعد، وعبدالرحمن بن أبي الزناد» ، قال أبو حاتم:«والصحيح هذا»

(4)

.

وقد خطأ رواية الثوري أيضا جماعة آخرون من النقاد، منهم ابن أبي شيبة،

(1)

«علل ابن المديني» ص 59.

(2)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 33.

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (8627)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2842)، و «مسند أحمد» 4:178.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 305، ورواية مغيرة بن عبدالرحمن أخرجها ابن ماجه حديث (2842)، وأحمد 3: 488، 4: 346، ورواية عبدالرحمن بن أبي الزناد أخرجها أحمد 3: 488، 4: 178، وقد رواه ابن جريج، عن أبي الزناد كذلك أخرجه أحمد 3: 488، 4: 346، وفيه قال ابن جريج: أخبرت عن أبي الزناد.

ص: 62

والبخاري، والترمذي، ولفظ الترمذي:«حديث سفيان هذا خطأ، إنما هو: عن المرقع، عن رباح بن الربيع -أخي حنظلة الكاتب-، هكذا رواه غير واحد عن ابن أبي الزناد»

(1)

.

وسبب توهيم الثوري ظاهر، فهو بالإضافة إلى مخالفته للجماعة عن أبي الزناد، في رواية الجماعة ما يدل على ضبطهم وهو قولهم: عن رباح (أو رياح) بن الربيع -أخي حنظلة الكاتب-، فانتقل حفظ الثوري إلى حنظلة نفسه، وفي كلام أبي حاتم، وأبي زرعة، والترمذي، إشارة إلى هذا.

وسئل أبو حاتم، وأبو زرعة عما رواه عبدالوارث بن سعيد، عن أيوب السختياني، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب» ، فقالا: «هذا خطأ، رواه شعبة، عن عبدالرحمن بن القاسم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن

»، قال شعبة: فقلت لعبدالرحمن بن القاسم: من حدثك؟ قال: أبو جعفر محمد بن علي، وهو الصحيح»

(2)

.

وروى سفيان بن عيينة، ومحمد بن سوقة -من رواية أسباط بن محمد- عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، قصة المرأة التي سألت عن حج الصبي

(3)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 3: 314، و «التاريخ الصغير» 1: 116، و «سنن ابن ماجه» حديث (2842)، و «العلل الكبير» 2:672.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 353، ورواية شعبة أخرجها ابن سعد في «الطبقات» 2: 283، 3:205.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (504)، و «تاريخ ابن أبي خيثمة» حديث (987)، و «معجم ابن الأعرابي» حديث (1321)، و «التمهيد» 1:100.

ص: 63

ورواه قزعة بن سويد، وعمارة المعولي، وإسماعيل بن مسلم، ويوسف بن محمد بن المنكدر، وكذا محمد بن سوقة -من رواية أبي معاوية الضرير، والقاسم بن غصن- عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقد رجح النقاد المرسل، ومما اعتمدوا عليه في ذلك نص ابن عيينة على أنه سمعه من محمد بن المنكدر مرسلا، فقيل لسفيان: إن محمدا سمعه من إبراهيم بن عقبة، فذهب سفيان إلى إبراهيم بن عقبة، فسمعه منه، وذكر له إبراهيم بن عقبة أنه حدث به ابن المنكدر.

وقد نص أبو حاتم في ترجيحه على هذا المرجح، فقال لما سئل عن رواية قزعة بن سويد، عن محمد بن المنكدر الموصولة:«قال ابن عيينة: قال إبراهيم بن عقبة: أنا حدثت ابن المنكدر، عن كريب، عن ابن عباس هذا الحديث»

(2)

.

ولفظ ابن عيينة بتمامه بعد أن رواه عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس:«وكان ابن المنكدر حدثناه أولا مرسلا، فقيل لي: إنما سمعه من إبراهيم -يعني ابن عقبة- فأتيت إبراهيم، فسألته عنه فحدثني به وقال: حدثت به ابن المنكدر فحج بأهله كلهم»

(3)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (92)، (926)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2910)، و «معجم ابن الأعرابي» حديث (1923)، و «العيال» حديث (644)، و «المعجم الأوسط» حديث (759)، (1257)، و «أخبار أصبهان» 2:18.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 293.

(3)

«مسند الحميدي» حديث (504).

ص: 64

والخلاصة أن قول سفيان هذا يدل على ضبطه للحديث وإتقانه، وأن الحديث لا يرويه ابن المنكدر عن جابر، فمصدره عنده إبراهيم بن عقبة، فكان ابن المنكدر يرسله، ولا يذكر إسناده، ولعل ذلك لكونه أكبر من إبراهيم بن عقبة سنا.

وروى جرير بن عبدالحميد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه -أو عن ابن أبي سعيد الخدري- عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في التثاؤب، وفي بعض المصادر: عن سهيل، عن أبيه، وعن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه -بواو العطف-

(1)

.

ورواه محمد بن خوط، وعبدالله بن عمر العمري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة

(2)

.

وقد رواه جماعة كثيرون عن سهيل فقالوا: عن ابن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد، منهم سفيان الثوري، وبشر بن المفضل، والدراوردي، ومعمر، وسليمان بن بلال، وزهير بن معاوية، وغيرهم، ومنهم من سماه: عبدالرحمن

(3)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2995)، و «مسند أبي يعلى» حديث (1162)، و «صحيح ابن حبان» حديث (2360).

(2)

«التاريخ الكبير» 1: 75، و «مسند أبي يعلى» حديث (6679)، و «الكامل» 4:1461.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2995)، و «سنن أبي داود» حديث (5026 - 5027)، و «مسند أحمد» 3: 37، 93، 96، و «الأدب المفرد» حديث» (952) ، (954)، و «سنن الدارمي» حديث (1389)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (919).

ص: 65

ورواية جرير أخرجها مسلم لكنه أشار إلى علتها، فأخرج قبلها رواية بشر بن المفضل، والدراوردي، والثوري، وفي رواية بشر قوله: حدثنا سهيل بن أبي صالح، قال: سمعت ابنا لأبي سعيد الخدري يحدِّث أبي، عن أبيه

ففي رواية بشر هذه مزيد ضبط، وبيان لسبب وهم جرير بن عبدالحميد أو تردده.

وأما من رواه عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، فهو أشد وهما، حيث قلب الإسناد كله.

ومثل هذا سواء بسواء ما رواه أبو خالد الأحمر، عن الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، ومسلم البطين، وسلمة بن كهيل، عن عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد، عن ابن عباس: «أن امرأة زعمت أن أختها ماتت وعليها صوم

» الحديث

(1)

.

ورواه عبدالرحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعن سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عباس، وعن الحكم بن عتيبة، عن عطاء، عن ابن عباس

(2)

.

ورواه الثوري، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وزائدة بن قدامة،

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1953)، و «صحيح مسلم» حديث (1148)، و «سنن الترمذي» حديث (716 - 717)، و «سنن النسائي الكبرى (2914)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1758)، وليس في رواية الترمذي الحكم بن عتيبة.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2915).

ص: 66

وأبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس

(1)

.

قال الدارقطني متعقبا الشيخين في تخريجهما رواية أبي خالد الأحمر، موصولة عند مسلم، ومعلقة بصيغة التمريض عند البخاري:«وبين زائدة في روايته من أين دخل الوهم على أبي خالد، فقال في آخر الحديث: فقال سلمة بن كهيل، والحكم -وكانا عند مسلم حين حدث بهذا الحديث-: ونحن سمعناه من مجاهد، عن ابن عباس»

(2)

.

وأجاب ابن حجر عن تخريج الشيخين لها بقوله: «لا يلحق الشيخين في ذكرهما لطريق أبي خالد لوم، لأن البخاري علقه بصيغة تشير إلى وهمه فيه، وأما مسلم فأخرجه مقتصرا على إسناده دون سياق متنه»

(3)

.

والأمر كما قال ابن حجر، فإنهما أخرجاها لبيان علتها، وقد ساقا جميعا قبيلها رواية زائدة بن قدامة

(4)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1953)، و «صحيح مسلم» حديث (1148)، و «سنن أبي داود» حديث (3310)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2921 - 2913)، و «مسند أحمد» 1: 244، 227، 258، 338، 362.

(2)

«التتبع» ص 503.

(3)

«هدي الساري» ص 359.

(4)

ولا يشكل على هذا ما نقله الترمذي حديث (717)، عن البخاري: قال: «جَوَّد أبو خالد الأحمر هذا الحديث عن الأعمش، وقد روى غير أبي خالد، عن الأعمش، مثل رواية أبي خالد» ، ذلك أن البخاري يتحدث هنا عن متن الحديث، ففيه اختلاف على الأعمش، ذكره البخاري في «صحيحه» حديث (1953)، وذكر من وافق أبا خالد على روايته.

ص: 67

وفي رواية موسى بن أعين نحو رواية زائدة، إلا أنه لم يذكر مجاهدا، ولفظها:«قال سليمان (يعني الأعمش): وحدثنيه سلمة بن كهيل، والحكم، بمثل ذلك عن ابن عباس»

(1)

.

ومن دقائق هذه القرينة أن يخالف راو في إسناد الحديث أو متنه، ثم يوجد عنده أو عند شيخه أو من فوقه هذا الإسناد أو المتن في حديث آخر، فيترجح أنه لم يضبط، وأن تلك المخالفة انتقلت إليه من ذلك الحديث، خاصة إذا كان بين الحديثين شبه في جهة ما.

ومن أمثلة ذلك أن مسلما روى من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه

» الحديث، وفي آخره:«ثم غسل رجليه» .

ثم رواه من طريق جرير بن عبدالحميد، وعلي بن مسهر، وعبدالله بن نمير، ووكيع، عن هشام بن عروة، ونص مسلم على أنه ليس في حديثهم ذكر غسل الرجلين.

ثم أخرج مسلم من طريق عيسى بن يونس، ووكيع، وأبي معاوية، عن

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2916)، وانظر أمثلة أخرى للترجيح بهذه القرينة في:«علل ابن أبي حاتم (26) ،» (1034) ، (1042)، (1668) و «علل الدارقطني» 2: 105، 235، 6: 105، 3: 245، و «القراءة خلف الإمام» للبيهقي ص 142، و «الفصل للوصل» 1: 297، و «تحفة الأشراف» 1: 78 - 79، 5: 320، و «هدي الساري» ص 363، و «فتح الباري» 10:322.

ص: 68

الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة حديث غسل الجنابة، وفي روايتهم جميعا ذكر غسل الرجلين.

وكذا صنع مسلم في رواية وكيع، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، حديث الغسل هذا، فإن وكيعا زاد فيه غسل اليدين ثلاثا، وليس في رواية الباقين ذكر العدد، وإنما ذلك عند الجميع -وفيهم وكيع- في حديث ميمونة

(1)

.

ووافق مسلما على تعليل هاتين الزيادتين في حديث عائشة أبو الفضل بن عمار الشهيد، فقال عنهما:«وليست زيادتهما عندنا بالمحفوظة»

(2)

.

وروى سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا

» الحديث.

قال حمزة بن محمد الكناني بعد أن روى هذا: «ولا نعلم أحدا قال في هذا

(1)

«صحيح مسلم» حديث (316 - 317).

(2)

«علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج» ص 69 - 72.

والحديثان لهما طرق كثيرة أخرى إلى هشام بن عروة، والأعمش، وكلها تؤيد ما ذهب إليه الإمامان، انظر:«صحيح البخاري» حديث (248 - 249)، (257)، (259 - 260)، (265 - 266)، (272)، (274)، (276)، (281)، و «سنن أبي داود» حديث (242)، (245)، و «سنن الترمذي» حديث (103 - 104)، و «سنن النسائي» حديث (247 - 248)، (253)، (416 - 418)، (421)، و «سنن ابن ماجه» حديث (574)، و «مسند أحمد» 6: 52، 101، 329، 335، 336.

ص: 69

الحديث عن مالك: «ولا تنافسوا» غير سعيد بن أبي مريم، وقد روى هذه اللفظة «ولا تنافسوا» عبدالرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس بن مالك، والله أعلم».

قال الخطيب: «والأمر على ما قال حمزة، كل أصحاب مالك رووه عنه، ولم يختلفوا عليه فيه» ، ثم ساق طرقا إلى مالك، ثم قال:«وهكذا روى الحديث عن ابن شهاب: شعيب بن أبي حمزة، ومعمر بن راشد، وسفيان بن عيينة، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ولم يذكر أحد منهم اللفظة التي زادها سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن ابن شهاب، وهي: «ولا تنافسوا» ، وقد وهم فيها ابن أبي مريم على مالك، عن ابن شهاب، وإنما يرويها مالك في حديثه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة»، ثم ساق طرقه إلى مالك

(1)

، ونحوه لابن عبدالبر

(2)

.

وروى شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي وغيرهم، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة مرفوعا:«إذا أفلس الرجل فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به من الغرماء»

(3)

.

وروى موسى بن السائب، وغيره، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيِّع من باعه»

(4)

.

(1)

«الفصل للوصل» 2: 697 - 700.

(2)

«فتح الباري» 10: 484.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (1559).

(4)

«سنن أبي داود» حديث (3531)، و «سنن النسائي» حديث (9546)، و «مسند أحمد» 5: 13، و «المعجم الكبير» حديث (6861).

ص: 70

وفسر العلماء حديث سمرة هذا بأنه الرجل إذا سرق له مال، أو غصب منه، ثم وجده عند رجل قد اشتراه من سارقه أو غاصبه، أو ممن اشتراه منه فهو أحق به، ويرجع المأخوذ منه على من باعه بالثمن

(1)

.

وقد روى عمر بن إبراهيم، عن قتادة، الحديث الأول، حديث المفلس بإسناد الحديث الثاني

(2)

، فقال محمد بن يحيى الذهلي في نقده:«هما حديثان عندي من حديث قتادة، فلعل عمر سمع من قتادة فاختلط عليه، فأما هذا الحديث -يعني حديث المفلس- فإنما رواه قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، حدثنا به وهب بن جرير، عن شعبة، عن قتادة، وحدثنا به أبو النعمان، عن جرير بن حازم، عن قتادة، والحديث الآخر فهو ما روى موسى بن السائب، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا في السرقة وذاك في التفليس»

(3)

.

وروى هشام الدستوائي، وشيبان بن عبدالرحمن، والأوزعي، وروح بن عبادة، ومعمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان مرفوعا:«أفطر الحاجم والمحجوم»

(4)

.

(1)

انظر: «معالم السنن» 3: 802.

(2)

«مسند أحمد» 5: 10، و «العلل الكبير» 1:504.

(3)

«تحفة الأشراف» 4: 71.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (2367) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3137) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (1680)، و «مسند أحمد» 5: 277، 280، 282.

ص: 71

ورواه عبدالرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبدالله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وذهب جماعة من النقاد، منهم ابن معين، والبخاري، وإسحاق بن منصور، وأبو حاتم، إلى تضعيف رواية معمر هذه، ونص بعضهم على أن الصواب بهذا الإسناد حديث رافع بن خديج في النهي عن كسب الحجام، وقد رواه جماعة أيضا عن يحيى بن أبي كثير، وفيهم معمر

(2)

، فكأنه اشتبه على معمر المتنان

(3)

.

وروى الترمذي، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن يحيى بن سليم الطائفي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن خيثمة، عن رجل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من تمام التحية الأخذ باليد» ، ثم قال الترمذي:«هذا حديث غريب، ولا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم، عن سفيان، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فلم يعده محفوظا، وقال: إنما أراد عندي: حديث سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عمن سمع ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سمر إلا لمصل أو مسافر» ، قال محمد: وإنما يروى عن منصور، عن أبي إسحاق،

(1)

«سنن الترمذي» حديث (774)، و «مسند أحمد» 3: 465، وقد روي عن معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، مثل رواية معمر، أخرجها ابن خزيمة حديث (1965)، والحاكم 1: 428، والمشهور في هذا رواية معمر.

(2)

«صحيح مسلم» ، حديث (1568) و «سنن أبي داود» حديث (3421) ، و «سنن الترمذي» حديث (1275)، و «مسند أحمد» 3: 464، 465، 4:141.

(3)

«العلل الكبير» 1: 365 - 362، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 249، و «سنن البيهقي» 4: 267، و «فتح الباري» 4:177.

ص: 72

عن عبدالرحمن بن يزيد -أو غيره- قال: «من تمام التحية الأخذ باليد» ، »

(1)

.

وقد يكون الرابط بين الحديثين خفيا جدا، يحتاج فيه إلى خبرة الناقد واستحضاره للطرق، وما قد يوجد فيها من تشابه وإن كان خفيا ينتقل بسببه الراوي من حديث لآخر.

روى ابن عيينة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، عن خباب قال:«شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرمضاء، فلم يشكنا»

(2)

.

وراوه وكيع بن الجراح، وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن حارثة بن مضرب، عن خباب، إلا أن رواية حفص فيها: عن حارثة بن مضرب، أو من هو مثله من أصحابه

(3)

.

وكذلك رواه يونس بن أبي إسحاق، وشريك -في بعض الطرق إليه- عن أبي إسحاق

(4)

.

والحديث معروف عن أبي إسحاق، رواه عنه جماعة من كبار أصحابه، منهم سفيان الثوري، وشعبة، وزهير بن معاوية، وأبو الأحوص وغيرهم، لكن شيخ أبي إسحاق في روايتهم هو سعيد بن وهب، وليس حارثة بن مضرب،

(1)

«سنن الترمذي» حديث (2730).

(2)

«صحيح ابن حبان» حديث (1480) ، و «المعجم الكبير» حديث (3686) ، و «أطراف الغرائب والأفراد» حديث (2065).

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (675)، و «شرح معاني الآثار» 1:185.

(4)

«شرح معاني الآثار» 1: 185، و «المعجم الكبير» حديث (3677 - 3676).

ص: 73

(1)

«صحيح مسلم» حديث (619)، «مسند أحمد» 5: 108، 110، و «مسند البزار» حديث (2134)، و «شرح معاني الآثار» 1: 185، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 95، 135، و «مسند الشاشي» حديث (1020) ، و «المعجم الكبير» حديث (3702 - 3703)، و «سنن البيهقي» 2:104.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 74. وحديث خباب في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من رواية سفيان بن عيينة، عن الأعمش، أخرجه الحميدي حديث (156) ، وابن خزيمة حديث (505) ، والطبراني في «المعجم الكبير» حديث (3686)، و (3688) ، وله طرق كثيرة عن الأعمش. انظر: «صحيح البخاري» حديث (746)، (760 - 761)، (777) ، و «سنن أبي داود» حديث (801) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (530) و «سنن ابن ماجه» حديث (826)، و «مسند أحمد» 5: 109، 110، 112، 395.

وانظر أمثلة أخرى لكلام النقاد في دخول حديث في حديث على الراوي في: «سنن أبي داود» حديث (19) ، و «سنن النسائي» حديث (1734 - 1743) ، و «علل ابن المديني» ص 99 - 100، و «العلل ومعرفة الرجال» (1327) ، (5319)، و «العلل الكبير» 1: 183، و «علل ابن أبي حاتم» (9) ، (198) ، (226)، (207)، (236) ، (237) ، (424) ، (287) ، (368) ، (675)، (979) ، (1120)، (1266) ، (1552) ، (1897)، (1935)، (1982)، (2165)، (2284) ، (2292) ، (2319) ، (2426) ، (2426)، و «الجرح والتعديل» 1: 337 - 338، و «الضعفاء الكبير» 1: 229، و «الكامل» 3: 1189، 5: 1873، و «التتبع» ص 170، 319، و «علل الدارقطني» 9: 240، 244، 151، و «سؤالات السهمي للدارقطني» ص 74، و «معرفة علوم الحديث» ص 59، و «موضح أوهام الجمع والتفريق» 1: 295، و «العلل المتناهية» 1:334.

ص: 74

والمثالان الأخيران لهما نظائر كثيرة عند الرواة، ويقول الأئمة في نقدهم:«إنما أراد حديث كذا» ، يشيرون بذلك إلى انتقاله من حديث إلى حديث آخر قريب منه متنا أو إسنادا، أو «إنما يروى بهذا الإسناد حديث كذا» ، ونحو ذلك.

كما في قول معمر لما رجع إلى اليمن فعرف أنه أخطأ حين حدث بالبصرة عن الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه: «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة

» الحديث، والصواب أنه عن الزهري مرسلا

(1)

، فقال معمر في توجيه غلطه:«ذهبت إلى حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه: «أن غيلان بن سلمة طلق نساءه، وقسم ماله بين ولده»

(2)

.

ويقولون كذلك: «دخل لفلان حديث في حديث» ، فهذه العبارة معناها

(1)

تقدم هذا الحديث في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب.

(2)

«تاريخ دمشق» 59: 392، وكان معمر يسوق الحديثين جميعا متصلين، وبهذه الطريقة أعله البخاري، ومسلم، وغيرهما، انظر:«سنن ابن ماجه» حديث (1953)، و «مسند أحمد» 2: 14، و «العلل الكبير» 1: 445، و «شرح معاني الآثار» 3: 253، و «الإصابة» 8:66.

ص: 75

تداخل حديثين على الراوي ونقل إسناد من حديث لآخر، أو الدمج بين الإسنادين.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل» الحديث عن الخلل الذي يمكن أن يقع حين التحديث من الكتاب، كأن ينتقل الراوي من سطر إلى سطر، أو تسقط عليه ورقة، أو يقلب ورقتين جميعا دون أن يشعر، فتتداخل عليه الأحاديث

(1)

.

وعبارة: «دخل لفلان حديث في حديث» يستخدمها الناقد ولو لم يقف على الحديث الآخر، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في الباب الثاني (التفرد) ، حيث يستنكر النقاد أحاديث يتفرد بها بعض الرواة، ويلتمس النقاد أسبابا للخطأ، فلا يوقف للحديث على علة ظاهرة، مع جزم الناقد بأن الحديث خطأ.

ومما تقدم هناك ما ذكره ابن أبي حاتم قال: «سألت أبي عن حديث رواه عبدالله بن عمران، عن يحيى بن الضريس، عن عكرمة بن عمار، عن الهرماس، قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا: لبيك بحجة وعمرة» ، قال أبي: فذكرته لأحمد بن حنبل فأنكره، قال أبي: أرى دخل لعبدالله بن عمران حديث في حديث، وسرقه الشاذكوني، لأنه حدث به بعد عن يحيى بن الضريس»

(2)

.

فأبو حاتم لم يذكر الحديث الذي تداخل على عبدالله بن عمران مع حديث الهرماس هذا، ولا أمكن الوقوف عليه، وإنما قال ما قال التماسا لسبب خطأ

(1)

«الجرح والتعديل» ص 121.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 292.

ص: 76

عبدالله بن عمران في هذا الحديث المنكر

(1)

.

والمقصود أن هذا النوع من النقد إذا كان يستخدم وإن لم يكن بين الحديثين وجه شبه، بل ولو لم يوقف على الحديث الآخر أصلا، فإن استخدامه كقرينة للترجيح عند الاختلاف إذا أمكن الوقوف على الحديث الآخر وكان بينهما وجه شبه - من باب أولى، وهو الذي يمكننا أن نشارك أئمة النقد فيه.

فمن ذلك ما تقدم في الفصل الثالث من الباب الأول، وهو حديث سفيان الثوري، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عدة صلوات بوضوء واحد، فقد رواه جماعة -منهم عبدالرحمن مهدي، وأبو نعيم، وعبدالرزاق- عن الثوري هكذا مرسلا، ورواه جماعة -منهم وكيع، ومعتمر بن سليمان، ومعاوية بن هشام- عن الثوري موصولا بذكر بريدة بن الحصيب، والد سليمان، وتقدم هناك أن النقاد رجحوا رواية الإرسال.

ويمكن تفسير سبب غلط وكيع ومن معه بأن الثوري يرويه أيضا عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه موصولا، لم يختلف على الثوري في ذلك، وممن رواه عن الثوري: وكيع، ومعاوية بن هشام، في جملة أصحاب الثوري، فالظاهر أن جملة (عن أبيه) انتقلت لوكيع ومن معه من هذا الإسناد،

(1)

انظر: «علل ابن أبي حاتم» (المناسك) تحقيق تركي الغميز 2: 743 - 747، مسألة (86) ، وانظر أمثلة أخرى لهذا النوع في «علل ابن أبي حاتم» (63) ، (86) ، (245)، (319)، (503) ، (711) ، (918)، (2449)، (2356) ، (2462)، و «الضعفاء الكبير» 1: 28، و «شعب الإيمان» حديث (5131)، و «التمهيد» 3:255.

ص: 77

وظنوا أنه يرويه أيضا عن محارب بن دثار موصولا.

وروى ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدالله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عن أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني، عن أبي عثمان مسلم بن يسار، عن أبي هريرة مرفوعا:«من أفتي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه»

(1)

.

هكذا جاء عند ابن ماجه، وهذا المتن يرويه عبدالله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو المعافري، عن عمرو بن أبي نعيمة، عن أبي عثمان مسلم بن يسار، عن أبي هريرة، وفيه ألفاظ أخرى، هكذا رواه جماعة عن عبدالله بن يزيد المقرئ ومنهم ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، واقتصر بعضهم على جزء منه، وربما أسقط عبدالله بن يزيد: عمرو بن أبي نعيمة من الإسناد.

وهكذا رواه ابن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، وذكر فيه عمرا، وكذا رواه رشدين بن سعد، ويحيى بن أيوب، عن بكر بن عمرو، إلا أن رشدين ليس في روايته ذكر أبي هريرة

(2)

.

وأما الإسناد الذي ساقه ابن ماجه فهو لمتن آخر، ولفظه:«سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» .

(1)

سنن ابن ماجه» حديث (53).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3657)، و «مسند أحمد» 2: 231، 365، و «مصنف ابن أبي شيبة» 8: 574، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (334) ، و «سنن الدارمي» حديث (159)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (410 - 411) ، (4296 - 4299)، و «المستدرك» 1: 126، و «سنن البيهقي» 10: 112، 116.

ص: 78

هكذا رواه جماعة أيضا عن عبدالله بن يزيد، وكذا رواه ابن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، وكذا رواه شراحيل بن يزيد، عن مسلم بن يسار

(1)

، فالذي يظهر أنه دخل لابن ماجه حديث في حديث، والله أعلم.

هذه بعض صور تطبيقات هذه القرينة، دون حصر لها، فهو غير ممكن، فكل ما في المتن والإسناد مما يدل على ضبط أحد الوجهين يدخل تحت هذه القرينة.

و‌

‌في بعض الاختلافات توجد تفاصيل في رواية الجميع، فيستدل بذلك على حفظ الروايتين إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فلا بد من مرجح خارجي

.

فمن ذلك أن الأعمش وغيره رووا عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود مرفوعا: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج

» الحديث، وفي بعض الطرق إليه قصة، قال علقمة: «كنت مع عبدالله فلقيه عثمان بمنى، فقال: يا أبا عبدالرحمن، إن لي إليك حاجة، فخليا، فقال عثمان: هل لك يا أبا عبدالرحمن في أن نزوجك بكرا تذكرك ما كنت؟ فلما رأى عبدالله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إلي، فقال: يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقول: أما لئن قلت ذلك لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب

» الحديث

(2)

.

(1)

«صحيح مسلم» (المقدمة) حديث (6 - 7)، و «مسند أحمد» 2: 21، و «مسند إسحاق بن راهويه» (332)، و «التاريخ الكبير» 7: 275 و «مسند أبي يعلى» حديث (6384) ، و «صحيح ابن حبان» حديث (6766)، و «المستدرك» 1:103.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (19015)، (5065)، و «صحيح مسلم» حديث (1400)، و «سنن أبي داود» حديث (2046)، و «سنن النسائي» حديث (2239 - 2240)، (3207 - 3208)، (3011)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1845)، و «مسند أحمد» 1: 378، 447، و «صحيح ابن حبان» حديث (4026).

ص: 79

ورواه يونس بن عبيد، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن إبراهيم به، وذكر القصة بمعناها، لكن جعل المرفوع من رواية عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فالترجيح بالقصة حينئذ غير ممكن، لوجودها في رواية الجميع، فلا بد من مرجحات أخرى، إذ لا مناص من الترجيح.

وفي رواية الأعمش نفسها اختلاف في بعض تفاصيل القصة، منها ما في رواية زيد بن أبي أنيسة أن القصة وقعت بالمدينة، وفي رواية شعبة أن ذلك بعرفة، خلافا لرواية الأكثر، فهذه الاختلافات أيضا لا يمكن الترجيح بينها بالقصة، ولا مناص فيها من الترجيح أيضا.

وروى مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قال لي عبدالله بن عمر: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة»

(2)

.

وقد رواه جماعة عن أبي بردة بن أبي موسى من قوله، وفي رواية واصل بن حيان قال: «كنت عند ابن عمر، فسئل عن الساعة التي في الجمعة، فقلت: هي

(1)

«سنن النسائي» حديث (2242)، (3206)، و «مسند أحمد» 1:58.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (853)، و «سنن أبي داود» حديث (1050).

ص: 80

الساعة التي اختار الله لها -أو فيها الصلاة- قال: فمسح رأسي، وبارك علي، وأعجبه ما قلت»

(1)

.

القرينة الثالثة: الثبات والاضطراب عند رواة الاختلاف:

إذا اختلف الرواة على شيخهم فينبغي تأمل رواية كل وجه عنه، والتأكد من ثبات من روى الوجه أو اضطرابه في روايته هذه، فإذا كانت النتيجة ثبات راوي أحد الأوجه، واضطراب راوي الوجه الآخر، فإن رواية من ظهر من روايته أنه ثابت لم يضطرب مقدمة على رواية من اضطرب، فتكون هي الراجحة والأخرى مرجوحة.

ولهذه القرينة صور متعددة، منها أن يتردد في نفس الرواية فيقول: كذا، أو كذا.

ومنها أن يختلف عليه، فيروي عنه بعض أصحابه على صفة، وبعضهم على صفة أخرى، قد تكون صفة أخرى عن شيخه في هذا الاختلاف، وقد تكون على صفة خارج الاختلاف الأول عن شيخ آخر.

ومنها أن يخالف الراوي في أول الإسناد -مثلا-، ثم يخالف مرة أخرى في مكان آخر في الإسناد، أو يخالف مرة أخرى في المتن، مما يدل على أنه لم يتقن هذا الحديث، فتعددت مخالفاته واضطرب فيه.

(1)

«مصنف ابن أبي شيبة» 2: 143، وانظر:«علل الدارقطني» 7: 212، و «فتح الباري» لابن رجب 5:515.

ص: 81

ومن أمثلة ذلك الحديث الماضي في المبحث الذي قبل هذا، وهو مبحث (القرائن في الرواة المختلفين)، في (القرينة الرابعة: جوانب القوة والضعف في الراوي)، وهو ما يرويه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلاة مثنى مثنى

» الحديث.

ورواه الليث بن سعد وغيره عن عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، عن الفضل بن عباس.

وقد ذكرت هناك تخطئة النقاد لشعبة في مواضع من إسناد الحديث.

وروى أصحاب سفيان الثوري، ومنهم يحيى القطان، ووكيع بن الجراح وعبدالرزاق، وأبو حذيفة، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وغيرهم، رووا عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:«ما رأيت أحدا كان أشد تعجيلا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أبي بكر، ولا من عمر»

(1)

.

ورواه إسحاق بن يوسف الأزرق مرة أخرى عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة

(2)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (155)، و «مسند أحمد» 6: 135، 216 و «مصنف عبدالرزاق» حديث (2054)، و «شرح معاني الآثار» 1: 185، و «الكامل» 2: 635، 636، و «سنن البيهقي» 1:436.

(2)

«سنن البيهقي» 1: 437.

ص: 82

قال عبدالله بن أحمد: «سألت أبي عن حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن منصور

، فقال: الحديث حديث حكيم بن جبير، ليس هذا من حديث منصور، وحدثناه الأزرق، عن سفيان، عن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، أخطأ لنا فيه، وقال مرة الأزرق: عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن الأسود، عن عائشة، وأنكر أبي أن يكون هذا من حديث منصور»

(1)

.

فاستدل أحمد على خطأ إسحاق الأزرق في الوجه الذي انفرد به عن أصحاب سفيان، وهو جعله عن منصور مكان حكيم بن جبير - بأن إسحاق قد رواه عن سفيان على وجهين آخرين، فصارت الأوجه التي رواها عن سفيان ثلاثة، وهذا اضطراب شديد.

وروى محمد بن السائب المكي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي ذر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة»

(2)

.

ورواه جماعة عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم، عن عمرو بن ميمون، عن أبي هريرة

(3)

.

ورواه آخرون عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله بن عمرو

(4)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 303.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (9842)، و «مسند أحمد» 5: 150،

و

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (9841)، و «مسند أحمد» 2: 298، 335، 353، 363، 403، و «الدعاء» للطبراني حديث (1634).

(4)

«سنن الترمذي» حديث (3460)، و «الترغيب» لابن شاهين حديث (349).

ص: 83

قال البخاري: «والأول أصح» ، يعني كونه عن أبي ذر، وأشار البخاري إلى الاختلاف على أبي بلج

(1)

.

وروى سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر:«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقال: آمين، ومدّ بها صوته»

(2)

.

ورواه شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي عنبس، عن علقمة بن وائل، عن وائل بن حجر، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، وأخفى بها صوته

» الحديث، وفي بعض الطرق إلى شعبة: أو سمعه حجر من وائل، وفي بعضها قول حجر: سمعت علقمة بن وائل يحدث عن وائل، وقد سمعت من وائل، وفي بعض طرقه إلى شعبة لم يذكر علقمة بن وائل

(3)

.

قال البخاري: «حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، في هذا الباب

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 100.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (932)، و «سنن الترمذي» حديث (248)، و «مسند أحمد» 4: 316، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 425، 10: 525، 14: 244، و «سنن الدارمي» حديث (1247)، و «المعجم الكبير» حديث (111)، و «سنن الدارقطني» 1: 333، 334، و «سنن البيهقي» 2: 57، و «معرفة السنن والآثار» حديث (3160)، و «إتحاف المهرة» 13:662.

(3)

«مسند أحمد» 4: 316، و «مسند الطيالسي» حديث (1117)، و «صحيح ابن حبان» حديث (1805)، و «المعجم الكبير» 22 حديث (2)، (3)، (109)، (112)، و «سنن الدارقطني» 1: 334، و «المستدرك» 2:232.

ص: 84

أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضع، قال: عن سلمة بن كهيل، عن حجرأبي العنبس، وإنما هو حجر بن عنبس، وكنيته أبو السكن، وزاد فيه: عن علقمة بن وائل، وإنما هو: حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر، ليس فيه علقمة، وقال:«وخفض بها صوته» ، والصحيح أنه جهر بها»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه سعيد بن أبي عروبة، وأبان، فقالا: عن قتادة، عن الحسن، عن عقبة بن عامر، ورواه همام، وهشام الدستوائي، وحماد بن سلمة، وسعيد بن بشير، فقالوا: عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا زوج الوليان فهو للأول» .

فقالا: عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح، لأن ابن أبي عروبة حدث به قديما فقال: عن سمرة، وبأخرة شك فيه»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حسان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن

(1)

«العلل الكبير» 1: 217، و «سنن الترمذي» حديث (248)، و «التاريخ الكبير» 3:73.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 404، وانظر هذه الطرق وغيرها في:«سنن أبي داود» حديث (2088)، و «سنن الترمذي» حديث (1110)، و «سنن النسائي» حديث (4696)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (6278 - 6279)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2190 - 2191)، (2344)، و «مسند أحمد» 4: 149، 5: 8، 11، 12، 18، 22، و «مصنف ابن أبي شيبة» 4: 139، و «سنن الدارمي» حديث (2193 - 2194)، و «المعجم الكبير» حديث (6840 - 6843)، و «المستدرك» 2: 175، و «سنن البيهقي» 7: 140 - 141، و «إتحاف المهرة» 6:35.

ص: 85

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكتب للحجاج كذا

».

قال أبي: هذا خطأ، حدثناه حجاج الأنماطي، وأبو سلمة، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبي: أخطأ يحيى بن حسان في موضعين، وهذا الصحيح»

(1)

.

وروى جماعة من أصحاب حماد بن سلمة، عنه، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من ملك ذا محرم مُحَرّم فهو حر» ، وفي بعض طرقه: عن سمرة بن جندب -فيما يحسب حماد-

(2)

.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب قوله

(3)

.

ورواه سعيد بن أبي عروبة أيضا، وهشام الدستوائي، عن قتادة، عن الحسن قوله

(4)

.

قال أبو داود في نقد رواية حماد بن سلمة: «لم يحدث ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شك فيه» ، ثم ساق طريقي سعيد بن أبي عروبة وقال:«سعيد أحفظ من حماد» .

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 285.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3949) ، و «سنن الترمذي» حديث (1365)، و «سنن النسائي الكبرى» (4898 - 4902) و «مسند أحمد» 5: 15، 18، 20.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (3950) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4903)، (4906).

(4)

«سنن أبي داود» حديث (3951 - 3952) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4904 - 4905).

ص: 86

وقال البيهقي في نقده: «والحديث إذ انفرد به حماد بن سلمة، ثم شك فيه، ثم يخالفه فيه من هو أحفظ منه - وجب التوقف فيه»

(1)

.

وروى سفيان الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وجرير بن عبدالحميد، وسفيان بن عيينة -في بعض الروايات عنه-، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية

» الحديث

(2)

.

ورواه سفيان بن عيينة -في بعض الروايات عنه-، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير

(3)

.

هكذا رواه سفيان زاد فيه والد حبيب بن سالم، قال الترمذي في نقد هذه الرواية، بعد أن ذكر رواية الجماعة عن إبراهيم: «وأما سفيان بن عيينة فيختلف عليه في الرواية، يروى عنه، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير، ولا نعرف لحبيب بن سالم رواية عن أبيه، وحبيب بن سالم هو مولى النعمان بن بشير، وروى عن النعمان بن بشير أحاديث،

(1)

«سنن البيهقي» 10: 289.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (878)، و «سنن أبي داود» حديث (1122)، و «سنن الترمذي» حديث (533)، و «سنن النسائي» حديث (1463)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1281)، و «مسند أحمد» 4: 273، 276، 277، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1463).

(3)

«مسند أحمد» 4: 271، و «مسند الحميدي» حديث (920)

ص: 87

وقد روي عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، نحو رواية هؤلاء»

(1)

.

وقال مرة -ويحتمل أنه ينقله عن البخاري-: «وكان ابن عيينة يروي هذا الحديث عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، فيضطرب في روايته

»

(2)

.

وروى سفيان الثوري -في المحفوظ عنه- عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام»

(3)

.

ورواه عبدالعزيز الدراوردي، وحماد بن سلمة، ومحمد بن إسحاق، وعبدالواحد بن زياد، وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

قال الترمذي بعد أن أخرج رواية الدراوردي: «تابعه حماد سلمة، [و] كان الدراوردي أحيانا يذكر فيه: عن أبي سعيد، وربما لم يذكر فيه، والصحيح رواية

(1)

«سنن الترمذي» حديث (533).

(2)

«العلل الكبير» 1: 286.

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (745)، و «مسند أحمد» 3: 83، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (1582)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 379، والظاهر أنه قد أرسله آخرون غير الثوري، ففي «سنن الدارمي» حديث (1397)، بعد أن ساق رواية الدراوردي الآتية:«قيل لأبي محمد: تجزئ الصلاة في المقبرة؟ قال: إذا لم تكن على القبر فنعم، فإن الحديث أكثرهم أرسلوه» ، وقال الدارقطني في «العلل» 11: 321: «رواه جماعة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلا» ، وهو ما يؤخذ من كلام الترمذي الآتي.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (492)، و «سنن الترمذي» حديث (317)، و «مسند أحمد» 3: 83، 96، و «مسند الشافعي» حديث (198)، و «العلل الكبير» 1:238.

ص: 88

الثوري وغيره عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، مرسل».

وحماد بن سلمة قد تردد أيضا، ففي رواية عنه قال فيه: عن أبي سعيد

-فيما يحسب-.

وكذلك سفيان بن عيينة، فهو من رواية الشافعي عنه، وقد قال الشافعي بعد أن رواه مرسلا:«وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين، أحدهما منقطعا، والآخر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

ومحمد بن إسحاق قد جاء عنه أيضا شيء من هذا، قال الترمذي:«ورواه محمد بن إسحاق، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه -قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه: عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة: «وكان عامة روايته عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم» ، من كلام عمرو بن يحيى، يبين فيها أن والده كثير الرواية عن أبي سعيد، لا بخصوص هذا الحديث بعينه، فوقع التردد من هؤلاء، واجتماعهم على روايته موصولا ومرسلا يبعد أن يكون وقع اتفاقا، فهذا سببه إذن، ويظهر بهذا قوة من رجح المرسل، وهم الترمذي، والدارمي -كما سبق-، والدارقطني، قال:«والمرسل المحفوظ»

(1)

.

ومن دقائق هذه المسألة -وهي ثبات الراوي أو اضطرابه- أن يخالف راو في إسناد، ثم تقع منه مخالفة في إسناد آخر، فيترجح أنه اضطرب ولم يحفظ،

(1)

«علل الدارقطني» 11: 321.

ص: 89

وأن قول مخالفه هو الصواب.

مثال ذلك أن جماعة من أصحاب محمد بن عجلان -منهم يحيى القطان، والثوري، وحماد بن مسعدة، ووهيب بن خالد في بعض الرويات عنه، وأبو خالد الأحمر في بعض الروايات عنه- رووا عن ابن عجلان، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال:«أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع اليدين، ونصب القدمين»

(1)

.

ورواه وهيب وأبو خالد الأحمر -في بعض الروايات عنهما- عن محمد بن عجلان، عن محمد إبراهيم التيمي، عن عامر بن سعد، عن أبيه، هكذا روياه موصولا بذكر سعد بن أبي وقاص

(2)

.

وقد رجح الأئمة الإرسال، وأبو خالد الأحمر متكلم فيه من جهة حفظه، وقد اختلف عليه، وخالف الجماعة، وأما وهيب فهو ثقة ثبت، لكن مخالفته للجماعة، والاختلاف عليه، يرجحان وهمه في الإسناد الموصول.

ومما يرجح وهم وهيب أيضا أنه قد رواه عن محمد بن عجلان، عن بكير بن عبدالله، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد

(3)

، وخالفه سفيان الثوري، فرواه

(1)

«سنن الترمذي» حديث (278)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 216، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 117، و «علل الدارقطني» 4:346.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (277)، و «علل الدارقطني» 4: 345، و «المستدرك» 1: 271، و «سنن البيهقي» 2:107.

(3)

«علل الدارقطني» 4: 345.

ص: 90

عن ابن عجلان، عن بكير، عن عامر بن سعد مرسلا

(1)

.

ومن المهم جدا أن ندرك -في قضية الاستفادة من تردد أحد المختلفين على الراوي واضطرابه وترجيح رواية من ثبت ولم يضطرب- أن ذلك الاضطراب إن كان بسبب الاختلاف على أحد الرواة المحكوم عليه بالاضطراب، فلا بد أولا من تطبيق قواعد الاختلاف عليه، فلا يصح أن نحكم على راو بأنه اضطرب وتردد بمجرد أن نقف على اختلاف عليه، فنطبق على الراوي نفسه ما تقدم في المبحث الأول (القرائن في الرواة المختلف عليهم)، وننظر هل هذا الراوي يحتمل أن يقع منه اضطراب أو لا؟ ، ونطبق كذلك على الرواة المختلفين عنه ما تقدم في المبحث الثاني (القرائن في الرواة المختلفين) وننظر هل يمكن الترجيح بينهم؟ ، وكذلك ما نحن بصدده في هذا المبحث وهي (القرائن في أوجه الاختلاف).

ويتأكد هذا إذا كان الاختلاف على أحد الراويين قد وافق فيه مخالفه، فقد عرفنا فيما مضى في (المبحث الثاني) أن بعض الرواة قد يسقط ما يراه خطأ، أويقوم بتصويبه، لأسباب عديدة.

ويلتحق بذلك تصرفات النساخ، ومحققي الكتب في الوقت الراهن، فإنهم يتصرفون في النص إسنادا أو متنا وفق ما يجدونه في مصادر أخرى، فيلتبس الأمر، خاصة إذا كان الاختلاف في جزء يسير من النص، إسنادا أو متنا، كما تقدم شرحه في الفصل الثالث من الباب الاول.

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (2944)، و «علل الدارقطني» 4:346.

ص: 91

وكذلك تقدم في مبحثنا هذا في (القرينة الثانية) ما يتعلق بحمل بعض الروايات على بعضها الآخر، وقد يقع مع ذلك إفرادها على صفتها وهي محمولة.

والتعامل مع الاختلافات بابه واحد، غاية ما هنالك أن الحديث الواحد قد يقع فيه أكثر من اختلاف، فيكون فيه عدة مدارات، فمدار أدنى، ومدار أعلى، وقد يوجد مدار أوسط، وهكذا، وقد تقدمت الإشارة إلى تعدد المدار في الفصل الثاني من الباب الاول، وكذلك في الفصل الأول من هذا الباب -الباب الثالث-.

وقضية تعدد المدار إحدى القضايا التي تلقي على الناظر في الاختلاف مزيدا من العبء، سواء في عرض الطرق وتلخيصها للقارئ وعرض دراسة الاختلاف والنظر فيه، أو في الوصول إلى نتيجة في الاختلاف موضع الدراسة، والنتيجة النهائية للحديث كله، وسيأتي الحديث عن ذلك -بعون الله تعالى وقوته- في فصول قادمة.

وأراني هنا ملزما بذكر بعض الأمثلة التي توضح الغرض المشار إليه.

فمن ذلك الحديث الماضي قريبا، وهو حديث أبي سعيد الخدري: «الأرض كلها مسجد

» الحديث، فقد رجح النقاد رواية سفيان الثوري المرسلة، فهو أحفظ من جميع من وصله، مع ترددهم في الوصل والإرسال، وقد جاء موصولا من طريق الثوري

(1)

، فلا يصح أن يقال: والثوري أيضا قد اختلفت روايته، فيترجح الموصول كما فعله بعض الباحثين، لأن الموصول عن الثوري لا يثبت

(1)

علل الدارقطني» 11: 321.

ص: 92

عنه، ولهذا قال البيهقي بعد ذكر إرساله من طريق الثوري:«وقد روي موصولا وليس بشيء»

(1)

.

ومن ذلك أيضا الحديث المتقدم آنفا، وهو حديث وائل بن حجر، وقد اختلف فيه سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج في مواضع منه، في متنه وإسناده، وحكم النقاد فيها كلها لسفيان الثوري، وعدوا اجتماعها دليلا على عدم ضبط شعبة لهذا الحديث.

ومن المواضع التي جرى فيها الاختلاف بينهما فيه أن سفيان الثوري لم يذكر في الإسناد علقمة بن وائل، فجعله عن حجر بن عنبس، عن وائل، وأما شعبة فذكر فيه علقمة، لكن جاء عن شعبة من طرق بموافقة سفيان، وإسقاط علقمة، وجاء عنه أيضا قوله: أو سمعه حجر من وائل، على اختلاف بين المصادر في هذه الجملة، فمثل هذا الاختلاف عن شعبة يمكن تأييد رواية سفيان به، وأن شعبة كان يتردد في هذا الموضع من الإسناد ويضطرب.

وقد رجح بعض الباحثين ممن تكلم على هذا الحديث اعتمادا على صنيع شعبة هذا أن حجر بن عنبس سمعه من علقمة بن وائل، عن وائل، وسمعه من وائل نفسه، فحفظ سفيان أحد الوجهين، وحفظهما شعبة جميعا، فكان يذكر هذا وهذا، وما رجحه هؤلاء الباحثون بعيد جدا.

وعكس هذا أنهما اختلفا في لفظ الحديث، فرواه سفيان بلفظ: «فقال:

(1)

«سنن البيهقي» 2: 435.

ص: 93

آمين -ومدَّ بها صوته-»، وفي بعض طرقه:«ورفع بها صوته» ، ورواه شعبة بلفظ: «

وأخفى بها صوته».

وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن مرزوق البصري، عن أبي الوليد هشام بن عبدالملك الطيالسي، عن شعبة، وفيه:«قال: آمين -ورفع بها صوته-» .

والرواية هذه عن شعبة بموافقة سفيان، جعلها بعض من تكلم على الحديث مؤيدة لرواية سفيان، وأن شعبة رجع إلى قول سفيان، وهذا بعيد جدا، فالطرق متضافرة عن شعبة، أنه يرويه بلفظ:«وأخفى بها صوته» ، ورواية البيهقي هذه لا تصح عن شعبة، فقد أخرجه الطبراني، عن معاذ بن المثنى، عن أبي الوليد الطيالسي، باللفظ المشهور عن شعبة، وكذلك أخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن أبي الوليد، إلا أنه قرن أبا الوليد بسليمان بن حرب، والنتيجة أن الاختلاف على شعبة هذا لا يصح أن يعده الباحث اضطرابا من شعبة، فيجعل ذلك من مرجحات قول سفيان، لأن أحد الوجهين عن شعبة لا يصح عنه.

وكذلك رواية أبي الوليد التي فيها موافقة شعبة لسفيان، حين النظر بينها وبين رواية الجماعة عن شعبة، لا يصح تعليلها بأن أبا الوليد قد اختلف عليه فلم يضبط، لأن أبا الوليد من الثقة والتثبت فوق أن ينسب إليه الاضطراب، وقد أمكن أن يحمل الخطأ غيره، وذاك أن إبراهيم بن مرزوق البصري الذي أخرج البيهقي الرواية من طريقه قد ذكر أنه كان يخطئ، وخاصة بعد ما عمي، ومعاذ بن المثنى، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، أثبت منه بكثير.

ص: 94

وثالث المواضع التي وقع الاختلاف فيها بين سفيان، وشعبة، أن سفيان يقول فيه: عن حجر بن عنبس، وشعبة يقول: عن حجر أبي العنبس، وقد جاء عن سفيان الثوري بموافقة شعبة، وأنه يقول فيه: عن حجر أبي العنبس، جاء هذا من رواية محمد بن كثير، والمحاربي، عن سفيان، وكذا جاء عن وكيع في بعض الطرق إليه، فجعل هذا بعض الأئمة المتأخرين دليلا على ضبط شعبة لروايته، فإن سفيان قد اختلف عليه، فوافق شعبة في بعض الروايات عنه، وبنوا عليه أن حجرا يكنى أبا العنبس، ويكنى أيضا أبا السكن، فله كنيتان.

وما ذكروه بعيد، فإن هذه الروايات عن سفيان التي وافق فيها شعبة لا تصح عنه، ولا يحتمل فيها أن يقال: إن سفيان كان يقول مرة بهذا ومرة بهذا، ولولا ضيق المقام لشرحت المقصود.

ومن الأمثلة كذلك حديث الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن مروان بن الحكم، عن عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أُبي بن كعب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من الشعر حكمة» .

هكذا يرويه الجماعة من أصحاب الزهري، منهم شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، ومعمر، وزياد بن سعد، وعبيدالله بن أبي زياد، وإسماعيل بن أمية، وغيرهم.

ورواه إبراهيم بن سعد، عن الزهري، فكان يقول فيه: عبدالله بن الأسود، مكان عبدالرحمن بن الأسود، هكذا رواه جماعة عن إبراهيم بن سعد، وهو مشهور عنه يخطئ فيه، وقد جاء عنه بموافقة رواية الجماعة، وجاء عنه بالإبهام

ص: 95

هكذا: عن ابن الأسود بن عبد يغوث.

فهذا الاختلاف عن إبراهيم لا ينبغي أن يعد اضطرابا منه، فقوله واحد وإن كان يخطئ فيه، فالتصرف في اسم الراوي بإعادته إلى الصواب أو بإبهامه هو ممن بعد إبراهيم.

وجاء عن إبراهيم في أحد الطرق إليه بإسقاط أبي بن كعب، فهذا أيضا ليس منه، فالطرق متضافرة إليه بذكر أبي، والخطأ ممن دونه.

وجاء عن يونس بن يزيد في بعض الطرق إليه في «مسند أحمد» كقول إبراهيم بن سعد، فهذا أيضا لا ينبغي أن يعد اختلافا على يونس، تعضد به رواية إبراهيم، فإن سياق الإسناد ما قبله وما بعده يدل على أنه من تحريف النساخ، وهو على الصواب في «أطراف المسند» ، و «إتحاف المهرة» .

وخالف معمر الجماعة في موضع آخر، فرواه عنه عبدالرزاق، وابن المبارك، بجعل عروة بن الزبير مكان أبي بكر بن عبدالرحمن.

ورواه رباح بن زيد، وهشام بن يوسف، عن معمر، كقول الجماعة.

فهذا اختلاف حقيقي على معمر، تضعف به روايته، فالطرق إليه قوية، وقد قال رباح بن زيد:«إن معمرا أخرج كتابه فإذا فيه: عن أبي بكر بن عبدالرحمن» ، فالظاهر أنه يغلط فيه إذا حدث من حفظه

(1)

.

(1)

انظر هذا الحديث والكلام عليه في: «صحيح البخاري» حديث (6145)، و «مسند أحمد» 3: 456، 5: 125 - 126، و «مسند الطيالسي» حديث (558)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (20499) و «مصنف ابن أبي شيبة» 8: 503، و «سنن الدارمي» حديث (2707) ، و «الأدب المفرد» حديث (861) ، (867) ، و «الآحاد والمثاني (1854 - 1858) ، و «شرح معاني الآثار» 4: 297، و «مسند الشاشي» حديث (1512)، و «سنن البيهقي» 10: 237، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2: 130، و «تفسير الوسيط» 3: 366، و «تحفة الأشراف» 1: 31، و «أطراف المسند» 1: 217، و «إتحاف المهرة» 1:239.

ص: 96

وفي ختام هذا المبحث -القرائن في أوجه الاختلاف- أود التنبيه إلى قضيتين هامتين تتعلقان باستخدام صفة في رواية وجه من أوجه الاختلاف لترجيحه، أو لترجيح غيره عليه.

أما القضية الأولى فإن الباحث قد يجد في صفة بعض الأوجه مرجحات أخرى لم يتقدم الحديث عنها، تعمدت ترك الحديث عنها هنا لأن بحثها سيأتي موسعا في الباب الرابع (المعارضة والاعتضاد) ، في الفصل الخاص بالمعارضة، وهي أمور لا تختص بالاختلاف، فهناك الحديث عن فحص متن الحديث بعرضه على عدة أصول، منها القرآن الكريم، والأحاديث المعارضة، والبلاغة النبوية، وما قد يرد عن الراوي من فتوى بخلاف ما روى، وغير ذلك، سواء كان الحديث فيه اختلاف، أو لم يكن، وسواء في ذلك الوجه الراجح أو الوجه المرجوح إن كان الحديث فيه اختلاف.

فهذا العرض قد ينتج عنه ما يفيد في ترجيح أحد الأوجه عن المدار، فيضم إلى غيره، ولا يصح أن يغفله الباحث، كأن يختلف على راو في تسمية شيخه أو من فوق شيخه على وجهين، ويأتي عن أحد المسمين في هذا الاختلاف رأي

ص: 97

يخالف ما في متن الحديث، فيمكن أن يستدل بذلك على حفظ الوجه الآخر عن المدار، فهو من قرائن الترجيح إذن.

وأما القضية الثانية فهي عكس القضية الأولى: التنبيه على خطورة استخدام صفات لا صلة لها بالترجيح، فقد رأيت بعض الباحثين يستخدم في الترجيح أمورا لا مدخل لها فيه، وأكثر ذلك شيوعا عند الباحثين صفتان:

الصفة الأولى: تمام أحد الإسنادين، ففي الاتصال والانقطاع إذا اختلف على راو من الرواة على وجهين، رجح الباحث أحدهما لكونه متصلا عن صحابيه -مثلا- أو عن تابعيه، والآخر منقطعا، فالراوي الموجود فيه دون الصحابي لم يسمع منه، أو دون التابعي لم يسمع منه.

وهذا مزلق خطير، فلا مدخل لهذا في الترجيح، والبحث عن الراجح إنما هو عن المدار الذي وقع عليه الاختلاف، ما الذي حدث به؟ وقد يكون الراجح عنه هو التام، وقد يكون هو الناقص، أو يترجح عنه حفظ الوجهين.

ومن أمثلة ذلك أن وكيع بن الجراح روى عن سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر، عن أبي أنس مالك بن عامر، عن عثمان: «أنه توضأ بالمقاعد ثلاثا ثلاثا، وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

» الحديث

(1)

.

ورواه جماعة كثيرون، منهم الأشجعي، وعبدالله بن الوليد العدني، والحسين بن حفص، ومحمد يوسف الفريابي، وأبو حذيفة موسى بن مسعود،

(1)

«صحيح مسلم» حديث (230)، و «مسند أحمد» 1:57.

ص: 98

عن سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان

(1)

.

سئل أبو حاتم، وأبو زرعة، عن هذا الاختلاف، وذكر لهما رواية وكيع، ورواية الفريابي، فرجحا رواية وكيع، وأن الفريابي وهم في جعله الحديث عن بسر بن سعيد، ثم قال أبو حاتم:«وأبو أنس جد مالك بن أنس، وأبوأنس عن عثمان متصل، وبسر بن سعيد، عن عثمان، مرسل»

(2)

.

فرأيت توارد بعض الباحثين على ذكر الاتصال بين أبي أنس، وعثمان بن عفان، وكونه سمع منه، وليس كذلك بسر بن سعيد، من مرجحات رواية من جعل الحديث عن أبي أنس، عن عثمان، وهو وكيع، ويذكرون كلمة أبي حاتم في هذا، بل ذكر بعضهم أن الدارقطني -وهو أحد النقاد الذين خالفوا أبا حاتم، وأبا زرعة، فرجحوا رواية الجماعة على رواية وكيع- إنما رجح رواية الجماعة لكونه يعتقد أن رواية بسر بن سعيد، عن عثمان متصلة، وهي في الواقع منقطعة، كذا قال الباحث، زاد الطين بلة في الاتكاء على قضية اتصال الإسناد وأثره في الترجيح.

وليس هذا الصنيع بجيد، فلا مدخل لهذا في الترجيح، وأبو حاتم، وأبو زرعة، إنما رجحا رواية وكيع لأنها ذكرت لهما في مقابل رواية الفريابي، فقدما وكيعا عليه، وأما غيرهما من الأئمة ممن تكلم على هذا الاختلاف

(1)

«مسند أحمد» 1: 67، و «سنن الدارقطني» 1: 85، و «علل الدارقطني» 3: 17، و «التتبع» ص 412، و «سنن البيهقي» 1:79.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 55.

ص: 99

-مثل أحمد والدارقطني- فقد نظروا في هذا الاختلاف بين رواية وكيع ورواية الجماعة، فلم يترددوا في ترجيح رواية الجماعة، وأن وكيعا يخطئ فيه ولم يلتفتوا للاتصال من عدمه

(1)

.

وفي أمثلة أخر رجح أبو حاتم في الاختلاف الطريق المنقطع، أو الأظهر انقطاعا، ولم يلتفت لاتصال الثاني، أو لقرب اتصاله، وقد ذكر هذا هو بعد أن فرغ من الترجيح، قال ابن أبي حاتم:«سألت أبي عن حديث رواه محمد بن أيوب، عن حفص المهرقاني، عن محمد بن سعيد بن سابق، عن عمرو بن أبي قيس، عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغازي والحاج والمعتمر وفد الله، سألوا الله فأعطاهم، ودعوا الله فأجابهم» .

فقال أبي: هذا حديث خطأ، إنما هو: أبو بكر بن حفص، عن عمر مرسلا، وقد أدرك أبو بكر بن حفص: ابن عمر، ولم يدرك عمر»

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن يونس، عن مندل، عن حصين، عن عمرو بن ميمون، قال: قال عمر بن الخطاب: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الكراث

» الحديث.

قال أبي: هذا خطأ، وإنما هو: حصين، عن هلال بن يساف، عن عمر بن الخطاب -مرسلا- عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 2: 282، و «التتبع» ص 412، و «سنن الدارقطني» 1: 85، و «علل الدارقطني» 3: 17، و «شرح صحيح مسلم» للنووي 3:14.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 296.

ص: 100

قلت لأبي: عمرو بن ميمون لقي عمر، قال: نعم، وهلال بن يساف

لم يلق عمر»

(1)

.

وتعرض أحد الباحثين لحديث قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:«أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، وقد اختلف فيه على قتادة، وعلى من دونه، ومن الاختلاف فيه ما رواه يوسف بن عطية الصفار، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

فذكر الباحث ضعف هذا الوجه، وذلك لسببين، الثاني منهما ضعف يوسف الصفار، وأنه متروك، وهذا لا إشكال فيه، وبه سقط هذا الوجه قبل أن يصل إلى قتادة، بل قبل أن يصل إلى سعيد بن أبي عروبة.

والسبب الأول الذي ذكره الباحث استفتحه بما نقله عن البرديجي أن سلسلة (قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة) لا تصح، كلها معلولة، وهذا حق، ولكن هذا عائد للسبب الثاني، وهو أنها لا تصح عن قتادة أصلا، فهي معلولة.

وذكر الباحث في السبب الأول أيضا بعد نقل كلام البرديجي ما جاء عن أحمد، وعبدالرحمن بن مهدي، من تضعيف رواية قتادة، عن سعيد بن المسيب، وأنه يدخل بينه وبين سعيد رجالا لا يعرفون.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 101، وانظر أمثلة أخرى له (163) ، (2179) ، (2754).

ص: 101

وصنيع الباحث هنا هو موضع الإشكال، فنقد الوجه بهذه الطريقة تحميل لقتادة عهدة خطأ ممن دونه، فهو لم يصح عنه أصلا، ودراسة الباحث للاختلاف في هذا الحديث ينبغي أن تنصب على النظر في الأوجه عن قتادة، وما الذي يصح منها عنه، وما الذي لا يصح؟ وأما ما بعد قتادة، فإنما ينظر فيه الباحث بعد الترجيح، ويكتفي بالنظر في الوجه الراجح فقط، وسيأتي شرح هذا في الفصل الرابع بحول الله وقوته.

وقد وقفت على كلمة للدارقطني توهم الاعتداد بقضية الاتصال والانقطاع في الترجيح، فإنه قال في حديث التشهد بعد أن ذكر أوجه الاختلاف فيه على أبي إسحاق السبيعي:«وكل الأقاويل صحاح عن أبي إسحاق، إلا ما قال زيد بن أبي أنيسة من ذكر علقمة، فإن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة شيئا»

(1)

.

وليست العبارة على ظاهرها، فالمقصود تخطئة هذا الوجه لمجيئه مصرحا فيه أبو إسحاق بالسماع من علقمة، وهو لم يسمع منه، كما تقدم في الاتصال والانقطاع

(2)

، يدل على ذلك أن الدارقطني ساق من طرقه عن أبي إسحاق، رواية يوسف بن أبي إسحاق، وسعاد بن سليمان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، وأبي الأحوص، وعمرو بن ميمون، وأصحاب عبدالله، عن عبدالله، وبعدها رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق: سألت أبا الأحوص، وربيع بن خثيم،

(1)

«علل الدارقطني» 5: 309.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 60، 112.

ص: 102

ومسروقا، وعبيدة، والأسود، وقص الحديث عن الأسود، عن عبدالله.

ويحتمل في كلمة الدارقطني أن يكون الاستثناء منقطعا، فبعد أن صحح الأوجه عن أبي إسحاق، عاد فاستأنف كلاما يبين فيه حال الأسانيد بعد أبي إسحاق، وأنها كلها متصلة عمن رواها عنهم، سوى روايته عن علقمة فإنه لم يسمع منه، والنقاد يتكلمون كثيرا عن حال الأسانيد بعد الفراغ من الموازنة والترجيح، أي من المدار فصاعدا كما تقدم آنفا في كلام أبي حاتم، وسيأتي شرح ذلك بالأمثلة في المبحث الثاني من الفصل الرابع.

ورواية أبي إسحاق، عن علقمة مشهورة عنه، من رواية كبار أصحابه عنه

(1)

، فلا يستقيم حينئذ أن يكون الانقطاع دليلا على خطأ من جعل الحديث عن أبي إسحاق، عن علقمة، والاعتماد في التخطئة كان على أمر آخر، وإنما يستقيم دليلا لو كان أبو إسحاق لم يرو عن علقمة أصلا، فهذا مدخل للترجيح مشهور، تقدم شرحه والحديث عنه بأمثلته في الفصل الرابع من الباب الأول، في المبحث الثالث منه، فالإسناد حينئذ مركب لا يستقيم، وربما عبر الناقد عن هذا بنفي بالسماع، أو بنفي الاتصال، وليس غرضه جعله مرجوحا بقرينة عدم السماع، وإنما مراده أنه لم يرو عنه أصلا.

ومن أمثلة ذلك أيضا ما روى أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن عمرو

(1)

انظر: «علل الدارقطني» 5: 7، 18، 151، 160، و «تحفة الأشراف» 7: 114 - 115، و «إتحاف المهرة» 10: 356، 367.

ص: 103

بن مرة، عن عبدالله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبدالله بن عمرو قال: «كان رسول صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع

» الحديث

(1)

.

ورواه حميد بن عطاء، عن عبدالله بن الحارث، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقيل لأبي زرعة: أيهما صح؟ فقال: «حديث زهير أصح وأشبه، وحميد ضعيف الحديث، واهي الحديث، وعبدالله بن الحارث، عن ابن مسعود مرسل»

(3)

.

وقد قال أبو حاتم في حميد: «ضعيف الحديث، منكر الحديث، قد لزم عبدالله بن الحارث، عن ابن مسعود، ولا يعرف لعبدالله بن الحارث، عن ابن مسعود شيء»

(4)

.

ومما يؤكد ما تقدم أن الاختلاف لو كان في إسناد واحد بذكر راو وحذفه، وكان الإسناد بذكر الراوي متصلا، أو أخف انقطاعا، لم يكن هذا كافيا لترجيح ذكر الراوي، ولا بد من الاعتماد على قرائن أخرى، وقد تقدم شرح شيء من هذا في هذا المبحث في قرينة (السهولة والوعورة)

(5)

.

فإن قيل: نرى النقاد يكثرون من النص على الانقطاع في الوجه المرجوح فما

(1)

«سنن الترمذي» حديث (3482).

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 10: 187 ،حديث (9176)، والمستدرك» 1:533.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 200

(4)

«الجرح والتعديل» 3: 226.

(5)

وانظر أيضا: «علل ابن أبي حاتم» (156)، (1837)، و «علل الدارقطني» 6:203.

ص: 104

غرضهم من ذلك إذن؟ والجواب: لهم من ذلك أغراض متعددة، منها أن يكون الغرض نفي الرواية أصلا، والتعبير بنفي السماع قصد به هذا، كما تقدم آنفا.

ومنها زيادة نقد للوجه المرجوح، فكأنه يقول: على فرض صحته عن المدار ففلان لم يسمع من فلان، كما يفعلون ذلك مع رواة الإسناد أنفسهم بعد المدار، ببيان درجتهم، وقد يفعلون هذا لمجرد البيان فهو إنشاء كلام.

ومنها أن يكون الوجه الراجح بعد ترجيحه عن المدار بقرائن الترجيح من أدلة الانقطاع في الوجه المرجوح، وهذا يكثر منه النقاد، خاصة إذا كان الوجه المرجوح فيه تصريح بالتحديث يراه الناقد خطأ، وقد تقدم شرح هذا في (الاتصال والانقطاع) في الكلام على قرائن وجود السماع أو عدمه، فإدخال راو بين راويين من أقوى القرائن على وجود انقطاع بينهما، وقد يقوى بحيث يرد تصريحا بالتحديث ورد في بعض الأسانيد

(1)

.

ويوضح هذا أن النقاد يتكلمون في قضية الاتصال والانقطاع في الوجه الراجح، كما تقدم في كلام أبي حاتم، وهكذا يفعله غيره من النقاد، فلم يؤثر كونه منقطعا أن يكون راجحا، والمتصل هو المرجوح.

ومثله في حال ترجيح حفظ وجهين، قد ينقدون أحدهما بالانقطاع، ولم يمنع هذا من كونه محفوظا عن المدار.

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 80 - 81، 115 - 130، وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (69)، (214)، (304)، (553)، (1732)، (2049)، (2104)، (2127)، (2143)، (2427)، (2605)، (2625)، (2738)، (2786).

ص: 105

روى البخاري من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حَرَّة المدينة عشاء

» الحديث، قال الأعمش بعده:«قلت لزيد: إنه بلغني أنه أبو الدرداء، فقال: أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة» ، ثم قال الأعمش:«وحدثني أبو صالح، عن أبي الدرداء نحوه»

(1)

.

وأخرجه البخاري أيضا من طريق جرير، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، وعلق بعده من طريق شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، والأعمش، وعبدالعزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، ثم قال:«حديث أبي صالح، عن أبي الدرداء مرسل لا يصح، إنما أردنا للمعرفة، والصحيح حديث أبي ذر» ، ثم سئل عن حديث عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، فقال:«مرسل أيضا لا يصح، والصحيح حديث أبي ذر، اضربوا على حديث أبي الدرداء»

(2)

.

فحديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء، محفوظ عن الأعمش، رواه عنه جماعة

(3)

، والذي منع البخاري من تصحيحه كونه منقطعا بين أبي صالح، وأبي الدرداء، وهذا لا علاقة له بحفظه عن الأعمش.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (6268).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (6443)، وذكر ابن حجر في «فتح الباري» 11: 267، أن هذا الكلام جاء في بعض نسخ «الصحيح» عقب رواية حفص بن غياث.

(3)

انظر أيضا: «سنن النسائي الكبرى» حديث (10965)، و «مسند أحمد» 6: 447، و «صحيح ابن حبان» حديث (170).

ص: 106

ومثل ما يقال في الاتصال والانقطاع يقال في الرواة، فإذا اختلف مثلا على راو في تسمية شيخه أو من فوقه، وكان أحد الوجهين رواته بعد الراوي المختلف عليه ثقات، والوجه الآخر ليس كذلك، أو ثقات ولكنه دون الأول، لم يكن هذا مرجحا، ولا مدخل له في الترجيح، وما يقع من بعض الباحثين من الترجيح بدرجة الرواة بعد المدار خطأ بين.

فمن ذلك أن جماعة من أصحاب الأعمش -منهم وكيع، وأبو بكر بن عياش- رووا عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» ، وجاء في بعض الطرق إلى وكيع التصريح بعروة بن الزبير

(1)

.

ورواه عبدالرحمن بن مغراء، عن الأعمش، قال: أخبرنا أصحاب لنا، عن عروة المزني، عن عائشة

(2)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، وذكر من مرجحات الوجه الأول: جهالة شيوخ الأعمش وجهالة عروة المزني، في الوجه الثاني.

كذا صنع الباحث، ولا مدخل لما ذكره في الترجيح، فالنظر في الراجح عن الأعمش، وما الذي حَدَّث به؟ وقد يكون الوجه الثاني هو الذي حَدَّث به،

(1)

«سنن أبي داود» حديث (179) و «سنن الترمذي» حديث (86)، و «سنن ابن ماجه» حديث (502)، و «سنن أحمد» 6: 210، و «مسند أبي يعلى» حديث (4407)، (4821)، و «سنن الدارقطني» 1: 137 - 138.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (180).

ص: 107

أي هو الراجح، فيتم نقده -بعد ترجيحه عن الأعمش- بما ذكره الباحث.

الصفة الثانية: ترجيح أحد النقاد لبعض الأوجه، وهذا كثير عند الباحثين، وخاصة تخريج الشيخين البخاري ومسلم أو أحدهما للوجه، فيقوم الباحث بذكر قرائن الترجيح، ويذكر منها أن هذا الوجه هو الراجح لكون الشيخين أخرجاه، أو لكون البخاري أو مسلم أخرجه، ويفعلون هذا مع غيرهما، فيذكر الباحث في مبرراته لترجيح الوجه أن أحمد، أو ابن معين، أو أبا حاتم، أو أبا زرعة، رجحه، وربما نزل بعضهم إلى أبي نعيم الأصبهاني، والبيهقي، وابن عبدالبر.

وغير خاف أن آراء المجتهدين ليست أدلة، فهي بحاجة إلى الدليل، والاستدلال بها حينئذ فيه دور، لا ينقطع إلا بوجود إجماع من أهل الفن على رأي، فالحجة إذن في إجماعهم، وما عدا ذلك فهو من باب الركون والتقليد لقول مجتهد.

يدل على ذلك أنه في حال اختلاف ناقدين فإن الباحث يستبعد رأييهما من القرائن، ويبحث عن قرائن لقول كل منهما، فلو كان رأي الناقد في نفسه دليلا لاستمر هذا، ولوجب إحضاره في كل اختلاف، فالدليل في حال هو دليل في حال أخرى، وإنما يقدم الأخذ بأحد الدليلين لأمور خارجة عن كون الدليل في نفسه دليلا.

مثال ذلك أنه لو استدل مجتهد في مسألة شرعية بدليل من السنة النبوية لعد عمله هذا موافقا لأصول الاستدلال، بغض النظر عن قوة الدليل وصلاحيته للاستدلال في هذه المسألة بعينها، ولو استدل ببعض كلام العرب -مثلا- لم ينظر في دليله أصلا، لخروجه عن أصول الاستدلال، وقد يكون موافقا للقول الراجح.

ص: 108

يضاف إلى ذلك أن كثيرا من الباحثين يعتمد تخريج الشيخين -مثلا- دون تمحيص، فتجده يذهب إلى حفظ عدد من الأوجه بقرينة تخريجها جميعا عندهما أو عند أحدهما، وهذا مزلق خطير، فإنهما كغيرهما يخرجان الشيء لبيان علته، وترجيح غيره عليه، فلا يصح أن ينسب إليهما تخريجه للاتكاء عليه دون نظر في كيفية تخريجه، بل ربما أخرجا بعض الأوجه عرضا دون قصد له.

وكل هذه القضايا سيأتي الحديث عنها في الفصل الخامس، وهو الفصل الخاص بكلام النقاد، وضوابط الاستفادة منه، وإحكام ذلك، ويأتي هناك أيضا الحديث عن ضرورة التمعن في كلام الناقد، وفهم مراده بالترجيح، قبل اعتماد الاستفادة منه، فإن هذا أيضا من المزالق الخطيرة في التعامل مع كلام النقاد.

وسأذكر الآن مثالا واحدا من صنيع أحد الباحثين، جمع فيه بين الاعتماد على قرينة كون أحد الوجهين متصلا، وبين الاعتماد على قرينة تخريج أحد الشيخين، وكلاهما لا يصح الاعتماد عليه في الترجيح.

ذكر أحد الباحثين الفضلاء ما أخرجه البخاري من طريق الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث، عن حذيفة قال: «يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا

» الحديث، ثم أخرج الأثر من مصادر أخرى من طريق الأعمش، ومن طريق عبدالله بن عون، عن إبراهيم، ورواية ابن عون ليس فيها همام بن الحارث، ثم قال في الموازنة بينهما: «وهو الصواب (يعني رواية الأعمش) لموافقته لرواية البخاري، ولأن إبراهيم النخعي لم يلق حذيفة

».

ص: 109

‌المبحث الرابع

المتابعات للمدار ومن فوقه

يستعين الناظر في الاختلاف على أحد الرواة برواية أقران الراوي المختلف عليه، أو برواية أقران شيخه ومن فوقه، إلى صحابي الحديث، فربما وجد في رواياتهم ما يؤيد ترجيح أحد وجوه الاختلاف على الراوي الذي ينظر في الاختلاف عليه، وربما وجد ما يؤيد حفظ وجهين أو أكثر من الاختلاف على ذلك الراوي.

وهذا له صورتان:

الصورة الأولى: أن يختلف على راو في إسناد واحد، فيختلف عليه في صفة هذا الإسناد، كالوصل والإرسال، أو الرفع والوقف، أو بزيادة راو فيه وحذفه، أو بزيادة أو تغيير في متنه، ونحو ذلك، كأن يروي بعض أصحاب شعبة بن الحجاج -مثلا- عن شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود حديثا مرفوعا، ويرويه بعض أصحاب شعبة عنه بهذا الإسناد موقوفا، فالناظر في هذا الاختلاف يبحث عن رواة آخرين شاركوا شعبة في رواية هذا الحديث عن الأعمش لينظر على أي صفة رووه، على الرفع أو الوقف؟ ويبحث كذلك عن رواة آخرين شاركوا الأعمش، في الرواية عن إبراهيم، وهكذا في إبراهيم، عن علقمة، وفي علقمة، عن ابن مسعود، وفي ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 110

والاستعانة برواية من هو في طبقة المختلف عليه ومن فوقه في هذه الصورة كثير جدا عند النقاد.

فمن ذلك الحديث الماضي في المبحث الثالث، وهو ما رواه سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن المرقع بن صيفي، عن حنظلة الكاتب، وأن جماعة من النقاد تواردوا على تخطئة الثوري في هذا، والصواب: عن المرقع بن صيفي، عن جده رباح -أو رياح- أخي حنظلة الكاتب.

والشاهد هنا أن البخاري في كلامه على هذا الحديث ذكر أولا مخالفة الثوري لبعض من رواه عن أبي الزناد نفسه، ثم ارتفع إلى طبقة أبي الزناد، فذكر من رواه عن المرقع بخلاف ما رواه الثوري.

قال البخاري: «رباح بن الربيع -أخو حنظلة- التميمي الأسيدي، قال إسماعيل، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن المرقع بن صيفي، أن جده رباح بن الربيع -أخا حنظلة الكاتب- أخبره، أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فقال: «الحق خالدا فلا يقتلن ذرية، ولا عسيفا» .

وقال عبدالعزيز: أخبرني ابن أبي الزناد، مثله.

وقال المقدمي: حدثنا فضيل بن سليمان، سمع موسى بن عقبة، سمع المرقع، شهد على جده رباح الحنظلي، مثله.

وقال أبو الوليد: حدثنا عمر بن مرقع بن صيفي بن رباح -أخو حنظلة بن الربيع-، سمع أباه، عن جده رباح، مثله.

ص: 111

وقال الثوري: عن أبي الزناد، عن مرقع، عن حنظلة الكاتب، وهذا وهم»

(1)

.

وروى جماعة منهم حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك بن مالك، عن عائشة، حديث استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، ومنهم من لم يسم خالد بن أبي الصلت، ومنهم من حذفه، ومنهم من زاد عمرة بين عراك، وعائشة، ومنهم من زاد عروة بن الزبير

(2)

.

والشاهد هنا أن بعض الرواة عن حماد بن سلمة روى الحديث بصيغة التحديث بين عراك بن مالك، وعائشة، وكان أحمد وغيره يذهبون إلى أنه لم يسمع من عائشة ولم يلقها، فسئل أحمد عن هذا الحديث، فأنكر ما فيه من التصريح بالتحديث، واحتج بأن الجماعة من أصحاب حماد بن سلمة لم يقولوا في رواية عراك: سمعت، وأيد أحمد ذلك برواية المتابعين لحماد، فلم يقولوا: سمعت.

قال الأثرم: «سمعت أبا عبدالله وذكر حديث خالد بن أبي الصلت، عن

(1)

«التاريخ الكبير» 3: 314، ونحوه في «التاريخ الصغير» 1: 116، وقد رواه عن المرقع أيضا راو ثالث لم يذكره البخاري، وهو يوسف بن عدي، انظر في هذه الطرق:«سنن أبي داود» حديث (2662)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8625)، و «المعجم الكبير» حديث (4622)، و «علل ابن أبي حاتم» 1:345.

(2)

«سنن ابن ماجه» حديث (324)، و «مسند أحمد» 6: 137، 183، 184، 219، 227، 239، و «مسند الطيالسي» حديث (1645)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 151، و «التاريخ الكبير» 3: 156، و «شرح معاني الآثار» 4: 334، و «الأوسط» لابن المنذر 1: 326، و «سنن الدارقطني» 1: 59، 60، و «سنن البيهقي» 1:92.

ص: 112

عراك بن مالك، عن عائشة رضي الله عنها

، فقال: مرسل، فقلت له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها، فأنكره، وقال: عراك بن مالك من أين سمع عائشة؟ ما له ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ، قال لي: من روى هذا؟ قلت: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء ليس فيه: سمعت، وقال غير واحد أيضا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت»

(1)

.

وروى حفص بن غياث، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن حمران، عن عثمان (حديث الوضوء)

(2)

.

ورواه جماعة عن الحجاج بن أرطاة -منهم حماد بن زيد، وعباد بن العوام، وأبو معاوية، وغيرهم- عن الحجاج، عن عطاء، عن عثمان، مرسلا ليس فيه حمران

(3)

.

وكذلك رواه ابن جريج، ويزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وغيرهم، عن عطاء، عن عثمان، وفي رواية ابن جريج، عن عطاء، أنه بلغه عن عثمان

(4)

.

(1)

«المراسيل» ص 162، وانظر:«تهذيب التهذيب» 3: 298، 7:174.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 63، و «علل الدارقطني» 3:28.

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (435)، و «مسند أحمد» 1: 66، 72، ومصنف ابن أبي شيبة» 1: 9، 15، و «علل ابن أبي حاتم» 1:63.

(4)

«مسند أحمد» 2: 348، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (124)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 63، و «علل الدارقطني» 3:28.

ص: 113

وسئل أبو زرعة عن رواية حفص الموصولة بذكر حمران، فذكر رواية الجماعة عن الحجاج، ثم رواية الجماعة عن عطاء، ورجح المرسل

(1)

.

الصورة الثانية: وقوع الاختلاف على الراوي بأسانيد مختلفة، فيروي عنه بعض أصحابه الحديث بإسناد، ويرويه بعضهم بإسناد آخر، وهكذا، وقد يكون التغيير في راو واحد فقط.

فإذا وقع الاختلاف على راو من الرواة على هذه الصورة فيستعان بالمتابعات التي قد توجد لأحد الوجهين لترجيحه، أو لكونه محفوظا مع حفظ الوجه الآخر، وقد توجد هذه المتابعات للوجهين جميعا، فيستدل بذلك على تأكيد حفظهما عن المدار.

وقد أكثر النقاد من استخدام هذا الجانب في النظر في الاختلاف.

فمن ذلك أن محمد بن عمرو بن علقمة روى عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»

(2)

.

ورواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 63، وانظر أمثلة أخرى في «علل ابن أبي حاتم» (221 - 222) ، (549)، و «علل الدارقطني» 1: 232، 234 - 235، 3: 268 - 269، و «سنن البيهقي» 2:398.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (22)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3042)، و «مسند أحمد» 2: 258، 287، 429، و «شرح معاني الآثار» 1: 44، و «سنن البيهقي» 1:37.

ص: 114

بن عبدالرحمن، عن زيد بن خالد الحهني

(1)

.

فذكر الترمذي أن البخاري رجح أن الحديث عن زيد بن خالد، وليس عن أبي هريرة، وخالفه الترمذي فصحح الحديثين جميعا، واحتج بأن الحديث معروف عن أبي هريرة من غير وجه، قال الترمذي:«وحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، كلاهما عندي صحيح، لأنه قد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة إنما صح لأنه قد روي من غير وجه، وأما محمد بن إسماعيل فزعم أن حديث أبي سلمة، عن زيد بن خالد أصح»

(2)

.

وروى جماعة من أصحاب الأعمش، منهم شعبة، وحفص بن غياث، وجرير بن عبدالحميد، وشيبان بن عبدالرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا حسد إلا في اثنتين

» الحديث

(3)

.

ورواه يزيد بن عبدالعزيز بن سياه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري

(4)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (47)، و «سنن الترمذي» حديث (23)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3041)، و «مسند أحمد» 4: 114، 116، 5:193.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (22)، وانظر «العلل الكبير» 1:106.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (5026)، (7232)، (7528)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5841)، و «مسند أحمد» 2: 479، و «شرح مشكل الآثار» حديث (462)، والكامل» 7:2727.

(4)

«مسند أحمد» 2: 479.

ص: 115

ذكر لأبي حاتم رواية حفص بن غياث، ورواية يزيد بن عبدالعزيز، أيهما أصح؟ فقال:«حفص أحفظ، والحديث مروي عن أبي هريرة من طريق آخر، ولا أعلم لأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيئا»

(1)

.

وروى سعيد بن خثيم، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن أبيه:«أنه كان إذا نظر إلى رجل يريد السفر، يقول: أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع، ثم يقول: أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك»

(2)

.

ورواه الوليد بن مسلم وغيره عن حنظلة، عن القاسم، عن ابن عمر

(3)

.

ذكر أبو حاتم، وأبو زرعة، أن هذين الإسنادين جميعا خطأ، وأن الصواب وجه ثالث وهو: عن حنظلة، عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، عن يحيى بن إسماعيل بن جرير، عن قزعة، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

واستدلا بما روياه عن أبي نعيم الفضل دكين، عن عبدالعزيز بن عمر كذلك، فترجح هذا الوجه عن حنظلة بكونه قد توبع عليه

(4)

.

وقد رواه جماعة كثيرون عن عبدالعزيز بن عمر كما رواه أبو نعيم، إلا أن

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 62.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (3443)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8806)، (10357)، و «مسند أحمد» 2:62.

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (8805)، (10356)، و «المستدرك» 1: 442، و «سنن البيهقي» 5:251.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 268.

ص: 116

بعضهم سمى شيخ عبدالعزيز بن عمر: إسماعيل بن جرير، وبعضهم سماه إسماعيل بن محمد بن سعد، ومنهم من أسقطه، والأكثرون سموه كقول أبي نعيم

(1)

.

وروى جماعة -منهم عبدالله بن المبارك، وأنس بن عياض، وحاتم بن إسماعيل- عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة

» الحديث

(2)

.

ورواه زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر.

سئل أبو حاتم عن هذا الاختلاف وذكر له رواية ابن المبارك، وزهير فقال:«جميعا صحيحين، وقد روي عنهما جميعا»

(3)

.

ومراد أبي حاتم -فيما يظهر- أن الحديث معروف عن نافع، ومعروف عن سالم، فهذا يدل على أن موسى بن عقبة قد رواه عنهما جميعا، وأن من رواه عنه عن نافع لم يخطئ عليه، ومن رواه عنه عن سالم لم يخطئ عليه كذلك.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2600)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10345 - 10349)، و «مسند أحمد» 2: 25، 38، 136، و «علل الدارقطني» 13: 205، و «تهذيب الكمال» 3:56.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (1616)، و «صحيح مسلم» حديث (1261)، و «سنن أبي داود» حديث (1893)، و «سنن النسائي» حديث (2941)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2716)، و «سنن البيهقي» 5:83.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 281.

ص: 117

وقد رواه عن نافع جماعة، منهم عبيدالله العمري، وفليح بن سليمان، وكثير بن فرقد، وعبدالله العمري، وأيوب السختياني

(1)

.

ورواه عن سالم بن عبدالله: الزهري

(2)

.

وفي ختام هذا المبحث أود التنبيه على أمور:

الأمر الأول: المتابعات للمدار من فوقه قد يوجد فيها شيء من القرائن الماضية في المبحث الثالث، وهي القرائن في أوجه الاختلاف نفسها، فقد يوجد فيها من يفصل بين روايتين، فيستدل بذلك على أنه قد حفظ، أو يوجد فيها تفاصيل في المتن أو في الإسناد تدل على الحفظ، كوجود قصة مثلا.

ومن أمثلة ذلك ما رواه عبيدالله بن عمرو الرقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1617)، (1644)، و «صحيح مسلم» حديث (1261)، و «سنن أبي داود» حديث (1891)، و «سنن النسائي» حديث (2940)، (2943)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2950)، و «مسند أحمد» 2: 13، 14، 30، 40، 59، 71، 75، 98، 100، 114، 125.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (1603)، (1691)، و «صحيح مسلم» حديث (1227)، (1261)، و «سنن أبي داود» حديث (1805)، و «سنن النسائي» حديث (2731)، (2942)، و «مسند أحمد» 2:139.

وانظر أمثلة أخرى في: «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» (1310) ، و «علل ابن أبي حاتم» (268) ، (690)، (1203) ، (1667) ، (2613) ، (2669)، و «علل الدارقطني» 3: 253 - 354، 262 - 264، 14: 205 - 206.

ص: 118

أقبل عليهم بوجهه فقال: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ؟

» الحديث

(1)

.

ورواه معمر، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبدالوارث بن سعيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا

(2)

.

ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ونص جماعة من النقاد على خطأ الوجه الأول وهو جعله عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل البخاري بما رواه من طريق إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء قال:«قلت لأبي قلابة: من حدثك هذا؟ قال: محمد بن أبي عائشة مولى لبني أمية، كان خرج مع بني مروان حيث خرجوا من المدينة»

(4)

.

فهذا النص يدل بوضوح على صحة رواية الجماعة عن أيوب، وأن أبا قلابة

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 207، و «مسند أبي يعلى» حديث (2805)، و «صحيح ابن حبان» حديث (1844)، (1852).

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (2765)، و «التاريخ الكبير» 1: 207، و «علل الدارقطني» 12: 237، و «سنن البيهقي» 2: 166، و «القراءة خلف الإمام» للبيهقي حديث (148 - 151)، و «معرفة السنن» 2:53.

(3)

«مسند أحمد» 4: 236، 5: 60، 81، 410، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (2766)، و «القراءة خلف الإمام» للبخاري حديث (67).

(4)

«التاريخ الكبير» 1: 207، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 175، و «سنن البيهقي» 2:166.

ص: 119

يرويه له مرسلا، وعلى خطأ من ذكر أنسا، فإنه لو كان عند أبي قلابة عن أنس لبادر بذكره حين سئل عنه.

الأمر الثاني: المتابعات للمدار ومن فوقه في غاية الأهمية بالنسبة للترجيح في الاختلاف على مدار ينظر فيه الباحث، فالمتابعات للمدار ومن فوقه قد تتظافر فيقطع بخطأ الوجه الآخر، وقد تعدم تماما فيفقد الترجيح شيئا من قوته من هذه الجهة، وبين تظافر المتابعات وانعدامها درجات أخرى بحسب عدد الطبقات التي توجد فيها المتابعات.

وهذا الكلام يسري في جميع أنواع الاختلاف، وسأكتفي بمثالين في كل منهما زيادة في متن الحديث ضعفها النقاد بالنظر في المدار والرواة عنه، وفي إحداهما زيادة ترجيح بالمتابعات للمدار ومن فوقه.

فالأول الحديث الماضي في المبحث الثالث من هذا الفصل، وهو حديث أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في صفة غسله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، فقد زاد فيه أبو معاوية على جميع أصحاب هشام في آخره:«ثم غسل رجليه» ، ولا توجد متابعات لهشام عن أبيه، ولا لعروة عن عائشة، يتأكد بها ترجيح عدم حفظ هذه الزيادة.

ومثلها في هذا الحديث زيادة وكيع لفظ: «ثلاثا» في غسل اليدين.

والثاني حديث أبي هريرة في (ولوغ الكلب في الإناء) ، فقد رواه علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي صالح، وأبي رزين، عن أبي هريرة، وزاد فيه علي:«فليرقه» .

ص: 120

وقد رواه إسماعيل بن زكريا، وأبو معاوية، وشعبة، وحفص بن غياث، وغيرهم، عن الأعمش، فلم يذكروا هذه الزيادة، إلا أن منهم من جمع بين أبي صالح، وأبي رزين، كما فعل علي بن مسهر، ومنهم من اقتصر على أحدهما.

وكذا جاء عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، ليس فيه الزيادة.

وكذا رواه جماعة كثيرون من أصحاب أبي هريرة، ليس فيه الزيادة فرواه الأعرج، ومحمد بن سيرين، وهمام بن منبه، وثابت بن عياض، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالرحمن بن أبي عمرة، وعبيد بن حنين.

وقد رواه كذلك عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في حديثه ذكر الإراقة.

فبهذه المتابعات للأعمش، ولأبي صالح، وأبي رزين، ولأبي هريرة، ازداد ترجيح عدم حفظ هذه الزيادة قوة، ولهذا توارد النقاد -منهم مسلم، والنسائي، وغيرهما- على تضعيفها، مع أنه قد جاء من طريق محمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، الأمر بالإراقة موقوفا على أبي هريرة، فلو صح هذا كان دالا أيضا على خطأ علي بن مسهر

(1)

.

(1)

انظر في طرق هذا الحديث والكلام عليه: «صحيح البخاري» حديث (172) ، و «صحيح مسلم» حديث (235) ، (279) ، (280) ، و «سنن أبي داود» حديث (71 - 74) ، و «سنن الترمذي» حديث (91) ، و «سنن النسائي» حديث (63 - 66)، (334 - 338) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (363)، و «مسند أحمد» 2: 245، 253، 265، 271، 360، 398، 424، 427، 480، 489، 4: 86، 5: 56، و «مسند أبي عوانة» 1: 209، و «شرح معاني الآثار» 1: 21، و «المعجم الصغير» حديث (256) ، (942)، و «سنن الدارقطني» 1: 63 - 66، و «سنن البيهقي» 1: 241، و «فتح الباري» 1: 275، و «التلخيص الحبير» 1:35.

ص: 121

والمتأمل في عمل بعض الناظرين في الأسانيد يرى خللا في مراعاة وجود المخالفة في عدد من الطبقات، فيحكم بصحة وجه دون تمعن فيما يلزم على التصحيح.

فمن ذلك أن بعض الباحثين حين جاء إلى زيادة علي بن مسهر الآنفة الذكر، وذكر تفرد علي بن مسهر بها، قال:«وهي زيادة ثقة مقبولة، ووجودها في المتن تحصيل حاصل» .

كذا قال، وكون وجودها في المتن تحصيل حاصل غير مسلم، وليس هذا موضع الشاهد، فالشاهد هنا قوله عنها إنها زيادة ثقة مقبولة، إذ يلزم عليه أن نقول إن أبا هريرة: ذكرها لأبي صالح، وأبي رزين، ولم يذكرها للجماعة من أصحابه، ثم أبو صالح ذكرها للأعمش، ولم يذكرها لابنه سهيل، ثم الأعمش، ذكرها لعلي بن مسهر فقط، ولم يذكرها لبقية أصحابه الذين رووا عنه هذا الحديث، ومنهم من هو مقدم في الأعمش، كأبي معاوية، وشعبة، وعلي بن مسهر ربما أخطأ لكونه يحدث من حفظه، وكان بصره قد ذهب في آخر عمره، وذكر أيضا أنه دفن كتبه

(1)

، فالقول بأن هذه زيادة محفوظة بعيد جدا.

وروى الجماعة من أصحاب شعبة -منهم محمد بن جعفر، ووكيع، ومحمد بن أبي عدي، وغيرهم- عن شعبة، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج

(1)

«تهذيب الكمال» 21: 137 - 138.

ص: 122

-ثلاثا- غير تمام»

(1)

.

وهكذا رواه بقية أصحاب العلاء، منهم سفيان بن عيينة، والدراوردي، وروح بن القاسم، وإسماعيل بن علية، وجماعة كثيرون

(2)

.

ورواه وهب بن جرير، عن شعبة، بلفظ:«لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»

(3)

، وقيل: إن محمد بن كثير رواه عن شعبة كذلك

(4)

.

قال ابن حجر: «ومن الأحاديث التي رواها بعض الرواة بالمعنى الذي وقع له، وحصل من ذلك الغلط لبعض الفقهاء بسببه، ما رواه العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة

»، فذكر الحديث كما رواه الجماعة عن شعبة، وعن العلاء، ثم قال:«وانفرد وهب بن جرير، عن شعبة بلفظ: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ، حتى زعم بعضهم أن هذه الرواية مفسرة للخداج الذي في الحديث، وأنه عدم الإجزاء.

(1)

«مسند أحمد» 2: 457، 478، و «القراءة خلف الإمام» للبخاري 1: 167، و «مسند أبي يعلى» حديث (6454)، و «القراءة خلف الإمام» للبيهقي حديث (60 - 61).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (395)، و «سنن الترمذي» حديث (2953)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8013)، و «مسند أحمد» 2: 241، و «القراءة خلف الإمام» 1: 12، 50، 52، و «سنن سعيد بن منصور» حديث (168)، و «شرح معاني الآثار» 1: 216، و «صحيح ابن حبان» حديث (776)، (1788)، و «القراءة خلف الإمام» للبيهقي حديث (69 - 70)، (73 - 74).

(3)

«الأوسط» لابن المنذر حديث (1250)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (490)، و «صحيح ابن حبان» حديث (1789).

(4)

«صحيح ابن حبان» حديث (1789) معلقا.

ص: 123

وهذا لا يتأتى له إلا لو كان مخرج الحديث مختلفا، فأما والسند واحد متحد، فلا ريب في أنه حديث واحد اختلف لفظه، فتكون رواية وهب بن جرير شاذة بالنسبة إلى ألفاظ بقية الرواة، لاتفاقهم دونه على اللفظ الأول، لأنه يبعد كل البعد أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه سمعه باللفظين، ثم نقل عنه ذلك فلم يذكره العلاء لأحد من رواته على كثرتهم إلا لشعبة، ثم لم يذكره شعبة لأحد من رواته على كثرتهم إلا لوهب بن جرير»

(1)

.

وفي حال عدم وجود متابعات لأحد الوجهين، يستعيض الناظر في الاختلاف عن ذلك بالطبقة، فإذا كان مدار الاختلاف عالي الطبقة كالتابعين، أمكن أن يقال بحفظ الوجهين، كالوصل والإرسال، والرفع والوقف، وأن الراوي قد ينشط وقد يفتر، إذا كانت القرائن تساعد على ذلك، ومثله في زيادات الألفاظ، يترجح قبولها إذا كانت الزيادة على مدار عالي الطبقة.

أما إذا وقع ذلك والمدار نازل الطبقة، في الثالثة وما دونها، فيضعف حفظ الوجهين، أو حفظ الزيادات في المتون، وكلما نزلت طبقة المدار زاد استبعاد ذلك.

ووجه ما تقدم أن الرواية في الزمن المتأخر عن عصر الصحابة، وعصر التابعين، صارت مقصودة لذاتها، لها قواعدها وأحكامها، والشيخ يقصد من أجل الرواية، وربما سمع بعض أصحابه منه الحديث الواحد عدة مرات،

(1)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 806، وقد وقع مثل هذا التغيير في حديث عبادة بن الصامت:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، انظر:«تنقيح التحقيق» 1: 370، ورسالة «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني عرض ومناقشة» لسامي الخليل ص 123 - 125.

ص: 124

فإذا خالف بعضهم وأتى بشيء ليس عند أصحابه ترجح أنه غير محفوظ، قال ابن معين في علي بن الحسن بن شقيق:«كان عالما بابن المبارك، قد سمع الكتب مرارا، حدث يوما عن ابن المبارك، عن عوف، عن زيد بن شراجة، فقيل له: شراحة، فقال: لا، ابن شراجة، سمعته من ابن المبارك أكثر من ثلاثين مرة» ، ثم قال ابن معين:«وهو الصواب: ابن شراجة»

(1)

.

ومثال ذلك زيادة أبي معاوية، وزيادة وكيع، في حديث عائشة في غسل الجنابة المتقدم آنفا، يبعد جدا أن يفوت هذا الجلة من أصحاب هشام، وينفرد هذان بحفظ ذلك.

ومثال ذلك أيضا أن إبراهيم بن طهمان روى عن حسين المعلم، عن عبدالله بن بريدة، عن عمران بن حصين، قال:«كان بي الناصور، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب»

(2)

.

ورواه يحيى القطان، وعبدالوارث بن سعيد، وروح بن عبادة، وعيسى بن يونس، وسفيان بن حبيب، ويزيد بن زريع، وسعيد بن أبي عروبة، وعبدالوهاب الخفاف، وإسحاق الأزرق، ويزيد بن هارون، وأبو خالد الأحمر، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وغيرهم، عن حسين المعلم بلفظ: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا، فقال: إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف

(1)

«تاريخ بغداد» 11: 371.

(2)

«صحيح البخاري» ، حديث (1117) ، و «سنن أبي داود» حديث (951) ، و «سنن الترمذي» حديث (371) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (1223)، و «مسند أحمد» 4:326.

ص: 125

أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد»، ومنهم من ذكر قصة الناصور

(1)

.

فالذي يظهر أن إبراهيم بن طهمان قد رواه بالمعنى، لانفراده بهذا اللفظ وعدم روايته للفظ الآخر، إذ يبعد جدا أن يكون اللفظان عند حسين المعلم، فيروي لإبراهيم بن طهمان أحدهما، ويروي الآخر لسائر أصحابه، على اختلاف بلدانهم ولقيهم له، ووجودهم في زمن تقنين الرواية، والحرص على تتبع الألفاظ.

وقد أشار إلى ذلك الترمذي، فقال بعد أن أخرج رواية إبراهيم بن طهمان، وعيسى بن يونس:«ولا نعلم أحدا روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان، وقد روى أبو أسامة وغير واحد عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس» .

وكذا أشار إلى هذا ابن الجارود، فإنه أخرجه من طريق إسحاق الأزرق، عن حسين المعلم، ثم قال:«وهكذا حدثنا به محمد بن يحيى، عن يزيد بن هارون، عن حسين المعلم» ، ثم ساق رواية إبراهيم بن طهمان.

وذكر الطحاوي عن قوم لم يسمهم أن الحديث مضطرب، لاختلاف لفظيه، ثم دفع الاضطراب بأنهما حديثان مختلفان، لكن الطحاوي لم يذكر في

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1115 - 1116) ، و «سنن أبي داود» حديث (951) ، و «سنن الترمذي» حديث (371) ، و «سنن النسائي» حديث (1659) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (1231)، و «مسند أحمد» 4: 433، 435، 442، 443، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 52، و «تاريخ بغداد» 11:371.

ص: 126

مقابل رواية إبراهيم بن طهمان سوى رواية عيسى بن يونس

(1)

.

وعكسه ما وقع في حديث (ولوغ الكلب) المتقدم آنفا فقد رواه الجماعة من أصحاب أبي هريرة فلم يذكروا فيه التتريب، وجاء ذكره من رواية محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وكذا روي عن أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة، لكنه لا يصح.

فذكر التتريب في حديث أبي هريرة يقرب جدا حفظه، وإن كان قد تفرد به شخص واحد، والجماعة لم يذكروه، لوقوع ذلك في طبقة عليا.

وأرجح أن هذا أحد الأسباب الرئيسة لما ذكره بعض العلماء من أن زيادة صحابي على صحابي آخر مقبولة بالاتفاق، وليست داخلة في مبحث زيادات الثقات

(2)

.

وكثير من الباحثين لا يراعي طبقة المدار في نظره في الاختلاف، فيذهب يدفع بعض العلل عن الإسناد، كالإرسال والوقف، بإمكانية حفظ الوجهين، دون مراعاة لطبقة المدار، فإذا اختلف على مدار نازل وصلا وإرسالا، أو رفعا ووقفا، أو بزيارة راو، تجد الباحث يكرر مثل هذه العبارات: الراوي قد ينشط فيصل الحديث، وقد يفتر فيرسله، وهكذا في الرفع والوقف، والزيادة والنقص، ولو تأمل الباحث هذا لأدرك أنه بعيد جدا، إذ يلزم عليه أن يكون كل راو حدث

(1)

«شرح مشكل الآثار» حديث (1694).

(2)

«نظم الفرائد» ص 388، و «شرح علل الترمذي» 2: 635، 640، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2:691.

ص: 127

بالوجهين من دونه في الإسناد، وهكذا حتى وصل إلى المدار فحدث بالوجهين أيضا، دون أن يذكر واحد منهم أنه عنده على الوجهين.

روى جماعة من أصحاب الثوري -ومنهم يحيى القطان، ووكيع، وخالد بن الحارث- عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته»

(1)

.

ورواه جماعة آخرون -منهم عبدالرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وعبدالرزاق، وأبو إسحاق الفزاري- عن الثوري، عن حبيب، عن أبي وائل: «أن عليا قال لأبي الهياج

» الحديث

(2)

.

تعرض أحد المشايخ لهذين الوجهين، وما قيل في الحديث إنه مضطرب، واختار في الجواب عنه مسلك الجمع، وهو تصحيح الوجهين، قال:«وتوجيهه أن أبا وائل سمع الحديث مرة من علي، ومرة من أبي الهياج، فكان يحدث بهذا تارة، وبهذا تارة أخرى، وتبعه حبيب، وتبعه سفيان» .

(1)

«صحيح مسلم» حديث (969) ، و «سنن أبي داود» حديث (3218) ، و «سنن النسائي» حديث (2030)، و «مسند أحمد 1: 96، 128، و «علل الدارقطني» 4: 173 - 182، و «مستخرج أبي نعيم» حديث (2171 - 2127)، و «سنن البيهقي» 4:3.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1049)، و «مسند أحمد» 1: 418، و «علل الدارقطني» 4: 173 - 182، و «المستدرك» 1:369.

ص: 128

كذا قال، وما قرره من أبعد ما يكون، ولو وقع هذا لذكره أحدهم مرة، وفي إثباته سماع أبي وائل من علي بهذا الحديث نظر كبير، فهو دليل عدم سماعه منه

(1)

.

الأمر الثالث: حين يقف الباحث على متابعات للمدار ومن فوقه يريد أن يعضد بها أحد الوجهين، أو كليهما، عليه أن يقوم بفحص هذه المتابعات، والتحقق من صلاحيتها للاعتضاد، من جميع الجهات التي يلزم النظر فيها، فينظر في رواة الإسناد، وفي سماع بعضهم من بعض، وينظر كذلك إن كان هناك اختلاف على أحد رواة المتابعات الجديدة، فيلزمه حينئذ النظر فيه، كما ينظر في الاختلاف الأساس معه سواء بسواء.

وأدق من ذلك أن يكون ما يظنه الباحث عاضدا لأحد الأوجه هو المفسر لسبب غلط الراوي لذلك الوجه، كما تقدمت أمثلة ذلك قريبا في المبحث الثالث، ومنها الاختلاف على سفيان الثوري في حديث بريدة بن الحصيب، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عدة صلوات بوضوء واحد، فقد رواه جماعة عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة مرسلا، ورواه جماعة آخرون عن سفيان موصولا بذكر بريدة.

وقد رواه سفيان أيضا -ولم يختلف عليه في ذلك- عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه موصولا.

(1)

«المراسيل» ص 88.

ص: 129

فهذا الإسناد الموصول لا يصح أن يعضد به رواية من رواه بالإسناد الأول موصولا، لأنه هو سبب غلط من وصله، نقل الوصل من هذا الإسناد إلى ذاك.

وكل هذا أمر بدهي، وإنما ينبه عليه الباحث هنا خشية أن يفتر، ويستعجل الحكم باعتضاد وجه دون تمحيص، بسبب انشغاله باختلافه الواقع على مداره الأساس، فيعود هذا على عمل الباحث بالنقض.

ولن أطيل هنا بضرب الأمثلة، وقد مر لهذا نظير يمكن القياس عليه، وهو ما مضى في المبحث الثالث من هذا الفصل، في الترجيح باضطراب راوي أحد الوجهين، فقد طلب من الباحث هناك التحقق من وجود الاضطراب، وصحة ذلك عن الراوي، فهذا مثله.

ويأتي أيضا بحث قضية فحص الطرق قبل الاعتماد عليها في أماكن لاحقة، فيأتي ذلك في المبحث الثاني من الفصل الثالث، في الكلام على تصفية رواة الأوجه، وفي المبحث الثاني من الفصل الرابع، في الكلام على موقف الباحث مما يجده من طرق فوق مداره، فهي أيضا بحاجة إلى فحص وتصفية إذا كان ما فيها يخالف ما ترجح في الاختلاف على مدار الباحث، وجماع ذلك كله يأتي في فصل خاص بالاعتضاد وشروطه، في الباب الرابع، بإذن الله تعالى، فالشد بالطرق والروايات بابه واحد، وإنما ينبه الباحث على شيء من قواعده في مناسبات ذلك، فإنه موضوع خطير في علم نقد المرويات، لا يضر طرقه في عدة أماكن، بل هذا ضروري فيما أرى، ليتعرف الباحث على مواطن حاجته لتطبيق قواعد الاعتضاد.

ص: 130

الأمر الرابع: الاستعانة بطبقة المدار المختلف عليه ومن فوقه لترجيح وجه أو أكثر من وجوه الاختلاف على المدار أمر في غاية الدقة، وهو مزلة قدم إذا لم يحكمه الباحث، وبيان ذلك أن الاستعانة بالطبقات العليا والاستفادة منها للترجيح في اختلاف على راو إنما يصح إذا كان الترجيح في الاختلاف على هذا الراوي قد فرغ منه الناقد، أو كاد يفرغ منه، وذلك بالنظر في المدار نفسه، وفي الرواة المختلفين عليه، وفي صفة رواياتهم، فيزيد هذا الترجيح قوة بالاستعانة بالطبقات العليا.

وعلى هذا فالروايات في الطبقات العليا لا تقلب الترجيح، فلو اختلف على سفيان الثوري -مثلا- أصحابه، فرواه بعضهم على وجه، ورواه بعضهم على وجه آخر، ثم ترجح للباحث أحد الوجهين وفرغ منه، وانتقل إلى النظر في الروايات الأخرى عن شيخه الأعمش، فوجد أن الطرق الأخرى عن الأعمش توافق الوجه المرجوح عن الثوري، لا يعود الباحث وينقض ترجيحه في الخلاف على الثوري.

وكذلك لو وجد الباحث خلافا على الأعمش، ثم عالجه، ووصل إلى ترجيح وجه كان هو المرجوح عن الثوري، لا يعود إلى الاختلاف على الثوري ويقلب نتيجة النظر بجعل ما هو مرجوح عن الثوري راجحا عنه.

ومثل ذلك لو تقرر عند الباحث بصورة ظاهرة حفظ الوجهين عن الثوري، ثم انتقل إلى الروايات الأخرى عن شيخه الأعمش، فوجد أن المحفوظ عنه وجه واحد، لا يعود إلى الاختلاف على الثوري، ويلغي النتيجة الأولى، بل هي باقية.

ص: 131

والروايات الأخرى عن الأعمش أفادت حينئذ أي قولي الثوري هو الذي أصاب فيه، وأيهما الذي أخطأ فيه؟ فأفادتنا ما هو الراجح من المدار فما فوق، وأما قبل المدار فلم تتغير النتيجة.

والخلاصة أنه لا تلازم مطلقا بين نتيجة نظر في اختلاف في طبقة، وبين ما هو حاصل في الطبقات التي فوقه، وشرح ذلك لن أطيل به هنا، فهذا له فصل خاص به هو الفصل الرابع، وهو بعنوان (الاختلاف عن المدار والحكم النهائي) ، والمباحث في الفصل الذي نحن فيه الآن خاصة المبحثين الثاني، والثالث - هي في معرفة ما هو المحفوظ عن المدار الذي ينظر الباحث في الاختلاف عليه، غير أني استعجلت التنبيه على هذه القضية لأن لها مناسبة هنا، ولكثرة وقوع الخلط عند الباحثين حين يستعينون بالنظر في روايات الطبقات العليا.

وأكتفي هنا بعرض مثال يتضح به المقصود، وهو حديث اختلف فيه على الزهري وعلى من دونه، وأشهر الأوجه فيه وجهان، فرواه إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، وقال مرة: عن الزبيدي، كلاهما عن الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل

» الحديث

(1)

.

ورواه مالك، ويونس بن يزيد، وصالح بن كيسان، ومعمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن مرسلا، ليس فيه أبو هريرة.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3522) ،و «سنن ابن ماجه» حديث (2359).

ص: 132

وقد توارد النقاد -محمد بن يحيى الذهلي، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والعقيلي، والدارقطني- على ترجيح المرسل، وأن الموصول بذكر أبي هريرة غير محفوظ

(1)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، فتكلف جدا في تقوية الوجه الأول، لكنه رجح الوجه الثاني لأنه من رواية الحفاظ الكبار من أصحاب الزهري، ثم عاد فنقض هذا، وقال:«لكن يلاحظ أنه وجد متابع للزهري عليه (يعني الوجه الأول) بسند صحيح، وذلك فيما أخرجه الشيخان في «صحيحيهما»

(2)

من طريق يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبدالعزيز، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة مرفوعا

، وعليه يمكن القول بالجمع بين الوجهين، ويكونان مسموعين عن الزهري

».

كذا قال الباحث، وصنيعه هذا من أبعد ما يكون عن قواعد النقد، فالوجه الموصول ضعيف عن الزهري، لو صح الطريق إلى موسى بن عقبة، والزبيدي، فكيف والراوي عنهما إسماعيل بن عياش؟ ثم زاد الباحث الطين بلة، فاتكأ على رواية عمر بن عبدالعزيز الموصولة لترجيح حفظ الموصول عن الزهري، ولا يصح هذا أبدا، فلا تنفع رواية عمر بن عبدالعزيز لانتشال ما هو ضعيف جدا عند الزهري، بل قد تزيده ضعفا، لأن الحديث إذا عرف واشتهر من رواية شخص،

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3520 - 3522) ، و «المنتقى» حديث (633)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 383، 388، و «الضعفاء الكبير» 1: 89، و «سنن الدارقطني» 3: 29، 109.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (2420)، و «صحيح مسلم» (1559).

ص: 133

ثم نقله من لا يعتمد عليه إلى راو آخر مشهور دل على ضعف روايته، كما تقدم شرحه في المبحث الذي قبل هذا.

وكان ينبغي للباحث حين فرغ من النظر في الوجهين عن الزهري، ورجح المرسل، أن يتوقف عند هذا بالنسبة لرواية الزهري، ثم ينشئ نظرا آخر في الاختلاف على المدار الأعلى وهو أبو بكر بن عبدالرحمن، والنظر يكون بين رواية الزهري المرسلة، ورواية عمر بن عبدالعزيز الموصولة، كما سيأتي شرح ذلك في الفصل المشار إليه آنفا.

وهذا كله لو كان الحديثان متفقين في المعنى، وليس كذلك، فإن في رواية الزهري زيادة تفصيل ليس في رواية عمر بن عبدالعزيز.

* * *

ص: 134

‌الفصل الثالث

مسائل متفرقة في النظر في الاختلاف

وفيه مباحث:

المبحث الأول: الترجيح بالقدر المشترك.

المبحث الثاني: الطرق إلى رواة الأوجه.

المبحث الثالث: تعاضد القرائن.

المبحث الرابع: تعارض القرائن.

ص: 135

‌المبحث الأول

الترجيح بالقدر المشترك

القدر المشترك هو الصفة التي يجتمع عليها وجهان أو أكثر في مقابل وجه واحد من أوجه الاختلاف، بين الأوجه المجتمعة في هذه الصفة اختلاف في جهة أخرى، أو في أكثر من جهة.

وصور القدر المشترك كثيرة جدا، فمن ذلك أن يأتي عن الراوي وجه بوصل الحديث بذكر صحابيه، ووجه آخر بإرسال الحديث بإسقاط الصحابي، ووجه ثالث بالإرسال كذلك لكن مع إبدال التابعي بتابعي آخر، فالوجهان الأخيران بينهما اختلاف في تسمية التابعي، لكنهما يتفقان في إرسال الحديث في مقابل الوجه الأول الموصول.

ومن صوره أيضا أن يأتي وجه عن المدار بوقف الحديث، ووجه آخر برفعه موصولا، ووجه ثالث برفعه مرسلا ليس فيه الصحابي، فبين الوجهين الأخيرين قد مشترك وهو الرفع في مقابل الوجه الموقوف.

ومن أمثلة ذلك ما رواه رباح بن زيد، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبي هريرة، قصة محاورة عمر لأبي بكر في قتال المرتدين

(1)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1556)، و «مسند أحمد» 1:47.

ص: 137

ورواه عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة مرسلا ليس فيه أبو هريرة

(1)

.

ورواه عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس

(2)

.

فبين الوجهين الأولين قدر مشترك وهو أن الحديث ليس مخرجه أنس بن مالك وإنما هو عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، إما موصولا بذكر أبي هريرة، أو مرسلا بإسقاطه، في مقابل الوجه الثالث وهو جعله عن أنس بن مالك.

وروى حماد بن يحيى الأبح، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن، لا تأكلوا به، ولا تستأثروا به، ولا تحفوا عنه، ولا تغلوا فيه»

(3)

.

وهذا الحديث جزء من حديث تضمن عدة جمل، وقد رواه كاملا أو بالاقتصار على بعضه جماعة من أصحاب يحيى بن أبي كثير، منهم هشام الدستوائي، وأبان بن يزيد، وعلي بن المبارك، ومعمر، وهمام بن يحيى، وغيرهم، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن أبي راشد الحبراني، عن عبدالرحمن بن شبل مرفوعا، لكنهم اختلفوا على يحيى، بل بعضهم عليه اختلاف، فمنهم من يسقط زيدا، ومنهم من يسقط أبا سلام، ومنهم من

(1)

«مسند أحمد» 1: 35، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (1002).

(2)

«سنن النسائي» حديث (3094)، (3969).

(3)

«مسند البزار» حديث (1044).

ص: 138

يسقطهما جميعا، ومنهم من يسقط أبا راشد الحبراني، ومنهم من يسقط أبا سلام، وأبا راشد

(1)

.

فهذه أوجه مختلفة عن يحيى بن أبي كثير، لكن يجمعها قدر مشترك وهو هذا الإسناد كيفما تصرف، في مقابل الوجه الأول: يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبيه.

ومن تطبيقات النقاد في استخدام القدر المشترك في الترجيح أن همام بن يحيى روى عن قتادة، عن شريك بن خليفة، قال: سألت عبدالله بن عمرو: آكل وأنا جنب؟ قال: «توضأ وضوءك للصلاة ثم كل» .

ورواه هشام الدستوائي، عن قتادة مثله، غير أنه سمى صحابيه: عبدالله بن عمر.

ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبدالله بن عمرو.

قال عفان بن مسلم: «قلت ليحيى (يعني ابن سعيد القطان): أخطأ هشام، وسعيد، وأصاب همام، قال: كيف يا مجنون؟ قلت: وافق سعيد هماما على عبدالله بن عمرو، ووافق هشام هماما على شريك»

(2)

.

(1)

«مسند أحمد» 3: 428، 444، و «الأدب المفرد» حديث (992)، و «تهذيب الآثار» 3: 50 حديث (99)، و «المعجم الأوسط» حديث (2574).

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 265، وانظر:«مسائل حرب» ص 457 - 458، و «التاريخ الكبير» 4: 238، و «الأوسط» لابن المنذر 2:92.

ص: 139

ومن ذلك أيضا الحديث الماضي في الفصل الأول من الباب الثالث، وهو ما رواه شيبان بن عبدالرحمن، وعلي بن المبارك، وأبان بن يزيد، وحرب بن شداد، وبكر بن مضر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين» .

ورواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد، وزاد فيه ذكر المسح على العمامة.

ولما أخرج البخاري طريق الأوزاعي هذا علق عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن عمرو بن أمية بالزيادة المذكورة فجعله متابعا للأوزاعي بذكرها مع أن رواية معمر هذه تخالف رواية الجماعة ومنهم الأوزاعي بإسقاط جعفر بن عمرو بن أمية من الإسناد.

وروى محمد بن مسلم الطائفي، وعيسى بن ميمون بن داية المكي، عن عمرو بن دينار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوساق صدقة»

(1)

.

قال البخاري في نقد هذه الرواية بعد أن رواه مختصرا عن يَسَرة بن صفوان

(1)

رواية محمد بن مسلم في «سنن ابن ماجه» حديث (1794)، و «مسند أحمد» 3: 94، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2304 - 2305)، و «سنن الدارقطني» 2: 94، و «سنن البيهقي» 4: 128، وفي رواية الدارقطني قرن أبا سعيد الخدري بجابر بن عبدالله، وهو أيضا رواية عند ابن خزيمة، ورواية عيسى بن داية في «مسند الطيالسي» حديث (1808).

ص: 140

الدمشقي، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر، وأبي سعيد:«وقال لنا آدم: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن عمرو بن دينار، عن جابر قوله، وقال لي يحيى بن موسى: حدثنا عبدالرزاق، عن ابن جريج، أخبرني عمرو، قال: سمعت عن جابر بن عبدالله، وعن غير واحد مثله، وهذا أصح، مرسل»

(1)

.

فجمع البخاري بين روايتين متفقتين على وقف الحديث على جابر، فهذا قدر مشترك بينهما، ومختلفتين في وصل الحديث، أو إرساله بين عمرو بن دينار وجابر، وما اتفقا فيه كان دليلا على ضعف رواية محمد بن مسلم الطائفي في جعله عن جابر مرفوعا.

وروى عمرو بن خالد، عن ابن لهيعة، عن محمد بن عجلان، عن أبي سلمة، عن سعد بن أبي وقاص:«أنه سمع بعض بني أخيه يلبي: لبيك ذا المعارج، فقال سعد: أجل إنه لذو المعارج، وما كنا نقول هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

سئل أبو زرعة عن هذا الحديث فقال: «هكذا رواه عمرو بن خالد، وإنما هو كما رواه الثوري، وجرير، ويحيى بن سعيد القطان، وحاتم، وأبو خالد الأحمر، والدراوردي، عن ابن عجلان، عن عبدالله بن أبي سلمة -زاد الدراوردي: عن عامر بن سعد- عن سعد»

(2)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 223، ورواية عبدالرزاق، عن ابن جريج هي في «المصنف» حديث (7250)، ومن طريق عبدالرزاق أخرجه ابن خزيمة حديث (2306).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 296. وانظر: «مسند أحمد» 1: 72، و «مسند البزار» حديث (1244)، وشرح معاني الآثار» 2: 125، و «سنن البيهقي» 5: 45.

ص: 141

فعبدالعزيز الدراوردي في هذا الحديث له وجه مستقل، حيث زاد في الإسناد عامر بن سعد، فالإسناد حينئذ متصل لو صحت هذه الزيادة، لكنها لا تصح، ومع هذا جمعه أبو زرعة مع الأكثرين لاشتراكه معهم في تسمية شيخ ابن عجلان: عبدالله بن أبي سلمة.

وروى عبيدالله بن عمرو الرقي، عن عبدالملك بن عمير، عن جندب بن سفيان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أفضل الصلاة بعد المفروضة: الصلاة في جوف الليل، وإن أفضل الصيام بعد شهر رمضان: شهر الله الذي تدعونه المحرم»

(1)

.

قال أبو حاتم: «أخطأ فيه عبيدالله، الصواب ما رواه زائدة وغيره عن عبدالملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبدالرحمن، منهم من يقول: عن أبي هريرة، ومنهم من يرسله يقول: حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

فجمع أبو حاتم بين الوجهين الموصول والمرسل لاشتراكهما في جعل الحديث عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبدالرحمن، في مقابل كونه عن جندب بن سفيان.

وروى صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،

(1)

«سنن البيهقي» 4: 291، و «إتحاف المهرة» 4:90.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 254، 260. وانظر:«صحيح مسلم» حديث (1163)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2906 - 2905)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1742)، و «مسند أحمد» 2: 303، 329، 342، 335، و «مسند أبي يعلى» حديث (6392).

ص: 142

وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما سمي البيت: العتيق لأنه أعتق من الجبابرة» .

سئل عنه أبو حاتم فقال: «هذا خطأ، رواه معمر، عن الزهري، عن محمد بن عروة، عن عبدالله بن الزبير موقوفا، ورواه الليث، عن عبدالرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن محمد بن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم» ، ثم قال أبو حاتم:«حديث معمر عندي أشبه، لأنه لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا»

(1)

.

فاستدل أبو حاتم برواية معمر، وعبدالرحمن بن خالد بن مسافر، في جعلهما الحديث عن عبدالله بن الزبير، على خطأ صالح بن أبي الأخضر، مع كونهما قد اختلفا في رفع الحديث ووقفه.

وروى جماعة كثيرون من أصحاب الزهري وفيهم حفاظ ثقات من كبار أصحابه عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، قصة مجيء الجدة إلى أبي بكر في شأن الميراث.

ورواه مالك بن أنس، وأبو أويس، وعبدالرحمن بن خالد، عن الزهري،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 274. وقد جاء عن معمر بإسقاط محمد بن عروة من الإسناد، وجاء الحديث أيضا عن الزهري على وجه رابع، وهو إرسال الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، انظر في طرق هذا الحديث في: «سنن الترمذي» حديث (3170)، و «التاريخ الكبير» 1: 201، و «مسند البزار» حديث (2215)، و «تفسير ابن جرير» 17: 110، 111، و «علل ابن أبي حاتم» (المناسك)، تحقيق تركي الغميز مسألة (24).

ص: 143

عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة، ورواه ابن عيينة في إحدى روايتيه عن الزهري، عن رجل، عن قبيصة.

قال الدارقطني عن رواية سفيان: «فقوى هذا قول مالك، وأبي أويس، ويشبه أن يكون الصواب ما قال مالك، وأبو أويس، وأن الزهري لم يسمعه من قبيصة، وإنما أخذه عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عنه»

(1)

.

فجمع الدارقطني بين من سمى الواسطة ومن لم يسمه، وجعله دليلا على أن الزهري لم يسمعه من قبيصة، وليس مراده تخطئة من رواه بإسقاط الواسطة فهم جماعة كثيرون يبعد خطؤهم، والاختلاف من الزهري نفسه

(2)

.

ومن دقيق استخدام الترجيح بالقدر المشترك بين رواة عن شيخ لهم أن يختلفوا عليه في جهتين من الحديث، إسنادا أو متنا، فيتم الترجيح بالقدر المشترك في الجهتين، إذ المخطئ في جهة قد أصاب في الجهة الأخرى، وهذا أيضا كثير في الأحاديث وفي استخدام النقاد.

ومن ذلك أن همام بن يحيى، وحجاجا الأحول، رويا عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب مرفوعا: «من ترك الجمعة من غير عذر

(1)

«علل الدارقطني» 1: 249. وقد تقدم تخريج هذا الحديث في «الاتصال والانقطاع»

ص 285.

(2)

وانظر أمثلة أخرى في الترجيح بالقدر المشترك: «سنن أبي داود» حديث (394) ، و «علل ابن أبي حاتم» (260) ، (581)، (642) ، (669)، (788)، (851)، (869)، (1356)، (1430)، (2239)، و «الضعفاء الكبير» 1:72.

ص: 144

فليتصدق بدينار»

(1)

.

ورواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب مرفوعا بلفظ:«من فاتته الجمعة من غير عذر فليتصدق بدرهم، أو نصف درهم، أو مد حنطة، أو نصف مد» ، إلا أن سعيدا في أحد الطرق إليه لم يذكر سمرة

(2)

.

ورواه أيوب بن مسكين، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة مرسلا، بنحو لفظ سعيد بن بشير

(3)

.

ورواه خالد بن قيس الحداني، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، بنحو رواية همام بن يحيى، وحجاج الأحول

(4)

.

فاستخدم أبو داود في سننه القدر المشترك بين رواية أصحاب قتادة هؤلاء، فجعل رواية خالد بن قيس مؤيدة لرواية همام، وحجاج، من جهة اللفظ، وإن كان خالفهما في الإسناد بذكر الحسن البصري مكان قدامة بن وبرة، وفي مقابلهما رواية سعيد بن بشير، وأيوب بن مسكين، وبينهما اختلاف في ذكر سمرة، فذكره سعيد، ولم يذكره أيوب.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1053) ، و «سنن النسائي» حديث (1371)، و «مسند أحمد» 5: 8، 14، و «التاريخ الكبير» 4:176.

(2)

«مسائل أبي داود» ص 395، و «المستدرك» 1: 280، و «سنن البيهقي» 3:248.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1054).

(4)

«سنن النسائي» حديث (1371 م) و «سنن النسائي الكبرى» حديث (1662) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (1128).

ص: 145

وجعل رواية سعيد بن بشير عاضدة لرواية همام بن يحيى، وحجاج الأحول، بذكر سمرة في الإسناد، مع اختلافهما في المتن، في مقابل رواية أيوب بن مسكين بإسقاط سمرة، ورواية الأربعة هؤلاء متعاضدة على خطأ خالد بن قيس في ذكره الحسن البصري مكان قدامة بن وبرة، مع أن أيوب من بينهم لم يذكر سمرة.

وفي حال استخدام الناظر في الاختلاف للقدر المشترك في الترجيح، يلزمه بعد الفراغ منه أن يعود إلى الأوجه على المدار التي جمعها القدر المشترك، فيوازن بينها، إذ هي في الحقيقة لم تتفق في كل شيء، وإنما اتفقت في هذا القدر المشترك.

ففي أول مثال تقدم معنا هنا، هناك وجهان جمعهما قدر مشترك، وهو جعل الحديث عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة موصولا بذكر أبي هريرة أو مرسلا، في مقابل الوجه الثالث: الزهري، عن أنس بن مالك، فالوجهان الأولان بعد استخدامهما في جعل الوجه الثالث مرجوحا، يلزم النظر بينهما لمعرفة المحفوظ عن معمر منهما.

ومثله المثال الثاني، اجتمع عدد من الأوجه عن يحيى بن أبي كثير، بينها قدر مشترك أمكن استخدامه للحكم بتضعيف من جعل الحديث عنه، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبيه، وبعد ذلك لا بد من النظر في الأوجه الأولى لمعرفة المحفوظ منها عن يحيى، وهكذا.

والنظر في الأوجه التي وجد بينها قدر مشترك بعد الاستعانة بها كثير في عمل النقاد، ومنه ما تقدم آنفا من صنيع البخاري في حديث جابر مرفوعا:

ص: 146

«لا صدقة فيما دون خمسة أوسق

»، فإن البخاري بعد أن استفاد من القدر المشترك بين وجهين موقوفين أحدهما فيه إرسال، إلى الترجيح بين هذين الوجهين، فرجح المرسل، فترجح في النهاية واحد وهو الموقوف على جابر، وهو أيضا مرسل بين عمرو دينار، وجابر.

وكذلك فعل أبو حاتم في حديث أبي هريرة مرفوعا: «إنما سمي البيت: العتيق، لأنه أعتق من الجبابرة» ، استخدم القدر المشترك بين وجهين، في مقابل وجه ثالث، ثم عاد إلى ترجيح أحد الوجهين اللذين جمعهما القدر المشترك، وهو الوجه الموقوف.

ومن ذلك أيضا أن سعد بن الصلت روى عن حجاج بن أرطاة، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه سمع رجلا ينشد ناقة في المسجد، فقال: لا وجدتها» .

ورواه حفص بن غياث، وعباد بن العوام، عن الحجاج، عن أبي سعيد الأعسم، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص، إلا أن عبادا لم يذكر سعد بن أبي وقاص.

ذكر أبو حاتم خطأ رواية سعد بن الصلت، والصواب ما رواه حفص، وعباد، ثم عاد أبو حاتم إلى الموازنة بين روايتيهما، فقال:«والصحيح عندنا -والله أعلم-: عن حجاج، عن أبي سعيد الأعسم، عن مصعب، عن سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 96، وفيه بعد ذلك:«كذا وجدت في كتابي: عن سعيد» ، والمقصود أنه

ذكره كما في كتابه، والصواب: عن سعد، وانظر أمثلة أخرى للعودة إلى النظر بين أوجه مختلفة جمعها قدر مشترك في:«العلل الكبير» 1: 530، و «علل ابن أبي حاتم» (300)، (580 - 581).

ص: 147

والقدر المشترك يستعان به أيضا في حال وجوده بين بعض الروايات عن المدار الذي وقع عليه الاختلاف، وبين رواية في طبقة المدار ومن فوقه.

مثال ذلك أن خلاد بن يحيى روى عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن حريث، عن عمر بن الخطاب مرفوعا:«لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا»

(1)

.

ورواه غير خلاد، عن سفيان الثوري موقوفا، وكذا رواه أبو معاوية، ويحيى القطان، وغيرهما، عن إسماعيل بن أبي خالد

(2)

.

وقد رواه عبدالملك بن عمير، عن عمرو بن حريث، عن سعيد بن زيد، عن عمر موقوفا كذلك

(3)

.

فرواية عبدالملك بن عمير هذه تشترك مع رواية إسماعيل بن أبي خالد في وقف الحديث، وتكون دليلا على خطأ خلاد بن يحيى، وإن كان فيها مخالفة لرواية إسماعيل من جهة زيادة سعيد بن زيد في الإسناد

(4)

.

(1)

«مسند البزار» حديث (247)، و «تهذيب الآثار» (مسند عمر) حديث (16) 2: 616، و «شرح معاني الآثار» 4:295.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 8: 533 حديث (6140) ، و «مسند البزار» حديث (247)، و «تهذيب الآثار» (مسند عمر) حديث (908) 2: 617، و «علل الدارقطني» 2:189.

(3)

«التاريخ الكبير» 6: 18.

(4)

وانظر مثالا آخر في «علل ابن أبي حاتم» (682).

ص: 148

وقد يوجد القدر المشترك بين بعض الأوجه عن المدار، ويعضدها كذلك وجوده بينها وبين رواية في طبقة المدار ومن فوقه.

ومثاله أن محمد بن جعفر المعروف بغندر، وأبا الوليد الطيالسي، وأبا داود الطيالسي، ومسلم بن إبراهيم، رووا عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من وجد تمرا فليفطر عليه، فإن لم يجد تمرا فليفطر على الماء، فإن الماء طهور» ، إلا أن أبا داود الطيالسي في إحدى الروايتين عنه ذكر الرباب بنت صليع بين حفصة، وسلمان بن عامر، وكذا علق البيهقي بصيغة التمريض عن روح بن عبادة أنه رواه كذلك عن شعبة

(1)

.

ورواه سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك

(2)

.

ورجح النقاد رواية الجماعة من أصحاب شعبة

(3)

فإنهم -على اختلافهم في ذكر الرباب وحذفها- قد اتفقوا على خلاف رواية سعيد بن عامر هذه، فالخطأ منه

(4)

.

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (6710)، و «مسند أحمد» 4: 18، و «مسند الطيالسي» حديث (1278)، و «المعجم الكبير» حديث (6197)، و «الكامل» 5: 1876، و «سنن البيهقي» 4:239.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (694)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3317)، و «المستدرك»

1: 431.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (694)، و «العلل الكبير» 1: 335، و «سنن البيهقي» 4:239.

(4)

وهذه طريقة البخاري، والترمذي والبيهقي، يرون أن الوهم من سعيد بن عامر، ويظهر من

صنيع النسائي أنه يرى الوهم من الراوي عن سعيد، وهو محمد بن عمر المقدمي، انظر:«سنن النسائي الكبرى» حديث (3316 - 3317). والظاهر أن ما ذهب إليه الأولون هو الأصوب.

ص: 149

ومما يستعان به في تأييد هذا الترجيح أن رواة كثيرين، منهم الثوري، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وأبو معاوية، وعبدالواحد بن زياد، وحماد بن سلمة، قد تابعوا شعبة على الوجه الأول، فرووه عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، إلا أنهم زادوا ذكر الرباب بنت صليع، بين حفصة، وسلمان بن عامر، وأرسله حماد بن سلمة، فجعله عن الرباب بقصة سلمان بن عامر

(1)

، وكذلك رواه ابن عون، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر، إلا أن هشام بن حسان اختلف عليه في رفع الحديث ووقفه، وفي رواية عنه لم يذكر الرباب، وكذلك روي عن خالد الحذاء، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان، ليس فيه الرباب

(2)

.

أمكن هذا هنا مع أن رواية الجماعة عن عاصم الأحول فيها زيادة الرباب بنت صليع في الإسناد، خلافا للمشهور عن شعبة، وكذلك رواية ابن عون وهشام بن حسان فيها زيادة ذكر الرباب، وفيها أيضا اختلاف قوي على هشام

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2355)، و «سنن الترمذي» حديث (658 - 659)، (695)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3314 - 3316)، (3319 - 3320)، (6707)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1699)، و «مسند أحمد» 4: 17 - 18، و «سنن الدارمي» حديث (1653) و «علل ابن أبي حاتم» 1:237.

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3314) ، (3316)، (3321 - 3326)، و «مسند أحمد»

4: 18.

ص: 150

بن حسان في رفع الحديث ووقفه.

فدلت هذه الروايات في الطبقات العليا على أن الحديث في الجملة معروف عن عاصم الأحول، ومعروف كذلك عن حفصة بنت سيرين، وأما جعله عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس فلا متابع له عن عبدالعزيز ولا عن أنس، على أي صفة كان، وقد أشار إلى هذا الترمذي في نقده فقال بعد أن أخرجه:«وهو حديث غير محفوظ، ولا نعلم له أصلا من حديث عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس» .

* * *

ص: 151

المبحث الثاني

الطرق إلى رواة الأوجه

الناظر في الحديث إذا فرغ من دراسة إسناده الأصل، ثم قام بجمع الطرق، ونظر فيها، فوجد فيها مخالفة لإسناده الأصل، أو وجد بينها اختلافا على المدار، وجب عليه أن يقوم بدراسة هذه الطرق الجديدة إلى المدار، كما قام بدارسة الإسناد الأصل سواء بسواء، فينظر في درجة كل راو من حيث الإجمال، ودرجته في شيخه الذي فوقه إن أمكن، وما في كل راو من جوانب القوة والضعف، ويتأكد من عدم وقوع تحريف في الإسناد، وينظر كذلك في اتصال الإسناد وانقطاعه، وما يتضمن ذلك من التدليس والإرسال الخفي والجلي، ويعد كل واحد من هذه الأسانيد كأنه إسناده الأصل.

وبيان ذلك أن وصف الإسناد الأول الذي بين يدي الباحث بالإسناد الأصل ليس وصفا للإسناد نفسه من حيث هو إسناد، وإنما ذلك بالنسبة لهذا الباحث المعين فقد يكون فرض عليه لكونه يحقق كتابا، أو يقوم بدراسة أحاديث كتاب معين، ونحو ذلك، أو يكون هو اختاره لكونه الأعلى أو الأقرب إلى اللفظ الذي يخرجه، فالإسناد الأصل مع باحث هو مع باحث آخر إسناد فرع.

ثم يقوم الناظر في الحديث بعمل آخر وهو النظر في الطرق التي جمعها ووجد بينها اختلافا على المدار، هل وقع على واحد من رواتها اختلاف؟ فإن وجد اختلافا على واحد من رواتها أصبح عنده الآن اختلاف نازل له مدار، ويسمى

ص: 152

المدار النازل، يجب عليه النظر فيه والوصول إلى رأي راجح فيه، وما يترجح لديه من هذا الاختلاف يعتمده في نظره في الاختلاف العالي الذي هو أساس عنده، ويستخدم في نظره في الاختلافات النازلة القرائن التي تقدمت في الفصل الذي قبل هذا، المتعلقة بالراوي المختلف عليه، وبالرواة المختلفين، وكذلك المتعلقة بصفة الرواية، فيفعل في هذه الاختلافات كما يفعل في الاختلاف العالي الذي هو الأساس عنده.

والاختلاف النازل تارة يكون بصفة الاختلاف الأساس، فأحد رواة الاختلاف العالي أو من دونه جاءت عنه رواية أخرى على وجه آخر أو أكثر من أوجه الاختلاف الموجودة، وتارة يكون الاختلاف النازل مغايرا للاختلاف الأساس، فيأتي عن أحد رواة الاختلاف الأساس أو من دونه وجه آخر أو أكثر ليس من الأوجه الموجودة في الاختلاف العالي.

وتعد الاختلافات النازلة من أدق وأعسر ما يكون بالنسبة للباحثين، ويلاقي المشرفون على الرسائل العلمية شيئا من المشقة في تدريب الطلاب على طريقة صياغتها في التخريج، وكيفية التعامل معها.

وقد كان النقاد الأولون كابن أبي حاتم، والدارقطني، يذكرونها ويعالجونها على السجية، وأكثر الطرق يذكرونها معلقة مع وجودها عندهم مسندة اختصارا، لكونهم يخاطبون من هو في حكمهم، أما اليوم فالباحث ملزم بتخريجها والنظر فيها، وعرض ذلك بطريقة واحدة، أسهم في ذلك قيام الدراسات النظامية في الجامعات، واتباع مناهج البحث العلمي في العزو والترقيم والترتيب، وسيأتي

ص: 153

شرح ذلك -إن شاء الله تعالى- حين الوصول إلى الفصل الخاص بعرض التخريج والدراسة، وزاد الأمر وعورة كثرة هذه الاختلافات وتشعبها أحيانا.

والخلاصة أن الناظر في الحديث ملزم بتصفية رواة كل وجه من وجوه الاختلاف، وذلك بالنظر في الطرق إليهم، وفي الاختلافات الواقعة عليهم أو على من دونهم التي يطلق عليها اصطلاحا: الاختلافات النازلة.

وقد تقدم في المبحث الثالث من الفصل الذي قبل هذا في القرينة الثالثة (الثبات والاضطراب عند رواة الاختلاف) أمثلة على طريقة التصفية لرواة الأوجه، في قضية ترجيح رواية راو على آخر بأنه ثبت ولم يضطرب، والآخر اضطرب في روايته، فروى الحديث على أوجه مختلفة، وتقدم أنه لا بد من التأكد من صحة أكثر من وجه واحد عنه، ليحكم بالاضطراب، فقد لا يصح عنه إلا وجه واحد، فلا يحكم عليه بالاضطراب، وهذه هي التصفية.

وسأسوق الآن زيادة أمثلة من عمل النقاد، وأمثلة أخرى، توضح ما سبق.

فمن ذلك ما تقدم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه الجماعة من أصحاب عبيدالله بن عمر، ومنهم يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن نمير، وحفص بن غياث، وغيرهم، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا حديث ما يلبسه المحرم من الثياب، وفي آخره:«ولا تلبسوا شيئا مسه الورس والزعفران» .

ورواه أبو معاوية الضرير، عن عبيدالله بن عمر، وزاد على الجملة السابقة في آخرها:«إلا أن يكون غسيلا» .

ص: 154

وتوقف يحيى بن معين في ثبوت هذه اللفظة عن أبي معاوية لكونه وقف عليها من رواية يحيى الحماني، وهو ضعيف، حتى أخبر يحيى بأن الحماني قد توبع، فروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال:«ورأيت يحيى بن معين وهو يتعجب من الحماني أن يحدث بهذا الحديث، فقال له عبدالرحمن (يعني ابن صالح الأزدي): هذا عندي، ثم وثب من فوره فجاء بأصله فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية كما ذكره يحيى الحماني، فكتبه عنه يحيى بن معين»

(1)

.

ولعل ابن معين سمع هذا الحديث من أبي معاوية بدون الزيادة، إذ قد رواه كذلك بدونها محمد بن إسماعيل الواسطي

(2)

، فيحتمل أن يكون أبو معاوية يذكرها أحيانا ويدعها أحيانا أخرى.

وأشار ابن حجر إلى احتمال تبرئة أبي معاوية من هذه الزيادة، فقال في نقد هذين الطريقين إلى أبي معاوية:«والحماني ضعيف، وعبدالرحمن الذي تابعه فيه مقال»

(3)

.

لكن قد رواها عن أبي معاوية أيضا أحمد كما تقدم في تخريجها، فالعهدة في الخطأ إذن على أبي معاوية كما نص عليه النقاد، قال أحمد:«أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيدالله، ولم يجئ بهذه الزيادة غيره»

(4)

.

(1)

«شرح معاني الآثار» 2: 137.

(2)

«المناسك» المنسوب لإبراهيم الحربي ص 429.

(3)

«فتح الباري» 3: 404.

(4)

«فتح الباري» 3: 404.

ص: 155

وقال أبو زرعة: «أخطأ أبو معاوية في هذه اللفظة»

(1)

.

والشاهد من هذا المثال هو صنيع ابن معين، فهو لم يذهب إلى الموازنة بين أبي معاوية وبين بقية أصحاب عبيدالله بن عمر في بادئ الأمر، لأن الطريق إلى أبي معاوية عنده لم يثبت، وكذلك صنيع ابن حجر بعده، فاستمر في نقد الطريقين اللذين وقف عليهما إلى أبي معاوية.

وروى الحكم بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه مرفوعا: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته

» الحديث

(2)

.

ورواه هشام بن عمار، عن عبدالحميد بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

(3)

.

سئل عنها أبو حاتم، بعد أن ذكر تفرد الحكم بالوجه الأول، ومعارضة رواية بن أبي العشرين لروايته:«جميعا منكران، ليس لواحد منهما معنى، حديث ابن أبي العشرين لم يروه أحد سواه، وكان الوليد صنف كتاب «الصلاة» وليس فيه هذا الحديث»

(4)

.

فالوجه الأول ضعفه أبو حاتم قبل أن يصل إلى راويه عن الأوزاعي، وهو

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 271.

(2)

«مسند أحمد» 5: 310.

(3)

«صحيح ابن حبان» حديث (1888)، و «المعجم الأوسط» حديث (4655).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 170.

ص: 156

الوليد بن مسلم، فضعفه بكونه ليس في كتاب «الصلاة» للوليد بن مسلم، فالحكم بن موسى أخطأ عليه إذن، وقد ضعفه بتفرد الحكم أيضا علي بن المديني

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه حجاج بن دينار، عن أبي هاشم، عن أبي العالية، عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك

».

ورواه يونس بن محمد، عن مصعب بن حيان، عن مقاتل بن حيان، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ورواه منصور، عن فضيل بن عمرو، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل.

قال أبي: حديث منصور أشبه، لأن حديث أبي هاشم رواه حجاج بن دينار، عن أبي هاشم، وحجاج ليس بالقوي، وحديث الربيع بن أنس دونه مصعب بن حيان، عن مقاتل بن حيان، عن الربيع

»

(2)

.

وروى معمر بن سليمان الرقي، عن عبدالله بن بشر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا:«أفطر الحاجم والمحجوم»

(3)

.

(1)

«تاريخ بغداد» 8: 227، وقد نص على تفرد الحكم به أيضا الطبراني في (الأوسط) حديث (8179)، والدارقطني في «العلل» 6: 141، وفي «الغرائب والأفراد» (أطرافه حديث 4926)، وقد رواه أحمد 5: 310، عن أبي جعفر السويدي، عن الوليد بن مسلم، فالله أعلم.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 188.

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3176) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (1678).

ص: 157

قال الدارقطني بعد أن ذكر هذه الرواية: «وروي عن أبي عوانة، وشعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح عنهما، ورواه إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، فوقفه على أبي هريرة، ولم يرفعه، وهو أشبههما بالصواب»

(1)

.

فالموازنة إذن بين رواية عبدالله بن بشر، وبين رواية إبراهيم بن طهمان، وأما رواية أبي عوانة، وشعبة، فاستبعدها الدارقطني من الوجه المرفوع، لأنها لا تصح عنهما أصلا.

وروى جرير بن حازم، وزيد بن حبان، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس:«أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وكذا رواه أيوب بن سويد الرملي، عن سفيان الثوري، عن أيوب السختياني

(3)

.

ورواه حماد بن زيد، وابن جريج، ومعمر، وإسماعيل علية، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا ليس فيه ابن عباس

(4)

.

(1)

«علل الدارقطني» 10: 171، ورواية إبراهيم بن طهمان أخرجها النسائي في «السنن الكبرى» حديث (3177).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (2096)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5387)، (5389)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1875)، و «مسند أحمد» 1:273.

(3)

«سنن الدارقطني» 3: 235.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (2096)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (10305 - 10306)، و «شرح معاني الآثار» 4:365.

ص: 158

وكذا رواه وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن أيوب

(1)

.

فسفيان الثوري له رواية على الوجهين، لكن راوي الوجه الأول الموصول عنه أيوب بن سويد الرملي، وهو ضعيف، وراوي الوجه الثاني المرسل عنه وكيع بن الجراح، وهو ثقة حافظ من كبار أصحاب سفيان.

وحينئذ فتكون الموازنة بين رواية جرير بن حازم، وزيد بن حبان، من جهة، وبين رواية حماد بن زيد، وابن جريج، ومعمر، وإسماعيل بن علية، والثوري، من جهة أخرى، ويسقط اسم الثوري من رواة الوجه الأول.

ولهذا الحديث بعينه طريق آخر إلى عكرمة، وهو طريق يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، هكذا رواه عبدالملك بن عبدالرحمن الذماري، عن سفيان الثوري، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير

(2)

.

وقد رواه إسماعيل بن علية، وسفيان الثوري -في رواية محمد بن كثير عنه- عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر بن عكرمة مرسلا

(3)

.

فسفيان الثوري عنه وجهان، لكن راوي الوجه الأول الموصول عنه عبدالملك الذماري، وهو صدوق، وراوي الوجه الثاني محمد بن كثير، وهو ثقة،

(1)

«شرح معاني الآثار» 4: 365.

(2)

«المعجم الكبير» حديث (12001)، و «سنن الدارقطني» 3: 234، و «سنن البيهقي» 7:117.

(3)

«سنن سعيد بن منصور» حديث (577)، و «سنن الدارقطني» 3:234.

ص: 159

وقد رواه غيره كذلك عن الثوري، قال الدارقطني بعد أن أخرجه:«هذا وهم من الذماري، وتفرد بهذا الإسناد، والصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر بن عكرمة مرسل، وهم فيه الذماري عن الثوري، وليس بقوي» .

وقال البيهقي: «هو في جامع الثوري عن الثوري كما ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله مرسلا، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام» .

وحينئذ فليس عن هشام الدستوائي سوى وجه واحد وهو المرسل، وهو الذي يرويه عنه إسماعيل بن علية، والثوري، وأما الموصول فلم يثبت عن الراوي عنه وهو الثوري، فصفى على هشام وجه واحد إذن، فيوازن بين رواية هشام، وبين رواية غيره ممن رواه عن يحيى بن أبي كثير، فقد رواه عن يحيى غير هشام، وفي بعضها مخالفة لما رواه

(1)

.

ومن ذلك أيضا حديث قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي مرفوعا: «يغسل من بول الجارية

» الحديث، رواه أصحاب قتادة عنه فاختلفوا عليه، فرفعه هشام الدستوائي على اختلاف عليه في الوقف والرفع، وفي ذكر علي، ووقفه سعيد بن أبي عروبة على علي، على اختلاف عليه في ذكر أبي الأسود وإسقاطه، لكن لم يختلف عليه في وقف الحديث

(2)

.

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (5388)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (10301)، (10305 - 10306).

(2)

«سنن أبي داود» حديث (377 - 378) ، و «سنن الترمذي» (610) و «سنن ابن ماجه» حديث (525)، و «مسند أحمد» 1: 76، 97، 137، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (1488)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 120، و «مسند البزار» حديث (717)، و «علل الدارقطني» 4: 184، و «سنن البيهقي» 2:415.

ص: 160

وذكر الدارقطني أن هماما رواه موقوفا كذلك

(1)

.

وأضاف عدد من الباحثين إليهما ثالثا، وهو شعبة بن الحجاج، واعتمدوا في ذلك على ما في «العلل الكبير» للترمذي، وأنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال:«شعبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي حافظ، ورواه يحيى القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، فلم يرفعه»

(2)

.

وهذا النص وقع فيه تصحيف فشعبة لا يروي هذا الحديث، وصواب النص: «سعيد لا يرفعه

»، وقد نقله البيهقي في «سننه» عن الترمذي، وهو فيه على الصواب، قال البيهقي:«وفيما بلغني عن أبي عيسى أنه قال: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي يرفعه، وهو حافظ»

(3)

.

وكذا قال الترمذي في «سننه» : «رفع هشام الدستوائي هذا الحديث عن قتادة، وأوقفه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، ولم يرفعه»

(4)

.

(1)

«علل الدارقطني» 4: 185.

(2)

«العلل الكبير» 1: 142.

(3)

«سنن البيهقي» 2: 415.

(4)

«سنن الترمذي» 2: 510.

ص: 161

وحينئذ فيحذف شعبة من رواة الوجه الموقوف، وتبقى المقارنة بين هشام الدستوائي من جهة، وسعيد بن أبي عروبة، وهمام من جهة أخرى.

وغير خاف أن تصفية رواة الأوجه إنما تتم حيث يجزم بضعف الطريق إلى راو من رواتها أو أكثر، وأما حين يقع التردد فيبقى الراوي ولا يلغى، ويشرح الباحث هذا التردد في مكانه من الدراسة.

ومن صور ذلك أن يجزم بخطأ وجه ما ويقع التردد هل الخطأ من راوي الوجه نفسه أو من الطريق إليه؟ ، والأمثلة على ذلك مما وقع للنقاد كثيرة جدا ومنها ما تقدم آنفا، وهو ما رواه جرير بن حازم، وزيد بن حبان، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم

».

ورواه حماد بن زيد وجماعة من كبار أصحاب أيوب، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.

فرواية جرير، وزيد بن حبان، مرجوحة بلا شك، غير أن رواية جرير وقع فيها اختلاف بين النقاد، فذهب أبو حاتم، والنخشبي، إلى أن الخطأ من الراوي عن جرير، وهو حسين بن محمد، قال أبوحاتم:«لم يروه عن جرير غيره»

(1)

.

وذكر النخشبي أن جماعة -لم يسمهم- رووا هذا الحديث عن جرير مرسلا

(2)

.

وذهب الطحاوي، والبيهقي، إلى أن الخطأ من جرير بن حازم، ودافع الخطيب

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 417

(2)

«فوائد الحنائي» حديث (221).

ص: 162

البغدادي عن حسين بن محمد بأنه قد توبع، وساقه من طريق محمد بن سليمان المنقري، عن سليمان بن حرب، عن جرير بالوصل

(1)

.

ولم ينته الأمر، فطريق سليمان بن حرب هذا بحاجة إلى تصفية، قام بها أحد الباحثين، فقد بحث عن محمد بن سليمان المنقري فلم يجد له ترجمة، مع تفرده بهذه الرواية عن سليمان بن حرب

(2)

، فبقي قول أبي حاتم، والنخشبي، على قوته.

والخلاصة أن الباحث قبل أن يوازن بين روايات رواة الأوجه عنده لا بد من قيامه بتصفية هذه الروايات، يصمد منها ما يصمد ويلغى منها ما يلغى، ولا يتسامح في هذا الجانب، إذ قد يترتب على إهمال ذلك ترجيح غير الراجح، أو ادعاء حفظ وجهين أو أكثر عن المدار، وعند التحقيق لا يكون هذا صحيحا.

مثال ذلك حديث ابن عباس الآنف الذكر، فقد مرَّ بعض الباحثين برواية حسين بن محمد المروذي، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس الموصولة، فقال بعد تخريجها: «وقد أعل هذا الحديث بالإرسال، وبتفرد جرير بن حازم، عن أيوب، وبتفرد حسين بن محمد المروذي، عن جرير.

قلنا: أما تفرد جرير بن حازم، فقد تابعه في روايته عن أيوب، زيد بن حبان، وسفيان الثوري، وأما تفرد حسين بن محمد، عن جرير، ففي «نصب الراية»

(1)

«شرح معاني الآثار» 4: 365، و «سنن البيهقي» 7: 117، و «تاريخ بغداد» 8:89.

(2)

«الأحاديث التي أشار أبو داود في سننه إلى تعارض الوصل والإرسال فيها» لتركي الغميز ص 224، ثم وقفت له على ترجمة في «تاريخ دمشق» 53: 119، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.

ص: 163

3/ 190، عن «التنقيح»: قال الخطيب البغدادي: «قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم، أيضا كما رواه حسين، فبرئت عهدته، وزالت تبعته، -ثم رواه بإسناده-» .

وأما الإرسال، فقد أخرجه أبو داود، (2097) ، ومن طريقه البيهقي 7/ 117، عن محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ولم يذكر ابن عباس، ورجح إرساله أبو داود، وأبو حاتم، والدارقطني، والبيهقي، قال ابن التركماني في «الجوهر النقي» 7/ 117: جرير بن حازم ثقة جليل، وقد زاد الرفع، فلا يضر إرسال من أرسله، كيف وقد تابعه الثوري، وزيد بن حبان، فروياه عن أيوب كذلك مرفوعا

».

كذا صنع الباحث، أرسل الكلام على عواهنه ولم يمحص، فرواية الثوري عن أيوب الموصولة لو صحت عن الثوري كانت حجة قوية على ترجيح الموصول، لكنها لا تصح عنه، فالراوي عنه ضعيف، وقد خالفه أحد الحفاظ الكبار في الثوري وهو وكيع بن الجراح، فرواه عن الثوري مرسلا كما تقدم شرح ذلك، فرواية الثوري هذه إذن تنقل إلى رواة الوجه المرسل، فهي حجة لكلام النقاد على ترجيح الإرسال، وليست دليلا ضدهم.

ثم إن الباحث قصر أيضا في ذكر من رواه مرسلا، فاقتصر على حماد بن زيد، وقد رواه أيضا مرسلا معمر، وابن جريج، وابن علية، فهؤلاء خمسة من كبار أصحاب أيوب، لا يقارن بهم أبدا جرير بن حازم، يكفي واحد منهم لترجيح روايته على رواية جرير، وأما زيد بن حبان الذي تابعه فهو ضعيف في نفسه.

ص: 164

وكذلك رفع تفرد حسين بن محمد بمتابعة سليمان بن حرب له عن جرير، لم يمحصه الباحث، ولم ينظر في الراوي عن سليمان بن حرب، وهو غير معروف كما تقدم آنفا.

فالخلاصة أن الباحث ارتكب صنوفا من الأخطاء في معالجته لهذا الاختلاف على أيوب، وقصر جدا في تصفية رواة الأوجه، فكانت هذه النتيجة التي دافع عنها، وخالف فيها كبار النقاد.

نعم قد يتسامح بعض النقاد والباحثين في سرد رواة وجه ما، وتكون الطرق إلى بعضهم فيها نظر، وذلك حين يكثر رواة هذا الوجه، ويتيقن من ثبوته عن أكثرهم، أو عن بعضهم، بما يمكن معه تقرير ثبوت هذا الوجه عن المختلف عليه.

وقد تقدم مثل هذا في رواة الأوجه أنفسهم في المبحث الثاني من الفصل الثاني، في الترجيح بين رواة الأوجه بالكثرة، فقد تقدم هناك أن رواة الوجه إذا كثروا يتسامح الناقد في سردهم، فقد يكون من بينهم من هو ضعيف أو دون الضعيف، ولا يبين حاله.

ونبهت هناك إلى أن الأولى صنيع بعض الباحثين، حيث يلتزمون نقد رواة الأوجه موضع النقد، خاصة حين يكون الراوي غير صالح للاعتضاد، كأن يكون متروك الحديث أو دون ذلك.

ومثل هذا يقال هنا، فالأحسن التنبيه على ضعف الطريق إلى راوي الوجه إذا كان ضعفه شديدا، كأن يكون من رواية متروك الحديث، أو تكون نكارته

ص: 165

شديدة، يتفرد به راو متكلم فيه عن إمام مشهور، أو له علة قوية فيحسن التنبيه حينئذ، لا سيما مع ظهور حاجة لذلك، مثل كون راوي الوجه حافظا ثقة له أثر في قوة ترجيح حفظ هذا الوجه عن المختلف عليه، وإن كان الترجيح حصل بدونه.

إذا تقرر ما تقدم فإن إحدى مشكلات النظر في الأحاديث التي فيها اختلاف على أحد رواتها ما يقع من أئمة النقد من تعليق لأسانيد عن الرواة المختلفين، بقصد الاختصار حين الاستدلال بها في مناسبة ما، أو حين حكاية الاختلاف على الراوي، فيقول الإمام: قال سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أو روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، أو يقول حاكيا الاختلاف على راو: روى هذا الحديث قتادة، واختلف عنه، فقال سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي كذا، وقال شعبة، وهمام كذا، وقد يزيد الناقد بذكر من رواه عن هؤلاء، فيقول مثلا: قال ذلك عن سعيد: يزيد بن زريع، ويحيى القطان

الخ.

وقد يكون التعليق عن المختلف عليه نفسه، فيعلق عنه بعض الأوجه فلا يذكر راويه أصلا فيقول الناقد بعد ذكر الوجه المرفوع مثلا: هو موقوف عن فلان -يعني المدار-، أو الصحيح عنه الوقف، ونحو ذلك، وقد يذكر الناقد راوي الوجه ويبهمه فيقول: وغير فلان يرويه موقوفا، أو خالفه أصحاب فلان فلم يرفعوه، أو وقفه جماعة عن فلان، ونحو هذه العبارات.

وكثير من هذه الأسانيد المعلقة لا يقف عليها الباحث موصولة عند هذا الناقد أو عند غيره، وليس هذا بالقليل بل هو كثير جدا، يدرك ذلك بكل سهولة من احتاج إلى النظر في أحاديث وقع فيها اختلاف، أو قرأ لمن نظر في ذلك.

ص: 166

فابن حجر -مثلا- في «تغليق التعليق» أو في «فتح الباري» يقول في بعض الأسانيد التي يعلقها البخاري: لم أقف عليه موصولا، أو لم أقف على من وصله، وربما أغفل تخريجه.

وهكذا توجد مثل هذه العبارات عند الباحثين الذين اشتغلوا بـ «علل ابن أبي حاتم» ، و «علل الدارقطني» أو اشتغلوا بالأحاديث التي حكى الأئمة فيها اختلافا، كالبخاري في «تاريخه» ، وأبي داود، والترمذي في «سننهما» ، والبزار في «مسنده» ، والعقيلي في «ضعفائه» ، وغيرهم.

وكذلك في الإبهام، يقول الناظر: لم أقف على هذا الغير الذي رواه موقوفا، أو مرسلا، أو يقول في رواية الأصحاب غير المسمين: لم أقف على رواية أحد منهم، أو وقفت على رواية فلان، ولم أقف على رواية غيره.

واعتماد هذه الروايات في الموازنة والترجيح يعارضه ما تقرر من أنه لا يصح أن ينسب إلى أحد شيء إلا بعد ثبوته عنه، ولا يعرف ذلك إلا بالوقوف على الإسناد الذي روي به. ويتأكد هذا إذا عرفنا أنه يوجد في معلقات النقاد ما يوقف عليه موصولا، ويتبين بعد فحص الإسناد أنه لا يصح إلى من علق عنه، أو يوجد عن الراوي بخلاف ما علقه عنه الناقد، فيعلقه الناقد عن راو على وجه، ويوجد عنه موصولا على وجه آخر، وهذا كثير أيضا، سيأتي شيء منه قريبا.

ومن ذلك قول ابن الجنيد: «ذكر يحيى بن معين -وأنا أسمع- حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مضى النصف من شعبان فلا تصوموا» ، فقال: رواه زهير بن محمد، وعبدالرحمن بن إبراهيم، والزنجي.

ص: 167

قلت ليحيى: والدراوردي، قال: الدراوردي، ومحمد بن جعفر، لا يرفعانه، قلت: حدثنا غير واحد عن الدراوردي يرفعه

»

(1)

.

وروى موسى بن مسعود، ومؤمل بن إسماعيل، وعبدالرحمن بن مهدي

-في رواية الجماعة عنه- عن الثوري، عن الأعمش، ومنصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود مرفوعا:«الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»

(2)

.

قال البزار بعد أن رواه عن محمد بن المثنى، عن عبدالرحمن بن مهدي هكذا:«وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله موقوفا، وأسنده الثوري، عن منصور، والأعمش» .

كذا قال البزار، يشير إلى تفرد سفيان بالرفع، والروايات الموجودة عن الأعمش كلها موافقة لرواية سفيان الثوري بالرفع، هكذا رواه وكيع، وعبدالله بن نمير، وشيبان بن عبدالرحمن، وغيرهم

(3)

، ولم يوقف على رواية عن الأعمش بالوقف، سوى ما رواه أحمد، عن عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري موقوفا

(4)

، وقد رواها الجماعة وهم محمد بن المثنى، وزهير بن حرب،

(1)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 160.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (6488) و «مسند البزار» حديث (1663) ، و «مسند أبي يعلى» حديث (5280)، و «سنن البيهقي» 3:368.

(3)

«مسند أحمد» 1: 387، 442، و «مسند الشاشي» حديث (514) ، و «فوائد تمام» حديث (1727)، و «تاريخ بغداد» 11: 387، و «سير أعلام النبلاء» 4: 166،

(4)

«مسند أحمد» 1: 442.

ص: 168

ومحمد بن يحيى الذهلي، عن عبدالرحمن بن مهدي مرفوعا

(1)

.

فهذه مبررات توجب التوقف في الاعتماد على المعلقات التي لا يوقف علهيا موصولة.

وفي مقابل ذلك: إغفال هذه الأسانيد يفضي إلى تعطيل جزء كبير من روايات السنة النبوية، خاصة في مجال النقد، وقد تقدم في تمهيد هذا الكتاب شكوى أحمد وغيره من كون الرواة في عصر الرواية يكتبون الأسانيد التامة ويدعون الناقصة، وقد تكون الناقصة هي الأقوى إسنادا عن المدار، فتعل التامة، فقد ذهب إذن جزء من الأسانيد الكاشفة للعلل في ذلك الزمان.

ثم ازداد الأمر في عصر التأليف، فالذين ألفوا في جمع السنة وصنفوها على الأبواب، أو على المسانيد، أو غير ذلك، كان اهتمامهم منصبا على الأسانيد التامة موصولة مرفوعة، أما ما يُعِلُّ هذه الأسانيد بالوقف أو الإرسال أو الإبدال أو غير ذلك، فكان اهتمامهم به في هذه المؤلفات دون النوع الأول، وكثير مما يذكرونه من النوع الثاني يذكرونه معلقا، كما يفعل البخاري، وأبو داود، والترمذي.

والمؤلفات التي عنيت بالأسانيد، الني تكشف العلل وخصصت لهذا الغرض هي كتب النقد، مثل كتب علل الأحاديث، غير أن أكثر الأسانيد في هذه الكتب جاءت معلقة، مع أن هذا اللون من التصنيف لم يصلنا أكثره.

(1)

وانظر مثالا آخر للبزار في «مسنده» حديث (1809)، ومثالا للدارقطني تعقبه فيه ابن رجب في:«علل الدارقطني» 5: 189، و «شرح علل الترمذي» 2:871.

ص: 169

فإغفال الأسانيد المعلقة في مجال النقد مع العوز الموجود أصلا فيما نحتاجه من أسانيد تكشف العلل، له تأثيره الكبير على الدراسات النقدية.

هذه مبررات اعتماد الأسانيد المعلقة عند الموازنة والنظر.

وقد سبرت موقف الباحثين من هذه الأسانيد المعلقة فرأيت بعضهم

-وهم الأكثر- يعتمدها ويدرجها في الموازنة، على حين يكتفي بعضهم بالأسانيد الموصولة عنده، ولم أر من تعرض لأسباب الاعتماد أو الترك، وبالنظر في مبررات اعتماد هذه الأسانيد ومبررات إغفالها التي ذكرتها آنفا يظهر أن مبررات اعتمادها أقوى، ولكن مع هذا ففي رأيي أن المسألة تحتاج إلى بحوث موسعة، تتم فيها دراسة جملة من هذا النوع من الأسانيد، دراسة مقارنة، يصل فيها الباحث إلى نتيجة يرى أنها صوابا، والأحسن أن يقتصر الباحث على إمام واحد ليمكنه الإلمام بالموضوع، ويسلم من تشعبه، وتقوم الدراسة على أساس اختيار قدر كاف من الأسانيد المعلقة عند ذلك الإمام والبحث عنها موصولة، فمتى وجد الباحث أن ما يقف عليه موصولا أسانيدها ثابتة إلى من علقها عنه، أو أكثرها كذلك، عرفنا أن الإمام لا يعلق عن شخص إلا ما ثبت عنه، وإن كان غير ذلك بأن تكثر الأسانيد الضعيفة للمعلقات، فمعناه أن هذا الإمام يعلق ومراده ورود الرواية، بغض النظر عن ثبوتها، خاصة إن كانت الأسانيد الموصولة يوجد شيء منها عند هذا الإمام.

ومع الحاجة إلى مثل هذه الدراسات فإن هذا لا يمنع من القول بأنه يمكن للباحث أن يتعامل مع كل حالة بعينها، وأعني بذلك أن ينظر في المعلق الذي بين

ص: 170

يديه وما يحف به من قرائن القبول والرد، فمتى جزم الناقد بتعليق رواية وعضدت القرائن قبول هذا المعلق، صح اعتماده في الموازنة والترجيح، وإلا فلا.

هذا كله إذا كان هذا المعلق له أثره في الموازنة، أما إن كان الأمر مفروغا منه بهذا المعلق وبدونه فالأمر هين، فقد تقدم آنفا أنه يتسامح في سرد طرق تبين ضعفها إذا قضي الأمر بمعزل عنها، فما كان فيه احتمال القوة والضعف من باب أولى.

ومثال ذلك الحديث السابق في أول هذا المبحث، وهو ما رواه جرير بن حازم، وزيد بن حبان، وكذا الثوري من رواية أيوب بن سويد عنه، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة المرأة التي زوجها أبوها وهي كارهة.

ورواه معمر، وابن جريج، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن علية، وكذا الثوري من رواية وكيع عنه، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.

ورواية معمر، وابن جريج، والثوري، جاءت موصولة عنهم بأسانيد صحيحة، وأما رواية حماد بن زيد فعلقها أبو داود، وأبو حاتم، ورواية ابن علية علقها أبو حاتم، والطحاوي.

وكما هو ظاهر فالترجيح للمرسل حاصل بالروايات التي وجدت موصولة، وعدم الوقوف على رواية حماد بن زيد، وابن علية، لا أثر له مطلقا في الترجيح، فسرد الجميع -الموصول والمعلق- لا بأس به حينئذ.

والقرائن في الاسترواح للمعلق من عدمه كثيرة، منها ما يتعلق بالإمام الذي علق الإسناد، فلا شك أن ما يعلقه أئمة النقد في عصر النقد عصر الرواية

ص: 171

كيحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وأحمد، وابن معين، والبخاري، وأبي داود، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، أقوى مما يعلقه من تأخر عنهم.

وكذلك كيفية سوق الإمام لهذا المعلق، وهل اعتمد عليه في الترجيح أو لا؟ .

وأيضا توارد النقاد على تعليق رواية واعتمادها، أو انفراد واحد منهم.

ومنها ما هو في المعلق نفسه، وفي جملة الحديث الذي جاء فيه الاختلاف.

وسأذكر الآن بعض ال‌

‌أمثلة لأسانيد معلقة يترجح قبولها واعتمادها بقرائن

، وأخرى يترجح ردها وإغفالها.

فمن الأول ما تقدم في المبحث الثالث من الفصل الثاني (القرائن في أوجه الاختلاف) في القرينة الأولى (السهولة والوعورة)، وهو ما رواه جرير بن عبدالحميد، عن مغيرة بن مقسم، عن أبي وائل، عن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الولد للفراش وللعاهر الحجر» .

وقد جزم البخاري بأن الصواب عن مغيرة، عن أبي وائل مرسلا، وعبدالله هذا هو ابن حذافة السهمي.

ولم يذكر البخاري من رواه عن مغيرة مرسلا، ولكن لا مناص من قبول هذا وترجيحه على رواية جرير، فإن البخاري ذكره جازما به، ووافقه النسائي على أن عبدالله هذا ليس ابن مسعود، وقد رواه سيار أبو الحكم العنزي، عن أبي وائل فأرسله.

ص: 172

وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبدالله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل»

(1)

.

قال البخاري في نقده لهذا الحديث بهذا الإسناد: «وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح»

(2)

.

فهذا المعلق عند البخاري لم يوقف له الآن على إسناد

(3)

، ولكن كل الدلائل تشير إلى صحة هذا المعلق، فقد روى أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة قصة حوار أبي هريرة مع كعب الأحبار حول ساعة الإجابة يوم الجمعة، ومراجعة التوراة

(4)

، فلا بعد أن يكون كعب قد حدثه بهذا الحديث.

وقد رواه الأعمش، عن أبي صالح السمان، عن كعب الأحبار وفيه: «بدأ خلق السموات والأرض يوم الأحد

» الحديث مختصرا ذكر فيه الأيام إلى

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2789)، و «مسند أحمد» 2:327.

(2)

«التاريخ الكبير» 1: 413.

(3)

انظر: «الأحاديث التي أعلها الإمام البخاري في تاريخه الكبير» لعادل الزرقي ص 326، 327.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (1046)، و «سنن الترمذي» حديث (491).

ص: 173

الجمعة، ولم يذكر السبت

(1)

، وأبو صالح من خاصة أصحاب أبي هريرة، فإما أن يكون أخذه عن أبي هريرة، عن كعب وأرسله، وإما أن يكون سمعه مع أبي هريرة من كعب.

والحديث يرويه إبراهيم بن أبي يحيى، عن أيوب بن خالد الأنصاري، ومرة عن صفوان بن سليم، عن أيوب بن خالد

(2)

، ولذا قال ابن المديني في نقده للحديث:«ما أرى إسماعيل بن أمية أخذه إلا من إبراهيم بن أبي يحيى»

(3)

، وإبراهيم هذا متروك الحديث، بل رماه بعضهم بالوضع.

ومتن الحديث فيه نكارة رده بسببها كثير من النقاد، فهو مخالف لما في القرآن من أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام لا في سبعة

(4)

، ورواية الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، لا إشكال فيها من هذه الجهة، وليس فيها هذه التفاصيل، فهذا يؤيد ما ذكره ابن المديني، وأن التخليط فيه إسنادا ومتنا من إبراهيم بن أبي يحيى.

فتلخص من الدلائل السابقة صحة ما علقه البخاري عن بعضهم عن أبي هريرة، عن كعب قوله، وأيضا فالرواية الأقوى عن كعب ليس فيها ما يشكل.

(1)

«نسخة وكيع عن الأعمش» حديث (39)، و «تفسير ابن جرير» 3:112.

(2)

«معرفة علوم الحديث» ص 33، و «الأسماء والصفات» ص 487.

(3)

«الأسماء والصفات» ص 487.

(4)

«فتاوى ابن تيمية» 17: 378، 18: 18، و «الجواب الصحيح» 1: 378، و «المنار المنيف» ص 84، و «تفسير ابن كثير» 4:94.

ص: 174

وروى سعد بن سعيد الأنصاري -أخو يحيى بن سعيد الأنصاري القاضي- في المشهور عنه، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كسر عظم الميت ككسره حيا»

(1)

.

وللحديث طرق أخرى إلى عمرة، لكن طريق سعد بن سعيد هو أشهرها، والحديث يعرف به، والطرق الأخرى الأقرب أنها تعود إليه

(2)

.

وسعد بن سعيد هذا تكلم فيه النقاد من قبل حفظه، وقد خالفه محمد بن عبدالرحمن بن سعد الأنصاري، وهو قريب لعمرة، فعمرة عمته أو عمة أبيه، فرواه عن عمرة موقوفا على عائشة، ومحمد ثقة معروف له اختصاص بعمرة، وقد ضبط هذا الحديث عنها، ففيه قصة، وأشار محمد إلى أن هناك من يرفعه عن عمرة، مما يدل على ضبطه للحديث، فروى شعبة، عن محمد بن عبدالرحمن قال: «قالت لي عمرة: أعطني قطعة من أرضك أدفن فيها، فإني سمعت عائشة تقول:

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3207)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1616)، و «مسند أحمد» 6: 58، 168، 200، 264، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6256) ، (17732 - 17733) ، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1275)، و «التمهيد» 13: 143، و «علل الدارقطني» 14: 410، لكن وقع في النسخة خطأ، ففيها بعد سرد من رواه عن سعد بن سعيد:«عن عمرة، عن عائشة موقوفا» ، والصواب:«مرفوعا» ، فمن ذكرهم الدارقطني روايتهم في المصادر مرفوعة، وسياق كلام الدارقطني قبل هذه الجملة وبعدها يدل على وقوع الخطأ.

(2)

«مسند أحمد» 6: 105، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6257 - 6258) ، و «المنتقى» حديث (551)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1273)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 372، و «صحيح ابن حبان» حديث (3167)، و «الكامل» 3:1189.

ص: 175

كسر عظم الميت مثل كسر عظم الحي»، قال محمد:«ومن أهل المدينة من يحدثه عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم» ، وفي بعض المصادر:«وكان مولى بالمدينة يحدثه عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ورواه مالك أنه بلغه عن عائشة

، فذكره موقوفا

(2)

.

وقد علقه الدارقطني، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة موقوفا

(3)

، ولم يمكن الوقوف على إسناد لهذا المعلق، وعلقه البخاري كذلك عن عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، عن عائشة موقوفا

(4)

، ولم يمكن الوقوف على إسناد لهذا المعلق، بل جاء عن القاسم مرفوعا لكن الإسناد إليه ضعيف

(5)

.

وحينئذ فما علقه الدارقطني من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة،

(1)

«مسند أحمد» 6: 100، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (1171)، و «علل الدارقطني» 14: 410، و «التمهيد» 13:143.

(2)

«موطأ مالك» 1: 238، وقد ذكر ابن عبدالبر في «التمهيد» 13: 143، أنه جاء عن مالك، عن محمد بن عبدالرحمن بن حارثة الأنصاري المعروف بأبي الرجال، عن عمرة موقوفا على عائشة، ولو صح هذا لكان متابعا قويا لرواية محمد بن عبدالرحمن بن سعد الأنصاري شيخ شعبة، فأبو الرجال ولد عمرة، وهو ثقة جليل، لكن قال ابن عبدالبر بعد أن ذكره: «وأكثر الرواة للموطأ يقولون فيه: عن مالك، أنه بلغه، أن عائشة كانت تقول

».

(3)

«علل الدارقطني» 14: 409.

(4)

«التاريخ الكبير» 1: 149.

(5)

«الأحاديث التي أعلها البخاري في كتابه التاريخ الكبير» لعادل الزرقي ص 182.

ص: 176

وما علقه البخاري عن عروة، والقاسم عن عائشة، يترجح قبوله، فالدلائل كلها تشير إلى صحة هذا، فالصواب وقفه على عائشة كما ذهب إليه النقاد.

وروى أبان بن تغلب، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله بن مسعود قال:«كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك»

(1)

.

وعلق ابن أبي حاتم، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد قال: «كانت تلبية عبدالله بن مسعود

» لم يرفعه

(2)

.

ولم يتيسر الوقوف على هذه الرواية موصولة

(3)

، ولكن يترجح قبولها، فإن ابن أبي حاتم علقها جازما، بها ثم نقل عن أبيه قوله:«حديث شعبة أصح» .

وكذا رجح الموقوف أحمد، ولم يذكر من رواه موقوفا، وجعل العهدة في رفعه على حماد بن زيد راويه عن أبان، فقد سئل أحمد عن المرفوع فقال:«هذا أراه من حماد -يعني رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحديث موقوف على عبدالله»

(4)

.

وأيضا فقد تابع أبا إسحاق على الوجه الموقوف عمارة بن عمير، فرواه عن عبدالرحمن بن يزيد قال: «كان عبدالله يعلمنا هذه التلبية: لبيك اللهم

(1)

«سنن النسائي» حديث (2750)، و «مسند أحمد» 1:410.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 293.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» (المناسك) تحقيق تركي الغميز (الحاشية) 2: 765.

(4)

«مسائل أبي داود» ص 437.

ص: 177

لبيك

» الحديث

(1)

.

ثم قد روى المرفوع كثير بن مدرك الأشجعي، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، فاقتصر على أوله، ولفظه:«قال عبدالله ونحن بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك»

(2)

.

وروى جماعة كثيرون -منهم مالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، ويحيى القطان، والثوري، وغيرهم- عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني: «أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يصل عليه

» الحديث، وفي بعض الطرق إليهم: عن ابن أبي عمرة

(3)

.

وعلقه أبو حاتم، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى

(1)

«مصنف ابن أبي شيبة» (الجزء المفقود) حديث (138).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (1283)، و «سنن النسائي» حديث (3046)، و «مسند أحمد» 1: 374، 419.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2710) ، و «سنن النسائي» حديث (1958) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (2848)، و «مسند أحمد» 4: 114، 5: 192، و «موطأ مالك» رواية يحيى بن يحيى 2: 458، ورواية أبي مصعب الزهري حديث (924) ، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (9501 - 9502) و «مسند الحميدي» حديث (815)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 12: 491 حديث (15374 - 15375) ، و «المنتقى» حديث (1081) ، و «المعجم الكبير» حديث (5178 - 5179)، و «المستدرك» 2: 127، و «حلية الأولياء» 8: 262، و «التمهيد» 23:285.

ص: 178

بن حبان، عن زيد بن خالد، ليس بينهما أحد

(1)

.

وعلقه ابن عبدالبر عن حماد بن زيد، كرواية الجماعة بذكر أبي عمرة

(2)

.

ولا إشكال في قبول ما علقه ابن عبدالبر، فهو الموافق لرواية الجماعة، ثم قد رواه محمد بن نصر المروزي، عن محمد بن عبيد بن حساب، عن حماد بن زيد كذلك

(3)

.

وما علقه أبو حاتم يظهر قبوله كذلك، فقد رواه البزار، عن محمد بن عبدالملك القرشي، عن حماد بن زيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رجل، عن زيد بن خالد

(4)

، فيظهر أن حمادا كان مترددا في أبي عمرة، فربما ذكره، وربما أبهمه، وقد يسقطه.

وروى جماعة كثيرون عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:«أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بياضة: أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه، وقال: وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة» ، ومنهم من اقتصر على بعضه

(5)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 162.

(2)

«التمهيد» 23: 286.

(3)

«تعظيم قدر الصلاة» حديث (693).

(4)

«مسند البزار» حديث (3765).

(5)

«سنن أبي داود» حديث (2102) ، (3857)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3476)، و «مسند أحمد» 2: 442، 423، و «مسند أبي يعلى» حديث (5911)، و «صحيح ان حبان» حديث (6078).

ص: 179

قال الدارقطني بعد أن ذكر رواية حماد هذه: «وغيره يرويه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مرسلا، والمرسل أشبه» ، ثم قيل له: من يقدم في حديث محمد بن عمرو؟ قال: «إسماعيل بن جعفر»

(1)

.

ولم يتيسر الوقوف على هذه الرواية المرسلة، غير أن ترجيح صحتها وقبولها ظاهر، فالحديث تفرد به حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو موصولا، وحماد يخطئ في روايته عن شيوخه الذي لم يلازمهم، وقد ذكر ابن عدي الحديث الموصول في ترجمة حماد

(2)

، فمجيء مثل هذه الرواية المرسلة أمر قريب جدا.

فالأمثلة السابقة هي لروايات معلقة يظهر بالقرائن المحتفة بها وبالحديث كله أنها صحيحة إلى من علقت عنه، يمكن الاعتماد عليها في الموازنة والنظر حين وقوع الاختلاف.

وفي الجانب الآخر هذه بعض الأمثلة على روايات معلقة يظهر بالقرائن التوقف في قبولها وصحتها إلى من علقت عنه.

فمن ذلك أن محمد بن جعفر بن أبي كثير روى عن موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن مسروق، عن ابن مسعود مرفوعا: «ليس منا من ضرب الخدود

» الحديث، وخالفه إسرائيل بن يونس، فرواه عن أبي إسحاق، عن مسروق مرسلا

(3)

.

(1)

«علل الدارقطني» 9: 289.

(2)

«الكامل» 2: 679، 680.

(3)

«معجم ابن الأعرابي» حديث (2225)، و «اعتلال القلوب» حديث (360) ، و «المعجم الكبير» حديث (10297)، و «أمالي ابن بشران» حديث (55، 529).

ص: 180

قال الدارقطني عن رواية موسى بن عقبة: «وهو غريب، تفرد به محمد بن جعفر بن أبي كثير عنه» ، فذكر للدارقطني أن ابن لهيعة رواه عن موسى بن عقبة كذلك، فقال الدارقطني:«لا أحفظه»

(1)

.

فالدارقطني توقف في هذا المعلق لما لم يكن عنده إسناد له، ولم يعده مزيلا للغرابة عن رواية محمد بن جعفر، فهي متقررة عنده، ورفعها يحتاج إلى ثبوت الطريق إلى من علق عنه.

والشاهد صنيع الدارقطني، وأما بعده فقد وجد هذا المعلق موصولا من طريق حسان بن غالب المصري

(2)

، وهو متروك الحديث

(3)

، فبقيت الغرابة بحالها.

وروى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلا، قصة الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت صلاة الصبح

(4)

.

قال ابن عبدالبر: «وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أدري كيف صحة هذا عن سفيان؟ وأما الحديث عن زيد بن أسلم فالصحيح فيه أنه من

(1)

«علل الدارقطني» 5: 248.

(2)

«أحاديث أبي إسحاق السبيعي التي ذكر الدارقطني فيها اختلافا في كتاب العلل» لخالد باسمح 2: 637، وعزاه إلى «أمالي الجرجاني» 177 أ.

(3)

«المجروحين» 1: 271، و «لسان الميزان» 2:188.

(4)

«موطأ مالك» 1: 4.

ص: 181

مرسل عطاء، والله أعلم»

(1)

.

وقال الباجي في كلامه على حديث مالك: «هذا الحديث مرسل، ولا نعلم أحدا من أصحاب مالك أسنده، ولا نعلم أحدا أسنده من طريق عطاء، وقد ذكر القنازعي رحمه الله أن سفيان أسنده عن زيد، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأراه وهم»

(2)

.

فتوقف ابن عبد البر، والباجي، في قبول ما نسب إلى سفيان بن عيينة دون إسناد، حيث يلزم من قبوله نسبة سفيان إلى مخالفة مالك ومن أرسله عن عطاء.

ومن ذلك أيضا الحديث الماضي آنفا، وهو حديث سعد بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة مرفوعا:«كسر عظم الميت ككسره حيا» ، فقد تقدم أن جماعة كثيرين يروونه عن سعد بن سعيد مرفوعا، وذكر البخاري أن الدراوردي، وسليمان بن بلال، روياه عن سعد بن سعيد فوقفاه على عائشة

(3)

.

ولم يمكن الوقوف على إسناد هاتين الروايتين اللتين علقهما البخاري

(4)

، لكن أمكن الوقوف على رواية ثلاثة من أصحاب الدراوردي، وهم القعنبي، وهشام بن عمار، وإبراهيم بن حمزة، عن الدراوردي، عن سعد بن سعيد برفع الحديث وليس بوقفه

(5)

، وكذا علقه الدارقطني عن الدراوردي

(6)

.

(1)

«التمهيد» 4: 333.

(2)

«المنتقى» 1: 6، ولعله سقط منه:«عن أنس» .

(3)

«التاريخ الكبير» 1: 149.

(4)

«الأحاديث التي أعلها البخاري في كتابه التاريخ الكبير» ص 181 - 182.

(5)

«سنن أبي داود» حديث (3207)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1616)، و «الكامل» 3:1189.

(6)

«علل الدارقطني» 14: 410.

ص: 182

وعلى هذا فما علقه البخاري عن الدراوردي، وسليمان بن بلال، يتوقف فيه حتى يوقف على إسناده، ولا يحسن الجزم بناء عليه بأن سعد بن سعيد قد اضطرب في روايته للحديث عن عمرة، رفعا ووقفا.

وروى حفص بن غياث، وعبدالله بن نمير، وجرير بن عبدالحميد، وعيسى بن يونس، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار مرفوعا قصة التيمم، إلا أن حفص بن غياث لم يذكر سعيد بن عبدالرحمن في الإسناد، فجعله عن سلمة، عن عبدالرحمن بن أبزى.

وذكر أبو داود أن وكيعا يرويه كذلك ليس فيه سعيد، ولم يذكر أبو داود إسناده إلى وكيع

(1)

.

فهذا المعلق عن وكيع يتوقف فيه حتى يوقف على إسناده، ولايبنى عليه الحكم باضطراب وكيع فيه، فقد رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، فذكر فيه سعيدا، كقول الجماعة عن الأعمش

(2)

.

وروى سعيد بن أبي عروبة، وهمام، وعمران القطان، عن قتادة، عن أنس مرفوعا: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم

»

(3)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (323)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (269)، و «مسند أبي عوانة» 1: 305، 306، و «شرح معاني الآثار» 1: 112، و «سنن الدارقطني» 1:183.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 1: 159.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (750)، و «سنن أبي داود» حديث (913)، و «سنن النسائي»

حديث (1192)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1044)، و «مسند أحمد» 3: 109، 112، 114، 116، و «مسند الطيالسي» حديث (2131)، و «ذكر أخبار أصبهان» 1:336.

ص: 183

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس

فذكر الحديث، ورواه أبان العطار، عن قتادة أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول

مرسلا، قال أبو زرعة (كذا في النسخة): ابن أبي عروبة أحفظ، وقتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح، كذا رواه عمران القطان أيضا»

(1)

.

وهذا المعلق عن أبان لم يتيسر الوقوف على إسناده إلى أبان، ولا بد من الوقوف عليه للنظر في صحته عن أبان، فقد رواه أحمد، عن عفان بن مسلم، عن أبان موصولا، كقول الجماعة عن قتادة

(2)

.

والثابت عنه أنه يرويه عن قتادة مرسلا هو معمر، هكذا رواه عنه عبدالرزاق

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه حصين، عن سعد بن عبيدة، عن البراء، قال: «إذا اضطجع الرجل فتوسد يمينه، قال: اللهم إني أسلمت نفسي إليك

».

قال أبي: لم يرفعه حصين، ورواه منصور، وفطر، فرفعاه، قلت: فأيهما أصح؟ قال: منصور أحفظ الثلاثة، وأثبتهم، وأتقنهم»

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 111.

(2)

«مسند أحمد» 3: 258.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (3259).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 168.

ص: 184

ورواية حصين بن عبدالرحمن الموقوفة هذه لم يتيسر الوقوف عليها، وقد رواه جماعة عن حصين مرفوعا

(1)

، فيتوقف في قبول الرواية الموقوفة عن حصين، ولعل الخطأ فيها من الإسناد إليه.

وروى جماعة عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين

»

(2)

.

قال أبو عوانة: «لم يخرجه مسلم، وأخرجه غيره، وذاك أن غندرا رواه عن شعبة، عن سليمان، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

وما علقه أبو عوانة يحتاج إلى النظر في إسناده، فقد رواه أحمد عن محمد بن جعفر غندر، فجعله عن أبي هريرة، كرواية الجماعة، وكذا رواه جماعة عن الأعمش أيضا، كما تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2710)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10620 - 10621)، و «مسند أحمد» 4:296.

ورواية منصور أخرجها البخاري حديث (247)، (6311)، ومسلم حديث (2710)، وأبو داود حديث (5046)، (5048)، والترمذي (3574)، والنسائي في «سننه الكبرى» حديث (10618)، وأحمد 4: 293، ورواية فطر بن خليفة أخرجها أبو داود حديث (5047)، والنسائي في «سننه الكبرى» حديث (10619)، وأحمد 4:290.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5026)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8073)، و «مسند أحمد» 2: 479، و «إتحاف المهرة» 14:504.

(3)

«مسند أبي عوانة» حديث (3862) طبعة دار المعرفة.

ص: 185

وروى الوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد، وعبدالله بن كثير الدمشقي، عن الأوزاعي، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:«إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا» ، غير أن رواية الوليد بن مزيد، وعبدالله بن كثير ليس فيها قول عائشة: «إذا جاوز الختان

»، وفيها أنها سئلت عن الذي يجامع ولا ينزل فقالت: «فعلته

» الحديث

(1)

.

وذكر الدارقطني أن بشر بن بكر، وأبا المغيرة، وعمرو بن أبي سلمة، ومحمد بن كثير، ومحمد بن مصعب وغيرهم، رووه عن الأوزاعي موقوفا

(2)

.

ولم يمكن الوقوف على هذه الروايات المعلقة عند الدارقطني، غير أنه أمكن الوقوف على رواية ثقتين عن بشر بن بكر بالرفع، كرواية الوليد بن مزيد، وعبدالله بن كثير

(3)

، وعليه فما ذكره الدارقطني يتوقف فيه حتى يوقف على أسانيده.

وروى جماعة كثيرون، منهم موسى بن إسماعيل، وحسن بن موسى، وعفان بن مسلم، وأبو داود الطيالسي، ومحمد بن الفضل عارم، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

«سنن الترمذي» حديث (108)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (196)، و «سنن ابن ماجه» حديث (608)، و «مسند أحمد» 6: 161، و «صحيح ابن حبان» حديث (1175)، و «سنن الدارقطني» 1:111.

(2)

«سنن الدارقطني» 1: 112.

(3)

«المنتقى» حديث (93)، و «شرح معاني الآثار» 1:55.

ص: 186

يقول: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار»

(1)

.

وذكر الدارقطني أن الأسود بن عامر رواه عن حماد بن سلمة فوقفه

(2)

، كذا ذكر الدارقطني، ولم يسنده إلى الأسود بن عامر، وقد رواه ابن أبي شيبة، عن الأسود بن عامر مرفوعا، كقول الجماعة

(3)

.

وروى يزيد بن هارون، وعمرو بن خليفة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى

» الحديث

(4)

.

وسرد الدارقطني جماعة آخرين يروونه عن محمد بن عمرو بن علقمة هكذا موصولا، فذكر خالدا الواسطي، ومعاذ بن معاذ، وعباد بن العوام، وعمر بن علي المقدمي، وعبدة بن سليمان

(5)

، ولا إشكال في ذلك.

وذكر الدارقطني أيضا أن حماد بن سلمة خالفهم، فرواه عن محمد بن

(1)

«سنن أبي داود» حديث (249)، و «مسند أحمد» 1: 94، 101، 133، و «مسند الطيالسي» حديث (170)، و «سنن الدارمي» حديث (757)، و «تهذيب الآثار» (مسند علي) حديث (41)، و «سنن البيهقي» 1:175.

(2)

«علل الدارقطني» 3: 208.

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (599).

(4)

«سنن ابن ماجه» حديث (1341)، و «مسند أحمد» 2: 450، و «مسند البزار» (7953 - 7954).

(5)

«علل الدارقطني» 9: 287.

ص: 187

عمرو، عن أبي سلمة مرسلا، ولم يسق الدارقطني إسناده إلى حماد، وقد رواه أحمد، عن حسن بن موسى، عن حماد بن سلمة موصولا بذكر أبي هريرة، كقول الجماعة عن محمد بن عمرو

(1)

.

فالرواية المرسلة التي علقها الدارقطني عن حماد بن سلمة يتوقف فيها، ولا يحكم من أجلها على حماد بن سلمة بالاضطراب في هذا الحديث.

وروى يحيى بن سعيد القطان، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: «ما من حاكم بين الناس إلا حشر يوم القيامة وملك آخذ بقفاه

» الحديث

(2)

.

ورواه عبدالرحيم بن سليمان، وهشيم، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وغيرهم، عن مجالد، فوقفوه على ابن مسعود

(3)

.

وذكر الدارقطني أن علي بن صالح تابع يحيى القطان على رفعه، ولم يذكر الدارقطني إسناده إلى علي، ولا بد من الوقوف عليه لقبول هذا المعلق، فقد قال البزار بعد أن ساق رواية القطان: «هذا الحديث لا نعلم أسنده عن مجالد إلا يحيى بن سعيد، وسمعت عمرو بن علي يذكر هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، ومحمد بن فضيل، عن مجالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

«مسند أحمد» 2: 354.

(2)

«سنن ابن ماجه» حديث (2311)، و «مسند أحمد» 1: 430، وفي «مسند أحمد»: «عن عبدالله

-قال مرة أو مرتين- عن النبي صلى الله عليه وسلم».

(3)

«مصنف ابن أبي شيبة» 7: 229، 12: 216، و «علل الدارقطني» 5:249.

ص: 188

وأظن أن عمرو بن علي حمل حديث ابن فضيل على حديث يحيى في الرفع، لأني لم أسمع أحدا رفعه عن ابن فضيل إلا عمرو بن علي، فجمع فيه يحيى، وابن فضيل»

(1)

.

فما علقه الدارقطني عن علي بن صالح لا يصح النقض به على البزار في قوله إنه لا يعلم أحدا رفعه سوى القطان، حتى يثبت هذا عن علي بن صالح.

وذكر ابن حجر أن يزيد بن هارون حين روى عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، حديث أبي بن كعب مرفوعا:«إن من الشعر حكمة» ، حذف من الإسناد شيخ شيخ الزهري، مروان بن الحكم، قال ابن حجر:«والصواب إثباته»

(2)

.

وقد أمكن الوقوف على ثلاثة طرق إلى يزيد بن هارون، وفيها كلها مروان بن الحكم

(3)

، فيتوقف في ثبوت ما نسبه ابن حجر إلى رواية يزيد بن هارون.

وأعود الآن -بعد عرض الأمثلة من النوعين- إلى التذكير بما قدمت به لها، من أن إغفال هذه المعلقات عسير جدا بل لا يمكن تطبيقه، وكذلك اعتمادها هكذا بإطلاق، فالناظر في الاختلاف ملزم إذن بدراسة ما يمر به منها، والخلوص إلى نتيجة تعتمد على القرائن، وما يحف بالمعلق منها قبولا أو ردا.

* * *

(1)

«مسند البزار» حديث (1939).

(2)

«فتح الباري» 10: 540.

(3)

«مسند أحمد» 5: 125، و «شرح معاني الآثار» 4: 297، و «مسند الشاشي» حديث (1512).

ص: 189

‌المبحث الثالث

تعاضد القرائن

إذا وصل الباحث إلى رأي معين في الاختلاف الذي ينظر فيه، سواء كان بترجيح حفظ وجه واحد، أو بترجيح حفظ وجهين أو أكثر، أو بترجيح عدم حفظ شيء من أوجه الاختلاف، فكل ذلك لا بد أن يكون مبنيا على القرائن التي سبق شرحها في الفصل السابق، أو غيرها مما يظهر للباحث أنه قرينه مؤثرة.

وليس من شرط الترجيح أن يتوافر عليه عدد من القرائن، فقد يتم الترجيح بقرينة واحدة، مثل قرينة كون أحد الراويين المختلفين أحفظ من الآخر، أو أقوى في الشيخ المختلف عليه، أو في رواية أحدهما ما يدل على حفظ الوجه الذي رواه، أو في روايتهما جميعا كذلك، أو يكون أحدهما قد توبع في طبقة أعلى، أو يكون الرواة المختلفون كلهم ثقات حفاظ، ولكن أحد الوجهين رواه الأكثر، أو يكون الراوي المختلف عليه واسع الرواية، ونحو ذلك.

وغير خاف أن توافر عدد من القرائن للترجيح أقوى من الاعتماد على قرينة واحدة، وكلما كثرت القرائن ازداد الترجيح قوة، ولهذا نرى النقاد يذكر قرائن تدل على ما اختاروه متى وجدت في الاختلاف الذي ينظرون فيه.

وسأذكر الآن‌

‌ نماذج من عمل النقاد وأمثلة أخرى لتوافر القرائن

.

من ذلك الحديث الماضي في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب،

ص: 190

وهو ما روي عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك بن مالك، قال: سمعت عائشة

، فذكر الحديث، في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة.

سئل أحمد عن هذا الحديث فقال: «هو مرسل» ، وأنكر أن يكون عراك بن مالك سمع من عائشة، والتصريح بالتحديث الموجود في هذه الرواية خطأ.

واعتمد أحمد -كما تقدم- على عدد من القرائن ذكرها، فعراك بن مالك إنما يروي عن عروة، عن عائشة، ومعنى هذا أنه لم يلقها، وأيضا غير واحد من أصحاب حماد بن سلمة رووه عن حماد فلم يذكروا التصريح بالتحديث، فليس في روايتهم قول عراك: سمعت عائشة، ثم إنه قد رواه غير واحد أيضا عن خالد الحذاء -شيخ حماد- وليس في روايتهم: سمعت عائشة.

ومن ذلك أيضا الحديث الماضي في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه عبيدالله بن عمرو الرقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس في القراءة خلف الإمام.

فقد اعتمد البخاري -كما تقدم- على عدد من القرائن، منها الكثرة، فإن عددا كبيرا من أصحاب أيوب السختياني أرسلوه عنه فلم يذكروا أنسا

(1)

،

(1)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (2765)، و «علل الدارقطني» 12: 237، و «السنن الكبرى» للبيهقي 2: 166، و «جزء القراءة خلف الإمام» للبيهقي حديث (149 - 151)، و «معرفة السنن» 2:53.

ص: 191

واكتفى البخاري بذكر اثنين منهم، وهما إسماعيل بن علية، وحماد بن زيد، وكل واحد منهما أحفظ من عبيدالله بن عمرو، خاصة في أيوب فهما المقدمان فيه، ثم انتقل البخاري إلى طبقة أيوب، فذكر أن خالدا الحذاء رواه عن أبي قلابة، فسأله خالد: من حدثك هذا؟ قال: محمد بن أبي عائشة مولى لبني أمية، كان خرج مع بني مروان، حيث خرجوا من المدينة، فأفادت هذه الرواية متابعة هذه الطبقة لمن لم يذكر فيه أنسا، وهم الجماعة من أصحاب أيوب، وفيها أيضا قرينة (السهولة والوعورة) في الإسناد، فعبيدالله بن عمرو سلك الجادة السهلة، ذلك أن أبا قلابة معروف بالرواية عن أنس بن مالك، وجعله عنه أسهل في الحفظ، فمن تركه وعدل إلى غيره فهو الذي حفظ.

وقد وافق البخاري على تخطئة عبيدالله بن عمرو جمع من النقاد

(1)

.

وكذلك الحديث الماضي في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، مرفوعا:«من ملك ذا رحم مُحرم فهو حر» ، ذكر أبو داود، ثم البيهقي عددا من القرائن في تخطئة رواية حماد هذه تقدم ذكرها هناك.

وروى الترمذي حديث جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: «كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام، فاشتهيناه فأكلنا

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 175، و «علل الدارقطني» 12: 237، و «سنن البيهقي» 2: 166، و «تاريخ بغداد» 13:175.

ص: 192

منه

» الحديث.

ثم قال الترمذي: «وروى صالح بن أبي الأخضر، ومحمد بن أبي حفصة، هذا الحديث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، مثل هذا.

ورواه مالك بن أنس، ومعمر، وعبيدالله بن عمر، وزياد بن سعد، وغير واحد من الحفاظ، عن الزهري، عن عائشة مرسلا، ولم يذكروا فيه (عن عروة)، وهذا أصح، لأنه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له: أحدثك عروة، عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبدالملك من ناس، عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث، حدثنا بذلك علي بن عيسى البغدادي، حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج

، فذكر الحديث»

(1)

.

وسؤال ابن جريج جاء مثله عن سفيان بن عيينة، فروى الحميدي، عن سفيان بن عيينة بعد أن روى المرسل قوله:«فقيل للزهري: هو عن عروة؟ قال: لا، وكان ذلك عند قيامه من المجلس، وأقيمت الصلاة، وكنت سمعت صالح بن أبي الأخضر حدثنا عن الزهري عن عروة، فلما قال الزهري: ليس هو عن عروة، فظننت أن صالحا أتي من قبل العرض»

(2)

.

وفي كلام الترمذي عدد من القرائن للترجيح، منها الكثرة، والحفظ، والتقدم

(1)

«سنن الترمذي» حديث (735).

(2)

«المعرفة والتاريخ» 2: 741، وانظر:«سنن البيهقي» 4: 280، ومعنى كلام سفيان أن صالح بن أبي الأخضر يخطئ على الزهري لكونه لم يسمع منه سماعا، وإنما عرض عليه.

ص: 193

في الزهري، والنص عن الزهري أنه لم يسمعه من عروة، وفي قوله:«من الحفاظ» إشارة إلى ضعف الثلاثة الذين وصلوه في الزهري، وفي حكاية ابن جريج إشارة إلى ترك الجادة، وأن الثلاثة الذين وصلوه سلكوا الجادة، فالزهري كثير الرواية عن عروة، عن عائشة.

وقد توارد النقاد على تخطئة من وصله بذكر عروة

(1)

.

وروى عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اتقوا الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة»

(2)

.

سئل أبو حاتم عن رواية عطاء هذه فقال: «رواه جرير، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محارب، عن أبي الصديق الناجي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

مرسلا، هذا بين عوار حديث عطاء، وهذا أشبه، لو كان عن ابن عمر كان أسهل عليه حفظا من أبي الصديق، وكان عطاء بن السائب ساء حفظه»

(3)

.

ذكر أبو حاتم في ترجيحه عددا من القرائن، فالموصول من رواية عطاء بن السائب، وقد اختلط وساء حفظه في الآخر كما تقدم في «الجرح والتعديل»

(4)

، ومخالفه أبو إسحاق الشيباني، وهو ثقة ثبت، وكونه عن محارب بن دثار، عن

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 227، 264، و «علل الدارقطني» 15: 40 - 43، و «سنن البيهقي» 4: 279 - 281.

(2)

«مسند أحمد» 2: 92، 105، 136.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1/ 315.

(4)

«الجرح والتعديل» ص 144، 150 - 152.

ص: 194

ابن عمر أسهل على أبي إسحاق في الحفظ، من كونه عن أبي الصديق الناجي، فمحارب بن دثار معروف بالرواية عن ابن عمر، فتركه للأسهل يدل على أنه قد حفظ، وأن مخالفه قد غلط، وهذه قرينة سلوك الجادة وتركها.

وروى جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت البناني قال: حدثني عمر بن أبي سلمة، عن أم سلمة، قصة وفاة زوجها أبي سلمة وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها.

ورواه سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: حدثني ابن أم سلمة، عن أم سلمة، وقيل عن سليمان أيضا عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة مرسلا

(1)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن ثابت قال: حدثني ابن عمر بن أبي سلمة بمنى، عن أبيه، عن أم سلمة

(2)

.

سئل أبو حاتم، وأبو زرعة، عن رواية جعفر بن سليمان، فقالا جميعا: «رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه [عن أم سلمة] عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الحديثين، زاد فيه رجلا

»، ثم قال أبو حاتم:«أضبط الناس لحديث ثابت، وعلي بن زيد: حماد بن سلمة، بين خطأ الناس»

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 6: 314، و «مسند أبي يعلى» حديث (6908).

(2)

«مسند أحمد» 6: 295، و «مسند أبي يعلى» حديث (6907)، و «شرح معاني الآثار» 3: 29، و «صحيح ابن حبان» حديث (2949)، و «المعجم الكبير» 23 حديث (506 - 507)، و «المستدرك» 2: 178، و «سنن البيهقي» 7:131.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 405، رقم (1211)، وما بين المعكوفتين لا بد منه، فهكذا رواية حماد بن سلمة في المصادر كلها، وهكذا أيضا ذكره أبو حاتم قبل حين سئل عن رواية الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس 1: 404 رقم (1209).

ص: 195

وسئل أبو حاتم مرة أخرى عن رواية سليمان بن المغيرة، عن ابن أم سلمة، عن أم سلمة، وذكر له بعض الحديث، فقال:«هذا الحديث مرسل، لم يسمع ثابت من عمر بن أبي سلمة، إنما يروي عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه»

(1)

.

فالترجيح تم إذن بقرينتين، أن رواية حماد بن سلمة فيها وعورة، حيث زاد ابن عمر بن أبي سلمة، وكان أسهل عليه أن يكون الإسناد عن ثابت، عن عمر بن أبي سلمة، خاصة أن ابن عمر لم يُسَمَّ، فكونه حفظ هذه الزيادة يدل على رجحان روايته على رواية من أسقطها، وهذا معنى قولهما:«زاد فيه رجلا» .

ثم حماد بن سلمة أثبت أصحاب ثابت البناني، فمن خالفه فالقول قوله.

وفي رواية حماد قرينة ثالثة أيضا وهي ضبطه لمكان تحديث ابن عمر بن أبي سلمة لثابت البناني، وأن ذلك بمنى.

وفي هذا الحديث بعينه وجه آخر من الاختلاف على ثابت أبعد فيه راويه جدا، فقد روى الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس بن مالك بعض هذا الحديث

(2)

.

والقرائن على تخطئة هذا الوجه أكثر وأقوى، فالحكم بن عطية هذا شيخ ليس بقوي، وقد سلك الجادة المشهورة جدا: ثابت، عن أنس، وخالف الجماعة

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 422.

(2)

«مسند الطيالسي» حديث (2134)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3385)، و «المعجم الكبير» 23 حديث (498).

ص: 196

من أصحاب ثابت، فإنهم -على اختلافهم- لم يجعلوه عن أنس، كما تقدم آنفا.

ولهذا فكلام الناقد في تخطئة هذا الوجه أقوى وأشد عبارة من تخطئة وجه إسقاط ابن عمر بن أبي سلمة، فمسقطه مع ذلك لا يزال في الوجه الصواب، مقارنة بوجه ثابت، عن أنس.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه الحكم بن عطية

، فقال أبي: سألت أبا الوليد الطيالسي عن هذا الحديث فقال: ما تصنعون بهذا؟ ! هذا خطأ.

قلنا: وما الصحيح يا أبا الوليد؟ قال: ما حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبي: فقلت له: قد حدث به أبو داود الطيالسي عن الحكم! ! ، فلم يبال به، ولم يحدثنا به»

(1)

.

وقد توارد النقاد على إنكار هذا الحديث بهذا الإسناد على الحكم بن عطية

(2)

، وعلل أحمد خطأه بأنه كان لا يكتب

(3)

، وذكر أحمد أيضا أنه إنما أراد حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة الطويل -يعني فأخطأ فيه-

(4)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 404.

(2)

«مسند البزار» حديث (6897)، و «الجرح والتعديل» 3: 125، و «ضعفاء العقيلي» 1: 258، و «الكامل» 2:623.

(3)

«إكمال تهذيب الكمال» 4: 103.

(4)

«الضعفاء الكبير» 1: 258.

ص: 197

وروى أيمن بن نابل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهدكما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله، وبالله، التحيات لله

» الحديث

(1)

.

ورواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، وطاووس، عن ابن عباس، وليس في حديثه جملة:«بسم الله وبالله» ، وتابع الليث بن سعد حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي، إلا أنه لم يذكر سعيد بن جبير، وأيضا روايته مختصرة جدا

(2)

.

وقد توارد النقاد كالبخاري، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، على تخطئة أيمن بن نابل، وأن الصواب ما رواه الليث، وحميد بن عبدالرحمن الرؤاسي

(3)

.

وترجيح ذلك ظاهر بعدة قرائن، فأيمن متوسط الحال، وقد خالف ثقتين، أحدهما ثقة حافظ، من أوثق أصحاب أبي الزبير، وهو الليث بن سعد.

ثم إن أيمن بن نابل سلك الجادة في قوله: عن أبي الزبير، عن جابر، فإن

(1)

«سنن النسائي» حديث (1174)، (1280)، و «سنن ابن ماجه» حديث (902).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (403)، و «سنن ابن ماجه» حديث (900) ، و «سنن أبي داود» حديث (974)، و «سنن الترمذي» حديث (290)، و «سنن ابن ماجه» حديث (900)، و «سنن النسائي» حديث (1173)، (1277)، و «مسند أحمد» 1: 291، 315.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (290)، و «العلل الكبير» 1: 227، و «سنن النسائي» حديث (1280)، و «الكامل» 1: 423، و «علل الدارقطني» 13: 342، و «سنن البيهقي» 2: 142، و «تهذيب الكمال» 3:450.

ص: 198

أبا الزبير مكثر جدا عن جابر، والمخالفان له تركا هذه الجادة، وجمع أحدهما بين سعيد بن جبير، وطاوس، مما يدل على حفظهما.

زيادة على ذلك، فأيمن بن نابل خالف في جهة أخرى، فزاد في متن الحديث:«بسم الله، وبالله» .

وروى يعلى بن عبيد، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مقسم، عن ابن عباس قال:«ساق النبي صلى الله عليه وسلم مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل»

(1)

.

ورواه وكيع بن الجراح، وأبو نعيم، وأبو عاصم، وعبدالله بن داود، وقبيصة بن عقبة، وغيرهم، عن الثوري، عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس

(2)

.

ويعلى بن عبيد وإن كان ثقة إلا أنه مضعف في سفيان الثوري خاصة، والمخالفون له جماعة فيهم حفاظ ثقات، من أكابر أصحاب الثوري.

وأيضا فقد رواه زهير بن محمد، وهشيم، عن ابن أبي ليلى

(3)

، مما يؤكد رجحان رواية الجماعة عن الثوري.

وقد سئل أبو زرعة عن رواية يعلى بن عبيد فقال: «هذا خطأ، إنما هو الثوري،

(1)

«سنن البيهقي» 5: 230.

(2)

«سنن ابن ماجه» حديث (3076)، (3100)، و «مسند أحمد» 1: 234، 269، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1405)، و «المعجم الكبير» حديث (12057)، و «حلية الأولياء» 7: 97، و «سنن البيهقي» 5:230.

(3)

«مسند أحمد» 1: 314، و «أمالي المحاملي» حديث (25)، و «سنن البيهقي» 5:230.

ص: 199

عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والخطأ من يعلى»

(1)

.

وروى الحجاج بن أرطاة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو، قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف، فبصر برجلين متنحيين

» الحديث

(2)

.

سئل أبو زرعة عنه فقال: «هذا وهم عندي» ، قال ابن أبي حاتم:«لم يبين ما الصحيح؟ والذي عندي أن الصحيح الذي رواه شعبة، وسفيان، وهشام بن حسان، وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، وشريك، وهشيم، عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

فحجاج بن أرطاة مع ما فيه من ضعف قد خالف الجماعة من أصحاب يعلى بن عطاء، وفيهم حفاظ كبار، مثل شعبة، وسفيان، وأبي عوانة، وهشيم.

وأيضا فقد سلك الحجاج الجادة، كما قال ابن عدي: «هكذا قال حجاج، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو، وأخطأ في الإسناد، وكان هذا الإسناد أسهل عليه، لأن يعلى بن عطاء يروي عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 295.

(2)

«المعجم الكبير» حديث (14372)، و «الكامل» 2: 645، و «سنن الدارقطني» 1: 414، و «سنن البيهقي» 2:301.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 185. وانظر هذه الطرق التي ذكرها ابن أبي حاتم وغيرها في «سنن أبي داود» حديث (575 - 576) ، (614) ، و «سنن الترمذي» حديث (219)، و «سنن النسائي» حديث (857) ، و «مسند أحمد» 4: 160 - 161، و «المعجم الكبير» 22 حديث (612) ، (614) ، (616 - 617) ، (619) ، و «سنن الدارقطني» 1: 414.

ص: 200

أحاديث، وإنما روى هذا الحديث الثقات عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه»

(1)

.

وروى طلق بن غنام، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قصة فاطمة بنت قيس وطلاقها، وقول عمر: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة

».

وخالفه جماعة من الحفاظ من أصحاب حفص بن غياث: أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، ومحمد بن عبدالله بن نمير، فلم يذكروا جملة:«وسنة نبينا» .

قال الدارقطني في نقد رواية طلق بن غنام: «وهم على حفص في ذلك، لأن محمد بن عبدالله بن نمير، وأبا كريب -وهما أحفظ منه وأثبت- روياه عن حفص، عن الأعمش، ولم يذكرا ذلك» .

فذكر الدارقطني في ترجيحه قرينتين، الكثرة، والحفظ والتثبت.

والاختلاف متى توافر فيه عند الموازنة والنظر عدد من القرائن في ترجيح حفظ وجه واحد أو أكثر، كان ذلك أسهل على الناظر، فمثل هذه الاختلافات هي المجال الأوسع بالنسبة للباحث للتدرب على النظر والموازنة حين يختلف الرواة على شيخ لهم، خاصة إذا كانت هذه القرائن مما نستطيع مشاركة النقاد في استخدامه، فيحسن بالباحث أن يكون ابتداء عمله وتطبيقه في هذا المجال على هذا النوع من الاختلاف، فيتدرب على إطلاق عبارات الترجيح، وتصويب

(1)

«الكامل» 2: 646.

ص: 201

ما هو صواب، وتخطئة ما هو خطأ، فاحتمال خطأ الباحث هنا ضعيف، لا سيما وأنه سيتكئ على قول ناقد أو أكثر.

وينصح الباحث هنا -إذا أكثر من التطبيق والممارسة لهذا النوع- أن لا يغيب عنه قدر نفسه، وأن يكون متوازنا في عباراته وجمله التي يعبر بها عن اختياره، فالعلم لم ينته هنا، ولو انتهى هنا لصرنا كلنا أئمة من نقاد الحديث وصيارفته.

وفي هذا النوع من الاختلافات جانب آخر يتعلق بالباحث المتأخر أيضا، فهو مجال لإنعام النظر والتأمل، يظهر به الفرق جليا بين منهج أئمة الحديث ونقاده ومنهج الفقهاء والأصوليين الذي عرف فيما بعد بمنهج المتأخرين، لأن كثيرا من المشتغلين بالحديث من المتأخرين تأثروا به، إما كليا أو جزئيا، وطبقوه في تعاملهم مع الاختلاف.

وقد مضى الحديث مفصلا عن هذه القضية من حيث هي في الفصل الأول من هذا الباب، وأشير هنا إلى بعض الأمثلة التي توضح الفرق بين المنهجين.

فمن ذلك الحديث الماضي في أول مبحثنا هذا، وهو حديث عبيدالله بن عمرو الرقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس في القراءة خلف الإمام.

تقدم هناك أن عددا كبيرا من النقاد تواردوا على تخطئة عبيدالله بن عمرو في ذكر أنس، فأيوب إنما يرويه عن أبي قلابة مرسلا، وسأل خالد الحذاء أبا قلابة عمن سمع منه هذا الحديث، فقال: محمد بن أبي عائشة، مولى لبني أمية

الخ.

وأما ابن حبان فأخرج الموصول بذكر أنس في مكانين، ثم قال في الموضع

ص: 202

الثاني منهما: «سمع هذا الخبر أبو قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعه من أنس بن مالك، فالطريقان محفوظان»

(1)

.

وكذا صحح الإسناد الموصول بذكر أنس غير واحد من الباحثين.

ومن ذلك أيضا حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا: «إن للصلاة أولا وأخرا

» الحديث، وقد مضى ذكره في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب.

وخالف محمد بن فضيل أصحاب الأعمش، فرووه عنه، عن مجاهد قال: «كان يقال: إن للصلاة أولا وأخرا

».

واجتمع في ترجيح كونه عن مجاهد مرسلا ما شئت من قرائن، الكثرة، والحفظ، والتقدم في الأعمش، وسلوك محمد بن فضيل جادة سهلة: الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.

ولم يتردد النقاد في تخطئة محمد بن فضيل، كما تقدمت النقول عن ابن معين، وأبي حاتم، والدارقطني.

ومما لم يتقدم قول محمد بن عبدالله بن نمير: «حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في المواقيت خطأ، ليس له أصل»

(2)

.

وقال البخاري: «حديث الأعمش، عن مجاهد، في المواقيت، أصح من

(1)

«صحيح ابن حبان» حديث (1844)، (1852).

(2)

«التمهيد» 8: 86.

ص: 203

حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن فضيل»

(1)

.

وقال ابن عبدالبر: «هذا الحديث عند جميع أهل الحديث حديث منكر، لم يروه أحد عن الأعمش بهذا الإسناد إلا محمد بن فضيل، وقد أنكروه عليه»

(2)

.

هذا كلام أئمة النقد، وأما غيرهم فمما قالوه في حديث محمد بن فضيل قول ابن حزم مصححا لحديث أبي هريرة:«وما يضر إسناد من أسند إيقاف من وقف»

(3)

.

وقال ابن القطان: «وعندي أنه لا بعد في أن يكون عند الأعمش في هذا عن مجاهد وغيره مثل الحديث المرفوع، وإنما الشأن في رافعه وهو محمد بن فضيل، وهو صدوق من أهل العلم، وقد وثقه ابن معين»

(4)

.

وقال ابن الجوزي: «ابن فضيل ثقة، فيجوز أن يكون الأعمش سمعه من مجاهد مرسلا، وسمعه من أبي صالح مسندا»

(5)

.

وقال أحمد شاكر متعقبا أئمة النقد: «هذا التعليل منهم خطأ، لأن محمد بن فضيل ثقة حافظ

، والذي أختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية

(1)

«سنن الترمذي» حديث (151).

(2)

«التمهيد» 8: 86.

(3)

«المحلى» 3: 221.

(4)

«بيان الوهم والإيهام» 5: 439.

(5)

«التحقيق في أحاديث التعليق» حديث (358).

ص: 204

المتصلة المرفوعة، ولا تكون تعليلا لها أصلا»

(1)

.

ومما مضى أيضا حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، يمشون أمام الجنازة» ، مضى في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، وذكرت هناك أن الجماعة من أصحاب الزهري جعلوه عن الزهري مرسلا، ليس فيه سالم، ولا والده عبدالله بن عمر، وأن أئمة النقد تواردوا على ترجيح ذلك حتى قال الترمذي:«وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل أصح» .

وحديث سفيان بن عيينة الموصول أخرجه ابن حبان في «صحيحه» ، وعقد ابن حبان بابا للدفاع عن رواية سفيان، فقال:«ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر أخطأ فيه سفيان بن عيينة» ، ثم ساق إسناده إلى شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله:«أن عبدالله بن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة، قال: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي بين يديها، وأبا بكر وعمر وعثمان، قال الزهري: وكذلك السنة»

(2)

.

وهذا الدليل الذي استدل به ابن حبان، هو على الحقيقة كاشف لسبب وهم ابن عيينة، فإن قوله: «وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي

» الحديث من قول الزهري، كما تقدم شرحه هناك.

(1)

حاشية أحمد شاكر على «سنن الترمذي» 1: 285.

(2)

«صحيح ابن حبان» حديث (3045 - 3048).

ص: 205

وكذا صحح رواية سفيان جمع من الأئمة المتأخرين والباحثين، ونص بعضهم على أنها على شرط الشيخين، ومما قاله أحد المشايخ: «توهيم ابن عيينة في إسناد هذا الحديث مما لا وجه له عندي البتة، وهو من أعجب ما رأيت من التوهيم بدون حجة، بل خلافا للحجة

».

ثم ساق عددا من المتابعات لابن عيينة، وهي إما دالة على وهم ابن عيينة، وإما أنها لا تصح، وقد تقدم نقد بعضها في مكان آخر من المبحث المشار إليه، حيث ذكرت الحديث فيه في مناسبتين.

ومما تقدم في المبحث المشار إليه أيضا ما رواه محمد بن سليمان المعروف بابن الأصبهاني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا:«مدمن خمر كعابد وثن» .

وخالفه سليمان بن بلال، فرواه عن سهيل، عن محمد بن عبدالله، عن أبيه مرفوعا، ومحمد بن سليمان ضعيف، وسليمان بن بلال ثقة، وقد سلك محمد الجادة السهلة: سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، مما يدل على خطئه، وقد فعل هذا في غير ما حديث

(1)

.

وقد رواه عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن عبدالله بن عمرو موقوفا

(2)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 99، 7: 37، و «علل ابن أبي حاتم» 1:144.

(2)

«السنة» للخلال حديث (1278)، (1317).

ص: 206

فاجتمع في هذا الحديث عدد من القرائن لترجيح قول سليمان بن بلال، ولهذا أنكره النقاد على ابن الأصبهاني، وتقدم النقل عن ابن عدي في هذا، وممن أنكره كذلك: البخاري

(1)

.

وقال ابن حجر عن إسناد حديث أبي هريرة الذي خطأه الأئمة: «وإسناده جيد»

(2)

.

* * *

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 129.

(2)

«تخريج أحاديث الكشاف» حديث (477).

ص: 207

‌المبحث الرابع

تعارض القرائن

ذكرت في المبحث السابق أن تعاضد القرائن على ترجيح حفظ وجه واحد من الاختلاف، أو على ترجيح حفظ وجهين أو أكثر، أو ترجيح عدم حفظ شيء من الأوجه، يساعد الناظر كثيرا في الخلوص برأي في الاختلاف الذي ينظر فيه، وأشرت هناك إلى أن الاختلافات لو كانت كلها بهذه المثابة لكان الجميع أئمة نقد، وأعني بذلك من يسير على منهج النقاد وطريقتهم في النظر في الاختلاف.

وفي كلامي هذا تهيئة للاستعداد لما سيذكر في هذا المبحث، فقضية تعارض القرائن حين النظر في الاختلاف هي المحك بالنسبة للباحث، إذ عليه أن يدرك أن العلم -في أي فن- يتفاوت الناس فيه إذا وصلوا إلى دقيقه ومشكله، فيجمعهم مضمار واحد أولا قد يتفاوتون فيه أيضا، غير أن التفاوت الأبرز إذا وصلوا إلى مضمار آخر تتعارض فيه البينات، وربما تكافأت الأدلة.

والمتأمل فيما تقدم يراه موجودا في جميع جوانب حياة الإنسان، هكذا هو الحال لا خيار لنا فيه، فالقاضي -مثلا- يسهل عليه الحكم إذا تعاضدت البينات والقرائن، ويصعب عليه الحكم إذا تعارضت، وهكذا المستشار وصاحب القرار.

والناظر في مسألة من مسائل العلم إنما هو قاض في الحقيقة، قد يكون أمامه خصمان أو عدة خصوم، فيضطر للنظر في بيناتهم ودلائلهم.

ص: 208

وحين يواجه الباحث هذا الصنف من الأحاديث يستعين -بعد استعانته بالله سبحانه وتعالى بعدة أمور، يستعين بالجلد والمثابرة في البحث والتنقيب، وبالصبر والأناة وعدم الاستعجال، وقد يحتاج إلى المشورة والسؤال، وهذا كله بعد أن يكون قد استعد لذلك، وأكثر من التدرب والنظر في تصرفات النقاد وأحكامهم.

وغير خاف أن قضية التعارض في حد ذاتها أمر نسبي، فالتعارض ليس على درجة واحدة، فمنه ما لا يستطيع الناظر التخلص منه، ومنه ما يزول بعد النظر والتمحيص، والناظر يوجس خيفة من طريقته في إزالته والوصول إلى رأي راجح.

ولكي تتضح أهمية القضية، وأبعادها، وحضورها اللافت في أحاديث الاختلاف، سأكثر من الأمثلة التطبيقية وذكر القرائن المتعارضة، وأحكام النقاد حينئذ، مع الحرص على أن تكون هذه الأمثلة شاملة لأكبر قدر ممكن من القرائن التي تقدم ذكرها في الفصل الذي قبل هذا.

وسيتضح من هذه الأمثلة السبب المباشر لاختلاف النقاد، بل لاختلاف كلام الناقد الواحد، أو تردده في الترجيح، وأن مردَّ ذلك إلى تعارض القرائن، وربما جرت محاورات بين بعض النقاد، وكل يذكر ما يؤيد ما ذهب إليه، مطبقين مبدأ التنافس المرغوب فيه للوصول إلى الحقيقة، بعيدا عن الهوى والتعصب.

وأول ما أبدأ به من هذه الأمثلة ما يرجح فيه الناقد مع ذكره للقرينة المعارضة لترجيحه.

فمن ذلك أن الهقل بن زياد، وعمرو بن هاشم، وغيرهما، رووا عن

ص: 209

الأوزاعي، عن سليمان بن حبيب، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل: رجل خرج غازيا في سبيل الله

» الحديث

(1)

.

سئل أبو حاتم عن هذا الحديث، وذكر له رواية الهقل بن زياد، وعمرو بن هاشم، فقال:«رواه الوليد وغيره عن الأوزاعي، عن سليمان، عن أبي أمامة موقوفا» ، ثم قال أبو حاتم:«هقل أحفظ، والحديث موقوفا أشبه»

(2)

.

وروى خالد بن الحارث، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن امرأة من أهل اليمن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب

» الحديث

(3)

.

ورواه معتمر بن سليمان، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب بالقصة مرسلة

(4)

.

قال النسائي بعد أن أخرج الطريقين: «خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب»

(5)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2494)، و «عمل اليوم والليلة» حديث (161)، و «الجهاد» حديث (51)، و «مسند الروياني» حديث (1265)، و «المعجم الكبير» حديث (4791).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 309.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1563)، و «سنن النسائي» حديث (2478).

(4)

«سنن النسائي» حديث (2479).

(5)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (2271) طبعة مؤسسة الرسالة، و «تحفة الأشراف» 6: 309، وفي «السنن الصغرى» حديث (2478) جاءت العبارة ناقصة، ففيه:«خالد أثبت من المعتمر» . وانظر مثالا آخر للنسائي في «السنن الكبرى» حديث (2538) طبعة مؤسسة الرسالة، و «تحفة الأشراف» 9:440.

ص: 210

وكأن النسائي رجح المرسل لقوة القرينة المرجحة له، وهي ترك الجادة فإن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، سلسلة مشهورة جدا، فمن تركها وأرسل الحديث فقد حفظ.

وروى عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من صام ثلاثة أيام فقد صام الشهر» ، ومنهم من يدخل بين أبي عثمان وبين أبي ذر رجلا

(1)

.

ورواه ثابت البناني، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة

(2)

.

قال أبو حاتم: «حديث أبي ذر أشبه، لأنه يروى هذا الكلام عن أبي ذر بإسناد آخر، وثابت أحفظ من عاصم»

(3)

.

فثابت البناني أحفظ من عاصم، فهذه قرينة، ورجح أبو حاتم قول عاصم بقرينة أخرى، وهي أن الحديث معروف عن أبي ذر من غير هذا الطريق.

ووافقه الدارقطني فقال: «وحديث أبي ذر أشبه بالصواب»

(4)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (762)، و «سنن النسائي» حديث (2408 - 2409)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1708)، و «مسند أحمد» 5:145.

(2)

«سنن النسائي» حديث (2407)، و «مسند أحمد» 2: 263، 384، 513.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 237.

(4)

«علل الدارقطني» 6: 285.

ص: 211

ثم بعد ذلك أمثلة فيها يتردد الناقد الواحد حين نظره في القرائن، فلا يجزم بشيء، أو يختلف رأيه في مكانين.

فمن ذلك حديث ابن مسعود في (الاستنجاء بالحجرين)، اختلف فيه اختلافا واسعا على أبي إسحاق السبيعي

(1)

، قال الترمذي بعد أن ذكر بعض أوجه الاختلاف:«فسألت محمدا (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقلت: أي الروايات عندك أصح في هذا الباب؟ فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير أصح، ووضع حديث زهير في كتاب «الجامع» ، »

(2)

.

فالبخاري أولا لم يقض فيه بشيء، لاتساع الخلاف فيه عن أبي إسحاق، ثم ظهر له رجحان رواية زهير بن معاوية ومن تبعه، فأخرجها في «صحيحه» ، هذا معنى كلام الترمذي.

وروى حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الوضوء

(3)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن سنان بن ربيعة، عن أنس بن مالك.

(1)

ينظر في هذا الحديث: «التحقيق في أحاديث التعليق» لابن الجوزي حديث (124) بتحقيقي، ورسالة:«أحاديث أبي إسحاق السبيعي التي ذكر الدارقطني فيها اختلافا في كتابه العلل» لخالد باسمح حديث (58).

(2)

«العلل الكبير» 1: 99 - 101، و «السنن» 1: 26، والحديث في «صحيح البخاري» حديث (156).

(3)

«سنن أبي داود» حديث (134)، و «سنن الترمذي» حديث (37)، و «سنن ابن ماجه» حديث (444)، و «مسند أحمد» 5: 258، 264، 268.

ص: 212

قال أبو حاتم: «حماد بن زيد أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة، وسنان بن ربيعة أبو ربيعة مضطرب الحديث»

(1)

.

فذكر أبو حاتم أولا قرينة حفظ حماد بن زيد وتثبته، مقارنة بحماد بن سلمة، ومعنى هذا أن الخطأ من حماد بن سلمة، والمحفوظ عن سنان بن ربيعة كون الحديث عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، ثم عاد أبو حاتم وذكر قرينة أخرى يبرئ فيها حماد بن سلمة من الخطأ، فيحتمل أن روايته عن سنان محفوظة أيضا، وذلك بالنظر لحال سنان، فهو مضطرب الحديث، فلا يبعد أن يكون حدث به حماد بن زيد على صفة، وحدث به حماد بن سلمة على صفة أخرى.

وروى أشعث بن شعبة، وخلاد بن يحيى، عن حنش بن الحارث، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت:«رأيت الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم»

(2)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذه الرواية، فقال:«حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حنش، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل: عن أبيه» ، قال ابن أبي حاتم:«قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: أبو نعيم أثبت، ولا أبعد أن يكون قال لهم مرة: عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 28.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 268، و «فوائد الفاكهي» حديث (94) ، و «الأسماء والكنى» للدولابي حديث (721).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 268.

ص: 213

فذهب أبو حاتم أولا إلى الترجيح، فرجح بحفظ أبي نعيم وتثبته، ثم عاد فأبدى احتمالا قويا أن يكون التردد من الشيخ نفسه، وأنه ذكر الأسود بن يزيد مرة، وأسقطه أخرى

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه أبو الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بين العبد والكفر ترك الصلاة» ، فقال أبو زرعة: هذا خطأ، رواه بعض الثقات من أصحاب حماد فقال: حدثنا عمرو بن دينار -أو حدثت عنه- عن جابر موقوفا.

قلت لأبي زرعة: الوهم ممن هو؟ قال: ما أدري؟ يحتمل أن يكون حدث حماد مرة كذا ومرة كذا، قلت: فبلغك أنه توبع أبو الربيع في هذا الحديث؟ فقال: ما بلغني أن أحدا تابعه

»

(2)

.

فتردد أبو زرعة في الاختلاف على حماد بن زيد، إذ يحتمل أن يكون ذلك منه، فقد رواه أبو الربيع عنه مرفوعا بغير شك، ورواه جماعة عنه موقوفا بالشك، وقيل عنه مرفوعا أيضا بالشك، وفي الشك تارة يقول: حدثني عمرو -أو بعض أصحابي عنه-، وتارة يقول: عن عمرو -أو بلغني عنه-، وتارة يقول: سمعت عمرا -أو حدثت عنه-، وتارة يقول: سمعت من عمرو -أو حدثني أخي سعيد عنه-

(3)

، فهذا يدل على أنه هو الذي يضطرب فيه.

(1)

وانظر أمثلة أخرى لأبي حاتم في «علل ابن أبي حاتم» (1033) ، (1685) ، (2250).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 110، 2:147.

(3)

«علل الدارقطني» 13: 365.

ص: 214

ويحتمل أن يكون الوجه المرفوع بغير شك عهدته أبو الربيع الزهراني، فقد انفرد بهذا الوجه ولم يتابع عليه.

وروى إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب، حديث فضل متابعة المؤذن

(1)

.

قال الدارقطني حين سئل عنه: «ورواه إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبدالرحمن مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه يحيى بن أيوب، عن عمارة بن غزية، عن خبيب.

وحديث إسماعيل بن جعفر المتصل قد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، وإسماعيل بن جعفر أحفظ من يحيى بن أيوب، وإسماعيل بن عياش، وقد زاد عليهما، وزيادة الثقة مقبولة، والله أعلم»

(2)

.

هكذا قال الدارقطني في هذا المكان، رجح الموصول المرفوع، موافقا لمسلم، وفي كتابه الآخر ذكر هذا الحديث متعقبا مسلما في إخراجه، وذكر أن الدراوردي وغيره يروونه عن عمارة بن غزية مرسلا

(3)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (385)، و «سنن أبي داود» حديث (527).

(2)

«علل الدارقطني» 2: 182، وجاء في حاشية إحدى نسخه:«هذا الحديث إنما أخرجه مسلم دون البخاري، قد بين ذلك في كتاب الاستدراك له» .

وكتاب «الاستدراك» للدارقطني، وهو المعروف بـ «الإلزامات والتتبع» .

(3)

«التتبع» ص 387.

ص: 215

وروى الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم، عن عاصم بن عمرو، عن علي، حديث دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة

(1)

.

ورواه ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه

(2)

.

سئل الدارقطني عن هذا الحديث، فذكر هذين الوجهين، وذكر أيضا أن عبدالحميد بن جعفر رواه عن المقبري، عن عمرو بن سليم، عن أبي عمر، عن علي، وأن ابن جريج رواه عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، ثم قال:«والأشبه بالصواب لا أحكم فيه بشيء»

(3)

.

وسئل عنه مرة أخرى فلم يذكر وجه أبي هريرة، فالظاهر أنه لا يدخل في الموازنة أصلا، لأن أبا بكر بن أبي سبرة هذا معروف بوضع الحديث، وقد سلك الجادة، والمعروف عن ابن أبي ذئب هو ما تقدم.

وذكر الدارقطني في جوابه هنا أن عبدالحميد بن جعفر رواه كرواية الليث، فسمى شيخ عمرو بن سليم: عاصم بن عمرو.

ثم قال الدارقطني: «ويشبه أن يكون القول قول الليث ومن تابعه، لأن الليث من أثبت الناس في سعيد المقبري، والله أعلم»

(4)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (3914)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (4270)، و «مسند أحمد» 1:115.

(2)

«مسند أحمد» 5: 309.

(3)

«علل الدارقطني» 2: 79.

(4)

«علل الدارقطني» 3: 139.

ص: 216

وقد نص أحمد وابن معين، على أن الليث بن سعد أصح الناس حديثا عن المقبري، وقدمه أحمد على ابن أبي ذئب

(1)

.

وابن أبي ذئب ثبت فيه، كما قال ابن المديني:«الليث، وابن أبي ذئب ثبتان في حديث سعيد المقبري»

(2)

.

وسئل يحيى بن معين عنهما مرة أيهما أثبت في سعيد فقال: «كلاهما»

(3)

.

ولعل هذا هو سبب تردد الدارقطني في الترجيح

(4)

.

وأما أمثلة ما وقع فيه الاختلاف بين النقاد بسبب تعارض القرائن، وربما نص الناقد على مبررات ما ذهب إليه، أو عرف ذلك بالنظر في الاختلاف، وتطبيق قرائن النظر والموازنة، فكثيرة جدا لا تدخل تحت الحصر، وسيأتي شيء منها في الفصل الخامس (النظر في الاختلاف وكلام النقاد) ، وأذكر الآن أمثلة لذلك مختصرة.

روى سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن زيد بن معاوية العبسي، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى:{خِتَامُهُ مِسْكٌ}

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 334، 350، و «علل الدارقطني» 10: 364، و «تاريخ بغداد» 13:12.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 670.

(3)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 501.

(4)

وانظر مثالا آخر للدارقطني في الاختلاف على سعيد المقبري أيضا: «علل الدارقطني» 10: 361 - 362، و «التتبع» ص 181.

ص: 217

قال: ليس بخاتم، ولكن خلط»

(1)

(يعني أن شرابهم ممزوج بالمسك، لا أن المسك يجعل في آخر شرابهم).

وخالفه جماعة كثيرون، فرووه عن أشعث بهذا الإسناد موقوفا على علقمة

(2)

.

سئل عن ذلك إمامان جليلان، وأجابا بجوابين مختلفين، فروى عمرو بن علي الفلاس، قال:«سمعت سفيان بن زياد يقول ليحيى بن سعيد في حديث أشعث بن أبي الشعثاء، عن زيد بن معاوية العبسي، عن علقمة، عن عبدالله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}: يا أبا سعيد خالفه أربعة، قال: من؟ قال: زائدة، وأبو الأحوص، وإسرائيل، وشريك، قال يحيى: لو كانوا أربعة آلاف مثل هؤلاء لكان سفيان أثبت منهم» .

قال عمرو: «وسمعت سفيان بن زياد يسأل عبدالرحمن بن مهدي عن هذا، فقال عبدالرحمن: هؤلاء أربعة قد اجتمعوا، وسفيان أثبت منهم، والإنصاف لا بأس به»

(3)

.

فبقي يحيى بن سعيد القطان مع حفظ سفيان الثوري وقلة غلطه، وهي مسألة إجماع، وجنح عبدالرحمن بن مهدي إلى ترجيح ما رواه الجماعة، وقد رواه غير هؤلاء الأربعة أيضا.

(1)

«تفسير ابن جرير» 30: 106، و «المستدرك» 2:517.

(2)

«تفسير ابن جرير» 30: 106، من طريق أيوب، والجراح بن مليح، عن أشعث، إلا أن أيوب لم يُسَمِّ زيد بن معاوية.

(3)

«المجروحين» 1: 51.

ص: 218

وروى شعبة، عن عبدالله بن يزيد النخعي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الشكال من الخيل» .

ورواه سفيان الثوري، عن سلم بن عبدالرحمن النخعي، عن أبي زرعة به.

وقد تقدم هذا الحديث في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وتقدم هناك أن أحمد يخطئ شعبة في تسميته الشيخ: عبدالله بن يزيد النخعي، وأن الصواب ما رواه الثوري، وكذا خطأه يحيى بن معين، قال:«يخطئ فيه شعبة، يقول: عن عبدالله بن يزيد»

(1)

.

وخالفهما جماعة من النقاد، فذهبوا إلى تصويب الروايتين، وأن شعبة لم يخطئ، فهو راو آخر، منهم مسلم، فتقدم هناك أنه أخرجه من الوجهين.

وكذلك البخاري، والترمذي، قال الترمذي بعد أن ساق رواية شعبة:«سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: روى سفيان، عن سلم بن عبدالرحمن، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، وكان أحمد بن حنبل يرى أن حديث شعبة وهم، ويقول: إنما أراد شعبة حديث سلم بن عبدالرحمن، قال محمد: وأرى حديث شعبة صحيحا» .

ثم قال الترمذي: «حديت سلم بن عبدالرحمن هو صحيح عندهم ليس فيه كلام، وقد يحتمل أن يكونا روياه جميعا عن أبي زرعة»

(2)

.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 223.

(2)

«العلل الكبير» 2: 719.

ص: 219

وحجة أحمد، وابن معين، ظاهرة، فإن شعبة عرف عنه الخطأ في أسامي الرواة، وفيهم من هو من شيوخه، كما تقدم في المبحث المشار إليه، ومخالفه سفيان الثوري أحفظ منه.

وأيضا قد تفرد شعبة بالرواية عن هذا الرجل بهذا الاسم، وتفرد هو بالرواية عن أبي زرعة، وأما سلم بن عبدالرحمن فقد روى عن جماعة، وروى عنه أيضا غير سفيان الثوري

(1)

.

ثم إن شعبة روى عن عبدالله بن يزيد النخعي في هذا الحديث زيادة «تسمو باسمي ولا تكنوا بكنيتي»

(2)

، وهذه الزيادة رواها شريك بن عبدالله النخعي أتم منها عن سلم بن عبدالرحمن

(3)

، فهذا مخالف آخر لشعبة في التسمية، موافق لسفيان الثوري.

والثوري، وشريك، كوفيان، وأما شعبة فهو بصري، والراوي الذي وقع الاختلاف في تسميته كوفي.

وأما حجة البخاري ومن معه فالظاهر أنهم اعتمدوا على أن سفيان وشعبة ثقتان حافظان، ولا يبعد أن يروي الحديث عن أبي زرعة اثنان، يلقى أحدهما الثوري وغيره، ويلقى أحدهما شعبة، وهما جميعا غير مشهورين، رواياتهما قليلة جدا.

(1)

«تهذيب الكمال» 11: 227، 16:308.

(2)

«مسند أحمد» 2: 457.

(3)

«مسند أحمد» 2: 312، 454.

ص: 220

وروى ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم:«أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يمشي أمام الجنازة» ، قال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهم

».

ورواه محمد بن بكر البرساني، وأبو زرعة وهب الله بن راشد، عن يونس، عن الزهري، عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر

» الحديث.

وقد تقدم هذا الحديث في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، وتقدم هناك قول أحمد في نقد حديث أنس، وذكر له رواية محمد بن بكر البرساني:«هذا -يعني الوهم- من يونس، لعله حدثه حفظا» .

ففي كلام أحمد أن هذا الوجه محفوظ أيضا عن يونس، وإن كان يهم فيه، وقرينة ذلك أن يونس بن يزيد يخطئ إذا حدث من حفظه، وكتابه صحيح، فلما حدث بالحديث على وجهين ترجح أن ما أصاب فيه كان من كتابه، وما أخطأ فيه كان من حفظه.

وأما البخاري فقد سئل أيضا عن رواية محمد بن بكر البرساني فقال: «هذا حديث خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر، وإنما يروى هذا الحديث عن يونس، عن الزهري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، كانوا يمشون أمام الجنازة» ، قال الزهري:«وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة» ، هذا أصح»

(1)

.

ورأي البخاري هذا معناه أن المحفوظ عن يونس وجه واحد، وهو كونه

(1)

«سنن الترمذي» حديث (1010)، وانظر:«العلل الكبير» 1: 406.

ص: 221

عن الزهري مرسلا، وأما كونه عن الزهري عن أنس فخطأ عليه ممن رواه عنه، وهو محمد بن بكر البرساني، وقرينة ذلك ظاهرة، فإن محمد بن بكر هذا صدوق، وقد خالف من هو فوقه بدرجات، خاصة في يونس، وهو عبدالله بن وهب.

ويتأيد قول أحمد بأن محمد بن بكر قد توبع، تابعه أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، وهو لا بأس به.

وروى وكيع بن الجراح، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام حتى ينفخ، ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ»

(1)

.

ورواه أبو حمزة السكري، ومنصور بن أبي الأسود، وعبدالله بن عبدالقدوس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود

(2)

.

قال الترمذي بعد أن ساق روايتي وكيع وأبي حمزة السكري: «سألت محمدا عن هذا الحديث فقلت: أي الروايات أصح؟ فقال: يحتمل عنهما جميعا، ولا أعلم أحدا من أصحاب الأعمش قال: عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، إلا وكيعا.

وسألت عبدالله بن عبدالرحمن (هو الدارمي) فقال: حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله أصح»

(3)

.

فقد تعارض هنا قرينتان: الكثرة، والحفظ، فإن وكيعا أحفظ من كل واحد

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (474)، و «مسند أحمد» 6:136.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 1: 133، و «العلل الكبير» 1: 149، و «مسند البزار» حديث (1520)، و «مسند أبي يعلى» حديث (5370)، و «علل الدارقطني» 5:167.

(3)

«العلل الكبير» 1: 149.

ص: 222

من الثلاثة المخالفين له، فرأى البخاري أن الأقرب حفظ الوجهين عن الأعمش، وأما الدارمي فرجح بالكثرة.

ووافقه الدارقطني، فساق الاختلاف على الأعمش، وعلى من فوقه، ثم قال:«وأشبهها بالصواب حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله»

(1)

.

وروى قتادة، عن مطرف بن عبدالله بن الشخير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم الدهر، قال:«لا صام ولا أفطر»

(2)

.

ورواه الجريري، عن يزيد بن عبدالله بن الشخير، عن أخيه مطرف، عن عمران بن حصين

(3)

.

سئل البخاري عن هذا الاختلاف، فقال:«يحتمل عنهما جميعا»

(4)

.

وسأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة عن هذا الاختلاف، فأما أبو حاتم فقال:«قتادة أحفظ» ، وأما أبو زرعة فقال:«ما أقف من هذا الحديث على شيء، يحتمل أن يكونا جميعا صحيحين، ومطرف، عن أبيه، ما أدري كيف هو؟ والجريري بآخره ساء حفظه، وليس هو بذاك الحافظ»

(5)

.

(1)

«علل الدارقطني» 5: 167.

(2)

«سنن النسائي» حديث (2379 - 2380)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1705)، و «مسند أحمد» 4: 24، 25، 26.

(3)

«مسند النسائي» حديث (2378)، و «مسند أحمد» 4: 426، 431، 433.

(4)

«العلل الكبير» 1: 358.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 233.

ص: 223

فهذه ثلاثة آراء في هذا الاختلاف، ترجيح حفظ الوجهين، وهذا للبخاري، وترجيح رواية قتادة وذكر قرينة الترجيح، وهذا لأبي حاتم، والتوقف فيه، مع ذكر احتمال صحة الوجهين، واحتمال ضعفهما جميعا، وبيان سبب ذلك، وهذا لأبي زرعة.

وروى إبراهيم بن موسى الرازي، عن عبدالوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»

(1)

.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبدالوهاب الثقفي مرسلا لم يذكر ابن عباس

(2)

.

فأخرج البخاري الإسناد الموصول في «صحيحه» .

وأما أبو زرعة فسئل عنه فساق المرسل عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثم قال:«هذا الصحيح، ولا أدري من أين جاء إبراهيم بن موسى بابن عباس؟ »

(3)

.

وإبراهيم بن موسى ثقة حافظ، بل قدمه أبو زرعة على أبي بكر بن أبي شيبة،

(1)

«صحيح البخاري» حديث (3995)، (4041)، و «المعجم الكبير» حديث (11952)، و «دلائل النبوة» 3: 54، إلا أنه في الموطن الثاني عند البخاري ذكر أحدا بدل بدر، ولابن حجر كلام في إيضاح الوهم الواقع في هذا الإبدال، وفي وجود الحديث كله في الموضع الثاني، فليس موجودا في الروايات المتقنة لـ «صحيح البخاري» ، انظر:«فتح الباري» 7: 349.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» حديث (18514).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 307.

ص: 224

فإنه قال فيه: «إبراهيم بن موسى أتقن من أبي بكر بن شيبة، وأصح حديثا منه، لا يحدث إلا من كتابه، لا أعلم أني كتبت عنه خمسين حديثا من حفظه»

(1)

.

وكان قد كتب عن كل واحد منهما مئة ألف حديث

(2)

، إلا أنه أخذ على أبي بكر بن أبي شيبة أحاديث يخطئ فيها، لكونه يحدثهم من حفظه، فيصححها له أبو زرعة

(3)

.

ومع هذا قدم رواية أبي بكر بن أبي شيبة المرسلة على رواية إبراهيم بن موسى، فيحتمل أن يكون حكم لابن أبي شيبة لكونه ترك الجادة، فعكرمة كثير الرواية عن ابن عباس، أو لكون الحديث عنده من طريق آخر عن خالد الحذاء أو عكرمة، مرسلا.

وروى محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا:«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» .

ورواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني.

وقد تقدم هذا الحديث في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، وتقدم هناك أن البخاري ذهب إلى أن الصواب جعله عن زيد بن خالد، وحجته

(1)

«الجرح والتعديل» 2: 137.

(2)

«تهذيب الكمال» 2: 220.

(3)

«الجرح والتعديل» 1: 337 - 339.

ص: 225

ظاهرة، فمحمد بن عمرو بن علقمة في حفظه كلام، وقد سلك الجادة في جعله عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وتقدم أيضا أن الترمذي خالفه فصححه من الوجهين، وذكرت حجته هناك.

وهناك قول ثالث وهو للنسائي، قال:«محمد بن عمرو أصلح من ابن إسحاق في الحديث» ، ومعنى هذا أنه يرجحه عن أبي هريرة، لا عن زيد بن خالد.

ويتأيد قول النسائي بأن الحديث رواه عن محمد بن عمرو جماعة من كبار أصحابه منهم يحيى القطان، وزائدة، وعبدة بن سليمان، وغيرهم، فلم يختلفوا عليه في الإسناد، مما يدل على أنه ضبطه.

وروى شعبة، عن منصور، عن الفيض بن أبي حثمة، عن أبي ذر:«أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي عافاني، وأذهب عني الأذى» .

ورواه سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي علي عبيد بن علي، عن أبي ذر.

وقد تقدم هذا الحديث في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وتقدم هناك ترجيح أبي زرعة لقول الثوري، ونصه على قرينة ذلك، وهي أن أكثر وهم شعبة كان في أسماء الرجال.

وأما أبو حاتم فإنه قال: «كذا قال سفيان، وكذا قال شعبة، والله أعلم أيهما الصحيح، والثوري أحفظ، وشعبة ربما أخطأ في أسماء الرجال، ولا ندري هذا منه أم لا؟ »

(1)

.

ص: 226

فتوقف أبو حاتم في الترجيح مع نصه على قرينتين لترجيح قول سفيان، وهما كونه أحفظ من شعبة في الجملة، وما عرف عن شعبة من الخطأ في أسماء الرواة.

وروى عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة خلف الصف

(1)

.

ورواه حصين بن عبدالرحمن، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة

(2)

.

فرجح أبو حاتم رواية عمرو بن مرة، قال لما سئل عنهما:«عمرو بن مرة أحفظ»

(3)

.

ووافقه البزار فيما يفهم من كلامه، فإنه ضعف الطريقين، أما الأول فضعفه بعمرو بن راشد، فكأنه يثبته عن هلال بن يساف، وأما الثاني فضعفه بحصين بن عبدالرحمن، وذكر أنه ليس بالحافظ، فلا يحتج بحديثه في حكم

(4)

.

وخالفهما الترمذي، فرجح رواية حصين، قال: «اختلف أهل الحديث في هذا، قال بعضهم: حديث عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد

أصح.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (682)، و «سنن الترمذي» حديث (231)، و «مسند أحمد» 4:228.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (230)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1004)، و «مسند أحمد» 4:228.

(3)

«علل ابن حاتم» 1: 100.

(4)

«نصب الراية» 2: 38.

ص: 227

وقال بعضهم: حديث حصين، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة بن معبد

أصح، وهذا عندي أصح من حديث عمرو بن مرة، لأنه قد روي من غير حديث هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة»

(1)

.

فاحتج الترمذي بأن الحديث جاء عن زياد بن أبي الجعد من غير رواية هلال بن يساف

(2)

، وهذا يؤيد قول حصين بن عبدالرحمن.

وروى قتادة، عن الحسن، عن سمرة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل»

(3)

.

ورواه الأشعث بن عبدالملك، عن الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة

(4)

.

ذهب البخاري، وأبوحاتم، إلى أنهما جميعا محفوظان، أما الأول فلحفظ قتادة، وأما الثاني فقد جاء من طرق عن سعد بن هشام في سؤاله عائشة عن التبتل، وصورته موقوف

(5)

، وأيضا فرواية الحسن، عن سمرة، نسخة مشهورة، فمن تركها فقد حفظ.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (230)، و «العلل الكبير» 1:212.

(2)

«مسند أحمد» 4: 228، و «سنن الدارمي» حديث (1286).

(3)

«سنن الترمذي» حديث (1082)، و «سنن النسائي» حديث (3214)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1849)، و «مسند أحمد» 5:17.

(4)

«سنن النسائي» حديث (3213)، و «مسند أحمد» 6:125.

(5)

«سنن النسائي» حديث (3216)، و «مسند أحمد» 6: 91، 97، 112.

ص: 228

قال الترمذي: «سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حديث الحسن عن سمرة، محفوظ، وحديث الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، هو حسن، وقد روي عن سعد بن هشام، عن عائشة موقوفا»

(1)

.

وقال أبو حاتم: «قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين، لأن لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح -يعني التبتل-»

(2)

.

وأما النسائي فقال بعد أن أخرج الحديثين: «قتادة أثبت وأحفظ من أشعث بن عبدالملك، وحديث أشعث أشبه بالصواب»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه حبان بن هلال، وحرمي، وإبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن ثمامة بن أنس، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر من البول» .

قال أبي: حدثنا أبو سلمة، عن حماد، عن ثمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وهذا أشبه عندي.

وقال أبو زرعة: المحفوظ: عن حماد، عن ثمامة، عن أنس، وقصَّر أبو سلمة»

(4)

.

(1)

«العلل الكبير» 1: 423، وقال الترمذي في «السنن» في كلامه على الحديث (1082):«ويقال: كلا الحديثين صحيح» .

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 401.

(3)

«سنن النسائي» حديث (3213 - 3214).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 26.

ص: 229

فأبو حاتم رجح بالحفظ، فإن أبا سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي أحفظ من كل واحد من الثلاثة المخالفين له، وإن كانوا جميعا ثقات، ثم هو ترك الجادة فأرسل الحديث، وأبو زرعة رجح بالكثرة.

وروى سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أبي رزين، عن زِرّ بن حبيش، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال لي جبريل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها

» الحديث

(1)

.

ورواه عنبسة بن سعيد قاضي الري، وعمرو بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي، عن أبي رزين، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أبي رزين، عن زِرّ بن حبيش، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المُعَوِّذتين.

قال أبو زرعة: ورواه عنبسة بن سعيد قاضي الري، وعمرو بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي، عن أبي رزين، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو زرعة: حديث عنبسة، وعمرو، أشبه عندي، إذ اتفق عليه النفسان، وهما الرواة عن الزبير، وأخاف أن يكون اشتبه على الثوري: عاصم عن زِرّ، ولعله من الزبير.

قال أبي: حديث الثوري أصح، عن أُبي، وهو أحفظهم، وأعلى من هؤلاء

(1)

«مسند أحمد» 5: 129.

ص: 230

بدرجات، والحديث بأُبي أشبه، إذ كان قد رواه عاصم، عن زر، عن أُبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لحذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين معنى»

(1)

.

فرجح أبو زرعة أولا أن الحديث عن حذيفة، وذلك لاتفاق عنبسة بن سعيد، وعمرو بن أبي قيس، على ذلك، وهما من أهل الري، كشيخهما الزبير بن عدي، وخشي أبو زرعة أن يكون الثوري انتقل ذهنه إلى حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب، فإنه عند الثوري أيضا، وهو مشهور عن عاصم

(2)

.

ثم نظر أبو زرعة إلى قوة حفظ سفيان الثوري، فذكر أنه يحتمل أن يكون الاختلاف من الزبير بن عدي، فيصح عنه الوجهان، ويكون الاضطراب منه.

وأما أبو حاتم فلم يتردد في أن الصواب مع الثوري، لقوة حفظه، وكونه أرفع من عنبسة، وعمرو، بدرجات، وأيد ذلك بأن الحديث معروف عن زر، عن أبي من طريق آخر، وهو طريق عاصم، ولا يعرف عن حذيفة من طريق آخر.

والحديث له طريق ثالث إلى زر، عن أبي بن كعب، وهو طريق عبدة بن أبي لبابة

(3)

.

وروى سفيان بن عيينة، عن عمر بن سعيد بن مسروق الثوري -أخي

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 54.

(2)

«صحيح البخاري» حديث 4976 - 4977)، و «مسند أحمد» 5: 129 - 130.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (4976 - 4977)، و «مسند أحمد» 5:130.

ص: 231

سفيان الثوري-، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن رافع بن خديج قصة إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم يوم حنين.

ورواه سفيان الثوري، وأبو الأحوص، والجراح بن مليح والد وكيع، وقيس بن الربيع، وشريك القاضي، عن سعيد بن مسروق، عن عبدالرحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: «بعث علي وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها

» الحديث، وفيه قصة التأليف أيضا، وقصة الخوارج.

وقد تقدم هذا الحديث في المبحث الأول من الفصل الأول من هذا الباب.

فذهب أبو زرعة الرازي إلى خطأ الوجه الأول، وأن الصواب ما رواه سفيان الثوري، وذكر أن الخطأ من أخيه عمر بن سعيد

(1)

.

وما ذهب إليه أبو زرعة هو أيضا ظاهر صنيع البخاري، فإنه أخرج الحديث الثاني وأعرض عن الأول.

وخالفهما مسلم، فأخرج الحديثين جميعا.

وما ذهب إليه أبو زرعة حجته ظاهرة، فإن الحديثين في أمر واحد وهو إعطاء المؤلفة قلوبهم، وعمر بن سعيد قد تفرد بالوجه الأول، وخالف الجماعة، خاصة وفيهم أخوه سفيان، وهو أحفظ منه.

وأيضا فقد رواه عمارة بن القعقاع بن شبرمة، عن عبدالرحمن بن أبي نعم به.

وما ذهب إليه مسلم حجته ظاهرة أيضا، فإن القصتين مختلفان تماما،

ص: 232

فحديث رافع في قسمة غنائم حنين، وحديث أبي سعيد في قصة الذهيبة التي بعثها علي من اليمن، وفيه أمر زائد وهو قصة الخوارج.

وأيضا فإسناد حديث رافع فيه وعورة، فحفظ عمر بن سعيد له يدل على ضبطه.

وروى يونس بن يزيد، ومعمر -في رواية بعض أصحابه عنه-، ومحمد بن إسحاق، وصالح بن أبي الأخضر، والأوزاعي -في رواية غريبة عنه-، رووا عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عَرَّس

» الحديث، ومنهم من اختصره

(1)

.

ورواه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومعمر، في المحفوظ عنهم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلا، ليس فيه أبو هريرة

(2)

.

فذهب أبو زرعة إلى أن الصحيح هو الموصول

(3)

، وكذا أخرج الموصول

(1)

«صحيح مسلم» حديث (680)، و «سنن أبي داود» حديث (435 - 436)، و «سنن الترمذي» حديث (3163)، و «سنن النسائي» حديث (617 - 619)، و «سنن ابن ماجه» حديث (697)، و «تحفة الأشراف» 10:64.

(2)

«موطأ مالك» كتاب (وقوت الصلاة) حديث (25)، و «الأم» 1: 130، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (2237)، و «سنن النسائي» حديث (619) مع «تحفة الأشراف» 10: 73، و «علل الدارقطني» 7:279.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 209.

ص: 233

مسلم في «صحيحه» من طريق يونس، وقال البيهقي:«ومن وصله ثقة»

(1)

.

وساق الترمذي رواية صالح بن أبي الأخضر الموصولة، ثم قال: «هذا حديث غير محفوظ، رواه غير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم

، ولم يذكروا فيه: عن أبي هريرة، وصالح بن أبي الأخضر يضعف في الحديث

»

(2)

.

وكذا قال الدارقطني بعد أن ساق الاختلاف: «والمحفوظ هو المرسل»

(3)

.

وحجة من صحح الموصول ظاهرة، فإن يونس بن يزيد من كبار أصحاب الزهري، خاصة إذا حدث من كتابه، وقد تابعه غيره، لكن الاعتماد عليه.

وذكر البيهقي من مؤيدات الوصل أنه جاء عن أبي هريرة من وجه آخر نحوه مختصرا

(4)

، فقد رواه أبو حازم، عن أبي هريرة، وساقه مسلم بعد حديث سعيد بن المسيب

(5)

.

وأما من رجح المرسل فلأن من أرسله جماعة فيهم المقدم في أصحاب الزهري: مالك بن أنس، وقد تابعه سفيان بن عيينة، ومعمر، وهما أيضا من كبار أصحاب الزهري.

(1)

«سنن البيهقي» 1: 218.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (3163).

(3)

«علل الدارقطني» 7: 279.

(4)

«سنن البيهقي» 1: 218.

(5)

«صحيح مسلم» حديث (680)، و «سنن النسائي» حديث (622)، و «مسند أحمد» 2:428.

ص: 234

وروى الأوزاعي، وأبان بن يزيد العطار -في بعض الروايات عنه-، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو أن الناس يعلمون ما في صلاة العتمة وصلاة الصبح لأتوهما ولو حبوا»

(1)

.

ورواه شيبان بن عبدالرحمن، وأبان بن يزيد -في بعض الروايات عنه-، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن يُحنَّس-وهو يحنَّس بن أبي موسى مولى مصعب بن الزبير-، عن عائشة

(2)

.

قال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر رواية الأوزاعي: «قال أبي: رواه أبان وشيبان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن يُحنَّس، والصحيح عندي -والله أعلم-: محمد بن إبراهيم، عن عيسى، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو زرعة: أشبه عندي: عن يحنَّس، وأخاف أن عيسى إنما صحف فيه، وأراد: يحنَّس.

قلت لأبي زرعة: إن مسلم بن إبراهيم روى عن أبان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى، قال: أخاف أن يكون غلط مسلم، حدثنا أبو سلمة، عن أبان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن يحنَّس، وهذا أصح

(1)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (387)، و «سنن ابن ماجه» حديث (796).

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (386)، و «مسند أحمد» 6: 80، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1:322.

ص: 235

من حديث مسلم»

(1)

.

وروى الجماعة من أصحاب أبي إسحاق السبيعي، منهم شعبة، وسفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن مالك، عن ابن عمر، حديث الجمع بين الصلاتين بإقامة واحدة في المزدلفة

(2)

.

ورواه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر

(3)

.

ورجح جماعة من النقاد منهم يحيى القطان، والترمذي، والدارقطني

-مرة- رواية الجماعة، وحجتهم ظاهرة، قال الدارقطني في تقريرها:«هذا عندي وهم من إسماعيل، وقد خالفه جماعة، شعبة، والثوري، وإسرائيل، وغيرهم، رووه عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن مالك، عن ابن عمر، وإسماعيل -وإن كان ثقة- فهؤلاء أقوم منه لحديث أبي إسحاق، والله أعلم»

(4)

.

وأخرج مسلم رواية إسماعيل بن أبي خالد، لكنه أخرجها بعد أن ساقه عن سعيد بن جبير من طريق الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، عن سعيد،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 169.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1924)، و «سنن الترمذي» حديث (887)، و «مسند أحمد» 2: 18، 78، 152، و «سنن البيهقي» 1:401.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (1288) ، و «سنن أبي داود» حديث (1931)، و «سنن الترمذي» حديث (888)، و «سنن النسائي» حديث (658)، و «مسند أحمد» 2:3.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (1288)، و «الإلزامات والتتبع» ص 451.

ص: 236

وساقه من طريقين آخرين إلى ابن عمر دون ذكر الإقامة.

ورجح الدارقطني مرة أن رواية إسماعيل محفوظة أيضا، فلأبي إسحاق فيه شيخان، قال الدارقطني في تقرير ذلك والاحتجاج له:«وكان شيوخنا يقولون: إن إسماعيل بن أبي خالد وهم في قوله: عن سعيد بن جبير، وأن الحديث حديث عبدالله بن مالك، والذي عندي -والله أعلم- أن الحديثين صحيحان، لأن حديث سعيد بن جبير مرفوعا رواه عنه الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وعمرو بن دينار، وسالم الأفطس، رووه عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنه، فيشبه أن يكون أبو إسحاق قد تحفظه عنهما، فحدث به مرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنه، فحفظه عنه إسماعيل بن أبي خالد، وحدث به مرة عن عبدالله بن مالك، فحفظه عنه الثوري ومن تابعه»

(1)

.

واستدل المزي، ثم ابن حجر، على حفظ رواية إسماعيل بن أبي خالد بأن شريك بن عبدالله النخعي رواه عن أبي إسحاق فجمع بين شيخيه: عبدالله بن مالك، وسعيد بن جبير

(2)

.

وأبو إسحاق السبيعي لم يسمع من سعيد بن جبير فيما قاله البخاري، فإنه قال:«لا أعرف لأبي إسحاق سماعا من سعيد بن جبير»

(3)

، وحديثه هذا عن

(1)

«علل الدارقطني» 13: 198.

(2)

«تحفة الأشراف» 4: 423، 475، ومعه:«النكت الظراف» ، ورواية شريك أخرجها أبو داود حديث (1930).

(3)

«العلل الكبير» 2: 965.

ص: 237

سعيد بن جبير جاء معنعنا، بل في رواية مسلم يرويه أبو إسحاق هكذا: قال سعيد بن جبير، ولعله لهذا السبب اشتهر عن أبي إسحاق روايته للحديث عن عبدالله بن مالك، ولم تشتهر روايته له عن سعيد بن جبير، فإنه يرسله عنه.

و‌

‌من دقائق قضايا تعارض القرائن

أن يتجاذب الحال قرينة واحدة لها شقان، أو يتجاذبها قرينتان مختلفتان.

فمن تجاذب شقي القرينة الواحدة ما تقدم في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، في قرينة (السهولة والوعورة) فإن من زاد راويا أو أكثر في الإسناد فهو الذي حفظ، لأنه قد سلك الأوعر، ومن ترك الزيادة فهو أسهل عليه، ولكن قد يعارض هذا في بعض الحالات أن يكون من زاد راويا أو أكثر قد سلك الجادة، فهو أسهل عليه، ومن حذف الزيادة ترك الجادة، فقوله هو الراجح، وقد تقدم شرح هذا بأمثلته هناك، فاعتماد أحد شقي القرينة يحتاج إلى مزيد تأمل وإنعام نظر.

وأما تجاذب قرينتين مختلفتين، فمن صوره أن الراوي إذا اتفق مع الجماعة عن شيخهم على إسناد، ثم انفرد عنهم بإسناد آخر، فبعض النقاد يستدل بهذا على حفظ الراوي للإسناد الذي انفرد به عن الجماعة، وقد تقدم أيضا شرح هذا في المبحث الأول من الفصل الثاني.

ولكن قد يعارض هذا أن يعمل في المقام نفسه قرينة (الثبات والاضطراب) الماضي شرحها في المبحث الثالث من الفصل الثاني، فينظر لإتيان الراوي بإسنادين عن شيخه على أنه اضطراب منه وتردد، فيحكم عليه بالغلط فيما انفرد به.

ص: 238

ومن صوره أيضا أن يترجح أحد الوجهين بكون راويه ترك الجادة، ومن سلكها فقوله مرجوح، لأن ترك الجادة أشد وعورة على الراوي، مما يدل على حفظه للإسناد، واستحضاره له، كما تقدم شرح ذلك في المبحث الثالث من الفصل الثاني.

وقد يعارض هذا أن يكون من ترك الجادة أتى بإسناد غريب مركب، فإن الأئمة كثيرا ما ينقدون شدة الغرابة في الإسناد، وأنه مركب لا يستقيم على صورته الظاهرة، كما تقدم شرحه في الفصل الرابع من الباب الأول، في المبحث الثالث منه، فيترجح حينئذ قول من سلك الجادة.

وإعمال إحدى القرينتين في مثل هذا يحتاج كذلك إلى تأن، وإلى نظر في مرجحات أخرى.

واختم هذا المبحث بالتنبيه على ضرورة تأني الباحث حين يواجه تعارض القرائن في الاختلاف، خاصة إذا انضم إلى ذلك وقوفه على أقوال مختلفة للنقاد، ومن البدهي أن يقال للباحث إن الوصول إلى رأي راجح في كل اختلاف ليس ضربة لازب، فالذي تقتضيه أصول البحث العلمي أن الباحث قد يتوقف عن الترجيح، فلا يظهر له رأي راجح، وقد يكون هذا التوقف مستمرا، أو مؤقتا بحيث يظهر له فيما بعد إمكانية الترجيح، وقد تقدم قريبا في هذا المبحث أمثلة لذلك مما وقع للنقاد.

ومن أمثلة ذلك أيضا ما رواه حرب بن إسماعيل، قال: «قلت (يعني لأحمد): فحديث ابن عباس حيث قال: وهن يمشين بنا هميسا، يختلفون في إسناده، بعضهم

ص: 239

يقول: عوف، عن زياد بن حصين، عن أبيه، وبعضهم يقول، زياد بن حصين، عن أبي العالية؟ قال: الناس يختلفون في إسناده، قلت: فأيهما أصح؟ قال: يختلفون في إسناده، ما أدري»

(1)

.

وذكر الترمذي حديث عبدالله بن مسعود في (الاستنجاء بحجرين) الماضي في أول هذا المبحث، وما فيه من الاختلاف على أبي إسحاق السبيعي، ثم قال بعد ذكر رأي البخاري فيه:«وسألت عبدالله بن عبدالرحمن (يعني الدارمي) عن هذا فلم يقض فيه بشيء»

(2)

.

وذكر الترمذي أيضا حديث علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن حية بن عابس، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا شيء في الهام

» الحديث، ثم قال:«سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: روى علي بن المبارك، وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن حية بن عابس التميمي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى شيبان هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن حية بن عابس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قلت له: كيف علي بن المبارك؟ قال: صاحب كتاب، وشيبان صاحب كتاب، ولم أر محمدا يقضي في هذا الحديث بشيء، كأن حديث علي بن المبارك أشبه، لما وافقه حرب بن شداد»

(3)

.

(1)

«مسائل حرب» ص 469.

(2)

«العلل الكبير» 1: 99، و «سنن الترمذي» 1:26.

(3)

«العلل الكبير» 2: 691. وانظر في طرق هذا الحديث وبقية كلام النقاد عليه: «مسند أحمد» 5: 70، و «التاريخ الكبير» 3: 107، و «علل ابن أبي حاتم» (2239) و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم 2: 883.

ص: 240

‌الفصل الرابع

الاختلاف عن المدار والحكم النهائي

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: المدار الأساس والطرق فوقه.

المبحث الثاني: الوجه الراجح والوجه المرجوح.

المبحث الثالث: الأوجه المحفوظة عن المدار.

المبحث الرابع: عدم حفظ شيء من أوجه الاختلاف عن المدار.

ص: 241

‌المبحث الأول

المدار الأساس والطرق فوقه

إذا تصدى الباحث للنظر في اختلاف على راو في إسناده فمن المهم جدا أن يكون قد حدد مقصوده ومراده من هذا النظر، وإذا حدده فلا يتجاوزه، ولا يقصر دونه.

وتحديد غرض الباحث من النظر أمر بالغ الأهمية، سواء بالنسبة للباحث والجهد والوقت الذي يبذله، أو بالنسبة للبحث نفسه من حيث الاختصار والإطالة.

ولشرح هذا أجدني مضطرا إلى التذكير بما مر في الفصل الثاني من الباب الأول، وهو الفصل المتعلق بالمصطلحات التي تمر بالباحث في مقارنته للمرويات، وذلك في مصطلح (المدار)، فقد تقدم هناك أن الحديث له مدار أساس، وهو الراوي الذي ترجع إليه كافة طرق الحديث، وقد يكون هو الصحابي، وذلك إذا روى الحديث عن الصحابي اثنان أو أكثر، مثل أن يروي الحديث جابر بن عبدالله، ويرويه عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير المكي، والمنذر بن مالك أبو نضرة العبدي.

وقد يكون التابعي هو المدار، في حال تفرد التابعي عن الصحابي، واشتهاره عن التابعي، مثل أن يروي الحديث عائشة، وعنها عمرة بنت عبدالرحمن، ويرويه عن عمرة: يحيى بن سعيد الأنصاري، وعروة بن الزبير، والزهري.

وهكذا، قد يكون المدار نازلا، فيكون تابع التابعي، أو من دونه، فحديث

ص: 243

الأعمال بالنيات، حديث عمر المشهور، مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري، وله عنه طرق تبلغ العشرات، وهو يرويه عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر.

ثم بعد ذلك قد يكون لبعض الطرق إلى المدار الأساس مدار خاص به، نازل عن المدار الأساس، فلو افترضنا حديثا يرويه عن جابر ثلاثة، أحدهم أبو الزبير المكي، ويرويه عن أبي الزبير المكي، مالك بن أنس، وله عن مالك طرق كثيرة، فيقال إن طريق أبي الزبير مداره على مالك بن أنس.

وفي الطريقين الآخرين عن جابر قد يكون لهما أو لأحدهما مدار خاص به، وقد يوجد في الطرق الثلاثة أو في بعضها مدارات أخرى نازلة.

وبالنسبة للاختلاف قد يوجد اختلاف في الحديث على مداره الأعلى الذي هو الصحابي مثلا، أو التابعي، فبعض الطرق ترفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها تقفه، ثم قد يوجد هذا الاختلاف على أحد المدارات النازلة، فيختلف الرواة عنه في رفع الحديث، ووقفه، وقد يكون الاختلاف عن المدار النازل من نوع آخر، فبعض الرواة يصل الحديث بذكر صحابيه، وبعضهم يرسله، أو غير ذلك.

وقد يكون الاختلاف ليس على المدار الأعلى، بل على الرواة عنه، أو على بعضهم، فإذا كان صحابي الحديث ابن عباس-مثلا-، ويرويه عنه عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، يكون طريق عكرمة قد جرى فيه عليه اختلاف، فبعض الرواة عنه يصله بذكر ابن عباس، وبعضهم يرسله، وكذلك طريق سعيد

ص: 244

بن جبير، ومجاهد، قد يكون فيهما اختلاف أيضا، وقد توجد اختلافات نازلة في شيء من الطرق إليهم.

وفي بعض الأحاديث تكثر الاختلافات، وتتعدد مداراتها، وربما كان بينها شيء من التداخل، بما يعسر فهمه والإلمام به، ويشتد ذلك إذا كان من الاختلافات ما هو بإبدال الصحابي بآخر، فتتداخل الأحاديث.

فإذا استحضرنا هذا أمكننا أن ندرك بسهولة‌

‌ سبب تكرار الكلام على الاختلاف في الحديث الواحد في كتب النقد

، سواء منها الكتب المخصصة للنقد، ككتب العلل، وكتب الرجال، أو كتب الرواية، وأن مَرَدَّ ذلك إلى كون الناقد قد يتكلم في مكان على اختلاف على مدار معين، ثم في المكان الآخر على اختلاف على مدار أعلى، أو مدار أدنى، فمن العسير في كثير من الأحاديث جمع النظر في اختلافات الحديث كلها في مكان واحد.

وأوسع من يتكلم على اختلافات متعددة في الحديث الواحد هو الدارقطني في «العلل» ، لكونه ينطلق من راو عال، وهو التابعي أو الراوي عنه، ثم يتكلم عن الاختلافات النازلة، ومع هذا يضطر إلى تجزئة الاختلافات إذا روى الحديث تابعيان أو أكثر، وجرى عليهم اختلاف، وقد يفعل هذا دون التابعي أيضا.

وليس معنى هذا أنه لا يوجد أحد من النقاد أطال في اختلافات في حديث معين، فاستوعبها وقصد استيعابها، لكن المقصود أن الاقتصار على جزء من الاختلاف هو الغالب.

ص: 245

ويشبه هذا التأليف على الموضوعات، فالمؤلف يضع كتاب الطهارة -مثلا- في ضمن كتاب يشتمل على موضوعات متعددة، فيختصر في الأحاديث وفي الطرق، فإذا خصص هو أو غيره كتابا خاصا بالطهارة بسطه، فإذا خصص مسألة من مسائل الطهارة -كجلود الميتة، أو السواك، أو المسح على الخفين- بكتاب، زاد في بسطه واستوعب الطرق، وهكذا يقال في نقد الأحاديث.

وهذه منهجية علمية من أعلى ما يكون وأدقه، أعني مراعاة المؤلف للسياق الذي ترد فيه المسألة، أيا كان نوعها.

والملاحظ أيضا في كلام النقاد على الاختلاف أنهم في الغالب يكتفون ببيان رأيهم في الاختلاف نفسه، ولا يتكلمون على حال الإسناد من مدار الاختلاف فمن فوقه، فيقل عندهم أن يبين الناقد درجة الإسناد، وبيان ما فيه من علة إن وجدت، نعم قد يوجد هذا عندهم، لكنه قليل بالنسبة لما أغفلوا النص عليه.

ويبرز هنا سؤال مهم بالنسبة للباحث، وهو: كيف يحدد الناظر في الاختلاف مداره الذي يكون هو الأساس عنده، فما فوقه من اختلاف يكون اختلافا عاليا، وما دونه يكون اختلافا نازلا، وما خرج عنه فهو خارج هذا الاختلاف؟ .

ولا شك أن هذا السؤال هام جدا بالنسبة للناظر في الاختلاف، الخطوة الأولى في الجواب عنه هي في وروده في ذهن الناظر، ذلك أن بعض الباحثين ليس في ذهنه هذا السؤال أصلا، فأول خطواته في دراسة الاختلاف وضعها في الطريق المخطئة، فتتراكم عليه الأخطاء لاحقا.

ص: 246

وجواب السؤال: أما بالنسبة للناقد في عصر النقد، فهناك عدة عوامل تدخل في تحديد المدار، فقد يتحدد المدار بسؤال سائل عن مدار معين، هو موضع إشكال عند السائل، يريد أن يعرف رأي الناقد فيه، وهذا نراه في كتب العلل، والسؤالات، مثل «علل أحمد» ، رواية عبدالله، ورواية المروذي، وغيرهما، و «سؤالات أبي داود لأحمد» ، و «مسائل أحمد» لأبي داود، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» ، و «علل ابن أبي حاتم» ، و «علل الدارقطني» ، وغيرها.

وقد يكون الناقد يترجم في كتاب له لراو من الرواة، وقع عليه اختلاف في حديث معين، فيسوق الناقد هذا الاختلاف، أو يكون الراوي المترجم له قد خالف غيره في روايته لحديث عن شيخ له، فيسوق المؤلف هذا الاختلاف، وهذا نراه في تواريخ البخاري، وكتاب العقيلي، وابن عدي.

ويقع هذا لمؤلفي كتب الرواية، يسوق المؤلف حديثا بإسناد، ويكون قد وقع على بعض رواته اختلاف، فيتعرض له المؤلف، كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم، ممن ألف على الموضوعات، أو على المسانيد، خاصة ما ألف على طريقة التعليل، مثل «مسند يعقوب بن شيبة» ، و «مسند البزار» .

ومن عوامل تحديد المدار عند النقاد كذلك أن يكون غرض الناقد من كتابه جمع الاختلافات الواردة على راو معين، في عموم حديثه، فيكون هو مداره، وغرضه منصب عليه، ومعرفة الراجح عنه، كما يفعل محمد بن يحيى الذهلي في كتابه «علل حديث الزهري» ، وقد قال فيه الدارقطني: «من أحب أن ينظر ويعرف

ص: 247

قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في «علل حديث الزهري» لمحمد بن يحيى»

(1)

، ثم بعده النسائي، ثم ابن حبان، وكلاهما في حديث الزهري

(2)

، وكما يفعل ابن المديني في «علل حديث ابن عيينة»

(3)

، وابن حبان في «علل حديث مالك»

(4)

.

أما بالنسبة للباحث فالأمر كذلك، هناك غرض له من التعرض لاختلاف على راو معين، فقد يكون قصد إلى راو معين، فأراد دراسة الاختلافات الواردة على أحاديثه، وقد يخصص ذلك بكتاب معين، مثل ما ألف من رسائل في حديث الزهري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والأعمش، وسفيان الثوري، الموجود منها في «علل الدارقطني» .

وقد لا يقصر الباحث الدراسة على أحاديث الراوي التي اختلف عليه فيها، فيكون غرضه استقصاء حديث الراوي، فيذكر أيضا ما خالف فيه غيره، وما لم يقع فيه اختلاف أصلا، لكنه مضطر في الأحاديث التي وقع فيها اختلاف إلى تحديد المدار، إما الراوي موضع البحث، أو شيخه، وهكذا.

وكأن يعمد إلى إمام فيجمع الأحاديث التي ذكر فيها اختلافا في كتاب له،

(1)

«سؤالات السلمي للدارقطني» ص 403، و «سير أعلام النبلاء» 12:284.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 302، و «معجم البلدان» 1: 417، و «فهرست ابن خير» ص 145.

(3)

«معرفة علوم الحديث» ص 71، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:303.

(4)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 303، و «معجم البلدان» 1:417.

ص: 248

إما بإطلاق غير مقيد بنوع من الاختلاف، كما هو في رسائل بعض الباحثين والباحثات الذين تصدوا لما ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» ، والترمذي في «السنن» ، والبزار في «المسند» ، والعقيلي في «الضعفاء» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، وغيرها.

أو بتقييد ذلك بنوع من الاختلاف، مثل ما خصص من رسائل لما ذكر فيه أبو داود اختلافا في وصله وإرساله، أو رفعه ووقفه، أو في زيادة راو وحذفه، وغير ذلك.

ومثل هذا اشتغال بعض الباحثين في تحقيق كتب النقاد، مثل تحقيق كتاب «علل ابن أبي حاتم» ، و «الكامل» لابن عدي، وغيرهما.

وقد يكون موضوع البحث ليس في أحاديث معللة، ولكن يمر بالباحث أحاديث من هذا النوع، وللباحث منهج في المصدر الذي يثبت منه نص الحديث بإسناده، فيجد المؤلف قد ساق اختلافا على راو، أو أشار إليه، أو وجد الباحث هذا الاختلاف في الطرق التي جمعها.

والباحث في جميع ما تقدم قد تحدد له المدار، إما لكونه موضوع بحثه، أو لأن الناقد قد قصر الاختلاف على هذا المدار، فيبقى الباحث معه، ويكون هو مداره، لا يتجاوزه إلا في حالات معينة، وفق ضوابط محددة.

وإذا كان الناقد قد ذكر مدارات متعددة للاختلاف، ولم يمكن إدراج الاختلافات تحت اختلاف واحد، فالباحث كذلك يتابعه، فيقسم الاختلاف

ص: 249

بحسب هذه المدارات.

واتضح مما تقدم أن تعيين مدار واحد في الحديث المعين يكون هو الأساس لكل من ينظر في الاختلاف الواقع فيه أمر غير ممكن، فتحديد المدار الأساس إذن أمر نسبي، فباحث يكون مداره في طبقة، وآخر يكون في طبقة نازلة عنه، وثالث في طبقة أعلى منهما، ورابع يكون عنده مدارات متعددة، وكل ذلك بحسب الباعث على دراسة هذا الحديث، وقد يحدد ذلك صفة ورود الحديث في كتب الرواية، وكتب النقد.

والمهم هنا التأكيد على ضرورة تحديد المدار الذي ينصب عليه جهد الباحث، ويكون هو عقدة بحثه في الحديث المعين، ومتى لم يلتزم بذلك فقد انفرط عقد بحثه منذ الوهلة الأولى، وكذلك إذا لم يحسن تفريق المدارات عند الحاجة، فتتداخل عليه وعلى قارئه الاختلافات.

وسأضرب بعض الأمثلة لذلك.

ساق أحد الأئمة بإسناده عن عبدالرزاق، قال: حدثنا النعمان بن

أبي شيبة الجندي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تستخلفوا عليا -وما أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا، يحملكم على المحجة البيضاء» .

ثم قال الإمام: «ورواه إبراهيم بن هراسة، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي رضي الله عنه» .

ص: 250

وظاهر أن غرض الإمام هو بيان الاختلاف على الثوري، فهو المدار الأساس إذن، وقد قام أحد الباحثين بدراسة هذا النص بعد أن نقله في كتابه، فأبعد النجعة جدا، وترك مدار الإمام، وبدأ باختلاف على مدار ليس في إسناد الإمام أصلا، وأطال في كلامه على الحديث، وتداخلت عليه المدارات، ولا يقف قارئه على معالجة المدار الأساس الذي قصده الإمام إلا بمشقة بالغة، فقال ما نصه:

«هذا الحديث مداره على شريك القاضي، وأبي إسحاق السبيعي، واختلف على شريك القاضي على أوجه:

الوجه الأول: ما روي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أبي وائل، عن حذيفة مرفوعا.

الوجه الثاني: ما روي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن زاذان، عن حذيفة مرفوعا.

الوجه الثالث: ما روي عن شريك، عن أبي اليقظان، وأبي إسحاق، عن أبي وائل، عن حذيفة مرفوعا.

الوجه الرابع: ما روي عن شريك، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن حذيفة مرفوعا.

الوجه الخامس: ما روي عن شريك، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع مرسلا، ومرة عن أبي اليقظان، عن حذيفة.

واختلف على أبي إسحاق السبيعي على أوجه:

ص: 251

الوجه الأول: ما روي عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن حذيفة مرفوعا.

الوجه الثاني: ما روي عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي بن أبي طالب مرفوعا.

الوجه الثالث: ما روي عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع مرسلا.

الوجه الرابع: ما روي عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن سلمان الفارسي مرفوعا.

وسأبدأ بالاختلاف على شريك

».

وساق هذا الإمام حديثا من طريق أبي إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، ومحمد بن يزيد الأسفاطي، عن إبراهيم بن يحيى بن هانئ، عن أبيه، عن موسى بن عقبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعد قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم سدد رميته، وأجب دعوته» .

ثم قال الإمام: «سقط من رواية الترمذي موسى بن عقبة» .

فالمدار الذي عقد الإمام الاختلاف عليه هو إبراهيم بن يحيى بن هانئ، فأبو إسماعيل الترمذي يسقط موسى بن عقبة من الإسناد، ومحمد بن يزيد يذكره، بل في تعبير الإمام بقوله: «سقط من رواية

» ما يشير إلى أنه ليس اختلافا في الرواية، وإنما هو سقط في الإسناد، ويدل على ذلك أنه جاء عن أبي إسماعيل الترمذي بذكر موسى بن عقبة.

ص: 252

وليس هذا هو المهم، فلو اعتبرناه اختلافا فالمدار -كما تقدم- هو إبراهيم بن يحيى بن هانئ، والاختلاف في ذكر موسى بن عقبة، وحذفه، غير أن الباحث وهو يقوم بدراسة هذا النص عقد اختلافا جديدا لم يقصده الإمام، وفي الاختلاف الجديد ابتدأ بغير ما عند المؤلف، قال: «هذا الحديث مداره على قيس بن أبي حازم، واختلف عليه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: قيس بن أبي حازم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

الوجه الثاني: قيس بن أبي حازم، عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا.

الوجه الثالث: قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر مرفوعا

».

وسئل إمام آخر عن حديث رواه أحمد بن عبدة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه

» الحديث.

فقال: «منهم من لا يقول في هذا الحديث: ابن عباس، ويرسله، والمرسل أصح، حدثنا ابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، مرسل، إلا ما يرويه موسى بن أبي عائشة، فإنه يقول: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

فالإمام تكلم على الاختلاف على سفيان بن عيينة وصلا وإرسالا، في روايته للحديث عن عمرو بن دينار، ورجح المرسل، ثم استدرك بأن الحديث يرويه موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير موصولا، فهناك اختلاف أدنى

ص: 253

على سفيان في طريق عمرو بن دينار، رجح فيه الإمام الإرسال، وهناك اختلاف أعلى على سعيد بن جبير، بين عمرو بن دينار، وموسى بن أبي عائشة، ويظهر من استدارك الإمام أنه يرى الوصل محفوظا عن سعيد بن جبير.

والباحث له أن يعقد الاختلاف على سفيان بن عيينة، ثم بعد الفراغ من دراسة الاختلاف عليه، وترجيح الإرسال، يرتقي إلى الاختلاف الأعلى بين عمرو بن دينار، وموسى بن أبي عائشة، وله أن يعقد الاختلاف على سعيد بن جبير، بين عمرو بن دينار ، وموسى بن أبي عائشة، والاختلاف على سفيان بن عيينة في طريق عمرو بن دينار يعالجه على أنه اختلاف نازل عن المدار الأساس، ثم يرتقي إلى الاختلاف على المدار الأساس، وهو سعيد بن جبير، والمؤدى في الطريقتين واحد.

فجاء أحد الباحثين لمعالجة هذا النص، وهو يحقق الكتاب، فسلك طريقة أخرى أبعدته عن سياق كلام الإمام، ومقصوده، قال الباحث:«روى هذا الحديث سفيان بن عيينة من طريقين، واختلف عنه في كلا الطريقين، الطريق الأول: روايته عن عمرو بن دينار، وقد اختلف عنه في هذا الطريق على وجهين» .

ثم ذكر الوجهين عن سفيان بن عيينة، بوصل الحديث وإرساله، ثم قال:«الطريق الثاني: روايته -يعني ابن عيينة- عن موسى بن أبي عائشة، وقد اختلف عنه على وجهين» .

ثم ذكر الوجهين عن سفيان بوصل الحديث وإرساله.

ص: 254

والباحث أخطأ حين ذكر اختلافا على سفيان بن عيينة في طريق موسى بن أبي عائشة، فقد رأى الباحث في «تفسير الطبري» عن محمد بن بشار، عن عبدالرحمن، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير مرسلا

(1)

، فظن سفيان هذا ابن عيينة، وإنما هو الثوري، وقد خلط بينهما غير مرة في تخريجه لهذا الحديث.

فسفيان بن عيينة إذن ليس عليه اختلاف في روايته عن موسى بن أبي عائشة، لكن ليس هذا هو المهم هنا، فالمهم أنه لو كان سفيان هذا هو ابن عيينة وكان عليه اختلاف في طريق موسى بن أبي عائشة لم يكن للباحث أن يعقد عليه اختلافا في هذا الطريق، لأن الإمام لم يذكره، وإنما أشار إلى الاختلاف بين عمرو بن دينار، وموسى بن أبي عائشة، وهذا لم يعرج عليه الباحث أصلا، فبقي في الاختلاف على سفيان من الطريقين في دراسة الاختلاف، ولم يحكمه أيضا، فإنه بعد أن توصل إلى أن الراجح عن سفيان في طريق عمرو هو الإرسال، والراجح في طريق موسى الوصل، عاد فنقض هذه النتيجة، فحمل سفيان عهدة التردد في الطريقين، قال:

«وأخيرا يقال: لعل سفيان بن عيينة مرة ينشط فيرويه بالوصل، ومرة يعجز فيرسله

».

وقد قدمت آنفا أن سفيان بن عيينة لا اختلاف عليه أصلا في طريق موسى

(1)

«تفسير الطبري» 29: 187.

ص: 255

بن أبي عائشة، وأن هذا من خطأ الباحث، ومع هذا فلم يحكمه، واشتغل به عن مقصود الإمام.

وأول ما يبتدئ به الناظر في الاختلاف، بعد تحديد المدار وإتقان ذلك، أنه إذا كان الذي حدد له المدار أحد النقاد، على ما سبق شرحه آنفا، فهل الباحث يكتفي بالأوجه التي ذكرها الناقد فقط، ولا يزيد عليه، أو التزم أن ينظر في الأوجه كلها عن ذلك المدار؟

وهي قضية ليست سهلة، فالناقد ربما اكتفى بذكر وجهين أو ثلاثة، إما لاعتبار معين، كأن تكون الأشهر عن الراوي، أو لأن هذين الوجهين أو الثلاثة هي موضع السؤال الموجه للناقد، أو بملاحظة أمر دقيق في الاختلاف، أو لأنه قصد الموازنة بين روايين مختلفين على شيخ لهم، للاستدلال على حفظ هذا، أو ذاك، ونحو هذا، وإما لأن الناقد ذكر ما وقف عليه من الاختلاف، والباحث وقف على أوجه أخرى، وربما كان ما لم يذكره الناقد أشهر مما ذكره.

فعلى الباحث أن يضبط منهجه، وأن يدرك حجم ما التزم به، ويختار المنهج الأنسب لبحثه.

فإذا كان منهج الباحث الذي اختاره -لكونه الأنسب لبحثه- أن يقف مع ما ذكره الناقد فذاك، فيوازن بين الأوجه التي ذكرها الناقد، وينص على ذلك في النتيجة، فيقول مثلا: والأرجح من هذين الوجهين اللذين ذكرهما أبو حاتم

-مثلا- هو كذا أو كذا، أو كلاهما محفوظ، ونحو ذلك.

ص: 256

أما إذا اختار الباحث أن يحرر الاختلاف كله عن ذلك الراوي فهو ملزم أولا بتقصي ذلك، واستيفاء البحث عن الأوجه، ثم بالنظر فيها كلها، ما ذكره الناقد وما لم يذكره.

وللباحث أن يقدم النظر في الأوجه التي ذكرها الناقد، ثم بعد تلخيص النتيجة يعود فيقول مثلا: ولكن للحديث أوجه أخرى عن فلان، ولم يذكرها الناقد، ثم يخرجها، وينظر فيها، ويقارن بينها وبين ما ذكره الناقد.

والذي يسير عليه أكثر الباحثين إذا التزموا استيفاء الاختلاف هو دمج التخريج، ثم النظر في الأوجه كلها، ما ذكره الناقد وما لم يذكره.

مثال ذلك أن أبا داود ساق من طرق عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فليلق الشك، وليبن على اليقين

» الحديث.

ثم ساقه من طرق أخرى عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلا

(1)

.

قام أحد الباحثين بتخريج هذين الوجهين، ثم قال:«وللحديث وجه آخر لم يذكره أبو داود، وهو الوجه الثالث: الموصول بذكر ابن عباس» ، ثم خرج هذا الوجه، ووازن بين الأوجه الثلاثة جميعا

(2)

.

ص: 257

وساق أبو داود أيضا من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن الشريد بن سويد: «أن أمه أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة

» الحديث.

ثم قال أبو داود: «خالد بن عبدالله أرسله، لم يذكر الشريد»

(1)

.

فقام الباحث أيضا بتخريج هذين الوجهين عن محمد بن عمرو، ثم قال:«وللحديث وجهان آخران لم يذكرهما أبو داود» ، فذكر عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وعن محمد بن عمرو، عن عمرو بن أوس، عن رجل من الأنصار، ثم خرجهما، ووازن بين الأوجه الأربعة كلها

(2)

.

وساق البزار بإسناده عن قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، قال: قال لي علي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أمر بقبر إلا سويته، وبمسح التماثيل» .

ثم قال البزار: «وهذا الحديث قد رواه غير قيس، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، ولا نعلم أحدا قال: عن أبي وائل، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، إلا قيس»

(3)

.

فهذان وجهان من الاختلاف على حبيب بن أبي ثابت في هذا الحديث

ص: 258

ذكرهما البزار، خرجتهما إحدى الباحثات، ثم ذكرت أن للحديث أوجها أخرى لم يذكرها البزار، وهي: حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهياج، عن علي، وحبيب، عن أبي وائل، بقصة علي مع أبي الهياج، وحبيب، عن أبي الهياج، عن علي، وحبيب، عن علي.

فهذه أربعة أوجه لم يذكرها البزار، فصارت الأوجه عند الباحثة ستة أوجه، خرجتها، ووازنت بينها جميعا.

والوجهان الأولان من الأربعة التي لم يذكرها البزار هما أشهر الأوجه الستة وأقواها، والأول منهما في «صحيح مسلم»

(1)

.

وساق البزار أيضا من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة، أن عبدالله بن الزبير حدثه: «أن رجلا خاصم الزبير بن العوام في شراج الحرة

» الحديث.

ثم قال البزار: «وهذا الحديث قد رواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة، عن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، قال: «خاصمت رجلا من الأنصار في شراج الحرة

» ثم ذكره نحوه، ولا نعلم يروى هذا الكلام إلا عن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

فهذان وجهان من الاختلاف على الزهري ذكرهما البزار، خرجتهما

(1)

«الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» لسارة الشهري ، حديث (73).

(2)

«مسند البزار» حديث (969).

ص: 259

الباحثة، وزادت عليهما ذكر وجهين آخرين، أحدهما: الزهري، عن عروة، عن أبيه الزبير، والثاني: الزهري، عن عروة بن الزبير مرسلا.

والأول من الوجهين اللذين ذكرهما البزار في «الصحيحين» ، لكن الوجهين اللذين تركهما قويان أيضا، وهما في «صحيح البخاري» ، وخلصت الباحثة إلى أنهما أقوى الأوجه عن الزهري

(1)

.

وكذلك لو كان الباحث يتصدى هو للنظر في الاختلاف على راو، غير منطلق من كلام أحد النقاد، فيحدد منهجه هل يستوفي الأوجه كلها، أو يكتفي بأشهرها وأقواها؟ فبعض الأوجه يمكن الاستغناء عنها، كأن تكون شاذة جدا، من رواية المتروكين.

والخلاصة أن الباحث إن أراد الوصول إلى نتيجة نهائية في الاختلاف عن المدار فلا بد من استيفاء الأوجه عنه وإن كثرت، وأي تقصير في ذلك يعود بالخلل على دراسة الاختلاف كله.

وفي الوقت الراهن فإن سبيل الوصول إلى الحديث وأوجه الاختلاف على راويه قد تيسرت كثيرا، ولكن يبقى فهم الباحث وتأمله في حصر الأوجه واستقصائها بعد الوقوف عليها، وقد رأيت نقصا ظاهرا لدى كثير من الباحثين في هذا الجانب، ترى الواحد منهم يقف على طرق، يذكرها في المتابعات والشواهد، وهي في الحقيقة أوجه اختلاف على مداره.

ص: 260

وسأضرب لذلك مثالين، فقد سئل أحد النقاد عما رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أسيد بن حضير، قال: «بينما أنا في مشربة أقرأ سورة البقرة، إذ سمعت وجبة

» الحديث، ورواه سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أسيد بن حضير، ولم يذكر أنسا، فقال الناقد:«سليمان أحفظ من حماد لحديث ثابت» .

تصدى أحد الباحثين لتخريج هذا النص، وذكر أنه لم يقف على الحديث من الطريقين لا من طريق حماد، ولا من طريق سليمان، ولا إشكال في ذلك، لكنه ذكر أن للحديث طرقا أخرى عن أسيد بن حضير، وذكر منها طريق عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد، ويرويه عن عبدالرحمن اثنان: قتادة، وثابت البناني، وعن ثابت يرويه حماد بن سلمة، وعن حماد جماعة من أصحابه الكبار.

فطريق عبدالرحمن بن أبي ليلى، من رواية ثابت عنه، هو جزء من الاختلاف على ثابت الذي ورد بعضه في السؤال وجوابه، وأصله اختلاف على حماد بن سلمة، فعن حماد وجهان، الوجه المذكور في السؤال، والوجه الذي يرويه عن ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد، والأخير هذا أهم وجه في الاختلاف، ولم يتعرض له الباحث، مع أن في جواب الناقد إشكالا عالجه الباحث، وهو تقديم سليمان بن المغيرة على حماد بن سلمة، في ثابت، والمشهور عند النقاد

-ومنهم الناقد صاحب الجواب- تقديم حماد على جميع أصحاب ثابت، فعدم ورود الوجه المشهور عن حماد لا في السؤال ولا في الجواب يجعل النص أكثر إشكالا، ويلزم عليه مزيد اعتناء بهذا الوجه، وإحضاره في دراسة الاختلاف.

ص: 261

وذكر باحث آخر في رسالة له ما رواه محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: استرقوا لها، فإن بها النظرة» .

ثم ذكر الباحث في تخريجه للحديث أنه اختلف فيه على الزهري على وجهين، هذا أحدهما، والثاني: عن الزهري، عن عروة مرسلا: «أن جارية

»، ووازن الباحث بين الوجهين، ورجح الوجه الموصول.

وبعد هذا الحديث مباشرة ذكر حديثا آخر، قال:«روى الإمام معمر في «جامعه» ، عن الزهري، قال:«رأى النبي صلى الله عليه وسلم جارية بها نظرة، فقال: استرقوا» .

وذكر في تخريجه أن يونس بن يزيد رواه عن الزهري كرواية معمر، وأن عبدالرحمن بن إسحاق رواه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، ثم رجح الباحث وجه الزهري مرسلا.

ثم بعد هذا بحديث، ذكر ما رواه الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، جارية بوجهها سفعة

» الحديث.

وذكر في تخريجه أن ابن لهيعة رواه عن عقيل، عن الزهري، عن عروة مرسلا، فوازن بين الروايتين، وكأنه مال إلى ترجيح رواية الليث الموصولة، فإنه أحفظ من ابن لهيعة.

هكذا صنع الباحث في هذا الحديث، جعله ثلاثة أحاديث، وكل واحد من

ص: 262

الثلاثة وصل فيه إلى نتيجة مستقلة، مع أن طريق مرسل عروة الذي ذكره مع حديث أم سلمة، هو نفس طريق مرسل عروة الذي ذكره مع حديث عائشة، وكذلك رواية عبدالرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد، قد ذكرها الدارقطني في نقده لحديث أم سلمة، فأمام الباحث دلائل كون الحديث بأوجهه الأربعة، وهي جعله عن أم سلمة أو عائشة، أو من مرسل عروة، أو من مرسل الزهري - حديثا واحدا، ينظر فيه بين الأوجه مجتمعة، لكن الباحث لم يستفد من هذا، فوقع في التناقض.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن جعل رواية عن المدار وجها من وجوه الاختلافات ليس بالمتيسر دائما، فقد يواجه الباحث روايات يتردد فيها هل هي من هذا الحديث، أو هي حديث آخر؟ كما يقع مثل هذا سواء بسواء في أصل الاختلاف هل هو موجود أو لا؟ وهي قضية سبق الحديث عنها في الفصل الأول من هذا الباب.

فإذا فرغ الباحث من النظر في الاختلاف على المدار، فقد يكون غرضه انتهى هنا، فغرضه الوصول إلى نتيجة في الاختلاف نفسه، كما يفعل الأئمة النقاد، ويكتفون غالبا بالنظر في الاختلاف، يصدر الناقد حكمه عليه، ويسكت عن الإسناد من المدار فمن فوقه، لا يبين حاله.

وقد يكون غرض الباحث أن ينظر في الإسناد بعد فراغه من الترجيح في الاختلاف عن المدار ، فالباحث حينئذ بصدد مرحلة جديدة، ينتقل فيها من نظره في الاختلاف على المدار، إلى نظره في الإسناد ابتداء من المدار، فمن فوقه، ينظر في

ص: 263

الإسناد نفسه، وينظر في طرق الحديث الأخرى، كما فعل سواء بسواء في دراسته قبل المدار، فكأن الباحث بقصده الحكم على الإسناد كله عاد إلى نقطة البداية.

وقد ذكرت قبل قليل في الحديث عن المدار الذي يعتمده الباحث في التخريج والدراسة، ويعقد عليه الاختلاف، أنه يواجه اختلافات نازلة عن المدار، إما على الرواة عن المدار، أو على من دونهم، وهذه الاختلافات وتناوله لها بالنظر والدراسة لن أتحدث عنها هنا، فمن المفترض أن يكون وهو يعالج الاختلاف الأساس عنده قد عالج هذه الاختلافات النازلة، وفرغ منها، إذ معالجتها والفراغ منها مرحلة مهمة في الوصول إلى نتيجة صحيحة في الاختلاف الأساس عنده، وقد مضى شرح هذا كله في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، في الكلام على القرائن في صفة الرواية، ومنها قرينة (الثبات والاضطراب) عند رواة الأوجه، فقد يستفيد الباحث من الاختلافات النازلة في الترجيح بكون أحد المختلفين على مداره الأساس قد جاء عنه اختلاف، فاضطرب، في مقابل ثبات الآخر.

وكذلك تقدم الحديث عن الاختلافات النازلة في المبحث الثاني من الفصل الثالث من هذا الباب، في الكلام على تصفية رواة الأوجه عن المدار، فقد يعزل الباحث بعض الرواة لوجه ما، وذلك حين ينظر في اختلاف عليه نازل عن الاختلاف الأساس، فيبين أن روايته لذلك الوجه لا تصح، وأنها غلط عليه من بعض الرواة.

وشرحت في المكانين ضرورة الاعتناء بالاختلافات النازلة، وبينت أثرها

ص: 264

على النظر في وتأثيرها على نظرة الاختلاف على المدار الأساس، والخلل الذي يقع من إغفال النظر في الاختلافات النازلة، وأشرت هناك إلى العنت الشديد الذي يلاقيه الباحثون، وكذلك المشرفون على رسائلهم في تناول الاختلافات النازلة، وصياغة النظر فيها مع النظر في الاختلاف الأساس.

وأشير هنا إلى أن قواعد التعامل مع الاختلافات النازلة بعد وصول الباحث إلى نتيجة فيها، والارتقاء بهذه النتيجة إلى الاختلاف الأساس هي نفسها القواعد التي سأتحدث عنها بالنسبة للاختلاف على المدار الأساس عند الباحث، والاختلافات فوقه، فباب الاختلافات واحد، وكون الاختلاف نازلا، أو أساسا، أو عاليا، هو أمر نسبي، أي بالنسبة له وغرضه من البحث، وقد يكون ما هو نازل عند باحث أساسا عند باحث آخر، وما هو أساس عند باحث آخر نازلا عند آخر، وقد رأيت أن الأنسب في المكانين السابقين ترك الحديث عن كيفية تعامله مع الاختلاف النازل بعد وصوله إلى نتيجة فيه، لأنني سأتناول ذلك بالتفصيل هنا في هذا الفصل بالنسبة للاختلاف الأساس، وما فوقه، فلا يتشتت الموضوع، وما ينطبق على الاختلاف الأساس وما فوقه، ينطبق على الاختلاف النازل إن وجد عند الباحث.

وقد يكون هناك تساؤل حول ضرورة النظر في المدار وما فوقه من طرق حين يقصد الباحث الحكم على الإسناد كله، وما قدمته آنفا من أن طريقة النقاد في الغالب هي التركيز على اختلاف على مدار معين، هو مجال نظرهم، وأنهم لا يحكمون في الأغلب على الإسناد بعد ذلك، ولا يعرجون على اختلافات عالية

ص: 265

فوق المدار الأساس، فلم نطالبه بما تركه الأولون؟ خاصة وأنكم تقولون بضرورة تجزئة مسائل العلم، فليس من المناسب أن يتعرض الباحث لكل شيء في كل مكان.

وهذا التساؤل هام جدا، والجواب عنه بمثابة الاعتذار عما أطالب به الباحث هنا.

وخلاصة الجواب أن الاختلاف إن كان ورد عنده في حديث ساقه في معرض الاستدلال به، كما يفعل الباحثون في كتبهم ورسائلهم المتعلقة بالحديث الموضوعي، فيجمع أحاديث موضوع معين، ويدرس هذه الأحاديث من جهة صحتها وضعفها، ثم من جهة الاستنباط منها - فهذا لا مناص له عن التعرض للإسناد بعد المدار، والنظر في الطرق العالية، وذلك لأن غرضه الوصول إلى الحكم النهائي على الحديث كله، ولا يمكنه ذلك إلا بالتعرض لما فوق المدار، وهذا عرف جرى عليه الباحثون في عصرنا، ألزمتهم به الأقسام العلمية في الجامعات، وأما النقاد الأولون فلا ينصون على أحكامهم على كل حديث بعينه، سواء كان في الإسناد اختلاف، أو لم يكن، استغناء بسوق الإسناد نفسه، أو اعتمادا على ما شرطه المؤلف على نفسه، في مقدمة كتابه، ونحو ذلك، وكذلك الاختلافات، قد يتعرض الإمام لاختلاف على مدار في باب من أبواب كتابه، ثم يتعرض لأعلى منه في مكان آخر.

أما اليوم فالعرف قد اختلف، فالباحثون ألزموا أنفسهم بالنص على حكم كل حديث، سواء كان فيه اختلاف أو لم يكن، فهم مطالبون إذن بالنظر في

ص: 266

الاختلافات كلها إذا وجدت، ما كان أساسا، وما كان فوقه، لأن غرض الباحث إصدار حكم نهائي.

وقد تقدم في آخر فصول «الاتصال والانقطاع» أنه لا يصح للباحث أن يكتفي في الحكم على الحديث، بالحكم على الإسناد الذي أمامه، وأنه مطالب بالنظر في القضايا الأخرى، فإن وجد اختلافا عالجه ونظر فيه، فيقول الباحث: هذا إسناد رجاله ثقات، وهو متصل، لكن وقع فيه اختلاف على فلان في وصل الحديث وإرساله على وجهين، ثم يتكلم على الاختلاف، فكذلك هنا، يقال له: إذا فرغت من اختلاف قُدِّر أن يكون هو الاختلاف الأساس عندك، وأردت أن تحكم على الإسناد بعد النظر في الاختلاف، يلزمك أن تنظر في الإسناد من المدار فمن فوقه، وكذلك في الطرق الأخرى.

وقد أشرت هناك إلى أن موضوع البحث، وكونه ليس مختصا بالأحاديث المعللة، لا يعفي الباحث من النظر في الاختلاف، فإن الأمر دين، فهو سيصدر حكما على الحديث، والحكم عليه له خطوات لا يمكن الاستغناء عن بعضها بحجة نوع البحث وموضوعه.

نعم طبيعة موضوع البحث تفرض منهجا معينا في كيفية عرض التخريج، وكيفية عرض الدراسة، وما يمكن الاستغناء عنه من أوجه الاختلاف، ونحو ذلك، يفارق هذا المنهج ما يطالب به من كان موضوعه خاصا بالنظر في أحاديث وقع فيها اختلاف، وذلك من حيث الاختصار والتطويل، وما يثبته كل منهما من معلومات، أما جوهر المسألة فلا يمكن التنازل عنه، والباحث الذي يفعل

ص: 267

ذلك يجني على نفسه قبل أن يجني على بحثه وعلى قارئه.

والتساؤل السابق يبرز بصورة أكثر وضوحا في البحوث التي يخصصها أصحابها لدراسة الاختلافات، فغرض الباحث إذن النظر في اختلاف معين على راو بعينه، فما الذي يجعله يلتزم النظر في اختلاف أعلى، وقد عرفنا أن النقاد لم يلتزموا بذلك كله.

والجواب أن الباحثين في مقدروهم أن يسعهم ما وسع الأولين، فينصب جهد الباحث على دراسة اختلاف على مدار محدد، سيقوم -ولا بد- من أجل الوصول إلى نتيجة دقيقة فيه بدراسة الاختلافات النازلة عنه، أما ما فوقه فلا علاقة له به إلا من حيث تأثير المتابعات للمدار ومن فوقه على نتيجة النظر في الاختلاف عن المدار، كما سبق شرحه في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، أما ما عدا ذلك فيدعه ويسكت عنه، فيكفيه أن يقول فيما إذا كان الاختلاف -مثلا- على أبي عوانة: والراجح هو الوجه الأول، أو الوجه الثاني، أو الوجهان محفوظان عن أبي عوانة، وتكون نتيجة بحثه معلومة يقدمها لباحث آخر يحتاج إليها.

غير أن الباحثين ألزموا أنفسهم، أو ألزمهم غيرهم كالأقسام العلمية في الجامعات، بما أثقل كاهلهم، وأدى إلى تضخيم حجم بحوثهم أحيانا، ألا وهو إعطاء القارئ نتيجة نهائية لدرجة الحديث كله، فهذا الالتزام يظنه البعض سهلا، فيكتبه في مقدمة بحثه، ويلزم نفسه بهذا الشرط، فإذا جاء إلى التطبيق العملي ضاق به ذرعا، إذ قد يكون ما أضافه زيادة على النظر في مداره الأساس

ص: 268

يفوق من حيث الحاجة إلى الوقت والجهد والحيز ما يحتاج إليه النظر في مداره الأساس.

ومما يزيد ما تقدم وضوحا أن الباحث يلزم نفسه أو يلزمه غيره بأمر آخر، خارج الاختلاف أصلا، هو ضروري للوصول إلى درجة نهائية للحديث، وهو النظر في المتابعات والشواهد، فيكتب الباحث هذا الشرط، غير مدرك لعواقبه، ولهذا قل من يفي به، إذ معناه أن الباحث إذا فرغ تماما من الاختلافات الواردة في إسناده ذهب يحضر متابعات الإسناد، وقد يكون في بعض هذه المتابعات اختلافات أيضا، وربما كانت فوق ما عنده من حيث الوعورة والدقة، فهو بين خيارين، إما أن يذهب فيتتبعها، ويشرحها، ويعمل نظره فيها، فيطيل جدا في الحديث، ويخرج عن مقصوده، وإما أن يمر عليها سريعا غير محكم لها، وهذه أعظم.

مثال ذلك أن يكون عند الباحث إسناد مرجعه إلى أبي صالح، عن أبي هريرة، وقد اختلف على أبي صالح، أو على من دونه في وصل الحديث، وإرساله، ثم يحضر الباحث متابعات لهذا الإسناد عن أبي هريرة، كأن يروى عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فيجد الباحث اختلافا على محمد بن عمرو، على وجهين كذلك، أو أكثر، وهكذا في سلسلة لا تنقطع أحيانا.

وقل مثل ذلك -أو زد عليه- في الشواهد.

والخلاصة أن الباحث حين يقصد الحكم على الحديث كله فإنه ملزم بتتبع الطرق فوق مداره، وإن وجد فيها اختلافا لزمه النظر فيه.

ص: 269

وأول ما يضبطه الباحث هنا ويتقنه ما اصطلح الباحثون على تسميته بـ (رفع المدار)، ومعناه أنني إذا كنت بصدد النظر في اختلاف على راو معين، حدده لي إمام أنظر في كلامه، ثم وجدت أن الاختلاف ليس عليه فقط، وإنما هو على شيخه، أو على شيخ شيخه، وهكذا من فوقه، فمما يسهل علي معالجة الاختلافات هذه كلها أن أعمل النظر في فائدة إمكانية ترك الاختلاف على مدار الناقد، وعقد الاختلاف على راو أعلى منه، فيكون الاختلاف على مدار الناقد اختلافا نازلا بالنسبة لي، أعالجه في أثناء معالجة الاختلاف على المدار الأعلى.

ورفع المدار يستفاد منه حين يمكن تطبيقه الاختصار، والبعد عن التشتيت ما أمكن، إذ لو لم يرفع الباحث المدار للزمه بعد أن يفرغ من النظر في الاختلاف على المدار الأول، ويصل إلى نتيجة، أن يستدرك فيقول: ولكن قد وقع اختلاف على فلان، أو فلان (أحد الرواة فوق المدار)، ثم يبدأ بعرض اختلاف جديد، وأوجه جديدة.

وقيدت رفع المدار في كلامي السابق بشيئين، أن يكون هناك فائدة من رفع المدار، وأعني بذلك أن يقف الباحث على أوجه أخرى عن المدار الأعلى ولكنها لا تمر بالمدار الأدنى، فهي من طريق رواة آخرين.

مثال ذلك ما إذا كانت الأوجه التي وقف عليها الباحث عن المدار الأعلى هي نفسها التي كانت على المدار الأدنى، فله أيضا أن يرفع المدار، ولكن لا فائدة منه، فالأحسن بقاؤه مع مدار الناقد، ويجعل الاختلاف عن المدار الأعلى بمثابة متابعات للأوجه عن المدار الأدنى.

ص: 270

ويزول الاختيار بالنسبة للباحث إذا كان الناقد هو الذي رفع المدار، فذكر أولا اختلافا على راو معين، كالرفع والوقف، ثم ذكر هذا الاختلاف بعينه أو زاد عليه على راو أعلى منه، فهو ملزم حينئذ بمتابعة الناقد، واعتماد المدار الأعلى، ولا يقول في حال كون الناقد لم يزد شيئا على ما ذكره من الاختلاف على المدار الأدنى: لا فائدة من رفع المدار، فعدم وجود الفائدة لا يلتفت إليه في مقابل متابعة الناقد في تصويره للاختلاف.

وأما القيد الثاني -وهو أن يمكن رفع المدار- فالمقصود به الاحتراز عن حالات لا يمكن معها رفع المدار، فالباحث الذي اختار موضوع بحثه الأحاديث التي اختلف فيها على راو معين، كالزهري، أو قتادة، أو الأعمش، أو سعيد بن أبي عروبة، المدار عنده في الأحاديث كلها على هذا الراوي، لا يستطيع أن يرفع مداره فوقه، وإن وجد اختلافا على شيخه أو من فوقه.

وكذلك إذا كان الباحث لم يتقيد براو معين كغالب البحوث، ولكن رفع المدار يؤدي إلى إلغاء بعض الأوجه عن المدار الأدنى، لكونها لا تمر على المدار الأعلى، فبينهما اشتراك في بعض الأوجه، ففي هذه الحالة يبقى الباحث في هذه المرحلة على مداره لا يتجاوزه.

فإذا قام برفع مدار الاختلاف وهو لا يمكنه ذلك اضطرب في عرضه للاختلاف وفي دراسته.

فمن ذلك أن إماما سئل عن حديث رواه مروان الفزاري، عن سَعَّاد الكوفي، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: «اختلفنا

ص: 271

في الشجرة التي اجتثت من الأرض، قال بعضنا: هي الكمأ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم» الحديث

، فقال الإمام:«إنما هو: جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم» .

فمدار الاختلاف في السؤال والجواب جعفر بن إياس، يروى الحديث عنه على وجهين، أحدهما الذي في السؤال، والآخر الذي في الجواب، فجاء أحد الباحثين وهو يحقق هذا النص ويخرجه، فترك مدار الإمام، وارتقى إلى شهر بن حوشب، وعقد عليه الاختلاف، فأدى عمله هذا إلى إخراج الوجه الأول، إذ هو لا يمر بشهر بن حوشب.

وليته حين رفع المدار إلى شهر بن حوشب أتقن عرض الأوجه عنه، بذكر صفة كل وجه جاء عن شهر، ومن رواه عنه، ولكنه عوضا عن ذلك أخطأ أيضا في استخدام مصطلح (الوجه) الذي هو في باب الاختلاف يقصد به صفة في الرواية جاءت عن المدار، فاستخدمه بمعنى الطريق، فذكر الطرق عن شهر بن حوشب، وسماها أوجها، ثم في كل طريق ذكر الاختلافات على راوي ذلك الطريق، عن شهر بن حوشب، والاختلافات على من دونه أيضا، وبعض أجه الاختلافات هذه لا تمر بشهر أصلا، وهذا اضطراب ليس وراءه اضطراب، وصار مراد الإمام نقطة في بحر في خضم هذه الاختلافات، وطريقة عرضها، وقد استغرق عنده بضع عشرة صفحة، في حين أنه كان يمكنه أن يتناول الاختلاف الذي قصده الإمام بالتخريج والدراسة في صفحتين أو أقل من ذلك.

والملاحظ أن الباحث لم يبخل على الحديث بجهد ولا وقت، غير أنه أخطأ

ص: 272

في الخطوتين الأوليين، وهما تحديد المدار، وإمكانية رفعه من عدمها، وهما أهم خطوتين في تناول أي اختلاف، إذا لم يتقنهما الباحث تراكمت الأخطاء في عمله، وشق على نفسه، وعلى قارئه.

والخلاصة أن رفع المدار إنما يكون حيث لا يؤدي رفعه إلى ترك بعض الأوجه عن المدار الأساس، ولهذا فإنه في حال كون الناقد صاحب النص هو الذي ذكر مدارين، أدنى وأعلى، واعتماد المدار الأعلى يؤدي إلى ترك بعض الأوجه عن المدار الأدنى، فالباحث ملزم بأن يقسم الاختلاف على المدارين، فيذكر الأوجه عن المدار الأدنى، ويخرجها كلها، ثم ينتقل إلى الأعلى كذلك، والقاعدة مطردة في ذلك، فمهما ذكر الناقد من المدارات، واعتماد بعضها يؤدي إلى ترك بعض الأوجه عن غيره، فلا بد من توزيع التخريج على المدارات كلها.

مثال ذلك قول الترمذي: «حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال: لا توضؤوا منها

» الحديث.

وروى الحجاج بن أرطاة، عن عبدالله بن عبدالله الرازي هذا الحديث، فقال: عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، وحديث الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، أصح.

وقال حماد بن سلمة، عن حجاج، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير، فخالف حماد بن سلمة أصحاب الحجاج، وأخطأ فيه.

ص: 273

وروى عبيدة الضبي هذا الحديث عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذو الغرة لا يدرى من هو؟ وحديث الأعمش أصح»

(1)

.

فذكر الترمذي اختلافا على عبدالله بن عبدالله الرازي في تسمية صحابي الحديث، بين الأعمش، وحجاج بن أرطاة، وعبيدة الضبي، وذكر أيضا اختلافا على الحجاج بن أرطاة في تسمية شيخه، فقيل عنه عن عبدالله بن عبدالله، وقيل عنه عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى.

فإذا جعلنا المدار عبدالله بن عبدالله لم ينتظم هذا أحد الوجهين عن الحجاج، فأحد الوجهين فيه تسمية شيخه عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، ولو جعلنا المدار الحجاج بن أرطاة لم ينتظم هذا الاختلاف الأكبر على عبدالله بن عبدالله في تسمية الصحابي، والمخرج من هذا كله أن نجعل للاختلاف مدارين، فنقول: هذا الحديث يرويه الحجاج بن أرطاة، وعبدالله بن عبدالله، وقد اختلف على كل منها، أما الحجاج فاختلف عنه على وجهين، ثم يذكران ويخرجان، ثم عبدالله بن عبدالله كذلك، ويكون أحد الأوجه على عبدالله قد تقدم في الاختلاف على الحجاج فيذكر ولا يعاد تخريجه

(2)

.

وتمر بالباحث حالات يكون الاختيار له فيها في رفع المدار، أو اعتماد مدارين، حسب منهجه الذي التزمه في بحثه في مثل هذه الحالات، منها أن يذكر

(1)

«العلل الكبير» 1: 151.

(2)

وانظر مثالا آخر في «الضعفاء الكبير» 1: 110.

ص: 274

الناقد اختلافا على مدار، ثم يذكر اختلافا آخر مغايرا له على مدار أعلى منه، ولكن يمكن إدراج أحد الاختلافين في الآخر، ويعقد الاختلاف على المدار الأعلى، كما يمكن فصلهما.

مثال ذلك قول البزار: «حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن قيس، عن سعد: «أنه صلى، فنهض في الركعتين، فسبح الناس به، فمضى في صلاته ولم يجلس، ثم قال حين انصرف: أتروني كنت أجلس؟ إنما صنعت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع» ، وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن إسماعيل، عن قيس، عن سعد موقوفا، ورواه المغيرة بن شبيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة»

(1)

.

فقد ذكر البزار أولا الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد في رفع الحديث ووقفه، ثم ذكر الاختلاف على قيس بن أبي حازم في جعله عن سعد بن أبي وقاص، أو المغيرة بن شعبة.

فالباحث يمكنه في هذا النص أن يرفع المدار إلى قيس، ويجعل الاختلاف عليه على ثلاثة أوجه، قيس، عن سعد مرفوعا، وقيس، عن سعد موقوفا، وقيس، عن المغيرة بن شعبة مرفوعا.

ويمكنه أيضا -في حال رفعه للمدار- أن يجعل الاختلاف على وجهين: قيس، عن سعد بن أبي وقاص، وقيس، عن المغيرة بن شعبة، وفي الوجه الأول

(1)

«مسند البزار» حديث (1217).

ص: 275

منهما يتعرض للاختلاف الواقع فيه على إسماعيل بن أبي خالد رفعا ووقفا، ويعالجه، وذلك في حال احتياجه إلى ذلك للترجيح، أو يؤخر النظر فيه بعد الفراغ من دراسة الاختلاف الأعلى، وذلك في حال كون الحديث عن سعد هو الراجح.

وللباحث أن يعتمد مدارين، فيعقد أولا اختلافا على إسماعيل بن أبي خالد، في رفع الحديث ووقفه، ثم يعقد اختلافا على قيس في إبدال الصحابي، ويوزع التخريج عليهما، ويعالجهما واحدا بعد الآخر.

وغير خاف أن الأمور التي تحدثت عنها هنا في هذا الباب -مثل تحديد المدار، واستيفاء الأوجه عنه، ورفع المدار والقضايا المتعلقة به- لا تؤخذ بالدراسة النظرية فقط، فعمدتها التطبيق العملي، والممارسة الطويلة، ويواجه الباحث من القضايا في حديث غير ما واجهه في الحديث الذي قبله.

وأيضا فدراستها النظرية مستوفاة لا يتسع لها المقام هنا، فهناك أمور أخرى كثيرة، تتعلق بتنظيم وترتيب وتخريج الاختلاف، وكذلك دراسته، أسأل الله تعالى أن ييسر لي كتابة دراسة مستقلة لاحقة، أشرح فيها تنوع النص الذي أمام الباحث، والخيارات التي يمكن للباحث أن يسلكها في تخريج كل نوع، ودراسته، موضحا طرق الباحثين في التخريج والدراسة، وما هو الأنسب منها لكل نوع؟ وكذلك قضايا المدار، ودرجاته، وكيفية التعامل مع كل درجة في التخريج والدراسة، والسبل المتوافرة لاختصار التخريج، ودمج بعض الأوجه ببعضها الآخر، وغير ذلك.

ص: 276

وقد ألجأتني الضرورة للحديث في هذا المبحث عن قضايا المدار، للحاجة إليها في شرح قضية المبحث الأساس، وهي أن الباحث إذا كان قصده وفي منهجه أن يصدر حكما على الحديث كله، ولا يكتفي بنتيجة النظر في الاختلاف الذي استقر على مدار فيه، فإنه يلزمه أن ينظر في الإسناد، ابتداء من المدار نفسه، فمن فوقه، من جهة درجات الرواة، وسماع بعضهم من بعض، ومن جهة النظر في الطرق الأخرى الموازية للمدار، ومن فوقه، إلى صحابي الحديث، هل فيها مخالفة للنتيجة التي انتهى إليها النظر في الاختلاف عن المدار أو لا؟ وإن كان هناك مخالفة أنشأ الباحث نظرا في اختلاف جديد، وهكذا أبدا حتى يصل إلى الصحابي، ولا يستثنى من ذلك شيء، اللهم إلا في حال كون الاختلاف الذي فرغ منه كان مداره الصحابي نفسه، كأن يختلف عليه في الرفع والوقف، أو يكون الاختلاف في متن الحديث، ففي هذه الحالة لم يبق إسناد ينظر فيه، ولا طرق أخرى للحديث.

وتحت الجملة السابقة تفاصيل، وقضايا فرعية مهمة، وقد رأيت أن أقسم الحديث عنها بحسب النتيجة التي وصل إليها الناظر في الاختلاف على مداره الأساس، وهي في -الجملة- لا تخلو من ثلاثة أحوال، سأتناول كل حال منها في مبحث خاص.

* * *

ص: 277

‌المبحث الثاني

الوجه الراجح والوجه المرجوح

يمكن القول إن هذا هو الغالب في الاختلافات، يترجح وجه واحد، ويسقط ما عداه من الأوجه، وملاحظة هذا في كتب النقد أمر سهل، فالأقل فيها يذهب الناقد إلى صحة وجهين أو أكثر عن المدار، أو يضعفها جميعا عن المدار.

فإذا وقع هذا للباحث، وترجح عنده أحد الأوجه فعليه أن يحسن التعامل مع الوجه المرجوح، ومع الوجه الراجح.

أما الوجه المرجوح فالحديث عنه يتضمن عددا من الأمور، تعين على حسن التعامل مع هذا الوجه، وهي:

1 -

إذا اعتمد الباحث كون هذا الوجه مرجوحا ضم هذه النتيجة إلى النقد الذي حرره في إسناد هذا الوجه إلى المدار، من حيث عدالة رواته وضبطهم وسماع بعضهم من بعض، وهي الشروط الثلاثة من شروط صحة الحديث، فإذا كان هناك خلل في هذه الشروط أو في بعضها ضم إليه كون الوجه لم يصح عن المدار أصلا، فقد خولف راويه، وترجح قول مخالفه، فلم يتحقق شرط عدم العلة، وصار معلولا، وازداد بذلك ضعفا، اللهم إلا إذا كان الأصل منكرا، ثم رفعت العلة شيئا من نكارته، فمن هذه الجهة اكتسب قوة مع بقاء ضعفه، على ما تقدم شرحه في الفصل الأول من الباب الثاني.

وأمثلة‌

‌ نقد الوجه المرجوح بالرواة قبل المدار

، وبالمخالفة، كثيرة جدا، تقدم

ص: 278

شيء منها في الفصول السابقة، فقد يكون الترجيح مبنيا على حال رواة الوجه الراجح ورواة الوجه المرجوح.

ومن ذلك ما تقدم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو الحديث الذي يرويه محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعا: «إن للصلاة أولا وآخرا

» الحديث، فمحمد بن فضيل ثقة معروف، ولكن في روايته عن الأعمش كلام يسير، وبعد النظر في الطرق الأخرى تبين أنه قد غلط على الأعمش، وأن الأعمش لا يرويه عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وإنما يرويه عن مجاهد مرسلا، قال: «كان يقال: إن للصلاة أولا وآخرا

» الحديث، هكذا رواه الجماعة من أصحاب الأعمش.

فنقول عن إسناد حديث أبي هريرة: فيه محمد بن فضيل، وفي روايته عن الأعمش كلام يسير لبعض النقاد، وقد خالفه الجماعة من أصحاب الأعمش، فحديثه معلول.

ومثاله أيضا ما ذكره ابن أبي حاتم، قال:«سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه بقية، عن سعيد بن أبي سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجم وهو صائم» .

فقالا: هو سعيد بن عبدالجبار، عن أبي جزي، عن هشام، والحديث حديث هشام، عن أبيه:«أنه كان يحتجم وهو صائم» ، وأبو جزي ضعيف الحديث»

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 252، وحديث هشام ، عن أبيه من فعله أخرجه ابن أبي شيبة 3: 53، عن عبيدالله بن موسى، وأبي أسامة، عن هشام بن عروة.

ص: 279

فنلاحظ أن أبا حاتم، وأبا زرعة، نقدا إسناد حديث عائشة بتدليس بقية بن الوليد، فقد ارتكب هنا تدليس التسوية، فأسقط شيخ شيخه أبا جزي نصر بن طريف، ودلس أيضا تدليس الشيوخ، فسعيد بن أبي سعيد هو سعيد بن عبدالجبار، وهو مشهور بالضعف، وذكرا أن نصر بن طريف ضعيف الحديث، ومرادهما الضعف المطلق، وإلا فهو دون ذلك، فقد رمي بوضع الحديث، وقد قال فيه أبو حاتم مرة:«متروك الحديث»

(1)

.

فهذا النقد في الإسناد نفسه إلى هشام بن عروة، ونقداه أيضا بأن الصواب عن هشام، عن أبيه من فعله، ليس فيه عائشة، ولا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نقد بالمخالفة

(2)

.

وإن لم يكن هناك خلل في الشروط الثلاثة الأولى، فالرواة إلى المدار عدول ضابطون، والإسناد متصل، ثم تبين بعد جمع الطرق أن أحد رواة الإسناد قد خولف في الرواية عن شيخه، وبعد النظر في الاختلاف ترجح ما رواه الغير، وصار ما رواه مرجوحا، فيكون حينئذ قد اختل شرط عدم العلة، وضعف الإسناد من هذه الجهة، وصار معلولا، فيقول الباحث في نقده: إسناد الحديث إلى فلان رواته ثقات، وهو متصل، ولكن خولف فلان، ثم يذكر المخالفة، وأن الإسناد معلول.

(1)

«الجرح والتعديل» 8: 468.

(2)

وانظر أمثلة أخرى في «العلل الكبير» 1: 148 ، 219، 220، 240، 279، 308، و «علل ابن أبي حاتم» (7) ، (98) ، (707) ، (906) ، (1309).

ص: 280

ومثاله الحديث الماضي في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، كانوا يمشون أمام الجنازة» .

فسفيان بن عيينة من كبار أصحاب الزهري، والرواة عن سفيان ثقات، ولكن بعد جمع الطرق تبين أن سفيان خولف في هذا الحديث، خالفه الجماعة، فرووه عن الزهري مرسلا، فصار حديث ابن عمر معلولا، وعلته أن الصواب فيه الإرسال.

وهكذا لو كان الوجه الراجح والوجه المرجوح تامين، كأن يكون الاختلاف في تسمية الصحابي، فالوجه الراجح يكون علة مؤثرة للوجه المرجوح، ويصير الوجه المرجوح معلولا، فلا يصح الحديث إلا عن أحد الصحابيين.

أما إذا كان الوجه الراجح هو التام، والوجه المرجوح هو الناقص، كأن يترجح الرفع على الوقف، أو الوصل على الإرسال، فيبقى الوجه التام على تمامه، ولا يؤثر فيه وجود الناقص، ويقال في مثل هذا الإسناد: له علة، لكنها غير مؤثرة.

ومثاله الحديث الماضي أيضا في المبحث الأول من الفصل الأول من هذا الباب، وهو ما رواه الجماعة، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، ثم تمضمض، وقال: إن له دسما» ، فقد رواه ابن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عبدالله بن أبي بكر، عن الزهري، عن عبيدالله مرسلا، ليس فيه ابن عباس، وبلفظ الأمر بدون قصة

(1)

.

ص: 281

فرواية عبدالله بن أبي بكر هذه لم تؤثر شيئا في رواية الجماعة، ويكون عبدالله أو من دونه قد قصر بهذا الحديث بعدم ذكر ابن عباس.

وكل ما تقدم يتم تطبيقه سواء بسواء لو كان الراجح وجها واحدا في مقابل عدد من الأوجه كلها مرجوحة، فإنه يقضي عليها على النسق السابق، في صور لا تنتهي أبدا، لولا خشية الإطالة لضربت لبعضها أمثلة.

2 -

‌ معنى كون الوجه مرجوحا عن المدار أنه لم يصح عنه، فلم يحدث به هكذا

، ومقتضى هذا أن الباحث في نقد الوجه المرجوح يكتفي بنقده إلى المدار، ولا ينقده بالمدار -لو كان محل نقد- ولا بمن فوق المدار، إذ كيف ينقده بهم، أو بسماع بعضهم من بعض، والإسناد لم يصح إليهم؟ .

هذا أصل المسألة بلا تردد، غير أن الكلام في حال الإسناد بعد المدار للوجه المرجوح قد احتاج إليه الباحث أثناء نظره في الاختلاف قبل المدار، وهذه مسألة دقيقة جدا، فقد يكون الناظر في الاختلاف قد استفاد من حال الإسناد بعد المدار أثناء دراسته للاختلاف، واستخدمه في الترجيح، فيكون فيه ما يدل على غلط راوي هذا الوجه، وقد تقدم شرح هذا مفصلا في نهاية المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

وأما ما عدا ذلك فلا كلام للناظر في الاختلاف فيه، لأنه -كما تقدم- لم يصح عن المدار، فكأنه لا وجود له، غير أن الباحث قد يحتاج أن ينبه على تقارب وجهين في حال الإسناد بعد المدار، الراجح والمرجوح، كما إذا اختلف على راو على وجهين، إرسال الحديث، ووصله، ويكون الموصول منقطعا أيضا.

ص: 282

مثال ذلك ما روي من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عن بلال، قال: «كان عندي تمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأصبت به أجود منه صاعا بصاعين

» الحديث

(1)

.

وروي هذا الحديث عن مسروق: «أن بلالا

» بالقصة.

والراجح هو المرسل

(2)

، غير أن الموصول منقطع أيضا في موضعين، فأبو إسحاق لم يسمع من مسروق، كما قال البرديجي، ومسروق لم يسمع من بلال، كما هو ظاهر من ترجمته، فالباحث ينبه على هذا.

ويوجد في كتب التخريج، وكتب الفقه، الكلام في إسناد الوجه المرجوح بعد المدار لبيان ضعفه، غير أن هذا لا يدخل في النظر في الاختلاف، وإنما هو من باب التنزل في نقد الدليل، فكأنه يقول: على فرض صحة هذا الوجه المرجوح عن المدار ففيه أن فلانا لم يسمع من فلان، ونحو ذلك، كما يفعلون هذا في متن الحديث الضعيف، كأن يقول بعضهم: وعلى فرض صحة الحديث فهو محمول على كذا وكذا.

والذي ينبغي التأكيد عليه في قضية حال الإسناد المرجوح بعد المدار هو أن يكون الباحث شديد التيقظ، فيميز ما في الإسناد من أمور يمكن الاستفادة منها في الترجيح فهذه يسخرها للنظر في الاختلاف، وما لا يدخل في النظر في الاختلاف، فيدعه.

(1)

«سنن الدارمي» حديث (2579).

(2)

«العلل الكبير» 2: 493.

ص: 283

وغلط الباحثين في هذه القضية من المسائل الدقيقة في نقد الأسانيد، فالباحث يخطئ إذا جعل ما في الإسناد من نقص بعد المدار دليلا على رجحان الوجه المقابل، وليس في هذا النقص دليل على غلط راوي هذا الوجه، أو فسر بهذا كلام إمام من أئمة النقد، كأن يقول بعد نقله عن الإمام ترجيحه للوجه المقابل: وإنما فعل هذا لكون هذا الوجه منقطعا، أو فيه فلان وهو ضعيف، ونحو ذلك، مما لا يدخل في قرائن الترجيح، وهو أيضا يرتكب جناية على المدار المختلف عليه، أو على من فوقه، فينسب إليه تدليسا، أو إرسالا، أو رواية عن الضعفاء، وهو لم يفعل ذلك، إذ هذا الوجه لم يصح إليه أصلا، كما يرتكب جناية في حق الناقد حين فسر كلامه بما لا يحتمله ولا يريده الناقد، وقد تقدم زيادة تفصيل لهذا في نهاية المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

وبكل حال فنقد الوجه المرجوح بالمدار ومن فوقه ينبغي للباحث أن يتأنى فيه، فلا يعرج عليه مع ظهور الضعف للوجه عن المدار، وتضمن النقد لأمر فيه غمز لأحد رواة الإسناد، كرميه بالتدليس، أو الاختلاط، وتحميله بذلك عهدة ضعف الإسناد.

وفي نقد الوجه المرجوح بهذه الطريقة تظهر إحدى العواقب الوخيمة لترك منهج النقاد في المقارنة والموازنة حين الاختلاف، فمن لا يسير على منهجهم يتعلق براو والإسناد لم يصح إليه أصلا، من جهة كونه معلولا بالمخالفة، فيجمع بين الضعف في النقد، وبين تحميل الرواة أخطاء غيرهم.

مثال ذلك أن أحد النقاد ذكر الاختلاف على قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن

ص: 284

سمرة بن جندب مرفوعا في من ترك الجمعة متعمدا، أو عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، مرسلا، ليس فيه سمرة بن جندب، ثم قال في نقده:«فيه علتان، تدليس قتادة، والانقطاع بين الحسن، وسمرة، فإنه لم يسمع منه غير حديث العقيقة» .

كذا صنع الباحث، أغفل غرض الناقد الذي يعلق على كلامه، وذهب يضعف الإسناد بالمدار ومن فوقه، ولم يقم بإتمام عمل الناقد، والنظر في صحة هذا الوجه الذي ذكره عن المدار، ولو نظر فيه لتبين له أنه ليس بحاجة إلى نقده بتدليس قتادة، ولا بسماع الحسن من سمرة، فإن هذا الوجه لا يصح عن قتادة أصلا، كما سبق بيان ذلك من كلام النقاد، حيث تقدم هذا الحديث في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب.

والباحث نظر على عجل في الإسناد قبل قتادة، فوجد أنه من رواية نوح بن قيس الحداني، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادة، ونوح وأخوه صدوقان، فحالهما عند الباحث لا يقتضي تضعيف الإسناد بهما، فاتجه إلى نقده بقتادة ومن فوقه، وهذا -كما أشرت إليه- من آثار منهج تمزيق الطرق، والنظر إلى كل إسناد بمفرده.

وليست هذه القضية خاصة بنقد الوجه المرجوح، بل تشمل نقد كل إسناد، وإن لم يكن فيه اختلاف، فالإسناد إذا سقط في حلقة من حلقاته لا يصح أن ننقده بمن فوقها، بأمر خفي، ككون أحد رواته ثقة، لكن تكلم فيه يسيرا من قبل حفظه، أو قد رمي بشيء من التدليس، أو لم يسمع ممن فوقه، إذ الإسناد لم يصح إليه أصلا، وهي قضية فاتني أن أنبه عليها في «الجرح والتعديل» عند الكلام على الوصف الذي يطلقه الناظر في الإسناد بعد فراغه من دراسة الرواة، وكذلك في

ص: 285

«الاتصال والانقطاع» في آخر مبحث منه، عند الكلام على الوصف الذي يطلقه الناظر في الإسناد بعد فراغه من دراسة الرواة، واتصال الإسناد وانقطاعه.

ومما يؤسف له أن هذا الصنيع حاضر بقوة في عمل الباحثين، ونقدهم للأسانيد، ترى الواحد منهم يعمد إلى أئمة الرواية وأساطينها، فينقد الإسناد بهم، إما بتدليسهم، أو اختلاطهم، أو إرسالهم عمن فوقهم، ونحو ذلك، والإسناد لم يصح إليهم أصلا.

3 -

إذا رجعنا إلى المبحثين الثالث والرابع، من الفصل الثالث من هذا الباب، المتعلقين بتعاضد القرائن على نتيجة النظر التي يصل إليها الناظر في الاختلاف، وتعارض القرائن في ذلك - أدركنا بسهولة أن‌

‌ الوجه المرجوح ليس على درجة واحدة

، فكلما تعاضدت القرائن على أن هذا الوجه مرجوح كان ضعفه أشد، والعكس كذلك، إذا كانت القرائن ضعيفة، أو متعارضة، خف ضعف الوجه المرجوح، ويترتب على هذا أن الأوجه المرجوحة في حال وجود عدة أوجه مرجوحة ليست على درجة واحدة في الضعف.

وغير خاف أن قرائن الترجيح كثيرة جدا على ما سبق شرحه في الفصل الثاني من هذا الباب، فبعضها متعلق بالراوي المختلف عليه، وبعضها بالمختلفين، وبعضها بصفة الأوجه، إلى غير ذلك، فضعف الوجه المرجوح يتعلق بها جميعا، فينفصل الباحث عن النظر إلى الإسناد المفرد للوجه المرجوح، ويكون الاعتبار للنظر المجمل في الاختلاف، وبناء على ذلك يتم إطلاق الوصف المناسب على الوجه المرجوح، فلا يستغرب الباحث إذا وقف على كلام لناقد

ص: 286

يصف فيه رواية ثقة، أو صدوق، بأنها باطلة، أو لا أصل لها، أو يقول الناقد: هذا الحديث بهذا الإسناد شبيه بالموضوع، أو يحذر من التحديث به، إلى غير ذلك.

وقد أشرت في مناسبات سابقة -وربما يأتي هذا في مناسبات لاحقة- إلى أنه من الضروري جدا الفصل بين الراوي ودرجته، وبين حديثه المعين، فإن الحكم على هذا الحديث بهذا الإسناد الذي فيه الراوي لا يخضع فقط لدرجة الراوي المطلقة، وإنما يخضع بصفة أساس لدرجته في هذا الحديث بعينه، فقد يكون ثقة أو صدوقا في مجمل حاله، لكنه في هذا الحديث لجزم الناقد بناء على القرائن التي أمامه بأنه غلط ولا بد هو في درجة الضعيف، أو المتروك.

مثال ذلك أن عبيس بن مرحوم، روى عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين

» الحديث.

سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة، عن هذا الحديث بهذا الإسناد، فقال أبو زرعة:«وهم عبيس في هذا الحديث» وقال أبو حاتم: «أخشى أن يكون وهم فيه عبيس» ، واتفقا جميعا على أن الصحيح ما رواه عدة من الحفاظ عن حاتم، عن عبدالرحمن بن الحارث بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

وقد رواه جماعة آخرون عن عبدالرحمن بن الحارث، وانظر:«سنن أبي داود» حديث (393) ، و «سنن الترمذي» حديث (149)، و «مسند أحمد» 1: 333، 354.

ص: 287

قال ابن أبي حاتم: «وسمعت أبي يقول مرة أخرى: أخشى أن يكون هذا الحديث بهذا الإسناد موضوعا»

(1)

.

وعبيس هذا من شيوخ أبي حاتم، وقال فيه:«كان ثقة وفي حديثه شيء»

(2)

.

وفي مقابل هذا إذا كان الترجيح ليس قويا، والقرائن بعد جمع الباحث لها قريبة من التكافؤ مثلا، فبقي احتمال أن يكون المرجوح عن المدار محفوظا عنه، فالوجه المرجوح حينئذ يكتسب قوة من هذه الجهة، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الكلام على الوجه الراجح.

3 -

والوجه المرجوح -سواء كان واحدا أو أكثر- بعد تحرير درجته وأنه ضعيف لاختلال شرط عدم العلة، إما لوحده، أو مع اختلال غيره من الشروط، يتم إلغاؤه، ولا يلتفت إليه لاحقا، فلا يعضد غيره، ولا يعتضد بغيره، إذ تبين أنه لا وجود له أصلا، وهذا هو مقتضى الترجيح.

فلو جئنا إلى حديث أبي هريرة المتقدم، وهو من رواية محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وكان الباحث قد قام بدراسة الرواة، واتصال الإسناد، ثم بعد ذلك درس الاختلاف على الأعمش، وترجح لديه أن هذا الإسناد غلط، فلا يعود مرة أخرى، ويقول: ولكن حديث أبي هريرة هذا يشهد له كذا وكذا، أو له طريق آخر إلى أبي هريرة، فيرتقي به الحديث، أو يقول عند دراسته لحديث سابق أو لاحق: ويشهد لهذا الحديث حديث أبي هريرة.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 228.

(2)

«الجرح والتعديل» 7: 34.

ص: 288

فكل هذا لا يصح أبدا، والباحث إذا فعل هذا يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فقد قضى على جهده السابق في جمع الطرق، والنظر في الاختلاف، ووقع في التناقض، ففي حديث أبي هريرة هذا كأنه يقول: محمد بن فضيل قد غلط على الأعمش، فهذه نتيجة النظر في الاختلاف، تم عاد فقال: ولكن محمد بن فضيل لم يغلط، وهذا مقتضى اعتماد إسناده ليعتضد بغيره، أو ليعضد غيره.

ورب قائل يقول: نرى هذا كثيرا في كلام المتأخرين على الأحاديث، فالإسناد المعلول يعتمدونه، ويبحثون له عن متابعات وشواهد، ويعضدونه بها، وأيضا يعضدون به غيره، فما توجيه ذلك؟

وتوجيهه أن كثيرا من المتأخرين لا يلتفتون إلى علل الأحاديث، فلم ينظروا في الاختلاف أصلا، والإسناد إذا كان ظاهره الاستقامة صححوه، أو حسنوه، بغض النظر عن الطرق الأخرى المعلة له، وقد مضى شرح مذهبهم ومقارنتهم بمنهج أئمة النقد في الفصل الأول من هذا الباب.

وليس الكلام هنا معهم، وإنما هو مع من يتصدى للنظر في الاختلاف، ويصل إلى راجح عنده ومرجوح، ثم بعد ذلك يعود على عمله بالنقض، ويعتمد المرجوح في الاعتضاد.

فمن ذلك أن ابن حجر تكلم على الحديث المتقدم آنفا، وهو حديث الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية

» الحديث، وعالج الاختلاف الواقع فيه على الزهري، ودافع عن إخراج الشيخين للحديث موصولا، ثم قال: «وقد جاء حديث عروة

ص: 289

هذا من غير رواية الزهري، أخرجه البزار من رواية أبي معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عروة، عن أم سلمة، فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة، وقال الدارقطني: رواه مالك، وابن عيينة -وسمى جماعة- كلهم عن يحيى بن سعيد، فلم يجاوزوا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه، ولا يصح، وإنما قال ذلك (يعني الدارقطني) بالنسبة لهذه الطريق، لانفراد الواحد عن العدد الجم، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا، والله أعلم»

(1)

.

وظاهر ما نقله ابن حجر عن الدارقطني موافقته للدارقطني على أن ذكر أم سلمة في رواية أبي معاوية خطأ من أبي معاوية، وأنه لا يصح، لانفراد أبي معاوية بذكرها، ومخالفته للحفاظ الكبار من أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم مالك بن أنس، خاصة أن أبا معاوية ليس بالقوي في غير حديث الأعمش، وينبني عليه أن ذكر أم سلمة كأنه لم يكن، إذ لا وجود له أصلا.

وعلى هذا فقول ابن حجر في نهاية كلامه: «وإذ انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا» ، نقض للنتيجة السابقة، فقد عاد إلى اعتماد رواية أبي معاوية المرجوحة، وعضد بها رواية الزبيدي، عن الزهري.

وتابع ابن حجر أحد الباحثين، فنقل كلامه في اعتضاد رواية الزبيدي برواية أبي معاوية موافقا له، لكن الباحث عاد في الحديث التالي عنده فذكر حديث سليمان بن يسار، عن عروة، والاختلاف فيه على يحيى بن سعيد الأنصاري،

(1)

«فتح الباري» 10: 203، و «التتبع» ص 362.

ص: 290

وذكر أن عبدالله بن نمير قد تابع أبا معاوية فيه بذكر أم سلمة، لكنه انتهى إلى ترجيح المرسل، وأطال في ذلك، قال: «وبالنظر في اختلاف الرواة يتبين -والله تعالى أعلى وأعلم- قوة ما رواه مالك وغيره عن يحيى بن سعيد، وهي رواية الإرسال، وذلك لما يأتي: رواية الجم لها، ولا شك أن من رواه مرسلا أكثر عددا ممن رواه موصولا

».

وتعرض أحد الباحثين للحديث الماضي في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب، وهو ما رواه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة

» الحديث، فنقد الباحث من صحح الإسناد، إذ هو منقطع من عمرو بن دينار، وجابر بن عبدالله، ودليل ذلك رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت من غير واحد، عن جابر بن عبدالله أنه قال: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة

» الحديث موقوفا عليه، ونقل عن ابن خزيمة قوله:«هذا هو الصحيح، لا رواية محمد بن مسلم الطائفي، وابن جريج أحفظ من عدد مثل محمد بن مسلم» .

ثم قال الباحث: «قلنا: لكن يشهد لرواية محمد بن مسلم الطائفي رواية أبي الزبير، عن جابر

».

كذا صنع الباحث، تناقض من حيث لا يدري، فإن رواية ابن جريج التي اعتمد عليها في الحكم بالانقطاع، ونقل عن ابن خزيمة ترجيحها على رواية محمد بن مسلم موقوفة على جابر، فهي علة لرواية محمد بن مسلم من هذه الجهة، وقد رواه كذلك أبو جعفر الرازي، عن عمرو بن دينار، عن جابر موقوفا، ولم يذكر

ص: 291

الباحث روايته، وعلى هذا فرواية محمد بن مسلم يصرف النظر عنها تماما، فلا يستشهد بها، ولا يشهد لها غيرها.

ثم إن الباحث وقع في أمر تقدم التنبيه عليه في المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو أن أي رواية فوق المدار يعضد بها أحد الأوجه لا بد من دراستها وكأنها الرواية الأساس مع الباحث، فرواية أبي الزبير، عن جابر، قد اختلف فيها على أبي الزبير رفعا ووقفا، وقد أشار الباحث إلى ذلك في تخريجها، لكنه لم يتعرض للاختلاف بالدراسة، ولم يصل إلى نتيجة فيه، ولا بد من ذلك، فهو اختلاف قوي، وقد رجح جماعة من النقاد -ومنهم البخاري- وقفه أيضا على جابر من هذا الطريق، وسيأتي قريبا في الكلام على الوجه الراجح شرح ذلك.

وتعرض أحد الباحثين للاختلاف الواقع على الزهري في حديث أبي هريرة: «يوشك أقصى مسالح المسلمين أن يكون سلاح» ، وقد اختلف فيه على الزهري في إسناده، وفي وقفه ورفعه، كما سيأتي شرح ذلك في المبحث الثالث.

وانتهى الباحث إلى ترجيح وجهين موقوفين على أبي هريرة، وتضعيف المرفوع، وأحد الموقوفين رجاله ثقات، ثم قال:«وقد جاء مرفوعا من غير طريق الزهري» ، ثم ذكر أن أبا داود، والحاكم، أخرجاه من طريق ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، وأن الحاكم صححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي

(1)

، ثم قال الباحث:«وعليه يمكن القول بأن الحديث الذي معنا صحيح لغيره» .

(1)

«المستدرك» 4: 511، وأما أبو داود فلم يخرجه.

ص: 292

وبغض النظر عن تسامح الباحث في نقد إسناد حديث ابن عمر، إذ هو لا يصح، فقوله عن الحديث الذي معه إنه صحيح لغيره هو موضع الإشكال هنا، إن كان يعني بالحديث الوجه المرفوع، فهذا الوجه قد انتهى بترجيح الوجهين الموقوفين عليه، فلا يصح أن يعضد بغيره بعد ذلك، وإن كان يعني بالحديث الموقوف ففيه إشكال أيضا من جهة أخرى.

ورب قائل يقول: الذي نعرفه أن ما لا يقبل الاعتضاد هو الإسناد إذا كان ضعفه شديدا، وهو أن يكون أحد رواته متروك الحديث، أو دون ذلك، فعلى كلامك هنا يستوي ما هذه صفته، وما رواه ثقة خالفه غيره، وترجح قول المخالف، فما توجيه هذا؟

وتوجيهه أن يقال إن قصر الضعف الذي لا يصلح للاعتضاد على رواية المتروك هو أساس المشكلة، وهو أحد مداخل الضعف الواسعة التي أدت إلى كثرة تصحيح وتحسين الأحاديث الضعيفة، فالراوي إذا تفرد بحديث ولو لم يخالف، واستنكر النقاد حديثه هذا لم يعد صالحا للاعتضاد، بالنسبة لنا، لأنه منكر، ولو ذهبنا نعضده فمقتضاه أننا رفعنا عنه النكارة، والحال أنها باقية، يستوي في ذلك الراوي الثقة، ومن دونه، فإذا خالف غيره وترجح رواية الغير فكذلك لا يصح لنا أن نعود فنعضده، لأن الحال أن روايته مرجوحة، وأنها خطأ، فإذا عدنا وقويناها نقضنا الحكم الأول، وحكمنا بصوابه مرة أخرى.

وههنا أمر آخر، وهو أن الراوي المتروك قد يكون دليل الحكم عليه بأنه متروك الحديث هو كثرة مخالفته للثقات، وقد تقدم في «الجرح والتعديل» أن من

ص: 293

أهم وسائل الحكم على الراوي مقارنة رواياته بروايات غيره، والنظر في مخالفته وموافقته لهم، فالراوي المتروك يفرق بينه وبين الثقة الذي حكم بغلطه في حديث ما أن الثقة وقع منه هذا على سبيل الندرة، ولو وقفوا على عدد من الأحاديث خالف فيها غيره لنزلت درجته، ولا تزال تنزل بحسب ما يوقف على أحاديث له يغلط فيها، ومثله الصدوق، فالذي جعله صدوقا هو أنه وقف على أحاديث يغلط فيها أكثر عددا من تلك التي وقف عليها عند الراوي الذي وثقوه، ودون التي وقف عليها عند الراوي الذي ضعفوه، أو حكموا عليه بالترك، فأعيان الأحاديث إذا ترجح غلط الراوي فيها هم فيها متساوون، واختلف الحكم على الراوي نفسه من جهة القلة والكثرة، أو نوع الغلط.

وقضية الارتباط بين اختلاف الرواة في الأحاديث، وبين الجرح والتعديل، قضية هامة جدا، نبهت عليها في مناسبات سابقة، وسأعود إليها لاحقا حين تأتي مناسبتها، فبينهما ارتباط وثيق، إن لم يحكمه الباحث وقع في التناقض.

ومما يؤكد ويوضح ما تقدم -وهو قضاء الوجه الراجح على الوجه المرجوح فلا يصلح للاعتضاد- أن الوجه المرجوح إذا كان هو الناقص، وكان الوجه المرجوح جزءا من الوجه الراجح، كأن يكون مرسلا، أو فيه سقوط راو أو أكثر، والراجح هو التام، فإن أئمة النقد ربما أطلقوا الصحة على الوجه المرجوح، مع كونه مرجوحا قد قصر به راويه، ومرادهم أن النقص سدده الوجه الراجح، فلم يعد له وجود، فعاد الوجهان وجها واحدا.

ص: 294

وقد تكرر هذا من أبي حاتم الرازي

(1)

.

ثم إن الوجه المرجوح إذا عرفنا أنه لا يصح أن يعضد إسنادا آخر، أو يعضده إسناد آخر، فمن باب أولى أن لا يعضد الوجه الراجح، أو يعضده الوجه الراجح، إذ هو علته، فكيف يتعاضدان؟ وإنما يفعل هذا من لا يلتفت لعلل الأحاديث، واختلاف الرواة، من الموغلين في الظاهرية، فنراهم حين يعل الناقد مرفوعا بموقوف، أو موصولا بمرسل، أو يحكمون على راو بأنه أخطأ في إبدال راو بآخر - يجيبون عن ذلك بأن هذه طرق للحديث يقوي بعضها بعضا، كما يفعله ابن حزم في تقريراته.

فمن ذلك قوله: «وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة، وعن رجل مرة أخرى، وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك

، وكل ما تعللوا به من مثل هذ وشبهه في حديث دعاوى بلا برهان، فهي ساقطة»

(2)

.

ويكثر من تقرير هذا ابن القطان في كتابه «بيان الوهم والإبهام» .

فمن ذلك قوله في كلامه على اختلاف الطرق رفعا ووقفا، أو إرسالا ووصلا ، إذا وقع ذلك من الثقات: «ما ذاك إلا قوة للخبر، ودليل على شهرته،

(1)

انظر: «علل ابن أبي حاتم» (308)، (312)، (575)، (674) ، (687)، (688) ، (980)، (1674)، (2138)، (2267) ، (2302) ، (2315) ، (2547).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام» 1: 138، وانظر أيضا 1:265.

ص: 295

وتحدث الناس به، فجعل ذلك من علل الأخبار شيء لا معنى له»

(1)

.

وقال أيضا: «لا يكاد يوجد حديث لم يختلف في إسناده، وانتشار الطرق أدل على صحته منها على ضعفه، إذا كان في بعض طرقه طريق سالم من الضعف»

(2)

.

وقال أحمد شاكر في كلامه على حديث أعله أئمة النقد بالإرسال: «الذي أختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة، ولا تكون تعليلا لها»

(3)

.

وابن القطان -مع بعد قوله عن المنهج الصحيح كما تقدم شرح ذلك في المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا الباب- قد اشترط أن يوجد طريق سالم من الضعف، وكثير من المتأخرين لا يلتفت لهذا، يشد الطريق المعلول بالطريق الآخر الذي هو علة لهذا الطريق، وإن كان كل منهما ضعيفا في نفسه.

وأين هؤلاء من كلمة أحمد التي تقدمت في التمهيد، فقد نعى فيها على بعض طلبة الحديث، أنهم يكتبون الإسناد التام، ويدعون الإسناد الناقص، لحديث واحد، وقد يكون الإسناد الناقص هو الأقوى، فيضعف التام، ويكون علة له.

وأعيد كلمة أحمد هنا لأهميتها، قال الخطيب وهو يعدد أسباب كتابة أهل الحديث للمراسيل وروايتهم لها: «

ومنهم من يكتبها على معنى المعرفة لعلل

(1)

«بيان الوهم والإيهام» 5: 438.

(2)

«بيان الوهم والإيهام» 5: 460.

(3)

حاشية أحمد شاكر على «سنن الترمذي» 1: 285.

ص: 296

المسندات بها، لأن في الرواة من يسند حديثا يرسله غيره، ويكون الذي أرسله أحفظ وأضبط، فيجعل الحكم له.

وقد قال أحمد بن حنبل بمثل هذا فيما حدثت عن عبدالعزيز بن جعفر، قال: حدثنا أبو بكر الخلال، قال: أخبرني الميموني، قال: تعجب إلي أبو عبدالله ممن يكتب الإسناد، ويدع المنقطع، ثم قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادا

-أو أكبر- قلت: بينه لي، كيف؟ قال: يكتب الإسناد متصلا، وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسنادا منه، وهو يرفعه، ثم يسنده، وقد كتبه هو على أنه متصل، وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه: لو كتب الإسنادين جميعا عرف المتصل من المنقطع، يعني ضعف ذا، وقوة ذا»

(1)

.

ومن يفعل ما ذكره أحمد يشبه من لا يلتفت إلى اختلاف الرواة، وعلل الأحاديث، فكيف لو وقف أحمد وغيره من النقاد على صنيع من تجاوز هذا، ووصل به الحال إلى أن يعضد الإسناد بما هو علة له؟

ومن المشهور المقرر ضعف تصحيحات الحاكم في كتابه «المستدرك» ، وأحد جوانب الضعف عنده التزامه تصحيح زيادات الثقات في الأسانيد، وصلا، ورفعا، ونحو ذلك، وإن خالفوا غيرهم، كما تقدم شرحه في المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا الباب، وربما تجاوز ذلك، فجعل ما هو علة للإسناد عاضدا له.

(1)

«الكفاية» ص 395، وانظر:«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 191.

ص: 297

روى سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة، فقرنه بسيفه

» الحديث

(1)

.

ورواه يونس بن يزيد، عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب، أقرأنيها سالم بن عبدالله بن عمر، فوعيتها على وجهها

(2)

.

ورواه سليمان بن كثير، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال (يعني الزهري): أقرأني سالم كتابا كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات

، وفي بعض الروايات: عن سالم -أحسبه- عن أبيه

(3)

، كذا في رواية سليمان.

وبرواية يونس أعل أبو داود، ثم الترمذي، وغيرهما رواية سفيان بن حسين الموصولة.

وقال الحاكم بعد أن صحح رواية سفيان بن حسين: «ويصححه حديث عبدالله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، وإن كان فيه أدنى إرسال، فإنه شاهد صحيح لحديث سفيان بن حسين»

(4)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1573 - 1574)، و «سنن الترمذي» حديث (621)، و «مسند أحمد» 2:15.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1570).

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (1798)، (1805)، و «الأموال» لأبي عبيد حديث (937)، و «الكامل» 3: 1136، و «سنن البيهقي» 4:88.

(4)

«المستدرك» 1: 392.

ص: 298

وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري، كما تقدمت الإشارة إليه

(1)

، ومثله سليمان بن كثير، ولذا تعقب الحاكم ابن حجر، فقال عن طريق يونس:«بل هو علته»

(2)

.

والخوف -كل الخوف- أن يسري هذا الصنيع إلى ناظر في الحديث يسير على طريقة أئمة النقد في النظر في الاختلاف، فيؤخذ على حين غرة، إذ قد يطول الفصل، أو يبحث على عجل، فيذكر الراجح متابعا للمرجوح، ويعضده به، أو العكس، وأكثر ما يحدث هذا إذا كان الاختلاف على الراوي في تسمية شيخه أو من فوقه، فيتراءاهما إسنادين، وأحدهما علة للآخر، فالراجح أحدهما.

وقد نبهت أكثر من مرة -وسأنبه لاحقا- إلى أن من ينظر في الاختلاف، ويوازن، ويرجح، ثم يعود في مرحلة من مراحل النظر في الحديث إلى طريقة المتأخرين، أشد ضررا ممن اعتمد طريقتهم وطبقها من الأساس، فهذا قد عرف منهجه، وأنه صحح أو حسن إسناد حديث بالنظر في رواته، ولم يلتفت إلى من خالفهم، أما الأول فصورته عند القارئ أنه قد نظر في العلل، ووازن، ورجح، لكن القارئ -وربما الباحث نفسه- لا يدرك أنه خرج إلى منهج آخر في بعض مراحل النظر.

وهناك كلمة مشهورة في بعض العلوم التي يحتاج إليها، قال ابن تيمية: «قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف

(1)

«الجرح والتعديل» ص 103.

(2)

«تغليق التعليق» 3: 17.

ص: 299

متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان»

(1)

.

ولا بأس أن يضم إليهم غيرهم، ف‌

‌نصف الناقد هو من يخلط بين منهجين

، فنجده يطيل البحث في حديث ما، ويقارن ويوازن، وفجأة يدع المنهج الذي هو عليه إلى منهج آخر، ويظهر هذا جليا في قضيتنا هذه: الموقف من الوجه المرجوح، وفي قضايا أخرى بعضها تقدم، وبعضها سيأتي.

وقضية الاعتضاد والشد بالطرق الأخرى لها فصل مستقل سيأتي بعون الله تعالى وتوفيقه في باب مستقل غير أني أعرج على بعض ضوابطها في مناسباتها.

وأما الوجه الراجح فالحديث عنه أيضا في عدد من الأمور:

1 -

إذا كان الباحث في ترجيحه للوجه قد استخدم القدر المشترك في الترجيح، فيتم تذكيره الآن بالعودة إلى الوجه الراجح مرة أخرى، فينظر في اختلاف رواته فيما بينهم، ويصل إلى الراجح من روايتهم، وقد مضى في المبحث الأول من الفصل الثالث، من هذا الباب شرح طريقة النقاد في الترجيح بالقدر المشترك، وعودة الناقد مرة أخرى إلى الترجيح بين رواته، مضى ذلك بأمثلته.

ويلتحق بهذا ما إذا اختلف راويان على شيخهما في جهة ما في الإسناد أو المتن، وترجح قول أحدهما، وكان أصحاب راوي الوجه الراجح قد اختلفوا عليه في جهة ثانية، لم يدخلها الباحث في نظره الأول، فهذا اختلاف نازل، أجله

(1)

«مجموع الفتاوى» 5: 188.

ص: 300

الباحث، فلا بد له من العودة إلى الوجه الراجح، والنظر في اختلاف أصحاب راويه.

مثال ذلك أن الأعمش روى عن الحكم بن عتيبة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي، الحديث في ثواب عيادة المريض، واختلف فيه عن الأعمش رفعا ووقفا

(1)

.

ورواه شعبة، ومنصور بن المعتمر، عن الحكم بن عتيبة، عن عبدالله بن نافع، عن علي، وقفه منصور، وشعبة في بعض الطرق إليه، ورفعه شعبة في بعض الطرق إليه

(2)

.

ورواه الأجلح الكندي، عن الحكم، عن علي، ليس بينهما أحد، ووقفه على علي

(3)

.

فالناظر في الاختلاف على الحكم إذا كان قد جعل الأوجه على إسناد الحديث، وتسمية شيخ الحكم، وهي ثلاثة، ووصل في النظر بينها إلى ترجيح ما رواه شعبة، ومنصور، وأنه عن الحكم، عن عبدالله بن نافع، عليه أن يعود إلى هذا الوجه، وينظر في الاختلاف الواقع فيه بين رواته رفعا ووقفا، ويصل إلى نتيجة فيه.

وكذلك لو كان الباحث انتهى إلى رجحان رواية الأعمش، عليه أن يعود إلى الاختلاف الواقع عليه رفعا ووقفا، ويصل إلى نتيجة فيه.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (3099)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (7494)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1442)، و «مسند أحمد» 1: 81، و «علل الدارقطني» 3:268.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (3098)، و «مسند أحمد» 1: 120، 121، و «المستدرك» 1: 350، و «سنن البيهقي» 3:381.

(3)

«الزهد» لابن المبارك حديث (731).

ص: 301

2 -

قد يكون في الوجه الراجح قبل المدار ضعف في جهة ما من جهات التضعيف، كأن يكون راويه عن المدار أو من دونه متكلما فيه، أو معروفا بالتدليس، أو يكون قد اختلف عليه فثار احتمال أن يكون قد اضطرب، ويكون الحكم برجحانه مبنيا على أنه -مع ما فيه من كلام- أحسن حالا من إسناد الوجه المرجوح إلى المدار.

وهذا كله ليس بجديد على الباحث، إذ هو قد توصل إليه، واستفاد منه حين نظره في الاختلاف على المدار، إذ النظر في الرواة المختلفين من أهم ما يقوم به الباحث للوصول إلى نتيجة في الاختلاف عن المدار، كما تقدم شرح ذلك في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب.

وكذلك الطرق إلى رواة الأوجه عن المدار، لا بد أن يكون الباحث قد فرغ منها، كما تقدم شرحه أيضا في المبحث الثاني من الفصل الثالث من هذا الباب.

والمقصود هنا أن يأخذ الباحث هذا بعين اعتباره في حكمه النهائي على الوجه الراجح إلى المدار.

ومثال ذلك هنا أن أبا بكر بن عياش روى عن الأعمش، عن عطاء، عن ابن عمر مرفوعا: «إذا تبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر

» الحديث

(1)

.

ورواه يحيى بن العلاء الرازي، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر.

سئل أبو زرعة عن هذا الاختلاف، فرجح الوجه الأول، وقال: «وهذا

(1)

«مسند أحمد» 2: 28 ، و «أطراف الغرائب» حديث (3130).

ص: 302

أشبه»

(1)

.

ولا شك في رجحان الوجه الأول، فيحيى بن العلاء هذا متروك الحديث، متهم بالوضع، وراوي الوجه الراجح أبو بكر بن عياش فوقه بكثير، غير أنه متكلم فيه من قبل حفظه، وقد تفرد به عن الأعمش، فالوجه الراجح محل نقد من هذه الجهة.

وعليه فالكلام في الإسناد قبل المدار في الوجه الراجح لا يغفله الناظر في الاختلاف، ويحمله معه ليضمه إلى ما يجده في الإسناد من المدار ومن فوقه.

3 -

ينظر الباحث بعد ذلك في المدار الذي عليه الاختلاف، درجته في نفسه، وفي شيخه، وسماعه منه، وما إلى ذلك، فالاختلافات كما تكون على الرواة الثقات، تكون أيضا على من دونهم، وينظر فيها النقاد، ويرجحون في الاختلاف، والمقصود بالترجيح أي عن المدار، فإذا عرف الراجح، وأردنا أن نصدر حكما نهائيا عليه فالمدار الآن واحد من رواته، لا بد من النظر فيه.

وهو قد نظر في المدار قبل ذلك حين نظره في الاختلاف، فهو حلقة مهمة في الوصول إلى الراجح عنه هو، وقد تقدم شرح القضايا المتعلقة بالمدار نفسه، وأثرها على الترجيح عنه في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب.

والمفترض فيه أن يكون قد فرغ من النظر في المدار وأثره على الراجح عنه في المرحلة السابقة، مع ما نظر فيه من المؤثرات الأخرى، كالرواة عن المدار، وصفة

ص: 303

روايتهم، وأدى به النظر إلى راجح ومرجوح عن المدار، فالمطلوب منه إذن في هذه المرحلة -مرحلة الحكم على الوجه الراجح- أن يستصحب ما وجده في المدار من كلام في عموم روايته، أو بخصوص شيخه الذي يروي عنه في هذا الإسناد، أو في سماعه منه، من أجل الحكم النهائي على الوجه الراجح.

والنقاد قد يميل الواحد منهم إلى الترجيح عن المدار والمدار نفسه محل نظر، فقد يكون الاضطراب منه، ولهذا ربما ذكر الناقد الاحتمالين جميعا، كما تقدم شرحه بأمثلته في المبحث الرابع من الفصل الثالث، من هذا الباب، والباحث يعرض له مثل هذا، قد يرجح في اختلاف والمدار محل نظر، وعليه حينئذ في كلامه على الوجه الراجح أن لا يغفل ما في المدار من كلام.

مثال ذلك ما رواه أبو بكر بن عياش، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب، عن أبي زرعة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي

» الحديث، فيه عدة جمل

(1)

.

ورواه ذواد بن علبة، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن ليث، عن أبي الخطاب، عن أبي زرعة، عن أبي إدريس الخولاني، عن ثوبان

(2)

.

وجاء عن ليث بن أبي سليم على أوجه أخرى بإسقاط بعض رواته وذكر بعضهم

(3)

.

(1)

«مسند أحمد» 5: 279، و «غريب الحديث» للحربي 3: 1052، و «شعب الإيمان» حديث (5115).

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1353)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 6: 549، 587.

(3)

«كشف الأستار» حديث (1353)، و «مسند ابن أبي يعلى» حديث (6715) ، و «شرح مشكل الآثار» حديث (5655 - 5656)، و «المستدرك» 4: 103 ، و «شعب الإيمان» حديث (5115).

ص: 304

سئل أبو زرعة عن الوجه الأول، فذكر الوجه الثاني، وقال:«وهذا الصحيح ، قد وصلوه، زادوا فيه رجلا»

(1)

.

فإذا ترجح لدى الناظر هذا الوجه، وأراد أن يبين حال الإسناد، فالمدار الذي هو ليث بن أبي سليم محل نقد، فهو ضعيف الحديث.

وروى أبو معاوية الضرير، عن عبدالرحمن بن إسحاق الكوفي، عن النعمان بن سعد، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لسوقا ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور

» الحديث

(2)

.

ورواه عبدالواحد بن زياد، ومحمد بن فضيل، ونصر بن إسماعيل، عن عبدالرحمن بن إسحاق، فوقفوه على علي

(3)

.

فإذا رجح الناظر في الاختلاف الوجه الموقوف عاد في النظر في إسناده إلى مدار الحديث عبدالرحمن بن إسحاق ، فهو ضعيف

(4)

.

وبناء على ما تقدم فنظر الباحث في هذه المرحلة حيث يكون المدار محل نظر، أما إذا كان المدار هو الصحابي، كأن يكون الاختلاف عليه في رفع الحديث ووقفه، أو في متن الحديث، أو زيادة صحابي بعده، فقد انتهى عنده النظر،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 304.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2550)، و «مسند أحمد» 1:156.

(3)

«مسند البزار» حديث (703)، و «تاريخ دمشق» 61: 206، و «سير أعلام النبلاء» 11:397.

(4)

وانظر أمثلة أخرى في «العلل الكبير» 1: 434، و «علل ابن أبي حاتم» (2189)، و «علل الدارقطني» 11:309.

ص: 305

والوجه الراجح قد تحددت درجته لدى الباحث من خلال نظره في الطرق المختلفة إلى الصحابي.

4 -

بعد النظر في المدار ينتقل الباحث إلى النظر في الطرق الأخرى إلى شيخ المدار، وكذلك من فوقه، إلى صحابي الحديث، مقارنا لها بإسناد الوجه الراجح عنده، خشية أن يكون فيها مخالفة للوجه الراجح عن مداره، فإن وجد فيها مخالفة للراجح عن المدار أنشأ نظرا جديدا في هذا الاختلاف، يستخدم فيه جميع ما استخدمه من قرائن النظر والموازنة في الاختلاف الذي وقع على مداره، وفرغ منه، وهي خطوة في غاية الأهمية للوصول إلى حكم نهائي على الحديث كله.

والاختلافات التي يجدها الباحث فوق مداره الأصل لا ضابط لها ولا حصر، سواء من جهة تنوعها، أو من جهة نتيجة النظر فيها مع الراجح في الاختلاف الأساس عند الباحث.

فأما التنوع فقد يكون الاختلاف على مدار الباحث في رفع ووقف، والاختلاف الذي فوقه في وصل وإرسال، أو في زيادة راو في الإسناد، أو في إبدال الإسناد كله، أو في زيادة ألفاظ، أو تغيير في متن الحديث، إلى آخر أنواع الاختلافات.

ونتيجة النظر قد تكون متوافقة مع النظر في الاختلاف على المدار الأساس، فالراجح فيه هو الراجح في الاختلاف الجديد، وقد تكون النتيجة بضد ذلك، فالراجح في الاختلاف على المدار الأساس عاد مرجوحا في الاختلاف الجديد، وقد يترجح حفظ الوجهين في الاختلاف الجديد، أو يترجح وجه من وجوه

ص: 306

الاختلاف لم يكن في الاختلاف الأول، وربما ترجح حفظ أكثر من وجه كلها لم تكن في الاختلاف الأول، وربما لم يصح شيء منها ألبتة.

ثم الاختلاف فوق طبقة المدار قد يقع في طبقة واحدة، وقد يوجد أيضا في طبقة فوقها أو أكثر.

والأئمة النقاد لا يغفلون شيئا من هذا، لكن لا يلزم -كما تقدم شرح ذلك في المبحث الأول- أن يكون نظرهم في جميع هذه الاختلافات في سياق واحد في مكان واحد، فهم يتكلمون في كل مكان بحسبه، فقد يحكم الناقد في اختلاف على مدار، وفوقه اختلافات سكت عنها هنا، وتكلم عليها -هو أو غيره- في مناسبة أخرى.

وأول ما يبدأ به الباحث من الاختلافات العليا ما استفاد منه حين نظره في الاختلاف على مداره، فقد يكون أكد ترجيحه للوجه الراجح بمتابعة للمدار أو من فوقه عليه، ويكون في هذه المتابعة نفسها مخالفة للوجه الراجح من جهة أخرى، فالاستعانة بهذه المتابعة تم وفق ما يعرف بالترجيح بالقدر المشترك، وقد مضى شرح ذلك في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب.

ومن أمثلة ذلك حديث عمر بن الخطاب: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلئ شعرا» ، وقد تقدم هناك بيان الاختلاف فيه على إسماعيل بن أبي خالد، حيث قيل عنه، عن عمرو بن حريث، عن عمر مرفوعا، وقيل عنه، عن عمرو بن حريث ، عن عمر موقوفا، والراجح عن إسماعيل وقف الحديث، وتأيد الوجه الراجح برواية عبدالملك بن عمير، عن عمرو بن حريث، عن سعيد

ص: 307

بن زيد، عن عمر موقوفا.

فهذه المتابعة للمدار -وهو إسماعيل بن أبي خالد- على الوجه الراجح عنه وهو الوقف، فيها مخالفة لإسماعيل بزيادة سعيد بن زيد في الإسناد، فلا بد من النظر بين هاتين الروايتين -ذكر سعيد وإسقاطه- لمعرفة المحفوظ منهما، والذي يظهر أنهما جميعا محفوظتان عنه، وأنه تارة يرسله عن عمر، وتارة يذكر الواسطة بينهما.

وكذلك الحديث الماضي هناك أيضا، وهو ما رواه سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجد تمرا فليفطر عليه

» الحديث.

وقد خالف سعيد بن عامر الجماعة من أصحاب شعبة، حيث رووه عنه، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر، وبعضهم

-وهو مرجوح عن شعبة- ذكر الرباب بنت صليع بين حفصة، وسلمان.

وقول سعيد بن عامر مرجوح، فالصواب رواية الجماعة عن شعبة، وقد أمكن تأييد الوجه الراجح عن شعبة بمتابعات كثيرة لشعبة، وفي رواتها حفاظ ثقات، منهم الثوري، وابن عيينة، وحماد بن زيد، رووه عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر.

ورواه كذلك عن حفصة بنت سيرين: عبدالله بن عون، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء، إلا أن هشام بن حسان اختلف عليه في ذكر الرباب وحذفها، وفي رفع الحديث ووقفه، وخالد الحذاء لم يذكر الرباب.

ص: 308

فاستفدنا من كل هذا أن الحديث معروف عن سلمان بن عامر، وأما من حديث أنس فلا يعرف إلا من رواية سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس، فدل على خطأ سعيد، وقد تقدم شرح هذا كله هناك.

والشاهد هنا أن حديث سلمان بن عامر لم ينته النظر فيه، فرواية شعبة الراجحة عنه، وهي روايته للحديث عن عاصم الأحول، عن حفصة، عن سلمان بن عامر، لا بد من النظر بينها وبين ما رواه الجماعة عن عاصم، بذكر الرباب بنت صليع، بين حفصة، وسلمان.

قال الترمذي في النظر في الاختلاف على شعبة، مرجحا رواية الجماعة عنه على رواية سعيد بن عامر، ثم في النظر في الاختلاف الذي فوقه على عاصم الأحول، بذكر الرباب وحذفها، مرجحا رواية الجماعة بذكرها على رواية شعبة بحذفها، قال بعد أن أخرج رواية سعيد بن عامر: «حديث أنس لا نعلم رواه عن شعبة مثل هذا غير سعيد بن عامر، وهو حديث غير محفوظ، لا نعلم له أصلا من حديث عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس، وقد روى أصحاب شعبة هذا الحديث عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصح من حديث سعيد بن عامر.

وهكذا رووا عن شعبة، عن عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان، ولم يذكر فيه شعبة: عن الرباب، والصحيح ما رواه سفيان الثوري، وابن عيينة، وغير واحد، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر.

ص: 309

وابن عون يقول: عن أم الرائح بنت صليع، عن سلمان بن عامر، والرباب هي أم الرائح»

(1)

.

ثم بعد ذلك هناك نظر آخر في الحديث، في طبقة أعلى، فعاصم الأحول الذي ترجح عنه ذكر الرباب، قد شاركه في هذا الحديث جماعة، يروونه عن حفصة بنت سيرين، وفي رواياتهم ذكر الرباب وحذفها، فلا بد من معرفة الراجح عن حفصة أيضا.

وأهم من ذلك أن هشام بن حسان قد جاء عنه وقف الحديث، وفي بعض الروايات عنه بعد أن يرويه موقوفا:«وحدثني عاصم الأحول أن حفصة ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

، فلا بد من النظر أيضا في الاختلاف على حفصة في رفعه ووقفه.

ويلي ذلك أن ينظر الباحث في طرق أخرى لم ترد عنده في النظر في الاختلاف على مداره، فلم يستخدم فيها الترجيح بالقدر المشترك، وهذا هو الغالب، وأمثلته كثيرة جدا.

فمن ذلك أن جرير بن حازم روى عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة

(1)

«سنن الترمذي» حديث (694)، لكن وقع في النسخة: «وقد روى أصحاب شعبة هذا الحديث عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر

»، وجملة (عن الرباب) لا يستقيم بذكرها المعنى، فإن شعبة لا يذكر فيه (عن الرباب) كما نص عليه الترمذي بعد ذلك، وقد نص عليه أيضا مختصرا في كلامه على الحديث (658)، وانظر:«تحفة الأشراف» 1: 276.

(2)

«سنن النسائي» حديث (3326).

ص: 310

قالت: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا طعام فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوما مكانه يوما آخر»

(1)

.

واستنكر النقاد -كأحمد، وعلي بن المديني، ومسلم، والنسائي- رواية جرير بن حازم هذه، فالصواب ما رواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري مرسلا

(2)

.

فإذا ارتقى الباحث إلى الطرق عن الزهري وجد فيها من يوافق يحيى بن سعيد على الإرسال، مثل مالك، ومعمر، ويونس بن يزيد، وعبيدالله بن عمر العمري، وغيرهم، وفيها من يرويه عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، مثل جعفر بن برقان، وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وعبدالله بن عمر العمري، وغيرهم، بل يروى أيضا عن يحيى بن سعيد

(3)

.

فهذا اختلاف جديد على الزهري الموجود في الإسناد الراجح في الاختلاف الأول، لا بد من النظر فيه.

(1)

«سنن النسائي» حديث (3299)، و «شرح معاني الآثار» 2: 109، و «صحيح ابن حبان» حديث (5317).

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (3282)(طبعة مؤسسة الرسالة)، و «شرح معاني الآثار» 2: 109، و «سنن البيهقي» 4: 281، و «شرح علل الترمذي» 2:786.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (735)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3291 - 3298)، و «موطأ مالك» 1: 306، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (7790)، و «مسند أبي يعلى» حديث (283)، و «شرح معاني الآثار» 2: 108، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 227، 265، و «سنن البيهقي» 4: 280، و «التمهيد» 12:68.

ص: 311

وقد رجح النقاد أيضا مرسل الزهري، وخطؤوا من جعله عنه، عن عروة، عن عائشة، منهم أحمد، وابن المديني، وابن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، والترمذي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، وغيرهم

(1)

.

وروى هشام بن عروة حديث (الرضاع)، واختلف فيه عليه وعلى من دونه على أوجه كثيرة، من أشهرها ما رواه الجماعة، ومنهم الثوري، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وعبدالله بن نمير، وعبدة بن سليمان، وحماد بن سلمة، وغيرهم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة ولا المصتان»

(2)

.

ومن هذه الأوجه أيضا ما رواه محمد بن دينار البصري، عن هشام، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن أبيه الزبير

(3)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 250، 251، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» 3: 260 ، و «معرفة الرجال» 2: 182، و «سنن الترمذي» حديث (735)، و «العلل الكبير» 1: 351، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3280 - 3281) طبعة مؤسسة الرسالة، و «المعرفة والتاريخ» 2: 740، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 277، 265، و «سنن البيهقي» 4:280.

(2)

«سنن النسائي» حديث (3309)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5456)، (5458)، (5460 - 5461)، (5465 - 5467)، و «مسند أحمد» 4: 4، 5، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (13925)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 4: 285، و «صحيح ابن حبان» حديث (4225)، (4227)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (4557 - 4560)، و «الضعفاء الكبير» 4: 63، و «سنن البيهقي» 7:454.

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (5457)، و «العلل الكبير» 1: 453، و «مسند أبي يعلى» حديث (688)، و «صحيح ابن حبان» حديث (4226).

ص: 312

ورواه أيوب السختياني -في المشهور عنه- عن ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

سأل الترمذي شيخه البخاري عن رواية محمد بن دينار، عن هشام بن عروة، وعن رواية ابن أبي مليكة، فقال:«الصحيح: عن ابن الزبير، عن عائشة، وحديث محمد بن دينار أخطأ فيه، وزاد فيه: عن الزبير، إنما هو: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

فرجح البخاري في الاختلاف على هشام بن عروة رواية الجماعة، وهو جعله عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الله بن الزبير، غير أن هذا الوجه عاد مرجوحا في الاختلاف الأعلى، وهو الاختلاف على عبدالله بن الزبير، فالراجح عنه رواية ابن أبي مليكة بزيادة ذكر عائشة.

وكذلك صنع الترمذي، فقد قال بعد أن أخرج حديث ابن أبي مليكة: «وروى غير واحد هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم

، وروى محمد بن دينار، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن النبي عليه الصلاة والسلام، وزاد فيه محمد بن دينار: عن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير محفوظ، والصحيح عند أهل الحديث حديث

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1450)، و «سنن أبي داود» حديث (2063)، و «سنن الترمذي» حديث (1150)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1941)، و «سنن النسائي» حديث (3310)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (5450)، و «مسند أحمد» 6: 31، 95، 216.

(2)

«العلل الكبير» 1: 453، وانظر:«سنن الترمذي» حديث (1150)، وفي النسخة سقط.

ص: 313

ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن الزبير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وروى جماعة من أصحاب هشام بن عروة، منهم يحيى بن سعيد القطان، وعبدة بن سليمان، وأبو أسامة حماد بن أسامة، ووكيع، وغيرهم، عن هشام، عن أبيه، أن زيد بن ثابت، أو أبا أيوب -هكذا بالشك- قال لمروان:«ألم أرك قصرت سجدتي المغرب؟ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالأعراف» ، ومنهم من لم يذكر قصة مروان

(2)

.

ورواه محاضر بن المورع، عن هشام، عن أبيه، عن زيد بن ثابت وحده بالمرفوع دون قصة مروان، وكذلك روي عن الليث بن سعد، عن هشام

(3)

.

ورواه محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، عن هشام، عن أبيه، عن أبي أيوب، وزيد بن ثابت -جميعا-

(4)

.

ورواه أبو ضمرة، وابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، قال: قال لي زيد بن ثابت: «ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل

» الحديث

(5)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (1150).

(2)

«مسند أحمد» 5: 185، 418، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 369، و «صحيح ابن خزيمة» حديث، (518)، (540)، و «شرح معاني الآثار» 1:201.

(3)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (517)، و «المعجم الكبير» حديث (4825)، و «المستدرك» 1:237.

(4)

«العلل الكبير» 1: 231.

(5)

«مسند أحمد» 5: 187، و «التتبع» ص 467.

ص: 314

ورواه شعيب بن أبي حمزة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة

(1)

.

وتابع هشام بن عروة على هذا الحديث اثنان، فرواه ابن أبي مليكة، عن عروة، عن مروان، عن زيد بن ثابت، كرواية أبي ضمرة، وابن أبي الزناد، عن هشام

(2)

.

ورواه أبو الأسود يتيم عروة، عن عروة، كرواية محاضر، والليث بن سعد، عن هشام، جعله عن عروة، عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان بن الحكم

(3)

.

سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث، وذكر له رواية الطفاوي بالجمع بينهما، فقال:«الصحيح: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي أيوب، أو زيد بن ثابت، هشام بن عروة يشك في هذا الحديث» ، ثم قال الترمذي:«وصحح هذا الحديث عن زيد بن ثابت، رواه ابن أبي مليكة، عن عروة، عن مروان بن الحكم، عن زيد بن ثابت»

(4)

.

وكذا صنع الدارقطني، ضعف رواية الطفاوي، عن هشام بن عروة، بالجمع

(1)

«سنن النسائي» حديث (991).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (764)، و «سنن أبي داود» حديث (812)، و «سنن النسائي» حديث (990)، و «مسند أحمد» 5: 188، 189.

(3)

«سنن النسائي» حديث (988)، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (541)، و «شرح معاني الآثار» 1: 211، و «صحيح ابن حبان» حديث (1836)، و «المعجم الكبير» حديث (4813)، (2827).

(4)

«العلل الكبير» 1: 231.

ص: 315

بين زيد بن ثابت، وأبي أيوب، وأن المحفوظ رواية الجماعة عن هشام بالشك، ثم ذكر أن المحفوظ في النهاية أنه عن عروة، عن مروان، عن زيد

(1)

.

فالصحيح عن هشام بن عروة إذن أنه يرويه عن أبيه بالشك، عن أبي أيوب، أو زيد بن ثابت، وبدون ذكر مروان بن الحكم في الإسناد وكل من رواه عنه على غير هذه الصفة يخطئ عليه، لكن الصحيح عن عروة غير هذا، فالصحيح عنه أنه يرويه عن مروان بن الحكم، عن زيد بن ثابت، بدون شك، وبذكر مروان في الإسناد.

وروى أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، وعاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في المسح على الخفين

(2)

.

فأما روايته عن الأعمش فخالفه فيها الجماعة من أصحاب الأعمش

-ومنهم الثوري، وشعبة، ويحيى القطان، وأبو معاوية، وغيرهم-، فرووه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، وفيه قصة بوله صلى الله عليه وسلم قائما

(3)

.

وأما روايته عن عاصم فوافقه عليها شعبة، وحماد بن سلمة، وتابع عاصما

(1)

«علل الدارقطني» 6: 127.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 13.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (224)، و «صحيح مسلم» حديث (273)، و «سنن أبي داود» حديث (23)، و «سنن الترمذي» حديث (13)، و «سنن النسائي» حديث (18)، (26 - 28)، و «سنن ابن ماجه» حديث (305)، (544)، و «مسند أحمد» 5: 382، 402، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (751).

ص: 316

عليها حماد بن أبي سليمان، وفي هاتين الروايتين قصة البول فقط

(1)

.

ورواه منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، كرواية الجماعة عن الأعمش، إلا أنه اكتفى بقصة البول

(2)

.

فهنا اختلاف على الأعمش، ثم اختلاف على أبي وائل، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة، عن الاختلاف على الأعمش، فاتفقا جميعا على أن أبا بكر بن عياش أخطأ في حديث الأعمش، وأن الصواب جعله عنه، عن أبي وائل، عن حذيفة.

ثم سألهما في الاختلاف الأعلى، وذكر لهما رواية الأعمش، وعاصم، فرجح أبو حاتم رواية الأعمش، ورجح أبو زرعة رواية عاصم

(3)

.

وعكس ذلك من هذين الإمامين في حديث آخر عن الأعمش أيضا، اختلفا في الترجيح في الاختلاف الأدنى، ثم اتفقا في الاختلاف الذي أعلى منه.

فقد روى الجماعة من أصحاب الأعمش -ومنهم أبو معاوية، وعبدالله بن نمير، وعيسى بن يونس، وأبو إسحاق الفزاري، وغيرهم- عن الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار»

(4)

.

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (306)، و «مسند أحمد» 4:246.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (225 - 226)، (2471)، و «صحيح مسلم» حديث (273)، و «سنن ابن ماجه» حديث (306)، و «مسند أحمد» 5: 283، 402.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 13.

(4)

«صحيح مسلم» حديث (275)، و «سنن النسائي» حديث (104)، و «سنن ابن ماجه» حديث (561)، و «مسند أحمد» 6: 12، 14، و «مسند أبي عوانة» 1: 260، و «سنن البيهقي» 1:271.

ص: 317

ورواه زائدة بن قدامة، وحفص بن غياث، وعمار بن رزيق، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، عن بلال -هكذا بذكر البراء مكان كعب بن عجرة-

(1)

.

ورواه سفيان الثوري، وشريك، عن الأعمش، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن بلال -هكذا بلا واسطة-

(2)

.

ورواه شعبة، وزيد بن أبي أنيسة، وأبان بن تغلب، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن بلال -هكذا أيضا بلا واسطة-

(3)

.

ورواه ليث بن أبي سليم، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال، كالرواية الأولى عن الأعمش، وزاد ليث في متنه ذكر

(1)

«سنن النسائي» حديث (105)، و «مسند أحمد» 6: 15، و «مسند البزار» حديث (1359 - 1360).

(2)

«مسند أحمد» 6: 13، 15، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 16، وسقط من نسخة «المسند» في الموضع الأول ذكر الأعمش، فجاء من رواية سفيان، عن الحكم، والظاهر أن هذا خطأ قديم، فقد ذكره هكذا أيضا ابن حجر في «أطراف المسند» 1: 641، وانظر:«المسند» طبعة مؤسسة الرسالة 39: 328 حديث (23898).

(3)

«سنن النسائي» حديث (106)، و «مسند أحمد» 6: 13، 14، 15، و «مسند الحميدي» حديث (150)، و «المعجم الكبير» حديث (1090).

ص: 318

أبي بكر، وعمر

(1)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة، عن هذا الاختلاف، قال ابن أبي حاتم: «قلت لهما: فأي هذا الصحيح؟ قال أبي: الصحيح من حديث الأعمش: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال -بلا كعب-.

قلت لأبي: فمن غير حديث الأعمش؟ قال: الصحيح ما يقول شعبة، وأبان بن تغلب، وزيد بن أبي أنيسة أيضا: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال -بلا كعب-.

قال أبي: الثوري، وشعبة، أحفظهم

وقال أبو زرعة: الصحيح حديث الأعمش، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، عن بلال.

قلت لأبي زرعة: أليس شعبة، وأبان، وزيد بن أبي أنيسة، يقولون: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن بلال -بلا كعب-؟ قال أبو زرعة: الأعمش حافظ، وأبو معاوية، وعيسى بن يونس، وابن نمير، وهؤلاء، قد حفظوا عنه، ومن غير حديث الأعمش الصحيح: عن ابن أبي ليلى، عن بلال -بلا كعب-، ورواه منصور، وشعبة، وزيد بن أبي أنيسة، وغير واحد، إنما قلت: من حديث الأعمش»

(2)

.

فاتفق الإمامان على أن الراجح عن الحكم روايته للحديث عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن بلال، بدون كعب بن عجرة، ويرى أبو حاتم أن هذا هو الراجح

(1)

«مصنف ابن أبي شيبة» 1: 184، و «المعجم الكبير» حديث (1062).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 16.

ص: 319

أيضا في الاختلاف الأدنى على الأعمش ، وأما أبو زرعة فيرى أن المحفوظ عن الأعمش زيادة كعب في الإسناد.

وروى همام بن يحيى، عن محمد بن جحادة، عن أبي مسعر، عن سعيد بن جبير، عن أبي مسعود البدري، قال:«لا صلاة قبل خروج الإمام يوم العيد»

(1)

.

ورواه عبدالوارث بن سعيد، عن محمد بن جحادة، عن أبي معشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي مسعود.

سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة، عن هذا الاختلاف، فاتفقا على أن رواية عبدالوارث أشبه، وذكر أبو حاتم أنه لا يعرف أبا مسعر، وأما أبو معشر فهو زياد بن كليب صاحب إبراهيم النخعي

(2)

.

ثم انتقل الإمامان إلى اختلاف أعلى، فقد رواه شعبة، عن أبي المعلى العطار، عن سعيد بن جبير، فجعله عن ابن عباس، مكان أبي مسعود البدري

(3)

، فتردد أبو حاتم، وجزم أبو زرعة بأنهما حديثان، قال ابن أبي حاتم:«قال أبي: فلا أدري حفظ أبو المعلى، أو الخبران صحيحان، وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث آخر، هذا عن ابن عباس، وذاك عن أبي مسعود»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 6: 256 عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، لكن فيه:«عن أبي معشر» .

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 119، 198.

(3)

أخرجه البخاري قبل حديث (989) معلقا عن أبي المعلى العطار.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 198، وانظر أمثلة أخرى في:«علل ابن أبي حاتم» (375)، (1027)، (1135)، (2688)، و «علل الدارقطني» 6: 319، 10: 168، 12:247.

ص: 320

والنظر في الاختلاف الأعلى فوق مدار الباحث ليس بالأمر اليسير في كثير من الأحيان، فالمتابعون للمدار أو من فوقه إذا وقع منهم أو من أحدهم مخالفة للراجح عن المدار، عاد الباحث بسببه إلى نقطة البداية، فأصبح أمامه اختلاف جديد قد يكون أقوى وأشد وعورة من الاختلاف على مداره الأساس، إذ عليه دراسة المتابعين للمدار أو من فوقه، ودراسة الطرق إليهم، وقد يقع عليهم أو على بعضهم اختلاف نازل، من جنس الاختلاف على المدار الأساس، أو مغاير له، فيلزم الباحث حينئذ تحرير هذا الاختلاف النازل، والوصول فيه إلى نتيجة، فإذا فرغ الباحث من ذلك كله عاد إلى النظر بين روايات هؤلاء المتابعين، وبين ما ترجح عن المدار الاساس عنده.

ومثل هذه القضية أنبه عليها ليدرك الباحث مدى صعوبة التصدي لتصحيح الحديث وتضعيفه، والحاجة إلى نفس طويل في بعض الأحاديث، والباحث إذا كان نفسه قصيرا وعالج قضيته الأساس، ظن أنه في حِلّ من تناول ما أمامه من قضايا لا مناص له من معالجتها، فيطلق الكلام على عواهنه، ويصل إلى نتائج حاسمة لم يحكم النظر فيها، وسيأتي لهذه القضية نظائر في مباحث لاحقة.

ومن الأمثلة على ذلك حديث سلمان بن عامر المتقدم آنفا، فإذا كان مدار الباحث الأساس هو شعبة، فسينتقل بعد تحرير الراجح عن مداره إلى المتابعين لشعبة، وقد خالفوا شعبة في الإسناد، فزادوا فيه الرباب بنت صليع، وعليه فسينظر الباحث في هذا الاختلاف، فإذا فرغ منه انتقل إلى المتابعين لشيخهم عاصم الأحول، وهم: ابن عون، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء، وسيجد أن

ص: 321

منهم من اختلف عليه في ذكر الرباب وحذفها، ومنهم من اختلف عليه في رفع الحديث ووقفه، فالباحث قبل أن ينظر بين روايتهم ورواية عاصم الأحول ملزم بتحرير الاختلاف عليهم، من جهة ذكر الرباب، ومن جهة الرفع والوقف، فإذا حرر ذلك عاد إلى الموازنة بين ما تحرر عن كل منهم، وبين ما صفى له عن عاصم الأحول، وهو الموجود في إسناده الأساس.

ومن أمثلة ذلك أيضا حديث جابر مرفوعا: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة

»، الماضي في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب، وهو هناك مثال لاستخدام البخاري للترجيح بالقدر المشترك، في نظره في الاختلاف على عمرو بن دينار في رفع الحديث ووقفه.

ولما فرغ البخاري من النظر في رواية عمرو بن دينار ورجح وقف الحديث مع الانقطاع في إسناده، انتقل إلى الرويات عن جابر، فذكر رواية حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد وقع فيها اختلاف على حماد بن سلمة، فاحتاج إلى معالجته، ورجح فيها أيضا وقف الحديث على جابر، وسيأتي قريبا في المبحث الثالث سبب ترجيح البخاري لرواية الوقف.

وروى المسعودي -وهو صدوق اختلط- عن محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله

» الحديث.

فرواه الجماعة من أصحاب المسعودي -ومنهم ابن المبارك، ويزيد بن هارون،

ص: 322

وأبو داود الطيالسي، وعبدالله بن يزيد المقرئ، وغيرهم- عن المسعودي مرفوعا

(1)

.

ورواه وكيع، ويونس بن بكير، عن المسعودي موقوفا على أبي هريرة

(2)

.

وقد تابع المسعودي ثلاثة رووه عن محمد بن عبدالرحمن: مسعر بن كدام، وسفيان بن عيينة، وعمر بن علي المقدمي، إلا أن مسعرا اختلف عليه في رفع الحديث ووقفه، فرفعه عنه سفيان بن عيينة، ووقفه عنه وكيع، ومحمد بن بشر العبدي، وجعفر بن عون.

وابن عيينة اختلف عليه أيضا، فمرة يرويه عن محمد بن عبدالرحمن مباشرة، وهذه رواية يعقوب بن حميد، ومرة يروي عنه بواسطة مسعر، وهذه رواية الحميدي

(3)

.

فالباحث إذا فرغ من مداره الأساس -وهو المسعودي- وخلص إلى أن الراجح عنه رفع الحديث -مثلا- ينتقل إلى رواية المتابعين له، وسيجد أن مسعرا قد خالفه في بعض الروايات عنه وهي المشهورة عن مسعر فوقف الحديث، فارتفع

(1)

«سنن الترمذي» حديث (1633)، (2311)، و «سنن النسائي» حديث (3108)، و «مسند أحمد» 2: 505، و «مسند الطيالسي» حديث (2565)، و «المستدرك» 4: 260، و «شرح السنة» حديث (2620)، (4168).

(2)

«الزهد» لوكيع حديث (23)، و «الزهد» لهناد بن السري حديث (460).

(3)

«سنن النسائي» حديث (3107)، و «الزهد» لوكيع حديث (23)، و «مصنف ابن أبي شيبة» حديث (16557)، و «الترغيب في فضائل الأعمال» لابن شاهين حديث (224)، و «صحيح ابن حبان» حديث (4607).

ص: 323

المدار الآن إلى شيخ المسعودي، وهو محمد بن عبدالرحمن، فينشئ الباحث الآن نظرا جديدا، فيقوم بدراسة هؤلاء الثلاثة الجدد، مسعر، وسفيان بن عيينة، وعمر بن علي، يحرر درجتهم في أنفسهم، ويدرس الطرق إليهم، ومن كان عليه اختلاف منهم -وهما مسعر، وسفيان بن عيينة- يقوم بدراسة هذا الاختلاف، ويصل فيه إلى نتيجة، ثم يخلص إلى نتيجة نهائية في الاختلاف على محمد بن عبدالرحمن.

وعمر بن علي المقدمي شديد التدليس، مشهور به، وأما سفيان بن عيينة فالراجح عنه أنه يرويه عن محمد بن عبدالرحمن بواسطة مسعر، وذلك لجلالة راويه عنه وهو الحميدي، فهو من أخص أصحاب ابن عيينة، وأما راوي الوجه الآخر، وهو يعقوب بن حميد، فضعيف.

وإذ رجع الأمر إلى رواية مسعر فالأكثرون وقفوه عنه، وهم وكيع، ومحمد بن بشر، وجعفر بن عون، في مقابل رواية سفيان بن عيينة المرفوعة، فالراجح عن مسعر وقف الحديث.

وحينئذ فتكون المقارنة بين المسعودي الذي ترجح عنه الرفع، ومسعر الذي ترجح عنه الوقف، ولا شك في تقديم مسعر، وذلك لجلالته وإتقانه، فكان يسمى لشدة إتقانه بالمصحف.

والأمثلة السابقة توضح أن نتيجة النظر في الاختلاف الأعلى قد تكون متوافقة مع الترجيح في الاختلاف الأساس، فالراجح هنا هو الراجح هناك، فيكون الترجيح في الاختلاف الأساس قد ازداد قوة بما ترجح عن الراوي

ص: 324

الأعلى الذي وقع عليه اختلاف، وقد تقدم في مبحث مستقل وهو المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، أن الباحث يستعين بالمتابعات لمداره ومن فوقه لتأكيد ترجيحه في الاختلاف الذي ينظر فيه.

فإذا نظر في المتابعات لمداره أو من فوقه ووجد فيها اختلافا، ونظر فيه، وانتهى إلى ترجيح متوافق مع ترجيحه في الاختلاف على مداره، صارت هذه متابعات للوجه الراجح، وكأن الخلاف فيها لم يوجد.

و‌

‌قد يكون المرجوح في الاختلاف الأساس هو الراجح في الاختلاف الأعلى

، أو يترجح وجه جديد لم يكن أصلا في الاختلاف الأساس.

والعبرة في كل هذا بالراجح في الاختلاف الأعلى فهو الذي يستمر الباحث في النظر فيه، ويدرس باقي إسناده، كما سيأتي في الفقرة الخامسة، وأما الوجه المرجوح فيتعامل معه على ما مضى في الحديث عن الوجه المرجوح في الاختلاف الأساس.

ويوصى الباحث هنا بالتأكد من تطابق نوع الاختلاف على مداره الأساس، مع الاختلاف في الطبقة العليا، إذا أراد أن يرجح به، فإنه إذا لم يكن متطابقا في النوع، فلا يستعان به في الترجيح بإطلاق، وهذا أمر قد يفوت على الباحث، خاصة في حال وجود نوعين من الاختلافات على المدار الأساس، والترجيح في الطبقة العليا موافق لأحد النوعين، لكن ليس هو الذي ينظر فيه الباحث، وهذا من المواضع الدقيقة في معالجة الاختلافات.

ص: 325

مثال ذلك أن محمد بن عوف الحمصي روى عن الهيثم بن جميل، عن عثمان بن واقد، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عن أبي بكر الصديق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة سيئ الملكة

» الحديث.

ورواه سعدان بن يزيد البزاز، عن الهيثم بن جميل، عن عثمان بن مقسم، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب مرسلا

(1)

.

ذكر لأحد النقاد رواية محمد بن عوف، فقال: «أخطأ من قال في هذا الحديث: عثمان بن واقد، إنما هو عثمان بن مقسم البُريّ

».

فالمدار في هذا الاختلاف على الهيثم بن جميل، في تسمية شيخه، هل هو عثمان بن واقد، أو هو عثمان بن مقسم؟ .

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، وكلام الناقد عليه، ووجد له طرقا أخرى إلى فرقد السبخي، فرواه عنه جماعة -منهم همام بن يحيى- عن مرة الطيب، عن أبي بكر

(2)

، ورواه معمر عنه، عن مرة الطيب مرسلا

(3)

.

ورجح الباحث في الاختلاف على الهيثم بن جميل ما رجحه الناقد، وهو أن شيخه عثمان بن مقسم، ولما كانت الرواية التي وقف عليها الباحث مرسلة، قال في إحدى قرائن الترجيح: «روى الحديث عن فرقد: عثمان بن مقسم، وهو وإن

(1)

رواية سعدان أخرجها الخرائطي في «مكارم الأخلاق» حديث (423).

(2)

«سنن الترمذي» حديث (1941) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (3691)، و «مسند أحمد» 1: 4 ،7، 12، و «الكامل» 6:2053.

(3)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (20993).

ص: 326

كان ضعيفا إلا أنه قد تابعه معمر، عن فرقد، عن مرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ومعمر مقدم على من رواه عن فرقد موصولا، فإنهم وإن كانوا أربعة فإن معمرا يفوقهم في المرتبة».

كذا صنع الباحث، لم يحكم النظر في الاختلاف على فرقد وصلا وإرسالا، ففرقد السبخي ضعيف جدا، والاضطراب منه، والذين رووه عنه موصولا لم يخطئوا عليه، ولو افترضنا أن الراجح عن فرقد هو المرسل لم يصح الترجيح به في الاختلاف على الهيثم بن جميل في تسمية شيخه.

فصنيعه فيه خلط شديد بين النظر في الاختلاف على الهيثم بن جميل في تسمية شيخه، وبين الاختلاف على فرقد وصلا وإرسالا.

وفي بعض الأحاديث تكون نتيجة النظر في الاختلاف الأساس رجحان وجه واحد عن المدار، فإذا انتقل الباحث إلى الاختلاف الأعلى ترجح عنده حفظ وجهين، وكثيرا ما يكون أحد الوجهين لم يمر أصلا على المدار الأساس، فهو وجه جديد.

فإذا وقع هذا له لم يعد ينظر في راجح ومرجوح بالنسبة لهذين الوجهين، فكلاهما محفوظ، وليس عنده وجه راجح، وعليه فطريقة النظر في هذين الوجهين لا تدخل معنا في هذا المبحث، إذ هي حالة ليس فيها وجه واحد راجح، وسيأتي كيفية النظر في حال وجود وجهين راجحين أو أكثر في المبحث التالي.

ومن أمثلة وجود وجهين راجحين عن مدار أعلى ما رواه المعتمر بن

ص: 327

سليمان، عن أبيه سليمان بن طرخان، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي بن أبي طالب قال:«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة» ، وقال قيس بن عباد:«وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة -أو أبوعبيدة- بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة»

(1)

.

ورواه يزيد بن هارون، وهشيم بن بشير، وعيسى بن يونس، وحماد بن مسعدة، عن سليمان التيمي به، فذكروا قول قيس بن عباد في نزول الآية، دون قول علي

(2)

.

ورواه عبدالوهاب بن عطاء، ومروان بن معاوية، وعبثر بن القاسم، وغيرهم، عن سليمان التيمي، فذكروا قول علي، دون قول قيس بن عباد.

وهذه الأوجه ليس بينها اختلاف حقيقي، فمنهم من جمع بين النصين، ومنهم من اقتصر على أحدهما.

وقد رواه يوسف بن يعقوب الضبعي، وعون بن كهمس، وأبو جعفر الرازي، عن سليمان التيمي، وجعلوا قصة نزول الآية من قول علي، قال: «فينا نزلت هذه الآية

»

(3)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (3965)، (4744)، و «دلائل النبوة» 3:73.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» حديث (1855)، و «شرح مشكل الآثار» 4: 364، و «علل الدارقطني» 4: 101، و «دلائل النبوة» 3: 73، و «فتح الباري» 8:44.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (3967)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8650)، (11342)،

و«شرح مشكل الآثار» 4: 360، و «الإيمان» حديث (263)، و «المستدرك» 2:368.

ص: 328

والراجح قول من جعلها من قول قيس بن عباد مرسلة، فإن المعتمر بن سليمان، ويزيد بن هارون، وهشيم، وعيسى بن يونس، وحماد بن مسعدة، كل واحد منهم فوق الثلاثة الذي وصلوا الحديث، فجعلوه من قول علي، يضاف إلى ذلك أن المعتمر بن سليمان ضبطه عن والده، ففصل قول علي من قول قيس بن عباد.

فهذا هو النظر في الاختلاف على المدار الأساس، وهو سليمان التيمي.

وقد تابع سليمان التيمي في رواية قصة الآية أبو هاشم الرماني الواسطي، فرواه عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، لكن اختلف عليه أيضا في قائل هذه الجملة في نزول الآية، فقيل عنه، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي، وقيل عنه، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي ذر، وقيل عنه، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد مرسلا، وقيل عنه، عن أبي مجلز مرسلا

(1)

.

والراجح في الاختلاف على أبي هاشم هو جعله عن أبي ذر، فهذا هو الذي رواه عنه الجماعة، ومنهم سفيان الثوري، وشعبة، وهشيم بن بشير، وغيرهم، وفي روايتهم ما يدل على حفظ ذكر أبي ذر، ففيها قول قيس بن عباد: «سمعت

(1)

«صحيح البخاري» حديث (3966)، (3968 - 3969)، (4743)، و «صحيح مسلم» حديث (3033)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8023)، (8648 - 8649)، (11343)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2835)، و «مسند الطيالسي» حديث (483)، و «تفسير الطبري» 17: 132، و «المستدرك» 2: 368 و «هدي الساري» ص 372.

ص: 329

أبا ذر رضي الله عنه يقسم: نزلت هؤلاء الآيات في هؤلاء الستة

».

وهذه النتيجة في تحرير الاختلاف على سليمان التيمي، ثم على أبي مجلز، طريقة البخاري، والبزار، فيما يظهر من عرضهما للاختلاف حين أخرجا الحديث، وكذلك نص عليها الدارقطني في «العلل» .

وذهب الدارقطني في «التتبع» إلى القول باضطراب الحديث، بعد أن ساق بعض أوجه الاختلاف فيه، وقوله الذي وافق فيه البخاري، والبزار أولى، فالقول بحفظ وجهين عن قيس بن عباد ممكن جدا بلا تكلف، فسليمان التيمي، وأبي هاشم الرماني، ترجح عن كل واحد منهما بقوة وجه واحد، والذي يظهر أن الوجهين محفوظان عن أبي مجلز، بالنظر إلى ثقة رواييهما، وجلالتهما، وبالنظر كذلك إلى صفة روايتهما، ففي رواية أبي هاشم، عن أبي مجلز قول قيس بن عباد: سمعت أبا ذر يقسم أن هذه الآية نزلت فيهم، فهذا يدل على أن ذكر أبي ذر محفوظ، وأما رواية سليمان فإن قيس بن عباد يذكر لأبي مجلز قول علي:«أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة» ، ثم ذكر قيس قصة نزول الآية مرسلة، لأنه لم يسمع ذلك من علي، وإنما سمعها من أبي ذر

(1)

.

والشاهد هنا أن الذي ترجح في الاختلاف الأساس -وهو الاختلاف على سليمان التيمي- وجه واحد وهو الإرسال، ثم ترجح في الاختلاف الأعلى -وهو

(1)

انظر: «علل الدارقطني» 4: 100 - 101، و «التتبع» ص 474، و «هدي الساري» ص 372، ورسالة «الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» حديث (25).

ص: 330

على أبي مجلز- وجهان، الإرسال، وجعله عن أبي ذر، وإذا ترجح عند الباحث في النهاية حفظ وجهين أو أكثر فهذا له نظر خاص، سيأتي -كما أسلفت- في المبحث التالي.

وأعود الآن مرة أخرى إلى التأكيد على الباحث إذا فرغ من النظر في اختلافه الأساس وترجح لديه وجه واحد أن يقوم بالنظر في الطرق الأخرى إلى شيخ المدار، ومن فوقه، قبل أن يصدر حكمه على إسناد الوجه الراجح، وذلك خشية أن يكون المدار أو من فوقه قد خولف، فيلزمه حينئذ النظر في الاختلاف الجديد، فإذا لم يفعل ذلك خرج إلى المنهج الآخر الذي لا ينظر في الاختلاف، واعتماده على الأسانيد مفردة، وصار نظره في الاختلاف الأول كأنه لا وجود له، بل صنيعه هذا أشد خطورة من صنيع من لا ينظر أساسا في الاختلافات، لأن القارئ له إذا رآه قد عالج الاختلاف، ووصل فيه إلى نتيجة، ثم حكم على الإسناد للوجه الراجح، اطمأن إليه، وإلى حكمه، استرواحا منه إلى أنه وقد نظر في الاختلاف قد استوعبه، والحال أنه لم يفعل ذلك.

5 -

بعد إكمال الباحث النظر في آخر اختلاف وجده على أحد رواة الإسناد، وترجح لديه وجه من وجوه الاختلاف، وكان قد بقي بعد هذا المدار من رواة إسناد الوجه الراجح أحد دون الصحابي، ينصب نظره حينئذ على من فوق المدار من جهة درجة كل راو، وسماع بعضهم من بعض، ثم يصدر حكمه النهائي على إسناد الوجه الراجح.

ص: 331

وقد كان النقاد يفعلون هذا أحيانا، يحكمون في الاختلاف، ويرجحون، ثم يتكلمون على إسناد الوجه الراجح بعد مداره، من جهة رواته واتصاله.

فمن ذلك الحديث الماضي في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب ، وهو ما رواه همام بن يحيى، وحجاج الأحول، وسعيد بن بشير -في بعض الطرق إليه-، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب، مرفوعا: «من ترك الجمعة من غير عذر، فليتصدق بدينار

» الحديث.

ورواه أيوب أبو العلاء، وسعيد بن بشير -في بعض الطرق إليه-، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ورواه خالد بن قيس الحداني، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب.

والراجح عند كافة النقاد الوجه الأول، وهو جعله عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة، منهم أحمد، والبخاري، وأبو داود، وأبو حاتم، وغيرهم، وذلك حين تعرضوا للموازنة بين الأوجه الثلاثة كلها، أو بين الوجه الأول، وأحد الوجهين الآخرين

(1)

.

ثم عاد النقاد إلى نقد الوجه الراجح، فأشار أبو حاتم إلى ضعف فيه، ولم

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1053 - 1054)، و «مسائل أبي داود» ص 394، و «العلل ومعرفة الرجال» 1: 256، و «التاريخ الكبير» 4: 176، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 196، 200، و «سنن البيهقي» 3:248.

ص: 332

يبينه، فقال عنه: «له إسناد صالح

، هو حديث صالح الإسناد»

(1)

.

وأما أحمد فضعفه بقدامة بن وبرة، قال عبدالله: «سألت أبي قلت: يصح حديث سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

؟ فقال: قدامة بن وبرة يرويه، لا يعرف»

(2)

.

وضعفه البخاري بعدم سماع قدامة، من سمرة، فقال:«ولا يصح حديث قدامة في الجمعة»

(3)

، وقال مرة: «قدامة بن وبرة

، ولم يصح سماعه من سمرة»

(4)

.

وكذلك الحديث الماضي في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو الحديث الذي رواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة مثنى، مثنى، وتشهد في كل ركعتين

» الحديث.

ورواه الليث بن سعد وغيره، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن عباس.

وقد توارد النقاد على تخطئه شعبة في سياقه للإسناد، وتصويب رواية الليث بن سعد، كما تقدم بيانه هناك، ثم عاد بعضهم إلى الوجه الراجح فحكموا عليه، فذكر البخاري الحديث في ترجمة ربيعة بن الحارث، وقال: «وهو حديث لا يتابع

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 196.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 256.

(3)

«التاريخ الكبير» 4: 177.

(4)

«الضعفاء الكبير» 3: 484، و «الكامل» 6:2074.

ص: 333

عليه، ولا يعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض»

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي: هذا الإسناد عندك صحيح؟ قال: حسن، قلت لأبي: من ربيعة بن الحارث؟ قال: هو ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، قلت: سمع من الفضل؟ قال: أدركه، قلت: يحتج بحديث ربيعة بن الحارث؟ قال: حسن، فكررت عليه مرارا فلم يزدني على قوله: حسن، ثم قال: الحجة سفيان، وشعبة

»

(2)

.

وروى جماعة عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر

»

(3)

.

ورواه عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن مشيخه لهم من أهل الصلاح، ممن حدثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

والصواب رواية عبدالرحمن، وقد ذكر البخاري رواية عبدالرحمن، وذكر معها أحد طرق الوجه الأول، وهو طريق محمد بن عبدالرحمن بن عمرو بن عثمان بن عفان، المعروف بالدبياج، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة،

(1)

«التاريخ الكبير» 3: 284.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 132.

(3)

«التاريخ الكبير» 1: 139، و «التاريخ الصغير» 2: 81، و «الكامل» 6: 2223، 2355، و «علل الدارقطني» 10: 307، و «سنن البيهقي» 7: 218، و «تاريخ بغداد» 2:307.

(4)

«جامع ابن وهب» حديث (634)، و «التاريخ الكبير» 1: 139، و «التاريخ الصغير» 2: 82، و «الكامل» 6:2224.

ص: 334

ثم قال عن الوجه الثاني: «وهذا أصح، مرسل»

(1)

، وقال مرة:«وهذا بانقطاعه أصح»

(2)

.

فالوجه الراجح عن أبي الزناد بعد أن رجحه البخاري عاد فضعفه بالإرسال، فإن شيوخ أبي الزناد من التابعين، فقد جاء في بعض طرقه: حدثني رجال أهل رضا وقناعة من أبناء الصحابة.

وترجم البخاري لمحمد بن عبدالله بن علاثة، وقال في ترجمته: «في حفظه نظر

، قال الأويسي: حدثنا ابن علاثة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» .

وقال عبدالقاهر: عن هشام، عن عمر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح، وهو مرسل.

وقال بكر بن بكار: حدثنا محمد بن ثابت البناني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح فيه جابر، ولا ابن سيرين

»

(3)

.

فذكر البخاري أولا الاختلاف على هشام بن حسان، فمحمد بن عبدالله بن علاثة يرويه عنه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة

(4)

.

وعبدالقاهر بن شعيب يرويه عنه، عن عمر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه،

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 139.

(2)

«التاريخ الصغير» 2: 82.

(3)

«التاريخ الكبير» 1: 132.

(4)

وقد أخرج رواية ابن علاثة أيضا العقيلي 4: 92، وابن عدي 6:2228.

ص: 335

عن أبي هريرة، ورجح البخاري الوجه الذي يرويه عبدالقاهر، وأنه لا يصح فيه ابن سيرين.

وقد رواه مع عبدالقاهر: محمد بن بكر البرساني

(1)

.

ثم ذكر البخاري اختلافا أعلى من هذا، وهو على محمد بن المنكدر، فولده عمر يرويه عنه، عن أبي هريرة، ومحمد بن ثابت البناني يرويه عنه، عن جابر

(2)

.

ورجح البخاري رواية عمر بن محمد، وأنه لا يصح فيه جابر.

فالراجح النهائي في الاختلافين -النازل والعالي- هو: محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة.

وقام البخاري ببيان حال هذا الوجه الراجح، فذكر أنه مرسل.

وكذا قال العقيلي، وقد ذكر الاختلاف على هشام بن حسان فقط:«وهذا أولى، مرسل، فيه نظر»

(3)

.

ومرادهما بالإرسال أن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة، وقد توارد

(1)

«الضعفاء الكبير» 4: 92.

(2)

رواية محمد بن ثابت أخرجها أيضا أحمد 3: 325، 334، والعقيلي 4: 40، وابن عدي 6: 2146، وقوام السنة في «الترغيب» حديث (1047)، ولم ينسب محمد بن ثابت عند أحمد، وأما ابن عدي فجاء في إسناده: محمد بن ثابت العبدي، فوضع الحديث في ترجمته، والبناني، والعبدي، كلاهما بصري، من طبقة واحدة، والبناني أشد ضعفا من العبدي، والله أعلم.

(3)

«الضعفاء الكبير» 4: 92.

ص: 336

النقاد على أنه لم يسمع منه

(1)

.

وروى أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن ابن أبي السائب -أو عن أبي السائب- عن عائشة أنها قالت للسائب: «ثلاث خصال فيك لتدعهن أو لأناجزنك: إياك والسجع في الدعاء

» الحديث

(2)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة.

ورواه إسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وعبدالأعلى بن عبدالأعلى، ووهيب، عن داود، عن الشعبي، أن عائشة قالت لابن أبي السائب قاص

أهل المدينة

(3)

.

سأل ابن أبي حاتم أباه عن رواية أبي معاوية، ورواية وهيب أيهما أصح، فقال:«حديث وهيب أشبه، ووهيب أتقن وأوثق من أبي معاوية»

(4)

.

وسأله مرة أخرى عن رواية حماد بن سلمة، ورواية أبي معاوية، فقال:«إنما هو: الشعبي، عن عائشة مرسلا»

(5)

.

فالراجح من الأوجه الثلاثة عن الشعبي، عن عائشة، ليس بينهما واسطة، وقد

(1)

«المراسيل» ص 189، و «إكمال تهذيب الكمال» 10:367.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 185، 248، و «صحيح ابن حبان» حديث (978).

(3)

«مسند أحمد» 6: 217، و «تاريخ المدينة» 1: 13، و «مصنف ابن أبي شيبة» 10: 199، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (1634).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 185.

(5)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 248.

ص: 337

بين أبو حاتم في جوابه الثاني أنه مرسل، وذلك لأن الشعبي لم يسمع من عائشة

(1)

.

والباحث قبل نظره في الاختلافات قد منع من إصدار الحكم على الإسناد المفرد الذي أمامه قبل أن ينظر في الطرق الأخرى، ويعالج الاختلافات إن وجدت، كما تقدم شرح هذا في «الاتصال والانقطاع»

(2)

، أما الآن فهو ملزم بذلك، لأنه فرغ من النظر في الطرق الأخرى، ووازن بين الطرق إن كان بينها اختلاف، وترقى في الاختلافات درجة درجة، إن كانت الاختلافات في الحديث الذي يبحث فيه لها مدارات متعددة، وقد بقي عليه من رواة الإسناد من يحتاج إلى بيان حاله، وسماعه ممن فوقه، وقد يكون هذا الباقي جزءا من إسناده الأصل الذي ابتدأ النظر فيه مبدئيا قبل أن ينظر في الطرق الأخرى، فهو الراجح عنده، وقد يكون غيره، فالإسناد الأصل مرجوح.

والذي ينبه عليه الباحث هنا أن يفحص الإسناد للوجه الراجح جيدا قبل أن يصدر حكمه عليه، ويتأنى في ذلك، وينظر في كل ما هو مجال للنظر في هذا الإسناد، ليكون حكمه صوابا، أو قريبا من الصواب، ومن غير اللائق أن يتعب الباحث في جمع الطرق، وتلخيص الأوجه، والموازنة بينها، ثم يفتر في الخطوة النهائية للحكم على الإسناد.

وقد أشرت في مناسبة سابقة إلى أن الخلل في نقد الأسانيد لا يأتي فقط من

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 286، و «المراسيل» ص 159، وانظر مثالين آخرين في «علل ابن أبي حاتم» (1643)، و «الضعفاء الكبير» 1:28.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 466، 499.

ص: 338

إغفال النظر في الاختلافات، وعلل الأحاديث، بل يأتي أيضا من نقد الإسناد المفرد، والاستعجال في ذلك.

ومن أمثلة الخلل في الحكم على إسناد الوجه الراجح أنه قد وقع اختلاف على الزهري في روايته لقصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة، وهي بأرض الحبشة، وذلك على أربعة أوجه: الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة، والزهري، عن عروة، عن عائشة، والزهري، عن عروة مرسلا، والزهري مرسلا

(1)

.

وذكر أحد النقاد وجهين من الاختلاف على الزهري وهما: عن عروة، عن أم حبيبة، وعن عروة مرسلا، ورجح الوجه المرسل.

ثم زاد عليه أحد الإخوة الفضلاء وجها ثالثا، وهو: عن عروة، عن عائشة، عن أم حبيبة، ولم يذكر الوجه الرابع، وهو: عن الزهري مرسلا، ولعل ذلك لكون الرواية فيه جاءت مختصرة جدا ببعض الحديث، ثم نظر الباحث في الأوجه الثلاثة التي ذكرها، ورجح كونه عن عروة، عن أم حبيبة.

ولست الآن بصدد مناقشة هذا الترجيح، فهو اجتهاد للباحث، وإنما الغرض هنا أن الباحث قال في حكمه على إسناد الوجه الراجح، وهو: الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة: «الحديث من وجهه الراجح صحيح الإسناد

»، ثم شرح ذلك من جهة الرواة.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (2086)، (2107 - 2108)، و «سنن النسائي» حديث (3350)، و «مسند أحمد» 6: 427، و «طبقات ابن سعد» 8: 99، و «المعجم الكبير» 23، حديث (403)، و «المستدرك» 4: 20، و «سنن البيهقي» 7: 234، و «تاريخ دمشق» 69: 138 - 142.

ص: 339

وهذا التصحيح لم يتمعن فيه الباحث، فعروة بن الزبير لم يسمع من أم حبيبة كما يظهر من ترجمتيهما، وليس له في الكتب عنها سوى هذا الحديث، وقد جاءت صيغة روايته في الوجه الموصول هكذا: عن أم حبيبة: «أنها كانت تحت عبيدالله بن جحش، وكان أتى النجاشي، فمات، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة، وأنها بأرض الحبشة

» الحديث، فهذا السياق يدل على أن قوله في الإسناد: عن أم حبيبة، لا يقصد به الرواية عنها، وإنما يقصد به حكاية قصتها، وهذا يفعله بعض الرواة تجوزا، كما تقدم شرحه في «الاتصال والانقطاع»

(1)

.

فإذا اجتمعت صيغة الرواية، وكون عروة لم يسمع منها، ومجيء الحديث من طرق أخرى عن الزهري مرسلا، صار الوجهان -المرسل، والموصول في الظاهر- بمعنى واحد، ووقع الباحث بسبب عدم تدقيقه في الإسناد في إشكالين، مخالفة الإمام الذي رجح المرسل، مع أن الموصول بمعناه، فهو راجع إلى الإرسال، وتصحيح إسناد غير متصل.

6 -

إذا فرغ الباحث من النظر في إسناد الوجه الراجح، من جهة رواته، وسماع بعضهم من بعض، عليه أن يعود مرة أخرى إلى نتيجة النظر التي وصل إليها، في الاختلاف، ورجحان هذا الوجه عنده.

وأعني بذلك أن الترجيح في الاختلاف ليس على درجة واحدة، فهو يخضع للقرائن التي تم الترجيح بها كثرة وقلة، ووجود ما يعارضها، وما يتبع ذلك من من جزم الباحث بالترجيح، أو تردده، كما تقدم شرحه في المبحث

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 31 - 45.

ص: 340

الثالث والرابع من الفصل الثالث من هذا الباب، وتقدم التنبيه عليه أيضا قريبا في موقف الباحث من الوجه المرجوح.

وبناء على ذلك لو كان الباحث وصل إلى رجحان وجه، ونظر في إسناده فوجد أن رواته ثقات، وهو متصل، فالحكم على هذا الإسناد بالصحة، والجزم بذلك يتوقف أيضا على درجة الترجيح، فلو كان الوجه المرجوح مرسلا مثلا، أو موقوفا، وقرائنه أيضا قوية، أو كان هناك أوجه أخرى قوية يحتمل معها أن الاضطراب من المدار، أثر هذا كله في صحة الإسناد، ونزل عن الدرجة العليا من الصحيح، كما قال ابن حجر بعد أن ذكر شروط الحديث الخمسة:«وتتفاوت رتبه -أي الصحيح- بسبب تفاوت هذه الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة، فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها بعضها فوق بعض، بحسب الأمور المقوية»

(1)

.

ساق البخاري حديث ابن عباس في قصة ثابت بن قيس، ومخالعته لامرأته، وفي أسانيده اختلاف على عكرمة وعلى من دونه، في وصل الحديث وإرساله

(2)

، فقال ابن حجر وهو يسرد الفوائد الحديثية من صنيع البخاري:«ومنها أن أحاديث الصحيح متفاوتة المرتبة إلى صحيح وأصح»

(3)

.

وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود في الاستنجاء بحجرين، من طريق

(1)

«نزهة النظر» ص 84.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5273، 5277).

(3)

«فتح الباري» 9: 401.

ص: 341

إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه، وذكر أوجها أخرى عن أبي إسحاق، ثم قال: «وهذا حديث فيه اضطراب

، وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل، وقيس، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبدالله، لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس بن الربيع»

(1)

.

وكذا صنع الدارقطني، فقد ساق الاختلاف فيه على أبي إسحاق، ثم قال:«عشرة أقاويل عن أبي إسحاق، أحسنها إسنادا الأول الذي أخرجه البخاري، وفي النفس منه شيء لكثرة الاختلاف فيه عن أبي إسحاق»

(2)

.

والذي أخرجه البخاري هو رواية زهير بن معاوية وجماعة عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، وقد تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب أن البخاري كان متوقفا في الاختلاف على أبي إسحاق، ثم رجح هذا الوجه.

وأما نزول الحديث عن درجة الصحيح فإن الشائع عند الباحثين أن شرط ضبط الراوي هو الذي ينظر فيه لنزول الحديث عن درجة الصحيح إلى درجة

(1)

«سنن الترمذي» حديث (17).

(2)

«التتبع» ص 330 - 334، وانظر طرق هذا الحديث في «صحيح البخاري» حديث (156) و «سنن الترمذي» حديث (17) و «سنن النسائي» حديث (42) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (313)، و «مسند أحمد» 1: 388، 418، 426، 427، 450، 465، و «شرح معاني الآثار» 1: 122، و «المعجم الكبير» حديث (9954، 9956)، و «سنن الدارقطني» 1: 55، و «التتبع» ص 330.

ص: 342

الحسن، بحكم أن كتب المصطلح تفرق بين الصحيح، والحسن بهذا الشرط، فإذا خف ضبط الراوي نزل الإسناد عن درجة الصحيح.

وقد نبهت في الكلام على قضايا الاتصال أن نزول الإسناد عن درجة الصحيح لا يتعلق -فيما أرى- بدرجة الراوي فقط، فقد يكون الرواة في الدرجة العليا من الثقة والضبط، وفي الإسناد كلام من جهة سماع بعض رواته من بعض، أو فيه احتمال وجود تدليس، فهذا يؤثر أيضا في درجة الإسناد، وإن رجح الناظر فيه اتصاله

(1)

.

ومثل هذا -سواء بسواء- يقال هنا في شرط عدم العلة، قد ينزل الحديث عن درجة الصحيح، بسبب وجود علة في الإسناد، وإن ترجح للناظر أنها منتفية.

وتأثير الاحتمالات الأخرى مع وجود الترجيح يخضع لاجتهاد الناظر فيه، وما توافر له من قرائن النظر في هذا الاختلاف، فقد يكون التأثير ضعيفا، فغاية ما فيه أن ينزل الوجه الراجح من الدرجة العليا من الصحة، وقد يكون قويا، فينزل إلى ما دون الصحيح، والله أعلم.

وهذا الكلام تقدم مثله في شرح موقف الباحث من الوجه المرجوح بصورة مقلوبة، أي أثر قوة الترجيح وضعفه على الوجه المرجوح، ويأتي كذلك نحوه في نهاية المبحث الرابع، في الحديث عن حكم الناقد على الحديث بالاضطراب، مع ميله إلى ترجيح وجه، والله أعلم.

(1)

انظر: «الاتصال والانقطاع» ص 407.

ص: 343

‌المبحث الثالث

الأوجه المحفوظة عن المدار

في كثير من الأحاديث ينتهي الباحث إلى حفظ وجهين أو أكثر من أوجه الاختلاف على مداره الأساس، وقد يوجد مع هذا وجه مرجوح أو أكثر، وقد لا يوجد شيء من ذلك.

وهكذا في حال ما إذا كان قد وصل إلى وجه واحد راجح عن المدار الأساس، ولكنه بعد أن نظر في الطرق فوقه وجد فيها اختلافا على شيخ المدار أو من فوقه، وبعد أن نظر فيه توصل إلى أن المحفوظ وجهان أو أكثر، إما مع وجود وجه راجح، أو بدونه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك عند شرح هذه القضية بأمثلتها في المبحث الثاني، وأن الأمر انتقل إلى الحال الثانية، وأخذ أحكامها.

فبالنسبة للوجه المرجوح لا يختلف التعامل معه عن كونه موجودا مع وجه واحد راجح، وقد مضى الكلام على أحكام الوجه المرجوح في المبحث الثاني فلا أعيده هنا.

وأما الوجهان المحفوظان عن المدار فتعامله معهما شبيه بتعامله مع الوجه الراجح، في حال وجود راجح ومرجوح، على ما تقدم شرحه في المبحث الثاني، وذلك من جهة نظره في هذين الوجهين جميعا، ابتداء من المدار نفسه، وصعودا إلى نهاية إسناديهما، للوصول إلى نتيجة فيهما، هل يبقيان محفوظين بعد المدار، أو

ص: 344

يسقطان جميعا، أو يبقى واحد منهما؟ .

وأول ما يبتدئ به الباحث النظر في المدار نفسه، فقد تقدم في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، أن النظر في المدار مهم جدا للوصول إلى نتيجة في المحفوظ عن المدار، فهذا يتعلق بالجزء الأدنى من حلقة الإسناد الوسطى التي هي المدار، والنظر فيه مهم جدا كذلك للوصول إلى نتيجة في المحفوظ بعده، وهذا يتعلق بالجزء الأعلى من هذه الحلقة وهي موضوعنا هنا.

وطريقة النظر فيه أن يقوم الناظر في الاختلاف بتجزئة المدار جزئين، فيفرضه راويين، ويفرض فوقه مدارا وهميا، قد اختلف عليه هذان الراويان، ثم يتأمل حال هذين الراويين، وما ورد في روايتهما، فقد يجد ما يعينه على ترجيح أن أحدهما هو الذي حفظ، والآخر قد غلط على المدار الوهمي، أو ترجيح حفظهما جميعا، أو غلطهما جميعا.

ومن أبرز ما يعتني به الناظر هنا البحث عن نص عن المدار يفيد أنه قد رجع عن أحد الوجهين، فهذا وقع في أحاديث كثيرة، يختلف الرواة على شيخ لهم، ويوقف على رواية له ينص فيها على رجوعه عن أحد الوجهين، وثباته على الآخر، وقد تقدم شيء منها في الفصل الرابع من الباب الأول في حوار النقاد مع الرواة، وتراجعهم أحيانا عما حدثوا به قديما.

ومن ذلك أيضا أن جماعة من أصحاب شعبة -منهم يحيى القطان، ومحمد بن جعفر غندر، ومحمد بن أبي عدي، وغيرهم- رووا عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 345

في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال:«يتصدق بدينار، أو بنصف دينار»

(1)

.

ورواه جماعة آخرون -منهم عبدالرحمن بن مهدي، وبهز بن أسد، وأبو الوليد الطيالسي، وسليمان بن حرب، وغيرهم- عن شعبة، موقوفا على ابن عباس

(2)

.

وروى عبدالرحمن بن مهدي أن شعبة حين حدث به موقوفا قال له رجل: «إنك كنت ترفعه» ، قال:«كنت مجنونا فصححت»

(3)

.

وروى عبدالصمد بن عبدالوارث، عن أبيه، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، قال: حدثني ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يقول إذا دخل مضجعه: الحمد لله الذي كفاني وآواني

» الحديث

(4)

.

ورواه أبو معمر المنقري، عن عبدالوارث، عن حسين المعلم، عن ابن بريدة، قال: حدثني ابن عمران

الحديث

قال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر الوجهين: «قلت لأبي: أيهما أصح؟ قال:

(1)

«سنن أبي داود» حديث (264)، (2168)، و «سنن النسائي» حديث (288)، (368)، و «سنن ابن ماجه» حديث (640)، و «مسند أحمد» 1: 229، 286، و «سنن الدارمي» حديث (1112)، و «سنن البيهقي» 1:314.

(2)

«مسند أحمد» 1: 229، 286، و «سنن الدارمي» حديث (1111)، و «الكفاية» ص 224، و «سنن البيهقي» 1: 314 - 315.

(3)

«المنتقى» حديث (110)، و «سنن البيهقي» 1:315.

(4)

«سنن أبي داود» حديث (5058)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (7694)، (10634)، و «مسند أحمد» 2: 117، وانظر:«الكفاية» ص 225.

ص: 346

حديث أبي معمر أشبه، قلت لأبي: ابن عمران من هو؟ قال: لا أدري، قلت: فابن بريدة أدرك ابن عمر؟ قال: أدركه، ولم يَبِنْ سماعه منه»

(1)

.

وقد أمكن الوقوف على رواية عن أبي معمر المنقري بين فيها أن عبدالوارث رجع عن روايته الأولى، قال ابن حجر:«وقد أخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» ، من رواية أبي معمر المنقري، عن عبدالوارث بهذا السند، فقال: عن ابن عمران، وقال بعده: فقال له أبو علي المعري (كذا): كنت حدثت به مرة فقلت: عن ابن عمر، قال: لا، ذاك خطأ، إنما هو ابن عمران»

(2)

.

وقد يكون النص من بعض تلامذة المختلف عليه، فيذكر أن شيخه يرسل الحديث ثم وصله، أو كان يرفعه ثم ترك رفعه.

ومثاله أن جماعة من الرواة -منهم أحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وغيرهم- رووا عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن سماك بن حرب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء لا ينجسه شيء» ، ومنهم من ذكر في الحديث قصة، ومنهم من اكتفى بالقصة، ورواية إسحاق بن راهويه مرسلة، ليس فيها ابن عباس، ثم قال إسحاق: «وزاد وكيع فيه بعد:

(1)

علل ابن أبي حاتم» 2: 184.

(2)

«النكت الظراف» 5: 443، وهو في «مكارم الأخلاق» للخرائطي (964)، يرويه الخرائطي عن أبي يوسف القلوسي، عن أبي معمر المنقري، عن عبدالوارث، وفيه:«قال أبو بكر الخرائطي: فقال له أبو علي العنزي: كنت حدثت به مرة، فقلت ابن عمر، فقال: ذاك خطأ وأنكر ذلك، وقال: اجعله ابن عمران» ، ومثله في «المنتقى من مكارم الأخلاق» للسلفي (536).

ص: 347

عن ابن عباس».

وكذا قال أحمد: «حدثنا به وكيع في «المصنف» عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، ثم جعله بعد عن ابن عباس»

(1)

.

ومثل ذلك ما إذا‌

‌ نص الراوي على أن سماعه من شيخه هو على صفة معينة، ولكنه تعمد تركها إلى صفة أخرى

، لأمر عارض، وقد تقدم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، أن جماعة من الرواة يتصرفون في إسناد الحديث أو متنه على خلاف ما سمعوه من شيوخهم، لسبب من الأسباب، كإشكال يرونه في الإسناد أو المتن، وربما نصوا على ذلك في الحديث المعين، فمتى جاء عن الراوي اختلاف، ونص هو على أنه تعمد التغيير لأمر لا يرجع إلى الشك في الرواية، فالمعتمد هو ما رواه عن شيخه، وليس ما غيره.

مثال ذلك ما رواه سفيان بن عيينة، عن عاصم بن عبيدالله العمري، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابع ما بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما يزيدان في الأجل، وينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير الخبث»

(2)

.

ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم، عن سفيان،

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (371)، و «مسند أحمد» 1: 35، 308، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (109)، و «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (26)، و «التمهيد» 1: 333، و «الأسماء المبهمة» حديث (148)، وانظر مثالا آخر في «علل ابن أبي حاتم» (2278).

(2)

«مسند الحميدي» حديث (17).

ص: 348

وليس فيه: «يزيدان في الأجل» ، وليس في رواية أحمد:«عن أبيه»

(1)

.

قال الحميدي بعد أن ذكر عن سفيان اضطراب عاصم بن عبيدالله في إسناد الحديث: «قال سفيان: وربما سكتنا عن هذه الكلمة: «يزيدان في الأجل» ، فلا نحدث بها، مخافة أن يحتج بها هؤلاء -يعني القدرية- وليس لهم فيها حجة»

(2)

.

وروى سفيان بن عيينة أيضا، عن عبيدالله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس يقول: أخبرني أسامة بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الربا في النسيئة»

(3)

.

قال الحميدي بعد أن رواه عن سفيان بن عيينة مرفوعا: «كان سفيان ربما لم يرفعه، فقيل له في ذلك، فقال: أتقيه أحيانا، لكراهية الصرف، فأما مرفوع فهو مرفوع»

(4)

.

وقد يكون التغيير من الشيخ، وتلميذه هو المختلف عليه.

مثاله أن جماعة من أصحاب سفيان بن عيينة -منهم أحمد، والشافعي، وإسحاق بن راهويه- رووا عنه، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن عبدالرحمن

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (2887)، و «مسند أحمد» 1: 25، و «مسند أبي يعلى» حديث (198)، و «تفسير الطبري» 2:310.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (17).

(3)

«صحيح مسلم» حديث (1569)، و «سنن النسائي» حديث (4594)، و «مسند أحمد» 5:204.

(4)

«مسند الحميدي» حديث (545)، وانظر مثالين آخرين في «مسند أحمد» 4: 397 حديث (19546)، و «علل الدارقطني» 7: 222، 13: 445 - 446.

ص: 349

الأسدي، قال: «صحبت ابن عمر إلى الحمى، فلما غربت الشمس هبت أن أقول له: الصلاة، فسار حتى ذهب بياض الأفق، وفحمة العشاء، ثم نزل فصلى المغرب ثلاث ركعات

» الحديث

(1)

.

ورواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، وفيه: «فلما غاب الشفق نزل فصلى المغرب

»، وقال الحميدي بعده:«قال سفيان: وكان ابن أبي نجيح كثيرا إذا حدث بهذا الحديث لا يقول فيه: «فلما غاب الشفق» ، يقول:«فلما ذهب بياض الأفق، وفحمة العشاء، نزل فصلي» ، فقلت له، فقال: إنما قال إسماعيل: «غاب الشفق» ، ولكني أكرهه، فإذا أقول هكذا، لأن مجاهدا حدثنا أن الشفق النهار، قال سفيان: فأنا أحدث به هكذا مرة، وهكذا مرة»

(2)

.

وإذا لم يوقف على نص يفيد الباحث في رجوع الوجهين إلى وجه واحد فقد يمكنه ذلك بمعرفة حال الراوي حين تحديثه بالوجهين، إما نصا في الحديث الذي ينظر فيه الباحث، كأن يقول أحد تلامذته إنه حدث بهذا الوجه من حفظه، أو حال تغيره، وإما بالاستنباط، كأن يعرف أن أحد الراويين عنه أخذ عنه في حال تحديثه من حفظه، أو في حال تغيره، أو في بلد عرف أن أخطاءه كثرت فيه، أو لم يصرح بهذا الوجه بالتحديث، وقد عرف عنه التدليس، أو الإرسال،

(1)

«سنن النسائي» حديث (591) ،، و «مسند أحمد» 2: 12، و «الأم» 1: 77، و «شرح معاني الآثار» 1: 161، و «سنن البيهقي» 3: 161، ورواية الطحاوي -وهي من طريق الحماني، عن ابن عيينة- فيها:«فسار حتى ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق» ، والحماني ضعيف.

(2)

«مسند الحميدي» حديث (680).

ص: 350

أو وقف الحديث وقد عرف عنه التوقي في الرفع، والوجه الآخر بضد ذلك كله.

وقد تقدم في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، أن حال الراوي يستعان بها في ترجيح كون الوجهين محفوظين عنه، فيعود الباحث الآن إلى حال الراوي مرة ثانية لتحديد ما هو المحفوظ في النهاية من هاتين الروايتين.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، تقدم شيء منها في المبحث المشار إليه.

ومن ذلك أيضا أن إسرائيل بن يونس، ووالده يونس، وزهير بن معاوية -في رواية عنه- رووا عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل

» الحديث

(1)

.

ورواه زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله بن مسعود

(2)

.

ورواه زهير بن معاوية -في رواية عنه- عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ورواه الثوري، وشعبة، ومسعر بن كدام، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1534)، و «سنن النسائي» حديث (5458)، و (5495 - 5496)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3844)، و «مسند أحمد» 1: 22، 54، و «علل ابن أبي حاتم» 2: 166، 186.

(2)

«سنن النسائي» حديث (5461).

(3)

«سنن النسائي» حديث (5497).

ص: 351

ميمون مرسلا

(1)

.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه زكريا بن أبي زائدة، وزهير، فقال أحدهما: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: عن عمرو بن ميمون، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقالا: لا هذا، ولا هذا، روى هذا الحديث الثوري، فقال: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ

» مرسلا، والثوري أحفظهم.

وقال أبي: أبو إسحاق كبر، وساء حفظه بأخرة، فسماع الثوري منه قديم.

وقال أبو زرعة: تأخر سماع زهير، وزكريا، من أبي إسحاق»

(2)

.

ونحو ذلك للدارمي، قال الترمذي:«قال عبدالله بن عبدالرحمن: أبو إسحاق الهمداني مضطرب في هذا الحديث، يقول: عمرو بن ميمون، عن عمر، ويقول عن غيره، ويضطرب فيه»

(3)

.

وروى سعدان بن يحيى، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يوشك أقصى مسالح المسلمين أن يكون سلاح»

(4)

.

(1)

«سنن النسائي» حديث (5498)، و «مسند البزار» حديث (1858)، و «تهذيب الآثار» (مسند عمر) حديث (851 - 852)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (5183)، و «علل الدارقطني» 2:187.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 166، 186.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (3567).

(4)

«حديث هشام بن عمار» ص 161، و «المعجم الأوسط» حديث (6743)، و «المعجم الصغير» حديث (644).

ص: 352

ورواه ابن وهب، والقاسم بن مبرور، عن يونس، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله، عن أبي هريرة موقوفا، زاد القاسم في روايته عن يونس: قال الزهري: حدثني سعيد بن خالد، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي هريرة، موقوفا

(1)

.

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه سعدان، عن يونس

، قال أبي: ورواه الزهري، عن سالم، سمع أبا هريرة، موقوفا، قال أبي: الموقوف أشبه.

قلت: وما تنكر أن يكون سمع منهما؟ قال: أنكر، فإنه لا يحتمل أن يكون هذا من حديث قبيصة، وسعدان أرى أنه سمع من يونس بمكة، أو المدينة، ويونس لم تكن معه كتبه، قال وكيع: رأيت يونس بن يزيد بمكة، فجهدت أن يقيم لي إسناد حديث فلم يقمه، فنرى أن سعدان سمع منه بمكة، لأن حديثه، وحديث أبي ضمرة، وسليمان بن بلال، وطلحة بن يحيى، متقارب»

(2)

.

والأمر كما قال أبو حاتم في غلط يونس حين روى الحديث لسعدان، لكن دلت رواية القاسم بن مبرور أن أصل رواية قبيصة كانت عند يونس، عن الزهري، إلا أنه حين رواه لسعدان زاد في الإسناد، ونقص.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «حدثنا أبو زرعة، عن محمد بن بكار، عن أبي معشر، عن عبدالله بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا

(1)

«علل الدارقطني» 11: 145، و «المستدرك» 4:551.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 317.

ص: 353

دخل الخلاء يقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث».

فسمعت أبا زرعة يقول: هكذا أملاه علينا من حفظه، وقيل لي: في كتابه: عن أبي معشر، عن حفص بن عمر بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح.

وحدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن بكار، قال: حدثنا أبو معشر، عن حفص بن عمر بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ويمكن أيضا ترجيح أحد الوجهين اللذين ثبتا عن المدار بالنظر في صفة روايتيه، كأن يكون سلك الجادة في أحدهما، أو حمل رواية على أخرى، وقد يكون هذا مضموما إلى حال الراوي.

فمن ذلك الحديث الماضي في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما روى معمر، عن الزهري، عن أنس في قصة كيه صلى الله عليه وسلم لأسعد بن زرارة من مرض كان به، فمات، هكذا حدث به معمر بالبصرة، وقد حدث به باليمن، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، مرسلا.

والمعتمد من روايتيه ما رواه باليمن -كما تقدم شرح هذا-، وتأيد ذلك بأن معمرا في روايته بالبصرة سلك جادة سهلة، وهي الزهري، عن أنس.

فهذا الأمثلة السابقة هي لصور أمكن فيها ترجيح وجه واحد بعد المدار،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 64، وقد أخرجه ابن عدي في «الكامل» 7: 2591، من طريق هشيم، عن أبي معشر، لكنه لم يسم ابن أبي طلحة.

ص: 354

بالنظر في حال المدار، وما جاء في روايتيه أو إحداهما.

ومثل هذا يقال في الدلالة على حفظ الوجهين بعد المدار، قد يوجد في روايتيه أو إحداهما ما يدل على حفظه للوجهين، وأمثلته كثيرة جدا، امتلأت بها كتب السنة، كأن يروي الراوي عن شيخ له إسنادا، ثم يقول بعده: فلقيت فلانا -الذي هو شيخ شيخه أو من فوقه- فحدثني به، فهذا النص يدل على أنه يرويه بنزول، ويرويه بعلو، وقد يذكر أنه لقي راويا آخر ليس في الإسناد، فيحدثه بالحديث بإسناد آخر، ونحو ذلك، وقد تقدم شرحه بأمثلته في المبحث الأول من الفصل الرابع من الباب الأول.

ومن أمثلة الركون إلى هذا في معالجة الاختلاف، أن أصحاب أبي إسحاق السبيعي اختلفوا عليه في حديث أُبي بن كعب في صلاة الجماعة، فقيل عنه: عن عبدالله بن أبي بصير، عن أبي بصير، عن أُبي بن كعب، وقيل عنه: عن أبي بصير، عن أُبي بن كعب، وقيل عنه: عن عبدالله بن أبي بصير، عن أُبي بن كعب، وقيل عنه: عن العيزار بن حريث، عن أبي بصير، عن أُبي بن كعب

(1)

.

فذهب جمع من النقاد إلى ترجيح حفظها كلها، ومما اعتمدوا عليه في ذلك بالنسبة للأوجه الثلاثة الأول ما رواه شعبة، عن أبي إسحاق، ومفاده أنه سمعه من أبي بصير، عن أبي بن كعب، ومن ابن أبي بصير، عن أبيه، عن أبي، ومن

(1)

«سنن أبي داود» حديث (554) ، و «سنن النسائي» حديث (843) ، و «سنن ابن ماجه» حديث (790)، و «مسند أحمد» 1: 140 - 141، الأحاديث (21265 - 21274) وتخريجها في طبعة الأرنؤوط.

ص: 355

ابن أبي بصير، عن أبي، وذلك أن أبا بصير، وابنه، سمعا الحديث جميعا من أبي بن كعب

(1)

.

وروى الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي المطوس -أو ابن المطوس- عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا:«من أفطر يوما من رمضان من غير عذر لم يقض عنه صوم الدهر»

(2)

.

ورواه شعبة -في رواية الجماعة عنه- عن حبيب، فأدخل عمارة بن عمير، بين حبيب، وأبي المطوس

(3)

.

سئل أبو حاتم عن الاختلاف بين الثوري وشعبة، فقال:«جميعا صحيحان، أحدهما قصَّر، والآخر جَوَّد»

(4)

.

هكذا أجاب أبو حاتم، جعل إسقاط عمارة بن عمير تقصيرا، وقال ابنه

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 82، 102، و «المستدرك» 1: 249، و «سنن البيهقي» 3: 68، و «إتحاف المهرة» 1:217.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (723) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3278 - 3283) و «سنن ابن ماجه» حديث (1672)، و «علل الدارقطني» 8: 268، 270، 272 - 273، وقد قيل عن الثوري بإسقاط والد أبي المطوس أيضا، انظر:«مسند إسحاق بن راهويه» حديث (273 - 274)، لكن المحفوظ عن الثوري ذكره.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (2396) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3282 - 3282)، و «مسند أحمد» 2: 386، 452، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (275) ، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1522).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 231.

ص: 356

عبدالرحمن بعد أن ذكر هذا الاختلاف مرة أخرى: «وجدت حديثا بين علة هذه الأحاديث، حدثنا أحمد بن سنان، قال: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن عمارة بن عمير، عن أبي المطوس، قال حبيب: فلقيت أبا المطوس فحدثني عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد بان أن جميع الحديثين صحيحان، قد سمع حبيب من عمارة، ومن أبي المطوس»

(1)

.

وقد لا يوجد النص في الحديث المعين، ولكن يوجد في عموم حديث الراوي عن شيخه، مثاله أن قتيبة بن سعيد روى عن الليث بن سعد، قال: حدثني سعيد بن أبي هلال: «أن نفرا أتوا عائشة فقالوا: إنا نريد سفرا، فمن يؤمنا؟

» الحديث.

ورواه أبو الوليد الطيالسي، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، هكذا بزيادة خالد بن يزيد، بين الليث، وسعيد بن أبي هلال.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 263، ورواية عبدالرحمن هذه أخرجها أحمد 2: 470، وقد رواه كذلك يحيى القطان، عن سفيان، أخرجه أبو داود حديث (2397)، وأحمد 2: 470، ورواه كذلك عن حبيب، عبدالغفار بن القاسم، أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 8: 462، لكن في روايته: عن حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني عمارة بن عمير الليثي، قال: حدثني ابن المطوس، قال حبيب: فلقيته في دار عمرو بن حريث، فسألته عن هذا الحديث، فقال: حدثني أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»، هكذا أسقط والد ابن المطوس، وعبدالغفار هذا متروك الحديث.

ونحو هذا جاء عن شعبة أيضا، لكن فيه رؤية حبيب لأبي المطوس فقط، ليس فيه الرواية عنه، انظر:«مسند الطيالسي» حديث (2663) ، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3283)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (1521) ، ولعل هذا سبب عدم إسقاط شعبة في المحفوظ عنه لعمارة.

ص: 357

قال أبو حاتم عن هذا الاختلاف: «سمعت أبا صالح كاتب الليث، قال: قال الليث بن سعد: كان قرأ سعيد علي هذه الأحاديث، فشككت في بعضها، فأعدتها عن خالد بن يزيد (يعني عن سعيد)»

(1)

.

ومما يدل على حفظه للوجهين أن يكون ثقة ثبتا لم يوصف بالاضطراب، ويبعد أن يقع منه هذا، ويكون مع هذا واسع الرواية، لا يستغرب منه تعدد الشيوخ والأسانيد للحديث الواحد، مثل الزهري، وقتادة، وأبي إسحاق السبيعي، وغيرهم، فإن النقاد كثيرا ما يستدلون بهذا على قرب احتمال أن يكون المدار حفظ الوجهين، وقد تقدم لهذا أمثلة في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، حيث ذكرته هناك من الأدلة على أن الاختلاف هو من المدار، وليس من الرواة عنه، فلسنا بحاجة إلى الترجيح والموازنة بينهم، فيستخدم هذا الدليل هنا حين النظر في الوجهين من المدار فمن فوقه، لبيان قرب حفظ المدار للوجهين.

ومن أمثلة ذلك أيضا أن الزهري يروي حديث النهي عن لبستين، وعن بيعتين، وقد اختلف عليه فيه على أوجه، أشهرها ثلاثة: الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي سعيد الخدري، والزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، والزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبي سعيد، إلا أن رواية عبيدالله بن عبدالله اقتصر فيها على اللبستين، وقد صححه النقاد من هذه الأوجه الثلاثة، وما ذاك إلا لشأن الزهري، وجلالته، وأنه يرويه عن الثلاثة

ص: 358

هؤلاء، وحدث به عن كل واحد منهم

(1)

.

وهؤلاء الثقات الحفاظ وأمثالهم هم الذين يحمل ما ورد عنهم من اختلاف في رفع الحديث ووقفه، أو في وصله وإرساله، إذا صحت الطرق إليهم، على أن ذلك منهم بحسب النشاط والكسل.

وعكس هؤلاء من وصفوا بالاضطراب في حديثهم، إما في عموم حالهم، أو في شيوخ معينين، أو عن أهل بلد معين، ونحو ذلك، ويدخل فيهم المتروكون، والضعفاء، ومن يوصف بأنه صدوق، والثقة إذا كان في أدنى مراتب الثقة، وكذلك من يوصف باختلاف حاله بين حفظه وكتابه ونحو ذلك، ولم يتميز ما حدث به من كتابه، وكذلك المدلسون إذا جاء عن الواحد منهم ذكر شيخه وحذفه، فكل هؤلاء حالهم تدل على أن الاختلاف منهم، وليس من الرواة عنهم، كما سبق ذلك بأمثلته في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، ويستدل بذلك هنا على عدم حفظه للوجهين عن شيخيه إن كان الاختلاف في إبدال إسناد بآخر، وكذلك اضطرابه وتردده فيما يرويه بإسناد واحد، ويختلف عليه فيه في هذا الإسناد، وصلا وإرسالا، أو رفعا ووقفا، أو زيادة في الإسناد،

(1)

«صحيح البخاري» حديث (367)، (1991)، (2144)، (2147)، (5820)، (5822)، (6284)، و «صحيح مسلم» حديث (1512)، و «سنن أبي داود» حديث (3377 - 3379)، و «سنن النسائي» حديث (4522 - 4524)، (4526 - 4528)، (5355 - 5356)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2170)، و (3559)، و «مسند أحمد» 3: 6، 13، 46، 95، و «علل الدارقطني» 11: 298، و «فتح الباري» 1:477.

ص: 359

أو اختلافا في المتن

(1)

.

وقد تقدم في «الجرح والتعديل» أن من أهم وسائل الأئمة في الحكم على الراوي النظر في ثباته أو اضطرابه فيما يرويه

(2)

، فهؤلاء قد يكون نزول رتبتهم

-على تفاوتهم- عن الثقة الثبت بسبب الاضطراب الحاصل في رواياتهم.

ويلتحق بهؤلاء في الحكم الثقة الثبت إذا تبين أن الاختلاف منه، ولم يمكن حمله على تعدد الشيوخ، أو النشاط والفتور، وذلك كأن يأتي عنه أنه لم يتمكن من الحديث جيدا، فيقول مثلا: أراه عن فلان، أو أراه مرفوعا، أو لا أدري هو كذا أو كذا، أو يتردد في لفظ الحديث ولم يمكن الجمع بين روايتيه، ونحو ذلك.

والنقاد يلجؤون أحيانا إلى تحميل المدار عهدة الاختلاف مع كون الراوي بهذه الدرجة، غير أنه ليس بالكثير، ومنه قول أحمد:«اختلف شعبة، وسعيد، وهشام، في حديث أنس: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون» في اللفظ، وكلهم ثقات»

(3)

.

ومن ذلك أيضا رواية الزهري لقصة سهوه صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهو الحديث

(1)

وانظر أمثلة أخرى في: «علل ابن أبي حاتم» (11 - 12)، (263)، (943)، (1088)، (1233 - 1234)، (1613)، (1441)، و «علل الدارقطني» 2: 9، 22، 27.

(2)

«الجرح والتعديل» ص 91 - 95.

(3)

«مسائل أبي داود» ص 438. ورواية هؤلاء الثلاثة هي عن قتادة، عن أنس، انظر: «صحيح مسلم» حديث (376)، و «سنن أبي داود» حديث (200)، و «سنن الترمذي» حديث (78)، و «مسند أحمد» 3: 277، و «كشف الأستار» حديث (282)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3199).

ص: 360

المعروف بقصة ذي اليدين، قال ابن عبدالبر: «قد اضطرب على الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته

، لا أعلم أحدا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عَوَّل على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين، لاضطرابه فيه، وأنه لم يقم له إسناد ولا متنا، وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه أحد»

(1)

.

ويشار هنا إلى ضرورة تأني الباحث في تصحيحه وجهين رجح حفظهما عن المدار، فيصححهما بعده أيضا، فإن هذا مزلة قدم، قد يزل فيه من ينظر في الاختلاف، ويجتهد في تطبيق قواعده، فيسلك منهج المتأخرين في تصويب كل ما يرويه ثقة، ويتكلف لذلك كما يفعلون.

روى الحميدي، وإبراهيم بن بشار، وعبدالرحمن بن يونس، ومحمد بن الصباح، ومحمد بن ميمون الخياط، وأحمد بن عبدة، ومحمد بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أمه أم كلثوم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» ، وفي رواية الحميدي وإبراهيم بن بشار، قول سفيان: أخبروني عن الزهري، زاد الحميدي بعد سياق الحديث: ولم أسمعه من الزهري، وفي رواية عبدالرحمن بن يونس: ولم يسمعه سفيان من الزهري.

(1)

«التمهيد» 1: 364 - 366. وانظر: «سنن النسائي الصغرى» حديث (1229 - 1232) و «سنن النسائي الكبرى» حديث (564 - 568)، (1152 - 1155) ، و «التمييز» ص 183، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1040 - 1051).

ص: 361

تعرض أحد الباحثين لهذين الوجهين عن سفيان بن عيينة، وذكر أنهما محفوظان عن ابن عيينة، لثقة رواتهما.

ولا إشكال في ذلك، وهو كاف في ترجيح حفظهما عن ابن عيينة، لكن الباحث قال بعد ذلك: «ولا يعكر على ما ذكرت قول سفيان في رواية الحميدي: ولم أسمعه من الزهري، إذ يمكن حمل ذلك على تعدد السماع، وأنه سمع الحديث في أول الأمر عن الزهري بواسطة، ثم سمعه منه مباشرة

».

كذا قال الباحث، انتقل من الحديث عن المحفوظ عن ابن عيينة، إلى المحفوظ بعده، وليس هذا موضع الشاهد هنا، فإن الاستعانة بصفة الأوجه بعد المدار في النظر في الاختلاف عليه أمر متقرر، وإنما الشاهد هنا أن الباحث لم يتمعن جيدا فيما قال عن سماع ابن عيينة لهذا الحديث من الزهري، فأبعد النجعة جدا، فسفيان حين قال للحميدي ومن معه إنه لم يسمعه من الزهري كان ذلك بعد وفاة الزهري بدهر طويل، فلا يمكن أن يكون سمعه منه مباشرة مرة أخرى، فالمحفوظ من روايتيه إذن ذكر واسطة بينه وبين الزهري، والأخرى مدلسة، ارتكب فيها سفيان التدليس بلا شك.

وإذا فرغ الباحث من النظر في المدار وما ورد عنه، وصفه روايتيه، انتقل إلى جانب آخر يساعد في معرفة الراجح من روايتي المدار، فينتقل إلى الطرق الأخرى خارج المدار، فينظر إن كان هناك من شارك المدار في الرواية عن شيخه لهذا الحديث، فإن وجد أحدا شارك المدار تأمل في روايته هل رواه على الوجهين؟ أو على أحد الوجهين؟ أو أتى بوجه جديد؟ وهكذا في الطبقة التي تليها، حتى

ص: 362

نهاية الإسناد، وذلك في حال كون الوجهين إسنادهما بعد المدار واحدا، والاختلاف فيه وصلا وإرسالا، أو رفعا ووقفا، أو بزيادة راو، أو بالاختلاف في متن الحديث، فإن كان الوجهان بإسنادين مختلفين نظر الباحث في متابعات المدار ومن فوقه لكل إسناد منهما، ونظر إن كان بين هذه المتابعات ورواية المدار اختلاف.

وكما تقدم في المبحث الذي قبل هذا حين يكون مع الباحث وجه واحد راجح، فقد طولب الباحث في حكمه على الوجه الراجح أن ينظر في الطرق الأخرى خارج المدار، وقيل هناك إن الطرق الأخرى قد تبقي الراجح راجحا، وقد تحوله إلى مرجوح، وقد يكون الراجح خارج الاختلاف على المدار الأساس، إلى غير ذلك من الصور.

والأمر كذلك هنا، نتيجة النظر هذه قد تقود إلى تأكيد ما وصل إليه الباحث حين نظر في المدار نفسه، وفي صفة روايتيه، كأن يترجح من النظر فيه أحد الوجهين اللذين حفظا عنه، فيزداد هذا الترجيح قوة برواية من شارك المدار، أو من فوقه، وكأن يترجح من النظر في المدار حفظ الوجهين، فيتأكد هذا بالطرق العليا، وقد تتغير نتيجة النظر في المدار، كأن يتبين من النظر فيه حفظ أحد الوجهين، ومن النظر في الطرق الأخرى أنه قد غلط فيه والصواب الوجه الآخر، أو يتبين من النظر في المدار حفظه للوجهين، ثم يتبين غلطه في أحدهما، وقد يكون الراجح خارج روايتيه تماما.

وفوق ذلك أن الباحث ربما وجد طرقا أخرى إلى شيخ المدار يترجح بها خلاف ما ترجح عن المدار، ثم يجد طرقا أخرى فوق شيخ المدار تخالف هذا

ص: 363

الترجيح، فقد يترجح الوجه الذي كان مرجوحا، وقد يترجح حفظ الوجهين جميعا.

وفي أحيان كثيرة لا يجد الباحث طرقا أخرى خارج المدار يستعين بها في النظر والموازنة، فتبقى النتيجة على حالها.

ويتركب مما تقدم صور كثيرة لا حصر لها، في حاصل نتيجة النظر في المدار، وفي الطرق خارج المدار، وسأذكر الآن أمثلة لما تقدم، غير أني سأقتصر على بعض هذه الصور خشية الإطالة.

فمن ذلك حديث سعد بن إبراهيم الماضي في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه سعد، عن الزهري، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، ورواه مرة أخرى عن الزهري مرسلا، وكلتا الروايتين ثابتة عنه، والرواية بذكر أبي الطفيل حدث بها من حفظه فهي غلط إذن، والراجح الإرسال.

وقد تأيد هذا بأن أصحاب الزهري الآخرين رووه عنه بالإرسال، فقد ذكر الدارقطني أن معمرا وغيره رووه عن الزهري مرسلا

(1)

.

وكذلك الحديث الماضي في المبحث المشار إليه، وهو حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة مرفوعا: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا

» الحديث، فقد تقدم هناك أن سفيان يتردد فيه، فيرويه هكذا في أكثر أحيانه، وربما رواه بلفظ: «من قام رمضان

».

ولم يترجح بالنظر لحال سفيان شيء منهما، اللهم إلا أن يقال إن سفيان مع تردده يميل إلى أنه حفظه عن الزهري باللفظ الأول، ولهذا فهو يذكره في الغالب.

(1)

«العلل» 7: 41.

ص: 364

وبالنظر في الطرق الأخرى إلى الزهري نجد أن المحفوظ هو اللفظ الثاني: «من قام رمضان

»، هكذا رواه مالك، ومعمر، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وابن أبي ذئب، ويونس بن يزيد، وغيرهم، عن الزهري، وفي بعض رواياتهم ما يدل يؤكد أنه المحفوظ ففيها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم بعزيمة

»

(1)

.

وقد رواه مع الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ثلاثة: يحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو بن علقمة.

فأما يحيى بن سعيد فمدار روايته على محمد بن فضيل، وقد رواه بلفظ: «من صام رمضان

»

(2)

.

وأما يحيى بن أبي كثير فرواه عنه أبان بن يزيد، وشيبان بن عبدالرحمن، وهمام، ومعاوية بن سلام، بلفظ القيام، واختلف على هشام الدستوائي، والأوزاعي، فجاء عنهم على الوجهين

(3)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (37)، (2008)، و «صحيح مسلم» حديث (759)، و «سنن أبي داود» حديث (1371)، و «سنن النسائي» حديث (1602)، (2193 - 2197)، (2200)، (5041)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3417)، و «مسند أحمد» 2: 241، 281، 289، 529، و «صحيح ابن حبان» حديث (2546).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (38)، و «سنن النسائي» حديث (2204)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1641)، و «مسند أحمد» 2: 232، و «صحيح ابن حبان» حديث (3432).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (1901)، و «صحيح مسلم» حديث (760)، و «سنن النسائي» حديث (2205 - 2206)، (5042)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3414 - 3415)، و «مسند أحمد» 2: 408، 420، 473، و «سنن الدارمي» حديث (1776).

ص: 365

وأما محمد بن عمرو بن علقمة فجمع بين اللفظين في أكثر الروايات عنه: «من صام رمضان، وقامه

»، وجاء عنه بلفظ الصيام وحده

(1)

.

وقد وقع في بعض الأسانيد إلى هؤلاء أخطاء في الإسناد والمتن، تركتها هنا اختصارا

(2)

.

فتلخص مما تقدم أن أبا سلمة بن عبدالرحمن يروي عن أبي هريرة حديثين، أحدهما بلفظ: «من قام رمضان

»، وهذا يرويه عنه الزهري، ويحيى بن أبي كثير.

والثاني بلفظ: «من صام رمضان

»، وهذا يرويه يحيى بن سعيد الأنصاري، وكذا يرويه -فيما يظهر- يحيى بن أبي كثير، فإن ممن رواه عنه بهذا اللفظ هشام الدستوائي، وهو المقدم في أصحاب يحيى بن أبي كثير، وقد جاء عن هشام من رواية جماعة من أصحابه.

وأما جمع محمد بن عمرو بن علقمة بين اللفظين فيحتمل أن الحديثين كانا عنده عن أبي سلمة، فجمع بينهما، وهو متكلم فيه من قبل حفظه

(3)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (683)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1326)، و «مسند أحمد» 2: 385، 503، و «صحيح ابن حبان» حديث (3682)، و «شرح السنة» حديث (1707).

(2)

انظر: «سنن أبي داود» حديث (1371)، و «سنن النسائي» حديث (2190 - 2192)، و (2207 - 2209)، و «التاريخ الكبير» 8: 88، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2201)، و «علل الدارقطني» 9: 225 - 231.

(3)

وانظر في رواية محمد بن عمرو: «تاريخ الدوري عن ابن معين» 1: 238 - 239.

ص: 366

وقد شارك أبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف في رواية حديث القيام أخوه حميد بن عبدالرحمن

(1)

، وأما حديث الصيام فلم يصح إلا عن أبي سلمة وحده.

وأخرج الترمذي، عن الدارمي، عن زكريا بن عدي، عن عبيدالله بن عمرو الرقي، عن عبدالملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، وعمرو بن ميمون، قالا: «كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المكتب الغلمان، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الخبث

» الحديث.

ثم قال الترمذي: «قال عبدالله بن عبدالرحمن (يعني الدارمي): أبو إسحاق الهمداني مضطرب في هذا الحديث، يقول: عن عمرو بن ميمون، عن عمر، ويقول عن غيره، ويضطرب فيه»

(2)

.

ومراد الدارمي، والترمذي، أن أبا إسحاق يضطرب في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن ميمون، فالمصير إلى رواية غيره ممن لم يضطرب، وهو عبدالملك بن عمير، وروايته خارج الأوجه التي جاءت عن أبي إسحاق، وقد تقدمت الأوجه التي يروي أبو إسحاق الحديث عليها قريبا في هذا المبحث، وتقدم هناك أن الرازيين -أبا حاتم وأبا زرعة- يحملانه الاضطراب كذلك، لكنهما رجحا ما رواه قديما، وهو ما رواه عنه الثوري.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (37)، و (2009)، ومسلم حديث (759)، و «سنن النسائي» حديث (1601 - 1602)، (2198 - 200)، (5040 - 5041)، و «مسند أحمد» 2:486.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (3567).

ص: 367

ومن ذلك أيضا أن جماعة من الرواة -منهم أحمد، وسعيد بن عبدالرحمن المخزومي، ومحمد بن الصباح، وغيرهم- رووا عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه، قال: «قلت: يا رسول الله، أرأيت دواء نتداوى به، ورقى نسترقي بها

» الحديث

(1)

.

ورواه آخرون -منهم محمد بن أبي عمر العدني، وحسين بن محمد، ويحيى بن أبي بكير، وغيرهم- عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه

(2)

.

ورواه جماعة من أصحاب الزهري -منهم الزبيدي، ويونس، وصالح بن كيسان، وغيرهم- عن الزهري، كالرواية الثانية عن ابن عيينة، قالوا: عن أبي خزامة، عن أبيه

(3)

.

وبرواية الجماعة هذه خطأ النقاد الوجه الأول عن سفيان، فكان سفيان يخطئ فيه، وبدون رواية الجماعة عن الزهري الترجيح غير ممكن، فقد رواه أحمد، عن سفيان بن عيينة، على الوجه الأول الذي انفرد به، ثم رواه أحمد بواسطة حسين بن محمد، ويحيى بن أبي بكير، عن سفيان، على الوجه الذي وافق فيه

(1)

«سنن الترمذي» حديث (2148)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3437)، و «مسند أحمد» 3: 421، و «كنى الدولابي» 1: 26، و «مكارم الأخلاق» حديث (535).

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2065)، و «مسند أحمد» 3:421.

(3)

«مسند أحمد» 3: 421، و «مشيخة ابن طهمان» ص 86، و «جامع ابن وهب» حديث (699)، و «المعرفة والتاريخ» 1: 412، و «المستدرك» 4: 199، و «أسد الغابة» 1:395.

ص: 368

أصحاب الزهري، وقال أحمد:«وهو الصواب، كذا قال الزبيدي»

(1)

، وقال مرة:«والحديث إنما يروى عن أبي خزامة، عن أبيه، رواه يونس، والزبيدي -يعني محمد بن الوليد-، وهو أصحهما»

(2)

.

وقال الترمذي بعد أن أخرج رواية سفيان على الوجه الأول: «وقد روى غير واحد هذا عن سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، وهذا أصح، هكذا قال غير واحد عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه»

(3)

.

وكذا خطأ سفيان في قوله: عن ابن أبي خزامة غير واحد من النقاد

(4)

.

وروى آدم بن أبي إياس، والخصيب بن ناصح، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا:«ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»

(5)

.

ورواه موسى بن إسماعيل التبوذكي، عن حماد بن سلمة به موقوفا.

قال البخاري بعد أن ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار، ورجح وقفه على جابر من طريقه:«وقال لنا آدم: حدثنا حماد، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح، لأن موسى حدثنا عن حماد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: «ليس فيما دون خمس أوساق صدقة» ، وقال لنا إسماعيل: حدثني ابن أبي الزناد،

(1)

«مسند أحمد» 3: 421.

(2)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 167.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (2148)، وانظر كلامه على الحديث (2065).

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 338، و «علل الدارقطني» 2:251.

(5)

رواية الخصيب أخرجها الطحاوي في «شرح معاني الآثار» 2: 35.

ص: 369

عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، عن جابر قوله»

(1)

.

فضعف البخاري رواية حماد بن سلمة المرفوعة باضطراب حماد، وأنه قد رواه مرة موقوفا، والراويان عنه عند البخاري للرفع والوقف، وهما آدم بن أبي إياس، وموسى بن إسماعيل، ثقتان جليلان، ثم فزع البخاري إلى طبقة المدار، فرواه من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزبير موقوفا، فترجح إذن من روايتي حماد بن سلمة الوقف.

وللحديث طرق أخرى إلى أبي الزبير مرفوعة وموقوفة، ويتحصل في النهاية أن الراجح وقف الحديث على جابر، كما ذهب إليه البخاري

(2)

.

وروى عبيدالله بن معاذ، ومحمد بن عبدالأعلى، وسويد بن سعيد، وغيرهم، عن المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، وسعيد بن زيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»

(3)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 1: 224.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (980)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1794)، و «مسند أحمد» 3: 296، و «مسند الطيالسي» حديث (1808)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (7250)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 370، و «التاريخ الكبير» 1: 224، و «الأموال» لأبي عبيد حديث (1427)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 214، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2298 - 2299)، (2304 - 2306)، و «التمهيد» 13:117.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (2741)، و «سنن الترمذي» حديث (2780)، و «مسند أبي يعلى» حديث (972)، و «مسند الشهاب» حديث (783)، و «تاريخ بغداد» 12:329.

ص: 370

ورواه سعيد بن منصور، عن المعتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة بن زيد وحده

(1)

.

وهكذا رواه الجماعة من أصحاب سليمان التيمي، منهم شعبة، وسفيان بن عيينة، وهشيم، وجرير بن عبدالحميد، ويحيى القطان، وإسماعيل بن علية، وغيرهم

(2)

.

وقد أخرج مسلم روايتي المعتمر بذكر سعيد بن زيد وحذفه، لكن سياقه يشعر بتخطئته في الزيادة، فإنه افتتح الحديث برواية المعتمر التي ليس فيها ذكر سعيد بن زيد، ثم أعقبها برواية المعتمر التي فيها ذكره، ثم ساق الطرق الأخرى إلى سليمان اليتمي بحذف الزيادة، ليبين أن المعتمر أخطأ حين ذكر الزيادة.

وقد خطأ المعتمر بذكر الزيادة غير واحد من النقاد

(3)

.

وروى أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:«رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب»

(4)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2740).

(2)

«صحيح البخاري» حديث (5096)، و «صحيح مسلم» حديث (2740 - 2741)، و «سنن الترمذي» حديث (2780)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9153)، (9270)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3998)، و «مسند أحمد» 5: 200، 210.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (2780)، و «مسند البزار» حديث (1255).

(4)

«الضعفاء الكبير» 1: 109، و «مسند البزار» (8625).

ص: 371

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه أيوب بن عتبة

، فقالا: هذا خطأ، إنما هو يحيى، عن ضمضم بن جوس، عن أبي هريرة، قلت لهما: الخطأ ممن هو؟ قالا: من أيوب، حدث به مرة على الصحة عن ضمضم، ومرة على الخطأ»

(1)

.

ورواية أيوب على الخطأ سلك فيها الجادة فأخطأ، وقد تأكد خطؤه برواية الحفاظ من أصحاب يحيى بن أبي كثير للحديث عن يحيى، عن ضمضم بن جوس، عن أبي هريرة، ومنهم علي بن المبارك، ومعمر، وهشام الدستوائي

(2)

.

قال البزار: «هذا الحديث أخشى أن يكون أخطأ فيه أيوب بن عتبة في إسناده، إذ رواه عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وإنما يرويه الحفاظ عن يحيى، عن ضمضم بن جوس، عن أبي هريرة»

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضا: «وسألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر أم سلمة

» الحديث.

قال أبي: حدثنا صفوان، قال: حدثني الوليد مرة فوصله، ومرة حدثنا به

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 161.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (921)، و «سنن الترمذي» حديث (390)، و «سنن النسائي» حديث (1201 - 1202)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1245)، و «مسند أحمد» 2: 233، 248، 255، 284، 473، 475، 490.

(3)

«مسند البزار» 15: 214.

ص: 372

فأرسله، قال أبي: الناس يروونه عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا»

(1)

.

وروى حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» ، وقد قيل عن حاتم أيضا، عن أبي سعيد، مكان أبي هريرة

(2)

.

هكذا تردد فيه حاتم بن إسماعيل، وقد تبين من الطرق الأخرى أن الراجح خارج روايتيه، فقد سئل أبو حاتم، وأبو زرعة، عن روايتي حاتم فقالا: «الصحيح عندنا -والله أعلم-: عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم

مرسل».

قال أبو حاتم: «ورواه يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم

، وهذا الصحيح، ومما يقوي قولنا أن معاوية بن صالح، وثور بن يزيد، وفرج بن فضالة، حدثوا عن المصاهر بن حبيب، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام».

وقال أبو زرعة: «وروى أصحاب ابن عجلان هذا الحديث عن أبي سلمة مرسلا» ، قيل له: من؟ قال: «الليث، أو غيره»

(3)

.

وروى الجماعة من أصحاب محمد بن أبي ليلى عنه، عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي، عن علي، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 245.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (2608 - 2609).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 84، وانظر:«مصنف ابن أبي شيبة» 1: 344، و «علل الدارقطني» 9:326.

ص: 373

قال: (آمين)»

(1)

.

وقيل عن ابن أبي ليلى، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن علي

(2)

، وقيل عن ابن أبي ليلى، عن عبدالكريم بن أبي المخارق، عن عبدالله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي.

قال الدارقطني: «الاضطراب في هذا من ابن أبي ليلى، لأنه كان سيئ الحفظ، والمشهور عنه حديث حجية بن عدي»

(3)

.

ونحوه لأبي حاتم وقد ذكر له ابنه الوجهين الأولين، وذكر أبو حاتم أن الصواب خارج هذه الأوجه كلها، وهو: سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن وائل بن حجر

(4)

.

وحديث سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، أو أبي العنبس، يرويه عن سلمة حافظان جليلان، وهما سفيان الثوري، وشعبة، وقد اختلفا في غير موضع في الإسناد والمتن، فلا بد من النظر في هذا الاختلاف، وتحرير المحفوظ منه، وقد تقدم هذا في المبحث من الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

وروى عبدالأعلى بن عبدالأعلى، وحماد بن زيد، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان،

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (854)، و «علل الدارقطني» 3:185.

(2)

«المعجم الأوسط» حديث (5559).

(3)

«علل الدارقطني» 3: 186.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 93.

ص: 374

وينقص العمل

» الحديث

(1)

.

وعبدالأعلى بن عبدالأعلى، وحماد بن زيد، بصريان، ورواية معمر بالبصرة فيها ضعف، كما تقدم غير مرة، وقد رواه معمر باليمن فلم يذكر أبا هريرة، هكذا رواه عنه عبدالرزاق

(2)

.

قال الدارقطني في تعليل رواية معمر الموصولة: «يقال إن معمرا حدث بالبصرة من حفظه بأحاديث وهم في بعضها»

(3)

.

فإذا انتقلنا إلى طبقة الزهري فما رواه الجماعة شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، والليث بن سعد، وغيرهم - يخالف روايتي معمر، فقد رووه عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، فهي علة للموصول عن سعيد بذكر أبي هريرة، وقد أشار البخاري إلى هذه العلة بعد أن أخرج طريق سعيد الموصول، وكذا أعله البزار، والدارقطني بها

(4)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (7061)، و «صحيح مسلم» حديث (157، الموضع الثاني، بعد حديث 2672)، و «سنن ابن ماجه» حديث (4052)، و «مسند أحمد» 2: 233، و «التتبع» ص 161.

(2)

«مصنف عبدالرزاق» حديث (20751).

(3)

«التتبع» ص 161.

(4)

«صحيح البخاري» حديث (6037)، (7061)، و «صحيح مسلم» حديث (157، الموضع الثاني، بعد حديث 2672)، و «سنن أبي داود» حديث (4255)، و «مسند أحمد» 2: 525، و «مسند البزار» حديث (7719)، و «المعجم الأوسط» حديث (4522)، (4682)، و «التتبع» ص 161، و «علل الدارقطني» 9:181.

ص: 375

وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذكر سعيد بالوصل والإرسال وهما من معمر، فإنه لم يتابع على ذكره، ويحتمل أن يكون وهمه في ذكر أبي هريرة في طريق سعيد، ويكون الزهري له إسنادان في هذا الحديث: حميد، عن أبي هريرة، وسعيد مرسلا، لكن إنما يقوى حفظه لهذا الأخير لو كان معمر قد شارك الجماعة في رواية حديث حميد، وروى الإسناد الآخر.

ومن ذلك أيضا في معمر، أن عبدالرزاق، وعبدالله بن المبارك، رويا عنه، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، عن عبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من الشعر حكمة»

(1)

.

ورواه رباح بن زيد، وهشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث، عن مروان بن الحكم

(2)

.

والمعتمد من روايتي معمر الثانية، فقد قال رباح بن زيد:«أخرج معمر كتابه فإذا فيه: عن أبي بكر بن عبدالرحمن» ، قال ابن حجر بعد أن ذكر هذا:«كأن معمرا حدث به من حفظه فأبدل، وكتابه أتقن»

(3)

.

وقد تأيد هذا بأن الجلة من أصحاب الزهري، ومنهم شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، وزياد بن سعد، وإبراهيم بن سعد، وغيرهم - رووه عن الزهري

(1)

«مسند أحمد» 5: 125.

(2)

«مسند أحمد» 5: 125، و «الوسيط» للواحدي 3:366.

(3)

«النكت الظراف» 1: 32.

ص: 376

كرواية رباح، وهشام، عن معمر، إلا أن إبراهيم بن سعد -في قول الجماعة عنه- كان يقول: عن عبدالله بن الأسود، مكان: عبدالرحمن بن الأسود، وخطأه النقاد في ذلك

(1)

.

وقد وقع لابن عيينة نحو ما وقع لمعمر في ذكر عروة، وإن كان ابن عيينة يرسله

(2)

.

والخلاصة أن المتابعات للمدار ومن فوقه هامة جدا في حال وجود وجهين أو أكثر توصل الباحث إلى أنها كلها محفوظة عن المدار، وذلك لمعرفة الراجح من هذه الأوجه، أو من خارجها.

فإذا فرغ الباحث من النظر في المدار، وفي صفة روايتيه، وفي الطرق فوق المدار، فما يصل إليه في النهاية من نتيجة سواء ترجح وجه واحد أو أكثر - هو الذي يعتمده ويحكم على إسناده حكمه النهائي، ويتعامل الباحث معه -من حيث الجملة- كما تقدم في المبحث الذي قبل هذا، حين يكون عند الباحث وجه واحد راجح عن المدار، فيطبق ما تقدم هناك في الفقرة الخامسة، في الحديث عن الوجه الراجح، وكيفية تعامل الباحث معه، بعد فراغه من النظر في المدار، وما فوقه من طرق، فالحكم في الحالين واحد، وهو النظر في إسناد لوجه محفوظ، أو في أسانيد

(1)

«صحيح البخاري» حديث (6145)، و «سنن أبي داود» حديث (5010)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3755)، و «مسند أحمد» 3: 456، 5:125.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» 8: 503، و «المعرفة والتاريخ» 2: 723 - 724. وانظر مثالا آخر في «علل ابن أبي حاتم» (603).

ص: 377

لأوجه محفوظة، فلا أعيد ما ذكرته هناك.

وكذلك الحال في الوجه المرجوح هنا، إن كان يوجد وجه مرجوح، أحكامه تقدمت في المبحث السابق بتفاصيلها.

وأستثني من ذلك ثلاث قضايا، أتحدث عنها هنا:

1 -

إذا وقف الباحث على طرق أخرى خارج المدار للوجهين اللذين حفظا عن المدار، أو لأحدهما، وأراد أن يستعين بها في ترجيح حفظ الوجهين بعد المدار، أو حفظ أحدهما، فالباحث حينئذ ملزم قبل أن يستفيد من هذه الطرق أن يطبق عليها قواعد الاستعانة بطرق أخرى للترجيح.

ومن القواعد أن هذه الطرق لا يصح أن تغير من النتيجة السابقة في نظر الباحث في المحفوظ قبل المدار، فهو هنا ينظر في المحفوظ بعد المدار، والأصل أنه قد فرغ من المرحلة الأولى، فإن تغيرت النتيجة، وعاد الباحث فقرر أن المحفوظ عن المدار أحد الوجهين، فمعناه أنه قد اضطرب في معالجته للاختلاف قبل المدار، فقرر مسبقا حفظ وجهين، وذلك قبل أن يستكمل النظر في دلائل هذا الرأي، ثم عاد بعد أن استكملها فنقض هذه النتيجة، وهذا لا يصح أبدا.

ومنها أن هذه الطرق التي يريد أن يستعين بها عليه أن يفحصها جيدا، من جهة رواتها، وسماع بعضهم من بعض، ويطبق عليها قواعد التفرد، ويفعل بها كما فعل في الإسناد الأصل الذي ابتدأ به.

ثم عليه أن يفحصها جيدا من جهة وجود اختلاف على بعض رواتها، فإن

ص: 378

وجد شيئا من ذلك فعليه أن ينشئ نظرا جديدا في هذا الاختلاف، ويطبق عليه قواعد النظر في الاختلاف بصفة عامة، ويتوصل إلى نتيجة فيه هي التي ينقلها ليستفيد منها في نظره في المحفوظ بعد مداره الأساس.

ومنها كذلك أن الباحث بعد فحص هذه الطرق وظهور صلاحيتها للترجيح، عليه أن يتمعنها جيدا، فقد يكون في أسانيدها أو متونها دلائل يستعين بها في معرفة المحفوظ بعد المدار، من وجود قصة مثلا، أو وجود راو في المتن نقل إلى الإسناد، ونحو ذلك من الدلائل التي تدخل في صفة الرواية، وهي التي تقدمت في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

ومنها -وهو أمر بالغ الأهمية- أن يلاحظ الباحث قرب المتابعة من المدار وبعدها، وإمكانية الترجيح بما لا يستبعد عقلا.

وكل هذه القواعد وغيرها تقدم شرحها في المبحث الخاص بالاستعانة بطرق أخرى خارج المدار للترجيح بها في المحفوظ عن المدار، وهو المبحث الرابع من الفصل الثاني من هذا الباب، فالحكم في الحالين واحد، فهناك كان الحديث عن الاستعانة بهذه الطرق للترجيح قبل المدار في أوجه وردت عنه، وهنا يستعان بها في الترجيح في أوجه حفظت عنه.

2 -

إذا تحرر عند الناظر في الاختلاف في نهاية الأمر وجهان أو أكثر، وكان أحد الوجهين متضمنا للآخر، متمما له، فالحكم حينئذ يكون للوجه التام، ويندرج تحته الوجه الناقص، فلا حكم له.

ص: 379

ولهذا صور كثيرة، منها أن يحفظ عن المدار أو عمن بعده وجهان، أحدهما موصول، والآخر مرسل بإسقاط الصحابي، فالحكم للموصول، والمرسل انضوى تحته، فلا حكم له، وهكذا في الرفع والوقف.

ومنها أن يسقط الراوي شيخه أو من فوقه مرة، ويذكره أخرى، تدليسا، أو إرسالا، فالحكم للإسناد الذي أتى فيه بزيادة الراوي، والإسناد الآخر الناقص لا حكم له.

ومن هذا الباب قول ابن حجر في توجيه إخراج البخاري لحديث اختلف فيه على الزهري وصلا وإرسالا، في قصة إتيان صفية إليه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، فقيل عنه، عن علي بن الحسين، عن صفية أم المؤمنين، وقيل عنه، عن علي بن الحسين مرسلا، وأكثر الطرق إلى الزهري على وصله، ومنهم من رواه على الوجهين، قال ابن حجر:«واعتمد المصنف الطريق الموصولة، وحمل الطريق المرسلة على أنها عند علي، عن صفية، فلم يجعلها علة للموصول، والله أعلم»

(1)

.

وقد تقدم في المبحث السابق أن النقاد في حال ترجيح وجه واحد عن المدار، وتخطئة الآخر، قد يصححون الوجه الخطأ إذا كان الوجه الآخر متمما له،

(1)

«فتح الباري» 4: 287، وانظر طرق هذا الحديث في:«صحيح البخاري» حديث (2035)، (2038 - 2039)، (3101)، (3281)، (6219)، (7171)، و «صحيح مسلم» حديث (2175)، و «سنن أبي داود» حديث (3334)، (3357 - 3359)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1779)، و «مسند أحمد» 6: 337، و «مسند أبي يعلى» حديث (7121)، و «علل الدارقطني» 15:290.

ص: 380

فصارا وجها واحدا، فكذلك هنا من باب أولى، فمعنى حفظ وجهين عن المدار هنا وأحدهما ناقص هو بمعنى الترجيح، وإن لم يعبر عنه بالخطأ، فالراوي الذي عليه الاختلاف حين حدث بالناقص لم يأت بالرواية كما سمعها فهو بمعنى المرجوح إذن.

وأحكام الوجه المرجوح بابها واحد، لكنني اضطررت إلى إعادة بيان هذه القضية هنا لما فيها من الخفاء، فحفظ وجهين عن المدار، أحدهما تام، والآخر ناقص، قد لا يتفطن الباحث لقضية أن الوجه الناقص هو بمعنى المرجوح، فيذهب يحكم عليه لوحده.

وهذا رأيته في عمل كثير من الباحثين، إذا وصل إلى نتيجة حفظ الوجهين بعد المدار موصول ومرسل -مثلا- حكم على الموصول بحكم، ثم عاد فحكم على المرسل، فيقول مثلا: وقد تبين من الدراسة أن الوجهين محفوظان عن الأعمش، أو عن قتادة، أو عن الزهري، وهذا منه، تارة ينشط فيصل الحديث، وتارة يفتر فيرسله، والحديث من وجهه الموصول صحيح، وأما من وجهه المرسل، فهو ضعيف، وربما زاد الباحث على ذلك فيقول: ولكن هذا المرسل له متابعات، أو شواهد تقويه، فيرتقي إلى الصحيح لغيره.

هكذا رأيت بعض الباحثين يحرر نتيجته، وفي تحريرها بهذه العبارة وأمثالها خلل ينبغي على الباحث أن يتجنب الوقوع فيه.

ومن الإيغال في التفرقة بين الإسنادين على هذه الصورة أن أحد الإخوة

ص: 381

الباحثين تعرض لاختلاف على راو، وصلا وإرسالا، وقد أخرج البخاري الوجهين الموصول والمرسل، واكتفى مسلم بتخريج الموصول، وتوصل الباحث إلى أن الوجهين محفوظان عن المدار، ثم قال في النتيجة النهائية:«الحديث من وجهيه صحيح، حيث أخرجهما البخاري في «صحيحه» ، وانفرد مسلم بإخراج الوجه الأول فقط، ولكن البخاري مقدم، والجمع أولى من الترجيح».

كذا قال الباحث، والصواب أنه لا فرق بين عمل الإمامين، ومسلم لا يلزم من عمله الترجيح، فالحديث عاد إلى وجه واحد هو الوصل، وكون البخاري أخرج المرسل الأقرب أنه أراد بيان أن هذا ليس علة للموصول، بعد أن ثبت الوصل، أو أراد تكثير الطرق على عادته، فالمرسل موصول في الحقيقة.

3 -

تقدم في المبحث السابق ضرورة اعتناء الباحث بإسناد الوجه الراجح، والتأمل فيه جيدا قبل إصدار الحكم عليه، وأن الخلل قد يتطرق إلى عمل الباحث بعد الجهد الكبير الذي بذله في النظر في الاختلافات، والترقي فيها إن وجد الاختلاف في طبقات متعددة، يتطرق إليه الخلل في حكمه على الإسناد، من جهة رواته ودرجاتهم، وسماع بعضهم من بعض، وضربت هناك بعض الأمثلة.

وما قيل هناك يعاد ذكره هنا من باب أولى، وذلك في حال حفظ المدار لإسنادين للحديث الواحد، فيعتني الباحث بكل إسناد، ويصدر عليه حكمه اللائق به، ولا يفتر عن التدقيق فيهما أو في أحدهما، فيذهب عمله سدى.

ومما يؤخذ على بعض الناظرين في الاختلاف تسامحهم في الحكم على إسنادين

ص: 382

محفوظين للحديث مدارهما على شخص واحد، فيقول الناظر مثلا: والحديث صحيح من وجهيه، أو كلا الإسنادين صحيح، ونحو ذلك وعند التأمل لا يكون الأمر كذلك، ففي الإسنادين أو في أحدهما ضعف في جهة ما يمنع من التصحيح.

وقد يتسبب هذا القصور في التأمل في الإسنادين إلى خطأ مضاعف، فهناك خلل في طريقة كثير من المتأخرين في النظر في الاختلافات، وذلك من جهة تأثير تصحيح الإسنادين على الاختلاف نفسه، والنظر في المحفوظ من الأوجه، وإعمال قرائن الموازنة والنظر، فإذا رأى أن الإسنادين كلاهما صحيح بادر إلى الحكم بصحة الوجهين إلى المدار، وأن المدار قد حفظهما، ولا يدقق في قرائن الترجيح، فيمر سريعا على الاختلاف، ويصدر حكمه بحفظ الوجهين بحجة أنه ليس هناك تأثير كبير على صحة الحديث، فسواء حفظ الوجهان، أو أحدهما، فالحديث صحيح، فتكثر عندهم هذه العبارات ونحوها: وسواء كان هذا، أو هذا، فالحديث صحيح، أو: غاية ما في الأمر أنه انتقال من إسناد إلى آخر، وكلاهما صحيح، أو: وهو انتقال من ثقة إلى ثقة، وهذا لا يضر.

وغير خاف أن هذه الأسس التي ينطلق منها بعض المتكلمين على الاختلافات لها تأثير كبير في ضعف نظرهم في الاختلاف، وبعدهم عن منهج النقاد الأوائل، فلا تأثير مطلقا لحال الإسنادين -كما تقدم شرحه مرارا- على نظر الناقد، والجهد الذي يبذله في معرفة الراجح من المرجوح، ولهم من النظر في الاختلافات اعتبارات وأغراض غير مجرد معرفة الصواب في الاختلاف المعين.

ص: 383

فإذا وقع الناظر في الخلل في تحرير حال الإسنادين، وصححهما، ثم قاده ذلك إلى التأثير على نظره في أصل الاختلاف - صار خطؤه مضاعفا، فإن صحة الإسنادين لا تأثير لها في النظر في الاختلاف عن المدار، مع التسليم بصحتهما، فكيف إذا كانت صحتهما أو صحة أحدهما -وقد يكون هو الراجح عند النقاد- محل نظر؟

مثال ذلك الحديث الماضي في المبحث الذي قبل هذا، وهو حديث عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت، أو أبي أيوب، أنه قال لمروان بن الحكم: «ألم أرك قصرت سجدتي المغرب؟

» الحديث، وقيل: عن عروة، عن زيد بن ثابت وحده، وقيل: عن عروة، عن مروان بن الحكم، أن زيد بن ثابت قال له ذلك، وقيل عن عروة على وجهين آخرين.

والراجح أن الحديث لزيد بن ثابت وحده، لكن هل يرويه عنه عروة مباشرة، أو بواسطة مروان بن الحكم؟ تقدم أن النقاد يصححون أنه عن عروة، عن مروان، عن زيد بن ثابت.

وقد تعرض ابن حجر لهذا الاختلاف، ورجح أن الاختلاف فيهما من عروة بن الزبير، فكلا الوجهين عنه صحيح، وزيادة على ذلك فإسناد كل من الوجهين صحيح، فعروة سمعه من مروان، عن زيد بن ثابت، ثم لقي زيد بن ثابت فأخبره، واعتمد ابن حجر في ذلك على رواية عند الطحاوي، من طريق أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت، يصرح فيها عروة بالإخبار عن زيد بن ثابت، وهي أيضا عند الطبراني، ونقل رأي ابن حجر بعض الباحثين

ص: 384

وأقره على ذلك.

وبغض النظر عن النتيجة التي وصل إليها ابن حجر بالنسبة للاختلاف عن المدار وهو عروة، وأن الاختلاف من عروة، تارة يذكر مروان، وتارة يسقطه، فإن الحكم على رواية عروة، عن زيد بن ثابت بالصحة، وأنه سمعه من مروان عنه، ثم سمعه منه مباشرة، هذا الحكم هو محل النظر.

فرواية التصريح بالإخبار معلولة، كما يظهر من النظر في طرق الحديث إلى أبي الأسود، وقد رجح النقاد -كما تقدم في المبحث الذي قبل هذا- أن عروة يرويه بواسطة مروان، عن زيد بن ثابت، وعليه فكان يرسله عن زيد في بعض أحيانه.

وسماع عروة، من زيد بن ثابت، في أصله محل نظر، ولم أقف على قول لأحد يثبت سماعه منه سوى أن علي بن المديني ذكره مرة فيمن لقي زيد بن ثابت، ثم ذكره مرتين فيمن لم يلقه، وأطال في بيان ذلك، والمرة الأخيرة منهما يحتمل أن يكون ابن المديني ينقله عن يحيى القطان

(1)

.

وخلاصة ما تقدم أن طريق عروة، عن زيد، لهذا الحديث منقطع، وأن مرجعه إلى الطريق الآخر، والله أعلم.

ومن ذلك أيضا أن أبا اليمان الحكم بن نافع روى عن شعيب بن أبي حمزة، عن ابن أبي حسين، عن أنس، عن أم حبيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ما تلقى

ص: 385

أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض

» الحديث.

ورواه الحكم بن نافع مرة أخرى، عن شعيب، عن الزهري، عن أنس، عن أم حبيبة.

وكبار النقاد -كأحمد، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن صالح المصري، وغيرهم- يرون أن الحكم بن نافع غلط فيه حين جعله عن الزهري، فليس له أصل من حديثه، في كلام طويل لهم في ذلك

(1)

.

وقد مَرّ أحد الباحثين بهذا الحديث، فصححه، وذكر الاختلاف على الحكم بن نافع، وبعض كلام النقاد، ثم قال مبررا تصحيحه للحديث:«والخطب في ذلك يسير، فإنه انتقال من ثقة إلى ثقة» .

هكذا صنع الباحث، دفعه تصحيح الحديث من إسناديه إلى عدم التدقيق في أصل الاختلاف، فلم يحسم الرأي فيه، فوقع في إشكالين، ضعف النظر في الاختلاف، وتصحيح الحديث.

والإسناد الذي رجحه النقاد وهو: شعيب، عن ابن أبي حسين، عن أنس، لم يستوف شروط الصحة، فابن أبي حسين -وهو عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي- لم يسمع من أنس، فيما يظهر من ترجمته، وهو قد روى عنه

(1)

«مسند أحمد» 6: 428، و «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 456، و «أسئلة البرذعي لأبي زرعة» ص 746، و «السنة» لابن أبي عاصم حديث (215)، (800)، و «المعجم الكبير» 23 حديث (409)، و «المعجم الأوسط» حديث (4645)، و «علل الدارقطني» 15: 271، و «المستدرك» 1: 68، و «تهذيب الكمال» 7: 150 - 153، و «سير أعلام النبلاء» 10:323.

ص: 386

حديثا بواسطة عطاء بن أبي رباح

(1)

.

4 -

إذا لم يصل الباحث إلى رأي في وجهين محفوظين أو أكثر عن المدار، فلم يرجع بعضها إلى بعض، ولم يرجح حفظها كلها، بعد نظره في المدار وما فوقه من طرق، فإما أن يكون حكم على المدار بالاضطراب، أو توقف في الحكم، فلم يبن له شيء في الأوجه، فينتقل نظره حينئذ في الاختلاف إلى حال أخرى، وهي موضوع المبحث التالي.

وقبل الانتقال إلى المبحث التالي لا بد من الإشارة إلى وجود ارتباط في بعض الاختلافات، ونظر الباحث فيها، بين ما تقدم في المبحث الثاني وهو (الوجه الراجح والوجه المرجوح) ، وبين ما تقدم في مبحثنا هذا وهو (الأوجه المحفوظة عن المدار) ، من جهة وجودهما جميعا في اختلاف واحد، بسبب تعارض القرائن أمام الناظر في الاختلاف، فيتردد بين ترجيح أحد الأوجه عن المدار، وبين عدم وجود وجه راجح، فكلها محفوظة عنده، فيذكر الباحث الاحتمالين، ودلائل كل احتمال.

وقد تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب، أمثلة على وقوع هذا للنقاد، بسبب تعارض القرائن، وسيأتي له قريبا أيضا زيادة بيان وأمثلة في المبحث الرابع من فصلنا هذا، فإذا وقع هذا للباحث بدأ بعرض الرأي

(1)

«مسند أحمد» 3: 156، و «التاريخ الكبير» 1: 129، و «كنى الدولابي» 1: 108، و «شرح مشكل الآثار» حديث (3071)، و «معجم ابن الأعرابي» حديث (166).

ص: 387

الأقوى عنده، فيذكره ويذكر دلائله، ثم ينتقل للاحتمال الآخر، فلو افترضنا أنه مال أولا إلى الترجيح بدأ به، وذكر قرائنه، وتعامل مع الوجه المرجوح والوجه الراجح كما تقدم في المبحث الثاني، ثم انتقل إلى احتمال حفظ الوجهين عن المدار، وتعامل معه كما تقدم في مبحثنا هنا.

* * *

ص: 388

‌المبحث الرابع

عدم حفظ شيء من أوجه الاختلاف عن المدار

في بعض الأحاديث يصل الباحث في نهاية دراسته للاختلاف إلى أن يحكم بعدم حفظ شيء عن مدار الاختلاف، فقد تكون طرق الأوجه إليه كلها ضعيفه، بسبب رواتها، أو انقطاع في أسانيدها، أو وقوع خطأ على بعض الرواة ممن دونهم في الإسناد.

وقد تقدم في أول المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب بعض الأمثلة على هذا.

ومن ذلك أيضا أن حسين بن عطاء بن يسار روى عن زيد بن أسلم، عن عمر، قال: سألت أبا ذر عن صلاة الضحى، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى سجدتين لم يكتب من الغافلين

» الحديث

(1)

.

ورواه الصلت بن سالم، عن زيد بن أسلم، عن عبدالله بن عمرو، عن أبي الدرداء

(2)

.

وحسين بن عطاء، والصلت بن سالم، ضعيفان جدا، وقد سئل أبو حاتم عن اختلافهما، فقال:«جميعا مضطربان، ليس لهما في الرواية معنى»

(3)

.

(1)

«المجروحين» 1: 234، و «أطراف الغرائب والأفراد» حديث (4684).

(2)

«الضعفاء الكبير» 2: 209.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 134، و «الجرح والتعديل» 3: 61، 4: 436، و «لسان الميزان» 2: 298، 3:195.

ص: 389

وقد تكون الطرق إلى المدار في حيز القبول، غير أن الناظر في الاختلاف لم يتمكن من ترجيح شيء منها، فيتوقف، وقد تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثالث الحديث عن تعارض القرائن والمرجحات في الاختلاف الواحد، وأن ذلك يعرض للنقاد الكبار، فيترددون في الترجيح، وقد يرجح الناقد مرة وجها، ومرة وجها آخر، وهو بالنسبة للباحث أمر بالغ الصعوبة، كما شرحته هناك.

ف‌

‌إذا وصل الحال بالناظر في الاختلاف إلى تكافؤ القرائن فلا بد أن يتوقف في الحكم

، فيقول مثلا: ولم يتبين لي أي الوجهين هو المحفوظ، أو عندي توقف في الراجح منهما، كما يقول الناقد إذا سئل عنهما: لا أدري، أو يحتمل هذا وهذا.

و‌

‌إذا توقف الناظر في الاختلاف عن الترجيح صار الحديث مضطربا، وأعل الوجهان جميعا بهذا

كما قال العلائي: «إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شيء من ذلك، مع أن كلهم ثقات

، فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث

-بل غالبهم- جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، فمتى اعتضدت إحدى الطريقتين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها، وإلا توقفوا عن الحديث، وعللوه بذلك»

(1)

.

ص: 390

ويلتحق بما تقدم في الحكم ما إذا وصل الناظر إلى حفظ وجهين أو أكثر عن المدار، وتبين له أن المدار هو سبب الاختلاف، وبعد أن نظر في المدار وما فوقه من طرق لم يستطع ترجيح شيء منها، ولا الحكم بحفظها كلها، فالحديث حينئذ مضطرب.

وتحميل المدار عهدة الاختلاف تقدمت أمثلة كثيرة له في المبحث الثالث من فصلنا هذا، وكذلك في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب، وفي كثير منها يتمكن الناظر في الاختلاف عن طريق التأمل في حال المدار، وصفة روايتيه، والطرق فوقه، من ترجيح شيء من الأوجه المحفوظة عنه، أو الحكم بحفظها جميعا، فهذا شأن آخر، مضى الكلام فيه في المبحث الذي قبل هذا، والكلام الآن فيما إذا لم يتمكن الناظر من الوصول إلى شيء من ذلك، فهو حكم منه بالاضطراب ولا بد.

فيضم الناظر ما كان حرره من كلام في الطرق إلى المدار، وفي المدار نفسه، إلى حكمه بالاضطراب، وكذلك ما يجده من كلام في رواة الإسناد بعد المدار، وينظر كذلك في أوجه الاختلاف فوق المدار إن كان هناك اختلاف فوقه، فإن وجد فيها شيئا ضمه كذلك إلى ما تقدم، ويلخص كل هذا بعبارة مناسبة، فليس هناك عبارة تضبط هذا يوصى بها الباحث، فالصور المتفرعة عنه كثيرة جدا، والمهم في هذا أن يراعي الباحث حين اختياره للعبارة، وفي تعاطيه مع الأوجه المضطربة، ما تقدم في المبحث الثاني من قواعد تتعلق بالوجه المرجوح، إذ الاضطراب علة، فكأن الأوجه كلها مرجوحة.

ص: 391

وفي قضية الاضطراب أمران مهمان:

الأمر الأول: نجد في تناول بعض الباحثين للاختلافات حالات من الحكم بالاضطراب يعود الباحث فينفي بعدها الاضطراب عن الحديث، وأشهرها في صنيعهم حالتان، الأولى: إذا كان الاضطراب في وجهين بإسنادين مختلفين، في راو أو أكثر، وكان الإسنادان بالنسبة للرواة وسماع بعضهم من بعض صحيحين، أو في حكم الصحيح، تجدهم يسعون إلى نفي تأثير الاضطراب عليهما، فيكثر منهم أن يقول أحدهم: وهو انتقال من ثقة إلى ثقة فلا يضر، أو غاية ما في الأمر إبدال إسناد بآخر، وكلاهما صحيح، فلا تأثير، والحديث صحيح، ونحو ذلك.

ولا تردد في أن هذا المسلك مخالف لطريقة أئمة النقد، وهو في النهاية يؤدي إلى الخلط بين منهجين في التطبيق، وقد حذرت منه مرارا فيما سبق، إذ المفترض في الباحث أن يكون طويل النفس في تطبيق منهج النقاد، شديد الانتباه، لا يغفو فيدعه بقصد أو دون قصد.

ومنهج النقاد في هذه المسألة واضح لاخفاء فيه، فالاضطراب مشعر في الجملة بعدم الضبط، وكون الراوي تردد بين إسنادين لا يمنع الاحتمال أن يكون هناك إسناد ثالث هو الصواب، لكن الراوي لم يضبط.

ثم إن القول بأن التردد بين إسنادين متساويين لا يضر - يعود بالنقض على أحكام النقاد على الرواة، فإن الثبات أو التردد من أهم وسائل أحكامهم التي

ص: 392

يصدرونها على الرواة، كما تقدم في «الجرح والتعديل»

(1)

، ومن أمثلته أيضا، عاصم بن أبي النجود، فقد تكلم النقاد في حفظه، ومن الكلام فيه تردده في الحديث الواحد عن شيوخه، قال حماد بن سلمة:«كان عاصم يحدثنا بالحديث الغداة عن زر، وبالعشي، عن أبي وائل»

(2)

، وقال العجلي:«وكان ثقة في الحديث، ولكن يختلف عنه في حديث زر، وأبي وائل» ، ثم ضرب أمثلة لذلك

(3)

.

الثانية: إذا كان الاختلاف على وجهين، وكان أحدهما تاما والآخر ناقصا، كالوصل والإرسال، والرفع والوقف، وزيادة راو وحذفه، ونحو ذلك، وكانت النتيجة التي وصل إليها الناظر في الاختلاف هي الاضطراب، فبعض الباحثين يقرر أنه لا مانع في مثل هذه الحالة أن يوقف مع الناقص منهما، ففي الرفع والوقف يحكم للوقف، وفي الوصل والإرسال يحكم للإرسال، وفي زيادة راو وحذفه يحكم للناقص منهما، فإن كانت زيادته تؤدي إلى ضعف الإسناد لضعفه هو حكم بذلك، وإن كان ثقة وحذفه يؤدي إلى انقطاع الإسناد، حكم لهذا الوجه، وهكذا.

ومن حججهم في هذا المقام أن الأدنى هو المتيقن، والأعلى مشكوك فيه، فنلقي الشك، ونبقى مع الأدنى.

وكذلك ما يؤثر عن النقاد في التحذير من الزيادة في الحديث، والتسامح في

(1)

«الجرح والتعديل» ص 90 - 95.

(2)

«شرح علل الترمذي» 2: 788.

(3)

«الثقات» 2: 6.

ص: 393

النقص منه، كقولهم: انقص من الحديث، ولا تزد فيه، ومرادهم أن الخطأ في النقص أهون من الخطأ في الزيادة.

وكذلك ما جاء عن بعض الرواة من تعمد وقف الحديث، أو إرساله، إذا توقف الراوي في شيء منه في متنه أو إسناده، أو كان شيخه ضعيفا، ونحو ذلك، كما تقدم هذا في المبحث الأول من الفصل الثاني من هذا الباب.

وهذه الحجج ترجع إلى أصل عظيم من أصول النقد عليه أدلة كثيرة، وهو البراءة الأصلية، فالأصل أن الحديث لم يرد عمن نسب إليه، ورفع هذا الأصل يحتاج إلى دعامة قوية، هي شروط الحديث الصحيح عند النقاد، فإذا ترددنا في شيء، يبقى مع البراءة الأصلية، أو يرفعها، فالحكم لمن يبقيها.

غير أن هذه الحجج إنما تفيد منع ترجيح التام عند الاضطراب، وأما البقاء مع الأدنى فلا تفيده، وبين المسألتين فرق، فنحتاج للبقاء مع الأدنى إلى دليل آخر، يمنع من قيام احتمال أن يكون هناك وجه خارج أوجه الاضطراب، وهو أدنى مما ورد إلينا، إذ وقوع الاضطراب يفتح باب هذا الاحتمال ويقربه.

وهذا الدليل الآخر -فيما أرى- يتعلق بدرجة الراوي الذي وقع منه الاضطراب، فإن كان الراوي ثقة وقع منه الاضطراب في هذا الحديث المعين، قرب جدا أن يقال إن الظاهر عدم وجود وجه لم يرد في الرواية، وأن تردده كان بين هذين الوجهين: التام، والناقص، وأما إن كان الراوي ضعيفا، أو موصوفا بكثرة الاضطراب في حديثه، فاحتمال وجود وجه ثالث، قد يكون أدنى مما ورد في الوجهين هو احتمال قوي، والقضية تحتاج مزيد تأمل وبحث.

ص: 394

الأمر الثاني: يحكم الناقد على الحديث الذي وقع فيه اختلاف بعد نظره في أمور كثيرة، منها ما هو في الطرق إلى المدار، وصفة روايتهم، ومنها ما هو في المدار نفسه، وروايته، ومنها ما هو في الطرق فوقه، وكل ما يمر به هو محل اجتهاد ونظر للناقد، فهي أحكام مبنية على قرائن قد تتعاضد، فيصير الحكم على الناقد سهلا، وقد تتعارض إما تعارضا ضعيفا، أو قويا.

والحكم بالاضطراب لا يخرج عن هذا، فهو إحدى النتائج التي يصل إليها الناظر في الاختلاف بناء على ما أمامه من قرائن وأدلة.

وهذه مسألة مفروغ منها ليست خاصة بقضية الاضطراب، وتقريرها هنا من أجل بيان أن الحكم بالاضطراب قد يكون ظاهرا لا خفاء فيه، كأن تكون الطرق إلى المدار فيها ضعف ما، ولا مرجح بينها، والمدار فوق أن يوصف بالاضطراب، وكأن يكون المدار نفسه موصوفا بالاضطراب، بصفة عامة، أو عن بعض شيوخه، وهو يروي الحديث عن واحد منهم، والطرق مع ذلك إلى المدار قوية، فيحمل الاضطراب.

وقد يكون الحكم بالاضطراب فيه خفاء، فقرائنه ليست قوية، كأن يكون المدار ثقة لم يوصف بالاضطراب، ولكن الطرق إليه أيضا قوية، وما شابه ذلك، وبناء على هذا فلا يستغرب أن يكون للناقد الواحد في الحديث رأيان، رأي يصرح فيه بالتوقف، أو يحكم بالاضطراب، ورأي يرجح فيه وجها واحدا، أو وجهين، ولا يستغرب أن يحكم ناقد بالاضطراب، وناقد آخر يرجح أحد الأوجه، وقد تقدمت أمثلة هذا في مبحث تعارض القرائن وهو المبحث الرابع

ص: 395

من الفصل الثالث من هذا الباب.

وتقدم في المبحث الثاني من فصلنا هذا أن ترجيح وجه واحد قد يكون ظاهرا قويا، فيكتسب الوجه الراجح من هذا قوة، والوجه المرجوح ضعفا، وقد يكون الترجيح فيه ضعف، فمع جنوح الناقد إلى الترجيح إلا أن الاضطراب لم يزل تماما، فيؤثر هذا عليهما، وذكرت هناك بعض الأمثلة على هذه الصورة.

ويمكن تقرير هذا هنا بصورة مقلوبة، ف‌

‌حكم الناقد بالاضطراب لا يزيله أن يشير إلى احتمال رجحان وجه واحد

من أوجه الاختلاف، فالاضطراب باق، والحديث يضعف به، والحكم في هذه القضايا لغلبة الظن، فهناك رجح وجها واحدا بناء على غلبة ظنه، وإن كان الاضطراب لم يزل تماما، فالترجيح مع لينه لا يزال باقيا، وهنا حكم بالاضطراب بناء على غلبة ظنه، وأشار إلى احتمال ترجيح وجه واحد، فالحكم بالاضطراب لم يزل باقيا.

وسأضرب الآن مثالا واحدا للاضطراب يجتمع فيه ما تقدم، ثم أعقب عليه بما أريد.

روى صدقة بن يزيد المقدسي، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله تعالى: إن عبدا أصححت جسمه، وأوسعت عليه في الرزق، يأتي عليه خمس سنين لا يفد إلي محروم» .

وصدقه بن يزيد ضعيف الحديث، استنكر النقاد عليه هذا الحديث، وصرحوا بأن الصواب أنه من رواية العلاء بن المسيب، وليس العلاء بن

ص: 396

عبدالرحمن

(1)

.

والعلاء بن المسيب قد اختلف عليه في هذا الحديث اختلافا واسعا، فقيل عنه، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، وقيل عنه، عن أبيه، أو عن رجل، عن أبي سعيد مرفوعا، وقيل عنه، عن يونس بن خباب، عن مجاهد، عن أبي سعيد مرفوعا، وقيل عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرة مرفوعا، ومرة موقوفا، وقيل عنه من قوله هو.

سأل ابن أبي حاتم أباه، وأبا زرعة، عن حديث صدقة بن يزيد، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، فاستنكراه من حديث العلاء بن عبدالرحمن، فالصواب أنه من حديث العلاء بن المسيب، وقال أبو حاتم بعد ذلك:«والناس يضطربون في حديث العلاء بن المسيب» ، ثم ذكر بعض أوجه الاختلاف.

قال ابن أبي حاتم: «قلت لأبي أيها الصحيح منها؟ قال: هو مضطرب، فأعدت عليه، فلم يزدني على قوله: هو مضطرب، ثم قال: العلاء بن المسيب، عن يونس بن خباب، عن أبي سعيد موقوف مرسل أشبه، قلت لأبي: لم يسمع يونس، من أبي سعيد؟ قال: لا

، وقال أبو زرعة: والصحيح: عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

فترجيح أبي زرعة للوجه الذي ذكره لا يلغي ما ذهب إليه أبو حاتم من

(1)

«التاريخ الكبير» 4: 295، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 268، 286، 290، و «الضعفاء الكبير» 2: 591، و «الكامل» 4:1396.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 290.

ص: 397

الحكم بالاضطراب، فهذا اجتهاد ناقد، وهذا اجتهاد ناقد آخر، وأيضا ميل أبي حاتم إلى الوجه الذي ذكره بعد إلحاح ابنه لا يلغي حكمه بالاضطراب، فهو ترجيح فيه لين، لم يصل إلى درجة الظن الغالب، كما يظهر من السياق، ويؤكده أن ابنه سأله مرتين أخريين عن حديث صدقة بن يزيد، عن العلاء بن عبدالرحمن، فاستنكره، وذكر حديث العلاء بن المسيب، وأنه الصواب، وفي الأولى منها قال:«إنما هو: العلاء بن المسيب، عن يونس بن خباب، عن أبي سعيد، مرسلا مرفوعا»

(1)

.

وقال في الثانية منهما: «إنما هو كما رواه خلف بن خليفة، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقفه»

(2)

.

فهذه ثلاثة آراء لأبي حاتم في الوجه الذي يرجح أنه المحفوظ، مما يؤكد أن حكمه بالاضطراب لا يزال باقيا، وهو ما ذهب إليه الدارقطني، فإنه قال بعد أن ذكر عددا من أوجه الاختلاف:«ولا يصح منها شيء»

(3)

.

والغرض من تقرير ما تقدم يتعلق بـ (مصطلح الحديث)، في قضية هامة جدا، تحدثت عنها بشيء من الإيضاح في بحث خاص عن تدريس هذه المادة، وأكتفي هنا بالإشارة إليها، فخلاصتها أن‌

‌ التمثيل لمصطلح من المصطلحات لا يصح الاعتراض عليه إذا كان الاعتراض منصرفا إلى اجتهاد المعترض

،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 268.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 290.

(3)

«العلل» 11: 309.

ص: 398

مخالفا فيه اجتهاد من مَثَّل بالحديث، إذ المقصود بالمثال إيضاح المصطلح، وهو حاصل بالحديث الذي تم التمثيل به وفق اجتهاد من ذكره، فلا يصح النقض عليه باجتهاد غيره، وإلا لم يسلم مثال لأحد، لا في الاضطراب ولا في غيره، إذ يتطلب سلامة المثال أن لا يخالف فيه أحد، وهذا أمر متعذر

(1)

.

وقد مثل ابن الصلاح -ووافقه العراقي، وغيره- للمضطرب بحديث أبي هريرة مرفوعا في سترة المصلي:«إذا لم يجد عصا ينصبها بين يديه فليخط خطا»

(2)

.

واعترض على ابن الصلاح جماعة ممن جاء بعده -ومنهم ابن حجر- بأن الجمع ممكن، وقال ابن حجر في نهاية كلامه:«ومع ذلك كله فالطرق التي ذكرها ابن الصلاح، ثم شيخنا، قابلة لترجيح بعضها على بعض، والراجحة منها يمكن التوفيق بينها، فينتفي الاضطراب أصلا ورأسا» .

ثم استعاض ابن حجر عن هذا المثال بالحديث المشهور، حديث أبي بكر: «أراك شبت يا رسول الله

»، وساق عددا من أوجه الاختلاف فيه

(3)

.

فاجتهاد ابن حجر في ترجيح وجه من وجوه الاختلاف في حديث أبي هريرة، واعتراضه -بناء على ذلك- على التمثيل به لا يسلم له، لسببين:

(1)

انظر مثالا حكم عليه أبو حاتم بالاضطراب، ورجح فيه أبو زرعة في «علل ابن أبي حاتم» (2374)، (2416).

(2)

«مقدمة ابن الصلاح» ص 205، و «التقييد والإيضاح» ص 122، و «محاسن الاصطلاح» ص 205.

(3)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» ص 772 - 776.

ص: 399

الأول: أن الحديث عند من مَثَّل به هو مضطرب حسب اجتهاده، وهذا كاف لسلامة المثال، والحديث الذي مَثَّل به ابن حجر لغيره نظر آخر فيه، فالترجيح فيه ممكن

(1)

، فلا تنقطع السلسلة أبدا.

والسبب الثاني: أن وجود ترجيح لوجه أو أكثر لا يلغي الاضطراب، إذا لم يصل الناظر إلى ظن جازم أو غالب، فالاضطراب باق مع وجود الترجيح

(2)

.

والمخرج من كل هذا -في المضطرب وغيره- هو ما أشرت إليه، أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، والمثال صحيح عند من يمثل به، وفيما يخص المضطرب يضاف أن الميل إلى وجه من وجوه الاختلاف أو أكثر لا ينفي الاضطراب، إذا لم يصل الترجيح إلى الظن الجازم أو الغالب، والله أعلم.

* * *

(1)

انظر: رسالة «أحاديث أبي إسحاق السبيعي التي ذكر الدارقطني فيها اختلافا في كتاب العلل» لخالد باسمح ص 197 - 225، و «الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده» حديث (39).

(2)

انظر مثالا من صنيع ابن حجر، وصف الحديث باضطراب مداره، مع إشارته إلى إمكان الترجيح في:«إتحاف المهرة» 14: 517.

ص: 400

‌الفصل الخامس

النظر في الاختلاف وكلام النقاد

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: جهد الباحث وعلاقته بكلام النقاد.

المبحث الثاني: فوائد جمع كلام النقاد.

المبحث الثالث: كلام النقاد ومصطلحاتهم.

المبحث الرابع: عبارات الترجيح والتصحيح.

ص: 401

‌المبحث الأول

جهد الباحث وعلاقته بكلام النقاد

الناظر في الفصول السابقة المتعلقة بقضية اختلاف الرواة يدرك بسهولة سعة هذا العلم، وتشعبه، وحاجة الباحث إلى مزيد من الجهد والمثابرة، حين يواجه ذلك، وبالتجربة فكل حديث يتعرض له الباحث يظهر أمامه من مسائل هذا العلم ما لم يظهر في الحديث الآخر، فهذا حديث تبين أن الاختلاف فيه سببه المدار، لسعة روايته، أو لاضطرابه في هذا الحديث، أو لاضطرابه في عموم روايته، وهذا حديث تبين أن الاختلاف فيه سببه رواة أحد الأوجه، فبعضها خطأ، وهذا حديث ظهر فيه أن الأوجه كلها لا تصح، وهذا حديث يحتمل عدة آراء، ودلائل ذلك كله قد تكون ظاهرة متعاضدة، وقد تكون خفية، بل قد تكون متعارضة.

والذي يوصى به الباحث في كل الأحوال أن لا يحاول السير لوحده، فهو مرتبط -شاء أم أبى- بأئمة النقد، كما تقدم التنبيه عليه في أكثر من مناسبة، وهو هنا يبرز بقوة، إذ تقدم في الفصل الرابع من الباب الأول، ما توافر للنقاد من وسائل النظر والموازنة، مما لا يمكن للباحث المتأخر أن يستخدمه، يضاف إلى ذلك أن ما نشاركهم فيه من وسائل النظر والموازنة هم أقرب إلى تطبيقه على وجهه الصحيح.

وقد جرى التأكيد على هذه القضية في مناسبات عديدة، ويأتي الحديث

ص: 403

عنها أيضا في مناسبات أخرى، لكن المقصود هنا هو إيضاح العلاقة بين ما قام به الباحث من جهد، وبين ما يقف عليه من كلام النقاد في الحديث الذي ينظر فيه ، ويمكن القول بأن هذه العلاقة ليست على درجة واحدة وصفة واحدة، سواء بالنسبة للباحثين، وتمكنهم، ودربتهم، أو بالنسبة لكل حديث بعينه، إذ الأحاديث تختلف من جهة ظهور الترجيح وخفائه.

وأمر آخر -لا يقل أهمية عن سابقه- وهو أن استخدام قرائن الترجيح والموازنة من قبل من جاء بعدهم لا يعني بالضرورة أن يكون الشخص قد بلغ مبلغهم وساماهم في علمهم، فإن ذلك مما لا سبيل إليه، واشتراطه يعني إغلاق باب الاجتهاد في هذا الفن مطلقا كليا أو جزئيا، والذي أراه أنه يمكن للمتأخر أن يشارك أئمة النقد استخدام هذه القرائن، بالقدر الذي يستطيعه، ويرى أنه ممكن له، وهذا القدر يختلف من باحث لآخر، فهو على درجات، يضع الباحث نفسه في الدرجة اللائقة بها، وهو مسؤول عن ذلك، وهذه الدرجات هي:

1 -

الخروج بمعرفتها عن دائرة التقليد المحض إلى معرفة الحق بدليله، وأعني بذلك أن الباحث إذا وقف على حديث رجح فيه الأئمة وجها من وجوه الاختلاف أدرك هو سبب الترجيح، واطمأنت نفسه، وفوق ذلك إذا رأى من يخالفهم ممن لم يسلك منهجهم ولم يتبع طريقتهم، لم تترك هذه المخالفة في نفسه أثرا.

ولو افترضنا أن الباحث واجه حديثا اختلف الأئمة في الترجيح فيه أمكنه أن يفهم وجه الترجيح في كل قول.

وتمكن الباحث من هذه الدرجة يساعده كثيرا على حسن عرضه لمادته

ص: 404

العلمية في تخريجاته وبحوثه، ويبعده عن الوقوع في خطأ فهم مصطلحات الأئمة العلمية.

وتحقق هذه الدرجة للباحث ليس بالأمر الهين، فهو يحتاج إلى صبر ومثابرة، وكثرة دربة ومران، ثم لا ينبغي الاستهانة بهذا القدر من الفائدة، فهو مكسب عظيم، أغفله كثير من الباحثين، وقنعوا بما دونه، واضطرهم الأمر أحيانا إلى التعرض له فما أحسنوا.

فهذه الدرجة إذن أدنى درجات الاستفادة من معرفة قرائن الترجيح، وكيفية استخدامها.

2 -

قد يقف الباحث على حديث رجح الأئمة أو بعضهم وجها من وجوه الاختلاف وذكرت أسباب الترجيح، ثم يرى الباحث أنهم اكتفوا بذكر بعض أسباب الترجيح، وتركوا بعضها، إما استغناء بما ذكر عما لم يذكر لوضوح الأمر، أو لكون الإمام لم يقف على المرجح الآخر، أو لغير ذلك، فبإمكان الباحث حينئذ أن يعضد هذا الترجيح بما يقف عليه من مرجحات لم تذكر، فيقول: ويترجح ما ذكروه أيضا بكذا وبكذا، ثم يذكر ما لديه.

3 -

يمر بالباحث أحاديث فيها اختلاف، ويرجح الأئمة وجها من الوجوه، فيقول الواحد منهم: الصواب وقفه، أو إرساله، أو رفعه، أو وصله، أو كونه عن فلان، دون أن يوضح سبب الترجيح، وهذا كثير جدا، ففي هذه الحالة يمكن للباحث أن يجتهد في تفسير أسباب الترجيح إذا كان قد عرف المرجحات التي يستخدمها الأئمة.

ص: 405

ومثله لو وقع اختلاف بين الأئمة في الترجيح ولم تتضح أسباب الترجيح لكل قول، فالباحث حينئذ يجتهد في تفسيرها.

وكل هذا يفعله الباحث مع التزام الحذر الشديد، لئلا يحمل كلام الأئمة ما لا يحتمله.

وهذه الدرجات -الأولى والثانية والثالثة- ليس للباحث فيها اجتهاد في الترجيح نفسه، فمهمته حسن العرض، وزيادة التوضيح والبيان.

4 -

إذا مر بالباحث حديث وقع في أسانيده أو متنه اختلاف، واختلف الأئمة في الترجيح، وكل ذكر ما يؤيد قوله، فبإمكان الباحث حينئذ أن ينظر في مرجحات كل قول، وله بعد تأن ونظر أن يميل إلى ما هو الأقوى في نظره، بحسب ما توافر لكل قول من مرجحات، وقد يزيد في الوجه الذي اختار ترجيحه مرجحات أخر لم يتعرض لها الأئمة الذين اختاروه، أو يزيد في الوجوه المرجوحة أسبابا أخرى لذلك لم يذكرها الأئمة أيضا.

ولا شك أن هذه خطوة فوق التي قبلها، إذ بدأ الباحث يقحم نفسه في الاجتهاد في الترجيح بين الأوجه، ويختار منها ما يراه الأقوى، ولا شك أيضا أنها تحتاج إلى مزيد وخبرة ومران، وكثرة ممارسة ونظر في كلام الأئمة وترجيحاتهم.

5 -

قد يخرج الباحث حديثا ويجمع طرقه ثم يجد في أسانيده أو متنه اختلافا يحتاج إلى موازنة ونظر، ثم يبحث عن رأي للأئمة أو لأحدهم فلا يجد من ذلك شيئا، ويرى في بعض أوجه الاختلاف ما يمكن ترجيحه، بناء على معرفته بالمرجحات التي استخدمها الأئمة.

ص: 406

وقضية الاجتهاد في التصحيح والتضعيف وإغلاق هذا الباب جرى بحثها كثيرا، ولا ريب أنه من الصعوبة بمكان القول بإغلاق باب الاجتهاد تماما، فالاجتهاد معناه بذل الجهد والوسع لمن له أهلية الاجتهاد وتمكن منه، وأعني بهذا أنه لا بأس باستخدام مرجحات الأئمة في حديث لم يتكلموا عليه، متى ظهر ذلك جليا للباحث، وكان قد تهيأ لذلك وجرب، ودرس أحاديث كثيرة للأئمة فيها ترجيح، فاكتسب من ذلك هيئة نفسية تساعده على تحمل مسؤولية مثل هذا، فإن الأمر دين، مع ملاحظة أن يبتعد ما استطاع عن عبارات الجزم والقطع، مثل عبارة: الصواب بلا ريب هو كذا، أو: وهذا هو المحفوظ قطعا، فيقول مثلا: والأظهر -والله أعلم- كذا وكذا، أو: ويظهر لي -والله أعلم- أن الصواب هو الوجه الفلاني، أو: ويمكن من خلال ما تقدم ترجيح الوجه الفلاني، وأن يتذكر الباحث المقولة المشهورة: حفظت شيئا وغابت عنك أشياء.

6 -

إذا مر بالباحث حديث تكلم فيه الأئمة أو بعضهم فرجحوا وجها أو أكثر، ثم ظهر للباحث من خلال نظره في المرجحات التي بنوا عليها ترجيحهم وما تجمع لديه من مرجحات أخرى أنه يمكن ترجيح خلاف ما رجحه الأئمة فهل له أن يقارعهم ويعترض عليهم ويرجح خلاف ما رجحوه؟ هذا سؤال مهم، والإجابة عليه ليست سهلة.

وبادئ ذي بدئ لا بد من إخراج بعض الصور من هذا السؤال، وذلك فيما إذا اتفقت كلمة الأئمة على ترجيح وجه من الوجوه فإنه لا يصح بحال من الأحوال معارضتهم وترجيح خلاف ما رجحوه، ومثل ذلك ما إذا توارد على

ص: 407

هذا الترجيح عدد منهم، فالذي أراه كذلك أنه ينبغي التسليم لهم والأخذ بقولهم، وإن بدا للباحث أن الراجح خلافه، فتوارد جماعة من الأئمة على شيء هو بالنسبة للمتأخر أمر ملزم.

يبقى مجال النظر فيما إذا حكم واحد منهم بترجيح وجه من الوجوه، فقد يقال: هذا حكم شخص واحد، والباحث قد وقف على مرجحات تدل على خلاف ما ذهب إليه هذا الإمام، فالمتجه حينئذ أن يبدي الباحث رأيه المخالف، فيقول مثلا: وقد ذهب فلان إلى ترجيح الوصل، لكذا وكذا، والذي يظهر لي أن الراجح إرسال الحديث لما يأتي، ويذكر ما اعتمد عليه، أو العكس.

وغير خاف أن القول بأن للباحث أن يخالف هذا الإمام، مبني على ظواهر الأمور، ففي كل اختلاف في أي علم من العلوم إذا بدا للباحث خلاف ما ذهب إليه أحد ممن سبقه، معتمدا على أدلة قوية فله أن يذكر رأيه، لكن هذا القول لم يلاحظ ما لهذا العلم من خاصية -أعني علم اختلاف الروايات والموازنة بينها- ينفرد بها عن غيره من العلوم، وهذه الخاصية هي أن أئمته الذي طبقوه في عصر الرواية كان فيهم من الدراية والعلم، ولديهم وسائل الترجيح والموازنة ما لا يمكن توافره لمن جاء بعدهم، وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الرابع من الباب الأول، فأحكامهم على الاختلافات وعلى أخطاء الرواة يصدرونها من منطلق مجموعة من المعارف كونت لديهم قدرة علمية بها يميزون الخطأ من الصواب، والراجح من المرجوح، حتى أنه في أحيان كثيرة يحكم الواحد منهم بحكم ولا يستطيع أن يقيم الدليل عليه مع جزمه به.

ص: 408

ومن هذا الباب قول عبدالرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة»

(1)

، علق السخاوي على كلمة ابن مهدي هذه بقوله:«يعني يُعَبِّر بها غالبا، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والدفع»

(2)

.

وقال عبدالرحمن أيضا: «إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة»

(3)

، وروي عنه أنه قيل له: كيف تعرف صحيح الحديث من خطئه؟ فقال: «كما يعرف الطبيب المجنون»

(4)

.

وقال علي بن المديني: «أخذ عبدالرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة -لا أسميه- حديثا، فغضب له جماعة، فأتوه، فقالوا: يا أبا سعيد من أين قلت هذا في صاحبنا؟ فغضب عبدالرحمن بن مهدي، وقال: أرأيت لو أن رجلا أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بهرج، يقول له: من أين قلت لي إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم»

(5)

.

وقال أحمد بن صالح المصري: «معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب والشبه، فإن الجوهر إنما يعرفه أهله، وليس للبصير فيه حجة إذا قيل له: كيف

(1)

«معرفة علوم الحديث» ص 113، وانظر:«علل ابن أبي حاتم» 1: 9، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:255.

(2)

«فتح المغيث» 1: 273.

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 9، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:256.

(4)

«المجروحين» 1: 32.

(5)

«الجامع لأخلاق الراوي» 2: 256.

ص: 409

قلت: إن هذا بائن -يعني الجيد أو الرديء-؟ »

(1)

.

وقال أبو حاتم: «مثل معرفة الحديث كمثل فَصٍّ ثمنه مائة دينار، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم»

(2)

.

وروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: «جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال قلت: ما هذا إدعاء الغيب. قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن إتفقنا علمت أنا لم نجازف، ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم. قال: هذا عجب، فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت:

ص: 410

إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح. فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما، فقلت: فقد ذلك أنا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارا نبهرجا يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا نبهرج؟ هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل فمن أين قلت: إن هذا نبهرج؟ قال: علما رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك.

قلت له: فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت؟ هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجا؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر، إلا بما نعرفه»

(1)

.

ونحو ذلك وقع لأبي زرعة، في هذه القصة: «قال له رجل: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة -يعني محمد بن وارة- وتسأله عنه، ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه، فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلام كل منا على ذلك

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 349.

ص: 411

الحديث، فإن وجدت بيننا خلافا في علته فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، قال: ففعل الرجل، فاتفقت كلمتهم عليه، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام»

(1)

.

وإبرازا لجلالة هؤلاء الأئمة النقاد في هذا العلم وتميزهم، وأنه لا يقاربهم ولا يدانيهم أحد ممن جاء بعدهم - فقد توارد الأئمة بعدهم على الثناء عليهم، وتأكيد اختصاصهم بهذا الفن، فمن ذلك قول ابن منده:«إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفرا يسيرا ممن يدعي علم الحديث، فأما سائر الناس من يدعي كثرة كتابة الحديث، أو متفقه في علم الشافعي، وأبي حنفية، أو متتبع لكلام الحارث المحاسبي، والجنيد، وذي النون، وأهل الخواطر، فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث، إلا من أخذه عن أهله، وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته»

(2)

.

وقال العلائي لما ذكر حديثا له علة خفية كشفها أحد أئمة الحديث: «وبهذا يتبين أن التعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث، دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياها»

(3)

.

وقال ابن كثير في حديثه عن علم (العلل): «هو فن خفي على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل.

(1)

«معرفة علوم الحديث» ص 113، و «الجامع لأخلاق الراوي» 2:256.

(2)

«شرح علل الترمذي» 1: 339.

(3)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 714.

ص: 412

وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن: الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والزيوف، والدنانير والفلوس، فكما لا يتمارى هذا كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس

»

(1)

.

ومع أن هذا المكان ليس مناسبا للإطالة في شرح ما تميز به أئمة النقد عن غيرهم، إلا أنني رأيت أنه من اللازم التعرض لشيء منه لمعرفة الجواب المناسب على السؤال المطروح وهو: إذا حكم إمام متقدم بحكم في حديث وقع فيه اختلاف، ثم ظهر للباحث من خلال قرائن الترجيح خلاف ما رجحه هذا الإمام، فهل يصح للباحث أن يخالفه؟

وأظن الإجابة -من خلال العرض السابق- باتت ظاهرة، فالذي يظهر لي أن الباحث عليه متابعة ذلك الإمام، وعدم الالتفات إلى ما ترجح لديه، فهذا أسلم له من جهة، وأليق بأصول هذا العلم من جهة أخرى، وقد رأيت للحافظ ابن حجر كلاما مناسبا للمقام هنا، أذكره للاستئناس به، فقد قال بعد أن أطال في الكلام على حديث أعله أئمة النقد، وصححه جماعة: «وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم - بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه، وكل من

ص: 413

حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد

»

(1)

.

وقال أيضا في كلامه على (الحديث المعلل) ملخصا كلاما للعلائي: «وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهما غايصا، واطلاعا حاويا، وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك.

وقد تقصر عبارة المعلل منهم فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء.

فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي -مع إمامته- يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث.

وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأما إن وجد غيره صححه، فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما، وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة، ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح»

(2)

.

ص: 414

وقد أشار السخاوي إلى أمر هام جدا في ضرورة متابعة أئمة النقد في أحكامهم عند اختلاف الرواة، كما تقدم نقل كلمته في التمهيد، وهو أننا نتابعهم في أحكامهم على الرواة في الجرح والتعديل، فإذا وثق الواحد منهم راو أخذنا بقوله، وإذا جرحه فكذلك، ما لم يكن له معارض فيلزم النظر، فالباب واحد حينئذ، وقد تقدمت الإشارة إلى أن أئمة النقد إنما حكموا على الرواة في الغالب عن طريق مقارنة مروياتهم

(1)

، فبهذا يكتشفون قوة القوي وضعف الضعيف، فمن أخذ بقولهم في الرواة وترك قولهم في اختلاف الرواة فقد تناقض حينئذ ولا شك.

ويستوي في ذلك من ترك منهجهم في مقارنة المرويات والموازنة حين الاختلاف بالكلية، وسلك مسلك الفقهاء والأصوليين في النظر إلى الأسانيد مفردة، ومن يدعي أنه على منهج أئمة النقد في الموازنة والمقارنة لكنه عند التطبيق لا يبالي بأحكامهم، ويدعها لأدنى شبهة، ويضع نفسه في مصافهم، ويتكلم على الأحاديث بجرأة وإقدام كأنه واحد منهم، بل أكثر منهم جرأة وإقداما.

ولما كانت كلمة السخاوي من الأهمية بمكان فإني أعيد نقلها هنا، قال السخاوي في حديثه عن أحكام أئمة النقد: «هو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث

-كابن خزيمة، والإسماعيلي، والبيهقي، وابن عبدالبر- لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث

(1)

انظر: «الجرح والتعديل» ص 77 - 99.

ص: 415

بالأدلة، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعني.

فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله، ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع - يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله»

(1)

.

وعلى هذا فما يذكره الأئمة المتأخرون من حث طلبة الحديث على إدامة النظر والقراءة في كتب أئمة النقد، وملاحظة كلامهم وأحكامهم ونقدهم، لمشاركتهم في هذا العلم، يتحدد المقصود به في حدود الدرجات الخمس الأولى التي يستفيدها المتأخر من معرفته للمرجحات بين الرواة حين الاختلاف، وهي المرجحات التي يمكنه تطبيقها والاستفادة منها، وأما الدرجة السادسة فيكون الباحث منها على حذر شديد وليعرف قدر نفسه، فرحم الله امرءا عرف ذلك.

ومن تلك الكلمات التي أعنيها كلمة ابن رجب الماضية في التمهيد أيضا، قال: «ولا بد في هذا العلم (يعني علم العلل) من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعه في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد، وابن المديني، وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك، وفهمه،

(1)

«فتح المغيث» 1: 274.

ص: 416

وفقهت نفسه، وصارت له فيه قوة نفس وملكة - صلح له أن يتكلم فيه»

(1)

.

ولا بد -بعد ذلك وفي نهاية هذا المبحث- من الإشارة إلى الطريق الذي سلكه هؤلاء الأئمة حتى حلوا بهذه المنزلة التي هم فيها، والثمن الذي دفعوه لذلك، وإنما قلت: لا بد من الإشارة - لأن الحديث في هذا المقام يحتاج إلى توسع وبسط ليس هذا مكانه، يصح أن يقال إن الحديث فيه ذو شجون، يفرح ويبكي، يسر ويحزن، تأخذ القارئ فيه النشوة، ويعتريه الطرب إذا ألم بشيء من أخبارهم وقصصهم، ويحمد الله تعالى أن وجد هؤلاء في هذه الأمة، فهم قرة عينها، والغُرَّة في جبينها، ويحزن بل ويبكي حين يرانا ونحن بالنسبة إلى علمهم صبية أغرار - فنخوض فيما يخوضون فيه، ونتكلم فيما هو من اختصاصهم، ونقارعهم الحجة بالحجة، بل وصل الأمر ببعض المنتسبين لهذا العلم إلى درجة استهجان صنيعهم والحط عليهم.

وسأكتفي هنا بنقل‌

‌ ثلاثة نصوص ترشد إلى ما بذله الأئمة النقاد من جهد ووقت ومال

، اثنان منهما لواحد منهم وهو الإمام أبو حاتم، يحكي جانبا مما لقيه في سبيل تحصيل هذا العلم، قال أبو حاتم: «أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته

(2)

، ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من

(1)

«شرح علل الترمذي» 2: 664.

(2)

يعني تركت الإحصاء.

ص: 417

البحر من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرطوس إلى حمص -وكان بقي على شيء من حديث أبي اليمان فسمعت-، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل

(1)

، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيا، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين

»

(2)

.

وقال أيضا: «بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا فشيئا، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى بيت خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا علي رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني، وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد غدا علي، فقال: مر بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا، فقال لي: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من

(1)

النيل: بليدة في سواد الكوفة. معجم البلدان 5: 334.

(2)

«الجرح والتعديل» 1: 359.

ص: 418

البصرة، وقبضت منه النصف دينار»

(1)

.

وأما النص الثالث فهو لابن تيمية يصف فيه ما بذله هؤلاء الأئمة، وما قدموه من تضحيات، قال: «وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، يتوسد أحدهم التراب، وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال والصعاب، أمر حببه الله إليهم وحلاه، ليحفظ بذلك دين الله

»

(2)

.

* * *

(1)

«الجرح والتعديل» 1: 363.

(2)

«مجموع فتاوى ابن تيمية» 1: 7.

ص: 419

‌المبحث الثاني

فوائد جمع كلام النقاد

يفترض في الباحث لكي يتمكن من النظر في حديث وطرقه أن يكون بذل أقصى جهده في جمع طرق هذا الحديث، كما تقدم شرح ذلك في الفصل الأول من الباب الأول، ويكمل الباحث هذا ببذل جهد آخر لجمع كلام النقاد على حديثه الذين بين يديه، محاولا جهده استقصاء ذلك، والتنقير الشديد عن كلامهم في مظانه.

ولكي تتضح أهمية البحث عن كلام النقاد وجمعه أذكر بعض الفوائد لهذا، ثم أنبه على بعض الأمور المتعلقة بجمع كلام النقاد، والنظر فيه.

فمن هذه الفوائد أن كلام الناقد قد يكون متضمنا لذكر الاختلاف، ولولا كلامه هذا لما عرف الباحث أن هناك اختلافا، وربما ذهب يتكلم على بعض رجال الإسناد، أو على تفرد فيه، وقد يقع هذا للنقاد أنفسهم.

فمن ذلك الحديث الماضي في الفصل الرابع من الباب الأول، في المبحث الثاني منه، وهو ما رواه أبو أسامة حماد بن أسامة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في (قصة ذي اليدين)، فقد مَرَّ على هذا الحديث جماعة من النقاد، منهم أبو حاتم، وابن خزيمة، والدارقطني، وغيرهم، يذكرون تفرد أبي أسامة به عن عبيدالله، ومنهم من صرح بنكارة الحديث، قال أبو حاتم:«هذا حديث منكر، أخاف أن يكون أخطأ فيه أبو أسامة»

(1)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 99، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1034)، و «أطراف الغرائب والأفراد» حديث (3373)، و «سنن البيهقي» 2:359.

ص: 420

وليحيى بن سعيد القطان نقد لهذا الحديث لم يذكروه، وقد تضمن ذكر مخالفة أبي أسامة لما في كتاب عبيدالله بن عمر، فالحديث في الكتاب مرسل، ونقل أحمد كلام يحيى، وأقره عليه.

ومر أحد الباحثين بالحديث الذي تقدم في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو ما رواه زهير بن معاوية، وشريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس مرفوعا في التلبية، وقال عنه إن إسناده ضعيف، لاختلاط أبي إسحاق، ولأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، لكن الحديث صحيح لغيره.

كذا قال الباحث، ولأبي حاتم كلام على هذا الحديث لم يورده الباحث، وهو موضح لوجود اختلاف فيه على أبي إسحاق.

فقد سئل عن هذه الرواية، فذكر أن سفيان الثوري، وأبا الأحوص، وإسرائيل، وغيرهم، رووه عن أبي إسحاق ولم يرفعوه، ثم سئل عن الأصح منهما، فقال:«سفيان، وإسرائيل أتقن، وزهير متقن، غير أنه تأخر سماعه من أبي إسحاق» .

وروى محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبدالله الصنابحي، عن عبادة بن الصامت مرفوعا: «خمس صلوات افترضهن الله على عباده

» الحديث

(1)

.

(1)

«سنن أبي داود» حديث (425)، و «مسند أحمد» 5:317.

ص: 421

تعرض أحد الباحثين لهذا الإسناد فقال في وصفه: «إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين» ، ثم ذهب يتكلم على (عبدالله الصنابحي) وأن الصواب: عن أبي عبدالله الصنابحي، وهو عبدالرحمن بن عسيلة.

ولأبي حاتم كلام في تعليل الحديث بهذا الإسناد من الأهمية بمكان، لم يورده الباحث، فقد سئل عنه أبو حاتم، فقال: «سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنت أنكره، ولم أفهم عورته حتى رأيته الآن: حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن ابن محيريز، عن عبادة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

، فعلمت أن الصحيح هذا، وأن محمد بن مطرف لم يضبط هذا الحديث، وكان محمد بن مطرف ثقة»

(1)

.

والحديث مشهور عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، رواه عنه جماعة

(2)

، وأما جعله عن عطاء بن يسار بالإسناد المذكور فقد تفرد به محمد بن مطرف، فظهر صواب ما قال أبو حاتم.

وروى داود بن أبي هند، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 89، وإسناد الحديث موضع السؤال ليس فيه عند ابن أبي حاتم ذكر عبدالله الصنابحي.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1420)، و «سنن النسائي» حديث (460)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1401)، و «مسند أحمد» 5: 315، 318، 322، و «مسند الحميدي» حديث (388)، و «شرح مشكل الآثار» حديث (3169)، (3171)، و «مسند الشاشي» حديث (1282، 1283، 1287)، و «مسند الشاميين» حديث (2183 - 2187).

ص: 422

«غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»

(1)

.

صححه بهذا الإسناد أحد المشايخ، وقال فيه أحد الباحثين:«حديث صحيح بطرقه وشواهده، رجاله ثقات رجال الصحيح، وأبو الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس- لم يصرح بالتحديث، لكنه قد توبع» .

ثم ذكر من تابعه، فذكر إسنادين آخرين إلى جابر، أحدهما من طريق أبان بن أبي عياش، عن أبي نضرة، عن جابر بلفظ:«من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل»

(2)

، وضعف الإسناد بأبان، وأنه متروك.

وذكر بعده من طريق محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا:«الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»

(3)

، وقال:«وإسناده حسن» .

وتقدم لنا هذه الطريقة في النقد صورة باهتة جدا لما آل إليه النقد لدى كثير من المشايخ والباحثين، فهذا الحديث عن جابر لا يصح، فإسناد أبي الزبير ترك فيه الباحث كلاما لأبي حاتم يقضي عليه، فقد سئل عنه أبو حاتم، فقال: «هذا

(1)

«سنن النسائي» حديث (1377)، و «مسند أحمد» 3: 304، و «مصنف ابن أبي شيبة» 2: 93، 95، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (1747)، و «شرح معاني الآثار» 1: 116، و «صحيح ابن حبان» حديث (1219)، و «التمهيد» 10:82.

ورواية داود بن أبي هند هي المشهورة، وقد جاء في المنتخب من مسند عبد بن حميد حديث (1072) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير.

(2)

«مسند عبد بن حميد» حديث (1077).

(3)

«صحيح ابن خزيمة» حديث (1746)، و «المعجم الأوسط» حديث (4267).

ص: 423

خطأ، إنما هو على ما رواه الثقات، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن أبي هريرة، موقوف»

(1)

.

وممن رواه كذلك زهير بن معاوية، وهو أحد الأثبات في أبي الزبير

(2)

، وقد ترك الجادة، فظهر جدا أن الصواب روايته

(3)

.

وأما طريق محمد بن المنكدر فهو في الغاية من الضعف، إذ هو من رواية عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، ورواية الشاميين -خاصة عمرو بن أبي سلمة- عن زهير بن محمد، واهية جدا، كما تقدم شرح ذلك

(4)

.

وهؤلاء الباحثون يوردون أحيانا كلام أئمة النقد، فترك النقل هنا -مع قربه- يوحي للقارئ أن الحديث غير معلل، وليس كذلك.

وقد يتجاوز الباحث ما تقدم بأن يقف على الإسناد الذي فيه مخالفة، ثم يذكره على أنه متابع أو شاهد لإسناده، ويكون النقاد قد نبهوا إلى أن هذا علة للإسناد، ولم يذكر الباحث كلامهم.

ومن أمثلة ذلك أن أحد الباحثين تعرض للحكم على ما يرويه حماد بن زيد، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن البصري، عن الضحاك بن سفيان

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 28.

(2)

«الجعديات» حديث (2613).

(3)

انظر: «فتح الباري» لابن رجب 5: 397، و «البدر المنير» 3: 375، و «إتحاف المهرة» 3:382.

(4)

«الجرح والتعديل» ص 113.

ص: 424

الكلابي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ضحاك ما طعامك؟

» الحديث

(1)

، فقال: «صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، لضعف علي بن زيد، ولانقطاعه، فالحسن لم يسمع من الضحاك بن سفيان

».

ولابن معين كلام لم يحضره الباحث، يبين فيه أن هذا الإسناد خطأ، وأن الصواب ما رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان مرسلا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك

»، فقد سئل عن هاتين الروايتين، فقال:«حماد بن سلمة أعرف بعلي بن زيد من حماد بن زيد»

(2)

.

وقد ترتب على إغفال كلام ابن معين عند الباحث أنه جعل حديث أبي عثمان هذا الذي هو عند ابن معين علة لحديث الضحاك، جعله شاهدا له، وعضده به، فذكره من طريق عاصم الأحول، عن أبي عثمان، وذكر الاختلاف فيه على عاصم وعلى من دونه، فمنهم من يجعله عن أبي عثمان، عن سلمان، ومنهم من يجعله مرسلا ليس فيه سلمان، ومنهم من يشك

(3)

، وقال عن المجزوم به دون أن يعالج الاختلاف في إسناده:«وإسناده صحيح على شرط الشيخين، فالحديث يصح به» ، يعني أن حديث الضحاك يصح بهذا الشاهد.

ومن الفوائد أيضا أن بعض الأحاديث لا يظهر للناظر فيها لأول وهلة وجود اختلاف على أحد رواتها، فالباحث أثناء جمعه للطرق، ونظره فيها لم يتبين

(1)

«مسند أحمد» 3: 452، و «المعجم الكبير» حديث (8138).

(2)

«سؤالات ابن الجنيد» ص 479.

(3)

«الزهد لابن المبارك» حديث (491 - 492)، و «المعجم الكبير» حديث (6119).

ص: 425

له ذلك، فيقف على كلام ناقد ينص أو يشير فيه إلى هذا الاختلاف، وقد تقدم في المبحث الأول من الفصل الأول من هذا الباب الحديث عن التردد في عَدِّ تنوع الرواية عن راو من الرواة حديثا واحدا وقع فيه اختلاف، أو هما حديثان منفصلان، وذكرت هناك أن القارئ في «سنن النسائي» ، يتعجب من سعة حفظ هذا الإمام، وقدرته على استحضار الارتباط بين الأسانيد.

وفي أقل الأحوال أن يكون الباحث قد دار في خلده أن تلك الرواية مرتبطة برواية أخرى عنده، فهو محتاج إلى النظر بينهما، يميل إلى عده اختلافا، غير أنه محتاج إلى من يدفعه قليلا إلى اعتماد هذا، فإذا ظفر بكلام ناقد وافق ما جال بخاطره، فقد ظفر بكنز ثمين، واطمأن إلى ما سيقوم به من عمل.

ومما يتصل بهذا أن الناقد ربما اكتفى بذكر وجهين أو ثلاثة من أوجه الاختلاف، والباحث وقف على أوجه أخرى، فهو بحاجة إلى من يرجح له دخولها في هذا الاختلاف، وقد يقف على هذا المرجح في كلام الناقد نفسه في مكان آخر، أو في كلام ناقد آخر، وهذا كثير جدا.

ومن الفوائد أيضا، أن كلام النقاد على الاختلافات هو في نفسه مورد معين للطرق نفسها، فالناقد ربما سرد طرقا للأوجه أو بعضها لم يقف عليها الباحث قبل ذلك، وليس هذا بالقليل، بل هو كثير جدا، بل ربما لم يقف الباحث على طرق للاختلاف أو لبعض الأوجه إلا من كلام الناقد، وقد تقدم الحديث عن هذا في الفصل الثالث من الباب الأول، وكذلك في الفصل الثالث من الباب الثالث، في المبحث الثاني منه.

ص: 426

ومن الفوائد أيضا أن الناظر في الاختلاف -بعد أن يستقر رأيه على أنه اختلاف- قد يبعد النجعة في معالجته، وربما أكثر من فرض الاحتمالات، أو وقع في نزاع مع غيره حول نتيجة النظر فيه، وكان يغنيه عن ذلك كله أن يقف على قول ناقد متقدم يحسم الأمر، ويظهر ما قد خفي مما يتكأ عليه في الترجيح والموازنة.

ومن أمثلة ذلك أن جماعة من أصحاب ابن جريج رووا عنه، عن عبدالحميد بن جبير بن شيبة، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال:«أتيت جابر بن عبدالله، فقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن صوم يوم الجمعة؟ قال: إي ورب الكعبة» ، ورواه جماعة آخرون عن ابن جريج بإسقاط عبدالحميد، ومنهم يحيى بن سعيد القطان، وفي روايته تصريح ابن جريج بالإخبار عن محمد بن عباد

(1)

.

وقد تكلم جماعة من الأئمة على هذا الحديث، فأشار الإسماعيلي إلى أن الصواب رواية من أسقطه، ففيهم يحيى بن سعيد القطان، وذهب البيهقي إلى أن يحيى بن سعيد قَصَّر في روايته بإسقاطه لعبدالحميد بن جبير، والصواب ذكره في الإسناد، ونقل هذا عن الإمامين ابن حجر، ثم قال: «يحمل على أنه سمعه من عبدالحميد، عن محمد، ثم لقي محمدا فسمعه منه، أو سمعه من محمد، واستثبت من عبدالحميد، فكان يحدث به تارة عن هذا، وتارة عن هذا

»

(2)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1984)، و «صحيح مسلم» حديث (1143)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2746 - 2749)، و «مسند أحمد» 3: 296، و «سنن البيهقي» 4:301.

(2)

«فتح الباري» 4: 232.

ص: 427

واستروح لكلام ابن حجر جمع من الباحثين، فصاروا ينصون على أن ابن جريج سمعه من عبدالحميد بن جبير، ثم سمعه من محمد بن عباد، فكان يحدث به على الوجهين، غير أن هؤلاء الباحثين زادوا الطين بلة، فوصفوا الإسناد الذي فيه عبدالحميد، ومحمد بن عباد، بأنه من المزيد في متصل الأسانيد، وهذا خطأ وتناقض، لأن من شرط المزيد في متصل الأسانيد أن تكون الزيادة خطأ، والإسناد متصل بدونها، وعليه فهذا الإسناد إن كان كلا الوجهين صوابا لم يكن من المزيد في متصل الأسانيد، وإن كان الإسناد من المزيد في متصل الأسانيد فالزيادة ليست صوابا، وهو متصل بدونها، فهذا تناقض.

فهذه ثلاثة آراء في الاختلاف على ابن جريج، تصويب من أسقط عبدالحميد، وتصويب من ذكره، وتصويب الطرفين.

وبالوقوف على نص إمام متقدم قطعت جهيزة قول كل خطيب، فأمكن معرفة الصواب، وأنه خارج هذه الآراء كلها، ففيه تصويب الطرفين، فابن جريج حدث به هكذا، وهكذا، غير أنه لم يسمعه من الاثنين، وإنما سمعه من عبدالحميد بن جبير فقط، وأسقطه خطأ، وصرح بالتحديث من شيخ شيخه، وذلك حين حدث به من حفظه.

روى عبدالله بن أحمد، عن أبي بكر بن خلاد، قال: «سمعت يحيى يقول: حدثني ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: أتيت جابر بن عبدالله

، قال يحيى: رفعه، قال فيه: حدثنا -يعني محمد بن عباد-، وهذا في الكتب: عن

ص: 428

عبدالحميد بن جبير بن شيبة، وإن لم يحدثك ابن جريج من كتابه لم تنتفع به»

(1)

.

وذكر الحاكم ما رواه موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة» ، ثم قال:«وهذا لا ينظر فيه حديثي إلا علم أنه من شرط الصحيح، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا» ، ثم ذكر أن المحفوظ جعله عن أبي بردة، عن الأغر المزني.

تعرض لرواية موسى بن عقبة باحثان ينظران في الاختلافات الواقعة على أبي بردة في هذا الحديث، فأما أحدهما فلم يزد على أن نقل قول أبي حاتم في تعليلها برواية إسرائيل المرسلة، وأنه أحفظ.

وأما الآخر فقال في تعليلها: «لا تصح لأمرين: أن موسى مدني، وأبو إسحاق كوفي، وهذه الرواية ونظائرها لا تخلو من ضعف، قال الحاكم

، والثاني: مخالفة إسرائيل، وهو كوفي مثل جده أبي إسحاق

».

ولأبي حاتم كلمة في رواية موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، تقضي على هذه الرواية تماما، بين فيها أبو حاتم أن موسى بن عقبة يروي هذه الأحاديث عن أبي إسحاق بواسطة رجل مجهول، يقال له: عبدالله بن علي، يعني ويسقطه

(2)

.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 3: 239.

(2)

سيأتي تخريج هذا الحديث بطرقه، وكلام النقاد فيه في المبحث الرابع من هذا الفصل، حيث ذكرته هناك لمناسبة أخرى.

ص: 429

وروى عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سليم تنظر إلى جارية، فقال: شمي عوارضها، وانظري إلى عرقوبيها»

(1)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الإسناد، ووصفه بأنه حسن، مع أنه قد ذكر رواية حماد بن سلمة، عن ثابت لهذا الحديث، والاختلاف على حماد، وعلى من دونه وصلا وإرسالا

(2)

، والراجح عن حماد إرسال الحديث، ولهذا فإن إسناد عمارة لا يستقيم وصفه بالحسن، لمخالفته أثبت الناس في ثابت، وهو حماد بن سلمة.

ولأحمد كلمة في إسناد عمارة تقضي عليه، ولم يقف عليها الباحث، ولهذا لم يوردها، قال مهنا: «سألت أحمد عن عمارة بن زاذان، فقال: صالح، إلا أنه يروي حديثا منكرا، يحدث به عن ثابت، عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سليم

»، قلت له: هذا غريب، قال: فلذلك صار منكرا»

(3)

.

ونقل الأثرم، عن أحمد قوله فيه:«روى (يعني عن ثابت)، عن أنس، أحاديث مناكير»

(4)

.

وقد يكون الناقد الذي وقفنا على كلامه هو أحد المختلفين، تراجع عن روايته، فيحسم الاختلاف، وقد تقدم في الفصل الرابع من الباب الأول التنبيه على أهمية الوقوف على ما يجري بين الرواة في عصر النقد عصر الرواية، وثباتهم

(1)

«مسند أحمد» 3: 231.

(2)

«المراسيل» لأبي داود، حديث (216)، و «المستدرك» 2: 166، و «سنن البيهقي» 7:87.

(3)

«إكمال تهذيب الكمال» 10: 16.

(4)

«الجرح والتعديل» 6: 366.

ص: 430

أو تراجعهم.

ومن أمثلة ذلك هنا أن جماعة من أصحاب شعبة -منهم محمد بن جعفر، وهاشم بن القاسم، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم- رووا عن شعبة، عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم، عن عمرو بن ميمون، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أحب أن يجد طعم الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل»

(1)

.

ورواه يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أشعث بن سليم المعروف بأشعث بن أبي الشعثاء، قال البزار بعد أن أخرجه:«لا نعلم أحدا رواه عن شعبة، عن أشعث، هكذا إلا يزيد، ولم يتابع عليه، والصواب عندي حديث أبي بلج، عن عمرو، عن أبي هريرة»

(2)

.

وكذا قال الدارقطني: «وهم يزيد بن هارون، وإنما سمعه (يعني شعبة) من يحيى بن أبي سليم -وهو أبو بلج-، كذلك رواه غندر وأصحاب شعبة، عن شعبة، عن أبي بلج»

(3)

.

وقد روى أحمد، عن يزيد بن هارون، أنه رجع عن روايته بعد أن حاوره

(1)

«مسند أحمد» 2: 298، 520، و «مسند الطيالسي» حديث (2617)، و «مسند إسحاق بن راهويه» حديث (253)، (266)، و «الجعديات» (1733) و «شرح مشكل الآثار» حديث (3796)، و «المستدرك» 1: 3، 4: 168، و «شعب الإيمان» حديث (8576)، (8602 - 8604).

(2)

«كشف الأستار» حديث (63).

(3)

«العلل» 8: 327.

ص: 431

أحمد، قال أحمد بعدما رواه عن يزيد على الخطأ:«فقلت ليزيد: أي شيء اسم أبي بلج؟ قال: يحيى بن أبي سليم، فقال يزيد: لقد سمعته من شعبة ببغداد، وكنت في آخر الناس، وأنا أشك فيه مذ سمعته، فرجع يزيد عنه، وقال: اكتبوه: عن رجل»

(1)

.

ومن الفوائد كذلك -وهي في غاية الأهمية- أن الباحث قد يعتمد على أقوال النقاد في الترجيح، وذلك في حال إجماعهم على رأي في الاختلاف، فإجماعهم حجة، كما في كلمة أبي حاتم، وهو يتكلم على سماع الزهري، من أبان بن عثمان بن عفان، وقد نفى أهل الحديث سماعه منه، مع أنه يمكنه ذلك، قال أبو حاتم:«أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة»

(2)

.

وليس المقصود بالإجماع أن ينقل الحكم عن جميع أئمة النقد، فهذا غير ممكن، بل يكفي أن يحكي الاتفاق أحد النقاد، كما يفعل الترمذي أحيانا، أو يتوارد عدد منهم على ترجيح في حديث، ولا يوجد من يخالفهم، ويحصل بعددهم طمأنينة القلب إلى أن هذا الحكم إجماع منهم، خاصة مع ظهور قرائن الترجيح.

وقد تقدم لهذا كله أمثلة في مبحث تعاضد القرائن، وهو المبحث الثالث من الفصل الثالث من هذا الباب.

(1)

«العلل ومعرفة الرجال» 1: 228، 229، و «مسائل صالح» ص 226، 229.

(2)

«المراسيل» ص 192.

ص: 432

ويلتحق بهذا ما يوجد في كلام النقاد من حكاية نقد لم ينسب لأحد، ويفهم منه أنه قول مشهور في النقد، قد قال به جماعة، كأن يقول الناقد: يرون أن الصواب كذا، أو أن فلانا أخطأ فيه، أو لم أزل أسمع أن الصواب كذا، ونحو ذلك، فهذه العبارات تفيد نوع إجماع على حكم في الاختلاف.

ومثال ذلك أن أبا نعيم روى عن الثوري، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، عن السائب بن عبدالله، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»

(1)

.

ورواه محمد بن كثير وغيره، عن الثوري، فسموا صحابيه: عبدالله بن السائب

(2)

، وكذا رواه أصحاب ابن جريج، ومنهم يحيى بن سعيد القطان، وعبدالرزاق، ومحمد بن بكر، وغيرهم

(3)

.

قال البخاري بعد أن رواه عن أبي نعيم: «وهو وهم»

(4)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 8: 293، و «معجم الصحابة» لابن قانع 1: 298، و «حجة الوداع» لابن حزم حديث (91).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 272.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (1892)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (3934)، و «مسند أحمد» 3: 411، و «الأم» 2: 147، و «صحيح ابن خزيمة» حديث (2721)، و «المستدرك» 1: 455، و «سنن البيهقي» 5:84.

(4)

«التاريخ الكبير» 8: 293.

ص: 433

وقال أبو حاتم وقد سئل عن رواية أبي نعيم: «هذا خطأ، أخطأ فيه أبو نعيم

، منذ حين أسمع الناس يقولون: هذا مما أخطأ فيه أبو نعيم»

(1)

.

و‌

‌يقرب من الإجماع دلالة أن يكون الجمهور على قول، ويخالفهم ناقد واحد، فإن الأقرب إلى الصواب في الغالب مع الجمهور

.

فمن ذلك حديث حذيفة الماضي في المبحث الثاني من الفصل الرابع من هذا الباب، فقد رواه الأعمش -في الراجح عنه- ومنصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن حذيفة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما» ، وذكر فيه الأعمش وحده أنه توضأ ومسح على الخفين.

ورواه عاصم بن أبي النجود، وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن المغيرة بن شعبة.

فأخرج البخاري ومسلم رواية الأعمش، ومنصور، إلا أن البخاري لم يذكر قصة المسح في رواية الأعمش، وكذا رجح أحمد، وأبو حاتم، والترمذي، والدارقطني روايتهما، وأن الحديث عن حذيفة، وأما أبو زرعة فقال:«الصحيح: حديث عاصم، عن أبي وائل، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وروى شعبة، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 272.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (13)، و «مسائل حرب» ص 452، و «العلل الكبير» 1: 93، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 13، و «علل الدارقطني» 7:95.

ص: 434

قال: «يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب»

(1)

.

ورواه هشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وهمام، وسلم بن أبي الذيال، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس موقوفا، إلا أن هماما، وهشاما في بعض الطرق إليه، أدخلا بين قتادة، وجابر بن زيد: صالحا أبا الخليل، وسلم بن أبي الذيال لم يذكر جابر بن زيد، وقد قيل أيضا إن شعبة جاء عنه الوقف

(2)

.

فرجح الجمهور -ومنهم يحيى بن سعيد القطان، وأحمد، وأبو داود- وقف الحديث، وخالفهم أبو حاتم فقال عن حديث شعبة المرفوع:«هو صحيح عندي»

(3)

.

ومن الفوائد أيضا أن الاجتهاد في جمع كلام النقاد يُقِّرب الباحث من الإنصاف، ويبعده عن التعجل في رد كلام النقاد، والاستهانة به، خاصة إذا كان

(1)

«سنن أبي داود» حديث (703)، و «سنن النسائي» حديث (750)، و «سنن ابن ماجه» حديث (949)، و «مسند أحمد» 1:347.

(2)

«سنن النسائي» حديث (750)، و «مسند أحمد» 1: 347، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 281، و «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (589)، (591 - 592)، و «الكامل» 5: 2021، و «بيان الوهم والإيهام» 3: 356، و «تحفة الأشراف» 4: 373، و «فتح الباري» لابن رجب 4: 121، و «إتحاف المهرة» 7:25.

(3)

«سنن أبي داود» حديث (703)، و «علل ابن أبي حاتم» 1: 210، و «سنن البيهقي 2: 274، و «فتح الباري» لابن رجب 4: 121، وانظر: مثالين آخرين في: «علل ابن أبي حاتم» (1115)، (2225)، وحاشيته لسعد الحميد وآخرين.

ص: 435

يذهب إلى ترجيح الوجه التام، وتصحيح الإسناد.

روى وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر، عن أبي أنس، عن عثمان مرفوعا حديث الوضوء ثلاثا، ورواه جماعة عن الثوري، عن سالم، عن بسر بن سعيد، عن عثمان، وقد أخرج مسلم رواية وكيع، وانتقده الدارقطني، ورجح رواية الجماعة، كما تقدم شرح ذلك في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

فتعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف بين مسلم، والدارقطني، وصوب رأي مسلم، وقسى على الدارقطني في العبارة، وذكر أن أبا حاتم، وأبا زرعة، قد رجحا كذلك رواية وكيع.

وأبو حاتم، وأبو زرعة، إنما رجحا رواية وكيع، لأنهما ذكراها في مقابل رواية واحد من الجماعة الذين رووه عن الثوري، ووكيع أحفظ منه، وليس هذا موضع الشاهد هنا، فالشاهد من صنيع الباحث أن أحمد قد سبق الدارقطني إلى توهيم وكيع، وتصويب رواية من جعله عن بسر بن سعيد، ولم يذكر الباحث قول أحمد، وهو مهم جدا في مثل هذا الموضع.

ومَرَّ باحث آخر برواية وكيع، فصححها على شرط الشيخين، ثم مَرَّ برواية بعض أصحاب الثوري الذين خالفوا وكيعا، فقال مرة: إسناده قوي، وقال مرة: إسناده حسن، وذكر الاختلاف بين رواية وكيع، ورواية الآخرين، ثم نقل رأي أبي حاتم، وأبي زرعة، في ترجيح رواية وكيع، ولم يذكر رأي أحمد، والدارقطني مطلقا.

ص: 436

وروى عبدالله بن عون الخراز، والحسين بن علي بن الأسود، عن محمد بن بشر، عن مسعر بن كدام، عن قتادة، عن أنس، قال: «قام رسول صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه

» الحديث

(1)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الإسناد، وقال فيه:«رجاله رجال الصحيح» ، ثم نقل عن ابن حجر أنه أعله بأن المشهور: عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة، واعتمد ابن حجر على قول البزار في ذلك، وأن هذا الوجه هو الصواب

(2)

، ثم قال الباحث: «هذا ليس بعلة يعل بها هذا الطريق، محمد بن بشر العبدي ثقة حافظ

».

وقد أعل حديث أنس جمع غفير من النقاد -غير البزار- وأن الصواب حديث المغيرة، فأعله بذلك ابن معين، وعلي بن الحسين بن الجنيد، وابن عدي، والطبراني، والدارقطني، وفي كلامهم أن الخطأ ممن رواه عن محمد بن بشر، فقد رواه الثقات عن محمد بن بشر على الصواب، بل هذا في كلام البزار أيضا، غير أن ابن حجر اختصره

(3)

.

(1)

«كشف الأستار» حديث (2380)، و «مسند أبي يعلى» حديث (2900)، و «التهجد» لابن أبي الدنيا حديث (215)، و «المعجم الأوسط» حديث (5737).

(2)

«فتح الباري» 3: 15، و «المطالب العالية» 1:252.

(3)

«كشف الأستار» حديث (2380)، و «علل ابن أبي حاتم» (554) طبعة محمد الدباسي، و «الكامل» 2: 778، و «المعجم الأوسط» حديث (5737)، و «علل الدارقطني» 7:124.

وحديث المغيرة جاء من طرق عن مسعر، وعن زياد بن علاقة، انظر:«صحيح البخاري» حديث (1130)، (4836)، (6471)، و «صحيح مسلم» حديث (2819)، و «سنن الترمذي» حديث (412)، و «سنن النسائي» حديث (1643)، و «مسند أحمد» 4: 251، 255، و «علل الدارقطني» 7:124.

ص: 437

وعبدالله بن عون الخراز ثقة، لكنه أخطأ في هذا الحديث، وأما الحسين بن علي فهو ضعيف، ونص ابن عدي على أنه سرقه من عبدالله بن عون، وقال:«على أن غير الحسين من الضعفاء، قد سرقه منه أيضا» .

ولعل الباحث لو أحضر هذه الأقوال للنقاد لما تجرأ على تصحيح حديث أنس، ولتبين له أنه دفاعه عن الإسناد بذكر منزلة محمد بن بشر لا يفيد شيئا.

ولو قال قائل: إذا وجدت أقوالا للنقاد في اختلاف على راو، ولم أجد بينهم اختلافا في الترجيح، فلم لا أكتفي بقول بعضهم؟ يجيب عن هذا التساؤل ما تقدم، وهو أننا محتاجون إلى جمع ما أمكن من أقوالهم، لا سيما أن ذكرها لا يكلف شيئا، فتكفي الإشارة إليها، كأن يقول الباحث: ورجح الوقف فلان، وفلان

، ويمكن أن يختصر فيقول: وغيرهم، ويحيل إلى المراجع.

والباحث إذا ذكر قولا لناقد، وأغفل قول ناقد آخر، عُدَّ صنيعه هذا تقصيرا، كما لو اقتصر على بعض الطرق، وترك منها ما هو مهم في دراسة الاختلاف.

فمن ذلك أنني ذكرت في «الاتصال والانقطاع»

(1)

في مكانين حديث أنس في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته، والاختلاف فيه على حميد الطويل بذكر ثابت

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 288، 351.

ص: 438

البناني، وحذفه، وذكرت فيهما ترجيح الترمذي للزيادة، وأغفلت قول أبي حاتم، وكلامه أظهر من كلام الترمذي لمناسبة الحديث في الموضعين، فقد ذكرته في الموضع الأول مثالا على وقوع خطأ في تصريح مدلس بالتحديث، وفي الموضع الثاني لقرينة ارتكاب المدلس للتدليس بذكر واسطة بينه وبين شيخه في بعض الطرق.

وهذا كلام أبي حاتم بعد أن ذكر له ابنه رواية الجماعة بإسقاط ثابت، ورواية يحيى بن أيوب بذكره:«يحيى قد زاد رجلا، ولم يقل أحد من هؤلاء عن حميد: سمعت أنسا، ولا حدثني أنس، وهذا أشبه، وقد زاد رجلا»

(1)

.

ولأبي زرعة أيضا قول لم أذكره، وهو ترجيح إسقاط ثابت، وعلل ذلك بأن فيمن أسقطه الثوري وهو حافظ، والذي زاده وهو يحيى بن أيوب ليس بذاك الحافظ

(2)

، غير أن كلام أبي زرعة لا يعكر على التمثيل بالحديث في الموضعين، وظهر من السؤال والجواب أن أبا زرعة -مثل أبي حاتم- عنده من طرق الحديث عن حميد ممن زاد ثابتا طريق يحيى بن أيوب، فرآه أبو حاتم كافيا للحكم بتدليس حميد، وعلل ذلك بما ذكره، وجنح أبو زرعة إلى الترجيح بين أصحاب حميد، وقد تقدم هناك أن جماعة غير يحيى بن أيوب قد ذكروا ثابتا في الإسناد، فترجح قول الترمذي، وأبي حاتم.

ص: 439

وروى إسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وعبدالأعلى بن عبدالأعلى، ووهيب بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: «قالت عائشة لابن أبي السائب قاص أهل المدينة: ثلاث لتتابعني عليهن أو لأناجزنك

» الحديث، وهو منقطع، فإن الشعبي لم يسمع من عائشة، كما تقدمت الإشارة إليه في المبحث الثاني من الفصل الرابع من هذا الباب، حيث تقدم الحديث هناك.

وقد رواه أبو معاوية، عن داود، عن الشعبي، عن ابن أبي السائب -أو عن أبي السائب-، عن عائشة

(1)

.

ورواه حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة

(2)

.

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، ونقل عن الدارقطني ترجيحه للوجه الذي رواه الجماعة عن داود، قال الدارقطني:«والصحيح: عن الشعبي، عن عائشة»

(3)

.

وقد رجح المرسل أيضا أبو حاتم، ولم يذكر الباحث قوله، ولهذا فات الباحث أيضا من طرق الوجه المرسل طريق وهيب، فإنه عند أبي حاتم

(4)

.

وروى يحيى بن أبي بكير، عن زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر،

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 185، 248، و «صحيح ابن حبان» حديث (978).

(2)

«مسند أبي يعلى» حديث (4475).

(3)

«علل الدارقطني» 14: 283.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 185.

ص: 440

عن عبدالله بن مسعود، قال: «أول من أظهر إسلامه سبعة

»

(1)

.

نقل أحد الباحثين في كلامه عليه قوله البزار: «هذا الحديث لا نعلم رواه عن زائدة موصولا إلا يحيى بن أبي بكير»

(2)

.

ونقل أيضا قول الدارقطني: «تفرد به يحيى بن أبي بكير، وهو وهم، وإنما رواه زائدة، عن منصور، عن مجاهد قوله»

(3)

.

وترك الباحث من أقوال النقاد قول ابن معين: «هذا عن منصور، عن مجاهد، هكذا حدث به الناس» ، وقال مرة:«إنما يرويه سفيان، عن منصور، عن مجاهد فقط» .

وكذا قول عباس الدوري: «هذا باطل، إنما هو من رأي مجاهد»

(4)

.

ومن الفوائد كذلك لجمع أقوال النقاد والفحص الشديد عنها أن أئمة النقد يذكرون في كلامهم ما استندوا إليه في الترجيح، فيستفيد الباحث تحرير قرائن الترجيح في حديثه الذي ينظر فيه، وهذا كثير جدا، تقدم له أمثلة في الفصول السابقة.

وفي أحاديث كثيرة تتعارض القرائن أمام الباحث، وربما توقف عن اختيار

(1)

«سنن ابن ماجه» حديث (150)، و «مسند أحمد» 1:404.

(2)

«مسند البزار» حديث (1845).

(3)

«علل الدارقطني» 5: 63.

(4)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 1: 323 - 324.

ص: 441

رأي له، فهو محتاج إلى من يساعده ويعينه على ذلك، وسيجد ضالته في كلام النقاد، ويتأكد هذا إذا استحضرنا ما تقدم في الفصل الرابع من الباب الأول، وهي الوسائل الخاصة بالنقاد، وليس بمقدورنا نحن تطبيقها والاستفادة منها.

ومن الفوائد كذلك أن الباحث حين نظره في الطرق، ورواة الأوجه، وصفة رواية كل منهم، يظهر لديه رأي في هذا الاختلاف، لكنه محتاج إلى رأي ناقد يتكئ عليه، ويطمئن إلى سلامة نظره واجتهاده هو، فإذا وقف عليه فرح بذلك واستبشر.

ومن فوائد جمع كلام النقاد والنظر فيه أن الباحث يتعود على تحليل النصوص، والتمعن فيها، وفحصها، ويتربى كذلك على تقبل الرأي المخالف، ويدرك أن ما فيه مجال للاجتهاد من مسائل العلم الأمر فيه واسع، ووجود عدة آراء فيه قريب جدا، لا إشكال فيه.

ومما يتعلق بهذا أن الباحث يبتعد في هذا العلم -وفي كافة العلوم- عن القطع في كل مسألة يبحثها، كما هو ديدن بعض الباحثين، فإذا تعرض لقضية تراه يبدئ ويعيد ويكرر أن لا مجال لاحتمال الصواب والخطأ فيما ذهب إليه، إنما هو الصواب فقط.

ويتأكد هذا إذا تمعن الباحث في كثرة وجود رأيين للناقد الواحد، يتغير اجتهاده، فتراه في موضع أو كتاب يرجح رأيا، وفي موضع أو كتاب يرجح آخر، كما تقدم هذا بأمثلته في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب،

ص: 442

وما ذاك إلا لأن الاحتكام إنما هو إلى قرائن وقواعد في هذا العلم، وهي مجال واسع للاجتهاد والنظر.

وكنت دائما أنبه إلى أن الدخول في علم العلل ومقارنة المرويات هو في الحقيقة دخول لمدرسة شاملة للتدرب والتمكن من قواعد البحث العلمي بصفة عامة، أساتذتها هؤلاء النقاد الأجلاء.

وفي مسألة (كلام النقاد في الاختلاف) عدد من الأمور يحسن التنبيه عليها:

‌الأمر الأول: كلام النقاد قد يكون صريحا في الاختلاف الذي ينظر فيه الباحث

، بأن يذكر الناقد الاختلاف، وينص على الراجح أو يشير إليه، وهذا لا إشكال فيه.

وقد يكون كلام الناقد بمعزل عن سوق الاختلاف، والترجيح فيه، غير أن كلامه له صلة بأحد الأوجه، أو بأحد رواته، وذلك كأن يقول الناقد إن هذا الحديث لا يعرف من حديث فلان، أو يقول إن فلانا أخطأ في حديث يرويه عن شيخه، ونحو ذلك، فهذا كله يحسن بالباحث أن يتتبعه، وأن ينظمه في سلك أقوال النقاد في الحديث الذي ينظر فيه، وقد يكون الباحث أصلا لم يقف على كلام صريح في الاختلاف، فهذا يعينه في الترجيح إذن.

مثال ذلك أن وهب بن جرير روى عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قصة صلاته صلى الله عليه وسلم على قبر

(1)

.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (954)، و «صحيح ابن حبان» حديث (3089 - 3090)، و «حلية الأولياء» 7: 193، و «سنن البيهقي» 4:46.

ص: 443

ورواه وهب بن جرير أيضا عن شعبة، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن ابن عباس

(1)

.

وكذلك رواه جماعة من كبار أصحاب شعبة، منهم محمد بن جعفر، وسليمان بن حرب، وأبو داود الطيالسي، ومسلم بن إبراهيم، وحجاج بن منهال، وغيرهم، عن شعبة، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن ابن عباس

(2)

.

وهو مشهور عن أبي إسحاق الشيباني، فرواه مع شعبة جماعة من أصحابه أيضا، منهم سفيان الثوري، وأبو معاوية، وزائدة بن قدامة، وعبدالواحد بن زياد، وجرير بن عبدالحميد، وعبدالله بن إدريس، وغيرهم

(3)

.

وقد سئل أحمد عن رواية وهب بن جرير، عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، فأنكره، وقال:«ليس هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد»

(4)

.

(1)

«سنن البيهقي» 4: 45.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (857)، (1319)، (1322)، (1336)، و «صحيح مسلم» حديث (954)، و «سنن النسائي» حديث (2022)، و «مسند أحمد» 1: 338، و «صحيح ابن حبان» حديث (3088)، و «المعجم الكبير» حديث (12581).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (1247)، (1321)، (1326)، (1340)، و «صحيح مسلم» حديث (954)، و «سنن أبي داود» حديث (3196)، و «سنن الترمذي» حديث (1037)، و «سنن النسائي» حديث (2023)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1530)، و «مسند أحمد» 1: 224، 283، و «المعجم الكبير» حديث (12583)، و «سنن الدارقطني» 2: 77 - 78، و «سنن البيهقي» 4:46.

(4)

«مسائل أبي داود» ص 433.

ص: 444

فكلام أحمد هذا يجعله الباحث رأيا لأحمد في هذا الاختلاف، وأن الصواب ما رواه الجماعة عن شعبة.

وكذلك كلام النقاد في عموم رواية وهب بن جرير، عن شعبة، فقد تكلم فيها عبدالرحمن بن مهدي، وعفان بن مسلم، وذكر عفان أنها أحاديث عبدالرحمن بن زياد الرصاصي

(1)

.

وعند التأمل فإن من تكلم في راو في عموم روايته، وإن لم ينص على شيخه المعين، ثم وجدنا لهذا الراوي شيئا يخالف فيه غيره، أمكن أن يقال إن هذا الناقد يرجح خطأه في روايته هذه، وإن لم يأت عن هذا الناقد شيء بخصوصها.

وهذا راجع إلى قضية نبهت عليها كثيرا، وهي أن أحكام النقاد على الرواة إنما جاءت من أحكامهم على رواياتهم، وليس العكس، ووعدت بالتنبيه عليها في مناسباتها، لإيضاح كيفية استفادة الباحث من إدراكها، وعدم الغفلة عنها.

الأمر الثاني: يصح للباحث أن يذكر إجماعا للنقاد، أو قولا للجمهور، أو لاثنين منهم، وإن لم يكن بين من نسب إليهم القول اتفاق في جميع التفاصيل، إذا كان بينهم قدر مشترك هو الذي يريده الباحث.

ولهذا صور عديدة، تقدم بعضها في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب، وهو المبحث المتعلق بتعارض القرائن، فقد تقدم هناك أن النقاد قد يتفقون على أن هذا الوجه خطأ، ثم يختلفون في تحميل عهدة الخطأ، فمنهم من

ص: 445

يجعله محفوظا عن المدار، والخطأ منه، ومنهم من يجعل الخطأ ممن دون المدار، وقد يتفقون على أن الخطأ ممن دون المدار، ثم يختلفون هل المخطئ راوي الوجه المباشر عن المدار، أو أحد رواة الإسناد دونه؟ بل قد يقع هذا التردد من الناقد الواحد، فهذا الاختلاف لا يضر في أصل القضية، وهو اتفاقهم على أن هذا الوجه خطأ.

ومن صوره أيضا أن يتفق النقاد على تخطئه وجه ما، ثم يختلفون في الوجه الصواب ما هو؟ كأن يتفقوا على تخطئة الوجه المرفوع، ثم يقع بينهم اختلاف في الوجه الصواب، فيقول بعضهم: الحديث موقوف على صحابيه، ويقول بعضهم: الحديث موقوف على التابعي، وكأن يتفقوا على تخطئة الوجه الموصول، ثم يختلفون في صفة الوجه الصواب الذي هو المرسل، فبعضهم يذكره بإسقاط الصحابي، وبعضهم يذكره بإسقاط التابعي، وهكذا.

وكذا لو اتفقوا على تخطئة وجه، ثم اختلفوا في ذكر الوجه الذي هو علة للوجه الخطأ.

ومن ذلك ما رواه أبو اليمان الحكم بن نافع، وأبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج، عن سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، عن سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعم مرفوعا:«كل أيام التشريق ذبح»

(1)

.

ورواه سويد بن عبدالعزيز، عن سعيد بن عبدالعزيز، عن سليمان بن

(1)

«مسند أحمد» 4: 82.

ص: 446

موسى، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، وقيل إن إسماعيل بن عياش قد رواه كذلك عن سعيد

(1)

.

ورواه أبو نصر التمار، عن سعيد بن عبدالعزيز، عن سليمان بن موسى، عن عبدالرحمن بن أبي حسين، عن جبير بن مطعم

(2)

.

وقد اتفق النقاد -أحمد، والبزار، وابن عبدالبر، والبيهقي- على تخطئة الوجه الثاني، وهو جعله عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، وذكر أحمد، وابن عبدالبر، والبيهقي، أن الصواب إرساله، يعني بإسقاط نافع بن جبير، وهو الوجه الأول، وأما البزار فذهب إلى أن الصواب هو الوجه الثالث، فقال:«حديث ابن أبي حسين هذا هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم» ، إلا أن البزار لم يذكر الوجه الأول

(3)

.

فهذا الاختلاف في الوجه الصواب لا يمنع من الاعتماد على اتفاقهم على أن الوجه الثاني الموصول خطأ.

وروى جماعة عن أزهر بن سعد السمان، عن عبدالله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب قال: «جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو مجل يدها من أثر الرحى

» الحديث

(4)

.

(1)

«مسند البزار» حديث (3443)، و «المعجم الكبير» حديث (1583)، و «التمهيد» 23:167.

(2)

«مسند البزار» حديث (3444)، و «صحيح ابن حبان» حديث (3854).

(3)

«مسند البزار» حديث (3444)، و «التمهيد» 23: 167، و «سنن البيهقي» 9: 239، 9:295.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (3408 - 3409)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (9172)، و «مسند أحمد» 1: 123، و «مسند البزار» حديث (551)، و «الضعفاء الكبير» 1: 132، و «أمالي المحاملي» حديث (143).

ص: 447

وقد توارد جماعة من النقاد -ابن المديني، والبخاري، والبزار، والعقيلي- على تعليل هذا الإسناد، وأن الصواب إرسال الحديث، واعتمدوا على أن هذا هو الموجود في كتاب أزهر، فما حدث به من حفظه أخطأ فيه، ومنهم من ناقشه في ذلك، غير أنهم اختلفوا في صفة الإرسال، فمنهم من يذكره بإسقاط علي بن أبي طالب، ومنهم من يذكره بإسقاط عبيدة السلماني

(1)

.

وليس هذا الاختلاف بمؤثر على اتفاقهم على ضعف الموصول.

والباحث بعد فراغه من النظر بين الوجه الخطأ، وبين ما هو صواب -بغض النظر عن صفته- يعود إلى النظر في الاختلاف الواقع بين النقاد في الصواب ما هو؟ فهذه قضية أخرى، ولا يصح أن يجعل اختلافهم في جهة ما دليلا على ضعف ما اتفقوا عليه.

روى أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، عن سعيد بن عبدالرحمن الجمحي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: «إذا نسي أحدكم صلاته فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام

» الحديث

(2)

.

ورواه الليث بن سعد، ويحيى بن أيوب، عن سعيد بن عبدالرحمن موقوفا

(1)

«العلل الكبير» 2: 909، و «مسند البزار» حديث (551)، و «الضعفاء الكبير» 1:132.

(2)

«شرح معاني الآثار» 1/ 467، و «المعجم الأوسط» حديث (5132)، و «سنن الدارقطني» 1: 421، و «سنن البيهقي» 2:221.

ص: 448

على ابن عمر

(1)

. وكذا رواه مالك، عن نافع موقوفا أيضا على ابن عمر

(2)

.

وقد أطبق النقاد: ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وموسى بن هارون، وابن حبان، وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي، على أن المرفوع خطأ، والصواب وقفه على ابن عمر، قال أبو زرعة بعد أن خطأ المرفوع:«وأخبرت أن يحيى بن معين انتخب على إسماعيل بن إبراهيم، فلما بلغ هذا الحديث جاوزه، فقيل له: كيف لا تكتب هذا الحديث؟ فقال يحيى: فعل الله بي إن كتبت هذا الحديث» .

وتعرض بعضهم للمخطئ فيه، وأكثر من تعرض لذلك يجعل الخطأ من أبي إبراهيم الترجماني، ومنهم من يجعله من سعيد بن عبدالرحمن

(3)

.

قال الزيلعي بعد أن ذكر كلام النقاد: «فقد اضطرب كلامهم، فمنهم من ينسب الوهم في رفعه لسعيد، ومنهم من ينسبه للترجماني الراوي عن سعيد»

(4)

.

واختلاف النقاد هذا ليس باضطراب في أصل المسألة، وهو كون المرفوع وهما، وإنما اختلف اجتهادهم في تحديد المخطئ، إذ يحتمل أن يكون من الترجماني، بدلالة رواية الليث، ويحيى بن أيوب، عن سعيد موقوفا، ويحتمل أن يكون من سعيد، وهم في رفعه حين حدث به الترجماني، فهذا نظر آخر.

(1)

«شرح معاني الآثار» 1: 467، و «سنن الدارقطني» 1: 421، و «تاريخ بغداد» 9:67.

(2)

«الموطأ» 1: 168، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (2254).

(3)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 108، و «المجروحين» 1: 323، و «الكامل» 3: 1236، و «سنن الدارقطني» 1: 421، و «سنن البيهقي» 2: 221، و «نصب الراية» 2:162.

(4)

«نصب الراية» 2: 163، وانظر مثالا آخر له أيضا في 1:396.

ص: 449

و‌

‌الاستفادة من القدر المشترك في كلام النقاد

لا تنحصر في كلامهم على الاختلاف، وما يتعلق به، فتوجد أيضا في الجرح والتعديل، إذ قد يتفق النقاد على ضعف راو، ولكن يختلفون في سبب ضعفه، فمنهم من يعزو ذلك إلى أحاديث منكرة تفرد بها، ومنهم من يعزوه إلى قبوله التلقين، ومنهم من يعزوه إلى كثرة مخالفته للثقات، وقد ينفي بعض النقاد عن الراوي ما ذكره ناقد آخر، لكن ضعف الراوي متفق عليه بينهم.

وكذلك في التضعيف المقيد، يتفق النقاد على ضعف ونكارة رواية أهل بلد عن راو، أو رواية راو عن أهل بلد، ثم يختلفون في تحميل العهدة، كما وقع في زهير بن محمد الخراساني، ورواية الشاميين عنه، فمن النقاد من حمل العهدة زهيرا، وأنه حدث هناك من حفظه، ومنهم من قال إن أهل الشام أخطؤوا عليه، ومنهم من أبدى احتمالا أن يكون غيره، قلب أهل الشام اسمه، وقد تقدم هذا في موضعه

(1)

.

ومن ذلك أيضا ما تقدم في الباب الثاني، وهو المتعلق بالتفرد، فالنقاد قد يستنكرون أحاديث تفرد بها راو عن شيخه، ثم يختلفون في تحميل عهدة النكارة، كما في رواية عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، أو يتفقون على تحميل راو عهدة الخطأ في التفرد، ولكن يختلفون في مصدر الخطأ، أي: ما هو أصل الحديث الذي أخطأ فيه الراوي، أو يختلفون في سبب وقوع الراوي في الخطأ.

(1)

«الجرح والتعديل» ص 113.

ص: 450

فكل هذه الاختلافات غير مؤثرة إطلاقا على أصل ما اتفقوا عليه.

ويجدر التنبيه إلى أن القدر المشترك والاستفادة منه لا يختص بكلام النقاد، بل يوجد فيما هو أهم منه، وهم الرواة أنفسهم، فيستفاد من القدر المشترك بين رواياتهم، وقد تقدم هذا في مناسبتين، إحداهما في مبحث خاص بالقدر المشترك، والاستفادة منه في الترجيح بين الأوجه، وهو المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب، والثانية في الاستفادة من القدر المشترك بين الوجه الصواب، والوجه الخطأ، وهذا في المبحث الثاني من الفصل الرابع من هذا الباب.

وقد ظهر لي أن قضية القدر المشترك موجودة بقوة في مجال نقد المرويات، وهي بحاجة إلى من يخصها بدراسة مستقلة، يوضحها ويتتبع تطبيقاتها.

الأمر الثالث: يتأنى الباحث كثيرا حين يريد نقل نص ناقد في الاختلاف، ويحذر من أن ينسب قولا لغير قائله، ويوصى الباحث بالتدقيق والنظر في سياق النص، خشية أن يقع في الخطأ، فيجمع بين تقويل أحد قولا لم يصدر عنه، وتفويت نسبة قول لصاحبه بنسبته لغيره، وقد يكون أمكن في هذا العلم، أو أقدم طبقة.

ولا سبيل إلى تفادي الوقوع في الخطأ إلا بالتدقيق والتأني، والبعد عن الاستعجال، وأيضا التعرف على طبيعة المصادر، وخصائص كل منها.

فهناك بعض المصادر يروي التلميذ جل مادته عن شيخ له، لكنه يورد فيه أيضا عن شيوخ آخرين كلاما، أو يروي عمن تقدمه من غير طريق شيخه، كما في «العلل ومعرفة الرجال» لأحمد، رواية ابنه عبدالله، فعبدالله يروي جله عن والده،

ص: 451

ومن شيوخ والده يحيى القطان، وربما روى عبدالله عن يحيى بن معين، وربما روى عن يحيى القطان بواسطة بعض شيوخه غير أبيه، كأبي بكر بن خلاد، فيقع الاشتباه على الباحث.

وبعض المصادر جرى فيه مؤلفه على سرد النصوص، فيختلط ما يرويه بإسناده عن شيوخه أو من فوقهم، بما يقوله هو، فيشق أحيانا تمييز صاحب القول، ويحتاج إلى التمعن في السياق، وقد يحتاج الباحث إلى الاستعانة بأمر خارجي، كما في «المعرفة والتاريخ» ليعقوب بن سفيان.

وجرى بعض المؤلفين على أن يذكر قبل كلامه اسمه، أو كنيته، وقد يكون هذا من الراوي للكتاب عنه، وذلك عوضا عن قوله:(قلت)، أو (قال المؤلف)، وربما راوح بين الاسم والكنية، كما يفعل ابن حزم في «المحلى» ، تارة يقول: قال علي، وتارة يقول: قال أبو محمد، فيشتبه على الباحث، ويظن أن المؤلف ينقل عن غيره، خاصة إذا وافق الاسم أو الكنية اسم أو كنية ناقد آخر.

ومن هؤلاء ابن خزيمة يسبق كلامه عبارة: قال أبو بكر، فربما قال الباحث: ونقل ابن خزيمة عن شيخه أبي بكر كذا، وابن خزيمة هو أبو بكر، فهو صاحب القول.

ومن هؤلاء أيضا: ابن حبان، يسبق كلامه بقوله: قال أبو حاتم، وهي كنيته، فيظن الباحث أنه ينقل عن أبي حاتم الرازي.

وكذلك البيهقي، كثيرا ما يرد عنده: قال أحمد، أو: قال الشيخ أحمد، فيظن أنه ينقل عن أحمد بن حنبل، والكلام للبيهقي، فاسمه أحمد بن الحسين.

ص: 452

والباحث ينبه على هذا في النقل عن النقاد في جميع مسائل هذا العلم، وذكرته هنا لمناسبة الحديث عن ضرورة الاهتمام بكلام النقاد في الاختلاف، ومن الاهتمام به: التدقيق في صاحب القول من هو؟

ونبهت عليه أيضا لما رأيت من خطأ بعض الباحثين في نسبة الأقوال إلى أصحابها.

فمن ذلك أن أبا نعيم الفضل بن دكين روى عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، عن عبدالله بن موهب، قال: سمعت تميما الداري يقول: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما السنة في الرجل من أهل الكفر يسلم على يدي الرجل من المسلمين

»

(1)

.

قال أحد الباحثين في دراسة هذا الإسناد: «قول عبدالله بن موهب هنا: سمعت تميما الداري، خطأ، خطأه فيه أبو نعيم نفسه راوي الحديث، فقال -فيما نقله عنه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» 2/ 439 - : وهذا خطأ، ابن موهب لم يسمع تميما، ولا لحقه».

كذا نقل الباحث، ولم يحكم هذا النقل، فصاحب القول هو يعقوب بن سفيان، يوازن بين ما رواه أبو نعيم، عن عبدالعزيز بن عمر، بذكر تصريح عبدالله بن موهب بالسماع من تميم، وبين ما رواه يحيى بن حمزة الدمشقي، عن عبدالعزيز بن عمر، بإدخال واسطة بين عبدالله بن موهب، وتميم، وهو قبيصة

(1)

«مسند أحمد» 4: 103، و «المعرفة والتاريخ» 2: 439، و «شرح مشكل الآثار» حديث (2852)، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم حديث (1266)، و «سنن البيهقي» 10:296.

ص: 453

بن ذؤيب، وقد قال يعقوب بعد أن ذكر رواية يحيى بن حمزة:«الحديث حديث يحيى بن حمزة» .

وقد كان أبو نعيم إذا ذكر له تخطئة بعض النقاد للتصريح بالتحديث يغضب ويقول: أنا سمعت عبدالعزيز بن عمر يذكر هذا، ويقول: من يحيى بن حمزة حتى يحتج علي بروايته؟ .

وقد روى الحديث مع أبي نعيم جماعة كثيرون، وافقوه على إسقاط قبيصة بن ذؤيب، ووافقه وكيع على التصريح بالتحديث، غير أن جمهور النقاد على أن عبدالله بن موهب لم يسمع من تميم، وإن لم يعتمدوا رواية يحيى بن حمزة في تسمية الواسطة، وكأن غضب أبي نعيم لظنه أن من يخطئ التصريح بالتحديث يحمله هو الخطأ

(1)

.

وقصة الاختلاف في هذا الحديث، وكلام النقاد في معالجته طويلة، والشاهد هنا خطأ الباحث فيما نقله عن أبي نعيم، فصار أبو نعيم عنده يخطئ روايته، وذلك لأن الباحث هجم على النص، ولم يتمعن في سياقه، وأيضا لم يقف على

(1)

ينظر: «سنن أبي داود» حديث (2918)، و «سنن الترمذي» حديث (2112)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (6412، 6413)، و «سنن ابن ماجه» حديث (2752)، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (9872)، و «سنن سعيد بن منصور» حديث (203)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 11: 408، (16271)، و «العلل ومعرفة الرجال» 2: 531، و «التاريخ الكبير» 5: 198، و «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 570، و «علل ابن أبي حاتم» 2: 52، و «مسند أبي يعلى» حديث (7165)، و «الجرح والتعديل» 5: 174، و «المعجم الكبير» حديث (1272)، (1273)، و «سنن الدارقطني» 4: 181، و «سنن البيهقي» 10: 297، و «تاريخ بغداد» 7:53.

ص: 454

المصدر الذي ذكر رأي أبي نعيم صراحة.

ونقل أحد الباحثين عن أبي حاتم رأيه في الحديث الماضي في «الاتصال والانقطاع»

(1)

، وهو حديث: «الإمام ضامن

»، وقد رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه محمد بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، وترجيح أبي حاتم لرواية الأعمش، ثم ذكر الباحث نقلا عن «إتحاف المهرة» 16/ 1070، 17/ 651، أن أبا حاتم قال:«سمعه أبو صالح من عائشة، وأبي هريرة» ، وذكر الباحث أن رأي أبي حاتم هذا يخالف رأيه الأول.

كذا صنع الباحث، لم يتمعن في سياق النص الموجود في «الإتحاف» ، فابن حجر ذكره بعد عزو الحديث إلى «صحيح ابن حبان» ، فأبو حاتم عنده إذن هو أبو حاتم بن حبان، وليس أبا حاتم الرازي، والنص موجود في «صحيح ابن حبان» .

وتعرض أحد الباحثين لما رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: «قيل لعائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟

»

(2)

، ورواه آخرون عن هشام، عن رجل، عن عائشة

(3)

.

قال الباحث: «ورجح يحيى القطان هذه الرواية، فيما نقله عنه ابن معين في «تاريخه» 1/ 287 (1220)، فقال: هو مرسل، هشام، عن رجل

».

(1)

«الاتصال والانقطاع» ص 350.

(2)

«مسند أحمد» 6: 106، 121، 167، 260، و «طبقات ابن سعد» 1: 366، و «مسند أبي يعلى» حديث (4653).

(3)

«مسند أحمد» 6: 241، و «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (11).

ص: 455

والمرجح هو يحيى بن معين نفسه، وليس القطان، ففي «التاريخ»: «سألت يحيى عن حديث هشام بن عروة

»، فالسائل هو الدوري، والمسؤول هو ابن معين.

وتعرض باحث آخر لحديث عائشة في قصة زيارته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، وقد اختلف فيه على ابن جريج، وعلى بعض من دونه، في تسمية شيخه، وفي إسقاطه

(1)

، وقال:«وقد رجح المزي في «تحفة الأشراف» 12/ 300، رواية حجاج، على رواية ابن وهب، فقال: حجاج في ابن جريج أثبت عندنا من ابن وهب».

وهذا الكلام إنما هو للنسائي، ينقله عنه المزي، قاله النسائي بعد أن أخرج الحديث

(2)

.

ومما له صلة بهذا أن يتقن الباحث الإسناد إلى صاحب النص، إن أراد ذكره، أو ذكر جزء منه، والخطأ في هذا وإن لم يكن بقدر الخطأ في نسبة القول إلى غير صاحبه، غير أنه مؤشر -إذا كثر من الباحث، أو انضم إلى غيره من الأخطاء- على عجلة الباحث، وعدم إنعامه النظر فيما يثبته من معلومات.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (974)، و «سنن النسائي» حديث (2036)، (3973 - 3974)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (2164)، (7685)، (8911 - 8912)، و «مسند أحمد» 6: 221، و «مصنف عبدالرزاق» حديث (6712)، و «الدعاء» للطبراني حديث (1246)، و «صحيح ابن حبان» حديث (7110)، و «مستخرج أبي نعيم» حديث (2187 - 2188).

(2)

وانظر: «السنن الكبرى» للنسائي طبعة مؤسسة الرسالة، حديث (8862).

ص: 456

ذكر أحد الباحثين في كلامه على حديث الحسن البصري، عن الضحاك بن سفيان الكلابي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا ضحاك ما طعامك؟

» الحديث

(1)

، ما لفظه:«نقل ابن المبارك، عن يحيى بن صاعد قوله: وقد روي هذا الحديث عن أبي بن كعب، ووقفه بعض، ورفعه بعض» ، نقل هذا من «الزهد» لابن المبارك

(2)

.

وابن المبارك مات قبل أن يولد يحيى بن صاعد بزمن طويل، وإنما اشتبه على الباحث، لكون يحيى بن صاعد يروي كتاب «الزهد» لابن المبارك، عن الحسين بن الحسن المروزي، عن ابن المبارك، وللحسين بن الحسن في أثناء الأحاديث زوائد كثيرة يرويها من غير طريق ابن المبارك، ولابن صاعد زوائد كذلك، يرويها من غير طريقهما، وله أيضا كلام على بعض الأحاديث، فالذي نقل كلام ابن صاعد هما راويا الكتاب عن ابن صاعد: أبو عمر بن حيويه، وأبو بكر الوراق.

وذكر أحد الباحثين ما رواه معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال:«جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة»

(3)

.

(1)

حديث الضحاك أخرجه أحمد 3: 452.

(2)

وهو في «الزهد» حديث (492). وحديث أبي أخرجه أحمد 5: 136، ومداره على الحسن أيضا.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (2213 - 2214)، (2257)، (2495 - 2496)، (6976)، و «سنن أبي داود» حديث (3514)، و «سنن الترمذي» حديث (1370)، و «سنن ابن ماجه» (2499)، و «مسند أحمد» 3: 296، 372، 399.

ص: 457

ثم ذكر الباحث كلام أبي حاتم على هذا الحديث، وأنه يرى إدراج آخر الحديث: «فإذا وقعت الحدود

»، ثم قال الباحث:«روى ابن عبدالبر في «التمهيد» (7/ 45) بإسناده إلى أبي زرعة، قال: قال لي أحمد بن حنبل: رواية معمر، عن الزهري، في حديث الشفعة، حسنة، قال: وقال لي يحيى بن معين: رواية مالك أحب إلي وأصح في نفسي مرسلا: عن سعيد، وأبي سلمة».

وظاهر من سياق كلام الباحث ومناسبته أنه يرى أن أبا زرعة هذا هو الرازي، وإنما هو أبو زرعة الدمشقي، والنص موجود في «تاريخه» أتم منه

(1)

.

الأمر الرابع: كلام النقاد في الأحاديث التي وقع فيها اختلاف بين الرواة مصدره الأساس كتب العلل، سواء منها الكتب الشاملة، مثل «العلل الكبير» للترمذي، و «علل ابن أبي حاتم» ، و «علل الدارقطني» ، أو الكتب التي قصد بها أصحابها نقد كتاب معين، أو مرويات راو معين، مثل «علل حديث الزهري» لمحمد بن يحيى الذهلي، و «علل الأحاديث في صحيح مسلم» لأبي الفضل بن عمار الشهيد، و «التتبع» للدارقطني، و «الأحاديث التي خولف فيها مالك» للدارقطني أيضا.

ويوجد كذلك في كتب السؤالات الموسعة، مثل «العلل ومعرفة الرجال» لأحمد، رواية ابنه عبدالله، و «مسائل أحمد» لأبي داود، و «تاريخ الدوري عن ابن معين» .

(1)

«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 463 - 464. وفي الحديث اختلاف كثير على الزهري، ينظر فيه: «علل الدارقطني» 4: 276، 9: 337.

ص: 458

وكذلك كتب الرجال التي تذكر في ترجمة الراوي شيئا مما تفرد به، أو خولف فيه، أو اختلف فيه عليه، مثل «التاريخ الكبير» للبخاري، و «الضعفاء الكبير» للعقيلي، و «الكامل في ضعفاء الرجال» لابن عدي.

كما يوجد في كتب التواريخ، مثل «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» ، و «المعرفة والتاريخ» للفسوي، و «التاريخ الكبير» لابن أبي خيثمة.

ومن مصادر كلامهم المهمة كذلك كتب الرواية التي يتعرض المؤلف فيها لشيء من نقد ما يرويه، مثل «سنن أبي داود» ، و «سنن الترمذي» ، و «سنن النسائي» ، و «مسند أحمد» ، و «مسند يعقوب بن شيبة» ، و «مسند البزار» ، و «سنن الدارقطني» و «سنن البيهقي» .

وفي الجملة فليس من الممكن أن يحدد للباحث مصادر معينة في عصر الرواية أو يذكر له نوع من المصادر، تحوي أقوال النقاد في الأحاديث التي وقع فيها اختلاف بين الرواة، فما من كتاب مؤلف في ذلك العصر إلا وهو مظنة وجود شيء من كلامهم، سواء ما ألف لنقد الراوي أو المروي، أو ما ألف لجمع المرويات، وسواء كان كتابا كبيرا، أو جزءا صغيرا.

ثم بعد ذلك ما ألف بعد عصر الرواية، مثل مؤلفات ابن رجب، وابن القيم، والمزي، والذهبي، وابن كثير، والعراقي، وابن الملقن، والزيلعي، وابن حجر، وغيرهم، ففي هذه الكتب من النقول عن النقاد شيء كثير جدا، وجملة منه لا يوقف عليه فيما هو موجود من كتب الصنف الأول، فغدا الكتاب المتأخر مصدرا رئيسا من هذه الجهة.

ص: 459

وقد تقدم في الفصل الأول من الباب الأول، الكلام عن مصادر طرق الأحاديث التي ينبغي للباحث أن يجمع منها طرق الأحاديث، وهي أيضا مصادر لكلام النقاد.

والباحث وهو بصدد جمع كلام النقاد في حديثه لن يجد الأمر دائما ميسرا، فهناك‌

‌ إشكالات تواجه الباحثين أثناء جمعهم لكلام النقاد

للنظر فيه، وتوظيفه في دراسة الاختلاف، وسأعرج الآن على بعض هذه الإشكالات على عجل.

فمنها احتمال أن يفوت الباحث كلام بعض النقاد، لسبب أو لآخر، فقد يكون الناقد سرد عددا من الأحاديث، وأخر نقدها أو نقد بعضها بعد فراغه منها، فيفوت الباحث الوقوف على كلام الناقد في حديثه المعين.

ثم كلام الناقد قد يوجد في بعض روايات كتابه، ولا يوجد في أخرى، كما هو الحال في «سنن أبي داود» ، و «سنن النسائي» الصغرى والكبرى، يدرك ذلك بمقارنة ما فيها بما ينقله المتأخرون عنهم، كالمزي في «تحفة الأشراف» ، وغيره.

ومن ذلك أن البيهقي قال في حديث سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات

(1)

: «قال أبو عيسى الترمذي في كتاب «العلل» : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: أرجو أن يكون محفوظا، وسفيان بن حسين صدوق»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود حديث (1568 - 1569)، والترمذي حديث (621)، وأحمد 2: 14 - 15.

(2)

«سنن البيهقي: 4: 88.

ص: 460

وذكر أبو علي الجياني، وابن القطان، أن الترمذي في «العلل» نقل عن البخاري كلاما في حديث عقبة بن عامر الجهني مرفوعا: «ما من أحد يتوضأ

» الحديث

(1)

.

ولا يوجد هذان النصان في المطبوع من «ترتيب العلل الكبير» للقاضي أبي طالب

(2)

.

بل قد يوجد في بعض الروايات أو النسخ جزء من النص المطبوع والنص بتمامه في رواية أو نسخة أخرى، كما في كلام النسائي على حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، في قصة المرأة التي جاءت وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، وقد تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب.

ومن الإشكالات الكبيرة في نصوص النقاد ما يواجه الباحث من اضطراب في النص، كأن يجد الباحث الترجيح مقلوبا، ففي مصدر ينسب إلى الناقد ترجيح وجه، وفي مصدر ينسب إليه ترجيح مقابله، ولا يمكن حمله على تغير الاجتهاد، أو يجد السؤال موجها إلى ناقد، والجواب لناقد آخر، أو يقع النص خطأ، إما بسبب سهو المؤلف، أو بسبب وقوع السقط والتحريف في النسخ.

فمن ذلك أن زيد بن أبي أنيسة، روى عن أبي إسحاق، عن جرير بن

(1)

«تقييد المهمل» 3: 789، و «بيان الوهم والإيهام» 2:382. والحديث أخرجه مسلم حديث (234)، وأبو داود حديث (169)، (906)، والنسائي حديث (148)، وابن ماجه حديث (470)، وأحمد 4: 145، 153.

(2)

وانظر أيضاً: «معالم السنن» 1: 86، و «سنن البيهقي» 1:390.

ص: 461

عبدالله مرفوعا حديث صيام أيام البيض

(1)

.

ورواه مغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن جرير موقوفا.

ونقل ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة ترجيح المرفوع، وعلل ذلك بأن زيدا أحفظ من مغيرة

(2)

، وهكذا نقل ابن الملقن عن ابن أبي حاتم أن أبا زرعة رجح المرفوع

(3)

.

وذكر ابن حجر نقلا عن ابن أبي حاتم عكس هذا، فقال:«رواه ابن أبي حاتم في «العلل» ، عن جرير مرفوعا، وصحح عن أبي زرعة وقفه»

(4)

.

وروى العباس بن محمد الدوري، عن روح بن عبادة، عن عثمان بن غياث، عن برد بن عُرَيْن، عن زينب بنت منجل، عن عائشة، قال:«زجر النبي صلى الله عليه وسلم صبياننا عن أكل الجراد» ، ثم قال الدوري:«سمعت يحيى يقول: أخطأ فيه روح، إنما هي زينب بنت مُنَخَّل، قال يحيى: هذا الحديث ليس يسنده إلا ابن أبي عدي، وابن أبي مريم»

(5)

.

(1)

«سنن النسائي» حديث (2419).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 266.

(3)

«البدر المنير» 5: 754.

(4)

«التلخيص الحبير» 2: 227.

(5)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 1: 279، 2: 168، 4: 326، وقد وقع في المواضع الثلاثة في رواية روح:«منخل» فيما صوبه ابن معين: «منجل» ، وهو خطأ مطبعي، والصواب عكسه، انظر:«المؤتلف والمختلف» للدارقطني: 4: 2194، و «الإكمال» 7: 297، و «تهذيب مستمر الأوهام» ص 328.

ص: 462

كذا في النسخة، وفي النص اضطراب، فقوله:«ليس يسنده إلا ابن أبي عدي، وابن أبي مريم» يعارضه أن روح بن عبادة قد أسنده كما رواه الدوري عنه، وأيضا ابن أبي عدي، وابن أبي مريم يقفانه على عائشة، قال الدارقطني:«يرويه عثمان بن غياث، واختلف عنه، فرواه روح بن عبادة، عن عثمان بن غياث، عن برد بن عرين، عن زينب بنت منجل، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه سعيد، وابن أبي عدي، روياه عن عثمان بن غياث، لم يذكرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقوفا، وهو الصواب»

(1)

.

فالظاهر أن صواب العبارة: «هذا الحديث لم يسنده ابن أبي عدي، وابن أبي مريم» .

وأخرج الترمذي عن أبي الوليد الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله» .

ثم قال الترمذي: «هذا حديث معلول، لم يسنده عن ثور بن يزيد غير الوليد بن مسلم، وسألت أبا زرعة، ومحمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقالا: ليس بصحيح، لأن ابن المبارك روى هذا عن ثور، عن رجاء بن حيوة، قال: حدثت عن كاتب المغيرة، مرسل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر المغيرة»

(2)

.

(1)

«علل الدارقطني» 14: 446.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (97)، و «تحفة الأشراف» 9:497.

ص: 463

كذا نقل الترمذي هنا عن هذين الإمامين، وفيه قلب، فثور بن يزيد هو الذي يقول: حدثت عن رجاء بن حيوة، وليس رجاء بن حيوة هو الذي يقول: حدثت عن كاتب المغيرة، وقد نقله الترمذي في «العلل» عن أبي زرعة والبخاري، على الصواب

(1)

، وكذا ذكره عن ابن المبارك جماعة آخرون من النقاد، كما تقدم ذكر هذا في «الاتصال والانقطاع»

(2)

.

وروى عبدالحميد بن سليمان، عن محمد بن عجلان، عن ابن وثيمة النصري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه

» الحديث

(3)

.

قال الترمذي بعد أن أخرجه في «السنن» : «حديث أبي هريرة قد خولف عبدالحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا، قال محمد: وحديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبدالحميد محفوظا»

(4)

.

كذا قال الترمذي في هذا الموضع، جعل رواية الليث عن أبي هريرة، وهو سبق نظر وقلم، انتقل إليه من الإسناد الموصول، وقد ذكر النص عن البخاري في «العلل» على الصواب، وفيه: «رواه الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن عبدالله

(1)

«العلل الكبير» 1: 180.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 275.

(3)

«سنن الترمذي» حديث (1084)، و «العلل الكبير» 1:425.

(4)

«سنن الترمذي» حديث (1084)، و «تحفة الأشراف» 11:99.

ص: 464

بن هرمز، عن النبي، مرسلا

»

(1)

.

ورواية الليث أخرجها أبو داود في «المراسيل» عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن عبدالله بن هرمز اليماني

(2)

.

وقد ذكر أحد الباحثين كلام الترمذي في الموضعين، فخطأ الصواب، وصوب الخطأ

(3)

.

ونقل ابن حجر «في النكت» كلام النسائي على ما رواه عن يزيد بن سنان، عن مكي بن إبراهيم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

»، ووقعت العبارة في النسخة هكذا:«هذا حديث مفصل، لا أعلم من رواه غير مكي، لا بأس به، لا أدري من أنبأني»

(4)

.

وقد تقدمت العبارة على الصواب في الفصل الأول من الباب الثاني، حيث ذكرت الحديث هناك لمناسبة أخرى.

والباحث متى وجد اضطرابا في النص فهو ملزم بالنظر فيه ومعالجته، ولا يصح له أن ينقله كما هو، وهو حين نقله إلى بحثه متحمل لعهدة الخطأ والاضطراب في النص، وإذا نظر فيه وفحصه ولم يستطع تصويبه فلينبه قارئه،

(1)

«العلل الكبير» 1: 426.

(2)

«المراسيل» حديث (225)، و «تحفة الأشراف» 9: 141، 13:266.

(3)

وانظر مواضع أخرى وقع فيها إشكال في كلام الترمذي، بسبب السقط والتحريف في النسخ:«العلل الكبير» 1: 405، 568، وفي طبعة السامرائي ص 144، 215.

(4)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 576.

ص: 465

ليشاركه النظر فيه، فقد يراه مستقيما، وقد يكون لديه معلومات إضافية تساعد على حلِّ إشكاله.

ومن أمثلة ذلك قول ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه موسى بن داود، عن عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثواب واحد» .

قال أبي: هذا خطأ، إنما هو ما حدثنا به عبدالله بن صالح، عن عبدالعزيز، عن رجل: «أن النبي صلى الله عليه وسلم

»، »

(1)

.

فهذا الجواب للسؤال فيه إشكال، وهو يتعارض مع جواب سابق لأبي حاتم، وأبي زرعة، عن السؤال عينه، قال ابن أبي حاتم:«قالا: هذا خطأ، قال أبو زرعة: إنما هو على ما رواه الثوري، ومعتمر، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى في ثوب واحد» فقط، دخل لموسى حديث في حديث، يحتمل أن يكون عنده حديث عبدالعزيز قال: ذكر لي عن أم الفضل: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالمرسلات» ، وكان بجنبه: عن حميد، عن أنس، (يعني بحديث الصلاة في الثوب الواحد)، فدخل له حديث في حديث، والصحيح: حميد، عن أنس

قال أبي: ومما يبين خطأ هذا الحديث ما حدثنا به كاتب الليث (هو عبدالله بن صالح)، عن عبدالعزيز الماجشون (وهو عبدالعزيز بن أبي سلمة)، عن حميد، عن أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد» ، قال عبدالعزيز: وذكر لي عن أم الفضل:

ص: 466

«أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالمرسلات، وكان هذا آخر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض» ، فجعل موسى الحديث كله عن أم الفضل»

(1)

.

فهذا الجواب يوضح أن الجواب في الموضع الثاني فيه إشكال، لا يستقيم كما هو، وقد مَرَّ عدد من الباحثين على الإسناد الوارد في الجواب، وهو: عبدالله بن صالح، عن عبدالعزيز، عن رجل، ولم يذكروا مصدرا لتخريجه، فالذي يظهر لي أن النسخ من «علل ابن أبي حاتم» وقع فيها خلل في هذا الموضع

(2)

.

الأمر الخامس: الأئمة المشهورون بالكلام في الأحاديث التي وقع فيها اختلاف، وهو ما يعرف بعلم العلل، هم بعض أئمة الجرح والتعديل، وقد تقدم هناك في «الجرح والتعديل»

(3)

من الكلام عن تصنيفهم من جهة طبقاتهم الزمانية، ومن جهة كثرة وقلة ما ورد عنهم من الجرح والتعديل، وكذلك أقسامهم من جهة التشدد والتساهل.

أما ما يختص بعلم العلل فكذلك هم على طبقات، أولاها فيها شعبة، وسفيان الثوري.

ثم تلامذتهما، كيحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 84.

(2)

وانظر أمثلة أخرى لنصوص فيها إشكال فيما يظهر لي: «العلل ومعرفة الرجال» (2012)، و «مسائل أبي داود» (1945)، و «مسائل إسحاق بن هانئ» (2178)، و «علل ابن أبي حاتم» (302)، (1687).

(3)

«الجرح والتعديل» ص 375 - 401.

ص: 467

ثم بعد هؤلاء أحمد، وابن معين، وابن المديني، وعمرو بن علي الفلاس.

ثم طبقة محمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازي، ويعقوب بن شيبة، والدارمي، وخلق كثير في هذه الطبقة.

ثم طبقة الترمذي، وعبدالله بن أحمد، وأبي بكر البرديجي، والنسائي، والبزار، والساجي، وموسى بن هارون، وعلي بن الحسين بن الجنيد.

ثم طبقة ابن خزيمة، ويحيى بن صاعد، وابن المنذر.

ثم طبقة العقيلي، وأبي بكر النيسابوري، وابن أبي حاتم.

ثم طبقة، ابن حبان، وابن عدي، وأبي علي النيسابوري، والإسماعلي.

ثم طبقة الدارقطني، وابن منده، والحاكم.

ثم طبقة البرقاني، وأبي مسعود الدمشقي، وأبي نعيم الأصبهاني.

ثم طبقة الخليلي، والعتيقي.

ثم طبقة البيهقي، والخطيب، وابن عبدالبر.

ثم بعد ذلك لم تخل طبقة من متكلم في علل الأحاديث، وإن كان قد تناقص هذا الأمر.

ولا شك أن أهل الطبقتين الأولى، والثانية، هم الذين وضعوا أسس هذا العلم كعلم مستقل، وإن كانت تطبيقاتها موجودة أيضا عند من قبلهم.

وكذلك فإن الطبقات الثالثة، والرابعة، والخامسة، هي أزهى طبقات

ص: 468

النقد، لكثرتهم، وكثرة ما نقل عنهم وتمكنهم في هذا العلم.

وأما من جاء بعدهم فهو متمم لعملهم، يعتمد كثيرا على ما نقل عنهم في الأحاديث التي تكلموا فيها، وهم مع ذلك أصل في أحاديث وأسانيد ظهرت أو وقع الغلط فيها بعد تلك الطبقات.

وللعلماء كلام في تصنيف أصحاب هذه الطبقات الثلاث من جهة التمكن في هذا العلم، مثل قول الذهبي في حديثه عن النسائي:«لم يكن أحد في رأس الثلاثمئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة»

(1)

.

وقال الذهبي أيضا في أبي حاتم الرازي: «هو من نظراء البخاري، ومن طبقته»

(2)

.

فهاتان درجتان، إحداهما فيها البخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والأخرى فيها مسلم، وأبو داود، والترمذي، ويظهر أن هناك درجة عنده فوق هاتين، وفيها: أحمد، وابن المديني، وابن معين.

وللعلماء كلام كثير في المفاضلة بين أصحاب الدرجة الأولى وهم أحمد، وابن المديني، وابن معين، وربما جرى ذكر غيرهم من طبقتهم والطبقة التي تليهم، فقد كانت هاتان الطبقتان مليئتين بالحفاظ النقاد غير هؤلاء، كإسحاق بن راهويه،

ص: 469

ومحمد بن يحيى الذهلي، والدارمي، وأبي خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن صالح المصري، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم.

وابتدأت هذه المفاضلة في وقت مبكر، فقد كان أحمد يقول:«أعلمنا بالعلل علي بن المديني»

(1)

.

واتفقت الكلمة على قول أحمد هذا، فقد كان ابن المديني مبرزا في هذا الشأن، ثم ابن معين، وأحمد، وتميز أحمد بكثرة المنقول عنه في الاختلاف والعلل

(2)

.

وأما ما يتعلق بالتشدد، والاعتدال، والتساهل، فلم أقف على كلام لأحد من الأئمة في تصنيف أئمة النقد في هذا الباب.

* * *

(1)

«المجروحين» 1: 55.

(2)

انظر: «سؤالات الآجري لأبي داود» 2: 306، و «الجرح والتعديل» 1: 293، 319، و «تاريخ بغداد» 10: 70، 11: 464، و «شرح علل الترمذي» 1:483.

ص: 470

‌المبحث الثالث

كلام النقاد ومصطلحاتهم

من المهم جدا لمن يريد الاستفادة من كلام النقاد في الاختلاف أن يتعرف على مصطلحاتهم، وتصرفاتهم، سواء منها ما كان في الاختلاف نفسه، أو في المصطلحات العامة، لئلا تزل قدمه، فينزل كلام الناقد على غير مراده، أو يفسره بما لا يحتمله، بل ربما عالجه بما ينبئ عن بعده عن النظر في كلامهم، وأساليبهم في عرض الاختلاف، ومعالجته.

وهذا الباب واسع جدا، أحاول بقدر الإمكان أن أعرضه بما يجمع بين أداء الغرض والاختصار.

وأول ما يجب العناية به في هذا الموضوع عبارات النقاد وألفاظهم وطرقهم في الترجيح، وتلخيص نتيجة نظرهم في الاختلاف، فالناقد كثيرا ما يصرح بذلك، فيقول مثلا: المرفوع أصح، أو المرسل أصح، أو المحفوظ موقوف، أو رواية فلان أصح، أو يقول عن أحد الأوجه: هذا هو الصحيح، أو المحفوظ، أو هذا أشبه، أو هذا باطل، أو لا يصح، أو هو وهم، أو هو خطأ والصحيح كذا، ونحو هذه العبارات، وهي كثيرة جدا، لا تدخل تحت الحصر، وربما جاء في الجواب الواحد عدد منها.

وقد يوجد شيء من هذه الألفاظ مع تردد الناقد، كما تقدم هذا في المبحث الرابع من الفصل الثالث من هذا الباب، فهو أيضا ترجيح واختيار، لكنه دون

ص: 471

ما جزم به الناقد دون تردد.

ومثل هذا إذا ترجح عنده حفظ وجهين أو أكثر، كأن يقول: كلاهما صحيح، أو هما محفوظان، أو لعله -يعني أحد رواة الإسناد- سمع منهما جميعا، وكذا إذا لم يترجح شيء منها عنده، إما لتوقفه، كأن يقول: لا أدري أيهما الصحيح، أو لا أقضي فيه بشيء، أو لضعفهما جميعا، كأن يقول: كلاهما منكر، أو لا يصح هذا ولا هذا، أو لا يصح شيء منهما.

فهذه كلها ألفاظ صدرت من الناقد دالة صراحة على رأيه واختياره.

ويلي ذلك -وهو داخل في التصريح- ما ينقله التلميذ عن شيخه أو من فوقه، بعبارته هو، كأن يقول: سألته فصححه من حديث فلان، أو فرجحه موصولا، أو مرسلا، أو موقوفا، أو لم يعد حديث فلان محفوظا، أو لم يعرف حديث فلان، أو لم يقض فيه بشيء، أو لم يقل: أيهما أصح، ونحو هذه العبارات.

ويقوم مقام التصريح ما يعرف بإشارات النقاد، فإنها دالة أيضا على اختيارهم، ولها صور عديدة.

منها أن يسأل الناقد فيذكر قرينة أو أكثر للترجيح، إما في الوجه الراجح، أو في الوجه المرجوح، وقد يجمع بينهما، كأن يقول: فلان أحفظ، أو فلان أحفظهم، أو رواه الجماعة فأرسلوه، أو ووصلوه، أو الناس يروونه مرسلا، أو لا أعرفه مرفوعا إلا من حديث فلان، أو لم يسنده إلا فلان، أو فلان سلك الطريق السهل، أو فلان ضعيف.

ص: 472

ويوجد هذا أيضا في ترجيح الناقد عدم حفظهما جميعا، كأن يقول لراوي أحد الوجهين عن المدار: إنه ضعيف، ويقول في راوي الوجه الآخر: لم يسمع منه.

فهذا الصنيع يقوم مقام التصريح بالاختيار، إذ الظاهر أن ذكره القرينة الغرض منه الترجيح.

ومما يشكل على الباحث في هذه الصورة أن يذكر الناقد قرينة لحفظ وجه، ويذكر قرينة لحفظ وجه آخر، كأن يقول: فلان أحفظ، وأهل كذا أعرف بحديث فلان، أو فلان حافظ، ورواية فلان لها أصل، ونحو ذلك، فهل الناقد يشير بهذا إلى تردده، أو إلى حفظ الوجهين جميعا؟ فيحتاج الباحث في مثل هذا إلى إنعام النظر، لترجيح مراد الناقد، وقد يستعين بآراء غيره من النقاد.

ومن الصور كذلك أن يسأل الناقد عن اختلاف، فيذكر أنه سأل شيخا له عنه فأجاب بكذا، أو يروي الجواب بإسناده عمن فوق شيخه، ويسكت الناقد بعد ذلك، لا يتعقبه بشيء، فالظاهر أن هذا اختياره، فكأنه يقول: وما أجاب به ظاهر، أو صحيح.

وأظهر منه في الاختيار أن لا يسمي صاحب القول، فيقول مثلا: يرون أن فلانا وهم فيه، أو أن فلانا حفظه، أو يُرى أن قول فلان وهم، أو هو الصواب.

ويلتحق بذلك ما يورده المؤلفون في كتب السنة التي وضعت للنقد، سواء منها كتب الرجال، مثل كتب البخاري، والعقيلي، وابن عدي، أو كتب الأحاديث، مثل «مسند ابن المديني» ، و «مسند يعقوب بن شيبة» ، و «مسند البزار» ، فما يذكرونه

ص: 473

عمن تقدمهم، سواء كان من شيوخهم، أو ممن فوق شيوخهم، هو قول لهم أيضا، لأن هذا هو الظاهر من سياقه لكلام من تقدمه، وأنه يوافقه عليه، ما لم يصرح بخلاف ذلك.

والظاهر أنه يلتحق بذلك أيضا ما وضع من مصنفات وإن لم يكن غرضها الأساس هو النقد، بل الجمع والاستنباط، مثل «السنن الأربع» ، فما ينقله أبو داود عن أحمد، أو ما ينقله الترمذي عن البخاري، إنما نقله في الحديث المعين بغرض نقده، فهو رأي له أيضا.

ومما يشكل في هذه الصورة ما كتبه تلامذة النقاد من أجوبة النقاد، فالتلميذ ناقد أيضا، فهل يقال مثلا إن قول أحمد في سؤالات أبي داود له قول لأبي داود أيضا، وكذلك الترمذي في «العلل الكبير» مع البخاري، أو ابن أبي حاتم في «علل الحديث» مع أبيه وأبي زرعة؟

ومثله ما يورده الناقد ابتداء، فليس في سياق جواب سؤال، مثل ما يذكره أحمد لابنه عبدالله، عن شيخه يحيى القطان، أو ما يرويه يحيى، عن شعبة، ونحو ذلك.

وفي الجواب عن هذا الإشكال يمكن أن يقال إننا نرى التلاميذ يعترضون على كلام شيوخهم، ومن تقدمهم، إذا تبين لهم خلاف ما ذكره الشيخ، وهذا كثير، فسكوتهم دال على أنهم موافقون له فيما أجاب به، وكذلك فإن التلميذ يزيد كلام شيخه إيضاحا، حين يرى أن في جوابه عوزا، وينص على ذلك، وعليه فإن الأصل موافقة التلميذ لما ذكره عن شيخه أو من فوقه في هذه الحالة،

ص: 474

ما لم يتبين خلاف ذلك.

وهذا الجواب فيه قوة، لكن الذي يظهر لي أنه لا بد من قرينة تدل على أن الناقل مستروح للرأي الذي نقله عن شيخه، أو من تقدمه، لكي تصح نسبته إليه، وإلا فالأصل أنه مجرد ناقل.

والباحث حين يعتمد على إشارة الناقد في الصور السابقة يجمل به أن يوضح الأمر الذي اعتمد عليه، لئلا يظن القارئ أن الناقد صرح بذلك، فيقول الباحث مثلا: وهذا قول ابن معين -فيما يظهر-، فإنه سئل عن هذا الاختلاف، فأجاب بأن فلانا أحفظ، أو يقول الباحث: وهذا قول يحيى القطان، نص عليه، وكذا أحمد -فيما يظهر-، فقد نقل قول القطان حين سأله ابنه عبدالله عن هذا الاختلاف

، وهكذا.

ويغتفر للباحث أن يدرج الناقد مع غيره من النقاد، إذا كثروا، وصار الترجيح ظاهرا، كأن يقول: وإلى هذا ذهب ابن المديني، وأحمد، وأبو حاتم، والعقيلي، وابن عدي، مع أن العقيلي لم ينص على هذا الرأي، لكن الباحث استنبط رأيه من نقله لقول ابن المديني.

ومما تستفاد منه آراء النقاد -بالإضافة إلى التصريح، والإشارة- ما يعرف بتصرفات النقاد في مصنفاتهم، وذلك في مصنفات لم توضع في الأساس للنقد، وإنما وضعت لجمع السنة، وربما الاستنباط منها أيضا، مثل الكتب الستة، و «صحيح ابن خزيمة» ، و «شعب الإيمان» للبيهقي، ففيها أحاديث كثيرة جدا مما وقع فيه اختلاف، ولا إشكال فيما صرح به المؤلف من اختياره، كأن يقول: هذا

ص: 475

هو الصواب، والذي قبله خطأ، أو وهم فلان في كذا، وكذلك فيما أشار فيه إلى الصواب إشارة، على ما تقدم آنفا.

والكلام الآن فيما يورده هؤلاء من اختلاف، ولا يصرحون برأيهم، أو يشيرون إليه إشارة، بل يكتفون بسوق الاختلاف، وربما وضع بعضهم عنوانا له، كما يقول النسائي: ذكر الاختلاف على فلان، ويسوق عنه أوجها.

وقد تكلم العلائي على هذه القضية، فقال:«إذا اقتصر على الإشارة إلى العلة فقط، بأن يقول -مثلا- في الموصول: رواه فلان مرسلا، ونحو ذلك، ولا يتبين أي الروايتين أرجح، فهذا هو الموجود كثيرا في كلامهم، ولا يلزم منه رجحان الإرسال على الوصل»

(1)

.

ومما يساعد ما ذهب إليه العلائي أن الناقد في كتب السؤالات حين يورد وجها آخر في مقابل وجه ذكر له، أو هو يورد ابتداء وجهين أو أكثر، ربما سأله التلميذ عن رأيه في هذا الاختلاف، وقد يصححهما جميعا، أو يضعفهما جميعا، أو يرجح فيهما، وهذا كثير

(2)

، فسؤال التلميذ دال على أن مجرد ذكر الاختلاف، أو الوجه المخالف ليس اختيارا.

وعلى هذا يمكن القول بأن الناقد حين يورد وجهين لا يؤخذ من مجرد ذلك رأي له، ما لم يظهر من الناقد إشارة لاختياره، فإن ظهر من كلامه إشارة عمل بها على ما تقدم آنفا، وكذلك إذا أمكن معرفة رأيه من تصرفه، وهذا

(1)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 711، 777، وانظر أمثلة ذلك:«العلل الكبير» 1: 272 - 273.

(2)

ينظر مثلا: «علل ابن أبي حاتم» (10)، (12)، (487)، (970)، (976).

ص: 476

موضع الحديث هنا، إذ يمكن أن يعرف اختيار الناقد بسبر طريقته في كتابه، وهذا هو المقصود بالتصرف، كما قال ابن رجب في كلامه على «سنن الترمذي»: «وقد اعترض على الترمذي رحمه الله بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا، وليس ذلك بعيب، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكان مقصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له.

وأما أبو داود رحمه الله فكانت عنايته بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض، فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية

»

(1)

.

وأشار السخاوي في كلام له على حديث إلى أن أبا داود إذا قدم الوجه المرسل فهو مشعر بترجيحه

(2)

، وذكر هذا عن السخاوي الباحث تركي الغميز، ثم قال:«وهذا الذي أشار إليه السخاوي لحظته في الأحاديث التي بهذه المثابة»

(3)

.

وكذا ذكر الباحث محمد الفراج في الأحاديث التي يسند أبو داود فيها المرفوع، والموقوف، فقال: «والأكثر هنا أن يقدم الموقوف على المرفوع، وإذا قدم

ص: 477

الموقوف فهو أصح في الغالب، ولم يخالف هذه القاعدة إلا حديث واحد، وهو محتمل، وقد يكون اختيار أبي داود أيضا وقفه»

(1)

.

وأجدني هنا مضطرا للحديث بشيء من التفصيل عن «صحيحي البخاري ومسلم» ، فكثير من الناس لا يدرك أنهما من أهم كتب نقد المرويات، وهذا ظاهر جدا فيما أعرضا عن إخراجه من أحاديث هي أصول في أبوابها، إذ لا مناص من القول إنهما تركاها لعلة فيها، وكثير منها وقع في أسانيدها اختلاف، ولهذا ينص العلماء في كلامهم على بعض الأحاديث، أو على بعض الأسانيد لها، على أنهما تركاها للاختلاف على فلان، مثل أبي عوانة في «مستخرجه على مسلم»

(2)

، والحاكم في «المستدرك»

(3)

، وابن حجر في «فتح الباري»

(4)

، وهذا شأن تقدم التنبيه عليه في مواضع، منها في «الاتصال والانقطاع»

(5)

.

وأشير هنا إلى أن من دقائق النقد لما تركاه، أن يخرج الواحد منهما حديثا بإسناده، ثم يدع من متن هذا الحديث جملة طويلة أو قصيرة، لعلة فيها، حسب اجتهاده، ويحضرني من هذا الضرب مواضع في الكتابين، وبعضها نبه عليه الشراح، ويخطر في بالي أنها عند البخاري أكثر منها عند مسلم.

(1)

«الأحاديث التي بين أبو داود في سننه تعارض الرفع والوقف فيها» ص 56.

(2)

«مسند أبي عوانة» 2: 469 طبعة دار المعرفة، و «إتحاف المهرة» 14:504.

(3)

انظر مثلا: 1: 77، 279، 2: 51، 3: 336، 4:527.

(4)

انظر مثلاً: «فتح الباري» 1: 138، 521.

(5)

«الاتصال والانقطاع» ص 455 - 459.

ص: 478

والذي يهمنا هنا ما يتعلق بنقد ما أورداه في كتابيهما، تصريحا، أو إشارة، أو تصرفا، فهذا موجود في الكتابين بكثرة، وما يوردانه من علل على أصل حديث عندهما، فالظاهر أن غرضهما أن تلك العلة غير مؤثرة، إما لرجحان الوجه التام، أو لترجيح حفظ الوجهين، فكأن مرادهما الإشارة إلى اطلاعهما على الاختلاف وأنه غير مؤثر أصلا، أو هو مؤثر على معنى نزول الحديث عن المرتبة العليا من الصحة، وليس مؤثرا على أصل الصحة، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في الكلام على الوجه الراجح في المبحث الثاني من الفصل الرابع.

ومن ذلك أيضا حديث عمر بن أبي سلمة في قصة أكله مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرجه البخاري من طريق الوليد بن كثير، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، عن وهب بن كيسان، عن عمر بن أبي سلمة بالقصة، ثم ساق رواية مالك، عن وهب بن كيسان بالقصة مرسلة

(1)

.

والكتابان موضوعان للحديث الصحيح، وما فيه علة توجب ضعفه قد تركاه ابتداء، ولهذا قال الترمذي في كلامه على الاختلاف على أبي إسحاق السبيعي، في تسمية من فوقه، في حديث عبدالله بن مسعود في الاستنجاء بالأحجار: «فسألت محمدا عن هذا الحديث، فقلت: أي الروايات عندك أصح في هذا الباب؟ فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير أصح، ووضع حديث زهير في

(1)

«صحيح البخاري» حديث (5376 - 5378)، وانظر مثالا آخر في «صحيح البخاري» حديث (2359 - 2362)، (2708)، (4585)، و «العلل الكبير» 1:559.

ص: 479

كتاب «الجامع» ، »

(1)

.

ولا يخرج عن هذا الظاهر إلا بدلالة قوية ترجح أن الواحد منهما أخرج الحديث الذي فيه اختلاف، مع ترجيحه للوجه الناقص الذي لم يستوف شروط الصحة، كأن يرجح كونه مرسلا، فيكون قد تسامح في النزول عن الشرط لسبب.

وأما ما يوردانه من علل وبيان اختلاف يتعلق ببعض الإسناد أو المتن، فهذا كثير عندهما، وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه أنه سيذكر علل بعض الأحاديث، فقال بعد شرح منهجه في انتقاء أحاديثه:«قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به من أراد سبيل القوم، ووفق لها، وسنزيد -إن شاء الله تعالى- شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب، عند ذكر الأخبار المعللة، إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح، إن شاء الله تعالى»

(2)

.

وقد وفى مسلم بما وعد به، فأكثر من تعليل زيادات ألفاظ في المتون، أو تغيير في متن الحديث، وكذلك في الإسناد، من زيادة راو، أو تغيير في اسمه، ونحو ذلك، وكذا صنع البخاري، فساق كثيرا من أوجه الاختلاف بغرض تعليلها، وهذا ظاهر لمن تأمل الكتابين.

ولا يظن ظان أن هذا فيه تجن على صاحبي الصحيح، بوجود أحاديث معللة في الكتابين، بل هو دفاع عنهما، فإن بعض ما انتقد عليهما لا عتب عليهما

(1)

«العلل الكبير» 1: 100، ورواية زهير هي عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، وهي في «صحيح البخاري» حديث (156).

(2)

«صحيح مسلم» 1: 8.

ص: 480

في إخراجه، إذ غرضهما تعليله فيما يظهر، وقد ذكر أبو الفضل بن عمار الشهيد عدة أحاديث في كتابه «علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج» فيها علل في متونها، ويظهر جدا من سوق مسلم لأسانيدها ومتونها أن غرضه كان بيان ما فيها من علل

(1)

، وكذلك الحال بالنسبة للدارقطني مع مسلم

(2)

.

ويبقى النظر في طريقة معرفة كون الشيخين أرادا بيان العلة وأنها مؤثرة أو غير مؤثرة، إذ هما في النادر ينصان على ذلك، لكن النص عليه موجود في الكتابين، فمن ذلك قول البخاري بعد أن روى عن أزهر بن جميل، عن عبدالوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة ثابت بن قيس وزوجه:«لا يتابع فيه عن ابن عباس» ، ثم أخرجه من طريق خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة مرسلا، وعلقه أيضا عن إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذاء مرسلا كذلك.

فمراد البخاري بيان علة إسناد أزهر بن جميل، فإن ذكر ابن عباس في رواية خالد الحذاء لا يصح، غير أن أصل الحديث ثابت عند البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقد ساقه البخاري بعد طريق خالد الحذاء، وبين الاختلاف فيه على أيوب أيضا وصلا وإرسالا، لكنه يرجح هنا وصل الحديث من طريق أيوب

(3)

.

(1)

«علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج» الحديث (1)، (9)، (11).

(2)

انظر: «الأجوبة عما أشكل الدارقطني على صحيح مسلم» لأبي مسعود الدمشقي الحديث رقم (2).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (5273 - 5277)، وانظر أمثلة أخرى: حديث (253)، (936)، (1396)، (1590)، (1593)، (2148)، (2718)، (2839)، (3424)، (5061)، (5990)، (6404)، (6840)، (7284 - 7285)، (7017).

ص: 481

وأخرج مسلم عدة أحاديث في قصة الإسراء والمعراج، وذكر منها حديث أنس بن مالك، من رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس، وساق طرفا منه، وأحال باقيه على رواية ثابت، عن أنس، ثم قال في نقد رواية شريك:«وقدم فيه شيئا وأخر، وزاد ونقص»

(1)

.

قال ابن القيم: «وقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدم وأخر، وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله»

(2)

.

ولما أخرج مسلم طرق حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، قال:«في حديث حماد بن زيد حرف تركنا ذكره» ، يعني به الأمر بالوضوء لكل صلاة

(3)

.

فإذا لم ينصا على ذلك فهذا موضع فيه غموض، وأرى أنه يمكن معرفة ذلك بأحد أمرين:

(1)

«صحيح مسلم» حديث (162 - 168).

(2)

«زاد المعاد» 3: 42، وانظر أيضا في نقد رواية شريك:«الجمع بين الصحيحين» لعبدالحق 1: 127، و «تفسير ابن كثير» 3: 3، و «فتح الباري» 13: 480 - 486.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (333)، و «سنن النسائي» حديث (217)، (362)، و «سنن ابن ماجه» حديث (621)، و «سنن البيهقي» 1: 116، 343، وانظر أمثلة أخرى في «صحيح مسلم» حديث (711)، (1162)، (2739).

ص: 482

أحدهما: أن يكون صاحب الصحيح قد جاء عنه قول في الرواية في غير الصحيح، تصحيحا أو تعليلا.

مثال ذلك عند البخاري رواية سماك بن عطية، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس قال:«أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة»

(1)

، فإن البخاري ذكر هذه الرواية في ترجمة سماك بن عطية في «التاريخ الكبير»

(2)

، فالظاهر أنه يرى أن فيها علة، فقوله في آخر الحديث:«إلا الإقامة» ، مدرج في الحديث من كلام أيوب السختياني

(3)

.

ومثاله عند مسلم رواية مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، في حديث صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وفيه:«فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين» ، وقد صدر بها مسلم أحاديث الباب

(4)

.

فهذا الحديث بهذا اللفظ انتقده مسلم في كتاب «التمييز» على مالك

(5)

، وسوقه لطرق الحديث في الصحيح عن الزهري يدل أيضا على توهيم مالك، وذلك في جعله ركعتي الفجر بعد الاضطجاع، والصواب أنه يركعهما قبل أن يضطجع

(6)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (605).

(2)

«التاريخ الكبير» 4: 174.

(3)

بينت ذلك بالتفصيل في تخريج كتاب «التحقيق» لابن الجوزي حديث (409).

(4)

«صحيح مسلم» حديث (736).

(5)

«أطراف الموطأ» للداني 4: 49.

(6)

وانظر مثالين آخرين في «صحيح البخاري» حديث (2359 - 2362)، (2708)، (4585) مع «العلل الكبير» 1: 595، و «صحيح البخاري» حديث (5108) «العلل الكبير» 1: 442، و «سنن البيهقي» 7: 166، و «فتح الباري» 9: 161، ومثالا آخر أخرجاه على وجهين، وجاء عن البخاري تصحيحهما، وعن مسلم تصويب أحد الوجهين، في:«صحيح البخاري» حديث (2203 - 2204)، (2206)، (2379)، (2716)، و «صحيح مسلم» حديث (1543)، و «العلل الكبير» 1: 498، و «سنن البيهقي» 5:324.

ص: 483

والثاني: أن يظهر من سوقه لطرق الحديث ترجيحه أن العلة مؤثرة أو غير مؤثرة، وقد تقدم شيء من هذا في الفصول السابقة.

ومن أمثلته أيضا أن البخاري أخرج من طريق شعيب، عن الزهري، عن أنس، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة» .

ثم أخرجه من طريق مالك، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال:«كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة»

(1)

.

قال ابن رجب: «إنما خرجه من هذين الوجهين، ليبين مخالفته (يعني مالكا) لأصحاب الزهري في هذا الحديث، وقد خالفهم فيه من وجهين، أحدهما: أنه لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم

، والثاني: أن مالكا قال في روايته: «ثم يذهب الذاهب إلى قباء»

»

(2)

.

(1)

«صحيح البخاري» حديث (550 - 551)، وأخرجه أيضا من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، بمثل رواية شعيب، وكذا علقه عن يونس، عن الزهري، لكنه لم يسق لفظه: حديث (7329).

(2)

«فتح الباري» 4: 283.

ص: 484

وكذا صنع مسلم، فإنه أخرجه من طريق الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث -مفرقين-، ثم أتبعهما برواية مالك

(1)

.

ولما ذكر الدارقطني في «التتبع» رواية مالك، وانتقد الشيخين في تخريجهما، كأنه اعتذر لهما بأن غرضهما نقدها، فقال:«وقد أخرجا قول من خالف مالكا أيضا»

(2)

.

وروى مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» .

ثم أخرجه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وفيه: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام

».

ثم ساق طرقا كثيرة إلى الزهري، ومنها طريق يونس من رواية ابن المبارك عنه، ثم قال:«بمثل حديث يحيى، عن مالك، وليس في حديث أحد منهم «مع الإمام» ، »

(3)

.

وسياق مسلم لحديث الزهري بهذه الصفة يظهر منه جدا أن زيادة «مع

(1)

«صحيح مسلم» حديث (621).

(2)

«التتبع» ص 457، وانظر في الكلام على رواية مالك أيضا:«الأحاديث التي خولف فيها مالك بن أنس» للدارقطني حديث (16)، و «التمهيد» 6: 178، و «فتح الباري» لابن حجر 2:36.

(3)

«صحيح مسلم» حديث (607).

ص: 485

الإمام» لا تصح عنده، فإن الحديث في إدراك الوقت، سواء كان مع الإمام أو منفردا، ولهذا ساق مسلم بعده طرقا أخرى إلى أبي هريرة، وفيها التصريح بأن المقصود به إدراك الوقت، وساق أيضا في أثنائها حديث عائشة

(1)

.

وأخرج مسلم من طريق مروان بن معاوية، عن عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يسار، عن ابن عباس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}، وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، » .

ثم أخرجه من طريق أبي خالد الأحمر، عن عثمان بن حكيم، لكنه ذكر الآية الثانية:{تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} .

ثم عاد فأخرجه من طريق عيسى بن يونس، عن عثمان بن حكيم، وذكر أنه بمثل حديث مروان

(2)

.

فهذا السياق لطرق الحديث يظهر بوضوح أن ذكر مسلم لرواية أبي خالد الأحمر بغرض تعليلها ونقدها، فجعلها بين روايتين متفقتين، ويساعد على ذلك حال أبي خالد الأحمر، فإنه صدوق يخطئ، وعلى هذا فمن قال بأن السنة أن يبادل بين هاتين الآيتين، اعتمادا على تخريج مسلم لهما. فقوله مرجوح.

ومن دقيق ما صنع مسلم به ذلك من الأحاديث، ما أخرجه من طريق قرة

(1)

انظر: «هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام؟ » للمعلمي ص 44.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (727).

ص: 486

بن خالد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها، في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» ، قال سعيد:«فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته»

(1)

.

وسياق مسلم لما قبل هذا الطريق وما بعده يدل على أن مسلما أراد بيان خطأ هذا الحديث بهذا الإسناد، وأن أبا الزبير إنما يروي حديث جمعه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، وأما حديث أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فهو في قصة أخرى، في جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين بالمدينة، وفيه سؤال سعيد لابن عباس عن سبب ذلك، وقد أبدع مسلم جدا في بيان غلط رواية قرة بن خالد، ولولا خشية الإطالة لشرحت ذلك.

وأخرج مسلم من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمر مرفوعا حديث النهي عن القران في أكل التمر، وفي آخره:«إلا أن يستأذن الرجل صاحبه» ، ثم قال شعبة:«لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر -يعني الاستئذان-» .

ثم ساقه من طريق معاذ بن معاذ، وعبدالرحمن بن مهدي، عن شعبة، وليس في روايتهما كلام شعبة.

ثم ساقه من طريق سفيان الثوري، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمر

(1)

«صحيح مسلم» حديث (705 - 706).

ص: 487

مرفوعا كله

(1)

.

فالذي يظهر من عرضه لطرق هذا الحديث ترجيح رفع الحديث كله، فإن شعبة غير جازم بوقف الاستثناء، ولهذا جاء عنه رفع الحديث كله جزما، وسفيان الثوري -وهو من هو في الحفظ- رفعه كله أيضا

(2)

.

وقضية نقد الشيخين لبعض ما يخرجانه له صلة أيضا بالرواة الذين يخرجان لهم، فليسوا كلهم سواء، كما تقدم بيان ذلك بالتفصيل في «الجرح والتعديل»

(3)

، وفاتني هناك أن أنبه إلى أن بعض من يخرج له البخاري أو مسلم إنما أخرجا له بغرض نقد روايته، فلا يصح الإطلاق بأنه أخرج له، كما في أزهر بن جميل المتقدم آنفا، بالنسبة للبخاري، فلم يخرج له البخاري إلا في هذا الموضع الذي نقده فيه

(4)

.

وأختم هذا المبحث بما بدأت به، وهو ضرورة اعتناء الباحث بمصطلحات النقاد في الترجيح والاختيار، والتدقيق في إشاراتهم، وتصرفاتهم، لمعرفة اختيار

(1)

«صحيح مسلم» حديث (2045).

(2)

وانظر أمثلة أخرى في «صحيح البخاري» حديث (1523)، (1838)، (2581)، (6404)، (6793)، (6820)، و «صحيح مسلم» حديث (16)، (330)، (1406)، (1501 - 1502)، (1501 - 1502 م بعد حديث 1667)، (1679)، (2068)، (2548)، (2740)، (2978).

(3)

«الجرح والتعديل» ص 284 - 287.

(4)

«التعديل والتجريح» للباجي 1: 397، و «فتح الباري» لابن حجر 9: 398، وذكر مغلطاي في «الإكمال» 2: 44، عن كتاب «الزهرة» أن البخاري روى عنه ثلاثة أحاديث، ولم أقف عليه إلا في هذا الموضع.

ص: 488

الناقد ورأيه، أو لمعرفة أنه لا رأي له في الاختلاف.

والباحث مع تدقيقه عرضة لأن يقع في الخطأ في فهم مراد الناقد، إذا استخدم الناقد الإشارة، أو التصرف، ولم يصرح برأيه.

وليس معنى ذلك أن الخطأ لا يقع من الباحثين مع التصريح بالرأي من الناقد، بل هو موجود، وهو يدل على وجود احتمال قوي أن يخطئ الباحث مع عدم التصريح، فيلزمه التأني، وتقليب النظر.

سئل أحد النقاد عن حديث محمد بن دينار، عن يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير، عن ابن عمر مرفوعا:«نهى عن بيع الحيوان نسيئة»

(1)

، فقال:«ليس فيه ابن عمر، هو عن زياد بن جبير موقوف» .

فعلق عليه أحد الباحثين بقوله: «أي لم يثبت المرفوع عن ابن عمر، بل المحفوظ هو الموقوف عليه من طريق زياد المذكور» .

كذا قال الباحث، ولم يذكر دليلا على فهمه هذا، وعبارة الناقد صريحة في أنه موقوف على زياد بن جبير، وليس على ابن عمر.

ومر أحد الباحثين في أحد كتب النقاد بهذا النص: «قالوا لسفيان: إن منكدرا يقول: عن أبيه، عن جابر، قال: فأنا من أين أقع على: سعيد بن عبدالرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث: «رأيت أبا بكر واقفا على قزح»

»؟ .

ومراد سفيان، أن منكدرا سلك الطريق السهل عليه، فرواه عن أبيه،

(1)

أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» 4: 60.

ص: 489

عن جابر، وأخطأ في روايته، وعلل سفيان ذلك بأن الإسناد الذي أتى به هو وعر جدا، يدل على أنه قد حفظه، وقد تقدم شرح هذا في المبحث الثالث من الفصل الثاني.

قال الباحث معلقا عليه: «لعل سفيان يريد بكلامه هذا الإشارة إلى أن منكدرا لم يسمع من أبيه، كما أن سعيد بن عبدالرحمن لم يسمع من جبير، ولكن في تاريخ الفسوي 2: 702، قال سفيان: لما قدم منكدر بن محمد بن المنكدر، قلت: لأنظرن حفظه فأتيته فقلت: كيف تحفظ حديث أبيك: «قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح» ؟ قال: حدثني أبي، عن جابر، فقلت: هذا كان أهون عليه».

هكذا صنع الباحث، نسب إلى سفيان بن عيينة شيئا لم يرده، وزاد على ذلك بأن اعترض بأن منكدرا صرح بالسماع من أبيه، والناقل لهذا التصريح هو سفيان نفسه.

وروى جماعة من أصحاب أبي إسحاق عنه، عن عبدالله بن معقل، عن عدي بن حاتم مرفوعا:«اتقوا النار ولو بشق تمرة» ، وفي بعض طرقه عن أبي إسحاق: سمعت عبدالله بن معقل، قال: سمعت عدي بن حاتم

(1)

.

قال يحيى القطان: «كان يونس -يعني ابن أبي إسحاق- يقول: أبو إسحاق سمعت عدي

».

(1)

«صحيح البخاري» حديث (1417)، و «صحيح مسلم» حديث (1016)، و «مسند أحمد» 4: 256، 377.

ص: 490

ونقل عن يحيى أحد النقاد في مصنف له، فعلق عليه أحد الباحثين بعد أن خرجه من طرق أخرى بقوله:«هذا الطريق لم أجده، ولعل المصنف يريد بيان أن أبا إسحاق يصرح بالتحديث فيه عن عبدالله بن معقل، ومن الممكن أنه يريد أن أبا إسحاق سمعه عن عدي بدون واسطة» .

ولم يرد المصنف ما ذكره الباحث، وغرض يحيى بيان خطأ يونس بن أبي إسحاق على أبيه، بروايته للحديث عن أبيه، عن عدي، مع تصريحه بالتحديث عنه، وهو إنما يروي الحديث عنه بواسطة عبدالله بن معقل، والنص له تكملة توضح هذا

(1)

، ويظهر أنها سقطت من النسخة التي يعلق عليها الباحث، لكن النص بدونها ظاهر المعنى، يفهم من النظر في طرق الحديث، ومن ترجمة يونس.

وذكر أحد الباحثين ما رواه سعيد بن عامر، عن همام، عن قتادة، عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيما سقت السماء، وسقي السيح، وسقي العيون: العشر

» الحديث، وقول البخاري:«هو عندي مرسل: قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسعيد بن عامر كثير الغلط» .

ثم نقل عن أبي حاتم أنه خطأ الموصول، ورجح المرسل كذلك.

وبالنظر في كلام أبي حاتم يتضح أن المرسل الذي رجحه ليس هو من مرسل قتادة، ولفظه: «هذا خطأ، إنما هو: همام، عن قتادة، عن أبي الخليل:

(1)

«الضعفاء الكبير» 4: 457، وانظر:«الجعديات» 1: 157 - 158 الأرقام (456 - 461)، و «الكامل» 7:2635.

ص: 491

«أن النبي صلى الله عليه وسلم

» مرسلا»

(1)

.

وتعرضت إحدى الباحثات للحديث الماضي في «الاتصال والانقطاع»

(2)

، وهو حديث أنس في قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر، وذكرت الباحثة الاختلاف فيه على حميد الطويل، فجمهور أصحابه يرويه عنه، عن أنس، ورواه يحيى بن أيوب، عنه، عن ثابت البناني، عن أنس، ثم قالت الباحثة: «فيحيى بن أيوب خالف أصحاب حميد الثقات، حيث زاد رجلا، وهو ثابت، وهذه الزيادة خطأ ممن زادها، بسبب المخالفة، ولأنه ثبت سماع حميد من أنس لهذا الحديث بدون واسطة، ويقول الترمذي: ومن لم يذكر فيه: عن ثابت، فهو أصح

، يقول ابن أبي حاتم (يعني نقلا عن والده): يحيى قد زاد رجلا، ولم يقل أحد من هؤلاء عن حميد: سمعت أنسا، ولا حدثني أنس، وهذا أشبه، قد زاد رجلا.

فهنا قوله: هذا أشبه، يدل على أن رواية الجمهور هي الأولى، وأن رواية يحيى الذي خالف ليست صحيحة، وقد وافقه الترمذي في ذلك، ويحيى بن أيوب لم يجمع على توثيقه، ويخطئ، فلعل هذا الحديث من أخطائه».

هذا كلام الباحثة، وعليها فيه مناقشات، فيحيى بن أيوب لم ينفرد بذكر ثابت في الإسناد، كما شرحته هناك، ولكن ما أريده هنا هو ما ذكرته الباحثة عن الترمذي، وعن أبي حاتم، فكلام الترمذي نقلته الباحثة مقلوبا، فهو يرجح وجود

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 215.

(2)

«الاتصال والانقطاع» ص 287، 351.

ص: 492

ثابت في الإسناد، وصواب عبارته:«ومن ذكر فيه عن ثابت فهو أصح»

(1)

.

ثم لما قلبت الباحثة عبارة الترمذي، لم تتمعن جيدا في نص أبي حاتم، فسارعت إلى تنزيله على كلام الترمذي الذي نقلته مقلوبا، ولو تمعنت في كلام أبي حاتم لظهر لها أنه يرجح زيادة ثابت في الإسناد، واستدل على ذلك بأن المخالفين له لم يذكروا تصريح حميد بالتحديث، وهو زاد عليهم ذكر ثابت، فالراجح إذن زيادته في الإسناد، وليس معنى ذلك تخطئة الجماعة الذين لم يذكروه، فإن هذا من المدار وهو حميد، فقد وصفه جماعة بالتدليس عن أنس، منهم أبو حاتم، وأبو زرعة

(2)

.

وذكر أحد الباحثين الاختلاف على يونس بن يزيد في حديث أبي هريرة الماضي ذكره في المبحث الثالث من الفصل الرابع، من هذا الباب، ولفظ الحديث:«يوشك أن يكون أقصى مسالح المسلمين» ، وقد اختلف فيه على يونس بن يزيد في إسناد الحديث، وفي رفعه ووقفه.

وساق الباحث كلمة أبي حاتم في ترجيح أن يكون الاضطراب من يونس بن يزيد، فإحدى روايتيه كانت بمكة أو المدينة، ولم تكن معه كتبه

الخ.

ثم نقل الباحث عن الدارقطني قوله: «يرويه الزهري، واختلف عنه، فرواه سعيد بن يحيى -المعروف بسعدان- اللخمي، عن يونس، عن الزهري، عن

(1)

«سنن الترمذي» حديث (363)، وكذلك هو في «سنن الترمذي» ص 98، من طبعة دار السلام التي تعزو إليها الباحثة.

(2)

ينظر: «علل ابن أبي حاتم» (2071).

ص: 493

قبيصة، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووهم فيه، وخالفه القاسم بن مبرور، فرواه عن يونس، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله، عن أبي هريرة، موقوفا، وقال فيه: قال الزهري، حدثني سعيد بن خالد، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي هريرة موقوفا أيضا، وهو الصواب»

(1)

.

فذكر الباحث أن الضمير في قول الدارقطني: ووهم فيه، يعود إلى يونس بن يزيد، بدلالة كلام أبي حاتم.

والمتأمل في كلام الدارقطني يراه صريحا في تحميل عهدة الخطأ سعدان بن يحيى، وأنه هو الذي يهم فيه، والصواب رواية القاسم بن مبرور، والباحث قد يلجأ إلى كلام ناقد لتفسير كلام ناقد آخر، لكن هذا حيث يكون بحاجة إلى تفسير، أما في هذا النص فالأمر ظاهر، واتفاق الناقدين على خطأ الإسناد، لا يلزم منه اتفاقهما على مصدر الخطأ فيه.

وسئل أحد النقاد عن عامر الأحول، فقال: «

روى حديث عثمان فقال: عن أبي هريرة، -في الوضوء- وإنما هو حديث عطاء، عن عثمان».

فقام أحد الباحثين بتخريج حديث عطاء، عن أبي هريرة من «الضعفاء الكبير»

(2)

، وحديث عطاء، عن عثمان من «سنن ابن ماجه»

(3)

، وذكر أن عطاء

(1)

«علل الدارقطني» 11: 145.

(2)

«الضعفاء الكبير» 3: 310، وهو في «مسند أحمد» 2:348.

(3)

«سنن ابن ماجه» حديث (435)، وهو في «مسند أحمد» 1: 66، 72، 2: 348، وانظر:«علل ابن أبي حاتم» 1: 63، و «علل الدارقطني» 3:28.

ص: 494

لم يسمع من عثمان

(1)

، ثم قال:«لكن الحديث معروف من رواية حمران بن أبان، عن عثمان، في صفة الوضوء، أخرجه الشيخان وغيرهما، وقد رواه عطاء بن يزيد الليثي، عن حمران، عن عثمان، فلعل المصنف يعني هذا، ولكنه لا يرويه عن عثمان مباشرة، والله أعلم» .

كذا قال الباحث، فأفسد بكلامه هذا تخريجه الصواب للحديث من العقيلي، وابن ماجه، وعطاء فيه هو عطاء بن أبي رباح، وأما الراوي عن حمران فهو عطاء بن يزيد الليثي، كما ذكر الباحث، فقول الباحث:«فلعل المصنف يعني هذا» لا معنى له، وإنما المقصود حديث عطاء بن أبي رباح، فهو شيخ عامر الأحول.

وذكر أحد الباحثين ما تقدم في المبحث الرابع من الفصل الرابع من الباب الأول، وهو ما رواه جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس مرفوعا:«إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» ، مثالا على الترجيح بسلوك الراوي للجادة، وأن الصواب مع من تركها، ثم قال: «ضرب على هذا الحديث أبو الوليد الطيالسي، وأعله أحمد، والبخاري، والترمذي، وأبو داود، والدارقطني، بأن جريرا، وحجاجا الصواف، كانا عند ثابت البناني، فحدث به حجاج، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، فوهم جرير، فظن أن الحديث عن ثابت، عن أنس، وإنما روى ثابت، عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة يتكلم

(1)

نقل الباحث هذا عن المزي في «تحفة الأشراف» 7: 264، وهو ظاهر من ولادته، وصرح بعدم سماعه أبو حاتم، وأبو زرعة، كما في «المراسيل» ص 155، 156، وحديثه هذا رواه عبدالرزاق حديث (124)، عن ابن جريج، عن عطاء، أنه بلغه عن عثمان بن عفان.

ص: 495

مع الرجل حتى ينعس بعض القوم».

وثابت، عن أنس جادة، حيث قال الإمام أحمد في رواية الميموني:«هؤلاء الشيوخ إنما يلحقون عن ثابت، عن أنس، إسنادا عرفوه» ، ».

كذا صنع الباحث، لم يحكم هذا المثال جيدا، فليس فيه سلوك للجادة، بل ليس فيه اختلاف أصلا، وإنما فيه انتقال الراوي من إسناد إلى إسناد، والاختلاف لا بد له من مدار، ولا مدار هنا، والترجيح بسلوك الجادة -وهو الذي قصده الباحث وشرحه- لا بد فيه من مدار يختلف عليه، فيجعله بعض الرواة عنه عن شيخ له مشهور بالرواية عنه، كثابت، عن أنس، ويرويه بعضهم عنه فيخرج به عن هذه الجادة، كأن يجعله عن ثابت، عن أبي هريرة، أو ثابت عن الحسن مرسلا، ونحو ذلك، كما تقدم شرح ذلك في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب.

ومن أمثلته -وهو مثال أيضا على خطأ باحث في فهم كلام ناقد، واعتراضه عليه- أن مسلما أخرج من طريق شيبان بن فروخ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب الشهادة صادقا أعطيها وإن لم تصبه»

(1)

.

قال أبو الفضل بن عمار الشهيد: «وافقه على هذه الرواية المؤمل بن إسماعيل، وهذا حديث وهم فيه شيبان، والمؤمل جميعا.

(1)

«صحيح مسلم» حديث (1908).

ص: 496

فأما المؤمل فكان قد دفن كتبه، وكان يحدث حفظا فيخطئ الكثير، والصحيح ما رواه الحجاج بن المنهال، وموسى بن إسماعيل، والعيشي، عن حماد، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حماد، عن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، مثله.

والصحيح من حديث ثابت مرسل، وحديث أبان مسند»

(1)

.

علق عليه أحد الباحثين بقوله: «ولكنه (يعني أبان بن أبي عياش) متروك، فتعليل الرواية الصحيحة بالرواية الضعيفة ليس منهجيا، وبخاصة أن رواية حماد، عن ثابت، مشتهرة معروفة، بخلاف رواية أبان، عن أنس، فهي قليلة جدا، حتى إنه ليس في الكتب الستة ولا رواية منها» .

كذا صنع الباحث، لم يفهم كلام الناقد، فاعترض عليه بما يدل على بعده عن إدراك علم (العلل)، والناقد لم يعترض على الرواية الصحيحة برواية ضعيفة، وإنما اعترض على رواية صحيحة برواية أصح منها، فالمدار حماد بن سلمة، ورواه عنه شيبان، والمؤمل، عن ثابت، عن أنس، ورواه الجماعة عنه، عن ثابت مرسلا، وساقوا معه رواية حماد، عن أبان، عن أنس الموصولة، وهذا دليل آخر على حفظهم وضبطهم لرواية حماد، وفصلهم بين المرسل والمسند.

وقام أحد الباحثين بدراسة الحديث الماضي في المبحث الأول من الفصل الأول، وهو ما رواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن

ص: 497

عبدالله، قال:«كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» ، فذكر له عللا، أحدها أنه مختصر من متن مشهور، رواه الجماعة عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال:«قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزا ولحما، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ» .

ونسب الباحث إعلاله بهذا إلى جمع من النقاد: أبي داود، وابن حبان، والبيهقي، بعد أن أخرجوا الحديث.

ولا إشكال في هذا، لكن الباحث ذكر علة أخرى للحديث وهي اضطراب المتن، ونقل عن ابن أبي حاتم قوله: «سألت أبي عن حديث رواه علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة

، فسمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو:«أن النبي أكل كتفا ولم يتوضأ» ، كذا رواه الثقات عن ابن المنكدر، عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه فوهم فيه».

ثم ذهب الباحث يشرح اضطراب المتن بكلام بناه على ما في ذهنه من معنى لكلمة (مضطرب) الورادة في كلام أبي حاتم، فمعنى المضطرب -كما تقدم شرحه في المبحث الرابع من الفصل الرابع- هو الحديث الذي يروى على أوجه ولا مرجح بينها، وقد يوصف بالاضطراب مع الترجيح.

والباحث لم يجد أن حديث شعيب قد روى على أوجه في متنه، إنما هو لفظ واحد، فخرج الباحث إلى عموم أحاديث الباب، وأن منها ما فيه ترك الوضوء مما مست النار، ومنها ما فيه الأمر بالوضوء مما مست النار.

ص: 498

وتفسير الاضطراب الذي في كلام أبي حاتم بهذا أبعد الباحث فيه النجعة جدا، فلا يمكن أن يكون مرادا لأبي حاتم، وإلا لناقض آخر كلامه أوله، وإنما وقع الباحث فيما وقع فيه بسب الالتزام الدقيق بالمصطلحات الواردة في كتب المصطلح، وأن حدودها جامعة مانعة، فَنَزَّل كلام أبي حاتم على تعريف مصطلح (المضطرب).

والنقاد قد يستخدمون مصطلح (المضطرب) في الإسناد والمتن على معنى أعم، وهو وجود خلل في أحدهما، وإن لم يكن مرجعه إلى الاختلاف.

مثال ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم، قال:«سألت أبي عن حديث رواه ابن حمير، قال: حدثنا شعيب بن أبي الأشعث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المراء في القرآن كفر» ، قال أبي: هذا حديث مضطرب، ليس هو صحيح الإسناد، عروة، عن أبي سلمة لا يكون، وشعيب مجهول»

(1)

.

ومن المهم جدا بالنسبة للباحث وهو ينظر في الاختلاف، أن يدقق في سياق المصطلح الذي ذكره الناقد، فقد يريد به معنى غير ما عرف واشتهر فيما بعد قصره عليه، وذلك في عموم مصطلحات النقاد، مثل المرسل، والمرفوع، والمنكر، وغيرها.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 74، وانظر: المسائل (79)، (283)، (839)، (1061)، (1440)، (1455)، (1984)، (2097)، (2116).

ص: 499

قال الدوري: «سألت يحيى، عن حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: «أنها سئلت: ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟

»، فقال يحيى: هو مرسل، هشام، عن رجل».

فالناظر لأول وهلة يظن أن المقصود في الجواب أن هشام بن عروة يرويه عن رجل، عن أبيه، فيكون الإسناد الأول مرسل، أي لم يسمعه من أبيه، لكن الطرق الأخرى -كما تقدم في المبحث الذي قبل هذا- أفادت أن الإسناد ليس فيه: عن أبيه، والرجل يرويه عن عائشة، ففي كلام ابن معين تسمية ما فيه مبهم: مرسل

(1)

.

وروى جماعة فيهم حماد بن سلمة في رواية أكثر أصحابه، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله

» الحديث

(2)

.

ورواه عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عمر، وكذلك رواه أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن سهيل

(3)

.

(1)

وانظر: «معرفة علوم الحديث» ص 27، و «مقدمة ابن الصلاح» ص 144، و «النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 561 - 564، 573.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2405)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (8405 - 8406)، (8603)، و «مسند أحمد» 2: 384، و «سنن سعيد بن منصور» حديث (2474)، و «فضائل الصحابة» (1031)، (1044)، (1056)، (1122)، و «صحيح ابن حبان» حديث (6934).

(3)

«علل الدارقطني» 10: 110، و «المستدرك» 3:125.

ص: 500

قال الدوري: «سمعت يحيى بن معين يقول في حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عمر: «لأعطين الراية

»، قال يحيى: إنما هو عن أبي هريرة موقوف»

(1)

.

فالوقف هنا يراد به أنه من رواية أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من رواية أبي هريرة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها»

(2)

.

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عيسى»

(3)

.

فكلام الترمذي قد يفهم منه أن غير عيسى بن يونس يرويه موقوفا، لذكره الرفع في وصف رواية عيسى، وليس هذا مراده، فمراده الإرسال: هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه: عن أبيه، عن عائشة.

وللنقاد عبارات أخرى في هذا الاختلاف، فقال أحمد:«كان عيسى بن يونس يسند حديث الهدية، والناس يرسلونه»

(4)

.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 3: 262.

(2)

«صحيح البخاري» حديث (2585)، و «سنن أبي داود» حديث (3536)، و «سنن الترمذي» حديث (1953)، و «مسند أحمد» 6:90.

(3)

«تحفة الأشراف» 12: 189، وهو في «السنن» مطولا، لكن سقط منه لفظة «مرفوعا» .

(4)

«تهذيب الكمال» 23: 68، وانظر:«شرح علل الترمذي» 2: 679.

ص: 501

وقال ابن معين: «عيسى بن يونس يسند حديثا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

، والناس يحدثون به مرسل»

(1)

.

وقال أبو داود: «تفرد بوصله عيسى بن يونس، وهو عند الناس مرسل»

(2)

فهذه ثلاث مصطلحات عبر بها النقاد عن ذكر عيسى بن يونس في روايته عروة، وعائشة، مخالفا بذلك من لم يذكرهما من أصحاب هشام، وهي: الرفع، والإسناد، والوصل، وأقلها استخداما بهذا المعنى: الرفع، وهو الذي قاله الترمذي.

ولما أراد ابن حجر نقل قول الترمذي احتاج إلى أن يذكره بالمعنى، فعبر بالمشهور، فقال:«قال الترمذي، والبزار: لا نعرفه موصولا إلا من حديث عيسى بن يونس»

(3)

.

وسئل أبو حاتم عن الحديث الماضي في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب، وهو حديث:«من ترك الجمعة فليتصدق بدينار» ، وقد اختلف فيه على قتادة، فقال: «له إسناد صالح، همام يرفعه، وأيوب أبو العلاء يروي عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، لا يذكر سمرة

»

(4)

.

(1)

«تاريخ الدوري عن ابن معين» 2: 467.

(2)

«فتح الباري» 5: 210.

(3)

«فتح الباري» 5: 210. وانظر مثالا آخر في «المراسيل» ص 243، في كلام أبي زرعة، وابن أبي حاتم على رواية يحيى بن أبي كثير، عن أنس، ومثالا آخر في «علل الدارقطني» 14: 147.

(4)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 196.

ص: 502

فقول أبي حاتم: «همام يرفعه» يريد به وصله بذكر سمرة، لا الرفع الذي هو مقابل الوقف، إذ الجميع يروونه مرفوعا بهذا المعنى.

وإذا كان الباحث ينبه إلى ضرورة تنزيل كلام النقاد على مرادهم، والاستعانة بالسياق إذا ظهر للباحث استخدام الناقد لمصطلح على غير ما اشتهر في كتب المصطلح المتأخرة، فمن باب أولى أن لا يعترض الباحث على صنيع إمام في استخدامه لذلك المصطلح.

ذكر عبدالحق الإشبيلي قول الحاكم في حديث رواه من طريق ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا:«لا أعلم أحدا رفعه»

(1)

، فعلق عليه ابن القطان بقوله:«وأما قول الحاكم: لا أعلم أحدا رفعه، فإنه إن كان عنى به أنه لا يعلم أحدا أسنده ووصله فصدق، ولكن ليست هذه العبارة مشهورة عن هذا المعنى، وإنما يقال ذلك فيما يكون موقوفا، وإن كان يعني بهذا أن أحدا لم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا خطأ، فقد ذكر ابن وهب في ذلك مرسلين، أحدهما أحسن من هذا»

(2)

.

وروى سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، كتاب

(1)

«الأحكام الوسطى» 4: 14، وهو في «معرفة علوم الحديث» للحاكم ص 36 بلفظ: «ثم لا نعلم أحدا من الرواة وصله

».

(2)

بيان الوهم والإيهام» 2: 345، واعتراض ابن القطان على الحاكم بالمرسلين اللذين ذكرهما ابن وهب يدل على أنه لم يتنبه لمراد الحاكم، وسأشرح هذا في المبحث الذي يلي هذا، وأوضح سببه.

ص: 503

النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات

(1)

.

ورواه يونس بن يزيد، وسليمان بن كثير، عن الزهري، عن سالم مرسلا ليس فيه ابن عمر

(2)

.

قال الترمذي في رواية سفيان بن حسين الموصولة بعد أن أخرجها: «حديث حسن، والعمل على هذا الحديث عند عامة الفقهاء، وقد روى يونس بن يزيد وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، بهذا الحديث، ولم يرفعوه، وإنما رفعه سفيان بن حسين» .

وذكر ابن حجر هذا عن الترمذي، ثم قال:«وقول الترمذي: ولم يرفعوه، وإنما مراده: لم يرفعوا إسناده إلى منتهاه، وكان ينبغي أن يعبر باصطلاح القوم، بأن يقول: فأرسلوه، أو لم يسندوه»

(3)

.

وصنيع هذين الإمامين -ابن القطان، وابن حجر- لا يحسن أن يقلدا فيه، فلا يعترض على استخدام ناقد متقدم لمصطلح على غير المشهور عندنا، إذ هم أهل الاصطلاح، وتحرير المتأخر لمصطلحاتهم أخذه من عملهم، فإذا كانوا قد خرجوا عما حرره في معنى المصطلح فلا بد من أحد أمرين، أن يكون سبر المتأخر ناقصا، أو يكون المتأخر قصر المصطلح على معنى لاشتهاره عند الأولين،

(1)

«سنن أبي داود» حديث (1573)، و «سنن الترمذي» حديث (621)، و «مسند أحمد» 2:15.

(2)

«سنن أبي داود» حديث (1570)، و «سنن ابن ماجه» حديث (1805)، و «الأموال» لأبي عبيد حديث (935 - 937).

(3)

«تغليق التعليق» 3: 16.

ص: 504

أو لكونه يتميز به عن غيره، وكل هذا لا يصح أن يحاسب عليه المتقدم.

وهذا كله إذا كان الناقد المتقدم قد خرج عما هو مشهور في زمنهم في معنى المصطلح المعين، فَتَجَوَّز استعانة بالسياق، وأما إذا كان استخدم المصطلح على معنى مشهور عندهم، والمتأخرون هم الذين أخرجوه في تحريرهم للمصطلح، فالخطب أعظم.

ومثاله أن المتقدمين يستخدمون مصطلح المنكر لما تفرد به راويه، وترجح فيه خطؤه، سواء كان ثقة، أو لا، وسواء خالف أو لم يخالف، والمتأخرون قصروه على تفرد الضعيف، وقد تقدم شرح هذا في الفصل الثالث من الباب الثاني.

وقد ذكر ابن حجر قول أبي داود في حديث همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس في وضع الخاتم عند دخول الخلاء، وقوله عنه إنه حديث منكر، ثم قال ابن حجر:«وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شاذ في الحقيقة، إذ المنفرد به من شرط الصحيح، لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذا»

(1)

.

فقول أبي داود إنه حديث منكر، وقول النسائي إنه غير محفوظ، هما بمعنى واحد، ولا يقال إن عبارة أحدهما أصوب من الأخرى، بناء على ما اختاره المتأخرون في معنى المصطلح، سواء في تعريفه، أو في القاعدة والحكم.

(1)

«النكت على كتاب ابن الصلاح» 2: 676. والحديث أخرجه أبو داود حديث (19)، وفيه حكمه عليه بالنكارة، وسبب ذلك، والترمذي حديث (1746)، والنسائي في «السنن الكبرى» حديث (9542)، وفيه قوله عنه إنه غير محفوظ، وابن ماجه حديث (303).

ص: 505

وخلاصة ما تقدم أن من المهم جدا بالنسبة للباحث قبل أن يستدل برأي الناقد، أو يصنفه، أو يعترض عليه، أن يفهمه جيدا، وينزله وفق مراد الناقد، وقد يحتاج في سبيله إلى هذا أن يتأمل في السياق، وفي طرق الحديث، وكلام الناقد في مكان آخر إن وجد، وكلام النقاد الآخرين.

ويتأكد الأمر حين يكون غرض الباحث من النص الاستدلال به على قاعدة في النقد، أو إثبات سماع راو من آخر، أو يريد بالنص نقض قاعدة اشتهرت عند الناس، يراها غير صحيحة، خاصة مع تسرع بعض الباحثين، واكتفائهم بالمثال والمثالين لتحرير قاعدة، أو لنقضها، فإذا كانت الأمثلة -مع قلتها- لم يفهم الباحث مراد الناقد منها كبر خطؤه حينئذ، ولولا ضيق المقام هنا لشرحت ذلك بأمثلته، لكن المقصد الأساس هنا التأكيد على تأني الباحث في فهم كلام الناقد حين تناوله للاختلاف، أيا كان غرضه منه.

* * *

ص: 506

‌المبحث الرابع

عبارات الترجيح والتصحيح

ظهر جليا من مباحث الفصل السابق قبل هذا أن النظر في حديث وقع فيه اختلاف قد يحتاج معه الناظر لإصدار حكم نهائي على الحديث بالصحة أو الضعف إلى الوقوف في عدد من المنازل، وهو في الطريق إلى الحكم النهائي، وهو في كل منزلة منها ملزم بإصدار حكمه في تلك المنزلة، ثم الصعود إلى ما فوقها من منازل.

فإذا كان مع الناظر مدار أساس وقع عليه اختلاف، قد يكون في الطريق إلى هذا المدار مدارات أخرى وقع عليها اختلاف أيضا، فالناظر عليه تحرير هذه الاختلافات، وإصدار أحكامه عليها، ثم استصحاب هذا الحكم وتسخيره للحكم في الاختلاف في مداره الأساس، ثم بعد ذلك عليه النظر في الطرق فوق مداره، وإصدار أحكامه عليها، وإن وجد اختلافا على مدار أعلى من مداره الأساس وجب عليه الانتقال إلى هذا الاختلاف، والحكم عليه كذلك، وقد يجد هذا في طبقات متعددة، فعليه التنقل فيها منزلة منزلة، حتى يصل إلى نهايتها، ويصدر بعد ذلك حكمه على آخر إسناد يصفو معه.

وإن كان في الحديث الواحد أنواع من الاختلافات على مدار واحد، أو على مدارات متعددة، ميز بينها، ونظر في كل منها.

وظهر أيضا أنه لا تلازم مطلقا بين نتيجة في منزلة، ونتيجة في منزلة دونها

ص: 507

أو فوقها، ولا بين نتيجة نهائية للاختلافات، وبين حال الإسناد بعدها.

وظهر أيضا -وهو أمر بالغ الأهمية هنا- أن الاختلاف قد يتحمل عهدته الرواة عن المدار، وقد يكون سببه المدار نفسه، وإذا كان سببه المدار نفسه فالأوجه قد تكون بعده محفوظة كلها، وقد لا يحفظ منها شيء أبدا، وقد يتحرر حفظ واحد منها أو أكثر.

وظهر أيضا أن النقاد قد ينصون على نتيجة النظر في اختلاف على راو، ويفصلون ذلك عن نتيجة اختلاف على راو أعلى منه، وقد تكون النتيجتان مختلفتين، فينص الناقد على أن المحفوظ عن فلان كذا، لكن المحفوظ عن شيخه أو من فوقه هو كذا، أو أن الوجهين محفوظان عن فلان، لكن المحفوظ عن شيخه الوجه الفلاني فقط، غير أنهم يفعلون هذا في الغالب عند الحاجة إليه، كأن يسأل الناقد عن اختلاف، ثم يعاد عليه السؤال عن اختلاف أعلى منه، أو يسأل عنهما جميعا.

وكذا إذا استخدم الناقد لفظ الصحة عن المدار، ربما بين مقصوده بالصحة، إن كان الوجه الصحيح عن المدار لا يصح بعده، لضعف المدار مثلا، أو لضعف راو في الإسناد بعد المدار، أو لانقطاع فيه، ونحو ذلك.

والمتأمل في صنيع النقاد يراهم لم يلتزموا هذا دائما، بل الغالب ترك النص على مقصودهم بالترجيح والتصحيح، وذلك لأسباب تقدم شرحها، وخلاصتها أن كلامهم في الغالب يخرج مخرج الجواب عن سؤال محدد، فالجواب يأتي على وفقه، والاختلاف الأدنى أو الأعلى يأتي عندهم الحديث عنه في مناسبته،

ص: 508

وكذلك هم يخاطبون من هو مثلهم فلا يلتبس عليه الأمر، فالسائل هو ناقد في الأصل، يسأل من تقدم عليه زمنا.

والغرض من تلخيص هذا كله في هذا المبحث هو تنبيه الباحث وقد عرف أن النقاد في الغالب يتكلمون على موضع السؤال الموجه إليهم فيبقون مع مداره، ولا يتحدثون عن مدارات فوقه، أو دونه، وأنهم يصححون بعض الأوجه ومرادهم بذلك أي عن المدار، ولا يلزم منه صحة الوجه بعده، وكذلك قد يرجحون وجها، أو يصرحون بصحته، وفيه ضعف، في مقابل وجه آخر أشد ضعفا منه.

وعرف أيضا أنهم يرجحون بالقدر المشترك، فيرجحون وجها مع وجود خطأ فيه، ومقصودهم الاستفادة مما فيه من صواب، في مقابل وجه خطأ كما تقدم شرحه في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب.

وأيضا قد يقولون في وجه من الأوجه إنه الصحيح أو المحفوظ، في مقابل وجه آخر، ولكن ليس معناه أن راوي الوجه الآخر قد أخطأ، فالخطأ من المدار حين حدث بالوجه الآخر، وقد يكون فعل ذلك عمدا.

إذا عرف هذا كله فإن الواجب حينئذ عليه أن يتمعن كثيرا في عبارات النقاد حين يريد أن ينقلها في كلامه على الاختلاف، فلا يهجم على العبارة دون تأمل ونظر، فقد يضعها في غير موضعها، ويستدل بها على شيء لا تدل عليه.

والباحث قبل أن يستفيد في بحثه من عبارة لناقد ملزم بالنظر في سياق العبارة، وكيف خرجت من الناقد وفق هذا السياق، وكذلك النظر في كلام الناقد في مواضع أخرى على الحديث نفسه، وأيضا كلام النقاد الآخرين على الحديث،

ص: 509

فكل هذا -السياق، وكلام الناقد في موضع آخر، وكلام النقاد- مما يعين الباحث على فهم عبارة الناقد، وتحديد مراده بها، وربما توافر في بعض الاختلافات عوامل أخرى تساعد الباحث على تحديد مراد الناقد، فيستفيد منها كذلك.

وسأسوق الآن أمثلة لتدقيق النظر في كلام ناقد، وبيان مراده.

روى شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة مثنى، مثنى، وتشهد في كل ركعتين

» الحديث.

ورواه الليث بن سعد وغيره، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن العباس.

وقد رجح النقاد رواية الليث بن سعد في سياقه للإسناد كما تقدم شرحه في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب، ومن ذلك أن الترمذي سأل البخاري عنه، فقال:«وحديث الليث بن سعد هو حديث صحيح -يعني أصح من حديث شعبة-» ، وفي بعض النسخ: «

وهو أصح من حديث شعبة»

(1)

.

فاحتاج الترمذي، أو البخاري، إلى شرح المراد من قوله:«هو حديث صحيح» ، وأن مراده الصحة النسبية، أي عن المدار، وهو عبد ربه بن سعيد، يعني أن الراجح عنه هو ما حدث به الليث بن سعد، فقد يفهم من قوله:«هو حديث صحيح» ، تصحيحه للحديث، وليس هذا مراده، فالإسناد بعد المدار قد

(1)

«سنن الترمذي» حديث (385).

ص: 510

نقده البخاري بقوة، كما تقدم هذا في المبحث الثاني من الفصل الرابع من هذا الباب، فذكر الحديث في ترجمة ربيعة بن الحارث، وقال:«وهو حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض» .

وروى شريك، عن ثابت بن أبي صفية أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا» ؟ ، قال: نعم.

ورواه وكيع وغيره، عن ثابت، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة» ؟ قال: نعم

(1)

.

سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث، فقال:«الصحيح ما رواه وكيع، عن أبي حمزة، وحديث شريك ليس بصحيح»

(2)

.

والمراد بالصحة هنا أي عن أبي حمزة الثمالي، وأما بعد ذلك فهو ضعيف، فإن أبا حمزة هذا ضعيف، أو دون ذلك، وعبارة الترمذي في هذا الاختلاف:«وهذا -يعني حديث وكيع- أصح من حديث شريك، لأنه قد روى من غير وجه هذا عن ثابت نحو رواية وكيع، وشريك كثير الغلط، وثابت بن أبي صفية هو أبو حمزة الثمالي»

(3)

.

(1)

«سنن الترمذي» حديث (45)، و «سنن ابن ماجه» حديث (410)، و «العلل الكبير» 1:123.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (46).

(3)

«العلل الكبير» 1: 124.

ص: 511

وروى جماعة عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن أبي خزامة، عن أبيه، حديث الأدوية والرقى، ورواه آخرون عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه.

ورجح النقاد رواية ابن عيينة الأولى، لموافقتها لرواية أصحاب الزهري، كما تقدم هذا في المبحث الثالث من الفصل الرابع من هذا الباب، ومن هؤلاء الترمذي، فقد قال بعد أن أخرج الرواية الثانية عن ابن عيينة بتسمية شيخ الزهري ابن أبي خزامة: «وقد روى غير واحد هذا عن سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، وهذا أصح، هكذا قال غير واحد عن الزهري

».

وقول الترمذي: «وهذا أصح» قد يفهم منه أن الرواية الثانية عن ابن عيينة خطأ ممن رواها عن ابن عيينة، غير أن مراده أنها أصح من رواية ابن عيينة الثانية، أي أن ابن عيينة يخطئ حين يقول: ابن أبي خزامة، فالخطأ منه، وقد أوضح الترمذي هذا في مكان آخر، فقال بعد أن أخرج الحديث على الوجهين: «وقد روي عن ابن عيينة كلا الروايتين، وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه، وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة، عن أبيه، وقد روى غير ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، وهذا أصح

»

(1)

.

وروى جماعة -منهم زهير بن معاوية، وخالد بن عبدالله الواسطي، ويزيد بن هارون، وغيرهم- عن حميد، عن أنس قال: «عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد جهد

(1)

«سنن الترمذي» حديث (2148).

ص: 512

حتى صار مثل الفرخ

» الحديث

(1)

.

ورواه جماعة آخرون -منهم خالد بن الحارث، وسهل بن يوسف، ومحمد بن أبي عدي، وغيرهم- عن حميد، عن ثابت، عن أنس

(2)

.

ذكر ابن أبي حاتم لأبي زرعة، وأبي حاتم، الوجه الأول، فقالا:«الصحيح: عن حميد، عن ثابت، عن أنس» ، ثم ذكرا بعض من رواه على الوجه الثاني.

قال ابن أبي حاتم: «فهؤلاء (يعني من رواه على الوجه الأول) أخطؤوا؟ قالا: لا، ولكن قصروا، وكان حميد كثيرا ما يرسل» .

فقول أبي زرعة، وأبي حاتم:«الصحيح: عن حميد، عن ثابت، عن أنس» قد يفهم منه أن من رواه على الوجه الأول قد أخطأ على حميد، ولهذا سألهما ابن أبي حاتم عن هذا، فأجابا بتحميل حميد عهدة هذا الاختلاف، وأنه عرف بالإرسال عن أنس، فيروي عنه مباشرة ما سمعه عنه بواسطة، فربما ذكرها، وربما أسقطها.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه المسيب بن واضح، عن يوسف بن أسباط، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن أبي المطوس،

(1)

«مسند عبد بن حميد» حديث (1399)، و «الأدب المفرد» حديث (728 - 728)، و «مسند أبي يعلى» حديث (3759)، (3802)، (3837)، و «تفسير الطبري» 2:300.

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2688)، و «سنن الترمذي» حديث (3487 - 3488)، و «مسند أحمد» 3: 107، و «شرح مشكل الآثار» حديث (2048)، و «صحيح ابن حبان» حديث (941).

ص: 513

عن أبيه، عن أبي هريرة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:«من أفطر يوما من شهر رمضان من غير عذر لم يقضه صيام الدهر وإن صامه» .

قال أبي: إنما هو: سفيان، عن حبيب، عن أبي المطوس، وشعبة يقول: حبيب، عن عمارة، عن أبي المطوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم».

ثم قال ابن أبي حاتم: «إنما أنكر عمرو بن دينار، بدل حبيب بن أبي ثابت»

(1)

.

ومراد ابن أبي حاتم بهذا التنبيه أن غرض والده تخطئة ما جاء عن سفيان بذكر عمرو بن دينار، بدل حبيب بن أبي ثابت، وليس غرضه الموازنة بين ما يقوله سفيان بإسقاط عمارة من الإسناد، وما يقوله شعبة بذكر عمارة، فغرض أبي حاتم من إيراد رواية شعبة التنبيه إلى أن سفيان قد خولف في الوجه الصواب عنه، فيحتاج هذا الاختلاف إلى نظر آخر، وقد تقدم شرحه في المبحث الثالث من الفصل الرابع من هذا الباب.

وروى جماعة عن خالد بن طهمان، عن حصين بن مالك البجلي، عن ابن عباس مرفوعا:«ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلا كان في حفظ من الله ما دام منه عليه خرقة»

(2)

.

وقد روي عن خالد موقوفا.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 245.

(2)

«سنن الترمذي» حديث (2484)، و «المعجم الكبير» حديث (12591 - 12592)، و «المستدرك» 4:196.

ص: 514

سئل أبو حاتم عن هذا الاختلاف، فقال:«الناس يرفعونه، مرفوعا عندي صحيح»

(1)

.

فهذا التصحيح من أبي حاتم مراد به صحة المرفوع عن خالد بن طهمان، هذا هو الذي تفيده العبارة وسياقها، وأما الإسناد من خالد فمن فوقه فلا يصح تنزيل كلمة أبي حاتم عليه.

وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أبي حمزة، عن أبي بردة، عن أبيه: «أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده نفر من اليهود، فعطس

»، فذكر الحديث.

ورواه أبو سلمة، عن حماد، فقال: عن أبي حمزة، عن أبي بردة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم

» مرسلا.

فقيل لأبي: أيهما الصحيح؟ فقال: عن أبي موسى الصحيح، لأن الثوري رواه عن حكيم بن الديلم، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وأبو سلمة هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة ثبت، لا يقل عن يزيد بن هارون، فالظاهر أن مراد أبي حاتم أن الموصول هو الصحيح من روايتي

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 168.

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 249، ورواية يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة أخرجها ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 1: 353، ورواية الثوري أخرجها أبو داود حديث (5038)، والترمذي حديث (2739)، وأحمد 4:400.

ص: 515

حماد، وأنه هو الذي يرسله أحيانا، فيتحمل هو عهدة الاختلاف، وحاله، وتغير حفظه في آخر عمره، وقدم سماع يزيد منه بالنسبة لأبي سلمة، يساعد على ذلك.

وذكر أبو حاتم ما رواه عن هلال بن العلاء، عن أبيه، عن عبيدالله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سيار أبي الحكم، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يقول: عبادي، كلكم مذنب إلا من عافيت

».

ثم ذكر أبو حاتم ما رواه عن محمد بن يزيد بن سنان، عن أبيه، عن زيد بن أبي أنيسة، عن موسى بن المسيب، عن شهر، عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم:«وهو أشبه»

(1)

.

ومراد أبي حاتم بهذا الترجيح في خصوص رواية زيد بن أبي أنيسة، وأن الصواب عنه جعل شيخه موسى بن المسيب، وقد سئل مرة أخرى هو وأبو زرعة عن رواية موسى بن المسيب، فذكرا أن علي بن زيد رواه عن شهر، عن تبيع قوله، قالا:«فكأن هذا يدفع ذاك»

(2)

.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 134، والروايتان أخرجهما أيضا أبو عوانة في «مستخرجه» كما في «إتحاف المهرة» 14:163. والحديث مشهور عن موسى بن المسيب، رواه عنه جماعة آخرون، انظر: «سنن ابن ماجه» حديث (4257)، و «مسند أحمد» 5: 177، و «شعب الإيمان» حديث (6687).

(2)

«علل ابن أبي حاتم» 2: 104. وانظر أمثلة أخرى في: «علل ابن أبي حاتم» (377 - 378)، و «علل الدارقطني» 10: 271، 276.

ص: 516

والباحث إذا لم يتمعن في كلام الناقد، وسياقه، وما يحتف به، ربما فهمه على غير مراد الناقد، بل ربما اعترض عليه، وقد يشدد في العبارة، وهو إنما أتي من قبل فهمه للنص.

وسأذكر الآن بعض الأمثلة على ذلك من صنيع الباحثين وغيرهم.

فمن ذلك حديث سلمان بن عامر الماضي في المبحث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب، فقد سأل ابن أبي حاتم أباه عما رواه حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب بنت صليع، بقصة سلمان بن عامر مرسلا، ورواه هشام بن حسان، عن حفصة، عن الرباب، عن سلمان بن عامر موصولا، فقال أبو حاتم:«جميعا صحيحان، قصر به حماد، وقد روي عن عاصم أيضا نحوه»

(1)

.

قال ابن كثير، وابن حجر، عن هذا الحديث:«وصححه أبو حاتم الرازي»

(2)

، وقال ابن الملقن:«قال ابن أبي حاتم في «علله» : سألت أبي عنه، فقال: صحيح من طريقيه»

(3)

.

وليس في كلام أبي حاتم تصحيح الحديث، ومراده بالتصحيح أي عن حفصة بنت سيرين، فهو يقارن بين روايتين عنها.

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 237.

(2)

«إرشاد الفقيه» 1: 289، و «التلخيص الحبير» 2:211.

(3)

«البدر المنير» 5: 697.

ص: 517

وروى عبدالسلام بن حرب، وزائدة بن قدامة -فيما رواه عنه معاوية بن عمرو- عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال:«إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شيء»

(1)

.

ورواه عبدالله بن الحسين بن جابر، عن محمد بن كثير المصيصي، عن زائدة به مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال الدارقطني عن الرواية المرفوعة: «رفعه هذا الشيخ عن محمد بن كثير، عن زائدة، ورواه معاوية بن عمرو، عن زائدة موقوفا، وهو الصواب»

(3)

.

ونقله عنه البيهقي، وأقره

(4)

.

ولما تحدث ابن القيم عن أصل حديث ابن عمر في القلتين، ذكر حجج المضعفين له، ومنها أنه معلول، وله ثلاث علل، وقال في أولها: «وقف مجاهد له عن ابن عمر، واختلف فيه عليه

، ورجح البيهقي في «سننه» وقفه من طريق مجاهد، وجعله هو الصواب»، إلى أن قال: «ويدل على وقفه أيضا: أن مجاهدا

-وهو العلم المشهور الثبت- إنما رواه عنه موقوفا»

(5)

.

وكلام ابن القيم هذا مسلم به لو صح الحديث الموقوف على ابن عمر، من

(1)

«الأوسط» لابن المنذر 1: 261، و «سنن الدارقطني» 1: 23، و «سنن البيهقي» 1:262.

(2)

«سنن الدارقطني» 1: 23، و «سنن البيهقي» 1:262.

(3)

«سنن الدارقطني» 1: 23، وقال في «العلل» 12: 372: «والموقوف أصح» .

(4)

«سنن البيهقي» 1: 262.

(5)

«تهذيب السنن» 1: 62.

ص: 518

طريق مجاهد، ولا يصح عنه، فليث بن أبي سليم راويه عن مجاهد ضعيف، وقد روى الحديث أبو إسحاق السبيعي، عن مجاهد فجعله من قوله هو

(1)

، وكذلك جاء من رواية يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد

(2)

، فمراد الدارقطني، والبيهقي، من تصويب الموقوف على ابن عمر، أي في خصوص رواية الليث، عن مجاهد، فإن من رفعه من هذا الطريق قد أخطأ، ولا يلزم من ذلك صحة الموقوف وصوابه في نفسه.

وروى جماعة كثيرون، منهم أيوب السختياني، وعثمان بن الأسود، ونافع بن عمر الجمحي، وابن جريج، وصالح بن رستم، وغيرهم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مرفوعا:«ليس أحد يحاسب إلا هلك» ، وفي رواية عثمان بن أبي الأسود تصريح ابن أبي مليكة بسماعه من عائشة

(3)

.

قال الدارقطني بعد أن ذكر رواية هؤلاء: «وكذلك قال مروان الفزاري، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، وخالفه يحيى القطان، وعبدالله بن المبارك، فروياه عن حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد،

(1)

«الجعديات» حديث (2129)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 1: 144، و «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (1102)، و «سنن البيهقي» 1:264.

(2)

«الطهور» لأبي عبيد (168)، «تهذيب الآثار» (مسند ابن عباس) حديث (1103).

(3)

«صحيح البخاري» حديث (4939)، (6536)، و «صحيح مسلم» حديث (2876)، و «سنن أبي داود» حديث (3093)، و «سنن الترمذي» حديث (2426)، و (3337)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (11659)، و «مسند أحمد» 6: 47، 91، 108، 127، 209، و «تفسير الطبري» 30:116.

ص: 519

عن عائشة

، والصحيح حديث يحيى القطان، وابن المبارك»

(1)

، ونقل الجياني، عن الدارقطني هذا الكلام، وآخره بلفظ:«وقولهما أصح، لأنهما زادا، وهما حافظان متقنان، وزيادة الحافظ مقبولة»

(2)

.

وظاهر جدا من كلام الدارقطني أن هذا الترجيح إنما هو بالنسبة لرواية حاتم، فالراجح عنه ذكر القاسم في الإسناد، كما رواه عنه يحيى القطان، وابن المبارك، وكذلك رواه عنه روح بن عبادة، ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، وعبدالله بن بكر

(3)

، فقول هؤلاء أرجح من رواية مروان الفزاري بإسقاط القاسم، فهذا بخصوص رواية حاتم، على أنه لا يبعد أن يكون الاضطراب من حاتم نفسه، وأما المقارنة بين رواية الجماعة عن ابن أبي مليكة بإسقاط القاسم، وما ترجح عن حاتم بذكره، فلم يتعرض له الدارقطني صراحة، وإن كان سياق كلامه يدل على ترجيح حذف القاسم.

وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في «التتبع» ، وما زاد على أن ذكر أنهما

-يعني الشيخين- أخرجا هذا الحديث بهذا الإسناد مع هذا الاختلاف فيه على ابن أبي مليكة، ولم يرجح بين الإسنادين

(4)

.

(1)

«علل الدارقطني» 14: 359، ورواية يحيى القطان أخرجها البخاري حديث (4939)، ومسلم حديث (2876)، وظاهر صنيعهما تعليل رواية حاتم بزيادة القاسم.

(2)

«تقييد المهمل» 2: 704.

(3)

«صحيح البخاري» حديث (6537)، و «تفسير الطبري» 30: 116، و «إتحاف المهرة» 17:490.

(4)

«التتبع» ص 522.

ص: 520

وقد ذكر ابن حجر كلمة الدارقطني التي نقلها الجياني، لكنه اختصرها ورواها بالمعنى، فتغير مؤداها، قال ابن حجر:«قال الدارقطني: رواه حاتم بن أبي صغيرة، عن عبدالله بن أبي مليكة، فقال: حدثني القاسم بن محمد، حدثتني عائشة، وقوله أصح، لأنه زاد، وهو حافظ متقن»

(1)

.

كذا جاءت عبارة الدارقطني عند ابن حجر، يوازن فيها الدارقطني بين رواية حاتم، عن ابن أبي مليكة التي فيها زيادة القاسم، وبين رواية الجماعة عن ابن أبي مليكة بإسقاط القاسم، وعبارة الدارقطني كما نقلها الجياني لا تفيد هذا، فالمقارنة في خصوص رواية حاتم، فرجح الدارقطني قول الجماعة عنه بزيادة القاسم، وبين الأمرين فرق كبير.

وأخرج البيهقي حديث أبي سعيد الماضي في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا الباب، وهو حديث:«الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» ، وقد اختلف فيه وصلا وإرسالا، ثم قال البيهقي بعد أن ساق رواية الثوري المرسلة ورواية حماد بن سلمة الموصولة: «حديث الثوري مرسل، وقد روي موصولا وليس بشيء، وحديث حماد بن سلمة موصول، وقد تابعه على وصله عبدالواحد بن زياد، والدراوردي

»

(2)

.

ويقصد البيهقي تضعيف الموصول من طريق الثوري خاصة، لكن ابن التركماني

(1)

«فتح الباري» 11: 401.

(2)

«سنن البيهقي» 2: 434.

ص: 521

فهم من عبارته تضعيف الموصول مطلقا، فتعقب البيهقي بقوله:«إذا وصله ابن سلمة، وتوبع على وصله من هذه الأوجه فهو زيادة ثقة، فلا أدري ما وجه قول البيهقي: وليس بشيء»

(1)

.

وكذلك صنع ابن حجر، فنقل عن البيهقي أنه يرجح المرسل -هكذا بإطلاق-

(2)

.

وتعرض أحد الباحثين للاختلاف في الحديث الماضي في الاتصال والانقطاع

(3)

، وهو ما يرويه الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي بكر الصديق في قصة ميراث الجدة، وقد اختلف فيه على الزهري، فرواه الجلة من أصحابه

-ومنهم معمر، ويونس بن يزيد، وصالح بن كيسان، وشعيب بن أبي حمزة، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة في المشهور عنه- رووه عن الزهري كما تقدم، ورواه مالك بن أنس، وأبو أويس، وعبدالرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي بكر، وكذا رواه ابن عيينة في بعض الروايات عنه، إلا أنه أبهم عثمان بن إسحاق.

فذهب الباحث إلى ترجيح الوجه الذي يرويه مالك ومن معه، لأنه أثبت أصحاب الزهري، فقوله الراجح، وإن كان الجماعة قد خالفوه وفيهم من عُدَّ من أوثق أصحاب الزهري، لكن مالكا مقدم عليهم عند الاختلاف، ثم نقل عن

(1)

«الجوهر النقي» 2: 434.

(2)

«التلخيص الحبير» 1: 296.

(3)

«الاتصال والانقطاع» ص 285.

ص: 522

الذهلي، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، ترجيحهم رواية مالك.

وطريقة الباحث في معالجة الاختلاف، ثم نقله عن النقاد أقوالهم، يوهم أن النقاد يخطئون رواية الجماعة عن الزهري، وهذا بعيد جدا، فمقصودهم أن الزيادة التي ذكرها مالك ومن معه محفوظة، لم يخطئ فيها هؤلاء، فالاختلاف من الزهري نفسه، وهو ربما أرسل، فمن زاد في الإسناد عن الزهري إذا كان حافظا فروايته محفوظة، ومراد النقاد أن الإسناد بتمامه هو المحفوظ، فلم يسمعه الزهري من قبيصة بن ذؤيب، وكان يسقط الواسطة بينه وبين قبيصة، وربما ذكرها.

وسئل البخاري عن رواية سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعا: «من وجد تمرا فليفطر عليه

» الحديث، فقال:«الصحيح حديث شعبة، عن عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث سعيد بن عامر وهم» .

وقد رواه الجماعة من أصحاب عاصم -غير شعبة- فزادوا ذكر الرباب بنت صليع، بين حفصة، وسلمان بن عامر، وقد روي عن شعبة بذكر الرباب لكنه لا يصح عنه، وقد تقدم شرح هذا في المبحث الأول من الفصل الثالث، وفي المبحث الثاني من الفصل الرابع من هذا الباب، وذكرت في الموضعين أن الصواب عن عاصم ما رواه الجماعة بذكر الرباب، ورواية شعبة بإسقاطها مرجوحة.

والشاهد هنا أن أحد الباحثين جاءت عنده كلمة البخاري، ففهم منها أن البخاري يصحح بإطلاق رواية شعبة بحذف الرباب، ويقدمها على رواية الجماعة

ص: 523

عن عاصم، فوضع داخل النص نقطا، لاحتمال أن يكون اسم الرباب سقط من نص البخاري، ثم علق الباحث بكلام تعدى فيه طوره، وأبعد جدا عن غرض البخاري الصحيح، وهو الموازنة بين روايتي أصحاب شعبة فقط، أي ما هو الصواب عن شعبة بخصوصه؟

ولم يرد البخاري الموازنة بين الصحيح عن شعبة، وبين ما رواه الجماعة عن عاصم، ومما قاله الباحث: «هذه الرواية فيها إشكال، والإشكال أن يصحح الإمام البخاري رواية شعبة، عن عاصم، عن حفصة، عن سلمان، دون ذكر الرباب بين حفصة، وسلمان، علما بأن شعبة رووا (كذا) أصحابه عن هذا الحديث، وذكر فيها شعبة الرباب، ما بين حفصة وسلمان، ووافقه على ذلك الحفاظ، بل هو وافقهم في هذه الرواية، كالثوري، وابن عيينة

، فمما لا شك فيه أن ما رواه هؤلاء الحفاظ أصح

فعلى هذا يستبعد أن يصحح البخاري رواية شعبة التي خالف فيها من هو أحفظ منه، أو مثله على أقل تقدير، وهم جماعة وهو فرد، والخطأ من الفرد أقرب منه إلى الجماعة، أو أن ذكر الرباب ما بين حفصة وسلمان قد سقط سهوا من النساخ، ولعل هذا أقرب

».

وكل هذه الإطالة وما فيها من كلام بعيد عن التحقيق لم يكن الباحث محتاجا لها لو أدرك مقصود البخاري، وعرف طريقة النقاد، وتحديد غرضهم من سياق السؤال والجواب.

وروى مالك بن أنس، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم بن

ص: 524

عمر بن الخطاب، عن أبي هريرة، أو أبي سعيد، مرفوعا:«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» .

هكذا رواه على الشك الجلة من رواه «الموطأ» عن مالك، وقد روي عن مالك على أوجه أخرى، أشهرها جعله عن أبي هريرة وحده

(1)

.

وقد رجح جماعة من النقاد رواية من رواه عن مالك بالشك، لكثرة من رواه على هذا الوجه.

تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، وذكر من رجح هذا الوجه عن مالك، ثم قال: «بينما رجح بعض الأئمة الوجه الخامس: مالك، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة وحده

»، وذكر الباحث في هذا السياق قول الدارقطني:«الصحيح قول من قال: عن حفص، عن أبي هريرة»

(2)

، وقول ابن عبدالبر:«الحديث محفوظ لأبي هريرة»

(3)

.

هكذا صنع الباحث، مع أن عبارة الدارقطني، وابن عبدالبر، لم تأت في سياق الموازنة بين أصحاب مالك فقط، فقد ذكر الدارقطني طريق عبيدالله بن عمر الثقة الثبت، عن خبيب، وطريق شعبة، عن خبيب، لكنه ضعف طريق شعبة، وكذا ذكر ابن عبدالبر طريق عبيدالله، وله طريقان آخران إلى خبيب، لم يردا

(1)

«موطأ مالك» (القبلة) حديث (10)، و «صحيح البخاري» حديث (6904)، و «مسند أحمد» 2: 236، 465، 533، 3: 4، و «الضعفاء الكبير» 4:72.

(2)

«علل الدارقطني» 10: 273.

(3)

«التمهيد» 2: 286.

ص: 525

عند الدارقطني، وابن عبدالبر، وهما طريق عبدالله بن عمر أخو عبيدالله، ومحمد بن إسحاق

(1)

.

فترجيح الدارقطني، وابن عبدالبر، إذن هو في الرواية عن خبيب، فلا يصح تنزيل ذلك على الاختلاف على مالك، وعبارة ابن عبدالبر صريحة في هذا، فعبارته بتمامها:«والحديث محفوظ لأبي هريرة بهذا الإسناد، كذلك رواه عبيدالله بن عمر، عن خبيب بهذا» .

وروى المغيرة بن أبي الحر، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي موسى الأشعري حديث استغفاره صلى الله عليه وسلم في اليوم مئة مرة

(2)

.

وكذا رواه موسى بن عقبة، وأشعث بن سوار، وإسرائيل بن يونس -من رواية أبي أحمد الزبيري عنه- عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى

(3)

.

ورواه إسرائيل بن يونس -من رواية محمد بن يوسف الفريابي، وعبيدالله

(1)

انظر الطرق إلى خبيب في: «صحيح البخاري» حديث (1138)، (1789)، (6216)، و «صحيح مسلم» حديث (1391)، و «مسند أحمد» 2: 376، 397، 401، 438، 528، و «المعجم الصغير» حديث (1110).

(2)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (10275)، و «سنن ابن ماجه» حديث (3816)، و «مسند أحمد» 4: 410، و «الدعاء» للطبراني حديث (1811).

(3)

«سنن النسائي الكبرى» حديث (10274)، و «مسند أحمد» 5: 394، و «مسند البزار» حديث (2970)، و «مسند الروياني» حديث (460).

ص: 526

بن موسى عنه- عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وقرن أبو إسحاق بأبي بردة: أخاه أبا بكر بن أبي موسى، مرسلا أيضا

(1)

.

ورواه ثابت البناني، وعمرو بن مرة، وحميد بن هلال، وغيرهم، عن أبي بردة، عن الأغر المزني، سوى رواية حميد، فإنه لم يسم الصحابي، بل قال: عن رجل من المهاجرين يعجبني تواضعه، وكذا ثابت البناني في بعض الطرق إليه، قال: عن رجل من أصحابه، والمشهور عنه الأول

(2)

.

وقد توارد جمع من النقاد على ترجيح رواية الجماعة عن أبي بردة، وهو جعله عن الأغر المزني، منهم البخاري، والعقيلي، والدارقطني، غير أنهم لم يذكروا المرسل، ومنهم من لم يذكر رواية أبي إسحاق الموصولة أيضا

(3)

.

وقد تعرض أحد الباحثين لهذا الاختلاف، وذكر قول جمهور النقاد في ترجيح هذا الوجه، ثم ذكر أن أبا حاتم الرازي خالفهم، فرجح الوجه المرسل.

(1)

«سنن الدارمي» حديث (2726)، و «شعب الإيمان» حديث (6788).

(2)

«صحيح مسلم» حديث (2702)، و «سنن أبي داود» حديث (1515)، و «سنن النسائي الكبرى» حديث (10276 - 10280)، وأحمد 4: 211، 260، 261، 5: 411، و «شرح معاني الآثار» 4:289.

وهناك وجه رابع، لكنه غير مشهور، وهو جعله عن أبي بردة، سمعت الأغر المزني يحدث عن ابن عمر؛ وهذا خطأ والصواب: سمعت الأغر يحدث ابن عمر، كما تقدم ذكره في الفصل الثالث من الباب الأول.

(3)

«التاريخ الكبير» 2: 43، و «الضعفاء الكبير» 4: 174، و «علل الدارقطني» 7: 216، و «التتبع» ص 545، و «معرفة علوم الحديث» ص 115.

ص: 527

هكذا صنع الباحث، وبالرجوع إلى النص الذي اعتمده الباحث في رأي أبي حاتم، وسياقه، يظهر منه بوضوح أن أبا حاتم لا يتكلم على الترجيح بين الأوجه الثلاثة، وإنما هو يوازن بين روايتي سعيد بن أبي بردة، وأبي إسحاق السبيعي، بذكر أبي موسى، وبين رواية أبي إسحاق الثانية بحذف أبي موسى، فرجح من هذه الجهة فقط.

فكأنه يقول: لا يصح ذكر أبي موسى الأشعري، أما من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى، فلحال راويه عن سعيد، وهو المغيرة بن أبي الحر، وأما من طريق أبي إسحاق، فالراوي عنه عند أبي حاتم هو موسى بن عقبة، وروايته عن أبي إسحاق لا تصح، فهو يروي هذه الأحاديث عن رجل مجهول، يقال له: عبدالله بن علي، عن أبي إسحاق، يعني ويسقطه، هكذا قال أبو حاتم عنه في حديث آخر، خالفه فيه إسرائيل أيضا فأرسله كما في حديثنا هذا

(1)

، وهذا هو الراجح عن أبي إسحاق، فتلخص أن جعل الحديث عن أبي موسى الأشعري لا يصح.

وكأن أبا حاتم لم يقف على رواية أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل، الموصولة بذكر أبي موسى، أو وقف عليها ولم يعتدَّ بها، فإن أبا أحمد الزبيري يخطئ، وقد خالفه محمد بن يوسف الفريابي، وعبيدالله بن موسى، فروياه عن إسرائيل مرسلا، كما تقدم، وفي رواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي بردة قصة، فلم

(1)

«علل ابن أبي حاتم» 1: 358، وانظر:«الجرح والتعديل» 5: 114.

ص: 528

يضبطها أبو أحمد، عن إسرائيل، وضبطها محمد بن يوسف، وعبيدالله بن موسى، وذلك أن أبا إسحاق يروي هذا الحديث بأثر حديثه عن عبيد بن المغيرة -على اختلاف في اسمه على أبي إسحاق- عن حذيفة، ثم يقول أبو إسحاق: «فذكرته لأبي بردة بن أبي موسى فحدثني عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

»، هكذا رواه أبو أحمد الزبيري، عن إسرائيل، ورواه الآخران عنه فقالا: «فذكرته لأبي بردة، وأبي بكر، ابني أبي موسى، فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

».

وعبيدالله بن موسى أثبت أصحاب إسرائيل

(1)

.

ولم يتعرض أبو حاتم لرواية أشعث بن سوار، عن أبي إسحاق الموصولة بذكر أبي موسى، وأشعث في نفسه ضعيف الحديث، ورواية إسرائيل المرسلة تدل على أن أشعث أخطأ أيضا على أبي إسحاق.

هذا ما يؤخذ من كلام أبي حاتم، وسياق السؤال والجواب، ولم يتعرض أبو حاتم للرواية المشهورة عن أبي بردة، بجعله عن الأغر، فلا يستقيم جعله مخالفا للجمهور، وهذا نص السؤال والجواب:

قال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه أبو نعيم، عن مغيرة بن أبي الحر، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

وجنح الدارقطني في «التتبع» ص 545 إلى احتمال تدليس أبي إسحاق بوصله الحديث بذكر أبي موسى، أو أنه أخطأ فسلك الجادة، فذكر أبا موسى، كما فعل المغيرة بن أبي الحر في روايته عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، وما ذهب إليه أبو حاتم أولى، فالموصول لا يصح عن أبي إسحاق، والصواب عنه الإرسال، كما رواه إسرائيل في المحفوظ عنه.

ص: 529

-ونحن قعود-، فقال:«ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مئة مرة» .

قال أبي: رواه موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بكر، وأبي بردة -ابني أبي موسى-، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يذكر أبا موسى، قال أبي: وحديث إسرائيل أشبه، إذ كان هو أحفظ»

(1)

.

ويؤكد هذا أن أبا حاتم سئل مرة أخرى عن رواية حميد بن هلال للحديث عن أبي بردة، عن رجل من المهاجرين، فقال:«يقال: إن هذا الرجل هو الأغر المزني، وله صحبة»

(2)

.

فأرجع أبو حاتم رواية حميد إلى الرواية المشهورة: عن أبي بردة، عن الأغر.

ويبقى نظر آخر في هذا الاختلاف، وكلام النقاد عليه، وهو أن جمهور النقاد الذين رجحوا كونه عن الأغر لم يرد في كلامهم ذكر للمرسل، فلم لا يقال: ترجيحهم لرواية من جعله عن الأغر إنما هو بالنسبة لرواية المغيرة بن أبي الحر، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، ولو ذكروا المرسل لربما رجحوه في النهاية، كما قلتم في صنيع أبي حاتم، وأن غرضه الموازنة بين من جعله عن أبي موسى الأشعري، ومن أرسله، ولا يدل ذلك على أنه لا يرجح في النهاية ما رجحه جمهور النقاد، بجعله عن الأغر؟

ص: 530

والجواب: أن جمهور النقاد رجحوا وجها تاما، وهو جعله عن الأغر المزني، وهو الوجه المشهور عن أبي بردة، ولو كان هناك وجه يعله ويضعفه هو الراجح عندهم لبادروا بإحضاره، وكان غرضهم تعليل رواية المغيرة بن أبي الحر، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى، لئلا يظن أنه حديث آخر، فبينوا غلطه، وأما المرسل فلو صح عن أبي إسحاق، أو عن أبي بردة، لم يؤثر هذا شيئا بعد ثبوت وجه الأغر، فالمرسل إذا ترجح الوجه الموصول دخل فيه، كما تقدم شرح هذا في المبحثين الثاني، والثالث، من الفصل الرابع من هذا الباب، سواء قيل: التقصير من أبي إسحاق، أو قيل: أبو بردة أرسله حين حدث به أبا إسحاق، وسياق القصة يؤيده، فكأن أبا بردة حين سأله أبو إسحاق أجاب: نعم، قد قاله صلى الله عليه وسلم، مع أنه عنده عن الأغر.

وأما أبو حاتم فزاد على النقاد طريقا آخر يجعله عن أبي موسى، وهو طريق موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، وبين أن هذا لا يصح أيضا، فالصواب إرساله عن أبي إسحاق، فكلام أبي حاتم إذن متمم لكلام النقاد، في تعليل حديث أبي موسى، وليس معارضا لهم في ترجيحهم لوجه الأغر، والله أعلم.

وأخرج البخاري من طريق عبدالرحمن بن مغراء، عن يزيد بن أبي حبيب، عن اللجلاج، عن عبدالله بن سعيد المخزومي، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة مرفوعا في ماء البحر:«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»

(1)

.

(1)

«التاريخ الكبير» 3: 479.

ص: 531

فذكر هذا بعض الباحثين، وعقبه بأن البيهقي نقل عقيب هذا الإسناد عن البخاري قوله:«وحديث مالك أصح»

(1)

.

ثم قال الباحث مفسرا كلام البخاري: «يشير إلى ما وقع في روايته من تسمية الراوي: جلاح، كما سلف برقم

، واللجلاج خطأ».

كذا قال الباحث، ورواية مالك ليس فيها ذكر لهذا الراوي أصلا، ومقصود البخاري بالأصحية هنا فيما يتعلق بعبدالله بن سعيد المخزومي، فإن مالكا وغيره يسمونه: سلمة بن سعيد، وهم يروونه عن صفوان بن سليم، عن سلمة بن سعيد، عن المغيرة بن أبي بردة به، لا ذكر للجلاح في إسناده

(2)

.

وقد تابع صفوان بن سليم: الجلاح أبو كثير، فرواه عن سلمة بن سعيد، هكذا رواه عن الجلاح: عمرو بن الحارث، ويزيد بن أبي حبيب، من رواية الليث عنه، ورواه ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، فاضطرب في تسمية الجلاح، وفي تسمية سلمة بن سعيد

(3)

.

(1)

«معرفة السنن والآثار» 1: 135.

(2)

«موطأ مالك» (الطهارة) حديث (12)، و «سنن أبي داود» حديث (83)، و «سنن الترمذي» حديث (69)، و «سنن النسائي» حديث (59)، و (331)، (4361)، و «سنن ابن ماجه» حديث (386)، (3246)، و «مسند أحمد» 2: 237، 361، 392، و «المستدرك» 1: 141، و «معرفة السنن» حديث (3 - 4).

(3)

«مسند أحمد» 2: 378، و «سنن الدارمي» حديث (734)، و «التاريخ الكبير» 3: 478، و «المستدرك» 1: 141، و «سنن البيهقي» 1: 3، و «معرفة السنن» حديث (5)، (7 - 8).

ص: 532

وفي الجملة فإن الاستفادة من كلام النقاد على الوجه الأمثل يحتاج إلى دراسة موسعة، فقد نبهت في هذا المبحث على بعض قضاياه، وتركت قضايا أخرى خشية الإطالة، منها ما إذا ذكر الناقد عددا من الأوجه، وقال مثلا: كلها محفوظة، أو ما عدا الوجه الفلاني فهو محفوظ، فحينئذ لا يصح أن يذكر الباحث كلامه بإطلاق، وهو قد زاد شيئا لم يذكره الناقد.

ومنها أن الناقد إذا نص على ضعف وجه أو أكثر، فلا يعني هذا أن كل ما عداه فهو محفوظ، وإن لم ينص عليه الناقد.

ثم إن‌

‌ الباحث كما هو ملزم بالتدقيق في عبارات النقاد، فهو ملزم أيضا باعتنائه بالألفاظ التي يستخدمها

هو، فقد أمضى الباحث فترة طويلة في جمع طرق الحديث، والنظر فيها، وتحرير الاختلاف، والموازنة بين الأوجه، فيجدر به أن يتأنى كثيرا في كتابة نتيجة النظر، سواء في الاختلاف على مداره الأساس، أو الاختلافات النازلة، أو العالية، فكل اختلاف له عبارته اللائقة به، وبها تكون النتيجة واضحة لقارئها، يفهم منها إن كان المقصود بها الترجيح عن المدار، أو الترجيح بعد المدار، وكذا يفهم منها إن كان الترجيح قصد به على مدار جزئي، ولم يستكمل الباحث النظر، أو على مدار نهائي، وإن استخدم الباحث عبارات التصحيح يستطيع القارئ دون لبس أن يفهم منها إن كان المقصود تصحيح الوجه عن مدار جزئي معين، أو عن مدار نهائي، أو قصد بالعبارة تصحيح الإسناد بعد آخر مدار.

وإن كان في الحديث اختلافات متنوعة لا بد أن تكون العبارة واضحة

ص: 533

أيضا في المقصود بها من هذه الاختلافات، مميزة لنتيجة النظر فيه عن نتيجة النظر في الاختلاف الآخر.

ولا يمكن بحال أن يرشد الباحث إلى عبارات معينة يقولها، فكل حديث له عباراته اللائقة به، بحسب تعدد المدارات، وتنوع الاختلافات.

والمهم هنا أنه لا يليق بالباحث بعد طول عناء أن يستعجل في إثبات العبارة التي لخص بها نتيجة نظره في اختلاف معين، فلا يطلق -مثلا- فيقول: والمحفوظ هو كون الحديث عن فلان، ويترك القارئ هكذا، وغرضه بالحفظ هنا أي عن المدار، ولكن المدار قد خولف، فالمحفوظ في النهاية خلاف هذا، بل عليه أن يحدد مراده بالحفظ هنا، وإذا قال: أصح الوجهين هو كذا، لثقة رواته وجلالتهم، ومقصوده أنه أصح الوجهين إلى مداره، لكنه بعده لا يصح، لضعف في الرواة، أو غير ذلك، فالعبارة موهمة إذن.

و‌

‌أشد خطورة من العبارات الموهمة أن يخطئ الباحث في التعبير عن مراده

، ويظهر من عبارته التناقض، وأذكر في هذا المقام حالة قَلَّ أن قرأت لباحث في ابتداء أمره -الماجستير أو الدكتوراه مثلا- إلا ويخطئ فيها، وهي ما إذا صح عن المدار وجهان، وهو يخطئ في واحد منهما، إما لكونه حدث به من حفظه، أو في حال تغيره، ونحو ذلك، أو كان يتعمد ذلك كما في التدليس، فيقول الباحث في حديث اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي: والمحفوظ عن أبي إسحاق الوجه الأول، فإن الوجه الثاني يرويه زهير بن معاوية، وهو إن كان ثقة ثبتا غير أنه سمع من أبي إسحاق بعد تغيره، ونحو هذه العبارة.

ص: 534

فهذه العبارة متناقضة، فإذا كان زهير بن معاوية ثقة ثبتا، وسمع من أبي إسحاق بعد تغيره، فالوجه الذي يرويه محفوظ عن أبي إسحاق أيضا ولا بد، وإلا تناقضت العبارة، وما يوجد في كلام النقاد في مثل هذا، كأن يقول الناقد: والصحيح الوجه الأول، فسماع زهير من أبي إسحاق متأخر، يريد به الناقد أن الصحيح من روايتي أبي إسحاق -وكلاهما محفوظ عنه- ما حَدَّث به قبل تغيره، وأما ما حَدَّث به بعد تغيره فهو خطأ منه، وإن كان محفوظا عنه.

ذكر أحد الباحثين ما رواه عبدالرزاق، ومحمد بن جعفر، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن أم قيس بنت محصن، قالت: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لي

» الحديث

(1)

.

ورواه يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن عبيدالله مرسلا

(2)

.

قال الباحث في النظر بين الروايتين: «والذي يظهر أن هذه الرواية (يعني رواية يزيد بن زريع المرسلة) غير محفوظة عن معمر، وذلك لأن راويها -مع كونه ثقة ثبتا- إلا أنه بصري، ومعمر مضعف في حديثه بالبصرة، خاصة وأن يزيد لم يتابع على روايته هذه، فترجح الرواية الأولى عليها بالكثرة، وكون أحد راوييها عبدالرزاق، وهو صنعاني، وعُدَّ من أثبت أصحاب معمر» .

فهذا الكلام من الباحث في تلخيص نتيجة النظر بين الروايتين، وقرائن

(1)

«مسند أحمد» 6: 356.

(2)

«الطب النبوي» لأبي نعيم (345)، و «علل الدارقطني» 15:422.

ص: 535

ذلك، مضطرب جدا غير مستقيم، ذلك أن يزيد بن زريع ثقة ثبت، ومعمر مضعف فيما حدث به بالبصرة، كما يقرره الباحث، وعليه فلا بد أن تكون الرواية هذه محفوظة عن معمر، فيكون قد حدث بالوجهين، فالوجه الصواب حدث به باليمن، وهو الذي رواه عنه عبدالرزاق، والوجه الثاني الذي قصر به معمر حدث به بالبصرة، وهو الذي رواه عنه يزيد بن زريع.

وهناك أمر لم يشر إليه الباحث، وهو أن معمرا قد حدَّث بالصواب أيضا في البصرة، فقد رواه عنه مع عبدالرزاق محمد بن جعفر المعروف بغندر، وهو بصري، ولا رحلة له إلى اليمن، وقد سمع من معمر بالبصرة، فيكون معمر قد اضطرب في روايته للحديث بالبصرة، والوجهان محفوظان عنه، وهو يخطئ في أحدهما، يقصر بالحديث فيرسله.

* * *

ص: 536

‌فهرس المصادر والمراجع

1 -

إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق زهير الناصر وآخرين، نشر مركز خدمة السنة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى 1415 هـ.

2 -

الأجوبة عما أشكل الدارقطني على صحيح مسلم، لأبي مسعود الدمشقي، تحقيق إبراهيم الكليب، نشر دار الوراق، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

3 -

أحاديث أبي إسحاق السبيعي التي ذكر الدارقطني فيها اختلافا في كتاب العلل، لخالد باسمح، رسالة دكتوراه (لم تطبع).

4 -

الأحاديث التي أشار أبو داود إلى تعارض الوصل والإرسال فيها، لتركي الغميز، رسالة ماجستير (لم تطبع).

5 -

الأحاديث التي أعلها البخاري في التاريخ الكبير، لعادل الزرقي، رسالة ماجستير (لم تطبع).

6 -

الأحاديث التي بين أبو داود في سننه تعارض الرفع والوقف فيها، لمحمد الفراج، رسالة ماجستير (لم تطبع).

7 -

الأحاديث التي خولف فيها مالك بن أنس، للدارقطني، تحقيق رضا بن خالد، نشر مكتبة الرشد، الرياض، 1418 هـ.

8 -

الأحاديث التي ذكر البزار علتها في مسنده، لسارة الشهري، رسالة دكتوراه (لم تطبع).

9 -

الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، تحقيق عبدالملك بن دهيش، نشر

ص: 537

دار خضر، بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ.

10 -

إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.

11 -

الأحكام الوسطى، لعبد الحق الأشبيلي، نسخة مخطوطة، والنقل منه بواسطة حاشية بيان الوهم والإيهام، لابن القطان.

12 -

الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الظاهري، تحقيق محمد عبدالعزيز، نشر مكتبة عاطف، القاهرة، الطبعة الأولى 1398 هـ.

13 -

أحوال الرجال، للجوزجاني، تحقيق عبدالعليم البستوي، نشر حديث أكاديمي، باكستان، الطبعة الأولى 1411 هـ.

* أخبار أصبهان = ذكر أخبار أصبهان.

14 -

أخبار المكيين، التاريخ الكبير، لابن أبي خيثمة، تحقيق إسماعيل حسين، نشر دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ.

15 -

أخبار مكة، للأزرقي، تحقيق رشدي الصالح، نشر دار الثقافة، مكة، 1421 هـ.

16 -

اختصار علوم الحديث، لابن كثير، تحقيق أحمد شاكر، نشر محمد صبيح، الطبعة الثانية 1370 هـ.

17 -

اختلاف الحديث، للشافعي، تحقيق عامر حيدر، نشر مؤسسة الكتب، الطبعة الأولى 1405 هـ.

18 -

الإخوان، لابن أبي الدنيا، تحقيق مصطفى عبدالقادر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ.

ص: 538

19 -

آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم، تحقيق عبدالغني عبدالخالق، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.

20 -

أدب الإملاء والاستملاء، للسمعاني، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ.

21 -

الأدب المفرد، للبخاري، تحقيق كمال الحوت، نشر عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ.

22 -

إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه، لابن كثير، تحقيق بهجة الطيب، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1416 هـ.

23 -

إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، للنووي، تحقيق نور الدين عتر، نشر دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 1411 هـ.

24 -

الإرشاد في معرفة علماء الحديث، لأبي يعلى الخليلي، تحقيق محمد سعيد عمر، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ.

25 -

أسئلة البرذعي، لأبي زرعة الرازي، مطبوع ضمن كتاب:(أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية)، لسعدي الهاشمي، نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى 1402 هـ.

26 -

الأسامي والكنى، لأبي أحمد الحاكم، تحقيق يوسف الدخيل، نشر مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1410 هـ.

27 -

استدراكات الصحابة بعضهم على بعض في الرواية، لنوال الغنام، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1431 هـ.

ص: 539

28 -

الاستذكار، لابن عبدالبر، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار قتيبة، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ.

29 -

الأسماء المبهمة، للخطيب البغدادي، تحقيق عز الدين السيد، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة 1405 هـ.

30 -

الأسماء والصفات، للبيهقي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

31 -

الإشراف على مذاهب العلماء، لابن المنذر، تحقيق أبي حماد صغير أحمد الأنصاري، نشر مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة، الطبعة الأولى 1425 هـ.

32 -

الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق طه الزيني، نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى.

33 -

أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني، لابن طاهر المقدسي، تحقيق جابر السريع، نشر دار التدمرية، الرياض، الطبعة الأولى 1428 هـ.

34 -

أطراف مسند الإمام أحمد، لابن حجر العسقلاني، تحقيق زهير الناصر، نشر دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ.

35 -

أطراف الموطأ، للداني، تحقيق رضا بو شامة وعبدالباري عبدالحميد، نشر مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1424 هـ.

36 -

اعتلال القلوب، للخرائطي، تحقيق حمدي الدمرداش، نشر مكتبة نزار الباز، مكة، الطبعة الثانية 1420 هـ.

37 -

الاقتراح في بيان الاصطلاح، لابن دقيق العيد، نشر دار الكتب العلمية،

ص: 540

بيروت، 1406 هـ.

38 -

إكمال تهذيب الكمال، لمغلطاي، تحقيق عادل محمد وأسامة إبراهيم، نشر الفاروق الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى 1422 هـ.

39 -

الإلزامات والتتبع، للدراقطني، تحقيق مقبل الوادعي، نشر دار الخلفاء، الكويت.

40 -

الإلمام بأحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ.

41 -

الأم، للشافعي، تحقيق محمد زهري النجار، نشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1393 هـ.

42 -

أمالي ابن بشران، تحقيق أحمد سليمان، نشر دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ.

43 -

أمالي المحاملي، تحقيق إبراهيم القيسي، نشر دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى 1412 هـ.

44 -

الأموال، لابن زنجويه، تحقيق شاكر ذيب، نشر مركز الملك فيصل، الرياض، الطبعة الأولى 1406 هـ.

45 -

الأموال، لأبي عبيد، تحقيق محمد عمارة، نشر دار الشروق، الطبعة الأولى 1409 هـ.

46 -

الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، لابن المنذر، تحقيق أبي حماد صغير أحمد، نشر دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1405 هـ.

ص: 541

47 -

الإيمان، لابن منده، تحقيق علي الفقيهي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1406 هـ.

48 -

البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق عبدالله التركي، نشر دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولى 1417 هـ.

49 -

البدر المنير، لابن الملقن، تحقيق جماعة، نشر دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى 1425 هـ.

50 -

بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام، لابن القطان الفاسي، تحقيق حسين سعيد، نشر دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ.

51 -

تاريخ أبي زرعة الدمشقي، تحقيق شكر الله قوجاني، من مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.

52 -

تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق عمر تدمري، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ.

53 -

تاريخ الدارمي عن ابن معين، تحقيق أحمد نور سيف، نشر مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399 هـ.

54 -

تاريخ الدوري، عن ابن معين، تحقيق أحمد نور سيف (ضمن كتاب: يحيى بن معين وكتابه التاريخ)، نشر جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399 هـ.

55 -

التاريخ الصغير، للبخاري، تحقيق محمود زايد، نشر دارالوعي، حلب، الطبعة الأولى 1397 هـ.

ص: 542

56 -

التاريخ الكبير، للبخاري، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد.

57 -

تاريخ المدينة، لابن شبة، تحقيق فهيم شلتوت، نشر دار التراث، بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ.

58 -

تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت.

59 -

تاريخ جرجان، لحمزة السهمي، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1350 هـ.

60 -

تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق عمر العمروي، نشر دار الفكر، بيروت، 1415 هـ.

61 -

التاريخ الكبير، لابن أبي خيثمة، تحقيق صلاح فتحي هلل، نشر دار الفاروق الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى 1424 هـ.

62 -

التاريخ وأسماء المحدثين وكناهم، للمقدمي، تحقيق محمد اللحيدان، نشر دار الكتاب والسنة، باكستان، الطبعة الأولى 1415 هـ.

* التتبع = الإلزامات والتتبع.

63 -

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للمزي، تحقيق عبدالصمد شرف الدين، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، والدار القيمة، الهند، الطبعة الثانية 1403 هـ.

64 -

التحقيق في أحاديث التعليق، لابن الجوزي، تحقيق مسعد السعدني، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.

65 -

التحقيق في أحاديث التعليق، لابن الجوزي، تحقيق إبراهيم اللاحم،

ص: 543

رسالة دكتوراه (لم تطبع).

66 -

تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في كتاب الكشاف، لابن حجر، مطبوع مع الكشاف للزمخشري، نشر دار المعرفة، بيروت.

67 -

تذكرة الحفاظ، للذهبي، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

68 -

الترغيب في فضائل الأعمال، لابن شاهين، تحقيق صالح الوعيل، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1415 هـ.

69 -

الترغيب والترهيب، لقوام السنة، تحقيق أيمن شعبان، نشر دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى 1414 هـ.

70 -

تصحيفات المحدثين، للعسكري، تحقيق محمود ميرة، نشر المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، الطبعة الأولى 1402 هـ.

71 -

التعديل والتجريح، للباجي، تحقيق أبي لبابة حسين، نشر دار اللواء، الرياض، الطبعة الأولى 1406 هـ.

72 -

تعظيم قدر الصلاة، للمروزي، تحقيق عبدالرحمن الفريوائي، نشر مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1406 هـ.

73 -

تغليق التعليق، لابن حجر، تحقيق سعيد القزقي، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

74 -

تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد الطيب، نشر مكتبة الباز، مكة، الطبعة الأولى 1417 هـ.

ص: 544

* تفسير ابن جرير = جامع البيان.

* تفسير الطبري = جامع البيان.

* تفسير الواحدي= الوسيط.

75 -

تفسير عبدالرزاق، تحقيق مصطفى مسلم، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1410 هـ.

76 -

تقييد المهمل وتمييز المشكل، للجياني، تحقيق علي العمران، ومحمد عزير، نشر دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى 1421 هـ.

77 -

التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح، للعراقي، تحقيق عبدالرحمن عثمان، نشر المكتبة السلفية، المدينة النبوية، 1389 هـ.

78 -

تكملة شرح التسهيل، لبدر الدين ابن مالك، تحقيق محمد المختون وآخر، نشر دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولى 1410 هـ ..

79 -

التلخيص الحبير، لابن حجر، نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1399 هـ.

80 -

تلخيص المتشابه، للخطيب البغدادي، تحقيق سكينة الشهابي، نشر دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى.

81 -

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبدالبر، تحقيق جماعة من المحققين، نشر وزارة الأوقاف، المغرب.

82 -

التمييز، لمسلم بن الحجاج، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، الرياض، الطبعة الثانية 1402 هـ.

ص: 545

83 -

تنقيح التحقيق، لابن عبدالهادي، تحقيق أيمن شعبان، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1419 هـ.

84 -

التهجد وقيام الليل، لابن أبي الدنيا، تحقيق مصلح الحارثي، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية 1421 هـ.

85 -

تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق محمود شاكر، نشر مطبعة المدني، القاهرة.

86 -

تهذيب التهذيب، لابن حجر، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1327 هـ.

87 -

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للمزي، تحقيق بشار عواد، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ.

88 -

تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم، تحقيق أحمد شاكر، نشر دار المعرفة، بيروت.

89 -

تهذيب مستمر الأوهام، لابن ماكولا، تحقيق سيد كسروي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410 هـ.

90 -

توجيه النظر إلى أصول الأثر، لطاهر الجزائري، نشر المكتبة العلمية، المدينة النبوية.

91 -

التوحيد، لابن خزيمة، تحقيق عبدالعزيز الشهوان، نشر مكتبة الرشد، الرياض.

92 -

الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم، لصالح الرفاعي، نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، 1413 هـ.

93 -

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، نشر مكتبة

ص: 546

مصطفى الحلبي، القاهرة، الطبعة الثالثة 1388 هـ.

94 -

الجامع الصحيح، للبخاري، ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي، نشر المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الأولى 1400 هـ.

95 -

جامع العلوم والحكم، لابن رجب، نشر مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الرابعة 1393 هـ.

96 -

الجامع في الحديث، لابن وهب، تحقيق مصطفى حسن، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1416 هـ.

97 -

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، تحقيق محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف، الرياض، 1403 هـ.

98 -

جامع المسانيد، لابن كثير، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

99 -

الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1371 هـ.

100 -

جزء القراءة خلف الإمام، للبخاري، تحقيق السعيد بسيوني، نشر المكتبة التجارية، مكة.

101 -

جزء القراءة خلف الإمام، للبيهقي، تحقيق السعيد بسيوني، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

102 -

جزء رفع اليدين في الصلاة، للبخاري، نشر إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، الطبعة الأولى 1403 هـ.

ص: 547

103 -

الجعديات (حديث علي بن الجعد الجوهري)، لأبي القاسم البغوي، تحقيق رفعت فوزي، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1415 هـ.

104 -

الجمع بين الصحيحين، لعبدالحق الإشبيلي، تحقيق حمد الغماس، نشر دار المحقق، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

105 -

الجهاد، لابن أبي عاصم، تحقيق مساعد الحميد، نشر دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1409 هـ.

106 -

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، تحيق علي سيد، نشر مطبعة المدني، القاهرة، 1379 هـ.

107 -

الجوهر النقي، لابن التركماني (مطبوع مع كتاب سنن البيهقي)، نشر دار الفكر، بيروت، عن الطبعة الأولى، عن دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، 1344 هـ.

108 -

حجة الوداع، لابن حزم، تحقيق أبي صهيب الكرمي، نشر بيت الأفكار، الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ.

109 -

حديث هشام بن عمار، تحقيق عبدالله الشيخ، نشر دار إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

110 -

الحطة في ذكر الصحاح الستة، لصديق حسن، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ.

111 -

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1387 هـ.

ص: 548

112 -

الدعاء، للطبراني، تحقيق محمد سعيد، نشر دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ.

113 -

الدعاء، لمحمد بن فضيل، تحقيق عبدالعزيز البعيمي، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

114 -

دلائل النبوة للبيهقي، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

115 -

دلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني، نشر دار الوعي، حلب.

116 -

ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، نشر الدار العلمية، دلهي، الطبعة الثانية 1405 هـ.

117 -

ذم الملاهي، لابن أبي الدنيا، تحقيق عمرو عبدالمنعم سليم، نشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة، مكتبة العلم، جدة، الطبعة الأولى 1416 هـ.

118 -

الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق أحمد شاكر.

119 -

رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه، لأبي داود السجستاني، تحقيق محمد لطفي الصباغ، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة 1405 هـ.

120 -

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، لابن حبان، تحقيق محيي الدين عبدالحميد، نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1397 هـ.

121 -

الزهد والرقائق، لابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت.

ص: 549

122 -

الزهد، لهناد بن السري، تحقيق عبدالرحمن الفريوائي، نشر دار الصيمعي، الرياض، 1415 هـ.

123 -

الزهد، لوكيع بن الجراح، تحقيق عبدالرحمن الفريوائي، نشر مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1404 هـ.

124 -

زوائد السنن الأربع على الصحيحين في كتاب الصيام، لعمر المقبل، نشر دار التدمرية، الرياض، الطبعة الأولى 1429 هـ.

125 -

سؤالات ابن أبي شيبة لعلي ابن المديني، تحقيق موفق عبدالقادر، نشر مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1404 هـ.

126 -

سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين، تحقيق أحمد نور سيف، نشر مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1408 هـ.

127 -

سؤالات أبي داود للإمام أحمد، تحقيق زياد منصور، نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1414 هـ.

128 -

سؤالات الآجري لأبي داود، تحقيق عبدالعليم البستوي، نشر دار الاستقامة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1418 هـ.

129 -

سؤالات البرقاني للدارقطني، تحقيق عبدالرحيم القشقري، نشر في لاهور، باكستان، الطبعة الأولى 1404 هـ.

130 -

سؤالات السلمي للدارقطني، تحقيق سليمان آتش، نشر دار العلوم، الرياض، 1408 هـ.

131 -

سؤالات السهمي للدارقطني، تحقيق موفق عبدالقادر، نشر مكتبة

ص: 550

المعارف، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ.

132 -

السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ.

133 -

السنة، لأبي بكر الخلال، تحقيق عطية الزاهراني، نشر دار الراية، الرياض، الطبعة الثانية 1415 هـ.

134 -

السنن، لابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، طبع عيسى الحلبي، القاهرة.

135 -

السنن، لأبي داود السجستاني، تحقيق عزت عبيد الدعاس، نشر محمد السيد، حمص، الطبعة الأولى 1388 هـ.

136 -

السنن، للترمذي، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد عبدالباقي، وإبراهيم عطوة، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

137 -

السنن، للدارقطني، تحقيق عبدالله هاشم، طبع دار المحاسن، القاهرة، 1386 هـ.

138 -

السنن، للدارمي، تحقيق عبدالله هاشم، نشر حديث أكاديمي، باكستان، 1386 هـ.

139 -

السنن الصغرى، للنسائي، تحقيق مكتب تحقيق التراث الإسلامي، نشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1412 هـ.

140 -

السنن الصغير، للبيهقي، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، الطبعة الأولى 1410 هـ.

ص: 551

141 -

السنن الكبرى، للبيهقي، نشر دار الفكر، بيروت.

142 -

السنن الكبرى، للنسائي، تحقيق عبدالغفار البنداري، وسيد كسروي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ.

143 -

السنن المأثورة، للشافعي، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ.

144 -

سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402 هـ.

145 -

شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد، تحقيق محمد خلوف العبدالله، نشر دار النوادر، الطبعة الثانية 1430 هـ.

146 -

شرح التسهيل، لابن مالك، تحقيق محمد المختون وآخر، نشر دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولى 1410 هـ.

147 -

شرح السنة، للبغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1390 هـ.

148 -

شرح الكافية الشافية، لابن مالك، تحقيق عبدالمنعم أحمد، نشر دار المأمون، مكة المكرمة.

149 -

شرح صحيح مسلم، للنووي، نشر دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1392 هـ.

150 -

شرح علل الترمذي، لابن رجب الحنبلي، تحقيق همام عبدالرحيم، نشر مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى 1407 هـ.

ص: 552

151 -

شرح مشكل الآثار، للطحاوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

152 -

شرح معاني الآثار، للطحاوي، تحقيق محمد النجار، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ.

153 -

شرح نزهة النظر، لإبراهيم بن عبدالله اللاحم (لم يطبع).

154 -

شروط الأئمة الخمسة، للحازمي، تحقيق زاهد الكوثري، نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1405 هـ.

155 -

شعب الإيمان، للبيهقي، تحقيق مختار الندوي، نشر الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى 1414 هـ.

156 -

الشمائل المحمدية، للترمذي، تحقيق محمد الزعبي، نشر دار العلم للطباعة، جدة، الطبعة الأولى 1403 هـ.

157 -

الصحيح، لابن حبان، ترتيب علاء الدين بن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1414 هـ.

158 -

الصحيح، لمسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر إدارة البحوث بالمملكة العربية السعودية، 1400 هـ.

* صحيح البخاري = الجامع الصحيح.

159 -

صيد الخاطر، لابن الجوزي، تحقيق علي الطنطاوي، نشر دار الفكر، دمشق.

160 -

الضعفاء الكبير، للعقيلي، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار الكتب

ص: 553

العلمية، 1404 هـ.

161 -

الضعفاء والمتروكين، للنسائي، تحقيق محمود إبراهيم زايد، نشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ.

162 -

الطب النبوي، لأبي نعيم، تحقيق مصطفى دونمز، نشر دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 1427 هـ.

163 -

الطبقات الكبرى، لابن سعد، نشر دار صادر، بيروت، وجزء منه، وهو (القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم)، تحقيق زياد منصور، نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى 1403 هـ.

164 -

طبقات المحدثين بأصبهان، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق عبدالغفور البلوشي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ.

165 -

طبقات علماء الحديث، لابن عبدالهادي، تحقيق أكرم البلوشي وآخر، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ.

166 -

الطهور، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق مشهور حسن سلمان، نشر مكتبة الصحابة، جدة، ومكتبة التابعين، القاهرة، الطبعة الأولى 1414 هـ.

167 -

عدد ما لكل واحد من الصحابة من الحديث في مسند بقي بن مخلد، لابن حزم، تحقيق أكرم العمري، الطبعة الأولى 1404 هـ.

168 -

العظمة، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضا الله المباركفوري، نشر دار العاصمة، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

169 -

العلل، لعلي بن المديني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المكتب

ص: 554

الإسلامي، بيروت.

170 -

علل ابن أبي حاتم (المناسك)، تحقيق تركي الغميز، رسالة دكتوراه

(لم تطبع).

171 -

علل الأحاديث في صحيح مسلم، لأبي الفضل بن عمار، تحقيق علي حسن، نشر دار الهجرة، الطبعة الأولى 1412 هـ.

172 -

علل الحديث، لابن أبي حاتم، نشر مكتبة المثنى، بغداد.

173 -

العلل الكبير، للترمذي، تحقيق حمزة مصطفى، نشر مكتبة الأقصى، عمان، الطبعة الأولى 1406 هـ.

174 -

العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، نشر إدارة العلوم الأثرية، باكستان، الطبعة الثانية 1401 هـ.

* علل المروذي = العلل ومعرفة الرجال.

175 -

العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن السلفي، نشر دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى 1405 هـ، وتكملته، تحقيق محمد بن صالح الدباسي، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1427 هـ.

176 -

العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية ابنه عبدالله، تحقيق وصي الله عباس، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ودار الخاني، الرياض، الطبعة الأولى 1408 هـ.

177 -

العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية المروذي، تحقيق وصي الله عباس، نشر الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى 1408 هـ.

178 -

عمارة القبور، لعبدالرحمن المعلمي، أعدها للنشر ماجد الزيادي، نشر

ص: 555

المكتبة المكية، مكة المكرمة، سنة 1418 هـ.

179 -

عمل اليوم والليلة، لابن السني، تحقيق عبدالقادر عطا، نشر دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ.

180 -

عمل اليوم والليلة، للنسائي، تحقيق فاروق حمادة، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1406 هـ.

181 -

العيال، لابن أبي الدنيا، تحقيق نجم خلف، نشر دار الوفاء، القاهرة، الطبعة الأولى 1417 هـ.

182 -

غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة، لرشيد الدين العطار، تحقيق سعد الحميد، نشر مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1421 هـ.

183 -

غريب الحديث، لابن الجوزي، تحقيق عبدالمعطي قلعجي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

184 -

الغيلانيات، لأبي بكر الشافعي، تحقيق مرزوق الزهراني، نشر دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى 1417 هـ.

* فتاوى ابن تيمية = مجموع فتاوى ابن تيمية.

185 -

فتح الباب في الكنى والألقاب، لابن منده، تحقيق نظر الفاريابي، نشر مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الأولى 1417 هـ.

186 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1380 هـ.

ص: 556

187 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن رجب، تحقيق جماعة من المحققين، نشر مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1417 هـ.

188 -

فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي، تحقيق علي حسين، نشر الجامعة السلفية، بنارس، الهند، الطبعة الأولى 1409 هـ.

189 -

الفروسية المحمدية، لابن القيم، تحقيق زائد النشيري، نشر دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى 1428 هـ.

190 -

الفصل للوصل المدرج في النقل، للخطيب البغدادي، تحقيق عبدالسميع الأنيس، نشر دار ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ.

191 -

فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، تحقيق وصي الله عباس، نشر المركز العلمي بجامعة أم القرى، الطبعة الأولى 1403 هـ.

192 -

فضائل الصحابة، لخيثمة بن سليمان، تحقيق عمر تدمري، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، 1400 هـ.

193 -

فهرسة ابن خير الإشبيلي، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية 1399 هـ.

194 -

فوائد الحنائي، تحقيق خالد أبو النجا، نشر دار أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى 1428 هـ.

195 -

فوائد الفاكهي، تحقيق محمد الغباني، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

196 -

فوائد تمام، ترتيب وتخريج جاسم الدوسري، نشر دار البشائر

ص: 557

الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

197 -

الفوائد، ليحيى بن معين، رواية الصوفي، تحقيق عصام السناني، رسالة ماجستير (لم تطبع).

198 -

فوائد حديثية، لابن القيم، تحقيق مشهور حسن، وإياد عبداللطيف، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1416 هـ.

199 -

الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، نشر دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ.

200 -

كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1399 هـ.

201 -

الكفاية في علم الراوية، للخطيب البغدادي، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1357 هـ.

202 -

الكنى والأسماء للدولابي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ.

203 -

الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات، لابن الكيال، تحقيق عبدالقيوم عبد رب النبي، نشر دار المأمون، دمشق، الطبعة الأولى 1401 هـ.

204 -

لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، طبع دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى 1329 هـ.

205 -

المؤتلف والمختلف، للدارقطني، تحقيق موفق عبدالقادر، نشر دار

ص: 558

العرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ.

206 -

ما تمس إليه حاجة القاري لصحيح البخاري، للنووي، تحقيق علي حسن، نشر دار الفكر، بيروت 1405 هـ.

207 -

المجروحين، لابن حبان، تحقيق محمود زايد، نشر دار الوعي، حلب، الطبعة الأولى 1396 هـ.

208 -

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1406 هـ.

209 -

مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبدالرحمن بن قاسم، نشر مطابع الرياض، الرياض، الطبعة الأولى 1381 هـ.

210 -

المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للرامهرمزي، تحقيق محمد عجاج الخطيب، نشر دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1404 هـ.

211 -

المحلى، لابن حزم الظاهري، تصحيح زيدان حسن، نشر مكتبة الجمهورية العربية، القاهرة.

212 -

مختصر المزني، نشر دار المعرفة، بيروت.

213 -

المدخل في أصول الحديث، للحاكم، طبع ضمن الرسائل الكمالية في الحديث، المجموعة الثانية، نشر مكتبة المعارف، الطائف.

214 -

المراسيل، لابن أبي حاتم، تحقيق شكر الله قوجاني، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1397 هـ.

215 -

المراسيل، لأبي داود السجستاني، تحقيق شعيب الأرنؤوط، نشر مؤسسة

ص: 559

الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

216 -

مسائل أحمد، رواية أبي داود السجستاني، تحقيق طارق عوض الله، نشر مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى 1420 هـ.

217 -

مسائل أحمد، رواية إسحاق بن هانئ، تحقيق زهير الشاويش، نشر المكتب الإسلامي.

218 -

مسائل أحمد وإسحاق، رواية حرب الكرماني، تحقيق ناصر السلامة، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1425 هـ.

219 -

مسائل أحمد، رواية ابنه صالح، تحقيق طارق عوض الله، نشر دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ.

220 -

مساوئ الأخلاق، للخرائطي، تحقيق مصطفى الشلبي، نشر مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الأولى 1412 هـ.

* مستخرج أبي عوانة = مسند أبي عوانة.

221 -

المستخرج على صحيح مسلم، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق محمد حسن، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ.

222 -

المستدرك على الصحيحين، للحاكم، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب.

223 -

المسند، لأبي بكر البزار، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله، نشر مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1409 هـ.

ص: 560

224 -

المسند، لأبي بكر الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر عالم الكتب، بيروت.

225 -

المسند، لأبي داود الطيالسي، تحقيق محمد بن عبدالمحسن التركي، نشر هجر للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1419 هـ.

226 -

المسند، لأبي يعلى الموصلي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، نشر دار القبلة، جدة، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

227 -

المسند، لأبي يعلى الموصلي، تحقيق حسين أسد، نشر دار الثقافة العربية، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ.

228 -

المسند، للإمام أحمد، نشر المكتب الإسلامي، ودار صادر، بيروت.

229 -

المسند، للإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وجماعة، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1416 هـ.

* مسند ابن الجعد = الجعديات.

230 -

مسند أبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق عادل العزازي وآخر، نشر دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ.

231 -

مسند أسامة بن زيد، للبغوي، تحقيق حسين المندوه، نشر دار الضياء، الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ.

232 -

مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق عبدالغفور البلوشي، نشر مكتبة الإيمان، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1412 هـ.

233 -

مسند الروياني، تحقيق أيمن علي، نشر مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى

ص: 561

1416 هـ.

234 -

مسند الشافعي، بترتيب السندي، تحقيق يوسف الزواوي، وعزت العطار، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1370 هـ.

235 -

مسند الشاميين، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1409 هـ.

236 -

مسند الشهاب، للقضاعي، تحقيق حمدي السلفي، نشر دار هجر، القاهرة، الطبعة الثانية 1420 هـ.

237 -

مسند الهيثم بن كليب الشاشي، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله، نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1410 هـ.

238 -

مسند أبي عوانة، نشر دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى.

* مشكل الآثار = شرح مشكل الآثار.

239 -

مشيخة ابن طهمان، تحقيق محمد طاهر، نشر مجمع اللغة العربية، دمشق، 1403 هـ.

240 -

المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق عبدالخالص الأفغاني وآخرين، نشر الدار السلفية، الهند، الطبعة الثانية 1403 هـ.

241 -

المصنف، لعبدالرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المجلس العلمي، كراتشي، الطبعة الثانية 1403 هـ.

242 -

مصنف ابن أبي شيبة (الجزء المفقود)، تحقيق عمر العمروي، نشر دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى 1408 هـ.

ص: 562

243 -

المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر، طبع بعناية سعد الشثري، نشر دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ.

244 -

معالم السنن، للخطابي، مطبوع بحاشية سنن أبي داود، تحقيق عزت الدعاس، نشر محمد السيد، حمص، الطبعة الأولى 1391 هـ.

245 -

معجم ابن الأعرابي، تحقيق عبدالمحسن الحسيني، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1418 هـ.

246 -

معجم ابن المقرئ، تحقيق عادل سعد، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

247 -

المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله، وعبدالمحسن الحسيني، نشر دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ.

248 -

معجم البلدان، لياقوت الحموي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

249 -

معجم الشيوخ، للصيداوي، تحقيق عمر تدمري، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

250 -

معجم الصحابة، لابن قانع، تحقيق صلاح المصراتي، نشر مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1418 هـ.

251 -

معجم الصحابة، للبغوي، تحقيق محمد الجكني، نشر دار البيان، الكويت، الطبعة الأولى 1421 هـ.

252 -

المعجم الصغير، للطبراني، تحقيق محمد شكور، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

ص: 563

253 -

المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مطبعة الوطن العربي، بغداد، الطبعة الأولى 1400 هـ.

254 -

معجم شيوخ الإسماعيلي، تحقيق زياد منصور، نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1410 هـ.

255 -

معرفة أصحاب الأعمش، لمحمد التركي، نشر دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ.

256 -

معرفة أصحابة شعبة، لمحمد التركي، نشر دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ.

257 -

معرفة الرجال، ليحيى بن معين، تحقيق محمد كامل القصار، من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1405 هـ.

258 -

معرفة السنن والآثار، للبيهقي، تحقيق سيد كسروي حسن، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ.

259 -

معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل العزازي، نشر دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

260 -

معرفة علوم الحديث، للحاكم، تحقيق معظم حسين، نشر المكتب التجاري، بيروت، الطبعة الثانية 1397 هـ.

261 -

المعرفة والتاريخ، للفسوي، تحقيق أكرم العمري، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1401 هـ.

262 -

المقاصد الحسنة، للسخاوي، تصحيح عبدالله الصديق، نشر مكتبة

ص: 564

الخانجي، القاهرة، 1375 هـ.

263 -

المقدمة، لابن الصلاح، تحقيق عائشة عبدالرحمن، نشر الهيئة المصرية للكتاب، 1394 هـ.

264 -

مكارم الأخلاق، للخرائطي، تحقيق أيمن البحيري، نشر دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة الأولى 1419 هـ.

265 -

من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال، رواية أبي خالد يزيد بن الهيثم الدقاق، تحقيق أحمد نور سيف، نشر دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت.

266 -

المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن قيم الجوزية، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية 1403 هـ.

267 -

المناسك المنسوب لإبراهيم الحربي، تحقيق حمد الجاسر، نشر دار اليمامة، الرياض، الطبعة الثانية 1401 هـ.

268 -

المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة المقدسي، تحقيق طارق عوض الله، نشر دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ.

269 -

المنتخب من مسند عبد بن حميد، تحقيق مصطفى العدوي، نشر دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

270 -

المنتقى، لابن الجارود، نشر حديث أكاديمي، فيصل آباد، باكستان.

271 -

المنتقى شرح الموطأ، للباجي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1404 هـ.

272 -

منهج المحدثين في الإعلال بمخالفة الراوي لما روى، لعادل المطرفي،

ص: 565

رسالة ماجستير (لم تطبع).

273 -

موضح أوهام الجمع والتفريق، للخطيب، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، نشر الدار السلفية، الكويت، الطبعة الثانية 1406 هـ.

274 -

الموضوعات، لابن الجوزي، تحقيق عبدالرحمن عثمان، نشر المكتبة السلفية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى سنة 1388 هـ.

275 -

الموطأ، للإمام مالك، رواية يحيى بن يحيى، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.

276 -

الموطأ، للإمام مالك، رواية أبي مصعب الزهري، تحقيق بشار معروف، وآخر، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ.

277 -

الموقظة في مصطلح الحديث، للذهبي، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية حلب، الطبعة الأولى 1405 هـ.

278 -

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق علي البجاوي، نشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1382 هـ.

279 -

نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، لابن حجر العسقلاني، تحقيق علي حسن عبدالحميد، نشر دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الثانية 1414 هـ.

280 -

نسخة وكيع عن الأعمش، تحقيق عبدالرحمن الفريوائي، نشر الدار السلفية، الكويت، الطبعة الثانية 1406 هـ.

281 -

نصب الراية لأحاديث الهداية، للزيلعي، نشر دار المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1393 هـ.

ص: 566

282 -

نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، للعلائي، تحقيق كامل الراوي، نشر مطبعة الأمة، بغداد، 1406 هـ.

283 -

النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر العسقلاني، تحقيق ربيع هادي، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1404 هـ.

284 -

النكت الوفية بما في شرح الألفية، للبقاعي، تحقيق ماهر الفحل، نشر مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية 1429 هـ.

285 -

النكت على مقدمة ابن الصلاح، للزركشي، تحقيق زين العابدين بن محمد بلا فريج، نشر دار أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

* هدي الساري = ينظر: فتح الباري لابن حجر.

286 -

هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام؟ للمعلمي، تحقيق عبدالرحمن عبدالقادر، نشر مكتبة الإرشاد، صنعاء، الطبعة الأولى 1414 هـ.

287 -

الوسيط في التفسير، للواحدي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.

ص: 567