المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

منحة العلام في شرح بلوغ المرام تأليف: عبد الله بن صالح - منحة العلام في شرح بلوغ المرام - جـ ١

[عبد الله بن صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

منحة العلام في شرح بلوغ المرام

تأليف: عبد الله بن صالح الفوزان

الناشر: دار ابن الجوزي

الطبعة: الأولي

جـ 1: 1427 هـ

جـ 2 - 5: 1428 هـ

جـ 6: 1429 هـ

جـ 7: 1430 هـ

جـ 8، 9: 1431 هـ

جـ 10: 1432 هـ

جـ 11: 1435 هـ

ص: 1

‌مقدمة الشارح

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى اله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن العلم أشرف المطالب، وأجلُّ الرغائب، يبلغ به العبد منازل الأخيار والأبرار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، وإن من أشرف العلوم، وأرفعها منزلة - بعد كتاب الله - العلمَ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية، ودراية، وهما أساس الاستدلال على الأحكام الشرعية.

وقد عُني السابقون بهذا النوع من الدليل، وسلكوا في التأليف فيه مناهج متعددة، ومن هذه المناهج الاقتصار على أحاديث الأحكام الشرعية، وتجريدها من أحاديث العقائد والمغازي والمناقب والآداب وغيرها، لتسهيل حفظها على الطلاب، وتقريبها في حال الاستدلال، ومن هؤلاء الذين ألفوا على هذا المنهج الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

(1)

رحمه الله المتوفى سنة (852 هـ)، فقد جمع في كتابه «بلوغ المرام من أدلة الأحكام»

(2)

أصول

(1)

ترجمه كثيرون، بل أفرد في ترجمته مصنفات مستقلة، ولعل من أجمعها وأولها كتاب السخاوي:"الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الأسلام ابن حجر" مطبوع في ثلاثة أجزاء، وفيه فوائد كثيرة، وجُلُّها استطرادات، كما نصَّ على ذلك.

(2)

ذكر السخاوي أن الحافظ صنف "بلوغ المرام" لابنه محمد، لكنه ما تيسر له حفظه، =

ص: 5

أحاديث الأحكام الشرعية، ورتبها على الأبواب الفقهية المشهورة، ليسهل على القارئ مراجعتها، ولم يقتصر على الأحاديث الصحيحة، بل ساق بعض الأحاديث الضعيفة ليعلم طالب العلم ما ورد في المسألة من أحاديث ضعيفة، فإن معرفة الصحيح علم، ومعرفة الضعيف علم - أيضاً - ولأجل أن يجتهد الطالب في دراستها، فإن كان لها شواهد أو طرق أخرى بحث عنها، واتضح له هل يمكن أن يُقَوِّيَ بعضُها بعضاً، أو لا؟

وقد اكتفى الحافظ بالكتب والأبواب العامة دون أن يضع لكل حديث عنواناً - كما فعل المجد ابن تيمية في «المنتقى» ـ، وذكر في اخرها كتاب «الجامع» للآداب، وكأنه أراد بذلك تزويد طالب العلم بعد حفظ أحاديث الأحكام بهذه الأحاديث ليحفظها، فإنه أحوج ما يكون إليها، وقد بلغت أحاديث الكتاب (1568) حديثاً، وقد يزيد هذا العدد وقد ينقص، تبعاً لاختلاف طبعات الكتاب، أو اختلاف وجهات النظر حول الروايات والآثار.

وقد امتاز هذا الكتاب بمزايا كثيرة، يستطيع الناظر المتأمل في الكتاب أن يستنبطها، ومن أبرزها:

1 -

أنه رتب كتبه وأبوابه وأحاديثه على الأبواب الفقهية - كما تقدم - فيذكر اسم الكتاب، ثم الباب، ثم يسرد الأحاديث المختصة به، وقد يذكر اسم الكتاب، ثم يسرد الأحاديث دون ذكر الباب كما فعل في كتاب «الجنائز» وأوائل كتاب «الزكاة» و «الصيام» و «النكاح» وغير ذلك.

2 -

أنه اقتصر على الأحاديث المرفوعة، ولم يذكر من الموقوفات إلا اليسير كما في كتاب «النكاح» وباب «الإيلاء» وباب «العدة» وغير ذلك.

3 -

أنه اختصر الأحاديث الطويلة اختصاراً جميلاً، لا يتطرق إليه تغير العبارة، ولا تقديم متأخر الإشارة، مقتصراً على موضع الاستدلال.

= وإنما حفظ منه يسيرًا [الجواهر والدرر 3/ 1220]. قلت: فإن كان هذا هو الواقع، فإنه ما ضاع جهد الحافظ ولا فاته الأجر - إن شاء الله - فكم حفظ "البلوغ" منذ زمان الحافظ ابن حجر إلى يومنا هذا؟ وكم شرحه من عالم، وكم دَرَّسَهُ من آخر؟!

ص: 6

4 -

أنه حذف الأسانيد، واقتصر على الراوي الأعلى فقط، وقد يذكر مَنْ قبله لغرض، وهذا قليل جداً.

5 -

أنه يبين درجة الحديث من صحة أو حسن أو ضعف في الغالب، وهو إما أن ينقل عن غيره، أو يحكم بنفسه، وهذه من أهم المزايا، وإن كان لم يبين سبب الضعف، إلا نادراً، ولعله قصد الاختصار، وقد فاتت هذه المزايا على المجد ابن تيمية في «المنتقى» ، فاكتفى بسياق الأحاديث وبيان مخرجها، دون أن يبين درجتها.

6 -

أنه يذكر أحياناً ما في الأسانيد من إرسال أو انقطاع أو وقف، وقد يرجّحُ إذا كان للحديث أكثر من إسناد، كل ذلك بعبارة مختصرة.

7 -

أنه يذكر أحياناً روايات وأحاديث تابعة للحديث الذي جعله أصلاً، ولا يفعل ذلك إلا لفائدة، من تقييد مطلق، أو تفصيل مجمل، أو توضيح مغلق، أو دفع تعارض أو نحو ذلك، وقد أَعطيتُ هذا الجانب كثيراً من العناية، حيث أذكر غرض الحافظ من إيراد الروايات بعد سياقه لأصل الحديث، وهذا أمر أغفله الشراح فيما أعلم.

وقد وضع الله تعالى لهذا الكتاب القبول بين أهل العلم قديماً وحديثاً، فأثنى عليه العلماء، وتداوله الطلبة، وأقبلوا على حفظه، وقُرِّر تدريسه في بعض المناهج الدراسية، وتناوله العلماء بالشرح والتوضيح، كما خُدم من الناحية الحديثية بتخريج أحاديثه وعزوها إلى مصادرها، وغير ذلك.

وطريقتي في شرح الكتاب كما يلي:

أولاً: جعلت الكلام في كل حديث على هيئة وجوه، بعد وضع عنوان للحديث، يحدد موضوعه، ويبين المراد، والأوجه هي:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي، وذلك للتعريف به باختصار.

* الوجه الثاني: في تخريج حديث الباب مكتفياً بالمصادر التي ذكرها الحافظ، وأرتبها كما ذكرها، ما لم يكن هناك ما يدعو للزيادة، وذلك ببيان موضعه من الجزء أو الصفحة، أو أقتصر على الرقم إن كان يؤدي المقصود،

ص: 7

وقد أذكر مع الرقم اسم الكتاب والباب، ليتبين للقارئ موضوع الحديث، وموضعه ولا سيما في مثل «صحيح البخاري» ، «وصحيح مسلم» ، والسنن، علماً بأن الأبواب التي في «صحيح مسلم» ليست منه، ثم أسوق إسناد الحديث مكتفياً بما يُحتاج إليه، وقد أذكر لفظ الحديث من مصدره إذا كان الحافظ لم يذكره بتمامه، أو فيه بعض الاختلاف، ثم أبين الحكم على الحديث، كما ذكر الحافظ، مع زيادة ما يؤيده من كلام أهل العلم، ثم أذكر ما يتعلق بالروايات التي يسوقها الحافظ - أحياناً - بعد أصل الحديث، وأبين غرضه من سياقها، وإن كان للحديث روايات يستفاد منها في استنباط الأحكام فإني أذكرها غالباً.

* الوجه الثالث: وما بعده: في المسائل المتعلقة بالحديث، وأول هذه الأوجه شرح ألفاظ الحديث، ومنها تراجم من ذُكر في متن الحديث.

ثانياً: أكتفي بالمسائل الفقهية التي تستنبط من الحديث، دون الاستطراد إلى مسائل أخرى؛ لأن المراد بيان فقه الحديث، وليس ذكر المسائل الفقهية عموماً، فهذا محله كتب الفقه؛ لأني لم أُرِدِ الإطالة، لئلا يزيد حجم الكتاب، وقد ذكرت مراجع المسائل الفقهية - غالباً - وما نقلته عن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فهو منسوب إلى مصدره وإلا فمن أشرطة شرح «البلوغ» ، وسيكون في آخر الكتاب - إن شاء الله - فهارس شاملة.

ثالثاً: لا أتعرض للمسائل الخلافية ومناقشات الأدلة بل أكتفي بالقول المختار الذي يعضده الدليل، وأعرض عن ما لا يقوم عليه دليل، إلا إن كان الخلاف قوياً، أو أن الحافظ قد ذكر ضمن كتابه أدلة الفريقين - مثلاً - فإني أذكر الخلاف وأبين الراجح؛ للخروج من التعارض الذي قد يفهم من دليل هذا الفريق أو ذاك.

وفي الختام أرجو من القارئ الكريم إذا رأى فيما كتبته زلة قلم أو نبوة فهم، أن يكتب إليَّ مأجوراً مشكوراً لتلافي ذلك مستقبلاً، فالأذن مصغية، والصدر منشرح، وما يكتبه الإنسان عرضة للخطأ، فالتقصير وارد،

ص: 8

والنقص موجود، وقد سميت هذا الشرح:«منحة العلام في شرح بلوغ المرام» .

والله تعالى أسأل أن يجعل عملي صالحاً، ولوجهه خالصاً، ولعباده نافعاً، وصلى الله وسلَّم على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكتبه

عبد الله بن صالح الفوزان

القصيم - بريدة

صندوق البريد: 12370

الرمز البريدي: 81999

alfuzan 1@hotmail.com

/http://www.islamlight.net/alfuzan

ص: 9

‌مقدمة المؤلف

الحمد لله

شرح المقدمة

جرت عادة المؤلفين أنهم يبدؤون كتبهم بالبسملة، ويُثنُّون بالحمدلة، تأسّياً بكتاب الله تعالى، وبالنبي صلى الله عليه وسلم في كتاباته إلى الملوك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يبدأ كتبه بالبسملة - كما ورد في «صحيح البخاري»

(1)

ـ وفي بدء المصنف بالحمدلة - أيضاً - أداء لبعض ما يجب عليه من شكر النعمة، التي من اثارها تأليف هذا الكتاب.

والمصنف افتتح كتابه بالحمدلة، وختمه بالحديث المتفق عليه:«كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»

(2)

، حتى إنه عدل عن طريقته في الكتاب، وهي ذكر المُخَرِّجين في اخر الحديث، فقال في أوله: «وأخرج الشيخان

» ليكون آخر الكتاب هو لفظ الحديث، فما أحسن الفاتحة والخاتمة، وهذا من لطائف أهل العلم في التعليم.

قول المؤلف: (الحمد لله) الحمد هو وصف المحمود بالكمال، والثناء عليه بجميع المحامد، مع محبته وتعظيمه، واللام للاستحقاق، والحمد يكون على النعمة، وعلى الصفات والأفعال، والشكر لا يكون إلا على النعمة، فيكون الحمد أعمَّ من الشكر بالنسبة إلى سبب كل واحد منهما، أما بالنسبة

(1)

انظر: "فتح الباري"(1/ 32).

(2)

أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694).

ص: 11

على نعمه الظاهرة والباطنة قديماً وحديثاً، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد

إلى ما يكون به الحمد والشكر، فالشكر أعمُّ؛ لأنه يكون بالقلب واللسان والجوارح، وأما الحمد فإنه يكون بالقلب واللسان، دون الجوارح.

قوله: (على نعمه) جمع نعمة، والنعم: هي العطايا التي يمنّ الله بها على عباده من رزق ومال وعلم وغيرها، وأعظم النعم نعمة الإسلام.

قوله: (الظاهرة والباطنة) النعم الظاهرة هي التي تعرف، كالأكل والشرب والسكن واللباس وسائر النعم التي تُرى في الكون، والباطنة هي التي لا تعرف، وإنما يعرفها الإنسان من نفسه كالقوة، والصحة، والفهم، ونحو ذلك مما لا يُطلع عليه، ويدخل في ذلك ما يعطيه الله تعالى الإنسان من قوة الإيمان واليقين والشوق إليه سبحانه ومحبته وتعظيمه والإخلاص له والأنس بذكره ومناجاته جل وعلا، قال تعالى:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

قوله: (قديماً وحديثاً) أي: إن نعم الله سابقة ولاحقة، فإن الإنسان من حين نَفْخِ الروح فيه، وهو في نعم الله تعالى.

قوله: (والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد) الصلاة من الله تعالى تطلق على الثناء، أي: ثنائه على عبده في الملأ الأعلى، كما قال ذلك أبو العالية رحمه الله، ورواه البخاري في «صحيحه»

(1)

، (والسلام) أي: تسليمه إياه من كل افة ونقص، وهذه جملة خبرية لفظاً، إنشائية معنًى؛ لأن المقصود بها الدعاء.

والنبي: من النبأ، وهو الخبر لأنه مخبر عن الله، أو من النبوءة وهي ما ارتفع من الأرض، والنبي: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من الإرسال وهو البعث والتوجيه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر

(1)

انظر: "فتح الباري"(8/ 532).

ص: 12

واله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم - والعلماء ورثة الأنبياء ـ

بتبليغه، وهذان الوصفان ثابتان لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو نبي ورسول، نُبِّئ بإنزال سورة (اقرأ) وأرسل بإنزال سورة (المدثر)، وهذا هو المشهور في تعريف النبي والرسول، وفيه نظر؛ لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِّيٍ} [الحج: 52]، ولأن ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والأظهر أن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع مَنْ قبله، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44].

قوله: (واله) آل: أصله: أهل، بدليل تصغيره على (أُهَيل)، ولا يستعمل إلا فيما شَرُفَ غالباً، والآل إذا ذكروا وحدهم فالمراد بهم جميع أتباعه صلى الله عليه وسلم على دينه، أما إذا قرنوا بالأتباع فقيل:(اله وأتباعه) فالآل هم المؤمنون من ال بيته صلى الله عليه وسلم، والأتباع من تبعه على دينه من غيرهم.

قوله: (وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً) صحبه: جمع لصاحب، ويجمع على أصحاب، وهم كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وما ذكره المصنف عنهم أثبته الواقع، فقد نصروا الدين وأيدوه، وجاهدوا في سبيل الله، كما يُعرف ذلك بالرجوع إلى سيرتهم.

قوله: (وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم) أي: أتباع الآل والأصحاب، ووراثة علمهم أنهم نقلوه وتلقوه عنهم، وساروا على نهجهم في العلم والعمل حتى صار ما نقلوه عنهم كأنه ميراث، عليهم رحمة الله تعالى.

قوله: (والعلماء ورثة الأنبياء) هذا اقتباس من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً - وأوله: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة

»

(1)

، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛

(1)

أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/ 196) وغيرهم، وذكره البخاري في ترجمة أحد الأبواب من كتاب "العلم"(1/ 160 "فتح الباري") ولم يتكلم عليه الحافظ في "تغليق التعليق"(2/ 78، 79)، وقال في =

ص: 13

أكرم بهم وارثاً وموروثاً.

أما بعد: فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية،

فالعلماء هم وُرَّاثُ الأنبياء بعلمهم وتبليغ رسالات الله وإرشاد الناس إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.

فالواجب على طالب العلم أن يُعنى بهذا الأمر، وأن يصرف جهده ووقته لتحصيل ما وَرَّثه الأنبياء، وهو العلم النافع والتوجيه إلى الخير ونشر دين الله.

قوله: (أكرمْ بهم وارثاً وموروثاً) أكرم: فعل تعجب بمعنى: ما أكرمهم، والباء زائدة في فاعل (أكرم)، وقوله:(وارثاً) عائد إلى العلماء، و (موروثاً) عائد إلى الأنبياء.

قوله: (أما بعدُ) أي: بَعْدَ هذه الخطبة، وكلمة (أما بعد) يؤتى بها للانتقال من الخطبة إلى الموضوع، وهي أداة شرط بمعنى: مهما يكن من شيء، و (بعد) ظرف مبني على الضم، وتلزم الفاء في جواب (أما).

قوله: (فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية) الإشارة إما إلى شيء محسوس قد فُرِغَ منه، وهذا إن كانت المقدمة بعد الفراغ من الكتاب، أو الإشارة إلى ما تصوره في ذهنه وأعدَّه إن كانت قبل أن يؤلِّف الكتاب.

وهذا الكتاب مختصر قد حذف المؤلف أسانيده - كما تقدم - ولم يكثر

= "فتح الباري"(1/ 160): (طرف من حديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان (1/ 289)، والحاكم (1/ 89) مصحَّحًا من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه غيره بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها). اهـ. ولم أجده عند الحاكم من حديث أبي الدرداء، ومدار الحديث على داود بن جميل، عن كثير بن قيس، وهما مجهولان، وقد أخرجه أبو داود (3642) من طريق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن، وقد ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" ص (63) وتكلم عليه، فراجعه إن شئت.

ص: 14

حررته تحريراً بالغاً؛ ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً، ويستعين به الطالب المبتدئ، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي،

من المتون، بل اشتمل (على أصول الأدلة) أي: اشتمل على أدلة حديثية تعتبر أصولاً لغيرها، أي: يُبنى عليها غيرها.

وقوله: (للأحكام الشرعية) جمع حكم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية من واجب ومحرم ومندوب ومكروه ومباح، ويضاف إليها الأحكام الوضعية، كالصحة والفساد، وغيرهما.

قوله: (حررته تحريراً بالغاً)

(1)

أي: هذبته ونقحته، انتقاءً من أمهات الكتب وأصول الأدلة مع بيان صحة الحديث وضعفه، أو ما فيه من علة بلفظ موجز، فقد اعتنى بذلك عناية تامة، كما تقدم.

قوله: (ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً) تعليل لما تقدم، والأقران: جمع (قِرن) بالكسر، وهو الكُفْءُ والمثل، والنابغ: الخارج عن نظرائه بمزيد الاجتهاد والرغبة في التحصيل.

قوله: (ويستعين به الطالب المبتدئ، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي) هذا معطوف على ما قبله، والمعنى: أن هذا الكتاب يستعين به الطالب المبتدئ؛ لأنه قَرَّبَ له الأدلة، وهذبها، فيسهل عليه حفظها، ولا يستغني عنه الراغب في العلوم البالغ نهاية مطلوبه؛ لأنه محتاج إلى ما فيه من الأدلة، فهو مرجع مفيد جامع لكل ما يحتاجه طالب العلم من أدلة الأحكام.

(1)

ذكر السخاوي في "الجواهر والدرر"(2/ 661) أنه لخصه من "الإلمام" لابن دقيق العيد (م 702) وزاد عليه كثيرًا. اهـ. قلت: التشابه بين الكتابين واضح جدًا، إلا في أمور واضحة لمن يتأمل في الكتابين، ولعل المراد بالزيادة: الأحاديث الضعيفة التي أضافها الحافظ إلى كتابه، وليست في "الإلمام" مع أن في "البلوغ" -أيضًا- أحاديث صحيحة زيادة على ما في "الإلمام"، ولعلك أخي القارئ تقارنه -أيضًا- بـ "المحرر" لابن عبد الهادي (م 744).

ص: 15

وقد بينت عَقِبَ كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادتي نصح الأمة، فالمراد بالسبعة: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه،

قوله: (وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادتي نصح الأمة) أي: إنه بين في نهاية كل حديث من أخرجه من أئمة هذا الشأن - أي: مَنْ رَوَاه بسنده وساق طرقه - لإرادة نصح الأمة، وقد صدق رحمه الله، فإن إيضاح من أخرج الحديث فيه فوائد عظيمة للأمة، منها:

1 -

بيان أن الحديث ثابت في دواوين السنة.

2 -

أنه قد تداولته الأئمة الأعلام.

3 -

أنه قد تتبع طرقه وبيّن ما فيها من تصحيح وتحسين وإعلال.

قوله: (فالمراد بالسبعة: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه) أي: إن الحافظ رحمه الله له في هذا الكتاب اصطلاحات خاصة، ذكرها في المقدمة، لينتفع بها القارئ، وإنما سلك هذا المسلك اختصاراً واقتداء بقاعدة المحدثين.

وأحمد: هو الإمام أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي ثم البغدادي، صاحب المسند العظيم، وإمام أهل السنّة في عصره، مات سنة 241 هـ.

والبخاري: هو الإمام أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، صاحب الصحيح، والتصانيف النافعة، قال عنه الإمام أحمد:(ما أخرجت خراسان مثله)، مات سنة 256 هـ.

ومسلم: هو الإمام أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري، صاحب الصحيح، والتصانيف المفيدة، أثنى عليه العلماء من أهل الحديث وغيرهم، مات سنة 261 هـ.

وأبو داود: هو الإمام سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب

ص: 16

وبالستة: من عدا أحمد، وبالخمسة: من عدا البخاريَّ ومسلماً، وقد أقول: الأربعة وأحمد، وبالأربعة: من عدا الثلاثة الأُوَلَ، وبالثلاثة: من عداهم والأخيرَ، وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم،

«السنن» ، أثنى عليه العلماء، ووصفوه بالحفظ والورع، مات سنة 275 هـ.

والترمذي: هو الإمام أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، مصنف «الجامع» ، اتفقوا على إمامته وجلالته، مات سنة 279 هـ.

والنسائي: هو الإمام أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب بن علي النسائي، صاحب «السنن» ، برع في الحديث، وتفرّد بالمعرفة والإتقان وعلو الإسناد، مات سنة 303 هـ.

وابن ماجه: هو الإمام أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه - بالهاء الساكنة، ويقال بالتاء - القزويني، صاحب «السنن» ، مات سنة 273 هـ أو 275 هـ.

وقد قدم الحافظ الإمام أحمد رحمه الله إما لأنه أقدمهم زمناً، أو لأن كتابه أقدم الكتب، أو لغير ذلك، فالله أعلم.

قوله: (وبالستة: ما عدا أحمد) أي: والمراد بالستة: أصحاب السنن مع الصحيحين، وهم أصحاب الأمهات الست.

قوله: (وبالخمسة: من عدا البخاري ومسلماً، وقد أقول: الأربعة وأحمد) وهذا قد يدل على أن الخطبة كانت متقدمة.

قوله: (وبالأربعة من عدا الثلاثة الأُول) أي: إن المراد بالأربعة أصحاب السنن.

قوله: (وبالثلاثة من عداهم والأخيرَ) أي: يريد بالثلاثة من عدا البخاري ومسلماً وأحمد وابن ماجه، وهم: أبو داود والترمذي والنسائي.

قوله: (وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم) أي: إن المتفق عليه عنده: ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث صحابي واحد، وهذا ما عليه أهل

ص: 17

وقد لا أذكر معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مُبين، وسميته:(بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، والله أسأل ألاَّ يجعل ما علمنا علينا وبالاً، وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى.

العلم، إلا المجد ابن تيمية في «المنتقى» فقد جعل المتفق عليه ما اتفقا عليه وأحمد، ولا مشاحة في الاصطلاح.

قوله: (وقد لا أذكر معهما غيرهما) كأنه يريد أنه قد يخرج الحديث عن السبعة أو أقل، فيكتفي بنسبته إلى الشيخين.

قوله: (وما عدا ذلك فهو مبين) أي: ما عدا من ذُكر من السبعة فهو مبين وموضح بذكر اسمه؛ إذ لا رمز له، مثل: الإمام مالك، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، وغير ذلك.

قوله: (وسميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام) قال في «القاموس» : بلغ المكان بلوغاً: وصل إليه أو شارف عليه

(1)

، والمرام: المطلب

(2)

، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي: وصولي إلى مطلوبي من أدلة الأحكام، أو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي: بلوغ الطالب مطلوبه من أدلة الأحكام.

قوله: (والله أسأل ألا يجعل ما علمنا علينا وبالاً، وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى بنصب لفظ (الله) لأنه مفعول تقدم على عامله لإفادة الحصر، أي: لا أسأل إلا الله، والوبال: - بفتح الواو - الشدة والثِّقَلُ

(3)

، أي: لا يجعله شدة في الحساب وثقلاً من جملة الأوزار؛ لأن العلم إذا لم يعمل به صاحبه صار وبالاً عليه، وهذا دعاء حسن، فينبغي لطالب العلم أن يسأل ربه أن يعلمه ما ينفعه، وأن ينفعه بما علمه، وأن يرزقه العمل بما يحبه ويرضاه سبحانه وتعالى، وهذه سعادة الدنيا وفلاح الآخرة، نسأل الله التوفيق.

(1)

"القاموس"(1/ 316 ترتيبه).

(2)

انظر: "القاموس"(2/ 416).

(3)

"القاموس"(4/ 567).

ص: 18

‌الأئمة الذين استفاد منهم الحافظ

بلغ عدد الأئمة الذين استفاد منهم الحافظ في «بلوغ المرام» ، فذكرهم إما في تخريج الأحاديث أو في موضوع الحكم على الحديث؛ اثنين وأربعين إماماً، وقد مضى منهم سبعة، وهم أصحاب الكتب الستة وأحمد، وهذه بقيتهم مرتبةً باعتبار تقدم وفياتهم: لأن هذا هو المعمول به عند اجتماع أكثر من واحد، مع ذكر كتاب واحد - في الغالب - لكل فرد منهم:

8 -

مالك: الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين، له كتاب «الموطأ» ، حدث عنه أمم لا يكادون يحصون، ومن تلامذته الإمام الشافعي، مات سنة (179 هـ).

9 -

أبو داود الطيالسي: الحافظ الكبير، سليمان بن داود بن الجارود، الفارسي الأصل، أحد الأعلام، له كتاب «المسند» ، مات سنة (204 هـ).

10 -

الشافعي: الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، أحد الأئمة الأربعة المتبوعين، له كتاب «الأم» ، حبر الأمة، وأعلم الناس شرقاً وغرباً، برع في العلوم، وابتكر أصول الفقه، مات سنة (204 هـ).

11 -

عبد الرزاق: هو الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر عبد الرزاق ابن همام بن نافع الحميري، مولاهم، الصنعاني، كان من أوعية العلم، روى عنه أحمد وإسحاق وابن معين والذهلي، له كتاب «المصنَّف» ، عمي في اخر عمره فتغير، مات سنة (211 هـ).

12 -

سعيد بن منصور: هو الإمام الحافظ، أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة المروزي، مجاور مكة، أثنى عليه الإمام أحمد، وقال حرب الكرماني: أملى علينا نحواً من عشرة الاف حديث من حفظه، روى عنه مسلم

ص: 19

وأبو داود، واخرون، له كتاب «السنن» ، مات سنة (227 هـ).

13 -

ابن المديني: الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر السعدي المديني، إمام الجرح والتعديل، وحافظ العصر، روى عنه البخاري وأبو داود وخلق، له كتاب «العلل» ، مات سنة (234 هـ).

14 -

ابن أبي شيبة: الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم، المعروف بابن أبي شيبة، الحافظ المتقن، روى عنه أبو زرعة والبخاري ومسلم وأبو داود واخرون، له كتاب «المصنَّف» ، مات سنة (235 هـ).

15 -

ابن راهويه: الإمام الحافظ الكبير أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم التميمي الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه [وهي لفظة فارسية مركبة من كلمتين:(راه) ومعناها: الطريق، و (ويه) ومعناها: وُجد، وذلك لأن أباه صاحب اللقب ولد في طريق مكة] عرف بالحفظ والإتقان والسلامة من الغلط - كما قال عنه أبو حاتم ـ، له «المسند» ، مات سنة (238 هـ).

16 -

الدارمي: الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن ابن الفضل الدارمي - نسبة إلى دارم بن مالك من تميم - التميمي، السمرقندي، موصوف بالثقة والزهد والورع، حدث عنه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، واخرون، له كتاب «السنن» وبعضهم يسميه «المسند» وفي هذه التسمية تَجَوُّزٌ، مات سنة (255 هـ).

17 -

الذُّهْلي: حافظ نيسابور، أبو عبد الله محمد بن يحيى الذهلي، انتهت إليه مشيخة العلم بخراسان، اشتهر بتأليفه وجمعه لحديث ابن شهاب الزهري وعلله، ويسميه الحافظ ابن حجر:«الزهريات» ، مات سنة (258 هـ).

18 -

أبو زُرعة: الحافظ المحدث الكبير، عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي القرشي مولاهم، أحد الأعلام، وأحد أئمة الجرح والتعديل، روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، واخرون، كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاءً وديناً وإخلاصاً وعملاً، له كتاب «مسند الشاميين» ، واراؤه في الرجال مبثوثة في كتب ابن أبي حاتم الآتية بعدُ، مات سنة (264 هـ).

ص: 20

19 -

أبو حاتم: هو الإمام الحافظ الكبير الجوال، أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، من أئمة الجرح والتعديل، الذين برعوا في صناعة الحديث، من أقران البخاري ومسلم، طبع له شيء من كتاب «الزهد» ، ولا تكاد تنظر في أيِّ صفحة من صفحات مصنفات ابنه كـ «الجرح والتعديل» ، أو «العلل» ، أو «المراسيل» إلا وتجد له رأياً أو رواية، مات سنة (277 هـ).

20 -

ابن أبي خيثمة: هو الإمام الحافظ الحجة، أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة - زهير - بن حرب النسائي ثم البغدادي، أخذ علم الحديث عن الإمام أحمد وابن معين، له «التاريخ الكبير» ، مات سنة (279 هـ).

21 -

ابن أبي الدنيا: هو المحدث العالم الصدوق، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن أبي الدنيا القرشي الأموي، مولاهم، البغدادي، صاحب التصانيف الكثيرة في الزهد والرقائق، روى عنه ابن ماجه، والحارث بن أبي أسامة، وابن أبي حاتم الرازي، وخلق كثير، مات سنة (281 هـ).

22 -

الحارث بن أبي أسامة: هو الإمام الحافظ، أبو محمد الحارث ابن أبي أسامة التميمي البغدادي، وثَّقه إبراهيم الحربي، وأبو حاتم، وقال الدارقطني: صدوق؛ له «المسند» وزوائده ضمن «المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية» لابن حجر، مات يوم عرفة سنة (282 هـ).

23 -

البزار: هو الإمام الحافظ العلامة، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، المعروف بـ (البزار) أحد الأعلام، له كتاب «المسند» ، مات سنة (292 هـ).

24 -

ابن الجارود: هو الإمام الحافظ الناقد أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري، جاور بمكة، صاحب «المنتقى في الأحكام» ، مات سنة (307 هـ).

ص: 21

25 -

أبو يعلى: هو محدث الجزيرة الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي، الموصلي، أثنى عليه العلماء بالعلم والتقوى، ووصفه ابن كثير في مواضع من تفسيره بالحفظ والإتقان، له كتاب «المسند الكبير» مات سنة (307 هـ).

26 -

ابن خزيمة: هو الحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري أحد الأعلام، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان، له كتاب «الصحيح» ، مات سنة (311).

27 -

أبو عوانة: هو الحافظ المحدث، أبو عوانة، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، النيسابوري الأصل، الإسفرايني، مشهور بكنيته، أحد حفاظ الدنيا، كان زاهداً، عفيفاً، متعبداً مقللاً، صاحب «المسند الصحيح» الذي خرجه على صحيح مسلم، وزاد أحاديث قليلة في أواخر الأبواب، مات سنة (316 هـ).

28 -

الطحاوي: هو الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي، كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاملاً، صاحب التصانيف البديعة، من أشهرها «شرح معاني الآثار» وكتابه المطبوع باسم «شرح مشكل الآثار» ، مات سنة (321 هـ).

29 -

العقيلي: هو الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، عداده في أهل الحجاز، ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدم في الحفظ، له كتاب «الضعفاء» ، مات سنة (322 هـ).

30 -

ابن السَّكن: هو الحافظ الإمام الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن السَّكَن - بفتح السين والكاف - البغدادي ثم البصري، من حفاظ الحديث، له «الصحيح المنتقى» ، مات سنة (353 هـ).

31 -

ابن حبان: هو الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان - بكسر فتشديد - بن أحمد بن حبان البُسْتي - بضم فسكون، نسبة إلى بُسْت من بلاد سجستان - كان من أوعية العلم، وفقهاء الدين، وحفاظ الآثار، من شيوخه: الحافظ أبو يعلى الموصلي، وابن خزيمة، ومن تلاميذه: الحاكم صاحب

ص: 22

«المستدرك» ، وابن منده، والدارقطني، واخرون، له كتاب «الصحيح» ، مات سنة (354 هـ).

32 -

الطبراني: هو الإمام الحجة، مسند الدنيا، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني، أثنى عليه العلماء بالحفظ وسعة الاطلاع، ووصفوه بالصدق، والثقة، والأمانة، له: المعاجم الثلاثة - الكبير والأوسط والصغير ـ، مات سنة (360 هـ).

33 -

ابن عدي: هو الإمام المشهور الحافظ الكبير، أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، كان حافظاً متقناً، لم يكن في زمانه مثله في العلل والرجال، له كتاب «الكامل في ضعفاء الرجال» قال عنه ابن كثير:(لم يُسبق إلى مثله، ولم يُلحق في شكله)، مات سنة (365 هـ).

34 -

الإسماعيلي: هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني، كان واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وأجلهم في الرياسة والمروءة والسخاء، له كتاب «المستخرج على صحيح البخاري» ، مات سنة (371 هـ).

35 -

الدارقطني: هو الحافظ الكبير، والإمام العديم النظير، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني - بفتح الراء وضم القاف، نسبة إلى دار القطن، محلة كبيرة في بغداد - كان فريد عصره، وإمام وقته، انتهت إليه رئاسة علم الحديث والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال في زمانه، له كتاب «السنن» و «العلل» ، مات سنة (385 هـ).

36 -

ابن مَنْدَهْ: هو الإمام الحافظ الجوال، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده - بفتح فسكون ففتح - أحد الأعلام الحفاظ المكثرين من الحديث، فريد عصره ديناً وحفظاً ورواية، له كتاب «معرفة الصحابة» ، وكتاب «الإيمان» ، مات سنة (395 هـ).

37 -

الحاكم: هو إمام المحققين أبو عبد الله محمد بن عبد الله

ص: 23

النيسابوري الحاكم المعروف بـ (ابن البَيِّع) - بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة - صاحب «المستدرك على الصحيحين» ، قال الخطيب:(كان ثقة، وكان صالحاً عالماً)، مات سنة (405 هـ).

38 -

أبو نُعيم: هو الحافظ المشهور، أبو نُعيم - بالتصغير - أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني، أحد أعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ، له كتاب «المستخرج على صحيح البخاري» و «المستخرج على صحيح مسلم» ، مات سنة (430 هـ).

39 -

البيهقي: هو الحافظ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي - نسبة إلى بيهق بلدة قرب نيسابور - من كبار أئمة الحديث، وفقهاء الشافعية، له من التصانيف ما لم يسبق إليها، منها «السنن الكبرى» ، مات سنة (458 هـ).

40 -

ابن عبد البر: هو الإمام العلامة، حافظ المغرب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَري القرطبي، ليس لأهل المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين والنزاهة، والتبحر في الفقه والعربية، له كتاب «التمهيد» ، مات سنة (463 هـ).

41 -

الإشبيلي: هو الحافظ العلامة الحجة، أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي، المعروف بـ (ابن الخراط)، كان فقيهاً حافظاً، عالماً بالحديث وعلله، عارفاً بالرجال، موصوفاً بالخير والصلاح والزهد، له «الأحكام الكبرى» و «الوسطى» و «الصغرى» ، والوسطى مختصرة من الكبرى، وهي محذوفة الأسانيد، مات سنة (581 هـ).

42 -

ابن القطان: وهو الإمام الحافظ الناقد العلامة، أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفارسي، مشهور بلقبه كان معروفاً بالحفظ والإتقان، ذاكراً للحديث، بصيراً بطرقه، عارفاً برجاله، مميزاً صحيحه من سقيمه، له كتاب «بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام» ، مات سنة (628 هـ)، رحمهم الله وإيانا بمنِّه وفضله.

ص: 24

‌كتاب الطهارة

‌باب المياه

الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية، فالأقذار الحسية: كالبول ونحوه، والمعنوية: الشرك وكل خُلق رذيل.

وشرعاً: ارتفاع الحدث وما في معناه، وزوال الخَبث.

والحدث: هو الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل، ونحو ذلك.

وقولنا: (وما في معناه) أي: في معنى ارتفاع الحدث، كتجديد الوضوء؛ فهو طهارة، وكذا الأغسال المسنونة، كغسل يوم الجمعة على القول بعدم وجوبه.

وقولنا: (وزوال الخبث) أي: النجاسة، والتعبير بـ (زوال) أعم من إزالة؛ لأن الإزالة فعل المكلف، والزوال قد يكون فعله أو فعل غيره؛ كما لو نزل المطر على أرض نجسة، أو على ثوب نجس فإن ذلك مطهر؛ لأن طهارة الخبث من باب التروك، فلا يشترط لها فعل العبد ولا قصده.

ولما كانت الطهارة هي مفتاح الصلاة التي هي عمود الدين وشرطها؛ افتتح بها العلماء - من المحدثين والفقهاء - مؤلفاتهم.

والمياه: جمع ماء، وهو يقع على القليل والكثير، وجُمع مع كونه اسم جنس؛ للدلالة على اختلاف أنواعه، كمياه البحار والأنهار والأمطار، ومنها الماء الطاهر، ومنها الماء النجس، فيجمع لهذا الاعتبار.

ص: 25

‌طهورية ماء البحر

1/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، في الْبَحْر:«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ والتِّرْمِذِيُّ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وهذا هو الأرجح في اسمه

(1)

، وهو مشهور بكنيته، التي كناه بها أبوه في الجاهلية، أسلم عام خيبر، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من أكثر الصحابة رضي الله عنهم رواية للحديث، قال له ابن عمر رضي الله عنهما:(كنتَ ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه)، كان رضي الله عنه من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى، مع الجلالة والعبادة والتواضع، قال البخاري: روى عنه ثمانمائة نفسٍ أو أكثر، توفي سنة (57 هـ) في المدينة، رضي الله عنه

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (83) في كتاب «الطهارة» باب «الوضوء بماء البحر» ، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 50)، وابن ماجه (386)، وهؤلاء هم الأربعة كما تقدم، وأخرجه - أيضاً - ابن أبي شيبة (1/ 131)، ومالك (1/ 22)،

(1)

على ما اختاره جمع من المحدثين، منهم الحاكم، فإنه قال (3/ 507):(إنه أصحها) ومنهم ابن عبد البر في "الاستيعاب"(12/ 172)، واختاره النووي.

(2)

انظر: "تذكرة الحفاظ"(1/ 32)، "الإصابة"(12/ 63).

ص: 26

والشافعي (1/ 19)، وأحمد (12/ 171)، كلهم من طريق مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من ال بني الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار - أنه سمع أبا هريرة يقول: جاء رجل

إلخ.

والحديث صحيح رجاله ثقات، رجال الشيخين، إلا المغيرة بن أبي بردة، وقد وثقه النسائي؛ وذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

، وقال أبو داود:(معروف)، وروى له أصحاب السنن هذا الحديث، وإلا سعيد بن سلمة، وقد اختلف في اسمه، ووثقه النسائي؛ وذكره ابن حبان في «الثقات»

(2)

؛ وروى له أصحاب السنن هذا الحديث.

وقد صحح الحديث أئمة هذا الشأن، قال الترمذي:(سألت محمداً - يعني البخاري - عن حديث مالك - يعني هذا الحديث - فقال: هو حديث صحيح)

(3)

، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والبغوي والطحاوي وابن المنذر والخطابي وابن منده والحاكم والبيهقي وعبد الحق الأشبيلي واخرون، ذكر هذا الحافظ في «تهذيب التهذيب» في ترجمة «المغيرة بن أبي بردة»

(4)

، وقال ابن عبد البر: (هو عندي حديث صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول له، والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء

)

(5)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (هو الطَّهور ماؤه) الطَّهور: صيغة مبالغة، أي: طاهر مطهر، وهو بفتح الطاء اسم لما يتطهر به، كالسَّحور بالفتح، اسم لما يُتسحر به، والضمير في قوله:(هو الطهور) يعود على البحر، فـ (هو) مبتدأ، و (الطهور) مبتدأ ثان، و (ماؤه) خبر؛ أو فاعل للطهور؛ لأنه صيغة مبالغة - كما مضى ـ، والجملة من المبتدأ والخبر؛ خبر المبتدأ الأول، وفي الجملة قصر صفة على موصوف، أي: قصر الطهورية على ماء البحر؛ وهذا قصر غير حقيقي؛ لأن الطهورية

(1)

"الثقات"(5/ 410)

(2)

"الثقات"(6/ 364).

(3)

"العلل الكبير"(1/ 135).

(4)

"تهذيب التهذيب"(10/ 230).

(5)

"التمهيد"(16/ 218)، وانظر:"الاستذكار"(2/ 98).

ص: 27

موجودة في غير ماء البحر، وهو قصر تعيين؛ لأن السائل كان متردداً بين جواز الوضوء وعدمه، فعين له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجواز.

قوله: (الحِلُّ ميتته) هكذا بدون واو مع ثبوتها في مصنف ابن أبي شيبة، والمصنف ذكر أن اللفظ له، ولم يرد السؤال عن حكم ميتة البحر، لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته.

ومعنى (الحل) - بكسر الحاء - مصدر حلَّ يَحِلُّ - من باب ضرب - ضد حَرُمَ؛ أي: الحلال، كما في رواية للدارمي

(1)

والدارقطني وأحمد وغيرهم، والمراد بـ (ميتته) - بفتح الميم - ما مات من حيوان البحر بلا ذكاة، كالسمك؛ لا ما مات فيه مطلقاً، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحرٍ فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكر، وسيأتي زيادة بيان عند الكلام على الحديث «الثالث عشر» ، إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: اختصر الحافظ هذا الحديث فلم يذكر إلا الشاهد؛ وإلا فالحديث له سبب، وهو أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يا رسول الله: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»).

وإنما توقف الصحابة رضي الله عنهم في التطهر بماء البحر؛ لأنه ماء مالح وريحه منتن؛ وما كان هذا شأنه لا يُشرب، فتوهموا أن ما لا يُشرب لا يُتطهر به، وإنما لم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ (نعم) حينما قالوا:(أفنتوضأ به؟)، لئلا يصير جواز الوضوء به معتبراً بحال الضرورة؛ وليس كذلك، ولئلا يُفهم أن الجواز مقصور على الوضوء دون غيره من إزالة الأحداث والأنجاس.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن ماء البحر طهور يرفع الحدث الأصغر والأكبر، ويزيل النجاسة؛ لأنه ماء طاهر باقٍ على خلقته.

الوجه السادس: الحديث دليل على أن المفتي إذا رأى من حال المستفتي أنه بحاجة إلى بيان أمر اخر غير الذي سأل عنه أنه يبينه له، وهذا من محاسن الفتوى

(2)

، وهو دليل على الذكاء وجودة الملاحظة والحرص على نفع الناس بما يحتاجون إليه، والله أعلم.

(1)

"سنن الدارمي"(1/ 151).

(2)

"عارضة الأحوذي"(1/ 151).

ص: 28

‌الأصل في الماء الطهارة

2/ 2 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ» . أَخْرَجَهُ الثلَاثَةُ، وَصَحَّحَه أَحْمَدُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو سعيد، سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، أولها غزوة الخندق سنة خمس، وكان قبلها صغيراً، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً، فكان من علماء الأنصار وفضلائهم، توفي سنة (74 هـ)، ودفن في البقيع، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (66) في كتاب «الطهارة» باب «ما جاء في بئر بضاعة» ، والترمذي (66)، والنسائي (1/ 174)، وأحمد (17/ 190) من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(أنتوضأ من بئرِ بُضاعة - وهي بئر يُطرح فيها الحِيَضُ ولحوم الكلاب والنَّتَنُ ـ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء»).

والحديث صحيح بطرقه وشواهده عند أحمد وغيره، وعبيد الله بن عبد الله بن رافع، قال عنه ابن منده: مجهول، وذكره ابن حبان في

(1)

"الاستيعاب"(11/ 283)، "الإصابة"(11/ 165).

ص: 29

«الثقات»

(1)

، وقال الحافظ في «التقريب»: مستور، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، وأبو أسامة: هو حماد بن أسامة، والوليد بن كثير: هو المخزومي، ومحمد بن كعب: هو القرظي.

وقول المصنف: (وصححه أحمد) نقله المزي عن الإمام أحمد

(2)

، وزاد الحافظ أنه صححه - أيضاً - يحيى بن سعيد، وأبو محمد بن حزم

(3)

، قال الترمذي:(قد جَوَّدَ أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد رُوي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد)

(4)

، وعليه فالحديث صحيح، ولا يضر إعلاله بجهالة أحد رواته، لما تقدم.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أنتوضأ) بالنون، وقد رجح النووي أنه بالتاء، وقال عن الرواية بالنون:(إنها غلط فاحش؛ لأنه جاء التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم توضأ منها من طرق كثيرة)

(5)

، لكن نقل صاحب «المنهل العذب المورود»

(6)

أن العراقي رد على النووي ما قاله؛ وعليه فالحديث وارد باللفظين.

قوله: (بئر بُضاعة) بضم الباء، ويجوز كسرها، و (الحيض) بكسر الحاء وفتح الياء، الخرق التي يُمسح بها دم الحيض.

ولا ينبغي أن يظن أنّ الصحابة رضي الله عنهم وهم أطهر الناس وأنزههم أنهم كانوا يفعلون ذلك عمداً مع عزة الماء في بلادهم، وإنما كان ذلك لأن هذه البئر كانت في الأرض المنخفضة، وكانت السيول تحمل الأقذار من الطرق وتلقيها فيها، وقيل: كانت الريح تلقي ذلك، ويجوز أن السيل والريح تلقيان جميعاً، أفاده الخطابي

(7)

وغيره.

(1)

"الثقات"(5/ 71).

(2)

"تهذيب الكمال"(19/ 84).

(3)

"المحلى"(1/ 155)، "التلخيص"(1/ 124).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 96).

(5)

"المجموع"(1/ 83).

(6)

"المنهل العذب المورود"(1/ 233).

(7)

انظر: "معالم السنن"(1/ 73).

ص: 30

قوله: (الماء طهور) أل: للاستغراق على الأظهر؛ أي: كل ماء فهو طهور.

قوله: (لا ينجسه شيء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، وظاهره أن الماء لا ينجس بوقوع شيء فيه سواء أكان قليلاً أم كثيراً ولو تغيرت أوصافه، لكنه لم يبق على عمومه، قال النووي:(واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص، خُصَّ منه المتغير بنجاسة، فإنه نجس للإجماع، وخص منه - أيضاً - ما دون قلتين إذا لاقته نجاسة، فالمراد الماء الكثير الذي لم تغيره نجاسة لا ينجسه شيء، وهذه كانت صفة بئر بضاعة، والله أعلم)

(1)

.

الوجه الرابع: هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأنه دل على أن الماء طهور لا ينجسه شيء، كماء البحار والأنهار والآبار والأمطار، وهذا هو الأصل في الماء أنه طهور حتى تعلم نجاسته، كما سيأتي - إن شاء الله - قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم في البحر:«هو الطهور ماؤه» ، وتقدم، والله تعالى أعلم.

(1)

"المجموع"(1/ 85).

ص: 31

‌حكم الماء إذا لاقته نجاسة

3/ 3 - عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ، وَلَوْنِهِ» . أخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ.

4/ 4 - ولِلْبَيْهَقيِّ: «المَاءُ طَاهرٌ إلاَّ إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ لَوْنُهُ؛ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» .

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو أمامة؛ صُدَيُّ - بضم الصاد وفتح الدال ثم ياء مشددة - ابن عجلان الباهلي، مشهور بكنيته، سكن الشام، ومات بها سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة ست وثمانين، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجهما:

هذا الحديث أخرجه ابن ماجه (521) في كتاب «الطهارة» باب «الحياض» ، والدارقطني (1/ 28)، والطبراني في «الكبير» (8/ 123) من طريق رشدين بن سعد، حدثنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً.

والحديث ضعيف، لضعف رشدين، فقد ضعفه الإمام أحمد وأبو زرعة. وقال أبو حاتم:«منكر الحديث» ، وقال النسائي:«متروك الحديث»

(2)

، وقد

(1)

"الاستيعاب"(11/ 131)، "الإصابة"(5/ 133).

(2)

"تهذيب التهذيب"(3/ 240).

ص: 32

اختلف عليه في إسناده، قال الدارقطني: (لم يرفعه غير رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي، والصواب في قول راشد

(1)

) يعني: أنه مرسل، فقد رواه الأحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقال الشافعي:(لا يُثبت أهل الحديث مثله)

(2)

، وقال النووي:(اتفق المحدثون على تضعيفه)

(3)

، وقال البوصيري:(هذا إسناد ضعيف)

(4)

.

وقول المصنف: (وضعفه أبو حاتم) هذا التضعيف نقله ابنه في «العلل» : (فقال: قال أبي: يوصله رشدين بن سعد، يقول: عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورشدين ليس بقوي، والصحيح مرسل)

(5)

.

قوله: (وللبيهقي

) هذا الحديث الرابع، والظاهر أن الحافظ أورد رواية البيهقي لتفسير حرف العطف في حديث ابن ماجه، وأن المراد أحد هذه الأوصاف، فتكون الواو بمعنى (أو)، وهذه الرواية جاءت عند البيهقي (1/ 259) من حديث أبي أمامة من طريق اخر، فيه عطية بن بقية بن الوليد، وعطية يروي عن أبيه، وهو يخطئ ويُغرب، والوليد مدلس، وقد عنعن؛ ولذا قال البيهقي:(والحديث غير قوي).

الوجه الثالث: اعلم أن أصل حديث أبي أمامة صحيح - كما تقدم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه والتضعيف المذكور متجه إلى هذه الزيادة وهي الاستثناء: (إلا ما غلب .. ) وقد ذكره الحافظ لِيُعلم حاله، فيكون المعول على نجاسة الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه هو الإجماع، الذي نقله غير واحد، فقد نقله الشافعي - في اختلاف الحديث ـ، حيث قال:(إنه قول العامة لا أعلم بينهم اختلافاً) وضعف الحديث كما تقدم، وقال ابن المنذر: (أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له

(1)

"سنن الدارقطني"(1/ 29).

(2)

"اختلاف الحديث" ص (108).

(3)

"المجموع"(1/ 110).

(4)

"مصباح الزجاجة" ص (107).

(5)

"العلل"(1/ 44).

ص: 33

طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس)

(1)

، وكذا نقله البيهقي

(2)

، وابن هبيرة

(3)

وغيرهما، رحم الله الجميع.

الوجه الرابع: أننا إذا جمعنا حديث أبي أمامة الذي عضده الإجماع مع حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «الماء طهور لا ينجسه شيء» استفدنا أن الماء قسمان لا ثالث لهما، إما طهور وإما نجس، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم

(4)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع، فالطهور هو الماء الباقي على خلقته حقيقة أو حكماً؛ فالباقي على خلقته حقيقة كماء البئر وماء البحر ونحو ذلك، والباقي على خلقته حكماً هو الذي تغير بشيء لا يسلبه الطهورية، كأن يتغير بما يشق صون الماء عنه، كورق الشجر والتراب ونحوهما مما تلقيه الرياح أو السيول من الأشياء الطاهرة؛ فهذا طهور ما دام اسم الماء باقياً، فإن تغير بشيء يخرجه عن كونه ماء ويعطيه اسماً اخر، كاللبن والمرق والتمر ونحوها لم يكن طهوراً؛ لأنه ليس بماء.

والنجس: هو ما تغير بنجاسة - كما تقدم - سواء أكان التغير كثيراً أم قليلاً، وسواء أكان بممازجة أم بغير ممازجة، فإن أصابته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه فهو طهور؛ لعدم الدليل الدال على نجاسته، والله أعلم.

(1)

"الأوسط"(1/ 260).

(2)

"السنن الكبرى"(1/ 260).

(3)

"الإفصاح"(1/ 58).

(4)

انظر: "الفتاوى"(19/ 236)، "الدرر السنية"(1/ 69 - 70)، "المختارات الجلية" ص (7)، "فتاوى ابن إبراهيم"(2/ 27).

ص: 34

‌بيان قدر الماء الذي ينجس والذي لا ينجس

5/ 5 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وفِي لَفْظٍ: «لَمْ يَنْجَسْ» . أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ والحَاكمُ وَابْنُ حِبَّانَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، المدني، الفقيه، أحد الأعلام في العلم والعمل، أسلم صغيراً مع أبيه عمر رضي الله عنه، وأول مشاهده الخندق؛ لأنه كان قبلها صغيراً، كان من أوعية العلم، قال مالك: بقي ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة، يقدم عليه وفود الناس؛ يعني لتلقي العلم، وكان شديد التحري والاحتياط في فتواه وكل ما يفعله بنفسه، له عناية بتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأمثاله، توفي في مكة سنة ثلاث وسبعين، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه الأربعة: أبو داود (63) في كتاب «الطهارة» باب «ما ينجس الماء» ، والترمذي (67)، والنسائي (1/ 75/46)، وابن ماجه (517) من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل

(1)

"الاستيعاب"(6/ 308)، "تذكرة الحفاظ"(1/ 37)، "الإصابة"(6/ 167).

ص: 35

الخبث»، وأخرجوه من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعاً، ورواه الوليد عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله - بالتصغير - بن عبد الله بن عمر، كما عند النسائي (1/ 175) وغيره، وكذا رواه محمد بن عباد بن جعفر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، كما في صحيح ابن حبان (4/ 63).

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث؛ فصححه قوم - وهو الصواب - وضعفه اخرون، وممن صححه الشافعي، وأحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم، والطحاوي، والدارقطني، وابن دقيق العيد، والعلائي في جزء أَلَّفَهُ فيه، وعبد الحق الأشبيلي، وممن صححه - كما ذكر الحافظ - ابن خزيمة (92)، وابن حبان (1249)، والحاكم (1/ 132)، قال الخطابي:(كفى شاهداً على صحته أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه، وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعول في هذا الباب)

(1)

.

وممن ضعفه ابن عبد البر

(2)

وابن العربي

(3)

، وسبب ضعفه عندهم اضطرابه في سنده ومتنه.

أما الاضطراب في سنده فإن مداره على الوليد بن كثير المخزومي - كما تقدم - وهو صدوق - كما في «التقريب» - فيرويه تارة عن محمد بن جعفر بن الزبير، وتارة عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قالوا: فلما اختلف فيه هل هو عن محمد بن عباد أو عن محمد بن جعفر؟؛ علمنا أنه مُضْطَرَبٌ فيه غير محفوظ، وترجيح أحد القولين غير ممكن؛ لأن الترجيح إما بكثرة العدد وإما بالحفظ والإتقان، وكل ذلك موجود في رواية الطريقين، وقد تابع الوليدَ في روايته محمدُ بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عند أحمد (2/ 27) وأبي داود (64) والترمذي (67)

(1)

"معالم السنن"(1/ 58).

(2)

"التمهيد"(1/ 329).

(3)

"أحكام القرآن"(3/ 1425)، "عارضة الأحوذي"(1/ 84).

ص: 36

وابن ماجه (517) والدارقطني (1/ 19)، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني، فانتفت شبهة تدليسه، ورواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر عن عبد الله .. عند أحمد (2/ 3) وأبي داود (65) وابن ماجه (518) وهذا سند رجاله ثقات، كما قال البوصيري

(1)

.

وأما الاضطراب في المتن فقد روي فيه: «إذا بلغ الماء قلتين» ، وروي:«إذا كان الماء قدر قلتين أو ثلاث لم ينجسه شيء» ، وفي رواية ابن عدي والعقيلي والدارقطني:«إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل الخبث» .

والجواب: أما ما قيل من اضطراب الإسناد والاختلاف فيه فإن أهل العلم سلكوا في الجواب عنه مسلكين:

الأول: مسلك الترجيح، والثاني: مسلك الجمع، فأبو حاتم

(2)

، وابن منده

(3)

، والخطابي رجحوا رواية محمد بن جعفر بن الزبير، وأبو داود رجح رواية محمد بن عباد بن جعفر، كما نصَّ على ذلك في «سننه» .

وأما من سلك مسلك الجمع - وهو الصحيح - فقالوا: إن كُلاًّ من الراويين ثقة محتج بهما في الصحيحين، وكذا الراوي عنهما، وهو الوليد بن كثير، فالحديث كيفما دار كان بخبر ثقة، فيصلح الاحتجاج به، والراوي الواحد إذا كان ضابطاً متقناً، وروى الحديثين على الوجهين المختلف فيهما كان صحيحاً، فكان أبو أسامة مرة يحدث عن الوليد، عن محمد بن جعفر، ومرة يحدث به عن الوليد عن محمد بن عباد، ومحمد بن جعفر بن الزبير رواه عن عبد الله وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر، ومحمد بن عباد رواه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، وهذا قول البيهقي والحاكم، والدارقطني والعلائي والحافظ ابن حجر وغيرهم

(4)

.

(1)

"مصباح الزجاجة"(1/ 206).

(2)

"العلل"(1/ 244).

(3)

"نصب الراية"(1/ 16).

(4)

"الخلافيات"(3/ 145)، الدارقطني (1/ 17)، وانظر:"جزء في تصحيح حديث القلتين" للعلائي.

ص: 37

وأما ما قيل من اضطراب متنه بلفظ: (قلتين أو ثلاثاً): فهو من رواية حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر. وحماد وإن كان ثقة إلا أنه تغير في اخر عمره، والاختلاف منه؛ لأن الذين رووه عنه جماعة، وفيهم حفاظ أثبات، رووه باللفظين معاً - أعني بلفظ الشك؛ وبدون لفظ الشك - فدل على أن الاختلاف منه دون غيره، لكن رواية من رواه بدون قوله:(أو ثلاثاً) أولى بالصواب؛ لأنها رواية الأحفظ، ولأنها موافقة لرواية أبي أسامة عن الوليد بن كثير، وأما رواية الأربعين فليست من حديث القلتين بشيء، على أن أبا عبيد القاسم بن سلام ذكر أن هذا الحديث بلفظ الأربعين إن كان محفوظاً فلا يراد به قلال هجر؛ لأن الناس قد كانوا يسمون الكيزان التي يُشرب فيها قلالاً، يكون مبلغ الكوز منها رطلين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك

(1)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (قلتين) بضم القاف، تثنية قلة، وهي الجرة الكبيرة من الفخار، ويطلق عليها (الحُب) بضم الحاء؛ سميت بذلك لأنها تُقَلُّ، أي: تحمل؛ وهي قلال هجر، معروفة عند الصحابة، وعند العرب مستفيضة، وأما تقييدها في بعض الروايات بـ (قلال هجر) فلم يثبت؛ لأنه من أفراد مغيرة بن سقلاب، عن محمد بن إسحاق، وهو منكر الحديث، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، خالف في ذلك سائر الثقات من أصحاب ابن إسحاق. والمراد في الحديث: القلة الكبيرة؛ لأن التثنية دليل على أنها أكبر القلال، إذ لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على التقدير بواحدة كبيرة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تحديدها توسعة على الناس؛ لأنه لا يخاطب الصحابة رضي الله عنهم إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال، لكن لعدم تحديدها وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة، لعل أقربها أن القلتين خمسمائة رطل بالبغدادي، وهي خمس قِرَبٍ، كل قِربة مائة رطل، ولعلهم أخذوا ذلك ممن رأى قِرَبَ الحجاز، وعرف أن ذلك مقدارها. قال ابن جريج فقيه الحرم المكي وإمام الحجاز في

(1)

"الطهور" ص (239).

ص: 38

عصره: (رأيت قلال هجر، والقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً)، قال الشافعي:(الاحتياط أن تكون القلتان قربتين ونصفاً)، وتقدران بحوالي (307) لترات، أو (102) كيلو

(1)

، وهذا هو ضابط الماء الكثير، وما كان أقل هو الماء القليل، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد؛ لأنه عمل بالنص، وأما العمل بالتحديد بالظن والراجح فهو ضعيف؛ لأن الطهور من أصل الدين، فلا بدَّ من دليل من كتاب أو سنة، والله المستعان.

قوله: (لم يحمل الخبث) - بفتحتين ـ: هو النجس، ومعنى «لم يحمل الخبث» أي: لم يقبل النجاسة، بل يدفعها عن نفسه فلا تؤثر فيه.

قوله: (لم يَنْجَسْ) وهي عند الحاكم بلفظ: «لم ينجسه شيء» وعن أبي داود في رواية: «فإنه لا ينجس» وهو بفتح الجيم من باب تعب، فالماضي (نَجِس) بكسر الجيم، ويجوز ضمها في المضارع، من باب قتل يقتل، فالماضي (نَجَس) بفتح الجيم، وفائدة إيراد هذه الرواية أنها أصرح في المقصود من الرواية الأولى، لاحتمال قوله:«لا يحمل الخبث» أنه يضعف عن حمل الخبث، فلا يَحْتمل وقوعه فيه، بل ينجسه، وهذا وإن كان احتمالاً ضعيفاً إلا أن بعض العلماء ذكره، لكن هذه الرواية مفسرة للمراد، وترد على من فهم أن المراد أنه يضعف عن حمل النجاسة.

الوجه الرابع: الحديث بمنطوقه دليل على أن الماء الكثير - وهو ما بلغ قلتين فأكثر - إذا وقعت فيه نجاسة، فإنه لا ينجس سواء أتغير أم لم يتغير، وهذا المنطوق بهذا العموم لا يصح، لما تقدم من نقل الإجماع على أن الماء إذا غيرته النجاسة نَجِسَ مطلقاً، سواء أكان قليلاً أم كثيراً.

ودل الحديث بمفهومه على أن القليل وهو ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، سواء أتغير أم لم يتغير، وهذا الحكم هو المخالف لحكم المنطوق، لكنه لا يؤخذ على عمومه؛ لأنه لا يشترط أن يكون حكم المفهوم

(1)

"الأم"(1/ 18)، "الإيضاح والتبيان" ص (79 - 80)، "مجلة البحوث الإسلامية" عدد (59) ص (184).

ص: 39

مخالفاً للمنطوق من كل وجه، بل تكفي المخالفة ولو في صورة واحدة من صور العموم، وهذا معنى قولهم:(المفهوم لا عموم له)، وعلى هذا فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس. فما تغير فحكمه تقدم، وما كان أقل من القلتين ولم يتغير فظاهر حديث أبي سعيد المتقدم:«الماء طهور لا ينجسه شيء» أنه طهور، فيقدم المنطوق على هذا المفهوم، لكن ما دون القلتين يستفاد من حديث القلتين، فيكون محل نظر وتأمل فيحتاج إلى عناية، لئلا يتساهل به؛ لأنه مظنة التأثر بالنجاسة، فما ظهرت فيه النجاسة بتغير طعمه أو لونه أو ريحه تُرك، أو كان مظنة التأثر، كما في حديث ولوغ الكلب الآتي - إن شاء الله ـ، وإن كان لا يتأثر لكثرته أو لعدم ظهور النجاسة فيه - وإن كان قليلاً - فهو طهور.

وهذا قول الإمام مالك، وأحمد في أحد قوليه، والظاهرية، وجمع من السلف والخلف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم؛ وهو الراجح من حيث الدليل؛ لأن المفهومات لا تعارض المنطوقات الصريحة؛ لأن المفهوم محتمل، والمنطوق الصريح لا يحتمل، ولإجماع أهل العلم على أن الماء إذا تغيرت أوصافه بالنجاسة فهو نجس، فبقي ما عدا ذلك تحت العناية كما مضى؛ وبذلك تجتمع الأخبار

(1)

.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن سؤر الدواب والسباع لا يخلو في الغالب عن نجاسة؛ لأن المعتاد من السباع إذا وردت الماء أن تخوض فيه وتبول، وقد لا تخلو أعضاؤها من التلوث بأبوالها ورجيعها، والله أعلم.

(1)

انظر: "التمهيد"(24/ 17)، "إعلام الموفعين"(1/ 391)، "مختصر الفتاوى السعدية" ص (11)، "فتاوى ابن باز"(10/ 15).

ص: 40

‌حكم البول في الماء الراكد والاغتسال فيه من الجنابة

6/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِم وَهُوَ جُنُبٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

ولِلْبُخَارِيِّ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» .

ولِمُسْلِمٍ: «مِنْهُ» .

ولأبِي دَاوُدَ: «وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

الحديث أخرجه مسلم (283) في كتاب «الطهارة» باب «النهي عن الاغتسال في الماء الراكد» من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة، حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

) فذكره، وتمامه:(فقال: كيف يعمل يا أبا هريرة؟ فقال: يتناوله تناولاً)، أي: يتناول منه فيغتسل خارجه؛ ولا ينغمس فيه.

واللفظ الثاني: أخرجه البخاري (239) في كتاب «الوضوء» باب «البول في الماء الدائم» ، وهو حديث مستقل غير الأول، أخرجه من طريق شعيب قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

فذكره. وأخرجه النسائي وأحمد

ص: 41

وغيرهما بلفظ: «ثم يتوضأ منه» ، وسيأتي ذكره إن شاء الله.

واللفظ الثالث: أخرجه مسلم (282) ولفظه: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» ، وكذا عند أبي داود (69).

واللفظ الرابع: لأبي داود (70) ولفظه: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة» ، وسيأتي - إن شاء الله - الفرق بين هذه الروايات.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يغتسلْ) لا: ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها.

قوله: (أحدكم) الخطاب في الموضعين لجميع الأمة، فيشمل الذكر والأنثى، وإنما أتى بصيغة خطاب المذكر تغليباً، وإلا فلا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.

قوله: (الماء الدائم) فسرته رواية البخاري: «الماء الدائم الذي لا يجري» أي: الثابت المستمر الذي لا ينتقل من مكانه بالجريان، كمياه البرك التي في البساتين، والغدران التي في البراري، ونحو ذلك، فتكون جملة:«لا يجري» تفسيراً للدائم وإيضاحاً لمعناه، وقيل: إنها للتأسيس، واحترز بها عن راكد لا يجري بعضه، كالبرك ونحوها.

وقوله: (ثم يغتسل منه) برفع المضارع، وهو مع فاعله المستتر خبرٌ لمبتدأ محذوف، والتقدير: ثم هو يغتسل فيه، والمعنى: لا يبولن فيه مع أن اخر أمره أن يغتسل فيه، فكيف يبول بما سيكون طهوراً له بعْدُ؟! ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي.

وأجاز ابن مالك الجزم على أن (لا) ناهية، والنصب على إظهار (أن)؛ وتكون (ثم) بمعنى (واو الجمع)

(1)

.

وقوله: (وهو جنب) أي: ذو جنابة، وهو من وجب عليه الغسل من جماع أو إنزال مني.

(1)

انظر: "شواهد التوضيح" ص (164).

ص: 42

والفرق بين رواية البخاري: «ثم يغتسل فيه» ، ورواية مسلم:«ثم يغتسل منه» ، ورواية أبي داود:«ولا يغتسل فيه من الجنابة» أن رواية البخاري تفيد النهي عن الاغتسال بالانغماس في الماء الذي بال فيه، أي: كيف يبول في ماء وهو يحتاجه للغسل أو غيره؟! ورواية مسلم تفيد النهي عن أن يتناول منه في إناء ويغتسل خارجه، وكل منهما تفيد ما تفيده الرواية الأخرى، فرواية (فيه) تدل على معنى الانغماس بالنص، وعلى منع التناول بالاستنباط، ورواية (منه) بعكس ذلك، وأما رواية أبي داود فتفيد النهي عن كل واحد من البول والاغتسال على الانفراد، بمعنى أنه لا يبول في الماء الدائم وإن لم يقصد الاغتسال منه، فحصل من مجموع الروايات أن الكل ممنوع، وذلك لأن البول أو الاغتسال في الماء الراكد يسبب تقذيره وتوسيخه على الناس ولو لم يصل إلى تنجيسه - كما سياتي إن شاء الله ـ، ومما يؤيد النهي عن البول على الانفراد حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أنه نهى أن يبال في الماء الراكد)

(1)

.

الوجه الثالث: في الحديث دليل على النهي عن الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم، لأن ذلك يلوث الماء بأوساخ وأقذار الجنابة، وأما اغتسال الجنب من الماء الدائم بأن يتناول منه بإناء أو بيده بعد غسلها فإنه غير داخل في هذا النهي، كما تقدم عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومفهومه جواز الاغتسال من الجنابة في الماء الجاري.

الوجه الرابع: في الحديث دليل على النهي عن البول في الماء الدائم؛ لأن ذلك يقتضي تلوثه بالنجاسة والأمراض التي قد يحملها البول، فتضر كل من استعمل هذا الماء، بل ربما استعمله هذا البائل نفسه، ولا فرق في ذلك بين البول في الماء نفسه أو البول في إناء ثم صبه في الماء، وكذا إذا بال بقرب الماء بحيث يجري البول إليه، فكل ذلك مذموم قبيح منهي عنه.

ومفهومه جواز البول في الماء الذي يجري؛ لأن البول يجري مع الماء

(1)

أخرجه مسلم (281).

ص: 43

ولا يستقر، لكن إن كان في أسفل الماء أحد يستعمله فلا يبولن فيه؛ لأنه يقذره عليه.

الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الماء الدائم قليلاً أو كثيراً، ولا وجه للتفصيل، بأنه إن كان كثيراً فالنهي للكراهة، وإن كان قليلاً فالنهي للتحريم، كما هو أحد الأقوال في المسألة؛ لأن الحديث لم يفصل، صحيح أن النهي في القليل آكد؛ لأنه أسرع تلوثاً وتغيراً، لكن القول بأنه للكراهية في الكثير قد يؤدي إلى تساهل الناس في هذه الأمور، والواجب سَدُّ ما سده النبي صلى الله عليه وسلم وحِمَى ما حماه، وهذه أمور مقاصدها ظاهرة ومصالحها بينة، فيؤخذ النهي على ظاهره، وهو التحريم ولو كان الماء كثيراً، فإن جميع الروايات لم تحدد مقداره، وإنما وصفته بأنه دائم، أما الماء الكثير جداً وهو المستبحر الذي لا يمكن أن يتأثر بالبول أو يتلوث بالاغتسال، كماء البحر فهو لا يدخل في النهي بالاتفاق، على ما ذكره ابن دقيق العيد

(1)

، والله أعلم.

الوجه السادس: الظاهر أن تقييد الغسل بأنه من الجنابة خرج مخرج الغالب، فلا يفهم منه جواز الاغتسال في غير الجنابة، كإزالة الأوساخ - مثلاً ـ؛ لأنه إذا نُهي عن الاغتسال فيه من الجنابة مع حاجة الإنسان إلى ذلك - لكون الغسل من الجنابة هو الغالب - فغيره من الأغسال من باب أولى، ولأن تلوثه بالاغتسال من الأوساخ أشد من تلوثه باغتسال الجنابة.

الوجه السابع: أما حكم الماء المذكور فالصواب أنه لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة بالبول فيه أو الاغتسال فيه، ولا يلزم من النهي عن ذلك تنجيس الماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن البول ثم الاغتسال، ولم يقل: إن الماء ينجس، فهو نهي عن الفعل ولم يتعرض للماء، ومثل ذلك لو قام من النوم وغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً فإنه لا ينجس، أخذاً بالأصل المتقدم:«الماء طهور لا ينجسه شيء» وإن كان يأثم من أجل مخالفة النهي.

(1)

"شرح العمدة"(1/ 127).

ص: 44

الوجه الثامن: يلحق بالبول ما في معناه، كالتغوط بل هو أقبح، وكذا سائر المستقذرات لوجود العلة، وهي تلويث الماء وتقذيره على الناس، قال ابن قدامة:(وأكثر أهل العلم لا يفرقون بين البول وغيره من النجاسات)

(1)

.

الوجه التاسع: حكم الوضوء في الماء الراكد الذي بال فيه حكم الغسل، وقد ورد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه»

(2)

، ولأن الغسل والوضوء مستويان في المعنى المقتضي للنهي، والله أعلم.

(1)

"المغني"(1/ 39).

(2)

أخرجه النسائي (1/ 49)، وأحمد (16/ 248)، وابن حبان (4/ 60، 61)، من طريق عوف الأعرابي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، به، وهو حديث صحيح له طرق كثيرة، منها ما تقدم في هذا الباب. انظر:"بذل الإحسان بتقريب سنن النسائي أبي عبد الرحمن"(2/ 173).

ص: 45

‌نهي الرجل والمرأة أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر

7/ 7 - عَنْ رَجُلٍ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَغْتَسِلَ المَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ المَرْأَةِ، وَلْيَغْترِفا جَمِيعاً» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَإسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو لا يُعرف، وقد جاء في سنن أبي داود: (عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه، وهذا يدل على تثبت الراوي، ومعرفته له معرفة تامة، وإبهام الصحابي لا يضر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه أبو داود (81) في كتاب «الطهارة» باب «النهي عن الوضوء بفضل المرأة» ، والنسائي (1/ 130) من طريق داود بن عبد الله الأودي، عن حميد الحميري، عن رجل

، وعند النسائي: (عن حميد بن عبد الرحمن، قال: صحبت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم

).

وهذا سند صحيح، كما قال الحافظ، وقال في «فتح الباري»: (رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود - راويه عن حميد بن عبد الرحمن - هو ابن يزيد الأودي - وهو ضعيف - مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد

ص: 46

صرح باسم أبيه، أبو داود وغيره)

(1)

، قال ابن القطان:(وقد كتب الحميدي من العراق إلى ابن حزم يخبره بصحة هذا الحديث، ويبين له حال هذا الرجل بالثقة، فلا أدري أَرجع عن قوله ذلك أم لا؟)

(2)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المرأة عن الاغتسال بالماء الذي بقي من غُسل الرجل، ونهي الرجل عن الاغتسال بالماء الذي بقي من غُسل المرأة، وجواز اغتسالهما من إناء واحد غرفاً باليد، وهذا النهي معارض بما هو أقوى منه وأكثر طرقاً، وهي تدل على الجواز فالعمل عليها، أو يقال: إن النهي محمول على التنزيه جمعاً بين الأدلة، كما سيأتي - إن شاء الله - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وما بعده، وهذا عند وجود ماء اخر يغتسل فيه غير فضل المرأة، أما إذا دعت الحاجة إلى فضل المرأة فإنها تزول الكراهة؛ لأن الغسل واجب، والوضوء واجب، فلا كراهة مع الواجب عند الحاجة إلى الماء، فإذا وجدت مياه كثيرة فالأولى أن لا يغتسل بفضلها ولا تغتسل بفضله.

والوضوء بفضل المرأة أشد، لحديث الحكم بن عمرو الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة

(3)

، والله أعلم.

(1)

"فتح الباري"(1/ 300).

(2)

"تهذيب التهذيب"(3/ 166).

(3)

أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، وابن ماجه (373)، وأحمد (34/ 254)، وحسنه الترمذي.

ص: 47

‌جواز اغتسال الرجل بفضل المرأة

8/ 8 - عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

9/ 9 - ولأصْحَابِ السُّنَنِ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في جَفْنَةٍ، فَجَاءَ ليَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَقَالَتْ له: إنِّي كنْتُ جُنُباً، فَقَالَ:«إنَّ الماءَ لَا يُجْنِبُ» . وَصَحَّحَه التِّرْمِذِي، وابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو العباس، عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، حبر الأمة وفقيهها وترجمان القران، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»

(1)

، فأدرك علماً كثيراً، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ناهز الاحتلام، ومات في الطائف سنة ثمان وستين، وصلى عليه محمد بن الحنفية، وقال:(اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة) رضي الله عنه

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما الأول فقد أخرجه مسلم في أحاديث «الحيض» (323) من طريق ابن جريج قال: (أخبرني عمرو بن دينار قال: أكبر علمي، والذي يَخْطِرُ على

(1)

أخرجه أحمد (5/ 159 - 160)، وابن أبي شيبة (12/ 111 - 112) وغيرهما، وإسناده صحيح، وهو في الصحيحين مختصرًا، "فتح الباري"(1/ 244).

(2)

"الاستيعاب"(6/ 258)، "تذكرة الحفاظ"(1/ 40)، "الإصابة"(6/ 130).

ص: 48

بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة).

وقد أعله قوم؛ لهذا التردد من عمرو بن دينار؛ لأنه شك في الإسناد، فيسقط التمسك بالحديث.

والصحيح أن هذا غير مؤثر لأمرين:

الأول: أن هذا غالب ظن، لا شك، وأخبار الآحاد إنما تفيد غلبة الظن، غير أن الظن على مراتب في القوة والضعف، ومثل هذه الصيغة لا تخرجه عن كونه معلوماً وإن كانت تشعر بأنه ليس حافظاً له كما ينبغي، ولهذا ذكره الحافظ في «البلوغ» ، ولم يشر إلى ذلك.

الثاني: أن حديث ابن عباس قد أخرجه أصحاب السنن، كما ذكر الحافظ من طريق اخر - كما سيأتي - ومعناه هو معنى حديث عمرو بن دينار، وليس فيه شيء من ذلك التردد، والله أعلم

(1)

.

أما الحديث الثاني فقد أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (1/ 173)، وابن ماجه (370)، وابن خزيمة (1/ 57)، والحاكم (1/ 159) من طريق سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

فذكره.

وقد أعله قوم بسماك بن حرب، وهو صدوق اختلط بأَخَرَةَ، فكان يقبل التلقين، وأجاب الحافظ بأنه رواه عن سماك شعبة - كما عند الحاكم (1/ 159) ـ، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيحَ حديثهم

(2)

، وقال في «تهذيب التهذيب»:(ومن سمع منه - أي سماك - قديماً مثل شعبة وسفيان الثوري، فحديثهم عنه صحيح مستقيم)

(3)

، ولذا قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح في الطهارة، ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علة)، ووافقه الذهبي.

(1)

"المفهم"(1/ 584).

(2)

"فتح الباري"(1/ 300).

(3)

"تهذيب التهذيب"(4/ 205).

ص: 49

الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (بفضل ميمونة) هي ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع لما اعتمر عمرة القضية، وبنى بها في (سَرِفَ) - موضع بينه وبين التنعيم ثلاثة أميال - وذلك بعد موت زوجها أبي رُهْم بن عبد العُزَّى، وهي اخر من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثنت عليها عائشة رضي الله عنها بقولها:(إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم)

(1)

، توفيت بِسَرِفَ سنة إحدى وخمسين على أرجح الأقوال، رضي الله عنها.

قوله: (إني كنت جنباً) تقدم أن الجنب: من أصابته جنابة بجماع أو إنزال، وهو لفظ يطلق على الذكر والأنثى، والمفرد والمثنى والجمع بلفظ واحد على الأفصح، وتثنيته لغة.

قوله: (إن الماء لا يجنب) يجوز في ضبطها فتح النون، من جَنَبَ يَجْنَبُ من باب فرح، أو ضمها من باب كَرُمَ، هذا إن جعلته من الثلاثي، ويجوز ضم الياء من الرباعي، يقال: أجنب الرجل: إذا أصابته جنابة، والمعنى: أن الماء لا تصيبه الجنابة، ورواية النسائي:«فإن الماء لا ينجسه شيء» ، قال السندي:(وهي وِفْقُ تلك الرواية .. أي: إذا استعمل منه جنب أو محدث فلا يصير البقية نجساً بجنابة المستعمل أو حدثه)

(2)

.

الوجه الرابع: في هذا الحديث وما قبله دليل على جواز اغتسال الرجل بالماء الذي يبقى من غُسل المرأة، وأن هذا الاغتسال لا يؤثر في طهورية الماء؛ لأن الماء لا ينجس، وهذا الفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان التشريع، وهو دليل الجواز، فيكون ثبوت الفعل قرينة صارفة عن حمل النهي - فيما تقدم - على التحريم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد ينهى عن الشيء ثم يفعله، أو يأمر بالشيء ثم يتركه، وكل ذلك من باب بيان التشريع، وأن الأمر ليس للوجوب،

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 138) وقال الحافظ في "الإصابة"(13/ 140): (هذا سند صحيح).

(2)

"حاشية السندي على النسائي"(1/ 173).

ص: 50

وأن النهي ليس للتحريم، ولا يقال: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعارض فعله قوله الخاص بالأمة؛ لأن قوله:«إن الماء لا يجنب» و «الماء لا ينجسه شيء» يفيد أن ذلك غير مختص به صلى الله عليه وسلم، ولأن صيغة (الرجل) في الحديث تشمله صلى الله عليه وسلم بطريق الظهور، كما في الأصول.

وأما جواز اغتسال المرأة بفضل الرجل فلم يرد فيه دليل، لكنه مقيس على الجواز في حق الرجل من باب أولى، قال ابن عبد البر:(لا بأس أن يتطهر كل واحد منهما بفضل طهور صاحبه، شَرَعَا جميعاً، أو خلا كل واحد منهما به، قال: وعلى هذا القول فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، قال: والآثار في معناه متواترة، ثم ذكر حديث ابن عباس .. )

(1)

، والله أعلم.

(1)

"الاستذكار"(2/ 129).

ص: 51

‌كيفية تطهير ما ولغ فيه الكلب

10/ 10 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طُهُورُ إنَاءِ أَحدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرابِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ.

وَفي لَفْظٍ لَهُ: «فَلْيُرِقْهُ» .

وَلِلتِّرْمِذِيِّ: «أُخْراهُنَّ، أو أولَاهُنَّ بالتُّراب» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم رقم (279)(91) في كتاب «الطهارة» باب «حكم ولوغ الكلب» من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به. وفي لفظ له برقم (89) من طريق علي بن مُسهر، أخبرنا الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات» ، وأخرجه النسائي (1/ 53) - أيضاً - بهذا الإسناد، وقد طعن بعض الحفاظ في لفظة (فليرقه)، وقد أشار مسلم إلى تفرد علي بن مُسْهر بها - كما سيأتي إن شاء الله - لأن الحديث قد رواه تسعة أنفس عن الأعمش، ولم يذكروا هذه اللفظة، وعلى رأسهم شعبة، وأبو معاوية، وهو من أخصِّ أصحاب الأعمش، كما روى الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عشرة من غير طريق الأعمش، وليس فيه هذه اللفظة

(1)

.

(1)

انظر: "التمهيد"(18/ 273)، "موسوعة أحكام الطهارة" للدبيان (1/ 363).

ص: 52

ولعل الحافظ اقتصر على رواية مسلم؛ لأنها أتمُّ من رواية البخاري، حيث لم يُذكر فيها التراب، وإلا فالحديث أصله في الصحيحين، ولفظه:«إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات» ، زاد مسلم:«أولاهن بالتراب» وله شاهد من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفّروه الثامنة بالتراب» أخرجه مسلم (280)(93).

وأخرجه الترمذي برقم (91) من طريق أيوب، عن ابن سيرين، به، ولفظه:«يُغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أُولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة» ، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (طهور إناء أحدكم) بضم الطاء، ويجوز فتحها؛ أي: مطهِّر، وهو مبتدأ، خبره المصدر المؤول في قوله:«أن يغسله» أي: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب غَسْلُهُ سبع مرات.

قوله: (إذا ولغ فيه الكلب) يقال: وَلَغَ الكلب يلَغُ، بفتح اللام فيهما، ولَغاً وولوغاً، وحُكي في المضارع كسر اللام: إذا شرب أو أدخل طرف لسانه وحركه، وفي رواية لمسلم:«إذا شرب» ، و (أل) في الكلب للاستغراق، فيشمل جميع أنواع الكلاب على ما رجحه أبو عبيد

(1)

؛ لأنه صيغة عموم، فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص من الشارع، وعليه فلا فرق بين الكلب المأذون فيه، ككلب الصيد وحراسة الماشية والزرع، وغير المأذون فيه، وهو ما عداها

(2)

.

قوله: (سبع مرات) منصوب على أنه مفعول مطلق نائب عن المصدر، والأصل فليغسله مراتٍ سبعاً؛ أي: غسلاً سبعاً، كقوله تعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

قوله: (أولاهن بالتراب) صفة لسبع مرات، والباء في قوله:(بالتراب) للمصاحبة؛ أي: مع التراب.

(1)

انظر: "الطهور" ص (270).

(2)

في هذه المسألة بحث سيأتي -إن شاء الله- في أول كتاب "الصيد".

ص: 53

الوجه الثالث: الحديث دليل على نجاسة الكلب، لقوله:«طهور إناء أحدكم» ، ولفظ الطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء، فلم يبق إلا النجاسة، ولأنه أمر بإراقة ما في الإناء - كما سيأتي إن شاء الله ـ، وإذا كان هذا كله في فم الكلب وهو أطيب ما فيه لكثرة ما يلهث، فبقية أجزائه من باب أولى.

وقد رَدَّ ابن دقيق العيد على من حمل أحاديث الولوغ على التعبد فقال: ( .. والحمل على التنجيس أولى؛ لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبداً، وبين كونه معقول المعنى، كان حمله على كونه معقول المعنى أولى؛ لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى)

(1)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب تطهير ما ولغ فيه الكلب سبع مرات؛ لأن نجاسة الكلب أغلظ النجاسات، ولعابه وكل ما يخرج من بدنه من بول أو عرق وغيرهما نجس.

وظاهر حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن الغسل ثمان؛ لأنه قال: «وعفروه الثامنة بالتراب» ، فيكون دليلاً على وجوب الغسلة الثامنة، قال ابن عبد البر:(بهذا الحديث كان يفتي الحسن البصري، أن يُغسل الإناء سبع مرات والثامنة بالتراب، ولا أعلم أحداً كان يفتي بذلك غيره)

(2)

، وتبعه على ذلك ابن دقيق العيد

(3)

، ولعل ابن عبد البر يريد من المتقدمين، وإلا فهو رواية عن الإمام أحمد، كما في «المغني»

(4)

، وعن مالك كما في «التلخيص»

(5)

.

فمن أهل العلم من رجح حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأن الغسلات سبع، وأجاب عن حديث ابن مغفل بأجوبة منها:

أن جعلها ثامنة لأن التراب جنس غير جنس الماء، فجعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً باثنين، فكأن التراب قائم مقام غسلة، فسميت ثامنة.

(1)

"شرح العمدة"(1/ 145).

(2)

"التمهيد"(18/ 266).

(3)

"شرح العمدة"(1/ 155).

(4)

"المغني"(1/ 73).

(5)

"التلخيص"(1/ 36).

ص: 54

قالوا: وأبو هريرة أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره، فروايته أولى.

ومنهم من رجح رواية ابن مغفل رضي الله عنه؛ لأنه زاد الغسلة الثامنة، والزيادة مقبولة خصوصاً من مثله، وهذا لا بأس به؛ لأنه أَخْذٌ بظواهر النصوص، وفيه معنى الاحتياط.

الوجه الخامس: تعدد الغسلات خاص بنجاسة الكلب، ولا يقاس عليه غيره كالخنزير؛ لأن العبادات توقيفية، وهذه أمور لا تدرك بالرأي والقياس، ولم يأت في غير الكلب تعدد الغسل، والخنزير مذكور في القران وموجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلحاقه، فنجاسته كنجاسة غيره.

أما بقية النجاسات فالواجب فيها غسلة واحدة، تذهب بعين النجاسة وأثرها، فإن لم تذهب زاد حتى يذهب أثرها، ولو جاوز السبع، سواء أكان ذلك في الأرض أم الثوب أم الفرش أم الأواني، وهذا قول الجمهور، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء ثم لتصلِّ فيه»

(1)

. ولم يأمر فيه بعدد، ولو أراده لبينه، كما في حديث الولوغ، ولأن المقصود إزالة النجاسة، فمتى زالت زال حكمها.

الوجه السادس: نص النبي صلى الله عليه وسلم على الولوغ لأنه هو الغالب، إذ أن الكلب لا يجعل بوله أو رجيعه في الأواني، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فتكون نجاسة الكلب عامة لجميع بدنه، وتغسل بهذه الصفة المذكورة، وهذا قول الجمهور.

وقالت الظاهرية: إن الغسل سبعاً خاص بنجاسة الولوغ، أما بوله أو روثه أو دمه أو عرقه فكسائر النجاسات، قال النووي:(وهذا متجه، وهو قوي من حيث الدليل)

(2)

، واختاره الشوكاني

(3)

، قالوا: لأن قوله: «إذا ولغ أو إذا

(1)

أخرجه البخاري (277)، ومسلم (291)، وسيأتي الكلام عليه برقم (30).

(2)

"المجموع"(2/ 586)، وقد وصف هذا القول في "روضة الطالبين"(1/ 32) بأنه وجه شاذ في مذهب الشافعية.

(3)

"السيل الجرار"(1/ 37).

ص: 55

شرب .. » يدل على أن هذا الحكم لا يتعدى الولوغ والشرب؛ لأن مفهوم الشرط حجة عند الأكثرين، ومفهومه أن الحكم ليس كذلك عند عدم الشرط، وقد أجاب الحافظ العراقي بأن تقييد النبي صلى الله عليه وسلم للولوغ خرج مخرج الغالب، لا مخرج الشرط؛ لأن الكلاب إنما تقصد الأواني غالباً لتشرب منها أو تأكل، لا لتضع أرجلها وأيديها فيها، فقيد بالولوغ لأنه الغالب من حالها

(1)

.

ومذهب الجمهور هو الأحوط في هذه المسألة، والله أعلم.

الوجه السابع: الحديث نص في وجوب التطهير بالتراب مع الماء، لخبث نجاسة الكلب، وهو قول الشافعية والحنابلة

(2)

ولا فرق بين أن يخلط الماء بالتراب حتى يتكدر الماء، أو يصب الماء على التراب، ولا يقوم غير التراب - كالأشنان، والصابون - مقامه، إلا إذا تعذر؛ لأن النص إذا ورد بشيء معين، واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النصوص وترك ما عُيِّنَ فيها.

والأمر بالتراب، وإن كان يحتمل أنه لزيادة التنظيف، لكن لا يجزم بتعيين ذلك المعنى؛ لأنه يزاحمه معنى اخر وهو الجمع بين مطهرين: الماء والتراب، وهذا مفقود في الصابون أو الأشنان، والقاعدة في الأصول: أن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال أو تخصيص فهو مردود

(3)

.

الوجه الثامن: ذُكِرَ موضع التراب في أحاديث الباب على أوجه متعددة، فقد ورد:«أُولاهن بالتراب» ، وفي حديث ابن مغفل:«وعفروه الثامنة بالتراب» ، وعند الترمذي:«أولاهن أو أخراهن» ، وعند الدارقطني وغيره «إحداهن»

(4)

، وعند الطحاوي

(5)

: «أولاها - أو السابعة - بالتراب» .

(1)

انظر: "طرح التثريب"(2/ 122).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(3/ 189)، "نهاية المحتاج"(1/ 236)، "الإنصاف"(1/ 310).

(3)

انظر: "الإحكام" لابن دقيق العيد (1/ 161 - 162).

(4)

"السنن"(1/ 241).

(5)

"شرح معاني الآثار"(1/ 21).

ص: 56

وهذا لا يضر ولا يقتضي إلغاء التراب، لوجود الاضطراب، كما ذهبت إليه الحنفية والمالكية

(1)

، وذلك أن الحديث المضطرب إنما تتساقط رواياته إذا تساوت وجوه الاضطراب، أما إذا ترجح بعضها فالحكم للرواية الراجحة، ولا يقدح فيها رواية من خالفها، كما هو معروف في علوم الحديث.

ورواية: (أُولاهن) أرجحها؛ لأنها جاءت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق ابن سيرين عنه، ورواها عن ابن سيرين ثلاثة: هشام بن حسان، وحبيب بن الشهيد، وأيوب السختياني، وقد أخرجها مسلم في «صحيحه» من رواية هشام، فتترجح بثلاثة أمور:

1 -

كثرة الرواة.

2 -

تخريج أحد الشيخين لها، وهما من وجوه الترجيح عند التعارض.

3 -

من حيث المعنى؛ لأن تتريب الأولى يجعل ما بعدها من الماء مزيلاً لأثر التراب، بخلاف ما لو كان في السابعة فإنه يحتاج إلى غسلة أخرى لتنظيفه.

وأما رواية الترمذي: «أولاهن أو أُخراهن» فإن كان ذلك من كلام الشارع فهو دليل على التخيير بينهما، وإن كان شكاً من بعض الرواة فالتعارض قائم، ويرجع إلى الترجيح، فترجح الأولى كما تقدم، ومما يؤيد أن ذلك شك من بعض الرواة قول الترمذي في روايته:«أولاهن - أو قال: أخراهن - بالتراب» .

أما رواية: (إحداهن) فليست في شيء من الكتب الستة، وإنما هي عند الدارقطني والبزار

(2)

، ولا تعارض غيرها لأنها مبهمة، والأولى أو السابعة معينة، فيحمل المطلق على المقيد، وترجح رواية:(أولاهن) كما تقدم.

وأما حديث: «وعفروه الثامنة بالتراب» فهي ثامنة باعتبار زيادتها على سبع الغسلات بالماء، لا باعتبار أنها الأخيرة، وعلى هذا فلا يخالف ذلك كون التراب في الأولى، والله أعلم.

(1)

"شرح العمدة" لابن الملقن (1/ 308)، "طرح التثريب"(2/ 129 - 130).

(2)

انظر: "البدر المنير"(2/ 330).

ص: 57

الوجه التاسع: في الحديث دليل على وجوب إراقة ما في الإناء من ماء أو لبن أو غيرها، وهذا يدل على نجاسة لعاب الكلب وأن لريقه أثراً فيه، ولأن الأواني في الغالب صغيرة، والماء فيها قليل، وليس كثيراً يدفع عن نفسه النجاسة، ولو كان ما في الإناء طاهراً لم يؤمر بالإراقة؛ لأن في ذلك إتلاف المال وإضاعته، وذلك منهي عنه.

لكن قد طعن بعض الحفاظ في لفظة: «فليرقه» وقد جاءت من طريق علي بن مسهر، أخبرنا الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقد أشار الإمام مسلم إلى تفرد عليّ بن مسهر بهذه اللفظة. وقال النسائي:(لا أعلم أحداً تابع عليَّ بن مسهر على قوله: «فليرقه»)

(1)

، وقريب من ذلك قال ابن منده

(2)

.

قال العراقي: (وهذا غير قادح، فإن زيادة الثقة مقبولة عند أكثر العلماء .. وعلي بن مسهر وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والعجلي وغيرهم، وهو أحد الحفاظ الذين احتج بهم الشيخان، وما علمت أحداً تكلم فيه، فلا يضر تفرده)

(3)

.

وقال ابن الملقن: (لا يضر تفرده بها، فإن علي بن مسهر إمام حافظ متفق على عدالته والاحتجاج به، ولهذا قال الدارقطني بعد أن رواها:«إسنادها حسن، ورواتها ثقات»

(4)

، ورواها إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في «صحيحه»

(5)

، ولفظه:«فليهرقه» ، وظاهر هذه الرواية: وجوب إراقة الماء والطعام

)

(6)

.

والذي يظهر أن هذه اللفظة غير محفوظة، لأن مخالفة علي بن مُسهر للأكثرين الذين لم يذكروها يوجب الحكم بشذوذها، وقد قال عنه الحافظ في «التقريب» (ثقة له غرائب بعد أن أضر) وكلام الأئمة الكبار مقدم على كلام من جاء بعدهم، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن النسائي"(1/ 53).

(2)

"فتح الباري"(1/ 331).

(3)

"طرح التثريب"(2/ 121).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 64).

(5)

"صحيح ابن خزيمة"(98).

(6)

"شرح العمدة"(1/ 306)، "البدر المنير"(2/ 325).

ص: 58

‌طهارة سؤر الهرة

11/ 11 - عَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فِي الْهِرَّةِ ـ: «إنَّها لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الترْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيمَةَ.

السؤر: بالهمز فضلة الأكل أو الشراب، ذكره صاحب «المطلع»

(1)

، وقال صاحب «المصباح المنير»:(السؤر بالهمزة: من الفأرة وغيرها كالريق للإنسان)

(2)

.

والمراد - هنا - الأول؛ لأن المقصود بهذا الحديث بيان جواز الوضوء وغيره ببقية ما شرب منه الحيوان، وهو الموافق لما ذكره أهل اللغة، وأما ما ذكره صاحب «المصباح» فهو مراد الفقهاء؛ لأنه يفسر ألفاظهم، كما في مقدمة الكتاب، وكذا ذكره النووي

(3)

.

والكلام على هذا الحديث من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، شهد غزوة أُحد وما بعدها، وكان يقال له: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في «صحيح مسلم»

(4)

، دَعَمَ النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حين مال عن راحلته من النوم، فلما استيقظ قال له:«حفظك الله بما حفظت به نبيه» . أخرجه مسلم - أيضاً ـ

(5)

،

(1)

"المطلع" ص (40).

(2)

"المصباح المنير"(295).

(3)

"المجموع"(1/ 172).

(4)

برقم (1807).

(5)

برقم (681).

ص: 59

توفي في المدينة سنة (54 هـ)، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه أبو داود (75) في كتاب «الطهارة» باب «سؤر الهرة» والترمذي (92)، والنسائي (1/ 55، 178)، وابن ماجه (367)، وابن خزيمة (104) وغيرهم من طريق الإمام مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حُميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أبا قتادة دخل، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فراني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس .. » الحديث.

وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح، وقد جود مالك هذا الحديث، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أَتَمَّ من مالك).

وقال الحافظ: (صححه البخاري والترمذي والعقيلي والدارقطني)

(2)

، وكذا صححه ابن خزيمة - كما ذكر المصنف ـ، والحاكم (1/ 159 - 160)، وفي رواية مالك (1/ 22) وأحمد (5/ 30) وغيرهما، (والطوافات) أي: إن هذا الحيوان لا يخلو أن يكون من جملة الذكور الطوافين، أو الإناث الطوافات، والحديث له طرق، ذكرها الدارقطني

(3)

.

وأعلّ الحديث ابن منده - فيما نقله عنه ابن دقيق العيد - أعله بأم يحيى، واسمها حُميدة، وخالتها كبشة زوج عبد الله بن أبي قتادة، وأنه لا يعرف لهما رواية إلا في هذا الحديث، ومحلهما محل الجهالة.

وقد ردَّ ابن الملقن كلام ابن منده، مستنداً على تصحيح الأئمة لهذا الحديث، وأن هذا غير وارد مع الجهالة بحال حميدة وكبشة

(4)

.

(1)

"الاستيعاب"(12/ 88)، "الإصابة"(11/ 302).

(2)

"التلخيص"(1/ 54).

(3)

"العلل"(6/ 160).

(4)

"البدر المنير"(2/ 342).

ص: 60

وقول ابن منده: (إن حميدة لا تعرف لها رواية إلا في هذا الحديث)، فيه نظر، فإنها روت هذا الحديث، وحديثَ تشميت العاطس

(1)

، والحديث الثالث لها: حديث رِهَانِ الخيل، رواه أبو نعيم في «معرفة الصحابة»

(2)

.

وأما قوله في كبشة، فهو كما قال، ليس لها إلا هذا الحديث، لكن لا يضرها ذلك، فإنها ثقة.

وأما قوله: (إن محلهما الجهالة) ففيه نظر - أيضاً ـ، فإن حميدة روى عنها زوجها إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة راوي حديث الهرة، وابنها يحيى في حديث تشميت العاطس، وابنها عمر بن إسحاق على ما ذكره الترمذي في باب «تشميت العاطس» - كما تقدم ـ، فإن لم يكن غلطاً فهو ثالث، وهو أخو يحيى، وذكرها ابن حبان في «الثقات»

(3)

.

وأما كبشة، فقال ابن الملقن:(لم أعلم أحداً روى عنها غير حميدة، لكن ذكرها ابن حبان في «الثقات»، وقد قال ابن القطان: (إن الراوي إذا وُثِّقَ زالت جهالته وإن لم يرو عنه إلا واحد)، وأعلى من ذلك ما ذكره ابن حبان في «الثقات» من أن لها صحبة)

(4)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أنه قال في الهرة) هي الأنثى من القطط، وجمعها (هِرَرٌ) مثل: سِدْرة وسِدَر، والذكر (هِرٌّ) وجمعه (هِررة) مثل: قرد وقردة، قاله الأزهري، وقال ابن الأنباري:(الهر يقع على الذكر والأنثى، وقد يدخلون الهاء في المؤنث)

(5)

.

قوله: (إنها ليست بِنَجَسٍ) بفتح الجيم، هو عين النجاسة، أي: ليست نجسة الذات، وهو مصدر نَجِس من باب فرح، ولذا لم يؤنث، كما أنه لم يجمع في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وأما النَّجِسُ بكسر الجيم فهو الشيء المتنجس.

(1)

أخرجه أبو داود (5036)، والترمذي (2744).

(2)

انظر. "البدر المنير"(2/ 344).

(3)

"الثقات"(6/ 250).

(4)

انظر: "البدر المنير"(2/ 345 - 346)، "الثقات"(3/ 357)، "الطبقات"(8/ 351).

(5)

"المصباح المنير" ص (637).

ص: 61

قوله: (إنما هي من الطوافين عليكم) جملة مستأنفة فيها معنى التعليل، لعدم نجاسة الهرة، وهي الضرورة الناشئة من كثرة دورانها في البيوت ودخولها فيها، بحيث يشق صون الأواني عنها، فجعلها الله طاهرة، رأفةً بالعباد ودفعاً للحرج.

وقوله: (الطوافين) جمع طَوَّافٍ، شبهها بخدم البيت، وهو من يطوف على أهله ويدور حولهم برفق وعناية، وألحقها بالعقلاء فجمعها بالياء والنون مع أنها لا تعقل، إشارة إلى أنها من جنس الطوافين الذين سقط في حقهم الحجاب والاستئذان في غير الأوقات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى، وذلك للضرورة وكثرة مداخلتهم.

الوجه الرابع: الحديث دليل على طهارة فم الهرة، وطهارة سؤرها - فضلتها - لسقوط حكم النجاسة عنها اتفاقاً، لعلة الطواف المنصوص عليها في الحديث، والتصريح بأنها ليست نجسة، والوضوء من سؤرها بعد أن أصغى لها الإناء.

وفي قوله: (إنها ليست بنجس) دليل على طهارة جميع أعضائها وبدنها على القول الراجح، خلافاً لمن قال: إن طهارتها مقصورة على سؤرها وما تناولته بفمها، وأما بقية أجزائها فنجسة، فإن هذا مخالف لدلالة الحديث، وهذا فرد من أفراد القاعدة العظيمة (المشقة تجلب التيسير)، فكثرة طوافها وعموم البلوى بها جعل ما تلامسه طاهراً وإن كان رطباً، قال ابن قدامة بعد حديث أبي قتادة:(وهذا قد دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهرة، وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا .. )

(1)

، وعلى هذا فكل ما يُكْثِرُ التطواف على الناس ويشق الاحتراز منه فهو كالهرة، محكوم بطهارته، وأما إناطة الحكم بالصغر، وهو ما دون الهرة في الخِلقة، فلا وجه له، لعدم الدليل عليه، وليس الحكم خاصاً بفمها، بل جميع بدنها كذلك؛ لقوله:«إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم» .

(1)

"المغني"(1/ 11).

ص: 62

الوجه الخامس: الصحيح من أقوال أهل العلم إلحاق الحمار والبغل بالهرة في طهارة سؤرهما وعرقهما، للعلة المذكورة، ولحاجة الناس إليهما في الركوب والحمل، ولا سيما قبل وجود السيارات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبها وتركب في زمنه، وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم، فلو كان نجساً لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

الوجه السادس: فيه دليل على حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ربط الحكم بالعلة، وهذا فيه فوائد، منها:

1 -

الاستدلال على سمو الشريعة وكمالها، وأن كل شيء له حكمة.

2 -

تقوية إيمان المكلف بهذا الحكم إذا عرف علته.

3 -

تعدية الحكم لكل ما وجدت فيه العلة، والله أعلم.

ص: 63

‌كيفية تطهير الأرض من البول

12/ 12 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابيٌّ فَبَالَ في طَائِفَةِ الْمَسْجِد، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَذَنُوبٍ مِنْ ماءٍ؛ فَأُهْرِيْقَ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أنس بن مالك بن النضر، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو ابن عشر سنين، فأتت به أمه أم سليم بنت ملحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا أنس، غلام يخدمك، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وقال:«اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة» ، قال أنس: فرأيت اثنتين، وأنا أرجو الثالثة، فلقد دفنت لِصُلبِي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وبقي خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم، وأقام بعده في المدينة، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة تسعين، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» ، باب «تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابيَّ حتى فرغ من بوله في المسجد» (219، 221)، وأخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (220) وفي اخره:«فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسِّرين» ، وأخرجه في كتاب «الأدب» (6010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً ـ،

(1)

"الاستيعاب"(1/ 205)، تذكرة الحفاظ" (1/ 44)، "الإصابة" (1/ 112).

ص: 64

ولفظه: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعاً»، يريد رحمة الله)، وأخرجه مسلم (284) وفيه:(ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القران»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ).

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أعرابي) المراد به البدوي الذي يسكن البادية، نسبة إلى الأعراب على لفظه، وإنما نسب الأعرابي إلى الجمع دون الواحد؛ لأنه جرى مجرى القبيلة كأنمار، أو لأنه لو نسب إلى الواحد وهو عرب، لقيل: عربي، فيشتبه المعنى؛ لأن العربي عام لمن سكن البادية أو الحاضرة.

قوله: (بذنوب من ماء) بفتح الذال المعجمة وضم النون، هو الدلو العظيم، ولا يسمى ذنوباً حتى يكون مُلئ ماءً، ويكون قوله:(من ماء) من باب الإيضاح والتأكيد، كقولهم: كتبت بيدي.

قوله: (فأهريق عليه) بضم الهمزة وسكون الهاء، أي: صُبَّ عليه، وهو فعل مبني للمجهول، والمبني للمعلوم: أهراق، ومضارعه: يُهْرِيق

(1)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب العناية بالمساجد واحترامها وتنزيهها من البول والعذرة، وسائر الأقذار، وهذا يؤخذ من زجر الناس لهذا الأعرابي ومبادرتهم إلى الإنكار عليه، ولولا أن ذلك منكر عندهم لما زجروه، لكن فاتهم النظر إلى أن منعه وقطعه يؤدي إلى الضرر به، وزيادة في التنجيس لمكان اخر، فلهذا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن زجره وأمرهم بالرفق به.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بصب الماء على المكان النجس بدون تكرار، سواء أكانت الأرض

(1)

انظر: "المغني في تصريف الأفعال"(96 - 97).

ص: 65

رخوة أم صلبة، وشرط طهارتها أن تزول عين النجاسة، وقد أفاد قوله:(فأهريق عليه) أنه لم يحفر المكان أو ينقل ترابه أو يُحَوَّطْ عليه، بل صُبَّ عليه الماء فقط.

وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وأما ما ورد عند أبي داود من حديث عبد الله بن معقل، وفيه: وقال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم: «خذوا ما بال عليه من تراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء» ، فقد قال أبو داود عَقِبَهُ: (هو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فإن كان للنجاسة جرم كعذرة أو دَمٍ جَفَّ، فلا بد من إزالة ذلك قبل تطهيرها بالماء.

الوجه السادس: وجوب المبادرة بتطهير المساجد من النجاسة إذا حصلت فيها، لقوله:(فلما قضى بوله أمر .. )؛ لأن النجاسة لو تركت قد يخفى مكانها، وقد يصلّى عليها.

وهي لا تطهر بالجفاف - عند الجمهور - سواء أكان ذلك بالشمس أم بالريح أم بالظل، قالوا: ولو كان الجفاف مطهراً لاكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بالماء.

وقالت الحنفية: إن الجفاف يطهر الأرض، فتجوز الصلاة عليها؛ لأن النجاسة عين خبيثة نجاستها بذاتها، فإذا زالت عاد الشيء إلى طهارته.

وهذا قول قوي، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، وتلميذه ابن القيم

(3)

، قال شيخ الإسلام:(إنه أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل)، ثم ساق حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:(كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)

(4)

، فقد استنبط شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا

(1)

"سنن أبي داود"(381).

(2)

بدائع الصنائع (1/ 85)، "الفتاوى"(21/ 479).

(3)

"إغاثة اللهفان"(1/ 150).

(4)

أخرجه البخاري (174).

ص: 66

الحديث أن الارض إذا أصابتها نجاسة فيبست حتى زال أثرها فإنها تطهر؛ لأن الحكم يدور مع علته، فإذا لم يبق للنجاسة أثر صارت الأرض طاهرة.

وأما دليل الجمهور فالجواب عنه ما تقدم، وهو أن المسجد يجب تطهيره في الحال لأنه مصلّى الناس، ولئلا ينجس به أحد، أو تنتقل النجاسة بالمشي إلى مكان اخر في المسجد.

الوجه السابع: وجوب الرفق بالجاهل في التعليم، وأنه لا يؤذى ولا يعنف إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً وعناداً.

الوجه الثامن: الحديث دليل على القاعدة الفقهية العظيمة (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) أو (دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما)، وذلك أن البول في المسجد مفسدة، والاستمرار عليه مفسدة، وقد حصل ذلك، لكن كون الرجل يقوم من بوله مفسدة أكبر لما يترتب عليه من مفاسد، وهي:

1 -

تضرر هذا الرجل بقطع بوله واحتباسه.

2 -

أنه يؤدي إلى تلوث ثيابه وبدنه.

3 -

أنه يؤدي إلى تلوث مكانٍ أكبر من المسجد، والله أعلم.

ص: 67

‌السمك والجراد إذا ماتا في ماء فإنه لا ينجس

13/ 13 - عَن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتانِ: فَالْجَرَادُ والْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالطِّحالُ وَالْكَبِدُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (10/ 15)، وابن ماجه (3218، 3314) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً.

وهذا إسناد ضعيف - كما قال الحافظ - لضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال عبد الله بن أحمد:(سمعت أبي يضعف عبد الرحمن، وقال: روى حديثاً منكراً: «أحلت لنا ميتتان ودمان»)، وضعفه ابن المديني جداً، وكذا ضعفه النسائي وأبو زرعة وغيرهم، وقال ابن خزيمة:(ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه، هو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث)

(1)

، وقد رواه الدارقطني

(2)

والبيهقي (1/ 254) من رواية سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفاً، قال البيهقي:(وهذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند)، وكذا صحح الوقف أبو زرعة

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 161)، والأحلاس: جمع حِلْسٍ، وهو كل ما ولي ظهر الدابة تحت الرحل، وبساط يوضع تحت كريم المتاع، ويقال: هو حلس بيته: لا يبرحه، وهو من أحلاس البلاد: لا يفارقها. انظر: "المعجم الوسيط" ص (192).

(2)

"شرح عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 159)، وانظر:"التعليق المغني"(4/ 272).

ص: 68

وأبو حاتم، وهذا الموقوف له حكم الرفع، كما ذكر البيهقي، وقال ابن القيم:(هذا حديث حسن، وهذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أُحل لنا كذا، وحُرِّم علينا، ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمه)

(1)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الجراد) بفتح الجيم، معروف، والواحدة جرادة، الذكر والأنثى سواء، كالحمامة، قالوا: مشتق من الجرد؛ لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده.

قوله: (والحوت) هو السمك، وقيل: ما عَظُمَ منه، قال تعالى:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} [الصافات: 142] والجمع حيتان.

الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الميتة، واستثني منها الجراد والسمك، فكل منهما حلال، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البحر:«هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، وقال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، قال ابن عباس:(صيده: ما صيد فيه، وطعامه: ما قَذَفَ)

(2)

، فميتة البحر حلال مطلقاً، سواء مات بنفسه وطفا على وجه الماء بأن صار بطنه من فوق، أم مات بسبب ظاهر كضغطة أو صدمة حجر أو انحسار ماء أو ضرب من صياد أو غيره؛ لعموم الأدلة، وتخصيص النص العام لا بد له من دليل من كتاب أو سنة يدل على التخصيص.

وقد ورد في حديث جابر رضي الله عنه قال: (غزونا جيش الخَبَطِ وأميرنا أبو عبيدة، فجعنا جوعاً شديداً، فألقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه فمرَّ الراكب تحته، قال: فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا، رزقاً أخرجه الله عز وجل لكم، أطعمونا إن كان معكم»، فأتاه بعضهم بشيء فأكله)

(3)

.

ففي هذا الحديث دليل على إباحة ميتة البحر، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه

(1)

"زاد المعاد"(3/ 392).

(2)

أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(11/ 61).

(3)

أخرجه البخاري (4362)، ومسلم (1935).

ص: 69

وأكله ذلك أراد به المبالغة في تطييب نفوسهم في حلّه، وأنه لا شك في إباحته وأنه يرتضيه لنفسه.

وكذلك يحل أكل الجراد مطلقاً، سواء مات باصطياد أم بذكاة أم مات حتف أنفه، لعموم هذا الحديث.

ويستثنى من ذلك ما مات من الجراد بسبب المبيدات السامة فهذا يحرم، لما فيه من السم القاتل المحرم، وكذا ما مات من الحوت بسبب ما يسمى بتلوث البحار بمواد سامة، فيحرم لا لذاته، وإنما لما وجد فيه من مواد مضرة أو قاتلة.

الوجه الرابع: الحديث دليل على إباحة أكل الكبد والطحال، وأنهما مستثنيان من تحريم الدم، وهذا بإجماع أهل العلم.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن السمك والجراد إذا ماتا في ماء فإنه لا ينجس، سواء أكان الماء قليلاً أم كثيراً، ولو تغير طعمه أو لونه أو ريحه؛ لأنه لم يتغير بنجاسة، وإنما تغير بشيء طاهر، وهذا هو وجه سياق هذا الحديث في باب المياه، كما تقدم في موضوع الحديث، والله أعلم.

ص: 70

‌الذباب لا يُنَجِّسُ ما وقع فيه من ماء أو غيره

14/ 14 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لْيَنْزِعْهُ، فَإنَّ فِي أحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً، وَفِي الآخَرِ شِفَاءً» . أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ:«وَإنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري (3320) في كتاب «بدء الخلق» بابٌ «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه» ، وفي كتاب «الطب» بابٌ «إذا وقع الذباب في الإناء» (5782) من طريق عتبة بن مسلم، عن عبيد بن حنين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.

واللفظ الثاني أخرجه أبو داود (3844) ولفظه: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله) وإسناده حسن، وورد - أيضاً - من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه أحمد (18/ 186)، وابن ماجه (3504) وإسناده صحيح لغيره، ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه البزار (1/ 615 مختصر زوائده)، ورجاله رجال الصحيح. وهذا الحديث قد ورد من طرق كثيرة تزيد على خمسين طريقاً، جمعها بعض الباحثين

(1)

وهي كافية لمن أراد معرفة الحق من أصحاب الفطر السليمة، والعقول المستنيرة.

(1)

انظر: "الإصابة في صحة حديث الذبابة"، للدكتور: خليل إبراهيم ملا خاطر.

ص: 71

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا وقع الذباب) هو بضم المعجمة، مفرد، وجمعه أذِبَّة وذِبَّان، كغراب وأغربة وغربان

(1)

.

قال الدَّميري: (الذباب عند العرب يطلق على الزنابير والنحل والبعوض بأنواعه، كالبق، والبراغيث والقمل والصُّؤاب والناموس والفَرَاش، والنمل، والذباب المعروف عند الإطلاق العرفي)

(2)

، ولعل الأخير هو المراد بهذا الحديث، وسمي ذباباً لكثرة حركته واضطرابه.

قوله: (في شراب أحدكم) هذا لفظ البخاري في كتاب «بدء الخلق» ولفظه في «الطب» «في إناء أحدكم» ، وفي حديث أبي سعيد - كما تقدم ـ:«إذا وقع في الطعام» والتعبير بالإناء أشمل

(3)

، لكن يظهر أن الحافظ اختار رواية (شراب) لمناسبتها لباب المياه، والله أعلم.

قوله: (فليغمسه) أي: في الطعام أو الشراب، كما في حديث أبي سعيد - المتقدم - ولفظه:«إن أحد جناحي الذباب سُمٌّ، والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء» .

والأمر بغمسه ليخرج الشفاء كما خرج الداء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقابل تلك المادة السُّمِّية بما أودعه الله فيه من الشفاء في جناحه الآخر بغمسه كله، فتقابل المادةَ السميةَ المادةُ النافعةُ فيزول ضررها - بإذن الله تعالى - وهذا نصَّ عليه حذاق الأطباء قديماً، كما ذكر ابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهما، وأثبت ذلك الاكتشافات العلمية الحديثة - كما سيأتي إن شاء الله ـ.

وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، وفي رواية للبخاري في «الطب» «فليغمسه كلَّه» وذلك لدفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه.

قوله: (فإن في أحد جناحيه داء .. ) تعليل للأمر بغمسه، وفي حديث

(1)

"الصحاح"(1/ 126).

(2)

"حياة الحيوان الكبرى"(1/ 352).

(3)

"فتح الباري"(10/ 250).

ص: 72

أبي سعيد - المتقدم ـ: «فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء» ويستفاد من حديث أبي سعيد تفسير الداء الواقع في حديث الباب وأن المراد به السم، قال الحافظ:(ولم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر، فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء، والمناسبة في ذلك ظاهرة)

(1)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على طهارة الذباب، وأنه لا ينجس ما وقع فيه من طعام أو شراب أو ماء ولا يفسده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه ولم يأمر بإراقة ما وقع فيه.

الوجه الرابع: في الحديث الأمر بغمس الذباب كله فيما وقع فيه من طعام أو شراب ثم نزعه، والانتفاع بما وقع فيه، وذلك للعلة وهي قوله:«فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء» ، وقد يكون الطعام حاراً، ومعلوم أنه يموت إذا غمس فيه، فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، لكن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو لإرشاد من أراد أن يأكل أو يشرب مما وقعت فيه الذبابة أن يغمسه فيه، أما الذي لا يريد الأكل أو الشرب بأن تعافه نفسه فلم يتطرق إليه الحديث.

الوجه الخامس: يقاس على الذباب كل ما أشبهه مما لا نفس له سائلة - أي ما لا دم له يسيل - وليس متولداً من النجاسات، كالزنبور والعنكبوت والخنفساء والجعلان والنحل والبق والبعوض ونحو ذلك، فإذا وقع في طعام أو شراب لم يُحَرِّمْهُ ولم ينجسه، لهذا الحديث، والحكم يعم بعموم علته وينتفي لانتفاء سببه، ولما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم بالتنجيس؛ لانتفاء علته.

قال ابن المنذر: (قال عوام أهل العلم: لا يفسد الماء بموت الذباب

(1)

"فتح الباري"(10/ 251).

ص: 73

والخنفساء ونحوهما، قال: ولا أعلم فيه خلافاً إلا أحد قولي الشافعي)

(1)

، قال النووي بعد نقل كلام ابن المنذر:(والصحيح في الجميع الطهارة للحديث، ولعموم البلوى وعسر الاحتراز)

(2)

.

الوجه السادس: هذا الحديث يدل على سبق الإسلام للعلم الحديث في بيان ضرر الذباب، وأنه يحمل الأمراض والجراثيم، كما يدل على طريقة التخلص من ضرر الذباب إذا وقع في الطعام والشراب، وهذه الطريقة جاء في الاكتشافات ما يوافقها ويؤيدها، وذلك بإثبات أن الذباب يحمل المكروبات، ويحمل معها مكروبات قاتلة لهذه المكروبات، تسمى (بكتريوفاج) يعني: اكل البكتيريا، تظهر بكثرة على جناح الذبابة مع قليل من البكتيريا، وعند غمس الذبابة فإننا نساعد على ترك أكبر كمية من المادة القاتلة لمكروب المرض، وأثبت الاكتشاف العلمي أن الذباب إذا وقع في الطعام أو في الشراب ثم طار فإن الجراثيم التي يخلفها بعده تتزايد وتتكاثر، فإذا غُمس فإن الجراثيم التي يخلفها بعده في الطعام أو الشراب لا تبقى كما خلفها فحسب، بل تبدأ بالانحسار والتناقص، فالحمد لله على كمال هذه الشريعة وسموِّ تعاليمها، والله أعلم

(3)

.

(1)

"الأوسط"(1/ 282 - 283).

(2)

"المجموع"(1/ 129 - 131).

(3)

انظر: "الإصابة في صحة حديث الذبابة" ص (161).

ص: 74

‌ما قطع من الحي فهو مَيِّتٌ

15/ 15 - عَنْ أَبِي وَاقِدٍ الليْثِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهيمَةِ - وَهِيَ حَيَّةٌ - فَهُوَ مَيِّتٌ» . أَخْرَجه أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

أكثر العلماء يذكرون هذا الحديث في كتاب الأطعمة والصيد، كأبي داود والترمذي وصاحب المنتقى وغيرهم، ولعل الحافظ ذكره هنا لبيان أن هذا المقطوع لو وقع في ماء أو غيره فهو نجس إن كان من حيوان ميتته نجسة، كما سيأتي - إن شاء الله ـ.

والكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو واقد الليثي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل: الحارث بن عوف، نصَّ على ذلك الترمذي، وقيل غير ذلك، أسلم قديماً، وشهد بدراً على الأصح، وهو يُعَدُّ من أهل المدينة، وخرج إلى مكة، فجاور بها سنة، ومات سنة ثمان وستين، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (2858) في كتاب «الصيد» بابٌ «في صيدٍ قُطِعَ منه قطعة» ، والترمذي (1480) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد.

(1)

"الإصابة"(12/ 88).

ص: 75

والحديث حسنه الترمذي؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وهو متكلم فيه، وقد أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال:(«ثقة» قال ابن معين: في حديثه ضعف)

(1)

، وقال أبو حاتم:(فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال ابن عدي:(بعض ما يرويه منكر لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء)

(2)

، وقال الحافظ في «التقريب»:(صدوق يخطئ).

وقد ورد الحديث من طريق عبد الله بن جعفر، ثنا زيد بن أسلم به، أخرجه الحاكم (4/ 123، 124) وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله:(ولا تشدَّ يدك به)، وذلك لأن الذهبي ذكر عبد الله بن جعفر في «الضعفاء» وقال:(ضعفوه)

(3)

، وقال في التقريب:(ضعيف)، لكن بإضافة هذا الطريق إلى الطريق الأول يَقْوى الحديث، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار أحسن حالاً من عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، فإن ابن دينار أخرج له البخاري، ومع ذلك ففيه كلام، كما تقدم

(4)

.

وقد جاء الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من طريق عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أخرجه الحاكم (4/ 239) وقال:(صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، وتعقبه الألباني: بأن الأويسي لم يخرج له مسلم شيئاً، فالحديث على شرط البخاري فقط، وهو ثقة، فالإسناد صحيح

(5)

، لكن رواه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلاً. أخرجه الطحاوي في «المشكل» (4/ 238) ورواه عبد الرحمن بن مهدي كما في «المستدرك» (4/ 138) عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وتابعه معمر كما في المصنف (4/ 494) لعبد الرزاق، قال الدارقطني في «العلل» (11/ 260):(المرسل أشبه بالصواب).

(1)

انظر: "الضعفاء" ص (243)، وفي رواية أخرى عن ابن معين أنه قال:(ليس بذاك القوي). انظر: "من كلام أبي زكريا يحى بن معين" ص (107).

(2)

انظر: "تهذيب التهذيب"(6/ 187).

(3)

"الضعفاء" ص (213).

(4)

انظر: "غاية المرام" للألباني ص (41).

(5)

"غاية المرام" ص (43).

ص: 76

الوجه الثالث: اختصر الحافظ الحديث، فلم يذكر إلا الشاهد منه، وأول الحديث عن أبي واقد رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يَجُبُّون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم، قال:(ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة) وهذا لفظه عند الترمذي، وعند أبي داود بدون ذكر سبب الحديث.

الوجه الرابع: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما قطع .. ) يجوز أن تكون (ما) موصولة أو شرطية، ويكون قوله:(فهو ميت) جواب الشرط، أو خبراً للمبتدأ وهو (ما) الموصولة، واقترن الخبر بالفاء لشبه الموصول بالشرط في العموم.

قوله: (من البهيمة) هي ذوات الأربع من الإبل والبقر والغنم، أو كُلُّ حي لا يميز، وهذا أعم من الأول، و (من) بيانية، وسبب الحديث يدل على أن المراد بالبهيمة الإبل والغنم.

قوله: (فهو ميت) هكذا في بعض نسخ البلوغ، والذي في الترمذي:(فهو مَيْتة)، وهي بسكون الياء، يقال: مَيْتة - بالتخفيف - وميّتة - بالتشديد ـ، والتخفيف أكثر

(1)

، والميتة ما لم تلحقه الذكاة، ومعنى (فهو ميتة) أي: حرام كالميتة، لا يجوز أكله؛ لأنه ميت بزوال الحياة عنه، وكانوا يفعلون ذلك في حال الحياة - كما تقدم - فنهوا عنه.

الوجه الخامس: اعتبر العلماء لفظ هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام، يدل على أن ما قطع من البهيمة في حال حياتها من سنام بعير، أو ألية شاة، ونحو ذلك، فهو ميتة محكوم بنجاستها، إذ الميتة كذلك، فيحرم أكله والانتفاع به، قال ابن تيمية:(وهذا متفق عليه بين العلماء)

(2)

.

وهذا عام مخصوص بما قطع من حيوان ميتته طاهرة، كالجراد والسمك، فيكون طاهراً، فما وقع منه في ماء فهو طاهر.

كما يستثنى من ذلك الشعر والصوف والوبر والريش إذا قُصَّ بدون أصوله، والله أعلم.

(1)

"المطلع" ص (10).

(2)

"مجموع الفتاوى"(21/ 98).

ص: 77

‌باب الآنية

الآنية: جمع إناء، كأسقية وسقاء، والجمع القليل آنية، والكثير: أواني، والآنية هي: الأوعية، والمراد هنا الأواني التي يكون فيها ماء الوضوء، وما هو أعم من ذلك من الطعام والشراب.

ومناسبة ذكرها هنا: أنه لما كان الماء جوهراً سيالاً لا بد له من وعاء، ناسب ذكرها بعد أحكام المياه، ليعلم المسلم حكم آنيته التي يستعملها؛ لأن الشارع قد نهى عن بعضها، فتعلقت بها أحكام.

والأصل في الآنية: الحل والطهارة، لعموم قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ووجه الدلالة: أن الله تعالى امتنَّ على خلقه بما في الأرض جميعاً، ولا يمتن إلا بمباح، إذ لا منة في محرم، وخُصَّ من ذلك ما دل الدليل على تحريمه، والله أعلم.

ص: 78

‌تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

16/ 1 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمانِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَشْرَبُوا فِي انِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا في صِحَافِهَا، فإنَّهَا لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَلَكُمْ في الآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

هذا الحديث محله كتاب الأطعمة والأشربة، لكن ذكره الحافظ - كغيره - في هذا الباب لإفادة تحريم الوضوء في انية الذهب والفضة؛ لأنه استعمال لهما.

والكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي رضي الله عنه، واسم اليمان: حُسيل، كما ورد في صحيح مسلم، أسلم هو وأبوه، وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، كما روى ذلك مسلم أيضاً

(1)

، وشهدا غزوة أحد، فقتل المسلمون أباه لأنهم لم يعرفوه

(2)

، وذكر ابن إسحاق أن حذيفة تصدق بدية أبيه على المسلمين.

روى حذيفة رضي الله عنه كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، وكان يسمى صاحب السر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَسرَّ إليه بأسماء المنافقين، الذين أرادوا المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من تبوك، شهد حذيفة غزوة الخندق وما بعدها، وفتوح العراق، واستعمله عمر رضي الله عنه على المدائن، فلم يزل بها حتى مات سنة ست وثلاثين، بعد مقتل عثمان رضي الله عنه

(1)

"صحيح مسلم"(1787).

(2)

أخرجه البخاري (4065).

ص: 79

بأربعين ليلة

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «الأكل في إناء مُفَضَّض» (5426) قال: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى، فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في انية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» هذا لفظ البخاري، وفيه (ولنا) بدل (لكم) وقد جاء في رواية أخرى للبخاري في «اللباس» بلفظ:«لكم» (5830، 5833).

وأخرجه مسلم (2067)(5) من طريق ابن أبي ليلى بلفظه في «اللباس» ، ولم يذكر «لكم في الآخرة» ، لكن وردت من طريق ابن عكيم عن حذيفة (2067)(4) في «اللباس» أيضاً.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا تشربوا) الخطاب للرجال الحاضرين، ويدخل فيهم كل من يتأتى له الخطاب من الرجال والنساء.

قوله: (في صحافها) الصحاف: جمع صحفة، وهي الإناء الذي يشبع الخمسة

(2)

، والظاهر أن هذا غير مراد هنا، فإن الصحفة التي لا تكفي إلا واحداً يحرم أن تكون من الذهب والفضة - أيضاً ـ.

قوله: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) جملة تعليلية لما تقدم، والضمير (لهم) للكفار وإن لم يتقدم لهم ذكر، لكنه مفهوم من السياق، كقوله تعالى:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:

(1)

"الاستيعاب"(2/ 318)، "الإصابة"(2/ 223، 246).

(2)

نقله في "اللسان" عن الكسائي.

ص: 80

32] أي: الشمس، وقوله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] أي: الأرض، والمعنى: أن الكفار هم الذين يستعملون أواني الذهب والفضة في الدنيا؛ لأنه ليس عندهم دين يمنعهم من ذلك، وليس المراد إباحتها لهم؛ لأن الكفار لا يجوز لهم التمتع بنعم الله وهم على كفرهم، فأنتم أيها المسلمون منهيون عن التشبه بهم، وستكون لكم في الآخرة مكافأة لكم على تركها في الدنيا، ويُمنعُها أولئك جزاء لهم على معصيتهم في الدنيا، وقد ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، ومنها:«وعن الشرب في الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة»

(1)

، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من شرب في انية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيهما في الآخرة، وانية أهل الجنة الذهب والفضة»

(2)

، وهذه هي العلة من تحريم استعمال أواني الذهب والفضة على المسلمين، وهي علة منصوص عليها، لكن أضاف العلماء عللاً أخرى منها:

1 -

أنها وسيلة إلى الخيلاء والتكبر.

2 -

أن فيها كسراً لقلوب الفقراء.

وهي علل فيها نظر، قال ابن القيم:(والصواب أن العلة - والله أعلم - ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة، ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها للكفار في الدنيا، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا، وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة)

(3)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وهذا النهي للتحريم، والعلة في ذلك التشبه بالكفار، قال

(1)

الحديث أصله في "الصحيحين"، لكن انفرد مسلم بهذه الزيادة (2066).

(2)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(6/ 300)، قال الحافظ في "فتح الباري" (1/ 970):(بسند قوي).

(3)

"زاد المعاد"(4/ 351).

ص: 81

شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار)

(1)

.

وهذا الحكم عام في حق الرجال والنساء، سواء أكان الإناء ذهباً خالصاً أم مخلوطاً بذهب، وسواء أكان فضة خالصة أم مخلوطاً بها، لما ورد من طريق يحيى بن محمد الجاري: حدثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من شرب من إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم»

(2)

.

الوجه الخامس: اختلف العلماء هل تحريم أواني الذهب والفضة مختص بالأكل والشرب كما هو ظاهر الحديث، أو أنه عام في جميع وجوه الاستعمال؟ فالجمهور من أهل العلم على تحريم جميع وجوه الاستعمال، قال القرطبي:(الحديث دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما، مثل: التطيب والتكحل، وما شابه ذلك، وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفاً وخلفاً .. )

(3)

، قالوا: لعموم الحديث، وشمول المعنى الذي حرم بسببه، وإنما فُرِّقَ بين الرجال والنساء في التحلي لما يقصد منهن من غرض الزينة للأزواج والتجمل لهم.

قالوا: وخُصَّ في الحديث ذكر الأكل والشرب لأن هذا هو الأغلب استعمالاً، وما عُلِّقَ به الحكم لكونه أغلب فإنه لا يقتضي تخصيصه به، وإذا

(1)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 322).

(2)

أخرجه الدارقطني (1/ 40)، والبيهقي (1/ 28)، وقال الدارقطني:(إسناده حسن). وحسن إسناده الشيخ عبد العزيز بن باز -رحم الله الجميع-، وقال الحافظ في "فتح الباري" (10/ 101):(هذا معلول بجهالة حال إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وولده .. ) ويحيى، قال البخاري عنه:(يتكلمون فيه)، وذكره ابن حبان في "الثقات"(9/ 259)، وقال:(يُغْرِب)، وقال ابن عدي في "الكامل" (7/ 226):(وليس بحديثه بأس). وأورد الذهبي هذا الحديث في "الميزان"(4/ 406) في ترجمة يحيى، وقال:(هذا حديث منكر، أخرجه الدارقطني، وزكريا ليس بالمشهور).

(3)

"المفهم"(5/ 345).

ص: 82

نُهي الإنسان عن الأكل والشرب - وهما أكثر حاجة - فما دونهما من وجوه الاستعمال من باب أولى.

ويرى اخرون

(1)

منهم: الصنعاني

(2)

والشوكاني

(3)

والشيخ محمد بن عثيمين

(4)

: أن التحريم خاص بالأكل والشرب، وأما استعمال الأواني في غير الأكل والشرب كالتطيب والتكحل والوضوء والغسل ونحوها فهو جائز، وهؤلاء أخذوا بظاهر الحديث، وقالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصوص، وهو الأكل والشرب فيها، فدل على أن ما عداهما جائز، ولو أراد عموم الاستعمال لنهى عنه، ولم يخصَّ ذلك بالأكل والشرب، قالوا: لأن الأكل والشرب فيهما هو مظهر الفخر والخيلاء في الغالب.

كما استدلوا بما ورد عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهِب قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخْضَبَهُ، فاطلعتُ في الجلجل فرأيت شعراتٍ حُمْراً)

(5)

؛ فهذا استعمال لآنية الفضة في غير الأكل والشرب، وأم سلمة هي راوية الحديث، كما سيأتي إن شاء الله.

قال الشوكاني: (وقياس سائر الاستعمالات على الأكل والشرب قياس مع الفارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب، هي التشبه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بانية من فضة، وذاك مناط معتبر للشارع، كما ثبت عنه (لما رأى رجلاً متختماً بخاتم من ذهب، فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة؟» أخرجه الثلاثة من حديث بريدة .. )

(6)

.

(1)

ذكر الحافظ هذا القول ولم ينسبه لأحد. "فتح الباري"(10/ 97).

(2)

"سبل السلام"(1/ 49).

(3)

"نيل الأوطار"(1/ 83).

(4)

"الشرح الممتع"(1/ 62).

(5)

أخرجه البخاري (5896)، والمخضب -بكسر الميم- إناء، والجلجل -بجيمين مضمومتين-: هو شبه الجرس، تنزع منه الحصاة التي تتحرك، فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته. ["فتح الباري" (10/ 353)].

(6)

"نيل الأوطار"(1/ 83).

ص: 83

وهذا القول، وإن كان فيه وجاهة، لكن الورع والاحتياط اجتناب أواني الذهب والفضة بجميع وجوه الاستعمال، سواء أكان للأكل أم للشرب أم لغيرهما من وجوه الاستعمال، كالوضوء والغسل والادهان والتطيب وغير ذلك، أخذاً بعموم المعنى والعلة، كما تقدم، ورجح هذا الشيخ عبد الرحمن السعدي

(1)

، كما رجحه الشيخ العلامة الأثري عبد العزيز بن باز، وقال:(إن هذا هو الصواب).

وحديث أم سلمة واقعة عين يطرقها الاحتمال، فمن ذلك أنه يحتمل أن الإناء كان مموهاً بفضة لا أنه كله فضة، ومنها أنه إناء صغير جعل فيه شعرات، ومثل ذلك لا يكون كبيراً، ومنها أن الرواة اختلفوا في لفظه، هل هو بالقاف (من قَصَّة) أو بالفاء (من فضة) وإن كان الحافظ قال: إن الصحيح عند المحققين أنه بالفاء

(2)

، والمقصود أن أحاديث النهي أقوى من ذلك، فالأخذ بها أحوط وأبرأ للذمة، والله ولي التوفيق.

(1)

انظر: "الأجوبة النافعة" ص (92).

(2)

"فتح الباري"(10/ 353).

ص: 84

‌تحريم الشرب في آنية الفضة

17/ 2 - عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لعل الحافظ أورده مع أن الحكم مأخوذ من الحديث الذي قبله، لما فيه من الوعيد الشديد، والعذاب الغليظ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة بن المغيرة، القرشية المخزومية رضي الله عنها مشهورة بكنيتها، معروفة باسمها، أسلمت قديماً، وزوجها أبو سلمة، وكان ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخاه من الرضاعة، فمات عنها بعد غزوة أحد، وكانت تحبه، وهو ابن عمها، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرْني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها. وهي التي روت هذا الحديث، كما أخرجه مسلم في صحيحه

(1)

تقول: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخطبها صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها، وتزوجها في السنة الرابعة من الهجرة، توفيت في المدينة سنة اثنتين وستين، وهي اخر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم موتاً، رضي الله عنهن جميعاً

(2)

.

(1)

رقم (918).

(2)

"الاستيعاب"(13/ 172)، "الإصابة"(13/ 161).

ص: 85

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الأشربة» (5634) باللفظ المذكور من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة، وهو يروى عن خالته

(1)

، وأخرجه مسلم (2065) ولفظه:«الذي يشرب في انية الفضة .. » وأخرجه - أيضاً - من طريق علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عبد الله العمري، عن نافع، عن زيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، ولفظه:«إن الذي يأكل ويشرب في انية الفضة والذهب» . قال الإمام مسلم رحمه الله: (وليس في حديث أحد منهم ذكر الأكل والذهب إلا في حديث ابن مسهر)، وعلي بن مسهر تقدم توثيقه عن أحمد وابن معين والعجلي وغيرهم

(2)

، فتكون هذه الزيادة شاذة من جهة الرواية، وإن كانت صحيحة من جهة المعنى، وقد أخرج مسلم حديث أم سلمة من طريق عثمان بن مرة، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن خالته أم سلمة، قالت:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم»)

(3)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنما يجرجر) يجرجر: بضم الياء وفتح الجيم وسكون الراء، ثم جيم مكسورة ثم راء، من الجرجرة وهي: صوت وقوع الماء في الجوف، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه، إذا جرعه جرعاً متتابعاً يسمع له صوت.

قوله: (نار جهنم) يجوز نصبه ورفعه، أما النصب - وهو المشهور - فعلى أنه مفعول (يجرجر) باعتبار أنه فعل متعد بمعنى: يتجرع، ويؤيد ذلك رواية عثمان بن مرة، كما تقدم، بلفظ:«فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم» والمعنى: أن من شرب بانية الفضة فكأنما يتجرع في بطنه نار جهنم، كقوله

(1)

ذكر الحافظ في "فتح الباري"(10/ 98) أنه ثقة، ليس له في البخاري إلا هذا الحديث.

(2)

انظر: شرح الحديث "العاشر" من باب "المياه".

(3)

رقم (2065)(2).

ص: 86

تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

وأما الرفع، فعلى أنه فاعل (يجرجر) باعتبار أنه فعل لازم، والمعنى: أن النار تصوت في بطنه، من قولهم: جرجرت النار، إذا صوتت، أي: صار لها صوت.

قوله: (جهنم) أي: النار العظيمة، البعيدة القعر - أعاذنا الله منها - وهي اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة.

سميت بذلك إما لبعد قعرها، من قولهم: بئر جهنام، إذا كانت عميقة القعر، وقيل: مشتقة من الجهومة وهي الغلظة، سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب، فتكون ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي.

الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الشرب في انية الفضة وأن ذلك من كبائر الذنوب، لقوله:«إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، وقد دل الحديث بمفهوم الأَوْلَى على تحريم الشرب في الذهب؛ لأنه أعظم من الفضة؛ لكونه أضيق استعمالاً منها، فإنه يجوز منها ما لا يجوز من الذهب؛ كالخاتم للرجل يجوز من الفضة ولا يجوز من الذهب.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وأن من شرب في انية الفضة وجرجر الماء في جوفه فإنه سيجرجر يوم القيامة نار جهنم في بطنه، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه، والله أعلم.

ص: 87

‌طهارة جلد الميتة إذا دبغ

18/ 3 - عَن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا دُبغَ الإهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعِنْدَ الأرْبَعَةِ: «أيُّمَا إهَابٍ دُبغَ» .

19/ 4 - وعَنْ سَلَمَةَ بنِ الْمُحَبِّقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دِبَاغُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ طُهُورُهَا» . صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

20/ 5 - وعَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ:«لَوْ أَخَذْتُمْ إهَابَهَا؟» فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ:«يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» . أَخْرَجَهُ أبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الكلام عليها من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي.

الأول: سلمة بن المحبِّق الهذلي، بكسر الباء المشددة وفتحها، كما ذكر النووي

(1)

، قيل: اسم المحبِّق، صخر، وقيل: ربيعة .. يكنى أبا سنان، روى عنه ابنه سنان، وجَوْنُ بن قتادة، والحسن البصري، روى اثني عشر حديثاً

(2)

.

الثاني: ميمونة رضي الله عنها. وقد سبق التعريف بها في شرح الحديث «الثامن» .

الوجه الثاني: في تخريجها:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «طهارة

(1)

"المجموع"(1/ 218).

(2)

"الإصابة"(4/ 234).

ص: 88

جلود الميتة بالدباغ» (366) بهذا اللفظ، من طريق زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وَعْلة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبلفظه أخرجه أبو داود (4123) بالسند المذكور، وأخرجه الترمذي (1728)، والنسائي (7/ 173)، وابن ماجه (3609) عن ابن عباس رضي الله عنهما بالسند المذكور، ولفظه:«أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

وبهذا يتبين أن الحافظ قد وهم في قوله: (وعند الأربعة) لأن لفظ أبي داود كلفظ مسلم، كما تقدم، والله أعلم.

وأما حديث سلمة بن المحبِّق فقد أخرجه ابن حبان (4522) من رواية جون بن قتادة، عن سلمة .. ولفظه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت في فنائه قربةٌ معلقةٌ، فاستسقى، فقيل له: إنها ميتة - أي: جلد ميتة - فقال: «ذكاة الأديم دباغه» ، وجون بن قتادة ذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، غير أن صحابيه وهو سلمة لم يرو له الشيخان ولا أحدهما.

وأخرجه أحمد بهذا الإسناد (25/ 250) ولفظه: «دباغها طهورها أو ذكاتها» ، وهو قريب من لفظ الحافظ في «البلوغ» .. بخلاف لفظ ابن حبان فهو مختلف عنه، كما تقدم، وأخرجه أبو داود (4125)، والنسائي (7/ 173 - 174)، ولفظ الكتاب هو لفظ حديث عائشة أخرجه ابن حبان برقم (1290)، وأخرجه أحمد (42/ 119)، والنسائي (7/ 174) وغيرهما.

وقد نقل الحافظ تصحيح الحديث عن ابن حبان، وهو صحيح لغيره؛ لأن جون بن قتادة مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان، ونقل الذهبي عن الإمام أحمد قوله:(لا يعرف)

(2)

، ونقل المزي عن علي بن المديني: أنه معروف، وقال في موضع اخر:(الذين روى عنهم الحسن من المجهولين: .. فذكرهم، وذكر منهم جون بن قتادة)

(3)

، وقال الحافظ في «التقريب»: (لم تصح صحبته،

(1)

"الثقات"(4/ 119).

(2)

"الميزان"(1/ 427).

(3)

"تهذيب الكمال"(5/ 165).

ص: 89

وهو مقبول) أي: إذا توبع وإلا فليّن الحديث، كما نص الحافظ على ذلك في المقدمة، وروى الترمذي حديثه في «العلل» ، وقال:(لا أعرف لجون بن قتادة غير هذا الحديث، ولا أدري من هو؟)

(1)

، ولكن الحديث صحيح بشواهده، ومنها حديث ابن عباس وميمونة رضي الله عنهم وغيرهما.

وأما حديث ميمونة فأخرجه أبو داود (4126)، والنسائي (7/ 174 - 175) من طريق عبد الله بن مالك بن حذافة، عن أمه العالية بنت سبيع أنها قالت: كان لي غنم بأُحد، فوقع فيها الموت، فدخلتُ على ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لها، فقالت لي ميمونة: لو أخذتِ جلودها فانتفعتِ بها، فقلت: أو يَحِلُّ ذلك؟ قالت: نعم، مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أخذتم إهابها» ؟ قالوا: إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يطهرها الماء والقرظ» .

وعبد الله بن مالك بن حذافة لم يوثقه غير ابن حبان، وأمه العالية قال العجلي عنها:(مدنية، تابعية، ثقة)

(2)

، وقال الذهبي:(روت عن ميمونة، تفرد عنها ولدها عبد الله بن مالك، لكن وثقها العجلي)

(3)

.

والحديث سكت عنه الحافظ، لكن له شواهد تؤيده، وقد صححه الألباني

(4)

، ومن شواهده ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاة ميتة، فقال:«هلا استمتعتم بإهابها؟» قالوا: إنها ميتة، قال:«إنما حَرُمَ أكلها»

(5)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (إذا دبغ) الدِّباغة: مصدر دَبَغَ الجلد يدبغه دبغاً ودباغة، ومعناه: إزالة النتن والرطوبة من الجلد بمواد خاصة، والدِّباغُ والدِّبغُ: ما يدبغ به،

(1)

"العلل الكبير"(2/ 725).

(2)

"تاريخ الثقات" ص (5 52).

(3)

"الميزان"(4/ 608).

(4)

"صحيح سنن أبي داود"(2/ 777).

(5)

أخرجه البخاري (5531)، ومسلم (363) ولفظه:"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به .. ".

ص: 90

يقال: الجلد في الدِّباغ، والدباغة: بالكسر اسم للصنعة، وقد يجعل مصدراً، كما تقدم.

قوله: (الإهاب) بكسر الهمزة، وجمعه: أُهُب بضمتين، مثل كتاب وكُتُب، ويجوز فتحهما، هو الجلد قبل أن يدبغ، وعليه يدل الحديث، قال أبو داود:(فإذا دبغ لا يقال له: إهاب، إنما يسمى شَنَّاً وقِرْبة .. ) ثم حكى ذلك عن النضر بن شميل

(1)

، وقال الأزهري:(كل جلد عند العرب إهاب)

(2)

.

وقد ورد في صحيح البخاري حديث عمر رضي الله عنه وفيه: (فإذا أُهُبٌ معلقة .. )

(3)

، و (أل) في الإهاب لاستغراق الجنس، بدليل الرواية التالية:«أيما إهاب دبغ فقد طهر» .

قوله: (فقد طهر) بضم الهاء وفتحها، من بابي قتل وقَرُب، وقد رجح النووي

(4)

الفتح، والطهر: هو النقاء من الدنس والنجَس.

قوله: (طهورها) بضم الطاء وفتحها، فالضم على معنى: تطهيرها، والفتح على معنى: أداة تطهيرها، مثل: الوَضوء، والطَّهور: وهو ما يعد للتطهير.

قوله: (لو أخذتم إهابها)(لو) إما أنها للتمني بمعنى: (ليت) وفيه معنى العرض، أو شرطية حذف جوابها أي: لكان حسناً، قاله السندي

(5)

.

قوله: (يطهرها) ظاهره أنه يعود على الميتة، وإلا لقال: يطهره، أي: الجلد، فإما أنه على حذف مضاف، أي: يطهر جلد الميتة، أو أن المراد الجنس، أي يطهر الأُهُب.

قوله: (القرظ) بفتحتين، حب معروف، يخرج في غُلُف كالعدس، من شجر العِضَاه، يستعمل في الدبغ، ويقوم مقامه الأرطى وشبهه؛ لأن النص على القرظ لا يدل على عدم إجزاء ما سواه، وإنما هو لمجرد التمثيل، أو لأنه كان هو المشهور والمعروف في ذلك الوقت، وفي زماننا هذا يكون دباغ

(1)

"سنن أبي داود"(4/ 67).

(2)

"الزاهر" ص (99).

(3)

"فتح الباري"(10/ 301).

(4)

"المجموع"(1/ 79، 214).

(5)

"حاشية السندي على سنن النسائي"(7/ 175).

ص: 91

الجلود في المصانع الكبيرة، وبواسطة المستحضرات الكيماوية، وذلك جائز؛ لأن المقصود نزع الفضول وتنشيف الجلد من الرطوبات، فبأي شيء حصل كان مجزئاً.

الوجه الرابع: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليل على أن أيَّ إهاب دبغ فقد طهر، لما تقدم من العموم في قوله:«إذا دبغ الإهاب» وفي قوله: «أيما إهاب» و (أل) و (أي) من صيغ العموم، سواء أكان من حيوان طاهر في حال حياة، كالإبل والبقر والغنم، أم من حيوان غير طاهر، كالكلب والخنزير، وهذا قول داود وأهل الظاهر، ورجحه الشوكاني، وقال:(لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب لم يُفَرَّقْ فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما)، وقال أيضاً:(فالحق أن الدباغ مطهر، ولم يعارض أحاديثه معارض، من غير فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وهو مذهب الجمهور)، وقال:(إنه تقرر في الأصول أن العام لا يُقصر على سببه، فلا يصح تمسكهم بكون السبب شاة ميمونة)

(1)

.

الوجه الخامس: استدل بحديث سلمة وميمونة رضي الله عنهما من قال: إن الدباغ يطهر جلد الميتة التي تُحِلُّها الذكاة، وهي كل حيوان مأكول اللحم، لقوله:«دباغ جلود الميتة ذكاتها» ، وفي لفظ:«دباغ الأديم ذكاته» ، وفي لفظ:«فإن ذكاتها دباغها» فشبه الدبغ بالذكاة، والذكاة لا تؤثر إلا في مأكول اللحم، فكذا الدباغ؛ لأن المشبه يأخذ حكم المشبه به، وهذا قول في مذهب الحنابلة، رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، وصححه الشيخ عبد الرحمن السعدي

(3)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، وذكر النووي: أنه مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه

(4)

.

أما ما لا تُحِلُّه الذكاة فلا يطهر بالدباغ وإن كان طاهراً في حال الحياة، كالهرة فلا يطهر جلدها بالدبغ؛ لأن الذكاة لا تحلها، وإنما جعلت طاهرة في

(1)

"نيل الأوطار"(1/ 78).

(2)

"الفتاوى"(21/ 95).

(3)

"المختارات الجلية" ص (11).

(4)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(3/ 292).

ص: 92

حال الحياة لمشقة التحرز منها - كما تقدم في الطهارة - وهذه العلة تنتفي بالموت، فتعود إلى أصلها، وهو النجاسة، فلا يطهر الدباغ جلدها.

والقول بأن الأحاديث عامة، وأنه يدخل في ذلك جميع أنواع الجلود قول قوي، لكن أظهر الأقوال وأقربها للصواب أن ذلك فيما يؤكل لحمه، وأن الورع يقتضي ترك ما سوى ذلك، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»

(1)

، وقوله عليه الصلاة والسلام:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»

(2)

.

واعتبار الدباغ طهوراً لجلد الميتة من رحمة الله تعالى بعباده، لينتفع به من يحتاج إليه من الفقراء وغيرهم، فقد تعرض الحاجة للاستفادة من جلد الميتة، فاستثناه الشرع من عموم تحريمها المنصوص عليه في القران.

ونأخذ من هذا أن الأحوط عدم لبس الفرا المصنوعة من جلود السباع، وهي موجودة في الأسواق بكثرة في هذا العصر، وإن كانت طاهرة على قول من يرى العموم، ويؤيد عدم لبسها حديث المقدام بن معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن لبوس جلود السباع والركوب عليها)

(3)

.

الوجه السادس: هذه الأحاديث الدالة على أن الدباغ يطهر جلد الميتة أصح من حديث عبد الله بن عُكيم قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)

(4)

، وهو دليل القائلين بأن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، وهو المذهب عند الحنابلة

(5)

، وهذا الحديث أعله العلماء بالاضطراب في سنده، فإن ابن أبي ليلى راويه عن عبد الله بن عكيم تارة

(1)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (8/ 327)، وإسناده صحيح.

(3)

أخرجه أبو داود (4131)، والنسائي (7/ 176) من طريق بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، وهو حديث صحيح، له طرق وشواهد يتقوى بها، وبقية صرح بالتحديث عند أحمد (28/ 421 - 422) لكنه في بقية الإسناد عنعنه.

(4)

أخرجه أبو داود (4128)، والترمذي (1729)، والنسائي (7/ 175)، وابن ماجه (3613)، وأحمد (31/ 74 - 75).

(5)

"الإنصاف"(1/ 86).

ص: 93

يحدث عنه، وتارة يحدث عن أشياخ من جهينة، وأعلوه بالاضطراب في متنه فَرُوي قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، وروي بشهر، وروي بشهرين، وروي بأربعين يوماً، كما أُعلَّ بالاختلاف في صحبة عبد الله بن عكيم، فقد قال البخاري:(أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سماع صحيح)

(1)

، وما كان هذا شأنه لا يقف في مقابلة الأحاديث الصحيحة، وهي تدل على ضعفه، فإنها أظهر وأصح وأنفع للأمة، وأقرب إلى أصول الشريعة وقواعدها، فتكون أولى، على أن من أهل العلم من أجاب عن هذه العلل بما لا يتسع له المقام، فإن صح الحديث جُمع بينه وبين حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره بأن الإهاب اسم لما لم يدبغ - كما تقدم ـ، فيكون نهياً عن استعمال جلد الميتة قبل دباغته، وقَوَّى ذلك الحافظ ابن حجر

(2)

، وقال الحازمي:(ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى: «إهاباً»، وبعد الدباغ يسمى جلداً ولا يسمى إهاباً، وهذا معروف عند أهل اللغة، ليكون جمعاً بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد عن الأخبار)

(3)

.

الوجه السابع: في حديث ميمونة رضي الله عنها وما قبله دليل على جواز استعمال الجلد بعد الدبغ في اليابسات كالقمح والشعير، والمائعات كالماء واللبن والسمن والعسل ونحو ذلك، لقوله:«يطهره الماء والقرظ» ، وإذا طهر صار حكمه حكم غيره من الأعيان الطاهرة، وتقدم في حديث سلمة بن المحبِّق (فإذا قربة معلقة)، مما يدل على أنه استعمل في الماء، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (ماتت لنا شاة فدبغنا مَسْكها ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صارت شناً)

(4)

، وقوله:(مَسْكها) بفتح الميم وسكون المهملة: هو الجلد، والله أعلم.

(1)

"التاريخ الكبير"(5/ 39)، ومثله قال أبو حاتم فيما نقله عنه ابنه في "الجرح والتعديل"(5/ 121).

(2)

"فتح الباري"(9/ 659).

(3)

"الاعتبار" ص (118).

(4)

أخرجه البخاري (6686).

ص: 94

‌حكم آنية أهل الكتاب

21/ 6 - عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي انِيَتهِمْ؟ قَالَ:«لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إلاَّ أَنْ لا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيها» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو ثعلبة الخشني، صحابي مشهور بكنيته، والخُشَني: بضم الخاء المعجمة فشين معجمة مفتوحة فنون، نسبة إلى خُشين بن النَّمِر من قُضاعة، حذفت ياؤه عند النسب، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً

(1)

، وذكر الحافظ أن الأكثر على أن اسمه جرثوم

(2)

، بايع أبو ثعلبة النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وضَرَب له بسهمه في خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا، وهو من أهل البادية يعتمد الصيد، وله أسئلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، منها هذا السؤال عن انية أهل الكتاب، وبعده سؤال عن الصيد، نزل الشام، ومات بها سنة خمس وسبعين، وهو ساجد، رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه البخاري في «كتاب الصيد» في ثلاثة مواضع منه، من طريق أبي إدريس الخولاني، عنه (5478)، (5488)، (4596)، وأخرجه مسلم في «أحاديث الصيد» (1930).

والحديث روي عن أبي ثعلبة بعدة ألفاظ، من عدة طرق، في المسند

(1)

انظر: "الإصابة"(11/ 54).

(2)

"فتح الباري"(9/ 606).

ص: 95

والصحيحين والسنن، وقد اقتصر الحافظ على موضوع سؤاله عن الآنية، دون سؤاله عن الصيد بقوسه وبكلبه المعلم، واللفظ المذكور في الكتاب لم أجده في الصحيحين بلفظه هكذا، وأقرب الألفاظ إليه ما في البخاري في كتاب «الصيد» ، باب «صيد القوس» (5478).

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنا بأرض قوم أهل كتاب) أي: أنا وقبيلتي خُشين، والمراد بالأرض: الشام، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، والظاهر أن المراد بهم - هنا النصارى ـ، وقد كان جماعة من قبائل العرب قد سكنوا الشام وتنصّروا، منهم: ال غسان، وتنوخ، وبَهْز، وبطون من قضاعة، منهم بنو خشين ال أبي ثعلبة.

قوله: (فاغسلوها) ظاهر الأمر الوجوب، والأمر بغسلها قبل استعمالها لظن نجاستها، لعدم ابتعادهم عن النجاسات من خمر ولحم خنزير ونحوهما، وسيأتي بيان ذلك.

قوله: (وكلوا منها) هذا أمر إباحة؛ لأنه جاء بعد الاستفهام في قوله: (أفنأكل في انيتهم؟) وبعد النهي في قوله: «لا تأكلوا فيها» .

الوجه الرابع: الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال عما يعنيهم، وما يشكل عليهم، وهذا هو الواجب على كل مسلم، فيسأل عن أمر دينه وعما يجهل، ليعبد الله على بصيرة، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].

الوجه الخامس: الحديث دليل على اجتناب الأكل في أواني أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأنهم لا يتورعون عن النجاسات، وربما وضعوا فيها الخمر، وطبخوا فيها الميتة والخنزير.

وهنا تعارض الأصل، وهو (الأصل في الأشياء الطهارة) مع غلبة الظن؛ وهو هنا (عدم توقيهم النجاسة)، فرجحت غلبة الظن حيث قويت، ويؤيد ذلك لفظ أبي داود: (إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير،

ص: 96

ويشربون في انيتهم الخمر .. )

(1)

.

الوجه السادس: الحديث دليل على جواز استعمال انية أهل الكتاب بالشرطين المذكورين في الحديث، وهما: ألا يوجد غيرها، وأن تغسل.

أما الشرط الأول: فالمقصود به التورع والاحتياط، فلا تستعمل أوانيهم ولو بعد غسلها إلا إذا لم يوجد غيرها.

وأما الشرط الثاني: فالمراد به حصول اليقين من طهارتها، والأمر بغسلها ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب، بدليل أن طعام أهل الكتاب حل لنا، كما قال تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وطعامهم يكون في أوانيهم، فدل ذلك على أنه لا يجب غسلها، ويكون ذلك هو الصارف للأمر في الحديث عن الوجوب إلى الاستحباب، جمعاً بين الأدلة، إلا أن يوجد ما يوجب غسلها، كوجود خمر فيها، أو وجود ميتة مما ذبحوه بالخنق أو بالوقيذ، فتغسل لذلك، وعليه يدل لفظ أبي داود المتقدم، والله أعلم.

(1)

"سنن أبي داود"(3839).

ص: 97

‌جواز استعمال آنية المشركين

22/ 7 - عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ تَوَضَّأُوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، في حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي رضي الله عنه، أسلم عام خيبر، وكان صاحب راية خزاعة عام الفتح، قال ابن عبد البر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى البصرة ليفقه أهلها، ومات فيها سنة اثنتين وخمسين

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

الظاهر أن الحافظ يقصد بهذا الحديث ما أخرجه البخاري في كتاب «التيمم» باب «الصعيد الطيب وضوء المسلم» (344) من طريق عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران، وما أخرجه مسلم في «قضاء الصلاة الفائتة» (682) من طريق سلم بن زرير العطاردي قال: سمعت أبا رجاء العطاردي، عن عمران

، وهو كما قال الحافظ:(حديث طويل)، لكن ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأنا أذكر الحديث بتمامه لفائدته، قال عمران: (كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا أسرينا، حتى إذا كنا في اخر الليل وقعنا وقعة، لا وقعةَ أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء،

(1)

"الاستيعاب"(9/ 19)، "الإصابة"(7/ 155).

ص: 98

فنسي عوف - ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يُوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس - وكان رجلاً جليداً - فكبَّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال:«لا ضير - أو لا يضر - ارتحلوا» ، فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل، فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذ هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال:«ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟» قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال:«عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» ، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف - ودعا علياً، فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مَزادتين - أو سطيحتين - من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمسِ هذه الساعة، ونَفَرْنا خلوفاً، قالا لها: انطلقي إذاً، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له: الصابئ، قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، قال:«فاستنزِلوها عن بعيرها» ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين - أو السطيحتين - وأوكأ أفواههما، وأطلق العَزَالى

(1)

، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان اخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال:«اذهب فأفرغه عليك» ، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أُقْلِعَ عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد مِلأةً منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اجمعوا لها» ، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيق وسويقة - حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: «تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو

(1)

بفتح العين والزاي، واللام يجوز كسرها وفتحها، جمع عزلاء، وهي مصبُّ الماء من الراوية، ولكل مزادة عزلاوان أسفلها. "فتح الباري"(1/ 452).

ص: 99

الذي أسقانا»، فأتت أهلها، وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بأصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء، تعني: السماء والأرض - أو إنه لرسول الله حقاً، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصِّرْم

(1)

الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام).

فهذا السياق كما ترى ليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من المزادة، لكن ورد في سياقه عند البيهقي (1/ 218، 219): (فمضمض في الماء فأعاده في أفواه المزادتين أو السطيحتين .. ) قال الألباني: (إسناده صحيح)

(2)

.

فهذا يدل على استعماله صلى الله عليه وسلم لمزادة المشركة، فيدل على طهارة انية الكفار، وأما الوضوء فلعل الحافظ قصد به كونهم ملأوا قربهم وإداواتهم، ومن ضمن استعمالاتهم للماء الوضوء به، والله أعلم.

وقد كثر ورود الحديث في كتب الفقه بهذه الصيغة التي ذكر صاحب «البلوغ» ، وقد ذكرها المجد في «المنتقى» ، ولم يتكلم عنها الشوكاني بشيء

(3)

، أما ابن دقيق العيد فقد ساق طرفاً من حديث عمران من قوله:(ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين .. )

(4)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) قَصَد بذلك دفع توهم اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (توضأوا) تقدم سياق الحديث، وأنه ليس فيه ذلك صراحة، لكن

(1)

بكسر المهملة، الأبيات المجتمعة من الناس.

(2)

"إرواء الغليل"(1/ 74).

(3)

انظر: "نيل الأوطار"(1/ 88).

(4)

"الإلمام" رقم (16).

ص: 100

يؤخذ من كونهم فقدوا الماء، ثم حصل لهم ذلك - بفضل الله تعالى - من ماء المرأة المشركة، ومن ضمن استعمالهم له أنهم يتوضؤون منه.

قوله: (مزادة) بفتح الميم والمعجمة، هي الراوية، وهي قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها، وتسمى أيضاً: السطيحة.

الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز استعمال أواني المشركين، ما لم يتيقن فيها النجاسة، فإن الصحابة رضي الله عنهم استقوا من هذا الماء وشربوا، وهذا يدل على أنهم سيتوضأون منه.

الوجه الخامس: الحديث دليل على طهارة جلد الميتة بالدباغ؛ لأن المزادتين من جلود ذبائح المشركين، وذبائحهم ميتة.

الوجه السادس: جواز أخذ الإنسان من ماء غيره الذي حازه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لا سيما إذا كان الأخذ لا يضر صاحبه، فيجوز أن يأخذ ما يدفع عطشه ولو بالقوة؛ لأنه يدفع عن نفسه العطش، ولا يضر صاحبه، وهذا على تقدير أن المرأة لها عهد، وقيل: إنما أخذوا من مائها؛ لأنها كافرة حربية.

الوجه السابع: في الحديث معجزة ظاهرة من أعلام النبوة، فإن الله تعالى أنزل البركة في هذا الماء حتى شرب منه الناس واستقوا، وعادت المزادتان كما كانتا، وقد جاء في رواية الصحيحين:(فشربنا عطاشاً أربعون رجلاً حتى روينا، فملأنا كل قربة معنا وإداوة غير أنا لم نسق بعيراً، وهي تكاد تَنِضُّ من المِلْء)

(1)

، أي: تسيل.

وعند مسلم: (تكاد تنضرج من الماء) أي: تنشق، قال ابن حجر:(قوله: «تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً» أي: ما نقصنا، وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده، وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطاً، وهذا أبدع وأغرب في المعجزة)

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(3571).

(2)

"فتح الباري"(1/ 453).

ص: 101

‌جواز إصلاح الإناء بسلسلة من الفضة

23/ 8 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «فَرْضِ الخُمُسِ» ، باب «ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه .. » (3109) وهذا لفظه، وتمامه قال عاصم:(رأيت القدح وشربت فيه)، وعاصم مات سنة مائة واثنتين أو ثلاث وأربعين، وأخرجه - أيضاً - في كتاب «الأشربة» (5638) من طريق عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أنس رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قدح) بفتحتين، إناء يشرب به الماء، وجمعه أقداح.

قوله: (انكسر) في رواية للبخاري في «الأشربة» : (فانصدع) أي: انشق.

قوله: (فاتخذ) ظاهر ذلك أن المراد النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول ابن سيرين:(إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركه)

(1)

، فهذا يؤكد أن الذي اتخذ السلسلة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القدح لم يتغير عما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلقة الحديد التي أراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من فضة أو ذهب غير السلسلة.

(1)

أخرجه البخاري (5638).

ص: 102

قوله: (مكان الشَّعْب) بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة، أي: الصدع والشق.

قوله: (سِلسلةً) بكسر السين، أي: سلكاً من الفضة، أو قطعة منها تصل بين طرفي الشق.

الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز إصلاح الإناء المنكسر بسلسلة من الفضة عند الحاجة إلى ذلك، وأن المحرم كون الإناء من فضة، أما كونه يربط بفضة قليلة فلا بأس بذلك؛ لأن مصلحتها ظاهرة، والغالب كون الإناء صغيراً، فلا يحتاج إلى شيء كثير من الفضة، وأما ما تقدم في حديث ابن عمر:(أو إناء فيه شيء من ذلك) فهو - على فرض صحته

(1)

ـ لا يعارض هذا الحديث، لأن (شيئاً) عام، وهذا مخصص له، قاله الشوكاني

(2)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن ذلك مختص بالفضة لورود النص به، أما الذهب فلا يجوز استعماله في مثل ذلك؛ لأنه أغلى ثمناً وأشد تحريماً، ولأنه لو كان جائزاً لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في الإناء؛ لأنه أبعد عن الصدأ بخلاف الفضة.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أنه متى أمكن إصلاح أوانيه أو نحو ذلك من أثاث منزله، فإنه يصلحه، ولا يرمي به ويشتري بدله؛ لأن إصلاحها من الاقتصاد وتدبير المال.

وفي هذا درس تربوي لمن يحبون التجديد ومتابعة الحديث من المركب والأثاث واللباس، والقديم يباع بأبخس الأثمان، إن لم يُرمَ ما يمكن رميه، وهذا من سوء التدبير وعدم رعاية المال، والله المستعان.

(1)

انظر: شرح الحديث السادس عشر.

(2)

"نيل الأوطار"(1/ 86).

ص: 103

‌باب إزالة النجاسة وبيانها

هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لمسألتين:

الأولى: في وجوب إزالة النجاسة، وكيفية إزالتها وتطهير محلها، وبيان ما يعفى عنه منها.

الثانية: في بيان جنس النجاسة التي تجب إزالتها.

والمراد هنا: النجاسة الحكمية، وهي التي تقع على محل طاهر، فينجس بها، وأما النجاسة العينية أو الحقيقية فهي أعيان مستقذرة شرعاً لا تصح الصلاة معها في الجملة، كالبول والغائط والدم، ونحو ذلك، وهذه لا بحث فيها؛ لأنه لا يمكن تطهيرها في ذاتها؛ لأن عينها نجسة.

والأصل في الأعيان: الطهارة، فما ثبت شرعاً أنه نجس فهو نجس، وإلا أخذ بالأصل.

يقول الشوكاني: (الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله تعالى بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة)

(1)

.

(1)

"الدراري المضيَّة"(1/ 19، 20).

ص: 104

‌نجاسة الخمر

24/ 1 - عَنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ؟ قَالَ: «لَا» . أَخْرَجَه مُسْلِمٌ.

غرض المؤلف رحمه الله من إيراد هذا الحديث في هذا الباب بيان نجاسة الخمر، ومن قبله فعل ذلك ابن دقيق العيد في «الإلمام» ، وابن عبد الهادي في «المحرر» ، وإلا فالمحدثون يذكرونه في كتاب «الأشربة» ، كما فعل مسلم والترمذي، وكذا فعل المجد ابن تيمية في «المنتقى» وغيرهم، لكن أورده المصنف أخذاً برأي الجمهور - كما سيأتي - وهو أن الخمر نجسة.

والكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم (1983) في «الأشربة» من طريق سفيان - هو الثوري - عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في «البيوع» (1294)، وقال:(حديث حسن صحيح)، وأخرجه أبو داود في «الأشربة» (3675) بهذا الإسناد، ولفظه أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، قال:«أهرقها» ، قال: أفلا أجعلها خلاًّ؟ قال: «لا» .

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سئل عن الخمر) الخمر: ما أسكر العقل من عصير كل شيء أو نقيعه، سواء كان من العنب أو التمر أو غيرهما، وقد يكون السائل أبا طلحة كما في رواية أبي داود، وقد يكون غيره.

ص: 105

قوله: (تتخذ خلاًّ) الضمير يعود على الخمر، وهي مؤنثة، وقد تذكّر، والخَلُّ: بفتح الخاء وتشديد اللام، هو ما حَمُض من عصير العنب ونحوه، والظاهر أن هذا السؤال كان بعد تحريم الخمر.

والمراد باتخاذها خلاًّ هو علاجها حتى تصير خلاًّ بعدما تشتد وتقذف الزبد، وذلك بوضع شيء فيها، كبصل أو خبز أو خميرة أو حجر ونحو ذلك، أو ينقلها من الظل إلى الشمس أو بالعكس، أو يخلطها بالخل أو غير ذلك من طرق تخليلها.

الوجه الثالث: تقدم أن المؤلف ساق هذا الحديث في باب النجاسات لبيان نجاسة الخمر، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين:

الأول: أن الخمر نجسة باشتدادها وإسكارها، فإن النجاسة هي القذارة، وهي بشدتها صارت قذرة يجب اجتنابها، فإذا أصابت البدن أو الثوب أو الإناء وجب غسله للنجاسة، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وهو مذهب الظاهرية

(1)

، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي

(3)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع.

الثاني: أن الخمر طاهرة، ونسبه القرطبي إلى ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، والليث بن سعد، والمزني

(4)

، وهو قول داود الظاهري وجماعة من الفقهاء، واختار هذا القول الصنعاني

(5)

والشوكاني

(6)

، وأحمد شاكر

(7)

.

استدل الجمهور على نجاستها بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

(1)

"شرح فتح القدير"(9/ 28)، "نهاية المحتاج"(1/ 217)، "المبدع"(1/ 320)، "الخرشي على مختصر خليل"(1/ 84)، "المحلى"(1/ 191).

(2)

"الفتاوى"(34/ 204).

(3)

"أضواء البيان"(2/ 127).

(4)

"الجامع لأحكام القرآن"(6/ 288، 289)، "المجموع"(2/ 563).

(5)

"سبل السلام"(1/ 62).

(6)

"السيل الجرار"(1/ 35).

(7)

تعليقه على "المحلى"(1/ 192).

ص: 106

ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: أن الله تعالى سمى الخمر رجساً، والرجس يقع على الشيء المستقذر النجس، والنجس حرام، وقد سمى الله تعالى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجساً.

الثاني: أن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ} ، وهذا يفيد اجتناب الخمر من كل وجه، فلا يجوز شربها ولا بيعها ولا تخليلها ولا المداواة بها ولا غير ذلك.

كما استدلوا بحديث أبي ثعلبة المتقدم في حكم أواني أهل الكتاب، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا ثعلبة الخشني وقومه بغسل أواني أهل الكتاب التي يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمر، وأن لا يستعملوها إلا إذا لم يجدوا غيرها، بعد أن يغسلوها، والأمر بغسلها دليل نجاستها، ولو كانت طاهرة لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بغسلها.

واستدل القائلون بطهارتها بما يلي:

1 -

حديث أنس رضي الله عنه أن الخمر لما حرمت خرج الناس وأراقوها في الأسواق

(1)

، ووجه الدلالة: أن الصحابة أراقوا الخمر في طرقات المدينة، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولو كانت نجسة لنهاهم عن ذلك، كما نهى عن التخلي في الطرق.

2 -

أن الأصل في الأشياء الطهارة، حتى يقوم دليل النجاسة، ولم يَروا في الأدلة التي ساقها القائلون بالنجاسة ما يوجب الانتقال عن هذا الأصل، لأنها أدلة غير صريحة في المراد.

والذي يظهر - والله أعلم - القول بنجاسة الخمر، لقوة أدلة القائلين بذلك، ولا سيما حديث أبي ثعلبة، فإنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأواني التي يطبخ فيها الخنزير والأواني التي يشرب فيها الخمر فكان الجواب لهما معاً:«إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا» ، ولأن القول بنجاستها

(1)

أخرجه البخاري (2464).

ص: 107

مما يعين على إتلافها وعدم إبقائها، بخلاف ما لو قيل بطهارتها، فإنه قد يُتساهل في إبقائها والابتعاد عنها.

وأما من قال بطهارتها فليس له دليل سوى إراقة الخمر في شوارع المدينة، وهذا لا ينهض دليلاً على الطهارة؛ لأنه لم يكن للصحابة رضي الله عنهم مجارٍ تحت الأرض لتصريف الفضلات، وإخراجها خارج المدينة فيه بعض الحرج، ولأن الخمر التي أريقت ليست من الكثرة بمكان حتى تعم جميع الطرق، بحيث لا يبقى للمارة طريق يمشون فيه، ثم إن الطرق التي أريقت فيها الخمر ليست مواضع للصلاة، بل هي مواضع للاستطراق، وعلى فرض أنه يشق الاحتراز منها فربما وطئها المار، فنقول: إذا وطئها فإن رجله أو نعله يطهره ما بعده من الأرض الطاهرة - كما ثبت في السنة - بل قد يقال: إن هذا الدليل دليل على النجاسة؛ لأن الطاهر لا يراق في الشوارع، وإنما ينتفع به في أي وجه من وجوه الانتفاع.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل بفعل فاعل، بل تبقى على نجاستها.

ووجه الدلالة من الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله عن حكم اتخاذ الخمر خلاًّ بالنفي، وهذا دليل على تحريمه. ولأنه وجبت إراقتها، فترك إراقتها مع تخليلها معصية لا يترتب عليها طهارة خَلِّها، فيكون عدم جواز تخليلها من باب سدّ الذريعة، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بعدم جواز تخليل خمر الأيتام - كما تقدم في رواية أبي داود - ولو كان ذلك جائزاً لكان اليتيم أحوج إلى التخليل؛ لأن مال اليتيم أولى الأموال بالحفظ والتثمير والرعاية، لكن لو تخللت بنفسها بدون فعل فاعل، فالذي عليه جمهور أهل العلم أنه لا حرج فيها؛ لأنه زال شرها بزوال ما فيها من المسكر، والخل مباح، فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأُدْمَ، فقالوا: ما عندنا إلا خلّ، فدعا به، فجعل يأكل به ويقول:«نِعم الأُدْمُ الخَلُّ، نِعم الأُدْمُ الخَلُّ»

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (2052).

ص: 108

‌نجاسة الحمر الأهلية

25/ 2 - وعَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى:«إنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَإنَّهَا رِجْسٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع، منها: كتاب «الصيد والذبائح» ، باب «لحوم الحمر الأنسية» (5528)، ومسلم كذلك (1940) من طريق محمد بن سيرين، عن أنس رضي الله عنه، وزاد مسلم:«من عمل الشيطان» ، واللفظ المذكور قريب من لفظ البخاري، إلا أنه لم يذكر اسم المنادي، وإنما ورد ذكره عند مسلم.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لما كان يوم خيبر) أي: غزوة خيبر، وهي في أواخر المحرم سنة سبع، ونسبه ابن القيم

(1)

إلى الجمهور، وخيبر بلدة تبعد عن المدينة حوالي مائة وستين كيلاً، ومعناها بلسان اليهود: الحصن، وهي اسم لحصون ومزارع لليهود.

و (يوم) مرفوع على أنه فاعل لـ (كان) التامة.

قوله: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة) هو زيد بن سهل بن الأسود بن

(1)

"زاد المعاد"(3/ 316).

ص: 109

حرام بن عمرو النجاري الأنصاري، مشهور بكنيته، كان من فضلاء الصحابة، وهو زوج أم سليم، والدة أنس، وقد أخرج الإمام أحمد من طريق ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَصَوْتُ أبي طلحة أشد على المشركين من فئة»)

(1)

، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه من طريق علي بن جُدعان، عن أنس، ولفظه:«لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة» وإسناده ضعيف، لضعف علي بن جُدعان، لكن تابعه ثابت البناني كما سلف، مات أبو طلحة رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين

(2)

.

قوله: (عن لحوم الحمر الأهلية) الحمر: بضمتين جمع حمار، والأهلية: نسبة إلى الأهل، أي: الحيوان الأليف، احترازاً من الحمر الوحشية؛ لأنها حلال.

قوله: (فإنها رجس) جملة تعليلية، والرجس: بكسر الراء وسكون الجيم: كل شيء يستقذر، كما تقدم.

والضمير (فإنها) يحتمل عوده على الحمر، فيكون عرقها وريقها ودمع عينيها وما يخرج من أنفها نجساً، ويحتمل عوده على اللحم الذي في القدور فيكون اللحم نجساً، وما تقدم يكون طاهراً.

الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية النداء لبيان المهمات من الأحكام وغيرها، وجواز أن يكون ذلك بواسطة مبلغ يكون موثوقاً به، أما غير الثقة فلا يجوز.

ويستفاد منه جواز اتخاذ المترجم، الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى، بشرط أن يكون أميناً عارفاً باللغتين، لئلا يقع في الخطأ أو يحرّف الكلام عن مواضعه.

الوجه الرابع: جواز جمع اسم الله تعالى مع غيره في ضمير واحد، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «

أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما

»

(3)

.

(1)

"المسند"(20/ 375).

(2)

"الإصابة"(4/ 55).

(3)

أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43).

ص: 110

وأما ما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى»

(1)

، فأجيب عنه بأجوبة منها:

الأول: وهو المشهور أن الإنكار على هذا الخطيب؛ لأن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات، وثَنَّى الضمير في حديث الباب؛ لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما تعليم حكم، فكلما قلَّ لفظه كان أقرب إلى حفظه، ذكره النووي

(2)

.

الثاني: أنه ثنى الضمير هنا إيماءً إلى أن ما نهى الله عنه فقد نهى رسوله عنه، وكذا العكس فهما متلازمان، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، ذكره في شرح كتاب «التوحيد»

(3)

، ونسبه للبيضاوي وغيره.

الثالث: أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فيجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى، وذلك ممتنع على غيره؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية، بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، ذكره السيوطي ونسبه للعز بن عبد السلام

(4)

، وقد أشار القرطبي إلى ذلك

(5)

.

الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وأن لحمها ودمها وبولها وروثها كله نجس، لقوله:«ينهيانكم» وقوله: «فإنها رجس» ، والأصل في النهي التحريم، والأصل في الرجس - وهو القذر - وجوب الاجتناب.

(1)

أخرجه مسلم (870).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(5/ 409).

(3)

"تيسير العزيز الحميد" ص (478).

(4)

"شرح السيوطي على سنن النسائي"(6/ 92).

(5)

"المفهم"(2/ 511).

ص: 111

وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في بدنه وعرقه وسؤره وريقه ونحو ذلك، على قولين:

الأول: أنها نجسة، فلو شرب حمار من ماء وبقي بعد شربه شيء فهو نجس، وكذا عرقه وما يسيل من أنفه. وهذا مذهب الإمام أحمد، ودليله حديث الباب، ووجه الدلالة: أنه إذا كان الحمار الأهلي نجساً فإن سؤره وما ذكر يكون نجساً.

القول الثاني: أنها طاهرة، وهذا مذهب الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها الموفق ابن قدامة

(1)

، وصاحب «الإنصاف»

(2)

، واستدلوا بما يأتي:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يركبونها، ولا يخلو ركوبها من عرق، ولو كانت نجسة لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لحاجة الناس إلى هذا البيان.

2 -

أنه لا يمكن التحرز منها لمقتنيها، فأشبهت الهرة المنصوص عليها في قوله صلى الله عليه وسلم:«إنها من الطوافين عليكم» ، فإذا عفي عن الهرة لتطوافها فالحمار من باب أولى، ولا سيما أهل الحمر الذين اعتادوا ركوبها.

وهذا القول هو الراجح - إن شاء الله ـ؛ لقوة مأخذه، وهو الأليق بسماحة الشريعة، وبُعدها عن الحرج والمشقة.

قالوا: وأما ما استدل به القائلون بنجاسة ريقها وعرقها فليس صريحاً في تحريم ما ذكر، فإن معنى (رجس) أي: محرمة، كما في اية:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ} .. } [المائدة: 90]، ويحتمل أن المراد بذلك لحمها الذي كان في قدورهم فإنه نجس؛ لأن ذَبْحَ ما لا يحل أكله لا يطهره الذبح، ولهذا قال ابن القيم:(دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة)

(3)

، والله أعلم.

(1)

"المغني"(1/ 68).

(2)

"الإنصاف"(1/ 342).

(3)

انظر: "بدائع الفوائد"(271 - 272).

ص: 112

‌طهارة لعاب الإبل

26/ 3 - عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، وَهُوَ عَلَى رَاحِلتِهِ، وَلُعَابُها يَسِيلُ عَلَى كَتِفي. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عمرو بن خارجة بن المُنْتَفِق الأسدي، عداده في أهل الشام، روى عنه عبد الرحمن بن غَنْم، وشهر بن حوشب

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (29/ 212)، والترمذي (2121) من طريق قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وفي هذا السند ضعف، من أجل شهر بن حوشب، قال في «التقريب»:(صدوق كثير الإرسال والأوهام)، وأخرجه النسائي (6/ 247) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قتادة، عن عمرو بن خارجة.

والحديث له طرق وشواهد، ولعل تصحيح الترمذي له من أجل شواهده الكثيرة، ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال:(إني لَتحتَ ناقةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل عليَّ لعابها، فسمعته يقول .. الحديث)

(2)

.

(1)

"الإصابة"(7/ 104).

(2)

أخرجه ابن ماجه (2714)، والدارقطني (4/ 70)، والبيهقي (6/ 215) وقال =

ص: 113

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (بمنى) بكسر الميم، اسم مكان من مشاعر الحج، سمي بذلك لأنه تُمنى فيه دماء الهدايا، أي: تُراق بالذبح والنحر.

قوله: (وهو على راحلته) جملة حالية، والراحلة: المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرحل، يقال: رحلت البعير، أي: شددت عليه رحله، وهو كل شيء يعد للرحيل، من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحِلْسٍ ورَسَنٍ

قوله: (ولعابها) اللعاب: بضم اللام ما سال من الفم، يقال: لَعَبَ يَلْعَبُ - بفتحتين - سال لعابه من فمه، ولعاب النحل: العسل.

قوله: (على كتفي) يحتمل الإفراد والتثنية، والكتف: بفتح الكاف وكسر التاء، هو عظم عريض خلف المنكب، وعند أحمد في إحدى رواياته، والترمذي:(يسيل بين كتفيَّ) بالتثنية.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للخطيب أن يكون على مكانٍ عالٍ كمنبر وكرسي ونحوهما؛ لأنه أظهر لصوته، وأبلغ في الإعلام، وأهيب للسامعين، وأسهل للسؤال.

الوجه الخامس: الحديث دليل على حرصه صلى الله عليه وسلم على تبليغ الأحكام للأمة، وذلك بالخطبة، وأنه ينبغي لمن ولي أمر الحجاج أن يخطب فيهم بمنى، ليعلمهم بقية أحكام المناسك من الرمي والنحر والحلق والطواف.

الوجه السادس: فيه دليل على جواز الخطبة والموعظة على الراحلة وأن هذا مباح لوجود المصلحة، ولأنه لا يتكرر ولا يطول، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عشية عرفة على راحلته

(1)

، وأما ما ورد من النهي عن ذلك فهو محمول على ما إذا أجحف بالدابة، وذلك بأن يركبها لا لمعنى يوجبه، وإنما ليستوطن

= ابن التركماني: (هذا سند جيد)، وقال البوصيري في "الزوائد" (2/ 368):(وهذا إسناد صحيح ورجاله ثقات)، وقد تكلم الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 87) عن الحديث، وذكر شواهده وخرّجها.

(1)

أخرجه البخاري (1661)، ومسلم (1123).

ص: 114

ظهرها ويتخذه مقعداً

(1)

، وقد ورد من طريق يحيى بن عمرو السيباني - بالسين المهملة - عن أبي مريم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجتكم»

(2)

.

الوجه السابع: الحديث دليل على طهارة لعاب البعير وأنه ليس بنجس؛ لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى اللعاب يسيل على كتف عمرو بن خارجة رضي الله عنه ولم يأمره بغسله، وإقراره على الشيء من سنته، ولو فُرض أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم فإن الله تعالى يعلم، ولو كان نجساً لم يقره الله عليه، فإقراره عليه دليل على طهارته.

ومثل البعير في ذلك سائر بهيمة الأنعام من البقر والغنم وغيرهما من كل حيوان مباح الأكل، فلعابه وبوله وروثه وسائر فضلاته كلها طاهرة.

ومما يدل على ذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وفيه:(قال: أُصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم»، قال: أُصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا»)

(3)

، فأذن له صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مرابض الغنم، ومرابضها لا تخلو من بولها وروثها، وذكر النووي: أن هذا متفق عليه بين العلماء

(4)

.

وأما النهي عن مبارك الإبل فليس من أجل النجاسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها

(5)

، وإنما لما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: «لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين

»

(6)

الحديث).

الوجه الثامن: فيه دليل على تيقظ الصحابي وحفظه للحديث، وذلك بنقل الحالة التي قارنت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(1)

"تهذيب مختصر السنن"(3/ 394)، "فتح الباري"(3/ 513).

(2)

أخرجه أبو داود (2567)، ويحيى بن عمرو ثقة، وأبو مريم: قال عنه العجلي في "الثقات" ص (510): (شامي تابعي ثقة) فالحديث صحيح، كما ذكر الألباني في "الصحيحة" رقم (22).

(3)

أخرجه مسلم (360).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 289).

(5)

أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671).

(6)

أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494)، وأحمد (30/ 509 - 510)، وإسناده صحيح.

ص: 115

بيان‌

‌ كيفية إزالة المني من الثوب

27/ 4 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ في ذلِكَ الثَّوْبِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فيه. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

28/ 5 - وَلِمُسْلِمٍ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكاً، فَيُصَلِّي فِيه.

وَفِي لَفْظٍ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يَابِساً بِظُفْرِي مِنْ ثَوْبِهِ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد موت خديجة رضي الله عنها، وقد ورد عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي ابنة ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعاً

(1)

، وكانت أحبَّ نسائه إليه، قال فيها صلى الله عليه وسلم:«فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»

(2)

، وقال فيها لأم سلمة:«والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها»

(3)

، وما توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا في يومها وفي بيتها وقد أسندته إلى صدرها، ولم تلد للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، على الصواب، وسألته أن

(1)

أخرجه البخاري (5133)، ومسلم (2438).

(2)

أخرجه البخاري (3770)، ومسلم (2446).

(3)

أخرجه البخاري (3775).

ص: 116

تكتني، فقال:«اكتني بابن أختك» ، فاكتنت أم عبد الله. وأخرج ابن حبان في «صحيحه» ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كناها بذلك. كانت على جانب كبير من الفضل والعلم والعقل والفهم، وما توفيت حتى نشرت في الأمة علماً كثيراً، وكانت وفاتها في المدينة في رمضان سنة ثمان وخمسين

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما الأول فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» (229) باب «غسل المني وفركه» ، ومسلم في «الطهارة» (289) من طريق سليمان بن يسار قال:(أخبرتني عائشة رضي الله عنها .. )، واللفظ المذكور لمسلم، وفيه تصريح سليمان بن يسار بالسماع من عائشة رضي الله عنها، ومثله في سياق البخاري، وفيه رد على من قال بأن سليمان لم يسمع من عائشة.

وأما الحديث الثاني فقد أخرجه مسلم (288) من طريق علقمة والأسود: (أن رجلاً نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه .. ) الحديث.

واللفظ الثاني أخرجه مسلم (290) من طريق عبد الله بن شهاب الخولاني قال: (كنت نازلاً على عائشة فاحتلمت في ثوبيَّ، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة: فأخبرتها فبعثت إليّ عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري).

وقد تبين من ذلك أن البخاري لم يخرج حديث الفرك، ولكنه أشار إليه في الترجمة على عادته، ولعل هذا هو غرض الحافظ من ذكر رواية مسلم.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (كان يغسل .. ) صيغة المضارع بعد لفظة (كان) تدل على كثرة

(1)

"الاستيعاب"(13/ 84)، "الإصابة"(13/ 39)، "فتح الباري"(7/ 107).

ص: 117

التكرار والمداومة على الفعل، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.

قوله: (المني) من الرجل ماء أبيض ثخين، يتدفق في خروجه دفقة بعد دفقة، ويخرج بشهوة، ويعقبه فتور وارتخاء؛ لأن الشهوة تسكن بخروجه، والمني هو أحد أربعة أشياء تخرج من قُبل الإنسان.

الثاني: المذي: وهو ماء رقيق لزج يخرج عند الشهوة والانتشار، كما يحصل عند الملاعبة وتذكر الجماع، وسيأتي - إن شاء الله - الكلام عليه في أحاديث «نواقض الوضوء» .

الثالث: الودي: بفتح الواو وسكون الدال، وهو ماء أبيض كَدِرٌ ثخين يشبه المني في الثخانة، ويخالفه في الكدرة، لا رائحة له، يخرج عقب البول وهو في الشتاء أكثر منه في الصيف، وهو نجس إجماعاً.

الرابع: البول: وهو سائل تفصله الكليتان عن الدم، لتخرجه من الجسم، ويحوي ما يزيد على حاجه الإنسان من الماء والأملاح، فيجتمع في المثانة حتى تدفعه خارج الجسم.

قوله: (أفركه) بضم الراء، ماضيه فركته عن الثوب فركاً، من باب قتل، وهو أن تحكه بيدك حتى يتفتت ويتقشر ما علق به.

قوله: (فركاً) مصدر للتأكيد، والغرض منه نفي احتمال المجاز، لئلا يحتمل أن المراد فركه مع الغسل، فلما جيء بالمصدر تبين أن المراد فركه لا غسله معه.

قوله: (فيصلي فيه) الفاء للتعقيب، وهذا يؤكد الفرك وأنه لم يقع بين الفرك والصلاة غسل، بل ورد عند ابن خزيمة

(1)

: (أنها كانت تَحُتُّ المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي).

قوله: (أحكه يابساً) من باب (قتل) أيضاً، تقول: حككت الشيء حكاً: قشرته وفركته ليذهب أثره، و (يابساً) حال من المفعول؛ أي: جافاً لا رطوبة فيه.

(1)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 147).

ص: 118

الوجه الرابع: الحديث دليل على طهارة مني الآدمي، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه غسل رطبه وفرك يابسه، وهذا دليل على طهارته، وعدم نجاسته؛ لأن فرك الثوب منه يابساً وصلاته فيه من غير غسل دليل على طهارته، وهذا المشهور عند الحنابلة والشافعية

(1)

.

وقالت الحنفية والمالكية: إن مني الآدمي نجس، ولا بد في طهارته من الماء، سواء أكان يابساً أم رطباً، وقالت الحنفية: رطبه لا بد فيه من الماء، ويابسه يطهره الفرك

(2)

، واستدلوا بحديث عائشة المذكور، وفي رواية:(كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه).

ووجه الدلالة: أن الغسل لا يكون إلا عن نجس، والمقرر في الأصول، أن المضارع بعد لفظة (كان) يدل على المداومة والإكثار من ذلك الفعل - كما تقدم ـ، وهذا يشعر بتحتم الغسل.

وأجابوا عن أحاديث فرك المني بأجوبة غير ناهضة، كقولهم: إنه ليس من لازم الفرك الطهارة، وقولهم: إن الثوب الذي كانت عائشة تفركه هو ثوب النوم، وليس ثوب الصلاة، إلى غير ذلك مما ظاهره التكلف والتعسف.

كما استدلوا بأن المني خارج من أحد السبيلين، وكل خارج من سبيل فهو نجس.

قالت الحنفية: وكان القياس يقتضي غسل يابسه - أيضاً - لكونه نجساً، ولكنه ترك للأحاديث الواردة في فركه دون غسله.

والراجح أن المني طاهر لقوة دليله، فإنه لو كان نجساً لكان القياس وجوب غسله، كما تغسل سائر النجاسات، كالدم النجس وغيره دون الاكتفاء بفركه؛ لأن النجس لا يزيله من الثوب الفرك دون الغسل.

(1)

"مغني المحتاج"(1/ 89 - 80)، "المبدع"(1/ 338)، "الإنصاف"(1/ 340).

(2)

"بدائع الصنائع"(1/ 60 - 61)، "حاشية الدسوقي"(1/ 51 - 52).

ص: 119

ولا تعارض بين حديث الغسل وحديث الفرك، لإمكان الجمع، وذلك بحمل الغسل على الاستحباب والتنظيف، لا على الوجوب جمعاً بين الأدلة

(1)

؛ لأن الغسل لا يدل على نجاسة الشيء، فإنه لا ملازمة بين الغسل والتنجيس، لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين والدهن وغيرها مما يصيب البدن أو الثوب، ثم إنه لم يثبت أمر بغسل المني، ومطلق الفعل لا يدل على شيء زائد على الجواز.

ومما يؤيد ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بِعِرْق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابساً، ثم يصلي فيه)

(2)

، وهذا صريح في طهارة المني لا يحتمل تأويلاً

(3)

، ويفيد مع ما قبله أن المشروع إزالة أثر المني وعدم تركه على الثوب حتى على القول بطهارته.

ومما يؤيده - أيضاً - ما ورد عن إسحاق بن يوسف الأزرق قال: (حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال: «إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة»)

(4)

.

وأما قولهم: بأنه خارج من سبيل، وكل خارج من سبيل فهو نجس، فهذا استدلال بمحل النزاع على محل النزاع، فلا يقبل، ثم إن قياسه على كل خارج بجامع الاشتراك في المخرج منقوض بالفم، فإنه مخرج النخامة

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(1/ 78)، "فتح الباري"(1/ 332).

(2)

أخرجه ابن خزيمة (1/ 149)، وإسناده حسن.

(3)

"بدائع الفوائد"(3/ 123).

(4)

أخرجه الدارقطني (1/ 124). وقال: (لم يرفعه غير إسحاق الأزرق)، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 418) عن ابن عباس موقوفًا، وقال:(هذا هو الصحيح)، لكن قال ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 105):(وإسحاق إمام مخرج له في الصحيحين، ورفعه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ومن وقفه لم يحفظ). وهكذا قال المجد ابن تيمية في "المنتقى"، لكن تعقبه حفيده شيخ الإسلام ابن تيمية، فراجع "الفتاوى"(21/ 590).

ص: 120

والبصاق الطاهرين، والقيء النجس - على قول الجمهور ـ، وكذا الدبر مخرج الريح الطاهر، والغائط النجس، وكون المني يخرج من مخرج البول لا يلزم منه النجاسة؛ لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر.

الوجه الخامس: الحديث دليل على فضل عائشة رضي الله عنها وخدمتها للنبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ من ذلك الحث على خدمة المرأة زوجها في غسل ثيابه وتنظيف منزله، وطبخ طعامه، ونحو ذلك مما جرت به العادة، وهو من حسن العشرة وجميل الصحبة، والله أعلم.

ص: 121

‌كيفية تطهير الثوب من بول الغلام والجارية

29/ 6 - عَنْ أَبي السَّمْحِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، ويُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو السمح، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال له: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إن اسمه إياد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً واحداً، وروى عنه مُحِلُّ بن خليفة الطائي، قال ابن عبد البر: يقال: (إنه ضلَّ ولا يُدرى أين مات)، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

الحديث أخرجه أبو داود (376) في كتاب «الطهارة» ، باب «بول الصبي يصيب الثوب» من طريق محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال:(كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال: «ولني قفاك»، فأوليه قفاي، فأستره به، فأُتي بحسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»)، وأخرجه النسائي مفرقاً في موضعين، نصفه الأول في باب «ذكر الاستتار عند الاغتسال» (224)(1/ 126) ونصفه الثاني في باب «بول الجارية» (304)(1/ 158)، فظن بعض العلماء أن لأبي السمح حديثين، وإنما هما حديث واحد بإسناد واحد، فرَّقه النسائي، كما ذكر الحافظ في «تهذيب التهذيب» في ترجمة «أبي السمح» .

(1)

"الاستيعاب"(11/ 311)، "الإصابة"(11/ 179)، "تهذيب التهذيب"(12/ 131).

ص: 122

وأخرج - أيضاً - الحاكم (1/ 166) نصفه الثاني وصححه، ووافقه الذهبي، ونقل البيهقي عن البخاري أنه قال:(حديث أبي السمح هذا حديث حسن)

(1)

.

والحديث له شواهد منها: حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرضيع: «ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية» . قال قتادة: هذا إذا لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعاً

(2)

.

ومنها: حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت: (كان الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فبال عليه، فقلت: البس ثوباً وأعطني إزارك حتى أغسله، قال:«إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر»

(3)

.

وورد في بول الغلام خاصة حديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله

(4)

، ومن هذا يتبين أن البخاري ومسلماً لم يخرجا في صحيحيهما أحاديث التفرقة بين بول الغلام والجارية، إلا أن البخاري استحسن حديث أبي السمح، كما تقدم.

(1)

"السنن الكبرى"(2/ 416)، واستعمال مصطلح (الحسن) عند البخاري موضع خلاف بين أهل العلم في معناه، وقد حقق بعض الباحثين بعد الاستقراء والدراسة لما حسنه البخاري أو نقله عن الترمذي أن ما صرح البخاري بتحسينه فالمراد به: الحديث المحفوظ الثابت الذي يرويه الثقة أو الراوي المتكلم فيه، إذا علم أن ذلك الحديث من صحيح حديثه الذي حفظه وأتقن ضبطه، أما ما حكم بصيغة (أحسن) فإن المراد يتضح من سياق الكلام، والبخاري استعملها مرة بمعنى أقل الضعيف، ومرة بمعنى الحديث الأرجح، أي: الأشبه بالصواب، وأما ما لم يصرح البخاري بتحسينه، ولكن الترمذي نقل عنه ذلك، فهذا مما نقله الترمذي بحسب فهمه، ويحتاج إلى تأمل؛ لأنه يطرقه احتمالات عديدة. انظر:"الحديث الحسن" للدكتور: خالد الدريس (2/ 686).

(2)

أخرجه أبو داود (378)، والترمذي (2/ 509)، وابن ماجه (525)، وأحمد (2/ 7، 151)، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

(3)

أخرجه أبو داود (375)، وابن ماجه (522)، وأخرجه أحمد (44/ 445 - 446) بأسانيد ثلاثة عنها، اثنان منها صحيحان، والثالث حسن، وبه أخرجه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم (1/ 166) ووافقه الذهبي، قاله الألباني في تخريج "المشكاة"(1/ 156)، وقال البيهقي في "السنن" (21/ 416):(والأحاديث المسندة في الفرق بين بول الغلام والجارية في هذا الباب إذا ضم بعضها إلى بعض قويت .. ).

(4)

أخرجه البخاري (223)، ومسلم (287).

ص: 123

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (الجارية) هي الفتية من النساء، سميت بذلك لخفتها، والمراد هنا: الصغيرة التي في زمن الرضاع.

قوله: (ويرش) أي: يصب عليه الماء بحيث يعم مكان البول، وفي حديث علي رضي الله عنه المتقدم (يُنضح) وفي حديث أم قيس:(فدعا بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله)، والفرق بين الغسل والنضح، أن الغسل أن يغمره الماء وينزل عنه، وفي النضح لا يشترط أن ينزل عنه، بل يكاثره بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره.

قوله: (الغلام) هو الابن الصغير، من الولادة إلى البلوغ، وقد يطلق على ما بعد البلوغ مجازاً باعتبار ما كان عليه، والمراد به هنا: زمن الرضاع، لما جاء في حديث علي رضي الله عنه عند الترمذي بلفظ:(بول الغلام الرضيع .. ).

الوجه الرابع: الحديث دليل على التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، وأنه يجب فيهما استعمال الماء، وإنما التفرقة في كيفية الاستعمال، وهو أن بول الغلام يكفي رشه بالماء رشاً يعم مكان البول، ولا يحتاج إلى غسل ولا عصر، وقد ورد في حديث أم قيس - عند مسلم ـ:(فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً)، وأما بول الجارية فيغسل كغيره.

الوجه الخامس: أن هذا الحكم - وهو نضحه ورشه - مقيد بما إذا لم يأكل الطعام كما قيده به الراوي، وهو قتادة رحمه الله، وفي حديث أم قيس:(لم يأكل الطعام)، وعند مسلم:(لم يبلغ أن يأكل الطعام)، ومعنى:(لم يأكل الطعام)، أي: لم يكن الطعام قوتاً له لصغره، وإنما قوته اللبن سواء أكان لبن ادمية أم بهيمة أم كان حليباً مجففاً - كما هو الآن - لأن المعنى واحد، وليس المراد أنه لم يدخل جوفه شيء قط؛ لأنه يسقى الأدوية والسكر ويحنك حين الولادة، فإذا تغذى بالطعام صار بوله كبول الكبير، ولو كان أحياناً يشرب لبناً.

الوجه السادس: قال ابن القيم: (إن التفرقة بين بول الغلام والجارية من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها.

ص: 124

والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه:

أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكور، فتعم البلوى ببوله، فيشق عليه غسله.

والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقاً هاهنا وهاهنا، فيشق غسل ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى.

الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر، وسببه حرارة الذكر، ورطوبة الأنثى، فالحرارة تخفف من نتن البول، وتذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة، وهذه معانٍ مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق)

(1)

.

وقد ذكر ابن ماجه عن أبي اليمان المصري قال: (سألت الشافعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم «يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية» والماءان جميعاً واحد، قال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال لي: فهمت؟ أو قال: لقِنْتَ؟ قلت: لا، قال: إن الله تعالى لما خلق ادم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال لي: فهمتَ؟ قلت: نعم، قال لي: نفعك الله به)

(2)

.

قال ابن الملقِّن: (وهذا عزيز حسن، لا يعدل عنه إلى غيره، والعجب أن أصحابنا - أي: الشافعية - أهملوا ذلك في كتبهم، وهو قول إمامهم .. )

(3)

.

الوجه السابع: ليس في تجويز النضح من بول الغلام دليل على طهارته، بل هو نجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، قال النووي:(وقد نقل بعض أصحابنا الإجماع على نجاسته، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري)

(4)

.

الوجه الثامن: الحديث يدل بمفهومه على أن عَذِرَةَ الصغير يستوي فيها الغلام والجارية، فلا بد فيها من الغسل كبقية النجاسات؛ لأنهما سواء في جميع الأحوال، لكن فرقت السنة بينهما في البول، فبقي ما عداه - وهو العذرة - على الأصل، والله أعلم.

(1)

"إعلام الموقعين"(2/ 59).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 175).

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(1/ 686).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 199).

ص: 125

‌كيفية تطهير الثوب من دم الحيض

30/ 7 - عَنْ أَسْماءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ - فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ ـ: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أسلمت قديماً في مكة بعد إسلام سبعة عشر إنساناً، وتزوجها الزبير بن العوام، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فوضعته بقباء عام الهجرة - على الأصح - وكانت تلقب بذات النطاقين، وقد أخرج ابن سعد بسنده عن أسماء قالت: (صنعت سُفْرَةً

(1)

للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، فلم نجد لسفرته، ولا لسقائه ما نربطهما به فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً أربطه به إلا نطاقي، قال: فشقيه اثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء، وبالآخر السفرة، ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين)

(2)

، قال الحافظ:(وسنده صحيح)، روت أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابناها عبد الله، وعروة ابنا الزبير، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير، وغيرهم.

عاشت أسماء رضي الله عنها إلى أن ولي ابنها عبد الله بن الزبير الخلافة، ثم إلى أن قتل سنة ثلاث وسبعين، وماتت بعده بقليل، قال هشام بن عروة عن أبيه:

(1)

السفرة: طعام يصنع للمسافر، وتطلق على الجلدة التي يوعى فيها الطعام مجازًا.

(2)

"الطبقات"(8/ 250).

ص: 126

(بلغت أسماء مائة سنة، لم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل، رضي الله عنها

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «غسل الدم» (227)، وفي كتاب «الحيض» باب «غسل دم المحيض» (307) والترجمة الأولى أعم من الثانية، كما ذكر الحافظ

(2)

، وأخرجه مسلم في «الطهارة» (291)، كلاهما من طريق فاطمة بنت المنذر، عن جدتها أسماء رضي الله عنها به، واللفظ لمسلم.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (في دم الحيض) هو دم طبيعي يعتاد الأنثى في أوقات معلومة، عند بلوغها وقابليتها للحمل، وسيأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله.

قوله: (تَحُتُّهُ) بفتح المثناة، وضم المهملة، وتشديد المثناة الفوقانية، من باب قتل، أي: تحكه وتَقْشُره بطرف حجر أو عود، وقد أخرجه ابن خزيمة بلفظ:«فحكيه ثم اقرصيه بالماء» ، وفي لفظ:«فَلْتَحُكَّهُ»

(3)

، والمراد بذلك إزالة عينه، ليهون غسله بالماء.

قوله: (ثم تَقْرُصُهُ بالماء) بفتح المثناة الفوقية، وسكون القاف وضم الراء والصاد المهملتين، من باب نصر ينصر، أي: تدلك الدم بأطراف أصابعها بالماء، ليتحلل بذلك ويخرج ما شربه الثوب منه.

قوله: (ثم تنضحه) بفتح الضاد المعجمة، من باب فتح يفتح، أي: تغسله بالماء، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث عائشة قالت:(كانت إحدانا تحيض ثم تقترص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله، وتنضح على سائره، ثم تصلي فيه)

(4)

، فحديث عائشة هذا يفسر حديث أسماء، وأن النضح يراد به الغسل، فأما

(1)

"الاستيعاب"(12/ 195)، "الإصابة"(6/ 83)(12/ 114)، "تهذيب التهذيب"(12/ 426).

(2)

"فتح الباري"(1/ 410).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 140).

(4)

أخرجه البخاري (308).

ص: 127

نضحها على سائره فهو رش لا غسل، وإنما فعلت ذلك لتطيب نفسها؛ لأنها لم تنضح على مكان فيه دم، وإنما غسلته، والنضح على مكان لا دم فيه دفعاً للوسوسة

(1)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن دم الحيض نجس يجب غسل قليله وكثيره، ونجاسته مجمع عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسله من الثوب قبل أن يصلى فيه، قال ابن بطال:(حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب)

(2)

، وقد استدل به العلماء على نجاسة الدم، قال الشافعي:(وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس، وكذا كل دم غيره)

(3)

. وبوّب عليه البخاري في كتاب «الوضوء» بقوله: «باب غسل الدم»

(4)

، ويُعفى عن يسيره على الرَّاجح من قولي أهل العلم

(5)

.

وأما الخارج من غير السبيلين كدم الرعاف، والسن، والجروح، ونحوها ففيه قولان:

الأول: أنه نجس، فيجب غسله، ويُعفى عن يسيره، كما سيأتي، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، بل نقل غير واحد الإجماع على نجاسته، ومنهم: ابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد، والنووي، والعيني، وغيرهم

(6)

.

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية في «شرح العمدة» قول الإمام أحمد: (إنه لم يختلف المسلمون في الدم) أي: على أنه نجس

(7)

.

كما استدلوا على نجاسته بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا

(1)

"شرح ابن بطال"(1/ 435 - 436).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"الأم"(1/ 85).

(4)

"فتح الباري"(1/ 330).

(5)

انظر: "الشرح الكبير"(2/ 317 - 318)، "تصحيح الفروع"(1/ 254).

(6)

"مراتب الإجماع" ص (19)، "الاستذكار"(3/ 204)، "بداية المجتهد"(1/ 199)، "شرح مسلم"(3/ 204)، "عمدة القارئ"(3/ 18).

(7)

"شرح العمدة"(1/ 105)، "الفروع"(1/ 253).

ص: 128

عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، والرجس يطلق في كلام العرب على الشيء المستقذر، والمراد هنا: الاستقذار الشرعي، وهو النجاسة

(1)

؛ لأن الاستقذار اللغوي لا يفيد بمفرده النجاسة، وكلام الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية، وليس على الحقيقة اللغوية.

القول الثاني: أنه طاهر، عدا دم الحيض، وهذا قول الشوكاني

(2)

، وتبعه على ذلك صدّيق حسن خان

(3)

، ثم الألباني، والشيخ محمد بن عثيمين

(4)

.

واستدلوا بأدلة، منها:

1 -

أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم دليلاً يوجب غسل الدم إلا دم الحيض، مع دعاء الحاجة إلى بيان ما يصيب الإنسان من جروح أو رعاف، ونحوهما، لا سيما والصحابة رضي الله عنهم أهل جهاد، والمجاهد تكثر جراحه، ولو كان الدم نجساً لكانت الحاجة داعية إلى بيان وجوب غسله وإزالة أثره من البدن والثياب.

2 -

قصة الصحابي الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلي في الليل، فمضى في صلاته والدماء تسيل منه، وذلك في غزوة ذات الرقاع

(5)

.

3 -

جاء عدة آثار عن الصحابة رضي الله عنهم ظاهرها طهارة الدم، وأنه لا يجب غسله، ومن ذلك ما رواه محمد بن سيرين، عن يحيى بن الجزار: (أن

(1)

"تفسير الطبري"(12/ 194).

(2)

"الدراري المضيَّة"(1/ 25).

(3)

"الروضة الندية" ص (18).

(4)

"السلسلة الصحيحة"، رقم الحديث (300)، "تمام المنة" ص (50)، "الشرح الممتع"(1/ 374).

(5)

أخرجه مطولًا أبو داود (198)، وأحمد (23/ 51 - 53، 151 - 53 1) من طريق محمد بن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن علقمة بن جابر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وعلَّقه البخاري مختصرًا بصيغة التمريض في كتاب "الوضوء"(1/ 280 "فتح") وسنده ضعيف، لجهالة عقيل بن جابر، وفي متنه نكارة.

ص: 129

ابن مسعود رضي الله عنه صلَّى وعلى بَطْنِهِ فَرْثٌ ودَمٌ من جَزُورٍ نَحَرَهَا فلم يتوضَّأ) وفي لفظ: (فلم يُعِدِ الصلاة)

(1)

.

وعن بكر بن عبد الله المزني قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما عصَرَ بَثْرَةً في وجهه، فخرج شيء من دمه، فَحَكَّهُ بين أصبعيه، ثم صلّى ولم يتوضأ)

(2)

.

وعن عطاء بن السائب قال: (رأيت عبد الله بن أبي أوفى بزَق دماً، ثم صلَّى، ولم يتوضأ)

(3)

.

والقول بطهارة الدم له حظ من النظر، والآية التي استدل بها القائلون بالنجاسة نوقشت من قبل الفريق الآخر من وجهين:

الأول: أن الآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة، بل وردت فيما يحرم أكله، لقوله سبحانه:{عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ، ولا تلازم بين التحريم والنجاسة، فقد يكون الشيء حراماً وهو طاهر كالسموم، وقد يكون طاهراً وهو حرام، كطعام الغير بلا إذنه أو إذن الشارع

(4)

.

الثاني: أن الرجس هنا ليس المراد به النَّجَسَ، بل المراد به الخبيث الذي لا يحل أكله، والرجس قد يراد به النجاسة المعنوية، كما في قوله تعالى:{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة: 95]، وقد يراد به النجاسة الحسية لقيام الدليل، كقوله صلى الله عليه وسلم في الروثة:«إِنَها رِجْس»

(5)

.

فيبقى الاستدلال بالإجماع إن لم يشكل عليه ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم،

(1)

أخرجه عبد الرزاق (1/ 125)، وابن أبي شيبة (1/ 392)، وابن المنذر (2/ 156)، وسنده صحيح.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 138) ومن طريقه البيهقي (1/ 151) بسند صحيح، كما في "فتح الباري"(1/ 282).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (1/ 158)، وابن أبي شيبة (1/ 124)، وابن المنذر (2/ 172) عن الثوري وابن عيينة، عن عطاء، قال الحافظ:(سفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، فالإسناد صحيح). "فتح الباري"(1/ 282).

(4)

انظر: "الفتاوى"(16/ 21، 542).

(5)

أخرجه البخاري (156)، وابن ماجه (314) واللفظ له.

ص: 130

وقد توارد على نقله كثيرون، وما قيل من أن العلماء يتبع بعضهم بعضاً في نقل الإجماع يرده نسبة الإجماع إلى الإمام أحمد، وهو من المتشددين في نقل الإجماع، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم قد يكون محمولاً على اليسير الذي يُعفى عنه.

فيترجح القول بالتطهر من الدم، مع ما في ذلك من الاحتياط وإبراء الذمة، واتِّقاء الشبهات التي مَن اتَّقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه، ويستثنى من ذلك دم الجرح المستمر، لمشقة التحرز منه

(1)

، والله أعلم.

الوجه الخامس: الحديث دليل على وجوب تنظيف الثوب من دم الحيض، وذلك بِحَتِّ يابسه بظفر أو عود أو حجر ونحوها، ليزول جِرْمُهُ، ثم دلكه بالماء، ثم غسله بعد ذلك لتزول بقية النجاسة، ومراعاة هذا الترتيب هو الأمثل في إزالة النجاسة اليابسة.

الوجه السادس: الحديث دليل على جواز صلاة المرأة في ثياب حيضها إذا طهرتها، لقوله:«ثم تصلي فيه» ، وهذا دليل على أنه لا يصلى في الثياب النجسة إنما يصلى في الثياب الطاهرة، وهذا من أقوى الأدلة على وجوب تطهير الثوب للصلاة.

الوجه السابع: استدل بالحديث من قال: إنه لا بد من الماء في إزالة النجاسة، وأن غيره من المائعات لا يقوم مقامه، وهذا قول الشافعية والمالكية والراجح من مذهب الحنابلة

(2)

.

والصواب جواز إزالة النجاسة بكل ما يزيلها من ماء أو غيره، كالخل وماء الورد ونحوهما، وهذا قول الحنفية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتصر له ودافع عنه

(3)

؛ لأن المقصود إزالة النجاسة، وغير الماء يشارك الماء في ذلك، والشرع كما أحال على الماء في تطهير النجاسة أحال على غيره مما يشاركه في التطهير، ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «إذا جاء أحدكم إلى

(1)

انظر: "فتاوى ابن باز"(10/ 403)، "فتاوى ابن عثيمين"(1/ 2671).

(2)

"المجموع"(1/ 92)، "الخرشي على مختصر خليل"(1/ 62)، "الإنصاف"(1/ 309).

(3)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 309)، "مجموع الفتاوى"(21/ 475).

ص: 131

المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما»، وسيأتي إن شاء الله، وقال صلى الله عليه وسلم في ذيل المرأة:«يطهره ما بعده»

(1)

.

وأما حديث الباب فلا دليل فيه على تعيين الماء؛ لأن الشرع نص على الماء؛ لأنه أيسر على الناس وأسهل تناولاً، وليس فيه ما يدل على تعيين الماء، فإن الأمر به في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر به مطلقاً.

وما دام أن إزالة النجاسة من الأمور التي يعقل معناها وليست من الأمور التعبدية، فأيُّ مزيل لها يعتبر كافياً، ولا يتعين الماء، بل ربما كانت المزيلات الأخرى أقوى من الماء في الإزالة، ولا سيما في عصرنا، حيث ظهرت المعقمات والمطهرات الكيماوية التي لا تبقي للنجاسة لوناً ولا طعماً ولا ريحاً، لما لها من الأثر في التطهير والتعقيم، والله أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (383)، وصححه الألباني في "حجاب المرأة المسلمة" ص (37).

ص: 132

‌العفو عن أثر لون دم الحيض

31/ 8 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ خَوْلَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإنْ لَمْ يَذْهَبِ الدَّمُ؟ قَالَ:«يَكْفِيك الْمَاءُ، وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَنَدُهُ ضعِيفٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود بمعناه (365) في كتاب «الطهارة» باب «المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها» من طريق قتيبة بن سعيد قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه

، وقد جاء هذا الحديث في السنن التي رواها عن أبي داود ابن الأعرابي، وأما رواية اللؤلؤي فليس فيها؛ ولذا لم يذكره المنذري في «مختصره» .

وأخرجه أحمد (14/ 371، 503، 504) بهذا الإسناد، وأخرجه البيهقي (2/ 408) من طريق عبد الله بن وهب وعثمان بن صالح، كلاهما عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.

والحديث ضعفه المصنف، والظاهر أن ذلك من أجل ابن لهيعة، فقد ضعفه المحققون من أهل العلم، أمثال أبي حاتم ويحيى بن سعيد وابن مهدي ووكيع وغيرهم. قال ابن معين:(كان ضعيفاً لا يحتج بحديثه)، وقال النسائي:(ليس بثقة)، وقد ساء حفظه بعد احتراق كتبه، لكن روايته إذا حدَّث عنه أحد العبادلة الثلاثة:(عبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ) أمثل من غيرها على قول جماعة من الحفاظ، وهذا الحديث من رواية قتيبة بن سعيد، وهو لم يكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب عبد الله بن وهب، ثم يسمعه من ابن لهيعة، وابن وهب إنما سمع من ابن لهيعة قبل احتراق كتبه، قال أبو داود: (سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة

ص: 133

إلا من كتب ابن أخيه، أو كتب ابن وهب إلا حديث الأعرج)

(1)

، وقد ورد من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة - كما عند البيهقي ـ، فلعله بذلك يقوى

(2)

، على رأي من يقبل رواية القدماء عنه، أما من يرى تضعيفه مطلقاً فإنه يرى أن رواية العبادلة عنه وإن كانت أمثل لكن هذا لا يقتضي قوته والاحتجاج به، ولابن حبان كلام نفيس في حال ابن لهيعة، حيث يقول ما خلاصته: وجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، لما فيها مما ليس من حديثه

(3)

.

وأما نسبة الحديث إلى الترمذي فهي وهم من الحافظ رحمه الله ولهذا عزاه المزي إلى أبي داود، ولم يذكر الترمذي

(4)

، وأخرجه ابن الملقن ولم يذكر الترمذي

(5)

، وكذا فعل الحافظ نفسه في «فتح الباري» و «التلخيص»

(6)

، فإنه عزاه إلى أبي داود، ولم يذكر الترمذي.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قالت خولة) هي بنت يسار، كما عند أبي داود وغيره، وقد ورد الحديث عند الطبراني وسماها خولة بنت حكيم الأنصارية

(7)

لكنه ضعيف؛ لأنه من رواية الوازع بن نافع، وهو منكر الحديث متروك.

قوله: (ولا يضرك أثره) أي: بقية لون الدم بعد الغسل.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يعفى عما بقي من أثر لون دم الحيض بعد الاجتهاد في الغسل، لقوله:«ولا يضرك أثره» ولعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، لأنه من المعلوم أن الغسل قد لا يُذْهِبُ اللون، ثم إن مجرد اللون ليس خبثاً، وإنما الخبث هو عين النجاسة وقد زالت، فيبقى اللون لا أثر له، لكن لا بد من الاجتهاد في إزالة اللون، وهذا

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 329).

(2)

انظر: "الإرواء"(1/ 189).

(3)

انظر: "المجروحين"(1/ 505 - 506).

(4)

"تحفة الأشراف"(10/ 395).

(5)

"البدر المنير"(1/ 59).

(6)

"فتح الباري"(1/ 334)، "التلخيص"(1/ 48).

(7)

"المعجم الكبير"(24/ 241).

ص: 134

غرض المصنف من إيراد حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد حديث أسماء رضي الله عنها؛ لأن الدم مستقذر، وربما نسبها من راه على ثوبها إلى التقصير في إزالته.

الوجه الرابع: ظاهر الحديث أنه يكفي الماء في إزالة دم الحيض، ولا يجب استعمال شيء اخر من الحوادِّ كحجر أو عود ونحوهما، لقوله:«الماء يكفيك» .

لكن ورد في حديث أم قيس بنت محصن أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال: «حكيه

واغسليه بماء وسدر»

(1)

.

فأمرها بغسل دم الحيض بالماء والسدر، والسدر من الحواد، فيقيد به ما أُطلق في غيره، ويخص استعمال الحاد بدم الحيض، ويحمل قوله:«ولا يضرك أثره» أي: بعد استعمال الحاد.

الوجه الخامس: اعلم أنه قد تبين من مسألة العفو في باب «النجاسات» أن الشريعة قصدت بذلك التخفيف عن المكلفين ورفع الحرج، إما لعموم البلوى، كما في الدم والقيح الحاصل بسبب البثرات والدمامل، أو أثر الاستجمار بعد استيفاء شروطه، وإما لدفع مشقة الاحتراز كما هو الحال في أصحاب الحدث الدائم، كمن به سلس بول، والمستحاضة ونَحوهما، وكذا بلل الباسور والناسور

(2)

، وإما لعسر إزالتها، كلون النجاسة وريحها بعد التطهير إذا عسر زوالهما، وإما لكونها يسيرة كالنجاسة التي ينقلها ذباب إلى ثوب آدمي أو بدنه، وكالبول بمقدار رأس الإبرة يقع على الثوب، وقد تتداخل بعض هذه الحِكَمِ فتختصر

(3)

.

وينبغي أن يُعلم أن هذه الحكم ضوابط لما يعفى عنه من النجاسات، فتبقى مهمة طالب العلم في تحقيق المناط، وهو هل هذه النجاسة داخلة في عفو الشارع عنها لدخولها تحت أحد هذه الضوابط أو لا؟ والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (363)، والنسائي (1/ 154)، وابن ماجه (628)، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (1/ 281):(إسناده في غاية الصحة، ولا أعلم له علة).

(2)

هما داءان في المقعدة.

(3)

انظر: "أحكام النجاسات"(2/ 547).

ص: 135

‌باب الوضوء

الوضوء بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء المتوضأ به، على المشهور، كالسَّحور، فإن أريد الفعل ضم الحرف الأول.

والوضوء لغة: النظافة والإنارة، قال الشاعر:

أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوهُهم

دُجَى الليل حتى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهُ

أي: أنارت لهم.

سمي الوضوء بذلك لتحسينه فاعله في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بإزالة الأوساخ والأقذار، وفي الآخرة: بالنور الذي يحصل منه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«تدعون يوم القيامة غراً محجلين من اثار الوضوء» . أخرجه البخاري، ومسلم، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

والوضوء شرعاً: التعبد لله تعالى بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة، وهذا من باب التغليب؛ لأن الرأس يمسح.

ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن المصنف لما ذكر الماء الذي يُتطهر به، وما يؤثر عليه من النجاسات وما لا يؤثر به، وذكر انيته التي يحفظ فيها، شرع في بيان المقصود مما تقدم وهو الوضوء، فما مضى في الأحاديث السابقة وسائل يتوصل بها إلى عبادة الوضوء المذكورة في الباب.

والوضوء من أعظم شروط الصلاة، لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ»

(1)

، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقبل صلاة بغير

(1)

أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) واللفظ للبخاري.

ص: 136

طهور»

(1)

، وكان الأولى بالمصنف أن يورد هذين الحديثين في أوائل باب الوضوء، أو في باب «شروط الصلاة» كما فعل ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي، لبيان أن الوضوء شرط لصحة الصلاة

(2)

.

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان

»، وفي لفظ:«الوضوء شطر الإيمان» ، وفي لفظ آخر:«إسباغ الوضوء شطر الإيمان»

(3)

، وقد رجح النووي أن المراد بالإيمان: الصلاة، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، والطهور شرط لصحتها، فصار كالشطر، ولا يلزم في الشطر أن يكون نصفاً حقيقياً، والله أعلم

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (224).

(2)

انظر: "الإلمام" ص (87)، و"المحرر"(1/ 150).

(3)

أخرجه مسلم بتمامه (223)، واللفظ المذكور للترمذي (3517)، والثاني لابن ماجه (280).

(4)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(3/ 102)، وانظر كلام ابن رجب عليه في:"جامع العلوم والحكم"، حديث (23).

ص: 137

‌حكم السواك عند الوضوء

32/ 1 - عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كلِّ وُضُوءٍ» . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَحمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وذكره البخاري تعليقاً.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 66)(115) موقوفاً من طريق ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:(لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء)، قال ابن عبد البر:(هذا الحديث يدخل في المسند (أي: المرفوع) لاتصاله من غير ما وجهٍ، ولما يدل عليه اللفظ)

(1)

، أي: في قوله: (لأمرتهم).

وأخرجه مرفوعاً أحمد (16/ 22)، والنسائي في «الكبرى» (3/ 291)، وابن خزيمة (140) كلهم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً كما في البلوغ.

وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد علّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب «الصيام» (4/ 158 فتح)، ولفظه:«عند كل وضوء» .

وأخرجه مالك (114) ومن طريقه البخاري (887)، والنسائي (1/ 12) عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:«عند كل صلاة» ،

(1)

"التمهيد"(7/ 194).

ص: 138

وأخرجه مسلم (252) من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بنحوه، وليس عند مالك لفظة (عند كل صلاة)، والحديث له طرق متعددة في الصحاح والمسانيد والسنن

(1)

.

وقد ذكر الترمذي أن أحاديث السواك رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، عَدَّ منهم - مع أبي هريرة - سبعة عشر، منهم: أبو بكر الصديق، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وعائشة، وحذيفة، وزيد بن خالد، وغيرهم

(2)

.

وقد ذكر العلماء أن أحاديث فعل السواك والحث عليه عند الوضوء وغيره بلغت حد التواتر، ذكر ذلك الكتاني، وذكر واحداً وثلاثين صحابياً رووا ذلك

(3)

.

وقد ذكر الحافظ أحاديث السواك وتكلم عنها في «التلخيص»

(4)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لولا) هذا حرف امتناع لوجود، أي: إنها تدل على امتناع شيء لوجود شيء اخر، وفي هذا الحديث تدل على امتناع إلزام النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالسواك عند كل وضوء لوجود المشقة عليهم بذلك.

قوله: (أن أشق) أي: أثقل عليهم، من المشقة وهي الشدة

(5)

، يقال: شق عليه، أي: ثقَّل، أو حمله من الأمر الشديد ما يشق ويشتد عليه، و (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ، والخبر محذوف وجوباً، أي: لولا المشقة موجودة.

قوله: (على أمتي) أي: جماعتي، والمراد بهم أمة الإجابة، وهم من امن به واتبعه؛ لأنهم هم الذين يمتثلون بفعل المأمور واجتناب المحظور، لا أمة الدعوة - وهم كل من كان موجوداً بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

"التمهيد"(7/ 194).

(2)

"جامع الترمذي "(1/ 35).

(3)

"نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ص (53).

(4)

انظره: (1/ 71).

(5)

"النهاية"(2/ 491).

ص: 139

قوله: (لأمرتهم) أي: لألزمتهم، فالمراد بالأمر هنا: الإيجاب والإلزام؛ لأن المشقة لا تكون إلا مع الإلزام والإيجاب، أما الأمر الذي لا إلزام فيه - وهو المستحب - فلا مشقة فيه لجواز تركه، وعند النسائي من طريق عبد الرحمن السراج، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء»

(1)

.

قوله: (بالسواك) السواك - بكسر السين ـ: اسم للعود الذي يستاك به من الأراك وغيره، ويقال: المسواك - بكسر الميم - ويطلق السواك على الفعل وهو التسوك، أي: دلك الفم بالمسواك لتنظيف الأسنان واللسان واللِّثَةِ، والمسواك مشتق من السَّوْكِ وهو الدلك، قال ابن دريد: (سُكت الشيء أسوكه سوكاً: إذا دلكته، ومنه اشتقاق المسواك

)

(2)

، ويجمع على سُوُك - بضم السين والواو - ككتاب وكتب، ويجوز تخفيفه بإسكان الواو، وفي السواك فوائد عظيمة، ذكرها ابن الملقن

(3)

.

والمراد - هنا - الفعل لئلا يحتاج السياق إلى تقدير: (باستعمال السواك).

قوله: (مع كل وضوء)، وفي رواية:«عند كل وضوء» ومعناهما واحد، لأنهما ظرفان، والمراد بكل منهما: وقت فعل الوضوء، وهو يحتمل أن المراد قبل أن يبدأ بالوضوء، فيستاك ثم يتوضأ مباشرة، أو أن المراد أثناء الوضوء وذلك عند المضمضة، وسيأتي ذلك إن شاء الله.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأمر بالسواك للندب لا للإيجاب، ووجه الدلالة: أن كلمة (لولا) تمنع الشيء لوقوع غيره، فصار الوجوب ممنوعاً لوجود المشقة، ولو كان السواك واجباً لأمرهم به شق أو لم يشق.

(1)

"السنن الكبرى"(3/ 288 - 289).

(2)

"جمهرة اللغة"(2/ 857).

(3)

"البدر المنير"(3/ 164).

ص: 140

والقول بأن السواك غير واجب بل مستحب هو قول جمهور أهل العلم، بل ادعى بعضهم فيه الإجماع، وحكي عن داود الظاهري وإسحاق بن راهويه القول بوجوبه لورود الأمر به، لكن قال النووي:(هذا النقل عن إسحاق غير معروف ولا يصح عنه)

(1)

، وكذا نسبة الوجوب إلى داود، ومما يؤكد ذلك أن ابن حزم الظاهري ذكر أن السواك سنة

(2)

، والله أعلم.

الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب السواك عند الوضوء، وهذا غرض الحافظ رحمه الله فإنه صَدَّرَ أحاديث الوضوء بهذا الحديث، واختار رواية:«مع كل وضوء» مع أن رواية: «عند كل صلاة» في الصحيحين، وقد فعل هذا الترمذي فإنه ساق أحاديث السواك قبل باب «الوضوء» ، وقد سلك كثير من الفقهاء هذا المسلك، فذكروا السواك من «سنن الوضوء» .

ولم يحدد في الحديث مكان السواك من الوضوء، فلذا اختلف العلماء على قولين:

1 -

أنه قبل أن يبدأ بالوضوء، فيستاك ثم يتوضأ، وهذا قال به جماعة من الحنفية، والمالكية، والشافعية

(3)

، وكأنهم أخذوا برواية:«عند كل وضوء» .

2 -

أن السواك في أثناء الوضوء، وذلك عند المضمضة، فإذا بلغ المضمضة جمع بينها وبين السواك، وهذا قول الجمهور

(4)

، واستدلوا برواية:«مع كل وضوء» فإن (مع) تفيد المصاحبة، والمصاحبة فيها نوع من المداخلة، كالصاحب يداخل صاحبه فيخالطه في عشرته وعيشه، فيكون السواك على هذه الرواية داخل الوضوء.

(1)

"المجموع"(1/ 271)، "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(1/ 553).

(2)

"المحلى"(2/ 218).

(3)

"بدائع الصنائع"(1/ 190)، "حاشية العدوي"(1/ 183).

(4)

"عمدة القارئ"(5/ 263)، "نهاية المحتاج"(1/ 178)، "الفواكه الدواني"(1/ 153)، "كشاف القناع"(1/ 93).

ص: 141

ولكلا القولين وجهة، ولكن الأظهر من ناحية استقراء هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون السواك قبل الوضوء؛ لأنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تسوك أثناء المضمضة.

وقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما بات عند خالته ميمونة ووصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل وفيه: (فاستيقظ وتسوك وتوضأ .. )، وهذه إحدى روايات مسلم.

الوجه الخامس: يقول الدكتور عبد الله السعيد: (إن الحكمة التي اتخذناها من قول الرسول صلى الله عليه وسلم بأمره بالاستياك عند كل وضوء هو أن المسواك لا يزيل فضلات الأكل والرواسب المخاطية واللعابية أو الجيرية، بل يزحزح ويحرك هذه الرواسب من مواضعها التي علقت بها وخصوصاً ما بين الأسنان والشقوق والأخاديد التي على سطوحها، فالمضمضة هي الوسيلة لطرح وإزالة الرواسب للخارج، والتي كانت قد تحركت بفعل المسواك، ومن هنا تظهر الحكمة البالغة في قوله صلى الله عليه وسلم: «عند كل وضوء»، فلذلك يجب بعد تنظيف الأسنان المضمضة، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما بيّن لنا ذلك طب الأسنان الحديث، ويقول الدكتور «هوبرت»، والدكتور «بارفت»: «يجب أن يعرف المريض أن تفريش الأسنان يزحزح فضلات الأكل، ولكن لا يزيلهما فلذلك فإن التمضمض ضروري ومهم .. »)

(1)

.

الوجه السادس: تقدم أن الحديث ورد في الصحيحين بلفظ: «عند كل صلاة» ، فيكون دليلاً على تأكد السواك عند فعل كل صلاة فريضةً كانت أو نافلة، حتى صلاة الصائم بعد الزوال، كالظهر والعصر؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه تبارك وتعالى، فينبغي أن يكون العبد على أكمل هيئة وأحسن حال، إظهاراً لشرف العبادة، ولذا كانت الطهارة شرطاً لصحة الصلاة، ومن تكميل الطهارة تنظيف الفم بالسواك مما علق به من أوساخ، قد تحمل روائح كريهة.

(1)

"السواك والعناية بالأسنان" ص (205، 206).

ص: 142

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للسواك فائدتين عظيمتين فقال: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب»

(1)

.

الوجه السابع: يستفاد مما تقدم أن السواك مسنون عند الوضوء، وعند فعل الصلاة، والسنة في هذا صريحة صحيحة، قال العيني:(فإن قلت: كيف التوفيق بين رواية: «عند كل وضوء» ورواية: «عند كل صلاة»؟ قلت: السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة لأن الوضوء شرع لها)

(2)

.

وظاهر ذلك أن الحنفية لا يقولون بالسواك عند الصلاة، وأن الحديث فيه تقدير؛ أي: عندَ كلِّ وضوءِ صلاة، قالوا: لأن السواك من إزالة القذر، وهو لا ينبغي عمله في المسجد، ولأنه مظنة جراحة اللثة وخروج الدم، وهو ناقض عندهم، وهذا منصوص عليه في بعض كتبهم.

والصواب العمل بالسنة، وأن السواك مشروع عند الوضوء وعند القيام إلى الصلاة، وقد رد العلامة شمس الحق ابادي على بعض الحنفية، وبيّن أن الحديث لا يحتاج إلى تقدير، وأن السنة صريحة في السواك عند الصلاة

(3)

، وذكر ابن الهمام الحنفي في شرح «الهداية» من مواضع استحباب السواك القيام إلى الصلاة وعند الوضوء

(4)

.

الوجه الثامن: هذا الحديث من أدلة الأصوليين على أن الأمر المطلق يحمل على الوجوب، ووجه الاستدلال: أن لفظ (لولا) يفيد انتفاء الأمر بالسواك لوجود المشقة على الأمة، والندب في السواك ثابت، فدل على أن الأمر لا يصدق على الندب، بل على ما فيه مشقة وهو الوجوب، والله أعلم.

(1)

أخرجه النسائي (1/ 10)، وأحمد (40/ 240 - 241)، وابن خزيمة (1/ 70)، والدارقطني (1/ 140)، والبيهقي (1/ 34)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلقه البخاري في كتاب "الصيام"(4/ 158 "فتح")، وسنده حسن، وله طرق، وله شواهد لكنها ضعيفة.

(2)

"عمدة القارئى"(5/ 262).

(3)

انظر: "عون العبود"(1/ 74).

(4)

"شرح فتح القدير"(1/ 24، 25).

ص: 143

‌كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم

33/ 2 - عَنْ حُمْرَانَ: أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَل كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى المِرفَقِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ اليُسْرى مِثْلَ ذلكَ، ثمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَه اليُمْنَى إِلى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة راوييه، وهما:

1 -

حُمران: وهو حُمران بن أبان بن خالد، ثقة من التابعين، من سبي عين التمر، أعتقه عثمان رضي الله عنه، فتحول إلى البصرة، ومات بها سنة خمس وسبعين، رحمه الله.

2 -

عثمان: وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي، أمير المؤمنين، وثالث خلفاء المسلمين، أسلم قديماً على يد أبي بكر رضي الله عنه، وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم رقية، فلما توفيت زوّجه أختها أم كلثوم، فسمي ذا النورين، بَشَّرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وشهد له بالشهادة، وبايع عنه بيعة الرضوان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مكة، فأشيع أنهم قتلوه، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال:«هذه عن عثمان» ، تولى الخلافة بعد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بمبايعة أهل الشورى إياه، في أول يوم من محرم سنة أربع وعشرين، وقتل شهيداً يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت سنة خمس وثلاثين، وقبره معروف في

ص: 144

البقيع، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «الوضوء ثلاثاً ثلاثاً» برقم (159)، وأخرجه مسلم في «الطهارة» (226) من طريق إبراهيم ابن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن زيد الليثي، عن حمران به.

وهذا لفظ مسلم، وتمامه:(ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه»، قال ابن شهاب: (وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة).

وللحديث طرق أخرى، وألفاظ متعددة، فقد رواه عن ابن شهاب رواة اخرون في الصحيحين والسنن والمسانيد.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (دعا بِوَضُوءٍ) بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به، أي: طلب ماء يتوضأ به.

قوله: (فغسل كفيه ثلاث مرات) كفيه: مثنى (كف) وهي الراحة مع الأصابع، وحَدُّها مفصل الذراع، سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن.

قوله: (ثم تمضمض) أي: أدار الماء في فمه، تقول: مضمضت الماء في فمي: حركته بالإدارة فيه، وتمضمضت بالماء: فعلت ذلك، وهي مأخوذة من قولهم: تمضمضت الحية في جُحرها، أي: تحركت.

قوله: (واستنشق) الاستنشاق: جذب الماء بالنفس إلى باطن الأنف.

قوله: (واستنثر) الاستنثار: إخراج الماء من الأنف، ولم يرد في طرق هذا الحديث في الصحيحين ذكر العدد في المضمضة والاستنثار، لكن ورد ذلك عند أبي داود من طريقين في حديث عثمان هذا

(2)

، وورد - أيضاً - في

(1)

"الاستيعاب"(8/ 27 - 60)، "الإصابة"(6/ 391).

(2)

"سنن أبي داود"(108)(109).

ص: 145

حديث أبي هريرة وعلي رضي الله عنهما، وسيأتي ذكرهما - إن شاء الله ـ.

قوله: (ثم غسل وجهه) الوجه: مأخوذة من المواجهة، سمي بذلك لأنه يواجه به، وحَدُّهُ من منابت الشعر المعتاد إلى ما نزل من اللحية والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً.

قوله: (إلى المرفق) إلى: للغاية، والغالب عدم دخول نهاية الغاية في حكم ما قبلها، نحو: قرأت الكتاب إلى الصفحة الأخيرة، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] إلا إذا وجدت قرينة تدل على الدخول، نحو: صمت المفروض من أوله إلى اليوم الأخير، ومثل ذلك قوله تعالى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} فقد دلت السنة على دخول المرفق في المغسول، والسنة بيان للقران، وذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ

(1)

.

والمرفق: بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء، هو مفصل العضد من الذراع، وجمعه مرافق؛ قال تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] سمي بذلك لأنه يُرتفق به في الاتكاء ونحوه، أي: يستعان به.

قوله: (ثم مسح برأسه) أي: أمرَّ يده عليه مبلولة بالماء، وحد الرأس: منابت الشعر من جوانب الوجه إلى أعلى الرقبة، والباء للإلصاق؛ لأن الماسح يلصق يده بالممسوح.

قوله: (إلى الكعبين) مثنى كعب، والكعبان: عظمان ناتئان في أسفل الساق، و (إلى) بمعنى:(مع) بدليل حديث أبي هريرة المذكور قريباً.

قوله: (نحو وُضوئي هذا) أي: شبه وضوئي، وهو بضم الواو؛ لأن

(1)

أخرجه مسلم (246).

ص: 146

المراد به فعل الوضوء، وقد ورد عند أبي داود:«توضأ مثل وضوئي هذا»

(1)

، وإنما قال:(نحو) في رواية الصحيحين، ولم يقل:(مثل) لأن حقيقة مماثلة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره، لكن ثبت التعبير بالمماثلة كما في رواية أبي داود المذكورة، فيكون التعبير بـ (نحو) من تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية مجازاً، أو يكون المعول على ما في الصحيحين.

الوجه الرابع: فضيلة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وحرصه على تعليم العلم، نشراً للسنة، ونصحاً للأمة، فينبغي للعلماء وطلاب العلم أن ينشروا السنن بين الناس، وألا يكتفوا بوضوحها ومعرفة الناس لها إجمالاً، فإن عثمان رضي الله عنه بين صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل، مع أنه أمر معروف، ولا سيما في القرن الأول.

الوجه الخامس: هذا الحديث هو أحد الأحاديث التي بينت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال، قال ابن الملقن:(هو أصل عظيم في صفة الوضوء)

(2)

. وتقدم كلام ابن شهاب الزهري.

ولذا جعله الحافظ أصلاً في بيان صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل ما بعده من الأحاديث مكملات له.

وسأتكلم - إن شاء الله - عن فوائده، دون المسائل التي لها أحاديث مستقلة ستأتي، فهذه أترك الكلام عليها إلى حينه.

الوجه السادس: جواز الاستعانة في إحضار ماء الوضوء، لقول حمران:(إن عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء)، وقد حكى ابن الملقن الإجماع على جواز ذلك من غير كراهة

(3)

.

ويدخل في ذلك صب الماء على المتوضئ، لما ورد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إذ نزل فقضى حاجته، ثم

(1)

"سنن أبي داود"(106).

(2)

"شرح عمدة الأحكام"(1/ 320).

(3)

المصدر السابق (1/ 326).

ص: 147

جاء فصببت عليه من إداوة كانت معي، فتوضأ، ومسح على خفيه)

(1)

.

الوجه السابع: أن عثمان رضي الله عنه سلك في بيان صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مسلك البيان بالفعل دون القول؛ لأن الوصف بالفعل أسرع إدراكاً، وأدق تصويراً، وأرسخ في النفس؛ لأن البيان بالقول يعتمد على الألفاظ، والألفاظ يطرقها الاحتمال في المعنى، ويستفاد من ذلك أنه ينبغي للمعلم أن يسلك أقرب الطرق لإيصال المعلومات إلى أذهان الطلاب، وفي مقدمة ذلك وسائل الإيضاح التي تعين على الفهم ورسوخ العلم.

الوجه الثامن: مشروعية الوضوء بهذه الكيفية، فيغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض، ويستنشق، ويستنثر، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ثم يده اليمنى مع مرفقه ثلاثاً، ثم اليسرى كذلك، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثاً، ثم اليسرى كذلك، وهذه صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه التاسع: الحديث دليل على مشروعية غسل الكفين ثلاث مرات، وهذا سنة؛ لأن الوارد فيه فعل مجرد، كما في حديث عثمان هذا، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيحين، وحديث علي رضي الله عنه عند أصحاب السنن وغيرهم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الأوسط بإسنادٍ رجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي

(2)

.

وليس غسلهما واجباً؛ لأن الله تعالى ذكر الوضوء في القران - كما في اية المائدة - وبدأ بغسل الوجه، ولم يذكر غسل الكفين، قال ابن قدامة:(وليس غسلهما بواجب عند غير القيام من النوم، بغير خلاف نعلمه)

(3)

. اهـ.

والحكمة من غسلهما أنهما الة الغسل، بهما يؤخذ الماء، وتدلك الأعضاء، فناسب تطهيرهما قبل ذلك.

(1)

أخرجه مسلم (274)(76).

(2)

"مجمع الزوائد"(1/ 230).

(3)

"المغني"(1/ 139).

ص: 148

وهذا الغسل لغير القائم من النوم، أما غسلهما بعد القيام من النوم فهذا سيأتي إن شاء الله تعالى.

وظاهر الحديث أنه يغسل الكفين بغرفة واحدة، لقوله:(فغسل كفيه ثلاث مرات)، وفي رواية لمسلم:(فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما)، وفي حديث ميمونة قالت:(وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً .. ) الحديث

(1)

.

الوجه العاشر: الحديث دليل على استحباب التثليث في المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليدين والرجلين، وقد بوّب البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء على هذا الحديث بقوله:«باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً» - كما تقدم - ودلالته على ذلك ظاهرة.

ويجوز زيادة بعض أعضاء الوضوء على بعض في الغسل، بأن يغسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثاً، لما ورد في حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه مرتين، ومسح رأسه مرة

(2)

.

قال النووي: (فيه دلالة على جواز مخالفة الأعضاء، وغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين، وبعضها مرة، وهذا جائز، والوضوء على هذه الصفة صحيح بلا شك، ولكن المستحب تطهير الأعضاء كلها ثلاثاً ثلاثاً كما قدمنا، وإنما كانت مخالفتها من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، بياناً للجواز، كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بياناً للجواز، وكان في ذلك الوقت أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم لأن البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: البيان يحصل بالقول؟ فالجواب: أنه أوقع بالفعل في النفوس، وأبعد من التأويل، والله أعلم)

(3)

.

الوجه الحادي عشر: لا تجوز الزيادة في الوضوء على ثلاث مرات،

(1)

أخرجه البخاري (274)، ومسلم (317).

(2)

أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235).

(3)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(3/ 125).

ص: 149

وقد نقل النووي الإجماع على كراهة الزيادة على الثلاث

(1)

، ودليل ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال:«هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم»

(2)

.

قال الترمذي بعد حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً قال: (والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، أن الوضوء يجزي مرة مرة، ومرتين أفضل، وأفضله ثلاث، وليس بعده شيء).

وقال ابن المبارك: (لا امن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم).

وقال أحمد وإسحاق: (لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى)

(3)

.

وقال إبراهيم النخعي: (تشديد الوضوء من الشيطان، ولو كان هذا فضلاً لأُوثر به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

(4)

.

الوجه الثاني عشر: الحديث دليل على فضيلة صلاة ركعتين، والثواب الموعود به مرتب على الأمرين:

الأول: وضوؤه على الكيفية المذكورة، ومنها التثليث.

الثاني: صلاة ركعتين عقب الوضوء بالوصف المذكور، وهو قوله:«لا يُحَدِّثُ فيهما نفسه» أي: لا يفكر في شيء خارجٍ عن صلاته، وقوله:«لا يحدث» يفيد أن المراد ما يسترسل مع النفس مع إمكان دفعه وقطعه، أما ما يهجم على النفس ويتعذر دفعه فهو معفو عنه؛ لأنه ليس في مقدور الإنسان، وظاهر الحديث أنه شامل لحديث النفس في أمور الدين وأمور الدنيا، وخصه بعض العلماء بالثاني، لما ورد عند البخاري تعليقاً أن عمر رضي الله عنه قال: (إني

(1)

"المصدر السابق"(3/ 111).

(2)

أخرجه النسائي (1/ 88)، وابن ماجه (422)، وأحمد (11/ 277)، والبيهقي (1/ 79) من طريق يعلى بن عبيد، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة به، وهذا إسناد حسن، وله طرق أخرى غير هذا في السنن وغيرها، وسيأتي بتمامه إن شاء الله.

(3)

"جامع الترمذي"(1/ 64).

(4)

"المغني"(1/ 194).

ص: 150

لأجهز جيشي وأنا في الصلاة)

(1)

، والذي يظهر أن ما كان في أمور الدين أخف مما يكون في أمور الدنيا.

وأما ثواب ذلك فهو مغفرة ما سبق من الذنوب، والمراد الذنوب الصغائر عند جمهور العلماء

(2)

، والله أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(3/ 89) وقد ذكر الحافظ أن ابن أبي شيبة وصله بإسناد صحيح.

(2)

لابن تيمية قول في هذه المسألة. انظر: "الفتاوى"(7/ 489).

ص: 151

‌مسح الرأس مرة واحدة

34/ 3 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه في صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أمير المؤمنين، ورابع خلفاء المسلمين، وابن عم خاتم النبيين، ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، وتربى في حِجْرِ النبي صلى الله عليه وسلم لقصة مذكورة في السيرة النبوية، وامن به من حين بُعث، وزَوَّجَهُ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وخلفه في أهله في غزوة تبوك، وقال:«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»

(1)

، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، واشتهر بالشجاعة والفروسية والإقدام والعلم والفطنة، حتى قال فيه عمر رضي الله عنه:(أقضانا علي) تولى الخلافة بعد عثمان رضي الله عنه في اخر ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين - كما تقدم - إلى أن قتل شهيداً لِبِضْعَ عَشْرَةَ ليلةً خلت من رمضان سنة أربعين، ودفن في قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: في مكان مجهول خوفاً من الخوارج

(2)

، رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث قطعة من حديث طويل، أخرجه أبو داود (111) في «صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم» ، وأخرجه النسائي مختصراً (1/ 68)، من طريق أبي عوانة،

(1)

أخرجه البخاري (3706)، (4416).

(2)

"الاستيعاب"(8/ 131)، "الإصابة"(7/ 57).

ص: 152

عن خالد بن علقمة، عن عبد خير

(1)

قال: (أتانا علي رضي الله عنه وقد صلى، فدعا بطَهور، فقلنا: ما يصنع بالطَّهور وقد صلى؟ ما يريد إلا أن يعلمنا

وساق الحديث إلى أن قال: ثم جعل يده في الإناء، فمسح برأسه مرة واحدة .. الحديث) وقد أخرجه أبو داود - أيضاً - من طريق زائدة بن قدامة، عن خالد به، وأخرجه من طرق أخرى، والحديث صحيح، قال عنه الترمذي:(حديث علي أحسن شيء في هذا الباب وأصح؛ لأنه قد روي من غير وجه عن علي رضوان الله عليه)

(2)

وقال البزار: (هذا الحديث قد رواه غير واحد عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي، ولا نعلم أحداً أحسن له سياقاً ولا أتم كلاماً من زائدة). اهـ

(3)

.

وهذا الحديث بطوله استوفى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يفيد ما أفاده حديث حمران عن عثمان رضي الله عنه السابق - وإنما أتى المصنف بهذا القدر من حديث علي رضي الله عنه لأنها صرحت بما لم يُصرَّح به في حديث عثمان، فإن حديث عثمان ذكر مسح الرأس وظاهره أنها واحدة، لكن في هذا الحديث صرح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، مع تصريحه بتثليث ما عداه من الأعضاء، وسيذكره المصنف بعد واحد وعشرين حديثاً مستدلاً بها على مسألة من مسائل الوضوء.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الرأس يمسح مرة واحدة، وأنه لا يكرر مسحه كما يكرر الغسل، ولذا لم يشرع غسله؛ لأنه لو شرع غسله لعظمت المشقة؛ لأن الرأس يكون عليه الشعر غالباً، وإكثار الماء عليه ولا سيما في أيام الشتاء يؤذي الإنسان، ولأنه لو غُسِلَ وهو أعلى البدن لتسرب الماء إلى الثياب، فشرع مسح جميعه، وأقام الشرع ذلك مقام غسله، تخفيفاً ورحمة بالعباد.

(1)

يقال: اسمه عبد الرحمن بن يزيد، وقيل غير ذلك، وثقه ابن معين والنسائي والعجلي، من كبار أصحاب علي رضي الله عنه.

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 64).

(3)

انظر: "البحر الزخار"(3/ 40 - 41).

ص: 153

والقول بأن الرأس يمسح مرة واحدة هو مذهب الجمهور من أهل العلم، من الحنفية، والمالكية، والصحيح من مذهب الحنابلة

(1)

، ودليلهم حديث علي هذا، وحديث عبد الله بن زيد، وفيه:(ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة)

(2)

، وكذلك حديث عثمان المتقدم، فإنه لم يذكر التثليث في مسح الرأس كما ذكره في غيره من الأعضاء، وكذا حديث الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت: فمسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصُدْغيه وأذنيه مرة واحدة

(3)

والصُّدْغ: ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن والشعر المتدلي على ذلك الموضع.

قال ابن القيم: (والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحاً، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة .. )

(4)

.

والقول الثاني: أنه يشرع تثليث مسح الرأس، وهو مذهب الشافعي، فإنه قال:(وأحب لو مسح رأسه ثلاثاً، وواحدةٌ تجزئه)

(5)

، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول لبعض السلف، كإبراهيم التيمي وعطاء

(6)

.

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث عثمان رضي الله عنه، ففي رواية أنه قال:(ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً)

(7)

قالوا: فظاهر ذلك يشمل مسح الرأس.

(1)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 120 - 121)، "حاشية الدسوقي"(1/ 98)، "الإنصاف"(1/ 163).

(2)

أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235)، وقد بّوب عليه البخاري باب "مسح الرأس مرة".

(3)

أخرجه أبو داود (129)، والترمذي (34) وقال:(حديث حسن صحيح).

(4)

"زاد المعاد"(1/ 193).

(5)

"الأم"(1/ 42)، "المجموع"(1/ 432).

(6)

انظر: "الطهور" ص (361)، "مصنف ابن أبى شيبة"(1/ 15).

(7)

أخرجه مسلم (230)(9).

ص: 154

2 -

ما أخرجه أبو داود من حديث عثمان، من طريق عامر بن شقيق أن عثمان مسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا

(1)

.

والصحيح القول الأول، وهو أن الرأس يمسح مرة واحدة على الصفة الآتية، والزيادة على ذلك غير مشروعة، لقوة دليله، ولأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، ولأنه لو اعتبر العدد في المسح لصار في صورة الغسل إذ حقيقة الغسل جريان الماء.

وأما رواية مسلم فهي مجملة، وقد تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب، أو أن التثليث يختص بالمغسول.

وأما حديث أبي داود فهو ضعيف من هذا الطريق؛ لأنه من رواية عامر ابن شقيق، وهو لين الحديث، كما في «التقريب» ، ثم هي معارضة بما هو أصح منها، فتكون شاذة، ولهذا قال أبو داود:(أحاديث عثمان رضي الله عنه الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً، وقالوا فيها: ومسح رأسه، ولم يذكروا عدداً كما ذكروا في غيره)

(2)

، والله أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (110) وابن خزيمة (152)، وفيه عامر بن شقيق، وهو متكلم فيه - كما سيأتي -.

(2)

"السنن"(1/ 27).

ص: 155

‌كيفية مسح الرأس

35/ 4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصم رضي الله عنه رضي الله عنه في صِفَةِ الْوُضُوءِ - قَالَ: وَمَسَحَ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المزني رضي الله عنه، شهد غزوة أحد وما بعدها، واختلف في شهوده غزوة بدر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الوضوء، وعدة أحاديث ذكر ابن الملقن أنها ثمانية وأربعون حديثاً

(1)

، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية منها، ولما غزا الناس اليمامة شارك عبد الله بن زيد وَحْشِيَّ بن حرب في قتل مسيلمة، وقُتل رضي الله عنه يوم الحرة، سنة ثلاث وستين

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» (186) ومسلم (235) من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بِتَوْرٍ من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وساق الحديث .. إلى أن قال: ثم

(1)

"شرح العمدة"(1/ 370).

(2)

"الإصابة"(6/ 91).

ص: 156

أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة .. الحديث.

واللفظ المذكور بعد ذلك أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» (185) باب «مسح الرأس» ومسلم (235)، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.

ولعل غرض الحافظ من سياق هذا اللفظ تفسير الإقبال والإدبار في اللفظ الذي قبله، فإن هذا اللفظ أوضح في المراد.

وحديث عبد الله بن زيد قد استوفى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يفيد ما أفاده حديث عثمان رضي الله عنه، إلا أن فيه زيادة بيان صفة مسح الرأس، وهي لم ترد في حديث عثمان رضي الله عنه، فلذا ساق الحافظ هذا القدر من الحديث.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (فأقبل بيديه) أي: بدأ بِقَبْلِ رأسه، يعني مقدمه، والقَبْلُ من كل شيء: خلاف دبره.

قوله: (وأدبر) أي: رجع بهما من دبر الرأس، أي: مؤخره.

قوله: (ذهب بهما إلى قفاه) أي: أوصل يديه إلى قفاه، والقفا: مؤخر الرأس والعنق.

الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب استيعاب الرأس عند المسح، وهو قول مالك والمشهور عن أحمد

(1)

، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

وابن كثير

(3)

، لقوله:(مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر) ويكون فعله صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل القران في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].

وقالت الشافعية وأصحاب الرأي: يجزئ مسح بعض الرأس، بل عند الشافعية يكفي ما يقع عليه اسم المسح وإن قل

(4)

؛ لحديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة

(5)

، قالوا: وهذا يمنع وجوب الاستيعاب،

(1)

"الاستذكار"(2/ 30)، "الإنصاف"(1/ 161).

(2)

"الفتاوى"(2/ 1231).

(3)

"تفسير ابن كثير"(3/ 46).

(4)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 99)، "المجموع"(1/ 398).

(5)

أخرجه مسلم (274)(83)، وسيأتي بعد عشرة أحاديث إن شاء الله.

ص: 157

والحق أنه لا دليل فيه إلا لو كان صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح الناصية، ولكنه لم يكتف بذلك بل أتم مسحه لباقي رأسه، وهو ما كانت تغطيه العمامة، فدلالته على الاستيعاب أولى، وسيأتي هذا الحديث إن شاء الله تعالى.

الوجه الخامس: الحديث دليل على صفة مسح الرأس، وهو أن يبدأ بمقدم رأسه، فيذهب بيديه إلى قفاه أعلى الرقبة، ثم يردهما حتى يصل إلى المكان الذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشعر على حد الوجه، وقد دل على هذه الصفة قوله:(بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه).

والقول الثاني في تفسير الإقبال والإدبار أن يبدأ بمؤخر رأسه، فيقبل إلى جهة الوجه، ثم يدبر فيرجع إلى المؤخر، أخذاً بظاهر قوله:(فأقبل بيديه وأدبر) ولما ورد في حديث الرُّبيِّع بنت معوذ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مرتين: بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه)

(1)

.

وأجاب الأولون عن هذه اللفظة: (أقبل بيديه وأدبر)، بثلاثة أجوبة:

1 -

أن الواو لا تقتضي الترتيب، وأن التقدير: أدبر وأقبل، ويؤيد ذلك ما ورد عند البخاري من طريق سليمان بن بلال بلفظ:(فمسح رأسه، فأدبر به وأقبل)

(2)

.

2 -

أن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية التي تنسب إلى ما يقبل إليه ويدبر عنه، والمؤخر محل يمكن أن ينسب إليه الإقبال والإدبار.

3 -

أن يحمل قوله: (أقبل) على البداءة بالقبل وهو مقدم الرأس و (أدبر)

(1)

أخرجه الترمذي (33) وقال: (هذا حديث حسن، وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا وأجود إسنادًا)، وقد علق الشيخ أحمد شاكر (1/ 48) على تحسين الترمذي وأنه لمعارضته حديث عبد الله بن زيد وإلا فهو صحيح، بدليل ما بعده، فإنه صححه وهو نفس الحديث، ثم قال:(إنه لا تعارض بينهما حتى يحتاج إلى الترجيح، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بمقدم رأسه وكان يبدأ بمؤخره، وكل جائز)، لكن قول الترمذي مقدم.

(2)

"صحيح البخاري"(199).

ص: 158

على البداءة بالدبر، فيكون من باب تسمية الفعل بابتدائه، وهو أحد قولين للأصوليين في تسمية الفعل، هل يكون بابتدائه أو انتهائه؟

وذلك لأن مخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد.

وقد ورد في سنن أبي داود من حديث المقدام بن معديكرب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فلما بلغ مَسْحَ رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه، فأمرَّهما حتى بلغ القفا، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه)

(1)

.

فإن قيل بالترجيح فلا ريب أن حديث البداءة بالمقدم أكثر وأصح وأجود إسناداً من حديث البداءة بالمؤخر، كما قال الترمذي، وحديث الرُّبيِّع فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد تكلم فيه العلماء من قبل حفظه، فهو ضعيف إذا انفرد بالرواية ولم يتابع، وإلا حمل حديث البداءة بالمؤخرة على تعدد الحالات وبيان الجواز، وفيه عمل بجميع الأدلة.

الوجه السادس: الحكمة من مسح الرأس على هذه الصفة استيعاب جهتي الرأس بالمسح؛ لأن الشعر من جهة الوجه متجه إلى الوجه، ومن جهة المؤخر متجه إلى القفا، فإذا بدأ من مقدم الرأس استقبل الشعر وأصبح الماء يمس أصول الشعر، فإذا وصل إلى قمة الرأس استدبر الشعر، وأصبح الماء يمس ظهور الشعر، فإذا عاد حصل عكس ذلك.

وليس هذا من باب تكرار المسح، وإنما المقصود أن يكون المسح مباشراً لظهور الشعر وأصوله، فهي مسحة واحدة لا مسحتان؛ لأن تمام المسحة الواحدة لا يحصل على جميع الشعر إلا بالإقبال والإدبار، فإنه في رجوعه يمسح ما لم يمسحه في ذهابه، وهذه الصفة ليست واجبة، فلو مسح على أي صفة كانت أجزأ المسح، لكن المحافظة على السنة أفضل.

(1)

"سنن أبي داود"(122)، وفي إسناده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث عند ابن ماجه (457)، والطحاوي (1/ 32) وتابعه أبو المغيرة عند ابن الجارود (74)؛ واسمه عبد القدوس بن الحجاج الخولاني الحمصي، قال الحافظ:(ثقة)، لكن الوليد يدلس تدليس التسوية، وقد يكون التصريح بالسماع خطأ في الإسناد من بعض الرواة.

ص: 159

وقد ذكر النووي أن هذه الصفة وهي الإقبال والإدبار مستحبة لمن له شعر مسترسل، أما من لا شعر له، أو حلق شعره وطلع منه يسير فلا يستحب له الرد؛ لأنه لا فائدة فيه

(1)

.

قلت: وهذا فيه نظر، أما من جهة الجواز فالأمر واضح، وأما من جهة متابعة السنة فلا ريب أن الإقبال والإدبار مستحب، وهو الذي يدل عليه إطلاق الحديث، والله أعلم.

الوجه السابع: الأصل أن المرأة كالرجل في صفة مسح الرأس؛ لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء، وكذا العكس إلا بدليل يخصص، وقد ذكر البخاري تعليقاً عن سعيد بن المسيب أنه قال:(المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها)

(2)

.

وقد أخرج النسائي في باب «مسح المرأة رأسها» حديث عائشة، وفيه:(ووضعت يدها في مقدم رأسها ثم مسحت رأسها مسحة واحدة إلى مؤخره .. )

(3)

فهذا يدل على كيفية مسح المرأة رأسها وأنها مثل مسح الرجل وأنه مرة واحدة.

ورأيت في مسائل الإمام أحمد لأبي داود قال: (سمعت أحمد سئل: كيف تمسح المرأة رأسها في الوضوء؟ فقال: هكذا؛ ووضع يده على وسط رأسه ثم جرهما إلى مقدمه، ثم دفعهما فوضعهما حيث منه بدأ، ثم جرهما إلى مؤخره)، ونقله ابن قدامة في «المغني»

(4)

.

والذي يظهر لي - والله أعلم - أن ما ورد في حديث عائشة أقرب إلى السنة، وفيه تيسير وتسهيل، أما الضفائر فالأظهر أنها غير داخلة في المسح؛

(1)

"المجموع"(1/ 402).

(2)

انظر: "فتح الباري"(1/ 290) وقد وصله ابن أبي شيبة (1/ 24) كما ذكر الحافظ. ولفظه: (الرجل والمرأة في المسح سواء).

(3)

"سنن النسائي"(100)، وقال الألباني:(صحيح الإسناد)(1/ 23).

(4)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (7)، "المغني"(1/ 178).

ص: 160

لأن المسح متعلق بالرأس، والرأس ما ترأَّس وعلا، وما نزل عن محل الفرض لا يسمى رأساً، والأحاديث نصت على بداية مسح شعر الرأس بناصيته وانتهائه بقفاه، والله أعلم

(1)

.

(1)

"المجموع"(1/ 405).

ص: 161

‌صفة مسح الأذنين

36/ 5 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرو رضي الله عنهما في صِفَةِ الوُضُوءِ - قَالَ: ثمَّ مَسَحَ صلى الله عليه وسلم بِرأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ في أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَه ابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي، هاجر هو وأبوه قبل الفتح، وأسلم قبل أبيه، ولم يكن بين مولدهما إلا اثنتي عشرة سنة. كان كثير العبادة، وقد ورد في الصحيحين قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن مواظبة قيام الليل وصيام النهار وأمره بصيام يوم بعد يوم، وبقراءة القران كل ثلاث، وفي بعض طرقه: لما كبر كان يقول: يا ليتني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حافظاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم تكثر الرواية عنه كما كثرت عن أبي هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب

(1)

، ولعل السبب في قلة الرواية عنه أنه كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، أو أن أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وقيل غير ذلك

(2)

.

اختلف المؤرخون في موته: أين كان؟ ومتى؟ فذكر الحافظ ابن حجر

(1)

أخرجه البخاري (113).

(2)

"فتح الباري"(1/ 207).

ص: 162

في ذلك عدة أقوال، ونَقَلَ عن الإمام أحمد أن وفاته كانت ليالي الحرة اخر ذي الحجة، سنة ثلاث وستين، رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث قطعة من حديث طويل رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، واقتصر المصنف على ذكر هذا القدر من الحديث، لإفادتها مسح الأذنين وكيفيته، الذي لم يفده حديث عثمان رضي الله عنه السابق في هذا الباب.

وقد أخرج هذا الحديث أبو داود (135)، والنسائي (1/ 88)، وابن ماجه (1/ 146)، وأحمد (11/ 277)، وابن خزيمة (1/ 89) من طريق موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء» وهذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي وابن خزيمة مختصر، ليس فيه محل الشاهد.

وهذا الحديث من ضمن أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ووالد شعيب هو محمد بن عبد الله، وليس له رواية عن أبيه. وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو الذي ذكره الذهبي، وصحح أن شعيباً ثبت سماعه من عبد الله بن عمرو

(2)

وهو الذي رباه وكفله، وقد اختلف أهل العلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأرجح الأقوال أنه من قبيل الحسن، سوى ما فيه من المناكير، ولعلها من قبل غيره

(3)

.

(1)

"الاستيعاب"(6/ 338)، "تذكرة الحفاظ"(1/ 41)، "الإصابة"(6/ 176).

(2)

"الميزان"(3/ 268).

(3)

انظر: "الجرح والتعديل"(6/ 239)، "الميزان"(3/ 268)، "صحائف الصحابة" إعداد: أحمد الصويّان ص (72).

ص: 163

وهذا الحديث له شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحيح، منها حديث المقدام بن معديكرب قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه، ومسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما). أخرجه أبو داود (121)، وابن ماجه (1/ 151)، والبيهقي (1/ 65) وإسناده حسن، وحديث الربيع بنت معوذ أخرجه أبو داود (129)، وحديث ابن عباس أخرجه ابن خزيمة (148)، ولفظه:(وغرف غرفة فمسح رأسه وباطن أذنيه وظاهرهما، وأدخل إصبعيه فيهما).

ولفظة: (أو نقص) الواردة في سياق أبي داود لا تصح؛ لأن ظاهرها ذم النقص عن الثلاث في أعضاء الوضوء مع أن النقص جائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فكيف يعبر عن ذلك بـ (أساء وظلم)؟! قال ابن المواق: (إن لم يكن اللفظ شكاً من الراوي، فهو من الأوهام المُبَيَّنة التي لا خفاء بها، إذ الوضوء مرة ومرتين لا خلاف في جوازه، والآثار بذلك صحيحة

)

(1)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (وأدخل إصبعيه) مثنى إصْبَع، والمراد الأنملة - بتثليث حركة الهمزة والميم - وهي رأس الإصبع، وهذا من باب المجاز المرسل، وعلاقته الكلية أي: إطلاق الكل وإرادة الجزء، كقوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19].

قوله: (السباحتين) تثنية سباحة، وهي الإصبع التي بين الإبهام والوسطى، سميت بذلك لأنه يشار بها عند ذكر الله تعالى وتسبيحه.

قوله: (بإبهاميه) مثنى إبهام، والإبهام هي الإصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد والرجل.

الوجه الرابع: الحديث دليل على مسح الأذنين في الوضوء وأنهما لا يغسلان؛ لأنهما تابعان للرأس، وهذا مذهب الجمهور من السلف والخلف، لقوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} والأذنان من الرأس، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

نقله في "المنهل العذب المورود"(2/ 74).

ص: 164

موقوفاً: «الأذنان من الرأس»

(1)

.

الوجه الخامس: الحديث دليل على صفة مسح الأذنين، وهو أن يدخل إصبعيه السباحتين في صماخي أذنيه

(2)

لمسح باطنهما، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، وهي الغضاريف الخارجية، ولو مسحهما بغير السباحة جاز؛ لأن المقصود استيعاب المحل بالمسح، لكن العمل بالسنة أفضل، ليحصل له أجر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الموفَّق ابن قدامة:(ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف؛ لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، والأذن أولى)

(3)

.

والحكمة من تخصيص الأذن بالمسح لتطهيرها ظاهراً وباطناً، لتخرج الذنوب التي كسبتها الأذن بالاستماع إلى ما لا يجوز، كما تخرج من سائر أعضاء الوضوء.

وقد ورد عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره»

(4)

.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ الرجل المسلم خرجت خطاياه من سمعه وبصره ويديه ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له»

(5)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة (1/ 17) ومن طريقه الدارقطني (1/ 98) من طريق أسامة بن زيد، عن هلال بن أسامة، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، وقد ورد الحديث مرفوعًا عن ابن عمر، وعن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وكلها أحاديث معلولة، كما قال الدارقطني والبيهقي وابن حزم وغيرهم، ويرى آخرون تقويتها، قال ابن حجر في "نُكَتِهِ على ابن الصلاح" (1/ 415):(وإذا نظر المنصف إلى مجموع هذه الطرق علم أن للحديث أصلًا، وأنه ليس مما يطرح، وقد حسنوا أحاديث كثيرة باعتبار طرق لها دون هذه، والله أعلم).

(2)

صماخ الأذن: خرقها.

(3)

"المغني"(1/ 184).

(4)

أخرجه مسلم (245).

(5)

أخرجه أحمد (36/ 505 - 506) وإسناده ضعيف؛ لأنه من رواية شهر بن حوشب.

لكن له طرق وشواهد يصل بها إلى درجة الحسن.

ص: 165

‌مشروعية الاستنثار عند القيام من النوم

37/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ منامه فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثاً، فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «صفة إبليس وجنوده» (3295)، ومسلم في «الطهارة» (238) من طريق عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً .. » وقد مضى ذكر الاستنثار في حديث عثمان رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث هنا، لاشتماله على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنثار، لكونه يتعلق بعضو الأنف.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من نومه) هذا مفرد مضاف، فيعم نوم الليل والنهار، لكن قوله:«يبيت» مخصص لهذا العموم؛ لأن البيتوتة لا تكون إلا في الليل، قال في القاموس:(من أدركه الليل فقد بات)

(1)

أي: سواء أحصل نوم أم لم يحصل.

قوله: (فليستنثر) أي: ليخرج من أنفه الماء الذي استنشقه، واللام للأمر، وهذا اللفظ فيه زيادة فائدة على قوله:«فليستنشق» لأن الاستنثار يقع على الاستنشاق بغير عكس، فقد يستنشق ولا يستنثر، والاستنثار من تمام

(1)

"القاموس"(1/ 346).

ص: 166

فائدة الاستنشاق؛ لأن الاستنشاق جذب الماء بنفسه إلى باطن الأنف، والاستنثار إخراجه، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم ليستنثر» . وقد مضى ذكر ذلك.

قوله: (ثلاثاً) مفعول مطلق نائب عن المصدر أي: استنثاراً ثلاثاً.

قوله: (فإن الشيطان يبيت على خيشومه) الجملة تعليل للأمر بالاستنثار ثلاثاً، والمراد بالشيطان: جنس الشيطان، والخيشوم: هو أعلى الأنف من داخله، وقيل: هو الأنف.

الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الاستنثار ثلاث مرات عند الاستيقاظ من نوم الليل؛ لأنه ورد بصيغة الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، ورواية البخاري - كما تقدم - قيدت هذا الاستنثار عند الوضوء، ورواية مسلم مطلقة غير مقيدة بالوضوء، فإما أن يحمل المطلق على المقيد ويكون الأمر عند الوضوء، أو يعمل بالحديثين، فيشرع الاستنثار عند الاستيقاظ من النوم وإن لم يصادف وضوءاً، إما لمرض أو لكونه عادماً الماء، ولكن عنده ما يستنثر به، فإن لم يتيسر ذلك كفى استنثاره في الوضوء، فإنه حاصل به فعل المشروع.

والاستنثار فرع عن الاستنشاق، والقول بوجوب الاستنشاق رواية عن الإمام أحمد

(1)

، وبه قال ابن حزم

(2)

، وقال الجمهور: إنه سنة

(3)

.

والأول أظهر، فإن الأصل في الأوامر الوجوب، وليس الاستحباب، حتى يرد دليل صارف، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: جاء في الحديث تعليل الأمر بالاستنثار بأن الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، ولم يبين لماذا يبيت؟ ثم إن الخيشوم شيء ضيق لا يتسع للأجرام الكبيرة، فعلم بذلك أن للشياطين تصرفاتٍ وأحوالاً وألواناً

(1)

"المغني"(1/ 166).

(2)

"المحلى"(1/ 296).

(3)

"حاشية الدسوقي"(1/ 136)، "مغني المحتاج"(1/ 57)، "الإنصاف"(1/ 153)، "شرح فتح القدير"(1/ 25).

ص: 167

لا يعلم كيفيتها إلا الله الذي خلقهم وأقدرهم، والواجب على المؤمن التصديق والامتثال والطاعة في كل ما جاء عن ربه، وثبت عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو لم يعرف حكمته وتفصيله؛ لأنه عبد مأمور، يعلم يقيناً أنه لا يؤمر إلا بما فيه صلاحه وسعادته، فإن ظهرت له حِكَمٌ وأسرار فهذا علم إلى علم، وهدى إلى هدى، ونور إلى نور، وإن لم يظهر له شيء اكتفى بما عنده من العلم، وامتثل ما دل عليه النص، والله أعلم.

ص: 168

‌وجوب غسل كَفَّي القائم من النوم قبل إدخالهما في الإناء

38/ 7 - عَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً؛ فَإنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهذَا لَفْظُ مُسْلمٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» (162) من طريق مالك، عن أبي الزناد

(1)

، عن الأعرج

(2)

، عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم - أيضاً - من طرق أخرى، فأخرجه في «الطهارة» (278) من طريق المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد به، وهذا اللفظ لمسلم، كما قال الحافظ، وأما لفظ البخاري فهو: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثُر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه

الحديث». فاشتمل على ثلاثة أنواع من كمال الطهارة والاحتياط لها، ولكن اقتصر الحافظ على لفظ مسلم؛ لأن النوع الأول تقدم، والنوع الثاني يتعلق بقضاء الحاجة، ولأن رواية مسلم فيها ذكر العدد، بخلاف رواية البخاري، وقد اقتضى سياق البخاري للحديث أنه حديث واحد رواه من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك، وقد جاء في الموطإ من رواية الليثي عن مالك مفرقاً برقم (2) و (9)، وكذا رواه مسلم (237)(278) وعلى هذا فكأن البخاري يرى

(1)

هو عبد الله بن ذكوان، ثقة فقيه.

(2)

هو عبد الرحمن بن هرمز، ثقة ثبت.

ص: 169

جواز جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين

(1)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من نومه) تقدم في الحديث الذي قبله.

قوله: (فلا يغمس) لا: ناهية، والمضارع بعدها مجزوم، ولفظ البخاري:«فليغسل يده» كما مضى، والمراد باليد: الكف دون ما زاد عليها، لجريان العادة أن الذي يُدْخَلُ في الإناء من اليد هو الكف، وقوله:«فلا يغمس» . أوضح في المراد من رواية الترمذي: «فلا يدخل يده في الإناء»

(2)

. لأن مطلق الإدخال لا يترتب عليه كراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده الماء، فإنه لا يكون مخالفاً بذلك.

قوله: (في الإناء) المراد إناء الوضوء، كما ورد التصريح بذلك في رواية البخاري المتقدمة:«قبل أن يدخلها في وَضوئه» . ويلحق به إناء الغُسْل؛ لأنه وضوء وزيادة، وسائر الآنية استحباباً من دون كراهة، لعدم ورود النهي فيها.

قوله: (حتى يغسلها ثلاثاً) أي: بإفراغ الماء عليها، كما في رواية البزار:«حتى يُفرغ عليها» ، و «ثلاثاً» مفعول مطلق نائب عن المصدر أي: غسلاً ثلاثاً، فالغسلة الأولى تزيل الأذى، والثانية تنقِّي الموضع منه، والثالثة للمبالغة في التطهير، وقوله:(حتى) لبيان غاية النهي عن غمس اليد فهو يدل على جواز الاغتراف من الماء بعد غسلها.

قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) أي: لا يعلم أين كانت يده حين نومه، والجملة تعليل للأمر بالغسل ثلاثاً، ومقتضاه أن اليد بعد القيام من النوم يُشَكُّ في سلامتها من ملامسة شيء يؤثر في الماء.

الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي الإنسان أن يغمس يده في

(1)

انظر: "فتح الباري"(1/ 263).

(2)

"جامع الترمذي"(24).

ص: 170

الإناء إذا قام من النوم حتى يغسلها ثلاثاً، لقوله:«فلا يغمس يده» ، وعند البخاري:«فليغسل يده» والأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ما لم يصرف عنه صارف، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وقال الجمهور: إن الغسل ليس بواجب، بل هو مستحب، والنهي محمول على الكراهة، وهو رواية عن أحمد

(1)

؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فأمر بالوضوء من غير غسل الكفين في أوله، والقيام من النوم داخل في عموم الآية.

وأما الحديث فهو محمول على الاستحباب، لتعليله بما يقتضي ذلك وهو قوله:«فإنه لا يدري أين باتت يده» وطريان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها، كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث، فيدل ذلك على أنه أراد الندب.

والقول الأول أظهر، لقوة مأخذه، فإن الوجوب هو ظاهر الأمر، ولا صارف له، وأما الآية فقد وردت في الوضوء المطلق، والأمر بغسل اليدين ورد في حالة مخصوصة، بدليل مستقل، فيعمل به.

ومحل الخلاف في هذه المسألة إذا لم يتيقن النجاسة على يده، فإن تيقنها بأن رأى أثرها أو رائحتها فالإجماع منعقد على وجوب غسلها قبل إدخالها في الإناء.

الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن هذا الحكم وهو غسل اليد قبل إدخالها في الإناء مختص بالقيام من نوم الليل، وهو قول الإمام أحمد، لقوله:«باتت يده» ، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل - كما تقدم في الحديث قبله - وهذا من باب تخصيص العام بالعلة المنصوصة، وقد ورد ذلك - أيضاً - مقيداً بالليل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ولفظه:«إذا قام أحدكم من الليل»

(2)

.

(1)

"المغني"(1/ 140).

(2)

أخرجه أبو داود (103)، والترمذي (24) وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وقد ساق مسلم في "صحيحه" إسناد هذه الرواية دون لفظها.

ص: 171

والقول الثاني: أنه لا فرق بين نوم الليل ونوم النهار، لإطلاقه صلى الله عليه وسلم النوم من غير تقييد، ولعموم العلة، مع أن نوم الليل اكد، وقوله:«فإنه لا يدري أين باتت يده» خرج مخرج الأكثر والغالب، وما خرج مخرح الغالب فلا مفهوم له، كما في الأصول، وهو قول إسحاق بن راهويه

(1)

، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، لقوة مأخذه، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز، قال الخطابي:(وفي الحديث من العلم أن الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في باب العبادات أولى)

(1)

.

الوجه الخامس: اختلف العلماء في الحكمة من الأمر بغسل اليد على قولين:

الأول: أن الحكمة معقولة ومدركة وليست معنوية، وهي جولان اليد في بدن النائم بدون إحساس، فقد تلامس أمكنة من بدنه لم يتم تطهيرها بالماء، فتعلق بها النجاسة، وقد نقل الحافظ عن الشافعي أنه قال عن أهل الحجاز: كانوا يستجمرون وبلادهم حارة، فربما عَرِقَ أحدهم إذا نام، فيحتمل أن تطوف يده على المحل أو على بثرة أو دم حيوان أو قذر أو غير ذلك

(2)

.

القول الثاني: أن هذا تعبد لا يعقل معناه، واستدلوا على ذلك بأن الأحكام لا تبنى على الشك، وذلك أن اليقين في اليد أنها طاهرة، ونجاستها أثناء النوم مشكوك فيها، فلا يؤمر بغسلها لنجاستها؛ لأن اليقين لا يُزَال بالشك، فيكون الأمر في ذلك تعبدياً.

ولكن هذا التعليل فيه نظر، فإن الشرع قد ينزل المظنة منزلة السبب، ولهذا يحكم بانتقاض الوضوء بالنوم، فاليد وإن كانت طاهرة، لكن جولانها أثناء النوم موجود، فلا يبعد أن تصيب موضعاً نجساً.

والفرق بين القولين أن من تيقن أين باتت يده كمن لفَّ عليها خرقة أو وضعها في جراب فاستيقظ وهي على حالها أنه لا يتعلق بها هذا الحكم، فلا

(1)

"الأوسط"(1/ 373)، "معالم السنن"(1/ 90).

(2)

"فتح الباري"(1/ 264).

ص: 172

يؤمر بغسلها على القول بأنه معلل بعلة محسوسة مدركة، وأما على القول بأنه تعبدي فيؤمر بغسلها مطلقاً، تيقن طهارتها أو شك في ذلك.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن ما ورد في هذا الحديث يشبه - ما تقدم - من تعليل الاستنثار بأن الشيطان يبيت على خيشوم الإنسان، فيمكن أن المراد بهذا الحديث ما خشي من عبث الشيطان بيد الإنسان وملامستها، مما قد يؤثر على الإنسان، وتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار

(1)

.

الوجه السادس: الصحيح من قولي أهل العلم أنه لو خالف إنسان وغمس يده في الماء قبل أن يغسلها فإن الماء لا ينجس، بل هو باق على طهوريته، وهو قول الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، ومن أهل العلم من قال: إنه يكون طاهراً غير مطهِّر، وهذا المذهب عند الحنابلة

(2)

، إذا كان الماء دون القلتين، والظاهر أن ذلك مبني على أن الأمر بالغسل للوجوب، وعن أحمد أن الماء نجس، وهذان القولان ضعيفان، والصواب الأول، وهو أن الماء باق على طهوريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن غمس اليد، ولم يتعرض للماء، وما دام أن هذا الماء طهور، فهذا يقين، واليقين لا يمكن رفعه إلا بيقين مثله لا بِشَكٍّ، وعلى هذا فالأصل الطهارة، لكن إن قلنا: إن النهي في الحديث للتحريم، فالغامس يده اثم لأنه مخالف للنهي، وإن قلنا: إنه للكراهة فهو غير اثم، أما الماء فهو باق على الأصل.

الوجه السابع: أخذ بعض العلماء من مفهوم قوله: «فلا يغمسها في الإناء» أن البرك والحياض لا تدخل في النهي؛ لأنها لا تفسد بغمس اليد فيها - على القول بأن الماء يفسد - لعدم ورود النهي فيها عن ذلك، وكذلك الأنابيب الموجودة الآن، فإن الحكم لا يسري إليها؛ لأن المتوضئ لا يحتاج إلى غرف، وهذا فيه نظر، فإن اليد - وإن لم تكن داخلة في الماء - لكنها ناقلة للماء، وكما يطلب إنقاؤها قبل إدخالها الإناء، يطلب إنقاؤها قبل نقلها الماء للمضمضة والاستنشاق، فالقول بغسلها عموماً هو الأظهر إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 44).

(2)

"الإنصاف"(1/ 38).

ص: 173

‌بيان شيء من صفات الوضوء

39/ 8 - عن لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْبِغ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالغْ في الاسْتنشَاقِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً» . أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَه ابْنُ خُزَيمَةَ. وَلأبي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ:«إذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو لقيط - بفتح اللام وكسر القاف - ابن صَبِرَةَ - بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة، وبعضهم يسكنها مع فتح الصاد وكسرها

(1)

ـ ابن عبد الله بن المنتفق، أبو رزين، صحابي مشهور، عداده في أهل الطائف، روى عنه ابنه عاصم، وابن عمر، وعمرو بن أوس، وغيرهم

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود (142) مطولاً في كتاب «الطهارة» بابٌ «في الاستنثار» ، وأخرجه الترمذي (38)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (448)، وابن خزيمة (150، 168) مختصراً، كلهم من طريق يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه، قال: (كنت وافد بني المنتفق

(3)

، أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وساق الحديث بطوله إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، قال:

(1)

"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 72).

(2)

"الإصابة"(9/ 14).

(3)

بنو المنتفق نسبة إلى المنتفق بن عامر بن عقيل بن هوازن، جدٌّ جاهلي.

ص: 174

«أسبغ الوضوء» .. الحديث) وقد رواه عن إسماعيل بن كثير اخرون، قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وقال الحافظ:(هذا حديث صحيح)

(1)

وصححه ابن القطان، وأودعه البغوي في كتابه «مصابيح السنة» وأدخله في جملة الأحاديث الحسان على اصطلاحه

(2)

.

ويحيى بن سليم وهو القرشي الطائفي وثقه ابن معين، وقال النسائي:(ليس به بأس)

(3)

، وقال في «التقريب»: صدوق سيّء الحفظ، وإسماعيل بن كثير ثقة، كما في «التقريب» ، وعاصم بن لقيط ثقة، كما في «التقريب» أيضاً.

فإن قيل: الرجل سأل عن الوضوء وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض سنن الوضوء. فالجواب: لأن السائل كان عارفاً بأصل الوضوء، والظاهر أنه لم يسأل عن ظاهر الوضوء، بل عما خفي من باطن الأنف والأصابع، فإن الخطاب بـ (أسبغ) إنما يتوجه لمن علم صفة الوضوء، والله أعلم.

وأما الرواية الثانية فهي من طريق ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير، أخرجها أبو داود (143)(144)، ومن طريقه أخرجها البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 52) وسندها صحيح، كما قال الحافظ

(4)

إلا أن هذه اللفظة وهي ذكر المضمضة لم يتفق عليها سائر الرواة، وقد ذكرها أبو داود مفردة عن الحديث، كما تبين من السياق، ولذا لم ينتبه لها بعض الفقهاء، فأنكروا وجود الأمر بالمضمضة في الحديث، كما فعل ابن حزم عندما ذهب إلى أن المضمضة غير واجبة قال: لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في المضمضة أمر

(5)

، وكذا قال ابن عبد البر

(6)

، وابن رشد

(7)

، والظاهر أن الحافظ ذكرها - مع أن المضمضة تقدمت في حديث عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الرواية فيها أمر بالمضمضة، وما تقدم فعل.

(1)

"الإصابة"(9/ 15).

(2)

"مصابيح السنة"(276).

(3)

"تهذيب التهذيب"(11/ 198).

(4)

"فتح الباري"(1/ 262).

(5)

"المحلى"(2/ 49).

(6)

"الاستذكار"(2/ 12).

(7)

"بداية المجتهد"(1/ 39).

ص: 175

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أسبغ الوضوء) بفتح الهمزة أي: بالغ في إكماله وأَوْفِ كل عضو حقه، من قولهم: درع سابغة: إذا كانت طويلة تغطي البدن، ومنه قوله تعالى:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان: 20] أي: أضفاها وعممها، وقوله تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي: دروعاً سابغات.

قوله: (وخلل بين الأصابع) التخليل: تفريق أصابع اليدين والرجلين في الوضوء، وأصله: من إدخال شيء في خلل شيء، وهو وسطه، والمراد هنا: أدخل الماء بين الأصابع.

والمراد بالأصابع: أصابع اليدين والرجلين، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما:«إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك»

(1)

.

وقد ورد تفسير التخليل في حديث المستورد بن شداد الفهري قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره

(2)

). والظاهر أن المراد خنصر اليد اليسرى؛ لأن التخليل تطهير وإزالة قذر، فيشرع باليسرى على الأصل المعروف شرعاً، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأما أصابع اليدين فالأكمل في تخليلها أن يضع بطن الكف اليمنى على اليسرى، ويدخل الأصابع بعضها في بعض.

قوله: (وبالغ في الاستنشاق) أي: ابذل الجهد واستقص بإيصال الماء إلى أقصى الأنف، والاستنشاق تقدم تفسيره.

(1)

أخرجه الترمذي (39)، وابن ماجه (1/ 87) من طريق موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، وصالح هذا قد اختلط في آخر عمره، ولكن موسى بن عقبة سمع منه قبل اختلاطه، وفي "علل الترمذي" ص (34) أن البخاري قال:(هو حديث حسن).

(2)

أخرجه أبو داود (148)، والترمذي (40)، وأخرجه أحمد (29/ 537) ولفظه:(إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره) وهذا إسناد رجاله ثقات من رجال مسلم، غير يزيد بن عمرو المعافري -فهو صدوق حسن الحديث- وغير عبد الله بن لهيعة فقد ساء حفظه -كما تقدم-، وقد توبع كما ذكر الحافظ في "التلخيص"(1/ 105) لكنها معلولة، انظر:"موسوعة أحكام الطهارة"(9/ 281).

ص: 176

قوله: (إلا أن تكون صائماً) أي: فلا تبالغ، خشية أن ينزل شيء من الماء إلى حلقه فَيُفَطِّرُهُ.

الوجه الرابع: الحديث دليل على الأمر بإسباغ الوضوء، وهل هذا واجب أو مستحب؟

الإسباغ نوعان:

1 -

إسباغ واجب، وهو ما لا يتم الوضوء إلا به، ويراد به غسل المحل واستيعابه.

2 -

إسباغ مستحب، وهو ما يتم الوضوء بدونه، ويراد به ما زاد على الواجب من الغسلة الثانية والثالثة، فهذا مندوب إليه، والصارف من حمل الأمر في الحديث على الوجوب قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وهذا أمر بالغسل، وهو مطلق، فيصدق على من أسبغ بالغسلة الثانية والثالثة، ومن اقتصر على غسلة واحدة.

وعلى هذا فالأمر في الحديث مشترك بين الوجوب والاستحباب، وهو مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه.

ومن منع استعمال المشترك في معنييه، قال: إن المراد بالحديث المعنى الثاني، وهو ما زاد على الغسلة الواجبة، لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط»

(1)

.

ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على من أسبغ الوضوء، وبَيَّنَ فضله، وهذا لا يكون إلا بالزيادة على قدر الإجزاء.

الوجه الخامس: الحديث يدل بظاهره على وجوب تخليل الأصابع،

(1)

أخرجه مسلم (251).

ص: 177

وهذا قول المالكية على خلاف عندهم، هل هو في أصابع اليدين والرجلين، أو يجب في أصابع اليدين، ويستحب في أصابع الرجلين؟ وذلك لأن أصابع الرجلين متقاربة فهي أشبه بالعضو الواحد، فلا يلزم تخليلها، وأما أصابع اليدين فهي متفرقة، فاعتبر كل إصبع كعضو مستقل، يجب تدليكه

(1)

.

وذهب الجمهور إلى أن التخليل مستحب وليس بواجب، إذا وصل الماء إلى ما بين الأصابع، فإن لم يصل إلا بالتخليل فهو واجب اتفاقاً

(2)

.

واستدل الجمهور بظاهر القران، وهو قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .. } قالوا: فأمر الله تعالى بالغسل، وهو يصدق على مجرد وصول الماء إلى البشرة بدون تخليل، والتخليل أمر زائد لا يثبت إلا بدليل بَيِّنٍ على الوجوب، فيصرف الأمر في حديث لقيط إلى الندب، ولأن جميع من وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التخليل، فالجمع بين حديث لقيط وهذه الأحاديث هو حمله على الاستحباب، قال ابن القيم:(وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه، وفي السنن عن المستورد بن شداد: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره). وهذا إن ثبت فإنما كان يفعله أحياناً، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه، كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والرُّبَيِّع وغيرهم، على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة)

(3)

.

وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وهو أنه إن توقف إيصال الماء لما بين الأصابع على التخليل كأن يكون الماء قليلاً فالتخليل واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالغسل، وهو لا يتم إلا بالتخليل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وإن كان الماء كثيراً بحيث يصل الماء إلى ما بين الأصابع بدون تخليل فهو مستحب وليس بواجب، والله أعلم.

الوجه السادس: الحديث دليل على استحباب المبالغة في الاستنشاق إلا للصائم فليست مستحبة، لئلا تؤدي المبالغة في الاستنشاق إلى دخول الماء

(1)

انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(1/ 87).

(2)

انظر: "المغني"(1/ 152).

(3)

"زاد المعاد"(1/ 98).

ص: 178

من الأنف إلى الحلق فيفسد الصوم، ويلحق بالاستنشاق المضمضة، فيحتاط فيهما الصائم، وإنما اقتصر على ذكر الاستنشاق؛ لأن الإنسان يتمكن من المضمضة فلا يذهب إلى جوفه شيء أكثر من تمكنه من الاستنشاق.

والصارف للأمر عن الوجوب أنه لو كانت المبالغة واجبة لما منعت من أجل الصيام.

الوجه السابع: الحديث دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء لقوله: «وبالغ في الاستنشاق» ولما تقدم من الأمر بها، ولقوله في المضمضة:«إذا توضأت فمضمض» وهذا أمر والأمر للوجوب، وهذا مذهب الإمام أحمد، وبه قال ابن المبارك، وابن أبي ليلى، وإسحاق بن راهويه

(1)

.

والقول الثاني: أن المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، فمن تركهما صح وضوؤه، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، واختاره ابن المنذر، وإليه رجع عطاء، كما ذكر ابن المنذر

(2)

، واستدلوا باية المائدة {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .

وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، وهو ما تحصل به المواجهة، دون باطنه وهو الفم والأنف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عشر من الفطرة .. وذكر منها المضمضة والاستنشاق»

(3)

، والفطرة: هي السنة.

قالوا: وأحاديث الأمر بهما محمولة على الندب؛ لأنها إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية؛ لأن المقصود بها تأصيل هذا الحكم وتبيينه.

والقول الثالث: أن الاستنشاق واجب والمضمضة سنة، وهو قول جماعة من أهل الظاهر، منهم ابن حزم، وهو قول أبي ثور، ورواية عن أحمد

(4)

.

(1)

"المغني"(1/ 166).

(2)

"الأوسط"(1/ 378)، "المغني"(1/ 167).

(3)

أخرجه مسلم (260).

(4)

"المحلى"(2/ 49)، "بداية المجتهد"(1/ 38)، "الإنصاف"(1/ 152).

ص: 179

واستدلوا بأن الاستنشاق نُقِلَ من فعله صلى الله عليه وسلم، ومن أمره - كما تقدم - وأما المضمضة فقد نقلت من فعله، ولم تنقل من أمره.

والراجح هو القول الأول لقوة دليله، وهو حديث الباب، ولأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم مستقصياً ذكر أنه تمضمض واستنشق واستنثر، ومداومته عليهما يدل على وجوبهما؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون بياناً وتفصيلاً للوضوء المأمور به في كتاب الله تعالى؛ لأنه هو المبيِّن عن الله عز وجل مراده، وقد بيَّن أن مراد الله تعالى بقوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} المضمضة والاستنشاق مع غسل سائر الوجه، وعلى هذا فلا معارضة.

قال ابن القيم: (ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق، ولم يحفظ عنه أنه أخلّ به مرة واحدة)

(1)

وأما كونهما من الفطرة فلا ينفي وجوبهما، لاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب، وقد ذكر فيها الختان، وهو واجب.

وأما قول أصحاب القول الثالث: إنه لم يثبت الأمر بالمضمضة. فهو إما ذهول منهم عن رواية أبي داود - كما تقدم - وإما أنهم لا يرون صحتها.

ولا يصح التفريق بين المضمضة والاستنشاق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما - كما تقدم ـ.

الوجه الثامن: استدل العلماء بهذا الحديث على قاعدة (سَدِّ الذرائع) وهي جمع ذريعة، وهي الفعل الذي ظاهره مباح، لكنه وسيلة إلى فعل محرم.

ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان الإنسان صائماً، فالاستنشاق أمر مشروع في الوضوء، لكنه قد يفضي عند المبالغة فيه إلى إفساد الصوم.

كما يستفاد منه أنه ينبغي للصائم أن يتجنب كل ما من شأنه أن يتطرق منه الإفساد للصوم ولو على سبيل الاحتمال.

والقول بسد الذرائع هو مذهب المالكية والحنابلة، وقال أبو حنيفة

(1)

"زاد المعاد"(1/ 194).

ص: 180

والشافعي: إن سد الذريعة لا يعتبر أصلاً تُبنى عليه الأحكام. وفي المسألة تفاصيل محلها كتب الأصول، ليتبين محل النزاع، ولأن هناك مسائل اتُفق فيها على سد الذريعة

(1)

، لكن القول بسد الذرائع هو الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]

ووجه الدلالة: أن الله تعالى حرم سَبَّ الهة المشركين مع كون السب حميةً لله، وإهانة لآلهتهم، حرم ذلك لكونه ذريعة إلى سب الله تعالى، والمصلحة في ترك مسبتهم أرجح من مصلحة سب الهتم، وهذا دليل على المنع من الجائز، لئلا يؤدي إلى المحرم.

ومن السنة: نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها في النكاح؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة

(2)

.

الوجه التاسع: يستدل بهذا الحديث على القاعدة الفقهية (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) بمعنى: أن الأمر إذا دار بين درء مفسدة وجلب مصلحة، كان درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، ووجه دلالة الحديث على ذلك: أن المبالغة في الاستنشاق فيها مصلحة امتثال أمر الشرع - لأنه مصلحة دينية يثاب عليها المكلف، ومصلحة نقاء الأنف ـ، فسقطت هذه المصلحة في مقابل مفسدة الفطر في الصوم، والله أعلم.

(1)

انظر: "إعلام الموقعين"(3/ 147)، "إرشاد الفحول" ص (246)، و"أصول مذهب الإمام أحمد" ص (497) وما بعدها.

(2)

سيأتي ذلك في كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى-.

ص: 181

‌حكم تخليل اللحية في الوضوء

40/ 9 - عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَان يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الوُضُوءِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه الترمذي (31) في «أبواب الطهارة» باب «ما جاء في تخليل اللحية» ، وابن خزيمة (151، 152) من طريق عامر بن شقيق، عن أبي وائل - شقيق بن سلمة ـ، عن عثمان رضي الله عنه، به.

وهذا لفظ الترمذي، وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، ولعل تصحيح الترمذي له من أجل شواهده، وإلا فإن عامر بن شقيق متكلم فيه، فقد ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم:(ليس بقوي)، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

، وقد روى عنه شعبة، وهو لا يروي إلا عن ثقة، ومثل هذا يكون حديثه حسناً، لكن يشكل على هذا مخالفته لجميع من روى الحديث عن عثمان رضي الله عنه، فإنهم لم يذكروا التخليل.

وقد نقل الترمذي عن الإمام البخاري أنه قال: (أصح شيء في التخليل عندي حديث عثمان، قلت: إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن)

(2)

، ومعلوم أن البخاري لا يريد الحسن بالمعنى الاصطلاحي.

ونقل الحافظ تصحيح الحديث عن ابن حبان (3/ 362)، وابن خزيمة

(1)

"الثقات"(7/ 249)، "تهذيب التهذيب"(5/ 60).

(2)

"العلل الكبير"(1/ 115).

ص: 182

(151)

، والحاكم (1/ 149)

(1)

، وحسنه ابن الملقن، وذكر له اثني عشر شاهداً، وتكلم عليها، ثم قال:(فهذا اثنا عشر شاهداً لحديث عثمان رضي الله عنه، فكيف لا يكون صحيحاً؟ والأئمة قد صححوه .. ) ثم ذكر جماعة ممن صححوا الحديث

(2)

.

وأما ما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه من قوله: (لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية حديث)

(3)

، وما نقله أبو داود في «مسائل الإمام أحمد» حيث قال:(قلت لأحمد بن حنبل: تخليل اللحية؟ فقال: تخليلها قد روي فيه أحاديث، ليس يثبت فيه حديث)

(4)

. فقد حمله ابن الملقن على أن المراد بذلك غير حديث عثمان هذا

(5)

، وهذا الجواب ليس بناهض عندي، وكلام الأئمة الكبار مقدم على كلام من جاء بعدهم، كما ذكرته فيما تقدم.

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (والحق أن أحاديث التخليل يشد بعضها بعضاً، وتدل على شرعية التخليل وأنه سنة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعله دائماً .. ).

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يخلل) تخليل اللحية: إدخال الأصابع فيها عند غسلها؛ ليبلغ الماء إلى أصول الشعر، وذلك بأن يأخذ كفاً من ماء ويخلله بأصابعه كالمشط، أو يأخذ كفاً من ماء ويجعله تحتها حتى تتخلل به.

قوله: (لحيته) اللحية - بكسر اللام - شعر الوجه المعروف، وهو ما نبت على اللحيين وهما عظما الوجه، وما نبت على الذقن، وهو مجتمع اللحيين في أسفل الوجه، فيلتقي رأس هذا إلى رأس هذا، ويعرف بالحنك، فهذا هو الذقن.

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 60).

(2)

"البدر المنير"(3/ 394).

(3)

"العلل"(1/ 45).

(4)

ص (7).

(5)

"البدر المنير"(3/ 406).

ص: 183

الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية تخليل اللحية في الوضوء، وذلك إذا كانت اللحية كثيفة وهي التي تستر البشرة.

قال ابن القيم: (وكان صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته أحياناً، ولم يكن يواظب على ذلك .. )

(1)

فإذا فعله الإنسان تارة وتركه تارة كان ذلك أقرب إلى السنة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم عند من يرى الاحتجاج بأحاديث الباب، ولأجل أن يعلم غيره أنه ليس بواجب، والنفوس إذا اعتادت شيئاً قد تلزمه وتجعله واجباً، فما حافظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم نحافظ عليه، وما فعله تارة وتركه تارة فكذلك نفعله تارة وندعه تارة، وإذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن يستفيدوا من فعله صلى الله عليه وسلم وتركه فكذا الناس بعدهم بحاجة إلى أن يستفيدوا من فعل العلماء وطلبة العلم وأن يفرقوا بين ما كان واجباً وما كان غير واجب.

أما اللحية الخفيفة التي لا تستر البشرة فهذه يجب غسلها وما تحتها من البشرة؛ لأنها في حكم الظاهر فيدخل في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والوجه ما تحصل به المواجهة، وما تحت اللحية إذا كان بادياً تحصل به المواجهة، فيدخل في حكم الوجه، والله أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(1/ 197).

ص: 184

‌مشروعية دلك أعضاء الوضوء

41/ 10 - عَنْ عَبْدِ الله بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (26/ 370) وابن خزيمة (118) من طريق شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد رضي الله عنه، به.

وهذا لفظ ابن خزيمة إلا أن فيه: (ذراعه) بالإفراد، وقد رواه عن شعبة أبو داود الطيالسي، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ومعاذ العنبري، وخالفهم محمد بن جعفر - كما يأتي ـ.

وإسناده صحيح، حبيب بن زيد روى له الأربعة وهو ثقة، وشعبة وعباد من رجال الصحيحين، لكن اختلف فيه على شعبة فرواه غندر - وهو محمد بن جعفر - عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن جدته أم عمارة بنت كعب، كما عند أبي داود (94)، ومن طريقه البيهقي (1/ 196)، والنسائي في «الصغرى» (1/ 58)، وفي «الكبرى» (76) فجعله غندر من حديث أم عمارة لا من حديث عبد الله بن زيد، وقد ورد في «العلل» لابن أبي حاتم قال: سألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فقال:(الصحيح عندي حديث غندر)

(1)

. ونقل الحافظ عن عبد الله بن المبارك أنه قال: (إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حَكَمٌ بينهم)، وقال

(1)

"العلل"(1/ 25).

ص: 185

ابن مهدي: (كنا نستفيد من كتب غندر في شعبة) وكان وكيع يسميه الصحيح الكتاب

(1)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بثلثي مد) المد: بضم الميم وتشديد الدال، وحدةُ كيلٍ شرعية، وهي ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما

(2)

، والمد ربع الصاع باتفاق الفقهاء، وهو رطل وثلث، بناء على أن الصاع يزن خمسة أرطال وثلث، الرطل، وهذا عند الشافعية والحنابلة والمالكية

(3)

.

قوله: (فجعل يدلك) جعل: من أفعال الشروع، واسمها ضمير مستتر يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وجملة (يدلك) خبر (جعل)، ويدلك: بضم اللام ماضيه دلك، من باب (نصر) والدلك: إمرار اليد الغاسلة على العضو المغسول مع الماء.

والغسل: جريان الماء وإسالته على الأعضاء، وعلى هذا فالدلك غسل وزيادة؛ لأن الغسل لا يشترط فيه إمرار اليد على العضو، أما المسح: فهو إمرار اليد على الشيء الممسوح.

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب التقليل في ماء الوضوء ومثله الغسل، وأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقل قدر توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، وسيأتي إن شاء الله.

ولا خلاف أن هذا القدر ليس بحد لازم لا يجوز تجاوزه، بل العبرة في ذلك بأداء الواجب وعدم الإسراف، وذلك يختلف باختلاف الناس وأجسادهم ولباقتهم، ولذا اختلف المقدار في حديث أنس عن حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنهما.

وقد نقل الإجماع غير واحد على أن الطهارة غير مقدرة بقدر معين، قال النووي: (أجمع المسلمون على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير

(1)

"تهذيب التهذيب"(9/ 85).

(2)

"القاموس"(4/ 215).

(3)

"الإيضاح والتبيان" ص (56 - 57).

ص: 186

مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير، إذا وجد شرط الغسل وهو جريان الماء على الأعضاء). وقال أيضاً:(أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطئ البحر)

(1)

.

ومما يدل على تحريم الإسراف في الماء حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»

(2)

.

فعلى المسلم أن يعوّد نفسه الاقتصاد في الماء، ويحذر من الإسراف الذي وقع فيه كثير من الناس اليوم، بسبب استعمال الأنبوب في الوضوء، ولأجل التعود على الاقتصاد ينبغي للإنسان أن يستعمل إناء يضع فيه ماء الوضوء، لكي يأمن من الإسراف.

الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية دلك أعضاء الوضوء، والجمهور من أهل العلم على استحبابه وعدم وجوبه، خلافاً للمالكية

(3)

؛ لأن الله تعالى أمر بالغسل في اية الوضوء، والغسل لا يشترط فيه إمرار اليد، كما قرره طائفة من أهل اللغة؛ لأنه إسالة الماء على العضو، وإذا ثبت ذلك فلا وجه لاشتراطه؛ لأنه أمر زائد على ظاهر القران وعلى الدلالة اللغوية للفظ الغسل.

لكن إن كان إتمام الوضوء يتوقف على الدلك كأن يكون الماء قليلاً وجب إمرار اليد على العضو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعلى هذا يحمل هذا الحديث، فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي مد لا يتم إلا بالدلك، وإن كان لا يترتب عليه إتمام الواجب فهو مستحب، لما تقدم، والله أعلم.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 241).

(2)

أخرجه أبو داود (96) وأحمد (27/ 351)، وأخرجه ابن ماجه (3864) وليس فيه الاعتداء في الطهور، والحاكم (1/ 162)، والبيهقي (1/ 196)، وهو حديث حسن.

(3)

"الكافي" لابن عبد البر (1/ 170)، "المجموع"(1/ 465).

ص: 187

‌مشروعية أخذ ماء جديد للرأس

42/ 11 - عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه؛ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ لأُذُنَيْه مَاءً خِلافَ المَاءِ الَّذي أَخَذَ لِرَأْسِهِ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهقِيُّ. وَهُوَ عِندَ (مُسْلم) مِنْ هذَا الوَجْهِ بِلَفْظِ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيرِ فَضْلِ يَدَيْه، وَهُوَ المَحْفُوظُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث له روايتان: الأولى: أخرجها البيهقي في «سننه» (1/ 65) من رواية الهيثم بن خارجة، عن عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع الأنصاري، أن أباه حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد، يذكر أنه رأى

الحديث. وقال: (هذا إسناد صحيح).

والثانية: أخرجها مسلم (236) من طريق هارون بن معروف، وهارون ابن سعيد الأيلي، وأبو الطاهر

(1)

عن ابن وهب، به.

قال الحافظ: وهو المحفوظ، والمحفوظ عند المحدثين ما يقابل الشاذ، فالمحفوظ: ما رواه الأوثق مخالفاً لرواية الثقة، والشاذ ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه.

فرواية البيهقي شاذة؛ لأن الهيثم بن خارجة وإن كان ثقة، لكنه مخالف لمن هو أكثر منه، حيث رواه جماعة عن ابن وهب - كما تقدم - بلفظ (أنه

(1)

هو أحمد بن عمرو بن سرح البصري.

ص: 188

مسح برأسه بماء غير فضل يده)، فتكون روايته غير صحيحة وإن كان رواتها ثقات، لعدم سلامتها من الشذوذ، الذي هو شرط في صحة الحديث، وقد أورد البيهقي لفظ مسلم وقال:(وهذا أصح من الذي قبله).

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن مسح الأذنين يكون بفضل ماء الرأس، ولا يؤخذ لهما ماء جديد؛ لأن الأذنين من الرأس - كما تقدم - ولأن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه أخذ ماء جديداً لأذنيه، قال ابن القيم:(ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديداً)

(1)

.

وقد نسب ابن المنذر إلى مالك والشافعي وأحمد أنهم يرون أن يأخذ المتوضئ ماء جديداً لأذنيه، ثم قال: (وغير موجود في الأخبار الثابتة التي فيها صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه لأذنيه ماء جديداً

)

(2)

.

لكن لو فرض أن شعره كثيف، وقد استغرق ما في يديه ولم يبق بهما بلل، فلا بأس أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، فإن كانتا رطبتين كفى ذلك لمسح الأذنين.

الوجه الثالث: مسح الرأس قد ورد في حديث عثمان رضي الله عنه المتقدم أول الباب، وإنما ذكر الحافظ هذا الحديث لأن فيه بيان مشروعية أخذ ماء جديد للرأس، فهو دليل على أن مسح الرأس يكون بماء جديد غير فضل يديه؛ لأن اليد عضو مستقل، والرأس عضو مستقل، وهذا قول الجمهور من أهل العلم.

وفي حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه .. )

(3)

وتقدم.

قال الترمذي بعد حديث عبد الله بن زيد: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديداً). اهـ

(4)

.

(1)

"زاد المعاد"(1/ 195).

(2)

"الأوسط"(1/ 404).

(3)

أخرجه البخاري (192).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 52).

ص: 189

وجاء في حديث حمران مولى عثمان عن عثمان رضي الله عنه في وصفه وضوءه صلى الله عليه وسلم وفيه قال حمران: (ثم أدخل يده فأخذ ماء فمسح برأسه

الحديث

(1)

).

وهكذا جاء في حديث علي رضي الله عنه: (ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة)

(2)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمسح رأسه بما بقي من أعضائه السابقة، فمنهم من يقول بفضل يديه، ونسبه ابن المنذر إلى الحسن وعروة والأوزاعي

(3)

، ومنهم من قال: يمسح رأسه ببلل لحيته، وهو لبعض المالكية، كما ذكر ابن العربي

(4)

وابن عبد البر

(5)

.

ولعلهم يستدلون بحديث الرُّبيِّع، وفيه:(ومسح رأسه من فضلِ ماءٍ كان في يده)

(6)

ولأن المسح مبني على التخفيف.

والقول الأول أرجح، لقوة دليله، فإن حديث عبد الله بن زيد وما ذكر معه حجة على من ذُكر، إلا إن حملوا أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي ليست بياناً للمجمل على الندب

(7)

، لكن الظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل كيفية مسح الرأس، والله أعلم.

أما حديث الربيع ففي سنده مقال، وفي متنه اضطراب، فهو من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد تقدم الكلام فيه

(8)

، وأما اضطراب متنه فإن ابن ماجه أخرجه من طريق شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع، وفيه:(وأخذ ماء جديداً فمسح به رأسه .. )

(9)

فما في رواية مسلم مقدم عليه عند التعارض.

(1)

أخرجه أبو داود (108).

(2)

تقدم رقم (34).

(3)

"الأوسط"(1/ 592).

(4)

"أحكام القرآن"(1/ 573).

(5)

"الاستذكار"(2/ 35).

(6)

تقدم تخريجه.

(7)

"البدر المنير"(1/ 386).

(8)

انظر الحديث رقم (35).

(9)

"سنن ابن ماجه"(390).

ص: 190

الوجه الرابع: ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في بيان الصفة المشروعة في كيفية أخذ الماء الذي يمسح به الرأس، ولفظه قال:(ألا تحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟) وساق الحديث، إلى أن قال:(ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده ثم مسح بها رأسه وأذنيه .. )

(1)

، فهذه الصفة الأولى، وهي أن يأخذ بيده اليمنى قبضة من الماء ثم ينفضها ويمسح بما فَضَلَ رأسه.

وفيه صفة ثانية وهي أن يغرف غرفة بيده اليمنى ثم يتلقاها بشماله حتى يضعها على رأسه من غير نفض يديه، ودليلها أن معاوية رضي الله عنه توضأ للناس كما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء، فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر، ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه

(2)

.

وأما الصفة الثالثة التي عليها أكثر الناس، وهي أن يأخذ غرفة بيمينه ثم يتلقفها بشماله وينفضها نفضاً خفيفاً ثم يمسح بهما معاً، فلم أقف عليها، والظاهر جوازها؛ لأن الله تعالى أمر بمسح الرأس، وهذا قد مسح رأسه بيديه فيجزئ، لكن اتباع الوارد والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، والله أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (137) وسنده حسن، كما في "صحيح أبي داود" للألباني (1/ 28).

(2)

أخرجه أبو داود (124) بإسناد صحيح، كما قال الألباني (1/ 26) رقم (115).

ص: 191

بيان‌

‌ فضيلة الوضوء وثوابه

43/ 12 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلمٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» «باب فضل الوضوء» (136) ومسلم (246)(35) في «الطهارة» ، من طريق نُعيم بن عبد الله المُجْمِرِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم كما ذكر الحافظ، وأما لفظ البخاري فهو: «إن أمتي يدعون يوم القيامة

» وباقي الحديث سواء.

وفي لفظ لمسلم: (عن نُعيم المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله»).

وقوله: (فمن استطاع

إلخ) مدرج من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، فهمها أبو هريرة من قوله:(غراً محجلين)، أدرجها في الحديث الراوي عنه، وهو نُعيم المجمر، قال الحافظ (ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا

ص: 192

الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نُعيم هذه، والله أعلم)

(1)

.

وقد أخرج الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده (14/ 354) من رواية ليث بن أبي سليم، عن كعب المدني

(2)

، عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي اخره:«فمن استطاع» وإسناده ضعيف، لضعف ليث بن أبي سليم، بسبب اختلاطه، ولجهالة كعب المدني، فيكون روى هذه اللفظة عن أبي هريرة اثنان، وقد خفيت على الحافظ رواية كعب هذه، والله أعلم.

وأخرج الحديث - أيضاً - (14/ 136) من طريق فليح بن سليمان، عن نعيم نحوه، وزاد فقال نعيم:(لا أدري قوله: «فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل» من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة؟) وفليح بن سليمان متكلم فيه من قبل حفظه، وقد احتج به الشيخان.

وقد رجح كثير من الحفاظ والمحققين أن هذه اللفظة مدرجة، منهم الحافظ المنذري

(3)

، وشيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

، وابن القيم

(5)

، والحافظ ابن حجر، والشيخ عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع.

وعلى هذا فتكون اللفظة مدرجة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه لما يلي:

1 -

أن الحديث رواه عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن مسعود وجابر ابن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي أمامة وحذيفة وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يذكروا هذه الزيادة، وهذا يؤيد أنها من كلام أبي هريرة، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن إطالة الغرة غير متيسرة؛ لأن الوجه مستقل، والرأس مستقل، فإذا أطال وزاد أخذ من الرأس، والرأس فرضه المسح.

3 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه أطال الغرة ولا التحجيل، بل كان

(1)

"فتح الباري"(1/ 236).

(2)

هو أبو عامر المدني، مجهول، كما في "التقريب".

(3)

"الترغيب والترهيب"(1/ 149).

(4)

"الفتاوى"(1/ 279).

(5)

"حادي الأرواح" ص (137)، و"النونية" ص (231).

ص: 193

يغسل ذراعيه حتى يشرع في العضد، ورجليه حتى يشرع في الساقين، وذلك لإدخال المرفقين والكعبين في العضد والساق، كما في لفظ مسلم المتقدم، ولم ينقل عنه زيادة على ذلك.

4 -

ما أخرجه مسلم عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة رضي الله عنه وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يديه حتى تبلغ إبطيه، فقلت: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فَرُّوخ

(1)

أنتم هاهنا؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول:«تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»

(2)

.

فهذا ليس فيه جملة «فمن استطاع» ولو كانت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأوردها أبو هريرة محتجاً بها على أبي حازم الذي أظهر له الارتياب من مد يده إلى إبطه، ولم يحتج إلى الاستنباط الذي قد يخطئ وقد يصيب، ثم لو كان صواباً لم يصل إلى درجة النص في قوة الإقناع.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن أمتي) أي: جماعتي، والمراد بهم أمة الإجابة، وهم من امن به واتبعه؛ لأنهم هم الذين يظهر عليهم أثر الوضوء.

قوله: (يأتون) هذه رواية مسلم، وفي لفظ البخاري:(يُدعون) كما تقدم، ولعل اللفظ الأول رُتِّبَ على الثاني، أي: يدعون فيأتون، والمعنى - والله أعلم - يدعون إلى موقف الحساب أو إلى الميزان أو إلى غير ذلك من مواقف يوم القيامة.

والمراد: أنهم يدعون يوم القيامة من بين الأمم، ووجوههم وأيديهم وأرجلهم تتلألأ نوراً وبياضاً من اثار الوضوء الذي يفعلونه في الدنيا تعبداً له تعالى، وتعظيماً لشأن الصلاة.

(1)

فَرُّوخ: بفتح الفاء وتشديد الراء يقال: إنه من ولد إبراهيم عليه السلام بعد إسحاق وإسماعيل، فكثر نسله ونما عدده، فولد العجم الذين هم في وسط البلاد، وأراد أبو هريرة هنا الموالي [شرح النووي (3/ 142)].

(2)

"صحيح مسلم"(250).

ص: 194

قوله: (يوم القيامة) أي: يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب والجزاء، وهذا اليوم سمي بعدة أسماء فهو يوم القيامة - لما ذكر - وقد ورد بهذا الاسم في كتاب الله تعالى في سبعين اية، واليوم الآخر لأنه لا يوم بعده، ويوم الآزفة لقربه، ويوم الجمع لأن الله يجمع فيه أهل السماء والأرض، ويوم التغابن، والقارعة، ويوم الفصل، إلى غير ذلك مما ورد في القران صريحاً أو استنباطاً، وكل ما عظم شأنه عند العرب تعددت أسماؤه، والقيامة لما عظم أمرها وكثرت أهوالها سماها الله تعالى بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة.

قوله: (غراً) حال من فاعل «يأتون» وهو جمع: أغرّ، والغرة بياض في وجه الفرس يقال: غرَّ وجهه يَغَرُّ - بالفتح - غرراً وغرة وغِرارة: صار ذا غرة، والمعنى: أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون يوم القيامة تلمع وجوههم بياضاً ونوراً من اثار الوضوء - نسأل الله بركة ذلك اليوم بمنه وكرمه ـ.

قوله: (محجلين) حال ثانية، والتحجيل: بياض في قوائم الفرس كلها، وقيل: في ثلاث قوائم، في رجل ويدين، والمعنى: أن في أيديهم وأرجلهم بياضاً ونوراً من اثار الوضوء.

وقد استوفى صلى الله عليه وسلم بذكر الغرة والتحجيل جميع أعضاء الوضوء، فإن الغرة بياض في الوجه، والتحجيل بياضهم في اليدين والرجلين، والرأس داخل في مسمى الغرة.

قوله: (من أثر الوضوء) من: للتعليل، وأثر: بالإفراد رواية مسلم، وفي رواية أخرى:«من اثار» ، وهي رواية البخاري، وأثر الشيء: ما يعقبه ناشئاً عنه، والوضوء: بضم الواو، أي: الفعل.

قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل .. ) أي: من قدر منكم أن يمد ويزيد غرته فليفعل، أي: فليطل غرته، وفي لفظ لمسلم:«فليطل غرته وتحجيله» واقتصر على الغرة في لفظ حديث الباب لدلالته على الآخر.

الوجه الثالث: الحديث دليل على فضيلة الوضوء وعظم ثوابه وأنه

ص: 195

سبب لاشتهار هذه الأمة من بين الأمم يوم القيامة، وذلك ببياض وجوههم وأيديهم وأرجلهم.

وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»

(1)

.

والمراد: حلية المؤمن في الجنة من مصوغ الذهب وغيره.

الوجه الرابع: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وقد نسبه الحافظ إلى الحَلِيمِي

(2)

وهو من محدثي الشافعية وفقهائهم، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الغرة والتحجيل بهذه الأمة، ولو كان الوضوء لغيرهم لثبت لهم ما ثبت لهذه الأمة.

والقول الثاني: أن الوضوء ليس مختصاً بهذه الأمة، بل كان موجوداً فيمن قبلهم، وإنما الذي اختصت به الغرة والتحجيل، والدليل على عدم اختصاصها بالوضوء حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة سارة زوج الخليل عليه الصلاة والسلام وفيه أن سارة لما طلبها الجبار وأرسل بها الخليل إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت:«اللهم إن كنتُ آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليَّ الكافر .. الحديث»

(3)

. فهذا صريح في العمل بالوضوء قبل هذه الأمة، وكذا ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً - في قصة جريج الراهب، وفيها:«فتوضأ وصلى»

(4)

.

وهذا هو الأظهر - إن شاء الله تعالى - لقوة دليله، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن حوضي أبعدُ من أيلةَ من عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه» ،

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

"فتح الباري"(1/ 236).

(3)

أخرجه البخاري (2217).

(4)

أخرجه البخاري (3436)، ومسلم (2550).

ص: 196

قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: «نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تَرِدُونَ عليَّ غراً محجلين من أثر الوضوء»

(1)

.

فهذا يدل على أن الوضوء ليس من خصائص هذه الأمة، وإنما الذي اختصت به الغرة والتحجيل؛ لأنه جعل ذلك علامة لهم دون غيرهم من الأمم.

الوجه الخامس: اختلف العلماء في مجاوزة محل الفرض في الوضوء على قولين:

الأول: أنه لا تشرع الزيادة على محل الفرض، وهذا مذهب المالكية والظاهرية، وبعض فقهاء الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه

(2)

، واختار هذا القول جمع من المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، وتلميذه ابن القيم

(4)

.

القول الثاني: تشرع الزيادة على المحل المفروض، على تفصيل عندهم في كيفية ذلك، وهذا قول الشافعية

(5)

، وطائفة من فقهاء الحنفية

(6)

، والحنابلة، وهي رواية ثانية عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة، وأبو عبيد

(7)

عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يتوضأ في الصيف فربما بلغ في الوضوء إبطيه).

قال النووي: (اختلفوا في قدر المستحب على أوجه: أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيت، والثاني: يستحب إلى

(1)

أخرجه مسلم (247).

(2)

انظر: "حاشية الدسوقي"(1/ 103)، "الإنصاف"(1/ 168).

(3)

"الفتاوى"(1/ 279).

(4)

"زاد المعاد"(1/ 196).

(5)

"المجموع"(1/ 428).

(6)

"رد المحتار"(1/ 256).

(7)

"المصنف"(1/ 55)، "الطهور" ص (116). قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 236):(إسناد حسن) وسكت عنه في "التلخيص"(1/ 100)، وقد تعقبه الألباني في "الضعيفة"(3/ 108)؛ بأنه من رواية عبد الله بن عمر العمري، وقد قال عنه الحافظ في "التقريب":(ضعيف).

ص: 197

نصف العضد والساق، والثالث: يستحب إلى المنكبين والركبتين، وأحاديث الباب تقتضي هذا كله .. )

(1)

. وأما الزيادة في الوجه فهي غسل شيء من مقدم الرأس.

واستدل الأولون القائلون بعدم جواز مجاوزة محل الفرض بالكتاب والسنة، والنظر.

أما الكتاب فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}

} الآية. ووجه الدلالة: أن الله تعالى حد محل الفرض من أعضاء الوضوء المغسولة والممسوحة، والآية من اخر ما نزل من القران، والتحديد يقتضي عدم الزيادة على ما حدد، وإلا لم يكن للتحديد فائدة.

وأما السنة فإن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كعثمان وعلي وعبد الله ابن زيد وغيرهم رضي الله عنهم لم يذكر واحد منهم أنه زاد عن المحل الذي أمر بغسله أو مسحه، بل كان يغسل ذراعيه حتى يُشرع في العضد لإدخال المرفقين، ويغسل رجليه حتى يشرع في الساق لإدخال الكعبين - كما في لفظ مسلم المتقدم - ولم ينقل عنه زيادة على ذلك، ولو كانت الزيادة مشروعة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها ولو مرة واحدة.

وأما النظر فمن وجوه:

الأول: أن الزيادة على المحل تؤدي إلى تداخل الأعضاء، فإذا زيد في غسل الوجه تعدى إلى الرأس وأصبح الممسوح مغسولاً، والوجه مستقل والرأس مستقل، وإن قيل: الغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق، فالعنق عضو مستقل ليس من أعضاء الوضوء.

الثاني: أن الزيادة تؤدي إلى كون غير المأمور به مأموراً به، كالعضد فإنه ليس من أعضاء الوضوء.

الثالث: أن الغرة لا يمكن إطالتها - كما تقدم - فإنها مختصة بالوجه،

(1)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 137).

ص: 198

فإذا دخلت في الرأس لا تسمى غرة، إذ لا غرَّة في الرأس

(1)

.

أما القائلون بمشروعية الزيادة على محل الفرض فعمدتهم قوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قالوا: فأبو هريرة رضي الله عنه قال ذلك بفهمه، فهو تفسير، وتفسير الراوي إذا لم يخالف الظاهر يجب قبوله، ولأنه لم يفعله من تلقاء نفسه، بل إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، كما تقدم في الكلام على تخريج الحديث.

والصواب القول الأول، لقوة دليله، وهو أنه لا يزاد على القدر الواجب، إلا لقصد استيعاب محل الفرض، وهو الذي يدل عليه إشراع النبي صلى الله عليه وسلم في العضد والساق.

وأما حديث الباب فإن قوله: (فمن استطاع) مدرج من كلام أبي هريرة رضي الله عنه كما تقدم - وما فعله اجتهاد منه رضي الله عنه، بدليل ما تقدم - أيضاً - في قصته مع أبي حازم.

وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فليس من باب مجاوزة محل الفرض، وإنما لاستيعاب الفرض كما تقدم، والله أعلم.

(1)

"الفتاوى"(1/ 279).

ص: 199

‌حكم التيمن في الأمور ومنها الوضوء

44/ 13 - عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيمُّن في تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع، وأولها في كتاب «الوضوء» باب «التيمن في الوضوء والغسل» (168)، ومسلم (268)(67) من طريق أشعث بن سليم، عن أبيه

(1)

، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، به، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم:(كان يحب التيمن في شأنه كله، في نعليه وترجله وطهوره).

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يعجبه) أي: يسره ويرضيه، وفي لفظٍ:(يحب التيمن) وقد علمت عائشة حبه للتيمن إما بإخباره لها بذلك، أو بالقرائن، قال ابن بطال:(وبدؤه عليه السلام بالميامن في شأنه كله - والله أعلم - هو على وجه التفاؤل من أهل اليمين باليمين؛ لأنه عليه السلام (كان يعجبه الفأل الحسن))

(2)

.

قوله: (التيمن) مصدر تيمن تيمُّناً، مثل تعلَّم تعلُّماً، والتيمن من الألفاظ المشتركة فيطلق على التبرك بالشيء من اليُمن - بضم الياء - وهو البركة،

(1)

هو سليم بن أسود المحاربي الكوفي، أبو الشعثاء، مشهور بكنيته أكثر من اسمه.

(2)

"شرح صحيح البخاري"(1/ 262)، والحديث المذكور أخرجه أحمد (41/ 448)، وابن حبان (1429) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح، له شواهد.

ص: 200

ويطلق على الابتداء باليمين قبل الشمال، وهو المراد هنا، وورد في لفظ:(يحب التيمن ما استطاع)

(1)

وهذا يفيد محافظته صلى الله عليه وسلم على التيمن ما لم يمنع مانع - كما سيأتي إن شاء الله ـ، وقد ورد - أيضاً - عند ابن حبان:(كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله)

(2)

، قال المُطَرِّزِي:(يامن وتيامن: أخذ جانب اليمين)، ثم ساق لفظ ابن حبان

(3)

، وقال الجوهري:(يقال: يامنْ يا فلان بأصحابك، أي: خذ بهم يمنةً، ولا تقل: تيامن بهم، والعامة تقوله)

(4)

.

قوله: (في تنعله) التَّنَعُّلُ: لبس النعل، وهو مصدر تَنَعَّلَ، كالتقدُّم مصدر تقدَّم. قال في «مختار الصحاح»:(تقول: نَعَلَ وانتعل، أي: احتذى)

(5)

، وقد أَهمل المصدر، فلم يذكره، ولعله أُهمل اكتفاء بدلالة فعله عليه، وفي لفظ لمسلم:(في نعله) أي: في لبس نعله.

قوله: (وترجله) أي: تسريح شعره ودهنه وتجميله. تقول: رَجَّلْتُ الشعر ترجيلاً: سرحته. سواء أكان شعرك أم شعر غيرك، وترجلت: إذا كان شعر نفسك

(6)

.

قوله: (وطُهوره) بضم الطاء، والمراد به فعل الطهارة في الوضوء والغسل، وأما بالفتح: فهو الماء الذي يتطهر به، كما تقدم.

ونقل ابن الأثير وغيره عن سيبويه: أن الطَّهور بالفتح يقع على الماء وعلى المصدر معاً

(7)

، فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد: التطهُّر، كما مضى.

قوله: (وفي شأنه كله) هذا تعميم بعد تخصيص، والشأن: الأمر، أي:

(1)

هذه الرواية عند البخاري (426).

(2)

"صحيح ابن حبان "(3/ 371)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(3)

"المُغرِّب" ص (512).

(4)

"الصحاح"(6/ 2220).

(5)

"مختار الصحاح" ص (668)، وانظر:"الصحاح"(5/ 1831).

(6)

"المصباح المنير" ص (221).

(7)

"النهاية"(3/ 147).

ص: 201

في جميع أموره، و (كله) تأكيد لهذا التعميم، لكن هذا العموم مخصوص بمثل دخول الخلاء والامتخاط والاستنجاء، وغير ذلك مما يكون باليسار، كما سيأتي إن شاء الله.

الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية البداءة بالرجل اليمنى في لبس النعل ومثلها الجوارب والخفاف، وكذلك لبس الثياب والسراويل فيبدأ بالكم الأيمن ثم الأيسر.

أما عند نزع النعل فإنه ينزع اليسرى أولاً؛ لأن الانتعال للرِّجْلِ أفضل من الحفاء، وكذا في نزع الثياب والسراويل، قال الخطابي:(إذا كان معلوماً أن لبس الحذاء صيانة للرجل ووقاية لها، فقد أعلم أن التبدية به لليمنى زيادة في كرامتها، وكذلك التبقية لها بعد خلع اليسرى)

(1)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية البداءة بالجانب الأيمن من الرأس عند ترجيله، وكذا عند حلقه، فيعطي الحالق شقه الأيمن أولاً، ثم شقه الأيسر، وعلى هذا فالتيامن في الحلق منظور فيه إلى المحلوق لا إلى الحالق، وهو الأظهر، لما ورد في حديث أنس رضي الله عنه في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:(ثم قال للحلاق: «خذ»، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر .. )

(2)

.

الوجه الخامس: مشروعية البداءة باليمين في الوضوء والغسل، فيغسل في الوضوء اليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى، وفي الغسل يبدأ بغسل الشق الأيمن من البدن قبل الأيسر.

قال ابن المنذر: (وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ فغسل يده اليمنى ثم اليسرى في وضوئه، وكذا يفعل المتوضئ إذا أراد اتباع السنة)

(3)

.

وقال النووي: (أجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوؤه)،

(1)

"معالم السنن"(6/ 74).

(2)

أخرجه مسلم (1305).

(3)

"الأوسط"(1/ 386).

ص: 202

وقال: (ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان والكفان والخدان بل يغسلهما دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين، والله أعلم)

(1)

.

الوجه السادس: ظاهر الحديث مشروعية البداءة باليمين في كل شيء، لكن خصَّ العلماء ذلك فيما كان من باب التكريم، كالأخذ والإعطاء، ولبس الثوب والسراويل والخف، ودخول المسجد وميمنة المسجد، والانتعال، والأكل والشرب وهو واجب باليمين، والمصافحة، والاكتحال، والسواك، وحلق الرأس فيبدأ بالجانب الأيمن.

وما كان بخلاف ذلك فله اليسار كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثياب، والسراويل والخف.

وقد جاء من أدلة التخصيص حديث حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك)

(2)

.

وعن عائشة قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 163).

(2)

أخرجه أبو داود (32)، وأحمد (44/ 62)، والطبراني (23/ 203) وهو من رواية أبي أيوب الأفريقي، وقد لينه أبو زرعة، ووثقه ابن حبان، وقال النووي:(إسناده جيد)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبى داود"(1/ 9).

(3)

أخرجه أبو داود (33)، وأحمد (43/ 318) عن إبراهيم النخعي، عن عائشة رضي الله عنها، وإسناده ضعيف؛ لأن إبراهيم لم يسمع من عائشة، كما فال المنذري في "مختصر أبي داود"(1/ 34)، لكن قد يقويه حديث حفصة الذي قبله، وقد جاء من رواية إبراهيم، عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، عن عائشة عند أبي داود (34)، وأحمد (43/ 317)، وقد صححه الألباني كما في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 9)، والظاهر أن ذكر الواسطة شاذ، والحديث من رواية إبراهيم عن عائشة رضي الله عنها، وعليه فهو منقطع، كما صوبه الدارقطني في "العلل".

ص: 203

‌الأمر بالبدء بالميامن في الوضوء

45/ 14 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَؤُوا بِمَيَامِنِكُمْ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث ساقه الحافظ بلفظ يختلف عما عزاه إليه من كتب السنة، وذلك أن الحديث باللفظ المذكور لابن ماجه فقط (402) وأما الباقون فلفظهم يختلف، فأبو داود أخرجه في «كتاب اللباس» (4141) ولفظه:«إذا لبستم وإذا توضأتم فابدؤوا بأيامنكم» . وكذا أخرجه ابن خزيمة بهذا اللفظ في «أبواب الوضوء وسننه» (1/ 90)، والترمذي أخرجه في «اللباس» أيضاً (1766) ولفظه:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه)، وكذا أخرجه النسائي في الكبرى (5/ 482) بهذا اللفظ، كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد رواه عن الأعمش زهير بن معاوية وشعبة.

وبهذا يتضح أن الحديث ورد بصيغة الأمر عند أبي داود وابن ماجه وابن خزيمة فهو من السنة القولية، وورد بصيغة الإخبار عن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عند الترمذي والنسائي، فهو من السنة الفعلية.

وعلى هذا فنسبة الحديث باللفظ المذكور إلى الأربعة وابن خزيمة ليست جيدة؛ ولذا فإن المزي لم يَعْزُ الحديث إلى الترمذي والنسائي

(1)

، وكذا قال ابن الملقن:(إن الترمذي لم يروه بالكلية بل ذاك حديث اخر)

(2)

.

(1)

"تحفة الأشراف"(9/ 353).

(2)

"البدر المنير"(3/ 419).

ص: 204

والحديث إسناده صحيح، صححه ابن خزيمة، كما ذكر الحافظ، ونقل الزيلعي عن ابن دقيق العيد أنه قال في «الإمام»:(هو جدير بأن يصحح)

(1)

وصححه أيضاً ابن الملقن

(2)

، وقال النووي:(هذا حديث حسن، وإسناد جيد)

(3)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا توضأتم) أي: شرعتم في الوضوء، فيدخل في ذلك ما في بداية الوضوء، كغسل الكفين فيبدأ باليمنى قبل اليسرى، وما في أثناء الوضوء من غسل اليدين والرجلين، لكن تقدم في كلام النووي أن غسل الكفين يكون دفعة واحدة.

قوله: (بميامنكم) جمع ميمنة، والمراد: اليمين، والميمنة ضد الميسرة، قال تعالى:{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 8، 9].

الوجه الثالث: مناسبة ذكر هذا الحديث بعد حديث عائشة المتقدم أنه يدل على البدء باليمين في الوضوء بصيغة الأمر، فهو من السنة القولية، وما تقدم من قبيل السنة الفعلية، لكنه قدم حديث عائشة رضي الله عنها، لكونه أصلاً في التيمن على سبيل العموم، ولأنه أقوى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وظاهر هذا الحديث وجوب البداءة باليمين قبل اليسار في غسل اليدين والرجلين، ويؤيد ذلك أن الأصل في الأمر الوجوب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على البدء باليمين في غسل يديه ورجليه، كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي، وغيرهم، رضي الله عنهم، وقوله وفعله صلى الله عليه وسلم يفسر قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية.

وقد اختار القول بالوجوب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونسبه الرازي إلى أحمد

(4)

، قال الزركشي:(وهو منكر)

(5)

، ونقله الرافعي من

(1)

"نصب الراية"(1/ 34).

(2)

"البدر المنير"(3/ 418).

(3)

"المجموع"(1/ 382).

(4)

"تفسير الرازي"(11/ 159).

(5)

"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 178).

ص: 205

الشافعية عن أحمد أيضاً

(1)

، ولم أقف على ذلك فيما اطلعت عليه من كتب الحنابلة، لا سيما «المغني» و «الإنصاف» ، بل قال ابن قدامة:(ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى، لا نعلم فيه خلافاً .. )

(2)

.

وعلى هذا فالجمهور من أهل العلم على أن البداءة باليمين مستحبة، وقد بوّب ابن خزيمة

(3)

على هذا الحديث بقوله: (باب الأمر بالتيامن في الوضوء أمر استحباب لا أمر إيجاب)، والأمر في هذا الحديث مصروف عن ظاهره وهو الوجوب إلى الندب، والصارف له الآية الكريمة:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فإن الله تعالى أمر بغسل الأيدي والأرجل، ولم يذكر فيه تقديم اليمنى، وذلك يدل على أن الواجب غسل اليدين والرجلين بأي صفة كان.

والفقهاء يعدون اليدين عضواً، والرجلين عضواً، ولا يجب الترتيب في العضو الواحد.

ومما صرف الحديث - أيضاً - ما تقدم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن .. الحديث، فهذا يدل على أن تقديم اليمنى في الطهارة إنما هو على سبيل الحب لذلك والسرور به، لا على سبيل الإيجاب والإلزام، ولو كان ذلك على سبيل الحتم لبيَّنته رضي الله عنها؛ لأنها فقيهة عالمة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر التنعل والترجل مع الطهور دليل على أن الأمر موسع فيه.

وقد مضى أن الإجماع قد انعقد على أن البدء باليمين إنما هو على سبيل الندب، كما نقله النووي وابن قدامة، والله أعلم.

(1)

"شرح الوجيز"(1/ 421).

(2)

"المغني"(1/ 190).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 91).

ص: 206

‌الاكتفاء بمسح الناصية مع العمامة

46/ 15 - وعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالخُفَّيْنِ. أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ.

يظهر أن الحافظ ساقه لبيان جواز الاكتفاء بمسح بعض الرأس، فإنه استدل به في «فتح الباري»

(1)

على أن تعميم الرأس بالمسح ليس بفرض، وإلا فموضوع المسح على العمامة والمسح على الخفين سيأتي في باب مستقل بعد باب «الوضوء» . ولا حجة في الحديث على ذلك، وقد يبدو عند التأمل أن للحافظ غرضاً غير ما ذكر، فإنه لو كان غرضه مسح الرأس لذكره هناك مع أحاديث مسح الرأس، وهو هاهنا قد ذكره بعد حديث:«إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم» وذكر بعده حديث: «ابدؤوا بما بدأ الله به» فذكر الحديث الأول في الترتيب بين الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين، ثم ذكر حديث المغيرة في الترتيب بين أجزاء العضو الواحد وهو الرأس، فابتدأ بمسح الناصية، وهي مقدم الرأس، ثم مسح العمامة وهي على وسط الرأس ومؤخره، ثم ذكر حديث جابر في الترتيب بين الأعضاء المختلفة، والله أعلم.

والكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي رضي الله عنه، أسلم عام الخندق، وقدم مهاجراً، وكان أول غزوة شهدها الحديبية، وكان ممن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه، روى عنه من أولاده عروة، وحمزة، ومولاه وَرَّاد،

(1)

(1/ 290، 308).

ص: 207

وأبو بردة بن أبي موسى، وكان من دهاة العرب، تولى على البصرة، ثم على الكوفة مرتين، مرة في عهد عمر رضي الله عنه، والثانية في عهد معاوية رضي الله عنه، ومات بالكوفة سنة خمسين

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في «الطهارة» (274)(83) من رواية بكر ابن عبد الله المزني، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، بلفظ:(وعلى العمامة وعلى الخفين) بزيادة (على) الثانية، خلافاً لما في البلوغ.

وقد وهم ابن الجوزي فنسب الحديث إلى الصحيحين

(2)

، وقد تعقب ابنَ الجوزي ابنُ عبد الهادي

(3)

، وبين أنه من أفراد مسلم، وقد صرح عبد الحق الإشبيلي في «الجمع بين الصحيحين»

(4)

أنه من أفراد مسلم، «التلخيص» وذكر ابن الملقن أن النووي وقع في هذا الوهم - أيضاً ـ

(5)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (على ناصيته) الناصية: الشعر الذي يكون في مقدم الرأس، وقيل: مقدم الرأس مطلقاً، سواء أكان فيه شعر أم لا.

الوجه الرابع: استدل بعض العلماء بهذا الحديث - كما تقدم - على أنه يجزئ مسح بعض الرأس ولا يلزم تعميمه، وقد يكون المؤلف ذكره هنا لهذا الغرض كما تقدم، ولا حجة فيه - كما ذكرنا في موضوع مسح الرأس - لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية وكَمَّلَ على العمامة، فلم يقتصر على الناصية حتى يُحْتَجَّ به على جواز مسح بعض الرأس، بل إذا لبس العمامة مسح عليها وما ظهر من الرأس، وإذا كان مكشوفاً مسحه كله، كما ثبت في حديث عبد الله بن زيد وغيره مما تقدم، قال ابن القيم:(ولم يصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة .. )

(6)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الإصابة"(9/ 269).

(2)

"التحقيق"(1/ 167).

(3)

"تنقيح التحقيق"(1/ 373).

(4)

(1/ 219).

(5)

"البدر المنير"(3/ 44).

(6)

"زاد المعاد"(1/ 193).

ص: 208

‌وجوب الترتيب في الوضوء

47/ 16 - عَن جَابِرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما في صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ صلى الله عليه وسلم: «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، هكذا بِلَفْظِ الأَمْرِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلمٍ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري السلمي، صحابي، وأبوه صحابي رضي الله عنهما، من مشاهير الصحابة، ومن المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صفة الحج، وعُني بذلك، وحديثه في الحج منسك مستقل، وسيذكره المصنف في كتاب «الحج» ، ورد في الصحيح أنه كان مع من شهد العقبة، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع غزواته، سوى غزوة بدر وأحد، حيث منعه أبوه ليكون عند أخواته، فقد أخرج مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:(غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة)، قال جابر:(لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط)

(1)

. كان له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة يلقي فيها الحديث والعلم، كُفَّ بصره في اخر عمره، وقد ورد ما يدل على ذلك في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين رضي الله عنه

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (1813).

(2)

"صحيح مسلم"(1218).

(3)

"سير أعلام النبلاء"(3/ 189)، "الإصابة"(2/ 45).

ص: 209

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم (1218) بطوله في «صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم» من طريق حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، وقد جاء فيه ولفظه:(فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، «أَبدأُ بما بدأ الله به»، فبدأ بالصفا .. الحديث)، وهذا بلفظ الخبر، وأخرجه النسائي في الصغرى (5/ برقم 2962) بلفظ الأمر، وكذا أخرجه أحمد (3/ 394) وصححه ابن الملقن

(1)

، فقال:(رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم) وقد أخرجه - أيضاً - في الكبرى (2/ 413)، وعزاه إليه المزي

(2)

.

وأخرجه النسائي أيضاً (5/ برقم 2970) بلفظ: (نبدأ بما بدأ الله به .. ) وكذا أخرجه أبو داود (1905)، والترمذي (862)، وابن ماجه (3074).

وقدم المصنف رواية النسائي؛ لأنها بصيغة الأمر، وهو يفيد الحتم والإلزام، أما صفة الخبر فهي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مهتدٍ بهدي القران، وذلك أعم من أن يدل على وجوب أو استحباب.

وقد نفى الألباني وجود الحديث في «السنن الصغرى» ، وشكك في وجوده بلفظ الأمر في «الكبرى» مع أنه موجود فيهما، كما تقدم.

وقد حكم على لفظة (ابدؤوا) بلفظ الأمر بالشذوذ؛ لأنه تفرد بها سفيان الثوري وسليمان بن بلال، مخالفين بقية الثقات الذين رووا الحديث عن جعفر بن محمد بلفظ الخبر .. وهم سبعة، وقد سرد أسماءهم وعزا مروياتهم في «الإرواء»

(3)

ومنهم الإمام مالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وحاتم بن إسماعيل المدني وغيرهم، وقد ورد عند الدارقطني (2/ 254) من طريق الهيثم بن معاوية الزمرائي، عن حاتم بن إسماعيل بلفظ الأمر، لكن بقية الرواة عن حاتم رووه بلفظ الخبر، لكن ينبغي أن ينظر في تفرد سفيان

(1)

"تحفة المحتاج"(2/ 174).

(2)

"تحفة الأشراف"(2/ 271).

(3)

"إرواء الغليل"(4/ 317).

ص: 210

الثوري، فهو إمام حجة، لم يخالفه أحد إلا كان القول قوله، كما قال ابن معين وغيره، وقد يكون الخطأ ممن روى عنه، وهو ابن عيينة وقبيصة كما عند الدارقطني (2/ 254) والفريابي وقبيصة معاً عند البيهقي (1/ 85).

وقال ابن دقيق العيد: (والحديث في الصحيح، لكن بصيغة الخبر «نبدأ»، و «أبدأ» لا بصيغة الأمر، والأكثر في الرواية هذا، والمخرج للحديث واحد)

(1)

. وزاد فيما نقل عنه الحافظ: (وقد اجتمع مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان على رواية (نبدأ) بالنون التي للجمع). قال ابن حجر عقبه: (قلت: وهم أحفظ من الباقين)

(2)

، وهذا هو الصواب إن شاء الله، إذ لا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد، ولم يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، عند صعوده على الصفا، فلا بد من الترجيح، والله أعلم.

الوجه الثالث: هذا الحديث - كما تقدم - ورد في سياق «حجة النبي صلى الله عليه وسلم» وقد ساقه الحافظ هنا في باب «الوضوء» ، ليستدل به على وجوب الترتيب في غسل الأعضاء فيبدأ أولاً بغسل الوجه ثم اليدين .. إلخ، كما ذكر الله تعالى في القران، فما بدأ الله به خبراً وأمراً، نبدأ به فعلاً وامتثالاً؛ لأن كلامه كلام حكيم، لا يبدأ ذكراً إلا بما يستحق أن يبدأ به فعلاً، وقد رتبها النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، كما تقدم، فيجب علينا التأسي به صلى الله عليه وسلم وأن نرتب أعضاء الوضوء، كما رتبها عليه الصلاة والسلام.

وهذا مبني على القاعدة الأصولية: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فاللفظ المذكور وإن كان ورد في موضوع السعي بين الصفا والمروة إلا أنه لفظ عام فيعمل بعمومه، وأن كل ما بدأ الله به نبدأ به، وتكون اية الوضوء مندرجة في ذلك العموم، فعلى رواية الأمر يكون الوجوب ظاهراً، وعلى رواية الخبر فلأن الظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم هو بيان المناسك، وقد قال:«لتأخذوا مناسككم»

(3)

لأن الظاهر أن المراد بيان الواجب لا بيان الأفضل، والله أعلم.

(1)

"الإلمام" رقم (56).

(2)

"التلخيص"(2/ 269).

(3)

أخرجه مسلم (1297).

ص: 211

الوجه الرابع: اعلم أن الترتيب في الوضوء ثلاثة أنواع:

1 -

ترتيب بين فرض وفرض، وهي الأعضاء الأربعة المذكورة في القران، كغسل اليدين بعد غسل الوجه، وهذا محل النزاع.

2 -

ترتيب بين مسنون ومسنون، كالمضمضة قبل الاستنشاق على القول بسنيتهما.

3 -

ترتيب بين مسنون وفرض، كالمضمضة وغسل الوجه، والجمهور على أن الترتيب بين المسنون والمسنون، والمسنون والفرض سنة، وليس بواجب؛ لأن أصل المسنون فعلٌ غيرُ واجب، فإذا انتفى الوجوب عن الأصل، انتفى الوجوب عن كيفية الفعل من باب أولى، لكن على القول بوجوب المضمضة والاستنشاق فإنه يشملهما الخلاف في النوع الأول. وقد ذكر ابن رشد أن سبب الخلاف في ترتيب أفعال الوضوء أمران:

1 -

أن واو العطف قد تفيد الترتيب وقد لا تفيده.

2 -

اختلافهم في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب

(1)

؟.

فالقول الأول: وجوب الترتيب في الوضوء، فيبدأ بغسل الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، ومن قدم عضواً على اخر لم يصح وضوؤه، وهذا قول أحمد والشافعي

(2)

واختاره أبو عبيد

(3)

، واستدلوا بدليلين:

1 -

اية المائدة، ووجه دلالتها على الترتيب: أن الله تعالى لما ذكر أعضاء الوضوء الأربعة أدخل الممسوح وهو الرأس بين المغسولين، وهما: اليدان والرجلان، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، ولو لم يكن الترتيب واجباً لجمعت الأشياء المتجانسة، ولم يقطع النظير عن نظيره.

2 -

أن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حكاه مرتباً بـ (ثم)، كما في

(1)

"بداية المجتهد"(1/ 53، 54).

(2)

"الأم"(1/ 45)، "الإنصاف"(1/ 138).

(3)

"الطهور" ص (355).

ص: 212

حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يذكر أحد منهم أنه قدم عضواً على غيره على خلاف الآية، وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى، كما تقدم في الوجه الأول.

القول الثاني: أن الترتيب غير واجب، فمن قدم عضواً على اخر فوضوؤه تام، وهو قول مالك، وأصحاب الرأي

(1)

، ورواية عن أحمد، ذكرها أبو الخطاب

(2)

، وبه قال جماعة من السلف، واختاره ابن المنذر

(3)

.

واستدلوا بدليلين:

1 -

حديث الرُّبَيِّع بنت معوذ في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (فغسل كفيه ثلاثاً، ووضَّأ وجهه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة .. ) وفي لفظ: (فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً، ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثاً، ثم يمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً .. )

(4)

.

2 -

أن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء، وعطف بعضها على بعض بواو الجمع، وهي لا تقتضي الترتيب، فكيفما غسل كان ممتثلاً.

والراجح القول الأول، وهو وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، لقوة دليله، قال أبو داود:(سمعت أحمد قيل له: إذا قدم وضوءه بعضه قبل بعض؟ قال: لا يجوز حتى يأتي به على الكتاب والسنة)

(5)

.

وأما دليل أصحاب القول الثاني وهو حديث الربيِّع فعنه جوابان:

الأول: أنه حديث معلول؛ لأنه من رواية محمد بن عبد الله بن عقيل وقد مضى ما فيه.

الثاني: على فرض صحته، فتقديم المضمضة والاستنشاق تقديم مسنون

(1)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 122)، "المدونة الكبرى"(1/ 14)، "المنتقى"(1/ 47).

(2)

"الهداية"(1/ 14).

(3)

"الأوسط"(1/ 422).

(4)

أخرجه أبو داود (126)، والدارقطني (1/ 96) واللفظ الثاني له، حسّنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 27).

(5)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (11).

ص: 213

على واجب، والجمهور على جوازه، على القول بسنيتهما، أو أن المضمضة والاستنشاق من الوجه.

وأما قولهم: إن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بالواو فهذا صحيح، لكن بين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أن الواو في الآية للترتيب، لا لمطلق الجمع، وفعله صلى الله عليه وسلم تفسير لما في كتاب الله تعالى، ويكون محمولاً على الوجوب؛ لأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت بياناً لواجب فهي واجبة، ويؤيد ذلك عموم «ابدؤوا بما بدأ الله به» كما تقدم، أما بالنسبة للمضمضة والاستنشاق ففي تقديمها على غسل الوجه قولان:

الأول: أنه يستحب البداءة بهما قبل غسل الوجه، وهذا هو الصحيح من المذهب عند الحنابلة، قالوا: لأن وجوبهما إنما ثبت بالسنة، والترتيب إنما وجب بدلالة القرآن معتضداً بالسنة، ولم يوجد ذلك فيهما.

القول الثاني: أنه يجب البداءة بهما قبل الوجه، وهذا قول في مذهب الحنابلة

(1)

، وذكر النووي أن الترتيب بينهما وبين أعضاء الوضوء شرط

(2)

.

واستدلوا بأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الصحيحة ذكر أنه بدأ بالمضمضة والاستنشاق، وقد رتب الرواة أعضاء الوضوء بـ (ثم) في معرض البيان، وهي للترتيب، والله أعلم.

(1)

"المغني"(1/ 171)، "الإنصاف"(1/ 131).

(2)

"المجموع"(2/ 149).

ص: 214

‌إدخال المرفقين في الوضوء

48/ 17 - وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا تَوَضَّأَ أدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه الدارقطني في «سننه» (1/ 83 رقم 15) من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، عن جده، عن جابر رضي الله عنه، به.

وإسناده ضعيف جداً، وقد ذكره الحافظ ليُعلم حاله وأنه ضعيف، لكنه لم يذكر ما يقوم مقامه، وضَعْفُهُ من أجل القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، فقد نقل الذهبي عن ابن معين قوله:(ليس بشيء)

(1)

، وقال أبو حاتم:(متروك الحديث)، وقال الإمام أحمد:(ليس بشيء)، وقال أبو زرعة:(أحاديثه منكرة، وهو ضعيف الحديث)

(2)

، وعبد الله بن عقيل تقدم الكلام فيه.

والمتروك: من يُتهم بالكذب، ومن يُكثر الغلط، لكن حاله أحسن من حال الوضاع بقليل، فإذا قيل: أطبقوا على تركه، فهذا أشد، بخلاف: تركه فلان.

الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب غسل المرفقين في الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه، وهذا الحكم دل عليه الحديث، وعليه فمتنه صحيح، لكن إسناده ضعيف، ويغني عنه ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى

(1)

"ديوان الضعفاء" ص (323).

(2)

"الجرح والتعديل"(7/ 119).

ص: 215

حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد .. الحديث، وفي اخره قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ .. الحديث

(1)

.

فهذا نص صحيح في دخول المرفقين في غسل اليدين ودخول الكعبين في غسل الرجلين، ويكون دليلاً على دخول الغاية، وتكون (إلى) في قوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بمعنى (مع)؛ لأن السنة تفسر القران وتبينه، وقد مضى بيان ذلك في حديث عثمان رضي الله عنه، ثاني أحاديث باب «الوضوء» ، والله أعلم.

(1)

تقدم تخريجه عند الحديث (43).

ص: 216

‌حكم التسمية في الوضوء

49/ 18 - عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا وُضوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ.

50/ 19 - وَلِلترْمِذِيِّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.

51/ 20 - وَأَبِي سَعْيدٍ نَحْوُهُ.

قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ.

الكلام عليها من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي رضي الله عنه، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كان من السابقين إلى الإسلام، وزوجته فاطمة بنت الخطاب، أخت عمر بن الخطاب، وفي بيته كان إسلام عمر رضي الله عنه، شهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر؛ لأنه كان غائباً في الشام، وشهد اليرموك وفتح دمشق، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، ذكر الذهبي أن لسعيد ثمانية وأربعين حديثاً اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثالث

(1)

وقصته مع أروى بنت أنيس مشهورة في إجابة دعائه عليها، وهي في «الصحيحين»

(2)

،

(1)

"سير أعلام النبلاء"(1/ 43).

(2)

"فتح الباري"(6/ 293)، و"صحيح البخاري"(3198)، ومسلم (1610)، وانظر:"الحلية"(1/ 96، 97).

ص: 217

وسيأتي ذكرها - إن شاء الله - في باب «الغصب» من كتاب «البيوع» مات سنة خمسين رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد (15/ 243)، وأبو داود (101) في كتاب «الطهارة» باب «التسمية على الوضوء» ، وابن ماجه (399) من طريق يعقوب بن سلمة الليثي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه:«لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهذا إسناد ضعيف، لأمرين:

الأول: جهالة يعقوب بن سلمة الليثي ووالده، وقد ذكر الحافظ أن يعقوب بن سلمة شيخ قليل الحديث، ما روى عنه من الثقات سوى محمد بن موسى بن أبي عبد الله الفطري، وأن أباه مجهول ما روى عنه سوى ابنه

(2)

، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال:(ربما أخطأ)

(3)

، وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جداً، كما تقدم.

الثاني: أن في اتصاله نظراً، فقد قال البخاري:(لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه)

(4)

. اهـ.

وقد وهم الحاكم فقال: (صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار)

(5)

ووجه الوهم ظَنُّ الحاكم أن يعقوب هو ابن أبي سلمة الماجشون، وليس كذلك، بل هو الليثي، كما تقدم، بإسقاط كلمة (أبي)، قال الذهبي متعقباً الحاكم: (صوابه الليثي .. وإسناده فيه لين

(6)

).

(1)

"الإصابة"(3/ 188).

(2)

"نتائج الأفكار"(1/ 225).

(3)

"الثقات"(4/ 317).

(4)

"التاريخ الكبير"(4/ 76).

(5)

"المستدرك"(1/ 146).

(6)

إذا قيل في الراوي: فيه لين، فمعناه: أن المتصف بذلك مجروح في حفظه جرحًا لا يخرجه من دائرة الاعتبار بحديثه، ولا يتعدى إلى عدالته.

ص: 218

وقد ورد للحديث طرق أخرى، وكلها ضعيفة، وله شواهد ذكر منها الحافظ اثنين، وهي: حديث سعيد بن زيد، وحديث أبي سعيد.

أما حديث سعيد بن زيد فقد أخرجه الترمذي (25) من طريق أبي ثِفَال المُرِّي، عن رباح بن عبد الرحمن، عن جدته، عن أبيها سعيد بن زيد مرفوعاً:«لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهذا إسناد ضعيف، فأبو ثِفال - واسمه: ثمامة بن وائل بن حصين - روى عنه جماعة، لكن قال البخاري:(في حديثه نظر)، قال الحافظ:(وهذه عادته فيمن يضعفه)

(1)

، وقال ابن حبان عن حديثه هذا: (ولكن في القلب من هذا الحديث؛ لأنه قد اختلف على أبي ثفال فيه

)

(2)

، وذكره الذهبي فقال:(ما هو بقوي، ولا إسناده يمضي)

(3)

، وقال الحافظ في «التقريب» عن أبي ثفال:(مقبول).

وأما رباح بن عبد الرحمن فقد قال عنه أبو حاتم وأبو زرعة: (إنه مجهول)

(4)

، أما ابن حبان فقد ذكره في «الثقات»

(5)

.

وأما جدة رباح - واسمها أسماء بنت سعيد بن زيد، كما جاء في رواية الحاكم (4/ 60)، وكذا عند البيهقي (1/ 43) - فقد ذُكرت في الصحابة، وقد ترجم لها الحافظ في «الإصابة» في القسم الأول منه

(6)

، وقال في «التقريب»:(يقال: «إن لها صحبة»)، وقال في «التلخيص»:(وإن لم يثبت لها صحبة فمثلها لا يُسأل عن حاله)

(7)

. وذكرها الذهبي في عداد النسوة المجهولات

(8)

.

وقد نقل الترمذي عن البخاري قوله: (أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن)

(9)

.

وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد أخرجه ابن ماجه (397)، وأحمد (17/ 465)، والترمذي في «العلل الكبير» (1/ 112) وغيرهم من طريق

(1)

"التلخيص"(1/ 86).

(2)

"الثقات"(8/ 157 - 158).

(3)

"الميزان"(4/ 508).

(4)

"علل الحديث"(1/ 52).

(5)

"الثقات"(6/ 307).

(6)

"الإصابة"(12/ 112).

(7)

"التلخيص"(1/ 86).

(8)

"الميزان"(4/ 604).

(9)

"جامع الترمذي"(1/ 39).

ص: 219

كثير بن زيد، ثنا رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» ، وهذا سند صالح.

فإن كثير بن زيد وثقه ابن حبان

(1)

وابن عمار الموصلي، وقال أحمد وابن معين وابن عدي:(لا بأس به)، وقال أبو زرعة:(صدوق فيه لين)، وقال أبو حاتم:(صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه)، وضعفه النسائي وابن معين في رواية، والطبري

(2)

.

ويستفاد من هذه الأقوال أن كثير بن زيد: هو إلى القوة أقرب منه إلى الضعف؛ لأن القاعدة في الرواة المختلف فيهم هو اعتبار الجرح والتعديل في الراوي، فحيث يستويان فحديثه يكون حسناً في الشواهد، وإن غلب جانب الجارحين ضُعِّفَ، وإن غلب جانب المعدلين مع عدم تفسير الجرح كان أقرب إلى القوة، وهذا هو حال كثير بن زيد.

أما ربيح بن عبد الرحمن فوثقه ابن حبان

(3)

، وقال ابن عدي:(أرجو أنه لا بأس به)

(4)

، وقال أبو زرعة وأبو حاتم:(شيخ)

(5)

، قال ابن أبي حاتم:(إذا قيل في الراوي: شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يُكتب حديث ويُنظر فيه)

(6)

. اهـ.

وقال الإمام أحمد: (ربيح رجل ليس بالمعروف) نقله ابن عدي

(7)

، وهذا كما قال ابن الملقن وغيره ليس بقادح

(8)

، فقد عرفه غيره، وروى عنه جماعة كثيرة، ومن عرف حجة على من لم يعرف.

ونقل الترمذي أن البخاري قال فيه: (منكر الحديث)

(9)

. وقال الحافظ في «التقريب» (مقبول) يعني عند المتابعة، وإلا فليِّن الحديث كما نص عليه في مقدمته.

(1)

"الثقات"(7/ 354).

(2)

"تهذيب التهذيب"(8/ 370).

(3)

"الثقات"(6/ 309).

(4)

"الكامل"(3/ 174).

(5)

"الجرح والتعديل"(3/ 519) وهذه العبارة ليست بجرح، لكنها تقلل من قدر الموصوف بها، والمعنى: ليس بحجة، فيكتب حديثه ويصلح في المتابعات.

(6)

"الجرح والتعديل"(2/ 37).

(7)

"الكامل"(3/ 173).

(8)

"البدر المنير"(3/ 234).

(9)

"العلل"(1/ 113).

ص: 220

وقد نقل ابن عدي عن أحمد بن حفص قال: (سئل أحمد بن حنبل - يعني وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء: فقال: (لا أعلم فيه حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح، وربيح رجل ليس بالمعروف)

(1)

، وقد تعقب الحافظ ابن حجر الإمام أحمد فقال:(قلت: لا يلزم من نفي العلم نفي الثبوت، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت، ثبوت الضعف، لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحكم بالحسن، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع)

(2)

.

ونقل العقيلي عن أبي بكر الأثرم - وهو أحمد بن محمد بن هانئ - أنه قال: (قلت لأبي عبد الله بن حنبل: التسمية في الوضوء؟ فقال: (أحسن شيء فيه حديث ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري)

(3)

.

وهذا لا يعارض ما تقدم، فقد قال النووي:(لا يلزم من هذه العبارة أن يكون الحديث صحيحاً، فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفاً، ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفاً .. )

(4)

.

وقال إسحاق بن راهويه: (هو أصح ما في الباب) نقله عنه ابن كثير

(5)

.

وقد ورد في الباب أحاديث أخرى لا تخلو أسانيدها من مقال، إلا أن بعضها يقوي بعضاً، قال المنذري:(ولا شك أن الأحاديث التي وردت في التسمية وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها وتكتسب قوة، والله أعلم)

(6)

. اهـ.

وقال الحافظ: (والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة، تدل على أن له أصلاً)

(7)

.

(1)

"الكامل"(3/ 173).

(2)

"نتائج الأفكار"(1/ 223).

(3)

"الضعفاء"(1/ 77) وفي "مسائل الإمام أحمد" رواية ابنه عبد الله ص (25) قال أحمد: لم يثبت عندي هذا. أي: حديث أبي سعيد.

(4)

"شرح الأذكار"(2/ 6).

(5)

"إرشاد الفقيه"(1/ 35).

(6)

"الترغيب والترهيب"(1/ 164).

(7)

"التلخيص"(1/ 86).

ص: 221

وقال ابن كثير: (وقد روي من طرق أُخر، يشد بعضها بعضاً، فهو حديث حسن أو صحيح)

(1)

، وقد صرح في «تفسيره» بأنه حديث حسن

(2)

، وقال ابن القيم:(أحاديث التسمية عند الوضوء أحاديث حسان)

(3)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له) لا: لنفي الجنس، وصلاة: اسمها وخبرها الجار والمجرور المتعلق بمحذوف، والتقدير: لا صلاة صحيحة لمن لا وضوء له؛ لأن الوضوء شرط لصحة الصلاة بإجماع المسلمين.

قوله: (ولا وضوء) لا: نافية للجنس، ووضوء: اسمها، وخبرها الجار والمجرور المتعلق بمحذوف، وتقديره: لا وضوء صحيح أو كامل، وإنما كان لنفي الكمال أو نفي الصحة؛ لأن نفي الذات متعذر، فإن من توضأ ولم يذكر اسم الله يصح أنه توضأ بالفعل؛ لأن أفعال الوضوء قد وجدت.

فعند الحنفية أن هذا النص وما ماثله يعتبر من قبيل المجمل الذي لم تتضح دلالته، لتردده بين الاحتمالين المذكورين، نفي الصحة أو نفي الكمال.

وقال الجمهور من أهل العلم: إن النفي إذا كان مسلطاً على الحقائق الشرعية؛ - لأن اللفظ جاء على لسان الشرع - فلا يعتبر مجملاً، بل يحمل على مراده؛ لأن الأصل إعمال الدليل الشرعي، والشرع ما خاطب بهذه الألفاظ إلا وهو يريد أن يرتب عليها أحكاماً.

والأصل أن النفي في نصوص الشرع مراد به نفي الصحة؛ لأنه مقدم على نفي الكمال، إلا إن وجد دليل يدل على أن المراد نفي الكمال عمل به، كما هنا؛ لأنه إن حمل على نفي الصحة عارض الأحاديث الصحيحة، كما سيأتي إن شاء الله، وإن حمل على نفي الكمال وافق الأحاديث الصحيحة، فيحمل على ذلك لتتوافق النصوص الشرعية ولا تتعارض.

قوله: (اسم الله): أي: إن التسمية على الوضوء أن يقول: بسم الله، لا

(1)

"إرشاد الفقيه"(1/ 36).

(2)

"تفسير ابن كثير"(1/ 34).

(3)

"المنار" ص (120).

ص: 222

يقوم غيرها مقامها، وموضعها بعد النية قبل أفعال الطهارة كلها، والمطلوب الاقتصار على (باسم الله) وأما زيادة (الرحمن الرحيم) فقد قال بها جماعة من الفقهاء، والظاهر أنه استحسان، وليس عليه دليل، فالاقتصار على الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأفضل.

الوجه الرابع: ظاهر الحديث وجوب التسمية في الوضوء بناء على أن الأصل في النفي الصحة لكونه أقرب إلى نفي الذات وأكثر لزوماً للحقيقة؛ أي: لا وضوء صحيح لمن لم يذكر اسم الله عليه.

وهذا قول الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه، وهو قول إسحاق (1)، على خلاف بينهم، هل تسقط بالنسيان أو لا؟

والقول الثاني: أن التسمية سنة، وهو قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن أحمد، اختارها الخرقي، وأبو محمد ابن قدامة

(1)

، وجماعة من الحنابلة وذكروا أن هذا هو المذهب الذي استقر عليه قول أحمد، ورجحه ابن المنذر

(2)

، وأبو عبيد، وابن حزم

(3)

، وابن كثير

(4)

، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم

(5)

، والشيخ عبد العزيز بن باز

(6)

، واستدلوا بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}

} الآية، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالغسل، ولم يأمر بالتسمية، ولو كانت واجبة لأمر الله بها، كما أمر بها في الصيد في قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، أي: على الجارح، وفي الذكاة في قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ} [الحج: 36].

وقد قال أبو زرعة الدمشقي: (قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فما وجه قوله: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» ؟! قال: فيه أحاديث ليست

(1)

"المغني"(1/ 145)، "نيل الأوطار"(1/ 161).

(2)

"الأوسط"(1/ 368).

(3)

"الطهور" ص (149)، المحلى (2/ 49).

(4)

"تفسير ابن كثير"(3/ 43).

(5)

"فتاوى ابن إبراهيم"(2/ 39).

(6)

"فتاوى ابن باز"(10/ 100).

ص: 223

بذاك، وقد قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} فلا أُوجبُ عليه، وهذا التنزيل، ولم تثبت سنة)

(1)

.

2 -

ما ورد في حديث رفاعة بن رافع في قصة المسيء صلاته، وفيه:«فتوضأ كما أمرك الله جل وعز»

(2)

.

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحاله في كيفية الوضوء على الآية الكريمة، وليس فيها ذكر التسمية.

3 -

أن الصحابة رضي الله عنهم وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً كاملاً - كما تقدم في أحاديثهم - ولم يذكر أحد منهم أنه سَمَّى في أول وضوئه، ولو كانت التسمية واجبة لم يتركها صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول هو الراجح، إن شاء الله، وهو أن التسمية سنة، تنبغي عند الوضوء وتتأكد، ولا ينبغي تعمد تركها، فإن تركها صح وضوؤه، وقد أفتى بذلك إمام السنة أحمد بن حنبل، قال أبو داود:(قلت لأحمد: التسمية في الوضوء؟ قال: (أرجو ألا يكون عليه شيء، ولا يعجبني أن يتركه خطأ ولا عمداً، وليس فيه إسناد)

(3)

ـ يعني الحديث ـ.

وأما الأدلة فلا تنهض على الوجوب؛ لأن غاية ما تصل إليه أنها من قبيل الحسن لغيره، لتعاضدها واجتماعها، وقد عورضت بما هو أصح منها مما اتفق عليه الشيخان من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى دلالة الآية، والقاعدة أنه إذا تعارض الحسن والصحيح قدم الصحيح، وهذا من فوائد تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن، وهذا الجواب عن الحديث من جهة الإسناد.

أما من جهة المتن فإن قوله: (لا وضوء) محمول على نفي الكمال، لا نفي الصحة، كما تقدم، والله تعالى أعلم.

(1)

"تاريخ أبي زرعة"(1/ 631).

(2)

أخرجه أبو داود (862) والحديث في الصحيحين بدون هذه الجملة، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله- في كتاب "الصلاة".

(3)

"مسائل الإمام أحمد"، رواية أبي داود ص (6).

ص: 224

‌كيفية المضمضة والاستنشاق

52/ 21 - عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّه قَال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَينَ المضْمَضَةِ وَالاستِنْشَاقِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

53/ 22 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه في صِفَةِ الْوُضُوءِ ـ: ثمَّ تَمضْمَضَ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثاً، يُمَضْمِضُ وَيَنْثُرُ مِنَ الْكَفِّ الذِي يَأْخُذُ مِنْهُ المَاءَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

54/ 23 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه في صِفَةِ الْوضُوءِ ـ: ثُمَّ أَدْخَلَ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدةٍ، يَفْعَلُ ذلِكَ ثَلَاثاً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليها من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، طلحة بن مُصَرِّف بن كعب اليامي الهمداني الكوفي، أحد الأعلام الأثبات من التابعين، وكان يقال له: سيد القراء، وهو ثقة من رجال الشيخين

(1)

، قال في التقريب:(ثقة قارئ فاضل).

وأبوه مصرف بن عمرو بن كعب، وبه جزم ابن القطان، ويقال: إنه ابن كعب بن عمرو الكوفي، روى عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسح الرأس عند

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 23).

ص: 225

أبي داود

(1)

، وعنه ابنه طلحة، وجده: أي جد طلحة، وهو عمرو بن كعب، أو كعب بن عمرو، وقد اختلف في صحبته، وأكثر المحدثين على أن له صحبة، قال ابن عبد البر:(له صحبة، ومنهم من ينكرها، ولا وجه لإنكار من أنكرها)، ثم ساق حديثه عند أبي داود (132) في مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه حتى بلغ القَذَالَ، وهو أول القفا، ثم قال:(وقد اختلف فيه، وهذا أصح ما قيل فيه). اهـ

(2)

.

والأكثرون من أهل العلم على أن والد طلحة، وهو مصرف مجهول، قاله ابن القطان، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر

(3)

، وذكر ذلك في «التقريب» ، ويؤيد ذلك أن أبا داود قال: (سمعت أحمد يقول: إن ابن عيينة زعموا أنه كان ينكره، ويقول: أيشٍ

(4)

هذا طلحة عن أبيه عن جده)

(5)

. ومعناه: أن هذا الإسناد ليس بشيء؛ لأنه يرويه طلحة عن أبيه عن جده، وهما لا يعرفان، وكذا حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني، ونقل ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد بن حنبل قال:(سألت أبي قلت: طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده له صحبة؟ وما اسم جده؟ قال: لا أدري، وقد بلغنا عن سفيان بن عيينة أنه أنكر أن يكون له صحبة)

(6)

.

الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث طلحة فقد أخرجه أبو داود (139) من طريق معتمر بن سليمان، قال: سمعت ليثاً يذكر عن طلحة، عن أبيه، عن جده قال: «دخلت

(1)

"السنن، (132).

(2)

"الاستيعاب"(9/ 249، 250).

(3)

"التلخيص"(1/ 90).

(4)

أيش: بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الشين، وأصلها: أيُّ شيء؟ فحذفت الياء الثانية من (أي) تخفيفًا، والهمزة من (شيء) بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها، فجعلا كلمة واحدة (أيشي)، ثم أعلت إعلال المنقوص، كقاضٍ، فصارت أيشٍ. (المصباح المنير 330).

(5)

"مسائل الإمام أحمد"(132).

(6)

"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (178).

ص: 226

ـ يعني على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق»، وسكت عنه أبو داود، وهذا إسناد ضعيف لعلتين:

الأولى: لأنه من رواية ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف عند الجمهور، بل نقل النووي اتفاق العلماء على ضعفه

(1)

، قال ابن الملقن:(وفيه وقفة)

(2)

، ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وقال أبو داود: سألت يحيى عن ليث، فقال:(لا بأس به)، وذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً

(3)

، وقال أحمد:(مضطرب الحديث، ولكن حدث الناس عنه)، ذكر ذلك الذهبي

(4)

والحافظ ابن حجر

(5)

، وقال ابن حبان:(كان من العباد، ولكن اختلط في اخر عمره، حتى كان لا يدري ما يحدث به، فكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات ما ليس من حديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه .. )

(6)

، وقال ابن أبي حاتم:(سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: ليث لا يشتغل به، وهو مضطرب الحديث)

(7)

، وقال الحافظ في «التقريب»:(صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك)، وهذه خلاصة ما قيل فيه، وأن روايته مردودة بسبب اختلاطه، ولم يُمَيَّزْ حديثه بحيث يعرف من روى عنه قبل اختلاطه فتقبل روايته، ومن روى عنه بعد الاختلاط فترد روايته.

والعلة الثانية: الاختلاف في طلحة وأبيه وجده، فقال ابن أبي حاتم:(سألت أبي عن هذا الحديث فلم يثبته، وقال: (طلحة هذا يقال: إنه رجل من الأنصار، ومنهم من يقول: هو طلحة بن مصرف، ولو كان طلحة بن مصرف لم يختلف فيه))

(8)

.

وفي «المراسيل» له قال: سئل أبو زرعة عن طلحة هذا، فقال: (لا

(1)

"تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 74).

(2)

"خلاصة البدر المنير"(1/ 32).

(3)

"التاريخ الكبير"(7/ 246).

(4)

"الميزان"(3/ 420).

(5)

"تهذيب التهذيب"(8/ 417).

(6)

"المجروحين"(2/ 237).

(7)

"الجرح والتعديل"(7/ 179).

(8)

"العلل"(1/ 53).

ص: 227

أعرف أحداً سَمَّى والد طلحة، إلا أن بعضهم يقول: ابن مصرف)

(1)

.

ووالد طلحة مجهول عند أهل العلم، كما تقدم عن ابن عيينة، وحكى ابن حجر عن ابن القطان أنه قال: (علة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو والد طلحة

(2)

) وجَدُّ مصرف مختلف في اسمه - كما تقدم - ومختلف في صحبته، وقد مضى ذكر ذلك.

وخلاصة ذلك أن هذا الإسناد مختلف فيه، والأكثرون على عدم إثباته، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.

وأما الحديث الثاني وهو حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (111) بطوله، وأخرجه النسائي (1/ 68)، وقد مضى تخريجه، وهو الحديث الثالث من أحاديث الوضوء، وقد ساق الحافظ في الموضعين موضع الاستدلال الذي يريده.

وأما الحديث الثالث وهو حديث عبد الله بن زيد فقد أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235) وقد مضى تخريجه، وهو الحديث الرابع من أحاديث الوضوء، واللفظ المذكور أخرجاه من طريق خالد بن عبد الله الطحان، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، وقد بوّب عليه البخاري بقوله:(بابُ مَنْ مضمض واستنشق من غرفة واحدة)(برقم 191).

الوجه الثالث: في هذه الأحاديث الثلاثة جاءت كيفية المضمضة والاستنشاق على ثلاث صفات:

الأولى: الفصل بين المضمضة والاستنشاق، وذلك بأن يأخذ لكل منهما ماء على حدة، فيتمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، فيكون المجموع ست غرفات، ليكون أسبغ في الوضوء، ودليل ذلك حديث طلحة، وهو حديث ضعيف، كما تقدم، لا تقوم به حجة، لكن ورد ما يؤيد ذلك، كما سيأتي إن شاء الله، وقد قال بهذه الصفة فقهاء الحنفية، وأكثر

(1)

"المراسيل"(179).

(2)

"التلخيص"(1/ 90).

ص: 228

فقهاء الشافعية، وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد

(1)

، وقد ذكر ابن الملقن أن الفصل يصدق على أنه يأخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثاً، وغرفة أخرى يستنشق منها ثلاثاً

(2)

.

الثانية: المضمضة والاستنشاق ثلاثاً من كف واحدة، بغرفة واحدة، مراعاةً للاقتصاد في ماء الوضوء، ولأن الفم والأنف جزءان من عضو واحد وهو الوجه، ودل على ذلك حديث علي رضي الله عنه، وهو قوله:(إن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنثر ثلاثاً، يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء) لكنه غير صريح في ذلك، بل يحتمل أنه كان يأخذ كف الماء ثم يتمضمض ويستنثر، ثم يأخذ كفاً اخر .. يفعل ذلك ثلاث مرات، ولعل هذا هو الأقرب، ليتفق مع حديث عبد الله بن زيد الآتي، وقد جاء في حديث علي رضي الله عنه ولفظه:(ثم تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً)

(3)

، وظاهر هذا الفصل، كما سيأتي، ثم إن الصفة المذكورة قد تكون متعذرة، إذ يعسر أن يبقى الماء في كف الإنسان يتمضمض منه ثلاثاً، ويستنشق منه ثلاثاً، وفي رواية:(ثم مضمض واستنشق بكف واحد ثلاثاً)

(4)

.

الصفة الثالثة: المضمضة والاستنشاق من كف واحدة بثلاث غرفات، وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين:(فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء)، وفي رواية لهما:(مضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثاً)

(5)

، وهذا قول الشافعي في الجديد، ورواية عن الإمام مالك، ذكرها القاضي عياض

(6)

، ورواية عن الإمام أحمد نَصَّ عليها

(7)

.

(1)

"الهداية"(1/ 23)، "المنتقى"(1/ 45)، "المجموع"(1/ 397)، "الإنصاف"(1/ 152).

(2)

"البدر المنير"(3/ 276).

(3)

أخرجه أبو داود (112)، والترمذي (49).

(4)

أخرجه النسائي (1/ 69).

(5)

أخرجه البخاري (1/ 191، 192)، ومسلم (235).

(6)

"الأم" للشافعي (1/ 24)، "شرح القاضي على صحيح مسلم"(2/ 26).

(7)

"الإنصاف"(1/ 152).

ص: 229

قال الأثرم: (سمعت أبا عبد الله يُسأل: أيُّما أعجب إليك؛ المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، أو كل واحدة منهما على حدة؟ قال: بغرفة واحدة)

(1)

.

والراجح من هذه الصفات الأخيرة، لورودها في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيحين، وعليها يحمل حديث علي رضي الله عنه، كما تقدم، وقد رجحها النووي

(2)

، أما رواية الفصل فهي ضعيفة، لضعف حديث طلحة، كما تقدم.

لكن ذكر ابن الملقن

(3)

وصاحب «عون المعبود»

(4)

أن أبا علي بن السَّكَن - وهو من الأئمة الحفاظ - روى في سننه المسماة: «الصحاح المأثورة» من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة قال: (شهدت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثاً ثلاثاً وأفردا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ). ثم قال: (روي عنهما من وجوه). فهذا صريح في الفصل بينهما، وشقيق بن سلمة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وروى عن الخلفاء الأربعة وعدد من الصحابة رضي الله عنهم.

وقد جاء من طريق عثمان بن عبد الرحمن التيمي قال: سئل ابن أبي مليكة عن الوضوء، فقال:(رأيت عثمان بن عفان سئل عن الوضوء فدعا بماء، فأُتي بميضأة، فأصغى على يده اليمنى، ثم أدخلها في الماء فتمضمض ثلاثاً واستنثر ثلاثاً .. الحديث)

(5)

، وظاهر ذلك أنه أخذ ماء للمضمضة بمفردها، ثم ماء اخر للاستنشاق بمفرده؛ لأن الاستنثار يلزم منه الاستنشاق.

قال الصنعاني: (ومع ورود الروايتين: الجمع وعدمه، فالأقرب التخيير، وأن الكل سنة، وإن كانت رواية الجمع أكثر وأصح .. )

(6)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(1/ 170).

(2)

"المجموع"(1/ 360).

(3)

"البدر المنير"(3/ 288).

(4)

"عون المعبود"(1/ 234).

(5)

أخرجه أبو داود (108).

(6)

"سبل السلام"(1/ 98).

ص: 230

‌حكم الموالاة في الوضوء

55/ 24 - عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، وَفِي قَدَمِهِ مِثْلُ الظُّفْرِ لَمْ يُصِبْهُ المَاءُ، فَقَالَ:«ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوَءَكَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (173) في كتاب «الطهارة» باب «تفريق الوضوء» ، من طريق ابن وهب، عن جرير بن حازم، أنه سمع قتادة بن دِعَامة، حدثنا أنس بن مالك: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل الظفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ارجع فأحسن وضوءك» ، قال أبو داود:(وهذا الحديث ليس بمعروف عن جرير بن حازم، ولم يروه إلا ابن وهب).

ومراد أبي داود بيان أن هذا الحديث لم يروه أحد عن جرير إلا عبد الله بن وهب، وهو تعليل لكونه غير معروف، قال الدارقطني:(تفرد به جرير بن حازم عن قتادة، وهو ثقة، ولم يروه عنه إلا ابن وهب)

(1)

. فعلم بذلك أن الحديث غريب؛ لأنه لم يروه عن قتادة إلا جرير، ولم يروه عن جرير إلا ابن وهب، وهذا التفرد من جرير يعتبر علة، لأنه وإن كان ثقة إلا أنه يحدث عن قتادة بأحاديث مناكير، قال ابن عدي:(جرير بن حازم له أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهو مستقيم الحديث، صالح فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي أشياء عن قتادة لا يرويها غيره)

(2)

.

(1)

"سنن الدارقطني"(1/ 108).

(2)

"الكامل"(2/ 130).

ص: 231

ولم أقف على الحديث في سنن النسائي، وقد عزاه المزي

(1)

لأبي داود فقط، فالظاهر أن الحافظ وَهِمَ في عزوه للنسائي، والله أعلم. وقد أخرجه - أيضاً - ابن ماجه (655)، وأحمد (19/ 471).

وقد ورد عن جابر رضي الله عنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ارجع فأحسن وضوءك» ، فرجع ثم صلى. أخرجه مسلم (243)، وأبو داود (173).

وورد من طريق بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة).

أخرجه أبو داود (175)، وأحمد (24/ 251)، قال الأثرم:(قلت لأحمد بن حنبل: هذا إسناد جيد؟ قال: (نعم)

(2)

.

وقد أعله الترمذي بأن بقية مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن بحير بن سعد، وأجاب ابن القيم عن ذلك بأن بقية صرح بالتحديث عند أحمد

(3)

، وهذا فيه نظر، فإن بقية صرح بالتحديث من شيخه، وعنعن في شيخ شيخه، وهذا لا يقبل ممن يدلس تدليس التسوية أمثال بقية.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (مثل الظفر) بضم الظاء المُشَالة والفاء، وبه جاء القران الكريم، قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]، ويجوز إسكان الفاء، ويجوز كسر الظاء وإسكان الفاء، وكسرهما معاً، ويجمع على أظفار، وجمع الجمع: أظافير.

قوله: (ارجع فأحسن وضوءك) أي: ائت به على أتم الوجوه وأكملها، فيكون أَمَرَهُ بغسل ما ترك.

ويحتمل أن معناه: استأنف وضوءك من أوله، قال الخطابي: (إن هذا

(1)

"تحفة الأشراف"(1/ 302).

(2)

"التنقيح"(1/ 407).

(3)

"مختصر تهذيب السنن"(1/ 129).

ص: 232

هو ظاهر معناه)

(1)

، ويؤيده ما تقدم في حديث ابن معدان رضي الله عنه:(فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة).

الوجه الثالث: استدل العلماء بهذا الحديث على وجوب استيعاب جميع أجزاء أعضاء الوضوء، وأن من ترك منها شيئاً ولو قليلاً فإن وضوءه لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من رأى على قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء بإحسان الوضوء وإتمامه وإسباغه، والحديث نص في القَدَمِ، ويقاس عليه غيره من الأعضاء، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال:«ويل للأعقاب من النار» ، وفي لفظ:(أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم قال: «ويل للأعقاب من النار»)

(2)

.

الوجه الرابع: يستدل بالحديث على وجوب إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، كالعجين أو الجص أو مادة صمغية كالغراء ونحوه؛ لأن الماء لا يصل لما تحتها، فيبقى غير مغسول فلا تتم الطهارة.

ويدخل في ذلك ما تفعله النساء من وضع صبغ الأظفار المسمى بالمناكير أو غيره، فإنه يمنع وصول الماء إلى البشرة.

الوجه الخامس: اختلف العلماء في وجوب الموالاة في الوضوء، والموالاة معناها: التتابع، وموالاة الوضوء: تتابعه، والمراد متابعة غسل الأعضاء بعضها إثر بعض بحيث يُغسل العضو قبل أن يجف الذي قبله في زمن معتدل، فلا اعتداد بتسارع الجفاف لشدة الحر، أو لوجود الهواء الشديد، أو لحال المحموم مع قلة الماء، ولا بتأخر الجفاف لشدة البرد.

ولا يقطع الموالاة الاشتغال في العضو الآخر بسنة كتخليل أو إزالة شيء على اليد كدهان متجمد ونحوه، أو انقطع الماء فانتقل المتوضئ من أنبوب إلى اخر، أو كون الماء لا يحصل إلا متفرقاً فكل ذلك لا يضر؛ لأنه أمر متعلق بالطهارة.

(1)

"معالم السنن"(1/ 128).

(2)

أخرجه البخاري (165)، ومسلم (242)، واللفظ الثاني للبخاري.

ص: 233

وفي حكم الموالاة ثلاثة أقوال:

القول الأول: وجوب الموالاة في الوضوء مطلقاً، وهذا قول الإمام أحمد، وهو المذهب، وقول الأوزاعي، وأحد قولي الشافعي، وهو قوله القديم.

وعلى هذا القول فلا تسقط الموالاة بالنسيان على الصحيح من المذهب

(1)

.

القول الثاني: أن الموالاة سنة وليست واجبة، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وهي ظاهر كلام الخرقي، فإنه لم يذكرها في فروض الوضوء، وهو القول الجديد للشافعي، وبه قالت الظاهرية

(2)

.

القول الثالث: أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة، ساقطة مع النسيان، ومع الذكر عند العذر، كنقصان الماء، أو كونه لا يحصل إلا متفرقاً، وهذا قول مالك

(3)

، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

.

واستدل الأولون بما يأتي:

1 -

اية الوضوء، ووجه الدلالة: أنها سيقت مساق الشرط {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، وجواب الشرط إن تعدد يكون متتابعاً لا يتأخر، ضرورة أن المشروط يلي الشرط.

2 -

حديث الباب، وحديث عمر عند مسلم:«فأحسن وضوءك» وحديث خالد بن معدان: (فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة)، فإن حُمِلَ اللفظ الأول على الثاني فالأمر واضح، وإن لم يحمل أحدهما على الآخر فدلالة الثاني واضحة؛ لأنه أمره أن يعيد الوضوء، ولو لم تكن المولاة واجبة لأمره أن

(1)

"المغني"(1/ 191)، "الإنصاف"(1/ 140).

(2)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 122)، "المغني"(1/ 191)، "المجموع"(1/ 478)، "المحلى"(1/ 312).

(3)

"بداية المجتهد"(1/ 54)، "الكافي" لابن عبد البر (1/ 165).

(4)

"الفتاوى"(21/ 135).

ص: 234

يغسل موضع اللمعة، ولم يأمره بإعادة الوضوء، وأما دلالة الأول فإما أن يراد بإحسان الوضوء: غسل ما ترك دون ما سبق، أو يحمل على إعادة الوضوء في تمام، بل قال الخطابي:(إن هذا هو ظاهر معناه) - كما تقدم - لتتفق الألفاظ.

3 -

أن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه توضأ متوالياً، ولم يكن يفصل بين أعضاء وضوئه.

4 -

أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن كذلك.

أما القائلون بأن الموالاة سنة، فاستدلوا بما يلي:

1 -

اية الوضوء، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء، فكيفما غسل جاز، فَرَّقَ بين الأعضاء أو نسَّق.

2 -

أن الوضوء إحدى الطهارتين فلم تجب الموالاة فيها كالغسل، وقالوا: إن المراد بإحسان الوضوء تكميل ما نقص منه، وأما أمره بالإعادة في حديث ابن معدان فلأنه يحتمل أنه أراد التشديد عليه في الإنكار والتنبيه على أن من ترك شيئاً فكأنه تارك للكل، أو أنه سمَّى غَسْلَ ما تركه: إعادة، باعتبار ظن المتوضئ.

أما القائلون بأنه إن تعمد التفريق بطل وضوؤه وإلا فلا، فاستدلوا بأدلة الأولين، كما استدلوا بعموم الأدلة على أن الناسي معفو عنه، كقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»

(1)

.

وهذا القول هو الراجح - إن شاء الله تعالى - لقوة الدليل على ذلك، وهي الأحاديث الثلاثة المذكورة: حديث أنس، وحديث عمر، وحديث خالد بن معدان، ولعلها باجتماعها يقوي بعضها بعضاً، وكذا ما جاء في معناها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا القول الثالث هو الأظهر والأشبه

(1)

أخرجه ابن حبان (16/ 202)، والدارقطني (4/ 170)، والحاكم (2/ 198)، والبيهقي (7/ 356) وهو حديث صحيح له طرق وشواهد، وقد حسنه النووي في "الأربعين"، وأقره الحافظ في" التلخيص"(1/ 301)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "الإحكام" لابن حزم (2/ 713)، وسيأتي شرحه -إن شاء الله- في كتاب "الطلاق".

ص: 235

بأصول الشريعة وبأصول مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أدلة الوجوب لا تتناول إلا المفرط، لا تتناول العاجز عن الموالاة .. )

(1)

.

وهذا كله مبني على طول الفصل، أما لو تبين له في الحال أن في قدمه شيئاً لم يصبه الماء أو في يده غَسَلَ ما ترك وأتى بما بعده ليكون مرتباً.

أما إجابة أصحاب القول الثاني عن أحاديث الباب فلا تخلو من ضعف، فإنَّ حَمْلَ الأمر بإعادة الوضوء على التشديد فيه نظر، فإن المقام مقام تعليم وبيان للأمة، ثم هو صرف للحديث عن ظاهره بلا دليل، والمجمل من النصوص يرد إلى المُبَيَّنِ، والله أعلم.

الوجه السادس: في الحديث دليل على أنه يشرع للمسلم إذا رأى من أخيه تقصيراً أو خطأ في واجب أن ينبهه عليه، لتصحيح عبادته؛ لأن هذا داخل في عموم قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، والله تعالى أعلم.

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 135).

ص: 236

‌قدر الماء الذي يكفي في الوضوء والغسل

56/ 25 - وعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «الوضوء بالمد» (201)، وأخرجه مسلم (325)(51)، من طريق مِسْعَرٍ قال: حدثني ابن جبر قال: سمعت أنساً يقول:

وذكر كحديث، واللفظ لمسلم.

وقد تقدم حديث عبد الله بن زيد، وهو الحديث العاشر من أحاديث الوضوء، وفيه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بثلثي مُدٍّ فجعل يدلك ذراعيه). أخرجه أحمد، وصححه ابن خزيمة.

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن مقدار المد من الماء يكفي في الوضوء، وأن مقدار الصاع أو خمسة أمداد يكفي في الغسل، وهذا يدل على مشروعية الاقتصاد في ماء الوضوء والغسل، وعدم الإسراف ولو كان الماء متيسراً، وما ذكر في الحديث تقريب لا تحديد؛ لأن الناس يتفاوتون في ذلك، وقد مضى الكلام على ذلك عند حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، ولله الحمد.

ص: 237

‌ما يقول بعد الوضوء

57/ 26 - وعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ.

وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ:«اللهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو: أبو حفص

(1)

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني خلفاء هذه الأمة، كان من أشراف قريش، أسلم في السنة الخامسة أو السادسة بعد البعثة، فكان في إسلامه عِزٌّ للمسلمين، لقوته وشدته على الكفار، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)

(2)

، هاجر إلى المدينة متقدماً على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها، وتولى الخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بعهد منه، فسار بأحسن سيرة، وزيَّن الإسلام بعدله، وفتح الله به الفتوح كبيت المقدس وجميع الشام فاتسعت رقعة الإسلام، وفي اخر ذي الحجة لأربع ليال بقين منه، طعنه

(1)

ورد ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكنونه بذلك. انظر: مسند الإمام أحمد (28/ 549).

(2)

أخرجه البخاري (3684)، (3863).

ص: 238

أبو لؤلؤة المجوسي بخنجر ذي رأسين وهو في صلاة الصبح حين كَبَّرَ، وتوفي بعد ثلاث ليال سنة ثلاث وعشرين، ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في حجرة عائشة خلف أبي بكر، ورأسه بحذاء صدر أبي بكر، فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأياماً، رضي الله عنه وأرضاه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في «الطهارة» (234) من طريق معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر، ورواه أيضاً معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله:«ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، فيقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة» . قال: فقلت: ما أجود هذا! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، قال: إني قد رأيتك جئت انفاً، قال:

فذكر الحديث. وفي اخره: «إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» .

ومعاوية بن صالح هو: ابن حُدير، وأبو عثمان قال عنه الذهبي:(لا يُدرى من هو؟ وخَرَّجَ له مسلم متابعة)

(2)

، وذكر ابن منجويه أنه يشبه أن يكون سعيد بن هانئ الخولاني المصري

(3)

، وقال ابن حبان بعدما أخرج هذا الحديث:(أبو عثمان هذا يشبه أن يكون - حريز، بفتح الحاء - ابن عثمان الرحبي)

(4)

. اهـ. وكلاهما ثقة لا أثر له على إسناد الحديث.

وأخرجه مسلم - أيضاً - من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحُباب بهما.

وقد ورد في الحديث زيادة: «ثم رفع نظره إلى السماء» وهي عند أحمد

(1)

"الاستيعاب"(8/ 242)، "الإصابة"(7/ 74).

(2)

"الميزان"(4/ 250).

(3)

"رجال مسلم"(2/ 396).

(4)

"صحيح ابن حبان"(3/ 325).

ص: 239

(28/ 593)، وأبي داود (170)، وابن السني رقم (31) من رواية أبي عقيل، واسمه زهرة بن معبد، عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، به، وهذه زيادة منكرة، تفرد بها ابن عم أبي عقيل هذا، وهو مجهول، قال الحافظ:«إن زهرة روى عن ابن عمه ولم يسمه»

(1)

، وزهرة من رجال البخاري، وباقي رجال إسناد أحمد رجال الشيخين.

وقد أخرجه الترمذي (55) بالزيادة المذكورة عن جعفر بن محمد بن عمران التغلبي، عن زيد بن الحُباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن زيد، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب، ولم يذكر عقبة بن عامر في الإسناد.

قال الترمذي: (وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء).

ومراده بالاضطراب أنه أسقط في الإسناد الأول بين أبي إدريس وبين عمر: عقبة بن عامر، فصار من حديث عمر: وليس كذلك، وأسقط في الثاني بين أبي عثمان وبين عمر، جبير بن نفير وعقبة فصار منقطعاً بل معضلاً، وقد خالف جعفرَ بنَ محمدٍ كلُّ من رواه عن معاوية بن صالح، ثم عن زيد بن الحُباب. قاله الحافظ

(2)

.

وكلام الترمذي هذا فيه نظر، فإن الحديث صحيح مستقيم الإسناد، أخرجه مسلم في صحيحه، قال الحافظ:(لكن رواية مسلم سالمة من هذا الاعتراض)

(3)

.

فالحق أنه لا اضطراب في الحديث، فإن جميع الرواة عن معاوية بن صالح متفقون على إسناد الحديث وأن صحابيه عقبة بن عامر، وإنما جاء الاضطراب في الأسانيد التي نقلها الترمذي - منه أو ممن حدثه بها - وذلك في رواية زيد بن الحُباب دون باقي الروايات، ثم إن زيد بن الحُباب قد روى

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 295).

(2)

"نتائج الأفكار"(1/ 241).

(3)

"التلخيص"(1/ 112).

ص: 240

الحديث عن معاوية بالطريقين - طريق ربيعة بن زيد، وطريق أبي عثمان - عند مسلم - كما تقدم - فترجحت روايته هذه لكونها عن الثقات الأثبات، أما روايته الأخرى المخالفة لذلك كرواية الترمذي فلا يُدرى هل الاضطراب فيها من زيد نفسه أو من الرواة عنه؟ وقد رجح أبو علي الغساني في «تقييد المهمل»

(1)

أن شيخ الترمذي لم يضبط إسناده عن زيد، وحمل الترمذي في ذلك على زيد بن الحُباب، وهو بريء من ذلك، والوهم في ذلك من الترمذي أو من شيخه الذي حدثه به؛ لأنه تقدم أن الحديث رواه عن زيد أئمة حفاظ مثل أبي بكر بن أبي شيبة، بما يخالف ما ذكره الترمذي.

وقد جزم الحافظ ابن حجر بأن محمد بن جعفر شيخ الترمذي لم يضبط الإسناد

(2)

.

وهذه الزيادة لم ترد في جميع الروايات، إلا في رواية الترمذي وحدها، وقد علمت أنها مضطربة، فلا حجة فيها لإثبات هذه الزيادة، كما قال الشيخ أحمد شاكر

(3)

.

وقد صححها الألباني، قال:(لأنه اضطراب مرجوح)

(4)

، وذكر له شاهداً من حديث ثوبان عند الطبراني

(5)

، وابن السني

(6)

، من طريق أبي سعد البقال الكوفي الأعور، قال الهيثمي:(والأكثر على تضعيفه)

(7)

، ووثقه بعضهم

(8)

، ولفظ الطبراني ليس فيه جملة:«اللهم اجعلني .. » ، وصححها - أيضاً - الشيخ عبد العزيز بن باز فقال:(هذه الرواية عند الترمذي سندها جيد)

(9)

.

وللحديث بهذه الزيادة طريق أخرى عند الطبراني

(10)

من رواية الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، وهو إسناد ضعيف، سالم لم يسمع من

(1)

(3/ 789).

(2)

"نتائج الأفكار"(1/ 241).

(3)

"جامع الترمذي"(1/ 83).

(4)

"الإرواء"(1/ 135).

(5)

"المعجم الكبير"(2/ 100).

(6)

"عمل اليوم والليلة"(32).

(7)

"مجمع الزوائد"(1/ 239).

(8)

انظر: "تهذيب التهذيب"(4/ 70).

(9)

"حاشية ابن باز على البلوغ"(1/ 89).

(10)

"المعجم الأوسط"(5/ 464).

ص: 241

ثوبان، والراوي عن الأعمش وهو مسور بن مُوَرِّع العنبري ليس بالمشهور.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما منكم من أحد يتوضأ) ما: نافية، ومنكم: خبر مقدم، ومن: حرف جر زائد للتوكيد، وأحد: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

ولفظ: (من أحد) من صيغ العموم؛ لأنها نكرة في سياق النفي، وزيدت عليها (من) للاستغراق، والمعنى: أيُّ واحد منكم، فيشمل الرجل والمرأة.

قوله: (فيسبغ الوضوء) تقدم أن الإسباغ يطلق ويراد به استيعاب محل الفرض، ويطلق ويراد به ما زاد على الواجب من الغسلة الثانية والثالثة، والظاهر أن هذا هو المراد هنا، والفاء هنا للترتيب الذكري، لا للترتيب الزمني؛ لأن الإسباغ لا يتأخر عن الوضوء، وإنما يقارن كل عضو من الأعضاء.

قوله: (ثم يقول .. ) أي: بعد نهاية الوضوء مباشرة بدون فاصل، وثم: للتراخي الزمني، وهو في كل موضع بحسبه.

قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) معنى (أشهد): أي أقر بقلبي ناطقاً بلساني، كالمشاهد بما أقر به، فالشهادة: الاعتقاد الجازم الذي يعبر عنه اللسان، و (أن) مخففة من الثقيلة، ولذا تكتب مفصولة عن (لا) النافية، للتفرقة بينهما وبين (أن) الناصبة للمضارع، فإنها تكتب موصولة، نحو: أُحِبُّ ألا تتأخر.

وخبر (لا) النافية للجنس محذوف، تقديره: حق ونحوه، والمعنى: لا معبود بحق إلا الله .. ولفظ (الله) بدل من الضمير في الخبر، فالله تعالى هو الإله الحق، لكمال ذاته وصفاته، أما من عُبِدَ من دونه فليس بإله وإن سُمِّي به، {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23].

قوله: (وحده لا شريك له) وحده: حال مؤكدة لمعنى الإثبات، ولا شريك له: توكيد للنفي، والشريك: المعاون والمساعد في الشيء.

ص: 242

قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) أي: المتذلل له بالطاعة وبتبليغ الرسالة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ورسوله؛ أي: المرسل من عنده بشرعه إلى جميع العالمين.

قوله: (إلا فتحت له أبواب الجنة) أي: الثمانية كما هو لفظ مسلم. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريَّان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل غيرهم»

(1)

. وفتح أبواب الجنة لصاحب هذا الفضل يحمل على أمرين:

أحدهما: تيسير الأعمال الموصلة إلى تلك الأبواب، بمعنى أن الله يهيئ له أسباب الأعمال الصالحة التي تبلغه هذه الأبواب.

الثاني: أن المراد ستفتح له يوم القيامة، فوضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه، كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].

قوله: (اللهم) هذا منادى، والميم المشددة عوض عن حرف النداء والأصل: يا الله، فحذف حرف النداء، وعوضت عنه الميم.

قوله: (اجعلني من التوابين) جمع تواب: وهي صيغة مبالغة من تاب يتوب، أي: اجعلني من الذين يكثرون التوبة والاستغفار مما قارفوه من معاصٍ وذنوب.

قوله: (واجعلني من المتطهرين) جمع متطهر، والتطهر: التنزه، أي: اجعلني من الذين يتنزهون من الذنوب والأحداث والأنجاس، وجمع بينهما إلماماً بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. ولما كانت التوبة طهارة الباطن عن أدران الذنوب، والوضوء طهارة الظاهر عن الأحداث والأنجاس التي تمنع من التقرب إلى الله تعالى ناسب الجمع بينهما.

الوجه الرابع: استحباب هذا الذكر الجليل المشتمل على الشهادتين عند نهاية الوضوء؛ لأنه سبب للسعادة الأبدية، وهي دخول الجنة من أي

(1)

أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152).

ص: 243

أبوابها شاء، وهذا فضل عظيم فإنه ورد أن للصلاة باباً، وللصدقة باباً، وللجهاد باباً، وللصيام باباً - كما تقدم ـ، وقائل هذه الكلمة العظيمة بعد الوضوء تفتح له جميع الأبواب يدخل من أيها شاء، فهذا الفضل العظيم مرتب على هذا الذكر، لا على الوضوء بدون الذكر، لئلا يتعارض ذلك مع ما ورد من أن الصلاة لها باب، والوضوء الذي هو وسيلة إلى الصلاة بهذه الفضيلة، فيقال في الجواب ما تقدم.

وفي هذا الذكر مناسبة عظيمة، فإن المتوضئ لما أكمل ظاهره بالتطهير بالماء وإسباغ الوضوء، كَمَّلَ باطنه بعقيدة التوحيد وكلمة الإخلاص التي هي أشرف الكلمات.

قال الصنعاني: (ولا يخفى حسن ختم المصنف باب الوضوء بهذا الدعاء، الذي يقال عند تمام الوضوء فعلاً، فقاله عند تمام أدلته تأليفاً .. )

(1)

.

وقد ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، خُتم عليها بخاتم، فوضعت تحت العرش، فلم يكسر إلى يوم القيامة»

(2)

، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

"سبل السلام"(1/ 103).

(2)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(2/ 271) والحاكم (1/ 564) مرفوعًا، وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة"(رقم 81، 82، 83) مرفوعًا من طريق يحيى بن كثير، عن شعبة، وموقوفًا من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي هاشم، ومن طريق سفيان الثوري عن أبي هاشم، وهو يحيى بن دينار الرماني، فاتفق الثوري وشعبة -من رواية غندر- على وقفه، وأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(رقم 30)، قال النسائي عن رواية الرفع:(وهذا خطأ، والصواب موقوف)، قال الحافظ في "نتائج الأفكار" (1/ 246):(قال الطبراني: "لم يروه عن شعبة مرفوعًا إلا يحيى بن كثير"، قلت: وهو ثقة من رجال الصحيحين، وكذا من فوقه إلى الصحابي، وأما شيخ النسائي -أي: يحيى بن محمد بن السكن- فهو ثقة -أيضًا- من شيوخ البخاري، ولم ينفرد به، فالسند صحيح بلا ريب -أي: رقم (81) - وإنما اختلف في رفع المتن ووقفه، فالنسائي جرى على طريقته في الترجيح بالأكثر والأحفظ، وأما على طريقة المصنف -أي: مصنف "الأذكار"، وهو النووي- تبعًا لابن الصلاح وغيره فالرفع عندهم مقدم =

ص: 244

‌باب المسح على الخفين

ذكر الحافظ هذا الباب بعد باب «الوضوء» للمناسبة بينهما، لأن المسح على الخفين يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء.

والمسح: إمرار اليد على الخفين مبلولة بالماء، والمراد بالخفين: ما يلبس على القدم من الجلد ساتراً لها، جاء في «المعجم الوسيط»

(1)

: (الخف: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق). والخف يجمع على خِفَافٍ، وأما خف البعير فيجمع على أخفاف

(2)

، وتقاس عليها الجوارب وهي ما تكون من غير جلد كالخرق وشبهها، وهي الشرَّاب، أو تلحق بها عن طريق العموم اللفظي، كما في حديث ثوبان رضي الله عنه الآتي:(أمرهم أن يمسحوا على التساخين)، وهي تعم كل ما يسخن القدم، وسيأتي لذلك مزيد عند الكلام على حديث ثوبان، إن شاء الله.

والمسح على الخفين ثابت في القران والسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع عليه المسلمون، خلا الشيعة، ولا يعتد بهم.

أما القران فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] على قراءة الجر في قوله: «وأرجلِكم» وهي قراءة سبعية، فتكون معطوفة على

= لما مع الرافع من زيادة العلم، وعلى تقدير العمل بالطريقة الأخرى فهذا مما لا مجال للرأي للرأي فيه فله حكم الرفع). اهـ كلام الحافظ رحمه الله.

وهو كلام مفيد حقق فيه المسألة، ورجح فيه صحة الحديث، فإن كان مرفوعًا فذاك، وإن كان موقوفًا -وهو الأرجح- فله حكم الرفع؛ لأنه ذكر مخصوص بعد عبادة مخصوصة، وإخبار عن أمر غيبي، فلا يمكن للصحابي أن يقوله دون أصل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(1)

(1/ 274).

(2)

"المصباح المنير" ص (176).

ص: 245

قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} لأنها أقرب إلى الأرجل من الوجوه، والعطف على الأقرب معروف في لغة العرب، والمراد بذلك المسح على الخفين على أحد الأوجه التي قيلت في قراءة الجر؛ لأن جميع من وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه كان يمسح رجليه بدون أن يكون عليهما خف، بل كان يغسلهما، فتعين حملها على مسح الخفين، كما بينته السنة، وبذلك يتم ثبوت المسح بالقران، وهو أحسن الوجوه التي توجه بها قراءة الجر، كما قال الصنعاني

(1)

.

وأما السنة فقد ثبت جواز المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، حضراً وسفراً، وبلغت الأحاديث في ذلك حد التواتر، فقد نقل ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال:(حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين)

(2)

، وذكر أبو القاسم بن منده في «تذكرته» من رواه فبلغ ثمانين

(3)

، وكذا ذكرهم ابن الملقن وبلَّغهم ثمانين

(4)

، ومن هؤلاء الرواةِ العشرةُ المبشرون بالجنة، ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك أنه قال:(ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز)

(5)

، ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد قوله:(ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رفعوا إلى النبي، وما وقفوا)

(6)

.

والمسح على الخفين من الرخص الدالة على كمال الدين الإسلامي ويسر تشريعاته، وبُعدها عن الحرج، فإن الإنسان يحتاج للمسح على الخفين، لا سيما في فصل الشتاء، وفي البلاد الباردة.

واعلم أن بعض العلماء قد ذكر موضوع المسح على الخفين في كتب العقائد مثل الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله في «العقيدة الطحاوية» ، مع أن المسح على الخفين من المسائل العملية، وليس من المسائل العلمية، وذلك لأمرين:

(1)

"سبل السلام"(1/ 106).

(2)

"الأوسط"(1/ 430).

(3)

"التلخيص"(1/ 167).

(4)

"شرح العمدة" لابن الملقن (1/ 615).

(5)

"الأوسط"(1/ 434).

(6)

"المغني"(1/ 360).

ص: 246

1 -

بيان معتقد أهل السنة والجماعة، والرد على من خالف في ذلك من طوائف أهل البدع؛ كالشيعة والخوارج، فصار المسح شعاراً لأهل السنة، وعدم المسح شعاراً لغيرهم من أهل البدع

(1)

.

2 -

بيان أن أحاديث المسح بلغت حد التواتر الذي لا ينكره إلا معاند مكابر.

وهؤلاء المخالفون يحتجون بأن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} نص على مباشرة الرجلين بالماء، قالوا: وأحاديث المسح منسوخة باية المائدة، وهذا غير صحيح؛ لأن المسح ثابت في غزوة تبوك سنة تسع، واية المائدة نزلت في غزوة المريسيع وهي سنة ست، فهي قبل تبوك اتفاقاً، ولو سُلّمَ تأخر اية المائدة فلا منافاة بينها وبين أحاديث المسح، فإن الأمر بالغسل متوجه إلى من لا خف له، والرخصة في المسح إنما هي للابس الخف، والله أعلم.

(1)

انظر: "التمهيد"(11/ 134).

ص: 247

‌بيان حكم المسح على الخفين

58/ 1 - عَنِ المُغيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضّأَ، فَأَهْوَيْتُ لأنزِعَ خُفّيهِ، فَقَالَ:«دَعْهُمَا، فَإِنّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» ، فَمَسحَ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان» (206)، ومسلم (274)(79) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه رضي الله عنه.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن زكريا مدلس، وأنه لم يروه من حديث عامر إلا بالعنعنة

(1)

، وفاته أنه أخرجه أبو عوانة في «مسنده» (1/ 255) من ثلاثة طرق عن زكريا، قال: ثنا عامر، فقد صرح بالتحديث

(2)

فزال بذلك ما يخشى من تدليسه، ثم إن المشهور عند أكثر العلماء أن رواية المدلس في الصحيحين بلفظ العنعنة حكمها الصحة والاتصال، وتحمل على ثبوت السماع لدى الشيخين من جهة أخرى، إحساناً للظن بهما أو لأمور أخرى ذكرها أهل العلم

(3)

.

وذكر الحافظ أن الحديث له طرق كثيرة عن المغيرة، ونقل عن البزار أنه

(1)

"فتح الباري"(1/ 309).

(2)

انظر:"الخلافيات" للبيهقي (3/ 238).

(3)

"التدليس" ص (133).

ص: 248

رُويَ عن المغيرة من نحو ستين طريقاً

(1)

، فهو من أشهر أحاديث المسح على الخفين.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ) هكذا في نسخ «البلوغ» (فتوضأ)، وعند البخاري:(في سفر) مكان: (فتوضأ)، ومعنى (فتوضأ): أخذ في الوضوء، لا أنه استكمله، بدليل سياق الحديث، والمراد بالسفر: سفر غزوة تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة، وكان ذلك قبل صلاة الفجر، كما ورد في «المغازي»

(2)

.

قوله: (فأهويت): أي: انحنيت ماداً يدي، يقال: أهوى بيده إلى كذا ليأخذ، وأهويت: قصدت الهواء من القيام إلى القعود، وهذا في الرباعي، وأما في الثلاثي: فهوى - بفتح الواو - يهوي: إذا سقط.

قوله: (لأنزع) بكسر الزاي، من باب ضرب يضرب، أي: أخلع، وهذا الصنيع من المغيرة رضي الله عنه يحتمل أنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه صلى الله عليه وسلم سيفعل الأفضل على القول بأن الغسل أفضل.

قوله: (دعهما) الضمير يعود على الخفين، أي: اتركهما، أو يعود على القدمين، والأول أظهر.

قوله: (فإني أدخلتهما طاهرتين) الضمير في قوله: (أدخلتهما) يعود على القدمين، بدليل رواية أبي داود:«دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان»

(3)

، و (طاهرتين) حال من الهاء في (أدخلتهما)، والجملة تعليلية لقوله:(دعهما)، وجاء في رواية يحيى بن سعيد القطان عن زكريا، عند أحمد بلفظ:«أدخلتهما وهما طاهرتان»

(4)

، وسيأتي - إن شاء الله - الفرق بين اللفظين.

(1)

"التلخيص"(1/ 166).

(2)

انظر: "فتح الباري"(8/ 125).

(3)

"سنن أبي داود"(151).

(4)

"مسند أحمد"(30/ 175 - 176).

ص: 249

الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز المسح على الخفين في الوضوء بدلاً من غسل الرجلين، وذلك في السفر لهذا الحديث، وفي الحضر لحديث علي رضي الله عنه الآتي. ومثله حديث حذيفة رضي الله عنه

(1)

.

ولا فرق في جواز المسح أن يكون لحاجة أم لا، فيجوز للمرأة الملازمة لبيتها، والمريض الذي لا يمشي، وقد نقل النووي الإجماع على ذلك

(2)

.

ويقاس على الخفين كل ما يستر الرجلين من الشراب واللفائف ونحو ذلك، كما سيأتي إن شاء الله.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المسح على الخفين لمن كان لابساً لهما أفضل من خلعهما وغسل الرجلين، لقوله:(دعهما)، ولأن المسح من السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طعن فيها طوائف من أهل البدع، فكان إحياء ما طعن فيه المخالفون من السنة أفضل من إماتته

(3)

.

ومن يخلع خفيه عند كل وضوء فقد خالف السنة، ويخشى أن يكون فعله هذا تشبهاً بالرافضة.

وأما مع عدم اللبس فالأفضل الغسل، ولا يلبس ليمسح؛ لأن الغسل هو الأفضل حينئذٍ.

الوجه الخامس: الحديث دليل أن المسح يكون على مطلق الخف، فما سمي خفاً جاز المسح عليه، ولو كان فيه خرق أو شق على الصحيح من قولي أهل العلم؛ لأن السنة وردت بالمسح على الخفين مطلقاً دون تقييده بأوصاف زائدة، ولأن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها من فتق أو خرق، لا سيما مع تقادم عهدها، وكان كثير من الصحابة رضي الله عنهم فقراء لا يمكنهم تجديد ذلك، فما أطلقه الشرع لم يجز لأحد تقييده إلا بدليل شرعي، والصحابة رضي الله عنهم

(1)

"التمهيد"(11/ 145).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 167).

(3)

"التمهيد"(11/ 134).

ص: 250

لم ينقل عن أحد منهم تقييد الخف بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفاف مع علمهم بأحوالها، فعلم أنهم كانوا قد فهموا عن نبيهم جواز المسح على الخفين مطلقاً

(1)

.

فعلى هذا لا يصح اعتبار شروط لا أصل لها في الشرع، وتعود على مقصود الرخصة بالإبطال.

الوجه السادس: استدل بعض العلماء بقوله: «فإني أدخلتهما وهما طاهرتان» على أن إكمال الطهارة شرط في صحة المسح على الخفين، وأنه لا يلبسهما إلا بعد طهارة الرجلين جميعاً؛ لأن قوله:«وهما طاهرتان» ، حال من كل واحدة من الرجلين، فيصير التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها، وذلك إنما يكون بإكمال الطهارة، وعلى هذا فلو غسل الرجل اليمنى وأدخلها، ثم اليسرى وأدخلها لم يصح المسح؛ لأنه لم يدخلهما وهما طاهرتان، بل أدخل الأولى قبل طهارة الثانية، وهذا قول مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد

(2)

، وعند هؤلاء لو حصل ما ذكر وجب عليه أن يخلع اليمنى، ثم يلبسها مرة أخرى، ليكون لبسها بعد كمال الطهارة.

والقول الثاني: أن من غسل إحدى رجليه ولبس الخف، ثم غسل الأخرى ولبس الخف أن طهارته كاملة، ويجوز له المسح، وهذا قول الحنفية، وبعض الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد

(3)

، قالوا: لأنه إذا غسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل إحدى رجليه فقد طهرت رجله التي غسلها، فإذا أدخلها في الخف فقد أدخلها وهي طاهرة، ثم إذا غسل الأخرى من ساعته وأدخلها الخف فقد أدخلها وهي طاهرة، فقد أدخل مَنْ هذه صفته رجليه الخف وهما طاهرتان.

وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: (إن هذا الصواب

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 172).

(2)

"حاشية الدسوقي"(1/ 143)، "المجموع"(1/ 540)، "الإنصاف"(1/ 171 - 172).

(3)

"شرح فتح القدير"(1/ 147)، "المجموع"(1/ 540)، "المغني"(1/ 361).

ص: 251

بلا شك)

(1)

، كما اختاره ابن القيم، وقال:(إنه أصح القولين)

(2)

.

وقوله: (فإني أدخلتهما طاهرتين) ليس نصاً فيما ذكره الأولون، بل يحتمل أن المعنى ما ذكر، ويحتمل أن المعنى أدخلت كل واحدة طاهرة، لكن قد يؤيد القول الأول حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر، فلبس خفيه أن يمسح عليهما - وسيأتي إن شاء الله ـ، فقوله:(إذا تطهر فلبس) يفيد أنه لا يلبس قبل غسل الرجل اليسرى؛ لأن من فعل ذلك لم يصدق عليه أنه تطهر، وهذا هو الأحوط في هذه المسألة أنه لا يلبس الخفين إلا بعد كمال الطهارة، لكن من أخذ بالقول الثاني لم نجزم ببطلان طهارته وصلاته، لقيام الاحتمال.

الوجه السابع: الحديث دليل على شرط من شروط المسح على الخفين، وهو أن يلبسهما على طهارة، وظاهره أن المراد الطهارة بالماء؛ لأنها هي المراد عند الإطلاق، وهذا قول الجمهور

(3)

، فلو لبسهما على طهارة التيمم لم يمسح عليهما عند وجود الماء؛ لأن طهارة التيمم لا تعلق للرّجْلِ بها، فلا يتحقق قوله:«وهما طاهرتان» .

الوجه الثامن: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه حيث منع المغيرة من خلعهما وبيّن له السبب، وهو أنه أدخلهما طاهرتين، وفي هذا ثلاث فوائد كما تقدم في حديث الهرة:

1 -

اطمئنان النفس واقتناعها؛ لأنها إذا علمت علة الحكم اطمأنت، وإن كان المؤمن سيطمئن على كل حال، لكن زيادة ذكر علة الحكم كلها خير.

2 -

سمو الشريعة وأنه لا يوجد حكم إلا وله علة وحكمة.

3 -

شمول الحكم بشمول العلة، فكل ما تحققت فيه العلة ثبت فيه الحكمُ المعلّلُ بهذه العلة، والله تعالى أعلم.

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 209، 210).

(2)

"إعلام الموقعين"(3/ 382).

(3)

"فتح الباري"(1/ 310).

ص: 252

‌محل المسح على الخفين

59/ 2 - وَللأرْبَعَة عَنْهُ إلاّ النّسَائِيّ: أَنّ النبِيّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلَهُ. وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

60/ 3 - عَنْ عَلِيّ رضي الله عنه قَالَ: لَوْ كَانَ الدّينُ بِالرّأْيِ لَكانَ أَسْفَلُ الْخُفّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفّيْهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث المغيرة فقد أخرجه أبو داود (165) في كتاب «الطهارة» باب «كيفية المسح» ، والترمذي (97)، وابن ماجه (550) من طريق الوليد بن مسلم، أخبرنا ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة به

وهذا إسناد فيه ضعف - كما قال الحافظ - وقد ذكره ليعلم حاله، فقد أُعل بعلتين قادحتين:

الأولى: الانقطاع بين ثور ورجاء، قال أبو داود عقبه:(وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء)، وقال الدارقطني:(رواه ابن المبارك عن ثور، قال: حُدّثتُ عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ليس فيه المغيرة)

(1)

.

(1)

"سنن الدارقطني"(1/ 195).

ص: 253

العلة الثانية: الإرسال، وذلك أن كاتب المغيرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركه، كما تقدم في رواية ابن المبارك، وهذا ما رجحه البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، قال الترمذي: (سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: لا يصح هذا

وذكر كلام ابن المبارك .. وسألت أبا زرعة، فقال نحواً مما قال محمد بن إسماعيل)

(1)

، وقال ابن أبي حاتم:(سألت أبا زرعة وأبي عن هذا الحديث فقالا: هذا أشبه) يعني: طريق ابن المبارك الذي فيه عدم ذكر المغيرة

(2)

.

وفيه علة ثالثة وهي: جهالة كاتب المغيرة، كما في سياق أبي داود والترمذي، ذكر ذلك ابن حزم

(3)

لكنها علة غير قادحة، فقد سُمّيَ في رواية ابن ماجه:(ورّاداً)، وهو ثقة مشهور احتج به الستة.

وقصارى القول أن سند الحديث ضعيف، لما تقدم، وضَعَّفَهُ أئمة هذا الشأن: البخاري، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالإسناد، أما المتن فإن الأحاديث الصحيحة على خلافه، فإنها قد تضافرت على ذكر المسح على ظاهر الخف، وليس على باطنه، ومما يؤيد أن المسح على باطن الخف لم يكن معروفاً:

الحديث الثاني: الذي يليه، وهو ما أخرجه أبو داود (162) من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه.

وقد تفرد به عن أصحاب الكتب الستة، وقد حسن الحافظ إسناده هنا مع أنه أورده في «التلخيص» وقال:(إسناده صحيح)

(4)

، وصححه أحمد شاكر

(5)

، قال الألباني:(هذا هو الصواب)

(6)

، وعبد خير هو ابن يزيد الهمداني، وثقه ابن معين والعجلي، وتقدم له ذكر في أول «الوضوء» .

وقد اختلف في لفظ هذا الأثر، ورجح الدارقطني في «العلل» (4/ 46) أن الصحيح فيه قول من قال:(كنت أرى باطن الخفين أحق بالمسح من أعلاهما)

(7)

.

(1)

"العلل الكبير"(1/ 180).

(2)

"علل الحديث"(1/ 38، 54).

(3)

"المحلى"(2/ 114).

(4)

"التلخيص"(1/ 169).

(5)

"تحقيق المسند"(917).

(6)

"إرواء الغليل"(1/ 140).

(7)

انظر: "موسوعة أحكام الطهارة"(5/ 286).

ص: 254

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لو كان الدين بالرأي .. ) المراد بالدين: أحكام الإسلام، والمراد بالرأي: ما يراه الإنسان صالحاً من غير نظر إلى الشرع، والمعنى: لو كان مأخذ الأحكام الشرعية بمجرد العقل لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه؛ لأن الأسفل يلاقي الأقذار والنجاسات، ولكن الواجب تقديم النقل الصحيح على الرأي، ولعل هذا مراد به ظاهر الرأي، وإلا فإن العقل يدل على أن الأولى مسح الأعلى فقط؛ لأن هذا المسح لا يراد به التنظيف، وإنما يراد به التعبد، ولا يمسح الأسفل؛ لأن مسحه تلويث له ولليد.

والعقل الكامل تابع للشرع؛ لأنه عاجز عن إدراك الحِكَمِ الإلهية، فعليه بالانقياد والتعبد المحض بمقتضى العبودية، وهذا هو العقل السليم من مرض الشبهة ومرض الشهوة، وما ضَلَّ من ضَلَّ من الكفرة والحكماء والمبتدعة وأهل الأهواء إلا بمتابعة العقل وترك موافقة النقل.

قوله: (وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

) هذا كالتعليل لمحذوف يفهم من الكلام، والتقدير: لكنَّ أسفل الخف ليس أولى بالمسح؛ لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على أعلى الخفين فقط.

الوجه الثالث: حديث علي رضي الله عنه دليل على محل المسح وأنه يكون على أعلى الخف دون أسفله.

أما حديث المغيرة فقد تقدم أنه حديث ضعيف مُعَارَضٌ بما هو أصح منه، قال ابن القيم:(وكان صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسح أسفلهما إلا في حديث منقطع، والأحاديث الصحيحة على خلافه)

(1)

.

الوجه الرابع: أن مشروعية مسح الخف ليست من العمل بالرأي وإنما هي توقيفية لا تظهر فيها مناسبة إلا مجرد التخفيف والتيسير، فيتوقف فيه على ما شرع، وقد شرع المسح على ظاهر الخف دون أسفله.

(1)

"زاد المعاد"(1/ 199).

ص: 255

الوجه الخامس: لم يرد في صفة المسح على الخفين ولا في مقدار ما يُمسح حديث يعتمد عليه، والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة أجزأ، وصفة ذلك: أن يُمِرَّ اليد اليمنى مبلولة بالماء مفرجة الأصابع على الرجل اليمنى، واليسرى كذلك، ويكون المسح مرة واحدة، ولا يشرع تكراره، والله تعالى أعلم.

ص: 256

‌توقيت المسح وأنه مختص بالحدث الأصغر

61/ 4 - عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسّالٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنّا سَفْراً أَنْ لَا نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَلَيَالِيَهُنّ، إلاّ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ، وَنَومٍ. أَخْرَجَهُ النّسَائِيّ، وَالتّرْمِذِيّ وَاللّفْظُ لَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحّحَاهُ.

62/ 5 - وَعَنْ عَليّ بْنِ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: جَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَلَيَالِيَهُنّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْماً وَلَيْلَةً لِلمُقِيمِ. يَعْنِي: فِي المَسْحِ على الْخُفّيْنِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو صفوان بن عَسّال - بمهملتين مُثَقَّل - المرادي رضي الله عنه، صحابي مشهور، سكن الكوفة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، منها حديثه الطويل في المسح على الخفين، وفضل طلب العلم، والمحبة، وآخر وقتٍ تقبل فيه التوبة، وهو مشهور، وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، روى عنه جماعة، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما الحديث الأول فقد أخرجه الترمذي (96) أبواب «الطهارة» باب «المسح على الخفين للمسافر والمقيم» ، والنسائي (1/ 83)، وابن خزيمة

(1)

"الاستيعاب"(5/ 140)، "الإصابة"(5/ 148)، "تهذيب التهذيب"(4/ 376)(6/ 24).

ص: 257

(196)

من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن صفوان بن عسال رضي الله عنه به، قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح

قال محمد بن إسماعيل - يعني البخاري ـ: أحسن شيء في هذا الباب حديث صفوان بن عسال)

(1)

.

ومدار الحديث عند هؤلاء على عاصم بن أبي النجود، وفي حفظه ضعف، وحديثه لا ينزل عن رتبة الحسن، ولا يرقى إلى درجة الصحة، قال في «التقريب»:(صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون)، لكنه لم ينفرد به فقد تابعه طلحة بن مصرف، وحبيب بن أبي ثابت وغيرهما، وهذه المتابعات فيها مقال، لكنها تقوّي الحديث بمجموعها، والمراد تقوية أصل الحديث - كما قال الحافظ ـ

(2)

لأنه في الأصل حديث طويل مشتمل على فضل طلب العلم، وعلى أن المرء مع من أحب، والتوبة، والمسح، وبعض هذه المتابعات ليس فيها ذكر المسح.

والظاهر أن تصحيح الترمذي له إنما هو بالنظر إلى طرقه، فإنه قال:(وقد روي هذا الحديث عن صفوان بن عسال أيضاً من غير حديث عاصم)

(3)

.

والحديث صححه بالإضافة إلى من تقدم: ابن خزيمة - كما في «البلوغ» ـ، وابن حبان

(4)

، والخطابي

(5)

، والنووي

(6)

، وابن حجر

(7)

، قال ابن دقيق العيد:(إنه رواه عن عاصم أكثر من ثلاثين من الأئمة، وهو مشهور من حديث عاصم)

(8)

، وقد ساق الترمذي الحديث بطوله في كتاب «الدعوات» من «جامعه»

(9)

.

أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في «الطهارة» (276) من طريق

(1)

انظر: "العلل الكبير"(1/ 175، 176).

(2)

"التلخيص"(1/ 166).

(3)

"جامع الترمذي"(1/ 162).

(4)

"صحيح ابن حبان"(4/ 147).

(5)

"معالم السنن"(1/ 118).

(6)

"المجموع"(1/ 479).

(7)

"فتح الباري"(1/ 309).

(8)

"نصب الراية"(1/ 183).

(9)

برقم (3535، 3536).

ص: 258

شريح بن هانئ، قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب، فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسألناه، فقال:

فذكر الحديث، دون قوله:(يعني في المسح على الخفين) فهي مدرجة، والظاهر أنها من كلام الحافظ ابن حجر.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (كان يأمرنا) أي: يبيح لنا، فالأمر هنا للإباحة، لا لأصله، وهو الوجوب، والصارف له عن الوجوب هو الإجماع على أن المسح مباح لا واجب.

قوله: (إذا كنا سَفْراً) بفتح السين وإسكان الفاء، وهو اسم جمع لمسافر، أي: مسافرين، وليس جمعاً، إذ ليس في الجموع ما هو على وزن (فَعْل) وهو في الأصل مصدر: سَفَر الرجل سفْراً، من باب ضَرَبَ ضرباً فهو سافر، والجمع سَفْر، مثل: راكب ورَكْب.

قوله: (إلا من جنابة) أي: فننزعها ولو قبل مرور ثلاثة أيام، والجنابة: إنزال المني، سمي بذلك لأن المني بَعُدَ عن محله وانتقل عنه، والجنابة في الأصل: البعد.

قوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) لكن: للاستدراك؛ لأنه تقدم نفي واستثناء، وهو قوله:(كان يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة)، أي: ننزعها من جنابة، ثم قال:(ولكن من غائط .. ) فاستدركه بـ: لكن؛ ليعلم أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة، والمعنى: ولكن لا ننزعها من غائط وبول ونوم إلا إذا مرت المدة المقدرة، وفي لفظ للنسائي:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة)

(1)

؛ أي: لكن ننزع من جنابة، فالاستثناء منقطع، أو معنى قوله: (من غائط وبول

(1)

"سنن النسائي"(1/ 83 - 84).

ص: 259

أي: من كل حدث إلا من جنابة، فالاستثناء متصل

(1)

.

قوله: (جعل) أي: شرع وقدر.

الوجه الرابع: دل الحديثان على أن المسح على الخفين مؤقت غير مطلق، وأن المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، والمقيم يوماً وليلة، وهذا قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

والتفريق بين المسافر والمقيم مراعاة لحال السفر وما فيه من المشقة، فاحتاج المسافر إلى زيادة المدة بخلاف المقيم، وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير ورفع الحرج في أحكامها عامة، وفي العبادات خاصة، وهذا - أعني توقيت المسح - هو الشرط الثاني من شروط صحة المسح على الخفين، وهو أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعاً، وقد مضى الشرط الأول وهو أن يكون لابساً لهما على طهارة، كما في حديث المغيرة.

الوجه الخامس: دل حديث صفوان بن عسال على أن المسح على الخفين خاص بالحدث الأصغر، كالنوم والبول والغائط، وأما الحدث الأكبر كالجنابة فلا يمسح فيه، فإذا حصل للإنسان جنابة وعليه الخفان وجب عليه نزعهما وغسل رجليه ولو كان ذلك في أثناء مدة المسح، وهذا هو الشرط الثالث من شروط صحة المسح على الخفين، وهو أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر لا في الجنابة أو ما يوجب الغسل، وهذا الشرط مأخوذ من حديث صفوان هذا، وهذه الشروط الثلاثة مأخوذة من أحاديث الباب.

وبقي الشرط الرابع، وهو أن يكون الخفان وما في معناهما كالجوارب طاهرين، فإن كانت نجسة لم يمسح عليهما، لما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيهما أذى.

الوجه السادس: اختلف العلماء في ابتداء مدة المسح على أقوال، أهمها قولان:

(1)

"حاشية السندي على النسائي"(1/ 84).

ص: 260

الأول: أن مدة المسح تبدأ من أول مرة يمسح، وليس من لبس الخف، ولا من الحدث بعد اللبس، لقوله:(يمسح المقيم يوماً وليلة ويمسح المسافر ثلاثة أيام) فهذا وغيره كالنص على ابتداء مدة المسح من مباشرة المسح، ولا يمكن أن يصدق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح، وهذا قول الأوزاعي، وأبي ثور، ورواية عن الإمام أحمد

(1)

، واختاره ابن المنذر

(2)

، قال النووي:(وهو المختار الراجح دليلاً)

(3)

، وقد روى عبد الرزاق عن أبي عثمان النهدي قال: حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليها إلى مثل ساعته من يومه وليلته

(4)

.

وعلى هذا فيمسح المقيم أربعاً وعشرين ساعة تبدأ من أول مرة يمسح، والمسافر يمسح اثنتين وسبعين ساعة، فالعبرة بالزمن لا بعدد الصلوات.

والقول الثاني: أن المدة تبدأ من الحدث بعد اللبس، فإذا أحدث بدأت المدة، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، ومن يذهب من المالكية إلى تحديد المدة كابن عبد البر وبعض أهل المدينة

(5)

، قالوا: لأن المسح عبادة مؤقتة، فاعتبر وقتها من وقت جواز فعلها، ولأن ما بعد الحدث وقت يجوز له المسح فيه، فكان أول مدة المسح منه.

والقول الأول أرجح، كما تقدم؛ لأنه مؤيد بالأحاديث التي قدرت المدة بالمسح، فيجب أن يكون ابتداؤها من ابتداء المسح، ويؤيده فتوى عمر رضي الله عنه كما تقدم، ولأن ما قبل المسح وبعد الحدث مدة لا تصح الصلاة فيها، فلما مسح صحت الصلاة، فينبغي أن يبدأ حساب المدة من وقت جواز الصلاة، والله تعالى أعلم.

(1)

"المجموع"(1/ 487)، "الإنصاف"(1/ 177).

(2)

"الأوسط"(1/ 443).

(3)

"المجموع"(1/ 487).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(1/ 209) وإسناده صحيح على شرط الشيخين، كما قال الألباني.

(5)

"التمهيد"(11/ 150 - 153)، "حاشية ابن عابدين"(1/ 271)، "المجموع"(1/ 487)، "الإنصاف"(1/ 177).

ص: 261

‌جواز المسح على العمامة

63/ 6 - عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ؛ يَعْنِي: العَمَائمَ، وَالتّسَاخِين؛ يَعْنِي: الْخِفَافَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَححهُ الحاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الله ثوبان بن بُجْدُد، من أهل السراة - موضع بين مكة واليمن - صحابي مشهور، أصابه سَبْيٌ، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه، ولم يزل ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث، ثم تحول إلى الشام، فنزل الرملة، ثم انتقل إلى حمص، وبقي بها إلى أن مات سنة أربع وخمسين رضي الله عنه

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (37/ 65 - 66)، وأبو داود (146)، والحاكم (1/ 169)، من طريق يحيى بن سعيد، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن ثوبان قال:(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين)، هذا لفظ أبي داود، وفيه ذكر البرد، وكذا عند أحمد والحاكم، وعند أحمد:(فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد).

والحديث صححه الحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه

(1)

"الاستيعاب"(2/ 106)، "الإصابة"(2/ 29).

ص: 262

الذهبي، وتعقبه الزيلعي فقال:(وفيه نظر، فإنه من رواية ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، به، وثور لم يرو له مسلم، بل انفرد به البخاري، وراشد بن سعد لم يحتج به الشيخان .. )

(1)

.

وأُعل الحديث بالانقطاع، كما ذكر الحافظ ابن حجر

(2)

، وقد نقل الخلال عن أحمد أنه قال:(لا ينبغي أن يكون راشد سمع من ثوبان؛ لأنه مات قديماً)، وكذا قال أبو حاتم، والحربي، وتعقبهم الزيلعي فقال:(وفي هذا القول نظر، فإنهم قالوا: إن راشداً شهد مع معاوية صفين، كما ذكر البخاري في «صحيحه» في «الجهاد»، وثوبان مات سنة أربع وخمسين، ومات راشد سنة ثمان ومائة). اهـ. وجزم البخاري - أيضاً - في «تاريخه» بأنه سمع من ثوبان

(3)

.

ونقل الحافظ توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي، وقال أحمد:(لا بأس به)، وضعفه ابن حزم

(4)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (سرية) هي القطعة من الجيش من خمسة إلى ثلاثمائة، وقيل: إلى أربعمائة، سميت بذلك لأن الغالب عليها أن تسير بالليل وتختفي بالنهار، وقيل: لأنها تكون من خلاصة الجيش وخيارهم، والسري: هو الشيء النفيس.

قوله: (فأمرهم) أي: أذن لهم في ذلك بعد أن شكوا إليه ما أصابهم من البرد، كما تقدم في رواية أحمد.

قوله: (على العصائب) فسرت في الحديث بالعمائم، والظاهر أن هذا التفسير من كلام الحافظ، فإني لم أجده مدرجاً في المصادر المذكورة، وهي جمع عصابة، وهي العمامة، وبذلك فسرها إمام أهل اللغة أبو عبيد

(5)

، سميت

(1)

"نصب الراية"(1/ 165)، وانظر:"المحرر"(1/ 79).

(2)

"التلخيص"(1/ 100).

(3)

"التاريخ الكبير"(3/ 292)، "نصب الراية"(1/ 165).

(4)

انظر: "المحلى"(2/ 75)، "تهذيب التهذيب"(3/ 196).

(5)

"غريب الحديث"(1/ 116).

ص: 263

بذلك لأن الرأس يعصب بها، فكل ما عصبت به رأسك من عمامة أو منديل أو نحو ذلك فهو عصابة.

قوله: (والتساخين) فسرت في الحديث بالخفاف، وفيها ما تقدم، وقد فسرها بالخفاف أبو عبيد

(1)

ولا واحد لها من لفظها، على ما قاله ثعلب، وقال المبرد وغيره:(واحدها تِسْخَان، مثل: تِمثال وتماثيل، أو تِسخين بكسر التاء، ويقال: أصلُ ذلك كلُّ ما يسخن القدم من خف وجورب ونحوهما)، فعلى هذا لا تختص بالخفاف، وهو الذي يستفاد من «القاموس» و «اللسان» وغيرهما.

وبهذا يتبين أن ما يلبس في الرجل له عدة أسماء، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع:

1 -

الخفاف.

2 -

ما يقوم مقامها من جوارب ونحوها، كالموق والجرموق.

3 -

اللفائف.

وقد نقل الأزهري عن الليث أنه قال: الجورب: لفافة الرجل

(2)

، ومثله ذكر صاحب «القاموس»

(3)

، ولم يذكروا مما كانوا يصنعونه، وهو المسمى بالشراب في وقتنا هذا، والجرموق وهو الموق: خف يلبس فوق الخف، لا سيما في البلاد الباردة.

وأما اللفائف فدخولها تحت لفظ التساخين واضح جداً، فتأخذ حكم المسح على الخفين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

؛ لأن اللفائف لا يكاد يستعملها إلا من احتاج أو اضطر إليها، فكيف يمنع من اشتدت حاجته، ويرخص لمن هو أقل منه؟.

الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز المسح على الخفين وعلى

(1)

"غريب الحديث"(1/ 116).

(2)

"تهذيب اللغة"(11/ 53).

(3)

"القاموس"(1/ 467 ترتيبه).

(4)

"الفتاوى"(21/ 184 - 185).

ص: 264

العمامة في السفر، ويقاس عليه الحضر؛ لأن الرخصة عامة.

وجواز المسح على العمامة فقط دون مسح جزء من الرأس هو أحد قولي أهل العلم، وهو قول الإمام أحمد، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، والظاهرية

(1)

، ودليلهم هذا الحديث وما شابهه مما يدل على جواز المسح على العمامة، قال ابن القيم:(المسح على العمامة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماضية مشهورة عند ذوي القناعة من أهل العلم في الأمصار)

(2)

، وقال الشوكاني:(والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت، فَقَصْرُ الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين)

(3)

.

وقد تقدم في باب «الوضوء» حديث المغيرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة، ويكون حديث ثوبان هذا في المسح على العمامة فقط، كما هو ظاهره، فإذا كانت العمامة قد غطت الرأس كله كفى المسح عليها، وإن انكشف شيء من الرأس كالناصية فالأولى وجوب مسحه مع العمامة لفعله صلى الله عليه وسلم.

واشترط الحنابلة أن تكون على صفة عمائم المسلمين، بأن يكون تحت الحنك منها شيء؛ لأن هذه عمائم العرب، سواء كان لها ذؤابة أو لم يكن لها، وكذلك يجوز المسح عليها إذا كانت ذات ذؤابة.

أما العمامة الصماء - وهي التي تدور على الرأس، ولا تكون محنكة، ولا ذات ذؤابة، وهي تشبه عمائم أهل الذمة - فلا يجوز المسح عليها على أحد القولين عند الحنابلة؛ لأنها كالقلانس أي: الطواقي، فلا يشق نزعها

(4)

.

وعارض في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وبيّن أن التحنيك ليس شرطاً، وأن السلف إنما كانوا يحنكون عمائمهم؛ لأنهم كانوا يركبون الخيل

(1)

"المغني"(1/ 379)، "الإنصاف"(1/ 185)، "المحلى"(1/ 303).

(2)

"تهذيب مختصر السنن"(1/ 112).

(3)

"نيل الأوطار"(1/ 195).

(4)

"المغني"(1/ 381).

ص: 265

ويجاهدون في سبيل الله، ومنهم من يربطها بكلاليب أو بعصابة

(1)

.

والأظهر أن ذلك ليس بشرط، فإن لفظ العمامة جاء في النصوص مطلقاً غير مقيد بوصف، والتحنيك ليس من صفات العمامة، حتى يقال: لا حاجة إلى ذكره، فمتى ثبتت العمامة جاز المسح عليها، ولأن الحكمة من المسح على العمامة لا تتعين في مشقة نزعها، بل قد يكون روعي انتقاض أكوارها لو حركها لمسح رأسه، وقد تكون الحكمة خشية الضرر من برد أو مرض لو نزعها، ولا سيما في البلاد الباردة، لكن الاحتياط مطلوب، فإذا كانت العمامة الصماء لا ضرر في نزعها فالأولى عدم المسح عليها لسهولة خلعها، ولشبهها بالقلانس، والأصل في الأحكام أنها معللة.

الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه لا توقيت في المسح على الخفين ولا في المسح على العمامة.

أما المسح على الخفين فقد تقدم أنه مؤقت، فيحمل هذا الحديث على أدلة التوقيت، وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الذي بعد هذا.

وأما المسح على العمامة ففيه قولان:

الأول: أن المسح عليها مؤقت، وهو مذهب الحنابلة

(2)

، قياساً على الخفين؛ لأنه إذا كان الخفان يؤقت فيهما وهما في الغالب أشق نزعاً من العمامة، فما كان أسهل فهو أولى بالتقييد.

الثاني: أن المسح على العمامة غير مؤقت، وهذا قياس مذهب المالكية؛ لأنهم لا يقولون بالتوقيت في المسح على الخفين - كما سيأتي - وهو اختيار ابن حزم

(3)

، وإليه يميل الشوكاني

(4)

لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيت المسح عليها، فقد مسح على العمامة ومسح على الخفين، فَوَقَّتَ للخفين، ولم يؤقت للعمامة، فمن جعل حكمهما واحداً فقد قال ما لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

"الفتاوى"(21/ 186 - 187).

(2)

"مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" ص (49)، "المغني"(1/ 383).

(3)

"المحلى"(2/ 65).

(4)

"نيل الأوطار"(1/ 195).

ص: 266

وهذا القول قوي؛ لقوة مأخذه، وأما القياس على الخفين ففيه نظر؛ لأن طهارة العضو التي هي عليه المسحُ، وطهارة الرجلين الغسل، والمسح أخف من الغسل، فلا يقاس أحدهما على الآخر، لكن قد يقال: إن وجه التشابه بينهما كونهما ممسوحين، وأن المسح عليهما من قبيل الرخصة، فيكون القول بالتوقيت فيه قوة، لا سيما أنه أحوط، وليس في حَلّ العمامة بعد كل ثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم كبير مشقة، ومن المعلوم أن الإنسان يضع العمامة عن رأسه إذا نام، ويلبسها إذا استيقظ في حالة احتياجه إليها، وذلك كل يوم غالباً، وربما كان أكثر من مرة، فالقول بالتوقيت فيه وجاهة، والله أعلم.

وأما صفة المسح على العمامة فلم ترد في النصوص الشرعية، بل جاء مسحها مطلقاً عن التحديد، فإذا مسح أكثرها كفى، وإن كانت الناصية بادية مسحها مع العمامة، والله تعالى أعلم.

ص: 267

‌ما جاء غير صريح في مسح الخفين من غير توقيت

64/ 7 - عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفاً وَعَن أَنس مَرْفُوعاً: (إذَا تَوَضّأَ أَحَدُكمْ وَلَبِسَ خُفّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا، وَلْيُصَلّ فِيهِمَا، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إنْ شاءَ إلا مِنْ جَنَابَةٍ). أَخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيّ، وَالحاكمُ وَصحَّحَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث قد روي موقوفاً على عمر رضي الله عنه، ومرفوعاً عن أنس رضي الله عنه، والموقوف عند المحدثين: ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع، والمرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد جاء هذا الحديث مرفوعاً عن أنس رضي الله عنه، أخرجه الدارقطني (1/ 203)، والحاكم (1/ 181) من طريق عبد الغفار بن داود الحراني، ثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن أبي بكر، وثابت، عن أنس رضي الله عنه، به، وقال الحاكم:(إسناد صحيح على شرط مسلم، ورواته عن اخرهم ثقات).

وأخرجه الدارقطني من طريق أسد بن موسى، ثنا حماد بن سلمة به، قال ابن عبد الهادي:(إسناده قوي، وأسد بن موسى صدوق، وثقه النسائي وغيره)

(1)

، ولم يعلّه ابن الجوزي في «التحقيق» بشيء، بل قال:(وهذا محمول على مدة الثلاث)

(2)

، وأعله ابن حزم

(3)

بأنه تفرد به أسد بن موسى، عن حماد، وأسد منكر الحديث، لا يحتج به.

(1)

"التنقيح"(1/ 524).

(2)

"التحقيق"(1/ 278).

(3)

"المحلى"(2/ 90).

ص: 268

وردَّ هذا ابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر، لأن أسد بن موسى لم يتفرد به، فقد أخرجه الحاكم والدارقطني عن عبد الغفار كما مرّ، ولأن أسداً ثقة

(1)

.

قال ابن دقيق العيد: (ولعل ابن حزم وقف على قول ابن يونس في «تاريخ الغرباء»: (أسد بن موسى حدث بأحاديث منكرة، وكان ثقة، وأحسب الآفة من غيره). اهـ

(2)

، فإن كان أخذ كلامه من هذا فليس بجيد؛ لأن من يقال فيه: منكر الحديث، ليس كمن يقال فيه: روى أحاديث منكرة؛ لأن منكر الحديث وَصْفٌ في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى تقتضي أنه وقع له في حينٍ لا دائماً، وقد قال أحمد بن حنبل في «محمد بن إبراهيم التيمي»:(يروي أحاديث منكرة)، وقد اتفق عليه البخاري ومسلم، وإليه المرجع في حديث:«إنما الأعمال بالنيات» وكذلك قال في «زيد بن أبي أُنيسة» : (في بعض حديثه نكارة)، وهو ممن احتج به البخاري ومسلم، وهما العمدة في ذلك، وقد حكم ابن يونس بأنه ثقة وكيف يكون ثقة، وهو لا يحتج بحديثه؟). اهـ

(3)

.

وأما الموقوف فقد أخرجه الدارقطني (1/ 203) من طريق أسد بن موسى، نا حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن زُييد بن الصلت، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول

فذكره، وهذا إسناد قوي.

محمد بن زياد هو القرشي المدني ثقة، أخرج له الستة، وزُييد بن الصلت ذكر أبو حاتم أنه روى عن عمر وقد أدركه، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال:(زُييد بن الصلت ثقة)

(4)

، لكن رواه ابن حزم (2/ 91) بلفظ (وليصلِّ فيهما ما لم يخلعهما) ثم أعلَّه برواية عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بلفظ (فليمسح عليهما إن شاء ولا يخلعهما .. )، وما ذكره ابن حزم من ترجيح الموقوف على عمر رضي الله عنه وتفرد أسد بن موسى له حظ من النظر لأمرين:

(1)

"الإمام"(2/ 179)، "الدراية"(1/ 79).

(2)

انظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 228).

(3)

"الإمام"(2/ 178 - 179)، وكنت قد نقلت كلامه من "نصب الراية"(1/ 179).

(4)

"الجرح والتعديل"(3/ 622).

ص: 269

الأول: أن أصحاب حماد بن سلمة الكبار لم يرووا هذا الحديث عنه، وقد قال الحاكم:(إن هذا الحديث ليس عند أهل البصرة عن حماد).

الثاني: أن عبد الرحمن بن مهدي - وهو الإمام الحافظ - وافق أسد بن موسى على وقفه على عمر رضي الله عنه.

وورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه وفد على عمر رضي الله عنه بفتح دمشق، قال:(وعليَّ خُفَّان، قال لي عمر: كم لك يا عقبة مذ لم تنزع خفيك؟ فذكرت له من الجمعة منذ ثمانية أيام، فقال: أحسنت وأصبت السنة)

(1)

.

وسيأتي كلام البيهقي في التوفيق بين ما ورد عن عمر رضي الله عنه من التوقيت وعدمه، وهو يدل على صحة هذا الأثر، فإنه لو كان ضعيفاً لاستغنينا بذلك عن التوفيق بينه وبين أحاديث التوقيت.

الوجه الثاني: الحديث دليل على اشتراط لبس الخفين على طهارة، لقوله:«إذا توضأ أحدكم» ، وقد تقدم ذلك في الكلام على حديث المغيرة عند قوله:«دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» ، لكن أفاد هذا الحديث أن المراد بالطهارة في حديث المغيرة وما في معناه: الطهارة الكاملة من الحدث الأصغر، وهي الوضوء، قال ابن عبد البر:(هذا هو الأصل المجتمع عليه، قال: لا يمسح على الخفين إلا من أدخل رجليه فيهما طاهرتين)

(2)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يمسح على الخفين بلا توقيت، لقوله:«ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة» ، وقد بوّب عليه الدارقطني في «سننه» بقوله:(باب ما في المسح على الخفين من غير توقيت)

(3)

.

(1)

أخرجه الدارقطني (1/ 199)، والحاكم (1/ 180)، وعنه البيهقي في "السنن" (1/ 280) من طريق بشر بن بكر: ثنا موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر ..

قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في "الصحيحة" رقم (2622)، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(21/ 178)، لكن لفظة "السنة" حكم عليها الدارقطني بأنها غير محفوظة، كما في "العلل"(2/ 111).

(2)

"التمهيد"(11/ 128).

(3)

"سنن الدارقطني"(1/ 203).

ص: 270

وهذا من أدلة القائلين بأن المسح على الخفين غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصبه جنابة، ونُسِبَ هذا القول إلى مالك وأصحابه، والليث بن سعد والأوزاعي

(1)

، قال ابن عبد البر:(وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر، والحسن البصري)، ثم ساق ما روي عنهم في ذلك.

ومن أدلتهم حديث أُبيّ بن عِمارة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: «نعم»، قال: يوماً؟ قال: «يوماً»، قال: ويومين؟ قال: «ويومين»، قال: وثلاثة؟ قال: «نعم، وما شئت»)، وسيأتي الكلام عليه، وأنه حديث ضعيف.

ولهم تعليل: وهو أن هذه طهارة فلم تتوقت بزمن كغسل الرجلين

(2)

، وذكر ابن رشد أن التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة؛ لأن النواقض هي الأحداث، فيعتبرون هذا القياس معارضاً لمثل حديث علي وصفوان وغيرهما كما ذكر ابن رشد، لكنه تعليل لا يقف في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة

(3)

.

والقول بالتوقيت هو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، واختاره ابن عبد البر من المالكية - وتقدمت أدلتهم - وقد ذكر الطحاوي أن الأحاديث قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوقيت في المسح على الخفين (للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، وللمقيم يوم وليلة)

(4)

.

قال ابن عبد البر: (وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك، وهو الاحتياط عندي؛ لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، واطمأنت النفس إلى اتفاقهم، فلما قال أكثرهم: إنه لا يجوز المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات، يوم وليلة، ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة،

(1)

"التمهيد"(11/ 150)، "الاستذكار"(2/ 247)، "بداية المجتهد"(1/ 65).

(2)

انظر: "المنتقى" للباجي (1/ 79).

(3)

"بداية المجتهد"(1/ 97).

(4)

"شرح معاني الآثار"(1/ 82).

ص: 271

ثلاثة أيام ولياليها، فالواجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغَسْلُ، حتى يُجمعوا على المسح، ولم يجمعوا فوق الثلاث للمسافر، ولا فوق اليوم للمقيم

)

(1)

.

وأما حديث أنس المذكور فقد أجيب عنه بجوابين:

الأول: أنه حديث مطلق، يحمل على أحاديث التقييد.

الثاني: أن يكون قوله: (إن شاء)، إشارة إلى أن المسح ليس بواجب دفعاً لما يفيده ظاهره من الوجوب، وظاهر النهي من التحريم، ذكر ذلك الصنعاني

(2)

، فيجوز له أن يخلع ويغسل ولو في أثناء مدة المسح.

وأما ما ورد عن عمر رضي الله عنه من عدم التوقيت، فقد ورد عنه ما يدل على القول بالتوقيت، فقد تقدم ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن أبي عثمان النهدي قال:(حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته)، فهذا دليل بَيّنٌ على أن عمر رضي الله عنه يقول بالتوقيت.

وروى حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن نباتة، عن عمر رضي الله عنه، قال: للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة

(3)

.

وقد أجاب البيهقي عن هذا التعارض بقوله: (وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت، فإما أن يكون رجع إليه حين جاءه الثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوقيت، وإما أن يكون قوله الذي يوافق السنة المشهورة أولى)

(4)

.

وقد نقل النووي هذا القول وارتضاه

(5)

، على أن ما ورد عن عمر رضي الله عنه في قصة عقبة بن عامر رضي الله عنه يمكن أن يحمل على الضرورة، وتَعَذُّرِ خلع الخفين بسبب فوات الرفقة أو غيره، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

"التمهيد"(11/ 153).

(2)

"سبل السلام"(1/ 111).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (1/ 205)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 50)، والبيهقي (1/ 276).

(4)

"السنن الكبرى"(1/ 280).

(5)

"المجموع"(1/ 485).

ص: 272

حيث يقول: (إن مسح الخف مؤقت عند الجمهور

لكن لو كان في خلعه بعد مضي الوقت ضرر مثل: أن يكون هناك برد شديد متى خلع خفه تضرر، كما يوجد في أرض الثلوج وغيرها، أو كان في رفقة متى خلع وغسل لم ينتظروه، فينقطع عنهم، فلا يعرف الطريق أو يخاف إذا فعل ذلك من عدو أو سبع، أو كان إذا فعل ذلك فاته واجب ونحو ذلك، فهنا قيل: إنه يتيمم، وقيل: إنه يمسح عليهما للضرورة، وهذا أقوى؛ لأن لبسهما هنا صار كلبس الجبيرة من بعض الوجوه، فأحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وثلاثة أيام ولياليهن، وليس فيه النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم، والمفهوم لا عموم له، فإذا كان يخلع بعد الوقت عند إمكان ذلك عمل بهذه الأحاديث، وعلى هذا يحمل حديث عقبة بن عامر

وهو حديث صحيح)

(1)

.

وقد عمل به شيخ الإسلام في بعض أسفاره، فقال:(لما ذهبت على البريد وجدّ بنا السير، وقد انقضت مدة المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة، كما قلنا في الجبيرة، ونَزّلْتُ حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: (أصبت السنة) على هذا، توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرحاً به في مغازي ابن عائذ: أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق

فحمدت الله على الموافقة

قال: وهي مسألة نافعة جداً)

(2)

.

فالصواب في هذه المسألة التوقيت؛ لأن أحاديث التوقيت صحيحة متواترة ليس لها معارض، وأما ما جاء مطلقاً عن التوقيت فهو مقيد بها على القاعدة الأصولية أن المطلق يحمل على المقيد، جمعاً بين الأدلة، ويمكن العمل به في حدود ضيقة على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، لئلا يلزم من الأخذ به ترك العمل بأحاديث التوقيت، والله أعلم.

(1)

"الفتاوى"(21/ 177).

(2)

"الفتاوى"(21/ 215، 217).

ص: 273

‌اشتراط لبس الخف على طهارة

65/ 7 - عَنْ أبِي بَكرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنّهُ رَخّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَلَيَالِيَهُنّ، وَلِلمُقِيمِ يَوْماً وَلَيْلَةً، إذَا تَطَهّرَ فَلَبِسَ خُفّيْهِ: أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا. أَخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِي، وَصححهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو بكرة نُفيع بن الحارث الثقفي، ويقال: نفيع بن مسروح، مشهور بكنيته، كان قد تدلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة

(1)

فاشتهر بأبي بكرة، وكان رقيقاً، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وأنجب أولاداً لهم شهرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وروى عنه أولاده، قال ابن عبد البر:(وكان مثل النَّصْلِ من العبادة)

(2)

، مات سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، رضي الله عنه

(3)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه الدارقطني (1/ 194)، وابن خزيمة (192)، وأخرجه ابن ماجه (556) وغيرهم، من طريق عبد الوهاب الثقفي، حدثني المهاجر أبو مَخْلَد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه.

(1)

البكرة: بفتح الباء وإسكان الكاف: خشبة مستديرة في وسطها محزٌّ، يستقى عليها، أو المحالة السريعة. "القاموس"(1/ 306).

(2)

في أكثر نسخ "سبل السلام": (فكان مثل النضر بن عبادة)، وهذا خطأ، والنصل: بالصاد المهملة، حديدة الرمح والسهم والسكين.

(3)

"الاستيعاب"(11/ 157)، "الإصابة"(10/ 183).

ص: 274

وهذا الإسناد فيه ضعف، فإن المهاجر متكلم فيه، قال ابن معين:(صالح)، وقال الساجي:(صدوق)، وقال أبو حاتم:(ليّن الحديث، ليس بذاك، وليس بالمتقن، يكتب حديثه)

(1)

، ولكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.

ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: (حديث أبي بكرة حسن)

(2)

، وحسنه الألباني

(3)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (رخّص) الرخصة: التسهيل في الأمور والتيسير، يقال: رخص الشرع لنا في كذا ترخيصاً وأرخص إرخاصاً: إذا يسره وسهله ..

والرخصة: هي الحكم الذي ثبت على خلاف الدليل لعذر، أي: إن الرخصة هي الأمر الذي سُهّلَ على المكلف لعذر اقتضى التخفيف والتيسير، مع قيام سبب الحكم الأصلي، ويقابل الرخصة العزيمة، فغسل الرجلين عند الوضوء عزيمة، والمسح على الخفين رخصة.

قوله: (إذا تطهر) المراد: الوضوء الكامل، وهو الطهارة بالماء، وقد تقدم في حديث أنس:«إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه» .

قوله: (فلبس خفيه) الفاء لمجرد العطف، وليست للتعقيب؛ لأنه معلوم أن التعقيب ليس شرطاً في المسح، وإنما المراد أن يلبسهما على طهارة ولو كان هناك فاصل بين تطهره ولبس خفيه، أو يقال: إنها للتعقيب، والتعقيب في كل مقام بحسبه، كقولهم: تزوج فلان فولد له.

(1)

"تهذيب التهذيب"(10/ 287) وقوله: (صالح) من أدنى مراتب التعديل، ومثلها صدوق إن شاء الله، أرجو أن لا بأس به، ومعنى:(لين الحديث) أنه مجروح في حفظه جرحًا لا يخرجه عن دائرة الاعتبار بحديثه، ولا يتعدى إلى عدالته -وتقدم ذلك- ص (220) ومعنى:(يكتب حديثه): أي: أنه من جملة الضعفاء، ولكن حديثه يكتب للاعتبار وليس ضعفه بالشديد.

(2)

"العلل الكبير"(1/ 176).

(3)

"صحيح سنن ابن ماجه"(1/ 91).

ص: 275

قوله: (أن يمسح عليهما) في تأويل مصدر مفعول (رخص)؛ أي: رخص للمسافر وللمقيم المسح على خفيه بالشرط المذكور.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المسح مؤقت كما تقدم في حديث علي رضي الله عنه وأن شرط ذلك اللبس على طهارة، كما دل عليه حديث عمر وأنس رضي الله عنهما، والظاهر أن الحافظ ذكره لأنه جمع مسألتي تقدير المدة واشتراط اللبس على طهارة، وهذا يقيد ما تقدم من حديث ثوبان وغيره، والله أعلم.

ص: 276

‌ما جاء صريحاً في مسح الخفين بلا توقيت

66/ 9 - عَنْ أُبَيّ بْنِ عِمَارَةَ رضي الله عنه أَنّهُ قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: يَوْماً؟ قَالَ: «نَعمْ» ، قَالَ: وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «نَعمْ» ، قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ: «نَعمْ، وَمَا شِئتَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: لَيْسَ بِالقَوِيّ.

تقدم في حديث أنس رضي الله عنه، وحديث عمر رضي الله عنه عدم التوقيت، فالظاهر أن الحافظ ذكر هذا لكونه ضعيفاً، فيعلم حاله.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أُبي - بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية - ابن عمارة - بكسر العين المهملة، وقيل: بضمها، والأول أشهر - صحابي مشهور، عداده في المدنيين، سكن مصر، له حديث واحد في المسح على الخفين، قال ابن حبان:(صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين، إلا أني لست أعتمد على إسناد خبره)

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه أبو داود (158) في كتاب «الطهارة» باب «التوقيت في المسح» من طريق يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قَطَنٍ، عن أُبَيّ بن عمارة، قال يحيى بن أيوب:(وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين .. ).

(1)

"الثقات"(3/ 6)، وانظر:"الإصابة"(1/ 25)، "تهذيب التهذيب"(1/ 163).

ص: 277

وأخرجه ابن ماجه (557) ولفظه: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في بيته القبلتين كلتيهما .. ).

وهذا حديث ضعيف، وقد ذكره المصنف ليعلم حاله، ولأنه أصرح مما تقدم في عدم اشتراط التوقيت، قال أبو داود:(وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي)، أي: ليس هذا الإسناد قوياً لضعف بعض رجاله، ويحتمل أن اسم (ليس) عائد على الحديث؛ أي: ليس هذا الحديث قوياً؛ لاضطراب سنده، فقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً، ويحيى بن أيوب قال عنه أحمد:(سيئ الحفظ)، وقال ابن معين:(صالح)، وقال الدارقطني:(في بعض حديثه اضطراب)، وقال أبو حاتم:(محله الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به)

(1)

، وقال الدارقطني:(هذا الإسناد لا يثبت وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً، قد بيَّنْته في موضع اخر، وعبد الرحمن بن رزين، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن مجهولون كلهم)

(2)

، وقد نقل أبو زرعة الدمشقي عن أحمد قال:(رجاله لا يعرفون)

(3)

، وقال ابن عبد البر:(لا يثبت، وليس له إسناد قائم)

(4)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على عدم توقيت المسح على الخفين لا في حضر ولا سفر، ولو صح لكان مقيداً بأحاديث التوقيت المتقدمة، أو يحمل على ما تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المسافر الذي يتضرر بالخلع لتأخره عن رفقته أو شدة برد ونحو ذلك، أو أن المراد به أنه كلما احتاج إلى المسح فله أن يمسح، لكن لا يعدو شرط التوقيت، فإذا انتهت المدة خلع ولبس، فإذا لبس على طهر مسح، فربما تكون أيام المسح أكثر إذا نظرنا إلى المجموع، ولكن ما دام أنه حديث ضعيف فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة الدالة على التوقيت، والله أعلم.

(1)

"تهذيب التهذيب"(11/ 163).

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 198).

(3)

"التلخيص"(1/ 171).

(4)

"الاستذكار"(2/ 248).

ص: 278

‌باب نواقض الوضوء

النواقض: جمع ناقض على وزن (فاعل)، وهو لغير العاقل، فيجمع على (فواعل)، والناقض للشيء: هو المفسد له، قال الأزهري:(النقض بالفتح: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء)

(1)

، واستعماله في الوضوء من باب المجاز، حيث إن حقيقته في البناء، واستعمل في المعاني، لعلاقة الإبطال.

والمراد بنواقض الوضوء: العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه، ونواقض الوضوء نوعان:

1 -

نوع مجمع عليه، وهو ما دل عليه نص من كتاب أو سنة.

2 -

نوع مختلف فيه، وهو المبني على اجتهادات أهل العلم، رحمهم الله.

وسيتضح ذلك - إن شاء الله - من دراسة الأحاديث في هذا الباب.

(1)

"تهذيب اللغة"(8/ 344).

ص: 279

‌ما جاء في أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء

67/ 1 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَهْدِهِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتّى تَخْفِقَ رُؤوسُهُمْ، ثُمّ يُصَلّونَ وَلا يَتَوَضّؤُونَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ الدّارَقُطْنِيّ، وَأَصْلُهُ في مُسْلِمٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود (200) في كتاب «الطهارة» باب «الوضوء من النوم» ، والدارقطني (1/ 131) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وهذا لفظ أبي داود، قال الدارقطني:(صحيح).

إلا أن لفظ (على عهده) لم يرد عند الدارقطني، ولا عند أبي داود بالإسناد المذكور، وإنما علقه أبو داود عن شعبة، عن قتادة، قال: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني، ووصله البيهقي بسنده إلى شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يقومون فيصلون، ولا يتوضؤون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحديث أصله في مسلم (376)(125) من طريق شعبة، عن قتادة قال: سمعت أنساً يقول: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضؤون، قال: قلت: سمعته من أنس؟ قال: إي والله).

وأخرجه الترمذي (78) من هذا الطريق ولفظه: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يقومون، فيصلون ولا يتوضؤون)، وقال:(حديث حسن صحيح).

ص: 280

وإنما أورد الحافظ لفظ أبي داود لأنه أوضح من لفظ مسلم، فإن فيه:(حتى تخفق رؤوسهم)، وهذا يبين نوع النوم الذي ورد في لفظ مسلم، وهو أنه نعاس وخَفْقٌ، وليس نوماً مستغرقاً ثقيلاً يزول معه الشعور بما قد يَخْرُجُ.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (على عهده) أي: زمانه، فالحديث له حكم المرفوع، لاطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له، وهذا موضع الحجة فيه.

قوله: (ينتظرون العشاء) هكذا في نسخ «البلوغ» ، وعند أبي داود والدارقطني:(العشاء الآخرة)، وهي بكسر العين والمد، والعشاء: أول ظلام الليل، وهو من صلاة المغرب إلى العتمة، وعليه قول ابن فارس:(العشاءان: المغرب والعتمة)

(1)

.

قوله: (حتى تخفق) بكسر الفاء، من باب ضرب، قال في «المصباح»:(خَفَقَ رأسه خفقة أو خفقتين: إذا أخذته سِنَةٌ من النعاس، فمال رأسه دون سائر جسده)، وقال في «القاموس»:(خفق فلان: حرك رأسه إذا نعس)

(2)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النوم اليسير غير المستغرق لا ينقض الوضوء، وهو ما كان نعاساً يخفق معه الرأس، بخلاف النوم الثقيل المستغرق الذي يزول معه الشعور بما قد يخرج، فهذا ناقض للوضوء، وقد يكون الحديث دليلاً على كلتا المسألتين، وهما أن اليسير لا ينقض، والكثير ينقض؛ لأنه تقرر في نفس الصحابي الراوي أن النوم ناقض للوضوء، إلا هذا القدر اليسير الذي شاهده.

ولا فرق في ذلك - على الصحيح - بين أن يكون مضطجعاً أو قاعداً معتمداً أو غير معتمدٍ، وهذا هو الراجح في مسألة نقض الوضوء بالنوم، وهو أنه إن كان النائم يشعر بنفسه لو أحدث فإنه لا ينتقض وضوؤه، وهذا يكون في النوم اليسير، وأما إن كان الإنسان مستغرقاً بحيث لو أحدث لم يحس

(1)

"مجمل اللغة"(2/ 669).

(2)

"المصباح المنير"(176)، "القاموس"(2/ 85).

ص: 281

بنفسه فهذا يجب عليه الوضوء، وذلك أن ذات النوم ليس بناقض، ولكنه مظنة الحدث، لكون النائم لا يشعر ولا يحس بنفسه لو خرج منه شيء.

والدليل على أن النوم ليس بناقض: أن يسيره - كما في حديث الباب - لا ينقض الوضوء، ولو كان ناقضاً لانتقض بهذا النوم الذي تخفق فيه رؤوسهم، وصار كغيره من البول والغائط ينقض يسيره وكثيره.

ووجه الترجيح ثلاثة أدلة:

1 -

أن هذا القول تجتمع فيه الأدلة، فإنه تقدم في حديث صفوان بن عَسَّال:(لكن من غائط وبول ونوم) وهذا يفيد أنه ناقض، وفي حديث الباب (أنهم ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون)، فيحمل الأول على النوم المستغرق الذي لو أحدث معه لم يحسّ بنفسه، ويحمل الثاني على مبادئ النوم قبل الاستغراق بحيث لو أحدث لأحس بنفسه؛ لأن خفقان الرأس يكون في النوم القليل، ولو كان ناقضاً لما أقرهم الله على الصلاة في تلك الحالة، بل كان يُوْحَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كما كان يوحى إليه في سائر الأمور الدينية، والأصل جلالة قدر الصحابة رضي الله عنهم وأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء، ولا سيما الذين كانوا منهم ينتظرون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أعيان الصحابة.

قال الخطابي: (وفي قوله: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم» دليل على أن ذلك أمر كان يتواتر منهم، وأنه قد كثر حتى صار كالعادة لهم، وأنه لم يكن نادراً في بعض الأحوال، وذلك يؤكد ما قلناه من أن عين النوم ليس بحدث)

(1)

.

ولا يؤثر على ذلك ما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال: (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوْقَظُونَ للصلاة، حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً، ثم يصلون، ولا يتوضؤون)

(2)

، فإن الإيقاظ والغطيط قد يوجد ممن هو في مبادئ نومه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مستغرقاً.

(1)

"معالم السنن"(1/ 144).

(2)

أخرجه الدارقطني (1/ 130) وصححه.

ص: 282

2 -

حديث معاوية رضي الله عنه الآتي: «العينُ وِكاءُ السّهِ، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء» فهذا يؤيد الجمع السابق، ومعناه: أن اليقظة وكاء الدبر، فالنوم الذي ينطلق معه الوكاء وهو النوم المستغرق الذي يزول معه الشعور بحيث لا يحس بما يخرج منه هو النوم الناقض للوضوء، وما لا فلا.

3 -

حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قيام الليل، وفيه:(فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني)

(1)

، وهو يدل على أن النوم اليسير حال الصلاة غير ناقض للوضوء، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري في مواضع كثيرة من صحيحه، منها (726)، ومسلم (763)، وسيأتي في أحاديث "الإمامة" رقم (417).

ص: 283

‌ما جاء في أن دم الاستحاضة ناقض للوضوء

68/ 2 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصّلَاةَ؟ قَالَ:«لَا. إِنّمَا ذلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بحَيْضٍ، فإذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعي الصّلاةَ، وَإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلي عَنْكِ الدّمَ، ثُمّ صَلّي» . مُتَّفقٌ عليه.

وَلِلْبُخَارِيّ: «ثمّ تَوَضّئِي لِكُلّ صَلَاةٍ» ، وَأَشَارَ مُسْلِمٌ إِلى أَنّهُ حذَفَهَا عَمْداً.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «غسل الدم» (228)، ومسلم في كتاب «الحيض» باب «المستحاضة وغسلها وصلاتها» (333)، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظ البخاري، وقريب منه لفظ مسلم.

وللبخاري زيادة على مسلم من طريق أبي معاوية، عن هشام قال: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة» ، وقد رجح جماعة منهم الحافظ ابن حجر أنها مرفوعة متصلة بلفظ الحديث؛ إذ لو كانت موقوفة على عروة - كما قيل - لقال:(ثم تتوضأ) بلفظ الخبر، فلما جاء بلفظ الأمر دل على أنها من تمام الحديث، ويؤيد أنها من الحديث المرفوع رواية الترمذي، من طريق أبي معاوية:«وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت»

(1)

.

(1)

انظر: "فتح الباري"(1/ 332).

ص: 284

وقال جمع من المحققين: إن هذه اللفظة موقوفة على عروة، بدليل قول هشام في اخره:(وقال أبي: ثم توضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، فإن هذا ظاهر في الوقف، لأن هشاماً لم يرو الحديث عن غير أبيه، فيكون غرضه من هذا تمييز المرفوع من الموقوف، ومجيء هذه الزيادة موصولة بالإسناد المذكور أول الحديث هو من الاختلاف على أبي معاوية، فإنه قد اضطرب في روايتها، وقد قال عنه الإمام أحمد:(في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظاً جيداً)

(1)

.

وأخرج الحديث مسلم من طريق حماد بن زيد، عن هشام، وقال:(وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره) ومراده بالحرف الزيادة المذكورة عند البخاري.

وكأن مسلماً حذفها لتفرد حماد بن زيد بها، يؤيد ذلك قول النسائي:(قد روى هذا الحديث غير واحد عن هشام بن عروة، ولم يذكر فيه «وتوضئي» غير حماد، والله تعالى أعلم)

(2)

، وقال البيهقي (1/ 327):(وفيه زيادة الوضوء لكل صلاة، وليست بمحفوظة).

وهذا التعليل من النسائي لهذا الحرف في رواية حماد بن زيد ليس بجيد - كما يقول الحافظ ابن حجر

(3)

ـ لأن أبا معاوية تابعه عليه، كما تقدم عند البخاري والترمذي، وأيضاً فقد تابعهما عليه حماد بن سلمة، فرواه الدارمي من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وقال فيه:«فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرُها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي» ، قال هشام: فكان أبي يقول: (تغتسل غسل الأول، ثم ما يكون بعد ذلك فإنها تَطَهّرُ وتصلي)

(4)

، لكن هذا ليس فيه إلا الأمر بالوضوء عقب غسل الدم لا لكل صلاة، وقد رواه ابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 104) من طريق عفان عن حماد وليس فيه (وتوضئي) وعفان من أثبت أصحاب حماد فهو مقدم على غيره.

وأيضاً فقد تابعهم أبو حمزة محمد بن ميمون السكري، عن هشام بن

(1)

"العلل"(1/ 378).

(2)

"سنن النسائي"(1/ 186).

(3)

انظر: "فتح الباري"(1/ 409).

(4)

"سنن الدارمي"(1/ 164).

ص: 285

عروة، عن أبيه

(1)

، لكنه تارة يرويه موصولاً بذكر عائشة وتارة مرسلاً، وتابعهم أبو عوانة - أيضاً ـ

(2)

، وقد روى الحديث بالمعنى، وسيأتي ما في روايته.

والقول بأن هذه اللفظة موقوفة على عروة وأن رفعها غير محفوظ فيه وجاهة لأمور ثلاثة:

1 -

إن هذا هو ظاهر صنيع البخاري، لأن هشاماً روى الحديث عن أبيه فقط، ثم قال: (قال: أبي

) فلو لم يكن غرضه بيان المرفوع من الموقوف لما كان لهذا التخصيص معنى

(3)

.

2 -

أن الأئمة الكبار حكموا بأنها غير محفوظة، منهم مسلم والنسائي والبيهقي، وقال ابن رجب: (الصواب أن لفظة «الوضوء» مدرجة في الحديث من قول عروة، وكذلك روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال:«ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة»

(4)

.

3 -

أن هذا الحديث رواه عن هشام بضعة عشر رجلاً، ومنهم أئمة حفاظ، لم يذكر واحد منهم هذه الزيادة منهم الإمام مالك ووكيع وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد

(5)

، ولعل إدراجها في المرفوع حصل من بعض الرواة الذين لم يبلغوا مبلغ من لم يذكرها في الحفظ والإتقان، لأن الذين رووها لم يخلُ أحد منهم إلا وقد خالف واختلف عليه فيها، ما عدا أبا عوانة فإنه لم يختلف عليه، لكن مخالفته لمن هو أكثر عدداً وأعلى قدراً لا تحتمل.

واعلم أن هذه اللفظة «ثم توضئي لكل صلاة» هي المقصودة من إيراد هذا الحديث في نواقض الوضوء، وإلا فمناسبة الحديث باب «الحيض» ، وسيذكره المصنف هناك.

(1)

أخرجه ابن حبان (4/ 188)، والبيهقي (1/ 344)، وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه ابن حبان (4/ 189)، وإسناده صحيح.

(3)

انظر: "موسوعة أحكام الطهارة"(8/ 132).

(4)

"فتح الباري"(2/ 72).

(5)

انظر: "الخلافيات" للبيهقي (3/ 303)، "الموسوعة"(8/ 135).

ص: 286

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (فاطمة بنت أبي حُبيش) بالحاء المهملة بلفظ التصغير، واسمه: قيس بن المطلب بن أسد، وهي قرشية أسدية، وهي إحدى المستحاضات في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (أُستحاض) أي: تصيبني الاستحاضة، وهي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة، كما سيأتي - إن شاء الله - في «باب الحيض» .

قوله: (فلا أطهر) الطهر: النظافة، والمعنى: فلا أنظف من الدم، والمستقر عندها أن طهارة الحائض لا تُعرف إلا بانقطاع الدم، فَكَنّتْ بعدم الطهر عن اتصاله.

قوله: (أفأدع الصلاة) سؤال عن استمرار حكم الحيض حالة دوام الدم أو عدمه، بعد أن تقرر عندها أن الحائض تمنع من الصلاة، فظنت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم.

قوله: (قال: لا) أي: لا تدعي الصلاة.

قوله: (إنما ذلك عرق) بكسر الكاف خطاب للمرأة السائلة، وقوله:(عرق)، أي: بكسر العين، وهو المسمى بالعاذل - بالذال المعجمة ـ، ويقال: العاذر، بالراء المهملة

(1)

، والمعنى: أن دمك ليس دم الحيض؛ لأن دم الحيض يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة، وهذا بسبب انفجار عرق، وفي ذلك إخبار باختلاف المَخْرَجَيْنِ.

قوله: (فإذا أقبلت حيضتك .. ) المراد بإقبال الحيضة: حصول وقتها وابتداء خروج الدم أيام عادتها، والمراد بإدبارها: وقت انقطاع الدم عنها أيام عادتها، والمعنى أنها تميز بين دم حيضها ودم استحاضتها، فتجلس أيام عادتها، فإذا انقضت اغتسلت وصلّت، ولا تنظر بعد ذلك إلى ما معها من الدم؛ لأنه استحاضة.

(1)

انظر: "المحكم"(2/ 59)، "الصحاح"(5/ 1762).

ص: 287

الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن دم الاستحاضة حدث من الأحداث الناقضة للوضوء؛ لأن الشرع أمر بالوضوء منه في قوله: «ثم توضئي لكل صلاة» ، وهذا قول الجمهور، إلا المالكية فإنهم يرون أن الاستحاضة لا تنقض

(1)

.

وهكذا كل خارج من أحد السبيلين فهو ناقض للوضوء، سواء أكان بولاً أم غائطاً أم دماً أم مذياً، وكذا الريح من الدبر، وهذا مجمع عليه، كما نقله ابن المنذر وغيره

(2)

.

وهذا غرض الحافظ من إيراد هذا الحديث في هذا الباب، ويستثنى من ذلك من حدثه دائم فإنه لا ينتقض وضوؤه، كمن به سلس بول أو ريح أو غائط، ومثل الاستحاضة عند المالكية.

الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إنه يجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة؛ بناءً على ثبوت زيادة الوضوء؛ لأن ظاهر الأمر الوجوب، ومعنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة - كالظهر مثلاً - إلا بعد دخول وقتها، أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة كصلاة الضحى - مثلاً - فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها، وسأذكر هذه المسألة بأوسع مما هنا عند الكلام على غسل المستحاضة في باب «الحيض» إن شاء الله تعالى.

الوجه الخامس: الحديث دليل على أن دم الحيض نجس، وكذا دم الاستحاضة لقوله:«وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» . وتقدم ذلك في باب «إزالة النجاسة» .

وسأذكر فوائد هذا الحديث وأحكام المستحاضة في باب «الحيض» إن شاء الله تعالى.

(1)

"الأوسط"(1/ 158).

(2)

"الأوسط"(1/ 132)، "المحلى"(1/ 218)، "المغني"(1/ 230).

ص: 288

بيان‌

‌ حكم المذي

69/ 3 - عَنْ عَليّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذّاءً، فأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ:«فِيه الْوُضُوءُ» . مُتَّفَقٌ عَليهِ، وَاللّفظُ لِلبخاري.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «العلم» باب «من استحيا فأمر غيره بالسؤال» (132) من طريق عبد الله بن داود، عن الأعمش، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، عن علي رضي الله عنه، به.

وأخرجه في كتاب «الوضوء» باب «من لم يَرَ الوضوء إلا من المخرجين» (178) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، به.

وأخرجه في كتاب «الغسل» باب «غسل المذي والوضوء منه» (269) من طريق زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه، به.

وقد شرحه الحافظ في «فتح الباري» في هذا الموضع، واللفظ المذكور في «البلوغ» هو لفظ البخاري في كتاب «العلم» .

وأخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «المذي» (303) من طرق، إلا أن فيه (فقال: منه الوضوء).

قال ابن عبد البر: (والحديث ثابت عند أهل العلم، صحيح، له طرق شَتّى عن عليٍّ، وعن المقداد، وعن عمار - أيضاً - كلها صحاح حسان،

ص: 289

أحسنها ما ذكره عبد الرزاق .. )

(1)

وسيأتي ذكر لفظه إن شاء الله، وسيكون شرح هذا الحديث - بعون الله - على ضوء معظم ألفاظه، لا سيما ما يتعلق بفوائده، والذي يستفاد من الأحاديث أن الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي ثلاثة:

1 -

علي رضي الله عنه، وحديثه في الصحيحين.

2 -

سهل بن حُنيف، وسيأتي حديثه - إن شاء الله - في الوجه «الحادي عشر» .

3 -

عبد الله بن سعد الأنصاري، وسيأتي حديثه - أيضاً - في الوجه «السابع» .

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كنت رجلاً مَذّاءً) بفتح الميم، وتشديد الذال، وبالمد، صيغة مبالغة أي: كثير المذي، يقال: مَذَى يَمْذِي مثل: مضى يمضي، ثلاثياً، ويقال: أمذى يُمذي، رباعياً، وفي رواية أنه قال: (كنت رجلاً مذاء، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذُكر له فقال:«لا تفعل، إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل»

(2)

.

والمَذْيُ: بفتح الميم وسكون الذال، ويقال: المَذِيّ: بفتح الميم وكسر الذال، وتشديد الياء، وهو ماء رقيق يخرج عقب الشهوة بدون دفق ولا إحساس بخروجه، وتقدم ذكره في الحديث الرابع من أحاديث «إزالة النجاسة» .

قوله: (فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في رواية البخاري في كتاب «الغسل»: (فأمرت رجلاً .. )، وجاء في رواية للبخاري

(1)

"الاستذكار"(3/ 11).

(2)

أخرجه أبو داود (206)، والنسائي (1/ 113)، وأحمد (2/ 219) وإسناده صحيح. وفضخ الماء: دفقه، يريد المني.

ص: 290

ـ أيضاً - في سبب ذلك وهو قوله: فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ لهما: (لمكان ابنته مني)، وفي لفظ لمسلم:(من أجل فاطمة)، والمراد أن العلة والسبب من استحيائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مكان ابنته صلى الله عليه وسلم منه، لأنها زوجته، والمذي يتعلق بأمر الشهوة، فاستحيا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يتعلق بذلك.

وظاهر هذا السياق أن السائل هو المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي، نسبة إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري؛ لأنه تبناه، أسلم المقداد قديماً، وهاجر الهجرتين، وتزوج ضُباعة بنت الزبير ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد غزوة بدر وما بعدها، توفي سنة ثلاث وثلاثين، ودفن بالبقيع في المدينة

(1)

رضي الله عنه.

وإنما أمره عليّ بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر غيره لمذاكرة جرت بينهما في المذي، كما أخرجه عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس، قال:(تذاكر علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود المذي، فقال علي: إني رجل مذاء، فاسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإني أستحي أن أسأله عن ذلك لمكان ابنته مني، لولا مكان ابنته مني لسألته، فقال عايش: فسأل أحدُ الرجلين: عمارٌ أو المقداد .. )

(2)

.

وقد ورد في بعض الروايات أنه أمر عماراً أن يسأل

(3)

. وفي رواية ثالثة أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ فقال: «مِن المذي الوضوءُ، ومن المني الغسل»

(4)

.

(1)

انظر: "الاستيعاب"(10/ 262)، "الإصابة"(9/ 273).

(2)

"المصنف"(1/ 155).

(3)

"سنن النسائي"(1/ 97).

(4)

أخرجه الترمذي (114)، والنسائي (1/ 111)، وأحمد (2/ 90) وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وقد ضعفه بعضهم من أجل يزيد بن أبي زياد، وقد جاء ما يدل على توثيقه، فقد نقل الذهبي في "الميزان" (4/ 423) أن شعبة قال:(ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد أن لا أكتب عن أحد)، وانظر: تعليق أحمد شاكر على "جامع الترمذي"(1/ 195).

ص: 291

والجمع بين هذه الروايات أن علياً أمر المقداد أن يسأل فسأل، وأما نسبة السؤال إلى عمار فهي محمولة على المجاز لكون عليٍّ قصده، لكن تولى المقداد الخطاب دونه، وأما نسبة السؤال إلى عليّ فإما أن يحمل على أن علياً أمر المقداد أن يسأل ثم سأل بنفسه

(1)

، أو هو محمول على المجاز بأن بعض الرواة أطلق عليه أنه سأل لكونه الآمر بذلك، ويؤيده أنه استحيى أن يسأل لمكان فاطمة، فهذا قد يضعف القول بأنه سأل بنفسه، والله أعلم.

قوله: (فقال: فيه الوضوء) في رواية مسلم: «منه الوضوء» كما تقدم، وهذا اللفظ الذي أورده الحافظ لم يرد فيه ذكر غسل الذكر، وهو في الصحيحين.

ولعل الحافظ اقتصر على ما يتعلق بالوضوء، لكون الكلام في نواقض الوضوء، وأما غسل الذكر فيتعلق بإزالة النجاسة، فلم ير إيراد اللفظ الدال عليه، والله أعلم.

الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز التوكيل في السؤال والاستنابة في الاستفتاء، للعذر كالحياء ونحوه، سواء أكان المستفتي حاضراً أم غائباً، وقد ترجم البخاري على هذا الحديث - كما تقدم - بقوله:(باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال).

ويشترط أن يكون الوكيل موثوقاً في فهمه وحفظه ودينه، لأجل أن ينقل السؤال ويفهم الجواب، كما ينبغي.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يقبل خبر الواحد في المسائل العلمية والرواية إذا كان المخبر ثقة.

الوجه الخامس: أن من الأدب وحسن المعاشرة مع الأصهار أن لا يذكر الزوج ما يتعلق بأسباب الجماع ومقدماته والاستمتاع بالزوجة مع حضرة أبيها أو أخيها أو ابنها أو غيرهم من أقاربها، مع كون السؤال في الحديث عن حكم شرعي، فكيف إذا ذكر ذلك لغير حاجة؟.

(1)

انظر: "صحيح ابن حبان"(3/ 386).

ص: 292

الوجه السادس: الحديث دليل على نجاسة المذي، لكونه أمره بغسل ذكره، وأمره بالوضوء، فدل هذا على أن حكم المذي كحكم البول في النجاسة، وعلى الصحيح من قولي أهل العلم أنه يعفى عن يسير المذي، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها صاحب «الإنصاف» ثم قال:(قلت: وهو الصواب خصوصاً في حق الشباب)

(1)

؛ لأن هذه نجاسة يشق الاحتراز منها، لكثرة ما يصيب ثياب الشباب العُزّاب

(2)

، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الخف.

الوجه السابع: أن المذي ناقض للوضوء، فيتوضأ منه لقوله:(اغسل ذكرك وتوضأ) ولا يوجب الغسل بالإجماع، كما حكاه ابن عبد البر

(3)

، ونقله ابن قدامة عن ابن المنذر

(4)

.

وفي حديث عبد الله بن سعد الأنصاري قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء، فقال:«ذاك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة»

(5)

.

فإن كان المذي سَلسَاً لا ينقطع فحكمه حكم سلس البول، فإذا دخل وقت الصلاة غسل فرجه وتلجم بشيء حتى لا تتعدى نجاسة المذي إلى ملابسه وبدنه، ثم توضأ وصلى، ولا يضره ما خرج بعد ذلك لكونه بغير اختياره إلحاقاً له بحكم المستحاضة، كما تقدم.

وقد جاء في رواية البخاري: «توضأ واغسل ذكرك»

(6)

وظاهره أن الأمر بالوضوء مقدّم على غسل الذكر، وقد وقع في «عمدة الأحكام»:«اغسل ذكرك وتوضأ»

(7)

والواو لا تقتضي الترتيب، ولأن لفظ مسلم «يغسل ذكره

(1)

"الإنصاف"(1/ 330). وانظر: "شرح العمدة لابن تيمية"(1/ 104).

(2)

انظر: "المعجم الوسيط"(2/ 598).

(3)

"التمهيد"(21/ 207).

(4)

"المغني"(1/ 230).

(5)

أخرجه أبو داود (211)، وضعفه الحافظ في "التلخيص"(1/ 129).

(6)

"صحيح البخاري"(269).

(7)

"عمدة الأحكام مع شرح ابن الملقن"(1/ 632)، وانظر:"فتح الباري"(1/ 380).

ص: 293

ويتوضأ»

(1)

، بيَّن المراد، والأنسب تقديم غسله على الوضوء.

الوجه الثامن: أن الواجب في المذي غسل الذكر كلّه ما أصابه المذي وما لم يصبه، لقوله:«اغسل ذكرك» وهذا أمر، والأمر للوجوب، وهذا قول مالك، ورواية عن أحمد

(2)

.

والقول الثاني: أنه يغسل جميع الذكر والأُنثيين، وهو المشهور من مذهب الحنابلة

(3)

، لرواية:«يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» وفي حديث عبد الله بن سعد: «فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتتوضأ» ، لكن لفظة (وأنثييه) لم تثبت في حديث علي رضي الله عنه

(4)

.

والقول الثالث: أنه يُكتفى بغسل رأس الذكر، أو الموضع الذي أصابته النجاسة منه، وهو قول جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنفية، ورواية عن أحمد

(5)

، إلحاقاً له بسائر النجاسات، فهو حدث من الأحداث، فلا يغسل منه إلا المخرج، كما في البول والغائط، ولأن الأحاديث لم تذكر فيه إلا الوضوء.

والقول الثاني أوفق لظاهر الحديث، فإن عموم اللفظ في قوله:«يغسل ذكره» يوجب غسل الذكر كله ما أصابه المذي وما لم يصبه، إضافة إلى غسل الأُنثيين، لما تقدم، فلما ثبت ذلك بدليل صحيح تعين الأخذ به، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(6)

ورجحه الشيخ عبد العزيز بن باز.

والحكمة من الأمر بغسل الذكر والأنثيين - عند من يقول بغسلهما - أن المذي فيه لزوجة، فربما انتشر على الذكر والأنثيين ولم يشعر به الإنسان، قاله الخطابي

(7)

، وقيل: إن ذلك يخفف المذي أو يقطعه، ولا سيما إذا كان غسله بالماء البارد، فإنه من أسباب قطعه وعدم استمرار خروجه.

(1)

"صحيح مسلم"(303).

(2)

"حاشية الدسوقي"(1/ 112)، "الإنصاف"(1/ 330).

(3)

"الفروع"(1/ 247 - 248)، "الإنصاف"(1/ 330).

(4)

"مسائل الامام أحمد" لأبي داود ص (106).

(5)

"مغني المحتاج"(1/ 79)، "شرح فتح القدير"(1/ 72)، "الفروع"(1/ 247 - 248).

(6)

"شرح العمدة"(1/ 102).

(7)

"معالم السنن"(1/ 147).

ص: 294

وأما لفظ البخاري: «توضأ وانضح فرجك» فالمراد به الغَسْل، فإن النضح يكون غسلاً ويكون رشاً، وقد تقدم في أحد ألفاظ البخاري:«اغسل ذكرك» ، فيكون المراد بالنضح هنا الغسل.

وقد طعن الحفاظ في رواية أحمد وأبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن علي رضي الله عنه؛ لأنها مرسلة، حيث لم يسمع عروة من علي رضي الله عنه، كما قاله أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان

(1)

.

لكن أخرجه أبو عوانة من طريق عَبيدة السلماني، عن علي رضي الله عنه بهذه الزيادة «يغسل ذكره وأُنثييه»

(2)

، قال الحافظ:(وإسناده لا مطعن فيه)

(3)

، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فإن قيل: يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن علي، وهو لم يدركه؟ قلنا: مُرْسِلُهُ أحد أجلاء الفقهاء السبعة، رواه ليبين الحكم المذكور فيه، وهذا من أقوى المراسيل)

(4)

.

الوجه التاسع: الحديث دليل على تعين الماء في إزالة المذي دون الاستجمار بالأحجار ونحوها؛ لأنه عين له الغسل، والمعين لا يقع الامتثال إلا به، ولا يصح إلحاقه بالبول؛ لأن الشرع أمره بغسل ذكره وأُنثييه، فدل على أنه حكم يخص المذي دون البول؛ لأن البول لا يغسل منه إلا ما أصاب المحل، ولأن الآثار كلها على اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس في شيء منها ذكر الاستجمار بالأحجار، فدل على أنها لا تكون إلا في البول والغائط

(5)

.

الوجه العاشر: اختلف العلماء في المذي يصيب الثوب على قولين:

الأول: أنه لا يجزئ فيه إلا الغَسْل، وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، وقول في مذهب الحنابلة

(6)

، أخذاً بأحاديث غسله.

(1)

"المراسيل" ص (149)، "العلل"(1/ 54)، "جامع التحصيل" ص (236).

(2)

"مسند أبي عوانة"(1/ 273).

(3)

"التلخيص"(1/ 126).

(4)

"شرح العمدة"(1/ 102).

(5)

"التمهيد"(21/ 208).

(6)

"شرح فتح القدير"(1/ 72)، "حاشية الدسوقي"(1/ 112)، "مغني المحتاج"(1/ 79)، "الإنصاف"(1/ 330).

ص: 295

الثاني: أنه يجزئ فيه النضح، وهو الرش بالماء، وهو رواية عن أحمد، فقد نقل عنه الترمذي أنه قال:(أرجو أنه يجزئه النضح)

(1)

، ودليل ذلك حديث سهل بن حُنيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:«يكفيك بأن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح بها ثوبك، حيث ترى أنه أصابه منه»

(2)

.

فالصواب - إن شاء الله - أنه يكفي نضح الثوب ورشه بالماء بلا غسل، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم

(3)

؛ لأن الغسل ورد في الفرج لا في الثوب، ورواية نضح الثوب لا معارض لها، أما الفرج فقد ورد النضح وورد الغسل، فيفسر النضح بالغسل، كما تقدم، وقد ذكر ابن عبد البر: أن النضح في لسان العرب يكون مرة الغسل ومرة الرش

(4)

.

قال ابن تيمية: (المذي يعفى عنه في أقوى الروايتين؛ لأن البلوى تعم به، ويشق التحرز منه، فهو كالدم بل أولى، للاختلاف في نجاسته والاجتزاء عنه بنضحه)

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"جامع الترمذي"(1/ 198).

(2)

أخرجه أبو داود (210)، والترمذي (115)، وأحمد (25/ 345) ولفظه:"يكفيك أن تأخذ كفًا من ماء فتمسح بها من ثوبك .. "، قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح)، وهو من رواية محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد، فانتفت شبهة التدليس.

(3)

"إعلام الموقعين"(4/ 277).

(4)

"الاستذكار"(3/ 14).

(5)

"شرح العمدة"(1/ 104).

ص: 296

‌تقبيل المرأة ولمسها لا ينقض الوضوء

70/ 4 - عَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثمّ خَرَجَ إلى الصّلَاةِ وَلمْ يَتَوَضّأْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيّ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (42/ 497) من طريق وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها به، وفي اخره: قال عروة: قلت لها: من هي إلا أنت؟ قال: فضحكت.

وأخرجه - أيضاً - أبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (1/ 168) كلهم من طريق وكيع، عن الأعمش، بهذا الإسناد.

وقد حكم البخاري على هذا الحديث بالضعف، كما ذكر المصنف، كما حكم عليه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان

(1)

، وقد أخرجه البيهقي في «المعرفة» (1/ 216) وقال:(هذا أشهر حديث روي في هذا الباب، وهو معلول).

وقد أعل الحديث بعلتين:

الأولى: أن عروة المذكور ليس هو ابن الزبير، إنما هو شيخ مجهول يعرف بعروة المزني - كما وردت تسميته في الطريق الأخرى ـ، وهذا قول جمع من الأئمة منهم ابن حزم

(2)

.

الثانية: الانقطاع؛ لأن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة، وهو

(1)

"علل الحديث"(1/ 48).

(2)

"المحلى"(1/ 245)، "تحفة الأشراف"(12/ 233).

ص: 297

قول يحيى بن سعيد القطان والبخاري وأحمد وأبي حاتم ويحيى بن معين

(1)

، وهم قد تبعوا سفيان الثوري فيما نقله عنه أبو داود أنه قال:(ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني)

(2)

، يعني بذلك أنه لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء؛ لأنه لم يسمع منه.

والظاهر أن أبا داود لم يرتض كلام الثوري، فلذا ساقه بصيغة التمريض (وروي عن الثوري)، ثم قال بعده:(وقد روى حمزة الزيات عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها حديثاً صحيحاً)

(3)

. وهذا مثبت، وذاك نافٍ، لكن حمزة الزيات متكلم فيه، قال الحافظ:(صدوق زاهد، ربما وهم).

وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال: (حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة) والظاهر أن هذا هو مراد الحافظ هنا بقوله: (وضعفه البخاري)

(4)

.

وقد صحح الحديث جمع من الأئمة المتأخرين منهم ابن جرير، وابن عبد البر، وابن كثير، وابن التركماني، والزيلعي، والشيخ أحمد شاكر، والألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم.

قالوا: وأما ما أعل به الحديث فهو غير قادح، وبيانه كما يلي:

أما العلة الأولى، وهي أن عروة ليس هو ابن الزبير، وإنما هو عروة المزني فهذا مردود بما يلي:

1 -

أنه قد ورد تسميته عند غير واحد من الثقات ممن روى الحديث عن وكيع مثل الإمام أحمد في المسند - كما تقدم في سياق «سنده» - وابن ماجه.

2 -

ما جاء في اخر الحديث من قول عروة فقلت لها: (من هي إلا أنت؟ فضحكت)، وغير عروة بن الزبير لا يَجْسُرُ أن يقول هذا الكلام لعائشة، لأنها خالة عروة.

(1)

"المراسيل" ص (28)، "تهذيب التهذيب"(2/ 156).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 46).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 46).

(4)

"العلل الكبير"(1/ 164).

ص: 298

3 -

أنه سيأتي أن الأعمش صرح في الحديث بأنه حدثه شيوخه عن عروة المزني، فلو كان عروة هذا مجهولاً فكيف يحدث عنه الكثيرون؟! فعلم أنه عروة بن الزبير، ووصفه بالمزني غلط من أحد الرواة، كما سيأتي.

4 -

أن المعروف عند المحدثين أن من يُذكر غير منسوب يحمل قطعاً على المشهور المتعارف بينهم، لا على المجهول، وعلى تقدير صحة ما قيل: إن عروة هو المزني؛ أفلا يحتمل أن حبيباً سمعه من ابن الزبير وسمعه من المزني - أيضاً - كما يقع ذلك في بعض الأحاديث.

وأما العلة الثانية وهي الانقطاع فمردودة - أيضاً - فإن حبيب بن أبي ثابت - وهو ثقة متفق على توثيقه - لا يُنْكَرُ لقاؤه عروة؛ لأنه قد روى عمن هو أكبر من عروة وأجلّ وأقدم موتاً، وهو إمام من أئمة العلماء الجلّة. ذكر ذلك ابن عبد البر، وقال في موضع اخر:(لا شك أنه لقي عروة)

(1)

، ويؤيد ذلك ما تقدم من قول أبي داود:(وقد روى حمزة الزيات عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً)، والمراد بهذا الحديث ما أخرجه الترمذي في كتاب (الدعوات) من جامعه: حدثنا أبو كريب، أخبرنا معاوية بن هشام، عن حمزة الزيات، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم عافني في جسدي، وعافني في بصري .. »

(2)

.

والذي يظهر أن علة الانقطاع غير مدفوعة، لأن قول ابن عبد البر لا يقابل قول الأئمة الكبار - كما تقدم - وليس عند ابن عبد البر إلا مجرد إمكان اللقي، وهذا لا يبرر سماع حبيب من عروة، ولا يكفي في رد كلام الأئمة. وأما مقولة أبي داود فهي من طريق حمزة الزيات، وتقدم ما فيه، ثم إن صح فهو محمول على حديث خاص، وهذا لا يعني أن حبيباً سمع من عروة مطلقاً.

وقد ورد حديث الباب من طريق أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ. أخرجه أبو داود (178)، والنسائي

(1)

"الاستذكار"(3/ 52).

(2)

"جامع الترمذي"(3480).

ص: 299

(1/ 104) لكنه مرسل؛ لأن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، كما قال أبو داود بعد سياقه الحديث، والنسائي، والترمذي

(1)

، وغيرهم، ويؤكد ذلك أن إبراهيم التيمي توفي سنة (92 هـ) وله أربعون سنة، وتوفيت عائشة سنة (58 هـ)، وأما أبو روق فاسمه عطية بن الحارث الهمداني الكوفي، وقد ضعفه ابن حزم

(2)

والبيهقي

(3)

والحق أنه ثقة، فقد قال أحمد كما نقل عنه ابنه عبد الله

(4)

: (ليس به بأس) وكذا قال النسائي، ويعقوب بن سفيان، وقال في موضع اخر:(ثقة)، وقال أبو حاتم:(صدوق)

(5)

.

وله طريق ثالث عن عبد الرحمن بن مَغْراءَ، عن الأعمش، عن أصحاب له، عن عروة المزني، عن عائشة، أخرجه أبو داود (180) وإسناده ضعيف، عبد الرحمن بن مغراء متكلم فيه، قال ابن المديني:(ليس بشيء، كان يروي عن الأعمش ستمائة حديث، فتركناه، لم يكن بذلك)، وقال ابن عدي:(وهذا الذي قاله علي بن المديني هو كما قال، إنما أُنكرت عليه أحاديث يرويها عن الأعمش لا يتابعه الثقات عليها)

(6)

، ثم إن الإسناد فيه رواة مجاهيل؛ لأن الأعمش قال: أصحاب لنا، فهم مجهولون، ولم يُسمّ منهم إلا حبيب بن أبي ثابت، وعروة المزني قال عنه الذهبي:(شيخ لحبيب بن أبي ثابت لا يعرف)

(7)

، وقال في «التقريب»:(مجهول).

وخلاصة ذلك أن هذا الحديث معلول، وله طرق وشواهد معلولة أيضاً، وقد ذكر شيئاً منها الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «جامع الترمذي» ، وحكم بأن بعضها صحيح، وبعضها يقارب الصحيح

(8)

.

الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن تقبيل المرأة ولمسها لا ينقض الوضوء، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، ذكرها

(1)

"جامع الترمذي"(1/ 138).

(2)

"المحلى"(1/ 245).

(3)

"الخلافيات"(2/ 173).

(4)

"العلل"(1/ 228).

(5)

"المعرفة والتاريخ"(3/ 106، 199)، "تهذيب التهذيب"(7/ 200).

(6)

"الكامل"(4/ 289).

(7)

"الميزان"(3/ 65).

(8)

"جامع الترمذي"(1/ 135).

ص: 300

ابن قدامة

(1)

، وروي ذلك عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وطاووس والحسن ومسروق، وهو القول الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمهم الله.

والقول الثاني: أن لمس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً، سواء أكان بشهوة أم بدون شهوة، وهذا قول الشافعية، ورواية عن أحمد

(2)

، واستدلوا بقوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، فقد قرأ حمزة والكسائي - من السبعة - (أو لمستم النساء) بغير ألف، فيكون المراد اللمس باليد؛ لأن اللمس حقيقة في المس باليد، والملامسة مجاز في الجماع أو كناية، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة، والآية قد أوجبت الوضوء، فيكون لمس المرأة ناقضاً للوضوء.

أما أصحاب القول الأول فيقولون: المراد بالآية: الجماع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والقول الثالث: التفصيل وهو أنه إن كان اللمس بشهوة نقض الوضوء وإن لم يكن بشهوة لم ينقض، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهو قول مالك وجماعة من السلف، واستدلوا:

1 -

بالآية السابقة، وحملوها على اللمس بشهوة؛ لأن الشهوة مظنة الحدث، فوجب حمل الآية عليه.

وبهذا يتبين أن سبب الاختلاف في هذه المسألة - كما يقول ابن رشد - اشتراك اسم اللمس في كلام العرب بين اللمس باليد، وبه فسر أصحاب القول الثاني الآية، وبين الجماع، وهو تفسير أصحاب القول الأول

(3)

.

2 -

حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"بدائع الصنائع"(1/ 29 - 30)، "المغني"(1/ 257).

(2)

"المغني"(1/ 257).

(3)

انظر: "بداية المجتهد"(1/ 102).

ص: 301

ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح

(1)

.

ولو كان مجرد اللمس ينقض الوضوء لانتقض وضوء النبي صلى الله عليه وسلم واستأنف الصلاة.

3 -

قالوا: ولأن إيجاب الوضوء على من مس مطلقاً لا يخلو من إيقاع الناس في الحرج والمشقة، فقد لا يسلم منه أحد، وما فيه حرج فهو منتفٍ شرعاً.

والراجح - والله أعلم - هو القول الأول، وهو أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، إلا إن خرج منه شيء من مذي أو نحوه، ووجه الترجيح ما يلي:

1 -

حديث عائشة رضي الله عنها الوارد في الصحيحين، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه

الحديث)

(2)

.

2 -

أن الأصل عدم النقض وبقاء الطهارة حتى يرد دليل صريح صحيح على ذلك.

3 -

ولأن لمس المرأة مما تعم به البلوى في البيوت، فلو كان ذلك ناقضاً للوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بياناً واضحاً، فلما لم يبينه دل على أنه لا ينقض الوضوء.

وأما الآية الكريمة فلا دلالة فيها على ما ذكر؛ لأن المراد بالملامسة الجماع، وليس اللمس باليد، لما يلي:

1 -

أن ابن عباس، وهو حبر الأمة وترجمان القران الذي علمه الله تأويل كتابه واستجاب فيه دعوة رسوله، فَسّرَ الملامسة بالجماع، فقد عَلَّقَ

(1)

أخرجه البخاري (382)، ومسلم (512).

(2)

أخرجه مسلم (586).

ص: 302

البخاري في صحيحه عنه أنه قال: (الدخول والمسيس واللماس هو الجماع)

(1)

، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة أن عبيد بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح اختلفوا في الملامسة، قال سعيد وعطاء: هو اللمس والغمز، وقال عبيد بن عمير: هو النكاح، فخرج عليهم ابن عباس وهم كذلك، فسألوه وأخبروه بما قالوا، فقال: أخطأ الموليان، وأصاب العربي، وهو الجماع، ولكن الله يَعِفّ ويكني

(2)

، وتفسيره أرجح من تفسير غيره لتلك المزية.

وقد ورد هذا التفسير عن جماعة من السلف، كما نقل ذلك ابن جرير في «تفسيره»

(3)

، قال ابن كثير:(وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك)

(4)

، وقد رجح ذلك ابن جرير

(5)

.

2 -

أنه إذا حمل لفظ الملامسة أو اللمس في القراءة الأخرى على الجماع تكون الآية شاملة للحدثين: الأصغر في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، والأكبر في قوله:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهذا أبلغ وأشمل، أما إذا أريد منه المس باليد - مثلاً - فإنه يكون قليل الفائدة، إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من موجبات الوضوء، فتخلوا الآية من ذكر موجب الغسل، وهو الحدث الأكبر.

3 -

أن تفسير اللمس في الآية بالجماع فيه جمع بين الأدلة وإعمال لها كلها، بخلاف ما إذا فسر باللمس باليد فإن ذلك يلغي دلالة السنة على عدم الوضوء من لمس المرأة.

وأما قولهم: إن اللمس حقيقة في المس باليد فهذا صحيح، لكنه تعورف عند إضافته إلى النساء في معنى الجماع، بل يكاد يكون ظاهراً فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع.

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 157).

(2)

"المصنف"(506) وهو صحيح الإسناد.

(3)

"تفسير ابن جرير"(8/ 396).

(4)

"تفسير ابن كثير"(2/ 276).

(5)

"تفسير ابن جرير"(8/ 396).

ص: 303

وأما حمل الآية على اللمس بشهوة لكون ذلك مظنة الحدث فمردود بأن المظنة لا تنقض الوضوء، ما لم تكن قوية؛ لأن الأصل الطهارة، كما سيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما حديث عائشة الذي في الصحيحين فهو دليل على أن اللمس لا ينقض الوضوء، وأما قول الحافظ:(وتعقب باحتمال الحائل أو الخصوصية)

(1)

فليس بشيء؛ لأن الأصل عدم الخصوصية إلا بدليل، كما في الأصول، فكيف تبنى المسائل على الاحتمال، وأما احتمال الحائل فلا يفكر فيه إلا متعصب

(2)

، وقد خالف الحافظ في كلامه هنا ما ذكره في «التلخيص»

(3)

من أن الحديث دليل على أن اللمس في الآية الجماع؛ لأنه مَسّها في الصلاة واستمر، وهذا هو الحق إن شاء الله.

وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية القول بأن لمس المرأة ينقض الوضوء بلا شهوة قولاً شاذاً، ليس له أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصول الشريعة، فإن اللمس العاري عن شهوة لا يؤثر في شيء من العبادات، فمن جعله مفسداً للطهارة فقد خالف الأصول

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(1/ 492).

(2)

انظر تعليق أحمد شاكر على الترمذي (1/ 142).

(3)

"التلخيص"(1/ 141).

(4)

"الفتاوى"(20/ 368).

ص: 304

‌حكم الشك في الحدث مع تيقُّن الطهارة

71/ 5 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ في بَطْنِهِ شَيْئاً، فَأَشْكلَ عَلَيْهِ: أَخرَجَ مِنْهُ شيءٌ، أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنّ مِنَ المَسْجِدِ حَتّى يَسْمَعَ صَوْتاً، أَوْ يَجِدَ رِيحاً» . أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم (362) في كتاب «الحيض» باب «الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك» من طريق جرير بن عبد الحميد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه

(1)

، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد جاء في معناه أحاديث أخرى، تأتي إن شاء الله.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) أي: إذا حسّ بتردد الريح في بطنه، وهو صوت الأمعاء، وهو القرقرة: أي: قرقرة البطن

(2)

.

قوله: (فأشكل عليه) أي: التبس عليه الأمر أَوُجِدَ ناقض أم لا؟

قوله: (فلا يخرجن من المسجد) أي: لأجل أن يتوضأ.

قوله: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أي: حتى يتيقن الحدث بسمعه أو شمه و (أو) للتنويع، وخص السمع والشم بالذكر لكونهما الغالب، وإلا فلو

(1)

هو ذكوان أبو صالح السمان الزيات المدني، ثقة، ثبت، من الثالثة.

(2)

"اللسان"(5/ 90).

ص: 305

كان لا يسمع ولا يشم لآفة أو مرض وتيقن بغير هذين الطريقين انتقض وضوؤه.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المتطهر إذا شك في الحدث لم يلزمه الوضوء، بل يصلي بطهارته تلك حتى يتيقن أنه أحدث، إما بسماع صوت أو شم ريح.

وقد دل على ذلك - أيضاً - حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»

(1)

.

الوجه الرابع: هذا الحديث دليل على قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة وهي (اليقين لا يزول بالشك)، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهي من القواعد الفقهية الكبرى التي يتخرج عليها فروع فقهية كثيرة في العبادات والمعاملات والعقود.

قال القرافي: (هذه قاعدة مجمع عليها، وهي أن كل مشكوك فيه يُجعل كالمعدوم الذي يُجزم بعدمه)

(2)

.

وقال أبو داود: (سمعت أحمد سُئل عن رجل يشك في وضوئه؟ قال: إذا توضأ فهو على وضوئه حتى يستيقن الحدث، وإذا أحدث في وضوئه فهو محدث حتى يستيقن أنه توضأ)

(3)

.

الوجه الخامس: هذا الحديث سند عظيم لإغلاق باب الوسوسة الذي يدخل منه الشيطان على العبد لإفساد طهارته وصلاته وعبادته.

وقد دل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للمسلم أن يستسلم للوسواس، فإنه داء عضال، إذا اشتد بصاحبه لا ينفك عنه، فيقع في الحرج والمشقة،

(1)

أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).

(2)

"الفروق"(1/ 111).

(3)

"مسائل الإمام أحمد لأبي داود" ص (12).

ص: 306

ويواجه عناء في أداء الواجبات؛ لأن الوسواس أكثر ما ينشأ من الشك، ومتى استسلم الإنسان للوساوس وانقاد لها تعب منها، ومتى غَفَلَ عنها ولم يلتفت لها فإنها تزول بإذن الله تعالى.

الوجه السادس: دل الحديث على أن الريح ناقض للوضوء، لقوله:«حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» .

وسيذكر المصنف أحاديث في هذا الموضوع في اخر هذا الباب، وكان الأولى جمعها في موضع واحد، والله تعالى أعلم.

ص: 307

‌ما جاء في أن مس الذكر لا ينقض الوضوء

72/ 6 - عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: مَسَسْتُ ذَكَرِي. أَوْ قَالَ: الرّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصّلَاةِ، أَعَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا، إنّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» . أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، وَقَالَ ابْنُ المَدِيني: هُوَ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو علي، طلق بن علي بن طلق بن عمرو، ويقال: طلق بن علي ابن المنذر بن قيس السحيمي اليمامي مشهور، له صحبة، ووفادة، ورواية، وقد ورد في صحيح ابن حبان عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان يقول:«قدموا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له مسّاً»

(1)

، روى عنه ابنه قيس، وابنته خلدة وغيرهما

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود (182، 183) في كتاب «الطهارة» باب «الرخصة» ، والترمذي (85)، والنسائي (1/ 101)، وابن ماجه (483)، وابن حبان (1119) كلهم من طريق ملازم بن عمرو الحنفي، ثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه.

وهو حديث صحيح، قال الطحاوي فيه: (فهذا حديث ملازم، صحيح

(1)

أخرجه ابن حبان (3/ 404) وإسناده قوي.

(2)

"الإصابة"(5/ 240).

ص: 308

مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا في متنه)، ثم أسند عن ابن المديني قوله:(حديث ملازم هذا أحسن من حديث بسرة)

(1)

، وقال الترمذي:(هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب)

(2)

، وقال ابن حزم:(هذا خبر صحيح)

(3)

وصححه ابن التركماني

(4)

.

وأخرجه أحمد (26/ 214) من طريق أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه. وأيوب بن عتبة ضعيف، لكنه توبع، وله طرق أخرى. وضعفه اخرون، ومنهم الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والبيهقي، والدارقطني، وابن الجوزي

(5)

، وذلك لأن قيس بن طلق ليس بالقوي عندهم، كما يقول البيهقي

(6)

. ونقل الدارقطني عن يحيى بن معين قوله: (قد أكثر الناس في قيس، ولا يحتج به)

(7)

، وقال الذهبي:(ضعفه أحمد ويحيى في إحدى الروايتين عنه)

(8)

، وقد ثبت عن يحيى نقيض ذلك، فروى عنه عثمان بن سعيد الدارمي قال:(قلت: فعبد الله بن نعمان عن قيس بن طلق؟ قال: شيوخ يمامية ثقات)

(9)

.

أما تضعيف أحمد له فقد نقله - أيضاً - ابن الجوزي

(10)

، والذي نقله عنه الخلال أنه قال:(غيره أثبت منه)

(11)

، وليس هذا تضعيفاً!

وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»

(12)

، وقال العجلي:(قيس بن طلق يمامي، تابعي ثقة)

(13)

.

(1)

"شرح معاني الآثار"(1/ 75).

(2)

"جامع الإمام الترمذي"(1/ 132).

(3)

"المحلى"(1/ 239).

(4)

"الجوهر النقي"(1/ 137).

(5)

انظر:"علل الحديث"(1/ 48)، "الخلافيات"(2/ 282)، "سنن الدارقطني"(1/ 149)، "التحقيق"(1/ 494)، "التلخيص"(1/ 134).

(6)

"الخلافيات"(2/ 282).

(7)

"سنن الدارقطني"(1/ 150).

(8)

"الميزان"(3/ 997).

(9)

"تاريخ عثمان بن سعيد" ص (144) رقم (486).

(10)

"التحقيق"(1/ 465).

(11)

"تهذيب التهذيب"(8/ 356).

(12)

"الثقات"(5/ 313).

(13)

"تاريخ الثقات"(1396)، وانظر:"الخلافيات" وتعليق محققه (2/ 285).

ص: 309

وأما قول النووي: (إنه ضعيف باتفاق الحفاظ)

(1)

، فهو وهم منه، وكأن ابن عبد الهادي أراده بقوله:(وأخطأ من حكى الاتفاق على ضعفه)

(2)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (قال رجل: مَسِسْتُ ذكري) مَسِسَ: من باب تعب، وفي لغة: مَسَسْته مساً، من باب قتل، أفضيت إليه بيدي من غير حائل.

قوله: (لا) أي: لا وضوء من مسه.

قوله: (بضعة منك) البضعة: بفتح الباء ويجوز كسرها، القطعة من اللحم، والمراد: أنه كاليد والأذن والرجل ونحوهما.

الوجه الرابع: الحديث دليل لمن قال: إن مس الذكر لا ينقض الوضوء؛ لأنه وصفه بأنه بضعة من الإنسان، كمسّ أذنه أو يده ونحوهما، وهو قول الحنفية، وبعض المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول ابن المنذر

(3)

.

وسيأتي توضيح هذه المسألة وبيان الراجح فيها في الحديث الآتي، إن شاء الله تعالى.

(1)

"المجموع"(2/ 42).

(2)

"المحرر"(1/ 86).

(3)

"شرح فتح القدير"(1/ 56)، "حاشية الدسوقي"(1/ 121)، "المغني"(1/ 240 - 241).

ص: 310

‌ما جاء في أن مس الذكر ينقض الوضوء

73/ 7 - عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: «مَنْ مَسّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضّأْ» . أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحّحهُ التّرْمِذِيّ وَابْنُ حِبّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ: هُوَ أَصَحّ شَيْءٍ في هذَا الْبَابِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي بُسْرة - بضم الباء وإسكان السين المهملة - بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية، وهي بنت أخي ورقة بن نوفل، وأخت عقبة بن معيط لأمه، وقيل في نسبها غير ذلك، وما ذُكر صَوّبه ابن عبد البر. وقال ابن الأثير:(هو الأصح)

(1)

، روى عنها عبد الله بن عمر، ومروان بن الحكم، وابن المسيب، وغيرهم، قال الشافعي:(لها سابقة قديمة وهجرة)، وقال ابن حبان:(كانت من المهاجرات)

(2)

، وقال مصعب بن الزبير:(كانت من المبايعات)

(3)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (181) في كتاب «الطهارة» باب «الوضوء من مسّ الذكر» ، والنسائي (1/ 100)، وأحمد (45/ 265)، ومالك (1/ 42)، وابن حبان (1112) من طريق عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عروة يقول: دخلت على مروان بن الحكم، فذكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان:

(1)

"أسد الغابة"(3/ 321).

(2)

"الثقات"(3/ 37).

(3)

"الاستيعاب"(12/ 226)، "الإصابة"(12/ 158).

ص: 311

ومِنْ مَسِّ الذكر، فقال عروة: ما علمت ذلك، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان .. وذكر الحديث.

وأخرجه الترمذي (83)، وابن ماجه (479)، وابن حبان (1115) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة بنت صفوان، وفي لفظ لابن حبان:(من مس فرجه فليتوضأ)، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح)، ونقل عن البخاري أنه قال:(أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة).

وظاهر السياق عند أبي داود وغيره أن الحديث من رواية مروان بن الحكم عن بسرة، وقد طعن فيه بعضهم، بسبب ولايته وأخباره في التاريخ من قَتْلِ طلحة رضي الله عنه وشَهْرِهِ السيف وطلبه الخلافة، وقد دافع عنه ابن حجر، بأن قتله طلحة كان فيه متأولاً، وأما إشهاره السيف في طلب الخلافة فقد كان بعد هذا الحديث، لأنه قد حدث به حينما كان أميراً على المدينة

(1)

، وقد احتج به البخاري في «صحيحه» ومالك في «الموطأ» ، وأحمد في «مسنده» وهذا كافٍ في الاحتجاج به.

وقد ورد الحديث من رواية هشام بن عروة، عن عروة، عن بسرة، بدون ذكر مروان، أخرجه الترمذي (82)، والنسائي (447)، وأحمد (45/ 270) وهذه مخالفة لرواية الأكثرين، فإما أن يحكم بشذوذها، أو يقال: إن عروة سمع الحديث من مروان أولاً، ثم أراد أن يستوثق، فلقي بسرة وسمع منها، كما في رواية شعيب بن إسحاق، عند ابن حبان (1113)، والدارقطني (1/ 146) وغيرهما.

الوجه الثالث: الحديث دليل لمن قال: إن مس الذكر وكذا مس الفرج ينقض الضوء، وهو قول الشافعي، وقول لمالك في المشهور عنه، والمشهور في مذهب أحمد

(2)

، وهو معارض بحديث طلق بن علي المتقدم

(1)

انظر: "هدي الساري" ص (443)، "المحلى"(1/ 236).

(2)

"المجموع"(2/ 38)، "حاشية الدسوقي"(1/ 121)، "المغني"(1/ 240).

ص: 312

الذي يدل على أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، وقد اختلفت كلمة أهل العلم

(1)

في إزالة هذا التعارض على ثلاثة مسالك، وهي المسالك المعروفة في الأصول:

فمن أهل العلم من سلك مسلك النسخ، وأن حديث طلق بن علي منسوخ بحديث بسرة؛ لأن حديثه متقدم، وحديثها متأخر، ودليل تقدمه ما مضى في ترجمته من أنه قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبنون المسجد في أول الهجرة.

وممن قال بالنسخ: ابن حبان

(2)

والطبراني

(3)

وابن العربي

(4)

والحازمي

(5)

والبيهقي

(6)

وابن حزم

(7)

، وأيد ابن حزم القول بالنسخ بأن قوله صلى الله عليه وسلم:«هل هو إلا بضعة منك» دليل على أن ذلك كان قبل الأمر بالوضوء من مس الذكر؛ لأنه لو كان بعده لم يقل عليه الصلاة والسلام هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء.

لكن القول بالنسخ فيه ضعف لأمرين:

الأول: أن القاعدة عند الأصوليين أنه لا يعدل إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين؛ لأن النسخ إبطال لأحدهما، والجمع بينهما عمل بهما، وهو ممكن.

الثاني: أن العلماء قالوا: إن التاريخ لا يعلم بتقدم إسلام الراوي أو تقدم أَخْذِه، لجواز أن يكون الراوي المتأخر رواه عن غيره من الصحابة، ولذا قال الشوكاني:(إن هذا ليس دليلاً عند المحققين من أئمة الأصول)

(8)

.

(1)

انظر:"عارضة الأحوذي"(1/ 114) حيث قال ابن العربي: (هذا الباب عظيم القدر في الدين اختلف فيه الصحابة والتابعون والفقهاء إلى الآن .. وقد جرت فيه مناظرة بين العلماء .. ).

(2)

"صحيح ابن حبان"(3/ 405).

(3)

"المعجم الكبير"(8/ 452).

(4)

"عارضة الأحوذي"(1/ 117).

(5)

"الاعتبار" ص (43).

(6)

"الخلافيات"(2/ 288).

(7)

"المحلى"(1/ 239).

(8)

"نيل الأوطار"(1/ 235).

ص: 313

المسلك الثاني: مسلك الترجيح، والمحققون على ترجيح حديث بسرة بنت صفوان على حديث طلق بن علي، فيجب الوضوء من مس الذكر، وهذا اختيار الصنعاني

(1)

والشيخ عبد العزيز بن باز، وذلك لما يلي:

1 -

أن حديث بسرة أصح من حديث طلق بن علي، فإنه سليم الإسناد، وحديث طلق ضعفه جماعة، كما تقدم، وقد قال البخاري عن حديث بُسرة:(إنه أصح شيء في هذا الباب) وإن كان شيخه علي بن المديني قد خالفه، فرجح حديث طلق، لكن قول البخاري في هذا الموضع أولى؛ لأنه مؤيد بما سيُذكر.

وقد نقل الحافظ عن البيهقي قوله: (يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يخرجه الشيخان، ولم يحتجا بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، إلا أنهما لم يخرجاه

)

(2)

.

2 -

أن حديث بسرة له شواهد كثيرة تعضده، رواها سبعة عشر صحابياً، وحديث طلق لا شاهد له.

ومن شواهده: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ»

(3)

.

وحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مس فرجه فليتوضأ»

(4)

.

وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ»

(5)

.

(1)

"سبل السلام"(1/ 126).

(2)

"التلخيص"(1/ 134).

(3)

أخرجه أحمد (14/ 130)، وابن حبان (3/ 401) واللفظ له، وأخرجه غيرهما، وفي إسناده ضعف، ولكنه بطرقه يصل درجة الحسن.

(4)

أخرجه ابن ماجه (481)، والبيهقي (1/ 130)، ونقل عن الترمذي أنه سأل أبا زرعة عن هذا الحديث فاستحسنه، قال:(ورأيته يعده محفوظًا).

(5)

أخرجه أحمد (11/ 647 - 648)، والدارقطني (1/ 147)، والبيهقي (1/ 132) وإسناده حسن، وصححه البخاري كما في "العلل"(1/ 161) للترمذي، كما صححه الحازمي في "الاعتبار"(88) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(12/ 31).

ص: 314

وحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مس فرجه فليتوضأ»

(1)

.

3 -

ومن مرجحات حديث بسرة أنه ناقل عن البراءة الأصلية التي هي عدم الوضوء من مس الذكر، والناقل عن البراءة الأصلية مقدم؛ لأن معه زيادة علم.

4 -

أن حديث بسرة أحوط وأبرأ للذمة.

المسلك الثالث: مسلك الجمع بين الحديثين، وهو مسلك جيد؛ لأن فيه عملاً بكلا الدليلين، وهؤلاء اختلفوا على قولين:

الأول: أن مس الذكر يستحب منه الوضوء مطلقاً عملاً بحديث بسرة، ولا يجب عملاً بحديث طلق بن علي، وقد بوب ابن خزيمة في صحيحه بقوله:(باب استحباب الوضوء من مس الذكر) ثم ذكر حديث بسرة، ثم روى بسنده عن مالك أنه قال:(أرى الوضوء من مس الذكر استحباباً ولا أوجبه)، وروى بسنده - أيضاً - عن الإمام أحمد أنه سئل عن الوضوء من مس الذكر، فقال:(أستحبه ولا أوجبه)، ثم اختار القول بوجوب الوضوء كقول الشافعي

(2)

. واختار هذا القول - وهو الاستحباب - ابن المنذر، وشيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

.

الثاني: أنه إن كان المس بشهوة وجب الوضوء لحديث بسرة، وإن كان لغير شهوة لم يجب لحديث طلق، ويؤيد ذلك أنه قال في حديث طلق:«هل هو إلا بضعة منك» ، فإن هذا يقتضي أن الحكم في مس الذكر كالحكم في مس سائر الأعضاء الذي لا يقارن مسه شهوة، فإن مسه مساً يخرج به عن مس نظائره من بقية الجسد وهو ما كان بشهوة وجب عليه الوضوء

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 194) وسنده جيد.

(2)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 22).

(3)

"الأوسط "(1/ 205)، "الفتاوى"(20/ 524)(21/ 222، 241).

(4)

انظر: "الاستذكار"(3/ 34).

ص: 315

‌بيان شيء من نواقض الوضوء

74/ 8 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ، أَوْ مَذْيٌ فلينصرف فَلْيَتَوَضّأْ، ثُمّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذلِكَ لَا يَتكلّم» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

قولنا: (بيان شيء من نواقض الوضوء) هي: القيء، والرعاف، والقَلْسُ، والمذي، والظاهر أن هذا هو غرض الحافظ من إيراد هذا الحديث هنا، وقد بوّب عليه ابن ماجه في كتاب «الصلاة» باب «البناء على الصلاة» ، وذكر الحافظ في باب «شروط الصلاة» ما يتعلق بذلك، وأعاد هذا الحديث مرة أخرى هناك على ما في بعض النسخ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه (1221) في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء في البناء على الصلاة» من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مُليكة

(1)

عن عائشة رضي الله عنها به.

وهذا الحديث من أفراد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وإسناده ضعيف، ضعفه البوصيري

(2)

، وسبب ضعفه:

1 -

أنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، وابن جريج حجازي، وإسماعيل شامي، ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وقد

(1)

هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة -بالتصغير- ثقة، فقيه، من الثالثة.

(2)

"مصباح الزجاجة"(1/ 144).

ص: 316

خالفه الحفاظ في روايته، قال عنه في «التقريب»:(صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط عن غيرهم).

2 -

أن الحفاظ أصحاب ابن جريج خالفوا إسماعيل في روايته، فرووه عن عبد الملك بن جريج، عن أبيه عبد العزيز بن جريج، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ونقل ابن عدي عن الإمام أحمد: أن الصواب عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً

(1)

.

وقال أبو حاتم عن وصل الحديث: (هذا خطأ، وإنما يروونه عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً)

(2)

.

ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال في حديث ابن جريج، عن أبيه: (ليست هذه الرواية بثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وعلى هذا فالصواب أن رفع إسماعيل له شاذ، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من أصابه قيء) القيء: بالهمزة، إلقاء ما أكل أو شرب، أو هو ما قذفته المعدة عن طريق الفم.

قوله: (أو رعاف) بضم الراء المهملة، وهو خروج الدم من الأنف، وفعله رَعَفَ رَعْفاً من بابي:(قتل) و (نفع) ورَعُفَ بالضم لغة، وقيل: الرعاف الدم نفسه، وأصله: السبق والتقدم، وفرس راعف، أي: سابق، والرعاف سَبَق علم الراعف وتقدم.

قوله: (أو قَلْسٌ) بفتح القاف وسكون اللام، يقال: قَلَس قلْساً، من باب (ضرب): خرج من بطنه طعام أو شراب إلى الفم، وذلك أثناء الجشا، وسواء ألقاه أو أعاده إلى بطنه إذا كان ملء الفم أو دونه، فإن غلب فهو قيء،

(1)

"الكامل"(1/ 292)، وانظر:"سنن البيهقي"(1/ 142).

(2)

"علل الحديث"(1/ 13) رقم (57).

(3)

"سنن البيهقي"(1/ 143).

ص: 317

والقَلَس: - بفتحتين - اسم للمقلوس، وهو ما يخرج من الفم.

قوله: (أو مذي) تقدم.

قوله: (وليبن على صلاته) أي: أو ليحسب ما كان قد صلى قبل الوضوء من ركعة أو أكثر، ويصلي ما كان باقياً.

قوله: (وهو في ذلك لا يتكلم) أي: في حال انصرافه ووضوئه.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الخارج النجس من غير السبيلين كالقيء، والقَلَسِ، والرعاف أنه ناقض للوضوء، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، على تفاصيل عندهم؛ لأنه خارج نجس، وكل خارج نجس من البدن فهو ناقض عندهم

(1)

.

كما استدلوا بحديث مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ، فلقيت

(2)

ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه)

(3)

، لكن لا يتم الاستدلال بهذا الحديث إلا بأمرين:

الأول: أن تكون الفاء للسببية، وهي ليست نصاً في ذلك، بل يحتمل أن تكون للتعقيب.

الثاني: أن يكون لفظ (فتوضأ) بعد لفظ (قاء) محفوظاً، وهو محل بحث

(4)

.. ثم لو ثبت ذلك فلا دليل فيه، كما سيأتي.

والقول الثاني: أن الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء،

(1)

"شرح فتح القدير"(1/ 39)، "كشاف القناع"(1/ 124)، "الإنصاف"(2/ 197).

(2)

القائل هو معدان بن أبي طلحة، الراوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الترمذي (87)، وأحمد (45/ 492) ولفظه:(قاء فأفطر)، وفي لفظ له (45/ 525):(استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر، فأتي بماء فتوضأ)، قال الترمذي:(هذا أصح شيء في هذا الباب)، وقيل لأحمد: حديث ثوبان ثبت عندك؟ قال: (نعم)، نقله في المغني (1/ 247).

(4)

"تحفة الأحوذي"(1/ 288).

ص: 318

وأن من قاء أو رَعَفَ فإن طهارته باقية، وهو قول الشافعي، ومالك، ورواية عن الإمام أحمد

(1)

، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، وهو اختيار الشوكاني

(3)

والشيخ عبد الرحمن السعدي

(4)

والشيخ عبد العزيز بن باز.

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث جابر رضي الله عنه في قصة عَبَّاد بن بشر في غزوة ذات الرقاع عندما أصيب بسهام وهو يصلي وخرج منه دماء كثيرة واستمر في صلاته

(5)

، قالوا: ويبعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة، ولم ينقل أنه أنكر أو أخبره بأن صلاته بطلت.

2 -

وجوب البقاء على البراءة الأصلية، فلا يحكم بالنقض حتى يثبت الشرع، ولا يصار إلى أن الدم أو القيء ناقض إلا لدليل ناهض، والقياس ممتنع في هذا الباب؛ لأن علة النقض غير معقولة، وهي مختلفة.

والراجح - والله أعلم - أن الرعاف والقيء والقَلَسَ لا تنقض الوضوء، لعدم وجود أدلة واضحة تدل على ذلك، فيبقى الأصل وهو عدم النقض إلا بدليل شرعي، ولأن الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي.

وأما ما استدل به القائلون بالنقض، فحديث الباب ضعيف - كما تقدم - فلا تقوم به حجة، وأما حديث أبي الدرداء فإنه لا يدل على وجوب الوضوء من القيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً وغير طاهر، ولأن هذا

(1)

"حاشية الدسوقي"(1/ 117)، "المجموع"(2/ 8)، "الإنصاف"(1/ 197).

(2)

"الفتاوى"(21/ 222، 228).

(3)

"نيل الأوطار"(1/ 224).

(4)

"المختارات الجلية" ص (22).

(5)

أخرجه أبو داود (198)، وأحمد (23/ 51)، وابن خزيمة (36)، وابن حبان (3/ 375) من طريق ابن إسحاق، حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل، عن جابر، به. وهذا سند ضعيف؛ لأن عقيل -وهو ابن جابر- في عداد المجهولين، ما روى عنه غير صدقة بن يسار. وقد علقه البخاري في كتاب "الوضوء"[(1/ 280) فتح الباري] مختصرًا بصيغة التمريض.

ص: 319

فعل، والفعل لا يدل على الوجوب، بل يدل على مشروعية التأسي، فمن توضأ من باب الاحتياط فهو حسن، وأما الوجوب فليس عليه دليل ظاهر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا توضأ من الرعاف فهو أفضل، ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء)

(1)

.

وقال أيضاً: (استحباب الوضوء من القيء متوجه ظاهر، والفعل إنما يدل على الاستحباب)

(2)

.

وأما انتقاض الوضوء بخروج المذي فقد مضى الكلام عليه وأنه ناقض للوضوء بالإجماع.

وأما غير دم الرعاف، وهو الدم الخارج من أي موضع من البدن غير السبيلين، فسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله تعالى - عند حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي وهو في الصلاة أنه ينصرف ثم يتوضأ ويبني على صلاته، وشَرْطُ ذلك ألا يتكلم، لقوله في اخر الحديث:(وهو في ذلك لا يتكلم) ولكن الحديث ضعيف كما تقدم، والصواب أن الحدث كالمذي والريح ونحوها تفسد الصلاة، كما سيأتي في باب «شروط الصلاة» من حديث علي بن طلق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة» . أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه ابن حبان، لكنه حديث ضعيف، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(21/ 222، 228).

(2)

"الفتاوى"(20/ 526).

ص: 320

‌حكم لحم الإبل والغنم من حيث النقض وعدمه

75/ 9 - عَنْ جَابِر بن سَمُرَةَ رضي الله عنهما أَنّ رَجُلاً سَأَلَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتَوَضّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ» قَالَ: أَتَوَضّأُ مِنْ لُحُومِ الإبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الله، ويقال: أبو خالد، جابر بن سمرة بن جُنادة العامري السُّوائي - بضم السين المهملة وتخفيف الواو - نسبة إلى سُواءَ من أجداده، له ولأبيه صحبة، نزل الكوفة، ومات بها سنة ست وستين، وقيل: أربع وسبعين

(1)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «الوضوء من لحوم الإبل» (360) من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ» قال: أتوضأ من لحم الإبل؟ قال: «نعم، فتوضأ من لحوم الإبل» ، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم» ، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» .

قال ابن خزيمة: (لم نر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل، ورَوَى هذا الخبر - أيضاً - عن جعفر بن أبي ثور أشعثُ بن

(1)

"الاستيعاب"(2/ 117)، "الإصابة"(2/ 42).

ص: 321

أبي الشعثاء المحاربي، وسماكُ بن حرب، فهؤلاء الثلاثة من أجلة رواة الحديث، قد رووا عن جعفر بن أبي ثور هذا الخبر)

(1)

.

وقد أخرجه مسلم - أيضاً - من هذين الطريقين: طريق سماك بن حرب وأشعث بن أبي الشعثاء.

وكأن ابن خزيمة يقصد بذلك - والله أعلم - الرد على من أعلّ الحديث بجعفر بن أبي ثور راويه عن جابر بن سمرة وأنه مجهول، ونُسب هذا إلى علي بن المديني

(2)

، وهذا ليس بصحيح، فإن جعفراً هذا مشهور، وهو يروي عن جده جابر بن سمرة، وقد أودع مسلم حديثه في «صحيحه» .

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الوضوء من لحم الغنم لا يجب، وإنما يباح لقوله:«إن شئت» لأنه غير ناقض للوضوء، ويكون هذا الوضوء بهذا الاعتبار تجديداً للوضوء السابق، فيستدل به على جواز ذلك.

الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب الوضوء من لحم الإبل؛ لقوله: «نعم» لأنه ناقض للوضوء، وهذا مذهب الإمام أحمد، وهو من المفردات، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن المنذر وابن خزيمة واختاره البيهقي، وحكي عن جماعة من الصحابة، ورجحه ابن القيم

(3)

، ورجحه النووي، وقال:(هذا المذهب أقوى دليلاً وإن كان الجمهور على خلافه)

(4)

.

وقال الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة: لحم الإبل لا ينقض الوضوء

(5)

، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(كان اخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار) وفي لفظ: (مما مسَّت النار)

(6)

.

(1)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 21).

(2)

"تهذيب مختصر السنن"(1/ 136).

(3)

المصدر السابق.

(4)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 288).

(5)

"بدائع الصنائع"(1/ 32)، "المنتقى" للباجي (1/ 65)، "المجموع"(2/ 57).

(6)

أخرجه أبو داود (192) واللفظ له، والترمذي (80)، والنسائي (1/ 106)، وابن ماجه (489)، وأحمد (22/ 164) من طرق عن جابر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، ويشهد له ما رواه البخاري (5457) عن جابر رضي الله عنه أنه سئل عن الوضوء مما مسته النار، فقال:"لا".

ص: 322

ووجه الدلالة: أن قوله: (مما مست النار) عام فيدخل فيه لحم الإبل؛ لأنه من أفراد ما مسته النار، بدليل أنه لا يؤكل نيئاً، بل يؤكل مطبوخاً، فلما نُسخ الوضوء مما مسته النار نُسخ الوضوء من أكل لحوم الإبل أيضاً.

والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة؛ لأن حديث الباب نص في الموضوع، ويؤيد حديث الباب، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال:«توضؤوا منها» ، وسئل عن لحوم الغنم، فقال:«لا تتوضؤوا منها .. » الحديث

(1)

.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فعنه ثلاثة أجوبة:

الأول: أنه حديث مضطرب، كما قال أبو حاتم

(2)

، وله علة أخرى فقد نقل الحافظ عن الشافعي أنه قال: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، وعبد الله هذا صدوق، في حديثه لين، كما في «التقريب»

(3)

.

الثاني: على فرض صحته فلا دلالة فيه؛ لأن لحم الإبل لم يتوضأ منه لأجل مَسِّ النار، بل لمعنى يختص به ويتناوله نيئاً ومطبوخاً.

الثالث: أن ما قاله جابر نقل للفعل لا للقول، فإنهم قد شاهدوه قد أكل لحم غنم ثم صلى ولم يتوضأ

(4)

.

وحديث جابر رضي الله عنه لا معارضة بينه وبين حديث الباب وما في معناه حتى يقال بالنسخ، بل حديث جابر عام، وحديث الباب خاص، فيقدم الخاص على العام، ويخرج عن العام الصورة التي قام عليها دليل التخصيص، فلا يتوضأ مما مست النار إلا من لحم الإبل.

الوجه الخامس: لا فرق في النقض من لحوم الإبل بين أن يكون

(1)

أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494)، وهو حديث صحيح، صححه أحمد وإسحاق وجماعة.

(2)

"علل الحديث"(1/ 66).

(3)

انظر حديث (128).

(4)

"الفتاوى"(21/ 263).

ص: 323

اللحم قليلاً أو كثيراً أو نيئاً أو مطبوخاً، لصدق اسم اللحم على ذلك.

وقد اختلف العلماء هل نقض الوضوء خاص باللحم، أو شامل لجميع أجزاء الإبل من الهبر - وهو قطع اللحم

(1)

ـ أو الكرش أو الكبد أو الكلية أو الأمعاء وما أشبه ذلك، على قولين:

الأول: أنه شامل لجميع أجزاء الإبل، وهذا وجه في المذهب عند الحنابلة، واختاره ابن سعدي

(2)

، ودليل ذلك ما يلي:

1 -

أن لفظ اللحم في الشرع يشمل جميع أجزاء الحيوان، بدليل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، ولحم الخنزير شامل لكل ما حواه الجلد، بل الجلد كذلك، وكون بعض الأجزاء له اسم خاص لا يدلّ على خروجه عن حكم اللحم.

2 -

أن العموم المعنوي يؤيد ذلك، فإن الهبر وبقية الأجزاء يتغذى بدم واحد، وطعام واحد، وشراب واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل للسائل، وهو يعلم أن الناس يأكلون من هذا وهذا، فلو كان اللحم يختلف لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه.

3 -

أنه ليس في الشريعة الإسلامية حيوان تتبعض الأحكام في أجزائه، فيكون بعضها حلالاً وبعضها حراماً، وإنما الحيوان إما حرام كله كالخنزير، وإما حلال كله كبهيمة الأنعام.

القول الثاني: أنه لا ينقض إلا اللحم فقط، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقال الزركشي:(هو اختيار الأكثرين)

(3)

، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم

(4)

، واستدلوا بأن النص ورد في اللحم، وغير اللحم مما ذكر لا يتناوله النص.

(1)

قال في اللسان: الهبر: قطع اللحم، والهبرة: بَضْعة من اللحم أو نحضة لا عظم فيها.

(2)

"الإنصاف"(1/ 217)، "المختارات الجلية" ص (17).

(3)

"شرح الزركشي"(1/ 261).

(4)

"فتاوى ابن إبراهيم"(2/ 76).

ص: 324

قالوا: ولا يستدل باية {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} لأن لحم الخنزير حُرّمَ لنجاسته وخبثه، وأجزاء الخنزير كلها نجسة ليس فيها شيء طاهر، بخلاف لحم الإبل فلا شيء فيه نجس، والأحوط هو القول الأول؛ لما تقدم، والله أعلم.

الوجه السادس: اختلف في الوضوء من لحم الإبل هل هو معلل أو لا؟ فالصحيح من المذهب عند الحنابلة أنه غير معلل، بل هو تعبدي، وقيل: إنه معلل، بما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الشياطين، كما ورد في حديث أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة للحج، فقلت: يا رسول الله، ما نُرى أن تحملنا هذه، قال:«ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما امركم، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله»

(1)

.

قالوا: والأكل منها يورث حالاً شيطانية، والشيطان من نار، والماء يطفئها.

والله تعالى أعلم بأسرار شرعه، فعلينا الإيمان والعمل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

(1)

أخرجه أحمد (29/ 458) وغيره، بإسناد حسن، وفيه محمد بن إسحاق، صدوق حسن الحديث، وقد صرح بالتحديث في رواية أخرى عند أحمد.

ص: 325

‌حكم الغُسل من غَسْل الميت والوضوءِ من حمله

76/ 10 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَسّلَ مَيْتاً فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضّأْ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنّسَائِيُّ، وَالتّرْمِذِيُّ وَحَسّنَهُ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يصحّ في هذَا الْبَابِ شَيْءٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (13/ 118)، والترمذي في كتاب «الجنائز» (993)، باب «ما جاء في الغُسل من غسل الميت» وابن حبان (3/ 435) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعاً. ورجاله ثقات رجال الشيخين، إلا سهيل بن أبي صالح فمن رجال مسلم، وقال: الترمذي: «حديث حسن» .

وأخرجه أبو داود (3162) من طريقين؛ أحدهما: الطريق المذكور، لكن زاد أبو صالح بينه وبين أبي هريرة إسحاق مولى زائدة، وقد ذكر ذلك أبو داود، وكأنه يشير إلى ضعف الحديث.

وأخرجه ابن ماجه (1463) من هذا الطريق مقتصراً على جزئه الأول فقط، وقد وقع في المطبوع:(سهل بن أبي صالح) وهو خطأ.

وأما عزوه للنسائي فالظاهر أنه وهم من الحافظ، فإنه لا يوجد في مظانه من «سنن النسائي» ، ولم يعزه المزي إليه في «تحفة الأشراف»

(1)

، فالله أعلم.

(1)

"تحفة الأشراف"(9/ 294، 414)(10/ 291).

ص: 326

وقد اختلف في هذا الحديث، فمنهم من صحح وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه كالبخاري، فيما نقله عنه الترمذي

(1)

، وأبي حاتم فإنه قال عن رفعه:(هذا خطأ، إنما هو موقوف على أبي هريرة، لا يرفعه الثقات)

(2)

، وكذا البيهقي فإنه رجح وقفه

(3)

.

ومنهم من صحح رفعه، كالترمذي، وابن حبان - كما تقدم - والذهبي

(4)

، وصححه ابن حجر

(5)

، وهو ظاهر صنيعه في البلوغ، فإنه لم يُعِلّهُ بالوقف، ونقل الترمذي عن الإمام البخاري أنه قال:(إن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني قالا: لا يصح من هذا الباب شيء)

(6)

، ونقله عنه البيهقي

(7)

، وكذا قال محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري:(لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً)

(8)

.

وقد ذكر البيهقي معظم طرق هذا الحديث، وساق ابن القيم في «تهذيب مختصر السنن»

(9)

أحد عشر طريقاً، ثم قال:(وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ).

وما قاله ابن القيم من أن الحديث محفوظ، قد سبقه إليه الذهبي حيث ذكر أن طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ولم يعلُّوها بالوقف، بل قدموا رواية الرفع

(10)

، لكن قول الأئمة الكبار - كما تقدم - مقدم على قول من هو دونهم.

وقد أنكر النووي على الترمذي تحسينه لهذا الحديث

(11)

، فذكر الحافظ أن هذا معترض؛ لأن الحديث بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً

(12)

.

(1)

"العلل الكبير"(1/ 402).

(2)

"علل الحديث"(1/ 351).

(3)

"السنن الكبرى"(1/ 303).

(4)

"المهذب في اختصار السنن الكبير"(1/ 301).

(5)

"التلخيص"(1/ 145).

(6)

"العلل الكبير"(1/ 402)، "الأوسط"(1/ 181).

(7)

"السنن الكبرى"(1/ 302).

(8)

"التلخيص"(1/ 145).

(9)

"تهذيب مختصر السنن"(3/ 306).

(10)

"المهذب" للذهبي (1/ 301).

(11)

"المجموع"(5/ 185).

(12)

"التلخيص"(1/ 145).

ص: 327

الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الغسل على من غَسّلَ ميتاً، وعموم لفظ الحديث يفيد عموم الأموات من كبير وصغير وذكر وأنثى، وقال بهذا بعض أهل العلم، وقد حكاه ابن القيم عن علي وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: يروى عن ابن المسيب وابن سيرين والزهري

(1)

.

وذهب أكثر أهل العلم، ومنهم مالك وأحمد والشافعي إلى أن الغسل من غسل الميت مستحب وليس بواجب

(2)

، وذلك لأن الحديث لا ينهض على الإيجاب، لما تقدم من كلام العلماء فيه، وقد ذكر العلامة ابن مفلح الحنبلي قاعدة جيدة ومفادها: أن الحديث إذا كان فيه ضعف، وكان دالاًّ على الوجوب بصيغته، أو دالاًّ على التحريم، فإنه يحمل على الاستحباب في الأمر، وعلى الكراهة في النهي احتياطاً، ولا يُلزَم المسلمون بحكمه وجوباً أو تحريماً

(3)

.

ويؤيد استحباب الغسل وعدم وجوبه ما رواه الدارقطني والخطيب من طريق عبد الله بن الإمام أحمد، قال: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل)؟ قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شاب يقال له: محمد بن عبد الله المخرمي يحدث به عن أبي هشام المخزومي عن وهيب، فاكتب عنه)

(4)

، قال الحافظ:(هذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث، والله أعلم)

(5)

.

وقال الشوكاني: (وهذا لا يقصر عن صرف الأمر عن معناه الحقيقي

(1)

"المغني"(1/ 278)، "تهذيب مختصر السنن"(3/ 306).

(2)

"الاستذكار"(2/ 137 - 138)، "روضة الطالبين"(1/ 85)، "المغني"(1/ 278).

(3)

"النكت على المحرر"(1/ 110).

(4)

أخرجه الدارقطني (2/ 72)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 424) ومحمد بن عبد الله المخرمي ترجمه الحافظ في "تهذيب التهذيب"(9/ 242) وهو ثقة، سئل عنه أبو حاتم فقال:(ثقة ثقة)، وقال الدارقطني:(ثقة جليل متقن).

(5)

"التلخيص"(1/ 149).

ص: 328

الذي هو الوجوب إلى معناه المجازي - أعني الاستحباب ـ، فيكون القول بذلك هو الحق، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن .. )

(1)

.

ولا يجب الوضوء من غسل الميت في أظهر قولي العلماء؛ لأن الوجوب يحتاج إلى دليل.

وقد اختلف العلماء في الحكمة من الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً:

1 -

فقيل: لأن تغسيله قد يورث للغاسل انكساراً وضعفاً وانحلالاً في القوة بسبب مشاهدة الميت وتذكر ما وراء الموت، فيسن الغسل لذلك، كما يُشرع الغسل من الجماع لوجود الضعف، وكذا الحيض والنفاس.

2 -

وقيل: لأن الغاسل لا يأمن أن يقع على بدنه شيء من رشاش الماء الذي غُسل به الميت، وقد يكون على بدن الميت نجاسة، فإذا أصاب شيئاً من بدنه وهو لا يعلم مكانه سن له غسل جميع بدنه، قاله الخطابي

(2)

.

الوجه الثالث: يدل الحديث بظاهره على وجوب الوضوء من حمل الميت، لكن الحديث فيه ما تقدم، فلا ينهض على وجوب الوضوء، ولم يرد في الباب شيء، كما ورد في الغُسل من غسل الميت.

قال الخطابي: (لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت، ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب، وقد يحتمل أن يكون المعنى فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نضح من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة، فإذا أصابه نضحه - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه التنجيس من بدنه.

وقد قيل: معنى قوله: (فليتوضأ)، أي: فليكن على وضوء، ليتهيأ له الصلاة على الميت، والله أعلم)

(3)

.

(1)

"نيل الأوطار"(1/ 280).

(2)

"معالم السنن"(4/ 305).

(3)

المصدر السابق.

ص: 329

لكن قوله: (لا أعلم أحداً قال بوجوب الغسل من غسل الميت) فيه نظر، فقد تقدم من قال بوجوبه.

وقال الصنعاني: (لا أعلم قائلاً يقول: بأنه يجب الوضوء من حمل الميت ولا يندب .. ثم قال: قلت: ولكنه مع نهوض الحديث لا عذر عن العمل به، ويفسر الوضوء بغسل اليدين .. )

(1)

إلخ كلامه.

وهذا فيه نظر، فإن تفسير الوضوء في كلام الشارع بغسل اليدين لا يستقيم؛ لأن الواجب حمل ألفاظ الشرع على الحقيقة الشرعية، لا على الحقيقة اللغوية.

وأيد الشيخ عبد العزيز بن باز القول بأنه لا يستحب الوضوء من حمل الميت؛ لأن ذلك يحتاج إلى دليل، فإن توضأ فهو من باب تجديد الوضوء، والله أعلم.

(1)

"سبل السلام"(1/ 353).

ص: 330

‌اشتراط الطهارة لمسِّ القرآن

77/ 11 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رحمه الله أَنّ في الْكِتَابِ الّذِي كَتَبهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: (أَلاَّ يَمَسَّ الْقُرْانَ إلاّ طَاهِرٌ). رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسلاً، وَوَصَلَهُ النّسَائِيّ، وَابْنُ حِبّانَ، وَهُوَ مَعْلولٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي، تابعي، ثقة عابد، روى له الجماعة، روى عن أبيه أبي بكر بن محمد وغيره، وروى عنه الزهري ومالك وهشام بن عروة وغيرهم، مات في سنة (135) وقيل:(130 هـ)، وقد وهم المغربي صاحب «البدر التمام شرح بلوغ المرام»

(1)

فترجم لعبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتبعه على هذا الصنعاني

(2)

وهذا وهم فاحش، فإن عبد الله بن أبي بكر الصديق ليس من رواة هذا الحديث؛ لأنه صحابي، مات في خلافة أبيه، كما في «الإصابة»

(3)

، فالصواب الأول، لأنه جاء في «الموطأ»: (حدثني يحيى، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن في الكتاب

) إلخ

(4)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 199) مرسلاً

(5)

كما تقدم .. مقتصراً

(1)

"البدر التمام"(1/ 48).

(2)

"سبل السلام"(1/ 131).

(3)

"الإصابة"(6/ 26).

(4)

"الموطأ"(1/ 199).

(5)

المرسل: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية مالك هنا مرسلة؛ لأن راوي الكتاب هو عبد الله بن أبي بكر، وهو تابعي، كما تقدم في ترجمته.

ص: 331

على هذه الجملة المذكورة، وأخرجه النسائي (8/ 57) مختصراً موصولاً

(1)

من طريق الحكم بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده .. لكن بدون هذه الجملة المذكورة هنا، وأخرجه ابن حبان (14/ 501) أيضاً مطولاً، وفيه هذه الجملة.

وهذا الإسناد ظاهره السلامة من العلة، فرجاله جميعاً ثقات، فمن أخذه على ظاهره صحح الحديث

(2)

كابن حبان

(3)

والحاكم، وابن عدي، وقوي عندهم بالمرسل الذي رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر، وكذا ما رواه معمر عن عبد الله بن أبي بكر أيضاً، وللحديث طريق ثالث عن الحكم بن موسى، نا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، وهو ضعيف.

ولكن الحديث معلول، كما ذكر الحافظ، فقد ذكر بعض أهل العلم أن في الحديث علة خفية قادحة، وهي أن الحكم بن موسى أخطأ في هذا الحديث، وقال: سليمان بن داود، والصواب سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وقد حكى ذلك غير واحد من الأئمة، وسليمان بن داود هذا هو الخولاني، وثقه ابن حبان، وقال في صحيحه:(ثقة مأمون) ومن أجل ذلك أدخل حديثه في الصحيح، ونقل البيهقي أنه أثنى على سليمان بن داود الخولاني أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والدارمي، وجماعة من الحفاظ، ورأوا هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول الإسناد حسناً

(4)

.

لكن هذا مبني على أن الحكم بن موسى قد أتقن الحديث، وإلا فلا يصح إلا مرسلاً، كما تقدم.

قال صالح جَزَرة: حدثنا دحيم، قال: نظرت في أصل كتاب يحيى

(1)

الموصول: ما اتصل إسناده مرفوعًا كان، أو موقوفًا على من كان، والمراد بذلك ما سمعه كل راوٍ من شيخه في سياق الإسناد من أوله إلى منتهاه.

(2)

"تهذيب التهذيب"(4/ 166).

(3)

انظر: "المجروحين"(1/ 421).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 90).

ص: 332

حديثَ عمرو بن حزم في الصدقات، فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح: فكتبت هذا الكلام عن مسلم بن الحجاج.

وقال أبو داود: (هذا وهم من الحكم، ورواه محمد بن بكار، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري)

(1)

.

وقال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بصدقات الغنم، قلت له: مَنْ سليمان هذا؟ قال أبي: من الناس من يقول: سليمان بن أرقم، قال أبي: وقد كان قَدِمَ يحيى بن حمزة العراق، فيرون أن الأرقم لقب، وأن الاسم: داود، ومنهم من يقول: سليمان بن داود الدمشقي شيخ ليحيى بن حمزة، لا بأس به، فلا أدري أيهما هو، وما أظن أنه هذا الدمشقي، ويقال: إنهم أصابوا هذا الحديث بالعراق من حديث سليمان بن أرقم)

(2)

.

وقال أبو زرعة الدمشقي: (الصواب: سليمان بن أرقم).

وقال الحافظ ابن منده: (رأيت في كتاب يحيى بن حمزة بخطه: عن سليمان بن أرقم عن الزهري، وهو الصواب)

(3)

.

ولما ذكر النسائي الحديث من طريق سليمان بن داود أتبعه بذكر الحديث من طريق سليمان بن أرقم، ثم قال:(وهذا أشبه بالصواب، والله أعلم، وسليمان بن أرقم متروك الحديث)

(4)

.

وقد أثنى العلماء على كتاب عمرو بن حزم. فقد قال ابن معين: (حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً، فقال له رجل: هذا مسند؟ قال: لا، ولكنه صالح)

(5)

.

وقال ابن عبد البر: (وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 166).

(2)

"العلل"(1/ 222).

(3)

"الميزان"(2/ 201).

(4)

"سنن النسائي"(8/ 59).

(5)

"تاريخ يحيى بن معين"(1/ 113).

ص: 333

عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة)

(1)

.

وقال أيضاً: (كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه فمتفق عليه إلا قليلاً)

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الكتاب ذِكْرُ هذا فيه - أي أن العمرة هي الحج الأصغر - مشهور مستفيض عند أهل العلم، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم)

(3)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعمرو بن حزم) هو عمرو بن حزم بن زيد الخزرجي الأنصاري، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على أهل نجران، ليفقههم في الدين، ويعلمهم القران، ويأخذ صدقاتهم، وذلك سنة عشر، وكتب له كتاباً في السنن والصدقات والفرائض والديات، وهو كتاب طويل، أخرجه بطوله الحاكم

(4)

والبيهقي

(5)

وغيرهما، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المُقلِّين

(6)

.

قوله: (ألاَّ يمس) تقدم أن المس معناه: الإفضاء إلى الشيء باليد من غير حائل.

قوله: (القران) المراد به نفس الحروف المكتوبة دون البياض الذي في الجوانب، ويراد به المصحف، فيشمل الحروف والحواشي، سمي بذلك لكتابته في الصحف، وإنما ذُكر المعنى الأول؛ لأنه وقت هذا الحديث لم يكن مصحفاً.

قوله: (إلا طاهر) هذا اللفظ من المشترك في اللغة العربية، له عدة معان:

(1)

"التمهيد"(17/ 338).

(2)

"التمهيد"(17/ 339).

(3)

"شرح العمدة"، كتاب "المناسك"(1/ 101).

(4)

"المستدرك"(1/ 397).

(5)

"السنن الكبرى"(4/ 89 - 90).

(6)

"الاستيعاب"(8/ 299)، "الإصابة"(7/ 99).

ص: 334

1 -

الطهارة المعنوية، وهي الطهارة من الشرك؛ أي: لا يمس القران إلا مؤمن، أما الكافر فليس بطاهر، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

2 -

الطهارة الحسية وهي الطهارة من الخبث والنجاسة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة:(إنها ليست بنجس) أي: بل هي طاهرة.

3 -

الطهارة من الحدث الأصغر أو الأكبر، وهي الوضوء أو الغسل ومنه قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاة بغير طهور»

(1)

.

والاشتراك خلاف الأصل؛ لأن الأصل استعمال اللفظ في الدلالة على معنى واحد، لا إبهام فيه ولا غموض، لكن إذا وجد الاشتراك فإن المجتهد يبحث عن قرينة تصرف اللفظ عن معانيه المشتركة إلى معنى واحد منها، وقد تكون القرينة لفظية مثل: فجرنا عيون الأرض، وقد تكون مستمدة من عمومات الشريعة، ومراعاة حكمة التشريع، ومقاصد الشرع.

والأظهر - والله أعلم - أنه لا مانع من حمل هذا اللفظ على المتوضئ، لما يلي:

1 -

لأنه كثر في لسان الشرع إطلاق هذا اللفظ على المتوضئ.

2 -

ولأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا ذلك وأفتوا بأنه لا يُمَسُّ القران إلا على طهارة.

3 -

ولأنه لم يعهد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر لأن وصفه بالإيمان أبلغ.

4 -

أنه ورد في بعض الروايات: «لا يمس القران إلا على طهر»

(2)

. وفي حديث حكيم بن حزام: «لا تمس القران إلا وأنت طاهر» . وفي إسناده ضعف، لكن يفيد ترجيح المعنى المذكور.

قوله: (وهو معلول) الحديث المعلول: ما فيه علة خفية قادحة في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها، كالإرسال الخفي.

(1)

تقدم تخريجه في أول باب "الوضوء".

(2)

أخرجه عبد الرزاق (1/ 342).

ص: 335

وقد انتقد بعض العلماء كابن الصلاح هذا التعبير، وقال:(إنه مرذول عند أهل النحو واللغة، وأن الصواب أن يقال: المُعَلّ).

والصواب جوازه، وأنه من عَلّ الثلاثي، قال الجوهري وغيره:(عُلَّ الشيء فهو معلول)

(1)

، وقد ذكر السخاوي أنه وقع هذا اللفظ في كلام البخاري والترمذي وخلق من أئمة الحديث قديماً وحديثاً، وكذا الأصوليين في باب «القياس» حيث قالوا: العلة والمعلول، وقد استعمله الزجاج اللغوي، وذكر ابن القوطية في كتابه «الأفعال» أنه ثلاثي، قال:(عُلّ علة: مَرِضَ، وعُلّ الشيء: أصابته العلة)

(2)

، وإذا كان ثلاثياً فاسم المفعول منه معلول، وعليه فلا مانع منه، لوقوعه في عبارات أهل هذا الفن، مع ثبوته لغة، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ.

الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم مس المصحف إلا على طهارة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومنهم الأئمة الأربعة، قال في «المغني»:(ولا نعلم لهم مخالفاً إلا داود)

(3)

، لقوله:(ألاَّ يمس القران إلا طاهر)، ولأحاديث أخرى جاءت في الباب يشد بعضها بعضاً.

ومن ذلك ما رواه سليمان بن موسى قال: سمعت سالماً يحدث عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القران إلا طاهر»

(4)

.

وكذلك ما رواه عبد الله بن يزيد قال: كنا مع سلمان فخرج يقضي

(1)

"الصحاح"(5/ 1774).

(2)

"الأفعال" ص (187).

(3)

"المغني"(1/ 202)، وانظر:"المحلى"(1/ 81).

(4)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 313)، و"الصغير"(2/ 139)، والبيهقي (1/ 88)، من طريق سعيد بن محمد بن ثواب، نا أبو عاصم، أنبأنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 140):(وإسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به)، وقد أعل الحديث بما لا يوهنه.

ص: 336

حاجته ثم جاء، فقلت: يا أبا عبد الله لو توضأت، لعلنا نسألك عن ايات، قال: إني لست أمسه، إنما «لا يمسه إلا المطهرون» فقرأ علينا ما شئنا

(1)

.

وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال:(كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت، فقال سعد: لعلك مَسِسْتَ ذكرك؟ قال: قلت: نعم، فقال: قم فتوضأ، فقمت، فتوضأت، ثم رجعت)

(2)

.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن تحريم مس المصحف للمحدث ثابت عن الصحابة، وقال:(إنه قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف)

(3)

.

ومن أدلة تحريم مس المصحف على المحدث قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77 - 80]، قالوا: لأن في الآية قرينة دالة على ذلك وهي: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والمنزل هو القران، ومعنى {مَكْنُونٌ}: محفوظ عن التبديل والتغيير، وممن ذكر هذا الدليل ابن قدامة

(4)

والنووي

(5)

وابن القيم

(6)

.

والظاهر أن الاستدلال بالآية على ذلك لا يتم؛ لأن المراد بالكتاب في هذه الآية - والله أعلم - الكتاب الذي بأيدي الملائكة، قال الشوكاني بعد أن ذكر الاستدلال بالآية: (وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القران،

(1)

أخرجه الدارقطني (1/ 124)، والبيهقي (1/ 88)، والحاكم (2/ 477) وقال:(صحيح على شرط الشيخين)، وصححه الدارقطني، وجوده الزيلعي في "نصب الراية"(1/ 199) ونقل تصحيح الدارقطني له، كما نقله ابن حجر في "الدراية"(1/ 88).

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 42)، ومن طريقه البيهقي (1/ 88، 131)، وابن أبي داود في "المصاحف"(211) واسناده صحيح، وله طرق كثيرة ذكرها ابن أبي داود في "المصاحف"، وعبد الرزاق في "المصنف"(1/ 114)، وابن أبي شيبة (1/ 189).

(3)

"الفتاوى"(21/ 266، 270، 288).

(4)

"المغني"(1/ 202).

(5)

"المجموع"(2/ 72).

(6)

"إعلام الموقعين"(1/ 225).

ص: 337

والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه الأقرب، والمطهرون: الملائكة)

(1)

.

وقال أبو بكر الجصاص بعد ذكر المسألة: (إنْ حُمِلَ اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد: القران الذي عند الله، والمطهرون: الملائكة، وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر كان عموماً فينا، وهذا أولى، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم «ولا يمس القران إلا طاهر»، فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية إذ فيها احتمال له)

(2)

.

وقد رجح العلامة ابن القيم أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وذلك من عشرة أوجه، ومنها: أن الله قال: {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} ولم يقل: إلا المتطهرون، ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال: إلا المتطهرون، كما قال:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وفي الحديث «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» ، فالمتطهر: فاعل التطهير، والمُطَهّر: الذي طهره غيره، فالمتوضئ: متطهر، والملائكة: مطهرون

(3)

.

وقال الإمام مالك: (أحسن ما سمعت في هذه الآية: إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} ، قول الله تبارك وتعالى:{كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ}

(4)

[عبس: 11 - 16].

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث من باب التنبيه والإشارة، وهو أنه إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القران لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر، ذكر ذلك ابن القيم

(5)

ونقل هذا المعنى ابن سعدي، وضمنه تفسير الآية

(6)

.

(1)

"نيل الأوطار"(1/ 244).

(2)

"أحكام القرآن"(5/ 300).

(3)

"التبيان" ص (165).

(4)

"الموطأ"(1/ 199).

(5)

"التبيان " ص (168).

(6)

"تفسير ابن سعدي" ص (836).

ص: 338

الوجه الخامس: الصحيح من قولي أهل العلم أنه يحرم مس المصحف سواء مس نفس الكتابة أم الجوانب أم الجلد، قال النووي:(هذا هو المذهب المختار)

(1)

، وذلك لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، والله تعالى أعلم.

(1)

"التبيان في آداب حملة القرآن" ص (124)، وانظر:"المجموع"(2/ 67).

ص: 339

‌الذِّكر لا يشترط له الوضوء

78/ 12 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلّ أَحْيَانِهِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَعَلّقَهُ الْبُخَارِيّ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب «الحيض» باب «ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها» (373) من طريق خالد بن سلمة، عن البهي، وهو عبد الله بن بشار، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، هكذا موصولاً.

وعلقه البخاري في موضعين في كتاب «الحيض» باب «تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف» (1/ 407 فتح)، وفي كتاب «الأذان» باب «هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا» (2/ 114 فتح)، وستتضح مناسبة إيراده في هذين البابين إن شاء الله تعالى.

والمعلَّق: ما حذف من إسناده راوٍ واحدٌ ولو إلى اخر الإسناد، قاله الحافظ

(1)

.

وللتعليق أسباب تراجع في مظانها

(2)

، وتعليقات البخاري كثيرة، بخلاف ما في صحيح مسلم فهي قليلة جداً، كما قاله ابن الصلاح

(3)

، وحكم التعليقات أن ما كان منها بصيغة الجزم مثل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، قال فلان، أو روى فلان أو ذكر فلان، فإنه يحتج بها، كما قرره أهل العلم؛ لأنه

(1)

"هدي الساري" ص (17).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"علوم الحديث" ص (24).

ص: 340

قد حكم بصحته عمن علقه عنه، وهو لا يستجيز إطلاق ذلك إلا إذا صح عنده ذلك عنه، أما ما لم يكن بصيغة الجزم مثل: رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو رُوي عن فلان كذا فهذا لا يحكم بصحته، لكن إيراده له في صحيحه مشعر بصحة أصله، فيستأنس به ويركن إليه.

وهذا الحديث من المعلقات التي لم توجد موصولة في موضع اخر عند البخاري، وقد ذكر الحافظ في المقدمة

(1)

: أنه علق هذا الحديث لكونه لا يلتحق بشرطه، مع أنه صحيح على شرط غيره، وذلك من أسباب التعليق عند البخاري.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله) صيغة المضارع بعد لفظة (كان) تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل، ما لم يوجد قرينة، وقد تقدم ذلك.

قوله: (يذكر الله) المراد بذكر الله: كل ما يذكّر بالله تعالى، من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار وتلاوة القران، فالذكر أعم من أن يكون بالقران أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف.

قوله: (على كل أحيانه)(على) للظرفية بمعنى (في)

(2)

أي: في كل أوقاته، كقوله تعالى:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15]، وقوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] على أحد القولين، والأحيان: جمع (حين) وهو الزمان قلّ أو كثر، وهذا من العام الذي أريد به الخاص أي: معظم أحيانه، كما سيأتي.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى لا تشترط له الطهارة، بل يجوز ذكر الله تعالى على كل حال من الأحوال؛ لأن عموم

(1)

"هدي الساري" ص (17).

(2)

بناءً على القول بأن الحروف يقوم بعضها مقام بعض، وهي مسألة خلافية، محلها كتب النحو، باب "حروف الجر".

ص: 341

الأحيان يستلزم عموم الأحوال، سواء أكان طاهراً أم محدثاً أم جنباً، وذلك بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القران ونحو ذلك من الأذكار.

وهذا غرض المصنف من إيراد الحديث في هذا الباب، وهو بيان أن نواقض الوضوء غير مانعة من ذكر الله تعالى، فإن الحدث الأصغر من جملة الأحيان المذكورة.

وقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام الليل قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة ال عمران قبل أن يتوضأ

(1)

، وبوّب عليه البخاري بقوله:(باب قراءة القران بعد الحدث وغيره)

(2)

.

الوجه الرابع: ليس هذا الحديث على عمومه، بل خصص منه ما يلي:

1 -

تلاوة القران حال الجنابة، لحديث علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القران ما لم يكن جنباً، وسيأتي إن شاء الله، قال الحافظ ابن رجب:(فيه دليل على أن الذكر لا يمنع منه حدث ولا جنابة، وليس فيه دليل على جواز قراءة القران للجنب؛ لأن ذكر الله تعالى إذا أطلق لا يراد به القران)

(3)

وسيأتي الكلام على هذه المسألة في باب «الغسل» إن شاء الله.

2 -

الذكر حال البول والغائط والجماع، فإنها من جملة الأحيان المذكورة مع أنه يكره الذكر باللسان في هذه الأحوال، كما نص عليه النووي وغيره

(4)

، وعلى هذا فيكون المراد بكل أحيانه: معظمها، كحال الطهارة والحدث والقيام والقعود، ونحو ذلك.

وهذا إن حمل الذكر في الحديث على الذكر باللسان، فإن حمل على الذكر بالقلب بقي العموم على حاله، فلا يستثنى منه شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان دائم التفكر لا يفتر عن الذكر القلبي لا في يقظة ولا نوم.

(1)

تقدم تخريجه في آخر الكلام على حديث (67).

(2)

انظر: "فتح الباري"(1/ 286).

(3)

"شرح البخاري"(2/ 45).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(4/ 308).

ص: 342

الوجه الخامس: ورد عن المهاجر بن منقذ رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه، فلم يردّ عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال:«إني كرهت أن أذكر الله - تعالى ذكره - إلا على طُهْرٍ» ، أو قال:«على طهارة» )

(1)

.

فهذا الحديث دل على كراهة ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة، وعلى أنه ينبغي لمن سُلّم عليه في حال قضاء الحاجة ألاَّ يرد السلام، بل ينتظر حتى يقضي حاجته، ثم إذا أراد الرد فالأفضل أن يؤخره حتى يتطهر.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً مَرَّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلم فلم يرد عليه

(2)

.

وعن أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جَمَل فلقيه رجل، فسلم عليه، فلم يردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه، ثم رد عليه السلام

(3)

.

وهذه الأحاديث تدل على أن ذكر الله تعالى على طهارة أفضل، وعموم حديث الباب يدل على جواز ذلك بلا طهارة. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (17)، والنسائي (1/ 36)، وابن ماجه (350) وهو حديث صحيح، له طرق وشواهد، ذكرها الحافظ في "نتائج الأفكار"(1/ 205).

(2)

أخرجه مسلم (370).

(3)

أخرجه البخاري (337)، ومسلم (369).

ص: 343

‌خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء

79/ 13 - عَنْ أَنَس بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَصَلّى، وَلمْ يَتَوَضَّأْ. أَخْرَجهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَيَّنَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (1/ 151)، ومن طريقه البيهقي في «السنن» (1/ 141)، وفي «الخلافيات» (2/ 318) من طريق صالح بن مقاتل، ثنا أبي، ثنا سليمان بن داود أبو أيوب، عن حميد، عن أنس به.

وذكر الحافظ أن الدارقطني لَيّنَهُ، أي: ليّن إسناده، للكلام في بعض رواته، والليّن: بفتح اللام وكسر الياء المشددة، هو: الراوي المجروح في حفظه جرحاً لا يخرجه عن دائرة الاعتبار بحديثه، ولا يتعدى إلى عدالته، قال الدارقطني:(إذا قلت: لين، لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط به العدالة)

(1)

، وتقدم ذلك.

والظاهر أن الحافظ عَنَى بذلك قول الدارقطني: (صالح بن مقاتل ليس بالقوي)، وهذه العبارة نقلها ابن عبد الهادي والزيلعي كما سيأتي، وهي لا توجد في «سنن الدارقطني» المطبوعة، بل لم يرد له أيُّ كلام على هذا الحديث بعد إيراده، وقد وجدت في كتاب «تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني» للحافظ الغساني المتوفى سنة (682 هـ) وهو ينقل في كتابه كلام الدارقطني، قوله:(سليمان بن داود ليس بالقوي)، وكذا في كتاب المقدسي (من تكلم فيه الدارقطني

(1)

نقله "في الرفع والتكميل" ص (183).

ص: 344

في كتاب «السنن»

) وهذا يدل على أن كتاب السنن فيه سقط، أو أن هذا من اختلاف النسخ واختلاف رواتها، أو أنه في غير السنن، فالله تعالى أعلم.

وهذا حديث ضعيف جداً، قال ابن عبد الهادي:(حديث أنس لا يثبت، وسليمان بن داود مجهول، وصالح بن مقاتل ليس بالقوي، قاله الدارقطني، وأبوه غير معروف)

(1)

.

وقال الزيلعي: (قال الدارقطني عن صالح بن مقاتل: ليس بالقوي، وأبوه غير معروف، وسليمان بن داود مجهول)

(2)

، وليس في «سنن الدارقطني» المطبوع شيء من هذا، كما تقدم.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (احتجم) أي: أخرج الدم بالمحجم: بكسر الميم، وهي الآلة التي يُحجم بها، أي: يُمصُّ الدم بها، والآلة التي يجمع فيها دم الحجامة.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحجامة لا تنقض الوضوء، بل تجوز الصلاة بعدها، والحديث وإن كان فيه ضعف لكنه يعتضد بالأصل، وهو سلامة الطهارة، ولا يُرفع الأصل إلا بدليل شرعي يدل على ناقض متيقن، ويلحق بذلك كل دم خارج من الجسم من غير السبيلين، كالرُّعاف ودم السن والجرح، وما أشبه ذلك سواء أكان قليلاً أم كثيراً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد تنازع العلماء في خروج النجاسة من غير السبيلين، كالجرح والفِصَاد والحجامة والرعاف والقيء فمذهب مالك والشافعي: لا ينقض الوضوء، ومذهب أبي حنيفة وأحمد: ينقض، لكن أحمد يقول: إذا كان كثيراً .. ثم قال: والأظهر في جميع هذه الأنواع: أنها لا تنقض الوضوء، ولكن يستحب الوضوء منها، فمن صلى ولم يتوضأ منها صحت صلاته، ومن توضأ منها فهو أفضل .. )

(3)

.

وأما نجاسة الدم فقد تقدم الكلام عليها في باب «إزالة النجاسة» عند الحديث «الثلاثين» ، والله تعالى أعلم.

(1)

"تنقيح التحقيق"(1/ 478).

(2)

"نصب الراية"(1/ 43).

(3)

"مجموع الفتاوى"(21/ 222).

ص: 345

‌ما جاء في أن النوم مظنة نقض الوضوء

80/ 14 - عَنْ مُعَاويةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنُ وِكاءُ السّهِ، فَإذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطّبَرَانِيّ وَزَادَ:«وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضّأْ» ، وَهذِهِ الزّيَادَةُ في هذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَليّ دُونَ قَوْلِهِ:«اسْتَطلَقَ الْوِكاءُ» ، وَفِي كِلَا الإسْنَادَيْنِ ضَعْفٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، ولد معاوية رضي الله عنه قبل البعثة بخمس سنين على الأشهر، وكان هو وأبوه من مسلمة الفتح، ثم من المؤلفة قلوبهم، وقيل: إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، قيل: إنه ممن كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال الذهبي: إنما كتب كتباً للنبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين العرب، وقد ورد في حديث ابن أبي مليكة أن ابن عباس قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، فقال:(إنه فقيه)

(1)

، والمعنى: أنه ما فعل ذلك إلا بمستند.

تولى الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر رضي الله عنه، ولم يزل بها إلى أن مات، وذلك أربعون سنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم يكن من ملوك المسلمين مَلِكٌ خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان مَلِكٍ من الملوك خيراً منهم في زمان معاوية، إذا نُسبت أيامه إلى أيام من بعده، وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر

(1)

أخرجه البخاري (7/ 103 فتح).

ص: 346

وعمر ظهر التفاضل)

(1)

، مات في رجب سنة ستين في دمشق، رضي الله عنه

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (28/ 92)، والطبراني في «الكبير» (19/ 372) رقم (875) بالزيادة المذكورة، كلاهما من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس الكلابي، عن معاوية رضي الله عنه، به.

وهذا إسناد ضعيف، لضعف أبي بكر بن أبي مريم، واسمه بكير، وقيل: عبد السلام، قال في «التقريب»:(ضعيف، وكان قد سُرِقَ بيته، فاختلط).

وهذه الزيادة: (فمن نام فليتوضأ) وردت في حديث علي رضي الله عنه عند أبي داود (203) في كتاب «الطهارة» باب «الوضوء من النوم» ، وأحمد (2/ 227) من طريق بقية بن الوليد، عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكاءُ السّهِ العينان، فمن نام فليتوضأ» .

وهذا إسناد ضعيف كما قال الحافظ، بقية بن الوليد مدلس، يدلس تدليس التسوية وهو أشد أنواعه، فيشترط من مثله التصريح بالسماع في جميع طبقات السند، والوضين بن عطاء مختلف فيه، قال عنه في «التقريب»:(صدوق سيئ الحفظ)، وعبد الرحمن بن عائذ حديثه عن عليٍّ مرسل.

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين، فقال:(ليسا بقويين)

(3)

، ونقل ابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد قوله:(حديث علي أثبت من حديث معاوية في هذا الباب)

(4)

، فهذا الحديث أُعِلّ بثلاث علل، كما تقدم.

أما تدليس بقية فقد صرح بالتحديث عند أحمد وغيره، لكن تدليسه تدليس تسوية، فلا بد أن يصرح من فوقه بالتحديث أيضاً.

(1)

"منهاج السنة"(6/ 232).

(2)

انظر في ترجمته: "الاستيعاب"(10/ 134)، "الإصابة"(9/ 231).

(3)

"العلل"(1/ 47).

(4)

"تنقيح التحقيق"(1/ 434).

ص: 347

أما الوضين فقال عنه أحمد: (ما كان به بأس)، بل ورد عنه توثيقه، وكذا وثقه ابن معين في رواية، وقال عنه في رواية أخرى:(لا بأس به)، وقال أبو داود السجستاني عنه في «سؤالات أبي عبيد الآجري»:(صالح الحديث)

(1)

، ووثقه ابن شاهين

(2)

وقال أبو حاتم

(3)

: «تعرف وتنكر»

(4)

، ورجل هذه حاله لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن.

وأما الانقطاع، وهو أن ابن عائذ لم يسمع من عليّ، فقد ذكره أبو زرعة

(5)

، وكذا قال أبو حاتم

(6)

، ونقله أيضاً ابن الملقن عن عبد الحق، وابن القطان، وصاحب الإمام، ثم قال:(وحسنه ابن الصلاح والنووي والزكي) أي: المنذري، وقال:(أما ابن السكن فذكرهما - أي حديث علي هذا وحديث معاوية الذي قبله - في سننه الصحاح المأثورة)

(7)

.

وقد رد الحافظ ابن حجر علة الانقطاع، فقال متعقباً أبا زرعة:(وفي هذا النفي نظر؛ لأنه يروي عن عمر، كما جزم به البخاري)

(8)

.

والحديث حسنه الألباني

(9)

، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:(إن هذين الحديثين يشدُّ أحدهما الآخر).

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (العين) أراد الجنس، والمراد: العينان من كل إنسان، ويراد هنا: اليقظة.

قوله: (وكاء) الوكاء: بكسر الواو: الخيط الذي تشد به الصرة أو الكيس أو القربة.

(1)

"تهذيب التهذيب"(11/ 106).

(2)

"الثقات"(1517).

(3)

"الجرح والتعديل"(9/ 213).

(4)

معناها: أنه يأتي مرة بالأحاديث المعروفة، ومرة بالأحاديث المنكرة، فأحاديثه تحتاج إلى سبر وعرض على أحاديث الثقات المعروفين.

(5)

"العلل"(1/ 47)، "المراسيل"(124).

(6)

"الجرح والتعديل"(5/ 270).

(7)

"خلاصة البدر المنير"(1/ 52).

(8)

"التلخيص"(1/ 127).

(9)

"إرواء الغليل"(1/ 148)، "تمام المنة" ص (100).

ص: 348

قوله: (السّهِ) بفتح السين: حلقة الدبر، وهذا من باب التشبيه، والمعنى: أن اليقظة تحفظ الدبر وتمنع من خروج الخارج منه وهو الريح، كما يحفظ الوكاءُ الماءَ في السقاء ويمنع خروجه.

الوجه الرابع: الحديثان يدلان على أن النوم ليس ناقضاً بنفسه، وإنما هو مظنة للنقض، وذلك إذا كان الإنسان في حالة لا يملك نفسه، فلا يشعر بما يخرج منه، فإذا كان كذلك فليتوضأ لأنه نام، أما إذا كان الإنسان يقظاً فإنه يتحفظ ويعرف ما يخرج منه، والله تعالى أعلم.

ص: 349

‌ما جاء في أن نوم المضطجع ينقض الوضوء

81/ 15 - وَلأبِي دَاوُدَ أَيْضاً، عَنِ ابْنِ عَبّاس مَرْفُوعاً:«إنّما الوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً» . وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ أَيْضاً.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (202) في «الطهارة» ، باب «الوضوء من النوم» من طريق أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ، ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ، قال: فقلت له: صليت ولم تتوضأ وقد نمت؟ فقال: «إنما الوضوء على من نام مضطجعاً» .

قال أبو داود: قوله: «الوضوء على من نام مضطجعاً» هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يذكروا من هذا شيئاً.

وقد كادت تتفق كلمة الأئمة على ضعف هذا الحديث، قال النووي:(حديث ضعيف، باتفاق أهل الحديث، وممن صرح بضعفه من المتقدمين: أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو داود، قال أبو داود وإبراهيم الحربي: (هو حديث منكر)، ونقل إمام الحرمين في كتابه «الأساليب» إجماع أهل الحديث على ضعفه، وهو كما قال، والضعف عليه بين)

(1)

.

قال أبو داود: (وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني

(1)

"المجموع"(2/ 20).

ص: 350

استعظاماً له، وقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة؟ ولم يعبأ بالحديث)

(1)

.

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن النوم حال وضع الجَنْبِ على الأرض ناقض للوضوء، وخصّ النقض بنوم المضطجع لأنه الأغلب؛ لأن الغالب أنه لا يستغرق أحد في نومه إلا وهو مضطجع، وهذا على فرض صحة الحديث، وإلا فهو ضعيف سنداً ومتناً، أما سنداً فتقدم، وأما متناً فإن معناه لا يصح لا طرداً ولا عكساً؛ لأنه يدل طرداً على أن كل من نام مضطجعاً وجب عليه الوضوء، سواء أكان كثيراً مستغرقاً لا يحس بنفسه إذا أحدث، أم قليلاً يحس معه إذا أحدث، ويدل عكساً على أن كل من نام غير مضطجع فإنه لا ينتقض وضوؤه، وكلا المعنيين غير صحيح، أما الأول فتقدم بيانه عند شرح حديث أنس رضي الله عنه أول أحاديث الباب، وهو أنه لا ينقض إلا المستغرق، أما غير المستغرق فلا ينقض على أيّ حال كان النائم، وأما الثاني فإن النائم إذا كان مستغرقاً انتقض وضوؤه ولو كان غير مضطجع، والله تعالى أعلم.

(1)

"سنن أبي داود"(1/ 52).

ص: 351

‌ما جاء في تشكيك الشيطان ابن آدم في طهارته

82/ 16 - وَعَنِ ابْنِ عَبّاس رضي الله عنهما أنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَأتِي أَحَدَكُمُ الشّيْطَانُ في صَلَاتِهِ، فَيَنْفُخُ في مَقْعَدَتِهِ فيُخَيّلُ إلَيْه أَنّهُ أَحْدَثَ، وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإذَا وَجَدَ ذلِكَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً» . أَخْرَجَهُ الْبَزّارُ.

83/ 17 - وَأَصْلُهُ في الصّحِيحَينِ مِنْ حَدِيث عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ.

84/ 18 - وَلِمُسْلمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ.

85/ 19 - ولِلْحَاكِم: عَنْ أَبي سَعيدٍ مَرْفُوعاً: «إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشّيْطَانُ، فَقَالَ: إنّكَ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حبّانَ بِلَفْظِ:«فَلْيقلْ فِي نَفْسِهِ» .

كان الأولى بالمصنف أن يضم هذه الأحاديث الثلاثة إلى حديث أبي هريرة خامس أحاديث الباب - وقد أشار إليه هاهنا ـ؛ لأن موضوعها واحد، وهو حكم الشك في الطهارة، وهذه فيها زيادة فوائد نذكرها - إن شاء الله ـ.

الكلام عليها من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البزار (171 مختصر زوائده) من طريق إسماعيل بن صَبيح، ثنا أبو أويس، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به مرفوعاً.

وقال: (لا نعلمه بهذا اللفظ إلا من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، وروي معناه من طريق غيره).

ص: 352

وهذا إسناد حسن، إسماعيل بن صبيح: صدوق، وأبو أويس: صدوق يهم، وقد تابعه الدراوردي عند البيهقي (2/ 254).

والحديث أصله في الصحيحين: في البخاري (137)، ومسلم (361) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» .

وفي صحيح مسلم (362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقدم في أول هذا الباب، وهو الحديث الخامس.

وأما حديث أبي سعيد فقد أخرجه الحاكم (1/ 134)، وابن حبان (6/ 389) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأول الحديث: «إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليسجد سجدتين وهو جالس، وإذا أتى

»، وتمام الحديث عندهما:«حتى يسمع صوتاً بأذنه أو يجد ريحاً بأنفه» ، ورجاله ثقات رجال الشيخين، غير عياض بن هلال، فإنه لم يوثقه إلا ابن حبان

(1)

، ولم يرو عنه إلا يحيى بن أبي كثير، قال في «التقريب»:(عياض بن هلال، وقيل: ابن أبي زهير الأنصاري، وقال بعضهم: هلال بن عياض، وهو مرجوح، مجهول من الثالثة، تفرد يحيى بن أبي كثير بالرواية عنه).

وقد أخرجه أبو داود (1029)، والترمذي (396) من طريق إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي، بهذا الإسناد، وحسنه الترمذي.

ولعله من الحسن لغيره، لا لذاته، من أجل عياض هذا، لكن تابعه عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عند مسلم - وسيأتي في باب «سجود السهو» إن شاء الله ـ، لكن ليس فيه الجملة المذكورة هنا (وإذا أتى .. ) فهي مما انفرد به عياض بن هلال، والغرض من إيراد لفظ ابن حبان أنه أفاد أنه يقول:«كذبت» في نفسه ولا يتكلم.

(1)

"الثقات"(5/ 265).

ص: 353

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الشيطان) أي: جنس الشيطان.

قوله: (في صلاته) أي: حال كونه فيها.

قوله: (فينفخ) بضم العين من المضارع، من باب «قتل» يقال: نفخ بفمه نفخاً: أخرج منه الريح.

قوله: (في مقعدته) بفتح الميم، وهي السافلة من الشخص.

قوله: (فيخيل إليه) يحتمل أنه مبني للمعلوم، والفاعل ضمير مستتر يعود على الشيطان، أي: إن الشيطان هو الذي يخيل للمصلي أنه أحدث، أي: يوقع في خياله، أي: في وهمه وظنه، ويحتمل أنه مبني للمجهول، ونائب الفاعل قوله:(أنه أحدث).

الوجه الثالث: حديث ابن عباس وما بعده يفيد ما سبقت إليه الإشارة عند الحديث الخامس من هذا الباب من أن المتطهر إذا شك في وضوئه هل انتقض أو لا؟ فإن وضوءه باقٍ، ويصلي بطهارته تلك ولا يجب عليه الوضوء حتى يتيقن أنه أحدث إما بسماع صوت أو شَمِّ ريح.

الوجه الرابع: شدة عداوة الشيطان للإنسان، وذلك بإفساد عبادته، ولا سيما الصلاة وما يتعلق بها، وإيقاعه في الشكوك والأوهام حتى تفسد طهارته، وتبطل صلاته، تارة بالفعل (فينفخ في مقعدته)، وتارة بالقول بالوسوسة:(إنك أحدثت).

وقد أخبر الله تعالى بعداوة الشيطان، فقال سبحانه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

الوجه الخامس: في هذه الأحاديث بيان لعلاج الوسواس، فلا ينبغي للمسلم أن يستسلم لوساوس الشيطان ولا يلتفت إليها، فلا ينصرف حتى يتحقق انتقاض طهارته.

والوسواس داء عضال، إذا اشتد بصاحبه لا ينفك عنه ويصعب الخروج منه، فيقع في الحرج والمشقة في طهارته وصلاته وأحواله كلها، ومتى غفل عن

ص: 354

الوساوس وتركها فإنها تزول بإذن الله تعالى، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم الاستسلام لها بقوله:«فليقل: كذبت» .

الوجه السادس: في هذه الأحاديث زيادة على حديث أبي هريرة المتقدم ومن ذلك:

1 -

التصريح بأن هذه الشكوك في الطهارة من الشيطان.

2 -

أنه بيّن محل هذه الشكوك وأنه مقعدة الإنسان.

3 -

أنه بيّن طريقة الخروج من هذه الأوهام وهو تكذيب الشيطان، والله تعالى أعلم.

ص: 355

‌باب قضاء الحاجة

وفي بعض نسخ «البلوغ» : باب «اداب قضاء الحاجة» ، وهي أكمل وأدل على المراد.

والآداب: جمع أدب، كاجال وأجل، قال أبو زيد الأنصاري:(الأدب يقع على كل رياضة محمودة، يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل)

(1)

.

والحاجة: كناية عن البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها»

(2)

.

وبعضهم يعبر عنه بباب «الاستطابة» وهو طلب الطيب، والمراد بها هنا: تطهير القبل والدبر من أثر البول أو الغائط بحجر أو ماء؛ لأنه طيب المحل من الخبث الطارئ عليه.

والمراد باداب قضاء الحاجة: ما يشرع للمسلم اتباعه من الأقوال والأفعال التي تناسب تلك الحال.

ومجيء الإسلام بهذه الآداب دليل بيّن على كمال هذه الشريعة، ورعايتها لمصالح العباد، واستيعابها لجميع الآداب النافعة، سواء في أمور العبادات أو المعاملات أو الآداب أو الأخلاق، فما من شيء ينفع الناس ويقربهم إلى الله تعالى إلا بينته ورغبت فيه، وما من شيء يضرهم أو يعرّضهم لسخط الله إلا بينته وحذرت منه، وقد ورد في حديث سلمان رضي الله عنه

(1)

"توضيح الأحكام"(1/ 298).

(2)

أخرجه مسلم (265) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 356

أن المشركين قالوا له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخِراءَة

(1)

؟ فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم

(2)

.

(1)

بكسر الخاء ومد الألف: آداب التخلي والفعود عند الحاجة، قاله الخطابي في "معالم السنن"(1/ 16).

(2)

أخرجه مسلم (262)، وسيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى- في موضعه.

ص: 357

‌كراهة دخول الخلاء بما فيه ذكر الله تعالى

86/ 1 - عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْخَلاْءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَهُوَ مَعْلولٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (19) في كتاب «الطهارة» باب «الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء» ، والترمذي (1746)، والنسائي (1/ 178)، وابن ماجه (303)، من طريق همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه.

وقد أعلّه جماعة من الحفاظ منهم أبو داود في «سننه» بعد سياقه بعلتين:

الأولى: ترك الواسطة بين ابن جريج والزهري، فقد قيل: إن ابن جريج لم يسمع من الزهري، وإنما رواه عن زياد بن سعد.

الثانية: قلب المتن باخر، وأن الصواب: عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق

(1)

، ثم ألقاه، فوهم همام بن يحيى، ورواه عن الزهري، وترك زياد بن سعد، وأتى بهذا اللفظ:(كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)، وقد نقل البيهقي (1/ 95) كلام أبي داود في «سننه» وأقره، وقال: (هذا هو المشهور عن ابن جريج، دون

(1)

هكذا قال: (من ورق) وقد غلَّط جميع أهل الحديث الزهري في هذا اللفظ، وقالوا: إن المعروف أن المطروح خاتم الذهب، كما في حديث ابن عمر. "المنهل العذب المورود"(1/ 77).

ص: 358

حديث همام) وقال النسائي كما في «السنن الكبرى» (8/ 384): (هذا الحديث غير محفوظ) ونقل الحافظ عن الدارقطني أنه قال بشذوذه

(1)

وضعفه النووي وعزا تضعيفه إلى الجمهور

(2)

.

وقال اخرون: ليس فيه وهم، بل هذا حديث وهذا حديث، فهما مختلفان سنداً ومتناً، فحديث الباب رواه ابن جريج عن الزهري بلا واسطة، والثاني بواسطة.

وكونُ ذِهْنِ همام انتقل من الحديث الثاني إلى الأول مع اختلافهما سنداً ومتناً مردود؛ لأن ذلك لا يكون إلا عن غفلة شديدة لا يحتملها حال همام، فإن هماماً حافظ كبير ثقة، يفهم هذا من هذا، فلا مانع أن يكون عنده الحديثان

(3)

، وقد مال إلى ذلك ابن حبان، فذكر كلا الحديثين في «صحيحه» ؛ الأول في (4/ 260) والثاني في (12/ 304)، ومن هؤلاء - أيضاً - المنذري

(4)

فإنه نقل تحسين الترمذي لهذا الحديث، ونقل كلام العلماء في همام، ثم قال:(وإذا كان حال همام كذلك فيترجح ما قاله الترمذي .. ).

ومن هؤلاء صاحب «المنهل العذب المورود» فإنه دافع عن الحديث وقال: (إن دعوى غلط همام وتفرده غير مسلمة)

(5)

.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (هذا أقرب وأولى، إذ توهيم الثقات وتغليطهم يحتاج إلى دليل).

وقد تابع هماماً على لفظ حديث الباب يحيى بن المتوكل البصري، عن ابن جريج، عن الزهري، أخرجه البيهقي (1/ 95)، والبغوي في «شرح السنة» (189) قال في «التقريب» عن يحيى بن المتوكل:(صدوق يخطئ) وتابعه يحيى بن الضُّريس البجلي، عن ابن جريج، عن الزهري، كما ذكره الدارقطني في «العلل» ، وابن الضريس قال عنه في «التقريب»:(صدوق)

(6)

، لكن يلاحظ

(1)

"التلخيص"(1/ 118).

(2)

"الخلاصة"(1/ 151).

(3)

انظر: "الجوهر النقي"(1/ 95).

(4)

"مختصر سنن أبي داود"(1/ 26).

(5)

"المنهل العذب المورود"(1/ 77).

(6)

انظر: "الجوهر النقي"(1/ 95).

ص: 359

في هاتين المتابعتين أنهما ليستا من أصحاب ابن جريج الكبار، خاصة مع كلام الأئمة وأن هماماً انفرد به، وانفراد البيهقي - وهو من أهل القرن الخامس - بإخراجها مظنة الخطأ في الرواية، والله أعلم.

وفي الحديث علة أخرى وهي عنعنة ابن جريج وهو مدلس، وقد نقل الحافظ عن قريش بن أنس عن ابن جريج:(لم أسمع من الزهري شيئاً، إنما أعطاني جزءاً فكتبته، وأجازه لي)

(1)

. قال الذهبي: (وكان ابن جريج يرى الرواية بالإجازة وبالمناولة، ويتوسع في ذلك، ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري؛ لأنه حمل عنه مناولة، وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولا سيما في ذلك العصر، لم يكن حَدَثَ في الخط بعدُ شَكْلٌ ولا نقط)

(2)

، ولذا قال ابن معين فيما نقله عنه الحافظ:(ابن جريج ليس بشيء في الزهري)

(3)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا دخل الخلاء) أي: أراد دخول الخلاء، والخلاء بالمد: المكان الخالي، نُقِلَ إلى البناء المعد لقضاء الحاجة عرفاً، ويسمى أيضاً المرفق، والكنيف، والمرحاض، وقد ورد لفظ (الكنيف) في حديث أنس، وسيأتي في شرح الحديث «الثاني» إن شاء الله.

قوله: (وضع خاتمه) أي: ألقاه، يقال: وضع الشيء من يده يضعه وضعاً، إذا ألقاه.

وكان صلى الله عليه وسلم يضع خاتمه وقتئذٍ صيانةً لاسم الله تعالى عن محل القاذورات، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر

(4)

.

وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في يده، وفي يد أبي بكر

(1)

"سير أعلام النبلاء"(6/ 332)، "تهذيب التهذيب"(6/ 360).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(6/ 331).

(3)

"تهذيب التهذيب"(9/ 356).

(4)

أخرجه البخاري (5878)، ومسلم (2092).

ص: 360

بعده، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، قال: فأخرج الخاتم فجعل يعبث به، فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فننزح البئر، فلم نجده

(1)

.

الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بكراهة دخول الخلاء بما فيه ذكر الله تعالى، واستحباب تنحيته، ولم يرد في ذلك إلا الفعل المجرد، فلا يدل على الوجوب، وإنما على الاستحباب، وهذا على فرض ثبوت الحديث.

والقول بالكراهية هو المشهور عند العلماء، ومنهم الحنابلة، وهي رواية عن أحمد، نص عليها في رواية إسحاق

(2)

، لكن نقل ابن مفلح عن الإمام أحمد أنه لا يكره

(3)

، وذكرها ابن رجب، ونسب ذلك إلى كثير من السلف

(4)

، قال ابن مفلح:(وعنه: لا يكره دخول الخلاء بذلك، ولا كراهة هنا، ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا، وهي تفتقر إلى دليل، والأصل عدمه)

(5)

وذكر في «نُكته على المحرر» عن بعض الحنابلة أن إزالة ذلك أفضل، (قال: وهذا قول ثالث، ولعله أقرب). اهـ

(6)

، وعلى هذا فلا يلزم من ترك الأفضل الوقوع في المكروه، والله أعلم.

وإن كان فيه شيء من القران فهو أشد، وحكم بعضهم بالتحريم، لحرمة كلام الله تعالى، قال سبحانه:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، وقال تعالى:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، ودخول الخلاء فيه نوع من الإهانة.

وهذا إن تيسر، فإن خاف على ما معه أن يسرق أو تطير به الرياح أو ينساه فلا كراهة؛ لأن من الناس من يغلب عليه النسيان، فيضعه في مكان، ثم ينساه، وكذا المصحف إن خاف أن يسرق دخل به، والأحوط ألا يدخل به مطلقاً، بل يعطيه من يحفظه له حتى يخرج، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (5879)، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (2091)(54).

(2)

"مسائل الإمام أحمد" رواية إسحاق بن إبراهيم النيسابوري ص (5).

(3)

"النكت على المحرر"(1/ 8).

(4)

"أحكام الخواتم" ص (172).

(5)

"الفروع"، في كتاب "الزكاة"(2/ 473).

(6)

"النكت على المحرر"(1/ 8).

ص: 361

‌ما يقال عند دخول الخلاء

87/ 2 - وَعَنْهُ قَالَ: كَان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . أَخْرَجَهُ السّبْعَةُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» باب «ما يقول عند الخلاء» (142)، ومسلم (375)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، والنسائي (1/ 20)، وابن ماجه (296)، وأحمد (19/ 13)، كلهم من طريق عبد العزيز بن صهيب قال: (سمعت أنساً يقول

) وذكره.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول، وهذا إن كان المكان معداً لذلك كما في البيوت الآن، فإن كان في الصحراء - مثلاً - قال ذلك عند الشروع في تشمير ثيابه.

وقد ورد عند البخاري تعليقاً عن سعيد بن زيد: حدثنا عبد العزيز (إذا أراد أن يدخل) وذكر الحافظ أن البخاري وصلها في «الأدب المفرد»

(1)

، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: حدثني أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء

(2)

فأفاد ذلك بيان أنه يقول هذا الدعاء قبل الدخول لا بعده.

(1)

"فتح الباري"(1/ 244).

(2)

"الأدب المفرد" رقم (692).

ص: 362

قوله: (اللهم) أي: يا الله، فحذف حرف النداء، وعوض عنها الميم للبدء باسم الله تعالى ولكثرة الاستعمال.

قوله: (أعوذ بك) أي: أعتصم بك، وهي جملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى؛ لأنها بمعنى الدعاء، فكأنه يقول: اللهم أعذني.

قوله: (من الخُبُثِ) بضم المعجمة والموحدة: جمع خبيث مثل: قضيب وقُضُب، وسرير وسُرُر، وهم ذكران الشياطين، والخبائث: جمع خبيثة، كصحيفة وصحائف، وهن إناث الشياطين، فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم، وقيل: الخُبْث: بإسكان الباء: الشر، والخبائث: الذوات الشريرة، فكأنه استعاذ من الشر وأهله.

وقد ذكر الخطابي: أن الصواب ضم الباء، وأن عامة أصحاب الحديث يقولون: الخُبْث: ساكنة الباء، وهذا غلط

(1)

، والصواب جواز الوجهين كما يجوز في نظائره؛ لأن الإسكان على سبيل التخفيف جائز كما هو مقرّر عند أئمة التصريف، مثل: رُسُل ورُسْل، وكُتُب وكُتْب، ونحو ذلك، ونقل النووي عن جماعة من أهل المعرفة أن الباء ساكنة، منهم أبو عبيد القاسم بن سلاَّم

(2)

وقال القرطبي عن إسكان الباء: (رُوّيناه به أيضاً)

(3)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الدعاء عند دخول المكان المعد لقضاء الحاجة بهذا الدعاء، ومناسبة هذا الدعاء دل عليها حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخُبُث والخبائث»

(4)

.

ولا فرق في هذه الاستعاذة بين البنيان والصحراء؛ لأن المكان يصير مأوى للشياطين بخروج الخارج وقبل مفارقته إياه.

وقد وردت زيادة التسمية من طريق عبد العزيز بن المختار، عن

(1)

"معالم السنن"(1/ 16)، "إصلاح غلط المحدثين" ص (17).

(2)

"غريب الحديث"(1/ 311).

(3)

"المفهم"(1/ 554).

(4)

أخرجه أبو داود (6)، وابن ماجه (296)، وأحمد (32/ 38)، وهو حديث صحيح على شرط البخاري، كما ذكر الألباني في "تمام المنة" ص (57).

ص: 363

عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر: «إذا دخلتم الخلاء فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث» ، وقد عزا ابن الملقن هذه الزيادة إلى سعيد بن منصور، وأبي حاتم، وابن السكن

(1)

، وقال الحافظ:(إسناده على شرط مسلم)

(2)

.

كما وردت عند ابن أبي شيبة من طريق أبي معشر نجيح ابن عبد الرحمن السندي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الكنيف قال:«باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»

(3)

، وأبو معشر قال فيه الحافظ:(ضعيف أَسَنّ واختلط).

وقد حكم الألباني على زيادة التسمية بالشذوذ، لمخالفتها لكل طرق الحديث عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس

(4)

رضي الله عنه.

وقد ورد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني ادم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله»

(5)

.

والتسمية قد وردت في عدة أحاديث، كلها معلولة، ويكفي في ذلك أن حديث أنس رضي الله عنه ورد في الصحيحين والسنن وليس فيه ذكر البسملة، والله أعلم.

وسيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها ما يقوله إذا خرج من الخلاء، ولو قدمه المصنف هنا لكان أولى، والله أعلم.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأمكنة النجسة كالحمامات والحشوش والمزابل هي مأوى الشياطين، ولذا شرعت الاستعاذة بالله تعالى منهم من ذكرانهم وإناثهم، أو من الشر كله وأهله، وهذا يدل على أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في دفع ما يؤذيهم أو يضرهم، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح العمدة"(1/ 434).

(2)

"فتح الباري"(1/ 244).

(3)

"المصنف"(1/ 7).

(4)

"تمام المنة" ص (57).

(5)

أخرجه الترمذي (606)، وابن ماجه (297)، وقال الترمذي:(هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بذاك القوي)، وضعفه النووي في "الخلاصة"(326)، والألباني في "الإرواء"(1/ 88) وحسنه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي.

ص: 364

‌حكم الاستنجاء بالماء من البول أو الغائط

88/ 3 - وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ. مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» ، باب «الاستنجاء بالماء» (150)، ومسلم (271)(70) من طريق شعبة، عن أبي معاذ - واسمه عطاء ابن أبي ميسرة - قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول

فذكره، واللفظ لمسلم.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كان يدخل الخلاء) المراد به هنا: المكان الخالي الذي يقضي فيه حاجته في الفضاء، لقوله في رواية أخرى:(كان إذا خرج لحاجته) ولقرينة حمل العنزة مع الماء، ولأن الأخلية التي في البيوت كانت خدمته فيها متعلقة بأهله.

قوله: (وغلام نحوي) الغلام: هو الذكر الصغير، قال ابن سِيْده:(هو غلام من لدن الفطام إلى سبع سنين)

(1)

، ونقل الحافظ عن الزمخشري أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء: غلام، فهو مجاز

(2)

، وجمعه: أغلمة وغلمة وغلمان.

وقوله: (نحوي) هي عند مسلم، دون البخاري، ومعناها مقارب لي في

(1)

"المخصَّص"(1/ 33).

(2)

"فتح الباري"(1/ 251).

ص: 365

السن، وقد ورد في بعض الروايات:(فأنطلق أنا وغلام من الأنصار)، وفي رواية للبخاري:(تبعته أنا وغلام منّا)، وقد ذكر بعض العلماء أنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهذا ليس بشيء، فإنه من السابقين والمهاجرين، وقد مات سنة (32 هـ) وعمره نحو من ستين، فيكون كبير السن يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس له عشر سنوات أو تزيد، وقد ورد في رواية عند مسلم أن أنساً قال:(هو أصغرنا)

(1)

، وكذا قوله:(من الأنصار) فيبعد لذلك أن يكون هو ابن مسعود، وظاهر صنيع البخاري أنه ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

، والله أعلم.

قوله: (إداوة) بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد، وجمعه أَداوَى بفتحها، كمطية ومطايا.

قوله: (وعَنَزَة) بفتح العين والنون: حربة صغيرة، قال الخوارزمي:(هي الحربة، وتسمى العنزة، وكان النجاشي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تقام بين يديه إذا خرج إلى المصلى، وتوارثها مِنْ بعدُ الخلفاء)

(3)

.

والغرض من حملها أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أقوى الأوجه في ذلك، كما ذكر الحافظ

(4)

، وقد بوّب البخاري على حديث أنس هذا في كتاب «الصلاة» بقوله: باب «الصلاة إلى العنزة» .

قوله: (يستنجي بالماء) أي: يطهر بالماء الذي في الإداوة ما أصاب السبيلين من أثر البول والغائط.

الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الاقتصار على الاستنجاء بالماء، ولو لم يتقدم ذلك استجمار بالأحجار ونحوها.

وقد كره ذلك بعض العلماء، وعلة الكراهة عندهم ملامسة النجاسة باليد، قال الحافظ على قول البخاري: باب «الاستنجاء بالماء» : (أراد بهذه الترجمة الرد على من كرهه، وعلى من نفى وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم .. )

(5)

.

(1)

"صحيح مسلم"(270).

(2)

انظر: "فتح الباري"(1/ 252).

(3)

"مفاتيح العلوم" ص (140).

(4)

"فتح الباري"(1/ 252).

(5)

"فتح الباري"(1/ 251).

ص: 366

فممن كرهه حذيفة وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم، ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، ذكره الحافظ

(1)

.

وهذا قول ضعيف، والتعليل له غير صحيح، لما يلي:

1 -

أن فيه معارضة لهذا الحديث الصحيح.

2 -

أن في الماء إنقاءً تاماً.

3 -

أن مباشرة النجاسة لإزالتها لا محذور فيه.

وسيأتي - إن شاء الله - لذلك مزيد كلام عند اخر حديث في هذا الباب.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يستعد بطهوره عند قضاء حاجته، لئلا يحوجه عدم الاستعداد إلى القيام والتلوث بالنجاسة.

الوجه الخامس: فضيلة أنس رضي الله عنه حيث تشرف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما ما يتعلق بالطهارة، ومن تراجم البخاري على هذا الحديث (باب من حُمِلَ معه الماء لِطُهوره)

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(1/ 251).

(2)

المصدر السابق.

ص: 367

‌استحباب البعد والاستتار عند قضاء الحاجة

89/ 4 - عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذِ الإدَاوَةَ» . فَانْطَلَقَ حَتّى تَوَارَى عَنّي، فَقَضى حَاجَتَهُ. مُتّفَقٌ عَلَيهِ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، واللفظ المذكور طرف من حديث أخرجه في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة في الجبة الشامية» (363)، وأخرجه مسلم (274)(77) من طريق الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (حتى توارى عني) أي: استتر عني، إما بشجرة أو بأكمة، أو ببعده ونحو ذلك.

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب البعد والتواري عن الناس عند إرادة قضاء الحاجة، لئلا تُرى عورته، أو يُسمع صوته، أو تُشم رائحته، وهذا إن كان في الصحراء، فإن كان في البنيان حصل المقصود بالبناء المعد لقضاء الحاجة، والله تعالى أعلم.

ص: 368

بيان بعض الأماكن التي يُنهى عن التخلي فيها

90/ 5 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اتّقُوا اللاّعِنَيْنِ: الّذِي يَتَخَلّى في طَرِيق النّاس، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلمٌ.

91/ 6 - زَادَ أَبُو دَاودَ، عَنْ مُعَاذٍ:(وَالمَوَارِدِ).

92/ 7 - وَلأحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أَوْ نَقْعِ مَاءٍ» . وَفِيهمَا ضَعْفٌ.

93/ 8 - وَأَخْرَجَ الطّبَرَانِيُّ النّهْيَ عَنْ تَحْتِ الأشْجَارِ المُثْمِرَةِ، وَضَفّةِ النّهْرِ الجَارِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

الكلام عليها من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، شهد العقبة الثانية، وغزوة بدر وما بعدها، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في اخر حياته إلى اليمن داعياً ومعلماً وقاضياً، فَوَدّعَهُ ودعا له بقوله:«حفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ومن فوقك ومن تحتك، ودرأ عنك شرور الجن والإنس» ، وعاد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وولاه عمر رضي الله عنه على الشام بعد أبي عبيدة رضي الله عنه، ثم مات من عامه في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة عن أربع وثلاثين سنة

(1)

، رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في كتاب «الطهارة» باب «النهي

(1)

"الإصابة"(10/ 219).

ص: 369

عن التخلي في الطرق والظلال» (269)، وأبو داود (25) من طريق إسماعيل بن جعفر، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعاً، ولفظ (اللاعنين) الذي في «البلوغ» هو لفظ أبي داود، وأما لفظ مسلم فهو:(اللعّانين) بصيغة المبالغة.

وأما حديث معاذ فقد أخرجه أبو داود (26) من طريق أبي سعيد الحميري، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البَرَاز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» .

وهذا إسناد فيه ضعف، كما قال الحافظ؛ لأن أبا سعيد الحميري لم يسمع من معاذ رضي الله عنه، قال في «التقريب»:(شامي مجهول من الثالثة، وروايته عن معاذ بن جبل مرسلة). اهـ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، قاله ابن القطان، ونقله عنه الحافظ

(1)

.

والمقصود أن الحديث ضعيف بزيادة (الموارد) وإلا فباقيه صحيح - كما تقدم - في حديث أبي هريرة.

وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أحمد (4/ 448) من طريق عبد الله ابن المبارك قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: حدثني ابن هبيرة، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا الملاعن الثلاث» ، قيل: ما الملاعن الثلاث يا رسول الله؟ قال: «أن يقعد أحدكم في ظل يُستظل فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء» .

وهذا إسناد فيه ضعف، كما قال الحافظ؛ لإبهام الراوي عن ابن عباس، قال الهيثمي:(رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، ورجل لم يُسمّ)

(2)

وقد تقدم عند الحديث (31) أن رواية عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة أعدل من غيرها، كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم؛ لأنه سمع منه قديماً، ومثله عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقرئ، فهؤلاء العبادلة الثلاثة روايتهم

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(2/ 41)، "التلخيص"(1/ 115).

(2)

"مجمع الزوائد"(1/ 204).

ص: 370

عنه أمثل من غيرها؛ لأنهم سمعوا منه قبل احتراق كتبه، قال الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي:(إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح .. ) وكذا قتيبة بن سعيد، كما ذكر الذهبي

(1)

، وإلا فابن لهيعة ضعيف لسوء حفظه واحتراق كتبه، فحدث من حفظه فخلّط، وحديثه في المتابعات والشواهد لا ينزل عن رتبة الحسن، أما المحققون فهم على تضعيفه مطلقاً، قبل احتراق كتبه وبعدها. وقد ذكرت هذا فيما مضى، والمقصود أن الحديث ضعيف بزيادة (أو نقع ماء) وإلا فباقيه صحيح، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه الطبراني بتمامه في «الأوسط» (3/ 199) من طريق الحكم بن مروان الكوفي، قال: حدثنا فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يُتخلى على ضَفَّةِ نهر جارٍ.

وهذا إسناد ضعيف، قال الطبراني عقبه:(لم يروه عن ميمون إلا فرات بن السائب تفرد به الحَكَمُ)، وفرات هذا متروك الحديث، قاله البخاري وغيره

(2)

.

فهذه الأحاديث - حديث معاذ وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كلها ضعيفة، لكن يشهد لها في المعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، والقواعد الشرعية تؤيدها، وهو أن كل ما يؤذي المسلمين فهو حرام، وهو ما يستفاد من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً} [الأحزاب: 58]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من اذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم»

(3)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (اتقوا اللاعنين) هذا لفظ أبي داود، وأما لفظ مسلم فهو (اللعّانين) كما تقدم، قال النووي:(والروايتان صحيحتان)

(4)

؛ أي: الأمرين

(1)

"سير أعلام النبلاء"(8/ 15).

(2)

"التلخيص"(1/ 116).

(3)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 179)، وحسنه المنذري في "الترغيب"(1/ 134)، والهيثمي في "المجمع"(1/ 204)، والألباني في "صحيح الترغيب"(1/ 135).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 164).

ص: 371

الجالبين للعن، الحاملين الناسَ عليه، وذلك أن من فعلها لُعن وشُتم؛ لأن عادة الناس لعنه، فيكون من باب المجاز العقلي، لعلاقة السببية، وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون؛ أي: الملعون فاعلهما، وهذا من المجاز العقلي أيضاً.

وأما رواية مسلم (اتقوا اللعّانين) فهي مثنى صيغة المبالغة (لعّان) فمعناها - والله أعلم ـ: اتقوا فعل اللعانين؛ أي: صاحبي اللعن، وذلك من تسمية الشيء باسم سببه.

قوله: (طريق الناس) أي: يتغوط في موضع يمر به الناس، وهو على حذف مضاف؛ أي: تخلي الذي يتخلى في طريق الناس، ووجه النهي: لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره.

قوله: (أو في ظلهم) المراد به: مستظل الناس الذي اتخذوه مكاناً للمقيل والراحة، وإضافة الظل إليهم دليل على إرادة الظل المنتفع به الذي هو محل جلوسهم.

قوله: (البراز في الموارد) جمع مورد، وهو الموضع الذي يَرِدُهُ الناس من عين ماء أو غدير ونحوهما. والبراز: بفتح الباء على الأشهر، هو في الأصل الفضاء الواسع، ويكنى به عن الغائط.

قوله: (أو نقع ماء) أي: مجتمع الماء.

قوله: (تحت شجرة مثمرة) أي: سواء أكانت الثمرة مقصودة أم كانت ثمرة محترمة، فالمراد هي ما يقصدها الناس ولو كانت غير مطعومة كشجر القطن، فلا يجوز لأحد أن يتخلى تحتها؛ لأنها ربما سقطت الثمرة فتتلوث بالنجاسة، ولئلا يتلوث من أراد أن يجمع ثمر هذه الشجرة.

والمحترمة كثمرة النخل والتين ونحوهما؛ لأن هذا طعام محترم، فلا يجوز تلويثه بالنجاسة إذا سقطت، أو تلويث من أراد أن يجني ثمارها.

قوله: (على ضَفَّةِ نهر جار) ضفة: بفتح الضاد المعجمة وكسرها والمراد بها جانب النهر.

الوجه الرابع: دلت هذه الأحاديث على النهي عن التخلي في بعض

ص: 372

الأماكن لما في ذلك من أذية الناس بالتنجيس والاستقذار والنتن، والتسبب في نشر الأمراض وهو مظهر سيئ، منافٍ لتعاليم الإسلام الداعية إلى النظافة، والذي تحصّل من هذه الأحاديث ستة مواضع:

وهي: طريق الناس، والظل، والموارد، ونقع الماء، والأشجار المثمرة، وجانب النهر.

1 -

فينهى عن التخلي في طريق الناس، وقارعة الطريق، والمراد ما يطرقه الناس ويمشون فيه، أما الطريق المهجورة فيجوز التخلي فيها عند الحاجة.

2 -

وينهى عن التخلي فيما يستظل به الناس من شجرة أو جدار أو جبل ونحوها مما ينتفع به، ويلحق بالظل متشمس الناس في الشتاء، وكذا الأماكن التي يتردد إليها الناس، كالمنتزهات والحدائق، وأماكن الاستراحة التي قد توجد على بعض الطرق الطويلة، أما ما لا ينتفع به ولا يجلس فيه فيجوز التخلي فيه لقوله:«أو في ظلهم» .

3 -

وينهى عن التخلي في موارد المياه التي يردها الناس للشرب، كالساقية والآبار، ويلحق بذلك محلات الوضوء التي لم تعدّ لقضاء الحاجة، كما في دورات المياه عند المساجد وغيرها مما يتأذى به الناس.

4 -

وينهى عن التخلي في نقع الماء، ويشمل ذلك ما إذا تخلى فيه أو حوله؛ لأنه إن تخلى فيه أفسده على غيره، وإن تخلى حوله قريباً منه تأذى بذلك من يَرِدُ عليه.

5 -

وينهى عن التخلي تحت الأشجار المثمرة، لئلا تسقط الثمرة على ما خرج منه فتتنجس به، أو يتنجس من أراد أخذ ما فيها، فإن كانت غير مثمرة، أو مثمرة ولا يؤخذ ثمرها جاز التخلي تحتها إذا لم تكن ظلاً لمن يستظل بها.

6 -

وينهى عن التخلي على جوانب الأنهار وشواطئ البحار.

والله تعالى أعلم.

ص: 373

‌النهي عن التكشف والتحدث حال قضاء الحاجة

94/ 9 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَغَوّطَ الرّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يَتَحَدّثَا. فَإنّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذلِكَ» . رَوَاهُ وَصَحّحَهُ ابْنُ السّكَنِ، وَابْنُ الْقَطّانِ، وَهُوَ مَعْلولٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث اختلفت فيه نسخ «البلوغ» ففي بعضها: رواه أحمد، وفي بعضها: رواه

بدون ذكر من أخرجه، وهو كذلك في نسخة البلوغ التي عليها شرح المغربي «البدر التمام» ولم يتكلم عليه، بل أورد حديث أبي سعيد. والظاهر أن المراد: رواه ابن السكن، وصححه ابن القطان، وهذا هو المثبت في «الإلمام» لابن دقيق العيد، كما سيأتي إن شاء الله.

أما الصنعاني فقد تكلم في «السبل» عن علة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود (15)، وابن ماجه (342) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن عياض، قال: حدثني أبو سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

فذكره.

وهذا الحديث معلول بثلاث علل:

الأولى: اضطراب رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، كما قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري والنسائي وأبو حاتم وغيرهم

(1)

.

(1)

انظر: "تهذيب التهذيب"(7/ 232).

ص: 374

ومن اضطرابه في هذا الحديث أنه رواه عن يحيى، عن هلال - كما هنا - ورواه عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، إلى غير ذلك من وجوه الاضطراب التي ذكرها الدارقطني

(1)

.

قال أبو داود بعد سياق الحديث: (هذا لم يسنده إلا عكرمة بن عمار) يريد بذلك أن الحديث ضعيف، لانفراد عكرمة بإسناده، ولم يعتبر ابن القطان هذا علة، وتبعه الشوكاني قائلاً:(إذ لا وجه للتضعيف بهذا، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى، واستشهد البخاري بحديثه عن يحيى أيضاً)

(2)

.

على أن انفراد عكرمة بإسناده غير مسلّم، فقد تابعه على ذلك أبان بن يزيد كما ذكر ابن دقيق العيد

(3)

، وتابعه أيضاً الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً.

العلة الثانية: جهالة هلال بن عياض، قال في «التقريب»:(مجهول من الثالثة، تفرد يحيى بن أبي كثير بالرواية عنه) ورجح أن اسمه عياض بن هلال، وكذا ذكر البخاري وابن أبي حاتم والخطيب وغيرهم.

وقد نصّ ابن القطان في مواضع من كتابه «بيان الوهم والإيهام» على أن هذه هي العلة الكبرى في الحديث

(4)

.

العلة الثالثة: الاضطراب في متنه، ففي بعضها المقت على التكشف والتحدث، وفي بعضها لم يذكر التحدث، وفي بعضها لم يذكر التكشف، ذكر ذلك ابن القطان

(5)

.

وقد ذكر ابن دقيق العيد حديث جابر رضي الله عنه وقال: (أخرجه الحافظ أبو علي بن السكن وصححه الحافظ أبو الحسن القطان)

(6)

، وهذا الحديث علقه الدارقطني في «العلل» ، ثم رجعت إلى كتاب ابن القطان، فإذا هو قد ساق الحديث بإسناده، فقال: (قال أبو علي بن السكن: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا

(1)

"العلل"(11/ 296).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(2/ 143 - 144)، "نيل الأوطار"(1/ 92).

(3)

"الإمام"(2/ 348).

(4)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 258).

(5)

المصدر السابق (5/ 259).

(6)

"الإلمام" ص (43).

ص: 375

مسكين بن بكير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله .. فذكره).

ثم تكلم ابن القطان عن إسناد هذا الحديث وحكم بصحته، ثم قال:

(الحسن بن أحمد: صدوق لا بأس به.

مسكين بن بكير: لا بأس به، قاله ابن معين.

محمد بن عبد الرحمن: ثقة، وقد صح سماعه من جابر.

وسائر مَنْ في الإسناد لا يُسأل عنه).

وقد نقل الحافظ ابن كثير تصحيح ابن القطان

(1)

، وعلى هذا فما في البلوغ صحيح ولا سقط فيه، وزيادة (أحمد) في بعض النسخ لا تصح؛ لأن الحديث لا وجود له في المسند من حديث جابر رضي الله عنه، بل هو من حديث أبي سعيد، وبهذا يتفق ما في «البلوغ» مع ما في «الإلمام» مع ما في كتاب ابن القطان.

لكن يظهر أن مجيء الحديث من هذا الوجه هو من أوجه الاختلاف في الإسناد، وقد ذكر هذا الدارقطني.

وأما قوله: (وهو معلول) فهذا ينطبق على حديث أبي سعيد كما تقدم، وينطبق على حديث جابر - أيضاً - من جهة الاختلاف فيه على راويه يحيى بن أبي كثير، كما ذكر ذلك الدارقطني، والحافظ في «إتحاف المهرة»

(2)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا تغوط) مشتق من (الغائط) وهو الخارج المستقذر من الإنسان، وأصله المكان المطمئن من الأرض، وإطلاقه على الخارج من باب كراهية تسمية الشيء باسمه الخاص؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمئنة، فهو من مجاز المجاورة.

قوله: (الرجلان) تخصيص الرجل بالذكر لا مفهوم له، لكن باعتبار الغالب، وإلا فالمرأتان، والمرأة والرجل أقبح من ذلك.

قوله: (فليتوار) يقال: توارى بمعنى استخفى واستتر، والمعنى ليستتر

(1)

"إرشاد الفقيه"(1/ 54).

(2)

(3/ 325).

ص: 376

كل واحد عن صاحبه. و (يتوار) مضارع مجزوم بـ «لام» الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة.

قوله: (ولا يتحدثا) لا: ناهية، وجُزِمَ المضارع بعدها بحذف النون.

قوله: (يمقت) مضارع مَقَتَ يَمْقُتُ مقتاً من باب (قتل) يقال: مَقَتَهُ؛ أي: أَبْغَضَهُ أشد البغض عن أمر قبيح.

الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بوجوب تستر الإنسان وعدم تحدثه مع شخص اخر حال قضاء الحاجة؛ لأن التحدث حال قضاء الحاجة فيه دناءة وقلة حياء، والله تعالى يمقت على ذلك، وهو سبحانه لا يمقت إلا على الأفعال السيئة، وظاهر ذلك التحريم، ولكن حمله الجمهور على الكراهة، ولعل الصارف له عن التحريم ما تقدم عن ابن مفلح رحمه الله عند الحديث (76) من أن النهي إذا ورد في حديث متكلم فيه فإنه يحمل على الكراهة، والقول بالتحريم هو اختيار الشوكاني

(1)

، لأن ظاهر الحديث أن ذلك من الكبائر.

وقد ذكر ابن مفلح

(2)

أنهم صرحوا بالكراهة، وأنه لم يجد أحداً منهم ذكر التحريم مع أن دليلهم يقتضيه، وعن الإمام أحمد ما يدل عليه، قال صالح: سألت أبي عن الكلام في الخلاء، قال: يكره، وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أحمد عن الكلام في الخلاء قال: لا ينبغي له أن يتكلم. وهذه الصيغة للتحريم

(3)

.

إن حالة قضاء الحاجة حالة سكون وانكسار بين يدي الله تعالى، واعتراف بضعف ابن ادم، وحالة تفكير بنعم الله تعالى على العبد، حيث يسر له قضاء حاجته بعدما يسر له الأكل والشرب والانتفاع بما أعطاه الله من النعم، لا حالة مؤانسة ومحادثة.

لكن إن وجد حاجة للكلام فلا بأس، بل قد يكون واجباً، كإرشاد أعمى يخشى ترديه في حفرة، أو رؤية نحو عقرب أو حية تقصد إنساناً، أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف

أو نحو ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

"نيل الأوطار"(1/ 92).

(2)

"النكت على المحرر"(1/ 8).

(3)

انظر: "صفة الفتوى" لابن حمدان ص (90).

ص: 377

بيان‌

‌ بعض الآداب في قضاء الحاجة

95/ 10 - عَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسّحْ مِنَ الخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإنَاءِ» . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللّفْظُ لِمُسْلمٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع منها، كتاب «الوضوء» باب «النهي عن الاستنجاء باليمين» (153)، ومسلم (267) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، وقد رواه عن يحيى هشامُ الدستوائي، والأوزاعيُّ، وشيبانُ بن عبد الرحمن التميمي، وهذا عند البخاري في «الوضوء» وفي «الأشربة» ، ورواه عند مسلم عن يحيى، همامُ بن يحيى، وهشامُ الدستوائي، وأيوبُ بن النجار.

وسيذكر المصنف هذا الحديث مرة أخرى في أحاديث «آداب الأكل والشرب» في باب «الوليمة» مقتصراً على الجملة الأخيرة.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يمسكن) أي: لا يأخذن، وهو مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، و (لا) ناهية، وفي لفظ للبخاري ومسلم:(لا يمسّ ذكره بيمينه).

قوله: (وهو يبول) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:«إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه» ، وهي جملة حالية، معناها لا يأخذ ذكره بيده اليمنى حال بوله.

ص: 378

قوله: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) أي: لا يستنج بحجر أو ماء من البول أو الغائط بيده اليمنى، وفي لفظ لمسلم:(نهى أن يستطيب بيمينه).

قوله: (ولا يتنفس في الإناء) أي: لا يخرج النّفَسَ من جوفه في الوعاء الذي يشرب فيه، كإناء اللبن والماء ونحوهما.

الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي البائل أن يمسك ذكره بيمينه حال البول؛ لأن هذا ينافي تكريم اليمين.

وقد حمل جمهور العلماء هذا النهي على الكراهة - كما ذكر النووي وغيره ـ؛ لأنه من باب الآداب والتوجيه والإرشاد، ولأنه من باب تنزيه اليمين وذلك لا يصل النهي فيه إلى التحريم.

وذهب داود الظاهري وكذا ابن حزم

(1)

إلى أنه نهي تحريم، بناءً على أن الأصل في النهي التحريم.

وقول الجمهور أرجح، وهو أنه نهيُ تأديب وإرشاد، ومما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الذَّكَرِ:«هل هو إلا بضعة منك» ، وتقدم هذا الحديث في «نواقض الوضوء» .

والأحوط للمكلَّف ألا يمس ذكره بيمينه حال البول؛ لأن الحديث نهى عنه، ومحل النهي عن مس الذكر باليمين إذا لم تكن ضرورة، فإن كان ثَمّ ضرورة جاز من غير كراهة

(2)

.

والمرأة كالرجل في حكم مس القبل والدبر باليمين؛ لأن سبب النهي إكرام اليمين وصيانتها عن الأقذار.

الوجه الرابع: قيد النهي عن مس الذكر باليمين في حال البول، لقوله:«وهو يبول» فهل هذا القيد معتبر أو لا؟ قولان:

الأول: أن هذا قيد معتبر، وأن النهي مختص بحالة البول أخذاً بظاهر الحديث؛ لأنه ربما تتلوث يده اليمنى إذا مس ذكره بها، فإن كان لا يبول جاز

(1)

"المحلى"(1/ 95).

(2)

"الإنصاف"(1/ 103).

ص: 379

لحديث: «هل هو إلا بضعة منك» ، وإذا كان بضعة منه فلا فرق بين أن يمسه بيده اليمنى أو اليسرى؛ لأنه دل على الجواز في كل حال، وخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح حديث أبي قتادة، وبقي ما عداها على الإباحة.

القول الثاني: أن النهي عام، وأنه يكره أن يمس ذكره بيمينه مطلقاً في حال البول وغيره، واستدلوا بحديث أبي قتادة هذا، فإن لفظه في إحدى روايات مسلم:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء، وأن يمس ذكره بيمينه .. )، فهذا مطلق لم يقيد بحالة البول. قالوا: وفي تقييده بحال البول تنبيه على الإطلاق وأولى، فإنه إذا نُهي عن المس باليمين حال البول مع أن ذلك مظنة الحاجة فغير ذلك من الحالات أولى.

والظاهر حمل المطلق على المقيد لأنه حديث واحد اختلف عليه الرواة، فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون القيد زيادة من عدل، وهي مقبولة عند أهل العلم، كما ذكر ذلك ابن دقيق العيد

(1)

، وقال صاحب «المنهل العذب المورود»:(والحق أن هذا من ذكر بعض أفراد العام، لا من المطلق والمقيد؛ لأن الأفعال في حكم النكرات؛ والنكرة في سياق النفي تعم)

(2)

، وعلى هذا فذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يفيد التخصيص، كما هو معلوم في «الأصول» .

وما دام أن الحديث ورد بالإطلاق والتقييد فالأحوط ألا يمس ذكره بيمينه إلا لعذر كأن تكون اليسرى مشلولة، أو فيها جرح، ونحو ذلك.

الوجه الخامس: الحديث دليل على النهي عن الاستنجاء باليمين من البول والغائط، سواء بالأحجار أم بالماء، والخلاف فيه - كما تقدم - فالجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم، وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، وبه قال بعض الشافعية، كصاحب «المهذب» ، فإنه قال:(ولا يجوز أن يستنجي بيمينه)، لكن صرفها النووي - في شرحه ـ

(3)

عن ظاهرها

(1)

"شرح العمدة"(1/ 258).

(2)

(1/ 121).

(3)

"المجموع"(2/ 110).

ص: 380

بما يوافق مذهب الجمهور، والأحوط للمسلم ألا يستنجي بيمينه، لورود النهي عنه صلى الله عليه وسلم وقد قال:«وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»

(1)

فإن وجد حاجة - كما تقدم - فلا بأس.

الوجه السادس: الحديث دليل على النهي عن التنفس في الإناء، وإنما يتنفس خارجه، فإن ذلك سنة ثابتة، وأدب شرعي في الشرب.

والتنفس في الإناء فيه ثلاثة محاذير:

1 -

أن التنفس في الإناء يقذر الشراب على من بعده؛ لأنه ربما سقط فيه أثناء النفس شيء من الفم أو الأنف.

2 -

أن النفس ربما حمل أمراضاً يتلوث بها الإناء.

3 -

أنه يخشى عليه من الشّرَقِ؛ لأن الماء نازل، والنفس صاعد، فإذا التقيا فقد يشرق الإنسان ويتساقط اللعاب في الإناء، وكل ذلك منافٍ للأدب.

والسنة للإنسان إذا شرب ألا يشرب في نَفَسٍ واحد، بل يشرب في نفسين أو ثلاثة مع فصل القدح عن فيه؛ لأن ذلك أخف على المعدة، وأنفع لريّه، وأحسن في الأدب، وأبعد من فعل أرباب الشره، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً، ويقول:«إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ» ، قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً

(2)

.

ومعنى: «أروى» ، أي: أكثر ريّاً. «وأبرأَ» : أي: أبرأ من ألم العطش، أو أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، و «وأمرأ»: أي: أجمل انسياغاً، وأخف على المعدة.

وكذا ورد النهي عن النفخ، وهو أشد، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفس في الإناء، أو يُنفخ فيه

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

(2)

أخرجه مسلم (2028)، (123).

(3)

أخرجه أبو داود (3728)، والترمذي (1889)، وقال:(هذا حديث حسن صحيح).

ص: 381

‌بعض الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة ومنها النهي عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار

96/ 11 - عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظمٍ». رَوَاهُ مُسْلمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال له: سلمان الخير، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصله من فارس، سافر لطلب الدين فتنصر، وقرأ الكتب، ووقع في يد قوم من العرب، فباعوه من يهود، وقصة إسلامه أخرجها أحمد في «مسنده» بطولها

(1)

وذكرها ابن سعد

(2)

. وقد روي من وجوه كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه على العتق، أسلم لما قدم المدينة، وأول مشاهده الخندق، وهو الذي أشار بحفره، ولم يتخلف بعد ذلك عن أيّ مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خيّراً فاضلاً حبراً عالماً زاهداً، وذُكر أنه كان من المعمّرين، لكن ردَّ الذهبي هذا، وكان يأكل من عمل يده، ويتصدق بعطائه.

وقد أخرج الطبراني

(3)

والحاكم

(4)

عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أنه لما أشار سلمان بحفر الخندق احتج المهاجرون والأنصار في سلمان رضي الله عنه، وكان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت

(1)

"المسند"(39/ 139 - 147).

(2)

"الطبقات"(4/ 75).

(3)

"المعجم الكبير"(6/ 212).

(4)

"المستدرك"(3/ 598).

ص: 382

الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سلمانُ منا أهلَ البيت» وهذا الحديث ضعيف جداً؛ لأن كثير بن عبد الله المزني قال عنه الدارقطني وغيره: (متروك)، وقال ابن عدي:(عامة ما يرويه لا يتابع عليه)، وقال الشافعي:(من أركان الكذب)، وسيأتي له ذكر في باب «الصلح» من كتاب «البيوع» إن شاء الله، وإنما ذكرت هذا الحديث ليعلم حاله.

مات بالمدينة في اخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين على قول الأكثرين

(1)

، رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب «الطهارة» ، باب «الاستطابة» (262) من طرق عن الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن خاله عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل لقد نهانا

الحديث.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (قيل له .. ) في رواية أخرى عند مسلم من طريق سفيان، عن الأعمش ومنصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال:(قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة .. ) فبين بذلك القائل وأنهم المشركون.

قوله: (حتى الخراءة) بكسر المعجمة وتخفيف الراء وبالمد اسم لهيئة الحدث؛ أي: أدب التخلي والقعود لقضاء الحاجة، وأما نفس الحدث وهو الخارج، فهو الخِراءُ: بحذف التاء وبالمد، مع فتح الخاء أو كسرها.

قوله: (فقال: أجل) هذا حرف جواب مثل (نعم) وهي لتصديق الخبر وتحقيق الطلب، تقول لمن قال:(قام زيد): أجل، ولمن قال:(اضرب زيداً): أجل، وعن الأخفش أنها تكون في الخبر والاستفهام، إلا أنها في الخبر أحسن من (نعم)، و (نعم) في الاستفهام أحسن منها، فإذا قال: أنت

(1)

"الاستيعاب"(4/ 221)، "السير"(1/ 505)، "الإصابة"(4/ 223).

ص: 383

سوف تَذهبُ، قلتَ: أجل، وكان أحسن من (نعم)، وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم، وكان أحسن من (أجل)

(1)

.

ومراد سلمان رضي الله عنه تصديق هذا الخبر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم علمنا كل ما نحتاج إليه في ديننا حتى الخراءة التي ذكرتَ أيها القائل، فإنه علمنا ادابه، فنهانا عن كذا وكذا، مما جاء في هذا الحديث وغيره.

قوله: (لقد نهانا) أُكدت الجملة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام الموطئة للقسم، و «قد» ؛ لأن المقام يستدعي التوكيد؛ لأنه يخاطب من يحتاج إلى توكيد الخبر.

قوله: (بغائط أو بول) هكذا في «بلوغ المرام» ، و «مختصر صحيح مسلم» للقرطبي والمنذري، وفي «صحيح مسلم»:(لغائط) باللام، وكذا في النسخة التي عليها شرح عياض والنووي، قال النووي:(كذا ضبطناه في مسلم: (لغائط) باللام، وروي في غيره:(بغائط)، وروي:(بالغائط) باللام والباء، وهما بمعنى

(2)

وتقدم معناه.

قوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) الاستنجاء: إزالة النجو: وهو العذرة

(3)

، وأكثر ما يستعمل في الاستنجاء بالماء، وقيل: يستعمل في الإزالة بالحجارة، وهو المراد هنا.

قوله: (برجيع) الرجيع: الروث والعذرة، فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه رجع عن حاله الأولى بعد أن كان طعاماً أو علفاً إلى غير ذلك، وكذلك كل فعل أو قول يُردّ فهو (رجيع) فعيل بمعنى مفعول

(4)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن استقبال القبلة حال الغائط أو البول، وسيأتي ذلك - إن شاء الله - في الحديث الآتي.

(1)

"الجنى الداني" ص (359).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(3/ 155).

(3)

"الصحاح"(6/ 2502).

(4)

"غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 242).

ص: 384

الوجه الخامس: الحديث دليل على النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى، وتقدم ذلك في الحديث الذي قبله.

الوجه السادس: الحديث دليل على النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار؛ لأن الأقل من ثلاثة أحجار لا ينقي في الغالب، إلا إن أراد أن يتبع الحجارة بالماء، فيجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار؛ لأن الماء وحده كاف، كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه؛ والأخذ بظاهر الحديث أقوى؛ وهو أنه لا ينقص عن ثلاثة أحجار حتى ولو أراد أن يتبع ذلك بالماء، فإن الإنسان قد ينسى فيتوضأ ولا يستنجي بالماء، وربما يعرق ويتلوث بعرقه سراويله وما حول المخرج، فإن لم يحصل الإنقاء بالثلاث زاد حتى يحصل، والكمال أن يقطع ذلك على وتر، فإذا أنقى بأربع زاد مسحة خامسة، وهكذا، ليكون منتهاه على الوتر، كما هو الشأن في كثير من الأمور الشرعية أن تنتهي على وتر، وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه «ومن استجمر فليوتر»

(1)

وظاهره الوجوب، لكن جاء في رواية أخرى:«ومن استجمر فليوتر، فمن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»

(2)

، قال الحافظ:(وهي زيادة حسنة الإسناد، وبها يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب)

(3)

وكذا حسنها النووي

(4)

، لكن في «التلخيص»

(5)

ما يدل على تضعيف هذه الزيادة، والنفس تميل إلى ذلك.

الوجه السابع: اختلف العلماء: هل تتعين الأحجار في الاستنجاء فلا يجزئ غيرها أم لا؟ قولان:

الأول: أنه لا تتعين الأحجار، بل يجزئ كل ما قام مقامها في الإنقاء، من الخرق، أو الأخشاب، أو المناديل الورقية، ونحو ذلك؛ لأن الغرض

(1)

أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278).

(2)

أخرجه أبو داود (35)، وابن ماجه (337)، وأحمد (14/ 432).

(3)

"فتح الباري"(1/ 257).

(4)

"المجموع"(2/ 55).

(5)

(1/ 113).

ص: 385

التطهير، وليس نوعاً بعينه، وإنما نص الشرع على الأحجار لأنها أيسر وأسهل، وهذا قول الجمهور من أهل العلم.

قالوا: ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والرجيع فلو كان الحجر متعيناً لنهى عما سواه مطلقاً، فلما خُصّ النهي بالعظام والرجيع دل على أن ما سوى ذلك من المباحات يجوز الاستنجاء به.

والقول الثاني: أنه تتعين الأحجار في الاستنجاء، ونسبه النووي

(1)

لبعض الظاهرية، أخذاً بظاهر الحديث حيث نص على الأحجار، والأول أرجح؛ لقوة مأخذه.

الوجه الثامن: ذهب الجمهور إلى أن المراد بالأحجار الثلاثة، ثلاث مسحات، قالوا: فلا يلزم ثلاثة أحجار، فلو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف فمسح بكل حرف مسحة أجزأه؛ لأن المراد المسحات، والأحجار الثلاثة أفضل من حجر واحد.

والقول الثاني: أنه لا بد من ثلاثة أحجار، أخذاً بظاهر الحديث، وهو قول ابن حزم

(2)

ورواية عن أحمد

(3)

، والصحيح من المذهب هو الأول.

والأول أظهر؛ لأن العلة معلومة، وهي قصد الإنقاء وتطهير المحل، فإذا كان الحجر له ثلاث شعب غير متداخلة واستجمر بكل جهة منه صح.

الوجه التاسع: الحديث دليل على النهي عن الاستنجاء بالعظم والرجيع، وذلك أن العظم إذا كان من حيوان مذكى فهو طعام الجن، لما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة ليلة الجن، وفيه: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القران» ، قال: فانطلقَ بنا فأرانا اثارهم واثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال:«لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم» ، فقال

(1)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 159).

(2)

"المحلى"(1/ 95).

(3)

"الإنصاف"(1/ 112).

ص: 386

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»

(1)

.

وإن كان العظم عظم ميتة فهو نجس فلا يكون مطهِّراً، وكذا الروث، فإن كان طاهراً فهو علف لدوابهم، وإن كان نجساً فليس بمطهر، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (450).

ص: 387

بيان‌

‌ حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة

97/ 12 - وَلِلسّبْعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبي أَيّوبَ رضي الله عنه: «لَا تَسْتَقْبِلوا الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوها بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو أيوب، خالد بن زيد الأنصاري النجاري، غلبت عليه كنيته، شهد العقبة، ونزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة حتى بنى مسجده وبيوته، واخى بينه وبين مصعب بن عمير، شهد غزوة بدر وما بعدها، وشهد الفتوحات، ولازم الغزو فلم يتخلف عن غزوة إلا وهو في أخرى، حتى توفي في غزوة القسطنطينية من بلاد الروم، زمن معاوية، سنة اثنتين وخمسين

(1)

، رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» ، باب «لا تُستقبل القبلة بغائط ولا بول إلا عند البناء: جدارٍ أو نحوه» (140) وأخرجه من طريق أخرى في «الصلاة» (394) باب «قبلة أهل المدينة وأهل الشام» ، ومسلم (264)، وأبو داود (9)، والترمذي (8)، والنسائي (1/ 22) وابن ماجه (318)، وأحمد (38/ 506، 518، 551) كلهم من طريق الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» ، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت

(1)

"الإصابة"(3/ 56).

ص: 388

نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل. هذا لفظ البخاري.

وقد رواه عن الزهري جماعة: ابن أبي ذئب، كما عند البخاري، وسفيان بن عيينة، عند البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، ويونس بن يزيد عند ابن ماجه، ومعمر بن راشد عند أحمد.

ولفظ الكتاب هو لفظ أبي داود، وليس فيه قوله:«ولا تستدبروها» وفي نسخ أخرى من «البلوغ» أثبتت هذه الجملة، وقوله:(وللسبعة من حديث أبي أيوب .. ) لو قال: مرفوعاً لكان أحسن، ولكن اختصر ذلك، أو أنه ساقط من نسخ البلوغ، والله أعلم.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا أتيتم الغائط) المراد به هنا: المكان المنخفض من الأرض الذي كانوا يقصدونه قبل بناء المراحيض لقضاء الحاجة، وتقدم.

قوله: (فلا تستقبلوا القبلة) المراد: الكعبة أو جهتها.

قوله: (بغائط) المراد به هنا: الخارج المستقذر من الدبر.

قوله: (ولكن شرقوا أو غربوا) أي: استقبلوا جهة الشرق أو الغرب؛ والخطاب في ذلك لأهل المدينة ونحوهم ممن إذا شرق أو غرب انحرف عن القبلة؛ لأن قبلتهم إلى الجنوب، فإذا شرّقوا أو غرّبوا صارت عن يمينهم أو شمالهم.

قوله: (فقدمنا الشام) أي: بعد فتحها، وهو منصوب على نزع الخافض، أي: إلى الشام.

قوله: (مراحيض) جمع مرحاض، وهو المغتسل، والمراد هنا: موضع التخلي، قال في «المصباح المنير»:(رَحَضْتُ الثوب رحضاً: غسلته، والمرحاض: بكسر الميم موضع الرحض، ثم كُنِّي به عن المستراح؛ لأنه موضع غسل النجو)

(1)

.

قوله: (فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل أي: نميل عن جهة المرحاض

(1)

ص (222).

ص: 389

التي هي نحو الكعبة، والاستغفار هنا: إما لأنهم لم يحولوها إلى ناحية غير القبلة، أو لأن انحرافهم لا يحصل به تمام الانحراف عن القبلة لصعوبة ذلك حيث كان اتجاه المراحيض إليها.

الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها حال البول أو الغائط، وهذا النهي للتحريم عند جمهور العلماء، وقد اختلف في هذه المسألة على أقوال أهمها:

القول الأول: تعميم النهي، وبه قال جماعة من أهل العلم، فقالوا: يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء والبنيان، وهو المشهور من مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز

(1)

، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، واختاره ابن العربي، وابن حزم ورجحه، الشوكاني، والمباركفوري شارح «جامع الترمذي» ، والشيخ محمد بن إبراهيم

(2)

، ودليلهم حديث أبي أيوب وما في معناه، فإنه نص صريح في النهي عن الاستقبال والاستدبار، ولأنه فعل الراوي.

القول الثاني: لمالك والشافعي وجماعة من أهل العلم منهم: البخاري، أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء، ويجوز في البنيان، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهي المذهب

(3)

، ورجحه الصنعاني

(4)

.

واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، مستقبل الشام، مستدبر الكعبة)، وفي رواية:(مستقبلاً بيت المقدس)

(5)

.

(1)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 341)، "تصحيح الفروع"(1/ 111)، "الإنصاف"(1/ 101).

(2)

"الاختيارات" ص (8)، "إعلام الموقعين"(2/ 202)(4/ 280)، "تهذيب مختصر السنن"(1/ 22)، "عارضة الأحوذي"(1/ 27)، "المحلى"(1/ 189 - 190)، "نيل الأوطار"(1/ 98)، "تحفة الأحوذي"(1/ 58)، "فتاوى ابن إبراهيم"(2/ 35).

(3)

"حاشية الدسوقي"(1/ 108)، "المجموع"(1/ 92)، "الإنصاف"(1/ 100).

(4)

"سبل السلام"(1/ 137).

(5)

أخرجه البخاري (148)، ومسلم (266)، (62).

ص: 390

وكان الأولى بالمصنف أن يذكر هذا الحديث بعد حديث أبي أيوب، كما فعل ابن دقيق العيد في «الإلمام» ، والمقدسي في «العمدة» ، لِيُعرف الاستدلال به لمن قال بمضمونه، وجواب المخالف عنه.

قالوا: وهذا دليل على جوازه في البنيان؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر أقواله ويبين مراده، فإذا نهى عن شيء ثم فعله دل على أن النهي ليس للتحريم، بل للكراهة، وإذا أمر بشيء ثم تركه دل على أن الأمر ليس للوجوب، بل للاستحباب.

وحديث ابن عمر هذا ليس فيه إلا الاستدبار فقط، فإلحاق الاستقبال به إما بطريق القياس، أو لحديث جابر رضي الله عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة)

(1)

.

وأجاب الأولون عن حديث ابن عمر بأنه فعل، وفعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الذي هو خطاب لعموم الأمة؛ لأن الفعل له عدة احتمالات فلا يَرُدّ صريح النهي:

1 -

فيحتمل أنه قبل النهي، فالنهي يرجح عليه؛ لأنه ناقل عن الأصل، وهو الجواز.

2 -

ويحتمل أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به غيره.

إلى غير ذلك من الاحتمالات التي ذكر ابن القيم، وهي ستة

(2)

، وبعضها

(1)

أخرجه أبو داود (13)، والترمذي (9) وابن ماجه (325) وأحمد (23/ 157) من طريق ابن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر رضي الله عنه، وهذا إسناد حسن من أجل ابن إسحاق، حسنه الترمذي، والنووي في "شرحه على صحيح مسلم"(3/ 157)، ونقل ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير"(1/ 44) أن البخاري صححه، وقال الترمذي في "العلل" (1/ 86 - 87):(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق) قال ابن القيم: (إن كان مراد البخاري صحته عن ابن إسحاق لم يدل على صحته في نفسه، وإن كان مراده صحته في نفسه فهي واقعة عين حكمها حكم حديث ابن عمر). "زاد المعاد"(2/ 385).

(2)

"زاد المعاد"(2/ 386).

ص: 391

ضعيف، كقولهم: إنه قبل النهي، فإن هذا مجرد احتمال، فلا يكفي، إذ لا دليل عليه، وأما دعوى الخصوصية فمردودة؛ لأن الأصل التأسي به صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لم يقم دليل على الخصوصية، لكن الدليل إذا طرقه الاحتمال ضَعُفَ، إذ لا سبيل للجزم بواحد منها، فلا تترك الأحاديث الصحيحة الصريحة لمثل ذلك.

وقالوا عن حديث جابر: إن فيه ابن إسحاق، وهو وإن كان لا بأس به ولكنه ليس بمنزلة من روى أحاديث النهي مطلقاً، وهي أحاديث في الصحيحين، كحديث أبي أيوب الذي أخرجه السبعة، ثم إن هذا الحديث حكاية فعل فلا عموم لها، ويحتمل أن ذلك لعذر، وليس فيه دلالة على أنه في البنيان، فكيف يقدم على النصوص الصحيحة الصريحة في المنع؟.

والذي يظهر لي - والله أعلم - هو القول الأول، ووجه الترجيح أمران:

الأول: أن النهي ورد بصريح القول، وهو خطاب لجميع الأمة، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم في حق أمته، لا مطلقاً ولا من وجه، وقد رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم، كأبي أيوب في الصحيحين، وسلمان الفارسي وأبي هريرة عند مسلم وغيرهم، والمعارض لها إما معلول السند وإما ضعيف الدلالة.

الثاني: أن علة النهي تعظيم واحترام القبلة، وهذا معنى مناسب ورد النهي على وفقه فيكون علة له، ولا فرق في ذلك بين الصحراء والبنيان، ولو كان الحائل كافياً في جوازه في البنيان لكان في الصحراء من الجبال والأودية ما هو أكفى.

قال الشوكاني: (الإنصاف: الحكم بالمنع مطلقاً، والجزم بالتحريم حتى ينتهض دليل يصلح للنسخ أو التخصيص أو المعارضة، ولم نقف على شيء من ذلك)

(1)

.

الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز استقبال الشمس أو القمر حال البول أو الغائط، ووجه الدلالة من وجهين:

(1)

"نيل الأوطار"(1/ 96).

ص: 392

الأول: أنه نهاهم عن استقبال القبلة واستدبارها، ولم ينههم عن استقبال غيرهما من الجهات.

الثاني: أن قوله: «شَرِّقوا أو غَرِّبوا» عام في كل وقت، فإذا شرق وقت طلوعهما استقبلهما، وإذا غرب عند ميلانهما للغروب استقبلهما.

وأما ما جاء في كتب الفقه من كراهة استقبالهما لما فيهما من نور الله تعالى، فهو غير صحيح لأمرين:

الأول: أن النور الذي في الشمس والقمر ليس نور الله تعالى الذي هو صفته، بل هو نور مخلوق.

الثاني: أن هذا النور ليس خاصاً بهما، بل هو في سائر الكواكب، فيلزم منه كراهة استقبال النجوم، ولا قائل به، والله أعلم.

الوجه السادس: الحديث دليل على تعظيم الكعبة واحترامها؛ لأنها بيت الله عز وجل، أضافها إلى نفسه، فقال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، ولها مكانة عظمى في قلوب المسلمين، وقد أوجب الله تعالى استقبالها في الصلاة التي هي أكمل حالات العبد، إذ هي صلة بين العبد وربه، ونزهها أن تكون قبلة لهم حال بولهم أو غائطهم، أو تكون خلفهم تعظيماً لها واحتراماً، والله تعالى أعلم.

ص: 393

‌وجوب الاستتار عند قضاء الحاجة

98/ 13 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَتى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود (35) في «الطهارة» ، باب «الاستتار في الخلاء» من طريق ثور بن يزيد، عن الحصين الحُبْراني

(1)

، عن أبي سعيد الحبراني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «

ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج». قال أبو داود: (رواه أبو عاصم عن ثور قال: «حصين الحميري» ورواه عبد الملك بن الصباح، عن ثور فقال:«أبو سعيد الخير» قال أبو داود: أبو سعيد الخير هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يتبين أن نسبته إلى عائشة وهم من الحافظ، وإنما هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

.

وهذا إسناد ضعيف، لأنه من رواية حصين الحبراني، قال الذهبي:(حصين الحميري الحبراني، لا يعرف في زمن التابعين، خَرَّجَ له أبو داود وابن ماجه)

(3)

، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(4)

، وقال أبو زرعة:

(1)

بضم الحاء نسبة إلى حُبران بضم فسكون، بطن من حمير.

(2)

انظر: "التلخيص"(1/ 113).

(3)

"الميزان"(1/ 555).

(4)

"الثقات"(6/ 211).

ص: 394

(شيخ)

(1)

، وقال في «التقريب»:(مجهول).

وأبو سعيد الحُبراني، مختلف فيه، فقيل: إنه صحابي، ولا يصح، وهو مجهول، وثقه ابن حبان

(2)

.

والمصنف لم يذكر ضعفه كعادته؛ لأنه حسنه «في الفتح»

(3)

، كما تقدم عند حديث سلمان رضي الله عنه، ونقل ابن الملقن تصحيحه عن ابن حبان والحاكم

(4)

.

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الاستتار عن أعين الناس عند قضاء الحاجة مطلوب، وقد مضى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة أبعد، وذلك لقصد الستر، وإلا فهما أمران متغايران؛ أعني الاستتار وطلب التفرد، لكن أحدهما يؤكد الآخر.

والحديث وإن كان ضعيفاً لكن معناه صحيح، وعمومات الشريعة تدل على أن ذلك مطلوب، وفيه تأسٍّ بالنبي صلى الله عليه وسلم.

والاستتار يحصل إما بجدار أو بكثيب من رمل أو نحو ذلك مما يجعله خلفه، لئلا يراه أحد.

ومن الاستتار ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة تنحى، ولا يرفع ثيابه حتى يدنو من الأرض)

(5)

.

وفي حديث بهز بن حكيم قال: حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: يا

(1)

"الجرح والتعديل"(3/ 199 - 200)، ومعنى:(شيخ): أي ليس بحجة، فيكتب حديثه ويصلح في المتابعات، وتقدم ذلك.

(2)

"الثقات"(5/ 568).

(3)

"فتح الباري"(1/ 257).

(4)

"خلاصة البدر المنير"(1/ 43).

(5)

أخرجه أبو داود (14)، ومن طريقه البيهقي (1/ 96) من طريق الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر مرفوعًا، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الرجل، واختلف على الأعمش فرواه عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس بنحوه .. أخرجه أبو داود (14) والترمذي (14) قال أبو داود: وهو ضعيف، وقال البخاري عنهما:(كلاهما مرسل)، انظر:"علل الترمذي"(1/ 95). وقد أورد الألباني هذا الحديث في "الصحيحة"(3/ 60).

ص: 395

رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك» قال: قلت: يا رسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال:«إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينّها» قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: «فالله أحق أن يُستحيا منه»

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أبو داود (4017)، والترمذي (2794)، وابن ماجه (1920)، وأحمد (33/ 235)، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن).

ص: 396

‌ما يقال عند الخروج من الخلاء

99/ 14 - وَعَنْهَا أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا خَرَجَ مِنَ الْغائِطِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» . أَخْرَجَهُ الْخَمسةُ. وَصَحّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَالحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الخمسة وهم: أبو داود (30) في كتاب «الطهارة» ، والترمذي (7)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة)(79) وهو ضمن «السنن الكبرى» له (6/ 24)، وابن ماجه (300)، وأحمد (42/ 124)، وأخرجه - أيضاً - ابن حبان (4/ 291)، والحاكم (1/ 185) كلهم من طريق إسرائيل بن يونس، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، حدثتني عائشة رضي الله عنها به.

وهذا إسناد حسن، يوسف بن أبي بردة، وثقه العجلي

(1)

والحاكم، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(2)

، وقال الذهبي في «الكاشف»:(ثقة)، وقال الحافظ في «التقريب»:(مقبول)، قال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة)، قال الشيخ أحمد شاكر:(وغرابته لانفراد إسرائيل به، وإسرائيل ثقة حجة)

(3)

، وقد صححه أبو حاتم الرازي والحاكم، كما ذكر الحافظ.

قال الحاكم (1/ 262): (هذا حديث صحيح، فإن يوسف بن أبي بردة من ثقات ال أبي موسى، ولم نجد أحداً طعن فيه، وقد ذكر سماع أبيه من

(1)

"تاريخ الثقات" ص (485).

(2)

"الثقات"(7/ 638).

(3)

"جامع الترمذي"(1/ 12).

ص: 397

عائشة رضي الله عنها

(1)

.

وأما تصحيح أبي حاتم فقد نقله ابنه فقال: سمعت أبي يقول: (أصح حديث في هذا الباب - يعني في باب الدعاء عند الخروج من الخلاء - حديث عائشة

)

(2)

، وممن صححه النووي

(3)

، والحافظ ابن حجر

(4)

، والألباني

(5)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (غُفرانك) أي: أسألك غفرانك، فهو منصوب بفعل محذوف، كما قال تعالى:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]، أي: أعطنا وامنحنا غفرانك، والمغفرة هي ستر الذنوب والتجاوز عنها.

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب قوله: «غفرانك» بعد قضاء حاجته وخروجه من المكان، فإن كان في بناء قاله إذا خرج، وإن كان في الصحراء قاله إذا فارق المكان الذي قضى فيه حاجته، ووجه الاستحباب أن هذا فعل مجرد لقصد القربة، فهو للاستحباب، على أظهر الأقوال كما في علم الأصول.

ومناسبة هذا الدعاء أن الإنسان لما خف جسمه بعد قضاء الحاجة، وارتاح من الأذى، تذكر ثقل الذنوب وعواقبها فدعا ربه أن يخفف عنه أذية الإثم، كما منّ عليه بتخفيف أذية الجسم، فالنجو يُثقل البدن ويؤذيه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه، وهذا معنى مناسب من باب تذكّر الشيء بالشيء، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن القيم

(6)

.

وقال البغوي: (كأنه رأى تركه ذِكْرَ الله تعالى زمان لبثه على الخلاء تقصيراً منه فتداركه بالاستغفار)

(7)

، وقد سبقه إلى ذلك الخطابي

(8)

، وعنه

(1)

"المستدرك"(1/ 262).

(2)

"العلل"(1/ 43).

(3)

"الأذكار" ص (28)، "المجموع"(2/ 75).

(4)

"نتائج الأفكار"(1/ 214).

(5)

"إرواء الغليل"(1/ 91).

(6)

"إغاثة اللهفان"(1/ 74).

(7)

"شرح السنة"(1/ 379).

(8)

"معالم السنن"(1/ 32).

ص: 398

نقله النووي

(1)

.

والأول أظهر، وأما الثاني ففيه نظر؛ لأنه انحبس عن ذكر الله في هذا الموطن بأمر الله، وإذا كان كذلك فإنه لا يقال عنه: إنه غافل عن الذكر، بل هو ممتثل متعبد لله تعالى، كالحائض لا تصلي ولا تصوم، ولا يسن لها إذا طهرت أن تستغفر الله تعالى من تركها ذلك.

الوجه الرابع: ورد في هذا الموضع أحاديث يذكرها الفقهاء، لكنها ضعيفة، ولذا قال أبو حاتم:(أصح ما فيه حديث عائشة) كما تقدم.

ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني»

(2)

، وفي الأحاديث الصحيحة غُنية عن الضعيفة، والله تعالى أعلم.

(1)

"المجموع"(2/ 76).

(2)

أخرجه ابن ماجه (301) وإسناده ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن موسى البصري ثم المكي. قال فيه أبو زرعة: (بصري ضعيف)، وقال أحمد:(منكر الحديث)، وعن علي بن المديني:(لا يكتب حديثه)، ذكر ذلك الذهبي في "الميزان"(1/ 248)، وقال البوصيري في "الزوائد" (1/ 92):(متفق على تضعيفه).

ص: 399

‌وجوب الاستنجاء بثلاثة أحجار

100/ 15 - وَعنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ اتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالثاً، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ، فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ:«هَذَا رِكْسٌ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، زَادَ أَحْمَدُ، والدّارَقُطْني:«ائْتِني بِغَيْرِهَا» .

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي رضي الله عنه، كان سادس رجل في الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام:«إنك غلام معلَّم»

(1)

، وروى البخاري عنه أنه قال: (والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة

)

(2)

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحبّ أن يقرأ القران غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد

(3)

»

(4)

.

وكان ممن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سواكه ونعليه ووساده، قال حذيفة رضي الله عنه: (ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلًّا

(5)

بالنبي صلى الله عليه وسلم من

(1)

أخرجه أحمد (6/ 82، 83) وإسناده حسن.

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 46).

(3)

كانت أمه تكنى بذلك.

(4)

أخرجه أحمد (7/ 287)، وابن ماجه (138) وإسناده حسن؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث، كما تقدم، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.

(5)

سمتًا: أي: خشوعًا، وهديًا: طريقة، ودلًّا: أي: سيرة وحالة وهيئة.

ص: 400

ابن أم عبد)

(1)

.

تولى القضاء وبيت المال في الكوفة على عهد عمر رضي الله عنه وصدراً من خلافة عثمان رضي الله عنه، ثم دعاه إلى المدينة، ومات فيها سنة اثنتين وثلاثين

(2)

رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب «الوضوء» ، باب «لا يُستنجى بروث» (156) من طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ذكر عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول

وذكر الحديث.

ثم قال البخاري: (وقال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن

)، وإبراهيم هذا هو ابن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، روى عن أبيه وجدِّه أبي إسحاق، قال عنه في «التقريب»:(صدوق يهم).

وقد رواه عن زهير جمع منهم: يحيى القطان وأحمد بن يونس ويحيى ابن ادم وأبو نعيم والحسن بن موسى وغيرهم.

قال الحافظ: (وإنما عدل أبو إسحاق عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى، لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة، بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة)

(3)

.

وغرض البخاري من قوله: (وقال إبراهيم .. ) الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر، فقد ذكر الحاكم أن أبا إسحاق الشاذكوني قال: (ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان، ولم يقل: حدثني، فجاز

(1)

أخرجه البخاري (7/ 102 فتح).

(2)

"الإصابة"(6/ 214).

(3)

"فتح الباري"(1/ 257).

ص: 401

الحديث وسار)

(1)

.

وقد ذكر الترمذي أن هذا الحديث فيه اضطراب، وكذا الدارقطني

(2)

؛ لأن أبا إسحاق السبيعي روى الحديث على أوجه متعددة، وقد ذكرها الدارقطني، ورجح رواية زهير عن أبي إسحاق، وهي التي أخرجها البخاري، ثم قال:(وفي النفس منه شيء؛ لكثرة الاختلاف على أبي إسحاق، والله أعلم)

(3)

. أما الترمذي فقد رجح رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، وضعّف رواية زهير المذكورة؛ لأن سماع زهير من أبي إسحاق كان بأخَرة، وإسحاق قد اختلط.

والصواب مع البخاري، فإنه على فرض أن زهيراً سمع من أبي إسحاق بأخَرة فإنه قد توبع، كما قال الحافظ

(4)

، تابعه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، قال ابن عيينة:(لم يكن في ولد أبي إسحاق أحفظ منه).

وإسرائيل - أيضاً - قد سمع من أبي إسحاق بأخرة، كما قال الإمام أحمد

(5)

، وقد ذكر أبو داود كما في «سؤالات الآجري»: أن زهيراً فوق إسرائيل بكثير

(6)

.

وقد نفى الحافظ في «المقدمة» هذا الاضطراب؛ لثبوت ترجيح رواية زهير عن أبي إسحاق على رواية إسرائيل عن أبي إسحاق، وهما أرجح الروايات كلها.

وأخرجه أحمد من طريق أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس، عن ابن مسعود، ولفظه:(فألقى الروثة وقال: إنها ركس ائتني بحجر)

(7)

وهذه الزيادة صحيحة إن ثبت سماع أبي إسحاق من علقمة، قال أبو حاتم وأبو زرعة:(أبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئاً)

(8)

، ونقل الحافظ عن

(1)

"معرفة علوم الحديث" ص (109).

(2)

"الإلزامات والتتبع" ص (227).

(3)

"المصدر السابق".

(4)

"هدي الساري"(349).

(5)

"تهذيب التهذيب"(1/ 229).

(6)

انظر: "الميزان"(2/ 86).

(7)

"المسند"(7/ 326).

(8)

"المراسيل" ص (145).

ص: 402

الكرابيسي أنه أثبت سماع أبي إسحاق هذا الحديث من علقمة

(1)

.

وأخرجه الدارقطني بهذا الإسناد بلفظ: «ائتني بغيرها»

(2)

، وسيأتي - إن شاء الله - بيان غرض الحافظ من إيراد هذه الزيادة.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أتى الغائط) أي: ذهب إلى الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة.

قوله: (فأتيته بروثة) بفتح الراء وسكون الواو، هي فضلة ذات الحافر، وعند ابن خزيمة (فوجدت له حجرين وروثة حمار .. )

(3)

.

قوله: (إنها ركس) بكسر الراء وسكون الكاف، وعند ابن ماجه وابن خزيمة:«هي رجس» ، قال أبو عبيد:(هو شبيه المعنى بالرجيع)

(4)

، أي: لأنه رجع من حالة الطعام إلى حالة الروث، وقال الفيومي:(الركس بالكسر هو: الرجس، وكل مستقذر «ركس»)

(5)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الاستنجاء لا يكون بأقل من ثلاثة أحجار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طلب من ابن مسعود رضي الله عنه أن يأتيه بثلاثة أحجار، وقد تقدم في حديث سلمان رضي الله عنه عند مسلم:(نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزي عنه»

(6)

.

ومعنى: (فليستطب) أي فليستنجِ، يقال: استطاب الرجل: إذا استنجى.

وهذا قول الشافعية والحنابلة

(7)

، واختاره ابن حزم، ونقله ابن عبد البر عن أكثر المدنيين من أصحاب مالك

(8)

.

(1)

"فتح الباري"(1/ 257).

(2)

"السنن"(1/ 55).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(1/ 39).

(4)

"غريب الحديث"(1/ 166).

(5)

"المصباح المنير" ص (237).

(6)

أخرجه أبو داود (40)، والنسائي (44)، وأحمد (41/ 288)، والدارقطني (1/ 54) وقال:(إسناده صحيح).

(7)

"المجموع"(2/ 120)، "المغني"(1/ 209).

(8)

"المحلى"(1/ 108)، "الكافي"(1/ 32).

ص: 403

وذهبت الحنفية والمالكية إلى أنه يجزئ حجران، ولا يلزم الثالث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بحجرين لما ألقى الروثة، ولم يطلب من عبد الله أن يأتيه بثالث بدلها

(1)

.

والقول الأول أرجح؛ لأن إزالة النجاسة وإن كانت معقولة المعنى؛ وهو أن الغرض الإنقاء؛ لكن تحديد الشرع هذه الإزالة في حالة الاستجمار بثلاثة أحجار أمر يجب اعتباره، وتركه فيه مخالفة الشارع الحكيم، وهذا أمر ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، والقول صريح في ذلك، كحديث سلمان رضي الله عنه وغيره مما تقدم.

وأما توجيه أصحاب القول الثاني فيجاب عنه من ثلاثة أوجه:

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الحجر الثالث، كما تقدم في رواية أحمد والدارقطني التي ذكر الحافظ، وكأن غرضه من إيرادها الرد على الطحاوي وإثبات الحجر الثالث، وقد ذكر الحافظ أنه على تقدير عدم سماع أبي إسحاق من علقمة فهو مرسل؛ والمرسل حجة عند المخالفين - يريد الطحاوي ومن هو على مذهب أبي حنيفة - وعندنا - أيضاً - إذا اعتضد

(2)

.

الوجه الثاني: أنه لا يلزم أن يأمر ابن مسعود رضي الله عنه أمراً جديداً، بل اكتفى صلى الله عليه وسلم بالأمر الأول في طلب الثلاثة، وحين ألقى الروثة علم ابن مسعود أنه لم يتمّ امتثاله الأمر حتى يأتي بحجر ثالث.

الوجه الثالث: أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثالثاً بنفسه من دون طلب، أو استنجى بحجر وطرفي حجر اخر، وبالاحتمال لا يتم الاستدلال للطحاوي، ولا لمن دافع عنه، وهو العيني

(3)

عفا الله عن الجميع، وجزاهم خيراً، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح معاني الآثار"(1/ 122)، "المنتقى"(1/ 68)، "التمهيد"(11/ 17).

(2)

"فتح الباري"(1/ 257).

(3)

"عمدة القارئ"(2/ 293).

ص: 404

بيان‌

‌ ما لا يُستنجى به

101/ 16 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ، أَوْ رَوْثٍ، وَقَالَ:«إِنّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» . رَوَاه الدّارَقُطْنِيُّ وَصَحّحَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن عدي (3/ 332)، والدارقطني (1/ 56) من طريق سلمة ابن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.

وقال الدارقطني: (إسناده صحيح)، وذكره ابن دقيق العيد في «الإلمام»

(1)

، ونقل الحافظ تصحيح الدارقطني

(2)

.

وسلمة بن رجاء التميمي الكوفي مختلف فيه، فقال فيه ابن معين:(ليس بشيء)، وقال النسائي:(ضعيف)، وقال أبو زرعة:(صدوق)، وقال أبو حاتم:(ما بحديثه بأس)

(3)

، وقال ابن عدي:(أحاديثه أفراد وغرائب، حدث بأحاديث لا يتابع عليها)

(4)

، وذكر الحافظ في «المقدمة»: أن له حديثاً واحداً في البخاري في «الفضائل»

(5)

.

والظاهر أنه لا بأس به، فإنه في هذا الحديث وافق غيره، كما في حديث سلمان المتقدم وغيره من الأحاديث التي ذكر فيها النهي عن الاستنجاء

(1)

ص (99).

(2)

"فتح الباري"(1/ 256).

(3)

"تهذيب التهذيب"(4/ 127).

(4)

"الكامل"(3/ 332).

(5)

"هدي الساري" ص (407).

ص: 405

بالعظم والروث، والحسن بن فرات قال عنه الحافظ:(صدوق يهم)، وقد ذكر الدارقطني في «العلل» (8/ 239) أنه وهم في هذا الحديث بزيادة (إنهما لا يطهران) وقد روى الدارقطني هذا الحديث من طريق نصر بن حماد، ثنا شعبة، عن فرات، عن أبي حازم به، بدونها. ونصر بن حماد ضعيف.

الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث، وقد علل لذلك بأنهما لا يطهران، مع أن الدارقطني قد حكم بزيادتها، وقد تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه التعليل بأنهما طعام الجن، وتقدم تعليل الروثة - أيضاً - بأنها ركس.

والتعليل بعدم التطهير في الروثة عائد إلى كونها ركساً، وأما في العظم فلأنه لزج لا يكاد يتماسك، فلا ينشف النجاسة ولا يقطع البِلَّةَ، ومثل ذلك الزجاج الأملس.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الاستنجاء بالأحجار يطهر طهارة لا يلزم معها الماء، وليس مزيلاً فقط؛ لأنه علل بأن العظم والروث لا يطهران؛ فدل على أن الحجارة وما في معناها يطهر، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، ويؤيد ذلك حديث ابن مسعود المتقدم، فإنه صلى الله عليه وسلم طلب أحجاراً ولم يطلب ماء، وكذا حديث سلمان المتقدم، وشرط ذلك الإنقاء، فإذا أنقى المحل بثلاثة أحجار فأكثر أجزأ، ولا يلزم الاستنجاء بالماء، فإن ضم إليه الماء من باب الطهارة والنظافة فهو أكمل.

وكذا لو تعدى الخارج موضع العادة بيسير بحيث لا يمكن التحرز منه، فإنه يجزئ الاستجمار.

لكن إن انتشر بحيث يخرج عما جرت العادة به، بأن انتشر الخارج على شيء من الصفحة أو يمتد إلى الحشفة امتداداً غير معتاد، ففي إجزاء الاستجمار، قولان:

الأول: أنه لا بد من غسله بالماء وعدم الاكتفاء بالاستجمار، وهو قول

ص: 406

الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة

(1)

؛ لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله؛ لتكرر النجاسة فيه، فما لا تتكرر النجاسة فيه لا يجزئ فيه إلا الغسل، أشبه الساق والفخذ، وقد أخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال:(إنهم كانوا يبعرون بعراً، وأنتم تَثْلِطُونَ ثلطاً فأتبعوا الحجارة الماء)

(2)

، لكن عند الحنفية لا يلزم الماء، بل يجزئ أيُّ مائع طاهر مزيل.

والقول الثاني: أنه يجزئ الاستجمار في الصفحتين والحشفة، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لعموم الأدلة بجواز الاستجمار، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك تقدير

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"حاشية ابن عابدين"(1/ 339)، "البحر الرائق"(1/ 419)، "حاشية الدسوقي"(1/ 112)، "المجموع"(2/ 142)، "الإنصاف"(1/ 105).

(2)

أخرجه البيهقي (1/ 106)، وذكره الزيلعى فى "نصب الراية"(1/ 219)، وقال عنه:"إنه جيد".

(3)

انظر: "الاختيارات" ص (90).

ص: 407

‌وجوب التنزه من البول وأنه من أسباب عذاب القبر

102/ 17 - عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ البَوْلِ، فَإنّ عَامّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» . رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ.

103/ 18 - ولِلْحَاكِمِ: «أَكْثرُ عَذَابِ الْقَبرِ مِنَ الْبَوْلِ» . وَهُوَ صَحِيحُ الإسْنَادِ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجهما:

أما الأول فقد أخرجه الدارقطني (1/ 128) من طريق محمد بن الصباح السمان، نا أزهر بن سعد السمان، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.

قال الدارقطني: (الصواب أنه مرسل).

وهذا السند رجاله ثقات غير محمد بن الصباح، فقد ترجمه الذهبي في «الميزان» فقال:(بصري، عن أزهر السمان، لا يعرف، وخبره منكر)

(1)

وكأنه يعني هذا الحديث

(2)

.

وأما الثاني فقد أخرجه أحمد (15/ 12)، والدارقطني (1/ 128)، والحاكم (1/ 183) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر عذاب القبر من البول» ولفظ أحمد: «في البول» .

(1)

"الميزان"(3/ 583).

(2)

انظر: "إرواء الغليل"(1/ 311).

ص: 408

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه، وله شاهد من حديث أبي يحيى القتات).

وسأل الترمذيُّ البخاريَّ عن هذا الحديث فقال: (صحيح)

(1)

.

وقال الدارقطني: (صحيح).

وسئل عنه فقال: (يرويه الأعمش واختلف عنه، فأسنده أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه فضيل فوقفه، ويشبه أن يكون الموقوف أصح)

(2)

، وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث فقال:(إن رفعه باطل)

(3)

، وقد نقل ذلك الحافظ في «التلخيص»

(4)

ولم يتعقبه بشيء، وهنا جزم بصحته، والله أعلم.

وله شاهد من طريق أبي يحيى القتات - كما ذكر الحاكم - عن مجاهد، عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا من البول»

(5)

.

الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب تنزه الإنسان من بوله، وذلك بغسله، وإزالة أثره من بدنه أو ثوبه أو مكان صلاته، وتحريم التساهل بذلك، وأن التساهل من أسباب عذاب القبر، بل إن أكثر عذاب القبر منه.

ومن ذلك أن يبول في محل دَمِثٍ حتى لا يطير عليه شيء من رشاش، أو يبول في الحمام في فتحة الغائط، وإذا أصابه شيء منه فليبادر إلى تطهير ما أصابه من ثوبه أو بدنه.

(1)

"العلل الكبير"(1/ 140).

(2)

"العلل" للدارقطني (8/ 208).

(3)

"علل الحديث"(1/ 366).

(4)

"التلخيص"(1/ 117).

(5)

أخرجه البزار (146)"مختصر زوائده"، والطبراني في "الكبير"(11/ 84)، والدارقطني (1/ 128)، والحاكم (1/ 293)، قال الدارقطني:(إسناده لا بأس به). وقال في "مجمع الزوائد"(1/ 207): (وفيه أبو يحيى القتات، وثقه يحيى بن معين في رواية، وضعفه الباقون)، وقد صححه الألباني في "صحيح الترغيب" رقم (150)، فالظاهر أن قول الدارقطني:(لا بأس به) أي: لشواهده المذكورة.

ص: 409

وقد جاء في ذلك - أيضاً - أحاديث كثيرة، ذكرها المنذري

(1)

ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة .. الحديث»

(2)

.

وقد أفاد هذا الحديث أن ترك التنزه من البول من كبائر الذنوب، وقد جاء في رواية للبخاري:«وما يعذبان في كبيرة، وإنه لكبير»

(3)

، وقد بوب عليه البخاري في كتاب «الوضوء» بقوله:(بابٌ من الكبائر أن لا يستتر من بوله)

(4)

، وذلك لأن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة بلا شك، وقد ذكر الذهبي في كتابه «الكبائر»: عدم التنزه من البول

(5)

، ومن بعده ابن حجر الهيثمي في كتابه «الزواجر»

(6)

، قال الخطابي (معناه: أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما أو يشق فعله لو أرادا أن يفعلاه وهو التنزه من البول وترك النميمة، ولم يرد أن المعصية في هاتين الخصلتين ليست بكبيرة في حق الدين وأن الذنب فيهما هين سهل)

(7)

، وقال المنذري:(ولخوف توهم مثل هذا استدرك، فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى إنه كبير»)

(8)

والله أعلم.

وهذا في بول بني ادم، وما شابهه من الأبوال النجسة، وأما من عممه في سائر الأبوال - كالخطابي

(9)

ـ فهو مردود، لقوله في رواية:(وكان لا يستتر من بوله) فتكون الألف واللام في قوله: (من البول) بدلاً من الضمير، أما بول المأكول كالإبل والغنم فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل

(10)

، ولم يأمرهم بغسل أوانيهم ولا ما أصابهم منها، فدل على طهارتها.

(1)

"الترغيب والترهيب"(1/ 138).

(2)

أخرجه البخاري (216)، ومسلم (292).

(3)

انظر: "فتح الباري"(10/ 472).

(4)

انظر: "فتح الباري"(1/ 317).

(5)

ص (104)"الكبيرة الحادية والثلاثون".

(6)

"الزواجر"(1/ 120).

(7)

"معالم السنن"(1/ 27).

(8)

"الترغيب والترهيب"(1/ 139).

(9)

"معالم السنن"(1/ 27).

(10)

أخرجه البخاري (233)، ومسلم (1671)(9).

ص: 410

الوجه الثالث: الحديث دليل على ثبوت عذاب القبر، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى عن ال فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، قال ابن كثير:(هذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور)

(1)

، وقد تواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في إثبات عذاب القبر، ومن ذلك الأحاديث التي مضت، نسأل الله تعالى أن يعيذنا من عذاب القبر. والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير ابن كثير"(7/ 136).

ص: 411

‌الاعتماد على الرجل اليسرى عند قضاء الحاجة

104/ 19 - عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: عَلّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَلَاءِ: أَنْ نَقْعُدَ عَلَى الْيُسْرَى، وَنَنْصِبَ الْيُمْنَى. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو سفيان، سراقة بن مالك بن جُعْشُم - بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة - المدلجي الكناني، كان ينزل قُدَيداً

(1)

، يُعَدّ في أهل المدينة، وقد روى البخاري قصته في إدراكه الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى ساخت رِجْلا فرسه في الأرض ثم إنه طلب منه الخلاص وأن لا يدل عليه ففعل، وكتب له أماناً

(2)

، أسلم يوم الفتح، ومات سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: مات بعد عثمان

(3)

رضي الله عنه.

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (1/ 18)، والطبراني في «الكبير» (7/ 160 - 161) والبيهقي في

(1)

قُديد: على وزن زُبير، قرية معروفة ضعيفة، تقع بين خُليص وعُسفان بقرب مكة. "المغانم المطابة" ص 334.

(2)

انظر: "فتح الباري"(7/ 238).

(3)

"الاستيعاب"(4/ 131)، "الإصابة"(4/ 127).

ص: 412

«السنن الكبرى» (1/ 96) من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن رجل من بني مدلج، عن أبيه قال:(قدم علينا سراقة بن جعشم فقال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى).

وهذا إسناد ضعيف، ذكره المصنف ليعلم حاله؛ لأن فيه رجُلين مبهمين وهما: المدلجي ووالده، ومحمد بن عبد الرحمن: مجهول، وليس لهذا الحديث طريق غير هذا.

ولفظ البيهقي كما تبين: (أن يعتمد) وكأن معناها: أن يتمايل على رجله اليسرى ويميل على جهتها، وأما لفظ الحافظ:(أن نقعد) فهو مشكل؛ لأن قضاء الحاجة ليس محل قعود على الرجل اليسرى وإلا لتلوث بالنجاسة.

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب نصب الرجل اليمنى، والتحامل على الرجل اليسرى أثناء قضاء الحاجة، وقد ذكر العلماء أن هذه الكيفية تُسَهِّلُ الخارج.

ولكن هذا الحديث ضعيف - كما تقدم - والضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، فإن ثبت من الناحية الطبية أن هذه الجِلْسة مفيدة صارت مطلوبة، لا من جهة أنها من السنة، ولكن من جهة أنها من المصلحة؛ لأن كل ما فيه مصلحة فإنه مأمور به، ما لم يشهد الشرع ببطلانها، والله تعالى أعلم.

ص: 413

‌استحباب نتر الذكر بعد البول

105/ 20 - عَنْ عِيسى بْنِ يَزْدَادَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرّاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عيسى بن يزداد؛ قيل: بباء موحدة، وراء مهملة، ودالين مهملتين بينهما ألف، وقيل: بمثناة تحتية، وزاي معجمة، وبقيته كالأول، وقيل: ازداد؛ الفارسي اليماني، روى عن أبيه، وروى عنه زكريا بن إسحاق، قال البخاري:(لا يصح حديثه)، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

.

وأما أبوه، فقال أبو حاتم:(لا صحبة له، وحديثه مرسل)

(2)

، وقال ابن حبان:(يقال: إن له صحبة)

(3)

، وممن نصّ على أنه لا صحبة له: البخاري، وأبو داود، وأبو حاتم - كما تقدم - وابنه عبد الرحمن، وابن عدي، وغيرهم، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير

(4)

، وقال ابن معين:(لا يعرف عيسى ولا أبوه).

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه (326)، وأحمد (31/ 399) من طريق زمعة ابن صالح، عن عيسى بن يزداد اليماني، عن أبيه، وأخرجه أحمد (31/ 400) - أيضاً - من طريق زكريا بن إسحاق، عن عيسى، به.

(1)

"تهذيب التهذيب"(8/ 212)، "الثقات"(5/ 216).

(2)

"العلل"(1/ 42)، "المراسيل" ص (238).

(3)

"الثقات"(3/ 449).

(4)

"إرشاد الفقيه"(1/ 54).

ص: 414

وهذا إسناد ضعيف، وليس له طريق مستقيم بإجماع أهل الحديث، لما تقدم، وأيضاً: زمعة بن صالح متكلم فيه، والأكثرون على تضعيفه، ضعفه أحمد وابن معين - في رواية - وأبو زرعة وابن حبان واخرون، قال النووي:(اتفقوا على أنه ضعيف)

(1)

.

وكما أنه ضعيف في سنده فهو ضعيف في متنه، فإن معناه غير صحيح؛ لأن نتر الذكر يسبب درّ البول وتتابعه، والإنسان بهذا الفعل يَجُرُّ على نفسه بلاءً بالسلس والوسوسة وطول بقائه على حاجته.

وأما قول الشارح المغربي وتبعه الصنعاني: إن حديث ابن عباس المتقدم في قصة صاحب القبرين شاهد لهذا الحديث

(2)

فليس بواضح؛ لأن حديث ابن عباس يدل على خطر وعظم التساهل بالبول وأن الواجب التنزه منه، والتنزه منه لا يلزم منه نتر الذكر، بل يكون في غسله وغسل ما أصاب البدن أو ما أصاب الثوب، والله أعلم.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (فلينتر) من النتر بنون ثم تاء مثناة من فوق ثم راء مهملة من باب «نصر» ، قال في القاموس:(استنتر من بوله: اجتذبه واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء حريصاً عليه مهتماً به)

(3)

. وصفة ذلك أن ينفض ذكره لاستخراج ما بقي في القصبة.

الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب النتر ثلاث مرات بعد البول لإخراج بقية البول من الذكر زيادة في الإنقاء، وهذا استحبه كثير من الفقهاء كالشافعية

(4)

، والحنابلة

(5)

، إما استدلالاً بهذا الحديث، وإما تعويلاً على المعنى المذكور.

(1)

"المجموع"(2/ 91).

(2)

"البدر التمام"(2/ 93)، "سبل السلام"(1/ 158).

(3)

"القاموس"(4/ 319).

(4)

"المجموع"(2/ 90).

(5)

"الإنصاف"(1/ 102).

ص: 415

والصواب أن ذلك لا يستحب لعدم ثبوت الحديث، ولأن ذلك يحدث الوسواس - كما تقدم ـ، بل إذا انتهى البول غسل رأس الذكر، ومثل ذلك السّلْتُ الذي ذكره الفقهاء، وهو أن يمسح ذكره من أصله إلى رأسه ثلاث مرات، فهذا لم يصح فيه شيء، وربما سبب ضرراً.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (نتر الذكر بدعة على الصحيح

وكذلك سَلْتُ البول بدعة، لم يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، وإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع إن تركته قرّ، وإن حلبته درّ)

(1)

.

وقال ابن القيم: (راجعت شيخنا - يعني ابن تيمية - في السلت والنتر فلم يره، وقال: لم يصح الحديث)

(2)

.

فإن وجد من الناس من قد يخرج منه شيء بعد البول إذا لم يتحرك أو يمشي خطوات فهذا له حكم خاص، ولا ينبغي أن يجعل أمراً عاماً لكل أحد، فهذا لا حرج عليه إذا تحرك أو مشى خطوات، بشرط أن يتيقن خروج شيء عن طريق التجربة، فإن كان مجرد وَهْمٍ أو وسواس فلا عبرة به، ولا ينبغي الالتفات إليه، قال النووي: (والمختار أن هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود أن يظن أنه لم يبق في مجرى البول شيء يخاف خروجه

وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسواس

)

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 106).

(2)

"إغاثة اللهفان"(1/ 64).

(3)

"شرح المهذب"(2/ 90).

ص: 416

‌حكم الجمع بين الحجارة والماء في الاستنجاء

106/ 21 - عَنِ ابنِ عَبّاس رضي الله عنهما أَنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءٍ، فَقَالُوا: إنّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ المَاءَ. رَوَاهُ الْبَزّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

107/ 22 - وَأَصْلُهُ فِي أَبي دَاوُدَ، والتِّرمذِيِّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِدُونِ ذِكْرِ الْحِجَارَةِ.

الكلام عليهما من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البزار في «مسنده» (150 مختصر زوائده) قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، ثنا أحمد، عن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:(إنا نتبع الحجارة الماء).

وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري، قال عنه النسائي:(متروك)، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: (هم ثلاثة إخوة: محمد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز، وعمران بن عبد العزيز، وهم ضعفاء الحديث، ليس لهم حديث مستقيم)

(1)

، ونقل الهيثمي تضعيفه عن البخاري

(2)

، قال البزار عقب الحديث:(لا نعلم أحداً رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلا ابنه).

(1)

"الجرح والتعديل"(8/ 7).

(2)

"مجمع الزوائد"(1/ 212).

ص: 417

وفي إسناده - أيضاً - عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف، قال الذهبي:(مجمع على ضعفه)

(1)

، وقال أيضاً:(أخباري علاّمة، لكنه واهٍ)

(2)

، وقال أبو أحمد الحاكم:(ذاهب الحديث)

(3)

، وقال ابن حبان:(يقلب الأخبار ويسرقها)

(4)

.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (44)، والترمذي (3100)، وابن ماجه (357) من طريق يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم.

وهذا إسناد ضعيف، ضعفه النووي

(5)

والحافظ

(6)

، وله علتان:

الأولى: ضعف يونس بن الحارث، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(أحاديثه مضطربة)، قال: وسألته عنه مرة أخرى فضعفه، وقال الدوري عن ابن معين:(لا شيء)، وعنه:(ليس به بأس يكتب حديثه).

وقال أبو حاتم: (ليس بقوي)، وقال أبو داود:(مشهور روى عنه غير واحد)

(7)

.

الثانية: جهالة إبراهيم بن أبي ميمونة، قال ابن القطان:(مجهول الحال لا يعرف، ما روى عنه غير يونس بن الحارث، وهو ضعيف، وقال: إن الجهل بحال إبراهيم بن أبي ميمونة كافٍ في تعليل الخبر فاعلم ذلك)

(8)

.

لكن الحديث له شواهد كثيرة يصح بها، ويدل على مشروعية غسل الدبر من أثر النجو، ومن ذلك ما جاء من طريق أبي أويس، حدثنا شرحبيل، عن عويم بن ساعدة الأنصاري، أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء، فقال:

(1)

"الضعفاء"(218).

(2)

"الميزان"(2/ 438).

(3)

يعرف بالحاكم الكبير، وهو محمد بن محمد بن أحمد أبو أحمد النيسابوري الكرابيسي، محدث خراسان في عصره (ت 378 هـ)، وأما صاحب "المستدرك" فهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 هـ).

(4)

"المجروحين"(2/ 11).

(5)

"المجموع"(2/ 99).

(6)

"التلخيص"(1/ 123).

(7)

"تهذيب التهذيب"(11/ 384).

(8)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 105).

ص: 418

«إن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطّهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطّهور الذي تطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا

(1)

.

ومما ورد في هذا الباب حديث أبي أمامة

(2)

، وحديث عبد الله بن سلام

(3)

، وكذا حديث عائشة:(مُرْنَ أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)

(4)

.

وقد ذكر الحافظ في «فتح الباري» حديث الباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال:(إسناده صحيح)

(5)

، وهذا وهم منه رحمه الله ولو قال: وهو حديث صحيح، لأصاب، أي: لشواهده؛ ذكر ذلك الألباني

(6)

.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قباء) بضم القاف ممدود؛ مذكر مصروف، هذا هو الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون، وفي لغة أخرى أنه مؤنث ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وفي لغة ثالثة أنه اسم مقصور، اسم لمكان قرب المدينة النبوية

بثلاثة أميال، وهذا في الزمن الماضي، أما الآن فهو حي من أحياء المدينة.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن إزالة النجاسة من محل الخارج بتخفيفها بالحجارة ثم إتباعها الماء هو أكمل التطهر، ليحصل كمال الإنقاء، وهذه

(1)

أخرجه أحمد (24/ 235)، والحاكم (1/ 155)، وابن خزيمة (83) وغيرهم.

وهذا إسناد ضعيف، لأن أبا أويس -وهو عبد الله بن عبد الله المدني- قد تكلم فيه الأئمة من جهة حفظه، قال في "التقريب":(صدوق يهم)، وشرحبيل: هو ابن سعد أبو سعد الخطمي ضعيف أيضًا، وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب"، (4/ 283):(وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر؛ لأن عويمًا مات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقال: في خلافة عمر رضي الله عنه)، لكنه يتقوّى بما قبله.

(2)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(7555) وإسناده ضعيف.

(3)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(10/ 168) وإسناده ضعيف.

(4)

أخرجه الترمذي (19)، والنسائي (1/ 42)، وأحمد (41/ 182)، وصححه الترمذي وهو معلول.

(5)

"فتح الباري"(7/ 245).

(6)

"إرواء الغليل"(1/ 85).

ص: 419

هي الحالة الأولى، وهذه الحالة لم يثبت فيها حديث من القول ولا من الفعل؛ لأن حديث أنس المتقدم في أول الباب (فأتبعه أنا وغلام بإدواة من ماء فيستنجي بالماء) محتمل، لكن لا شك أن الجمع بينهما أفضل وأكمل في النظافة.

والحالة الثانية: الاقتصار على الماء وحده؛ وهو أفضل من الاقتصار على الحجارة وحدها؛ لأنه يطهر المحل، وهذا هو ظاهر حديث أنس المتقدم حيث استنجى صلى الله عليه وسلم بالماء، فيحتمل أنه استنجى به بعد الاستنجاء بالحجارة، ويحتمل أنه استنجى به وحده.

والحالة الثالثة: الاقتصار على الحجارة وحدها، لا فرق في ذلك بين وجود الماء وعدمه، ولا بين الحاضر والمسافر والصحيح والمريض، وقد دل على ذلك حديث سلمان المتقدم وفيه:(نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار)، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بثلاثة أحجار، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جمع للنبي صلى الله عليه وسلم أحجاراً فأتى بها بطرف ثوبه ووضعها إلى جنبه ثم انصرف

(1)

.

وقد ذكر ابن القيم في هدي النبي صلى الله عليه وسلم عند قضاء الحاجة أنه كان يستنجي بالماء تارة، ويستجمر بالأحجار تارة، ويجمع بينهما تارة

(2)

.

أما الأولان فثابتان، وأما الجمع من فعله فلم يثبت، ولو ثبت لما احتاج من قال: إن الأفضل الجمع بينهما إلى الاستدلال بحديث أهل قباء - الذي أخرجه البزار - مع ضعفه، ولكان الفعل هو الدليل على الأفضلية لو ثبت، والله أعلم

(3)

.

انتهى الجزء الأول، ويليه

ـ بعون الله وتوفيقه - الجزء الثاني،

وأوله باب «الغسل وحكم الجنب»

(1)

أخرجه البخاري (155).

(2)

"زاد المعاد"(1/ 171).

(3)

"المنهل العذب المورود"(1/ 163).

ص: 420