الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجامع
باب الأدب
هذا الكتاب عقده الحافظ المجموعة من الأبواب، ذكر تحتها مائة وواحدًا وثلاثين حديثًا في الآداب، ومساوئ الأخلاق، والبر والصلة، والزهد والورع، والذكر والدعاء.
وذلك أن الحافظ لما جمع أحاديث الأحكام الشرعية مرتبة على الأبواب الفقهية رأى أن يلحق بذلك كتابًا جامعًا يورد فيه الأحاديث التي يحتاجها المؤمن -ولا سيما طالب العلم- في باب الآداب وتوابعه.
والأدب لغة: بفتح الهمزة والدال مصدر أَدِبَ الرجل -بكسر الدال وضمها لغة- إذا صار أديبًا في خلق أو علم. ومادة (أدَبَ) تؤذن بالاجتماع، ومن معانيها الدعاء وتجميع الناس إلى الطعام، والآدِب هو الداعي، وسمي الآدِبُ بهذا؛ لأنه يأَدِبُ الناس ويدعوهم إلى المحامد وينهاهم عن القبائح.
أما في الاصطلاح: فقد تنوعت عبارة العلماء في تعريفه وهي تكاد تلتقي عند معنى واحد، قال أبو زيد الأنصاري:(الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل)، وقال ابن القيم:(حقيقة الأدب: استعمال الخلق الجميل)، وقال الحافظ ابن حجر:(استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا)
(1)
.
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(1/ 74)، "المصباح المنير" ص (9)، "المطلع" ص (396)، "اللسان"(1/ 206)، "مدارج السالكين"(2/ 375، 381)، "فتح الباري"(10/ 400).
ولقد أحسن الحافظ في هذا المنهج وأجاد، فإن العلماء قد اهتموا بهذا الباب اهتمامًا عظيمًا، بل أفردوه في مصنفات مستقلة مثل:"الأدب المفرد" للبخاري، و"مكارم الأخلاق" و"مساوئ الأخلاق" وهما للخرائطي، و"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان، وغيرها كثير، ووجه عناية العلماء بهذا النوع من العلم أن الأدب يحتاج إلى معرفته أو معرفة كثير منه كل مؤمن حريص على اكتساب الفضائل والبعد عن الرذائل.
فينبغي لطالب العلم خصوصًا ولكل مؤمن عمومًا أن يأخذ بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، وأن يبتعد عن مناقصها ومفاسدها، وأن يكون قدوة لغيره في المحافظة على ما جاءت به الشريعة في هذا الباب، وفي هذا تصفية السلوك، وتهذيب الأخلاق، وتقويم العادات، وإصلاح الأفراد والمجتمعات.
يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: (من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة)
(1)
. ويقول ابن القيم: (أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبَوَاره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانها بمثل قلة الأدب)
(2)
.
(1)
"مدارج السالكين"(2/ 38).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 391).
ما جاء في حق المسلم على أخيه
1447/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ: إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ، وَإذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَسَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "السلام"، بابٌ (مِنْ حق المسلم للمسلم رَدُّ السلام)(2162)(5) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
ورواه البخاري (1240)، ومسلم (2162)(4) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حق المسلم على المسلم خمس
…
" وذكرها بدون: "وإذا استنصحك فانصحه".
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (حق المسلم) المراد بالحق هنا: الأمر المطلوب على وجه التأكيد، بحيث لا ينبغي تركه، وهو بهذا يعم وجوب العين والكفاية والندب
(1)
.
قوله: (ست) أي: ست خصال، وهذا لا ينافي رواية الخمس، إما لأن
(1)
"دليل الفالحين"(2/ 25).
العدد لا مفهوم له ما لم يوجد قرينة، كما هو مقرر في الأصول؛ لأن للمسلم على أخيه حقوقًا كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
(1)
، وأحاديث أخرى.
وإما لأن محل العمل بمفهوم العدد ما لم يعلم خلافه، فإن علم خلافه بأدلة أخرى لم يعمل به، وذلك لأن الحقوق المتأكدة كثيرة، على أنه قد يقال بترجيح رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه لإمامته ولاتفاق الشيخين عليها.
واقتصر على ما ذكر، إما لأنها المشروعة إذ ذاك وما عداها شرع بعد، وإما لأنها الأنسب بحال السامعين لشدة احتياجهم إليها
(2)
.
قوله: (إذا لقيته فسلم عليه) أي: ابدأه بالسلام ندبًا عينيًّا إن كنت وحدك، وإلا فعلى الكفاية على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله-.
قوله: (وإذا دعاك فأجبه) أي: إذا دعاك لحضور وليمة أو غيرها فأجب دعوته، ويحتمل العموم فيشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته على حمل شيء ونحو ذلك.
قوله: (وإذا استنصحك فانصحه) السين والتاء للطلب؛ أي: طلب منك النصح، وهو الدعاء إلى ما فيه صلاح المنصوح قولًا أو فعلًا
(3)
.
وقوله: (فانصحه) هكذا في نسخ "البلوغ"، والذي في "صحيح مسلم":(فانصح له) وهي اللغة الفصيحة التي نزل بها القرآن، قال تعالى:{إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]، وفي لغة يتعدى بنفسه، فيقال: فانصحه.
والنصيحة: مشتقة من نَصَحَ الرجل ثوبه: إذا خاطه، أو من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، وسيأتي مزيد لهذا عند شرح حديث تميم الداري رضي الله عنه برقم (1541).
(1)
الحديث متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وسيأتي شرحه -إن شاء الله- برقم (1467).
(2)
"دليل الفالحين"(2/ 25).
(3)
انظر: "التعريفات" ص (360)، "المفردات في غريب القرآن" ص (494).
قوله: (وإذا عطس فحمد الله) بفتح الطاء في الماضي وكسرها في المضارع من باب ضرب، وفي لغة بضمها في المضارع من باب قتل.
قوله: (فسمته) أمر من التسميت -بالسين المهملة- وقد وقع في بعض نسخ "البلوغ": (فشمته) بالشين المعجمة، والأول هو المثبت في "صحيح مسلم"، وهما بمعنى واحد؛ لأن معناهما: يرحمك الله، أي: أعطاك الله رحمة يرجع بها ذلك العضو إلى حاله قبل العطاس من غير تغيير. قال أبو عبيدة: (التشميت هو الدعاء، وكل داع لأحد بخير فهو مُشَمِّتٌ له .. وفي هذا الحرف لغتان: سَمَّتَ وشَمَّتَ، والشين أعلى في كلامهم وأكثر)
(1)
فإن كان بالمهملة فهو مأخوذ من السمت، وهو القصد والطريق المستقيم، ويكون المعنى: رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه؛ لأن العاطس ينحلُّ كل عضو في رأسه وما يتصل به، وإن كان بالمعجمة فمعناه: صان الله شوامته؛ أي: قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال
(2)
.
قوله: (وإذا مرض فعده) أمر من العيادة، وهو من باب نصر، تقول: عدت المريض عيادة: إذا زرته، وسميت عيادة لتكررها، والمريض أعم من أن يكون معروفًا أم غير معروف، قريبًا أم بعيدًا.
قوله: (وإذا مات فاتبعه) أي: امشِ خلف جنازته من منزله أو من موضع الصلاة عليه إلى المقبرة، وعليه الناس اليوم.
والمراد بذلك السير مع جنازة أخيك المسلم حتى يُفرغ من دفنه، وعدم التخلف عنه لأداء راتبة أو نحو ذلك مما يخل بمعنى الاتباع.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من سمات الدين الإسلامي أنه دين المحبة والمودة والتآلف بين المسلمين، ومن هنا جاء الإسلام ببيان الحقوق التي تنمي المحبة وتحقق المودة وتزيد في التآلف، وهي حقوق يسيرة
(1)
"غريب الحديث"(1/ 403 - 404)، وانظر:"معجم مقاييس اللغة"(3/ 210).
(2)
انظر: "القبس" لابن العربي، ضمن "موسوعة شروح الموطأ"(23/ 64 - 65)، "عارضة الأحوذي"(9/ 206)، "فتح الباري"(10/ 601).
على من يسرها الله عليه لا سيما في حق من اعتادها، ومن قام بها كان قيامه بغيرها أولى.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن السلام من محاسن الإسلام ومن أسباب المحبة والتآلف بين المسلمين، وهذا أمر مشاهد، فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من كل آفة: السلامة من الأمراض والشرور والمعاصي، والسلامة من النار، وفيه الدعاء بالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، وفي السلام إحياء سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأداء حق المسلم، ولهذا ذكر العلماء أنه ينبغي لكل واحد من المتلاقيين أن يحرص على أن يبدأ بالسلام، سواء عرفه أم لم يعرفه، تحقيقًا لفوائد السلام، وتحصيلًا للفضائل المرتبة عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام"
(3)
.
ومما يؤسف عليه أن غالب سلام الناس -اليوم- إنما هو للمعرفة، فمن عرفه سلَّم عليه، ومن لم يعرفه لم يسلم عليه، وهذا فيه مخالفة لإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألة رجل أيُّ الإسلام خير؟ قال:"تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"
(4)
، قال النووي:(أي: لا تخص به المعارف كما يفعله بعض الناس تكبرًا أو تهاونًا، ويتضمن هذا ألا يكون بينك وبين أحد معاداة ونحوها مما يمنع في العادة عن السلام بسبب. والله أعلم)
(5)
. ثم إن في تخصيص السلام بالمعرفة تفويتًا لفوائد السلام، وما رُتِّب عليه من الأجر، قال
(1)
رواه مسلم (93).
(2)
الحديث متفق عليه، وسيأتي شرحه -إن شاء الله- برقم (1470).
(3)
رواه أبو داود (5197)، والترمذي (2694)، وأحمد (36/ 530). وقال النووي في "الأذكار" ص (404):(إسناده جيد)، والحديث له عدة طرق.
(4)
رواه البخاري (12)، ومسلم (39).
(5)
"شرح النووي على صحيح البخاري" ص (129).
عمار بن ياسر رضي الله عنه (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)
(1)
. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة"
(2)
.
* الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن الأمر بابتداء السلام للوجوب، وقد نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية القول بالوجوب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقال: ظاهر ما نقل عن الظاهرية وجوبه، لكن نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن ابتداء السلام سنّة، ورده فرض
(3)
، لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. فإن صح
(1)
علقه البخاري. انظر: "فتح الباري"(1/ 82).
(2)
رواه أحمد (6/ 398) من طريق شريك، عن عياش العامري، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود به، وهذا سند ضعيف، لضعف شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، لكن الحديث له طرق، منها عند أحمد (6/ 415، 416) من طريق سيَّار، عن طارق بن شهاب، قال: كنا عند عبد الله جلوسًا
…
وذكر الحديث بطوله، وفيه: فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة
…
" الحديث، وهذا سند حسن، يشهد له ما قبله، وسيار لم يتضح من هو؟ هل هو سيار أبو حمزة، أو سيار أبو الحكم؟ والأول روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 421)، وقال الحافظ في "التقريب": (مقبول). والثاني ثقة كما قال الإمام أحمد وابن معين والنسائي. وقد نقل المزي في "تهذيبه" (12/ 316) عن الإمام أحمد وأبي داود وابن معين والدارقطني أنه سيار أبو حمزة، وليس سيارًا أبا الحكم؛ لأن أبا الحكم لم يحدث عن طارق بن شهاب بشيء، وقد جاء حديث ابن مسعود عند أحمد (7/ 89، 90) مختصرًا، وفيه الجملة المذكورة، ووقع في الإسناد أنه سيار أبو الحكم، وهذا من خطأ الرواة. انظر: "التاريخ الكبير" (4/ 160 - 161)، "علل الدارقطني" (5/ 115)، "تهذيب التهذيب" (4/ 256 - 257)، وانظر: "المسند" (7/ 264)، ولعل الحديث بطرقه وشواهده يرقى إلى درجة الحسن. انظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (647، 648)، "إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" (1/ 9).
(3)
انظر: "التمهيد"(5/ 289)، "الاستذكار"(27/ 135)، "الآداب الشرعية"(1/ 332)، "تفسير القرطبي"(5/ 298)، "فتح الباري"(11/ 4)، "طيب الكلام بفوائد السلام" ص (266).
هذا الإجماع فهو القرينة الصارفة، وقد استدل ابن عبد البر على أن السلام سنّة بحديث:"من سلِّم على قوم فقد فَضَلَهُمْ بعشر حسنات وإن ردوا عليه"
(1)
، وبحديث المتهاجرين:"وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، وسيأتي شرحه إن شاء الله.
وصفة السلام المأمور به لها أقل ولها أكمل، فأقله: السلام عليكم، وأكمله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا يزاد على ذلك
(2)
.
وأما الجواب فأقله: وعليكم السلام، فإن حذف الواو وقال: عليكم السلام، أجزأ ذلك وكان جوابًا. وأكمله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، قال ابن كثير:(أي: إذا سلَّم عليكم المسلم فردّوا عليه أفضل مما سلَّم، أو رُدّوا عليه بمثل ما سلَّم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة)
(3)
.
وأما ابتداء اللقاء بمثل: صباح الخير، أو صبحك الله بالخير، أو صباح النور، أو كيف أصبحت، كيف أمسيت، حياكم الله، فليس بسلام شرعي، بل نص بعض العلماء على كراهة: صباح الخير، صباح النور، مساء الخير
(4)
، بخلاف: صبحك الله بالخير، إذا جاءت بعد السلام، وذكر النووي أن من ابتدأ اللقاء بمثل هذه الألفاظ فإنه لا يستحق جوابًا زجرًا له، عن تركه لفظ السلام، وهو التحية المأمور بها، لكن لو أجابه بالدعاء فحسن، قال ابن
(1)
رواه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 266)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 447) من طريق مرجّى بن وداع الراسبي، عن غالب القطان، قال: كنا في حلقة فجاء أعرابي، فقال: حدثني أبي، عن جدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا سند ضعيف، فيه مرجّى بن وداع، قال عنه ابن معين:(ضعيف)، وفي رواية:(صالح الحديث)، وقال أبو حاتم:(لا بأس به). انظر: "الميزان"(4/ 87)، "تهذيب التهذيب" (10/ 76). ولما ساق ابن عدي حديثه هذا قال:(لم يحضرني له غير هذا). وفي الإسناد مجاهيل، كما مرَّ.
(2)
"تفسير ابن كثير"(2/ 325).
(3)
"تفسير ابن كثير"(2/ 324).
(4)
انظر: "معجم المناهي اللفظية" ص (333) وما بعدها.
علان: (هذه الألفاظ كلها لا أصل لها في التحية ولم يثبت منها شيء)
(1)
.
وأما ما ذكر ابن مفلح في "الآداب الشرعية" من النقول عن الإمام أحمد وبعض الأحاديث الدالة على جواز الابتداء بمثل ذلك فالظاهر من نقله أن التحية بمثل هذه الألفاظ لا بأس بها عند الحنابلة، ويكتفى بها عن السلام، وإن كان السلام أفضل وأكمل، وقد نقل الحافظ ابن حجر بعض الأحاديث والآثار عن السلف في قولهم: كيف أصبحت ونحوها
(2)
. والظاهر -والله أعلم- أن مثل هذه الألفاظ لا تقوم مقام السلام، وإنما هي سؤال عن الحال يؤتى بها بعد تمام السلام بصيغته الشرعية، وقد ثبت من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يمر على نسائه فيسلم على كل واحدة منهن:"سلام عليكم، كيف أنتم يا أهل البيت؟ .. " الحديث
(3)
، ولعل ما نقل عن أحمد أو غيره محمول على أن ذلك قيل بعد السلام، أو أن الراوي اقتصر على ما بعد السلام
(4)
.
وأما رد السلام بمثل: أهلًا، أو أهلًا ومرحبًا ونحو ذلك مما تساهل فيه الناس، فليس برد شرعي؛ لأن الله تعالى قال:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . ومثل هذه الجمل ليست بأحسن من لفظ السلام ولا مثله، فعلى الإنسان أن يرد السلام بمثله أو أحسن منه، ثم يردفه بما شاء من ألفاظ الترحيب.
* الوجه السادس: مفهوم قوله: (إذا لقيته فسلم عليه) أنه لا يسلم عليه إذا فارقه، ولكن هذا المفهوم عارضه منطوق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحقَّ من الآخرة"
(5)
.
(1)
"روضة الطالبين"(10/ 235)، "الفتوحات الربانية"(5/ 378).
(2)
انظر: "فتح الباري"(11/ 59).
(3)
رواه مسلم (1428).
(4)
"الآداب الشرعية"(1/ 380)، "طيب الكلام بفوائد السلام" ص (137)، "تحية السلام في الإسلام"(1/ 276).
(5)
رواه أبو داود (5208)، والترمذي (2706)، والنسائي في "الكبرى"(9/ 144)، وأحمد (12/ 47)، وسنده حسن، وله شواهد ذكرها الألباني في "الصحيحة" رقم (183).
* الوجه السابع: الحديث دليل على وجوب إجابة الدعوة لما فيها من إكرام الداعي وجلب المودة والألفة بين الأُسر خصوصًا والمسلمين عمومًا، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الدعوة إلى وليمة عرس أو غيرها من الولائم، وأن الحضور إليها كلها واجب، وهذا مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وبعض التابعين، وأهل الظاهر، وبعض الشافعية، وذهب الجمهور إلى أن الإجابة سنّة مؤكدة، والقول بالوجوب قوي، وقد تقدم بحث ذلك في كتاب "النكاح" مع ذكر شروط حضور الدعوة
(1)
.
* الوجه الثامن: في الحديث دليل على وجوب النصح لأخيك المسلم إذا طلب منك ذلك، وظاهر الحديث أن النصيحة لا تجب إلا إذا طلبها، أما إذا لم يأت يطلب النصح ففيه تفصيل، فإن كان عليه ضرر أو إثم فيما سيقدم عليه وجب عليك نصحه؛ لأن هذا من إزالة الضرر والمنكر عن المسلمين، وإن لم يكن فيه ضرر ولا إثم ولكنك ترى غيره أنفع له لم يجب عليك نصحه، بل يندب؛ لأنه من الدلالة على الخير والمعروف
(2)
، وسيأتي التفصيل في موضوع النصيحة في شرح حديث تميم الداري رضي الله عنه المشار إليه آنفًا.
* الوجه التاسع: الحديث دليل على وجوب تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، ومفهوم الحديث أنه إذا لم يحمد فإنه لا يشمت؛ لأنه هو الذي فوت على نفسه النعمتين: نعمة الحمد لله، ونعمة دعاء أخيه له المرتب على الحمد، ومن فوائد التشميت تحصيل المودة والتآلف بين المسلمين، وتأدب العاطس بكسر النفس عن الكبر والحمل على التواضع لما في ذكر الرحمة من الإشعار بالذنب الذي لا يعرى عنه إنسان إلا من عصم الله
(3)
.
وستأتي صفة التشميت، وصفة الرد، وبعض الأحكام والفوائد المتعلقة بالعطاس عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي.
(1)
انظر: (7/ 415 - 421) من هذا الكتاب.
(2)
انظر: "الفتوحات الربانية"(6/ 11)، "حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة" ص (34).
(3)
انظر: "الفتوحات الربانية"(6/ 4 - 5).
* الوجه العاشر: الحديث دليل على وجوب عيادة المريض، ولا خلاف بين أهل العلم أنها مطلوبة، وإنما الخلاف في وجوبها.
فذهب الجمهور إلى أنها سنّة
(1)
، واستدلوا بأدلة ظاهرها الوجوب، ومنها حديث الباب، وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"
(2)
، قال سفيان: والعاني: الأسير.
قالوا: وما ورد من الأمر بها فهو محمول على زيادة الترغيب في عيادة المريض
(3)
.
القول الثاني: أن عيادة المرض واجبة، وبه قالت الظاهرية، وهو قول البخاري، فإنه بوّب في "صحيحه" فقال:(باب وجوب عيادة المريض)
(4)
، واستدلوا بما ورد في الشرع من الأمر بها، والأمر للوجوب.
القول الثالث: أنها واجب كفائي، وبه قال بعض فقهاء الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
، وهذا قول قوي، يتمشّى مع نصوص الأمر بها.
واعلم أن الذين قالوا: إنها سنّة قالوا: قد تصل إلى حد الوجوب في حق ذوي الأرحام، فعيادة الأب واجبة؛ لأنها من البر المأمور به شرعًا، وعيادة الأخ واجبة من أجل صلة القرابة
(6)
.
فالقاعدة في هذا: أنه كلما كان للمريض حق عليك من قرابة، أو صحبة، أو جوار، كانت عيادته آكد.
وظاهر الأحاديث أن العيادة عامة لكل مريض، فيدخل في ذلك المغمى عليه، ومَنْ في غرفة العناية، وإن كان لا يعلم بعائده؛ لأن مشروعية عيادة
(1)
"فتح الباري"(10/ 113).
(2)
أخرجه البخاري (5373).
(3)
انظر: "غذاء الألباب" للسفاريني (2/ 7).
(4)
"فتح الباري"(10/ 112).
(5)
"الإنصاف"(3/ 461).
(6)
انظر: "فتح الباري"(10/ 113).
المريض لا تتوقف على مجرد علم المريض بعائده، بل هناك مقاصد أخرى، منها: جَبْرُ خاطرِ أهله، والدعاء للمريض، وحصول الأجر، وغير ذلك
(1)
.
وقد ورد عن جابر رضي الله عنه قال: (مرضت مرضًا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي عليَّ، فتوضأ، ثم صب عليَّ من وضوئه، فأفقت)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
المصدر السابق (10/ 114).
(2)
أخرجه البخاري (5651)، ومسلم (1616).
ما جاء في حث الإنسان على نظره إلى من هو دونه
1448/ 2 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الزهد والرقائق"(2963)(9) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
ورواه البخاري (6490)، ومسلم (2963)(8) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه".
وبهذا يتبين أن عزو الحديث للمتفق عليه غير جيد، ولعل الحافظ أراد أصل الحديث، وابن عبد الهادي لما ساق هذا الحديث ومعه أحاديث أخرى قال: (متفق على هذه الأحاديث، واللفظ فيها كلها لمسلم، وبعض ألفاظه أتم من ألفاظ البخاري، فإن فيها زيادات لم يذكرها البخاري"
(1)
.
(1)
"المحرر" ص (465).
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أسفل منكم) بالنصب ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر (هو)، والجملة صلة الموصول، والمراد: أسفل في أمور الدنيا من جاهٍ ومسكن ومركب ودَخْلٍ مالي ونحو ذلك، بدليل الرواية الثانية، وخرج بذكر المال والخَلْقِ ما إذا نظر لمن فُضِّل عليه في العلم والدين والاجتهاد في العبادة ومعالجة النفس بدفع الأخلاق السيئة وجلب الحسنة، فهذا أمر محمود
(1)
.
قوله: (فهو) أي: قصر النظر عمن هو فوقه.
قوله: (أجدر) أفعل تفضيل بمعنى أحرى وأليق وأحق.
قوله: (ألا تزدروا) أي: تحتقروا أو تعيبوا، وذلك أن الإنسان إذا نظر إلى من هو دونه قنع وشكر، وإذا نظر إلى من هو فوقه احتقر ما هو فيه من النعمة.
* الوجه الثالث: اشتمل الحديث على وصية نافعة وكلمة جامعة لأنواع الخير، وبيان المنهج السليم الذي يسير عليه المسلم في هذه الحياة، ولو أن الناس أخذوا بهذه الوصية الجامعة لعاشوا صابرين شاكرين راضين، وهذا نوع من التربية الرفيعة التي لا تصلح حياة الفرد بغيره ولا تستقر بدونه؛ لأنه من أعظم الأسباب المعينة على شكر نعمة الله تعالى على عبده.
فالوصية الأولى: أن ينظر الإنسان إلى من هو دونه وأقل منه في أمور الدنيا من مسكن ومركب وملبس ودَخْلٍ وصحة وخِلْقَةٍ ونحو ذلك؛ لأنه إن فعل ذلك استفاد فائدتين عظيمتين:
الأولى: أنه يستعظم ويستكثر ما أعطاه الله من الخير وفضله به على غيره، ولا يحتقر ما هو فيه من نعمة وسعادة، وهذا من أقوى أسباب الشكر لله تعالى والثناء عليه، فينظر إلى من سُلب نعمة العقل فيحمد ربه على كمال العقل، وينظر إلى من ابتلي بالأمراض وأصناف الأسقام وهو معافى، ويرى من ابتلي بما هو أفظع من ذلك بانحراف الدين وفساد العقيدة والوقوع في
(1)
"طرح التثريب"(8/ 146).
المعاصي، والله تعالى قد حفظه من ذلك أو من كثير منه، وينظر إلى من ابتلي بالهم والوسواس والقلق النفسي وهو قد عافاه الله تعالى، فمنّ عليه براحة القلب وسعة الصدر، وينظر إلى من ابتلي بالفقر المدقع أو الدين المفظع ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين، وهكذا ..
الفائدة الثانية: أنه إذا نظر إلى من هو دونه ارتاح قلبه، واطمأنت نفسه، ورضي بما قسم الله له، فعاش راضيًا سعيدًا قانعًا.
الوصية الثانية: ألا ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا إما في منزله أو سيارته أو هيئته أو دخله ونحو ذلك؛ لأنه إن فعل ذلك وقع في ثلاثة أمور كلها مكروهة:
الأول: أنه يستقل نعمة الله عليه ويزدريها ويحتقرها، وهذا من أكبر الصوارف عن الشكر؛ لأنه يرى أن ما أعطيه قليل، ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم، وتسابقت إليه النقم، وامتحن بالغم الملازم والحزن الدائم.
الثاني: أنه يتعب نفسه ولا يزال يعيش مهمومًا؛ لأنه يريد اللحاق بمن فضلوا عليه في متاع الدنيا، فيشغل قلبه وتكثر همومه، ويزداد تعبه في طلب اللحاق بهؤلاء، وقد تركبه الديون، وتلزمه حقوق الناس.
الثالث: أنه قد ينشأ عنده شيء من الحقد على من فوقه أو الحسد فيتمنى زوال النعمة عنه.
* الوجه الرابع: هذا الحديث خاص في أمور الدنيا كما تقدم، أما في أمور الآخرة وأحوال الدين فإنه ينبغي للموفَّق أن ينظر إلى من هو فوقه فيقتدي به ويستمر، ويتأسى بالأخيار في فعل الطاعات والمبادرة بها، والبعد عن المعاصي والحذر منها، فيستفيد من ذلك زيادات تقربه إلى مولاه، ولا ينظر إلى الكسالى الذين لا يصلحون أن يكونوا قدوة لغيرهم، قال الحسن البصري:(إذا رأيت الناس في خير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في هلكة فذرهم وما اختاروا)
(1)
.
(1)
"حلية الأولياء"(2/ 157).
وللطبري كلمة قيمة على حديث الباب نقلها عنه ابن بطال، فهو يقول:(هذا حديث جامع لمعاني الخير، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه في ذلك، فمتى طلب نفسه باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التي هو عليها، فهو أبدًا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حالة خسيسةٍ من دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخسّ منه حالًا، فإذا تأمل ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم تصل إلى كثير من خلقه، فَضَّلَهُ الله بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر علميها أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه في معاده)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح ابن بطال"(10/ 199).
ما جاء في تفسير البر والإثم
1449/ 3 - عَنِ النوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ رضي الله عنه قَال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ والإثْم؟ فَقَال: "الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالإثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيهِ النَّاسُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو النواس -بفتح النون وتشديد الواو- بن سِمْعَانَ -بكسر السين وفتحها، والكسر أشهر وقد اقتصر عليه ابن الأثير- بن خالد بن عمرو الكلابي، وقد وقع في "صحيح مسلم" نسبته للأنصار، قال الحافظ أبو علي الجياني:(هذا وهم، وصوابه الكلابي)، وقال المازري:(المشهور في نسب النواس: الكلابي، إلا أن يكون حليفًا للأنصار)، وتبعه على هذا القاضي عياض
(1)
، للنواس ولأبيه صحبة رضي الله عنهما، قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة
(2)
إلا المسألة
(3)
، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم .. ). سكن الشام، وهو معدود فيهم، وروى عنه جبير بن نفير وأبو إدريس الخولاني
(4)
.
(1)
"المعلم"(2/ 162)، "إكمال المعلم"(8/ 17).
(2)
أي: العود إلى وطنه.
(3)
أي: الأسئلة التي ترد على النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم فيجيب عليها.
(4)
"الاستيعاب"(10/ 389)، "تتمة جامع الأصول"(2/ 946)، "الإصابة"(10/ 192).
° الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (تفسير البر والإثم)(2553) من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم
…
وذكر الحديث.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: رضي الله عنه هكذا في نسخ "البلوغ" والأولى: عنهما؛ لأن لأبيه صحبة، كما تقدم.
قوله: (البر) بكسر الباء، وفعله: بَرَّ يَبَرُّ من باب علم يعلم، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وهذا جواب جامع موجز، معناه: أن حسن الخلق أعظم خصال البر، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة"
(1)
، أو أن حسن الخلق جامع لجميع أنواع البر، فيفسر حسن الخلق: بالتخلق بأخلاق الشريعة والتأدب بآداب الله التي شرعها لعباده؛ لأن البر يطلق على فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
…
} [البقرة: 177]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(لفظ البر إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به)
(2)
.
ويطلق على ما يقابل العقوق فيفسر بالإحسان والصلة إلى الوالدين.
وقد يأتي البر مقرونًا بالتقوى، كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فيكون المراد بالبر: معاملة الخَلْق بالإحسان، وبالتقوى معاملة الخالق بفعل طاعته واجتناب معصيته، وقد يكون المراد بالبر: فعل الواجبات، وبالتقوى: اجتناب المحرمات
(3)
.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: (البر والتقوى لله: إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، فإنه اسم جامع لكل ما يحبه الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا، وترك
(1)
انظر: (5/ 180) من هذا الكتاب.
(2)
"مجموع الفتاوى"(7/ 165).
(3)
انظر: "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (27).
ما يكرهه الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا، وإذا جُمِعَ بينهما نحو:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فسر البر بالقيام بعقائد الإيمان وأخلاقه، وأعمال البر كلها القاصرة والمتعدية، وفسرت التقوى باتقاء ما يسخط الله من الكفر والفسوق والعصيان)
(1)
.
قوله: (حسن الخلق) الحسن: ضد القبح، والخلق: بضم الخاء واللام، ويجوز سكون اللام، اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلق عليها، قال عبد الله بن المبارك في تفسير حسن الخلق:(هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)
(2)
.
وهذا حسن الخلق مع الناس، وأما حسن الخلق مع الله تعالى فهو أن يفعل ما فرض عليه طَيِّبَ النفس منشرح الصدر، وينتهي عما حرم عليه راضيًا به غير متضجر منه، ويرغب في النوافل ويترك الكثير من المباح
(3)
.
قوله: (والإثم) هو في الأصل: الذنب بجميع أنواعه، يقال: أثم إثمًا ومأثمًا: إذا وقع في الذنب.
قوله: (ما حاك في صدرك) أي: تردد واختلج في صدرك فأثر في القلب اضطرابًا وقلقًا ونفورًا، بحيث لم ينشرح له الصدر ولم يطمئن إليه القلب، والفعل حاك يحيك يدور على معنى التأثير، ومنه قولهم: ضربته فما حاك فيه السيف؛ أي: ما أثَّر، وما يحيك كلامك في فلان؛ أي: ما يؤثر فيه
(4)
.
قوله: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) المراد بالكراهة: الكراهة الدينية، والمراد بالناس: أهل العلم والدين والفضل، كما تفيده أداة التعريف، وإنما أحاله النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإدراك القلبي لما علم من جودة فهمه، وحسن قريحته، وتنوير قلبه، وأنه يدرك ذلك من نفسه.
(1)
"تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" ص (200).
(2)
رواه الترمذي (2005).
(3)
"مختصر شعب الإيمان" للقزويني ص (116 - 117).
(4)
"اللسان"(10/ 419).
° الوجه الرابع: في الحديث ترغيب في حسن الخلق وبيان لفضله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر البر بحسن الخلق، ومعنى ذلك: أن جميع أنواع البر كلها في حسن الخلق، وهذا أوجز لفظ وأبلغه، وإذا أحسن العبد خُلُقَهُ أحبَّه الله وأحبَّه الناس، ومن أحبه الله تعالى فاز بجنته ورضوانه، ومن أحبه الناس ألفوه وعاش بينهم سعيدًا، ولا يكرم العبد نفسه بمثل حسن الخلق، ولا يهينها بمثل سوء الخلق، وقد روى أبو نعيم بسنده عن عكرمة أنه قال:(لكل شيء أساس، وأساس الإسلام: الخلق الحسن)، وعن ابن سيرين قال:(كانوا يرون حسن الخلق عونًا على الدِّين)
(1)
وسيأتي زيادة كلام على حسن الخلق في باب "الترغيب في مكارم الأخلاق" إن شاء الله تعالى.
° الوجه الخامس: دلَّ الحديث على أن للإثم علامتين: علامة داخلية وهي ما يتركه في النفس من قلق واضطراب وعدم اطمئنان إلى حله وإقدام على فعله، وعلامة خارجية وهي كراهية اطلاع وجوه الناس وأخيارهم عليه؛ خشية أن يذم ويلام على فعله، وهذا يدل على أن صاحب الخير الموفق للبر لا يقدم على شيء لا تطمئن نفسه إليه، بخلاف أهل الفسوق والمعاصي فإنهم لا يترددون في الآثام، بل يقدم الواحد منهم على المعصية منشرح الصدر مرتاح البال!
° الوجه السادس: الحديث دليل على أن الإثم مستقبح عند ذوي الفِطَرِ السليمة والعقول النيرة، ووجه ذلك: أن النفس مجبولة على محبة اطلاع الناس على خيرها وكراهة اطلاعهم على شرها، مما يدل على أن ذا الفطرة السليمة لا يجاهر بالإثم بل يستتر به ويخفيه. والله تعالى أعلم.
(1)
"حلية الأولياء"(2/ 174)، (3/ 340).
ما جاء في نهي الاثنين عن التناجي دون الثالث
1450/ 4 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثةً، فَلَا يَتَنَاجى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أن ذلِكَ يُحْزِنُهُ". مُتَّفَقُ عَلَيهِ، وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
° الكلام عليه من وجوده:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاستئذان"، باب (إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارَّة والمناجاة)(6290)، ومسلم (2184) من طريق جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث. ولفظ البخاري: "أَجْلَ أن ذلك يحزنه" بدون لفظة (من)، وفي طبعة الناصر:"أَجْلَ أن يحزنه"
(1)
، ولفظ مسلم:"من أجل أن يحزنه".
وروى البخاري (6288)، ومسلم (2183)(36) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث".
ولعل الحافظ أورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه لأنه أتم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث نص على علة النهي.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فلا يتناجى اثنان) أصل التناجي: التحدث سرًّا، والمراد
(1)
انظر: "صحيح البخاري" طبعة الناصر (8/ 65)، "أعلام الحديث"(3/ 2235)، "فتح الباري"(11/ 83).
بالتناجي هنا: أن يتحدث شخصان سرًّا بحيث لا يسمعهما الثالث؛ أي: لا يدري ما يقولان، وإن سمع بعض الكلمات، وفي معنى ذلك: إذا تحدثا جهرًا بلغة أجنبية لا يفهمها. وهذه الجملة خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأنها بمعنى النهي، بدليل ثبوت الألف المقصورة على صورة الياء، ولو كانت لا ناهية لحذفت الألف للجزم، وذكر القرطبي
(1)
، وتبعه الحافظ
(2)
، أنه في بعض النسخ من "الصحيح" بجيم فقط على النهي "فلا يتناجَ".
وخص الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى، وإلا فلو تناجى خمسة أو عشرة وتركوا واحدًا فكذلك، لوجود المعنى، بل قد يكون وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد
(3)
.
قوله: (حتى تختلطوا بالناس) أي: يختلط الثلاثة بالناس بحيث يكثر العدد، ويتمكن كل واحد من وجود من يناجيه.
قوله: (من أجل أن ذلك يحزنه) تعليل للنهي، وهو بضم الياء من أحزن الرباعي، والمعنى: أن حكمة النهي عن تناجي اثنين وترك الثالث هي أن الثالث يحزن، إما لاعتقاده أنهما لا يريانه أهلًا لمناجاتهما، وهذا إذا أحسن الظن بهما، أو لاعتقاده أن هذا التناجي من أجل تدبير شيء يسوءه، وهذا إذا أساء الظن بهما.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على كمال الشريعة وعنايتها بمكارم الأخلاق ورعايتها لمصالح العباد، وحرصها على كل ما ينشر المحبة بين المسلمين، والنهي عن كل ما يؤدي إلى إدخال الأذى أو الحزن على أحد من المسلمين.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على نهي الاثنين عن التناجي إذا كان في المجلس شخص ثالث، وظاهر النهي أنه للتحريم بدليل تعليله بقوله:"من أجل أن ذلك يحزنه" وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن إحزان المؤمنين من
(1)
"المفهم"(5/ 524).
(2)
"فتح الباري"(11/ 82).
(3)
"فتح الباري"(11/ 83).
تسويل الشيطان وتزيينه، قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] أي: ليسوءهم، وقد نهينا عن اتباع طرقه ومسالكه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]، ثم إن هذا التناجي فيه إيذاء للمؤمن، والله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، قال ابن رجب:(تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق)
(1)
.
وقد نقل ابن بطال عن أشهب عن مالك أنه قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد؛ لأنه قد نهي أن يُتْرَكَ واحد، قال: ولا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحدًا، قال ابن بطال: وهذا القول يستنبط من هذا الحديث؛ لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين له
(2)
. وقال القرطبي: (بل وجود المعنى في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون المنع أولى)
(3)
.
ولا فرق في ذلك بين الحضر والسفر لعموم الحديث، وهو قول الجمهور
(4)
، وقد يكون السفر أعظم من أجل أن الخوف فيه أغلب على المرء والوحشة إليه أسرع، وقد ورد في هذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
…
ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون صاحبهما"
(5)
.
° الوجه الخامس: دلّ الحديث بمفهومه على أنهم إذا كانوا أربعة لم يمتنع تناجي اثنين لإمكان أن يتناجى الاثنان الآخران، وقد أفتى بذلك راوي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" من
(1)
"جامع العلوم والحكم" ص (294).
(2)
"شرح ابن بطال"(9/ 64).
(3)
"المفهم"(5/ 525).
(4)
"فتح الباري"(11/ 84).
(5)
رواه أحمد (11/ 227) بسند فيه ابن لهيعة، وعلى فرض صحته فهو متعلق بعلة النهي الثانية وهي تدبير أمر يسوءه، كما تقدم. "فتح الباري"(11/ 84).
طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه، وفيه: قال أبو صالح: فقلت لابن عمر: فأربعة؟ قال: لا يضرك
(1)
.
° الوجه السادس: محل النهي عن تناجي اثنين دون الثالث إذا كان الثالث معهما في ابتداء النجوى، فأما إذا انفرد اثنان فتناجيا، ثم جاء ثالث أثناء تناجيهما فليس عليهما قطع التناجي لأجله، لعدم وجود المعنى الذي دلّ عليه الحديث.
° الوجه السابع: ظاهر الحديث أن النهي عن التناجي إنما هو إذا تأذى به مسلم، أما إذا لم يحصل به أذية فلا بأس بالتناجي، بأن يتناجي اثنان بحضرة جماعة، أو يتناجى اثنان بعد استئذان الثالث، والله تعالى أعلم.
(1)
"الأدب المفرد"(1170)، ورواه أبو داود (4852)، وابن أبي شيبة (8/ 581)، وأحمد (9/ 66)، وابن حبان "في صحيحه"(2/ 345، 346)، ورواه مالك في "الموطأ" (2/ 988) عن عبد الله بن دينار قال: كنت أنا وعبد الله بن عمر
…
وساق الحديث بأطول مما هنا. انظر: "التمهيد"(5/ 288)، "فتح الباري"(11/ 83).
ما جاء في النهي عن إقامة الإنسان من مجلسه
1451/ 5 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاستئذان"، باب ({إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا. .. } [المجادلة: 11]) (627)، ومسلم (2177)(28) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقيم الرجل الرجل من مقعده. . .. " الحديث. واللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري: "نهى أن يُقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا". وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يقيم) بالرفع على أن (لا) نافية، وجاء في رواية مسلم من طريق الليث، عن نافع بلفظ:(لا يقيمنَّ) وهذه صيغة نهي مؤكدة بنون التوكيد، فيكون مبينًا لصيغة النفي وأنها بمعنى النهي، ولفظ البخاري:"نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر".
قوله: (الرجل) أي: والمرأة كذلك، وذكر الرجل لكونه أشرف.
قوله: (من مجلسه) بفتح الميم وكسر اللام مكان الجلوس، ولفظ مسلم:"من مقعده" كما تقدم.
قوله: (ولكن تفسَّحوا وتوسعوا) أي: وليقل الرجل لأهل المجلس: تفسحوا وتوسعوا، وهما بمعنى واحد، فالعطف تفسيري، وقيل: لكل لفظ معنى، فمعنى الأول أن يوسعوا فيما بينهم للداخل بحيث يجد مكانًا يجلس فيه، ومعنى الثاني أن ينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل في آخر المجلس مكان للداخل، وهذا أحسن من القول بالترادف؛ لأنه أكثر فائدة
(1)
.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم غيره من مكانه ثم يجلس هو فيه، هذا ظاهر النهي في الحديث، فمن سبق إلى موضع مباح في مسجد أو غيره لصلاة أو غيرها من الطاعات فهو أحق به، ويحرم على غيره أن يقيمه منه، وليس الحديث خاصًّا بموضع الطاعة بل يشمل من سبق إلى موضع مخصوص لتجارة أو حرفة أو غيرهما فيكون أحق بهذا المكان، وليس لغيره أن يجلس فيه.
والحكمة من ذلك منع استنقاص حق المسلم المقتضي للضغائن والأحقاد، والحث على التواضع وأسباب التآلف والمودة، وهذا إنما يكون بجلوس الشخص انتهى به المجلس، سواء أكان ذلك في صدر المجلس أو أسفله، فإذا دخل المسجد فإنه ينتهي إلى طرف الصف أو إلى سَدِّ الفرجة إن كان في الصف فرجة ولا يقيم أحدًا، وإذا دخل المجلس انتهى حيث ينتهي الجلوس. وذلك لأن طلب القادم محلًا مخصوصًا قد سبقه إليه غيره فيقيمه منه ليجلس هو فيه أو يضغطه به بغي وعدوان وليس ذلك من شأن أهل الإيمان
(2)
.
لكن لو قام القاعد من محله لغيره فظاهر الحديث الجواز، وقد روى مسلم من طريق الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه
(3)
، وهذا محمول من ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يقبل
(1)
"بهجة النفوس"(4/ 195).
(2)
"دليل الفالحين"(3/ 310، 311).
(3)
"صحيح مسلم"(2177)(29).
الإيثار تورعًا
(1)
؛ لأنه يخشى أن الذي آثره كان مستحييًا ولم تطب نفسه، أو أنه آثره، والإيثار بالقرب مكروه، أو خلاف الأوْلَى، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمتنع عن ذلك؛ لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهًا أو خلاف الأولى
(2)
.
فإذا قام لك إنسان فينبغي أن تتورع كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما، إلا إذا علمت أن ذلك عن محبة لك وتقدير فلا بأس.
° الوجه الرابع: ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث ليس عامًّا في الناس بل هو خاص بغير المجانين ومن يحصل منه الأذى كآكل البصل والثوم النيء إذا دخل المسجد، والسفيه إذا دخل مجلس العلم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"
(3)
، لكن قد يقال: إن ما ذكر من الأمور النادرة، ولو فُتح باب الاستثناء لكثر.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه إذا دخل المجلس إنسان ولم يجد مكانًا فيه، فإن الجالسين مأمورون بأن يوسعوا فيما بينهم للداخل أن يقعد أو ينضم بعضهم إلى بعض حتى يبقى له في المجلس مكان يقعد فيه، فأي الأمرين فعلوا أصابوا السنّة، بشرط ألا يحصل ضرر على الجالسين، فإن حصل عليهم ضرر لم يلزمهم شيء من ذلك، لكن من حسن المعاملة ينبغي أن يُعتذر له حتى ينصرف وهو طيب النفس، لعموم قوله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]
(4)
.
وهذا دليل واضح على أن الشريعة الإسلامية شريعة شاملة لكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم ودنياهم، حيث جاءت بهذه الآداب الكريمة والأخلاق العالية التي هي كفيلة بإنشاء مجتمع فاضل متأدب بآداب الإسلام. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "شرح رياض الصالحين"(6/ 350).
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم"(14/ 411)، "دليل الفالحين" (3/ 310). وانظر: كلامًا ماتعًا لابن القيم عن الإيثار في "طريق الهجرتين"(2/ 645).
(3)
انظر: "بهجة النفوس"(4/ 194)، "فتح الباري"(11/ 63)، والحديث تقدم تخريجه في "البيوع" برقم (920).
(4)
"بهجة النفوس"(4/ 194).
استحباب لعق الأصابع بعد الطعام
1452/ 6 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ، حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأطعمة"، باب (لعق الأصابع ومَصَّهَا قبل أن تُمسح بالمنديل)(5456)، ومسلم (2031) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
وهذا لفظ مسلم؛ لأن لفظة: (طعامًا) ليست عند البخاري.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا أكل أحدكم طعامًا) هذا لفظ مسلم، وفي رواية:(من طعام)، والمراد ما كان فيه رطوبة تعلق بالأصابع، بخلاف ما كان جافًا لا رطوبة فيه فلا يأتي فيه هذا النهي.
قوله: (فلا يمسحْ يده) بالجزم على أن (لا) ناهية، والمعنى: لا يُزِلْ أثر الطعام بمنديل ونحوه.
قوله: (حتى يَلْعَقَها) بفتح التحتية والمهملة؛ أي: يلحسها هو بلسانه، تقول: لَعِقْتُ الشيء -بالكسر- من باب تَعِبَ أَلْعَقُه -بالفتح- لَعَقًا، ويتعدى بالهمزة كما سيأتي.
قوله: (أو يُلْعِقَها) أو: للتنويع، والفعل بضم التحتية وكسر المهملة من
الرباعي المتعدي ألعق، وهو ينصب مفعولين، والثاني هنا محذوف؛ أي: أو يلعقها غيره كزوجته -مثلًا- إذا كانت لا تكره لعقها.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أدب من آداب الطعام وهو استحباب لعق الأصابع مما علق بها من الطعام قبل مسحها بمنديل أو نحوه، أو غسلها بالماء، وذلك من باب المحافظة على بركة الطعام والتنظيف لها.
والقول بالاستحباب هو مذهب الجمهور، لما ثبت من السنّة القولية، كما تقدم، والسنّة العملية، كما سيأتي.
وذهب ابن حزم إلى أن ذلك فرض، فقال:(وما سقط من الطعام ففرض أكله، ولعق الأصابع بعد تمام الأكل فرض، ولعق الصحفة إذا تم ما فيها فرض.)
(1)
، وتبعه على هذا الصنعاني
(2)
.
وقد ثبت التصريح بالعلة في هذا الإرشاد النبوي الكريم في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال:"إنكم لا تدرون في أيَّهِ البركة"
(3)
، وهذه البركة شاملة لحصول التغذية بهذا الطعام وسلامة عاقبته من الأذى، والتقوي به على طاعة الله تعالى وغير ذلك.
وفيه تربية على التواضع والمحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول والمشروب وإن كان تافهًا حقيرًا في العرف؛ لأن التنصيص على علة لا يلزم منه أنه ليس ثَمَّ علة أخرى
(4)
.
ويمكن أن نضيف تطبيق السنّة والأمر بها حتى بما يعده الناس في العرف دناءة
(5)
.
° الوجه الرابع: في هذا الحديث رد على من كره لعق الأصابع أو الصحفة استقذارًا، فإن الاستقذار إنما يكون لو أنه لعقها أثناء الأكل ثم
(1)
"المحلى"(7/ 434، 435).
(2)
"سبل السلام"(8/ 182).
(3)
"صحيح مسلم"(2032)(133).
(4)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(10/ 125).
(5)
"الإعلام"(10/ 126).
أعادها إلى الطعام وعليها أثر ريقه، أما لعقه ما تبقى عليها بعد الأكل أو ما يبقى في الإناء فهو جزء من أجزاء ما أكله.
° الوجه الخامس: استدل بعض العلماء بقوله: "فلا يمسح يده" على جواز الأكل بجميع أصابع اليد، لكن الأكل بثلاث أصابع - الوسطى والسبابة والإبهام - هو السنّة، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها)
(1)
. وذلك لأن الأكل بهذه الصفة أدل على عدم الشره، وأقرب إلى التواضع، وفيه -كما يقول ابن القيم- راحة لآلات الطعام والمعدة فلا يشبع إلا بعد طول، لكن هذا محمول على الطعام الذي تكفي فيه ثلاثة أصابع، أما الطعام الذي لا تكفي فيه ثلاثة أصابع كالرز -مثلًا- فلا بأس بأن يأكل بأكثر.
° الوجه السادس: قد يشكل على بعض الناس إلعاق الأصابع لغيره، والحق أن هذا ممكن والحمد لله، فقد يكون بين الرجل وزوجته من المحبة ما يسهل على كل واحد منهما أن يلعق أصابع الآخر، وقد يتأتى هذا من الولد لأبيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح مسلم"(2032)(132).
(2)
"شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 230).
بعض آداب السلام
1453/ 7 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيُسَلِّمِ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "وَالرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي".
° الكلام عليه من وجده:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاستئذان"، باب (تسليم القليل على الكثير)(3231) من طريق همام بن منبه، وفي باب (يسلم الصغير على الكبير)(3234) من طريق عطاء بن يسار، ورواه البخاري (6232)، ومسلم (2160) من طريق ثابت بن الأحنف مولى عبد الرحمن بن زيد، ثلاثتهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا لفظ البخاري، وعزوه للمتفق عليه فيه نظر، فإن لفظة:"ليسلم الصغير على الكبير" ليست عند مسلم، كما نص على ذلك الحافظ نفسه
(1)
.
وقوله: وفي رواية لمسلم: "والراكب على الماشي" هذا هو لفظ مسلم في الحديث بالإسناد المذكور، وهو أيضًا عند البخاري بالإسناد نفسه كما تقدم.
(1)
"فتح الباري"(11/ 14).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ليسلم) بكسر اللام وهي لام الأمر، والمضارع بعدها مجزوم بها، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، ولفظ "الصحيحين":(يسلم) بدون اللام، قال الحافظ:("يسلم": كذا للجميع بصيغة الخبر، وهو بمعنى الأمر، وقد ورد صريحًا في رواية عبد الرزاق، عن معمر عند أحمد بلفظ: "ليسلم")
(1)
.
قوله: (والمارُّ) هذا لفظ البخاري، ولهما: والماشي.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الصغير مأمور بالسلام على الكبير، وذلك لأجل حق الكبير، ولأن الصغير مأمور بتوقير الكبير والتواضع له. والصحيح من قولي أهل العلم وجوب رد البالغ إذا سلم عليه صبي
(2)
؛ لعموم: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] أي: سواء حياكم صبي أو بالغ. فإن بدأ الكبير بالسلام على الصغير حاز الفضيلة وأدرك صفة التواضع، وقد نقل النووي اتفاق العلماء على استحباب السلام على الصبيان
(3)
؛ لحديث أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله
(4)
، وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على غلمان فسلم عليهم
(5)
. قال ابن بطال: (في السلام على الصبيان تدريب لهم على تعليم السنن، ورياضة لهم على آداب الشريعة؛ ليبلغوا حد التكليف وهم متأدبون بآداب الإسلام)
(6)
. وأضاف الحافظ: (وفيه طرح الأكابر رداءَ الكِبْرِ، وسلوك التواضع، ولين الجانب)
(7)
، وإن هذه الحكم العظيمة إضافة إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لداعية للمسلم إلى
(1)
"فتح الباري"(11/ 16).
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم"(13/ 398).
(3)
المصدر السابق.
(4)
رواه البخاري (6247)، ومسلم (2168).
(5)
رواه مسلم (2168).
(6)
"شرح ابن بطال"(9/ 27).
(7)
"فتح الباري"(11/ 33).
أن يحرص على السلام على الصبيان الذي صار في هذا الزمان في عداد السنن المهجورة.
وقد صحح النووي أنه لا يجب الرد على الصبي؛ لأنه ليس من أهل الفرض، قال:(لكن الأدب والمستحب له الجواب)
(1)
.
لكن لو تعارض الصِّغَرُ المعنوي والحسي كان يكون الأصغرُ أعلمَ من الكبير، فقد ذكر الحافظ أنه لم يرَ فيه نقلًا، ثم استظهر اعتبار السن، أخذًا بظاهر الحديث من باب تقديم الحقيقة على المجاز
(2)
.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المار مأمور بالسلام على القاعد تشبيهًا له بالداخل على أهل المنزل، أو لأن القاعد على حال وقار وسكون وثبوت فله بذلك مزية على الماشي؛ لأن حاله على الضد من ذلك، أو لأن المار يكون متعليًا على القاعد فأمر بالسلام عليه.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن العدد القليل مأمور بابتداء السلام على العدد الكثير، وذلك لفضيلة الجماعة، فإن لهم حقًّا على القلة.
° الوجه السادس: الحديث دليل على أن الراكب مأمور بابتداء السلام على الماشي؛ لأن الراكب يكون متعليًا على الماشي، ولئلا يتكبر بركوبه، فأمر بذلك ليرجع إلى التواضع.
قال ابن العربي: (حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوعٍ ما يبدأ الفاضل، فإذا تساوى المتلاقيان مثل راكبين أو ماشيين فكل منهما مأمور بابتداء السلام، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ليحصل على امتثال السنّة، ويحوز الفضائل المرتبة على ذلك، فإن الحرص على البدء بالسلام دليل الاهتمام بآداب الشريعة وخلوص النية والحرص على اكتساب الثواب)
(3)
. أما بالنسبة
(1)
"الفتوحات الربانية"(5/ 313).
(2)
"فتح الباري"(11/ 17).
(3)
"عارضة الأحوذي"(10/ 171).
إلى رد السلام فيما لو تلاقى شخصان وسَلَّمَ كل واحد على صاحبه، فإن الرد واجب على كل واحد منهما للآخر، لكن إن وقع السلامان معًا وجب الرد؛ لعموم الأدلة، وإن سلم أحدهما بعد الآخر كفى سلام المتأخر ردًّا على سلام الأول، وبعض العلماء يشترط على المتأخر أن ينوي بسلامه الرد على صاحبه
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "روضة الطالبين"(10/ 228)، "الآداب الشرعية"(1/ 381)، "فتح الباري".
ما جاء في سلام الجماعة ورَدِّهِمْ
1454/ 8 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلَّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيهَقِيُّ.
° الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأدب"، باب (ما جاء في رد الواحد عن الجماعة)(5210)، والبيهقي (9/ 49) قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، ثنا عبد الملك بن إبراهيم الجُدِّي، ثنا سعيد بن خالد الخزاعي قال: حدثني عبد الله بن الفضل، حدثنا عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال أبو داود: رفعه الحسن بن علي، قال:(يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم).
وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه سعيد بن خالد الخزاعي المدني، وهو ضعيف، قال البخاري:(فيه نظر)، وقال أبو حاتم وأبو زرعة:(ضعيف الحديث)، وقال الدارقطني:(ليس بالقوي)، وقال ابن حبان:(كان ممن يخطئ حتى لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد)
(1)
.
ولما ذكر الدارقطني في "العلل" الاختلاف في سنده قال: (والحديث
(1)
"التاريخ الأوسط"(3/ 598)، "الجرح والتعديل"(4/ 16)، "المجروحين"(1/ 407)، "تهذيب التهذيب"(4/ 19).
غير ثابت، تفرد به سعيد بن خالد، عن عبد الله بن الفضل، وليس بالقوي، يعني سعيد بن خالد)
(1)
، وضعفه -أيضًا- الحافظ في "الفتح"
(2)
.
والحديث له شواهد كلها ضعيفة، ذكرها الألباني ثم قال:(لعل الحديث بهذه الطرق يتقوّى فيصير حسنًا، بل هذا هو الظاهر، والله أعلم)
(3)
.
والذي يظهر أن حديث الباب ضعيف لا يحتج به، فقد تفرد به سعيد بن خالد الخزاعي، على أن ابن عبد البر قد ذكر علة ثانية، وهي أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع، بينهما الأعرج في غير ما حديث
(4)
.
وشواهده كلها معلولة، لا تقوى على رفعه من الضعف إلى درجة الحسن، والله أعلم.
وأما عزو الحافظ الحديث لأحمد فإني لم أجده في "المسند" ولا عزاه إليه الحافظ لا في "أطراف المسند" ولا في "الفتح"
(5)
.
° الوجه الثاني: يستدل العلماء بهذا الحديث على أنه يجزئ الواحد في السلام عن الجماعة، كما يجزئ الواحد في رد السلام عن الجماعة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم
(6)
؛ لأن رد السلام من الجماعة من فروض الكفاية، إذا قام به من يكفي أجزأ عن غيرهم، لكن لو كان في الجماعة رجال وصبيان فَرَدَّ صبي، فهل يسقط الفرض عنهم بذلك؟ قولان، فمن أهل العلم من اشترط في المراد أن يكون مكلفًا، وعليه فلا يسقط الفرض برد الصبي؛ لأنه ليس أهلًا للفرض، والرد فرض، وقال آخرون: يسقط، وذكر النووي أنه أصح الوجهين عند الشافعية
(7)
، وهو قول وجيه.
(1)
"العلل"(4/ 21، 22).
(2)
"فتح الباري"(11/ 7).
(3)
"الإرواء"(3/ 242).
(4)
"التمهيد"(5/ 290).
(5)
انظر: "فتح الباري"(11/ 7).
(6)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 1133)، "الدر المختار"(5/ 265)، "الأذكار" ص (415)، "الآداب الشرعية"(1/ 374).
(7)
انظر: "الأذكار" ص (401)، "الآداب الشرعية"(1/ 422)، "الفتوحات الربانية"(5/ 315).
والأفضل في الابتداء أن يسلم الجميع، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أفشوا السلام"، كما أن الأفضل أن يرد الجميع.
ونقل ابن عبد البر عن الطحاوي أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة كان ينكر الحديث الدال على أنه يرد الواحد، ويقول: لا يجزئ إلا أن يردوا جميعًا، فهو يفرق بين ابتداء السلام الذي هو سنّة، وبيّن ردّه الذي هو واجب
(1)
.
وكأن الطحاوي يميل إلى هذا الرأي، ويرى أنه لم يصح في هذا الباب شيء يعتمد عليه، وهذا جيد في نظري، فإن الحديث ضعيف لا يقوى على إسقاط حكم شرعي ثابت بالأحاديث الصحيحة، وهو وجوب رد السلام، فيبقى فرض عين على كل واحد من الجماعة حتى يثبت الدليل الناقل له عن ذلك
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"التمهيد"(5/ 288).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(5/ 298)، "فتح الباري"(11/ 7)، "شرح الزرقاني على الموطأ"(4/ 358).
النهي عن السلام على أهل الكتاب
1455/ 9 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ والنَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إلى أَضْيَقِهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه والكلام عليه في آخر "الجهاد" برقم (1319)، وقد رواه مسلم في كتاب "السلام"، باب (النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم؟)(2168) من طريق عبد العزيز -يعني الدراوردي- عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
وقول الحافظ: (وعنه) هكذا في المخطوطة
(1)
ونسخ "البلوغ"، وظاهره أنه من حديث علي رضي الله عنه لأنه هو الذي قبله، وهذا وهم من الحافظ أو من النساخ؛ لأن هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد سبق في كتاب "الجهاد"، ثم إن الأحاديث التي بعده كلها من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ساقها بلفظ الإحالة على ما قبلها.
° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ أحدًا من اليهود أو النصارى بالسلام، وذلك لأن ابتداء السلام عليهم فيه مفاسد، منها:
(1)
هذه المخطوطة سبق ذكرها في (7/ 125)، وقد فرغ ناسخها منها في الثاني عشر من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، أي: قبل وفاة الحافظ ابن حجر بأربع سنوات.
1 -
الوقوع في النهي الثابت في السنّة، والأصل في النهي التحريم، وهو الصحيح عند الشافعية، وهو قول الحنابلة، ورجحه النووي
(1)
، وحَمْلُهُ على الكراهة؛ لعموم أحاديث الأمر بإفشاء السلام قول ضعيف؛ لأنها مخصوصة بهذا الحديث، وذهب فريق ثالث إلى جواز ابتدائهم بالسلام لضرورة أو حاجة أو سبب، وهو قول جماعة، منهم علقمة والنخعي
(2)
، والصواب الأول؛ لأن حديث الباب نص صحيح صريح في المراد، ولا يصرف عن ظاهره إلا بدليل.
2 -
أن السلام عليهم نوع من الإكرام والذُّلِّ لهم، وهم ليسوا أهلًا للإكرام.
3 -
أن السلام عليهم سبب للتحاب معهم والتواد، والله تعالى قد نهى عن ذلك، قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
4 -
أن السلام عليهم فيه إذهاب وهج الحسد من قلوبهم، وهم قد حسدونا على السلام، كما في حديث عائشة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين"
(3)
، فإذا سلم عليهم أدخل السرور على أفئدتهم لتشريكهم في هذه التحية.
وإذا نُهي المسلم عن ابتداء اليهود والنصارى بالسلام وهم أهل كتاب فغيرهم من المشركين كالهندوس والبوذيين أولى.
ومما يؤسف عليه أن من المسلمين من لم يقم لهذا النهي وما اشتمل عليه من الحكم والأسرار أي اعتبار، فتراه لا يفرق بين مسلم وكافر في التحية، فيسلم على الكافر كما يسلم على المسلم، ويظن ذلك من المحامد
(1)
"شرح صحيح مسلم"(14/ 396)، "الإنصاف"(4/ 233).
(2)
"شرح النووي"(14/ 396)، "الإنصاف"(4/ 233)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 264).
(3)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(988)، وابن ماجه (856)، وسنده صحيح، قاله البوصيري في "الزوائد" (1/ 297). وانظر:"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 22).
والآداب المطلوبة، وسبب هذا كثرة وفود الكفار إلى ديار المسلمين واختلاطهم بهم وكثرة سفر المسلمين إلى ديارهم مما أذهب الغيرة، وأضعف واجب البراءة والعداوة للكافرين في قلوب كثير من الناس.
° الوجه الثالث: مفهوم النهي عن ابتدائهم بالسلام أنه لا نهي عن ردِّ السلام عليهم، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك"
(1)
. وقد نقل النووي اتفاق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، لكن من الفقهاء من قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، ومنهم من قال: لا بأس به
(2)
، وأما صيغة الرد فإنه لا يقال: وعليكم السلام، بل يقال: عليكم أو وعليكم، -بالواو- وهو الأرجح. ويرى ابن القيم أن الذمي إذا قال: سلام عليكم، أن الذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليكم السلام، قال: لأن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فندب إلى الفضل، وأوجب العدل
(3)
.
° الوجه الرابع: يرى بعض فقهاء الشافعية جواز ابتداء الذمي بغير لفظ السلام، مثل: كيف أصبحت، كيف أمسيت، كيف حالك؟ ونحو ذلك، وقال بهذا النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ الألباني، والشيخ محمد العثيمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن خاطب الذمي بكلام غير السلام مما يؤنسه به فلا بأس بذلك)
(4)
لكن منهم من أطلق، ومنهم من قيد ذلك بالحاجة إليه أو بما فيه مصلحة، كالتأليف لقلبه ونحو ذلك من المقاصد؛ لأن النهي المذكور في الحديث إنما هو عن السلام، وهو عند الإطلاق إنما يراد به
(1)
رواه البخاري (2163)، ومسلم (1798).
(2)
انظر: "تحية السلام في الإسلام"(2/ 544).
(3)
"أحكام أهل الذمة"(1/ 199)، وانظر:"الآداب الشرعية"(1/ 367)، "شرح رياض الصالحين"(4/ 425).
(4)
"الآداب الشرعية"(1/ 269).
السلام المعهود المتضمن لاسم الله تعالى، ولفظ السلام فيه من الفضائل ما ليس في مثل الألفاظ المذكورة، فإن لفظ السلام يتضمن الإكرام والدعاء -كما تقدم- أما هذه الألفاظ وما شابهها فهي مجرد تحية وترحيب وسؤال
(1)
.
وذهبت الحنابلة في المشهور عندهم إلى أنه لا يجوز ابتداء الذمي بمثل هذه الألفاظ؛ لأنها بمعنى السلام، فهي مقيسة عليه، لكن هذا قياس مع الفارق؛ لما تقدم.
وقد نص الإمام أحمد على كراهة ذلك فقال -في رواية أبي داود-: (أكرهه، هذا عندي أكثر من السلام) وكأن فقهاء الحنابلة اعتمدوا على هذا
(2)
.
° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه لا يجوز توسعة الطريق لليهود والنصارى بل نضطرهم إلى أضيقها؛ لأن فسح الطريق لهم نوع إكوام لهم، وهم لا يستحقونه، والمراد بالحديث حال المشي على الأقدام، وأما في السيارة ونحوها فهذا غير مراد؛ لما يترتب عليه من الخطر.
° الوجه السادس: الحديث دليل على أن الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق فإن المسلم لا يفسح له؛ لأن هذا من إكرامه، بل يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم، إذلالًا للكتابي وإشعارًا بعزة الإسلام، وهذا مقيد عند العلماء بقيدين:
الأول: أن هذا عند الزحام وضيق الطريق، فيركب المسلمون صدر الطريق، ويكون الذمي في أضيقه، فإن خلت الطريق من الزحام أو كانت واسعة فلا بأس.
(1)
انظر: "الفروع"(6/ 271)، "الفتوحات الربانية"(5/ 345)، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (704)، "الشرح الممتع"(7/ 73 - 74)، "شرح رياض الصالحين"(4/ 426).
(2)
انظر: "الآداب الشرعية"(1/ 268)، "المغني"(13/ 252)، "الإنصاف"(4/ 233)، "منار السبيل"(1/ 303).
الثاني: أن هذا التضييق مقيد بحيث لا يقع الذمي في ضرر، كأن يقع في حفرة أو يصدمه جدار ونحوه
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(14/ 398)، "دليل الفالحين"(3/ 349).
صفة تشميتِ العاطس وجوابهِ
1456/ 10 - وَعَنْهُ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَال:"إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ. وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإذَا قَال لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلِحُ بَالكُمْ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، بابٌ (إذا عطس كيف يُشَمَّتُ؟)(6224) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الحمد لله) الحمد: هو الاعتراف للمحمود بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه، واللام للاستحقاق، بمعنى أن الله تعالى وحده هو المستحق للحمد حقيقة، و (الله) اسم الله تعالى الخاص به، ومعناه: المألوه؛ أي: المعبود محبة وتعظيمًا.
قوله: (أخوه) لفظ البخاري: (وليقل له أخوه أو صاحبه) وهو شك من الراوي، والمراد بالأخوة: أخوة الإسلام، والتعبير بأحد هذين اللفظين تحريض على التشميت وحث عليه.
قوله: (يرحمك الله) يحتمل أن تكون جملة خبرية لفظًا إنشائية معنى، فيكون المراد بها الدعاء بالرحمة، ويحتمل أن تكون خبرية لفظًا ومعنى، فيكون المراد بها الإخبار عن طريق البشارة، وهذه الجملة تفسير للتشميت، أو
التسميت الوارد في أول أحاديث الباب "وإذا عطس فحمد الله فَسَمِّتْهُ".
قوله: (فليقل) أي: مقابلة للدعاء بمثله ومكافأة للجميل.
قوله: (يهديكم الله) أي: يرشدكم الله إلى ما يحب ويرضى، ويثبتكم ويسددكم ويعينكم.
قوله: (ويصلح بالكم) البال هو الحال، تقول: ما بالك؟ أي: ما حالك؟ والمعنى: يصلح حالكم وشأنكم، وقيل: البال: القلب، تقول: خطر ببالي؛ أي: بقلبي
(1)
، وقيل البال: رخاء العيش، يقال: هو رَخِيُّ البال، والمعنى الأول أنسب لعمومه ما بعده، وقد يقال: إن الثاني أنسب؛ لأنه إذا صلَح القلب صلَح الحال
(2)
.
وقد جاء إفراد الدعاء للعاطس وجمعه للمجيب ولو كان مفردًا فيهما، وهذا -والله أعلم- لأن الرحمة مدعو بها للعاطس وحده؛ لما أصابه مما تنحل به أعصابه ويضر سمته لولا الرحمة، وأما الهداية فمدعو بها لجميع المؤمنين ومنهم المخاطب، فلذا جمع الضمير
(3)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن العاطس مأمور بحمد الله تعالى بعد عطاسه؛ لأن العطاس نعمة من الله؛ لخروج هذه الريح المحتقنة في أجزاء من بدن الإنسان، ثم النعمة الثانية بقاء أعضاء بدنه على التئامها وهيئتها
(4)
. ولهذا يُحِسُّ العاطس بالخفة والنشاط بعد عطاسه. قال ابن هبيرة: (إذا عطس الإنسان استدل بذلك على صحة بدنه وجودة هضمه واستقامة قوته، فينبغي له أن يحمد الله، ولذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله)
(5)
.
وقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته .. " الحديث
(6)
؛ لأن العطاس دليل النشاط، والتثاؤب دليل الكسل، وقد
(1)
"المصباح المنير" ص (66).
(2)
"الفتوحات الربانية"(6/ 7).
(3)
"الفتوحات الربانية"(6/ 14).
(4)
"زاد المعاد"(2/ 438).
(5)
"الآداب الشرعية"(2/ 334).
(6)
رواه البخاري (6223).
نقل النووي الاتفاق على أن الحمد على العطاس مستحب
(1)
، وقال شارح "الأدب المفرد":(ظاهر الأمر الوجوب، ولكن لم يقل به أحد)
(2)
.
وصفة الحمد: الحمد لله، أو الحمد لله رب العالمين، أو الحمد لله على كل حال، والصيغة الأولى هي الثابتة في "الصحيحين" وما عداها فالظاهر أنه شاذ
(3)
، على أن ابن بطال قد ذكر اختلاف السلف في ذلك، وذكر أن كل صيغة قال بها طائفة
(4)
، وصحح النووي أن العاطس مخير
(5)
.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من سمع العاطس يحمد الله فإنه مأمور بأن يقول له: يرحمك الله، قال ابن دقيق العيد:(ظاهر الأمر الوجوب)
(6)
، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"فحق على كل مسلم أن يشمته" فوصفه بأنه حق، وأتى بـ (على) الظاهرة في الوجوب، وقد قال بالوجوب العينيِّ الظاهرية
(7)
، وبعض المالكية
(8)
، ومنهم ابن العربي، قال ابن القيم:(وهو الصواب للأحاديث الصريحة الظاهرة في الوجوب من غير معارض)
(9)
.
والقول الثاني: أن تشميت العاطس فرض كفاية كرد السلام، وهذا قول الحنفية والحنابلة، ورجحه ابن رشد، وقال الحافظ ابن حجر:(وهو الراجح من حيث الدليل)
(10)
.
والقول الثالث: أنه مستحب، وهو قول الشافعي
(11)
، وبعض المالكية، حملًا للأمر على الندب والأدب
(12)
.
(1)
"الأذكار" ص (433).
(2)
"فضل الله الصمد"(2/ 375).
(3)
"الإرواء"(3/ 245).
(4)
"شرح صحيح البخاري"(17/ 367).
(5)
"شرح صحيح مسلم"(17/ 331).
(6)
انظر: "إحكام الأحكام"(4/ 492).
(7)
"المحلى"(3/ 143).
(8)
"بهجة النفوس"(4/ 187).
(9)
"عارضة الأحوذي"(10/ 200)، "مختصر تهذيب السنن"(7/ 312)، "زاد المعاد"(2/ 437).
(10)
"فتح الباري"(10/ 603). وانظر: "الفتوحات الربانية"(6/ 16) فقد ذكر احتمال وقوع تردد عند ابن العربي، والذي في "العارضة" هو ما تقدم.
(11)
"الأذكار" ص (434، 435).
(12)
"شرح ابن بطال"(9/ 367).
والذي يظهر -والله أعلم- هو القول الأول، فإن الأحاديث ظاهرة في أن التشميت فرض عين على كل من سمع العاطس يحمد الله. ولا يجزئ تشميت الواحد عنهم، فإن قوله:(وليقل له أخوه. .. ) أمر ورد في عموم المكلفين مخاطبًا به كل فرد منهم، ومثل هذا لا يسقط إلا بفعل الجميع
(1)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه ينبغي للعاطس أن يكافئ من دعا له بالرحمة بأن يدعو له بالهداية وإصلاح البال.
° الوجه السادس: ظاهر الحديث أن تشميت العاطس مشروع إذا قال: الحمد لله، وقد جاء هذا صريحًا في حديث أنس رضي الله عنه قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني، قال: (إن هذا حمد الله ولم تحمد الله"
(2)
، وقد بوّب عليه البخاري بقوله:(بَابٌ: لا يشمَّت العاطس إذا لم يحمد الله)
(3)
.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه"
(4)
.
وعلى هذا فإذا عطس ولم يحمد فإنه لا يشمت، لقوله:"فلا تشتموه" واختار هذا ابن العربي، وقد نقل ابن بطال الإجماع على ذلك
(5)
، قال الحافظ:(هو منطوقه، ولكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه؟ الجمهور على الثاني)
(6)
.
وفي هذا تعزير له وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد
(7)
.
والقول الثاني: أنه يُذكّر الحمد؛ لأن هذا من باب النصيحة والأمر بالمعروف والتعاون على البر والتقوى، واختار هذا النووي
(8)
.
(1)
زاد المعاد" (2/ 437).
(2)
رواه البخاري (6225)، ومسلم (2991).
(3)
"فتح الباري"(10/ 610).
(4)
رواه مسلم (2992).
(5)
شرح ابن بطال" (9/ 365)، "عارضة الأحوذي" (10/ 204).
(6)
"فتح الباري"(10/ 610).
(7)
"زاد المعاد"(2/ 442).
(8)
"الأذكار" ص (438).
والصواب الأول، لقوة مأخذه، قال ابن القيم: (وظاهر السنّة يقوّي قول ابن العربي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي عطس ولم يحمد الله، ولم يذكره
…
ولو كان تذكيره سنّة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها والإعانة عليها)
(1)
. لكن لو أخبر فيما بعد بهذا الأدب النبوي من باب التعليم لكونه جاهلًا لكان أفضل، وقد روى أبو نُعيم بسنده عن ابن حميد قال: عطس رجل عند ابن المبارك فلم يحمد الله، فقال ابن المبارك: إيش يقول العاطس إذا عطس؟ قال: يقول: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله
(2)
.
فإن حمد الله ولم يسمعه الإنسان فإنه لا يشمته، فإن كانوا جماعة فسمعه بعضهم دون بعض فمن أهل العلم من قال: يشمته من سمعه دون غيره؛ لأنه لم يسمعه، ورجح هذا النووي
(3)
، وقال آخرون: يشمتونه؛ لأنهم عرفوا عطاسه وحمده بتشميت غيره، ورجح هذا ابن العربي، واستظهره ابن القيم فقال:(والأظهر أنه يشمته إذا تحقق أنه حمد الله، وليس المقصود سماع المشمت للحمد، وإنما المقصود نفس حمده، فمتى تحقق ترتب عليه التشميت، كما لو كان المشمَّتُ أخرسَ ورأى حركة شفتيه بالحمد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: فإن حمد الله فشمتوه"، هذا هو الصواب)
(4)
. لكن قد يرد على كلام ابن القيم أمران:
الأول: أن تنظيره بالأخرس فيه نظر؛ لأن الأخرس قامت إشارته مقام عبارته لعجزه عن النطق، بخلاف الناطق فإنه قادر على الكلام، فاعتبر في حق المشمت سماع حمده حتى يشمته
(5)
.
الثاني: أنه قد يكون مَنْ عند العاطس جهلة لا يفرقون في التشميت بين الحامد وغيره، والتشميت متوقف على من علم أنه حَمِدَ، فيمتنع تشميت من لم يُسمع حَمْدُهُ ولو شمته من عنده؛ لأنه لا يَعْلَمُ هل حمد أو لا
(6)
.
(1)
"زاد المعاد"(2/ 442).
(2)
"الحلية"(8/ 170).
(3)
"الأذكار" ص (438).
(4)
انظر: "العارضة"(10/ 200)، "زاد المعاد"(2/ 442).
(5)
"الفتوحات الربانية"(6/ 26).
(6)
"فتح الباري"(10/ 610).
° الوجه السابع: استدل العلماء بقوله بقوله صلى الله عليه وسلم: "وليقل أخوه: يرحمك الله" على أن الكافر إذا عطس وحمد فإنه لا يدعى له بالرحمة، وإنما يقال له: يهديكم الله ويصلح بالكم، لما ورد في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول:"يهديكم الله ويصلح بالكم"
(1)
.
° الوجه الثامن: لم يبين في هذا الحديث الحد الذي ينتهي إليه تشميت العاطس، وقد دلّت السنّة أنه يُشَمَّتُ مرة واحدة، فإن زاد عطاسه عن ذلك لم يشمت، وقد ورد في هذا حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده فقال:"يرحمك الله" ثم عطس أخرى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الرجل مزكوم"
(2)
. والمعنى: أنك لست ممن يُشمت بعد هذا؛ لأن هذا الذي بك زكام ومرض، لا خفة العطاس
(3)
. وظاهر هذا أن العاطس لا يشمت إلا في الأولى، وفي الثانية يقال له:(أنت مزكوم)، وقد حكى ابن العربي القول بهذا عن بعض العلماء. قال ابن القيم:(وقوله: "الرجل مزكوم" تنبيه على الدعاء له بالعافية؛ لأن الزكمة علة، وفيه اعتذار عن ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيه له على هذه العلة ليتداركها ولا يهملها فيصعب أمرها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كله حكمة ورحمة وعلم وهدى)
(4)
.
وقد روى أبو داود بسنده عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سعيد: لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُشَمَّتُ المسلم إذا عطس ثلاث مرات، فإن زاد فهو زكام"
(5)
. وظاهر
(1)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(940)، وأبو داود (5038)، والترمذي (2739)، وأحمد (4/ 400). وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
(2)
رواه مسلم (2993).
(3)
انظر: "العارضة"(10/ 201)، "الفتوحات الربانية"(6/ 25).
(4)
"زاد المعاد"(2/ 441).
(5)
رواه أبو داود (5035)، ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد"(17/ 327)، ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(942) موقوفًا، وكذا رواه أبو داود (5034) من هذا =
هذا أنه يشمت إلى الثلاث. قال ابن عبد البر: (وهي زيادة يجب قبولها، والقول بها أولى). وقد حكى ابن العربي القول بهذا عن بعض العلماء، واختار هذا القول، كما اختاره النووي من بعده.
وقد ذكر ابن مفلح أنه لا يشمت أكثر من ثلاث مرات، وقال:(هذا هو المنصوص عن الإمام أحمد ومالك وغيرهم)
(1)
. وقال صالح بن أحمد لأبيه: تشمت العاطس في مجلسه ثلاثًا؟ قال: أكثر ما فيه ثلاث. ومثله نقله البغوي عن إبراهيم النخعي، والحسن البصري
(2)
.
° الوجه التاسع: ينبغي للعاطس أن يخفض صوته بالعطاس ولا يرفعه؛ لئلا يزعج أعضاءه، وعليه أن يغطي فمه ووجهه بيده أو بثوبه، أو بأي شيء آخر عند العطاس، لئلا يخرج من فمه شيء يؤذي جليسه أو يقع على ثوبه أو على طعام إن كان بحضرة طعام، أو يخرج منه شيء يفحش منظره؛ لأنه لا يملك نفسه عن العطاس، فلا يأمن ما يخرج منه. وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده، أو ثوبه على جبهته، وخفض -أو غضَّ- من صوته
(3)
.
وعليه أن يحذر أن يلوي عنقه يمينًا أو شمالًا صيانة لجليسه؛ لأنه قد يتضرر بذلك، فإنه لا يأمن الالتواء
(4)
. والله تعالى أعلم.
= الوجه موقوفًا، ولما ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال:(والموقوف أشبه). انظر: "العلل" للدارقطني (10/ 365)، وقارنه بما في "العلل" لابن أبي حاتم (2376).
(1)
"الآداب الشرعية"(2/ 353).
(2)
"شرح السنّة"(12/ 214).
(3)
رواه أبو داود (5029)، والترمذي (2745)، وأحمد (15/ 412) من طريق محمد بن عجلان، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
(4)
انظر: "عارضة الأحوذي"(10/ 205).
ما جاء في الشرب قائمًا
1457/ 11 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الأشربة"، باب (كراهية الشرب قائمًا)(2026) من طريق عمر بن حمزة، أخبرني أبو غطفان المرِّي أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحد منكم قائمًا فمن نسي فليستقئ.
وعمر بن حمزة -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب- وإن احتج به مسلم فقد تكلم فيه الأئمة، فقال عنه الإمام أحمد فيما نقله ابنه عبد الله:(أحاديثه أحاديث مناكير)
(1)
، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وضعفه ابن معين في رواية، وقال في أخرى:(صالح ليس بذاك)، وقال ابن عدي:(يكتب حديثه)، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(2)
وقال: (كان ممن يخطئ)، وقال الحاكم:(حديثه مستقيم)
(3)
، وقال الحافظ في "التقريب":(ضعيف).
وقد ذهب أبو الوليد الباجي إلى تضعيف الحديث فقال: (هذا الحديث رواه عمر بن حمزة، ولا يحتمل مثل هذا)
(4)
، وتبعه على هذا القاضي عياض فقال: (لم يدخل مالك في "موطئه" ولا البخاري في "صحيحه" أحاديث النهي
(1)
"العلل"(2/ 506).
(2)
(7/ 168).
(3)
"تهذيب الكمال"(21/ 311).
(4)
"المنتقى"(7/ 237).
عن الشرب قائمًا، فأدخلا إباحة ذلك من الأحاديث والأثار؛ إذ لم يصح عندهم النهي عن ذلك، والله أعلم
(1)
.
وذهب آخرون إلى تصحيح الحديث، ومنهم النووي، والحافظ ابن حجر، فإنه قال في رده على القاضي عياض:(وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الذي يشرب وهو قائم ما في بطنه لاستقاء" رواه أحمد، فالحديث بمجموع طرقه صحيح، والله أعلم)
(2)
.
لكن هذا الحديث من رواية معمر، عن الأعمش، وقد تفرد به، وهو كوفي، ورواية معمر عن أهل العراق تُكُلِّمَ فيها، فقد قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: (إذا حدثك معمر عن العراقيين فَخَفْهُ، إلا عن الزهري وابن طاوس، فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة والبصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئًا)
(3)
.
قال الباجي: (والذي يظهر لي أن الصحيح من حديث أبي هريرة إنما هو موقوف عليه)، وتابعه القاضي عياض فنقل عن بعض الشيوخ أنه قال:(والأظهر من هذا موقوف على أبي هريرة).
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المسلم منهي عن أن يشرب وهو قائم، وقد حمل ابن حزم هذا النهي على التحريم فقال: (ولا يحل الشرب قائمًا
…
)
(4)
، ومال الصنعاني إلى هذا
(5)
.
وأما الجمهور فقد اختلفت كلمتهم في هذا الحديث وما في معناه،
(1)
"إكمال المعلم"(6/ 491). وفيه: (إذا لم يصح .. ) ولعل الصواب ما أثبته. وانظر: "حكم الشرب قائمًا" للدكتور: سعد آل حُميِّد ص (15).
(2)
"فتح الباري"(10/ 83). وانظر: "المسند"(13/ 217).
(3)
"تاريخ ابن أبي خيثمة"(1/ 325)، (2/ 256).
(4)
"المحلى"(7/ 519).
(5)
"سبل السلام"(8/ 191).
كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
(1)
وما يأتي من حديث أنس رضي الله عنه، وسبب ذلك أنه ورد أحاديث أخرى من السنّة الفعلية معارضة في ظاهرها لهذا النهي، ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:(شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا من زمزم)
(2)
. وعن النزال بن سَبْرة قال: أُتي عليٌّ رضي الله عنه على باب الرحبة
(3)
بماء، فشرب قائمًا، فقال:(إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت)
(4)
. ومفاد ذلك جواز الشرب قائمًا، وهذا من تعارض القول والفعل عند الأصوليين.
فمن أهل العلم من ذهب إلى النسخ، وأن أحاديث جواز الشرب قائمًا ناسخة لأحاديث النهي، بقرينة عمل بعض الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم
(5)
رضي الله عنهم وكذا من جاء بعدهم من التابعين بالجواز، وهذا رأي الأثرم وابن شاهين، وقد عكس ذلك ابن حزم، فادعى أن أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الجواز متمسكًا بأن الجواز على البراءة الأصلية، وأحاديث النهي ناقلة عن البراءة مقررة لحكم الشرع
(6)
، وهذا مسلك ضعيف، فإن النسخ لا يُصار إليه مع إمكان الجمع ولو ثبت التاريخ، ولهذا عدَّ النووي القول بالنسخ غلطًا فاحشًا
(7)
.
وذهب آخرون إلى أن أحاديث الجواز خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها فعل، وأحاديث النهي عامة للأمة؛ لأنها قول، وهذا مسلك ضعيف أيضًا؛ لأن فعل علي رضي الله عنه ينفي الخصوصية.
(1)
رواه مسلم (2025).
(2)
رواه البخاري (5617)، ومسلم (2027)(117).
(3)
بفتح الراء والمهملة الموحدة: المكان المتسع، والمراد هنا: رحبة الكوفة. "فتح الباري"(10/ 81).
(4)
رواه البخاري (5615).
(5)
انظر: "الموطأ (2/ 925 - 926)، "فتح الباري" (10/ 84)، "حكم الشرب قائمًا ص (71).
(6)
انظر: "تاريخ الحديث ومنسوخه" للأثرم ص (230)، "الناسخ والمنسوخ من الحديث" لابن شاهين، ص (423 - 424)، "المحلى"(7/ 519).
(7)
"شرح صحيح مسلم"(13/ 207).
وذهب فريق ثالث إلى الجمع بين الأدلة، وهو أن أحاديث النهي محمولة على التنزيه، فهي نهي أدب وإرشاد حتى يكون تناول الماء على سكون وطمأنينة، وأحاديث شربه صلى الله عليه وسلم قائمًا محمولة على الجواز، ولا يكون ذلك مكروهًا في حقه صلى الله عليه وسلم أصلًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، والبيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الخطابي وابن جرير وابن بطال والنووي وآخرين
(1)
، وهذا هو الصواب؛ لأن فيه عملًا بالأحاديث كلها.
وقد ذكر ابن القيم أن أكثر شربه صلى الله عليه وسلم كان وهو قاعد، فينبغي للمسلم أن يحرص على ما كان هديًا معتادًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الأفضل وهو الأكمل، فإن شرب قائمًا أحيانًا أو لحاجة فلا بأس إن شاء الله.
وأما الأكل قائمًا فلم يثبت فيه نهي، لكن ورد في حديث قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا. قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أَشَرُّ أو أخبث
(2)
.
والمعنى إنه إذا نُهي عن الشرب قائمًا فالأكل من باب أولى؛ ولعل ذلك لطول زمن الأكل بالنسبة لزمن الشرب
(3)
، والنهي فيه ليس للتحريم، بل هو لكراهة التنزيه
(4)
بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام
(5)
.
(1)
انظر: "معالم السنن"(5/ 281)، "شرح ابن بطال"(6/ 72).
(2)
رواه مسلم (1024)(113).
(3)
انظر: "فتح الباري"(10/ 82).
(4)
انظر: "تحفة الأحوذي"(6/ 4).
(5)
رواه الترمذي (1880) في "جامعه" وفي "العلل الكبير"(2/ 791)، وابن ماجه (3301)، وابن أبي شيبة (7/ 18 - 18) ومن طريقه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائده"(10/ 113) من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي:(حديث حسن صحيح غريب) وقد نقل النووي تصحيح الترمذي في "رياض الصالحين" ص (306) وأقره.
والحديث أعله كبار الحفاظ كابن معين وابن المديني وأحمد والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم، ورأى بعضهم أن حفص بن غياث وهم فيه، والصواب فيه حديث عمران بن حدير، عن أبي البَزَرَى يزيد بن عطارد، عن ابن عمر رضي الله عنهما رواه أحمد =
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من شرب قائمًا واستطاع أن يقيء فليفعل، والأمر فيه محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وقد نقل القاضي عياض -كما تقدم- أنه لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائمًا ليس عليه أن يتقيأ، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع ثبوت الاستحباب، وذكر الناسي في الحديث من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا أُمر الناسي بالاستقاء وهو غير مخاطب، فالعامد المخاطب المكلف أولى، وكل هذا مبني على ثبوت الحديث، وقد تقدم الكلام فيه، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز:(الظاهر -والله أعلم- أن هذا منسوخ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب قائمًا مرات كثيرة ولم يستقئ، وهو عليه الصلاة والسلام أكثر الناس امتثالًا، فلعله منسوخ، أو وَهْمٌ من بعض الرواة)
(1)
. والله تعالى أعلم.
= (8/ 208) وغيره، وهذا سند ضعيف، يزيد بن عطارد قال عنه أبو حاتم:(لا أعلم روى عنه غير عمران بن حدير، وليس ممن يحتج بحديثه) وعلى هذا فهو مجهول، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 547) انظر:"التاريخ الكبير"(1/ 165)، "الجرح والتعديل"(9/ 281)، "العلل" لابن أبي حاتم (1500)، "سؤالات الآجري لأبي داود"(580)، "تاريخ بغداد"(8/ 195 - 196).
(1)
"الفوائد العلمية من الدروس البازية"(3/ 125).
ما جاء في صفة الانتعال
1458/ 12 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، فإذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشَّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ".
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث ذكر الحافظ من رواه مع الحديث الذي يليه، وقد رواه البخاري في كتاب "اللباس"، باب (ينزع نعله اليسرى)(5856)، ومسلم (2097)(68) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع" وهذا لفظ البخاري.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا انتعل أحدكم) أي: لبس النعل، يقال: تنعَّل وانتعل: لبس نعله.
قوله: (فإذا نزع) لفظ البخاري: (وإذا نزع)، وفي رواية عند مسلم:(وإذا خلع) أي: أراد خلع النعل.
قوله: (ولتكن اليمنى) جملة مستأنفة فيها معنى التأكيد لما قبلها، أو أنها إجمال لما تقدم.
قوله: (أولَهما تنعل) بضم التاء، والانتعال: لبس النعل، كما مرَّ،
وجملة (تنعل) في محل نصب خبر (تكن)، وقوله:(أولهما) بالنصب ظرف لقوله: (تنعل)، و (آخرهما) بالنصب ظرف لقوله:(تنزع).
° الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب البدء بالرَّجل اليمنى عند لبس النعل وتأخير لبس الرجل اليسرى، وذلك لأن لبس النعل كرامة للرجل والرِّجل اليمنى أحق بذلك؛ لأن السنّة استحباب الابتداء باليمين في كل ما كان من باب التكريم والزينة والنظافة.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب البدء بخلع نعل الرِّجل اليسرى وتأخير خلع اليمنى؛ لأن بقاء الرِّجل في النعل كرامة، وتقدم أنها أحق بها؛ لأن السنّة استحباب البداءة باليسار في كل ما هو ضد التكريم.
وقد نقل القاضي عياض وغيره الإجماع على أن الأمر في هذا الحديث للاستحباب والأدب
(1)
، وقال ابن عبد البر: (من مشى في نعل واحد أو خف واحدة، أو بدأ في انتعاله بشماله فقد أساء وخالف السنّة، وبئس ما صنع إذا كان بالنهي عالمًا، ولا يحرم عليه مع ذلك لُبْسُ نعله ولا خفّه، ولكن لا ينبغي له أن يعود، فالبركة والخير في اتباع أدب رسول الله وامتثال أمره صلى الله عليه وسلم"
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم"(6/ 616).
(2)
"التمهيد"(18/ 182).
النهي عن المشي في نعل واحدة
1459/ 13 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيَنْعَلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِمَا.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "اللباس"، باب (لا يمشي في نعل واحدة" (5855)، ومسلم (2097)(68) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمشِ أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعًا
…
" الحديث. وهذا لفظ مسلم.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يمشِ) المضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء.
قوله: (في نعل واحدة) النعل: مؤنثة بدليل وصفها بالمؤنث، قال ابن سيده:(النعل والنعلة: ما وَقَيْتَ به القدم من الأرض)
(1)
وقال ابن الأثير: (هي التي تلبس في المشي، تسمى الآن تاسومة)
(2)
، وهذا أخص من الأول؛ لأن ابن سيده أطلق النعل على كل ما تُوقَى به القدم.
قوله: (ولينعلهما) لفظ مسلم في النسخ المطبوعة بدون واو، والضمير يعود على النعلين، وقيل: على القدمين وإن لم يجر لهما ذكر؛ لأنه تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو النعل، وهذا مشهور في لغة العرب، وهو ألا يذكر مرجع
(1)
"النهاية"(5/ 82).
(2)
"المحكم"(2/ 114).
للضمير، وإنما يكون ما سبق من الكلام متضمنًا له؛ كقوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] فالضمير {هُوَ} يعود على العدل الذي تضمنه لفظ {اعْدِلُوا} ، وعود الضمير على النعلين أرجح بدليل رواية مسلم:(أو ليخلعهما) ولأنه يقال: نَعَلَ وانتعل، كما حكاه الجوهري
(1)
، وعلى هذا فالضمير يعود على مذكور.
والفعل (ينعل) يجوز فيه ضم الياء من أنعل الرباعي، ويجوز فتحها من نعل الثلاثي، يقال: أنعل رجله ونَعَلَها: إذا ألبسها نعلًا، وهذا إن كان الضمير يعود للقدمين، فإن عاد على النعلين تعين فتح الياء
(2)
، يقال: نَعَلَ يَنْعَلُ من باب فتح: لَبِسَ النعل، وقد ذكر القاضي عياض أن هذه اللفظة بالفتح
(3)
، وهذا أحسن لقوله تعالى:{فَاخْلَعْ نَعْلَيكَ} [طه: 12] ولقوله في الحديث: "وليخلعهما" فيكون معنى (ليَنْعلهما جميعًا) يلبس نعلهما جميعًا.
قوله: (جميعًا) حال؛ أي: في آن واحد فلا يمشي في نعل واحدة.
قوله: (أو ليخلعهما) أي: النعلين، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(لِيُحْفِهِمَا أو لِيُنْعِلْهما جميعًا) وهي بالحاء المهملة والفاء من الحفاء، يقال: حَفِيَ الرِجل يَحْفَى من باب تعب حفاءً: إذا مشى بغير نعل ولا خف
(4)
. قال النووي: (وكلاهما صحيح، ورواية البخاري أحسن)
(5)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المسلم منهي عن أن يمشي بنعل واحدة أو خف واحد، بل يخلعهما جميعًا أو يلبسهما جميعًا، وهذا النهي وإن كان ظاهره التحريم لكنه محمول عند الجمهور على كراهة التنزيه، بل نقل فيه الإجماع غير واحد منهم النووي
(6)
؛ لأنه من باب الأدب والإرشاد، وخالف فيه ابن حزم الظاهري فقال:(ولا يحل المشي في خف واحد ولا نعل واحدة)
(7)
ومال الصنعاني إلى هذا
(8)
.
(1)
"الصحاح"(5/ 1831).
(2)
"فتح الباري"(10/ 311).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 117).
(4)
"المصباح المنير" ص (143).
(5)
"شرح صحيح مسلم"(13/ 319).
(6)
"شرح صحيح مسلم"(13/ 320).
(7)
انظر: "سبل السلام"(8/ 194).
(8)
انظر: "المصدر السابق.
وقد اختلفوا في علة هذا النهي، فقيل: لأن النعال شرعت لوقاية الرِّجل عما في الأرض من شوك أو حجر أو حرارة ونحو ذلك، فإذا انفردت إحدى الرجلين بالنعل احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجية مشيته، ولا يأمن مع ذلك العِثَار، وقيل: لأن هذا من باب العدل بين الجوارح، وقيل: لئلا يكون من باب الشهرة فترفع إليه الأبصار، وقيل: لئلا ينسب إلى اختلال الرأي وضعفه
(1)
، وقيل: لأنها مشية الشيطان، وقد ورد في هذه العلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الشيطان يمشي بالنعل الواحدة"
(2)
. وقيل غير ذلك.
° الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن هذا النهي مخصوص بحالة المشي، بخلاف ما لو وقف أو جلس وعليه نعل واحدة، وذلك لانتفاء المفاسد المذكورة أو بعضها، وقيل: ذِكْرُ المشي تمثيل، فالوقوف والجلوس كذلك لا سيما وأن النعل زينة، فيكون فيه تزيين إحدى الرجلين دون الأخرى
(3)
، وهذا ليس من العدل. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "أعلام الحديث"(3/ 2149)، "فتح الباري"(10/ 309، 310).
(2)
رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(3/ 386 - 387). وانظر: "الصحيحة" رقم (348).
(3)
"طرح التثريب"(8/ 138).
ما جاء من الوعيد فيمن جرّ ثوبه خيلاء
1460/ 14 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْظُرُ اللهُ إلى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في أول كتاب "اللباس"، باب (قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]) (5783)، ومسلم (2085)(42) من طريق مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم يخبرونه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
ورواه البخاري (3665) من طريق موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إنَّ أحد شِقَّيْ ثوبي يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك لست تصنع ذلك خيلاء". ورواه مسلم بهذا التقييد (2085)(44) وليس فيه: فقال أبو بكر.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا ينظر الله) أي: لا ينظر الله يوم القيامة نظر رحمة ولطف وإحسان، وهذا إثبات لأصل النظر وقَصْرٌ للنفي على نوع منه؛ لأن الله تعالى لا يحجب بصره شيء أبدًا في أي وقت كان، وتقدم هذا في باب "الدعاوى".
وقد جاء الحديث -كما تقدم- من طريق سالم بن عبد الله، عن أبيه وفيه:(يوم القيامة) ولعل التقييد به؛ لأن يوم القيامة هو محل نظر الرحمة
العظيمة المستمرة التي لا تنقطع، بخلاف رحمة الدنيا فقد تنقطع ويأتي ما يخالفها
(1)
.
قوله: (إلى مَنْ جَرَّ ثوبه) كناية عن إطالة الثوب وإسباله؛ لأنه إذا أطاله مسَّ الأرض وإذا مشى جرّه، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:"ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"
(2)
.
ومَنْ: صيغة عموم، تتناول الرجال والنساء في هذا الوعيد، وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنهما، فقد روى الترمذي والنسائي هذا الحديث من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر وزادا: فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخينه شبرًا" فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال:"فيرخينه ذراعًا ولا يزدن عليه"
(3)
، وقد روى مسلم حديث ابن عمر من طريق أيوب، عن نافع، وكأنه أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع
(4)
.
قوله: (خيلاء) بضم الخاء المعجمة وكسرها مع فتح الياء فيهما والمد، هو البطر والكبر والإعجاب، يقال: خال الرجل خالًا واختال اختيالًا: إذا تكبر، وكأنه مأخوذ من التخيل وهو الظن؛ لأن المختال يظن أنه بصفة عظيمة بلباسه أو مركبه أو نحو ذلك
(5)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم جر الإزار خيلاء وكبرًا وإعجابًا، وأن هذا من كبائر الذنوب
(6)
، لثبوت الوعيد عليه بأن الله تعالى لا ينظر لفاعله يوم القيامة؛ وذلك لأنه اجتمع في حقه أمران: الإسبال، والتكبر، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك، إلا ما اسْتُثْني من الحرب أو ثَمَّ حاجة تدعو إليه من مرض أو غيره
(7)
.
(1)
"طرح التثريب"(8/ 171).
(2)
رواه البخاري (5787).
(3)
"جامع الترمذي"(1731)، "سنن النسائي" (8/ 209). قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
(4)
"فتح الباري"(10/ 259).
(5)
"طرح التثريب"(8/ 171).
(6)
"الكبائر" للذهبي ص (76).
(7)
انظر: "فتح الباري"(10/ 257).
وهذا حكم عام في الثياب والعباءات والسراويل وغيرها، وقد روى البخاري من طريق شعبة قال: لقيت محارب بن دِثَار على فرس
…
فسألته عن هذا الحديث، وفيه: فقلت لمحارب: أَذَكَرَ إزاره؟ قال: ما خصَّ إزارًا ولا قميصًا
(1)
. ومقصوده أن التعبير بالثوب يشمل الإزار وغيره، وإنما جاء الحديث بلفظ الإزار؛ لأنه كان غالب لباس القوم في ذلك الوقت، فلما لبس الناس القميص ونحوه كان حكمه حكم الإزار في النهي، والخطاب إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كما هو مقرر في الأصول، وثَمَّ أمر آخر لتخصيص الإزار وهو كون الإزار يسترخي بسبب الحركة والمشي، فينزل إلى المرتبة المحذورة، بخلاف القميص فإنه لا يسترخي، إلا إذا كان من أصله طويلًا.
وأما الإسبال لغير الخيلاء وإنما يفعله الإنسان مجاراةً لهواه، أو للمجتمع الذي يعيش فيه، أو تساهلًا، فهو موضع خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بتحريمه، وهو رواية في مذهب الحنابلة، واختاره القاضي عياض، وابن العربي من المالكية، وإليه مال الحافظ ابن حجر
(2)
، وهو اختيار الشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين
(3)
، واستدلوا بحديث الباب وما جاء في معناه من الأدلة الدالة على تحريم الإسبال للخيلاء. وقالوا: إن التقييد بالخيلاء خرج مخرج الغالب، وما خرج مخرج الغالب لا يعمل بمفهومه، كما هو مقرر في الأصول، ولإن الإسبال يستلزم الخيلاء، لإنه يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، قال ابن العربي: إلا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء؛ لأن النهي قد تناوله لفظًا، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكمًا أن يقول: لا أمتثله؛ لأن تلك العلة ليست فِيَّ؛ فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته
(1)
"صحيح البخاري"(5791).
(2)
انظر: "عارضة الأحوذي"(7/ 237 - 238)، "إكمال المعلم"(6/ 601)، "الآداب الشرعية"(3/ 521)، "فتح الباري"(10/ 259)، "الإنصاف"(1/ 472).
(3)
انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (2682)، "فتاوى ابن باز"(6/ 483)، "فتاوى إسلامية"(4/ 235)، "شرح رياض الصالحين"(4/ 287).
ذيله دالة على تكبره)
(1)
.
كما استدلوا بالأحاديث التي ورد فيها الوعيد الشديد على الإسبال من غير تفريق بين الخيلاء وغيرها، ومنها: ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" فثبت فيه الوعيد بهذه العقوبة العظيمة، من غير تفريق بين الخيلاء وغيرها، وهذا يدل على تعذيب هذا الجزء من البدن بالنار، وهو ما نزل من الكعب، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم:"ويل للأعقاب من النار"
(2)
.
وذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الإسبال إذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تنزيه لا كراهة تحريم
(3)
، واستدلواء بحديث الباب من وجهين:
الأول: أن هذا الوعيد مقيد بالخيلاء، ومفهومه أنه إن تجرد الإسبال عن الخيلاء لم يثبت فيه الوعيد، ولا يصل إلى درجة التحريم، وتكون الأدلة المطلقة محمولة على المقيدة.
والوجه الثاني: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" دليل على أن الإسبال قد يكون للخيلاء وقد يكون لغيرها، وإذا كان لغيرها فليس داخلًا في الوعيد.
والقول الأول أرجح، لقوة مأخذه، ثم إن في البعد عن الإسبال احتياطًا للنفس والدين، وبعدًا عن موجبات العقوبة، وملازمة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في اللباس
(4)
.
ومما يؤيد هذا الاختيار ما تقدم من قول أم سلمة رضي الله عنها: (فكيف تصنع النساء بذيولهن؟) فهذا يدل على أن أم سلمة رضي الله عنها فهمت الزجر عن الإسبال
(1)
"عارضة الأحوذي"(7/ 238). وانظر: "فتح الباري"(10/ 264).
(2)
رواه البخاري (60)، ومسلم (241)، انظر:"أعلام الحديث"(3/ 2144).
(3)
انظر: "الفتاوى الهندية"(5/ 333)، "المنتقى" للباجي (7/ 225 - 226)، "المجموع"(4/ 454)، "روضة الطالبين"(575 - 576)، "الإنصاف"(1/ 472).
(4)
انظر: "لباس الرجل، أحكامه وضوابطه"(1/ 703 - 730).
مطلقًا، سواء للخيلاء أم لا، فسألت عن حكم النساء، ولو فهمت أن التحريم مختص بالخيلاء لما سألت عن حكنم النساء في جر ذيولهن لستر أقدامهن.
وما يؤيد هذا -أيضًا- قوله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة
…
"
(1)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسبال كله من المخيلة.
وأما قولهم: إن الأدلة الناهية عن الإسبال مطلقًا محمولة على الأدلة المقيدة للتحريم بالخيلاء، فمؤدى هذا حمل المطلق على المقيد، وهذا فيه نظر؛ لأن الأحاديث في هذا الباب ليست من باب حمل المطلق على المقيد؛ لإن الإسبال إن قصد به الخيلاء فعقوبته أن الله تعالى لا ينظر إلى فاعله يوم القيامة، وإن لم يقصد به الخيلاء فعقوبته أن الله تعالى يعذب فاعله بالنار بقدر ما نزل من الكعبين، وعلى هذا فهما عملان مختلفان، رتب عليهما عقوبتان مختلفتان، ومن شرط حمل المطلق على المقيد الاتفاق في الحكم والسبب أو في الحكم فقط دون السبب، وهنا قد اختلف الحكم، فيمتنع الحمل
(2)
.
وأما الاستدلال بفعل أبي بكر رضي الله عنه فهو مردود من وجوه عديدة، منها:
1 -
أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقصد الإسبال، وإنما كان أحد شقي إزاره يسترخي بغير اختياره، إذا تحرك بمشي أو غيره، وفرق بين من يرخي ثوبه قصدًا، ومن يسترخي ثوبه بلا قصد، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسترخي بدون قصد لم يحرم، كالذي وقع من أبي بكر رضي الله عنه، وإن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه بأن نزل عن الكعبين فهذا هو المحرم.
2 -
أن أبا بكر رضي الله عنه حريص على إصلاح إزاره وتعاهده بحيث لا يدعه يتجاوز الكعبين، قال الحافظ ابن حجر: "كأن شَدَّهُ كان ينحلُّ إذا تحرك بمشي
(1)
رواه أبو داود (4078)، والترمذي (2722)، وأحمد (34/ 234). وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
(2)
انظر: "فتح الباري"(10/ 259)، "فتاوى ابن عثيمين"(12/ 307 - 308)، "فتاوى إسلامية"(4/ 235).
أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظًا عليه لا يسترخي، لأنه كلما كاد يسترخي شَدَّهُ"
(1)
.
3 -
أن الحديث دليل على تحريم الإسبال؛ وأن المسلم لا يطيل ثوبه إلى ما دون الكعبين، وقد فهم أبو بكر رضي الله عنه ذلك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله.
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأبي بكر رضي الله عنه بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فمن يزعم أنه نال شهادة كهذه بعد أبي بكر رضي الله عنه؟! لا سيما وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة عن الإسبال مطلقًا، وبين أنه من المخيلة! مع أن بعضهم لم تخطر الخيلاء بباله، ولكن من الناس من يبحث عن المتشابه من النصوص؛ لعله يجد ما يشهد لفعله، والواجب رد المتشابه من النصوص إلى المحكم؛ ليتضح المراد
(2)
.
ولا يجوز للرجل أن يسبل ثوبه؛ مجاراة لمجتمعه الذي يكثر فيه الإسبال، ويقول: هذه عادة المجتمع، وهذا هو العرف الذي سار عليه غالب الناس؛ فإن هذه علة باطلة؛ لأن العمل بالعرف له شروط وضوابط، ومنها: ألا يخالف دليلًا من أدلة الشرع أو قاعدة من قواعده، وقد نص علماء الأصول على أنه لا عبرة بالعرف مع وجود النص.
° الوجه الرابع: تحريم الإسلام الإسبال مبني على حكم عظيمة، ومصالح جَمَّة، وفيه درء المفاسد عن الناس، ومن ذلك:
1 -
أن الإسبال مظنة الخيلاء وذريعة إليها، والوسائل لها أحكام المقاصد، وقد جاءت الشريعة بسد ذرائع المحرمات، يقول الحافظ ابن حجر: (إن الإسبال يستلزم جَرَّ الثوب، وجَرُّ الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما رواه ابن عمر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "
…
وإياك وجَرَّ الإزار، فإن جر الإزار من المَخِيلة")
(3)
.
(1)
"فتح الباري"(10/ 255).
(2)
انظر: "فتح الباري"(10/ 255)، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (2682)، "فتاوى ابن عثيمين"(12/ 308).
(3)
"فتح الباري"(10/ 264).
2 -
أن الإسبال فيه تشبه بالنساء؛ لأن المرأة هي التي أمرت أن يكون لباسها أنزل من الكعبين لستر قدميها، كما تقدم في حديث أم سلمة رضي الله عنها.
3 -
أن الإسبال فيه إسراف؛ لأن هذا الجزء من الثوب لا داعي له، فيكون داخلًا في الإسراف الذي ثبت النهي عنه في الكتاب والسنّة، قال الحافظ ابن حجر:(إن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم)
(1)
.
4 -
أن المسبل لا يأمن تَعَلُّقَ النجاسة بثوبه؛ لأن الثوب إذا كَثُرت ملامسته الأرض لم يؤمن أن يعلق به شيء من الأوساخ والنجاسات.
* الوجه الخامس: المستفاد من الأحاديث في موضوع لباس الرجل أن طول القميص وما في معناه أربعة أقسام:
1 -
السنّة: إلى نصف الساق
(2)
.
2 -
الرخصة: وهو ما نزل من نصف الساق إلى الكعب.
3 -
كبيرة من كبائر الذنوب: ما نزل عن الكعبين بلا خيلاء.
4 -
من جرّ ثوبه خيلاء وهو أشد من الذي قبله.
وبهذا يتضح أنه لا حرج في نزول الثوب عن نصف الساق إلى ما فوق الكعبين
(3)
، بل إن من فعل مثل ذلك من باب تأليف القلوب، وترغيب من حوله في تقصير الثياب إلى هذا الحدِّ، قد يكون مأجورًا بهذه النية، خاصة إذا كان في مجتمع ينتشر فيه الإسبال، ويظن أهله أن الأمر إما تشمير إلى نصف الساق أو إسبال. والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(10/ 263).
(2)
انظر: رسالة "الفرق بين حدِّ الثوب والأزرة" للشيخ بكر أبو زيد.
(3)
"شرح رياض الصالحين"(4/ 295، 313).
الأمر بالأكل باليمين والشرب بها
1461/ 14 - وَعَنْهُ رضي الله عنه، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وإذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِه، فَإن الشَّيطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ويشْرَبُ بِشِمَالِهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الأشربة"، باب (آداب الطعام والشراب وأحكامهما)(2020) من طريق الزهري، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن جده ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المؤمن مأمور بأن يأكل بيمينه وأن يشرب بيمينه، ومنهي عن الأكل أو الشرب بشماله؛ لأن هذا من عمل الشيطان، فهو الذي يأكل بشماله ويشرب بشماله؛ لأنه لاستقذاره وخساسته يستعمل الخسيس في النفيس
(1)
، والرسول صلى الله عليه وسلم علل هذا النهي بأن الشيطان يفعل ذلك، ومخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به
(2)
. وقد نهينا عن اتباع الشيطان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ} [النور: 21].
وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الأكل والشرب باليمين مندوب؛ لأن النهي فيه من باب الأدب والإرشاد؛ ولأنه من باب تكريم اليمين
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 487).
(2)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 364).
وتشريفها على الشمال
(1)
.
وذهب جماعة من أهل العلم منهم: ابن عبد البر، وابن حزم، وابن أبي موسى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم إلى وجوب الأكل والشرب باليمين، وتحريم الأكل والشرب بالشمال، قال ابن القيم:(وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد)، ولما ذكر ابن علّان الاستحباب قال: (وقيل: وجوبًا؛ لما في غيره من الشَّرَهِ ولحوق الضرر بالغير، وانتصر له السبكي، وعليه نص الشافعي في "الرسالة" ومواضع من "الأم"
…
)
(2)
، وهذا قول قوي؛ لأن الأدلة الواردة في هذا الباب صحيحة وصريحة في الدلالة على المراد، وذلك لما يلي:
أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال الشمال في الأكل والشرب، وبيّن أنه من عمل الشيطان، وعليه فمن أكل أو شرب بشماله فقد تشبّه بالشيطان.
ثانيًا: صيغ الأمر الواردة في هذا الباب مع صيغ النهي، ولا صارف لها عن ظاهرها الذي هو الوجوب والتحريم.
ثالثًا: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال:"كُل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال:"لا استطعت، ما منعه إلا الكِبْرُ"، قال: فما رفعها إلى فيه
(3)
.
فهذا الذي امتنع من الأكل بيمينه وأصر على الأكل بشماله كبرًا وعنادًا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن له عذر، وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم حتى شُلَّت يمينه، فلم يرفعها لفيه بعد ذلك اليوم، وهذا دليل واضح على أن هذا قد ترك واجبًا، وارتكب محرمًا، فاستحق أن يُدعى عليه لمخالفته الحكم
(1)
"المفهم"(5/ 295).
(2)
"الرسالة" ص (349، 353)، "الكافي" لابن عبد البر (2/ 1138)، "المحلى"(7/ 424)، "الإرشاد" ص (538)، "زاد المعاد"(2/ 397)، "الآداب الشرعية"(3/ 168)، "فتح الباري"(9/ 522)، "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية"(5/ 181، 182).
(3)
رواه مسلم (2021).
الشرعي، وعدم قبوله ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، والقول بأن الدعاء عليه ليس لامتناعه عن الأكل بيمينه، وإنما لكبره عن امتثال الأمر النبوي، واختلاقه علة هو كاذب فيها، هذا خلاف ظاهر الحديث
(1)
.
ومما يؤسف عليه أن الأكل والشرب بالشمال من العادات التي انتشرت بين المسلمين، وهذا من الجهل بالسنّة، أو قلة المبالاة وضعف العناية بآداب الشريعة، فينبغي الإنكار على من فعل ذلك، كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم، والأكل باليمين أيسر وأحسن وأخف.
وإذا كانت اليد اليمنى فيها طعام فليس هذا بعذر للشرب بالشمال، كما يفعله بعض الناس؛ لأنه بإمكانه إمساك الإناء بمعاونة اليد اليسرى، على أنه في زماننا هذا وجدت هذه الكؤوس من البلاستيك، فيمكن إمساكها باليمين ولو حصل لها شيء من التأثر؛ لأنها سترمى في الغالب ولا تستعمل مرة ثانية
(2)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الشيطان يأكل ويشرب، والأصل حمل الكلام على حقيقته، والشيطان من عالم الغيب، ولا نعلم من أعماله وأحواله إلا ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط
…
" الحديث
(3)
، فهذا يدل على أن له جوفًا يتغذى ويحيل الطعام والشراب، وكذا حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، قال:"بال الشيطان في أذنه"
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 486).
(2)
"الشرح الممتع"(12/ 362)، "شرح رياض الصالحين"(6/ 377).
(3)
رواه البخاري (608)، ومسلم (389).
(4)
رواه البخاري (1144).
النهي عن الإسراف والخيلاء في الأكل واللباس والصدقة
1462/ 16 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ فِي غَيرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي (4/ 19 - 20)، والنسائي في كتاب "الزكاة"، باب (الاختيال في الصدقة)(5/ 79)، وابن ماجه (3605)، وأحمد (11/ 294، 312) من طريق همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، في غير مخيلة ولا سرف، إن الله يحب أن تُرى نعمته على عبده".
وهذا السياق لأحمد، ولأبي داود نحوه، إلا أنه لم يذكر الاستثناء، وقال:"إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده".
ولفظ النسائي وابن ماجه: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"، وقد جاء في إسناد الطيالسي: حدثنا همام عن رجل .. وهذا المبهم هو قتادة كما صرحت به بقية الروايات، وفي رواية للبيهقي في "الشعب" (11/ 174 - 175): عن رجل أظنه قتادة.
وروى الترمذي هذا الحديث (2819) مقتصرًا على الزيادة، وعلّق أوله البخاري في "صحيحه" في أول كتاب "اللباس" بصيغة الجزم، قال الحافظ:
(هذا الحديث من الأحاديث التي لا توجد في البخاري إلا معلقة، ولم يصله في مكان آخر، وقد وصله أبو داود الطيالسي
…
)
(1)
.
وهذا الحديث سنده حسن، وعزوه لأبي داود وهم من الحافظ، إلا إن كان قصده أبا داود الطيالسي، كما تقدم في سياق كلامه من "الفتح" فكان عليه أن يقيده؛ لأن أبا داود إذا أُطلق فالمراد أبو داود السجستاني صاحب "السنن"، ثم إن الحافظ ساق الحديث بلفظ الإفراد، وهو في جميع المصادر بلفظ الجمع، كما مرَّ.
وروى الحديث عبد الرزاق (11/ 270) - ومن طريقه البيهقي في "الشعب"(11/ 173) - عن معمر، عن قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلًا.
ورواية معمر عن قتادة متكلم فيها
(2)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وتصدق) الظاهر أن المراد بالصدقة هنا: صدقة التطوع؛ لأن الصدقة الواجبة المحددة المقدار كالزكاة وصدقة الفطر لا يتصور فيها الإسراف.
قوله: (في غير سرف) بفتح السين والراء المهملتين وهو ضد القصد، وهو في اللغة يطلق على معان منها: مجاوزة الحد، والمراد هنا: مجاوزة الحد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر
(3)
.
والفرق بين الإسراف والتبذير: أن الإسراف أعم من التبذير؛ لأن التبذير مختص بإنفاق المال في السرف أو المعاصي، والإسراف مجاوزة الحد المشروع في كل شيء، فهو في النفقة والمال والماء والإفراط في الكلام أو القتل وغير ذلك، والتبذير أشد من الإسراف؛ لأنه مأخوذ من مادة بذر التي تدل -فيما يقول ابن فارس- على معنى واحد، وهو نثر الشيء وتفريقه، وقد
(1)
"فتح الباري"(10/ 253).
(2)
انظر: "شرح علل الترمذي"(2/ 508).
(3)
"فتح الباري"(10/ 253).
جاء عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما في تفسير: {الْمُبَذِّرِينَ} أنهم الذين ينفقون المال في غير حقه، ولهذا قال بعض العلماء: الإسراف صرف المال فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، والتبذير: صرفه فيما لا ينبغي، وقريب منه قول الماوردي:(التبذير: الجهل بمواقع الحقوق، والسرف: الجهل بمقادير الحقوق)، فالتبذير ليس في الكثرة والقلة، وإنما هو في موضع الإنفاق، ولهذا كان المبذرون إخوان الشياطين؛ لأنهم ينفقون في الحرام، ويرى آخرون أن الإسراف والتبذير معناهما واحد، والأول أرجح؛ لأن الله قال:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] وهذا فوق الأول
(1)
.
قوله: (ولا مخيلة) بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة بوزن عظيمة مفعلة من اخقال: إذا تكبّر، فالمخيلة بمعنى التكبر والعُجب، وهي كالخيلاء.
* الوجه الثالث: هذا الحديث يبين المنهج السليم الذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه في حياته: في أكله وشربه وملبسه وصدقته؛ لأن فيه الحث على استعمال المال في الأمور النافعة في الدين والدنيا وتجنب الأمور الضارة.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الإسراف ومجاوزة الحد، وفيه إرشاد إلى القصد والتوازن والاعتدال في كل شأن من شؤون الحياة، قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] ففي الآية توجيه رباني إلى القصد والاعتدال، نهي عن الإمساك والبخل {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، ونهي عن الإسراف {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} والنهاية إن فعلت ذلك {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} أي: تلام على ما فعلت، {مَحْسُورًا} أي: حاسر اليد فارغها، فإذا جمعت هذه الآية مع آية سورة الفرقان -الآتية- تبين لك منهج الإسلام.
وقد جاء ذكر الإسراف في القرآن الكريم في آيات كثيرة، ووُصِفَتْ به
(1)
انظر: "معجم مقاييس اللغة"(1/ 216)، "الكليات"(1/ 172)، "التعريفات" ص (23، 24)، "البحر المحيط"(6/ 27)، "نهاية المحتاج"(4/ 350).
أمم الكفر والضلال، قال تعالى:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]، وقال تعالى:{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]، وقال تعالى:{وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]. ونفى الله تعالى المحبة عن المسرفين، ومن ذلك قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقد وصف الله عباد الرحمن بالقصد والاعتدال في الإنفاق، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].
إن الإسراف إضاعة للمال، وفقر في المآل، وهو ينافي شكر الله تعالى على النعمة؛ لأن من شكر نعمة المال صرفه فيما أذن فيه من المنافع، وهو سوء تصرف ينبئ عن الأثرة والأنانية وعدم الإحساس بما عليه الفقراء والمحتاجون.
والإسراف يدعو إلى الترف والتنعم والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، فحيث كان السرف وكانت المخيلة كان الترف حتمًا.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عن بعض فوائد الاعتدال في الإنفاق: (ومن فوائد ذلك: أن في الاعتدال سرَّ بركة، وما عال من اقتصد، وأنَّه يمنع العبد الندم، فإنَّ المسرف في الإنفاق إذا أملق واحتاج لعبت به الحسرات، وجعل يقول بلسان مقاله، أو لسان حاله: يا ليتني لم أفعل ذلك.
وأما المقتصد فإنه لا يندم العاقل على نفقة وضعها في محلها، وأقام بها واجبًا من الواجبات، أو سَدَّ بها حاجة من الحاجات، فإنَّ المال لا يقصد إلا لمثل هذه الحالة.
وأيضًا فإنَّ المسرف في النفقات، لا بد أن يكون مترفًا معتادًا أمورًا، إذا عجز عنها شق عليه الأمر مشقة كبيرة، وكبر عليه الصبر، وثقل عليه حمله بخلاف المعتدل، فإنَّه سالم من هذه الحالة.
وأيضًا فإنَّ الاعتدال في النفقة أحد قسمي الرشد. فالرشد الذي هو معرفة تدبير الدنيا أن يعرف الطرق التي يحصلها فيها، فيسلك النافع منها، ثم
إذا حصلت عرف كيف يصرفها ويبذلها، وعِلْمُ التدبير من العلوم النافعة دينًا ودنيًا، وشرعًا وعقلًا)
(1)
.
* الوجه الخامس: الحديث دليل على إباحة الأكل والشرب من ملاذ الدنيا المباحة؛ لأن هذه بها قوام الحياة، وفيه نهي عن الإسراف والخيلاء فيهما، قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} . قال ابن كثير: (لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن)
(2)
. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (من فقه الرجل رفقه في معيشته (
(3)
.
وقد نص الفقهاء على كراهة الأكل الكثير حتى يصاب بالتُّخمَةِ، وقال بعضهم: بالتحريم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(الإسراف في الأكل مذموم)
(4)
.
وقد أجمع الأطباء على أن اكتساب الصحة في عدم الشبع، وأن الشبع يجلب الوهن في الجسم ويُسْلِمُهُ للكسل والخمول، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف عن العبادة، ويحرك ما كَمَنَ من الأدواء، ويزيل قوة الشباب ونضارته.
* الوجه السادس: الحديث دليل إباحة اللباس، وهو من نِعَم الله تعالى على عباده، يستر بدن الإنسان ويحفظه دون عاديات الجو وتقلباته، إضافة إلى أنه زينة وجمال، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
وفي الحديث نهي عن الإسراف والخيلاء في اللباس، أما الخيلاء فقد تقدم الكلام فيه.
وأما الإسراف في اللباس فهو أن يلبس الملابس ذات القيمة العالية وحالته المالية أقل من ذلك، وهذه ظاهرة موجودة لدى النساء حيث تلبس
(1)
"فتح الرحيم الملك العلَّام" ص (117).
(2)
"تفسير ابن كثير"(3/ 343).
(3)
"الحلية"(1/ 217).
(4)
"الفتاوى"(32/ 213).
بعض النساء ثوبًا غالي الثمن لا تلبسه إلا مرة واحدة، أضف إلى ذلك متابعة الموضات والمستجدات وإنفاق الأموال في اتخاذ الزينة وتجميع الأثاث، ومن الإسراف كثرة عدد ثياب الشتاء وثياب الصيف مما يزيد عن الحاجة.
* الوجه السابع: الحديث دليل على أن المسلم مأمور بالصدقة إذا كان عنده شيء فاضل عن كفايته وكفاية أهله وعياله، وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنّة في الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين، وفي مشاريع الخير وأبواب البر والإحسان، وقد مضى ذلك في "الزكاة".
وفيه نهي عن الإسراف في الصدقة، ومن الإسراف في الصدقة أن ينفق أمواله ويدع ما أوجب الله عليه من سداد ديني أو نفقة أهله وأولاده ومن يمون، والواجب على المسلم أن يتحرى بالصدقة مواضعها، وأن يبدأ بمن يعول لقوله صلى الله عليه وسلم:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول" وقد مضى هذا -أيضًا- في "الزكاة".
وينبغي أن يُعلم أن الإسراف في المآكل والمشارب وتوابع ذلك أمر نسبي، يختلف من شخص إلى آخر، ويختلف من زمان أو مكان عن زمان ومكان آخر، والضابط لهذا أن الإسراف مجاوزة الحد. والله تعالى أعلم.
باب البر والصلة
البر: بالكسر تقدم تعريفه، وأنه اسم جامع للطاعات كلها الظاهرة والباطنة، والظاهر أن المراد به هنا: برّ الوالدين، وهو ما يقابل العقوق، فيفسر بالإحسان إلى الوالدين قولًا وفعلًا.
والصلة: بكسر الصاد، مصدر وَصَلَهُ كوعده عدة، والصلة ضد القطيعة، والمراد بها هنا: صلة الرحم، وهي العطف والرحمة، والمراد بها: الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والرفق بهم ورعاية أحوالهم، وإن بعدوا أو أساؤوا، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر
(1)
.
وقد ذكر الحافظ هنا أحاديث تتعلق ببر الوالدين والحرص على رضاهما والحذر من عقوقهما، وأحاديث تتعلق بصلة الرحم والحذر من القطيعة، وأحاديث تتعلق بالإحسان إلى الجار وبذل المعروف، وتحريم الهجر.
(1)
انظر: "النهاية"(5/ 191، 192).
فضل صلة الرحم وثمرتها
1463/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (من بُسط له في الرزق بصلة الرحم)(5985) من طريق محمد بن معن، قال: حدثني أبي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرّه أن يبسط عليه في رزقه
…
" الحديث.
ورواه مسلم (2557)(20) من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرّه أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره فليصل رحمه".
ورواه البخاري (5986)، ومسلم (21) من طريق عقيل بن خالد، قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يزمن أحب أن يبسط له في رزقه
…
" الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من أحب) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "من سره
…
" وهو عند مسلم -أيضًا- أي: من سرّه وأفرحه.
قوله: (أن يبسط عليه) بضم الياء على صيغة المبني لما لم يسم فاعله؛ أي: يوسع عليه في رزقه، ويكثر ويبارك له فيه، فيكون البسط بمعنى السعة والكثرة، وبمعنى البركة.
قوله: (في رزقه) أي: مأكله ومشربه ومسكنه وعلمه؛ لأن الرزق اسم لكل ما ينتفع، وهو رزق عام، وهو رزق الأبدان، ورزق خاص، وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين
(1)
.
قوله: (وأن ينسأ له) بضم الياء وسكون النون بعدها سين مهملة ثم همزة؛ أي: يؤخر له، يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ؛ أي: أَخَّرَ، ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] أي: تأخير حرمة الشهر الحرام إلى غيره؛ لأن الكفار إذا احتاجوا إلى القتال في شهرٍ محرم قاتلوا فيه، وحرّموا بدله شهرًا آخر.
قوله: (في أثره) أي: في أجله، وسمي الأجل أثرًا؛ لأنه يتبع العمر، فيوجد بوجوده وينقطع بانقطاعه، قال كعب بن زهير:
والمرءُ ما عاش ممدود له أَمَلٌ
…
لا ينقضي العُمْرُ حتى ينتهي الأثرُ
وأصله من أثر مشيه على الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة، فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر، وتأخير الأجل بصلة الرحم على حقيقته، كما سيأتي.
قوله: (فليصل) المراد بالصلة: الإحسان إلى الأرحام، إما بالفعل وذلك بزيارتهم وتفقد أحوالهم، وإدخال السرور عليهم، وإيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر، وإما بالمال بالنفقة عليهم بشروطها، أو بالصدقة بشروطها، أو بالهدية، أو بالوصية لهم، أو الوقف عليهم على ما هو مبين في كتب الفقه.
(1)
انظر: "تفسير ابن سعدي" ص (947، 948).
وقد تكون الصلة بالقول بالدعاء لهم، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، والسؤال عنهم ولا سيما إذا كانوا بعيدين، فيتم ذلك عن طريق وسائل الاتصال الموجودة كالهاتف.
قوله: (رحمه) الرحم: بفتح الراء وكسر الحاء المهملة هو موضع تكوين الولد في بطن أمه، والمراد بهم: الأقارب، ويقع ذلك على كل من بينك وبينه نسب وقرابة سواء أكان ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ -ويقال: مُحَرَّمٍ- أم لا
(1)
، كالأم والأب والابن والبنت والعم والعمة والخال والخالة، وولد العم وولد الخال، فكل من بينك وبينه صلة من قبل أبيك أو من قبل أمك أو من قبل ابنك أو من قبل ابنتك فهو من الأرحام وسيأتي -إن شاء الله- ضابط من تجب صلته.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز محبة البسط في الرزق، خلافًا لمن كره ذلك، ووجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الطريق الموصل لذلك، وأخبر أن الإنسان يسره بَسْطُ رزقه، فدل على أنه لا محذور فيه.
* الوجه الرابع: في الحديث حث على صلة الرحم وعظيم أثرها على الإنسان حيث كانت سببًا في بسط الرزق وطول العمر، وهما مما يحبه الإنسان، وقد تكاثرت النصوص في وجوب الصلة، والحث عليها، ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"
(2)
. وهذه فائدة ثالثة، وهي أن الله تعالى يصل من وصل رحمه برحمته ولطفه وإعانته بإحسانه ونِعَمه.
(1)
انظر: "الصحاح"(5/ 1929)، "معجم مقاييس اللغة"(2/ 498)، "النهاية"(2/ 210)، "تفسير القرطبي"(3/ 170)، "فتح الباري"(10/ 414).
(2)
رواه البخاري (5988)، ومسلم (2555).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه"
(1)
، وهذه فائدة رابعة، وهي أن صلة الرحم علامة الإيمان بالله واليوم الآخر.
ومن ثمار صلة الرحم: تقارب الأسر، وتوادهم، وعطف بعضهم على بعض، وهي في الوقت نفسه رفعة للواصل وعزة ومحبة وكرامة.
ومن حكمة الإسلام أنه لم يحدد نوعًا من أنواع الصلة، بل ترك ذلك لعادة الناس في كل زمان ومكان، ثم إن ذلك يختلف باختلاف القدرة والحاجة، فالصلة أنواع ودرجات. يقول القاضي عياض: (الصلة درجات، بعضها فوق بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها ولو بالسلام
…
وهذا بحكم القدرة على الصلة وحاجتها إليه، فمنها ما يتعين ويلزم، ومنها ما يستحب ويرغب فيه، وليس من لم يبلغ أقصى الصلة يسمى قاطعًا، ولا من قصر عما ينبغي له ويقدر عليه يسمى واصلًا)
(2)
.
وقد رأيت كلامًا نفيسًا لابن بلبان يذكر صورًا كثيرة مما تحصل به الصلة، فيقول: (اعلم أن المراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم؛ لأجل قرابتهم، وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم، ومراعاة جبر خاطرهم مع التعطف والتلطف بهم، وتقديمهم في إجابة دعوتهم، والتواضع معهم في غناه وفقرهم وقوته وضعفهم، ومداومة مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم، والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم، وإيثارهم في الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم؛ لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة في معناها الهدية ونحوها، ويتأكد فعل ذلك مع الرَّحَمِ الكَاشِحِ المُبْغِضِ، عساه أن يرجع عن بغضه إلى مودة قريبه ومحبته، وفي الحديث: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم
(1)
رواه البخاري (6138).
(2)
"إكمال المعلم"(8/ 20).
اثنتان صدقة وصلة"
(1)
.
* الوجه الخامس: أجمع أهل العلم على وجوب صلة الرحم في الجملة، وتحريم قطعها، لكن اختلفوا في ضابط الرحم التي تجب صلتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الرحم التي تجب صلتها هي الرحم المَحْرَمُ، كالأباء والأمهات، والإخوة والأخوات، والأجداد والجدات، والأولاد وأولادهم، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وهذا هو المشهور عند الحنفية، وقول المالكية، وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة
(2)
.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها"
(3)
.
وذلك لأن الجمع بين الزوجات يورث بينهن العداوة والبغضاء غالبًا، فنهى الشرع أن يكون التعدد بين القريبات، خشية أن يفضي ذلك إلى قطيعة الرحم التي أمر الله بصلتها، مما يفيد وجوب صلة الرحم المحرم.
فإن كان الرحم غير محرم كأولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات لم تجب صلته، بدليل جواز الجمع في النكاح بين بنات العم وبنات الخال؛ لعدم النص بالتحريم فيهما، ولأن إحداهما تحل لها
(1)
"غذاء الألباب " للسفاريني (1/ 355 - 356)، والحديث رواه الترمذي (658)(695)، وأحمد (26/ 164)، وقال الترمذي:(حديث حسن) وفي الموضع الثاني: (حسن صحيح) وفيه الرّباب بنت صُليع أم الرائح، وهي مجهولة، لكن له شاهد من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ضمن حديث طويل، وفيه:"لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". رواه البخاري (1466)، ومسلم (1000)، والكاشح: العدو الذي يضمر عدواته، ويطوي عليها كشحه، أي: باطنه. "النهاية"(4/ 175).
(2)
انظر: "تكملة البحر الرائق"(9/ 285)، "الفواكه الدواني"(2/ 353)، "الآداب الشرعية"(1/ 452).
(3)
رواه البخاري (5109)، ومسلم (1408) وقد تقدم شرحه في (7/ 250) من هذا الكتاب.
الأخرى لو كانت ذكرًا ولو وقع بينهما شيء من القطيعة، وهذا يدل على أن صلتها ليست بواجبة
(1)
.
القول الثاني: أن الرحم التي تجب صلتها هي الرحم من ذوي الميراث دون غيرهم ممن لا يرث، واختار هذا القول بعض الفقهاء، كالقاضي عياض من المالكية، والنووي من الشافعية، وغيرهما
(2)
.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال:"أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك"
(3)
.
وتخصيص الرحم الواجب صلته بذوي الميراث فيه نظر من وجهين:
الأول: أن الحديث الذي استدلوا به ليس فيه تخصيص الصلة بذوي الميراث دون غيرهم، بل ظاهره الأقرب فا لأقرب، قال القرطبي:(وقوله: "ثم أدناك أدناك" يعني: أنك إذا قمت ببر الأبوين تعيَّن عليك القيام بصلة رحمك، وتبدأ منهم بالأقرب إليك نسبًا فالأقرب .. )
(4)
وقال الحافظ ابن حجر: (المراد بالدنوِّ: القرب إلى البار)
(5)
.
الثاني: أنه يترتب على هذا القول عدم صلة الأخوال والخالات، لكونهم غير وارثين، وهذا يعارض حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الخالة بمنزلة الأم"
(6)
.
والقول الثالث: أن جميع الأقارب تجب صلتهم، سواء أكان يرثه أم لا، وسواء أكان ذا محرم أم لا، وهذا قول في مذهب الحنفية، وهو المشهور عند المالكية، وهو ظاهر مذهب الشافعية، ونقل ابن مفلح أن الإمام أحمد
(1)
انظر: "تهذيب الفروق"(1/ 166)، "تحفة الفقهاء"(2/ 163).
(2)
انظر: (إكمال المعلم)(8/ 25)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(16/ 348).
(3)
رواه البخاري (5971)، ومسلم (2548)(2).
(4)
"المفهم"(6/ 509).
(5)
"فتح الباري"(10/ 402).
(6)
رواه البخاري (2552).
نص عليه
(1)
.
واستدلوا بعموم الأدلة المتقدمة في صلة الرحم والحث عليها.
والقول الأول أرجح -في نظري- وهو أن الرحم الذي تجب صلته هو الرحم المَحْرَمُ، وأما غير المحرم كأولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات، فليست صلتهم واجبة، إنما هي مستحبة، فيصلها بما يلائمها، ومما يؤيد هذا أن أولاد الأعمام وأولاد الأخوال قد يكونون إناثًا، وقد حرم الشرع الخلوة والنظر والاختلاط بالقريبات من غير المحارم، كابنة العم وابنة الخال، وهذا ينافي الصلة التي تقتضي في غالب أحوالها الزيارة والجلوس والمحادثة، لكن تبقى صلة السؤال عنهم وتفقد أحوالهم؛ لأن الصلة أنواع ودرجات.
أما ما استدل بها أصحاب القول الثالث من العمومات، فإن غاية ما تفيده استحباب الصلة والحث عليها، وهذا لا نزاع فيه، وما أحسن قول أبي الخطاب (ومعلوم أن الشرع لم يُرِدْ صلة كل ذي رحم وقرابة، إذ لو كان ذلك لوجب صلة جميع بني آدم، فلم يكن بُدٌّ من ضبط ذلك بقرابة تجب صلتها وإكرامها، ويحرم قطعها، وتلك قرابة الرحم المحرم)
(2)
.
* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان وأدخل السرور على قلوبهم وصل الله عمره ووصله في رزقه وفتح له من أبواب الرزق وبركاته ما لا يحصل له بدون ذلك.
* الوجه السابع: الحديث دليل على إثبات الأسباب وأن الله تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها، وأن أسباب الخير توصل إلى الخير بإذن الله تعالى، ورَبْطُ المُسَبَّبَاتِ بالأسباب لا يقتضي خلاف علم الله تعالى السابق ولا ينافيه. يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: (كما أن الصحة وطيب الهواء
(1)
انظر: "حاشية ابن عابدين"(4/ 50)، "الآداب الشرعية"(1/ 452)، "حاشية البجيرمي"(3/ 229).
(2)
"الآداب الشرعية"(1/ 452)، وانظر:"صلة الرحم ضوابط فقهية وتطبيقات معاصرة" للباحث: فهد النغيمشي ص (44).
وطيب الغذاء واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببًا ربانيًّا؛ فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان: أمور محسوسة تدخل في إدراك الحواس ومدارك العقول، وأمور ربانية إلهية قدرها من هو على كل شيء قدير ومَنْ جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته
…
)
(1)
.
* الوجه الثامن: استدل بهذا الحديث الجمهور من أهل العلم على أن العمر يزيد وينقص، فتكون الزيادة في العمر حقيقية، وهي زيادة بالنسبة لعلم الملك الموكل بالآجال، وأما ما سبق في علم الله تعالى وقضاه في الأزل فلا زيادة فيه ولا نقصان، وعليه تحمل الآيات الواردة بان الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبو وائل، وكعب الأحبار، وجمع كثير وجم غفير -كما يقول الشيخ مرعي الكرمي في رسالته
(2)
- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، والشوكاني في "رسالته"
(4)
، واستدلوا -أيضًا- بقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] فإن هذه الآية عامة تتناول العمر والرزق والسعادة والشقاء وغير ذلك، ولا يجوز تخصيصها إلا بمخصص
(5)
.
كما استدلوا بقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] فإن معنى الآية على ما يقتضيه ظاهرها: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عُمُرِ ذلك المعمر إلا في كتاب، وهو اللوح المحفوظ
(6)
.
وذهب جماعة من أهل العلم -منهم ابن حبان وأبو العباس القرطبي
(1)
"بهجة قلوب الأبرار" ص (213، 214).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(9/ 330)، "إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان" للشيخ مرعي الكرمي ص (41).
(3)
"الفتاوى"(8/ 516)، (14/ 490 - 492).
(4)
"تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل".
(5)
انظر: "إرشاد ذوي العرفان" ص (55)، "تنبيه الأفاضل" ص (13).
(6)
انظر: "إرشاد ذوي العرفان" ص (43).
والنووي- إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص، واستدلوا بمثل قوله تعالى:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]، وقوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه
…
وفيه: ثم يبعث الله ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقيٌّ أو سعيد"
(1)
.
وأجابوا عن الأحاديث الواردة في الزيادة بأنها محمولة على المجاز لا على الحقيقة، على اختلاف بينهم في معنى الزيادة، والأكثرون منهم على أنها كناية عن البركة في العمر، بالتوفيق إلى الطاعة، والاستفادة من زمن الحياة فيما ينفع في الآخرة. وقد حصل بين الفريقين ردود ومناقشات، لا داعي لإيرادها خشية الإطالة، ويرجع إليها في مظانِّها
(2)
.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الجميع متفقون على أن الأعمار التي قدرها الله تعالى لا مجال للزيادة فيها ولا النقصان، بدلالة القرآن على ذلك، وإنما حصل الخلاف لمجيء الأحاديث التي يوهم ظاهرها خلاف هذا. والحق أن حملها على الحقيقة متعين؛ لأن هذا هو الأصل في باب دلالات الألفاظ، وأن الزيادة لمن وصل رحمه إنما هي باعتبار ما في صحف الملائكة، وهي زيادة سببها فعل العبد وكسبه، والله تعالى قد ربط بين الأسباب والمسببات، وأمر بها شرعًا، ورتب عليها جزاء قدريًّا علمه -سبحانه- وقدره في الأزل، فإن فعل العبد ما رتب عليه القضاء كان له كذا وكذا، وإن لم يفعل لم يكن شيء، وهذا هو المراد بقول تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (6594)، ومسلم (2643).
(2)
انظر: المصادر السابقة، "الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم" ص (70 - 88).
ما جاء في إثم قاطع الرحم
1464/ 2 - عَنْ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" يَعْني: قَاطِعَ رَحِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (إثم القاطع)(2984) من طريق عُقيل بن خالد، ومسلم (2556) من طريق سفيان، كلاهما عن ابن شهاب، أن محمد بن جبير بن مطعم قال: إن جبير بن مطعم رضي الله عنه أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع".
زاد مسلم: (قال سفيان: يعني قاطع الرحم)، وبهذا يتبين أن التفسير الذي ذكر الحافظ هو من أحد رواة الحديث، وهو سفيان بن عيينة.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يدخل الجنة) هذا من نصوص الوعيد، وهي إما أن تفسر، وإما أن تُمرَّ كما جاءت، خشية القول على الله بلا علم، وهذا أبلغ في الرح والزجر والتخويف، وهذا مذهب كثير من السلف كالإمام مالك وأحمد وغيرهما، فإن فسرت فإن المراد: نفي الدخول المطلق الذي لا يسبقه عذاب، وليس نفيًا لمطلق الدخول؛ لأن القاطع ليس كافرًا تحرم عليه الجنة، بل مآله إلى الجنة قطعًا، لكنه دخول يسبقه عذاب بقدر ذنبه، ومن المقرر أن كل ما دون الشرك من المعاصي فهو تحت مشيئة الله تعالى، فإن شاء عذَّب، وإن شاء غفر، ونصوص الشرع يصدق بعضها
بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا
(1)
.
قوله: (قاطع) هذا لفظ مجمل يحتمل عدة معانٍ، ولذا فسّره الراوي سفيان بن عيينة، وكأن قاطع الرحم لعظيم إثمه ومزيد الاعتناء به لا ينصرف هذا اللفظ إلا إليه.
والقاطع: اسم فاعل من مادة قطع التي تدل على صَرْمٍ وإبانة شيء من شيء، وقَطَعَ رَحِمَهُ: عقها ولم يصلها، والقطع والقطيعة: الهِجران وضد الوصل
(2)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم قطيعة الرحم، وأن ذلك من كبائر الذنوب؛ لثبوت الوعيد على القطيعة من الكتاب والسنّة، قال الله تعالى:{فَهَلْ عَسَيتُمْ إِنْ تَوَلَّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22] والمعنى: أنكم إن أعرضتم وتوليتم أفسدتم في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام، وعدتم إلى ما كنتم فيه من الجاهلية، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام، فيصيبكم تشتت وتفرق وبغض، بعدما جمعكم الله، وألَّف بينكم، ففي الآية نهى عن الإفساد في الأرض عمومًا، وعن قطع الأرحام خصوصًا
(3)
. وفي الآية عقوبة أخروية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 23] أي: أبعدهم عن رحمته، وعقوبة دنيوية:{فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] فجعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ولا يبصرونه، فلهم آذان، ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول، ولهم أعين، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات
(4)
.
وقال تعالى عن المَثَلِ الذي ضربه في الآيات التي قبل هذه الآية: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ
(1)
انظر: "إكمال المعلم"(8/ 20)، "دليل الفالحين"(2/ 184)، "فتح المجيد" ص (320)، "القول المفيد"(2/ 112)، "التعليق على صحيح مسلم" للشيخ محمد بن عثيمين (1/ 216، 260، 320، 439).
(2)
"معجم مقاييس اللغة"(5/ 101).
(3)
انظر: "تفسير ابن كثير"(7/ 300).
(4)
"تفسير ابن سعدي" ص (788).
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة: 26 - 27]. فجعل من صفات الفاسقين قطع ما أمر الله بوصله، وهو قطع عام، يدخل فيه قطع الرحم، بل روى ابن جرير بسنده، عن قتادة أنه فسر الآية بقطيعة الرحم والقرابة، ورجح هذا ابن جرير، بدليل قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيتُمْ إِنْ تَوَلَّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)}
(1)
[محمد: 22].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"
(2)
.
* الوجه الرابع: لم يرد في نصوص الشريعة بيان لما تكون به القطيعة، وهي تحصل إما بالإساءة إلى الرحم، وهذا أشد أنواع القطيعة، وإما بترك الإحسان إليهم فلا يصلهم ببره ولا يمدهم بإحسانه ولا بإرشاده ونصحه، ومن برّهم زيارتهم والسلام عليهم وخدمتهم، وعيادة مريضهم وإجابة دعوتهم، وضد ذلك قطيعة.
ومن مظاهر القطيعة: تحزيب الأقارب، وتأليب بعضهم على بعض لأدنى سبب، فيترتب على ذلك تفريق كلمتهم، وتشتيت شملهم، فتظهر الأحقاد والضغائن، ويحصل التباعد، وينشأ الصغار منهم على عدم معرفة أقاربهم وأرحامهم. وهذا من الخطأ البيّن، خطأ في سماع الوشايات، وخطأ في ترتيب الأحكام عليها.
* الوجه الخامس: ما جاء في نصوص الكتاب والسنّة من الوعيد هو من نتائج قطيعة الرحم ومضارها، ففي القطيعة انقطاع الصلة بالله تعالى، والبعد عن رحمته ورضاه، وقطيعة الرحم تثير العداوة، وتورث الأحقاد، وتقطع أواصر العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأُسر، وهي سبب في التشتت والتفرُّق، وهذا أمر محسوس، والله المستعان.
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(1/ 415، 416)، "تفسير ابن كثير"(1/ 96).
(2)
رواه البخاري (5989)، ومسلم (2555).
ما جاء في تحريم عقوق الأمهات
1465/ 13 - عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: إنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَال، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضاعَةَ المَالِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (عقوق الوالدين من الكبائر)(5975)، ومسلم (593) من طريق ورَّاد مولى المغيرة بن شعبة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن الله حرم عليكم) أي: حظر ومنع على وجه الإلزام.
قوله: (عقوق الأمهات) مصدر عَقَّ الولد أباه، من باب قعد: إذا عصاه وترك الإحسان إليه، فهو عاق
(1)
. وأصل العق: الشق، ومنه سميت العقيقة التي تذبح عن المولود على أحد القولين، وعق والده: شَقَّ عصا طاعته
(2)
.
وضابط العقوق: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل تأذيًا ليس بالهين عرفًا، قال القرطبي:(عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما: موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما .. )
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" ص (422).
(2)
"اللسان"(10/ 256).
(3)
"المفهم"(6/ 520).
والأمهات: جمع أُمَّهة، وهو لفظ خاص بمن يعقل، وأما لفظ الأم فهو شامل لمن يعقل ومن لا يعقل. واقتصر على الأمهات؛ لأن أكثر العقوق إنما يقع على الأمهات لضعفهن؛ ولأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء، وقد جاء في رواية عند مسلم: "
…
وعقوق الوالدين"، وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه -المتقدم في الشهادات-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين .. " الحديث.
قوله: (ووأد البنات) هكذا في رواية مسلم، ورواية البخاري بتقديم ما بعده عليه.
والوأد: بسكون الهمزة، مصدر وَأَدَ بنته من باب وعد: دفنها حية، فهي موءودة
(1)
، وخص البنات بالذكر؛ لأنه هو الواقع في عصر الجاهلية، فتوجه النهي إليه، لا لأن الحكم مخصوص بالبنات.
قوله: (ومنعًا وهات) منعًا: مصدر منع، وهو منصوب على أنه مفعول به معطوف على عقوق؛ أي: وحرم عليكم منعًا وهات. وهاتِ: اسم فعل أمر بمعنى أعطني، ومعنى (منعًا) منع الإنسان ما يطلب بذله من مال أو منفعة، و (هات) طلب الإنسان ما لا حق له فيه من مال أو منفعة.
قوله: (وكره لكم) قيل: إن معناها: أبغض من أفعالكم، فيكون لفظ كره على بابه، وهو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم. وقيل: إن معناها: حرم؛ لأن الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، والحرام يكرهه الله ورسوله، وهذا رأي ابن القيم، ويكون هذا من باب اختلاف التعبير
(2)
.
قوله: (قيل وقال) بالنصب على المفعولية لقوله: (كره) وهما في الأصل فعلان ماضيان جعلا اسمين، بدليل دخول (أل) عليهما، فيقال: كثرة القيل والقال، وأُبقِيَ فتحهما؛ ليدل على ما كانا عليه، وجمع بينهما للتنبيه على منع ذلك، سواء عرف القائل أو لم يعرف.
(1)
"المصباح المنير" ص (674).
(2)
"إعلام الموقعين"(1/ 43)، "شرح رياض الصالحين"(3/ 211).
ومعناهما: كثرة الكلام والمجادلة فيما لا يعني، والخوض في أخبار الناس وتصرفاتهم، أو نقل الكلام بدون تثبت فيه، قال العلماء: لا يستعمل القيل والقال إلا في الشر
(1)
.
قوله: (وكثرة السؤال) يشمل كثرة سؤال المال في حال إباحة سؤاله، وكثرة الاستفهام عما لا حاجة إليه من العلم، ويدخل في ذلك ما إذا كان على وجه إعنات المسؤول وإدخال الملل والسآمة عليه، ويشمل كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمور حياته مما يدخل في سؤال الإنسان ما لا يعنيه، وإنما حمل السؤال في الحديث على جميع ما ذكر؛ لأنه اسم جنس محلى بـ (أل) فيعم
(2)
.
قوله: (وإضاعة المال) يشمل بذله وإنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، ويشمل ترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وتكون إضاعة المال بتولية ناقصي العقول عليه كالصغار والسفهاء ونحوهم، وتكون بإهمال رعايته والعناية بعمارته حتى تذهب منفعته والاستفادة منه.
وإنما نهي عن ذلك كله لأن الله تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح الناس الدينية والدنيوية، فإذا أضاعه فقد أفسده، والله لا يحب المفسدين، وإذا أضاعه تعرض لما في أيدي الناس بالسؤال
(3)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم عقوق الأمهات؛ لأن الوالدين أحق الناس بالرعاية والولاية والإحسان لما لهما من فضل، وهو من كبائر الذنوب، بل هو من أكبر الكبائر، لما تقدم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -ثلاثًا- قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين
…
" الحديث
(4)
.
قال الذهبي: (انظر كيف قرن الإساءة إليهما وعدم البر بهما والإحسان
(1)
"دليل الفالحين"(2/ 186).
(2)
المصدر السابق (2/ 186).
(3)
المصدر السابق (2/ 187).
(4)
الحديث متفق عليه، وقد سبق شرحه في "الشهادات" برقم (1414).
إليهما بالإشراك)
(1)
.
ولعقوق الوالدين مظاهر كثيرة يجمعها ما تقدم من كل قول أو فعل فيه إضرار بهما أو أذية لهما، ومن ذلك إبكاء الوالدين، أو إدخال الحزن عليهما، أو شتمهما ولعنهما، أو إغاظتهما بالمنكرات من وسائل اللهو والطرب وشرب الدخان، أو عدم احترامهما وقت الجلوس معهما أو عدم سماع كلامهما، ومن ذلك التخلي عنهما وقت الكِبَرِ الذي هو وقت الحاجة إلى برهما والقيام بمصالحهما، وكذا إيثار الزوجة وتقديمها على الوالدين، إلى غير ذلك.
أما ما ليس فيه أذية لهما، وإنما هو هوى عندهما أو تعنت في شيء فإن مخالفتهما فيه لا يعد عقوقًا، كما لو طلبا منه ترك بعض السنن مما لا يضرهما فعله، فلا تعد مخالفتهما عقوقًا، ومثل هذا لو أمرته أمه أو أبوه بطلاق زوجته، وهي زوجة صالحة لم تؤذهما بشيء، ولكنهما لم يرضيا عنها فإنه لا يلزم طلاقها، ولا يعد عاقًّا إذا لم يطلقها، فإن آثار الطلاق ومضاره عظيمة، وعلى الولد مداراة والديه وأن يتحلى بالحكمة والصبر، ورحم الله والدًا أعان ابنه على برّه وأبعده عما يكون سببًا في عقوقه، وقد روى أبو نعيم أن كعب الأحبار سئل عن العقوق، فقال: إذا أمرك أبواك فلم تطعهما، فقد عققتهما، وإذا دعوا عليك، فقد عققتهما العقوق كله
(2)
.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم وأد البنات، وذلك بدفنهن والقضاء عليهن وهن أحياء، وهذا من كبائر الذنوب، لقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93] وإذا كان هذا في عامة الناس فكيف بالقرابة؟ فكيف بالمخلوق الضعيف؟! فوأد البنات إساءة ظن بالله تعالى، وقتل نفس بغير حق، وقطيعة رحم.
وهذه عادة كانت شائعة أيام الجاهلية يفعلون هذا تخلصًا من العار أو خشية الفقر.
(1)
"الكبائر" ص (40).
(2)
"حلية الأولياء"(6/ 32).
* الوجه الخامس: في الحديث تحذير بليغ من منع صاحب الحق حقه والمماطلة في أداء الديون والحقوق إلى أربابها، ويزداد الأمر قبحًا إذا كان الإنسان مع هذه الخصلة الذميمة يطلب ما ليس له به حق، ويحاول الاستيلاء على حق الآخرين بلا مسوغ شرعي، فهذا عين الظلم والعدوان؛ لأنه مانع للحق الذي عليه، ومغتصب لما ليس له بحق.
* الوجه السادس: في الحديث حث على قلة الكلام وعدم التوسع فيه، وألا يكون الإنسان ثرثارًا مهذارًا ليس له هم إلا الخَرْطُ
(1)
والكلام في الناس؛ لأن الإكثار من الكلام الذي لا فائدة فيه يقسي القلب، ويفضي إلى الكذب والخطأ وعدم التثبت، وهو سبب من أسباب تنافر القلوب والوقوع في الفتن، وهو اشتغال بما يضر ولا ينفع عما ينفع، وفيه إضاعة للأوقات التي ينبغي صرفها فيما ينفع، فينبغي للمؤمن أن يحذر ذلك كله، وألا يتكلم إلا بما فيه نفع، وألا ينقل مما يسمع إلا الكلام النافع، ويحذر أن يحدث بكل ما سمع.
* الوجه السابع: في الحديث تحذير من كثرة السؤال كسؤال الدنيا من غير حاجة ولا ضرورة، أو السؤال عما لا يعني الإنسان وعما ليس منه فائدة؛ لأنه ضياع للوقت وربما أدى إلى ما لا تُحمد عقباه، والمؤمن الحق يشتغل بما يعنيه وما ينفعه ويدع ما لا يعنيه وما لا ينفعه.
* الوجه الثامن: في الحديث نهي عن إضاعة المال، وذلك بصرفه في غير الوجوه الشرعية أو بإهماله وعدم العناية به، وهذا يقع ممن يكون ناظرًا على وقف قلَّ ريعه، فتراه يهمله حتى تنقطع منفعته بالكلية، وإضاعة المال ضرر اقتصادي ينبئ عن سوء التصرف.
وفي جميع ما تقدم دليل بيّن على كمال الشريعة برعايتها لحفظ الوقت واللسان والمال والشرف وحقوق الآخرين. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "اللسان"(7/ 285).
ما جاء في فضل رضا الوالدين
1466/ 4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَينِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَينِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء من الفضل في رضا الوالدين)(1899)، وابن حبان (2/ 172) من طريق خالد بن الحارث، والحاكم (4/ 151، 152) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد" هذا لفظ الحديث عند الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ الإفراد، وقد جاء بلفظ التثنية عند البيهقي في "شعب الإيمان"(13/ 526، 527).
وقد تابع ابنَ الحارث وابنَ مهدي على رفع الحديث أبو إسحاق الفزاري، كما في "الفوائد" لأبي الشيخ، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر
(1)
، كما تابعهما آخرون، لكنها متابعات لا يُفرح بها، لأن رواتها ما بين صدوق، وذي خطأ، ومن لا يعرف.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه)
(1)
"الفوائد" ص (63) رقم (28)، "تاريخ دمشق" (4/ 76). وانظر:"الصحيحة" رقم (516).
وسكت عنه الذهبي، وهذا فيه نظر؛ فإن عطاء وهو العامري الطائفي ليس من رجال مسلم، كما يفهم من ترجمته في "التهذيب" وغيره
(1)
، وقد ذكره البخاري في "تاريخه، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"
(2)
، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال ابن القطان:(مجهول الحال)
(3)
، وتبعه على هذا الذهبي فقال:(عطاء العامري والد يعلى عن أويس الثقفي لا يعرف إلا بابنه)
(4)
. وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"
(5)
!.
وفي الحديث علة أخرى وهي أن الترمذي لما رواه من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة موقوفًا على عبد الله بن عمرو ولم يرفعه. قال الترمذي: (وهذا أصح،
…
ولا نعلم أحدًا رفعه غير خالد بن الحارث، عن شعبة
…
)، وقال في "العلل"
(6)
: (أصحاب شعبة لا يرفعون هذا الحديث، ورفعه خالد بن الحارث)، وقد تقدم متابعة ابن مهدي والفزاري لخالد بن الحارث على رفعه.
وقد تابع محمد بن جعفر على وقفه جمع من الثقات الأثبات، منهم آدم بن أبي أياس عند البخاري في "الأدب المفرد"(2) وهو ثقة، والنضر بن شُميل عند البغوي في "شرح السنة"(13/ 11)، وسفيان الثوري، كما عند ابن وهب في "الجامع"(92)، ومسلم بن إبراهيم الأزدي وهو ثقة مأمون، أخرج حديثه المزي في "تهذيب الكمال"(133/ 25) فهؤلاء خمسة من الثقات رووه موقوفًا، وسادسهم هشيم بن بشير، فقد رواه عن يعلى بن عطاء موقوفًا في أصح الروايتين عنه، كما عند الخطيب في "الجامع"(2/ 230).
والذي يظهر -والله أعلم- قوة القول بأن الحديث موقوف، لما يلي:
1 -
أن رواة الموقوف كلهم ثقات أثبات، بينما رواة المرفوع فيهم الصدوق وذو الخطأ ومن لا يعرف.
(1)
"تهذيب الكمال"(25/ 132).
(2)
"التاريخ الكبير"(6/ 463)، "الجرح والتعديل"(6/ 339).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(4/ 120).
(4)
"الميزان"(3/ 78).
(5)
(5/ 202).
(6)
(2/ 793).
2 -
أن محمد بن جعفر الذي رواه موقوفًا من أثبت الناس في شعبة، قال عبد الله بن المبارك:(إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غُنْدَر حكم فيما بينهم)، وكذا آدم بن أبي إياس فقد عدّه الإمام أحمد من الستة أو السبعة الذين يضبطون الحديث عن شعبة
(1)
، وسفيان الثوري قرين لشعبة بل هو أثبت من شعبة.
3 -
أن الترمذي صحح وقفه كما تقدم، وكذا البغوي
(2)
.
4 -
يبدو أن رواية الرفع لم تشتهر عن غير خالد بن الحارث إلا في أواخر القرن الثالث، وهذا مما يشكك في ثبوت الرفع عن غير خالد، فهذا الترمذي يقول عن وقفه:(وهذا أصح) والبزار يقول: (سمعت بعض أصحابنا يذكره عن سهل بن حماد، عن شعبة مرفوعًا وأنكرته عليه) بينما اشتهرت رواية الوقف عند المتقدمين وأخرجوها مثل ابن وهب، والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل بر الوالدين والعمل على رضاهما وإدخال السرور عليهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل رضا الرب ومحبته لعبده في رضا والديه وبرهما، وجعل غضب الرب في غضب الوالدين بسبب عقوقه لهما؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين، فمن أحسن إليهما فقد أطاع الله، ومن أساء إليهما فقد أغضب الله.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب برّ الوالدين، وتحريم عقوقهما؛ لأن رضاهما عن الولد لا يتم إلا ببرهما والرفق بهما والإحسان إليهما والتلطف معهما في أقواله وسكناته ونظره، وألا يتعرض لسبهما ولا لعنهما ولا سيما في حال الكبر، ومِنْ برّهما موافقتهما على أغراضهما، فإذا أمرا أو أحدهما بأمر وجبت طاعتهما ما لم يكن فيه معصية، ومن برّهما الترحم عليهما والدعاء لهما وصلة صديقهما من بعدهما.
(1)
انظر: "معرفة أصحاب شعبة بن الحجاج" ص (25).
(2)
"شرح السنة"(13/ 11، 12).
وقد عظم الله حق الوالدين، فأمر بعبادته وتوحيده وجعل برهما مقرونًا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ} [لقمان: 14].
ولا عجب في هذا، فإن للوالدين من الفضل والمعروف ما ليس لأحد غيرهما من الخلق كائنًا من كان، فهما السبب المحسوس المباشر في وجود الولد، وقد عانيا من المشقات على ولدهما الشيء الكثير، من حمل ووضع وإرضاع من قبل الأم، ومن تربية وإنفاق وعناية في حال الطفولة من قبلهما، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{وَوَصَّينَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بما انفردت به.
* الوجه الرابع: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الأم تفضل على الأب في البر، ونقل بعضهم الإجماع على هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها ثلاثة أرباع البر والطاعة، وجعل للأب ربعًا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم مَنْ؟ قال: "أمك" قال: ثم مَنْ؟ قال: "أمك" قال: ثم مَنْ؟ قال: (ثم أبوك"
(1)
قال القرطبي: (معنى ذلك: أن حقهما -وإن كان واجبًا- فالأم تستحق الحظ الأوفر من ذلك، وفائدة ذلك المبالغة في القيام بحق الأم، وأن حقها مقدم عند تزاحم حقها وحقه)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (5971)، ومسلم (2548).
(2)
"المفهم"(6/ 508).
فضل محبة الإنسان لأخيه أو لجاره ما يحب لنفسه
1467/ 5 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَوْ لأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الإيمان"، بابٌ (من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(13) من طريق شعبة وحسين المعلم، ومسلم (72)(45) من طريق حسين المعلم، كلاهما عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ آخر من طريق شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس: "لا يؤمن أحدكم
…
" ولفظ البخاري: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه".
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يؤمن عبد) هذا لفظ مسلم، وفي لفظ لهما:(أحدكم) والمراد بالإيمان: الإيمان الكامل التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل ولو لم يكن بهذه الصفة
(1)
.
قوله: (حتى يحب لجاره أو لأخيه) بالشك من الراوي، والمراد بالمحبة -هنا-: المودة، والمراد بـ (أخيه): المسلم، وكذا أخته المسلمة، وهذا التقييد مأخوذ من التعبير بلفظ (أخيه)، وهذا اللفظ يشمل الجار وغير الجار، أما
(1)
"التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(2/ 511).
على رواية: الجاره) فهو عام في الجار المسلم والكافر، والصالح والفاسد، والقريب والأجنبي، فصار كل واحد من اللفظين أعم من الآخر من وجه، والظاهر أن المراد لفظة (أخيه) لأنها أعم؛ لأن الغالب في بلاد الإسلام أن الجار مسلم
(1)
. وحذف المعمول يؤذن بالعموم؛ أي: حتى يحب لجاره أو لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، وقد جاء التصريح بذلك في رواية عند النسائي من طريق حسين المعلم عن قتادة:(حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)
(2)
. وهذا إذا كان جاره أخًا له، فإن كان كافرًا أحبّ له الدخول في الإسلام مع ما يحب لنفسه من المنافع بشرط الإيمان.
قوله: (ما يحب لنفسه) أي: مثل ما يحب لنفسه من الخير، ولم يَنُصَّ على أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه؛ لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من كمال إيمان العبد أن يحب لجاره ولأخيه المسلم ما يحب لنفسه، بحيث يسره ما يسره، ويسوءه ما يسوءه، ويعامله بما يحب أن يعامله به، يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويرشده إلى ما ينفعه، ويحذره مما يضره.
وهذا يدل على أنه ينبغي أن يكون المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فيحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه من حيث إنها نفس واحدة، ويكره له ما يكره من الشر، وهذا يتضمن أن يُفَضِّلَ أخاه على نفسه؛ لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لغيره ما يحب لنفسه، فقد أحب أن يكون غيره أفضل منه
(3)
.
وإلى هذا أشار الفضيل بن عياض بقوله لسفيان بن عيينة: (إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك، فما أديت لله الكريم النصيحة، فكيف وأنت تود أنهم دونك)
(4)
.
(1)
"التعليق على صحيح مسلم" للشيخ محمد بن عثيمين (1/ 214).
(2)
رواه النسائي (8/ 115)، وأحمد (20/ 394، 395).
(3)
انظر: "المفهم"(1/ 227).
(4)
"شعب الإيمان"(6/ 303).
وعن الأحنف بن قيس أنه سئل ممن تعلمت العلم؟ فقال: (من نفسي)، قيل: وكيف ذلك؟ قال: (كنت إذا كرهت شيئًا من غيري لم أفعل بأحد مثله)
(1)
.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لحديث الباب: (وهذا يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغِلِّ والغِشِّ والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير، أو يساويه فيه؛ لأنه يحب أن يمتاز عن الناس بفضائله، وينفرد بها عنهم، والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء)
(2)
.
وعلى هذا فمن رأى من نفسه حسدًا أو غشًّا أو غِلًّا لأحد من إخوانه أو من جيرانه فليعرف أن هذا نقص في الإيمان ودليل على عدم كماله، وما أحسن مقولة الإمام الجليل أبي محمد عبد الله بن أبي زيد إمام المالكية في زمنه: (جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء شركه ما لا يعنيه" وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: "لا تغضب".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ")
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"التوضيح"(2/ 512).
(2)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (13).
(3)
"شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 379).
عظم شأن الزنا بحليلة الجار
1468/ 6 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذنْب أَعْظَمُ؟ قَال: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: "ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يأْكُلَ مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: "ثُمَّ أَنْ تُزَانيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" وأولها في كتاب "التفسير"، باب (قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22])، ومسلم (86) من طريق أبي وائل، عن عمرو بن شُرحبيلَ، عن عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنه قال:
…
وذكر الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أي الذنب أعظم؟) في رواية لهما: "أي الذنب أكبر؟ " ووجه هذا السؤال أن الذنوب متفاوتة، فبعضها أعظم من بعض، ويترتب على ذلك تفاوت العقاب.
قوله: (أن تجعل لله ندًّا) قدمه لأنه أعظم الذنوب، وهو جحد التوحيد، والنِّدُّ: بكسر النون وتشديد الدال هو الشبيه والمثيل والنظير، وجعل الند لله تعالى هو صرف أنواع العبادة أو شيء منها لغير الله.
قوله: (وهو خلقك) الجملة حال من (الله) أو من فاعل (تجعل) أي: والحال أنه انفرد بخلقك، وغيره مخلوق مرزوق مُدَبَّر، فهذا من أعجب العجب وأسفه السفه.
قوله: (ثم أيُّ) أي: ما الذنب الذي يلي الشرك في العِظَمِ عند الله، فـ (ثم) لتراخي الرتبة؛ أي: ثم بعد الشرك، و (أيُّ) قيل: إنه منون؛ لأنه اسم معرب غير مضاف، وقيل: غير منون؛ لأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتقدير: ثم أيُّ الذنب أعظم؟ وعلى هذا فيوقف عليه بدون تنوين، وهذا هو الأقرب
(1)
.
قوله: (خشية أن يطعم معك) وفي رواية البخاري: "تخاف أن يطعم معك" أي: من جهة إيثار نفسك عليه عند عدم وجود ما يكفي من الطعام، أو من جهة البخل مع الوجدان، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] أي: من فقر حاصل، وقال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] أي: خشية فقر محتمل منتظر.
قوله: (ثم أن تزاني حليلة جارك) تزاني: تُفَاعِل، وهو يقتضي أن يكون هذا الفعل من الجانبين، ومعنى ذلك: أن تطاوعه المرأة على الفاحشة، فيزني بها برضاها، وذلك يقتضي الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزنا، وذلك أفحش.
وحليلة الجار: زوجته، وهي فعيلة بمعنى فاعلة من حَلَّ يَحِلُّ -بالكسر- إذ كلٌّ منهما حلال للآخر، أو من حَلَّ يَحُلُّ -بالضم- لأنها تحل معه ويحل معها.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن أكبر الذنوب وأعظمها جرمًا الشرك بالله تعالى، بان يجعل لله تعالى ندًّا في العبادة من الحب والخوف والرجاء وغير ذلك من العبادات، قال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أي: أشباهًا ونظراء تصرفون لهم العبادة أو شيئًا منها وأنتم تعلمون أن هذه الأنداد ليست مماثلة لله تعالى، وتعلمون -أيضًا- أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة.
(1)
"عمدة القارئ"(14/ 424)، "دليل الفالحين"(2/ 146).
* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الشرك من العالم بحقيقة التوحيد أقبح من غيره، لقوله:"وهو خلقك"، قال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: وأنتم تعلمون أنه لا ربَّ لكم يرزقكم غيره، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره
(1)
.
* الوجه الخامس: عظم شأن القتل بغير حق وأنه يلي الشرك، ويتضاعف الإثم والعقاب إذا كان المقتول ذا رحم من القاتل، كابنه الذي هو محبوب طبعًا مرحوم عادة، ويتضاعف مرة أخرى حينما يكون الهدف هو قطع المقتول من رزق الله تعالى الذي أُجري على يد القاتل، وهذا نهاية الشح، وغاية سوء الظن بالله تعالى، مع ما فيه من غلبة الجهل وغلظ الطبع والقسوة، فلما اجتمعت هذه الأوصاف صار هذا القتل يلي الشرك بالله تعالى.
* الوجه السادس: قبح الزنا وشناعته، ويعظم إثمه إذا كانت المزني بها امرأة الجار؛ لأنه زنا، ولأنه خيانة للجار، فإن الجار يتوقع من جاره حفظه والذَّبَّ عنه وعن حريمه، فإذا قابل هذا بالزنا بزوجته كان من أقبح القبائح وأعظم صور الخيانة، وفيه -أيضًا- إبطال ما أوصى الله به من حفظ حق الجار والإحسان إليه.
وفي قوله: "أن تزاني" دليل على أنها إذا لم تطاوعه فالذنب أعظم. قال النووي: (في هذا الحديث أن أكبر المعاصي الشرك، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، وأن القتل بغير حق يليه
…
وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين
…
وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل وأحكام يعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها، وعلى هذا يقال في كل واحدة منها هي من أكبر الكبائر
…
)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 87).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 441) بتصرف.
ما جاء في أن التسبب إلى شتم الوالدين من الكبائر
1469/ 7 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مِنَ الْكَبَائِرِ: شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ". قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟ قَال: "نَعَمْ. يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أَمَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه في وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (لا يسب الرجل والديه)(5973)، ومسلم (90) من طريق سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟
…
" الحديث، وهذا لفظ مسلم.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من الكبائر) رواية البخاري: "من كبر الكبائر" ولا تنافي بينهما؛ لأنه لا يخرج الشتم بذلك عن كونه بعضًا منها، وقال القرطبي:(لأن شتم المسلم الذي ليس بأبٍ كبيرة، فشتم الآباء أكبر منه)
(1)
.
وقد تقدم تعريف الكبيرة في "الأيمان والنذور" وأنها كل ذنب أطلق عليه الشرع أنه كبير أو عظيم، أو أخبر فيه بشدة العقاب عليه، أو علق عليه حدًّا،
(1)
"المفهم"(1/ 285).
أو شدد النكير عليه وغلظه، وشهد بذلك كتاب أو سنَّة أو إجماع.
قوله: (شتم الرجل والديه) الشتم: هو السبُّ، يقال: شتمه يَشْتِمه من باب ضرب: إذا سبّه، والاسم الشتيمة
(1)
. وفي رواية البخاري: "أن يلعن الرجل والديه" والمراد بالرجل: المكلف، ومثله المرأة المكلفة، وهذا من باب المجاز العقلي حيث أُسند الفعل إلى غير من هو له؛ لعلاقة السببية، بدليل سياق الحديث
(2)
.
قوله: (وهل يسب الرجل والديه) استفهام معناه الإنكار والاستبعاد أن يصدر ذلك من ذي عقل، لرواية:"وكيف يلعن الرجل والديه؟ ".
ويَسُبُّ بضم السين، ماضيه سَبَّ من باب رَدَّ، والسب: الشتم والقطع والطعن
(3)
.
قوله: (قال: نعم) أي: يسب الرجل والديه، ولكن بالتسبب فيه لا بالمباشرة.
قوله: (يسب أبا الرجل فيسب أباه) هذا تفسير لما قبله وبيان لصفة التسبب، والضمير في قوله:(فيسب) يعود على المسبوب أبوه، والضمير في قوله:(أباه) يعود على أبي الساب، والمعنى: يشتم الإنسان والد شخص آخر، فيشتم هذا الآخر والد الذي سب أباه، فيكون المبتدئ قد تسبب في شتم والده هو، ووقع في إثم من سب والده.
وقد يكون تقديم الأب في الذكر أن الغالب عدم ذكر النساء حتى في مقام المدح
(4)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم حق الأبوين وأن التسبب إلى أذيتهما وشتمهما من كبائر الذنوب، وإذا كان هذا في التسبب إلى شتمهما ولعنهما فإن لعنهما مباشرة أقبح وأفحش.
(1)
"مختار الصحاح" ص (329).
(2)
انظر: "دليل الفالحين"(2/ 183).
(3)
"مختار الصحاح" ص (281).
(4)
"دليل الفالحين"(2/ 183).
وفي قول الصحابة رضي الله عنهم: (وهل يسب الرجل والديه؟) دليل على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من المبالغة في برّ الوالدين، ومن الملازمة لمكارم الأخلاق والآداب
(1)
* الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز العمل بالظن الغالب؛ لأن الذي يسب أبا الرجل قد لا يجازيه بالسب بل يسكت، لكن الغالب أن يجازيه فيجيبه بنحو قوله.
* الوجه الخامس: استدل العلماء بهذا الحديث على قاعدة: سد الذرائع وأن من آل فعله إلى محرم حرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد المحرم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن الابتداء بالسب، لئلا يؤول هذا السب إلى سبّ والديه، وهذا محرم، وإن لم يكن قصد ذلك
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم"(1/ 285).
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم"(2/ 448)، "المفهم"(1/ 285).
تحريم الهجر فوق ثلاث ليال
1470/ 8 - عَنْ أَبي أَيُّوبَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هذَا، ويُعْرِضُ هذَا، وَخَيرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (الهجرة)(6077)، ومسلم (2560) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يحل لمسلم) هذا من صيغ النهي؛ لأن نفي الحل دليل على التحريم، وقيده بالمسلم لأنه هو الذي يقبل خطاب الشرع وينقاد لمقتضاه.
قوله: (أن يهجر) بضم الجيم، ماضيه هجر من باب قتل، ومادة هجر تعني القطيعة التي هي ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع
(1)
، والاسم: الهِجرة، والمراد هنا: أن يترك المسلم كلام أخيه المسلم إذا تلاقيا ويعرض كل واحد منهما عن صاحبه
(2)
.
وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "فيعرض هذا ويعرض هذا"، وأما ترك
(1)
"مختار الصحاح" ص (690)، "لسان العرب"(5/ 250).
(2)
"فتح الباري"(10/ 492).
السلام فهو مأخوذ من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاث، فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار، كل ذلك لا يرد عليه، فقد باء بإثمه"
(1)
.
قوله: (أخاه) في الدين، وفي التعبير بالأخوة إيماء إلى الحث على التواصل والتحذير من القطيعة.
قوله: (فوق ثلاث ليال) في حديث أنس رضي الله عنه: "فوق ثلاثة أيام"
(2)
، وهذا يفيد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها.
قوله: (يلتقيان
…
) جملة مستأنفة لمعنى الهجر بذكر بعض أفراده.
قوله: (فيعرض هذا ويعرض هذا) أي: يوليه عُرْضَهُ -بضم العين- وهو جانبه، وهذا هو الغالب في حال المتهاجرين عند اللقاء أن كلًّا منهما يعرض عن صاحبه، وفي رواية لمسلم:"فيصد هذا ويصد هذا".
قوله: (وخيرهما
…
) أي: أفضلهما عند الله من يبدأ صاحبه بالسلام؛ لأن هذا المبتدئ فعل حسنة، وتسبب إلى فعل حسنة، وهي الجواب مع ما يدل عليه الابتداء من حسن الطوية وترك ما يكرهه الشارع من الهجر والجفاء.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم هجر المسلم أخاه المسلم أكثر من ثلاث ليال، وهذا منطوق الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا هجرة بعد ثلاث"
(3)
، وقد ورد في تحريم الهجر أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن وغيرها. ومفهومه إباحة الهجر في الثلاث فما دونها، مراعاةً للطباع البشرية؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخُلُقِ، فعُفِيَ عن الهجر في الثلاث ليذهب ذلك العارض.
وذلك لأن الأصل في الهجر بين المسلمين المنع، وما أبيح منه فهو لحاجة،
(1)
رواه أبو داود (4913) وفي صنده محمد بن خالد بن عثمة، صدوق يخطئ، وعبد الله بن المنيب المدني، لا بأس به. وقد حسنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية"(1/ 253).
(2)
رواه البخاري (6065).
(3)
رواه مسلم (2562).
والحاجة تقدر بقدرها، وقد جعل الإسلام الثلاث هي مقدار ما أبيح، وهذا له نظائر كالإحداد على القريب، والترخيص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثًا في مكة، وذلك لأن الغالب أن الهجر وموجبه يزول في الثلاث أو يقل.
* الوجه الرابع: حمل العلماء هذا الحديث وما في معناه على الهجر لحظ النفس لاستصلاح أمر دنيوي، قد يكون سببه التقصير في حق الصحبة وآداب المعاشرة، ومن هذا هجر الوالد لولده، والصديق لصديقه ونحو ذلك.
أما الهجر لحق الله تعالى، فهذا من عمل أهل التقوى، وهو غير مؤقت بوقت، وإنما هو معلق بسبب يزول بزواله؛ كهجر العصاة وقرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة. قال ابن مفلح:(يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية)
(1)
.
والمقصود بهذا زجر المهجور وتأديبه وتأديب غيره ممن يفعل فعله، وهو بهذا الاعتبار من جنس الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وهو -أيضًا- من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء على الفساد، وهذا يختلف باختلاف الحال، فإن كان في الهجر صلاح لدين الهاجر والمهجور وجب الهجر، وإن كان لا يتأدب بالهجر بل يزيد الشر أو تكون المفسدة راجحة لم يجز الهجر، بل يكون التألف لبعض الناس أنفع من الهجر، وقد يكون الهجر لآخرين أنفع، ومن أدلة ذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. قال ابن عبد البر:(وفي حديث كعب هذا دليل على أنه جائز أن يهجر المرء أخاه إذا بدت منه بدعة أو فاحشة، يرجو أن يكون هجرانه تأديبًا له وزجرًا عنها، والله أعلم)
(2)
.
* الوجه الخامس: حرم الإسلام الهجر بين المسلم وأخيه لما يترتب عليه من المفاسد والآثار السيئة، ومنها:
(1)
"الآداب الشرعية"(1/ 229)، "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (35).
(2)
"التمهيد"(6/ 118).
1 -
أن المتهاجرين محرومان من آثار فعل الخير، فصلاتهما لا ترفع، وعملهما موقوف حتى يصطلحا، وهذه من أعظم الآثار وأشدها، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مسلم، لا يشرك بالله إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا"
(1)
.
2 -
الهجر تعطيل للنصيحة التي حثّ عليها الإسلام واعتبرها هي الدين؛ لأن المتهاجرين لا يمكن أن يتناصحا.
3 -
أن الهجر تعطيل لحق المسلم على أخيه مما أوجبه الإسلام وحثّ عليه، من السلام وتشييع جنازته وعيادته إذا مرض واجابة دعوته ونحو ذلك.
4 -
أن الهجر يفضي إلى أمر قبيح مذموم وهو فرح أحدهما إذا أصاب الآخر نقمة، وغمّه إذا أصابته نعمة، وهذا بعيد عن آداب الإسلام التي تقوم على نشر المحبة وبث الألفة بين المسلمين.
5 -
أن الهجر يفضي إلى قطع يد المساعدة عن المهجور، وهو عقوق إن كان المهجور أحد الوالدين، وقطيعة الرحم إن كان من الأقارب، والجنة لا يدخلها قاطع.
6 -
أن الهجر يفضي إلى إطلاق اللسان بالسب والعيب وإفشاء العيوب بالصدق أو الكذب، فالأمر دائر بين الغيبة والبهتان، وكلاهما من كبائر الذنوب.
* الوجه السادس: استدل أكثر العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" أن السلام يقطع الهجر ويرفع الإثم ويزيله، ووجه الاستدلال: أن حصول الخير للبادئ بالسلام دليل على انتهاء الهجران من جانبه، ويبقى جانب الآخر، إن رد السلام انتهى الهجران من جانبه، وإلا فيبقى على
(1)
"صحيح مسلم"(2565).
إثمه
(1)
. وهذا يروى عن الحسن ومالك في رواية ابن وهب، وقال به طائفة من الحنابلة
(2)
، ونسبه النووي إلى الشافعية
(3)
، وقد جاء عن الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد وقد سأله رجل عن ابنة عم له تنال منه وتظلمه وتشتمه وتقذفه، فقال:(سَلِّمْ عليها إذا لقيتها، اقطع المصارمة، المصارمة شديدة)، قال ابن مفلح:(فظاهره أن السلام يقطع المصارمة مطلقًا)
(4)
، وقد يقال: إن كلام الإمام أحمد في السلام على هذه المرأة لكونها أجنبية عنه، إذ لا يمكن مجالستها ونحو ذلك مما يقطع الهجر.
والقول الثاني: أنه لا ينقطع الهجر إلا بعودهما إلى ما كان عليه قبل الهجر من السلام والكلام والمجالسة ونحو ذلك، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا" وهذا مروي عن مالك، ونسبه الحافظ إلى أحمد، وابن القاسم المالكي، قال الإمام أحمد:(لا يبرأ من الهجرة إلا بعود الحال التي كان عليها أولًا)
(5)
.
القول الثالث: التفصيل بين الأقارب والأجانب، فالأجانب يزول الهجر بمجرد السلام، والأقارب بعود المودة السابقة لوجوب صلة الرحم.
والذي يظهر -والله أعلم- أن السلام لا يكفي، وليس في الحديث ما يدل على أنه يكفي، وإنما هو إثبات فضيلة من يحاول إزالة الهجر ويبدأ بالسلام، وهو أول طريق لإزالة الهجر، لكنه لا يكفي لإزالة الهجر، بل لا بد أن تعود حالهما إلى ما كانت عليه قبل الهجر، لا سيما إذا كانت من عادتهما الاجتماع والكلام والمصافحة، وما أحسن قول الإمام أحمد رحمه الله في رواية
(1)
"تحية السلام في الإسلام"(2/ 775).
(2)
"التمهيد"(6/ 127)، "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (35)، "كشاف القناع"(2/ 154)، "حاشية العدوي على كفاية الطالب"(2/ 395)، "الفواكه الدواني"(2/ 388)، "شرح ثلاثيات المسند"(2/ 102).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(16/ 354).
(4)
"الآداب الشرعية"(1/ 254).
(5)
"التمهيد"(6/ 127 - 128)، "فتح الباري"(10/ 496)، "شرح ثلاثيات المسند"(2/ 108).
الأثرم: وسئل عن السلام يقطع الهجران؟ فقال: (قد يسلم عليه وقد صدَّ عنه)
(1)
، وقال أيضًا:(ينظر في ذلك إلى ما كان عليه قبل أن يهجره، فإن كان قد علم منه مكالمته والإقبال عليه، فلا يخرجه من الهجرة إلَّا سَلَامٌ ليس معه إعراض ولا إدبار)
(2)
.
أما المكاتبة والمراسلة في حال الغيبة ففيها وجهان عند الشافعية، أحدهما: لا يزول بها الهجر؛ لأنه لم يكلمه، وأصحهما: يزول لزوال الوحشة
(3)
. وفي زماننا هذا تقل قيمة الخلاف في مسألة المكاتبة لوجود وسائل الاتصال كالهاتف ونحوه. والله تعالى أعلم.
(1)
"الآداب الشرعية"(1/ 253).
(2)
"التمهيد"(6/ 127 - 128).
(3)
شرح صحيح مسلم" (16/ 354).
الترغيب في بدل المعروف
1471/ 9 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (كل معروف صدقة)(6021) من طريق أبي غسان
(1)
، قال: حدثني محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا الحديث من أفراد البخاري
(2)
، ورواه مسلم (1005) من حديث حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل معروف صدقة" فاللفظ متفق عليه، وإنما اختلف صحابيه، ولهذا لم يعزه الحافظ للمتفق عليه؛ لأن اصطلاح المتفق عليه خاص بما اتحد فيه اسم الصحابي، هذا اصطلاح المحدثين كما ذكر الحافظ في "نُكَتِهِ على كتاب ابن الصلاح"
(3)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كل معروف) كل: من صيغ العموم، بل هي من أبلغها، وهذا يفيد أن المعروف وإن قلَّ فهو صدقة.
والمعروف: اسم جامع لكل ما فيه نفع للآخرين من قول أو فعل،
(1)
هو محمد بن مطرِّف.
(2)
انظر: "علل ابن أبي حاتم"(1146)، "أطراف الغرائب والأفراد"(1/ 319).
(3)
(1/ 298، 364).
فيدخل في ذلك كل نفع بدني أو مالي أو عملي أو توجيه لخير ديني أو مصلحة دنيوية، مثل الكلمة الطيبة والإحسان إلى الخلق بالمال أو بالجاه أو بالمساعدة أو إرشاد الضال.
قوله: (صدقة) أصل الصدقة ما يخرجه المرء من ماله لله تعالى، ويدخل في ذلك الصدقة الواجبة والمندوبة، والإخبار عن المعروف بأنه صدقة هو من باب التشبيه البليغ، والمعنى: أن فعل المعروف له أجر كأجر الصدقة.
* الوجه الثالث: هذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فتجتمع المعاني الكثيرة والوصايا النافعة تحت ألفاظ مختصرة واضحة؛ لأن فيه حثًّا وترغيبًا في بذل المعروف وكل ما فيه نفع للآخرين من كلمة طيبة كتشميت العاطس، والبدء بالسلام ورده، والثناء على المسلم بحق ونصحه وإرشاده، ومن المعروف الشاشة عند اللقاء، والمواساة، والشفاعة الحسنة، وفيه دليل على أن الإنسان يُثاب على ذلك كما يثاب على الصدقة من ماله، وهذا يدل على أن الصدقة ليست قاصرة على بذل المال الذي قد لا يكون إلا عند أهل اليسار، بل تكون الصدقة في الأفعال وغيرها مما هو في مقدور كل أحد في غالب الأحيان، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"
(1)
.
وهذا من فضل الله على عباده حيث يسر لهم أبواب الخير، ورتب عليها الأجور، وأصول ذلك ثلاثة:
1 -
عمل بدني: كالصلاة والصيام والتلاوة وطلب العلم وتعليمه.
2 -
بذل مالي: كالزكاة والصدقة والنفقة.
3 -
مركب منهما: وهو الحج والجهاد في سبيل الله. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (2827)، ومسلم (1009).
استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء
1472/ 10 - عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَوْ أَن تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ".
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث ذكر الحافظ من رواه مع الحديث الذي يليه، وقد رواه مسلم في كتاب "البر والصلة"، باب (استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء)(2626) من طريق أبي عامر -يعني الخزاز- عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا تحقرن) بكسر القاف، ماضيه حَقَرَ المتعدي من باب ضرب، وماضيه اللازم من باب ظَرُفَ، يقال: حَقُرَ الشيء -بالضم- حقارة: هان قدره فلا يُعبأ به فهو حقير، ويعَدَّى بالحركة فيقال: حَقَرته واحتقرته
(1)
.
قوله: (من المعروف شيئًا) أي: أيَّ شيء مهما قلّ؛ لأنك إذا حقرته تركته مع أنه قد يكون سببًا للوصول إلى مرضاة الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: "
…
وإن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات"
(2)
.
قوله: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) لو: تفيد التقليل
(3)
، وهي داخلة
(1)
"المصباح المنير" ص (143).
(2)
رواه البخاري (6478).
(3)
"الجنى الداني" ص (290).
على فعل مقدر لتبقى على اختصاصها، وهو الدخول على الفعل، والتقدير: ولو كان ذلك المعروف.
وقوله: (طلق) بفتح الطاء وسكون اللام، وقد اقتصر صاحب "المختار" على هذه اللغة، وقال في "القاموس": (طُلْقُ الوجهِ: مثلثة، وككَتِفٍ وأَمير
…
)
(1)
، ومعنى هذا: أن فيه خمس لغات: طُلْقٌ: بتسكين اللام وتثليث الطاء، والرابعة: طَلِقٌ، بفتح الطاء وكسر اللام، والخامسة: طَليقٌ بزيادة ياء، وطلق الوجه: ضاحكه ومشرقه، يقال: طَلُقَ الوجه -بالضم- طلاقة إذا كان ضاحكًا مشرقًا.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب طلاقة الوجه وبشاشته عند اللقاء وأن هذا من المعروف الذي ينبغي للمسلم أن يحرص عليه؛ لما فيه من إيناس الأخ المسلم وإدخال السرور عليه ودفع الإيحاش عنه، وبهذا يحصل التآلف والتقارب بين المسلمين، ومع هذه الفائدة العظيمة فإنه لا يكلف الإنسان شيئًا، فهو فعل هين عظيم الأجر، كثير الفائدة، وهو فضل وإنعام من الله تعالى يتفضل به على من يشاء من خلقه.
° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على فعل المعروف ولا سيما ما كان متعلقًا بالآخرين لما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وألا يحقر من المعروف شيئًا.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على كمال هذه الشريعة وشمولها، وأنها جاءت بكل ما فيه صلاح الناس وتوحيد كلمتهم وجمع شملهم وإشاعة المحبة بينهم. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "مختار الصحاح" ص (396)، "ترتيب القاموس"(3/ 90).
الوصية بالإحسان إلى الجار ولو بالقليل
1473/ 11 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرانَكَ". أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من تخريجه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (الوصية بالجار والإحسان إليه)(2625)(142) من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي، حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة
…
" الحديث.
ورواه من طريق شعبة، عن أبي عمران الجوني، ولفظه: إن خليلي أوصاني: "إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا طبخت مرقة) جمعها مَرَقٌ، والمرق هو الماء الذي طبخ فيه اللحم ونحوه، قال ابن منظور:(المرق: الذي يؤتدم به، واحدته مرقة)
(1)
.
وفيه مجاز مرسل، علاقته اعتبار ما يكون، كقوله تعالى عن صاحب السجن:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] فالخمر لا تعصر لأنها سائل، وإنما الذي يعصر هو العنب، فإطلاق الخمر وإرادة العنب مجاز مرسل، علاقته اعتبار ما يكون، ومعنى الحديث: إذا طبخت ذا مرق من لحم أو
(1)
"لسان العرب"(10/ 340).
غيره، وقد روى الإمام أحمد من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق -أو الماء-، فإنه أوسع -أو أبلغُ- للجيران"
(1)
.
قوله: (فأكثر ماءها) لأنه إذا كَثُر الماء كثر الائتدام به، وهو إساغة الخبز وتليينه، أو شربه لطعمه وفائدته، والأمر بإكثار الماء فيه إشارة إلى تيسير الأمر على البخيل؛ لأن هذه الزيادة المأمور بها إنما هي فيما ليس له ثمن وهو الماء فيهون الأمر، بخلاف ما لو كان الأمر بإكثار اللحم - مثلًا - فإن هذا لا يسهل على كل أحد
(2)
.
قوله: (وتعاهد جيرانك) قال في "القاموس": (تعهده وتعاهده واعتهده: تَفقده وأحدث العهد به)
(3)
. والمعنى: أعطهم منها شيئًا، والأمر للندب، للإجماع على أن الإهداء ليس بواجب، ولفظ:(تعاهد) موضوع للمشاركة في الفعل، بمعنى أن هذا مطلوب من كل الجيران مع الباقين.
وقوله في الرواية الثانية: (بمعروف) فيه إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون المرسل به إلى الجيران شيئًا به نفع في الائتدام، فإن لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقره، لحديث أبي ذر المتقدم:"لا تحقرن من المعروف شيئًا".
• الوجه الثالث: في الحديث حث على مكارم الأخلاق وإرشاد لمحاسنها لما يترتب على ذلك من المحبة والأُلفة، فالجار مأمور بالإهداء إلى جاره ولو كان ذلك شيئًا يسيرًا، ولا سيما إذا كان جاره يتأذى بقتار قدره، أو تصل إليه رائحة طعامه، وقد يكون ممن لا يقدر على التوصل لمثل ذلك، فتتعلق نفسه ونفس أطفاله بهذا الطعام، وإهداء شيء يسير منه له أعظم الأثر في إدخال السرور على جاره وعلى عياله، وهذه ظاهرة اجتماعية كانت موجودة بصورة جلية إلى زمن قريب، أما الآن فهي أقل بكثير مما مضى.
(1)
"المسند"(23/ 278) وهو من رواية الأعمش قال: بلغني عن جابر رضي الله عنه، وعزاه في "إتحاف المهرة"(3/ 147) إلى ابن أبي شيبة، وهو في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة المهرة"(5/ 285) من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن جابر رضي الله عنه.
(2)
"المفهم"(6/ 611 - 612).
(3)
"ترتيب القاموس"(3/ 335).
• الوجه الرابع: يقاس على ما في الحديث كل ما ينبغي إهداؤه، ولا سيما ما قد يظهر له رائحة كبعض الفواكه والأطعمة.
• الوجه الخامس: للهدية أثر كبير في بث الإخاء ونشر المودة وتوثيق الصداقة والمحبة ولا سيما بين الجيران؛ لأن الجيران قد يقع بينهم شيء من الأذى والوحشة بسبب الصبيان أو حالات الجوار، والإهداء من أسباب الألفة والتقارب وإزالة الوحشة، ولهذا رغب فيها الإسلام، وقد قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيِّهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك بابًا"
(1)
. فندب الإهداء إلى الأقرب، وذلك لأن الأقرب يرى ما يدخل في بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف لها بخلاف الأبعد؛ ولأن الأقرب أسرع إجابة لما قد يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة.
ولو أهدى إلى الأبعد وترك الأقرب جاز؛ لأن الهدية في الأصل ليست بواجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجبًا.
• الوجه السادس: ينبغي للجار المهدي ألا يمنع جاره شيئًا استقلالًا له واحتقارًا له بل يجود بما تيسر.
وينبغي للجار المُهدى إليه أن يقبل ذلك بكل سرور ويكافئ عليه ولو بالشكر والدعاء، وألا يستقل ما يأتي من جاره، فإن العدم أقل من ذلك، وقد يكون استقلالها سببًا في قطعها؛ لأن الهدية وإن كانت قليلة فهي دليل على تعلق قلب المُهدي بجاره. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (2060).
ما جاء في فضل الستر والتيسير على المسلمين وقضاء حوائجهم
1474/ 12 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الذكر والدعاء"، باب (فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)(2699) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا
…
" وساق الحديث، وتمامه: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه".
وأخرج البخاري (2442)، ومسلم (2580) بعض جمله من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من نفّس) بفتح النون وتشديد الفاء وآخره سين؛ أي: أزال وفرّج وكشف، مأخوذ من تنفيس الخِناق -وهو ما يَعْصِرُ الحلق- أي: إرخائه حتى يأخذ له نفسًا، والمراد إزالة الضيق، ولفظ البخاري ومسلم من حديث ابن عمر:(من فرّج) وهو من التفريج، وهو أبلغ من التنفيس؛ لأنه يزيل عنه أثر الكربة بحيث يزول همه وغمه.
قوله: (عن مؤمن) خصه بالذكر لمزيد شرفه وحرمته، مما يدل على أن الثواب فيما يُفعل معه من الإحسان آكد، وإلا فالذمي مثله لعموم:"إن الله كتب الاحسان على كل شيء"
(1)
ويليه المستأمن ثم الحربي. وقد عبر هنا بالإيمان وفي الجمل الآتية بالإسلام إما للتفنن، أو لأن الكربة تتعلق بالباطن فناسب الإيمان المتعلق به أيضًا
(2)
.
قوله: (كربة) بضم فسكون، والجمع (كُرَب) بضم ففتح، والكربة هي الشدة العظيمة، وأصل الكربة: ما أهمَّ النفس، وغمَّ القلب، ولما كانت الكربة تقارب أن تُزهق النفس لشدة غمها، كأنها عطلت مجال التنفس منه ناسب التعبير بـ (نَفَسَ) بدل أزال وفرّج
(3)
.
وقوله: (من كرب يوم القيامة) ولم يقل كرب الدنيا والآخرة كما في التيسير والستر، إما لأن الكربة هي الشدة العظيمة -كما مر- وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر، فإن الإنسان قد لا يخلو منهما ولو بتعسير بعض المطالب، وإما لأن كرب الدنيا ليست بشيء بالنسبة إلى كرب الآخرة، فجعل الله جزاءه تنفيس كرب الآخرة
(4)
.
(1)
تقدم شرحه في "الصيد والذبائح" برقم (1351).
(2)
"المعين على تفهم الأربعين" ص (300).
(3)
انظر: "الفتوحات الوهبية" ص (268).
(4)
"جامع العلوم والحكم" حديث (36).
قوله: (ومن يسر على معسر) المعسر: من أثقلته الديون وعجز عن وفائها، والتيسير عليه إما بإبراء أو هبة أو صدقة، أو بإنظار إلى ميسرة بنفسه أو بوساطته.
قوله: (يسر الله عليه) فيه حذف المعمول المشعر بالعموم؛ أي: يسر الله عليه أموره ومطالبه ومقاصده، أمور دينه ودنياه.
قوله: (ومن ستر مسلمًا) أي: ستر عورته الحسية بأن أعطاه ما يسترها به، والمعنوية بأن عَرَفَ منه معصية فيما مضى ولم يرفعه إلى الحاكم، وخص العلماء هذا بمن لم يعرف منه أذى أو فساد
(1)
.
قوله: (ستره الله) أي: حفظه من الزلات في الدنيا وإن فرط منه شيء لم يفضحه في الدنيا ولم يؤاخذه في الآخرة.
قوله: (والله في عون العبد) الواو: للاستئناف، وهو تذييل لما قبله لشموله لدفع المضرة وهو ما في الخصلة الأولى والثانية، وجلب النفع وهذا في الثالثة، ولهذا جاء التعبير بالجملة الاسمية دون الشرطية كما في الجمل الثلاث؛ ليقوى الحكم ببناء الخبر على المبتدأ
(2)
.
وعون الله للعبد: إعانته وتسديده على قضاء شؤونه النافعة.
قوله: (ما كان العبد
…
) مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام كون العبد في عون أخيه.
قوله: (في عون أخيه) أي: إعانة أخيه بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيره، وهذا مطلق في سائر الأحوال والأزمان، فيشمل المساعدة المادية بالمال، والمعنوية لنيل غايته وقضاء حاجته، كما يشمل الشفاعة له لدى سلطان أو غيره لقضاء حاجته أو تسهيل مهمته.
(1)
"جامع العلوم والحكم" حديث (36).
(2)
"الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية" ص (270).
• الوجه الثالث: هذا حديث عظيم قال عنه النووي: إنه جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، زاد ابن علان:(والفضائل والفوائد والأحكام)
(1)
.
فقد دلّ هذا الحديث على فضل التعارف والتقارب بين المسلمين؛ لأن أفراد المجتمع المسلم أعضاء من جسد واحد، وأن المسلم يشاطر أخاه فرحه وحزنه، فَيُسَرُّ لما يحظى به من فرح وسرور وما يتمتع به من صحة وسعادة، ويتألم لما فيه من ضيق وأذى وما يصيبه من مرض أو فاقة.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل من نفّس عن أخيه المسلم كربة ومصيبة من مصائب الدنيا التي توقعه في غم وهم وضيق، وتفريج الكربة إما بإعطائه من ماله إن كانت كربته من حاجة كدَيْن لزمه أداؤه، أو نفقة أعسر بها، أو ببذل جاهه في طلبه له من غيره، وإما أن يكون تفريج الكربة بالسعي لإزالة مظلمة عنه بسبب ظلم وقع عليه، فيسعى في رفعها أو تخفيفها، وهذا باب واسع، وضابطه: إزالة كل ما ينزل بالعبد أو تخفيفه.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على فضل التيسير على المعسر إما بإنظاره، وهذا واجب، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وإما بأن يضع الدائن عن مدينه أو يضع جزءًا منه، أو يُعطى ما يزول به إعساره، فكل هذا من التيسير المندوب إليه، وهو داخل في تفريج الكرب، ولكنه خصه بالذكر لأنه أبلغ، وقد ثبت فيه فضل عظيم وأجر جزيل، ومن ذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تَذَكَّرْ، قال: كنت أُداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال الله عز وجل: تجوزوا عنه"
(2)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه:
(1)
"شرح صحيح مسلم" للنووي (17/ 24)، "دليل الفالحين"(2/ 38).
(2)
رواه البخاري (2077)، ومسلم (1560). وانظر:"فتح الباري"(4/ 307).
تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه"
(1)
.
• الوجه السادس: الحديث دليل على فضل الستر على المسلم إذا وقع منه زلة وهو لا يُعرف بين الناس بشيء من المعاصي والفسوق وانتهاك الحرمات، وعليه أن يعظه وينصحه، أما في معصية رآه عليها وهو متلبس بها، فتجب المبادرة إلى الإنكار عليه ومنعه منها إن قدر، أو رفعه إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة.
أما من كان معروفًا بالفسق مشتهرًا بالمعصية، فهذا ينبغي كشف حاله وعدم الستر عليه؛ لأن الستر عليه يشجعه على الفساد ويغريه بالإجرام، ومثل هذا لا يُشفع له إذا أُخذ ولو لم يبلغ السلطان، بل يترك حتى يقام عليه الحد أو يؤدب؛ ليكشف ستره، ويرتدع أمثاله.
• الوجه السابع: الحديث دليل على فضل إعانة المسلم أخاه في أمور دينه ودنياه، وأن من كان في عون أخيه كان الله في عونه بتيسير أموره وتسهيل مطالبه، وهذا يشمل العون الحسي في العمل ونحوه، والعون المالي بمد يد المساعدة المالية بأن يسعى بجاهه لدى سلطان أو غيره في قضاء حاجة أخيه.
وقد ثبت في "الصحيحين" حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه سائل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه ثم قال: "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء"
(2)
.
ويؤخذ من هذا أنه ينبغي للمسلم أن يشتغل بقضاء حاجة أخيه فيقدمها على حاجة نفسه لينال من الله تعالى كمال الإعانة في حاجاته.
• الوجه الثامن: في الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وذلك بأن يجازي الله تعالى العبد من جنس فعله، وهذه سنّة الله مع خلقه شرعًا وقدرًا، قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (2078)، ومسلم (1562).
(2)
رواه البخاري (1432)، ومسلم (2627).
ما جاء في فضل الدلالة على الخير
1475/ 13 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإمارة"، باب (فضل إعانة الغازي في سبيل الله)(1893) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُبْدِعَ بي فاحملني، فقال:"ما عندي"، فقال رجل: يا رسول الله أنا أدلّه على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أُبدع) بضم الهمزة؛ أي: هلكت دابتي وهي مركوبي، وهو رباعي مبني لما لم يسم فاعله.
قوله: (من دل على خير) نكرة في سياق الشرط، فتعم كل خير ديني أو دنيوي مما لا يقع تحت الحصر، فيدخل في ذلك إرشاد الغير إلى فعل الخير، كما يدخل في ذلك الوعظ والتذكير وتأليف الكتب في العلوم النافعة.
قوله: (فله مثل أجر فاعله) أي: إن للدالِّ من الثواب مثل ما للفاعل من الثواب.
• الوجه الثالث: هذا حديث عظيم من جوامع الكلم، يدل على أن من أرشد غيره إلى خير أو دلّه على هدى كان له من الأجر مثل ما للفاعل، وهذا
مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"
(1)
. وهذا يشمل الدعوة بالقول؛ كالتعليم والموعظة والإفتاء، والدعوة بالفعل وهي القدوة الحسنة؛ لأن الذي يُقتدى به إذا فعل شيئًا أو ترك شيئًا تبعه الناس، فكأنه بهذا الصنيع دعا الناس إلى فعله أو تركه، وقد دلَّ على هذا المعنى قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وقد فهم سلف هذه الأمة من هذه الآية أن الخيرية قد حصلت للأمة لكونهم أنفع الناس للناس، وذلك بدلالة الناس على الخير، وتحذيرهم من ضده
(2)
.
وهذا فيه فوائد عظيمة، ومنها: أن هذا المرشد إلى الخير ينال من الأجر مثل أجر من أرشده، ومنها: أن الإرشاد إلى الخير تحقيق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مشاركة عظيمة في إصلاح المجتمعات، ومنها: التعاون على البر والتقوى، ونشر آداب الإسلام وأحكامه بين أفراد المجتمع، وهذا يحقق للمجتمع حياة السعادة والرشاد.
ومن هذه الأدلة وغيرها قرر المحققون من أهل العلم في أبواب المفاضلة بين الأعمال تفضيل الأعمال المتعدية على الأعمال القاصرة، مثل خدمة الفقراء، وتعليم العلم، والاشتغال بالتأليف والعناية بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والشفاعة، وذلك لما يحصل بالأعمال المتعدية من عموم النفع، ولما يحصل بها من استمرار الأجر، فإن صاحب النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه الذي نُسب إليه، وهذه وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن اقتدى بهم من الدعاة المخلصين
(3)
.
فينبغي للمسلم ولا سيما طالب العلم أن يحرص على الدلالة على الخير
(1)
رواه مسلم (1017).
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 77).
(3)
انظر: "مدارج السالكين"(1/ 87).
ودعوة الناس إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وألا يحقر نفسه أو ييأس من صلاح المدعو واستقامته، بل يرشد الناس بقدر ما عنده من العلم، والتوفيقُ بيد الله تعالى، لينال بذلك الأجر العظيم، ويتأكد هذا في حق المعلم وإمام المسجد وغيرهما ممن يخاطبون عموم الأمة ولا سيما شبابها وناشئتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَمِ"
(1)
.
لكن ينبغي أن يعلم أن التنويه بأهمية العمل المتعدي لا يعني إغفال العمل القاصر، أو التقليل من شأنه؛ لأن هذا الفهم أدَّى إلى خللٍ عند بعض طلاب العلم، فأهمل التعبد الخاص والعناية بخاصة أهله وأولاده بحجة الانشغال بالدعوة وتعليم العلم، والتوسط هو الحق، وهو المسلك الرشيد، تأمل قوله تعالى عن أهل الجنة:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، وإحسانهم إلى عباد الله
(2)
، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 17 - 19] فسمى الله العبادة إحسانًا، وبدأ بالإحسان إلى النفس ونوَّه به في آيتين، ثم نوَّه بالاحسان إلى الغير في آية واحدة. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
(2)
انظر: "تفسير ابن سعدي" ص (809).
استحباب مكافأة من أسدى إليك معروفًا
1476/ 14 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَن أَتَى إِلَيكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ". أَخْرَجَهُ الْبَيهَقِيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الزكاة"، باب (عطية من سأل بالله)(1672)، والنسائي (5/ 82)، وأحمد (9/ 266)، والحاكم (2/ 63 - 64)، والبيهقي (4/ 199) من طريق الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
هذا لفظ أبي داود، ونحوه للنسائي وأحمد والبيهقي، إلا أنه في رواية البيهقي قال:"فأثنوا عليه" بدل "فادعوا له"، وبهذا السياق يتبين أن الحافظ قد اختصر الحديث، وقد ذَهَلَ الحافظ فعزا الحديث للبيهقي مع أنه رواه من هو أرفع منه، كما تقدم، إلا إن كان له بهذا غرض، فالله أعلم.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ للخلاف الذي بين أصحاب الأعمش فيه)، وسكت عنه الذهبي، وصححه النووي، وصححه -أيضًا- الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الأذكار" كما نقل ذلك ابن علان
(1)
، لكن الحديث من رواية الأعمش عن
(1)
"رياض الصالحين" ص (548)، "الفتوحات الربانية"(5/ 250).
مجاهد، وقد تكلم الأئمة في عدد الأحاديث التي سمعها منه وأنها ستة أو سبعة، بل قال أبو حاتم كما في "العلل" (2119):(إن الأعمش قليل السماع من مجاهد، وعامة ما يروي عن مجاهد مدلَّس)
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من استعاذكم بالله) أي: من سألكم بالله تعالى أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم.
قوله: (فأعيذوه) أي: أجيروه وامنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه تعظيمًا وإجلالًا لمن استعاذ به.
قوله: (ومن سألكم بالله) أي: قال: أسألكم بالله، وحذف المعمول يؤذن بالعموم؛ أي: سألكم أيَّ شيء من جليل أو حقير، ديني أو دنيوي أو علمي.
قوله: (فأعطوه) أي: أعطوه ما سأل، والأمر للوجوب مع القدرة، ما لم يسأل إثمًا، أو قطيعة رحم، أو فيه ضرر على المسؤول؛ لأن في إعطائه إجابة لحاجته، وتعظيمًا لله تعالى الذي سأله به، وقد يكون الأمر للندب إذا سأل من لا فضل عنده، فإنه يستحب أن يعطيه على قدر حال المسؤول ما لا يضره ولا يضر عائلته
(2)
.
قوله: (ومن دعاكم) أي: إلى طعام أو غيره كأن يدعوك لمساعدته ومعاونته.
قوله: (فأجيبوه) أي: أجيبوا دعوته بحضور طعامه، أو بمساعدته على الأمر الذي طلب منكم مساعدته عليه.
قوله: (ومن أتى إليكم معروفًا) هذا لفظ النسائي وأحمد والبيهقي، ولفظ أبي داود:"ومن صنع إليكم"، وأتى: ضبطت بالهمز بدون مد؛ أي:
(1)
انظر: "العلل" للدارقطني (11/ 188)، (12/ 374)، "تهذيب الكمال"(12/ 76)، "شرح علل الترمذي"(2/ 744).
(2)
انظر: "فتح المجيد" ص (511).
صنع وفعل معروفًا، وبالمد (آتى) أي: أعطاكم المعروف، وهو اسم جامع لكل إحسان، كما تقدم.
قوله: (فكافئوه) أي: على إحسانه بمثله أو أحسن منه.
قوله: (فإن لم تجدوا) هكذا في نسخ "البلوغ" بحذف المفعول، وهو ثابت في جميع الروايات، كلما تقدم؛ أي: فإن لم تجدوا شيئًا تكافئون به.
قوله: (فادعوا له) أي: فبالغوا في الدعاء له جهدكم، وظاهره أن الدعاء يكون بعد فعل المعروف مباشرة.
قوله: (تروا) بفتح التاء بمعنى تعلموا، بدليل رواية النسائي:"حتى تعلموا أن قد كافأتموه"
(1)
، وضبطها بعض الشراح بالضم، أي: تظنوا
(2)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من استعاذ بالله تعالى من شخص بأن قال له: أعوذ بالله منك، وجبت إعاذته ودفع الشر عنه؛ لأنه يطلب النجاة والحماية، وقد استعاذ بعظيم حيث توسل بأعظم الوسائل وهو الله تعالى، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث في كتاب "التوحيد" وبوّب عليه باب (لا يُرد من سأل بالله) قال الشارح:(أي: إعظامًا وإجلالًا لله تعالى أن يُسأل به شيء ولا يجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه)
(3)
.
ويستثنى من ذلك ما إذا استعاذ من فعل أمر واجب ولازم له، أو استعاذ من الإقلاع عن شيء محرم فإنه لا يعاذ، فالأول كما لو استعاذ بالله من أخذ الدين الذي عليه، والثاني كما لو استعاذ بالله من إنكار ما كان يفعله، فمثل هذا لا يعاذ.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من سأل بالله تعالى فإنه يعطى ولا يرد، كأن يسأل من الزكاة وهو من أهلها، أو يسأل إعانة مالية والمسؤول قادر، أو يسأل الإنظار في دَين عليه وهو يستحق الإنظار؛ لأنه لما سأل بالله صارت إجابته من تعظيم الله تعالى مع ما فيها من قضاء حاجته.
(1)
"السنن"(5/ 82).
(2)
انظر: "قرة عيون الموحدين" ص (278).
(3)
"تيسير العزيز الحميد" ص (656).
ويستثنى من ذلك ما لو سأل إثمًا؛ كنقود يشتري بها محرمًا من خمر أو غيره، أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، كما لو سأله عن أمر يخص أهله أو بيته فإنه لا يجاب.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية إجابة دعوة المسلم لوليمة أو غيرها إذا لم يكن ثم مانع من الحضور مما هو مبسوط في موضعه، والإجابة من أسباب الألفة، وسلامة الصدر، وإكرام الداعي، وتوثيق المحبة بين المسلمين، وقد تقدم هذا في أول كتاب "الجامع".
وظاهر الحديث وجوب الإجابة في كل دعوة سواء أكانت دعوة زواج أو غيرها، وهذا مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو قول جماعة من السلف، وهو قول الظاهرية.
والجمهور على أن إجابة وليمة الزواج واجبة، وما عداها فهي مستحبة، وقد مضى بسط هذه المسألة في باب (الوليمة) من كتاب "النكاح"
(1)
.
• الوجه السادس: الحديث دليل على مشروعية مكافأة المحسن على معروفه عند القدرة على ذلك، سواء أكان هذا المعروف هدية ومعونة على أمر، أو قضاء حاجة أو غير ذلك؛ لأن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله بدلالة هذا الحديث، وهذه المكافأة لها فائدتان:
الأولى: تشجيع ذوي المعروف والإحسان على أفعال الخير والمداومة عليها.
الثانية: أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، فهو إذا أحسن إليه ولم يكافئه يبقى في قلبه شيء من التعلُّق به والرقة له، فشرع قطع ذلك بالمكافأة
(2)
، ولو كان صاحب المعروف كافرًا، وهو أولى من مكافأة المسلم، إذ منّة المسلم أسلم من منّة الكافر
(3)
.
(1)
انظر: (7/ 415) من هذا الكتاب.
(2)
"تيسير العزيز الحميد" ص (659).
(3)
"حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد" ص (348)، "القول المفيد"(3/ 114).
أما الإعراض عمن أسدى إليك معروفًا وكأنه ما فعل شيئًا، فهذا ليس من مكارم الأخلاق ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس. قال ابن حبان: (الواجب على المرء أن يشكر النعمة، ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته، إن قدر فبالضِّعْفِ، وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له بالشكر، وقوله: جزاك الله خيرًا
…
)
(1)
.
وقد استثنى العلماء من مشروعية المكافأة من لا تحسن مكافأته لكون العادة لم تجر بذلك، كالملك والرئيس والوزير فهذا يدعى له
(2)
.
فإن لم يجد ما يكافئ به صاحب المعروف فإنه يدعو له ويجتهد ويبالغ في الدعاء حتى يرى أنه قد كافأه؛ لأنه لما رأى في نفسه تقصيرًا في المجازاة لعدم القدرة عليها أحال ذلك إلى الله تعالى ونِعْم المجازي هو
(3)
، وهذا يفيد أن الدعاء يسمى مكافأة في حق من لا يقدر على المجازاة، فيدعو له بما يناسب المعروف أو بما يناسب المقام، ومن أبلغ الدعاء أن يقول له: جزاك الله خيرًا، وقد تقدم في هذا حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء"
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"روضة العقلاء" ص (353).
(2)
"القول المفيد"(3/ 113).
(3)
"تيسير العزيز الحميد" ص (659).
(4)
تقدم في "الأيمان والنذور" برقم (1378).
باب الزهد والورع
الزهد: مصدر زَهِدَ في الشيء، وزَهِدَ عنه يَزْهَدُ زَهَادة من باب سَلِمَ، وزُهْدًا -أيضًا- بمعنى تركه وأعرض عنه، فهو زاهد، وزَهَدَ يَزْهَدُ بفتحتين لغة
(1)
.
ومادة زهد تدل على القلة في كل شيء. قال ابن فارس: (الزاء والهاء والدال أصل يدل على قلة الشيء، والزهيد: الشيء القليل
…
)
(2)
.
وأما حقيقة الزهد فقد تنوعت عبارة السلف والعلماء الذين جاءوا من بعدهم في تفسير الزهد على أقوال كثيرة جدًّا، ومحصلها: أن الزهد انصراف عن الرغبة في الشيء إلى ما هو خير منه، وهو الزهد فيما يُشغل عن الآخرة، من الزهد في الدنيا وشؤونها والرغبة في الآخرة والإعداد لها، ويدخل في ذلك الزهد في الحرام والمكروهات وبعض المباحات التي قد تشغل عن الآخرة والقيام بالأعمال الصالحة.
ولا يمنع ذلك العمل للدنيا يَتَقَوَّى به على طاعة الله، ويستغني عما في أيدي الناس بالبيع والشراء والزراعة والصناعة ونحو ذلك، لكن بشرط ألا تشغله هذه الأمور عن الإعداد للآخرة بل يكون قلبه زاهدًا فيها راغبًا فيما عند الله.
يقول ابن الجَلاء: (الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال؛ لتصغر في عينيك، فيسهل عليك الإعراض عنها)
(3)
.
وقال بعض السلف: (الزهد: عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف)
(4)
.
(1)
"مختار الصحاح" ص (276)، "المصباح المنير" ص (257).
(2)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 30).
(3)
"بصائر ذوي التمييز"(3/ 139).
(4)
"مدارج السالكين"(2/ 11).
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ فقال: (نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت)
(1)
.
وقال إبراهيم بن أدهم: (الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فأما الزهد الفرض: فالزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الزهد: ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة).
وقال ابن القيم: (هذا من أحسن ما قيل في الزهد)
(2)
.
والمراد بذلك فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله تعالى، أما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين، بل صاحبه داخل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]
(3)
. وهو جهل وضلال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن"
(4)
.
وأما الورع فهو مصدر وَرعَ يَرِعُ وَرَعًا ورِعَةً مثل: عِدة فهو وَرعٌ، وهذه المادة تدل على الكف والانقباض. قال ابن فارس: (ومنه -أي: من هذه المعنى- الوَرَعُ: العفة، وهي الكف عما لا ينبغي
…
)
(5)
.
وأما في الاصطلاح فقد تنوعت عبارة السلف والعلماء الذين جاءوا من بعدهم في تفسير الورع على عدة أقوال، ومحصلها: أن الورع يكون في المشتبهات التي قد يكون فيها حرام أو مكروه، فيتورع عما فيه شبهة خشية الوقوع في المحذور، ويكتفي بما اتضح له وبان وجهه حرصًا على سلامة دينه. قال سفيان الثوري: (ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك
(1)
"مدارج السالكين"(2/ 11).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 10).
(3)
"الفتاوى"(10/ 21).
(4)
"الفتاوى"(10/ 511)، والحديث المذكور سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.
(5)
"معجم مقاييس اللغة"(6/ 100).
فاتركه"
(1)
. وقال بعض السلف: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس). ويروى حديثًا مرفوعًا
(2)
. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الورع المشروع ترك ما قد يضر في الدار الآخرة)، فيدخل في ذلك المحرمات والشبهات؛ لأنها قد تضر، بدليل حديث النعمان رضي الله عنه الآتي، وقال:(الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته، وهو ما يُعلم تحريمه وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله).
والمراد بذلك: ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات
(3)
.
مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها، ويأخذ بدلها محرمًا بيّنًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون عليه أو على أبيه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة، فيتورع عنها ويدع ذمته وذمة أبيه مرتهنة
(4)
.
وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع
(5)
.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع، وأما المباحات فيصلح الزهد دون الورع
(6)
.
(1)
"مدارج السالكين"(2/ 22).
(2)
رواه الترمذي (2451)، وابن ماجه (4215)، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وفي سنده عبد الله بن يزيد الدمشقي، وهو ضعيف. انظر:"تهذيب الكمال"(16/ 319).
(3)
"الفتاوى"(10/ 21).
(4)
"الفتاوى"(10/ 512).
(5)
المصدر السابق.
(6)
"الفتاوى"(10/ 619).
وبهذا يتبين أن الزهد أعلى من الورع؛ لأن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع؛ لأن الأشياء ثلاثة أنواع: منها ما يضر في الآخرة، ومنها ما ينفع، ومنها ما لا ينفع ولا يضر، فالوَرعُ يترك ما يضره في الآخرة، والزاهد يترك ما لا ينفعه في الآخرة، والذي يضره شركه من باب أولى، وعليه فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهدًا
(1)
.
(1)
"شرح رياض الصالحين"(3/ 359، 485).
ما جاء في فضل ترك الشبهات
1477/ 1 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإصْبَعَيهِ إلَى أُذُنَيهِ-: "إن الْحَلَال بَيِّنٌ، وإنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهَاتِ، فَقَد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعى حَوْلَ الْحِمى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا وَإنَّ حِمى اللهِ: مَحَارِمُهُ، أَلا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ: الْقَلْبُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الإيمان"، باب (فضل من استبرأ لدينه)(52)، ومسلم (1599) من طريق زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وأهوى النعمان بإصبعيه
…
) هذا مما انفرد به مسلم، وهو يفيد أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا رد على الواقدي ومن تبعه القائلين بأن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
؛ لأن النعمان كان عمره ثماني
(1)
"فتح الباري"(1/ 126).
سنوات عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز وأن ما تحمله في حال صغره وأَدَّاهُ بعد بلوغه فهو مقبول.
قوله: (إن الحلال بيِّن) أي: ظاهر لا يَحتاج إلى بيان، ويشترك في معرفته كل أحد، وهو ما نص الله ورسوله على حله، أو أجمع المسلمون على حله بعينه، كقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} [البقرة: 275]، ويدخل في هذا المأكولات والمشروبات والملبوسات التي استقر عند الناس حلها.
قوله: (وإن الحرام بيِّن) أي: ظاهر، وهو ما نص الله ورسوله، أو أجمع المسلمون على حرمته بعينه، كقوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ويدخل في ذلك الزنا، وشرب الخمر، والميتة، والخنزير، ونكاح المحارم، والمكاسب المحرمة كالربا والميسر، ونحو ذلك.
قوله: (وبينهما مشتبهات) هذا لفظ مسلم، وهي بضم الميم وسكون الشين وكسر الباء الموحدة، جمع مشتبهة، وقد ورد لفظ المفرد عند البخاري في "البيوع"
(1)
، ولفظ البخاري في "الإيمان":"وبينهما مُشَبَّهَات" بضم الميم وفتح الشين وتشديد الباء، وفيه روايات أخرى
(2)
. وهي من اشتبه الأمر: إذا لم يتضح، والمعنى: أن بين الحلال والحرام الواضحين أمورًا مشتبهة مترددة بين الحل والحرمة؛ لأنها ليست من الحلال البيِّن ولا من الحرام البيِّن.
قوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) أي: لا يعلم كثير من الناس حكم المشتبهات من التحليل والتحريم، وليس المراد لا يعلم كثير من الناس أنها مشتبهات، وقد جاء في رواية الترمذي:"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام"
(3)
.
ومفهوم قوله: (كثير) أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون، فالمشتبهات على هذا في حق غيرهم، وقد دخل فيمن لا يعلم المشتبهات صنفان: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه، ومن يعتقدها على
(1)
"صحيح البخاري"(2051).
(2)
"فتح الباري"(1/ 127).
(3)
"جامع الترمذي"(1205).
غير ما هي عليه، وقد يقع الاشتباه للمجتهد نفسه حيث لا يظهر له ترجيح أحد الدليلين.
والاشتباه له أسباب كثيرة، منها:
1 -
تعارض الأدلة بحيث لا يظهر للناظر فيها جمع ولا ترجيح، وهذا بالنسبة إلى المجتهد، فكل مسألة تعارضت فيها الأدلة على هذا الوجه فهي من المتشابه، لكن ينبغي أن يُعلم أن هذا أمر نسبي، فقد يحصل الاشتباه عند مجتهد، ولا يحصل عند مجتهد آخر، ومثال ذلك الأحاديث الواردة في أداء تحية المسجد التي ظاهرها أنها تُصلى كل وقت، مع أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر والصبح، وظاهرها العموم في كل صلاة، فظاهر الأول أنها واجبة، وظاهر الثاني أن فعلها حرام، فهذه قد تكون واضحة عند شخص، وقد تكون مشتبهة عند شخص آخر.
2 -
اختلاف العلماء في فهم الدليل بأن يكون فيه أمر أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، مثل الأمر بغسل الجمعة، وهذا يحصل في حق المقلد، والوَرَعُ في حقه الوقوف عند الشبهة، وهو أن يغتسل؛ لأن القائل بعدم وجوب الغسل لا يقول بعدم جوازه، بل يقول: إنه مستحب.
3 -
خفاء النص وعدم بلوغه للمجتهد؛ لكونه لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم، فتكون هذه المسألة التي لم يبلغ المجتهد فيها دليل من المشتبهات، فلا يفتي حتى يقف على دليل مانع أو مبيح
(1)
.
قوله: (فمن اتقى الشبهات) أي: ابتعد عنها واجتنبها فجعل بينه وبينها وقاية، ووضع الظاهر موضع الضمير تفخيمًا لشأن اجتنابها والحذر منها.
قوله: (فقد استبرأ لدينه وعرضه) أي: طلب البراءة أو حصل عليها
(1)
انظر: "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (6)، "كشف الشبهات عن المشتبهات" للشوكاني ص (8) وما بعدها.
لحفظ دينه من الذم الشرعي، وحفظ عرضه بصونه عن كلام الناس بما يعيبه؛ لأن من عُرف بالوقوع في الشبهات فقد دخل عليه النقص في دينه، ولا يسلم عرضه من الطعن فيه باتهامه بمواقعة المحظورات.
والعرض: موضع المدح والذم من الإنسان، وهو متعلق بالأمور التي بذكرها يرتفع أو يسقط، ومن جهتها يذم أو يحمد، وقال الفاكهاني:(أشبه ما يفسر به العرض هنا: النفس؛ أي: استبرأ لنفسه من أن يُلام على ما أتى، والله أعلم)
(1)
.
قوله: (ومن وقع في الشبهات) أي: تجرأ على الشبهات وأقدم عليها، وهذا يحتمل معنيين:
الأول: من أكثر من تعاطي الشبهات صادف الحرام وهو لا يشعر به.
الثاني: أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه وَيجْسُرُ على شبهة أخرى أغلظ منها، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا.
قوله: (كالراعي يرعى حول الحمى) هذا تمثيل وتشبيه للأمور المعنوية بالشيء المحسوس المشاهد، وهو نوع من البيان وضرب من وسائل الإيضاح، ومفعول (يرعى) محذوف للعلم به؛ أي: يرعى مواشيه.
والحمى: بكسر الحاء، هو المكان المحمي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، والمراد به: ما حُمي من الأرض لأجل الدواب، فيكون محظورًا على غير من حماه؛ لأنه ينفرد برعيه دون غيره.
قوله: (يوشك أن يقع فيه) أي: يسرع ويقرب فيه بناء على تساهله في الصحافظة وجراءته على الرعي.
ووجه هذا التمثيل أن الراعي يجره رعيه حول الحمى إلى وقوعه فيه، فيستحق العقاب من صاحب الحمى، فكذلك المكثر من الشبهات ينجر إلى فعل الحرام، فيستحق العقاب بسبب ذلك.
(1)
"رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام"(5/ 394).
قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى) ألا: بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه يفيد التوكيد، ويؤتى بها إشارة إلى أن ما بعدها أمر ينبغي التنبه له، والواو: استئنافية، والمَلِكُ: بكسر اللام الواحد من ملوك العرب، وهذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله إقرارًا، وأن الملك له أن يحمي مكانًا معينًا ترعى فيه بهائم المسلمين التي في بيت المال كإبل الصدقة وخيل الجهاد، ويحتمل أنه إخبار عن الواقع وإن لم يكن إقرارًا له، وهذا أقرب؛ لأن الظاهر من هذا المثال بيان الواقع لا بيان حكم الحمى شرعًا؛ لأن من الحمى ما يكون ظلمًا وعدوانًا
(1)
.
قوله: (ألا وإن حمى الله محارمه) جمع محرمة: بفتح الميم وسكون الحاء وضم الراء أو فتحها وهي الحرمة التي لا يحل انتهاكها
(2)
.
والمراد هنا: المعاصي التي حرمها الله تعالى ومنع عباده الوقوع فيها من مأمور به واجب أو وقوع في منهي عنه محرم.
قوله: (ألا وإن في الجسد مضغة) مناسبة هذه الجملة لما قبلها أنه لما كان التورع والتهتك مما يتبع سلامة القلب وفساده نبّه على ذلك بهذه الجملة، وكررت (ألا) تنبيهًا على عظم شأن مدلولها وما دخلت عليه وأن هذا أمر له شأن ينبغي أن يتنبه له المخاطب، ويُستأنف الكلام لأجله.
والمضغة: قدر ما يمضع من الطعام، وعبّر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية.
قوله: (إذا صلحت صَلَحَ الجسد كله) صَلَحَ ومثله فَسَدَ بفتح العين، هو أكثر وأشهر، وتضم في المضارع، وحكى الفراء الضم في صلح، والتعبير بـ (إذا) لتحقق الوقوع غالبًا
(3)
.
والمعنى: أن هذه المضغة إذا صلحت بالإيمان والعلم صلح الجسد كله بالأعمال والإخلاص؛ لأن الجسد تابع لهذا القلب.
(1)
"شرح رياض الصالحين"(3/ 493).
(2)
"المصباح المنير" ص (132).
(3)
"فتح الباري"(1/ 128).
قوله: (ألا وهي القلب) فهو الملك والأعضاء كالرعية.
• الوجه الثالث: هذا حديث عظيم من أمعن النظر فيه وجده حاويًا لعلوم الشريعة، إذ هو مشتمل على الحث على فعل الحلال واجتناب الحرام والإمساك عن الشبهات والاحتياط للدين والعرض وتعظيم القلب والسعي في صلاحه.
• الوجه الرابع: في هذا الحديث تقسيم الأشياء في الشريعة من حيث الحل والحرمة إلى: حلال بَيِّنٍ، وحرام بَيِّنٍ، ومشتبهٍ ليس بواضح الحل ولا الحرمة.
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن أحكام الأمور المشتبهة ليست معطلة لا تعلم، بل يعلمها بعض الناس، وهم العلماء المجتهدون لما عندهم من مزيد علم، فيعلمون ما هي عليه في حقيقة الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا مرده إلى الاجتهاد والنظر في أحكام الشرع، وقد يرى هذا العالم حل ما يرى العالم الآخر تحريمه، بناءً على ما أداه إليه اجتهاده، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء لعلمهم بما لم يعلمه غيرهم، وحَلِّهم ما أشكل على غيرهم.
أما المقلد فإنه يقتدي بأفضل العَالِمَينِ المختلفين علمًا وورعًا؛ لأن مثل هذا يكون أقرب إلى الصواب في الغالب.
• الوجه السادس: الحث على اتقاء الشبهات والبعد عنها، وهي ما حصل التردد في حله أو حرمته؛ لأن في ذلك احتياطًا للدين من أن يدخله نقص أو خلل، واحتياطًا للعرض من الوقوع فيه بالذم، فالأول فيما بينه وبين الله، والثاني فيما بينه وبين الناس، قال بعض السلف:(من عرَّض نفسه للتُّهم فلا يلومن من أساء الظن به)
(1)
.
وهذا يفيد أنه لا بد للمسلم من المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة الإنسانية، وأن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدِّين، وفي هذا فائدة عظيمة دلّت عليها رواية البخاري: (فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (6).
كان لِمَا استبان أترك
…
)
(1)
، والمعنى: أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه فهو أولى بتركه إذا اتضح له أنه إثم.
قال ابن رجب: (هذه الأمور المشتبهات: منها ما يقوى شبهه بالحرام، ومنها ما يبعد شبهه بالحرام، ومنها ما يتردد، لشبهه بين الحلال والحرام.
فالأول: يقوى فيه التحريم، والثاني: يقوى فيه الكراهة، والثالث: يتردد فيه.
واجتناب الكل حسن، وهو الأفضل والأولى)
(2)
.
ويتأكد تأمل هذا المعنى في زماننا هذا حيث كثرت المكاسب المشبوهة في أمور البيع والشراء، وأقدم الناس على الحيل، وتهافتوا على جمع الدنيا بكل وسيلة من غير التفات إلى دين أو فضيلة أو خلق، إلا من رحم الله.
• الوجه السابع: في الحديث دليل على خطر التساهل في الشبهات وأن الإقدام عليها مع كونها مشتبهة عنده سبب للوقوع في الحرام بالتدريج والتسامح، وفي هذا تعريض الإنسان دينه للنقص وعرضه للوقوع فيه، وقد نقل ابن المُنَيِّرِ عن بعض مشايخه أنه قال:(المكروه عَقَبَةٌ بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه)
(3)
ويقول الحافظ ابن رجب: (من وقع في الشبهات كان جديرًا بأن يقع في الحرام بالتدريج؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة، فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده؛ ولهذا جاء في رواية: "ومن خالط الريبة يوشك أن يَجْسُرَ" ويعني: يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه)
(4)
.
(1)
"صحيح البخاري"(2051).
(2)
"شرح حديث: مثل الإسلام" ص (35).
(3)
"فتح الباري"(1/ 127).
(4)
"فتح الباري" لابن رجب (1/ 227)، والرواية المذكورة هي لأبي داود (3329)، والنسائي (7/ 243).
• الوجه الثامن: عظم شأن القلب والحث على إصلاحه، وأنه بصلاحه يصلح كل شيء من الإنسان، وبفساده يفسد كل شيء، وصلاح القلب بأن يكون سليمًا ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية ما يباعد من الله، وضد ذلك فساد القلب، وهو الذي استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله.
يقول الحافظ ابن رجب: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأنَّ ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام.
وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال، بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق)
(1)
.
• الوجه التاسع: في الحديث دليل على أن صلاح الباطن يستلزم صلاح الظاهر، وأن فساد الظاهر دليل على فساد الباطن، وقد يصلح الظاهر مع فساد الباطن كحال المنافقين والمرائين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(إذا قام بالقلب التصديق به -يعني بالله عز وجل والمحبة له؛ لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو من موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله. كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له -أيضًا- تأثيره فيما في القلب. فكل منهما يؤثر على الآخر. لكن ما في القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه)
(2)
.
• الوجه العاشر: أن من طرق البيان ووسائل الإيضاح ضرب الأمثال وتشبيه المعقول بالمحسوس؛ لتقرير المعاني وترسيخها في الذهن. والله تعالى أعلم.
(1)
"فح الباري" لابن رجب (1/ 229).
(2)
"مجموع الفتاوى"(7/ 644).
ما جاء في ذم التعلق بالدنيا
1478/ 2 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إنْ أُعْطيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الرقاق"، باب (ما يُتقى من فتنة المال)(6435) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِين
(1)
، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة
…
" الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (تَعِسَ) بفتح التاء الفوقية وكسر العين المهملة من باب تَعِبَ تَعَسًا فهو تَعِسٌ، لغة في تَعَسَ بالفتح من باب نفع تَعْسًا فهو تاعس؛ أي: أكب على وجهه
(2)
، ومعناه هنا: هلك وخاب.
قوله: (عبد الدينار) أي: طالب الدينار الحريص على جمعه القائم على حفظه، يرضى إذا وجد، ويغضب إذا فقد، وخص العبد بالذكر إشارة إلى شغفه وحرصه وانغماسه في محبة الدنيا فهو كالأسير الذي لا يجد مخلصًا، ولم يقل مالك ولا جامع الدنيا لأنه لا ذم في ذلك على الإطلاق، وإنما الذم فيما زاد على الحاجة.
(1)
بفتح أوله، هو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي. "فتح الباري"(11/ 254).
(2)
"المصباح المنير" ص (75).
قوله: (والدرهم) بالعطف على الدينار، وقد جاء عند البخاري في "الجهاد" من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح التصريح بالمضاف إليه مع جميع الألفاظ: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة
…
"
(1)
.
قوله: (والقطيفة) بالقاف والطاء المهملة والتحتية والفاء بوزن صحيفة، هو الدِّثَارُ الذي له خَمْلٌ، وجمعه قطائف وقُطُف -بضمتين- والدثار: ما يلقيه الإنسان عليه من كساء وغيره، والخَمْل: مثل فَلْس: الهُدْبُ
(2)
.
قوله: (والخميصة) بالخاء المعجمة وبالميم والصاد المهملة، هي كساء أسود معلم الطرفين، ويكون من خَزٍّ أو صوف، فإن لم يكن معلمًا فليس بخميصة
(3)
.
وهذه المذكورة هي من أقل المال، وإنما نبه النبي صلى الله عليه وسلم بها على ما هو أعلى منها، وجملة (تعس) يحتمل أن تكون خبرًا من النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، ويحتمل أن تكون من باب الدعاء على من هذه حاله حيث وصل به حب الدنيا إلى هذا الحال
(4)
.
قوله: (إن أُعطي رضي
…
) هذان الشرطان وجوابهما مسوقان لبيان شدة حرصه على ذلك
(5)
. وهذا الإعطاء يحتمل أن يكون قدريًّا، والمعطي هو الله تعالى، والمعنى: إن قدر الله له رزقًا رضي، وإن منع سخط، فيكون فيه سخط على قضاء الله وقدره، ويحتمل أن الإعطاء شرعي، والمعنى: إن أُعطي من مالٍ يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الشخص لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له
(6)
.
(1)
"صحيح البخاري"(2887).
(2)
"المصباح المنير" ص (182، 189، 509).
(3)
"المصباح المنير" ص (182).
(4)
"القول المفيد"(2/ 250).
(5)
"دليل الفالحين"(2/ 405).
(6)
"القول المفيد"(2/ 249).
• الوجه الثالث: في الحديث ذم التعلق بالدنيا، وأنه لا يليق بالمسلم الذي غايته أسمى، وهمته أعلى أن يجعل الدنيا أكبر همه وغاية قصده، فيكون همه تحصيل المال وتجميل الحال، ولا يرضى إلا للمال، ولا يسخط إلا له، فإن هذه صفة مَنْ ذمهم الله تعالى بقوله جل وعلا:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة: 58] ومن كان بهذه الصفة استعبدت الدنيا قلبه وشغلته عن ذكر الله تعالى وعن عبادته، وصار عبدًا لما يهواه ورقيقًا له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلبَ واستعبده فهو عبد له، وهكذا طالب المال فإنه يستعبده ويسترقه.
ومن المال ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه، ومنه ما لا يحتاج إليه، فهذا ينبغي له ألا يتعلق قلبه به وإلا صار مستعبدًا له، بل قد يكون معتمدًا على غير الله فيه، فهذا على خطر عظيم؛ لأن في قلبه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"تيسير العزيز الحميد" ص (540، 541).
الحَثُّ على قِصَرِ الأمل في الدنيا
1479/ 3 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَال:"كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَيتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الرقاق"، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل") (6416) من طريق سليمان الأعمش قال: حدثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
…
وذكر الحديث
(1)
. وفيه: "
…
وخذ من صحتك لمرضك
…
".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بمنكبي) بكسر الكاف والباء وتخفيف الياء التحتية على الإفراد، وهو مجمع رأس العضد والكتف، قال الحافظ:(وضُبط في بعض الأصول بالتثنية)
(2)
. وعليه فهو بفتح الباء وتشديد الياء التحتية؛ لأن ياء المتكلم أدغمت في ياء التثنية، وقد ضبطت هكذا في بعض نسخ "البلوغ".
وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ابن عمر رضي الله عنهما ليستيقظ ويقبل بقلبه على ما
(1)
انظر: "شرح علل الترمذي"(2/ 745)، "فتح الباري"(11/ 233).
(2)
"فتح الباري"(11/ 234).
يلقيه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما فيه من التأنيس والإشعار بالمحبة؛ لأن هذا لا يفعل غالبًا إلا مع من يميل إليه الفاعل.
قوله: (غريب) مأخوذة من الغربة وهي البعد عن الأهل والأوطان.
قوله: (أو عابر سبيل) السبيل هو الطريق، والمراد بـ (عابر السبيل) المسافر الذي يمر بطريقه على بعض البلدان والأماكن.
وقد حذف من هذا التشبيه وجه الشبه وهو عدم الاستقرار والتفكير بالبقاء وطول الإقامة، و (أو) للتخيير، أو للإضراب بمعنى بل، حيث شُبِّهَ الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مأوى، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل فإن من شأنه أن يهتم بسفره ولا يقيم لحظة أو يسكن لمحة
(1)
.
قوله: (وكان ابن عمر يقول) أي: عقب روايته لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إذا أمسيت) الفعل (أمسى) تام، والتاء: فاعل؛ أي: دخلت في المساء، وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل.
قوله: (فلا تنتظر الصباح) أي: لا تحدث نفسك بالبقاء إلى الصباح، بل انتظر الموت كل وقت، واجعله نصب عينيك، وقيل: فلا تنتظر بأعمال المساء الصباح؛ لأن كلّا منهما له عمل يخصه.
قوله: (وإذا أصبحت) أي: دخلت في الصباح، والصباح من نصف الليل إلى الزوال
(2)
.
قوله: (فلا تنتظر المساء) أي: لا تحدث نفسك بالبقاء إلى المساء، بل انتظر الموت كل وقت، وقيل: فلا تنتظر بأعمال الصباح المساء، كما تقدم.
قوله: (وخذ من صحتك لسقمك) هكذا في "البلوغ": (لسقمك) وهي ليست عند البخاري، وإنما هي عند الترمذي من طريق آخر
(3)
. والسَّقَم:
(1)
"فتح الباري"(11/ 234).
(2)
"المصباح المنير" ص (331).
(3)
"جامع الترمذي"(2333).
مصدر سَقِمَ من باب تَعِبَ: طال مرضه، وسَقُمَ سُقْمًا من باب قَرُبَ فهو سَقيم
(1)
، ولفظ البخاري -كما تقدم-:(وخذ من صحتك لمرضك) وهذا على حذف مضاف؛ أي: وقت صحتك، والمعنى: أن يغتنم الإنسان وقت الصحة بالأعمال الصالحة؛ لأن المرض قد يطرأ، فيعجز الإنسان عن الأعمال التي كان يعملها في حال الصحة.
قوله: (ومن حياتك لموتك) أي: وخذ من زمن حياتك لموتك، وهذه الجملة إما أنها مؤكدة لما قبلها، وإما أنها مؤسسة، فيكون معناها أعم مما قبلها، وذلك بأن يراد بها الإكثار من الطاعات ولو في زمن المرض المتمكن فيه منها، فيكون فيه ترقٍّ وزيادة في التحريض على اغتنام الطاعة وعدم التواني فيها مع إمكانها ولو كان فيها نوع مشقة على النفوس لمرض أو غيره.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب اغتنام الأوقات، والحث على قِصَرِ الأمل، وتقديم التوبة والاستعداد للموت، وهذا الحديث من أبلغ الكلام في التذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا، وذلك أن الدنيا فانية، مهما طال عمر الإنسان فيها، فهي دار ممر لا دار مقر، وكل نفس ذائقة الموت، وهذه حقيقة مشاهدة، نراها كلَّ يوم وليلة، ونحس بها كلَّ ساعة ولحظة، وإذا كان الإنسان لا يدري متى ينتهي أجله ويأتيه الموت، فعليه أن يستعد للرحيل، وأن يكون عابر سبيل، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها ولا يتخذها وطنًا ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه مهما تكن راحته وهناؤه، وأن يكون فيها كالمسافر الذي يكتفي بسفره بالقليل الذي يساعده على بلوغ غايته وتحقيق مقصده.
ولقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"المصباح المنير" ص (280).
إدراكًا علميًّا وعمليًّا، وأخذ منها هذه الوصايا الثلاث العظيمة وأرشد غيره إليها:
الأولى: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) ومعنى ذلك: حث المؤمن على قِصَرِ الأمل في هذه الحياة، وأنه ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك.
الوصية الثانية: (وخذ من صحتك لسقمك) والمعنى: أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم أوقات الصحة وسلامة البدن من العلل، وذلك بفعل الخير والإكثار من الطاعات، قبل أن يحول بينه وبينها السُّقْمُ، فيعجز عن الصيام والقيام وسائر الأعمال، إذا اعتراه مرض أو علة أو كِبَرٌ.
الوصية الثالثة: (ومن حياتك لموتك) والمعنى: أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم زمن الحياة وساعات العمر بتقديم الزاد، ولا يفرط حتى يدركه الموت، ويحول بينه وبين الأعمال الصالحة، يقول سفيان الثوري:(من لعب بعمره ضيع أيام حرثه، ومن ضيع أيام حرثه ندم أيام حصاده)
(1)
.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"
(2)
.
قال ابن الجوزي: (اعلم أنه قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغًا من الأشغال ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا للعبد ثم غَلَبَ عليه الكسل عن نيل الفضائل، فذلك الغبن، كيف والدنيا سوق الرَّباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر)
(3)
.
ويروى -أيضًا- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو
(1)
"حفظ العمر" لابن الجوزي ص (65).
(2)
رواه البخاري (6412).
(3)
"كشف المشكل من حديث الصحيحين"(2/ 437 - 438).
يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل"(111)، والحاكم (4/ 306) من طريق عبد الله بن المبارك، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي.
وقد ذكر البيهقي في "الشعب"(18/ 232) أن هذا الحديث غلط، وإنما المعروف بهذا الإسناد حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس .. " وأما هذا الحديث فقد رواه ابن المبارك في "الزهد" رقم (2) - ومن طريقه النسائي في "الكبرى"(10/ 400) - عن جعفر بن برقان، عن زياد بن الجراح، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. ورواه وكيع في "الزهد"(7) - وعنه ابن أبي شيبة (13/ 223) - عن جعفر بن برقان به.
ما جاء في التشبه
1480/ 4 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، فَهُوَ مِنْهُمْ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "اللباس"، بابٌ (في لباس الشهرة)(4031) من طريق أبي النضر، وأحمد (9/ 123) من طريق محمد بن يزيد الواسطي، كلاهما عن عبد الرحمن بن ثابت، ثنا حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث. وهذا لفظ أبي داود.
وهذا الحديث في سنده أبو منيب الجرشي، ولا يعرف اسمه، وقد وثقه العجلي وغيره، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان متكلم فيه، فوثقه جماعة، وضعفه آخرون، وممن وثقه علي بن المديني وأبو حاتم، وقال أبو داود وأبو زرعة:(لا بأس به)، وقال ابن معين في رواية:(صالح الحديث)، وقال مرة:(ليس به بأس)، وقال ابن عدي:(له أحاديث صالحة، وكان رجلًا صالحًا، ويكتب حديثه على ضعفه)، وقال أبو حفص عمرو بن علي:(حديث الشاميين كلهم ضعيف، إلا نفرًا، منهم: الأوزاعي، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وذكر قومًا)
(1)
.
وممن ضعفه الإمام أحمد فقال: (أحاديثه مناكير)، وقال مرة: (لم يكن
(1)
انظر: "الكامل"(4/ 281)، "تاريخ بغداد"(10/ 224).
بالقوي في الحديث)، وقال ابن معين:(ضعيف)، وقال مرة:(لا شيء)، وقال النسائي:(ضعيف)
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وتغيّر بأخرة).
والذي يستفاد من كلام الأئمة أن عبد الرحمن بن ثوبان لا بأس به وأنه صدوق في نفسه، وهو من جملة من يكتب حديثه للاعتبار.
وهذا الحديث رواه عنه أثبات أصحابه، ومنهم -كما تقدم-: هاشم بن القاسم أبو النضر، وهو ثقة ثبت، كما في "التقريب"، ومحمد بن يزيد الواسطي، وهو ثقة ثبت عابد، كما في "التقريب" -أيضًا-، ثم إن الترمذي قد صحح له بعض الأفراد والغرائب، مثل: حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين
(2)
، فإنه قال:(هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، وهو إسناد حسن صحيح).
لكن قد يشكل على هذا أمران:
الأول: مقولة الإمام أحمد: (أحاديثه مناكير)
(3)
.
الثاني: أن مثله لا يقبل تفرده، وقد يكون كلام الأئمة المتقدمين ليس فيه تعرض لما تفرد به، وهو وإن توبع في هذا الحديث لكنها متابعات معلولة، وممن تابعه الأوزاعي، عن حسان بن عطية، أخرجه الطحاوي في "المشكل"(1/ 213) عن أبي أمية، حدثنا محمد بن وهب بن عطية، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، عن حسان به.
وهذا سند ضعيف؛ لتفرد الوليد بهذا الطريق؛ ولأن شيخ الطحاوي وهو أبو أمية الطرسوسي له أوهام إذا حدث من حفظه، كما ذكر ابن حبان في "الثقات"(9/ 137)، وقد خالف الوليدَ في وصله عيسى بن يونس، فرواه عن
(1)
"الجرح والتعديل"(5/ 219)، "الضعفاء" للعقيلي (2/ 326)، "ميزان الاعتدال"(2/ 551)، "تهذيب التهذيب"(6/ 136).
(2)
"جامع الترمذي"(41).
(3)
انظر: "طليعة التنكيل" ص (50).
الأوزاعي، عن سعيد بن جبلة، عن طاوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا
(1)
، رواه ابن أبي شيبة (5/ 322)، (12/ 349)، وتابع عيسى بنَ يونس ابنُ المبارك، فرواه في "الجهاد"(105) عن الأوزاعي، عن سعيد به. ورواه من طريق ابن المبارك القضاعي في "مسند الشهاب"(390). كما تابع عيسى سفيانُ الثوري فرواه عن الأوزاعي عن سعيد به. رواه ابن أبي شيبة (12/ 350).
وهذا مرسل ضعيف، لضعف سعيد بن جبلة، فقد ترجم له ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ولم يذكر روايًا عنه سوى الأوزاعي
(2)
. وقد حسن هذا الإسناد الحافظ ابن حجر
(3)
، والذي يظهر أن تفرد مثل سعيد عن مثل طاوس لا يبلغ هذا.
ثم إن صَدَقَةَ السَّمين قد أغرب فروى هذا الحديث عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا نحوه.
رواه البزار (15/ 204 - 205)، والهروي في "ذم الكلام"(474)، والذهبي في "السير" (16/ 242) قال البزار:(هذا الحديث قد خولف صدقة في إسناده، فرواه غيره عن الأوزاعي بغير هذا الإسناد مرسلًا، ولم يتابع صدقة على روايته هذه عن الأوزاعي بهذا الإسناد) وصدقة هذا ضعفه ابن معين والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو زرعة والنسائي وغير واحد
(4)
.
والمقصود أن الحديث ورد له متابعات وشواهد، ولكنها لا تخلو من مقال:
وقد ورد في عبارات بعض أهل العلم ما يدل على تقوية هذا الحديث، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(إسناده جيد)، وفي موضع آخر: (حديث
(1)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (956).
(2)
انظر: "الجرح والتعديل"(4/ 10)"لسان الميزان"(4/ 44).
(3)
انظر: "فتح الباري"(6/ 115)، "تغليق التعليق"(3/ 446).
(4)
انظر: "علل ابن أبي حاتم"(956)، "علل الدارقطني"(9/ 272)، "تهذيب الكمال"(13/ 133).
جيد)، وذكر أن الإمام أحمد وغيره احتج بهذا الحديث
(1)
.
وقال العراقي: (إسناده صحيح)
(2)
، وقال الحافظ ابن حجر:(إسناده حسن)
(3)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من تشبّه) التشبّه في اللغة: مصدر تشبّه تشبُّهًا مثل تقدَّم تقدُّمًا، ومادة التفعُّل تدل على معنى زائد على مجرد المماثلة والمشابهة، وهو القصد والتعمد والمحاكاة.
وأما في الاصطلاح فليس ثَمَّ فرق ظاهر بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، ولذا لم يعرف المتقدمون التشبه، باستثناء تعريف محمد الغَزِّي الشافعي -المتوفى سنة (1061 هـ) - بقوله:(التشبه عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شِبْهَ المتشبَّه به وعلى هيئته وحليته ونعته ووصفه، أو هو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعلمه، وقد يعبر عن التشبه بالتشكل والتمثل والتَّزَيِّ والتحلي والتخلق)
(4)
. وهذا تعريف عام، مع ما فيه من طول، وما قد يَرِدُ عليه.
والأحسن أن يقال في تعريفه: هو تكلف المسلم مشابهة غيره من الكفار أو المبتدعة فيما هو من خصائصهم من عبادات أو عادات.
وهذا التعريف مختص بالتشبه بالكفار والمبتدعة؛ لأنه هو المقصود هنا بدليل سياق الحديث.
قوله: (فهو منهم) أي: مثلهم في الحال والمآل، وهو يفيد العموم، فمن تشبه بالصالحين كان صالحًا وحشر معهم، ومن تشبه بالكفار أو بالفساق فهو منهم، هذا ظاهر الحديث.
(1)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 240، 241)، "الفتاوى"(25/ 331).
(2)
"تخريج الإحياء"(2/ 76).
(3)
"فتح الباري"(10/ 270).
(4)
"التدابير الواقية"(1/ 49)، وقوله:(أو هو عبارة) هكذا في المصدر المذكور، نقلًا عن الكتاب المخطوط:"حسن التنبه لما ورد في التشبه"، وفي "التشبه المنهي عنه" ص (29): (وهو عبارة
…
).
• الوجه الثالث: ظاهر الحديث دليل على أن من تكلف مشابهة أحد فهو مثله، سواء تشبه بصالح أو بفاسق أو بمبتدع أو بكافر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم -أي: الكفار- وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51])، وقال في موضع آخر:(موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا)
(1)
. وقال الصنعاني: (الحديث دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم أو بالكفار أو بالمبتدعة في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو مركوب أو هيئة)
(2)
.
وهذا الكلام أَخْذٌ بظاهر الحديث، وقد يقال: إنه من أحاديث الوعيد التي تُمرُّ كما جاءت، ولا يتعرض لمعناها، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:(هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلها، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أنه ينافي كمال الإيمان الواجب)
(3)
.
• الوجه الرابع: جاء في القرآن آيات كثيرة تتضمن النهي عن طاعة الكفار وتبعيتهم، والتحذير منهم، وذكر بعض خصالهم التي تنفر المؤمنين منهم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} [آل عمران: 100]، وقال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18]، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الآيات في هذا الموضوع قسمان:
1 -
قسم بين أن مخالفتهم في عامة الأمور أصلح للمسلمين، وهذا تدل عليه جميع الآيات.
2 -
وقسم بين أن مخالفتهم مطلوبة وواجبة شرعًا، وهذا تدل عليه بعض الآيات
(4)
.
(1)
"الاقتضاء"(1/ 241، 426).
(2)
"سبل السلام"(4/ 348).
(3)
"فتح المجيد" ص (364).
(4)
"الاقتضاء"(1/ 91).
وورد في السنّة أحاديث في هذا المعنى، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال:"أن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها"
(1)
، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأرخوا اللحى"
(2)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم"
(3)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "
(4)
.
وهذا الحديث وإن كان خبرًا عن أكثر الأمة إلا أنه جاء في سياق الذم المفيد للنهي والمنع، كما ورد في غيره مما يفعله الناس بين يدي الساعة؛ كشرب الخمر، وأكل الربا، والسلام للمعرفة، وظهور الكاسيات العاريات. وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على أن التشبه بالكفار منهي عنه
(5)
.
• الوجه الخامس: الضابط في موضوع التشبه هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن كل فعل مأخوذ من الكفار مما هو من خصائص دينهم أو عاداتهم فهو تشبه، فينهى عنه المسلم، كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو عن لبس المعصفر وقال:"إن هذه ثياب الكفار".
أما بالنسبة لأمور العقائد والعبادات والأعياد، فالنهي عن التشبه بهم فيها يقتضي التحريم، وقد يصل إلى درجة الكفر إذا كان مع القصد؛ لأن القصد يجعل مثل هذه الأعمال صادرة عن اعتقاد واستحسان لما هم عليه من الباطل، وهذا يتضمن المحبة والمودة، وهذا من نواقض الإسلام.
(1)
رواه مسلم (2077).
(2)
رواه البخاري (5893)، ومسلم (261).
(3)
رواه البخاري (5899)، ومسلم (2103).
(4)
رواه البخاري (7320)، ومسلم (2669).
(5)
"الاقتضاء"(1/ 327).
أما ما كان من قبيل العادات والأزياء فهو محرم يقتضي الحكم بفسق صاحبه، ولا يصل إلى درجة الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لابن عمرو:"إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها" لم يبين له أن هذا كفر، وهذا مقيد -أيضًا- بعدم القصد، وإطلاق التشبه عليه إنما هو باعتبار الصورة الظاهرة، والنهي عن هذا باعتبار سد الذريعة، وقد أطلق بعض أهل العلم الكفر على من تشبه بالكفار في عاداتهم الخاصة، ومرادهم مع وجود القصد والنية، وذلك لأن المتشبه بهم قد أخل بأحد أصلي الإيمان وهو المحبة؛ لأن المحبة لله تعالى ولدينه -والتي هي أصل كل الأعمال الشرعية- تقتضي بغض كل ما سوى الإسلام من الكفر وأعماله، وانخرامها بمحبة فعل الكفار بيّن واضح.
أما ما كان من قبيل الأمور الدنيوية البحتة التي لا تمس العقيدة والأخلاق والسمت الخاص في اللباس ونحوه، كالعلوم والصناعات عمومًا، وصناعة الأسلحة، ومكائد الحرب والقتال، ونحو ذلك، فلا بأس من الاستفادة من تجارب الكفار وخبراتهم، إذا لم يوجد في البيئة الإسلامية الإمكانات التي تقوم بتحقيق هذه المطالب، وتسعى لتوفيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب
(1)
ولم تكن العرب تعرف ذلك، وهذه الاستفادة من الكفار مشروطة بألا توقع المسلمين في الذل والصَّغَار، وألا تتعارض مع النصوص أو القواعد الشرعية.
ويكون التشبه بهم مكروهًا إذا كان في صورة فعل ثبت أصله في ديننا كما ثبت في دين الكفار، وشرعت المخالفة في وصفه وصورته، مثل صيام يوم عاشوراء فإنه شرع لليهود، وشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، لكن مع المخالفة بصيام يوم قبله، فإفراده بالصوم مكروه -على ما ذكره الفقهاء- لأنه يشبه بذلك صيام اليهود
(2)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(7/ 392).
(2)
انظر: "الاقتضاء"(1/ 423)، "التشبه المنهي عنه" ص (81).
° الوجه السادس: ينبغي أن يعلم أن أحكام التشبه على جهة التفصيل لا يمكن الإحاطة بها؛ لأن هذا يختلف باختلاف نوع التشبه وما يتضمن من المفاسد ولا سيما في هذا الزمان، بل لا بد من عرض كل مسألة على نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها، والقاعدة في هذا أن كل تشبه تضمن مفسدة فإن المسلم ممنوع منه، وتكون قوة المنع بحسب عظم هذه المفسدة.
أما ما زال عن كونه شعارًا للكفار بسبب انتشاره بين المسلمين وزوال اختصاص الكفار به فهذا يجوز فعله ما لم يكن حرامًا لعينه، وهذا خاص بالعادات، أما العبادات وما في بابها فهو خاص بهم على كل حال.
ومن أمثلة هذا ما ذكر ابن حجر من أن الطيالسة
(1)
كانت شعارًا لليهود، وقد ارتفع في زمانه ذلك، فصار لبسها داخلًا في عموم المباح، ومثل لبس البنطال عند بعض المعاصرين، فهذا قد زال اختصاص الكفار به فأصبح مباحًا على هذا القول، والنفس لا تطمئن إلى إباحته.
لكن قد ينهى عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة، ولما يترتب عليه من مفاسد، أهمها: إحساس المسلمين بالنقص والضعف، ثم الإعجاب بما عليه الكفار الذي يؤدي إلى محبتهم والثقة بهم، مع ما يلاحظ من التبعة والمسؤولية على من بادر من آحاد المسلمين، وكان سببًا في فتح الباب ونشر عادات الكفار بين المسلمين
(2)
.
ويبدو أن الفقهاء المتقدمين لم يكثروا من تفصيلات الأحكام الفقهية في موضوع التشبّه بالكفار -مع كثرة النصوص في هذا الباب- ولعلّ السبب في ذلك -والله أعلم- أن التشبه لم يكن موجودًا في زمانهم بمثل ما هو عليه الآن من هذا التوسع والانتشار.
° الوجه السابع: موضوع التشبه قد عمت به البلوى في هذه الأزمنة، ولا سيما في زينة المرأة ولباسها، والتبست أحكامه على كثير من الناس، ومن
(1)
جمع طيلسان وهو نوع من اللباس يطرح على الرأس. "كشاف القناع"(1/ 284).
(2)
"التشبه المنهي عنه" ص (111).
أسباب انتشار ظاهرة التشبه الكيد للإسلام وأهله من قِبَلِ الكفار وأتباعهم من المنافقين الذين يعيشون بين المسلمين، وهم حريصون على تشبُّه المسلمين بالكفار واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، وعاداتهم وتقاليدهم، ثم هذا الانفتاح الباهر على العالم الخارجي واختلاط المسلمين بغيرهم في ديارهم، وما تقوم به وسائل الإعلام بجميع أنواعها بنقل كل ما عند الآخرين إلى ديار المسلمين، ثم ضعف المسلمين الذي أدى بهم إلى الشعور بالضعف والانهزامية والإعجاب بما عليه الآخرون، ومن ثم غلبة الكفار عليهم، وقد عقد العلامة ابن خلدون في "مقدمته" فصلًا خاصًّا ذكر فيه أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب، إضافة إلى سوء التربية وفساد التوجيه للأجيال القادمة.
ولا ريب أن هذا التشبه له آثار وخيمة وعواقب سيئة على الأفراد والمجتمعات الإسلامية، ومنها:
1 -
موالاة غير المسلمين، وذلك لأن المشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، وهذا من أخطر آثار التشبه، وقد بيّن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية بيانًا شافيًا.
2 -
الشعور بالنقص والصغار المؤدي إلى الضعف والانهزامية، وكون المسلم تابعًا لا متبوعًا، وهذا يؤدي إلى الإعجاب بهم واستحسان مناهجهم وأوضاعهم.
3 -
البعد عن منهج الله تعالى وشرعه، ونسيان أخلاق الإسلام وآدابه؛ لأن الأخلاق والعادات الوافدة تزاحم الأخلاق الإسلامية وتحل محلها.
° الوجه الثامن: تجتاح العالم الإسلامي -اليوم- موجة من التبعية الجارفة والتقليد الأعمى في كل شيء، ومن ذلك فصل الدين عن السياسة، واستيراد المناهج والكتب والنظم التعليمية التي وضعت في بيئة غير مسلمة، ولا تمت إلى الإسلام بأي صلة، ومن ذلك التشبه بالكفار في الأزياء واللباس وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والاكتفاء بالسلام بالإشارة، ووصل الشعر، والعمل بالتقويم النصراني دون التقويم الهجري، ومشابهة اليهود والنصارى في
جعل العطلة الأسبوعية يوم السبت ويوم الأحد؛ لأن عطلة اليهود يوم السبت، وعطلة النصارى يوم الأحد تعظيمًا لهما، وفرض اللغة الأجنبية في مراحل التعليم على جميع الطلبة مما يؤدي إلى الضعف في اللغة العربية، والتقليد في تسمية المواليد، والأعياد الوطنية التي صارت تزداد يومًا بعد يوم بين المسلمين، وتجد من يشجع عليها وينادي بها، ثم هذا الدخيل من اللغات الأجنبية في أسماء المحلات التجارية ومعارض الألبسة ولا سيما معارض ألبسة النساء.
بل صار المسلمون يتشبهون بالكفار حتى فيما تراجعوا عنه وأثبتوا فشله، وتحدثوا عن خطره، وكأن المسلمين يبدأون من حيث انتهى القوم، ومن ذلك المناداة بالاختلاط في التعليم في الصفوف الأُول، ليكون سلمًا لما بعده، إلى غير ذلك مما يطول تتبعه، والله تعالى أعلم.
ما جاء في فضل حفظ أوامر الله ونواهيه
1481/ 5 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَال:"يَا غُلَامُ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلتَ فَاسْألِ اللهَ، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب (صفة القيامة، والرقائق والروع)(2516)، وأحمد (4/ 409) من طرق، عن الليث بن سعد، قال: حدثني قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: "يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك
…
" وذكر الحديث، وتمامه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجَفَّتِ الصحف". هذا لفظ الترمذي، وقال:(هذا حديث حسن صحيح).
وفي سنده قيس بن الحجاج وهو الكلاعي السُّلَفي المصري، قال عنه أبو حاتم:(صالح)، وقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق)، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، غير حنش الصنعاني فهو من رجال مسلم.
(1)
"الجرح والتعديل"(7/ 95)، "الثقات"(7/ 329)، "تهذيب التهذيب"(8/ 348).
ورواه الفريابي في "القدر"(156) وعنه الآجري في "الشريعة" ص (198) من طريق أبي عبد السلام الشامي، عن يزيد بن أبي حبيب، عن حنش به. وأبو عبد السلام الشامي لم أعرفه
(1)
.
وحديث الباب مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من عدة طرق، وفي ألفاظها اختلاف، قال ابن منده عن طريق حنش الصنعاني:(هذا إسناد مشهور، رواه ثقات، وقيس بن الحجاج مصري روى عنه جماعة، ولهذا الحديث طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا أصحها)
(2)
. وقال ابن رجب: (أجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو إسناد حسن لا بأس به)
(3)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا) أي: راكبًا معه بدليل رواية أحمد: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم)، وقوله هنا:(خلف) يشعر بذلك.
قوله: (يا غلام) بالضم؛ لأنه نكرة مقصودة، والغلام: يطلق على الولد الصغير من زمن الفطام إلى سبع سنين، كذا قال ابن سيده، ونقل الحافظ عن الزمخشري أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد ذلك غلام فهو مجاز
(4)
، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لابن عباس لأنه كان صغيرًا عمره نحو عشر سنين.
قوله: (إني أعلمك كلمات) الغرض من هذه الجملة تهيئة ذهن ابن عباس رضي الله عنهما لما سيقال له؛ ليكون ذلك أوقع في نفسه، وجاء بها بصيغة القلة؛ ليؤذنه بأنها قليلة اللفظ، فيسهل حفظها، وهي وإن كانت ألفاظها قليلة، لكن معانيها كثيرة ومقاصدها غزيرة.
قوله: (احفظ الله) أي: بحفظ حدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وذلك بملازمة تقواه بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
(1)
انظر: "الجرح والتعديل"(4/ 403)، "الميزان"(2/ 295)، "تهذيب الكمال"(13/ 45).
(2)
"كتاب التوحيد" لابن منده (2/ 107).
(3)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (19).
(4)
"فتح الباري"(1/ 251).
قوله: (يحفظك) هذا هو الجزاء، فمن حفظ حدود الله تعالى حفظه الله في دينه ودنياه، وحِفْظُهُ في دينه أن يحفظ عليه إيمانه من الشبهات المضلة والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان، ويحفظ له دنياه بحفظه في بدنه وأهله وأولاده وذريته، وحفظه في ماله، فيوفقه لاكتسابه من حِلِّه وإنفاقه في مواضعه، ومن هذا حفظه في صحة بدنه وأعضائه وسلامة فكره وقوة عقله.
قوله: (احفظ الله تجده تجاهك) بضم التاء وفتح الهاء، أصله: وُجاهك بضم الواو أو كسرها، ثم قلبت تاء، ومعناها: أمامك، كما جاء في رواية عند أحمد
(1)
، والمعنى: تجده يحوطك ويرعاك في أمور دينك ودنياك، يدلك على كل خير، ويذود عنك كل شر، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها.
قوله: (وإذا سألت فاسأل الله) هكذا في بعض نسخ "البلوغ"، ثبات الواو، وفي المخطوطة بحذفها، وهو الموافق لما في "جامع الترمذي"، والمعنى: إذا أردت أن تسأل شيئًا من أمور دينك أو دنياك فاسأل الله وحده دون غيره.
قوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله) أي: إذا طلبت الإعانة على أمر من أمور الدين أو الدنيا فاستعن بالله وحده؛ لأنه القادر على كل شيء، وغيره العاجز، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:(الاستعانة: هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك)
(2)
.
• الوجه الثالث: في الحديث درس تربوي وهو التواضع للصغار وتعليمهم ما ينفعهم، ونظير هذا ما تقدم في حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا غلام سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"
(3)
.
وفي هذا دلالة بيّنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر عنايته بالتوجيه على
(1)
"المسند"(5/ 18، 19).
(2)
انظر: "مدارج السالكين"(1/ 75)، "تفسير ابن سعدي" ص (39).
(3)
الحديث متفق عليه، وقد تقدم شرحه في باب "الوليمة" برقم (1055).
البالغين، بل إن عنايته امتدت لتشمل الأطفال، فعلى الآباء والمربين العناية بالناشئة منذ نعومة أظفارهم؛ لينشأوا على صفاء العقيدة وعلى الأخلاق الكريمة والمُثُل العليا.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على فضل ابن عباس رضي الله عنهما حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم أهلًا لهذه الوصايا العظيمة مع صغر سنه.
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن من حفظ حدود الله تعالى وراعى حقوقه حفظه الله في دينه ودنياه؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
أما من أضاع حدود الله تعالى وقصر في أوامر ونواهيه، فإنه لا يحصل له الحفظ من الله تعالى، كما قال تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، قال بعض السلف:(من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غني عنه)
(1)
.
• الوجه السادس: في الحديث تحقيق التوحيد بالاستغناء بالله تعالى عن خلقه، وذلك بإفراد الله تعالى بالسؤال، وهذا يتضمن النهي عن سؤال غيره من الخلق، والله تعالى قد أمر بسؤاله، فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
وسؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلًا وشرعًا؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وهذا لا يصلح إلا لله تعالى وحده، وهذا غاية المحبة الصادقة، وهذه حقيقة العبادة؛ ولأن سؤال الله تعالى عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار الافتقار إليه والاعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم؛ لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك في حق غيره، وسؤاله إقامةً له مقام من يقدر وليس بقادر.
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (19).
• الوجه السابع: في الحديث تحقيق التوحيد بالاستغناء بالله تعالى عن خلقه، وذلك بإفراده بالاستعانة، قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] فلا يستعان بغيره؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وَكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولًا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)})
(1)
.
ومن اضطر إلى الاستعانة بالمخلوق فعليه أن يجعل ذلك سببًا ووسيلة لا ركنًا يعتمد عليه
(2)
.
(1)
"مدارج السالكين"(1/ 78).
(2)
"جامع العلوم والحكم" حديث (19)، "شرح رياض الصالحين"(1/ 490).
فضل الزهد في الدنيا وفيما في أيدي الناس
1482/ 6 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَال: جَاءَ رَجُل إِلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّني عَلَى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّني اللهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَال:"ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيما عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ".
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ حَسنٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن ماجه في كتاب "الزهد"، باب (الزهد في الدنيا)(4102)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 11)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 31)، والحاكم (4/ 313)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 252)(7/ 136) كلهم من طريق خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك"، هذا لفظ ابن ماجه.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، ورده الذهبي بقوله:(خالد وضَّاع)، وحسّنه النووي في "الأربعين"
(1)
، وفي هذا نظر، كما قال الحافظ ابن رجب، فإن الحديث مداره في هذا الإسناد على خالد بن عمرو القرشي، وقد قال فيه الإمام أحمد (منكر الحديث)، وقال مرة:(ليس بثقة، يروي أحاديث بواطيل)، وقال البخاري وأبو زرعة:(منكر الحديث)،
(1)
برقم (31).
وقال أبو حاتم: (متروك الحديث، ضعيف)
(1)
. وقد سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث فقال: (لا إله إلا الله -تعجبًا منه- من يروي هذا أو عمن هذا؟ فقلت: خالد بن عمرو، فقال: وقعنا في خالد بن عمرو، ثم سكت)
(2)
. قال ابن رجب: (مراده الإنكار على من ذكر له شيئًا من حديث خالد هذا، فإنه لا يُشتغل به)
(3)
.
وقد تابع خالدًا محمدُ بن كثير الصنعاني المصِّيصي عن الثوري مثله، رواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 31)، قال ابن عدي:(لا أدري ما أقول في رواية ابن كثير عن الثوري لهذا الحديث، فإن ابن كثير ثقة، وهذا الحديث عن الثوري منكر). وقال أبو حاتم كما في "العلل"(1815) عن حديث ابن كثير هذا: (هذا حديث باطل، يعني بهذا الإسناد)، قال ابن رجب:(يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير، عن سفيان). وقال العقيلي: (ليس له في حديث الثوري أصل، وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذه عنه ودلسه؛ لأن المشهور به خالد هذا).
وقال الدارقطني في "الأطراف"(1/ 397): (لم يروه عن الثوري، عن أبي حازم غير خالد بن عمرو القرشي، ومحمد بن كثير المصيصي).
• الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الزهد في الدنيا وأنه سبب في محبة الله تعالى للعبد، والزهد فيها هو قطع تعلق القلب بها والركون إليها وإن عمل فيها بما أباح الله من تجارة أو زراعة أو صناعة ونحو ذلك، فهذا لا ينافي الزهد إذا كان القلب غير معلق بالدنيا وإنما، هو معلق بالآخرة والاستعداد لها.
يقول ابن القيم: (لا يستقيم الزُّهد في الآخرة إلا بالزُّهد في الدنيا، ولا يستقيم الزُّهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
(1)
"علل أحمد"(3/ 254)، "الجرح والتعديل"(3/ 343)، "تهذيب الكمال"(8/ 138).
(2)
"المنتخب من "العلل" للخلال" ص (37).
(3)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (31).
نظرٌ في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخِسَّتها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغُصَص والنَغَص والأنكادِ، وآخِرُ ذلك الزوالُ والانقطاع، مع ما يُعقِبُ من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفكُّ من همٍّ قبل حصولها، وهمٍّ في حال الظَّفرِ بها، وغمٍّ وحزنٍ بعد فواتها. فهذا أحدُ النظرين.
النظرُ الثاني في الآخرة، إقبالها ومجيئها ولا بدَّ، ودوامها وبقائها، وشرفِ ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا؛ فهي كما قال الله سبحانه:{وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 17]؛ فهي خيراتٌ كاملة دائمة، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقلُ إيثارهُ، وزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهدَ فيه)
(1)
.
وقد كَثُر في القرآن الإشارة إلى مدح الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها، قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، وقال تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ} [الأنفال: 67]، وقال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77].
يقول أبو سليمان الداراني: (اختلفوا علينا في الزهد بالعراق، فمنهم من قال: الزهد في ترك لقاء الناس، ومنهم من قال: في ترك الشهوات، ومنهم من قال: في ترك الشبع، وكلامهم قريب بعضه من بعض، قال: وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله عز وجل، قال الحافظ ابن رجب: (وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه)
(2)
. وقال رجل لمحمد بن واسع: أوصني. قال: أوصيك أن تكون مَلِكًا في الدنيا والآخرة؛ قال: كيف لي بذلك؟ قال: ازهد في الدنيا
(3)
.
(1)
"الفوائد" ص (136 - 137).
(2)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (31).
(3)
"حلية الأولياء"(6/ 302).
• الوجه الثالث: يذكر العلماء هذا الحديث لبيان فضل زهد المرء عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، وأن هذا سبب لمحبة الناس إياه؛ لأن الطباع قد جبلت على استثقال من يسأل الناس، ويطمع فيما في أيديهم، فمن رغب عما في أيديهم أحبوه، وإذا أحبوه حصل له خيرهم، وسلم من شرهم، وإذا طلب ما في أيديهم كرهوا لقاءه، وكرهوا قربه، ولم يسلم من شرهم.
قال الحسن: (لا تزال كريمًا على الناس ما لم تَعاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك)
(1)
.
وقال ابن رجب: (تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبون، كرهوا ذلك)
(2)
.
ولا يمنع هذا أن يسألهم ما له فيه حق كالزكاة إذا كان من أهلها وأراد أن ينبههم إلى ذلك، وكذا القرض والاستدانة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، مع نية السداد، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهو إمام الزاهدين. والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع العلوم والحكم" حديث (31).
(2)
المصدر السابق.
من أسباب محبة الله تعالى للعبد
1483/ 7 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِيِ وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إن اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الزهد والرقائق"(2965) من طريق أبي بكر الحنفي، حدثنا بكير بن مسمار، حدثني عامر بن سعد، قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل، فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث.
ورواه أحمد في "المسند"(3/ 51) عن أبي بكر الحنفي به، ولفظه:(والناس يتنازعون في الملك في المدينة).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (التقي) أي: الزكي وهو الممتثل لأوامر الله تعالى المجتنب لنواهيه، وهي صفة مشبهة على وزن (فعيل) وأصله: وَقِيٌّ، فأبدلت الواو تاءً، ثم أدغمت ياء فعيل بلام الكلمة
(1)
.
قوله: (الغني) هو المكتفي بما في يده وإن قل، فلا يطمع بما في أيدي الناس، وقال النووي: المراد بالغني غني النفس، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس
(1)
"معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن" ص (285).
الغنى عن كثرة العَرَضِ ولكن الغنى غنى النفس"
(1)
.
قوله: (الخفي) بالخاء المعجمة، وذكر القرطبي أن جمهور الرواة قيدوه بذلك من الخفاء
(2)
، وذكر القاضي عياض أن بعض رواة مسلم رووا هذه اللفظة بالحاء المهملة (الحفي) ومعناها بالخاء المعجمة: المعتزل عن الناس الذي يخفى عليهم مكانه، وقيل: هو الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بها وبأمور نفسه التي تعنيه دينًا ودنيا
(3)
.
ومعناها بالحاء المهملة: المتحفي بأهله، الوصول إليهم بماله، الساعي في حوائجهم، ويؤيد المعنى الأول فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على إثبات صفة المحبة لله تعالى، والمحبة من صفات الله تعالى الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وهي محبة حقيقية تليق بالله تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وأما تفسيرها بالثواب أو بالرضا ونحو ذلك، فهذا تعطيل؛ لأنه خلاف ظاهر النصوص، وخلاف طريقة السلف، وليس عليه دليل.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من أسباب محبة الله تعالى للعبد أن يتصف بهذه الصفات الثلاث:
الأولى: أن يكون متقيًا لله تعالى قائمًا بأوامره مجتنبًا نواهيه، مستقيمًا على طاعة الله تعالى، صادقًا في قوله، مخلصًا في عمله، وسيأتي الكلام على التقوى - إن شاء الله - عند شرح الحديث (1542).
الثانية: أن يكون غنيًّا بالله تعالى مستغنيًا عما في أيدي الناس، راضيًا بما قسم الله له، فلا يتعلق قلبه بما في أيدي الناس ولا يتعلق بالدنيا، بل
(1)
رواه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر:"رياض الصالحين" ص (256).
(2)
"المفهم"(7/ 120).
(3)
"إكمال المعلم"(8/ 517)، "اللسان"(14/ 236)، "دليل الفالحين"(3/ 41).
رزقه الله القناعة والكفاف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أفطح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه"
(1)
. وهذا هو الغنى حقيقة، إنه غنى النفس؛ لأن غني النفس راضٍ بقضاء الله وقدره، قد كفت نفسه عن المطامع، وصارت عزيزة لم تذلها المطامع والتطلعات إلى ما في أيدي الناس، ومثل هذا يحصل له من الثناء وعلو المكانة أكثر من الغنى بكثرة العرض
(2)
.
الثالثة: أن يكون خفيًّا، لا يتعرض للشهرة، ولا يرغب فيها، لكن لو اشتهر بدون قصد منه، اشتهر بطاعة الله وعبادته، أو اشتهر بالعلم، أو بالجاه، أو بالبذل والعطاء، أو نحو ذلك، فهذا من البشرى التي عجلت له.
• الوجه الخامس: استدل العلماء بهذا الحديث على فضل اعتزال الناس على مخالطتهم إما مطلقًا أو عند فساد الناس والزمان وخوف الفتنة في الدين
(3)
. قال الخطابي: (كان سعد رحمه الله ممن اعتزل أيام الفتنة، فلم يكن مع أحد من الفريقين، فأرادوه على الخروج فأبى وضرب لذلك مثلًا)
(4)
.
والعزلة عن الناس فيها فوائد، ومنها: التفرغ لعبادة الله تعالى، والتخلص من المعاصي التي يتعرض لها الإنسان بالمخالطة من الرياء والغيبة، والسلامة من قرناء السوء وعشاق الدنيا، وحفظ الوقت، وحفظ اللسان من فضول الكلام.
وسيأتي تفصيل مسألة العزلة في آخر باب (الترغيب في مكارم الأخلاق) إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه مسلم (1054).
(2)
"المفهم"(3/ 95).
(3)
انظر: "العزلة" للخطابي ص (71).
(4)
"العزلة" ص (71، 72).
ما جاء في فضل ترك المرء ما لا يعنيه
1484/ 8 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ المَرْءِ، تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَسَنٌ.
° الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2317)، وابن ماجه (3976) من طريق أبي عمرو الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن المعافري، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكر الحديث.
قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه)، وبهذا يتبين وَهْمُ الحافظ في نقل تحسينه عن الترمذي، فإن قوله:(هذا حديث غريب) هو الذي نقله عنه المزي
(1)
، وابن رجب
(2)
.
وهذا الحديث في سنده قرة بن عبد الرحمن، وهو متكلم فيه، فقد قال الإمام أحمد:(منكر الحديث جدًّا)، وقال أبو زرعة:(الأحاديث التي يرويها مناكير)، وقال أبو حاتم والنسائي:(ليس بقوي)، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين:(ضعيف)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي: (يكتب
(1)
"تحفة الأشراف"(11/ 41).
(2)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (12).
حديثه)
(1)
.
وقد رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 903) - ومن طريقه الترمذي (2318) - عن الزهري، عن علي بن حسين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
قال الترمذي: (هذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة). وممن رجح إرساله أحمد وابن معين، والبخاري، والبيهقي
(2)
.
وقد تابع مالكًا في روايته عن الزهري، عن علي بن حسين مرسلًا جمع من الرواة، منهم: معمر بن راشد عند عبد الرزاق (20617)، ويونس بن يزيد عند ابن وهب في "الجامع"(297، 443) وعند القضاعي في "مسند الشهاب"(193) وآخرون، وقد ذكر الدارقطني في "العلل"(3/ 108 - 110)(8/ 25 - 28)(13/ 258) أوجه الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال:(والصحيح حديث الزهري عن علي بن الحسين مرسلًا). وقال ابن رجب: (قد خلط الضعفاء في إسناده على الزهري تخليطًا فاحشًا، والصحيج مرسل).
• الوجه الثاني: هذا الحديث من الكلمات الجامعة النافعة؛ لأنه أصل كبير في تأديب النفس وتهذيبها، وبيان المنهج الذي ينبغي للمسلم أن يسير عليه في حياته، وهو وإن كان فيه المقال المتقدم لكنه درس تربوي لكثير من الناس، وعموماتُ الشريعة تدل على معناه، فإنه يدل على أن من حسن إسلام المرء وإيمانه إعراضه عما لا يعنيه ولا يهمه من الأقوال والأفعال في أمور الدين والدنيا؛ لأن المسلم يكفيه ما يعنيه واشتغاله بما أوجب الله عليه من الطاعات وأعمال البر والإحسان، وما يتعلق بضرورة حياته من أمور معاشه من مطعم ومشرب ومسكن، وتربية أولاده، أما تدخُّله في شؤون غيره فهذا دليل على ضعف العقل وقلة البصيرة في الدين؛ لأن مفهوم الحديث: أن من لم يترك ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال فإنه مسيء في إسلامه.
وكما أن ترك المسلم ما لا يعنيه من حسن الإسلام وعلو الهمة؛ فإن فيه
(1)
"الثقات"(7/ 342)، "تهذيب التهذيب"(8/ 372).
(2)
"التاريخ الكبير"(4/ 220، 221)، "شعب الإيمان"(9/ 258).
سلامة العِرْضِ، وراحة القلب، وحفظ الوقت الذي هو حياة الإنسان ورأس ماله؛ لأن ما يعنيه شيء يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، وفيه أيضًا حفظ اللسان من لغو الكلام؛ لأن هذا أكثر ما يراد بترك ما لا يعني، وقد دل على هذا نصوص كثيرة، كقوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (من عَدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه). قال ابن رجب: (وهو كما قال، فإن كثيرًا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيجازف فيه ولا يتحرى)
(1)
.
وقال بعض الحكماء: (من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن لم يستغن بما يكفيه فليس في الدنيا شيء يغنيه)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع العلوم والحكم" حديث (12).
(2)
"العزلة" ص (134).
الحث على تقليل الأكل
1485/ 9 - عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، باب (ما جاء في كراهية كثرة الأكل)(2380)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 268)، وأحمد (28/ 422) من طريق يحيى بن جابر الطائي قال: سمعت المقدام بن معدي كرب الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطن، حسب ابن آدم أُكُلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعام، وثلث لشراب، وثلث لنفسه".
هذا لفظ أحمد، وفي سياق الإسناد عنده جاء التصريح بسماع يحيى بن جابر من المقدام، ولفظ الترمذي:"ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أُكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) وفي بعض النسخ: (حسن)، وهذا هو الذي اعتمده الحافظ هنا، وذكر المزي كلا الوجهين
(1)
.
(1)
انظر: "تحفة الأشراف"(8/ 512).
وقد أعلّ هذا الحديث بأن العلماء تكلموا في سماع يحيى بن جابر الطائي من المقدام، فقد قال أبو حاتم:(يحيى عن المقدام مرسل)، وهذا هو ظاهر صنيع البخاري في "تاريخه" وعلى هذا مشى المزي، ومن بعده الحافظ ابن حجر
(1)
.
والذين رووا الحديث كلهم قالوا: عن المقدام، إلا أحمد ففي إسناده التصريح بالسماع كما تقدم، وقد رواه الطبراني في "الكبير"(20/ 272 - 273)، والخطيب في "الموضح" (2/ 125) من طريق أبي المغيرة وفيه: عن -وهو الذي رواه عنه أحمد- فإذا أضيف إلى هذا جزم الحفاظ بان رواية يحيى عن المقدام مرسلة تبين أن ما في "المسند" محل نظر.
ولهذا الحديث طرق أخرى كلها ضعيفة، وقد صحح الترمذي هذا الحديث، وكأنه لم يلتفت إلى انقطاعه، وحسّنه الحافظ في "فتح الباري"
(2)
مع أنه نص -كما تقدم- على انقطاعه.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وعاء) بكسر الواو هو الظرف، والتعبير بلفظ الوعاء فيه توهين شأنه حيث جعل البطن كالأوعية التي تتخذ ظروفًا لحوائج البيت.
قوله: (شرًّا من بطن) أي: أشد ضررًا عليه من ملء بطنه، وهو صفة لوعاء، وجعله شر الأوعية لأنها استعملت فيما هي له، والبطن خلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى المضرة، فيكون شرًّا منها
(3)
.
• الوجه الثالث: في الحديث بيان الأدب الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه الآكل في مقدار أكله، وأنه يكفيه أكلات أو لقيمات يقمن صلبه، وهذا من الزهد المحمود، فإن كان لا بد من الشبع فليجعل الأكل بمقدار الثلث، والثلث الثاني للشرب، والثلث الثالث للنفس، قال ابن رجب: (هذا الحديث
(1)
"المراسيل" ص (244)، "التاريخ الكبير"(8/ 265)، "تهذيب الكمال"(31/ 249)، "تهذيب التهذيب"(11/ 168).
(2)
(9/ 528).
(3)
"تحفة الأحوذي"(7/ 51).
أصل جامع لأصول الطب كلها)
(1)
.
والحديث وإن كان ضعيفًا لكن معناه صحيح تؤيده الأدلة، كقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وذلك لأن المقصود من الأكل حفظ صحة البدن وقوته؛ لأن بها بقاء الحياة، وفي التقليل من الأكل مصالح عظيمة، من أهمها: خفة البدن، ونشاطه في أمور دينه ودنياه، والسلامة من الأمراض التي تكون من كثرة الأكل.
قال ابن القيم: (مراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة، والثاني: مرتبة الكفاية، والثالثة: مرتبة الفضيلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه
…
فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه
…
وهذا من أنفع ما للبدن والقلب)
(2)
. وقال ابن رجب: (قلة الغذاء توجب رقة القلب، وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك)
(3)
.
• الوجه الرابع: في الحديث ذم الشبع والتحذير من ملء البطن، وذلك لأن الشبع وكثرة الأكل يولد العطش، فيشرب كثيرًا، فيرتخي جسده وتتخثر أعضاؤه، وفي ذلك مدعاة للكسل والفتور، والإخلاد إلى الراحة، وحب النوم، والتكاسل عن طاعة الله تعالى، وكثرة الأسقام التي تنشأ عن الشبع عاجلًا أو آجلًا ظاهرًا أو باطنًا، وربما صار يبحث عن مشروبات تكفيه مؤنة عسر الهضم الذي ابتلي به، يقول ابن رجب:(من وفَّى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب، فسد قلبه وقسا، وجلب له ذلك الغفلة وكثرة النوم، فنقص حظ روحه وقلبه من طعام المناجاة وشراب المعرفة، فخسر خسرانًا بيّنًا)
(4)
.
وفي الشبع تحريك نوازع الشر في الإنسان، فكم من معصية جلبها الشبع
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (47).
(2)
"زاد المعاد"(4/ 18).
(3)
"جامع العلوم والحكم" حديث (47).
(4)
"شرح حديث: لبيك اللهم لبيك" ضمن "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب"(1/ 118).
وفضول الطعام، وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"
(1)
.
قال ابن رجب: (المراد أن المؤمن يأكل بآداب الشرع فيأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنَّهَمِ، فيأكل في سبعة أمعاء)
(2)
.
وهذا الذم للشبع إذا كان دائمًا أو غالبًا، أما إذا كان في بعض الأحيان فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا
(3)
.
وهذا كله يتعلق بكمية الطعام التي يأكلها الإنسان، أما نوعية الطعام فينبغي للآكل أن يحرص على الغذاء الذي تتوفر فيه العناصر المهمة لإبقاء البدن قويًّا منيعًا ضد الأمراض، والخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس - اليوم - إما في كمية الطعام التي يأكلها وإدخال الطعام على الطعام، أو في عدم التوازن الغذائي بعدم العناية بالأطعمة التي تنفع البدن، وثَمَّ أمر الثالث موعد الأكل.
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على كمال هذه الشريعة حيث جاءت بما فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم وأبدانهم، فجاءت بهذه التوجيهات المتعلقة بحفظ الصحة، وذلك بمراعاة مقدار الطعام الذي يأكله الإنسان، ولو أخذ الناس بذلك لسلموا من الأمراض والأسقام التي تعود في الغالب إلى كثرة الطعام أو إدخاله على الطعام قبل الانهضام. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (5396)، ومسلم (2060).
(2)
"جامع العلوم والحكم" حديث (47).
(3)
رواه البخاري (6452). وانظر: "زاد المعاد"(4/ 18)، "فتح الباري"(11/ 288).
ما جاء في فضل التوبة
1486/ 10 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَويٌّ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب (صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)(2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (20/ 344) من طريق زيد بن الحُباب، حدثنا علي بن مسعدة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
زاد أحمد: "ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم إلا التراب".
قال الترمذي: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة، عن قتادة).
وعلي بن مسعدة متكلم فيه، فقد وثقه أبو داود الطيالسي، وقال أبو حاتم:(لا بأس به)، وقال ابن معين:(صالح)، وفي رواية:(لا بأس به)، وقال البخاري:(فيه نظر)، وقال أبو داود:(ضعيف)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب"(7/ 381).
ولما ساق ابن عدي هذا الحديث وحديثًا آخر في ترجمته، قال:(وله غير ما ذكرت عن قتادة، وكلها غير محفوظة)
(1)
.
وحُكْمُ الترمذي عليه بالغرابة؛ يعني أن علي بن مسعدة قد تفرد به دون أصحاب قتادة، ولا يحتمل تفرده، ولهذا قال الإمام أحمد:(هذا حديث منكر)
(2)
ورواه أحمد في "الزهد" ص (121) من طريق الخفَّاف، عن سعيد، عن قتادة .. وهذا يفيد أنه من قوله.
وأما قول الحافظ: (وسنده قوي) فهذا فيه نظر، لما تقدم.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كل بني آدم) هذه صيغة عموم.
قوله: (خَطَّاءٌ) صيغة مبالغة من الثلاثي خَطِئَ، قال أبو عبيدة:(خَطِيءَ خَطئًا من باب علم، وأخطأ بمعنى واحد لمن يذنب على غير عمد)
(3)
.
وجاء بالإفراد نظرًا إلى لفظ (كل)، وفي رواية:(خطاؤون) نظرًا إلى معنى (كل) وهو الجمع.
قوله: (وخير الخطائين التوابون) جمع تواب صيغة مبالغة؛ أي: الرجاعون إلى الله تعالى بالتوبة من المعصية إلى الطاعة، والتوبة هي: الاعتراف والندم والإقلاع والعزم على ألا يعود.
• الوجه الثالث: يستدل العلماء بهذا الحديث على أن من شأن ابن آدم الخطأ والوقوع في الذنب؛ لما جبل عليه هذا النوع من الخلق من الضعف، وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه، وترك ما عنه نهاه، وهذا أمر لا يسلم منه أحد من البشر، لكن منهم المقل ومنهم المكثر، ومن فضل الله ورحمته أن فتح باب التوبة لجبر هذا الخلل الذي يقع من الإنسان.
(1)
"الكامل"(5/ 207).
(2)
"المنتخب من "العلل" للخلال" ص (37).
(3)
"المصباح المنير" ص (174).
وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنّة في وجوب التوبة على كل مسلم وبيان فضلها وأثرها، ووصف الأنبياء بها، ومحبة الله تعالى للتائبين، ووعده بقبولها، قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]، وقال تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82].
وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي بردة رضي الله عنه قال: سمعت الأَغَرَّ -وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب - في اليوم - إليه مائة مرة"
(1)
.
قال القرطبي: (اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين)
(2)
، وقال في موضع آخر:(لا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة وأنها فرض متعين)
(3)
.
فالواجب على المؤمن إذا تلبس بمعصية أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنًا، ندمًا على ما مضى، وتركًا في الحال، وعزمًا على ألا يعود
(4)
؛ لأن الإنسان لا يدري في أي لحظة يموت؛ ولأن السيئات تجر أخواتها، وإذا كانت التوبة واجبة على الفور، فإن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه.
فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي زيد على هذه الشروط الثلاثة شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان مالًا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان غيبة استحله منها إن لم يترتب على ذلك مفسدة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح مسلم"(2702)(42).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(5/ 90).
(3)
"الجامع لأحكام القرآن"(12/ 238).
(4)
"فوائد قرآنية" ص (100).
ما جاء في فضل الصمت
1487/ 11 - عَنْ أنس رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّمْتُ حِكَمٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ". أَخْرَجَهُ الْبَيهَقِيُّ في "الشُّعَبِ" بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَصَحَّحَ أنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الحَكِيم.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن عدي في "الكامل"(5/ 169) ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(9/ 284) من طريق إبراهيم بن غسان الغلابي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن سعد الكاتب، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه عثمان بن سعد الكاتب، وهو ضعيف، قال ابن معين:(ليس بذاك)، وقال أبو زرعة:(لين)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال مرة:(ليس بثقة)، وقال ابن حبان:(كان ممن لا يميز شيخه من شيخ غيره، ويحدث بما لا يدري، ويجيب عما يُسأل، فلا يجوز الاحتجاج به)
(1)
.
ثم إنه قد خولف في إسناده، فقد رواه ابن حبان في "روضة العقلاء" ص (41)، والحاكم (2/ 422، 423)، والبيهقي في "الشعب"(9/ 283) من طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس أن لقمان كان عند داود وهو يسرد
(2)
الدروع، فجعل يفتله هكذا بيده، فجعل لقمان يتعجب منه ويريد أن
(1)
"المجروحين"(2/ 70)، "تهذيب التهذيب"(7/ 108).
(2)
سرد الدروع: نسجها وإحكامها. انظر: "فتح القدير"(4/ 316).
يسأله، فتمنعه حكمته أن يسأل، فلما فرغ منها صَبَّهَا على نفسه، وقال: نعم درع الحرب هذه، فقال لقمان: إن الصمت من الحكم وقليل فاعله، كنت أريد أن أسألك فسكت حتى كفيتني.
وهذا السياق للحاكم والبيهقي، أما ابن حبان فقد ساقه مختصرًا مقتصرًا على مقولة لقمان.
قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
وقال البيهقي عن الإسناد الأول: (غلط في هذا عثمان بن سعد
…
)، وقال عن رواية ثابت هذه:(هذا هو الصواب عن أنس أن لقمان قال: الصمت حِكَمٌ وقليل فاعله).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الصمت) مصدر صَمَتَ يَصْمُتُ من باب قتل: إذا سكت، والصمت: هو الإمساك عن قول الباطل دون الحق.
وبهذا يفرق بين الصمت والسكوت، فإن السكوت إمساك عن الكلام حقًّا كان أو باطلًا، أما الصمت فهو إمساك عن الكلام الباطل دون الحق.
قوله: (حِكَمٌ) بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة، وقد جاءت بلفظ الجمع عند البيهقي وغيره، وهو المثبت في المخطوطة، ووقع في بعض نسخ "البلوغ" بلفظ المفرد، وهي التي عليها شرح المغربي، ثم الصنعاني
(1)
.
والحِكْمة مشتقة من الحَكَمَة - بالتحريك - وهي لجام الدابة التي تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه، والحكمة تحفظ صاحبها من أخلاق الأرذال، وتمنعه من التكلم بما لا يعني
(2)
.
قوله: (وقليل فاعله) أي: قلّ من الناس من يحرص على الصمت ويتخلق به.
(1)
انظر: "البدر التمام"(5/ 267)"سبل السلام"(8/ 266).
(2)
"المصباح المنير" ص (145).
قوله: (من قول لقمان الحكيم) لقمان: اسم أعجمي على ما ذكر الألوسي في "تفسيره"، وهو مختلف في نسبه، فقيل: لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال: لقمان بن ثاران، حكاه السهيلي، وكان في زمان بني إسرائيل، وقد قيل: إنه تولى القضاء، والمشهور أنه كان عبدًا حبشيًّا نجارًا، وورد أنه رعى الغنم، وقد نقل ابن كثير وغيره روايات عن الصحابة رضي الله عنه ومن بعدهم حول شخصية لقمان.
وقد وقع خلاف بين السلف في نبوته، والجمهور على أنه ليس بنبي، وإنما هو عبد صالح آتاه الله الحكمة، وهي الصواب في القول والعمل والفهم السليم لما يصلح الناس في دينهم ودنياهم، وقد ذكره الله تعالى في القرآن، وأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه
(1)
.
• الوجه الثالث: في مقوله لقمان الحكيم بيان فضل الصمت وحفظ اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة وقول الزور وفضول الكلام وغير ذلك مما نهى عنه الشارع الحكيم.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر بالصمت وحفظ اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"
(2)
. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"
(3)
.
ومن المأثور عن علي رضي الله عنه أنه قال: (اللسان قِوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم تقم له الجوارح)
(4)
.
(1)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 503)، "تفسير القرطبي"(14/ 59)، "البداية والنهاية"(3/ 5)، "روح المعاني"(21/ 82).
(2)
رواه البخاري (6018)، ومسلم (47).
(3)
رواه البخاري (10)، ومسلم (40)، والترمذي (2504)، واللفظ له.
(4)
"الصمت" لابن أبي الدنيا ص (239).
وفي الصمت فضائل عظيمة، فهو دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلامِ، ورجاحة العقل، وحسن الخلق، وطهارة النفس، وفيه السلامة من فضول القول، والعصمة من زيغ المنطق؛ لأن الصمت قلة وزْرٍ، وخفة من الذنوب، ورحم الله امرأ قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم.
وقد ذكر العلماء أن للكلام شروطًا أربعة:
1 -
أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما جلب منفعة أو دفع مضرة.
2 -
أن يكون الكلام بقدر الحاجة؛ لأن الكلام ليس له نهاية.
3 -
أن يكون الكلام في موضعه بحيث يتوخى به إصابة غرضه.
4 -
أن يتخير الألفاظ المناسبة للمقام
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"أدب الدنيا والدين" ص (237).
باب الرَّهَبِ من مساوئ الأخلاق
الرَّهَبُ - بالتحريك - مصدر رَهِبَ يَرْهَبُ رَهَبًا من باب تَعِبَ؛ أي: خاف، ومادة رهب -كما يقول ابن فارس - تدل على معنيين، أحدهما: الخوف، والآخر: الرقة والخفة
(1)
.
وفي بعض النسخ: الترهيب، وهو مصدر رهَّبه من الشيء بمعنى أخافه خوفًا شديدًا.
والمساوئ: بفتح الميم جمع مساءة بمعنى سيئة، وهي القبيح من القول والفعل.
والمراد بمساوئ الأخلاق: الأخلاق الذميمة من الأقوال والأفعال التي نهى الشارع عنها، وحذر منها كالحسد والظلم والرياء وإخلاف الوعد والخيانة والغضب وغير ذلك.
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على مكارم الأخلاق، والتحذير من مساوئ الأخلاق.
وقد أراد المؤلف بهذا الباب أن يذكر جملة من الأحاديث في مساوئ الأخلاق؛ لبيان أن من حلية طالب العلم أن يستقيم على الأخلاق الكريمة، وأن يبتعد عن الأخلاق الذميمة حتى يكون ممن استنار بنور الإيمان، واستفاد من علمه، وهذا أقرب إلى سعادته في الدنيا وفلاحه في الدار الآخرة، وانتفاع الناس بعلمه وأخلاقه. وعن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال:(ليتق الرجل دناءة الأخلاق، كما يتقي الحرام)
(2)
.
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(2/ 447).
(2)
"حلية الأولياء"(6/ 240).
التحذير من الحسد
1488/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالحَسَدَ، فَإنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَناتِ، كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
1489/ 2 - وَلابْنِ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ أنسٍ نَحْوُهُ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الحديث الأول فرواه أبو داود في كتاب "الأدب"، بابٌ (في الحسد)(4903) من طريق سليمان بن بلال، عن إبراهيم بن أبي أسيد
(1)
، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث، وفي آخره: أو قال: (العُشْبَ).
وهذا سند ضعيف، فيه إبراهيم بن أبي أسيد المدني البرَّاد، قال أبو حاتم:(شيخ مدني، محله الصدق)
(2)
، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(3)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق).
وفيه جد إبراهيم هذا، فهو مجهول؛ لأنه لم يسمَّ، ولذا قال البخاري عن هذا الحديث:(لا يصح)
(4)
.
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(2/ 52)، وقد ذكر ابن حبان في "الثقات" الوجهين: فتح الهمزة وضمها.
(2)
"الجرح والتعديل"(2/ 88).
(3)
(6/ 10).
(4)
"التاريخ الكبير"(1/ 273).
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد رواه ابن ماجه (4210) من طريق عيسى بن أبي عيسى الحناط، عن أبي الزناد، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما بطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جُنَّة من النار".
وهذا سند ضعيف جدًّا، فيه عيسى الحناط الغفاري أبو موسى ويقال: أبو محمد المدني، قال أحمد وابن معين:(ليس بشيء)، وقال أبو داود والنسائي والدارقطني:(متروك الحديث)، وقال أبو حاتم:(ليس بالقوي، مضطرب الحديث)، وقال ابن عدي:(أحاديثه لا يتابع عليها متنًا ولا سندًا)
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إياكم والحسد) هذا أسلوب تحذير، فـ (إياكم) ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف وجوبًا، والتقدير: إياكم أُحذر، والأصل: أحذركم، ثم قدم الضمير لإفادة الحصر، ولما كان ضميرًا متصلًا لا يستقل بنفسه أُتي بالضمير المنفصل الذي يفيد معناه، والحسد: الواو عاطفة، والحسدَ: مفعول به لفعل محذوف وجوبًا تقديره: احذروا الحسد، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها.
والحسد: هو تمني زوال النعمة عن المحسود، سواء أحصلت له أو لم تحصل، وسواء أكانت دينية أو دنيوية.
أما تمني مثلها فهو غبطة، فإن كان في الدين كالعلم الشرعي والعبادة فهو محمود. واعتبار الحسد هو تمني زوال النعمة هو المشهور عن العلماء في تعريفه، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حُسْنِ حال المحسود
(2)
، وقال ابن رجب:(الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل)
(3)
.
(1)
"الجرح والتعديل"(6/ 289)، "تهذيب التهذيب"(8/ 201).
(2)
"مجموع الفتاوى"(10/ 111).
(3)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (35).
قوله: (فإن الحسد يأكل الحسنات) أي: يذهبها، وهو تعليل للتحذير، وهذا فيه استعارة مَكْنية حيث شبه الحسد بحيوان، ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الأكل.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم الحسد وقبحه؛ لما فيه من الاعتراض على الله تعالى في مشيئته، ولما فيه من انطواء النفس على كراهة الخير لأخيه المسلم، ومحبة زوال النعم عنه، وهو دليل على دناءة في النفس، وسوء في الخلق.
وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنّة في ذم الحسد والنهي عنه، قال تعالى في ذم اليهود:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]،، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا
…
" الحديث رواه مسلم، وسيأتي شرحه إن شاء الله.
ومن أهم أسباب الحسد: العداوة والبغضاء، وخبث النفس وشحها بالخير على عباد الله، وحب الترفع على الآخرين، وذلك حينما يظهر من المحسود فضل يعجز عنه الحاسد، فيكره تقدمه فيه. ولذا قال معاوية رضي الله عنه:(كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها)
(1)
، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلَّت .. وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف عليه السلام: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيدًا
…
} [يوسف: 5])
(2)
. ويقول الغزالي: (اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تُدَاوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقًا أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفت هذا عن بصيوة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك، فارقت الحسد لا محالة.
(1)
"الإحياء"(3/ 201).
(2)
"الفتاوى"(15/ 18).
أما كونه ضررًا عليك في الدين: فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقدمه في ملكه
…
وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلًا من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.
أما كونه ضررًا عليك في الدنيا: فهو أنك تتالم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كَمَدٍ وغَمِّ؛ إذ أعداؤك لا يُخلّيهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها، وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا متشعب القلب ضيق الصدر
…
وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح؛ لأنّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه، فلا حيلة في دفعه بل كل شيءٍ عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب)
(1)
.
وسيأتي - إن شاء الله - مزيد كلام عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المشار إليه. والله تعالى أعلم.
(1)
"إحياء علوم الدين"(3/ 196).
فضل من يملك نفسه عند الغضب
1490/ 3 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (الحذر من الغضب)(6114)، ومسلم (2609) من طريق ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ليس الشديد) أي: القوي في بدنه وعضلاته.
قوله: (بالصُّرَعَةِ) بضم الصاد المهملة وفتح الراء على وزن هُمَزَة، صيغة مبالغة، وهو القوي الذي يصرع الناس كثيرًا، ويطرحهم ويغلبهم لقوته وشدته.
أما الصُّرْعَةُ بضم الصاد وسكون الراء فهو بضد المعنى المتقدم؛ لأن المراد به من يصرعه غيره كثيرًا، وكل ما جاء بهذا الوزن - بالضم والسكون - فهو وصف للمفعول به كخُدْعَةٍ وضُحْكَةٍ وغيرهما، فإن كان بالضم والفتح فهو وصف للفاعل كخُدَعَةٍ وضُحَكَةٍ وسُخَرَةٍ
(1)
.
قوله: (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) هذا أسلوب قصر،
(1)
انظر: "أدب الكاتب" ص (332).
أداته: إنما، وفيه قصر الشدة على من يملك نفسه عند الغضب، من قصر الصفة على الموصوف.
والمعنى: ليس القوي الممدوح هو القوي الذي لا يصرعه الرجال ولا يغلبونه، بل يصرعهم ويطرحهم، وإنما هو الذي يملك نفسه عند الغضب؛ لأن الغضب في حكم الأعداء الكثيرين، وغَلَبَةُ النفس عما تشتهيه في حكم من هو شديد القوة في غلبة الجماعة الكثيرين فيما يريدون منه، وسرعة الغضب والانقياد له عنوان ضعف الإنسان ولو ملك السواعد القوية والجسد الصحيح.
والغضب: نقيض الرضا، وهو مصدر غضب يغضب غضبًا، قال ابن فارس:(الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة، يقال: الغَضْبة: الصخرة الصلبة، قالوا: ومنه اشتق الغضب؛ لأنه اشتداد السُّخْط).
والغضب: ثوران دم القلب لإرادة الانتقام
(1)
. والفرق بينه وبين الغيظ، قيل: متلازمان، والصحيح أن بينهما فرقًا، وهو أن الغضب ما يظهر على الجوارح ويتبعه الانتقام، والغيظ فعل النفس، ولا يظهر على الجوارح
(2)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن مجاهدة النفس عند الغضب أشد من مجاهدة العدو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة، فهو أقوى وأكمل من الذي يصرع الناس ويطرحهم بقوته، وفي هذا دليل على أنه ينبغي لمن غضب وأرادت منه النفس المبادرة إلى الانتقام ممن أغضبه أن يجاهدها ويمنعها عما طلبت، فَيُثَبِّتُ نفسه، ويتذكر عاقبة الغضب وما يترتب عليه، ويتذكر فضل كظم الغيظ في قوله تعالى في ذكر صفات من أعدت لهم الجنة:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيظَ} [آل عمران: 134]. وهذا أسلوب من أساليب علاج الغضب وهو العلاج بالكظم، ومعناه: إحداث مقاومة ذاتية داخلية،
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(4/ 428)، "المفردات في غريب القرآن" ص (361)، "المصباح المنير" ص (448).
(2)
"المحرر الوجيز"(2/ 358)، "روح المعاني"(4/ 58).
تؤدي إلى إضعاف انفعال الغضب وتهدئته، وتمنع من رد الفعل أو التشفي
(1)
.
وكظم الغيظ: رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له، يقال: كَظَمَ غيظه: اجترعه، وأصل الكظم: شَدُّ رأس القربة عند امتلائها
(2)
.
وليس معنى كظم الغيظ حفظه في القلب فيتحول إلى ضغينة، فخير من ذلك ألا يُكظم أصلًا وأن يُترك يتفجر، إنما المقصود ضبطه إلى أن يهدأ، وتصريفه في هدوء حتى ينتهي بالعفو عن المسيء
(3)
.
ولا ريب أن الكظم وتعويد النفس على اجتراع الغضب نوع من الغلبة المتميزة والانتصار الذي لم يعهده الناس؛ لأن القوة عندهم بالغلبة في المصارعة ونحوها.
وفي هذا تنبيه إلى أهمية الوظيفة التي يقوم بها من يكبح غضبه ويكظم غيظه، حيث إن هذه نوع من المصارعة والمواجهة مع الغضب والنفس والشيطان، يخرج فيها المرء منتصرًا على أهم أعدائه، وقد ذكر البخاري في "صحيحه" تعليقًا عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] قال: (الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله وخضع لهم عدوهم)
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: رسالة "الغضب" للدكتور: عبد العزيز النغيمشي.
(2)
"مختار الصحاح" ص (572).
(3)
"دراسات قرآنية" لمحمد قطب ص (357).
(4)
"فتح الباري"(8/ 556).
الظلم ظلمات يوم القيامة
1491/ 4 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "المظالم"، باب (الظلم ظلمات يوم القيامة)(2447)، ومسلم (2579) من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشُون، أخبرنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "إن الظلم ظلمات
…
".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الظلم) بالضم اسم من ظَلَمَهُ ظُلْمًا بالفتح من باب ضرب، وأصل المادة تدل على أصلين، يقول ابن فارس:(الظاء واللام والميم أصلان صحيحان أحدهما: خلاف الضياء والنور، والآخر: وضع الشيء في غير موضعه تعديًا)
(1)
.
والظلم: التصرف في حق الغير بغير حق، أو مجاوزة حد الشارع، وهو بهذا يشمل جميع المعاصي، ويعم أنواع الرذائل، وصاحبه إما ظالم لنفسه، أو ظالم لغيره، فظلم النفس هو التقصير في طاعة الله تعالى، وأعظمه وأشده الشرك بالله تعالى، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 468، 469).
ثم الإخلال بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وظلم الغير عبارة عن التفريط في حقه؛ كقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وإيذاء الجار، والإخلال بحقوق الزوجة، ومن الظلم مماطلة الغني في أداء حقوق الناس من دين أو غيره.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه المخصوص به، وهو ضد العدل، فكل انحراف عن العدل فهو ظلم؛ لأن العدل وضع الشيء موضعه، والقيام بالحقوق الواجبة، حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين من الوالدين والأرحام والزوجين وسائر الناس.
وظلم الناس أنواع كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
…
"
(1)
.
قوله: (ظلمات يوم القيامة) جمع ظلمة، وهي شدة الظلام بحيث لا يرى الإنسان ما حوله، وهذا على ظاهره، فيكون الظلم ظلمات متوالية على صاحبه بحيث لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا، وقيل: المراد بالظلمات: الشدائد والأهوال على حد قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] أي: من شدائدهما، وقيل: إنها عبارة عن الأنكال والعقوبات، والصواب الأول حملًا للكلام على ظاهره.
• الوجه الثالث: في هذا الحديث الموجز البليغ تحذير من الظلم، وبيان لشؤمه وسوء عاقبته يوم القيامة، حيث يفقد الظالم النور الذي يستضيء به المؤمن يوم القيامة، فيكون في ظلام دامس لا يرى طريقه بقدر ما حصل منه من ظلم، إذ لا نور يوم القيامة إلا من أعطاه الله نورًا، قال تعالى:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أَيدِيهِمْ وَبِأَيمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]،، وسيأتي لهذا الحديث مزيد كلام في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه إن شاء الله -. والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم شرحه في "البيوع" برقم (900).
التحذير من الشُّحّ
1492/ 5 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (تحريم الظلم)(2578) من طريق داود بن قيس، عن عبيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
وقد تقدم في الباب قبله حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:"الظلم ظلمات يوم القيامة".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اتقوا الظلم) أي: اجتنبوا الظلم، وابتعدوا عنه.
قوله: (الشح) بالشين المعجمة، وهي مثلثة، والضم أعلى، يقال: شَحَّ يَشُحُّ من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب وتعب فهو شحيح
(1)
.
يقول ابن فارس: (الشين والحاء الأصل فيه المنع، ثم يكون منعًا مع
(1)
"المصباح المنير" ص (306).
حرص، ومن ذلك الشح، وهو البخل مع حرص)
(1)
.
فالشح: هو البخل مع الحرص الشديد، وعلى هذا فالشح أشد من البخل؛ لأنه بخل مع حرص، فهو شحيح قبل حصول المال بخيل بعد حصوله، وقيل: إن الشح عام، والبخل يكون بالمال
(2)
، قال ابن رجب في تعريف الشح: (هو تشوق النفس إلى ما حرم الله ومنع منه، وعدم قناعة الإنسان بما أحلَّه الله من مال أو فرج أو غيرهما،
…
والبخل هو إمساك الإنسان ما في يده .. )
(3)
وقد جاء عن السلف تفسير الشح بهذا المعنى، وأنه تناول الإنسان ما ليس له ظلمًا وعدوانًا، ولم أر هذا في كتب اللغة، ولعل مراد السلف أن البخل المتناهي يبلغ بصاحبه إلى أن يأكل مال أخيه وتطمح عينه إلى ما ليس له
(4)
.
وقد مضى الكلام على الشح والبخل في باب (النفقات)
(5)
.
قوله: (أهلك من كان قبلكم) أي: من الأمم، ونسبة الهلاك إلى الشح من باب المجاز العقلي، لعلاقة السببية، مثل: أنبت الربيع العشب، وبنى الأمير قصرًا.
والمراد بالهلاك: الهلاك الحسي في الدنيا، وقيل: الهلاك في الآخرة، ويؤيد الأول تمام الحديث: "حملهم على أن سفكوا دماءهم
…
" أي: قتل بعضهم بعضًا بسبب طلب المال والحرص عليه، "واستحلوا محارمهم" أي: استباحوا ما حرم الله عليهم من أكل الأموال وسفك الدماء، ومن ذلك أنهم احتالوا على بيع ما حرم الله عليهم أكله؛ كالشحوم جملوها فباعوها. وهذا هلاك في الدنيا ويتبعه هلاك في الآخرة، إذ لا مانع من حمل الحديث على المعنيين.
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 178).
(2)
انظر: "الوابل الصَيِّب" ص (41)، "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(10/ 14).
(3)
"شرح حديث ما ذئبان جائعان" ص (31). وانظر: "تفسير ابن كثير"(8/ 97 - 98).
(4)
انظر: "روح المعاني"(28/ 53).
(5)
انظر: شرح الحديث (1145).
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من الظلم وأمر باجتنابه والابتعاد عنه؛ لأن عاقبته خطيرة كما تقدم.
• الوجه الرابع: التحذير من الشح وبيان أنه إذا فشا في المجتمع فهو علامة الهلاك؛ لأنه سبب من أسباب الظلم والبغي والعدوان وسفك الدماء، فهو يحمل على القتل وأخذ المال ويحمل على السرقة والخيانة، كما يحمل على قطيعة الرحم، فلا يصل الشحيح أرحامه، ولا يحسن إليهم لحبه المال وحرصه عليه، وقد يظلمهم بالتعدي على أموالهم إما بجحدها أو سرقتها أو أخذها.
ويروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لجلسائه يومًا: أيهما أشد، البخل أو الشح؟ فاختلفوا، فقال لهم:(الشح أشد من البخل؛ لأن الشحيح يَشُحُّ على ما في يديه فيحبسه، ويشح على ما في أيدي الناس حتى يأخذه، وأما البخيل فهو يبخل على ما في يديه)
(1)
.
إن الشح خصلة ذميمة تنافي كمال الإيمان، وتؤدي إلى التعدي على ما حرم الله ومنع منه من مال أو غيره، حتى قيل: إن الشح رأس المعاصي كلها، وقد عَلَّقَ الله الفلاح على الوقاية والسلامة منه، فقال عز من قائل:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
يقول الحافظ ابن رجب: (حصر الله الفلاح في وقاية شُحِّ نفسه، وتَطَلُّعِهَا إلى ما مُنعت منه، وحرصها على ما يضرها مما تشتهيه: من عُلُوِّ وترفع، ومالٍ وجاهٍ وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، فإنها تتطلع إلى ذلك كله وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغي والحسد والحقد، فمن وُقي شح نفسه فقد قهوها وقصرها على ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"مساوئ الأخلاق" للخرائطي (141).
(2)
"شرح حديث لبيك اللهم لبيك" ضمن رسائل ابن رجب (1/ 144).
ما جاء في ذم الرياء
1493/ 6 - عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمْ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أحمد (39/ 39)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(12/ 201) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث، وتمامه:"يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء".
وفي سند هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق تغيّر حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهًا).
وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال عنه: (ثقة ربما وهم).
ومحمود بن لبيد مختلف في صحبته، فقد ذكر البخاري ما يدل على أن له صحبة، ونفى ذلك أبو حاتم، وقال الحافظ:(محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية)
(1)
، وقد تقدمت ترجمته في كتاب "الطلاق"
(2)
.
(1)
انظر: "الرواة المختلف في صحبتهم"(3/ 363 - 379).
(2)
انظر: شرح الحديث (1078).
وإذا لم يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فحديثه من مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة حجة، فالحديث حسن، وقال المنذري:(إسناده جيد)
(1)
، وقال العراقي:(رجاله ثقات)
(2)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أخوف ما أخاف عليكم) أي: أَشَدُّ خَوْفٍ أخافه عليكم، والخطاب للمسلمين، وليس لعموم الناس.
قوله: (الشرك الأصغر) بالرفع خبر إن، وهو ما جاء في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر، ووجه كون الرياء من الشرك أن المرائي إذا عبد الله تعالى فهو بمراءاته الناس أشرك بتلك العبادة من يرائيهم.
قوله: (الرياء) بالرفع بدل من الشرك أو عطف بيان، وهو مصدر راءاه يرائيه رياءً ومراءاة، وهو مأخوذ من الرؤية.
واصطلاحًا: إظهار الشخص العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها
(3)
.
والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء في الفعل، والسمعة في القول؛ كالقراءة والذكر والوعظ والإرشاد، وأبواب الرياء كثيرة. نسأل الله السلامة.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على شدة خطر الرياء، وأنه أشد ما يُخاف على المسلم، وذلك لخفائه وتطلع النفس إليه، وارتباطه بالقلب؛ إذ لا يُعلم ما في قلب صاحبه، وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه قَصَدَ بعمله غير الله تعالى، ولهذا وردت تسميته في بعض الأحاديث بالشرك الخفي؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله تعالى، ويخفي في قلبه أنه لغيره، وقد دلت النصوص على بطلان العمل الذي صاحبه رياء، قال تعالى:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ}
(1)
"الترغيب والترهيب"(1/ 68، 69).
(2)
"تخريج الأحياء"(3/ 294).
(3)
"فتح الباري"(11/ 344).
صَلْدًا} [البقرة: 264]. وثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"
(1)
. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن راءى راءى الله به"
(2)
.
فالرياء محبط للأعمال، مبطل ثوابها؛ لأن المرائي عابد لغير الله تعالى، وقد ذمه الله تعالى في كتابه وجعله من صفات المنافقين في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142]،، والرياء يجرد الأعمال من تأثيرها الطيب على سلوك المسلم وتنعدم آثارها، {فَوَيلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].
وليس من الرياء حَمْدُ الناسِ العبدَ على عمل الخير دون قصد منه، بل هذا من عاجل بشرى المؤمن، كما ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"
(3)
. ومثل هذا نشاط العبد في عمل الخير عند رؤية العابدين؛ كنشاط بعض الناس في رمضان عندما يرى من يتلو القرآن، أو يصلي القيام، ونحو ذلك.
• الوجه الرابع: العبادة إذا خالطها رياء فهي من حيث البطلان وعدمه قسمان:
الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس، كمن صلى لقصد رؤية الناس أنه يصلي وهو في الواقع ليس كذلك، فهذا شرك، والعبادة باطلة، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه حال المنافقين في صلاتهم، أما
(1)
"صحيح مسلم"(2985).
(2)
رواه مسلم (2986).
(3)
رواه مسلم (2642).
المؤمن فلا يكاد يصدر منه ذلك في فرض صلاة ولا صوم.
الثاني: أن يكون الباعث على العبادة وجه الله تعالى، ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة، فإن دافع الرياء ولم يسكن إليه، بل أعرض عنه وكرهه، فهذا لا يؤثر مطلقًا؛ لأنه جاهد نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أوتتكلم"
(1)
.
وإن استرسل مع الرياء واطمأن إليه، بطلت العبادة إذا كان آخرها مبنيًّا على أولها كالصلاة، فإن كان آخرها لا يُبنى على أولها، بطل ما فيه رياء، دون ما ليس فيه رياء، مثل: رجل عنده مائة ريال للصدقة، فتصدق بخمسين وراءاى في الخمسين الثانية، فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة.
ويذكر بعض العلماء قسمًا ثالثًا: وهو أن يكون الباعث على العبادة وجه الله تعالى ثم يطرأ الرياء بعد الفراغ منها، فهذا لا يؤثر، لكن قد يكون من باب نقل العمل من السر إلى العلانية
(2)
.
• الوجه الخامس: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورحمته بهم وتحذيره مما يخاف عليهم، حيث خاف النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الرياء في الأمة خوفًا شديدًا.
وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل على أمته على خبر ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما بعلمه لهم
…
" الحديث
(3)
.
ومعالجة الرياء تحتاج مجاهدة شديدة، وذلك بالخوف منه؛ لأن من خاف شيئًا صار منه على حذر، ثم بدفع ما يعرض من خاطر الرياء، وأن يعود المسلم نفسه على إخفاء العبادة والبعد عن الناس، ولا سيما في نوافل الطاعات، مع صدق الالتجاء إلى الله تعالى بسؤاله العافية.
• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الشرك ينقسم إلى أكبر
(1)
الحديث متفق عليه، انظر: شرح الحديث (1085).
(2)
"القول المفيد"(2/ 114، 227).
(3)
"صحيح مسلم"(1844).
وأصغر، فالأكبر أن يسوي غير الله تعالى بالله فيما هو من خصائص الله، وذلك بأن يجعل له ندًّا يدعوه كما يدعو الله أو يخافه أو يرجوه أو يحبه أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة.
وهذا الشرك لا يُبقي مع صاحبه من التوحيد شيئًا؛ لأنه ينقل عن الملة ويحبط الأعمال وصاحبه مخلد في النار.
أما الأصغر فهو كما تقدم: كل ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر، ويدخل في هذا جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ مثل الحلف بغير الله، ويسير الرياء ونحو ذلك، والشرك الأصغر لا ينقل عن الملة ولا يوجب الخلود في النار، ويحبط العمل الذي قارنه، كما تقدم في الرياء
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"القول السديد في مقاصد التوحيد" ص (29)، "التعليق المختصر المفيد"(1/ 31).
علامات النفاق
1494/ 7 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
1495/ 8 - وَلَهُمَا: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو: "وإذا خَاصَمَ فَجَرَ".
° الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه البخاري في كتاب "الإيمان"، باب (علامة المنافق)(33)، ومسلم (107)(59) من طريق أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه البخاري في الباب نفسه (34)، ومسلم (106)(58) من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كلذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" هذا لفظ البخاري.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (آية المنافق) أي: علامة المنافق، والعلامة هي ما يستدل بها
على الشيء، و (أل) في المنافق للجنس، وكان القياس جمع المبتدأ (آية) ليطابق الخبر الذي هو ثلاث، وقد أجيب عن ذلك بعدة أجوبة، أحسنها: أن (الثلاث) اسم جمع، ولفظه مفرد، أو أن (آية) مفرد مضاف، فيعم، كأنه قال: آياته ثلاث
(1)
.
والمنافق: اسم فاعل من نافق الرباعي، وهو مشتق من أحد جحري اليربوع الذي يقال له: النافقاء؛ لأن اليربوع إذا حفر جحره جعل له مخرجًا يرققه ويخففه، فإذا أُتي من قبل القاصعاء الذي يظهره ويقصع منه؛ أي: يخرج، ضرب النافقاء برأسه فانتفق؛ أي: خرج، فكما أن اليربوع يكتم النافقاء، ويظهر القاصعاء، كذلك المنافق يكتم الكفر، ويظهر الإيمان.
والمراد بالنفاق في هذا الحديث: نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.
قوله: (إذا حدث كذب) أي: إذا تكلم مع غيره أخبر بخلاف الواقع، ومجيء (إذا) الشرطية في الجمل الثلاث فيه تنبيه على أن هذه عادة المنافق؛ لأن (إذا) تدل على تحقق الوقوع، وقال الخطابي:(كلمة "إذا" تقتضي تكرار الفعل)
(2)
.
قوله: (وإذا وعد أخلف) أي: إذا وعد بشيء في المستقبل (أخلف) أي: جعل الوعد خلافًا وذلك بأن لا يفي به، وعطف هذا على ما قبله مع أن إخلاف الوعد من الكذب؛ لأن الخلف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب، أو للتنبيه على زيادة قبحه، فيكون من باب عطف الخاص على العام.
قوله: (وإذا اؤتمن خان) بضم التاء مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وهو من الائتمان؛ أي: وإذا جعل أمينًا على شيء خان في هذه الأمانة وتصرف فيها على خلاف الشرع، وقال ابن سيده:(الخيانة: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح)، وهذا أعم
(3)
.
(1)
"عمدة القارئ"(1/ 252)، "شرح القسطلاني"(1/ 193).
(2)
"أعلام الحديث"(1/ 168)، "عمدة القارئ"(1/ 253).
(3)
"عمدة القارئ"(1/ 252).
قوله: (وإذا خاصم فجر) أي: إذا خاصم شخصًا مال عن الحق واحتال في رده وإبطاله وتكلم بالباطل؛ لأن الفجور: هو الميل عن القصد.
ولا منافاة بين قوله في حديث ابن عمرو: أربع، وفي حديث أبي هريرة: ثلاث؛ لأن مفهوم العدد غير حجة ما لم توجد قرينة؛ ولأن الشيء الواحد قد يكون له علامات، فتارة يذكر بعضها، وتارة تذكر جميعها أو أكثرها، وقال القرطبي:(يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استجد له من العلم بخصال المنافقين ما لم يكن عنده، إما بالوحي، وإما بالمشاهدة لتلك منهم)
(1)
.
والمنافق له خصال أُخر مذمومة، وقد يكون تخصيص هذه الخصال بالذكر؛ لأنها أظهر عليهم من غيرها عند مخالطتهم المسلمين، أو لأنها هي التي يضرون بها المسلمين.
• الوجه الثالث: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم حيث حذرهم من النفاق بذكر علامات المنافق وأوصافه، ليكون المسلم على بينة من ذلك، ويحذر أن يقع في شيء من هذه العلامات، وقد كان الصحابة رضي الله عنه يخافون النفاق على أنفسهم. قال البخاري: (قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه
…
)
(2)
.
ومما يدل على خطر النفاق العملي أنه وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر وهو نفاق الاعتقاد، كما أن المعاصي بريد الكفر، فيخشى على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقًا خالصًا، نسأل الله السلامة.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم الكذب في الحديث وأنه من علامات النفاق؛ لأن الكاذب في حديثه قد أساء إلى نفسه في هذا الخلق السيئ والصفة الذميمة، وأساء إلى مخاطبه حيث أوهمه أنه صادق في حديثه معه مع أنه كاذب، وأساء إلى مجتمعه حيث صار عضوًا فاسدًا بسبب هذه الخصلة.
(1)
"المفهم"(1/ 251).
(2)
"فتح الباري"(1/ 109).
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على تحريم إخلاف الوعد وأنه من خصال المنافقين، واخلاف الوعد يصدق على من يعد ومن نيته ألا يفي بوعده، وهذا أشد من الخُلْفِ؛ لأنه جمع بين الكذب والخلف، كما يصدق على من وعد ومن نيته أن يفي لكن بدا له أن يخلف الوعد من غير عذر، أما من عزم على الوفاء ومنعه مانع فهذا غير ملوم ولا يكون منافقًا وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي للمسلم أن يحترز من صورة النفاق، كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورًا من غير ضرورة
(1)
.
والوفاء بالوعد من جملة الأخلاق الكريمة التي جاء بها الإسلام وحث عليها وحذر من ضدها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2]، وقال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]. قال القرطبي عن هذه الآية: (صِدْقُ الوعد من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخُلْفُ مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين
…
)
(2)
، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الوفاء بالوعد، وأن إخلافه محرم إلا لعذر، قال ابن العربي:(أجلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز) وهو وجه في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، وهو قول في مذهب المالكية، صححه ابن الشَّاط في حاشيته على "الفروق"
(4)
.
وما انتشرت ظاهرة إخلاف الوعد والتهاون به إلا من ضعف الالتزام بالأحكام الشرعية وعدم رعاية نصوص الشريعة، وما أمرت به من مكارم الأخلاق، وما حذرت عنه من مساوئ الأخلاق، وانظر إلى ما يترتب على إخلاف الوعد أو التأخر عن الموعد من الانتظار وإضاعة الوقت بالنسبة
(1)
انظر: "جامع العلوم والحكم" حديث (48)، "التماس السعد" ص (83، 84).
(2)
"الجامع لأحكام القرآن"(11/ 115).
(3)
"الاختيارات" ص (331)، "جامع العلوم والحكم" حديث (48)، "الفروع"(6/ 415)، "فتح الباري"(5/ 290)، "الإنصاف"(11/ 152)، "الفتوحات الربانية"(6/ 260).
(4)
انظر: "الفروق"(4/ 24).
للآخرين، وحرمانهم من الاستفادة من أوقاتهم، وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت هارون المستملي يقول لأبي: بم تعرف الكذابين؟ قال: "بالمواعيد أو بِخُلْفِ المواعيد"
(1)
.
• الوجه السادس: في الحديث دليل على تحريم الخيانة فيما يؤتمن عليه الإنسان وعدم النصح فيه، وأن الواجب عليه أن يؤدي ما اؤتمن عليه وأن يقوم به خير قيام، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27]، ويدخل في الحديث الخيانة في الأموال، والحقوق، والأسرار، وما اؤتمن عليه المربون من ناشئة المسلمين وفلذات أكبادهم.
• الوجه السابع: في الحديث دليل على تحريم الفجور في الخصومة عند القاضي أو غيره، وذلك بأن يخرج عن الحق عمدًا، ويميل إلى الباطل، فينكر ما وجب عليه أداؤه، أو يدّعي ما ليس له، ومن أعظم الفجور أن يحلف كاذبًا ليأخذ حق أخيه.
• الوجه الثامن: في الحديث نوع من أنواع طرق التعليم وهو ذكر العدد قبل تفسير المعدود، وهذا عند البلاغيين من الإيضاح بعد الابهام، والغرض منه زيادة تطلع السامع وتشوقه إلى التفصيل، وهذا مما يقرر المعنى، ويثبته في الذهن. والله تعالى أعلم.
(1)
"الآداب الشرعية"(1/ 25).
النهي عن سباب المسلم وقتاله
1496/ 9 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقتَالُهُ كُفْرٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (ما يُنهى من السباب واللعن)(6044)، ومسلم (64) من طريق أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (سباب) بكسر السين وتخفيف الموحدة، وهو مصدر سب يَسُبُّ سبًّا وسبابًا، والسب: هو الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه في حضرته، فإن كان في غيبته فهو غيبة
(1)
، وصيغة الفِعَالِ إما أنها على بابها؛ أي: المشاتمة بين اثنين، ويكون الإثم على البادئ كما سيأتي إن شاء الله، أو أنها للمبالغة؛ أي: سب المسلم، وعلى هذا فالسبُّ والسباب بمعنى واحد، وقيل السباب أشد من السب، وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه
(2)
.
وقوله: (المسلم) المراد به المسلم الكامل الإسلام، ومفهومه أن سب الكافر ليس كذلك، وكذا الفاسق، كما سيأتي.
(1)
"التعليق على صحيح مسلم" للشيخ محمد بن عثيمين (1/ 262).
(2)
"فتح الباري"(1/ 112).
قوله: (فسوق) مصدر فسق يفسُق بالضم من باب قعد، وبالكسر على لغة حكاها الأخفش
(1)
، والفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، تقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت عن قشرها. قال ابن عطية: (الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان)
(2)
. وقال الراغب: (الفسق يقع بالقليل من الذنوب والكثير، ولكن تعورف فيما كان كثيرًا)
(3)
.
قوله: (وقتاله) صيغة الفعال إما أنها على بابها فهي مصدر قاتله يقاتله إذا حاربه ونازله، أو أنها للمبالغة؛ أي: قتله، والقتل: إزهاق الروح بالضرب أو بغيره، والفرق بين القتال والقتل: أنه في القتال إذا كف المقاتل وجب تركه والكف عنه، بخلاف القتل، ولهذا كل من جاز قتله جاز قتاله، وليس كل من جاز قتاله جاز قتله، وقد تقدم هذا في باب (قتال الجاني)
(4)
.
قوله: (كُفْرٌ) أي: خروج عن الدين إذا كان مستحلًا له، فإن كان غير مستحلٍّ له لم يخرج به من الإيمان، ولكنه خصلة من خصال الكفر، ويدل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُمْ} [الحجرات: 10]
(5)
فسماهم الله مؤمنين مع وجود الاقتتال، وعبر هنا بالكفر وفي الأول بالفسوق؛ لأن القتال يفضي إلى إزهاق الروح فهو أشد من السباب.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم حق المسلم حيث حكم الشرع على أن سب المسلم أخاه وعيبه ووصفه بما يكره أنه فسوق وخروج عن طاعة الله ورسوله، ومفهوم الحديث أن الكافر يجوز سبه إذا كان حربيًّا؛ إذ لا حرمة له، أما المعاهد ففي سبه أذية له، وقد نُهي عن أذيته، فيكون المفهوم
(1)
"المصباح المنير" ص (473).
(2)
"تفسير ابن عطية"(1/ 158).
(3)
"المفردات" ص (572).
(4)
انظر: (8/ 351) من هذا الكتاب.
(5)
انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 414)، "التعليق على صحيح مسلم" للشيخ محمد العثيمين (1/ 262).
غير مراد في حقه، وأما الفاسق المعلن بفجوره فإنه يجوز سبه لبيان حاله والتحذير منه على قول الأكثرين
(1)
.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن من قاتل أخاه المسلم، فإنه يكفر كفرًا يخرجه عن الملة، ويوجب الخلود في النار إذا كان مستحلًا لذلك، أما إذا قاتله لهوى في نفسه ولم يستحل دمه، فإنه يكون كافرًا كفرًا أصغر لا يخرج من الملة، كما قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] فسماهم الله تعالى مؤمنين مع حصول الاقتتال، والكفر الأصغر هو الموجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود. قال الحافظ ابن حجر:(لم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "سبل السلام"(8/ 293، 294).
(2)
"فتح الباري"(1/ 113).
التحذير من ظن السوء بالمسلم
1497/ 10 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَديثِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" ومنها في كتاب "الأدب"، باب ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]) (6066)، ومسلم (2563) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
فذكره، وتمامه:"ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشو ا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا" وسيعيد الحافظ هذا الحديث مرة أخرى في باب (الترغيب في مكارم الأخلاق).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إياكم والظن) تقدم إعراب هذه الجملة عند أول حديث في هذا الباب، والمراد بالظن هنا: التهمة، وهو ظن السوء بالمسلم من غير برهان واتهامه بلا بينة، كان يتهم إنسانًا بفعل سيئ من غير أن يظهر له ما يقتضيها، والدليل على هذا سياق الحديث:"ولا تحسسوا ولا تجسسوا".
وأصل الظن: إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
قوله: (فإن الظن أكذب الحديث) فيه إظهار في موضع الإضمار، وإنما كان الظن بمعنى الاتهام أكذب الحديث؛ لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد
إلى دليل، والظن الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه هو من الكذب؛ لأن الظان إذا اعتمد على ما لا يُعتمد عليه وجعله أصلًا وجزم به صار كاذبًا.
وإنَّما صار الظن أشد من الكذب لأمرين:
1 -
أن الكذب مستقبح في أصله مستغنى عن ذمه، بخلاف هذا فإن صاحبه يرى بزعمه أنَّه مستند إلى شيء، فناسب وصفه بأنه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه.
2 -
أن الاغترار بالظن أكثر من الاغترار بالكذب المحض، وذلك لخفائه غالبًا ووضوح الكذب.
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا في قوله: "أكذب الحديث" لأنه حديث نفس يثمر غالبًا قولًا أو فعلًا غير مطابق للواقع.
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من الظن الذي لم يُبْنَ على دليل ولا قرائن قوية وأمارات صحيحة بحيث يعتمد الإنسان على هذا الظن المجرد ويبني عليه الأحكام ويرتب عليه النتائج، وأن هذا من مساوئ الأخلاق، وأن الواجب الحمل على المحامل الحسنة إلَّا أن تقوم البينة العادلة والقرائن القوية على خلاف ذلك، وإلَّا فإن الأصل البراءة والحذر من سوء الظن بغير حق؛ لأن سوء الظن فيه مفاسد عظيمة، من إساءة الظن بالمسلم، وبغضه وعداوته، ثم إن الظان قد يقول ما لا ينبغي، أو يفعل ما لا ينبغي، ومن الظن السيئ ظن بعض الرجال بزوجته، وبناء الأحكام على أمور لا حقيقة لها ولا وجود، فيترتب على ذلك نتائج وخيمة، ومن الظن السيئ أن يتكلم أخوك بكلام فتحمله على أسوأ المحامل.
وعلى هذا فالمراد بالحديث تحقيق الظن وتثبيته وتقريره في النفس، أما مبادئ الظنون التي لا تُملك، بحيث تعرض في النفس ولا تستقر فإنه معفو عنها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز عن أمتي ما لم تتكلم أو تعمل"
(1)
، يقول
(1)
تقدم في باب "الطلاق" برقم (1085).
الخطابي: (قوله: "إياكم والظن" يعني تحقيق الظن والحكم بما يقع في القلب منه، كما يحكم بيقين العلم في الأمور المعلومة، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يملك دفعها، والأمر والنهي إنما يردان بتكليف الشيء المقدور عليه، دون غيره مما لا يُملك ولا يستطاع)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "أعلام الحديث"(3/ 2197).
ما جاء من الوعيد فيمن غَشَّ رعيته
1498/ 11 - عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتهِ، إلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب "من استُرعي رعية فلم ينصح) (7150)، ومسلم (142) من طريق أبي الأشهب، عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد
(1)
معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. قال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياةً ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث، واللفظ لمسلم.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يسترعيه الله) أي: يفوض إليه رعايتها، بأن يكون واليًا وأميرًا على قوم، والجملة صفة لـ (عبد).
قوله: (رعية) بفتح الراء وكسر العين المهملة وتشديد الياء بمعنى مرعية، وهم عامة الناس الخاضعون لأمير.
قوله: (يموت) خبر (ما)، أو أنَّه صفة ثانية لـ (عبد) والخبر محذوف.
(1)
هو أمير البصرة في زمن معاوية وولده يزيد.
قوله: (يوم يموت) بالنصب على الظرفية وهو مقدم على عامله، والمراد به: وقت خروج روحه وما قبل ذلك من حين المعاينة التي لا يقبل عندها توبة.
قوله: (وهو غاش لرعيته) جملة حالية من ضمير (يموت) الأول، والغاش: بتشديد الشين بصيغة اسم الفاعل من غش الثلاثي، وهو ضد النصح، مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر؛ أي: خائن لا يقوم بمصالحهم، ولا يفي بحقوقهم.
قوله: (إلَّا حرم الله عليه الجنَّة) تقدم الكلام على مثل هذه الجملة عند الحديث (1464) من هذا الجزء.
• الوجه الثالث: في الحديث وعيد شديد وزجر أكيد عن غش الإِمام لرعيته وعدم النصح لها وأن هذا من كبائر الذنوب؛ لأن من مات على هذه الحال فإن الله تعالى يمنعه من دخول الجنَّة.
وغش الإِمام لرعيته يتناول أمورًا كثيرة، منها: التهاون في تطبيق شرع الله تعالى، وعدم الحكم بين الرعية بما أنزل الله، والتهاون في إقامة دين الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الاهتمام بأمور الرعية أو مصالحها والاحتجاب عن الناس وعن رفع حوائجهم.
ومن الغش ترك المفسدين يعيثون في الأرض بإفساد الأخلاق ونهب الأموال والاعتداء على الأعراض بدون رادع من حَدٍّ أو تعزير.
ومن الغش المحاباة في المناصب وتولية من ليس كفؤًا لها من إمارة أو قضاء أو وزارة أو غير ذلك. والله تعالى أعلم.
ما جاء من الوعيد في إدخال المشقة على المسلمين
1499/ 12 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيئًا، فَشَقَّ عَلَيهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإمارة"، باب (فضيلة الإِمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية
…
) (1828) من طريق حرملة، عن عبد الرحمن بن شُماسة قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم
(1)
لكم في غَزَاتِكُمْ هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في بيتي هذا:
…
وذكرت الحديث، وتمامه:"ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من أمر أمتي) من: ابتدائية، ويصح كونها بيانية لـ (شيئًا) فالجار والمجرور في محل نصب حال، وأصله صفة فلما قدم أعرب حالًا
(2)
.
قوله: (شيئًا) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، فيشمل اللفظ الولاية
(1)
انظر: "المفهم"(4/ 24).
(2)
انظر: "دليل الفالحين"(3/ 119).
العامة وما دونها من الولاية الخاصة؛ كالإمارة والوزارة وإدارة المدرسة وشؤون العمل ونحو ذلك.
قوله: (فشق عليهم) أي: فأدخل عليهم المشقة.
قوله: (فاشقق عليه) أي: أوقعه في المشاق، إما في مشاق الدنيا كتسليط الأعادي، أو بآفات في بدنه أو أهله أو في قلبه، وإما في مشاق الآخرة من شدة الحساب وأليم العذاب.
• الوجه الثالث: في الحديث وعيد شديد لمن ولي أمرًا من أمور المسلمين صغيرًا كان أم كبيرًا وأدخل عليهم المشقة، وذلك بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بأن الله تعالى يجازيه من جنس ما عمل.
والحديث عام في كل ولاية، ففي الولاية العظمى يحذر الوالي من إدخال المشقة والمضرة على الناس في شؤون حياتهم وأمور معاشهم، وإنَّما يعمل على تيسير الأمور والرفق بالرعية ومعاملتهم باللين في كل ما يصدر من ترتيبات وتعليمات.
وفي الولايات الصغرى يحذر كل موظف أو مسؤول من أن يسيء إلى من تحت يده من المراجعين أو ذوي الحاجات أو يدخل عليهم المشقة، أو يكون سببًا في أذية أحد منهم، فإن الأذية أمرها عظيم. قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، وإن من توفيق الله تعالى لمن ولي شيئًا من أمور المسلمين أن يكون حسن الخلق سهل التعامل، يتقرب إلى الله تعالى بعمله وبخدمته إخوانه المسلمين، ويكون رفيقًا بمراجعيه سريع الإنجاز لأعماله، يبذل وقته وجهده في قضاء الحاجات، أخلاقه مهذّبة، ألفاظه طيبة، ومثل هذا يكسب ثقة الناس ويظفر بمحبتهم ودعائهم له، وهذا من الذكر الحسن الذي تتناقله الألسن، ويقر في الأذهان. والله تعالى أعلم.
النهي عن ضرب الوجه
1500/ 13 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه والكلام عليه في باب (حَدِّ الشارب) من كتاب "الحدود"، وقد رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب (إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه)(2556) من طريق معمر، عن همام، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
ورواه مسلم (2612) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وهذا اللفظ للبخاري، وله طرق أخرى بعدة ألفاظ.
• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الإنسان إذا أراد أن يضرب أحدًا فعليه أن يجتنب الضرب في الوجه، وهذا نهي عام يعم الحدود والتعزيرات، والإنسان والحيوان، وذلك لأن الوجه مجمع المحاسن، وهو لطيف، فيظهر فيه أثر الضرب، وقد يُتلف منه عضوًا كالعين أو الأذن، أو يؤثر عليها الضرب، وربما شأنه، والشين فيه لا يمكن ستره، بخلاف ما يخفى من الأعضاء. والله تعالى أعلم.
ما جاء فِي الحد من الغضب
1501/ 14 - وَعَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَال: يَا رَسُولَ اللهِ" أَوْصِنِي. قَال: "لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا. قَال: "لَا تَغْضَبْ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (الحذر من الغضب)(6116) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن أبي صالح، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن رجلًا
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أوصني) أي: دلني على ما ينفعني في ديني ودنياي، وذلك بوصية جامعة لخصال الخير.
قوله: (لا تغضب) أي: لا تتعرض لشيء يسبب لك الغضب، ولا تنفذ آثاره بالغير، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه؛ لأنه أمر غريزي وطَبْعٌ جِبِلِّيٌّ لا يمكن زواله
(1)
.
وقد تقدم تعريف الغضب.
قوله: (فردد مرارًا) أي: كرر السائل طلب الوصية مرارًا بقوله: أوصني، وكأن هذا السائل لم يقتنع بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب" فطلب وصية أبلغ منها، وأنفع، فلم يزده النبي الله عليها، وأعادها له ثانيًا وثالثًا؛ لبيان عظيم نفعها؛ لي فيها من جلب المصالح ودفع المفاسد.
(1)
انظر: "أعلام الحديث"(3/ 2197).
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير؛ لأن هذا الصحابي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية جامعة لخصال الخير؛ ليحفظها عنه ويعمل بها.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن معالجة الغضب تكون بقطع أسبابه وجوالبه وممهداته، وتدريب النفس على التحمل، وتخفيف الغضب بالرياضة والتمارين والاكتساب، فيبتعد عن الأسباب المثيرة للغضب؛ كالسباب والمِراءِ والمنازعات وصحبة السفهاء، وكون الإنسان يغضب لأتفه الأمور التي يراها في بيته أو من أهله أو أولاده، وعلى الإنسان أن يتدرب على حل مشكلاته التي تعترضه بدلًا من الغضب والهياج كلما صادفته مشكلة أو اعترضه عائق، وهذا التوجيه النبوي في حديث الباب هو ما يسمى عند علماء النفس بالجانب الوقائي، وهذا يُعنى بمعالجة الغضب قبل حدوثه.
وقد تقدم عند شرح الحديث الثالث في هذا الباب معالجة الغضب أثناء حدوثه بالكظم وهو إضعاف الغضب وتهدئته، فهاتان حالتان.
وبقيت الحالة الثالثة وهي معالجته بعد حدوثه، وذلك بالأمور الآتية:
1 -
الاستعاذة من الشيطان الرجيم؛ لأنه مصدر الغضب ومعززه، وقد ورد عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون؟. وفي رواية للبخاري: فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "تعوَّذ بالله من الشيطان"، فقال " أَتُرى بي بأسًا؟ أمجنون أنا؟ اذهب
(1)
.
فالاستعاذة وترديدها مع تذكرها والتفكر فيها علاج مباشر لسببٍ رئيسٍ لحدوث الغضب وهو الشيطان، ولكن هذا الجانب من العلاج يحتاج إلى
(1)
رواه البخاري (3282)(6048)، ومسلم (2610).
استعداد وقوة وتعويد للنفس على استعماله وممارسته، ومن فقد ذلك لم يقدر على هذا العلاج، ولهذا فإن هذا الرجل لم يُبْدِ استعداده للمعالجة، ولم يدرك قيمة الاستعاذة ومعانيها الإدراك الكامل، فقال: وهل ترَى بي من جنون؟. قال النووي: (فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى، ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة، وتوهم أن الاستعاذة خاصة بالمجنون، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان
…
ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين أو من جفاة الأعراب، والله أعلم، أوكان غلب عليه الغضب حتَّى أخرجه عن الاعتدال)
(1)
.
2 -
تغيير الحالة التي هو عليها حال الغضب إلى حالة أقرب منها إلى التواضع والخضوع؛ لأن الكبر والاستعلاء قرينان للغضب، وقد أرشد إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء فليلصق بالأرض
…
"
(2)
، وذلك لأنه منها خلق، وفيها يعاد مهما تكبّر وتعالى وتجبّر.
3 -
إطفاء الغضب بالماء وذلك بالوضوء؛ لأن الغضب يثير حرارة في الجسم، والماء يخمد الحرارة، ويبرد الجسم، فيعود إلى طبعه حيث يمر الماء على الجوارح المتأثرة من الوجه والفم واليدين والرجلين، وهي الأعضاء المستعدة للحركة والبطش والانتقام، وقد دل على ذلك حديث عطية السعدي بينه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنَّما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"
(3)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم" للنووي (16/ 400).
(2)
رواه الترمذي (2191)، وأحمد (17/ 227)، وقال التِّرمِذي:(حديث حسن) وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(3)
رواه أَبو داود (4784)، وأحمد (29/ 505) وسنده ضعيف، لكن قوله:"الغضب من الشيطان" يشهد له حديث سليمان بن صرد الآتي.
4 -
السكوت وقطع الكلام استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكوت في حال الغضب؛ لأن من أعظم وسائل استمرار الغضب الرغبة الشديدة في الكلام، بل إن الكلام في حال الغضب يحول مساره، فمن حيث الأسلوب يكون هَواشًا
(1)
ومجادلة، ومن حيث المقدار يكون صُراخًا وهديرًا، ومن حيث الموضوع يكون سِبابًا وشتمًا، ولا يقطع ذلك كله إلَّا الالتزام بالسكوت، وقد دلَّ على ذلك حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عَلِّموا ويسِّروا ولا تعسروا، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت"
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
الهوش والهواش والهوشة؛ الفتنة والاختلاط والاضطراب.
(2)
رواه أحمد (4/ 39، 338) وسنده ضعيف؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم، وقد رمي بالاختلاط. وانظر:"الصحيحة"(1375).
التحذير من أخذ المال بغير حق
1502/ 15 - عَنْ خَوْلَةَ الأنصَارَيَّةِ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي أم محمد خولة بنت قيس بن قَهْد - بالقاف - الأنصارية النجارية رضي الله عنها، ويقال: خولة بنت ثامر، أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجت حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه، فولدت له يعلى وعُمارة وابنتين، ولما استشهد تزوجت بعده حنظلة بن النعمان بن عجلان الأنصاري الزُّرقي فولدت له محمدًا، وكانت تُكنْى به
(1)
.
• الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "فرض الخمس"، باب (قوله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41](3118) من طريق ابن أبي عياش -واسمه نعمان- عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكرت الحديث.
• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (يتخوضون) بالخاء والضاد المعجمتين، من الخوض وهو
(1)
"طبقات ابن سعد"(8/ 444)، "الاستيعاب"(12/ 305)، "أسد الغابة"(7/ 97)، "التوضيح" لابن الملقن (18/ 424)، "الإصابة"(12/ 237).
الدخول في الماء؛ أي: يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل بكثرة المآكل والمشارب، وجودة الشِيَاتِ والملابس والمراكب، والتعبير بالتخوض يفيد أنهم يتصرفون فيها تصرفًا غير مبني على أصول شرعية، بل هو بمجرد التشهي.
قوله: (في مال الله) المال: كل ما يتموله الإنسان من عقار أو منقول، قيل: إن المراد أموال المسلمين التي تصرف في المصالح العامة، وقيل: المراد العموم في كل مال، سواء أكان ماله أم مال غيره
(1)
.
قوله: (فلهم النار يوم القيامة) هذا حكم مرتب على الوصف المناسب وهو الخوض في مال الله، ففيه إشعار بالعِلِّيَّةِ.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على عظم شأن المال، ووجوب صرفه في الوجوه الشرعية المباحة؛ لأن الله تعالى جعل المال قيامًا لأمور الناس الدينية والدنيوية، وفيه تحذير من بذل الأموال في غير محلها، أو أخذ الإنسان شيئًا منها وهو غير مستحق لها، أو أخذه أكثر مما يستحق. قال ابن بطَّال: (معنى حديث خولة في هذا الباب -أي: تبويب البخاري- أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإِمام بعده فقد تخوض في مال الله بغير حق، ويأتي بما غلَّ يوم القيامة.
وفيه ردع للولاة والأفراد أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"دليل الفالحين"(1/ 544)، "سبل السلام"(8/ 305)، "شرح رياض الصالحين"(2/ 538).
(2)
"شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (5/ 275).
ما جاء في تحريم الظلم
1503/ 16 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوي عَنْ رَبِّهِ - قَال:"يَا عِبَادِي" إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالمُوا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (تحريم الظلم)(2577) من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
وهو حديث طويل، جاء في آخره: قول سعيد بن عبد العزيز - وهو التنوخي الدمشقي -: كان أَبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر عظيم المنزلة، ولهذا كان الإِمام أحمد يقول: "هو أشرف حديث لأهل الشام، وذلك لاشتماله على قواعد عظيمة وأصول الدين وفروعه وآدابه)
(1)
.
وقد اقتصر الحافظ على هذه الجملة؛ لأن مقصوده سياق ما يتعلق بالظلم؛ لكونه من مساوئ الأخلاق.
(1)
"مجموع الفتاوى"(18/ 156).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فيما يروي عن ربه) أي: فيما يخبر به عن ربه تبارك وتعالى، وهذه إحدى صيغ الحديث القدسي.
قوله: (قال) أي: قال الله تعالى.
قوله: (يا عبادي) جمع عبد، والمراد بالعباد هنا: جميع الثقلين مؤمنهم وكافرهم، بدليل بقية الحديث، وهذه العبودية العامة، والأضافة للتشريف. قال أَبو علي الدقاق:(ليس شيء أشرف من العبودية ولا اسم أتمَّ للمؤمن من الوصف به، ومن ثَمَّ قُرن بالإسراء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1])
(1)
.
قوله: (إني حرمت الظلم على نفسي) تقدم أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومعنى: حرمته: تنزّهت عنه وتعاليت مع قدرته تعالى عليه، لكنه لا يفعله؛ لأنه سبحانه يضع الأمور في مواضعها، ولهذا وعد المؤمنين الجنَّة وتوعد الكافرين بالنار، ولا يمكن أن يعذب أحدًا بذنب غيره. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيئًا} [يونس: 44]، والمراد بالنفس: الذات المتصفة بصفات الكمال. قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وقال تعالى:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(ونفسه هي ذاته المقدسة)
(2)
.
قوله: (وجعلته بينكم محرمًا) أي: حكمت بتحريمه عليكم، فالمراد بالجعل هنا: الشرعي لا الكوني؛ لأن الظلم يقع بين الناس.
قوله: (فلا تظالموا) بفتح التاء وتخفيف الظاء على الأشهر، وأصله: تتظالموا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله:(وجعلته بينكم محرمًا) وزيادة في تغليظ تحريمه، ويجوز "تظَّالموا" بتشديد الظاء وإدغام إحدى التاءين فيها.
(1)
"نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار" ص (273).
(2)
"مجموع الفتاوى"(9/ 292، 293)(14/ 196).
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه فهو سبحانه منزَّه عنه مع قدرته عليه، ولكنه لا يفعله فضلًا منه وجودًا وكرمًا وإحسانًا إلى عباده، ويلزم من نفي الظلم إثبات ضده، وهو كمال عدله، فالله تعالى لا يظلم أحدًا، بل هو حَكَمْ عدل محسن، وحكمه وجزاؤه لعباده إما فضل لمن عمل الحسنات، فيجازي على الحسنة بعشر أمثالها، أو عدل في السيئات، فيجازي على السيئة بمثلها. قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112]، ظلمًا: بزيادةٍ في سيئاته أو معاقبته بذنب غيره، ولا هضمًا: بنقص من حسناته.
قال ابن رجب: (وكونه خلق أفعال العباد، وفيها الظلم، لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خلقه وتدبيره، فإنه لا يوصف إلَّا بأفعاله، ولا يوصف أفعال عباده، فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله، والله أعلم)
(1)
.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الظلم وقبحه؛ لأن الله تعالى حرمه على نفسه وحرمه على عباده، فلا يجوز لعبد أن يظلم نفسه ولا يظلم غيره، فلا يظلم نفسه بالشرك أو ما دونه من المعاصي صغائرها وكبائرها، ولا يظلم غيره في مال أو دم أو عرض، ومن الظلم أخذ مال اليتيم، أو المماطلة في أداء حقوق الناس مع القدرة على الوفاء، أو ظلم المرأة حقها من صداق أو كسوة، أو ظلم الأجير بعدم إعطائه أجرته أو المماطلة في أدائه.
قال ابن رجب: (ظلم العباد شَرٌّ مكتسب؛ لأن الحق فيه لآدمي مطبوع على الشح، فلا يترك من حقه شيئًا، لا سيما مع شدة حاجته يوم القيامة، فإن الأم تفرح يومئذ إذا كان لها حق على ولدها، لتأخذه منه. ومع هذا، فالغالب أن الظالم تعجل له العقوبة في الدنيا وإن أُمهل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي
(1)
"جامع العلوم والحكم" حديث (24).
للظالم حتَّى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102])
(1)
ومن سلم من ظلم غيره، وسلم الناس من ظلمه، فقد عُوفي وعُوفي الناس منه. والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح حديث: لَبَّيكَ اللهم لَبَّيكَ" ضمن رسائل ابن رجب (1/ 135).
ما جاء في الغيبة
1504/ 17 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرهُ". قِيلَ: أفَرَأَيتَ إِنْ كَانَ فِي أخِي مَا أَقُولُ؟ قَال: "إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (تحريم الغيبة)(2589) من طريق العلاء، عن أبيه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أتدرون ما الغيبة) الهمزة للاستفهام، وقد خرج الاستفهام عن معناه الأصلي، وهو طلب العلم بالمجهول إلى غرض آخر، وهو التشويق إلى معرفة الشيء.
وما: اسم استفهام خبر مقدم، والغيبة: مبتدأ مؤخر لأن الاستفهام له الصدارة، والأصل: الغيبة ما هي؟ والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب سدت مسد مفعولي (تدرون)؛ لأنه عُلق عن العمل بالاستفهام.
وقوله: (ما الغيبة) أي: ما حقيقتي الشرعية.
قوله: (قالوا: الله ورسوله أعلم) رَدُّوا العلم إلى الله ورسوله عملًا بالأدب ووقوفًا عند حد العلم.
قوله: (قال: ذكرك أخاك
…
) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ذكرك أخاك، والمراد بالأخ: الأخ في الدين، وهذا اللفظ يشمل الأخ الحي والميت، وهل يشمل الصغير والمجنون؟ محل بحث
(1)
.
والغيبة: هي الاسم من الفعل اغتابه اغتيابًا، وهو مأخوذ من مادة:(غَيَبَ) التي تدل على تستر الشيء عن العيون
(2)
؛ لأن الغِيبة التي هي الوقيعة في الناس لا تقال إلَّا في غَيبة الشخص.
وأما في الاصطلاح فهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكرك أخاك بما يكره"، وعبر عن هذا بعض العلماء بقوله: ذكر العيب بظهر الغيب
(3)
.
والاشتقاق اللغوي يفيد أن الغيبة مختصة بعدم حضور الإنسان في مجلس الغيبة، وبهذا جزم أهل اللغة وأكثر الأئمة.
قوله: (بما يكره) ما: إما أن تكون مصدرية؛ أي: بمكروه، أو اسمًا موصولًا؛ أي: بالذي يكرهه، وبين المعنيين فرق، سواء أكان الذي يكرهه في دينه أو دنياه، وسواء كان في بدنه أو ماله أو أهله أو ولده أو ثوبه أو مركبه أو غير ذلك مما يتعلق به
(4)
.
وهذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم للغيبة يعد تفسيرًا لقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وهذا المعنى موضع إجماع بين أهل العلم.
قوله: (فقد بهته) أي: كذبت وافتريت عليه مع الغيبة، فَحُذِفَ الشق الثاني لأنه معلوم، يقال: بَهَتَ فلان فلانًا: إذا كذب عليه، وبَهِتَ وبُهِتَ: إذا تحير. يقول ابن فارس: (الباء والهاء والتاء أصل واحد، وهو كالدَّهَشِ والحيرة
…
)
(5)
، وعلى هذا فالبهتان: هو الكذب والافتراء الباطل الذي يُتحير منه لفظاعته.
(1)
انظر: "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 15)، "الفتوحات الربانية"(6/ 377).
(2)
"معجم مقاييس اللغة"(4/ 403).
(3)
"التوقيف على مهمات التعاريف" ص (254).
(4)
انظر: "الأذكار" ص (534).
(5)
"معجم مقاييس اللغة"(1/ 307).
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من الغيبة وأنها من الأخلاق السيئة التي تفتح أَبوابًا من الشر، وتسبب الخصام والنفور، وتنشر العداوة والبغضاء، وتقطع أواصر المحبة بين الناس، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن حقيقتها لأجل أن تُجتنب، وهي دليل على خسة المغتاب ودناءة نفسه، وقلة ورعه، وسلاطة لسانه ..
وقد نهى الله تعالى عن الغيبة وحذر منها أبلغ تحذير في قوله سبحانه: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وهذا من أحسن القياس التمثيلي وأبلغه:
1 -
لأن الغيبة تمزيق العرض، كما أن أكل اللحم تمزيقه مع الجلد، وهذا أقبح.
2 -
أن الله تعالى جعل اللحم لحم الأخ لا لحم حيوان؛ لأنه أشد كراهة.
3 -
جَعْلُ الأخ ميتًا لكونه لا يدافع عن نفسه؛ لأن المغتاب لا يعلم بالغيبة بحيث يدافع عن نفسه، ثم إن لحم ما يُستطاب أكله يصير مستقذرًا بالموت.
4 -
وصف ذلك بالكراهة مبالغة في التنفير عنه.
قال ابن كثير عند هذه الآية: (الغيبة محرمة بالإجماع)
(1)
، وقال القرطبي:(الإجماع على أنَّها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى)
(2)
، وكأن القرطبي لم يلتفت إلى قول من قال: إنها من الصغائر لندرة القائلين بهذا، وقد نقل النووي وابن حجر رحمه الله العسقلاني وابن حجر رحمه الله الهيتمي والسفاريني وآخرون
(3)
الإجماع على أنَّها من الكبائر التي لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الصدقة ولا غيرها من الأعمال الصالحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"
(4)
.
(1)
"تفسير ابن كثير"(7/ 359).
(2)
"تفسير القرطبي"(16/ 337).
(3)
"الإحياء"(4/ 12)، "روضة الطالبين"(11/ 224)، "الزواجر"(2/ 12 - 13)(غذاء الألباب" (1/ 113).
(4)
متفق عليه، وقد تقدم شرحه في آخر باب "الغصب".
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند الآية المذكورة: (وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة وأنها من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر)
(1)
.
والغيبة تختلف مراتبها بتفاوت الشخص المغتاب وما حصل له من الإيذاء، وما يترتب عليها من المفاسد، فغيبة العامي من سائر الناس ليست كغيبة العالم - مثلًا - لأن غيبة عامة الناس إنما تسيء إليه، لكن غيبة العالم إساءة إليه وإلى ما يحمله من علم الشريعة وإلى مكانته عند الناس
(2)
.
وللغيبة أسباب كثيرة منها:
1 -
ضعف الورع؛ لأن الإنسان إذا قل ورعه لم يبال بما يتكلم به، ولم يقم وزنًا لأحكام الشرع، ولا سيما فيما يتعلق بالأوامر والنواهي.
2 -
الحسد.
3 -
مجالسة الرفقاء والأصدقاء.
4 -
إرادة الإنسان رفع نفسه بوضع غيره.
5 -
اللعب والهزل والمفاكهة.
وللغيبة آثار سيئة، فهي بالإضافة إلى ضررها على المغتاب بوقوعه في عرض أخيه، فهي تفتح أَبوابًا كثيرة من الشر، وتسبب العداوة والبغضاء والخصام، وهي مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين الناس، وهي دليل على خسة المغتاب ودناءة نفسه وسقوط همته.
• الوجه الرابع: استدل العلماء بقوله: "ذكرك أخاك" على أن تحريم الغيبة مختص بالمؤمن، وأن الكافر تجوز غيبته، وهذا اختيار الصنعاني
(3)
.
وفرّق آخرون بين الكافر الحربي فتجوز غيبته، وبين الذِّمِّيُّ فهو كالمسلم؛ لأن الشرع حرم عرضه وماله ودمه، وهذا قول الغزالي والزركشي،
(1)
"تفسير ابن سعدي" ص (745).
(2)
"شرح رياض الصالحين"(6/ 104).
(3)
"سبل السلام"(8/ 308).
ورجحه ابن حجر رحمه الله الهيتمي
(1)
.
قالوا: وذكر الأخ في الآية والحديث للعطف والتذكير بالسبب الباعث على تركها، وهو الأُخُوَّةُ والإيمان.
أما الفاسق المجاهر بالذنب أو إيذاء المسلمين بقلمه أو لسانه أو فكره، أو صاحب البدعة المجاهر ببدعته، فيجوز ذكره بما فيه، ولا يعد غيبة إذا أخلص هذا المتكلم فيه لله تعالى قاصدًا التحذير منه أو إزالة ما هو عليه من المنكر، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"
(2)
. وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز غيبة أهل الفساد وأهل الرِّيَبِ، وذلك لأن النصح الواجب لا يعد من الغيبة، وقد قيل للإمام أحمد: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحبُّ إليك أو يتكلمُ في أهل البدع؟ قال:(إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(2/ 17).
(2)
رواه البخاري (6054)، ومسلم (2591).
(3)
"مجموع الفتاوى"(28/ 231، 232).
ما جاء في جملة من مساوئ الأخلاق
1505/ 18 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ؛ التَّقْوَى هَاهُنَا" وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله)(2564) من طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
وهذا الحديث له روايات وألفاظ، وهو حديث جليل ينبغي للإنسان أن يعتمده منهجًا له يسير عليه في حياته؛ لأنه جامع لكثير من مساوئ الأخلاق التي يحرص المسلم على تجنبها والبعد عنها مع إفادة الآخرين بذلك، وبهذا يحظى بأضدادها من مكارم الأخلاق.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضًا، وأصله تتحاسدوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وكذا الألفاظ الآتية. وتقدم تعريف الحسد،
وهو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره من علم أو مال أو جاه أو غير ذلك.
قوله: (ولا تناجشوا) تقدم تعريف النجش في "البيوع" وأنه الزِّيادة في ثمن السلعة من شخص لا يريد شراءها، وإنما لنفع البائع أو مضرة المشتري.
قوله: (ولا تباغضوا) أي: لا يبغض بعضكم بعضًا، والبغض: بالضم ضد الحب، وهو النفرة من الشيء لمعنى فيه مستقبح، ويرادفه الكراهة، والبغضاء: شدة البغض، والنهي عن التباغض معناه لا تتعاطوا أسباب التباغض؛ لأن الحب والبغض من المعاني القلبية التي لا قدرة للإنسان على اكتسابها، ولا يملك التصرف فيها، وإنما تحصل بأسباب تؤدي إليها.
قوله: (ولا تدابروا) التدابر: الإعراض وترك الكلام والسلام، وقيل للإعراض: تدابر؛ لأن من أبغضته أعرضت عنه، ومن أعرضت عنه وليته دبرك، وكذا يصنع هو بك، ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك لتسره وشرك.
قوله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وذلك بأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، ونحو ذلك مما تقدم في "البيوع".
قوله: (وكونوا عباد الله إخوانًا) عباد: منادى بحرف نداء مقدر؛ أي: يا عباد الله، ويجوز كونه خبرًا لكان، وإخوانًا: خبر على الأول، أو خبر ثانٍ على الثاني.
ومعناها: اتصفوا بما تصيرون به إخوانًا، وهذه الجملة فيها معنى التعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانًا، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيرون أعداء، والمراد بالعبودية هنا: العبودية الخاصة، وهي عبودية الطاعة.
قوله: (ولا يخذله) بضم الذال من خذله يخذله من باب قتل: إذا ترك نصرته وإعانته وتأخر عنه.
قوله: (ولا يحقره) بكسر القاف من حقره يحقره من باب ضرب: إذا أهانه واستصغره ولم يعبأ به.
قوله: (التقوى هاهنا) التقوى: مصدر اتقى تقاة وتقوى على وزن فَعْلَى، وأصله وَقْيًا؛ لأنه من وقى، فأبدلت الواو أول الكلمة تاء، فأصبح تقيًّا، ثم أبدلت الياء واوًا؛ لأنه اسم على وزن فعلى لامه ياء
(1)
.
والتقوى: فعل المامور واجتناب المحظور، وقد بيّن المراد باسم الإشارة بقوله:(ويشير إلى صدره ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: إن أصل التقوى وحقيقتها في القلب الذي هو في الصدر، وما يظهر على الجوارح من طاعة الله تعالى فهو أثر لها، ويدل لذلك قوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، وعدل عما يقتضيه الظاهر من الإتيان بالماضي إلى الإتيان بالمضارع في قوله:(ويشير) إشارة إلى استحضار تلك الحالة، وهي الإشارة إلى الصدر؛ لأنه محل القلب.
وقوله: (ثلاث مرات) هكذا في بعض نسخ "البلوغ"، وفي المخطوطة التي سبق وصفها، وهو الموافق لما في "صحيح مسلم"، وفي بعضها:(ثلاث مرارٍ).
قوله: (بحسب امرئ من الشر) بسكون السين المهملة، والباء زائدة، وحسب مبتدأ؛ أي: كافيه من خلال الشر ورذائل الأخلاق.
قوله: (أن يحقر أخاه المسلم) المسلم: صفة، وذكر هذا الوصف مع تقدمه فيه تأكيد لحرمة المسلم وتحذير من احتقاره، وأَنْ وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر، والمعنى: كافيه من خلال الشر وسيئ الأخلاق أحتقار أخيه المسلم، لما في ذلك من إهمال حق أخيه والإعراض عنه ورضاه عن نفسه بهذا الخلق الممقوت؛ لأنه دليل التكبر والترفع عن الآخرين.
قوله: (كل المسلم على المسلم حرام) أي: محظور وممنوع.
قوله: (دمه وماله وعرضه) بدل بعض من كل.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم التحاسد بين المسلمين
(1)
"معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن" ص (284).
بأن يحسد كل واحد من الشخصين الآخر، لما فيه من الاعتراض على الله في قسمته، ولما فيه من انطواء القلب على عدم محبة الخير وكراهته لأخيه المسلم، وإذا نُهي عن التحاسد الذي فيه معنى المكافأة والمجازاة وهو ما كان بين اثنين، فالنهي عنه من طرف واحد آكد.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم التناجش عند البيع والشراء لما فيه من الغش والخديعة لمن يرغب شراء السلعة، وقد تقدم الكلام عليه في "البيوع"
(1)
.
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على تحريم التباغض بين المسلمين؛ لأن هذا مناف للمحبة التي أوجبها الله تعالى بين المسلم وأخيه، والبغض المنهي عنه هو ما كان في غير ذات الله تعالى، بل على أهواء النفوس أو أمور الدنيا، أما البغض في ذات الله تعالى، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلًا في النهي؛ كبغض العصاة؛ لأن الإنسان يجتمع فيه الخير والشر والفجور والطاعة، فيستحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ومن العداوة والعقاب بحسب ما فيه من الشر
(2)
.
وإذا نهي عن التقابل في المباغضة فالانفراد بالبغض من طرف واحد أولى.
• الوجه السادس: في الحديث دليل على تحريم تعاطي أسباب البغض ووسائله والحرص على ما يسبب التآلف والاجتماع؛ لأن ما نُهي عنه يُنهى عن وسائله؛ كالغيبة، والنميمة، والإفراط في المزاح، والظنون السيئة، ولعب الميسر وغير ذلك، قال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91].
• الوجه السابع: الحديث دليل على تحريم التدابر والتقاطع والتهاجر بين المسلمين.
(1)
انظر: (6/ 85) من هذا الكتاب.
(2)
"الفتاوى"(28/ 209).
• الوجه الثامن: في الحديث دليل على تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، ومثله شراؤه على شرائه؛ لأن هذا من أسباب العداوة والتقاطع بين المسلمين، وقد مضى تفصيل ذلك في "البيوع".
• الوجه التاسع: في الحديث حث للمسلمين على أن يكونوا إخوة متحابين متآلفين، وأن من تحقيق العبودية لله تعالى رعاية الأخوة الإيمانية القائمة على رابطة العقيدة ولو تباعدت الأوطان واختلفت الألسن والألوان.
• الوجه العاشر: في الحديث دليل على أن ظلم المسلم لأخيه أو خذلانه أو احتقاره ينافي صدق الأخوة الإسلامية.
• الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على أن التقوى محلها القلب، وإذا تحققت تقوى القلب ظهرت آثارها على الجوارح؛ لأنها تابعة للقلب ومنقادة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
، وما يظهر على الجوارح من صلاح واستقامة في القول والعمل فهو دليل على تقوى القلب، وما يظهر من فساد أو انحراف في القول والعمل فهو دليل على ضعف تقوى القلب.
قال الإِمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنَّما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى، وخشيته، ومراقبته. ومقصود الحديث أن الاعتبار في ذلك كله بالقلب)
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (والتقوى أصلها في القلب، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، وإذا كان أصل التقوى في القلوب، فلا يطلع أحد على حقيقتها إلَّا الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
(3)
. وحينئذٍ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا، قلبه خرابًا من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك
(1)
هذا الحديث تقدم تخريجه وشرحه برقم (1477) من هذا الجزء.
(2)
"شرح صحيح مسلم"(16/ 357).
(3)
رواه مسلم (2564)(34).
قلبه مملوءًا من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعًا)
(1)
.
• الوجه الثاني عشر: بيان خطورة احتقار المسلم لأخيه وأن ذلك كاف للمحتقِر من الشر، وإن لم يكن عنده شر سواه، وهذا ينافي الأخوة الإيمانية، وهو لا يصدر غالبًا إلَّا عن كبر أو جهل.
• الوجه الثالث عشر: في الحديث دليل على حرمة المسلم وعظم شأنه عند الله تعالى حيث حرم دمه وماله وعرضه. والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (35).
ما جاء في الاستعاذة من بعض المنكرات
1506/ 19 - عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الأخْلَاقِ، وَالأعمَالِ، والأهْوَاءِ، وَالأَدْوَاءِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو قطبة -بضم القاف وإسكان الطاء- بن مالك الثعلبي من بني ثعلبة بن ذبيان، ولذا يقال له: الذبياني. قال البخاري وأَبو حاتم: له صحبة، سكن الكوفة، وروى عنه الحجاج بن أيوب مولى أبي ثعلبة، وابن أخيه زياد بن علاقة، وعبد الملك بن عمير، وقد روى له مسلم دون البخاري. ففي "صحيح مسلم" من طريق زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال:(صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1]، حتَّى قرأ:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10]، قال: فجعلت أرددها، ولا أدري ما قال)
(1)
، ليس له في الكتب الستة إلَّا هذان الحديثان: هذا الحديث، وحديث الباب
(2)
.
• الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب (الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)(3591) قال: حدَّثنا سفيان بن وكيع، قال: حدَّثنا أحمد بن بشير وأَبو
(1)
"صحيح مسلم"(457).
(2)
"الاستيعاب"(9/ 157)، "تهذيب الكمال"(23/ 608)، "الإصابة"(8/ 165)، دليل الفالحين" (4/ 296).
أسامة، ورواه ابن حبان (3/ 240)، والطبراني في "الكبير"(19/ 19) وفي "الدعاء"(1384)، والحاكم (1/ 532) من طريق أبي أسامة، كلاهما عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن عمه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث، وهذا لفظ الحاكم.
قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن غريب، وعَمُّ زياد بن علاقة هو قطبة بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
وأَبو أسامة ثقة ثبت، وقد تفرد به عن مسعر، قال أَبو نعيم في "الحلية"(7/ 237) (غريب من حديث مسعر، تفرد به عنه أَبو أسامة
…
).
وقد رواه عن أبي أسامة جمع، ولم أر أحدًا جمع بينه وبين أحمد بن بشير إلَّا شيخ التِّرمِذي وهو سفيان بن وكيع بن الجراح الرؤاسي، وهو متكلم فيه. قال البخاري:(يتكلمون فيه لأشياء لقنوه)، وضعفه أَبو زرعة والنَّسائي. وقال الآجري:(امتنع أَبو داود من التحديث عنه). وقال ابن حبان: (كان شيخًا فاضلًا صدوقًا، إلَّا أنَّه ابتلي بورَّاقٍ كان يدخل عليه الحديث)
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(كان صدوقًا، إلَّا أنَّه ابتلي بورَّاقِه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنُصِحَ فلم يقبل، فسقط حديثه).
• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (جنبني) دعاء من التجنيب؛ أي: باعدني.
قوله: (منكرات الأخلاق) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الأخلاق المنكرة؛ لأن من الأخلاق ما هو حسن، ومنها ما هو منكر، والأخلاق المنكرة: هي ما ينكر من الأخلاق شرعًا وعادةً.
(1)
"التاريخ الأوسط"(4/ 1055، 1056)، "المجروحين"(1/ 455)، "تهذيب الكمال"(11/ 202).
قوله: (والأعمال) عطف على الأخلاق؛ أي: ومنكرات الأعمال، وهو -أيضًا- من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الأعمال المنكرة، والمراد بها: ما ينكر من الأعمال شرعًا وعرفًا.
والمراد بمنكرات الأخلاق: سوء المعاملة مع الخلق، ومنكرات الأعمال هي المعاصي، وقيل: منكرات الأخلاق هي الأعمال الباطنة؛ كالعجب والفخر والحسد والكبر والحقد ونحو ذلك، ومنكرات الأعمال هي الأفعال الظاهرة؛ كالزنا وشرب الخمر
(1)
.
قوله: (والأهواء) عطف -أيضًا- على الأخلاق؛ أي: الأهواء المنكرة، والإضافة بيانية؛ لأن الأهواء كلها منكرة، وهي جمع هوىً، وهو ما تشتهيه النفس من غير نظر إلى مقصد يحمد عليه شرعًا.
وقيل: إن الإضافات كلها من باب واحد، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ لأن الإنسان له أهواء، فمن الناس من يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يكون هواه تبعًا لنفسه وما تشتهيه، وعلى هذا فما وافق الشرع فهو معروف، وضده المنكر.
قوله: (والأدواء) جمع داء؛ أي: وأعوذ بك من الأدواء المنكرة، وهي منكرات الأدواء، والمراد بها: الأمراض المزمنة المستعصية أو المنفرة؛ كالسرطان والبرص والجذام.
• الوجه الرابع: ذكر الحافظ هذا الحديث لبيان فضل هذا الدعاء واستحباب دعاء المؤمن بهذه الألفاظ، وهي أن الله تعالى يباعد بينه وبين منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، وهذا يفيد أن المؤمن يحرص على اجتناب الأخلاق الذميمة والأعمال المنكرة، ويحذر من اتباع الهوى والوقوع في الشهوات.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه دعا ربه بأن يهديه لأحسن الأخلاق وأن يصرف
(1)
"تحفة الأحوذي"(10/ 50)، "شرح رياض الصالحين"(6/ 39).
عنها سيئها، وذلك في حديث علي رضي الله عنه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السمرات والأرض
…
" وذكر الحديث إلى قوله: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت
…
"
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح مسلم"(457)، وتقدم بتمامه في أدعية الاستفتاح.
ما جاء في النهي عن المراء والمزاح وإخلاف الوعد
1507/ 20 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فيه ضَعفٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في المراء)(1995) من طريق اللَّيث -وهو ابن أبي سليم- عن عبد الملك، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(394) من طريق ليث به.
قال التِّرمِذي: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، وعبد الملك عندي هو ابن بشير).
وهذا سند ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وأَبو حاتم وابن معين وآخرون
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا تمار أخاك) بضم أوله، وهو مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والكسرة قبلها دليل عليها، وهو من المماراة، تقول: ماريته أُماريه مماراة ومِراءً: جادلته، وحقيقة المراء: طعنك
(1)
"تهذيب التهذيب"(8/ 417).
في كلام غيرك لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه.
ولا يكون المراء إلا اعتراضًا، بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضًا
(1)
.
قوله: (ولا تمازحه) من المُزاح -بضم الميم- اسم مصدر من مَزَحَ من باب نفع، مَزْحًا ومَزاحَةً -بالفتح- والمِزاحُ -بالكسر- مصدر مازحه ممازحة ومِزاحًا.
والمزاح: هو المداعبة والهزل، والمعنى: لا تمازح أخاك المسلم مزاحًا يفضي إلى إيذائه من هتك العرض ونحوه.
قوله: (ولا تعده موعدًا فَتُخْلِفَهُ) بنصب المضارع (تخلفَه) بـ (أن) المضمرة وجوبًا بعد فاء السببية في جواب النهي. والمراد بالوعد: ما يشمل زمان الموعد ومكانه.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على عناية الإسلام بالألفة والمحبة بين المسلمين حيث جاء بما يزيد المحبة ويقوي الألفة، كما جاء بالنهي عما يسيء إلى هذه المحبة، ومن هذا النهيُ عن المراء والجدال الذي يفعله الإنسان مع جليسه؛ ليظهر له الخلل في كلامه أو العيب في رأيه وفكرته، فهذا خلق ذميم، يورث البغضاء والكراهية، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا لكن المعنى الذي دلّ عليه مستفاد من نصوص أخرى، قال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَال فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، يقول ابن حبان:(المراء أخو الشنآن، كما أن المناقشة أخت العداوة، والمراء قليل نفعه كثير شره، ومنه يكون السباب، ومن السباب يكون القتال، ومنه يكون هراقة الدم، وما مارى أحد أحدًا إلَّا وقد غيَّر المراء قلبيهما)
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" ص (570).
(2)
"روضة العقلاء" ص (79).
وهذا كله في الجدال المذموم، وهو الذي يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، ويكون المراد منه مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، فإن كان المراد منه إظهار الحق وهداية الخلق فهو محمود. يقول الإِمام النووي: (اعلم أن الجدال قد يكون بحق، وقد يكون بباطل
…
فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودًا، وإن كان الجدال في مدافعة الحق، أو كان جدالًا بغير علم كان مذمومًا، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه)
(1)
.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن المسلم منهي عن المزاح، والمراد به ما فيه إفراط بحيث يداوم عليه صاحبه، وهذا يورث كثرة الضحك، وقسوة القلب، وإضاعة الأوقات، ويؤدي إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(من كثر ضحكه قلَّت هيبته، ومن مزح استُخِفَّ به، ومن أكثر من شيء عُرف به) وقيل في منثور الحكم: (المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب)، وقال بعض الحكماء:(من كثر مِزاحه زالت هيبته)
(2)
.
قال ابن عبد البر: (وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح، لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء)
(3)
.
فإن كان مزاحًا خفيفًا لطيفًا بأدب واحترام، وفيه مؤانسة، وتطييب نفس المخاطب، وإذهاب السآمة عنه فلا بأس به إذا لم يطل زمنه.
قال النووي: (المزاح المنهي عنه، هو الذي فيه إفراط، ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك، وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الحقد،
(1)
"الأذكار" ص (588).
(2)
"روضة العقلاء" ص (80)، "أدب الدنيا والدين" ص (270).
(3)
"بهجة المجالس"(2/ 569).
ويسقط المهابة والوقار. فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة، وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منع منه قطعًا، بل هو سنّة مستحبة إذا كان بهذه الصفة، فاعتمد ما نقلناه عن العلماء، وحققناه في هذه الأحاديث، وبيان أحكامها، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه، وبالله التوفيق)
(1)
.
• الوجه الخامس: في الحديث نهي عن إخلاف الوعد وهو مقيد بمن هو عازم على إخلاف الوعد، وقد تقدم ذلك مبسوطًا عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (1494). والله تعالى أعلم.
(1)
"الأذكار" ص (520).
ما جاء في ذم البخل وسوء الخلق
1508/ 21 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وسُوءُ الْخُلُقِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في البخل)(1962)، والبخاري في "الأدب المفرد"(282) من طريق صدقة بن موسى، عن مالك بن دينار، عن عبد الله بن غالب الحُدَّاني
(1)
، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
قال التِّرمِذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث صدقة بن موسى)، وهذا الحديث تفرد به التِّرمِذي عن أصحاب الكتب الستة.
وصدقة بن موسى ضعيف، قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين:(ليس حديثه بشيء)، وقال أَبو حاتم:(لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالقوي)، وقال ابن معين -أيضًا- وأَبو داود والنَّسائي:(ضعيف). وقال ابن عدي: (ما أقرب صورته وصورة حديثه من حديث صدقة بن عبد الله الذي أمليت قبله، وبعض أحاديثه مما يتابع عليه، وبعضه لا يتابع عليه)
(2)
.
(1)
بضم الحاء وتشديد الدال نسبة إلى حُدَّان من الأزد، وعامتهم بصريون."الأنساب"(2/ 184).
(2)
"الجرح والتعديل"(4/ 423)، "الكامل"(4/ 76).
وقال الدَّارَقُطني: (متروك)
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق له أوهام).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (خصلتان) مثنى خصلة وهي الصفة، وهي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رذيلة، وهو مبتدأ، والجملة بعده صفة مسوغة للابتداء بالنكرة، والخبر (البخل وسوء الخلق) وقيل:(خصلتان) خبر مقدم، و (البخل وسوء الخلق) مبتدأ مؤخر.
قوله: (لا تجتمعان في مؤمن) هذا نفي بمعنى النهي؛ أي: نهي المؤمن أن يكون بخيلًا، وأن يسوء خلقه. والمراد بذلك اجتماعهما فيه مع بلوغ النهاية بحيث لا ينفك عنهما، ويوجد منه الرضا بهما، أما ما يحصل في أوقات نادرة ويندم ويلوم نفسه، أو تدعوه نفسه إلى ذلك، فينازعها فإنه بمعزل عن ذلك
(2)
.
قوله: (البخل) مصدر بَخُلَ -بفتح فضم- من باب قَرُبَ، ومن باب تعب، مصدره البَخَل بالفتح.
والبخل في الشرع: منع الواجب، وعند العرب: منع السائل مما يفضل عنده
(3)
. وأشد درجات البخل أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة إليه.
قوله: (وسوء الخلق) هو الوصف المضاد لحسن الخلق؛ أي: قبح السلوك والتعامل مع الآخرين من زوجة وولد وأخ وصديق وغير ذلك.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المؤمن الحق لا يتصف بهاتين الخصلتين الذميمتين، وهما: البخل وسوء الخلق وقبح التعامل مع الآخرين؛ لأن البخل لا يكون إلَّا من قلة الثقة بالله تعالى، والمؤمن واثق بربه، طامعٌ بفضله وعطائه، والبخل يجر إلى سوء الخلق، والمؤمن رحيب الصدر، حسن
(1)
"سؤالات البرقاني للدارقطني" رقم (226).
(2)
"تحفة الأحوذي"(6/ 97).
(3)
"المصباح المنير" ص (38).
الخُلُق، ويدل الحديث بالمفهوم على أن من اتصف بهما فقد نقص إيمانه؛ لأن من مقتضيات الإيمان أنَّه ينهى صاحبه عن سيئ الأخلاق، كما يأمره بالجود والكرم. والله تعالى أعلم.
ما جاء في أن إثم المتسابين على البادئ منهما
1509/ 22 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُسْتبَّانِ مَا قَالا، فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ المْظْلُومُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (النهي عن السباب)(2587) من طريق العلاء، عن أبيه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكره.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (المستبان) بتشديد الباء تثنية اسم الفاعل؛ أي: المتشاتمان، وهما اللذان يسب كل منهما الآخر.
والمستبان: مبتدأ أول، و (ما) مبتدأ ثانٍ، (فعلى البادئ) خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول، والمعنى: أن المتسابين إذا تسابا وتشاتما بكلام سيئ فإن الإثم على البادئ منهما
(1)
.
قوله: (ما لم يعتد المظلوم) ما: مصدرية ظرفية؛ أي: مدة عدم اعتداء المظلوم، فإذا اعتدى المظلوم صار عليه الإثم، والمراد باعتدائه: تجاوزه حد الانتصار.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنَّه إذا وقع بين شخصين سباب
(1)
"المفهم"(6/ 566)، "شرح رياض الصالحين"(6/ 221).
ومشاتمة، فإن الإثم يكون على البادئ بالسباب، فيتحمل إثمه وإثم أخيه، وكل ما جرى بسببه فهو عليه، وليس على المجيب المنتصر لنفسه شيء من الإثم؛ لأنه مظلوم، والله تعالى قد أذن له في الانتصار ممن ظلمه، ومجازاة الساب بمثل ما سبّه به من غير زيادة على ذلك، كأن يقول الساب: أخزاك الله، فيقول له الآخر: بل أنت أخزاك الله
…
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39]، وقال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} [البقرة: 194].
والأفضل من ذلك الصبر والصفح والعفو، قال تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقال تعالى:{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. فإن زاد المجيب المنتصر في مجازاته وآذى الظالم بأكثر مما قاله صار ظالمًا ويتحمل إثم زيادته. والله تعالى أعلم.
التحذير من إلحاق المشقة بالمسلم أو إدخال الضرر عليه
1510/ 23 - عَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَارَّ مُسْلمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَقَّ اللهُ عَلَيهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أَبو صرمة -بكسر الصاد وسكون الراء- بن أبي قيس الأنصاري المازني - من بني مازن بن النجار - مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل: قيس بن مالك، وقيل: لبابة بن قيس، وقيل: مالك بن أسعد، وقيل غير ذلك، شهد بدرًا وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه زياد بن نُعيم الحضرمي، ومحمد بن قيس المدني، ولؤلؤة مولاة الأنصار، وغيرهم، وكان شاعرًا محسنًا، ذكر ابن الأثير شيئًا من شعره
(1)
.
• الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أَبو داود في كتاب "الأقضية"، (أَبواب القضاء)(3635)، والتِّرمِذي (1940)، وأحمد (25/ 34) من طريق اللَّيث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن لؤلؤة، عن أبي صرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله
(1)
"الاستيعاب"(12/ 3)، "أسد الغابة"(6/ 172)، "تهذيب الكمال"(33/ 426)، "الإصابة"(11/ 204)، "فتح الباري"(4/ 155).
عليه"، هذا لفظ التِّرمِذي، وليس في المصادر المذكورة لفظة:(مسلمًا)، وذكر الشارح أنَّه جاء في رواية
(1)
.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب)، وفي سنده: لؤلؤة، وهي مجهولة، ذكرها الحافظ الذهبي في "المجهولات"
(2)
.
وضعف هذا الحديث ابن القطان؛ لأنه يرى ضعف لؤلؤة؛ لتفرد محمد بن حبان بالرواية عنها، والمستور الذي يقبل خبره هو من روى عنه أكثر من واحد، أما من لم يرو عنه إلَّا واحد فلا يقبل
(3)
.
• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (من ضار مسلمًا) بتشديد الراء؛ أي: من أوصل ضررًا إلى مسلم وأدخل عليه مضرة في نفسه أو أهله أو ماله بغير حق، سواء أكان جارًا أم غيره.
قوله: (ضارَّه الله) أي: أوقع به الضرر وجازاه من جنس ما فعل بأخيه، ومن ضاره الله ترحل عنه الخير وتوجه إليه الشر.
قوله: (ومن شاق مسلمًا) بتشديد القاف؛ أي: أوصل مشقة وألحقها بمسلم من غير حق، وقيل: من المشاقة وهي المنازعة؛ أي: نازع مسلمًا ظلمًا وتعديًا.
قوله: (شق الله عليه) أي: أدخل عليه ما يشق عليه.
والضرر والمشقة متقاربان، لكن الضرر يستعمل في إتلاف المال، والمشقة في إيصال الأذية إلى البدن؛ كتكليف عمل شاق
(4)
.
• الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم الإيذاء وإدخال الضرر والمشقة على المسلم، سواء أكان ذلك في بدنه أو أهله أو ماله أو ولده، وأن من أدخل الضرر على المسلم فإن الله تعالى يجازيه من جنس عمله، سواء كان
(1)
انظر: "عون المعبود"(10/ 64).
(2)
"الميزان"(4/ 610).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 550).
(4)
"تحفة الأحوذي"(6/ 71).
هذا الضرر بتفويت مصلحة من المصالح، أو بحصول مضرة بوجه من الوجوه، ومن ذلك التدليس والغش في المعاملات، وكتم العيوب، والخطبة على خطبة أخيه، أو خطبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها.
ومن ذلك مضارة الشريك لشريكه والجار لجاره وأذيته بقول أو فعل، ومن ذلك -أيضًا- الإضرار بالزوجة إما بالميل عنها إلى الأخرى بما يضرها ويجعلها كالمعلقة، أو بمراجعتها -إن كانت مطلقة- بقصد الإضرار بها.
وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد لكن ما يدل عليه من تحريم الإيذاء وإدخال الضرر مستفاد من أدلة أخرى ومن قواعد الشريعة، قال تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وقال تعالى: {أَوْ دَينٍ غَيرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، والضرر نوع من الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين العباد محرمًا. والله تعالى أعلم.
ما جاء في ذم الفحش والبذاءة
1511/ 24 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ". أَخْرَجَهُ التّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "البر والصلة"، بابٌ (في حسن الخلق)(2002) من طريق ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مَمْلَكٍ، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيءَ".
قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن صحيح).
وفي إسناده يعلى بن مملك، وقد ذكره البخاري في "تاريخه" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا
(1)
، وقال النَّسائي:(ليس بذلك المشهور)، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(2)
والظاهر أنَّه في عداد المجاهيل؛ فإنه لم يُذكر في الرواة عنه غير ابن أبي مليكة، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان
(3)
وقال الحافظ: (مقبول)، ومن قال عنه الحافظ:(مقبول)، فهو عند المتابعة، وقد تابعه عطاء الكيخاراني كما سيأتي - إن شاء الله - في خامس أحاديث (مكارم الأخلاق).
والجملة الأولى من الحديث سيذكرها الحافظ في باب (الترغيب في مكارم الأخلاق) وقد عزاها لأبي داود والتِّرمِذي، وسيأتي الكلام عليها.
(1)
(8/ 415).
(2)
(5/ 556)، (7/ 652).
(3)
"الميزان"(4/ 458)، "تهذيب التهذيب"(11/ 356).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن الله يبغض) هكذا في نسخ "البلوغ" بدون لام، وفي "جامع التِّرمِذي":(ليبغض) باللام، وقد ذكر الشارح أن النسخ جاءت بإثبات اللام وحذفها
(1)
.
والبغض: من صفات الله تعالى التي تُثبت لله تعالى على ما يليق بجلاله كما جاء في الكتاب والسنّة، قال تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]، والمقت أشد البغض
(2)
، وفي الحديث الصحيح:"إن الله تعالى إذا أبغض عبدًا نادى جبريل إني أبغض فلانًا فأبغضه"
(3)
.
قوله: (الفاحش) أي: ذو الفحش في كلامه وخصاله، يقال: فَحُشَ الشيء فُحْشًا مثل قبح قبحًا: إذا جاوز الحد فهو فاحش، وأفحش الرجل: أتى بالفحش، وهو الكلام السيئ فالفاحش: هو الذي يتكلم بالكلام القبيح، ويرسل لسانه بما لا ينبغي من السب والشتم والقذف والكذب وكل كلام يعد من اللغو الذي لا فائدة فيه.
قوله: (البذيءَ) وصف على وزن فعيل، يقال: بذا على القوم يبذو بَذاءً - بالفتح والمد -: سَفِهَ وأفحش في منطقه وإن كان كلامه صدقًا فهو بذيٌّ، وامرأة بذية كذلك، ويجوز سكون الياء وبعدها همزة، وقد ضبطه المنذري بهذا، لكن ذكر ابن الأثير أن الهمز ليس بالكثير
(4)
، وعلى هذا المعنى فيكون تأكيدًا لما قبله، ويؤيد هذا سقوط العطف بينهما، لكن يشكل عليه الحديث الآتي.
وقد ذهب بعض الشراح إلى أن المراد بالبذيء من لا حياء له، والذي يظهر لي - والله أعلم - أن الفحش لفظ عام يطلق على كل ما خرج عن مقداره
(1)
"تحفة الأحوذي"(6/ 140).
(2)
"التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية" ص (85).
(3)
رواه مسلم (2637).
(4)
"النهاية"(1/ 111)، "الترغيب والترهيب"(3/ 453)، "المصباح المنير" ص (41).
حتَّى يُستقبح، وهذا يكون في القول والفعل والوصف، ولهذا يقولون: هو طويل فاحش الطول، واستعماله في القول أكثر، وعلى هذا فالفحش يتعلق بمقدار الكلام وزيادته عن المطلوب، والبذاءة تتعلق بالوصف وهو قبح الكلام وبذاءة اللسان.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الله تعالى يبغض من كان بهذا الوصف السيئ وهو أن يكون الإنسان فاحش القول بذيء الكلام؛ لأن هذه الصفات دليل على نقص الإيمان وعلى التساهل في الكلام وما يترتب عليه، فعلى المؤمن أن يحذر آفات اللسان، فإن اللسان صغير جِرْمُهُ عظيم طاعته وجُرْمُهُ، ومن تكلم في غير نفع ندم، ومن صمت نجا. قال يونس بن عبيد:(ما من الناس أحد يكون لسانه منه على بالٍ إلَّا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله)
(1)
. وقال إبراهيم النخعي: (يهلك الناس في خلتين: فضول المال، وفضول الكلام)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الصمت" ص (70).
(2)
المصدر السابق ص (90).
ما ينبغي للمؤمن أن يتنزه عنه
1512/ 25 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه -رَفَعَهُ-: "لَيسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَانِ، وَلَا اللَّعَانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ". وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في اللعنة)(1977)، وأحمد (6/ 390)، والحاكم (1/ 12) من طريق محمد بن سابق، عن إسرائيل، عن الأعمَش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه).
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه).
وفي إسناده محمد بن سابق التميمي مولاهم، متكلم فيه، فقد وثقه العجلي، وقال يعقوب بن سفيان:(كان شيخًا صدوقًا ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط للحديث)، وقال النَّسائي:(لا بأس به)، وقال أَبو حاتم:(يكتب حديثه ولا يحتج به)، وقواه الإِمام أحمد، وضعفه ابن معين وابن القطان، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقد احتج به الشيخان، وذكر الحافظ أن
البخاري روى له حديثًا واحدًا
(1)
.
لكن في الحديث علة، فقد ضعفه أَبو بكر بن أبي شيبة فقال فيما نقله عنه الخطيب:(إن كان حفظه -يعني محمد بن سابق- فهو حديث غريب)، ثم نقل عن علي بن المديني أنَّه قال عن هذا الإسناد:(هذا منكر من حديث الأعمَش)
(2)
، ولعل التِّرمِذي بكلامه السابق يشير إلى هذا، ولما ترجم الذهبي في "الميزان" لابن سابق عدّ هذا الحديث مما ينكر عليه.
وذكر الخطيب أنَّه رواه ليث بن أبي سليم، عن زبيد اليامي، عن أبي وائل، عن عبد الله إلَّا أنَّه وقفه ولم يرفعه، ولما ذكر الدَّارَقُطني الاختلاف في رفعه ووقفه قال:(الموقوف أصح)
(3)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ليس المؤمن) أي: الكامل الإيمان، فالنفي للكمال لا لأصل الإيمان.
قوله: (بالطعان) صيغة مبالغة من الطعن؛ أي: الكثير الطعن، يقال: طعنت عليه وفيه من باب قتل، ومن باب نفع لغة: قدحت وعبت، وهو طعان في أعراض الناس
(4)
.
فالطعان: هو كثير الوقوع في أعراض الناس بالذم والغيبة ونحوهما.
قوله: (ولا باللعان) صيغة مبالغة من اللعن؛ أي: الكثير اللعن بحيث لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى إلَّا ويقرن ذلك باللعن.
واللعن من الله: الطرد والإبعاد، ومن الخلق: السب والدعاء، لكن مفهوم الصيغة غير مراد؛ لأن اللعن محرم قليله وكثيره، وقد ثبت عن أبي
(1)
"الجرح والتعديل"(7/ 283)، "الثقات"(9/ 61)، "تاريخ بغداد"(5/ 340)، "تهذيب الكمال"(25/ 233)، "الميزان"(3/ 555)، "هدي الساري" ص (439).
(2)
"تاريخ بغداد"(5/ 399).
(3)
"العلل"(5/ 92، 93)، "تاريخ بغداد"(5/ 339).
(4)
"المصباح المنير" ص (373).
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا"
(1)
. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة"
(2)
. وسيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى -.
ولعل صيغة المبالغة فيها إيماء إلى أن الكامل من الناس قلّ أن يخلو عن المنقصة في الكلية؛ لأن غلبة الحال قد تحمل عليه أحيانًا.
• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنَّه ليس من صفات المؤمن الكامل الإيمان أن يكون كثير القدح والعيب في أعراض الناس، وليس من صفات المؤمن الكامل أن يكون كثير الشتم واللعن، بل إن قوة إيمانه تحمله على التحلي بمكارم الأخلاق، والبعد عن سيئها. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه مسلم (2597).
(2)
رواه مسلم (2598).
النهي عن سَبِّ الأموات
1513/ 26 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسبُّوا الأمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم شرحه في "الجنائز" برقم (597) وقد رواه البخاري في آخر كتاب "الجنائز"، باب (ما ينهى من سب الأموات)(1393) من طريق الأعمَش، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها به مرفوعًا.
• الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم سب الأموات والوقوع في أعراضهم، وأن هذا من مساوئ الأخلاق؛ لأن النهي في قوله:"لا تسبوا" للتحريم كما هو الأصل في النهي، وقد استدل بالحديث من منع سب الأموات مطلقًا، سواء أكان الميت مسلمًا أم كافرًا، عدلًا أم فاسقًا، بناءً على أن (أل) للاستغراق.
وقال آخرون: إن الحديث مختص بأموات المسلمين، وأن (أل) في (الأموات) عهدية وليست استغراقية؛ لأن الكفار ممن يُتقرب إلى الله بسبهم، ولأنه قال:"قد أفضوا إلى ما قدموا" وهذا فيه إشعار بأن المراد المسلم.
وذهب فريق ثالث إلى التفصيل في المسألة، وهو أن أموات الكفار يجوز ذكر مساوئهم بشرط ألا يتأذى به قريبه الحي المسلم، فإن كان لا يتأذى بسببه أحد، أو كان الكافر مؤذيًا للمسلمين متعرضًا لحرماتهم فلا مانع من سبه.
وأما المسلم فلا يجوز سبه والوقوع في عرضه؛ لأن له حرمة، وهذا من باب الغيبة، إلَّا إن كان فاسقًا وظهرت مصلحة راجحة في سبه، فإنه يجوز ذكر مساوئه للتحذير منه والتنفير عنه، لا لقصد سب الميت، ولكن لقصد تنفير الأحياء عنه وتحذيرهم منه، وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث أَنس الآتي.
وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياءً أو أمواتًا؛ لأن المصلحة في حفظ السنّة تقتضي ذلك، فإن لم يكن مصلحة وجب الكف عنه؛ لأنه أفضى إلى ما قدم.
فإن قيل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين حديث أَنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت" ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال:"وجبت" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ فقال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"
(1)
.
فالجواب: أن العلماء اختلفوا في هذا الإشكال على أجوبة عدة .. فقيل: إن حديث أَنس رضي الله عنه محمول على ما قبل الدفن، وحديث الباب على ما بعده، وذلك ليتعظ فُسَّاق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أُمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم، وقيل: إن الذي أُثني عليه بالشر كان معلنًا به ولا غيبة له، وقيل: إن النهي متأخر فيكون ناسخًا، وضعفه الحافظ ابن حجر رحمه الله
(2)
.
• الوجه الثالث: أشار الحديث إلى الحكمة التي من أجلها نهي عن سب الأموات، وهي أنهم قد أفضوا ووصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، فلا ينفع سبهم فيهم، كما ينفع في الحي؛ لأن الحي ينزجر ويرتدع عن المعصية إذا انْتُقد فيها ويحذر الناس منه، وأما بعد موته فقد أفضى إلى ما قدم.
والحكمة الثانية: أن سب الأموات قد يفضي إلى إيذاء الأحياء من
(1)
رواه البخاري (1367)، ومسلم (949).
(2)
انظر: "المفهم"(2/ 657)، "فتح الباري"(3/ 258).
أقاربهم، كما في حديث المغيرة:"لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء"
(1)
. ولا يفهم من ذلك جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء كمن لا قرابة له، أو له قرابة ولكن لا يبلغهم ذلك؛ لأن سب الأموات منهي عنه للحكمة الأولى، فإذا أدى إلى أذية الأحياء كان محرمًا من جهتين.
والحكمة الثالثة: أن سب الأموات من باب الغيبة التي وردت الآيات والأحاديث بتحريمها، كما تقدم؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"الغيبة ذكرك أخاك بما يكره" يدخل فيه الحي والميت، وقد بوَّب البخاري في كتابه "الأدب المفرد"، باب (الغيبة للميت)
(2)
. قال ابن بطَّال: (سب الأموات يجري مجرى الغيبة في الأحياء)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم شرحه في "الجنائز" برقم (598).
(2)
(2/ 202).
(3)
"شرح ابن بطَّال على صحيح البخاري"(3/ 354).
ما جاء في التحذير من النميمة
1514/ 27 - عَنْ حُذَيفَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (ما يكره من النميمة)(6056)، ومسلم (105) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن همام قال: كنا مع حذيفة رضي الله عنه، فقيل له: إن رجلًا رفع الحديث إلى عثمان، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنَّة قتات" هذا لفظ البخاري.
ورواه مسلم -أيضًا - (168) من طريق واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه بلفظ:"لا يدخل الجنَّة نمّام".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يدخل الجنَّة) تقدم الكلام على هذه الجملة عند الحديث و (1464) من هذا الجزء.
قوله: (قتات) بالفتح والتشديد صيغة مبالغة، وأُتي بصيغة المبالغة لعظم الوعيد، وإلا فأصل النَّمِّ منهي عنه؛ لأنه من الكبائر
(1)
، كما سيأتي، والقتات من قَتَّ يَقُتُّ قتًا: إذا نمَّ، فالقتات هو النمام، كما في الرواية الأخرى
(2)
.
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 374).
(2)
"اللسان"(2/ 70).
وقال ابن الأثير: قَتَّ الحديث: إذا زوَّره وهيأه وسواه
(1)
. وعلى هذا فالقتات والنمام بمعنى واحد، وهو الذي ينقل الكلام من شخص إلى آخر بقصد الإفساد، وقيل: بينهما فرق لطيف، وهو أن النمام يكون مع القوم يتحدثون، فينم عليهم، ويكشف من حديثهم ما يكرهون كشفه، والقتات هو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون به، ثم ينم وينقل حديثهم
(2)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم النميمة وعظم شأنها وأنها من كبائر الذنوب؛ لما فيها من الإفساد وما يترتب عليها من المضار، فهي تزيل كل محبة، وتبعد كل مودة، وتقطع التآخي والتآلف، وتجلب الخصام والنفور، وتذكي نار العداوة بين المتصافيين، وتفرق المجتمعات وتفسدها، وكلما عظم أمرها واشتد خطرها، كان إثمها أعظم وجرمها أكبر، فهي بين الأقارب وذوي الأرحام والجيران أشد منها بين الناس البعيدين.
وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمها والوعيد في حق متعاطيها، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، وقال تعالى: " {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم: 11]، وقال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله"
(3)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمدًا على قال: "ألا أنبئكم ما العَضْهُ؟ النميمة القالة بين الناس"
(4)
. والعَضْهُ: بفتح العين وسكون الضاد بوزن الوجه على الأشهر في كتب الحديث، مصدر عَضَهَ يَعْضَهُ عَضْهًا بمعنى
(1)
"النهاية"(4/ 11).
(2)
انظر: "فتح الباري"(10/ 473).
(3)
رواه البخاري (1289)، ومسلم (439).
(4)
رواه مسلم (2606).
كذب وسحر ونمَّ، فالمراد بها هنا السحر، ويجوز كسر العين وفتح الضاد على وزن العِدَة - وهو الأشهر في كتب اللغة - قال الكسائي: العِضَة: الكذب والبهتان
(1)
.
وقوله: (القالة) تفسير للنميمة؛ أي: نقل القول وإيقاع الخصومة بين الناس، وهذا يدل على أن النميمة نوع من أنواع السحر في المعنى؛ لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين القلوب والإفساد بين الناس، ولهذا ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث في كتاب "التوحيد" في باب (بيان شيء من أنواع السحر).
والواجب على المؤمن أن يحذر أشد الحذر من هذه الخصلة الذميمة، وألا يأذن لأحد أن يتكلم بالنميمة في مجلسه، فضلًا أن يقع فيها هو، فقد قال الحسن البصري:(من نَمَّ إليك نَمَّ عليك)
(2)
، وعليك ألا تصدق نمامًا لأنه فاسق، وأن تنهاه وتنصحه وتقبح فعله وأن تبغضه في ذات الله تعالى، وألا تظن بأخيك الغائب سوءًا، فإن الظن أكذب الحديث. والله تعالى أعلم.
(1)
"مختار الصحاح" ص (439).
(2)
"الإحياء"(3/ 166).
ما جاء في فضل من كَفَّ غضبه
1515/ 28 - عَنْ أنَّسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الأَوْسَطِ".
1516/ 29 - وَلَهَ شَاهِدٌ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عِنْدَ ابْنِ أبِي الدُّنْيَا.
• الكلام عليهما من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
حديث أَنس رضي الله عنه رواه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 4) والطبراني في "الأوسط"(189/ 2) من طريق هلال بن بشر قال: حدَّثنا عبد السلام بن هاشم البزاز، عن خالد بن بُرْدٍ، عن قَتَادة، عن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه، ومن حفظ لسانه ستر الله عورته".
وهذا سند ضعيف جدًّا؛ لضعف خالد بن برد، ولما ذكر البخاري في "تاريخه" هذا الحديث في ترجمة خالد بن برد قال:(لا يتابع عليه)
(1)
، وقال العقيلي: في حديثه اضطراب. وقال الذهبي: (مجهول، وعنه عبد السلام بن هاشم بخبر منكر). وقال في ترجمة عبد السلام: (الأعور، شيخ مقل، حدث بعد المائتين، قال أَبو حاتم: ليس بالقوي، وقال عمرو بن علي الفلاس: لا أقطع على أحد بالكذب إلَّا عليه)
(2)
.
(1)
"التاريخ الكبير"(3/ 141).
(2)
"الميزان"(1/ 628)(2/ 619).
ورواه العقيلي -أيضًا- من طريق سليمان بن داود والحسن بن بحر اللؤلؤي، قالا: حدَّثنا عبد السلام بن هاشم، قال: حدَّثنا خالد بن برد، عن أبيه، عن أَنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وزاد:"من اعتذر إلى أخيه قبل الله معذرته" قال العقيلي: (هذا أولى).
ورواه ابن أبي شيبة في "مسنده" كما في "المطالب العالية"(13/ 178)، - ومن طريقه أَبو يعلى (4338)، والبيهقي في "الشعب"(14/ 416 - 417) - عن زيد بن الحباب، عن الربيع بن سليم، عن أبي عمرو - وهو مولى أَنس بن مالك - أنَّه سمع أَنس بن مالك رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خزن لسانه ستر الله عورته، ومن كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل الله منه عذره".
وهذا سند ضعيف جدًّا، في إسناده الربيع بن سليم الكوفي، قال الأزدي:(منكر الحديث)، وقال ابن معين:(ليس بشيء)، وقال أَبو حاتم:(شيخ)، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(1)
.
وفيه أَبو عمرو مولى أَنس بن مالك غير معروف، ذكره ابن أبي حاتم بهذه الرواية ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا
(2)
. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر)
(3)
.
والحديث له طرق أخرى كلها ضعيفة، وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" وقال:(هذا حديث غريب، وفي إسناده نظر)
(4)
.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت وآداب اللسان" رقم (21) من طريق المغيرة بن إبراهيم، عن هشام بن
(1)
"الجرح والتعديل"(3/ 463)، "الثقات"(6/ 299).
(2)
"الجرح والتعديل"(3/ 463)(9/ 410)، "بيان الوهم والإيهام"(4/ 627).
(3)
"العلل"(1919) وقد وقع في سياق الإسناد عند ابن أبي حاتم اختلاف فراجعه.
وانظر: "المطالب العالية"(13/ 179).
(4)
"تفسير ابن كثير"(2/ 100).
إبراهيم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كف لسانه ستر الله عز وجل عورته، ومن ملك فضبه وقاه الله عز وجل عذابه، ومن اعتذر إلى الله عز وجل قَبِل الله عذره".
وهذا سند ضعيف جدًّا، فيه هشام بن أبي إبراهيم، ولا يحتمل تفرده عن أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما. وقد ترجم له البخاري في "تاريخه"
(1)
، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"
(2)
باسم هشام بن أبي إبراهيم، وقد ذكر المحقق أنَّه في إحدى النسخ:(هشام بن إبراهيم). قال عنه أَبو حاتم: (مجهول)، وكذا قال الذهبي
(3)
، ولما عزاه العراقي في "تخريج الإحياء" إلى ابن أبي الدنيا قال:(إسناده حسن)
(4)
، وهذا فيه نظر؛ لما تقدم.
وللحديث شاهد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه كف الله عز وجل عنه عذابه
…
" رواه البيهقي في "الشعب" (14/ 418).
وفيه القاسم بن مهران قال عنه الحافظ: (شيخ مستور)، وقال في "تعجيل المنفعة":(ليس بمشهور)
(5)
، وقال الذهبي:(لا يعرف)
(6)
.
• الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل من كف غضبه عند حدوث أسبابه ودواعيه ومنعه من الاسترسال إلى طلب الانتقام ورد الفعل والتشفي، وقد مضى الكلام في هذا. والله تعالى أعلم.
(1)
(8/ 192).
(2)
(9/ 53).
(3)
"الميزان"(4/ 295).
(4)
"الإحياء"(3/ 110).
(5)
ص (341).
(6)
"الميزان"(3/ 380).
ما جاء في بعض مساوئ الأخلاق
1517/ 30 - عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ خِبٌّ، وَلَا بَخِيلٌ، وَلَا سَيِّئ المَلَكَةِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفَرَّقَهُ حَدِيثَينِ، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث فرّقه التِّرمِذي في حديثين، الأول في "أَبواب البر والصلة"، باب (ما جاء في الإحسان إلى الخدم)(1946) من طريق همام بن يحيى، عن فرقد السَّبَخِي، عن مرة، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنَّة سيئ الملكة".
قال التِّرمِذي: (هذا حديث غريب، وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قبل حفظه).
وروى الحديث الثاني في باب (ما جاء في البخل)(1963) من طريق صدقة بن موسى، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنَّة خِبٌّ ولا منَّان ولا بخيل".
قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن غريب).
والحديث مداره على فرقد بن يعقوب السبخي
(1)
، وقد ضعفه أيوب وابن معين والبخاري وأَبو حاتم والنَّسائي ويعقوب بن شيبة وآخرون
(2)
.
(1)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (2367).
(2)
"تهذيب التهذيب"(8/ 236).
وقال عبد الله ابن الإِمام أحمد: سألت أبي عن فرقد السبخي، فقال: ليس هو بقوي في الحديث، قلت: هو ضعيف؛ قال: هو ليس بذاك
(1)
. وذكر ابن عدي في "الكامل" هذا الحديث من مناكير فرقد
(2)
، وفي الحديث الثاني صدقة بن موسى الدقيقي أَبو المغيرة ضعيف أيضًا. قال ابن معين:(ليس حديثه بشيء). وقال التِّرمِذي: (ليس عندهم بذاك القوي)، وقال أَبو حاتم:(لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بقوي). وقال ابن حبان: (كان شيخًا صالحًا إلَّا أن الحديث لم يكن من صناعته)
(3)
.
وفي الحديث علة أخرى وهي الانقطاع؛ لأن مرة الطيب لم يدرك أبا بكرٍ رضي الله عنه، فقد قال البزار:(روايته عن أبي بكر مرسلة، ولم يدركه) وقال أَبو زرعة وأَبو حاتم: (حديثه عن عمر مرسل)
(4)
. وقال أَبو حاتم مرةً: (لم يدرك عمر)
(5)
. وقال العلائي: (وقد روى عن أبي بكر، فيكون مرسلًا أيضًا)
(6)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يدخل الجنَّة) تقدم الكلام على هذه الجملة عند الحديث (1464) من هذا الجزء.
قوله: (خب) بفتح الخاء وكسرها
(7)
وتشديد الباء الموحدة، هو الرجل الخداع الذي يفسد بين الناس بالخداع، وفعله خَبَّ خَبًّا من باب قتل، ورجل خَبٌّ من التسمية بالمصدر.
قوله: (ولا سيئ الملكة) بفتح الميم واللام بمعنى المُلك، وهو مصدر مَلَكَهُ يَمْلِكُهُ مِلْكًا - مثلثة - ومَلَكَةً - محركة - ومَمْلُكَةً بضم اللام أو يثلث: احتواه قادرًا على الاستبداد به
(8)
. قال ابن الأثير: (يقال: فلان حسن الملكة
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"(1/ 384). وانظر: "الموقظة" للذهبي ص (35).
(2)
(6/ 27).
(3)
"الجرح والتعديل"(4/ 432)، "المجروحين"(1/ 473)، "تهذيب التهذيب"(4/ 367).
(4)
"تهذيب التهذيب"(10/ 80).
(5)
"المراسيل" ص (208).
(6)
"تحفة التحصيل" ص (299).
(7)
"مختار الصحاح" ص (167).
(8)
"ترتيب القاموس"(4/ 281).
إذا كان حسن الصنع إلى مماليكه، وسيئ الملكة؛ أي: الذي يسيء صحبة المماليك)
(1)
.
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من هذه الأخلاق السيئة والصفات الذميمة.
الصفة الأولى: أن يكون الإنسان خداعًا محتالًا، لا يعيش إلَّا بالخديعة، ولا يمشي إلَّا بالحيلة، فيأكل أموال الناس بطرق من الخداع، من الكذب والتدليس، أو يفسد بين المرء وزوجه أو بين الناس عمومًا، أو يخادع الناس بالمصاهرة منهم، فيظهر الدين والغنى والخصال المرغبة في إجابة خطبته وهو ليس كذلك.
الثانية: أن يكون الإنسان بخيلًا، والبخل صفة ذميمة لا تجتمع مع الإيمان، وهو دليل على سوء الظن بالله تعالى، وعلى قلة العقل، وسوء التدبير، وما أحسن قول حبيش بن مُبَشِّر الثقفي الفقيه:(قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلًا صالحًا بخيلًا)
(2)
.
الثالثة: أن يكون مسيئًا إلى مماليكه ومن تحت يده من عَمالة ونحوهم، فيكلفهم من العمل ما يشق عليهم، أو يترك الإنفاق عليهم، أو يماطلهم في القيام بحقوقهم وأداء أجرتهم، ومثل المماليك البهائم التي تحت يده، فيقصر عليها في إطعامها وسقيها، أو عدم وضعها في مكان يحميها من شدة الحر وشدة البرد، وقد مضى ما يتعلق بهذا في "النفقات". والله تعالى أعلم.
(1)
"النهاية"(4/ 358).
(2)
"الإحياء"(3/ 256).
ما جاء من الوعيد في تَسَمُّعِ حديث الآخرين
1518/ 31 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ فِي أُذُنيهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". يَعْنى: الرَّصَاصُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "التعبير"، باب (من كذب في حُلُمِهِ)(7042) من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من تحلم بحُلُمٍ لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صُبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صوَّر صورة عذب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ".
• الوجه الثاني: في شرح الفاظه:
قوله: (من تسمّع) هكذا في نسخ "البلوغ، والذي في البخاري: (استمع)، ثم رأيت لفظ (تسمع) عند الإِمام أحمد في "المسند"
(1)
. وتسمع: فعل ماض من باب التفعل الذي يفيد معنى القصد والتكلف، والمعنى: من اجتهد وتكلف في استماع حديث قوم، بحيث يكون مختفيًا مسترقًا.
قوله: (وهم له كارهون) جملة حالية، وصاحب الحال فاعل (تَسَمَّعَ)، ويجوز أن يكون صفة لقوم، والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف؛ لأن الكراهة حاصلة لا محالة، وخرج بهذا الوصف من كان راضيًا فلا يأتي فيه
(1)
(4/ 90).
هذا الوعيد، أما من جهل ذلك فيمتنع حسمًا للمادة
(1)
.
قوله: (يعني الرصاص) هذا تفسير من الحافظ إذ ليس في سياق الحديث.
قوله: (صب) بضم الصاد مبنيًّا لما لم يسم فاعله؛ أي: أفرغ وألقي.
قوله: (الآنك) بمد الهمزة وضم النون، هو الرصاص المذاب.
• الوجه الثالث: في الحديث وعيد شديد لمن يسمع حديث قوم وهم لا يحبون أن يسمع حديثهم، وأن هذا من الأخلاق السيئة التي هي من كبائر الذنوب لثبوت هذا الوعيد العظيم، ومثل هذا لا يكون إلَّا على كبيرة، والجزاء من جنس العمل؛ لأنه لما تسمع بأذنه عوقب فيها، وتعرف الكراهة بالتصريح أو بالقرائن كإغلاق الباب أو خفض الصوت.
وهذا من أدب المجالسة ومن حماية الإسلام لحقوق الناس، والغالب أن هذا الخلق الذميم يكون في حال المفاجأة عندما يتناجى اثنان، أو يتسمع كلام الناس في وسائل الاتصال كالهاتف. والله تعالى أعلم.
(1)
"فح الباري"(12/ 428)، "دليل الفالحين"(4/ 382).
فضل من شغله عيبه عن عيوب الناس
1519/ 32 - عَنْ أنَّسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ". أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بإسْنادٍ حَسَنٍ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البزار (12/ 348)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 81) من طريق الوليد بن المهلب، ثنا النضر بن مُحْرِز الأزدي، عن محمد بن المنكدر، عن أَنس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته العضباء، وليست بالجدعاء، فقال: "يا أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب
…
" وساق الحديث إلى أن قال: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وتواضع لله في غير منقصة
…
" وذكر تمام الحديث.
وهذا سند ضعيف جدًّا، فيه الوليد بن المهلب الأزدي، قال عنه ابن عدي:(أحاديثه فيها بعض النكرة). وقال الذهبي: (لا يعرف، وله ما ينكر)
(1)
، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(2)
.
وفيه النضر بن محرز، قال فيه أَبو حاتم:(مجهول). وقال ابن حبان: (منكر الحديث جدًّا، لا يجوز الاحتجاج به، وهو الذي روى عن محمد بن المنكدر عن أَنس
…
) وذكر الحديث
(3)
. وقال الذهبي: (هذا حديث واهي
(1)
"الكامل"(7/ 81)، "الميزان"(4/ 349)، وانظر:"لسان الميزان"(8/ 391).
(2)
(9/ 226).
(3)
"المجروحين"(2/ 392).
الإسناد، فالنضر قال أَبو حاتم: مجهول، والوليد لا يعرف، ولا يصح لهذا المتن إسناد)
(1)
. وقال الحافظ ابن حجر: (المتن موضوع، وهو من كلام الحسن)
(2)
، وبهذا يتبين أن حكم الحافظ عليه - هنا - بحسن الإسناد ليس في محله.
• الوجه الثاني: في هذا الحديث توجيه رشيد وحث للإنسان على أن يشغل وقته بإصلاح نفسه وذلك بالتحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن رذائل الذنوب والمعوقات عن السير إلى الله تعالى، والاستعداد للدار الآخرة، ولا ريب أن من تخلى عن مساوئ الأخلاق فإنه يتحلى بمكارم الأخلاق.
هذا هو المنهج السليم والسلوك المستقيم الذي يسلم فيه الإنسان من الاشتغال بعيوب الناس وتتبّع عوراتهم. والحديث وإن كان إسناده ضعيفًا جدًّا لكن معناه صحيح، دلّت عليه عمومات الشريعة.
ولابن القيم كلمة قيمة يوضح فيها صفات السائر إلى الله وإلى الدار الآخرة فيقول: (طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة - بل وإلى كل علم، وصناعة، ورئاسة بحيث يكون رأسًا في ذلك، مقتدى به فيه - يحتاج أن يكون شجاعًا مقدامًا، حاكمًا على وهمه، غير مقهور على سلطان تَخَيُّله، زاهدًا في كل ما سوى مطلوبه، عاشقًا لما توجه إليه، عارفًا بطريق الوصول إليه، والطرق القواطع عنه، مقدام الهمة، ثابت الجأش، لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم، ولا عذل عاذل، كثير السكون، دائم الفكر، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائمًا بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تستفزه المعارضات، شعاره الصبر، وراحته التعب، محبًّا لمكارم الأخلاق، حافظًا لوقته، لا يخالط الناس إلَّا على حذر، كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم، قائمًا على نفسه بالرغبة والرهبة، طامعًا في نتائج
(1)
"سير أعلام النبلاء"(13/ 557).
(2)
"مختصر زوائد مسند البزار"(2/ 455).
الاختصاص علي بني جنسه، غير مرسلٍ شيئًا من حواسه عبثًا، ولا مسرحًا خواطره في مراتب الكون.
وملاك ذلك هجر العوائد، وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الفوائد" ص (278).
ما جاء في ذم التكبُّر
1520/ 33 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَال فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ". أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أحمد (10/ 200)، والبخاري في "الأدب المفرد"(549)، والحاكم (1/ 60) من طريق يونس بن القاسم الحنفي اليمامي، سمعت عكرمة بن خالد المخزومي يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). أما الذهبي فقال: (على شرط مسلم)، وهذا فيه نظر، فإن يونس بن القاسم لم يخرج له الشيخان شيئًا من روايته عن عكرمة بن خالد، وإنما روى له البخاري في "الأدب"
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من تعاظم نفسه) لفظ الحاكم: "ما من رجل يتعاظم" وصيغة (تفاعل) ليست على بابها، وإنَّما هي من باب فَعَلَ مثل: توانيت بمعنى وَنَيتُ مع المبالغة، فتعاظم بمعنى عَظُمَ في نفسه.
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(32/ 537).
وعند أحمد والبخاري في "الأدب المفرد": "من تعظم" والمعنى: من تكبّر واعتقد في نفسه أنَّه عظيم يستحق التعظيم فوق ما يستحق غيره، وهذا التعاظم منشؤه من الكبر الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير، والكبر نوعان: كبر على الحق، وكبر على الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الكبر بطر الحق، وغمط الناس"
(1)
.
قوله: (واختال في مشيته) أي: تبختر وأظهر التكبّر.
• الوجه الثالث: في الحديث ذم التكبّر والتعاظم، وأن هذا من مساوئ الأخلاق التي ينبغي للمؤمن أن يتنزّه عنها، وأن يتصف بالتواضع ولين الجانب، وأن يعرف قدر نفسه، وأن يتأمل عيوبه، والكبر خلق مذموم، جعل الله تعالى جزاءه الطرد من رحمته. قال صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"
(2)
، وعن حارثة بن وَهْب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " .. ألا أخبركم بأهل النار؛ كل عُتُلٍّ جَوَّاظ مستكبر"
(3)
وعن أبي سعيد وأَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العِزُّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته"
(4)
، إن المتكبر بعيد عن الخير، قريب من الشر، لا ينقاد للحق، ولا يكظم الغيظ، قد تسبب في بغض الناس له وتفرقهم عنه. قال الحسن: "من خَصَفَ نعليه ورَقَعَ ثوبه، وعفَّر وجه لله عز وجل فقد برئ من الكبر)
(5)
. وقال محمد بن الحسين بن علي: (ما دخل قلب امرئ شيءٌ من الكبر قط إلَّا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك، قلّ أو كَثُر)
(6)
.
وقال الأحنف بن قيس: (عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين)
(7)
.
ولابن القيم كلمة قيمة في منشأ الكبر وصفات المتكبر فهو يقول: (الكبر
(1)
رواه مسلم (91).
(2)
تقدم تخريجه في الذي قبله.
(3)
رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853).
(4)
رواه مسلم (2620).
(5)
"التواضع"(256).
(6)
"الإحياء"(3/ 359).
(7)
"التواضع" ص (251)، "الإحياء"(3/ 358).
أثر من آثار العُجْبِ والبغي من قلبٍ قد امتلأ بالجهل والظلمِ، وترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شَزَرٌ، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنَّه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقًّا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، ولا يزداد من الله إلَّا بعدًا، ومن الناس إلَّا صغارًا أو بغضًا)
(1)
.
وبما أن الكبر ضده التواضع، فإنه سيأتي الكلام على التواضع في باب "الترغيب في مكارم الأخلاق" - إن شاء الله - والله تعالى أعلم.
(1)
"الروح" ص (316).
ما جاء في ذَمِّ العَجَلَةِ
1521/ 34 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيطَانِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَسَن.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في التأني والعجلة)(2012) من طريق عبد المهيمن بن عبَّاس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأَناةُ من الله، والعجلة من الشيطان".
وقد اختلفت نسخ التِّرمِذي في الحكم على هذا الحديث ففي بعضها: (حسن غريب) وهو الذي ذكره المزي
(1)
، وفي بعضها:(هذا حديث غريب، وقد تكلم أهل العلم في عبد المهيمن بن عبَّاس بن سهل وضعفه من قبل حفظه).
فالحديث ضعيف جدًّا من أجل عبد المهيمن، فقد قال البخاري وأَبو حاتم:(منكر الحديث). وقال النَّسائي: (ليس بثقة). وفي موضع آخر: (متروك الحديث). وقال الساجي: (عنده نسخة عن أبيه عن جده فيها مناكير)
(2)
.
وقد جاء معنى هذا الحديث فيما رواه أَبو يعلى (4/ 206)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 104) من طريق اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(4/ 129).
(2)
"تهذيب التهذيب"(6/ 383).
سعد بن سنان، عن أَنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"التأني من الله، والعجلة من الشيطان".
وهذا إسناد ضعيف جدًّا، فيه سعد بن سنان أو سنان بن سعد متكلم فيه، فقد ضعفه الإِمام أحمد. وقال النَّسائي:(منكر الحديث). وقال ابن معين: "ثقة)، ووثقه العجلي. وقال الإِمام أحمد:(روى خمسة عشر حديثًا منكرة كلها، ما أعرف منها واحدًا)، وقال أيضًا:(تركت حديثه، حديثه مضطرب، وقال: يشبه حديثه حديث الحسن، لا يشبه أحاديث أَنس). قال الحافظ ابن رجب: (مراده أن الأحاديث التي يرويها عن أَنس مرفوعة إنما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسيله)
(1)
، وقال الحافظ:(صدوق له أفراد).
وروى الحديث الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(2/ 687) من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا مرسلًا.
• الوجه الثاني: في الحديث ذم العجلة والتسرع في الأمور دون روية أو تثبت، وبيان أنَّها من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان يروج شره على الإنسان عند العجلة من حيث لا يشعر، وضد العجلة الأناة والتأني والتبين، وهذه أخلاق كريمة وصفات عالية، ويكفيها شرفًا وفضلًا أن الله تعالى يحب من اتصف بها ففي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأَنَاةُ"
(2)
.
إن في العجلة كثرة الزلل، والوقوع في الخطأ وما لا تُحمد عقباه، وفيها الندم على ما قد يقع على غير الوجه المطلوب حين لا ينفع الندم، والعجلة دليل السفه، وخفة الحلم، وضعف العقل.
فعلى المؤمن أن يحذر هذا الخلق السيئ، ويعود نفسه على التأني في
(1)
"شرح العلل"(2/ 758)، "تهذيب الكمال"(10/ 265).
(2)
رواه البخاري (87)، ومسلم (23)(17)، (26)(18).
طلب الأشياء أو الحكم عليها، وما أحوج المؤمن في هذا الزمان إلى الأناة عند نقل الأخبار أو الحكم على ما يسمع، فكم من أناس زلّت أقدامهم في هذا الباب نتيجة العجلة، وعدم الروية والنظر.
يقول ابن حبان: (إن العاجل لا يكاد يَلحق، كما أن الرافق لا يكاد يُسبق، والساكت لا يكاد يندم، ومن نطق لا يكاد يسلم، وإن العَجِلَ يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، وَيحْمَدُ قبل أن يُجَرِّبَ، ويَذُمُّ بعد ما يَحْمَدُ، يَعْزِمُ قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِلُ تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكنِّي العجلة: أم الندامات)
(1)
.
إن العجلة تؤثر على حياة الإنسان ونشاطاته في اتجاهين:
الأول: الاتجاه المادي، حيث تفوِّت على المرء كثيرًا من المصالح، أو تؤدي به إلى أمراض ومصائب وإلى كوارث وخسائر متفاوتة في جسمه وولده وماله ومقتنياته، فالعجلة في تناول الأشياء، أو في مشيه، أو في قيادته لسيارته، أو في صنعه لطعامه أو في معاقبته لولده، أو في كلامه ومخاطبته، كل ذلك له آثار مادية بالغة مشهودة.
الثاني: الاتجاه النفسي، حيث تفوت العجلة على الإنسان الراحة النفسية والطمأنينة والاستقرار، والعجلة دائمًا في ذاتها وفي أثرها تؤدي إلى قلق الإنسان وانزعاجه، وتورث الأسف والأسى في مشاعره وأحاسيسه، مما يقوض صحة الإنسان النفسية واستقراره الداخلي، ومن أهم الأعراض النفسية المترتبة على العجلة الندامة والأسف بعد فوات الأوان، وهو مرض يعرض لكل الناس بقلة وكثرة
(2)
.
وإذا كانت العجلة طبعًا في الإنسان وسجية له أمكن أن يغير ذلك إلى الرفق والتأني، وذلك بكفِّ النفس عن العجلة، وردعها عن السرعة، وتعويدها على التروي والأناة والاستفادة من المواقف والمناسبات في مثل ذلك، ثم
(1)
"روضة العقلاء" ص (216).
(2)
انظر: "العجلة" ص (17).
يتأمل ما في الرفق من المصالح وما في العجلة من المفاسد، ومحبةُ الله ورسوله لمن اتصف بالحلم والأناة فيها أعظم الدفع والحفز للالتزام بهما والتربي عليهما
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
المصدر السابق ص (26).
ما جاء في ذم سوء الخلق
1522/ 35 - عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشؤْمُ: سُوءُ الخُلُقِ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْف.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أحمد (41/ 99)، والطبراني في "الأوسط"(5/ 183) من طريق أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن عبيد قال: قالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ضعيف. قال أحمد: (ليس بشيء). وقال أَبو داود: (سُرق له حلي، فأنكر عقله). وقال النَّسائي وأَبو حاتم: (ضعيف)، وقال الدَّارَقُطني:(متروك)، وفي موضع آخر:(ضعيف)، وقال ابن عدي لما ساق جملة من مناكيره ومنها حديث الباب:(ولأبي بكر بن مريم غير ما ذكرت من الحديث، والغالب على حديثه الغرائب، وقلّ ما يوافق عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه)
(1)
.
وفي الحديث علة أخرى وهي الانقطاع، فإن حبيب بن عبيد وهو الرحبي الحمصي لم يسمع من عائشة رضي الله عنها
(2)
.
(1)
"الكامل"(2/ 40)، "تهذيب التهذيب"(12/ 33)، "الجامع في الجرح والتعديل"(3/ 354).
(2)
"الجرح والتعديل"(3/ 105).
ورواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(2) من طريق محمد بن مصعب القرقساني، عن حبيب بن عبيد - قال: حسبت أنَّه ذكر معه حكيم بن عمير - عن عائشة رضي الله عنها.
ولما ذكر الدَّارَقُطني هذا الاختلاف قال: (والقول الأول أصح)
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الشؤم) بضم الشين وسكون الهمزة، وقد تسهل وتبدل بالواو، ضد اليُمن والبركة.
قوله: (سوء الخلق) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الخلق السيئ، وهو من باب الحصر المجازي؛ أي: معظم الشؤم سوء الخلق، مثل: البر حسن الخلق، الحج عرفة، الدين النصيحة، على أحد الوجهين، كما سيأتي إن شاء الله.
وسوء الخلق: هو الوصف المضاد لحسن الخلق، وسوء الخلق يقوم على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب.
• الوجه الثالث: هذا الحديث وإن كان ضعيفًا لكن معناه صحيح، وهو أن الخلق السيئ شؤم على صاحبه وعذاب عليه وعلى من حوله من الأهل والأولاد والجيران والأصدقاء والزملاء، فهو يضر نفسه ويضر غيره، قد كَثُر معادوه، وقلّ مصافوه. قال بعض البلغاء:(الحَسَنُ الخلق من نفسه في راحة، والناس منه في سلامة، والسعى الخلق الناس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء)
(2)
.
وقد يتغير حسن الخلق والوطَاءِ إلى الشراسة والبذاء لأسباب عارضة، وأمور طارئة، تجعل اللين خشونة، والوطَاءَ غلظة، والطلاقة عبوسًا، ومن هذه الأسباب:
1 -
الولاية التي تُحْدِثُ في الأخلاق تغيرًا، وعلى الخُلطاء تنكرًا، إما من لؤم طبع، وإما من ضيق الصدر.
(1)
"العلل"(14/ 322، 323).
(2)
"أدب الدنيا والدين" ص (207).
2 -
العزل، فمن عُزل من عمل أو وظيفة فقد يسوء خلقه، ويضيق صدره، إما لشدة أسفٍ، أو لقلة صبر.
3 -
الغنى، فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرًا، وتسوء طرائقه أشرًا.
4 -
الفقر، فقد يتغير به الخلق، إما أنفة من ذل الاستكانة، أو أسفًا على فائت الغنى.
5 -
الهموم التي تُذْهِلُ اللُّبَّ، وتشغل القلب، فلا تتبع الاحتمال، ولا تقوى على صبر.
6 -
الأمراض التي يتغير بها الطبع، كما يتغير الجسم.
7 -
علوُّ السن، وحدوث الهَمِّ لتأثيره في البدن وأخلاق النفس
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "أدب الدنيا والدين" ص (259 - 211).
ما جاء في التحذير من كثرة اللعن
1523/ 36 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّعَّانِين لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة والآداب"، باب (النهي عن لعن الدواب وغيرها)(2598) من طريق زيد بن أسلم وأبي حازم، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن اللعانين) جمع لعان صيغة مبالغة، ومعناها: كثير اللعن، وذكرت هذه الصيغة دون اسم الفاعل اللاعن؛ لأن المؤمن قد يلعن من أمر الشرع بلعنه، وقد يقع منه اللعن فلتة وندرة ثم يراجع
(1)
.
قوله: (شفعاء) جمع شفيع اسم فاعل من شفع في الأمر: إذا أعان صاحبه في تحصيل مطلبه ممن هو عنده، والمعنى: أن اللعانين لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار.
قوله: (ولا شهداء) جمع شهيد بمعنى شاهد، والمعنى: أن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شهداء على الأمم بتبليغ رسلهم لهم ما أرسلوا به.
(1)
انظر: "المفهم"(5/ 580).
قوله: (يوم القيامة) ظرف متعلق بالفعل قبله، فيدل على أن نفي الشفاعة والشهادة مراد به يوم القيامة، فإن كان متعلقًا بالشفاعة وحدها احتمل أن يراد بنفس الشهادة: الشهادة في الدنيا، بمعنى لا تقبل شهادتهم؛ لأن الإكثار من اللعن دليل على التساهل في أمور الدين، وعلى هذا يكون المراد نفي الشهادة في الدنيا والآخرة، واحتمل معنى ثالث وهو أنهم لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله
(1)
.
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من كثرة اللعن، وبيان أن اللعانين ليس لهم منزلة عند الله تعالى يوم القيامة، فلا تقبل شفاعتهم في إخوانهم لدخول الجنَّة، ولا تقبل شهادتهم على الأمم السابقة في أن رسلهم بلغوا الرسالة.
فعلى المؤمن أن يحذر من هذا الخلق السيئ وأن يطهر لسانه من اللعن والسب والشتم؛ لأنه قد استهان كثير من الناس بلفظ اللعن، فصار يصدر لأقل سبب، بل من الناس من يلعن الآدمي والحيوان والجماد، وكل هذا سببه اعتياد اللسان على اللعن، إما من عدم المبالاة، أو من الجهل بما يترتب عليه، وقد عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأن لعن المؤمن فقال:"لعن المؤمن كقتله"
(2)
يقول القرطبي: (وقوله: "لعن المؤمن كقتله" أي: في الإثم، ووجهه: أن من قال لمؤمن: لعنه الله؛ فقد تضمن قوله ذلك إبعاده عن رحمة الله تعالى التي رحم بها المسلمين، وإخراجه من جملتهم في أحكام الدنيا والآخرة، ومن كان كذلك فقد صار بمنزلة المفقود عن المسلمين بعد أن كان موجودًا فيهم، وإذا لم يُنْتَفَعُ بما انتفع به المسلمون، ولا انتفعوا به، فأشبه ذلك قتله، وعلى هذا فيكون إثم اللاعن كإثم القاتل، غير أن القاتل أدخل في الإثم؛ لأنه أفقد المقتول حسًّا ومعنًى، واللاعن أفقده معنًى، فإثمه أخف منه، لكنهما قد اشتركا في مطلق الإثم، فصدق عليه أنَّه مثله، والله أعلم)
(3)
.
(1)
"البدر التمام"(5/ 315).
(2)
رواه البخاري (6652)، ومسلم (176) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(3)
"المفهم"(1/ 314 - 315).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"خذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونة" قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد
(1)
. فانظر كيف أَدَّبَ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة وعاقبها بحرمانها من الانتفاع بناقتها لما لعنتها
(2)
، وعلل لذلك بأنها ناقة ملعونة، فما يدل على عظم هذا الأمر. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه مسلم (2595).
(2)
انظر: "المفهم"(6/ 580).
التحذير من عيب الشخص بذنبه
1524/ 37 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "صفة القيامة والرقائق والورع"(2505) عن أحمد بن منيع قال: حدَّثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
قال التِّرمِذي: (قال أحمد: من ذنب قد تاب منه، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل
…
).
فالحديث في سنده انقطاع كما ذكر التِّرمِذي، وصرح به الحافظ، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (خالد بن معدان عن معاذ بن جبل مرسل، لم يسمع منه، وربما كان بينهما اثنان)
(1)
.
لكن ليست علته الانقطاع فحسب، بل هو موضوع؛ لأن في سنده محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني ضعفه أحمد وأَبو حاتم. قال أحمد:
(1)
"المراسيل" ص (52).
(ضعيف الحديث، ما أراه يُسوى شيئًا). وقال أَبو حاتم: (ليس بالقوي)
(1)
. وقال عنه ابن معين: (ليس بثقة)، وفي رواية:(يكذب)، وقال أَبو داود:(كذاب)، وقال النَّسائي:(متروك)، وقال الدَّارَقُطني:(لا شيء)
(2)
.
وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به محمد بن الحسن)
(3)
.
• الوجه الثاني: هذا الحديث وإن كان بهذا الوصف لكن معناه صحيح، وهو التحذير من تعيير الناس وعيبهم بذنوبهم وما يظهر عليهم من الانحراف؛ لأنه إن كان تائبًا منه لم يجز تعييره بذنبه السابق؛ لأن من تاب تاب الله عليه، وإن كان لم يتب وجب نصحه وتوجيهه بالكلام الطيب لا بالتعيير؛ لأن التعيير يوجب العداوة والبغضاء، ولا يؤدي المقصود.
ثم إن التعيير فيه معنى العُجْبِ بالنفس، فإن الإنسان لا يعيب أحدًا بعينه إلَّا لما يجد في نفسه من العجب بسلامته من ذلك العيب، وقد يرى أن سلامته قد جاءته من قوته وإرادته لا من الله تعالى الذي عصمه من هذا الذنب.
ومن مظاهر التعيير إظهار السوء وإشاعته في قالب النصح، فهذا ليس غرضه النصح، وإنَّما غرضه التعيير والأذى بإظهار العيوب والمساوئ للناس، ولو كان غرضه النصح لما أشاع ذلك ولا أظهره؛ لأن النصيحة هي ما كانت سرًّا بين الآمر والمأمور، والناصح ليس غرضه إشاعة عيب من أراد نصحه، وإنَّما غرضه الإصلاح وإزالة المفسدة.
قال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)
(4)
فعلامة النصح: الستر، وعلامة التعيير: الإعلان، يقول الحافظ ابن رجب:(كان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، ويحبون أن يكون سرًّا بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح)
(5)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الجرح والتعديل"(7/ 225).
(2)
"تهذيب التهذيب"(9/ 105).
(3)
(3/ 82).
(4)
راجع: رسالة ابن رجب "الفرق بين النصيحة والتعيير".
(5)
المصدر السابق ص (39).
التحذير من الكذب ليضحك الناس
1525/ 38 - عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ، فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيلٌ لَهُ". أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وإسْنَادُهُ قَويٌّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أَبو داود في كتاب "الأدب"، بابٌ (في التشديد في الكذب)(4990)، والتِّرمِذي (2315)، والنَّسائي في "الكبرى"(10/ 74)، وأحمد (33/ 224) من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن).
وقد تقدم الكلام على بهز وأبيه حكيم بن معاوية في "الزكاة" عند الحديث (605) وخلاصة ما قيل فيهما: أنهما صدوقان. قال أَبو حاتم في بهز: (شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به). وقال ابن معين: "ثقة"، وقد احتج به أحمد وإسحاق وابن المديني وآخرون.
وأما أَبوه حكيم فقد وثّقه العجلي، وقال النَّسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ويل) هي كلمة وعيد لمن اتصف بالصفة المذكورة، أو اسم واد في جهنم، وهي مبتدأ سوغ الابتداء بها دلالتها على الدعاء، مثل:(سلام عليكم)، والجار والمجرور بعده خبر.
قوله: (ليضحك به القوم) بضم الياء وكسر الحاء من أضحك الرباعي المتعدي، والقوم: بالنصب مفعول به، ويجوز فتح الياء والحاء من المضارع من ضحك الثلاثي اللازم، والقوم: بالرفع فاعل، والضمير (به) يعود إلى المتحدث، فتكون الباء سببية، أو يعود إلى الكذب.
قوله: (ويل له ثم ويل له) هكذاب (ثم) في نسخ "البلوغ"، والذي في المصادر المذكورة:(ويل له وويل له)، وفي بعضها بدون حرف العطف، وهذا التكرار فيه إيذان بشدة هلكته وعِظَمِ الأمر الذي وقع فيه؛ لأن الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح
(1)
.
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من الكذب ووعيد بالهلاك لمن يتعاطى الكذب من أجل المزاح وإضحاك الناس، وهذا من الأخلاق السيئة التي يجب على المؤمن أن يتنزه عنها، وأن يبتعد عن الكذب، ويطهر لسانه منه في كل حال من الأحوال إلَّا ما أذن فيه الشرع.
ومن اعتاد الكذب والمزاح سهل على لسانه وتهاون به، والإسلام أباح الترويح عن النفس، ولكنه لم يرض لذلك وسيلة سوى الصدق المحض؛ لأن في الحلال مندوحة عن الحرام، وفي الحق إغناء عن الباطل، ومن الناس من لا يبالي في الكذب في مجال المزاح والتسلية، وهذا خطأ يرتكبه الإنسان؛ إما لضعف إيمانه أو لجهله بشؤم الكذب وسوء عاقبته، وبعض الناس يفعل هذا عمدًا لأجل أن يتصدر في المجالس، ويستظرفه الناس، ويستطرفوا حديثه، ويلتفتوا إليه. والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير"(6/ 477).
كفارة الغيبة
1526/ 39 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"كفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ". رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أبي أُسَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الحارث بن أبي أسامة، كما في "بغية الباحث"(2/ 974)، و"المطالب العالية" (11/ 726) قال: حدَّثنا رجل، حدَّثنا عنبسة بن عبد الرحمن، حدَّثنا خالد بن يزيد، عن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته".
وهذا الحديث إسناده تالف، ومتنه باطل، أما متنه فسيأتي، وأما سنده ففيه الرجل المبهم، ويحتمل أنَّه داود بن المحبَّر؛ لأنه من شيوخ الحارث المباشرين، وقد أكثر النقل عنه، وقد ضعفه الإِمام أحمد، وقال:(شبه لا شيء، كان لا يدري الحديث)، ومثل هذا قال البخاري، وقال -أيضًا-:(منكر الحديث)، وقال الدَّارَقُطني:(متروك الحديث)
(1)
.
وفيه عنبسة بن عبد الرحمن، قال البخاري:(ذاهب الحديث). وقال أبو حاتم: (كان يضع الحديث). وقال ابن حبان: (صاحب أشياء موضوعة لا يحل الاحتجاج به). وقال أَبو حاتم: (غير ثقة، ذاهب الحديث، منكر الحديث). وقال ابن المديني: (ذهب حديثه). وقال الحافظ: (متروك). وفيه خالد بن يزيد ولم أتحقق منه؛ لأن هناك أكثر من واحد مترجم في "الجرح
(1)
"الجرح والتعديل"(3/ 424)، "تهذيب الكمال"(8/ 443).
والتعديل" (3/ 358) من طبقته، وقد يكون أحدهم، وهو دائر بين كونه مجهولًا أو مستورًا.
وروى الحديث ابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة"(253) وفي "الصمت"(291) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 342)، وأخرجه أَبو الشيخ في "التوبيخ والتنبيه"(211) وغيرهم من طريق عنبسة به.
وبهذا يتبين أن قول الحافظ هنا: بسند ضعيف، ومثله قول العراقي في "تخريج الإحياء"
(1)
أن هذا تسامح في النقد والحكم.
والحديث له طرق كلها ضعيفة، وله شواهد لا يصح منها شيء
(2)
.
• الوجه الثاني: يستدل العلماء بهذا الحديث على أن كفارة الغيبة أن يستغفر المغتاب لمن اغتابه؛ ليكون ذلك إحسانًا إليه في مقابلة مظلمته، ولا يلزم استحلاله ولا الاعتذار منه، وهذا القول رواية عن الإِمام أحمد، ورجح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن مفلح، والسفاريني وآخرون، ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا قول الأكثرين
(3)
.
وأيدوا قولهم هذا بأمور ثلاثة:
الأول: أن إعلام المغتاب لمن اغتابه مفسدة محضة؛ لأن فيه زيادة إيذاء له؛ لأن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم.
الثاني: أن إعلامه قد يكون سببًا للعداوة؛ لأن النفوس لا تقف غالبًا عند العدل والإنصاف.
الثالث: أن في إعلامه زوال ما بينهما من كمال الألفة وقوة المحبة، فتتجدد القطيعة، ويقع التباعد بدل التقارب.
(1)
(3/ 105).
(2)
انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (3/ 342)، "المطالب العالية"(11/ 727).
(3)
"مدارج السالكين"(1/ 291)، "الوابل الصيب" ص (192)، "الآداب الشرعية"(1/ 62)، "غذاء الألباب"(2/ 576).
ولا ريب أن ما يترتب عليه هذه المفاسد أعظم من شر الغيبة، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها لا على تحصيلها وتكميلها.
والقول الثاني: أنَّه لا يكفي الاستغفار بل لا بد من الاستحلال ممن اغتابه لتصح توبته، وششحب للمغتاب أن يبرئ أخاه المسلم من هذا الذنب؛ ليفوز بثواب العفو ومحبة الله تعالى للعافين.
وهذا قول الإِمام أبي حنيفة والشَّافعي ومالك، ورواية مخرجة عن الإِمام أحمد على مسألة توبة القاذف، هل يشترط فيها إعلام المقذوف والتحلل منه أم لا؟
(1)
.
ورجح هذا القول الغزالي والقرطبي والنووي وآخرون
(2)
.
واستدلوا بحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"
(3)
.
قالوا: ولأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلَّا بإحلاله منه وإبرائه؛ ولأن في هذه الجناية حقين: حقًّا لله وحقًّا للآدمي، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه.
وقاسوا هذا على الحقوق المالية التي لا تتم التوبة منها إلَّا بردها إلى أربابها.
قالوا: وحديث الباب موضوع، ومتنه باطل؛ لأن الغيبة حق آدمي فلا يسقط إلَّا بالإبراء
(4)
.
والذي يظهر - والله أعلم - أنَّه لا بد من الاستحلال ولا سيما إذا علم
(1)
"مدارج السالكين"(1/ 290).
(2)
انظر: "الإحياء"(3/ 163)، "تفسير القرطبي"(16/ 337)، "الأذكار" ص (548).
(3)
رواه البخاري (2449)(6534).
(4)
انظر: "الحاوي" للسيوطي (1/ 171).
أنَّه يسامحه، فقد يكون المُخْبَرُ رجلًا كريمًا يقيل العثرة، ويتجاوز عن الزلة، وينبغي أن يفهم الناس أن هذا هو الأصل. أما إذا كان يعلم أنَّه لن يسامحه بل قد يزداد حقدًا وعداوة أو أنَّه إذا أخبره بكلام مجمل طلب التفاصيل التي لو سمعها لزاد كراهية وبغضًا، فإنه يكفي والحال هذه توبته بينه وبين الله، والدعاء لمن اغتابه وذكره بخير ليكون هذا بهذا. والله تعالى أعلم.
التحذير من اللَّدَدِ في الخصومة
1527/ 40 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللهِ الأَلدُّ الخَصِمُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب (الألد الخصم وهو الدائم الخصومة)(7188)، ومسلم (2668) من طريق ابن جريج، سمعت ابن أبي مليكة يحدث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم بزيادة:(إنَّ) في أوله، وهو للبخاري -أيضًا- في "المظالم"(2457).
وكأن الحافظ ذَهَلَ عن كون الحديث في البخاري فاقتصر في عزوه إلى مسلم.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أبغض الرجال) تقدم معنى البغض، والوجال: لفظ عام يشمل المؤمن والكافر.
قوله: (الألد) بفتح الهمزة واللام وتشديد الدال هو الشديد الخصومة، وهو اسم فاعل من لدَّ يلَدُّ لدًّا من باب تعب فهو ألدُّ، والمرأة لدَّاء، والجمع لُدٌّ من باب أحمر وهم حُمْر
(1)
، ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وقوله تعالى:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97].
(1)
"المفهم"(5/ 180)، "المصباح المنير" ص (551).
وهذا الوصف مأخوذ من اللديدين وهما جانبا الوادي؛ لأن المخاصم كلما منع من جانب جاء من جانب آخر، وقيل: لإعماله لديديه في الخصومة، وهما جانبا الفم
(1)
.
وقال أَبو عبيدة: هو الشديد الخصومة الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل
(2)
.
قوله: (الخَصِمُ) بكسر الصاد، ويجوز تسكينها، فالذي بالسكون مصدر خَصَمَهُ خَصْمًا؛ أي: غلبه في الخصام، ولذا يستوي فيه المذكر والمؤنث، المفرد والمثنى والجمع، فيكون بلفظ واحد، وهذا هو الأكثر. قال تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} [ص: 21] ومن العرب من يثنيه ويجمعه، فيقول: هذان خصمان، وهؤلاء خصوم. قال تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، وقال تعالى:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].
أما الذي بكسر الصاد فهو وصف للشخص العالم بالحجة المختص بالخصومة، يقال: خَصِمَ الرجل يَخْصَمُ من باب تعب: إذا أحكم الخصومة فهو خَصِمٌ وخصيمٌ
(3)
.
والخَصِمُ صيغة مبالغة إما بمعنى دائم الخصومة كما قال البخاري، فتكون الصيغة للكثرة، أو بمعنى شديد الخصومة فتكون الصيغة للشدة.
ولما كان الألد صفة، والخصم اسم؛ لأنه مصدر، كان في الأصل أن يكون تابعًا لخصم؛ لأنه نعت له فيقال: الخصم الألد، لكن لما كَثُر استعمال هذا الوصف عومل معاملة الأسماء، فجعل التابع متبوعًا، وحُذي به حذو قوله تعالى:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]؛ [فاطر: 27] والأصل: سود غرابيب
(4)
.
• الوجه الثالث: في الحديث تحذير من شدة الخصومة وكثرتها، وهو
(1)
"المفهم"(5/ 180).
(2)
"مجاز القرآن"(2/ 13).
(3)
"الأفعال" لابن القوطية ص (204).
(4)
"المفهم"(5/ 180)(6/ 689).
كون الإنسان كلما فرغ من خصومة شرع في أخرى، ولا يكاد أحد يتخلص منه، فيضر نفسه ويؤذي غيره، وهذا مما يؤدي إلى بغض الله تعالى للعبد؛ لأن الغالب في شدة الخصومة أن صاحبها لا يريد الوصول إلى الحق، وإنما يريد الظهور على خصمه وغلبته ولو بالباطل.
والذم في هذا الحديث مراد به من خاصم بالباطل، واستعمل الكذب والتدليس وشهادة الزور للظهور على خصمه، أما الذي يدافع عن حقه، ويستعين بالحجج الشرعية والطرق الصحيحة للوصول إلى حقه، فهذا لا يدخل في باب الخصومة المذمومة.
والواجب على المؤمن أن يكون بعيدًا عن كثرة الخصومات، بعيدًا عن اللدد، سمحًا طيب الكلام، وألا يكون ذا لجاجة في الخصومة فيبغضه الله ويبغضه الناس، يقول الحافظ ابن رجب:(إذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة، سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل، ويخيِّل للسامع أنَّه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (48).
باب الترغيب في مكارم الأخلاق
الترغيب مصدر رغَّبه في الشيء ترغيبًا؛ أي: أوجد فيه الرغبة إليه، ويكون ذلك بتحسينه وتزيينه؛ لأن النفس لا ترغب إلَّا فيما فيه سعادتها وصلاح أمرها.
والمكارم: جمع مكرمة بضم الراء، والمكرمة: فعل الخير، والإضافة فيها من باب إضافة الصفة للموصوف؛ أي: الأخلاق الكريمة، وسر هذه الإضافة أنَّه لما كان الكرم لُباب الأخلاق الفاضلة وصفت الأخلاق به وشرفت بالانتساب إليه
(1)
.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب جملة من الأحاديث المتعلقة بمحاسن الأخلاق؛ كالصدق وغَضِّ البصر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحياء، واجتناب سوء الظن، والتواضع، والعفو، وغير ذلك، وقد ذكر قبل ذلك جملة من الأحاديث في مساوئ الأخلاق.
وقد أحسن المؤلف صنعًا وأجاد تبويبًا في هذا المنهج؛ لأن المطلوب من الإنسان أن يتخلى عن مساوئ الأخلاق وقبائحها، ليتحلى بمكارم الأخلاق ومحاسنها على قاعدة (التخلي قبل التحلي).
وقد جاء في هذا الموضوع حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" وفي رواية: "مكارم الأخلاق"
(2)
قال ابن عبد البر: (ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله،
(1)
انظر: "مكارم الأخلاق" للهلالي ص (8).
(2)
رواه أحمد (14/ 513)، والبخاري في "الأدب المفرد"(2731)، والحاكم (2/ 381) من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. =
والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل، فبذلك بعث ليتمه صلى الله عليه وسلم
…
).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (الأخلاق الكاملة والآداب السامية تجعل صاحبها مستقيم الظاهر والباطن، معتدل الأحوال، مكتمل الأوصاف الحسنة، طاهر القلب، نقيّه من كلِّ درن وآفة ونقص، قوي القلب، متوجهًا قلبه إلى أعلى الأمور وأنفعها، قائمًا بالحقوق الواجبة والمستحبة، محمودًا عند الله وعند خلقه، قد حاز الشرف والاعتبار الحقيقي، وسلم من كلِّ دنس وآفة، قد تواطأ ظاهره وباطنه على الاستقامة، وسلوكِ طريق الفلاح، وعلُوُّ مكانة المتخلق بأخلاق القرآن وآدابه لا يمتري فيه من له أدنى مُسْكَةٍ من عقل؛ لأنَّ العقل من أكبر الشواهد على حسن ما جاء به الشرع.
ولهذا ينبّه الله أولي العقول والألباب، ويوجّه إليهم الخطاب؛ لأنَّه كلَّما كمل عقل الإنسان عرف كمال ما جاء به الشرع، وأنَّه يستحيل وجود قانون أو نظام أو غيرها يقارب ما جاء به القرآن كمالًا وفضلًا، ورفعة وعلوًا ونزاهةً، ويعرف ذلك بتتبع ما جاء به القرآن)
(1)
.
= وهذا سند حسن، ابن عجلان صدوق، قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم)، وسكت عنه الذهبي، ومسلم إنما أخرج لابن عجلان مقرونًا بغيره.
والحديث له شاهد مرسل رواه ابن وَهْب في "الجامع"(2/ 584) قال ابن عبد البر: (هذا الحديث يتصل من طرق صحاح عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم). "التمهيد"(24/ 333 - 334).
(1)
"فتح الرحيم الملك العلَّام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق المستنبطة من القرآن" ص (104).
ما جاء في الحث على الصدق والنهي عن ضده
1528/ 1 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأدب"، باب (قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، وما ينهى عن الكذب) (6594)، ومسلم (2657)(155) من طريق شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عليكم بالصدق) أي: الزموا الصدق، وهو اسم فعل أمر مبني على السكون، والفاعل أنتم، والباء زائدة، والصدق: مفعول به لاسم الفعل، وتكثر زيادة الباء - هنا - لضعف اسم الفعل عن العمل، وقد لا تزاد كقوله تعالى:{عَلَيكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105].
والصدق لغة: القوة، قال ابن فارس: (الصاد والدال والقاف أصل يدل
على قوة في الشيء قولًا وغيره، من ذلك الصدق: خلاف الكذب، سمي لقوته في نفسه؛ ولأن الكذب لا قوة له، بل هو باطل، وأصل هذا من قولهم: شيء صَدْقٌ؛ أي: صُلْب، ورُمْحٌ صَدْقٌ
…
)
(1)
.
والصدق في الاصطلاح: هو الإخبار على وفق الواقع، وهذا هو صدق اللسان، وهو أشهر أنواع الصدق.
وقيل: الصدق: الإخبار بما يوافق الاعتقاد، وهذا أدق من الأول، لكن لا بد من تقييده بالصحيح، فيخرج الاعتقاد الذي لا يصح؛ كاعتقاد وجود آلهة مع الله، فقول المنافق: محمد رسول الله، هو صدق باعتبار المُخْبَرِ عنه، لكنه كذب باعتبار المتكلم؛ لمخالفته لاعتقاده، ولهذا سماهم الله كاذبين في قوله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1].
وقيل: الصدق: الإخبار بما يوافق الاعتقاد والمخبر عنه، وهذا أدق مما قبله
(2)
.
قوله: (فإن الصدق يهدي إلى البر) جملة تعليلية سيقت لبيان ثمرة الصدق وعاقبته الحميدة، ومعنى (يهدي) يرشد ويوصل، والهداية: الدلالة الموصلة إلى المطلوب.
والبر: اسم جامع للخير كله من فعل الحسنات وترك السيئات، ويطلق على العمل الصالح الدائم المستمر معه إلى الموت.
قوله: (وإن البر يهدي إلى الجنَّة) هذا فيه بيان مآل صاحب الصدق، كما قال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13].
قوله: (وما يزال الرجل) أل للجنس، وذكره لأنه أشرف من المرأة في الجملة، وإلا فالمرأة مثله في ذلك.
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 339).
(2)
انظر: "المفردات في غريب القرآن" ص (277).
قوله: (يصدق) أي: يلازم الصدق في أقواله وأفعاله.
قوله: (ويتحرى الصدق) أي: يقصده ويعتني به ويجتهد فيه.
قوله: (حتَّى يكتب عند الله) أي: يحكم له بوصف الصديقين وثوابهم، وفي رواية للبخاري:"حتَّى يكون" والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما للملأ الأعلى، وإما أن يُلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، وإلا فحكم الله له بذلك سابق.
قوله: (صِدِّيقًا) الصِّدِّيق: من يتكرر منه الصدق حتَّى يصير سجية له وخلقًا، وهذا من صيغ المبالغة
(1)
.
قوله: (وإياكم والكذب) تقدم إعرابه عند حديث "إياكم والحسد"، والكذب: هو الإخبار على خلاف ما في الواقع.
قوله: (الفجور) أصل الفجر: الشق، والفجور: شق ستر الديانة والصلاح بفعل المعاصي واقتراف السيئات، ويطلق على الميل إلى الفساد والانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر.
قوله: (يهدي إلى النار) أي: الفجور يوصل إلى النار؛ لأن المعاصي يقود بعضها بعضًا، وهي سبب الهلاك والورود إلى النار، قال تعالى:{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 14].
قوله: (كذابًا) صيغة مبالغة لمن يكثر الكذب منه ويتكرر حتَّى يعرف به.
• الوجه الثالث: عناية الدين الإسلامي بالحث على الصدق وبيان ثمرته، والتحذير من الكذب وبيان عاقبته، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، قال ابن بطَّال:(الصدق أرفع خلال المؤمنين، ألا ترى قوله {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، فجعل الصدق مقارنًا للتقوى)
(2)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
(1)
انظر: "أدب الكاتب" لابن قتيبة ص (330)، "دليل الفالحين"(1/ 204).
(2)
"شرح ابن بطال"(9/ 280).
سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} [النحل: 105].
• الوجه الرابع: الحث على الصدق وملازمته وتحريه وبيان ثمرته وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة، فالصدق أصل البر الذي هو الطَّرِيق إلى الجنَّة، والرجل إذا لازم الصدق كتب مع الصديقين عند الله تعالى، وفي ذلك إشعار بحسن خاتمته وإشارة إلى أنَّه يكون مأمون العاقبة.
ومن ثمرات الصدق: أن الصدق في الأقوال وسيلة للصدق في الأفعال والصلاح في الأحوال، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71].
ومن ثمرات الصدق: أن الصدوق مقبول الحديث عند الناس، مقبول الشهادة عند القاضي، محبوب مجلسه، مرغوب حديثه، والكذوب بخلاف ذلك كله.
ومن ثمرات الصدق: أن الله تعالى أخبر أنَّه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلَّا صدقه، قال تعالى:{قَال اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119]
(1)
.
قال ابن حبان: (الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن الصدق خصلة تُحمد إلَّا أن المرء إذا عُرف به قُبل كذبه، وصار صدقًا عند من يسمعه، لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتَّى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب)
(2)
.
وقد ذكر ابن القيم أن الصدق يكون في الأقوال والأعمال والأحوال، ثم بين ذلك فقال: (فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها.
(1)
انظر: "مدارج السالكين"(2/ 269 - 270).
(2)
"روضة العقلاء" ص (54).
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة)
(1)
.
• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الصدق خلق كريم يحصل بالاكتساب والمجاهدة لقوله: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق" وكذا الكذب، فإن الإنسان إذا أكثر منه وتعوَّده صار له خلقًا وسجية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه، وبهجة وجهه سيما يعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر، وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه حتَّى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه، فإذا كان من أهل الفجور مصرًا على ذلك، يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه والعكس.
وقد رُوي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: "إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنًا في البدن، وبغضًا في قلوب الخلق")
(2)
.
• الوجه السادس: بيان مضرة الكذب وشؤم عاقبته فهو أصل الفجور الذي هو طريق إلى النار، والكذب نوع من أنواع النفاق كما تقدم في حديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب
…
"، قال ابن بطَّال:(هذه الصفة ليست صفة عِلْية المؤمنين، بل هي من صفات المنافقين وعلاماتهم)
(3)
، وقد اختلف الفقهاء في الكذب - في غير شهادة الزور، هل هو من الكبائر أو من الصغائر؛ على قولين، هما روايتان عن الإِمام أحمد، واحتج من جعله من الكبائر بأن الله تعالى جعله في كتابه من صفات شرِّ البرية، وهم الكفار والمنافقون، فلم
(1)
"مدارج السالكين"(2/ 270).
(2)
"الجواب الصحيح"(4/ 306).
(3)
"شرح ابن بطَّال"(9/ 281).
يصف به إلَّا كافرًا أو منافقًا، وجعله عَلَمَ أهل النار وشعارهم، وجعل الصدق عَلَمَ أهل الجنَّة وشعارهم
(1)
، وهذا الخلاف في غير الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر الهيتمي:(ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض، وإنما الكلام في الكذب عليهما فيما سوى ذلك)، وكان قد ذكر أن الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الكبائر
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 228 - 229).
(2)
انظر: "الزواجر"(1/ 97)، "الكبائر" للذهبي ص (93).
اجتناب سوء الظن
1529/ 2 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه في باب (الرَّهَبِ من مساوئ الأخلاق) وقد رواه البخاري (6066)، ومسلم (2563) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث، وتقدم سياقه بتمامه.
• الوجه الثاني: تقدم هذا الحديث في باب (مساوئ الأخلاق) وذكره هنا في (مكارم الأخلاق) لأن الظن له اعتباران، فإن أخذ به الإنسان وصار يرتب عليه الأحكام والنتائج فهو من مساوئ الأخلاق، وإن تباعد المؤمن عن ذلك وترك الظنون السيئة وحمل الناس على المحامل الحسنة - ما لم يقم دليل - فهذا من مكارم الأخلاق ومن محاسنها، وبهذا يتبين دقة المؤلف حينما ذكر الحديث في الموضعين.
ولو لم يكن في حسن الظن إلَّا راحة البال وهدوء النفس لكان ذلك كافيًا في الأخذ بهذا الخلق، ولو لم يكن في سوء الظن إلَّا الهم والعناء وإشغال البال لكان ذلك كافيًا في الحذر من هذا الخلق المسمى والله أعلم.
الحذر من الجلوس في الطرقات إلا بحقها
1530/ 3 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا؛ نَتَحَدَّثُ فيهَا. قَال: "فَأمَّا إِذَا أَبَيتُمْ، فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ". قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟. قَال: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاستئذان"، باب (قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27]) (6229)، ومسلم (2121) من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والجلوس في الطرقات"، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه
…
" الحديث.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إياكم والجلوس) هذا أسلوب تحذير، وقد تقدم إعرابه.
قوله: (بالطرقات) هكذا في بعض نسخ البلوغ، وهو المثبت في "صحيح البخاري" في "الاستئذان" كما في طبعة الناصر، وهو الذي مشى عليه الحافظ في الشرح، وقال:(في رواية الكشميهني: "في الطرقات")
(1)
وهي رواية
(1)
انظر: "فتح الباري"(11/ 10).
مسلم، وفي رواية للبخاري في "المظالم":"على الطرقات"، وهي في بعض نسخ البلوغ، والطرقات: جمع طريق، وهو يُذكَّر كما في هذه الرواية، ويؤنث كما في الرواية الآتية.
قوله: (ما لنا بُدٌّ) بضم الباء الموحدة وتشديد المهملة؛ أي: لا محيد لنا عن ذلك، ولا يعرف استعمال هذه اللفظة إلا مقرونًا بالنفي
(1)
.
قوله: (فأما إذا أبيتم) هكذا في نسخ البلوغ، والذي في "الصحيحين":"فإذا أبيتم إلا المجلس" وهو مصدر ميمي بمعنى الجلوس، وقد وقع عند البخاري في "المظالم":"فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها"
(2)
.
قوله: (فأعطوا الطريق حقه) أي: ما يطلب فيه من الآداب الكريمة والأخلاق العالية، وفي التعبير بالحق إشارة إلى تأكيد الأمور المذكورة والاهتمام بها والحرص على تطبيقها.
قوله: (غض البصر) الغض هو النقص والخفض من الطرف والصوت، ونحو ذلك، قال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وقال تعالى:{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]؛ والمراد: كَفُّهُ عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه بخفضه إلى الأرض أو بصرفه إلى جهة أخرى.
قوله: (وكف الأذى) أي: الامتناع عن أذية المارة بالقول أو بالفعل، أما القول فهو الغيبة أو الاحتقار أو بفضول الكلام الذي يحصل من الجالسين الذين يتحدثون في شأن من يمر بهم من الناس، أو نحو ذلك، وأما الفعل فهو مضايقة الناس في طريقهم بحيث يملأ الجالسون الطريق فلا يمر أحد إلا بمشقة، ومثل هذا إيقاف سياراتهم في طريق الناس مما يكون سببًا في التضييق على المارة أو على سياراتهم.
قوله: (ورد السلام) أي: إذا سلم أحد المارة، فإن الجالس يرد عليه؛ لأن هذا من حق الطريق، والظاهر أن التنبيه على هذا لكون الاجتماع مظنة
(1)
"المصباح المنير" ص (38).
(2)
"صحيح البخاري"(2465).
الانشغال عن أداء هذا الحق، وقد تقدم في أول "الجامع" حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "يسلم المار على القاعد
…
".
قوله: (والأمر بالمعروف) وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ورسوله من قول أو فعل أو اعتقاد.
قوله: (والنهي عن المنكر) وهو اسم جامع لكل ما يكرهه الله ورسوله من قول أو فعل أو اعتقاد.
° الوجه الثالث: في الحديث النهي عن الجلوس في الطرقات؛ لأن الطريق إنما جعلت للمرور بها لا للجلوس فيها؛ ولأن الجالس في الطريق قد يتعرض للفتنة، وقد يحصل منه الأذى إما بالقول أو بالفعل؛ ولأن الجالس يلزم نفسه بحقوق إخوانه المسلمين وهي لا تلزمه لو جلس في بيته، وقد لا يقوم بها على وجه الكمال، والمسلم مأمور بالابتعاد عن مواطن الفتن ومأمور بألا يلزم نفسه بشيء قد لا يقوى عليه.
وفي هذا دليل بيِّن على كمال هذا الدين ورعايته لمصالح العباد، ومن ذلك عنايته بالطرقات وصيانة حقوق المرور بها حيث نهى الناس عن الجلوس بها، ومن أبى إلا الجلوس طُلب منه القيام بالحقوق المذكورة في هذا الحديث.
° الوجه الرابع: في الحديث دليل على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث طلب من الجالس في الطريق القيام به؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تطابق على وجوبه الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة، وهو -أيضًا- من النصيحة التي هي الدين، ومصالحه جمة، ومنافعه عظيمة، ولا يسقط عن المكلف؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وواجبه: الأمر والنهي، لا القبول. قال تعالى:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إلا الْبَلَاغُ}
(1)
[المائدة: 99].
° الوجه الخامس: استدل العلماء بهذا الحديث على قاعدة: "دفع
(1)
انظر: "شرح الأربعين" لابن العطار ص (163).
المفسدة مقدم على جلب المصلحة"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر الصحابة رضي الله عنهم ومن بَعْدَهم من الجلوس في الطرقات مع ما فيه من الأجر لمن قام بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في زيادة الأجر
(1)
. قال الطبري: (فيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التي يسلم لازمها من رؤية ما يُكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره، ومن معاونة مستغيثٍ يلزمه إعانته، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أذن في الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه، إذا كان من يقوم بالمعاني التي ذكرها صلى الله عليه وسلم)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "فتح الباري"(5/ 113).
(2)
"شرح ابن بطال"(6/ 589 - 590).
فضل الفقه في الدين
1531/ 4 - عَنْ مُعَاويَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا، يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" وأولها في كتاب "العلم"، باب (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)(71)، ومسلم (1037) من طريق الزهري، قال: قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله معطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من يرد الله) بضم الياء من الإرادة، والمراد بها: الإرادة الشرعية، وهي التي يلزم أن يكون المراد فيها محبوبًا لله تعالى، ولا يلزم وقوعه، وأما الكونية فهي التي يلزم فيها وقوع المراد، ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله تعالى، فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة.
قوله: (خيرًا) أي: منفعة، وهو نكرة في سياق الشرط، فيفيد العموم، فيشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه.
قوله: (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالمًا بالأحكام الشرعية ذا بصيرة فيها، والفقه في اللغة: الفهم، والمراد هنا: ما يتعلق بفهم الكتاب والسنة،
وهذا يشمل الفقه في أصول الإيمان وشرائع الإسلام وحقائق الإحسان، وما يتبع ذلك من الوسائل المعينة على الفقه في الدين كعلوم العربية بأنواعها.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل العلماء على سائر الناس؛ لأنهم الذين يخشون الله تعالى، فيجتنبون معاصيه، ويديمون طاعته، لمعرفتهم بعظم النعمة والوعد والوعيد، قال الحسن البصري:(إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه)
(1)
.
° الوجه الرابع: في الحديث دليل على فضل التفقه في الدين على سائر العلوم، وأنه من أعظم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وأنه لا يُعطى إلا من أراد الله به خيرًا، وهذا يفيد أن العلم النافع علامة على سعادة العبد، وأنه يرجى له بذلك حسن الخاتمة؛ لأن العلم النافع يقود إلى خشية الله تعالى وإلى طاعته وتقواه.
° الوجه الخامس: يدل مفهوم الشرط في قوله: "من يرد الله به خيرًا" على أن من لم يتفقه في دين الله وأعرض عن العلوم النافعة مع قدرته على ذلك واحتياجه إليه أن الله لم يرد به خيرًا؛ لحرمانه الأسباب التي تُنال بها الخيرات، وتُكتسب بها السعادة. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أحمد في "الزهد" ص (327)، والدارمي (1/ 76)، والآجري في "أخلاق العلماء" ص (84)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 147).
فضل حسن الخلق
1532/ 5 - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ شَيءٍ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه في "مساوئ الأخلاق" من رواية الترمذي (2002) من طريق ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا.
وقد تقدم أن يعلى بن مملك متكلم فيه، لكن لم ينفرد به، فقد تابعه عطاء الكيخاراني، فقد رواه أبو داود (4799)، وأحمد (45/ 509) من طريق شعبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة، والترمذي (2003) من طريق مطرف بن طريف، وأحمد (45/ 487) من طريق الحسن بن مسلم، ثلاثتهم عن عطاء الكَيخَارَاني
(1)
، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق" هذا لفظ أبي داود
(2)
.
وهذا الحديث سنده صحيح، وعطاء بن نافع الكيخاراني وثقه ابن معين والنسائي
(3)
.
(1)
نسبة إلى كيخران، قرية باليمن.
(2)
انظر: "العلل" للدارقطني (6/ 221).
(3)
"تهذيب التهذيب"(7/ 193).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ما من شيء) ما: نافية عاملة عمل ليس، و (من) زائدة لتأكيد العموم المستفاد من (شيء)؛ لأنه نكرة في سياق النفي، و (شيء) اسم (ما) مجرور لفظًا مرفوع محلًا.
قوله: (في الميزان) أي: ميزان الأعمال يوم القيامة، والميزان لغة: ما تقدر به الأشياء خفة وثقلًا، وشرعًا: ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد.
قوله: (أثقل) بالنصب خبر (ما) العاملة، وبالرفع خبر المبتدأ على أن (ما) غير عاملة، وتقدم الكلام على (حسن الخلق) في أول باب (الأدب).
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل حسن الخلق وعظيم منزلته عند الله تعالى، وأنه من أفضل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة؛ لأن الله تعالى يحب حسن الخلق ويرضى عن صاحبه، وهذه إحدى الفضائل الكثيرة والفوائد العظيمة لحسن الخلق.
فعلى العبد أن يكون حسن الخلق مع الله تعالى ومع عباده، وحسن الخلق مع الله تعالى هو الرضا بحكمه وشرعه وقضائه وتدبيره، وحسن الخلق مع عباد الله كما قال عبد الله بن المبارك في وصفه:(هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)
(1)
، وقال حبيب بن أبي ثابت:(من حسن خلق الرجل: أن يحدث صاحبه وهو يبتسم)
(2)
.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي مبينًا فوائد حسن الخلق: (هذا هو مادة الأخلاق الجميلة كلِّها، وقد اتفق الشرع والعقل على حسنه، ورفعة قدره، وعلو مرتبته، ومداره على قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]؛ أي: خذ ما تيسر وعَفَى وتَسَهَّلَ من أخلاق الناس، ولا تطالبهم بما لا تقتضيه طباعهم، ولا تسمح به أخلاقهم. هذا فيما يأتيك منهم.
(1)
رواه الترمذي (2005)، وقد تقدم في باب "الأدب".
(2)
"روضة العقلاء" ص (76 - 77).
وأما ما تأتي إليهم فالأمر بالعرف، وهو نصحهم وأمرهم بكلِّ مستحسن شرعًا، وعقلًا وفطرة، وأعرض عمن جهل عليك بقوله أو فعله، فللَّه ما أحلى هذه الأخلاق وما أجمعها لكلِّ خير، وقال تعالى:{وَلَا تَسْتَوي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34 - 35].
ويُمِدّه الصبرَ والحلمَ وسعةَ العقل، وفضل هذا الخلق ومرتبته فوق ما يصفه الواصف.
ومن فوائد هذا المقام الجليل: أن صاحبه مستريح القلب، مطمئن النفس قد وطَّن نفسه على ما يصيبه من الناس من الأذى، وقد وطّن نفسه أيضًا على إيصال النفع إليهم بكلِّ مقدوره، وقد تمكّن من إرضاء الكبير والصغير والنظير، وقد تحمَّل مَنْ لا تَحْمِلُهُ مِن ثقله الجبال، وقد خفت عنه الأثقال، وقد انقلب عدوه صديقًا حميمًا، وقد أمن من فلتات الجاهلين ومضرة الأعداء أجمعين، وقد سهل عليه مطلوبه من الناس، وتيسر له نصحهم وإرشادهم والاقتداء بنبيه في قوله تعالى في وصفه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [آل عمران: 159])
(1)
. هذا وقد مضى شيء من الكلام على حسن الخلق في أول باب "الأدب".
° الوجه الرابع: الحديث دليل على ثبوت الميزان الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة لإظهار العدل وبيان الفضل، وهو ميزان حقيقي حسي، له كفتان، وقد جاء ذكره في عديد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} [الأعراف: 8]، وسيأتي في آخر الكتاب حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
(1)
"فتح الرحيم الملك العلام" ص (119).
وظاهر الحديث أن الذي يوزن هو حسن الخلق الذي هو عمل العبد وهو وإن كان وصفًا قائمًا بغيره إلا أن الله تعالى يجعل الأعمال أجسامًا توضع في الميزان، وفي المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان عند شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه آخر الكتاب. والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
انظر: رسالة "تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان" لمرعي الحنبلي، "التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية" ص (241)، "شرح العقيدة الواسطية" لابن عثيمين (2/ 238).
ما جاء في أن الحياء من الإيمان
1533/ 6 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ مِنَ الإيمَانِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الإيمان"، باب (الحياء من الإيمان)(44) من طريق مالك بن أنس، ومسلم (36) من طريق ابن عيينة، كلاهما عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعه؛ فإن الحياء من الإيمان".
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يعظ أخاه في الحياء) أي: يعاتبه على حيائه، لما روى البخاري في "الأدب"(6118) من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب بلفظ: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي -حتى كأنه يقول: أضرَّ بك- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه؛ فإن الحياء من الإيمان".
قوله: (الحياء) هو مصدر حيي منه حياءً، وهو مأخوذ من مادة (حَيِيَ) التي تدل على الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة، قال الجوهري:(واستحياه واستحيا منه بمعنى واحد من الحياء، ويقال: استحيت، بياء واحدة)
(1)
.
(1)
"الصحاح"(6/ 2324)، "معجم مقاييس اللغة"(2/ 122)، "المصباح المنير" ص (160).
والحياء شرعًا: خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح.
وفسروا الخلق بأنه تغير وانكسار، يعتري الإنسان، ويحمله على فعل ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين.
والحياء من الله يوجب للعبد توقي الذنوب وفعل الواجبات والمستحبات، والحياء من الناس يوجب للعبد احترامهم وإنزالهم منازلهم وألا يقابلهم بما لا ينبغي.
قال ابن القيم: (الحياء مشتق من الحياة، والغيث يسمى (حيًّا) بالقصر؛ لأن به حياة الأرض والنبات والدواب، وكذلك بالحياء حياة الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه ميت في الدنيا وشقي في الآخرة)
(1)
.
والحياء قسمان: غريزي، ومكتسب، والمكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزي، إذ ليس ذلك من كسبنا ولا في وسعنا، غير أن هذا الغريزي يَحْمِلُ على المكتسب ويعين عليه
(2)
، وقد يحمد الإنسان عليه إذا التزم به
(3)
.
قوله: (من الإيمان) أي: شعبة من شعب الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"
(4)
.
وإنما كان الحياء شعبة من الإيمان؛ لأن الحياء هو السبب الأقوى في قيام العبد بجميع شعب الإيمان، ومنهم من قال: إن المراد أن الحياء أثر من آثار الإيمان
(5)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الحياء وأنه من خصال الإيمان وحسن الإسلام ومكارم الأخلاق، وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحياء بأنه
(1)
"الداء والدواء" ص (170).
(2)
انظر: "المفهم"(1/ 218).
(3)
"التعليق على صحيح مسلم" للشيخ محمد بن عثيمين (1/ 201).
(4)
رواه البخاري (9)، ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
"فتح الباري"(1/ 75).
من الإيمان وبأنه خير كله دليل بيِّن على قيمة الحياء وعظيم أثره على سلوك الإنسان، فإن الحياء يكسو صاحبه ثوب الوقار والسكينة، ويكشف عن قيمة إيمان العبد ومقدار أدبه، وسمو أخلاقه، وهو أعظم الأخلاق قدرًا وأكثرها نفعًا، إن الحياء أن يتحرى الإنسان الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، وأن يبتعد عن الأخلاق السيئة، وأن يعرف للناس منازلهم، وينزلهم مراتبهم، يطهر فاه من الفحش، وينزه لسانه عن العيب، ويقتصد في حديثه، ويخجل أن يؤثر عنه سَوْأَة، أو يسمع عنه ما يخدش سمعته، وإذا رأيت الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حمرة الخجل تصبغ وجهه إذا بدر منه ما لا يليق فاعلم أنه حيُّ الضمير، نَقِيُّ المعدن، زكي العنصر، وإذا رأيت الشخص صفيقًا بليد الشعور لا يبالي ما يفعل أو يترك، فهذا امرؤ لا خير فيه، وليس له من الحياء وازع يعصمه عن اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا
(1)
.
وقد تقدم في كلام ابن القيم أن الحياء مشتق من الحياة، فعلى حسب حياة القلب يكون خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب، وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتم، قال عمر رضي الله عنه:(من قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه)
(2)
، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله)
(3)
.
ومما يعين على هذا الخلق الكريم مراقبة الله تعالى وشكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فمن علم أن الله تعالى ناظر إليه قريب منه أورثه هذا العلم الحياء منه، ومن علم أن الله تعالى هو المنعم المتفضل استحيا أن يستعين بنعمه على معاصيه
(4)
.
ومن الحياء ما يُذم وهو ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، كأن يمنع من
(1)
انظر: "خلق المسلم" للغزالي ص (196).
(2)
"مكارم الأخلاق" لابن أبي الدنيا ص (20).
(3)
"مسائل الإمام أحمد رواية البغوي" ص (76).
(4)
"فتح الباري"(1/ 75)، "الحياء" للهلالي ص (27).
التفقه في الدين والسؤال عما يشكل أو حضور حلقات العلم، أو يمنع من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ونحو ذلك، فهذا ليس حياء شرعيًّا، وإنما هو ضعف وخَوَر وذلة ومهانة، قال مجاهد:(لا يتعلم العلم مُسْتَحْيٍ ولا مستكبر)
(1)
، وسيأتي زيادة في الموضوع في شرح الحديث الآتي -إن شاء الله-. والله تعالى أعلم.
(1)
علقه البخاري. انظر: "فتح الباري"(1/ 228).
ما جاء في أن الحياء من تُراث الأنبياء
1534/ 7 - عَنِ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِمَّا أَدْركَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في آخر كتاب "أحاديث الأنبياء"(3483)(3484) من طريق زهير بن معاوية ومن طريق شعبة، وفي كتاب "الأدب"، باب (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)(6120) من طريق زهير، كلاهما عن منصور، عن ربعي بن حراش، حدثنا أبو مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وذكر الحديث. إلا أنه في الموضع الأول ليس فيه لفظة: (الأولى) وهي ثابتة في الموضع الثاني، ويبدو أن الحافظ ابن حجر في شرحه للصحيح ذَهَلَ في الموضع الأول عن ثبوتها عند البخاري، فعزاها لأحمد وأبي داود وغيرهما
(1)
، وتبعه على هذا الشراح كالمغربي، ومن بعده الصنعاني
(2)
، وكذا شراح "الأربعين"
(3)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن مما أدرك الناس) أي: مما وصل إلى الناس وظَفِرُوا به،
(1)
انظر: "صحيح البخاري"(8/ 29) طبعة الناصر، "فتح الباري"(6/ 523).
(2)
"البدر التمام"(5/ 330)، "سبل السلام"(4/ 407).
(3)
انظر: "الفتوحات الوهبية" ص (193).
والجار والمجرور خبر (إن)، واسمها قوله:(إذا لم تستحي) على تقدير القول؛ أي: قولهم: إذا لم تستح أو على إرادة: هذا اللفظ.
قوله: (من كلام النبوة) على حذف مضاف؛ أي: كلام أصحاب النبوة الأولى، أو ذوي النبوة الأولى، وقد يقال: إنه لا حذف وإنما جاء التعبير بالصفة وهي النبوة عن الموصوف وهم الأنبياء، وتكون إضافة الكلام إلى النبوة للإشعار بأن ذلك من نتائج الوحي وثمراته
(1)
.
والمراد بالنبوة الأولى: النبوة السابقة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه أمر استقر في جميع الشرائع ولم يُنسخ؛ لأنه أمر قد علم صوابه وظهر فضله.
قوله: (إذا لم تستحْي) جاء في بعض نسخ "البلوغ""إذا لم تستحِ" بحذف ياء المضارع للجازم مع كسر الحاء مخففة إذا كان من الفعل استحى، وجاء في أكثرها بإثبات الياء مخففة مع سكون الحاء، أو كسرها، وهو المثبت في "الصحيح"، على أنه من الفعل استحيَى، ويكون الجازم حَذَفَ الياء الثانية التي هي لام الفعل
(2)
، وذلك أنه قد تقدم أنه يقال: استحييت بيائين، ومضارعه يَسْتَحْيي، واسْتَحَيتُ بياء واحدة، ومضارعه يَسْتَحِي، وأصله: اسْتَحْيَيتُ، فَأَعَلُّوا الياء الأولى، وألقوا حركتها وهي الفتحة على الحاء، واستحيا أصله استحيَيَ على وزن استفعل، فقلبت الياء الثانية ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها.
قوله: (فاصنع ما شئت) هذه رواية "الصحيحين" وفي رواية للبخاري: "فافعل ما شئت"
(3)
والصُّنْع أخص من العمل
(4)
.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الجملة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد؛ والمعنى: إذا لم يكن
(1)
انظر: "الفتوحات الوهبية" ص (193).
(2)
انظر: "صحيح البخاري"(4/ 177)، (8/ 29) طبعة الناصر، "مصابيح الجامع"(7/ 177)، "شرح الجرداني على الأربعين" ص (46).
(3)
"صحيح البخاري" ص (193).
(4)
"الفتوحات الوهبية" ص (193).
عندك حياء فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله تعالى:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]، وعلى هذا يكون الحديث تعظيمًا لأمر الحياء، وهذا التفسير اختيار أبي العباس ثعلب.
والقول الثاني: أنه أمر، ومعناه الخبر؛ والمعنى: أن من لم يستح صنع ما شاء؛ لأن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل محظور، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سَلَّام، وابن قتيبة، ومحمد بن نصر المروزي، وغيرهم
(1)
.
والقول الثالث: أنه أمر بمعنى الإباحة والإذن؛ أي: أمر بفعل ما شاء على ظاهر لفظه؛ والمعنى: انظر إلى بها تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحيا منه فافعله، وإن كان مما يستحيا منه فدعه
(2)
، وهذا قول جماعة من الأئمة، منهم إسحاق المروزي الشافعي، وحُكي مثله عن الإهام أحمد
(3)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل خلق الحياء، وأنه من مكارم الأخلاق المأثورة عن النبوات السابقة، قال الخطابي:(معناه: أن الحياء لم يزل ممدوحًا على ألسن الأنبياء الأولين ومأمورًا به، لم ينسخ فيما نسخ من الشرائع، فالأولون والآخرون فيه على منهاج واحد)
(4)
، وهذا مما يؤكد قيمة الحياء وعظيم أثره على سلوك الإنسان، ومعاملته مع الله تعالى ومع خلقه، وأنه يعصم العبد عن القبيح من الأقوال والأفعال، ومن فقد الحياء وقع في الذنوب والمعاصي ومساوئ الأخلاق، كما تقدم.
إن الحياء خلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين من هذه الأمة، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه كان
(1)
"غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 330)، "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (20).
(2)
"أعلام الحديث"(3/ 2198 - 2199).
(3)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (20).
(4)
"أعلام الحديث"(3/ 2198).
رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها
(1)
. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام كان حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياءً من الله .. "
(2)
، ويقول أبو بكر رضي الله عنه وهو يخطب في الناس: (يا معشر المسلمين: استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لَأَظَلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعًا بثوبي استحياءً من ربي عز وجل
(3)
.
وتقدم قول عمر رضي الله عنه: (من قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه).
كما تقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله).
وقال الفضيل بن عياض: (خمس من علامات الشقوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل)
(4)
.
وقد ذكر ابن القيم أن من عقوبات المعاصي: ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمع
(5)
، ثم قال:(والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبيح ما يفعله، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع)
(6)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (6119)، ومسلم (2320).
(2)
رواه البخاري (3404)، ومسلم (339).
(3)
"مكارم الأخلاق" لابن أبي الدنيا ص (20).
(4)
"مدارج السالكين"(2/ 260).
(5)
"الداء والدواء" ص (168).
(6)
المصدر السابق ص (169 - 170).
ما جاء في فضل المؤمن القوي
1535/ 8 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ الْقَويُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِن الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإن أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "القدر"، بابٌ (في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله)(2664) من طريق عبد الله بن إدريس، عن ربيعة بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (المؤمن القوي) أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، وهو الذي كمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وليس المراد قوة البدن فحسب إلا إذا كان في قوة البدن ما يزيد في إيمانه وما يقتضيه؛ لأن القوي وصف عائد على موصوف وهو المؤمن، فيكون المراد القوي في إيمانه وما يقتضيه.
قوله: (خير) اسم تفضيل حذفت ألفه تخفيفًا، وهو خبر المبتدأ (المؤمن)
والغرض من هذه الجملة تحريك الهمة والحث والترغيب في اكتساب أنواع القوة، من قوة البدن وقوة العلم وقوة الإيمان والعمل الصالح، وهذه الخيرية باعتبار ما تقدم من تأثيره على غيره بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
قوله: (وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف) اسم تفضيل، وبعده المفضل عليه.
قوله: (وفي كل خير) أي: وفي كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف خير؛ لاشتراكهما في أصل الإيمان، و (خير) هنا مصدر لا اسم تفضيل.
وهذا نوع من البلاغة يسمى الاحتراس؛ لئلا يتوهم القدح في المفضول، وهو المؤمن الضعيف ويُظن أنه لا خير فيه.
قوله: (احرص) بكسر الراء من باب ضرب، وفتحها لغة من باب تعب، وهو من الحرص الذي هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، وذلك بفعل الأسباب المشروعة التي تنفع العبد في دنياه وأُخراه.
قوله: (على ما ينفعك) أي: من أمور دينك ودنياك، من العلم النافع والعمل الصالح وسلوك الأسباب الدنيوية اللائقة بالحال؛ لطلب المعاش الذي يستعين به على صيانة دينه وعياله.
قوله: (واستعن بالله) أي: اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله تعالى لا من غيره.
قوله: (ولا تَعْجَزْ) ضبطت هذه اللفظة في بعض نسخ "الصحيح" بكسر الجيم، وفي بعضها بالفتح، وفي بعضها بالوجهين، والكسر هو الأفصح على أنها من باب ضرب، قال تعالى عن الجن:{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} [الجن: 12]، وحكي الفتح من باب تَعِبَ
(1)
، وقد
(1)
انظر: "مختار الصحاح" ص (413)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(16/ 455)، "المصباح المنير" ص (393).
قيل: إن هذا لغة لبعض قيس عيلان، ذكرها أبو زيد الأنصاري، وهي غير معروفة عندهم، قال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: لا يقال: عَجِزَ الرجل -بالكسر- إلا إذا عظمت عَجِيزته، قال ابن القوطية:(عَجَزَ عجزًا: ضد حَزَمَ وفي "الصحاح": العجز: الضَّعف)
(1)
.
والمعنى: لا تفرط في طلب ما ينفعك في دينك ودنياك متكلًا على القدر، فتنسب للتقصير، وتلام على التفريط شرعًا وعادة، بل اعتمد على الله مع اتخاذ الأسباب.
قوله: (وإن أصابك شيء) أي: وإن غلبك شيء من المقدورات ولم يحصل لك المقصود بعد بذل الجهد والاستطاعة.
قوله: (فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا) أي: لأن هذا القول لا يجدي عنك شيئًا؛ لأنه غفلة عن حقائق الأمور وهو أن كل شيء بقدر مقدور.
قوله: (كذا وكذا) كناية عن مبهم، وهي فاعل (كان) التامة، وجملة (كان) مع فاعلها جواب (لو).
قوله: (ولكن قل: قَدَّرَ اللهُ
…
) ضُبط في نسخ البلوغ بفتح القاف والدال المفتوحة المشددة وفتح الراء على أنه فعل ماض، وما بعده مرفوع على أنه فاعل؛ أي: قَدَّرَ الله هذا الشيء وقضى، فنفذ قضاؤه وقدره، وضبطه بعضهم بفتح القاف والدال وضم الراء على أنه اسم، وهو خبر لمبتدأ محذوف، وهو مضاف لما بعده مجرور بهذا المضاف؛ أي: هذا الحاصل قدر الله وقضاؤه
(2)
.
والقدر يطلق على التقدير الذي هو فعل الله تعالى، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله وهو المراد هنا.
(1)
"الأفعال" لابن القوطية ص (19)، "الصحاح"(3/ 883)، "معجم مقاييس اللغة"(4/ 332).
(2)
انظر: "دليل الفالحين"(1/ 311).
قوله: (وما شاء فعل) جملة شرطية؛ أي: وما شاء الله فعله؛ لأن الله تعالى لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
قوله: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي: وساوس الشيطان وأوهامه التي يلقيها على الإنسان من نقص إيمانه بالقدر واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن المضعف للقلب.
ولو: اسم (إنَّ) قصد حكايتها؛ أي: فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.
° الوجه الثالث: إثبات صفة المحبة لله تعالى على ما يليق بجلاله، وأنها متعلقة بمحبوبات الله تعالى وبمن قام بها من عباده، وأنها تتفاضل فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف.
° الوجه الرابع: أن الناس يتفاوتون في قوة الإيمان وضعفه، وهذا يؤيد القول الصحيح: إن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن قوة الإيمان زيادة، وضعفه نقص.
° الوجه الخامس: أن المؤمنين يتفاوتون في الخير ومحبة الله تعالى والقيام بدينه، وأن الله تعالى يحب بعض المؤمنين أكثر من بعض، وأن المؤمن وإن ضعف ففيه خير بإيمانه وطاعته.
° الوجه السادس: أنه ينبغي لمن فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل وجهة التفضيل، وألا يهمل ذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول؛ لئلا يتطرق القدح إلى المفضول
(1)
.
° الوجه السابع: الحث على الحرص على الاجتهاد في طلب الأمور النافعة من أمور الدين وأمور الدنيا، وكمال العبد في هذين الأمرين: أن يكون حريصًا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به؛ لأن العبد محتاج إلى الأمور الدنيوية كما هو محتاج إلى الأمور الدينية، فمتى حَرَصَ العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها
(1)
انظر: "بهجة قلوب الأبرار" ص (29).
وتكميلها كان في ذلك كماله، وعنوان فلاحه، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك
(1)
.
وفي الحديث إشارة إلى أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده ويصرف وقته فيما لا نفع فيه، كما يجب عليه الابتعاد عن كل ما فيه ضرر في العاجل والآجل؛ لأن اجتناب الضار نفع للعبد، يدل على هذا قوله:"احرص على مما ينفعك".
° الوجه الثامن: وجوب الاستعانة بالله تعالى على أمور الدين والدنيا؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على ذلك إلا الله تعالى، والاستعانة بالله تعالى تتضمن الخضوع لله تعالى، والثقة به والاعتماد عليه.
ومناسبة أمره بالاستعانة بعد أمره بالحرص على ما ينفعه؛ أَنَّ حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله تعالى ومشيئته وتوفيقه، فأُمِرَ بالاستعانة ليجتمع له مقام:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونة الله، فأمره بأن يعبده ويستعين به
(2)
.
وهناك ملحظ آخر في هذا الأمر وهو أن الإنسان بقوته وحرصه على النافع وإدراكه ما يريد قد يغفل عن الاستعانة وتغره نفسه بأن ما حصل له إنما هو بحوله وقوته، فناسب أمره بالاستعانة بعد أمره بتحصيل ما ينفعه؛ لئلا ينسى الاستعانة بالله تعالى ولو على الشيء اليسير
(3)
.
° الوجه التاسع: أنه ينبغي للإنسان أن يصبر ويثابر ويحذر العجز والبطالة وتعطيل الأسباب، فالعجز مذموم شرعًا وعقلًا، قال ابن القيم:(العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز. . .)
(4)
.
(1)
"شفاء العليل"(1/ 230 - 231).
(2)
"شفاء العليل"(1/ 231).
(3)
"شرح رياض الصالحين"(2/ 80).
(4)
"شفاء العليل"(1/ 231).
° الوجه العاشر: إثبات القضاء والقدر وأنه لا ينافي فعل الأسباب والسعي في طلب الخيرات؛ لأن ما قدر لا بد أن يكون، فيجب الإيمان بالقدر والتسليم، وأفعالُ الله تعالى إنما تصدر عن حكمةٍ وعلم وفضل وعدل.
° الوجه الحادي عشر: النهي عن قول (لو) في الأمور المقدرة التي حصلت ومضت؛ لأنها اعتراض على القدر، وفيها التسخط والندم، وضيقة الصدر، وتجدد الأحزان على النفوس، وهذا باب ينبغي إغلاقه إذ لا نفع فيه، ثم هو يخل بتوحيد العبد وقوة إيمانه؛ لأن الأمور كلها بقضاء الله وقدره، وما وقع منها فلا بد من وقوعه، ولا يمكن رده، وهذا أمر يقع فيه كثير من الناس، فيعتقد أنه يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك، وذلك يضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
(1)
.
أما استعمالها تندمًا على فوات الطاعة وتمنيًا للخير أو في أمر مستقبل، فهذا جائز، كأن يقول: لو أَنَّ عندي مالًا لتصدقت على فلان، ومثل هذا إذا استعملت في الخبر المحض، مثل: لو حضرت الدرس لاستفدت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"
(2)
، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة رضي الله عنهم ما ساق الهدي ولَأحَلَّ معهم، أو أنه لو استقبل الإحرام بالحج ما ساق الهدي ولَأحْرَمَ بالعمرة. وقال آخرون: إنه من باب التمني، وهذا فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى شيئًا قدَّر الله خلافه
(3)
.
° الوجه الثاني عشر: التحذير من كيد الشيطان؛ لأن له تأثيرًا علي بني آدم، ومن ذلك إدخال الوساوس.
° الوجه الثالث عشر: الإرشاد إلى الكلام الحسن، لقوله:"ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل". والله تعالى أعلم.
(1)
"إعلام الموقعين"(3/ 169).
(2)
رواه مسلم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
انظر: "فتح الباري"(13/ 224)، "القول السديد" ص (166)، "القول المفيد"(3/ 124).
الحث على التواضع
1536/ 9 - عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ أَوْحى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الجنة وصفة نعيمها وأهلها"، باب (الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار)(2865)(64) من طريق هشام، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:"ألا أن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم .. " الحديث، ورواه سعيد عن قتادة بهذا الإسناد ولم يذكر في حديثه:"كل مال نحلته عبدًا حلال".
ورواه مطر، حدثني قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار أخي بني مجاشع قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبًا فقال: "إن الله أمرني
…
" وساق الحديث بمثل حديث هشام عن قتادة، وزاد فيه: "وإن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. . ." الحديث.
ورواه أبو داود (4895) من طريق الحجاج، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله، عن عياض بن حمار، مقتصرًا على اللفظ الذي ساقه الحافظ هنا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أوحى إليَّ) الوحي في اللغة: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره.
وشرعًا: إعلام الله تعالى لنبيٍّ من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه
(1)
، وهذا الوحي قد يكون وحي إلهام أو برسالة
(2)
.
قوله: (أن تواضعوا) أن مفسرة؛ لأنه تقدم عليها جملة فيها معنى القول دون حروفه، كقوله تعالى:{إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه: 38 - 39]، ويجوز أن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر؛ أي: أمرني وإياكم بالتواضع.
والتواضع: مصدر تواضع؛ أي: أظهر الضَّعة، وهو مأخوذ من مادة (وض ع) التي تدل على الخفض للشيء وحطه
(3)
.
والتواضع: هو خفض الجناح وإلانة الجانب من غير خسة ولا مذلة، وهو ضد الكبر.
قوله: (حتى) غائية أو تعليلية، وعندي أنه أظهر.
قوله: (لا يبغي) بكسر الغين، وهو منصوب بـ (حتى)، والبغي: هو الظلم والاستطالة والتعدي على الغير، يقال: بغى على الناس بغيًا: ظلم واعتدى وعدل عن الحق
(4)
.
قوله: (ولا يفخر) بالنصب عطفًا على ما قبله، وهو بفتح الخاء المعجمة ماضيه فَخَرَ من باب نفع، والافتخار: هو المباهاة بالمكارم والمناقب من المال والولد والعلم والقوة والنسب وغير ذلك.
° الوجه الثالث: في الحديث حث على التواضع وأمر به، وهو خلق
(1)
انظر: "معجم مقاييس اللغة"(6/ 93)، "مناهل العرفان"(1/ 56).
(2)
انظر: "دليل الفالحين"(3/ 53).
(3)
"معجم مقاييس اللغة"(6/ 117).
(4)
"المصباح المنير" ص (57).
كريم من أخلاق المؤمنين، أوحاه الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل أهميته والعناية بشأنه، والتواضع أن يتذلل العبد ويستسلم عند أوامر الله تعالى فيمتثلها، وعند نواهيه فيجتنبها، ويتواضع فيما بينه وبين الناس. قال الحسن:(التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا)
(1)
.
وقال الجنيد بن محمد: (التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب)
(2)
.
وللقرطبي في موضوع التواضع كلمة قيمة أنقلها بتمامها، يقول:(التواضع: الانكسار، والتذلُّل، ونقيضُه التكبُّر والترفع، والتواضعُ يقتضي متواضَعًا له؛ فإن كان المتواضَعُ له هو اللهُ تعالى، أو مَن أمر اللهُ بالتَّواضع له كالرسول، والإمام، والحاكم، والوالد، والعالم، فهو التواضعُ الواجبُ المحمودُ؛ الذي يرفع اللهُ تعالى به صاحبَه في الدنيا والآخرة، وأما التواضعُ لسائر الخلق فالأصلُ فيه: أنه محمودٌ، ومندوبٌ إليه، ومُرَغَّبٌ فيه إذا قُصِد به وَجْهُ الله، ومَن كان كذلك رفع اللهُ تعالى قدره في القلوب، وطيَّب ذِكْرَهُ في الأفواه، ورَفَع درجته في الآخرة، وأما التواضعُ لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذلُّ الذي لا عِزَّ معه، والخِسَّةُ التي لا رفعةَ معها، بل يترتب عليها ذلُّ الآخرة، وكل صفقةٌ خاسرة -نعوذ بالله من ذلك-)
(3)
.
وقد أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتواضع لعباد الله المؤمنين، فقال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215] أي: ألِنْ لهم جانبك، وإطلاقُ العرب خفض الجناح كنايةً عن التواضع ولين الجانب أسلوبٌ معروف
(4)
، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التواضع ورغَّب فيه بقوله وفعله، أما القول فكما في حديث الباب، وأما الفعل ففي سيرته صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعًا، وأقربهم إلى الضعيف والمسكين، وأبعدهم عن الترفع والتكبر، فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت الأَمة من إماء أهل المدينة
(1)
"الإحياء"(3/ 342).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 342).
(3)
"المفهم"(6/ 575).
(4)
انظر: "معاني القرآن وإعرابه"(3/ 186)، "أضواء البيان"(6/ 386).
لَتأْخُذُ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت
(1)
. وعنه -أيضًا رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال:"يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها
(2)
. وعن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة
(3)
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو دعيت إلى ذِراع أو كُراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذِراع أو كُراع لقبلت"
(4)
، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بالصبيان سلَّم عليهم. روى مسلم عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت البناني، فمر بصبيان، فسلم عليهم، وحدّث ثابت أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم
(5)
.
وإذا اتصف العبد بالتواضع خضع للحق وانقاد له، وقبله ممن قاله كائنًا من كان، والتواضع ضد الكبر، ومن تواضع فإنه لن يتكبر على أحد؛ لأن المتواضع لا يرى لنفسه مزية على غيره بحيث يتكبر عليه أو يعتدي عليه، وإنما البغي والتكبر ينشآن ممن يرى نفسه فوق الآخرين، فيحمله ذلك على الكبر.
والتواضع يرفع المرء قدرًا، ويزيده نُبلًا، وهو عنوان سعادة العبد ورفعته، ومحبة الناس له، وثناؤهم عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم:"مما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"
(6)
، قال مصعب بن الزبير:(التواضع مصايد الشرف) وقيل في منثور الحكم: (من دام تواضعه كثر صديقه)
(7)
.
° الوجه الرابع: في الحديث نهي عن الافتخار والمباهاة بالمكارم
(1)
رواه البخاري (6072) معلقًا.
(2)
رواه مسلم (2326).
(3)
رواه البخاري (6039).
(4)
"صحيح البخاري"(2568).
(5)
"صحيح مسلم"(2168)(15).
(6)
سيأتي شرحه إن شاء الله.
(7)
"أدب الدنيا والدين" ص (207).
والمناقب على سبيل الفخر والعلو على الناس، فهذا مذموم؛ لأنه ضد التواضع، وهو منشأ الكِبْرِ، والخَلْقُ من أصل واحد، والنظر إلى العَرَض الزائل ليس من شأن العاقل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (نهى الله سبحانه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهي: الفخر والبغي؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، وإن كان بغير حق، فقد بغى، فلا يحل لا هذا ولا هذا)
(1)
.
وليس من الفخر التحدث بنعمة الله؛ لأن المتحدث بالنعمة قاصد الثناء على المنعم والإخبار عن صفات موليها، ومحض جوده وكرمه، فهو بذلك مثنٍ على الله تعالى بإظهار النعمة، شاكر له، ناشر لجميع ما أولاه.
وأما الفخر بالنعم فهو أن يستطيل بها على الناس، ويريهم أنه أعز منهم وأكبر، فيركب أعناقهم، ويستعبد قلوبهم، ويستميلها إليه بالتعظيم والخدمة
(2)
، فينشأ من ذلك البغي والتكبر. والله تعالى أعلم.
(1)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 405).
(2)
انظر: "الروح" لابن القيم ص (334).
فضل الذَّبِّ عن عرض المسلم
1537/ 10 - عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه؛ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيبِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
1538/ 11 - وَلِأحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هي أسماء بنت يزيد بن السَّكَنِ الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية، أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروت عنه، قال ابن عبد البر:(كانت من ذوات العقل والدين)، وقال الذهبي:(كانت من المبايعات المجاهدات)، وكان يقال لها: خطيبة النساء، شهدت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المشاهد، وحضرت وقعة اليرموك، وقتلت يومئذٍ تسعة من الروم بعمود فسطاطها، حدث عنها مولاها مهاجر، وشهر بن حوشب، ومجاهد وآخرون، ذكر الذهبي أنها عاشت إلى دولة يزيد بن معاوية
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فقد رواه الترمذي في أبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في الذب عن عرض المسلم)(1931)، وأحمد (54/ 528) من طريق عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر النهشلي، عن مرزوق أبي بكر
(1)
"الاستيعاب"(12/ 208)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 296)، "الإصابة"(12/ 124).
التيمي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة"، وليس عند الترمذي ولا أحمد لفظة:(بالغيب).
قال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وقواه الحافظ العراقي
(1)
.
وفي سنده مرزوق أبو بكر التيمي لم يذكروا في الرواة عنه سوى أبي بكر النهشلي، كما نص على هذا الذهبي
(2)
، وعلى هذا فهو مجهول العين، إلا إن كان أبا بُكير التيمي الكوفي المؤذن، وهذا ثقة
(3)
.
ورواه الإمام أحمد (45/ 523 - 524) من طريق ليث -وهو ابن أبي سليم- عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث بنحوه.
وهذا سند ضعيف، فيه ليث، وهو ضعيف باتفاق الأئمة؛ لسوء حفظه واختلاطه، قال ابن معين:(ضعيف، إلا أنه يكتب حديثه)، وقال أحمد:(مضطرب الحديث، ولكن حدث عنه الناس)، وقال -أيضًا-:(ضعيف الحديث جدًّا)
(4)
، وقال الحافظ ابن حجر:(صدوق، اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه فتُرك) وفيه -أيضًا- شهر بن حوشب، وهو متكلم فيه، فقد وثقه أحمد وابن معين، وقال أبو زرعة:(ليس به بأس) ونقل الترمذي عن البخاري: (شَهْرٌ حسن الحديث)، وقوَّى أمره، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال ابن حبان:(كان ممن يروي عن الثقات المعضلات وعن الأثبات المقلوبات)، وقال ابن عدي:(عامة ما يرويه من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يُتدين به)
(5)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق كثير الإرسال والأوهام).
(1)
"تخريج الإحياء"(2/ 206).
(2)
"الميزان"(4/ 88).
(3)
انظر: "تهذيب الكمال"(27/ 374 - 376)، "تهذيب التهذيب"(10/ 78)، "التعليق على مسند الإمام أحمد"(45/ 528).
(4)
انظر: "تهذيب الكمال"(24/ 279).
(5)
"الكامل"(4/ 40)، "المجروحين"(1/ 458 - 459)، "تهذيب الكمال"(12/ 578).
ثم إن هذا الحديث في سنده اختلاف، فقد اختلف فيه على ليث -كما ذكر الدارقطني- ومن وجوه الاختلاف أن ابن القداح رواه عن شهر، عن أسماء -كما في الحديث الآتي- وهذا الاختلاف قد يكون من ليث ومن القداح على شهر، أو من شهر نفسه، فيكون قد اضطرب فيه، وقد توبع في روايته عن أم الدرداء، كما تقدم
(1)
.
وأما حديث أسماء بنت يزيد فقد رواه أحمد (45/ 583) من طريق عبيد الله بن أبي زياد، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ذبَّ عن لحم أخيه كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار".
وهذا سند ضعيف -أيضًا- فيه عبيد الله بن أبي زياد -وهو القدَّاح- فيه مقال، قال أحمد:(ليس به بأس)، وقال أبو حاتم:(ليس بالقوي ولا المتين، هو صالح الحديث، يكتب حديثه)، وقال أبو داود فيما روى عنه الآجري:(أحاديثه مناكير)، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وقال في موضع آخر:(ليس بالقوي)، وقال ابن عدي:(قد حدث عنه الثقات، ولم أر في حديثه شيئًا منكرًا)
(2)
، وقال الحافظ في "التقريب":(ليس بالقوي)، وفيه -أيضًا- شهر بن حوشب- تقدم.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل من أنكر الغيبة ودافع عن عرض أخيه المسلم في مجلس اغتيب فيه، وأن الله تعالى يرد النار عن وجهه يوم القيامة كما رد عن عرض أخيه، وهذا من مهمات الآداب وحقوق الإسلام التي يجب على حاضر مجلس الغيبة أن يتحلى به، وذلك لأن المغتاب ظالم لأخيه آكل لحمه، والواجب هو ردع الظالم ونصرة المظلوم.
وهذا الأدب الكريم ورد في أحاديث صحيحة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية.
(1)
انظر: "علل الدراقطني"(6/ 225)، "غاية المرام" ص (246).
(2)
"تهذيب الكمال"(19/ 41).
فمن القولية حديث أبي الدرداء وحديث أسماء رضي الله عنهما، وإن كان في سندهما مقالٌ، لكن لهما ما يؤيد معناهما.
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم-: (
…
ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة
…
) فهذا الحديث -كما يقول الحافظ ابن حجر- فيه إشارة إلى ترك الغيبة؛ لأن من أظهر مساوئ أخيه لم يستره
(1)
.
وكذلك من ترك غيره يذكر مساوئ أخيه ولم ينكر ذلك لم يستره، ومن أنكر فقد ستر
(2)
.
وجاء في حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه الطويل: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، وقمنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلم، وحبسناه على خزيرة صنعناها له، فثاب رجال من أهل الدار حوله حتى اجتمع في البيت رجال ذوو عدد، قال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُنِ؟ فقال بعضهم: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله"، قالوا: الله ورسوله أعلم
…
الحديث
(3)
. قال ابن رجب: (فيه أن من رمى أحدًا بنفاق وذَكَرَ سُوءَ عمله، فإنه ينبغي أن تُرد غيبته ويُذكر صالح عمله. . .)
(4)
.
وفي حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وتوبة الله عليه أنه قال: ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال -وهو جالس في القوم بتبوك-:"ما فعل كعب؟ " فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرْدَاهُ ونظره في عِطْفَيهِ، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
قال ابن علان: (قوله: "فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي: مقرًا لإنكار معاذ
(1)
"فتح الباري"(5/ 97).
(2)
انظر: "الغيبة وما يتعلق بها من أحكام" ص (116).
(3)
رواه البخاري (425)، ومسلم (33).
(4)
"فتح الباري"(3/ 188).
(5)
رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
على من فعل الغيبة أو تلبس بها، وتشريعًا لمثله بالرد على المغتاب)
(1)
، وقال في موضع آخر:(فسكت النبي صلى الله عليه وسلم على رده عن كعب رضًا به، وتحريضًا على سلوك ذلك)
(2)
.
قال النووي: (اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو كان من أهل الفضل والصلاح كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 364).
(2)
"الفتوحات الربانية"(7/ 19).
(3)
"الأذكار" ص (544).
فضل العفو والتواضع
1539/ 12 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "البر والصلة"، باب (استحباب العفو والتواضع)(2588) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث، إلا أن في آخره:"إلا رفعه الله".
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ما نقصت صدقة من مال) الصدقة: هي المخرج من المال تقربًا إلى الله تعالى، وهي تشمل الزكاة الواجبة وصدقة التطوع.
والمعنى: أن الصدقة إذا أخرجت من المال، فإنها لا تنقصه بل إنها تزيده إما كمية بأن يفتح الله للعبد أبوابًا من الرزق، وإما كيفية بأن ينزل الله تعالى البركة التي تزيد على مقدار ما أخرج منه صدقة، فيجبر النقص الصوري بالبركة الخفية
(1)
. قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
(1)
انظر: "المفهم"(6/ 574).
قوله: (وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا) العفو: مصدر عفا يعفو عفوًا: إذا ترك وإذا طلب، قال الخليل:(العفو تركك إنسانًا استوجب عقوبة فعفوت عنه)
(1)
.
والعِزُّ: مصدر عَزَّ يَعِز عَزًّا من باب ضرب، والعز خلاف الذل، وهو حالة تمنع الإنسان من أن يُغلب
(2)
.
والمعنى: أن من عرف بالعفو وترك المؤاخذة ساد وعظم في القلوب، وزاد عزة وكرامة ورفعة في الدنيا والآخرة
(3)
.
قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه) هكذا في أكثر نسخ "البلوغ" وفي المخطوطة
(4)
، وفي "الصحيح"(إلا رفعه الله) وثبت هذا في بعض النسخ، وقد تقدم قريبًا معنى التواضع، ويفسر هذا الحديث بمعنيين:
الأول: التواضع لله تعالى بالعبادة والخضوع والانقياد لأمره.
الثاني: التواضع لعباد الله من أجل الله، وكلاهما سبب الرفعة في الدنيا، بأن يرفع الله المتواضع ويجعل له منزلة عالية عند الناس ويرفعه في الآخرة فيثيبه على تواضعه بالجنة.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الصدقة وأنها لا تنقص المال كما يتوهم الإنسان، أو يَعِدُ به الشيطان، كما قال تعالى:{الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله
(5)
. بل يزيد الله تعالى المال بركة وخيرًا، فعلى المؤمن أن يحرص على الصدقة وعلى البذل والإحسان.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل العفو عن المسيء والحث عليه؛ لأن الله تعالى وعد العافين عن الناس بالعِزِّ، والعفو من كمال الإيمان
(1)
"العين"(2/ 258)، "معجم مقاييس اللغة"(4/ 61).
(2)
"المفردات" ص (333).
(3)
انظر: "المفهم"(6/ 574 - 575).
(4)
انظر وصفها في حاشية شرح الحديث (1455) من هذا الجزء.
(5)
"تفسير ابن كثير"(1/ 475).
وحسن الإسلام، وهو من مظاهر حسن الخلق وسعة الصدر، وعدم الميل إلى الانتقام.
وفي العفو سلامة القلب، ونقاؤه من الغش والغل وإرادة الشر، ومن عفا حصل له من حلاوة العفو ما تزيد لذته ومنفعته عاجلًا أو آجلًا على المنفعة الحاصلة بالانتقام أضعافًا مضاعفة.
والعفو دليل على سلامة التفكير؛ لأن من الناس من لا يعفو عمن أساء إليه، لظنه أنه يلحقه بذلك ذلٌّ أمام من اعتدى عليه، وأنه إذا انتقم صار عزيزًا مهابًا، ولا ريب أن هذا الفهم بمعزل عن الصواب، وهو من خداع النفس الأمارة بالسوء، فإنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلًّا يجده في نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، ثم إن العفو يثمر ثواب الله تعالى، كما يثمر ثناء الناس على العافي، ومحبتهم له، ونظرهم إليه بعين الإجلال والإكبار، فيزداد عزًا فوق العز الذي كان يتوقعه لو أنه انتصف من ظالمه.
ثم إن الإنسان إذا اشتغلت نفسه بالانتقام، وطلب المقابلة، ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من المصالح ما لا يمكن استدراكه، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام
(1)
.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: (من أعظم أنواع الإحسان: العفو عن المخطئين المسيئين، والإغضاء عن زلّاتهم، والعفو عن هفواتهم
…
فإنه إذا عفا عمن ظلمه وأساء إليه، زال أثر ذلك عن قلبه، وعلم أنه اكتسب عن ذلك من ربه أفضل جزاء وأعظم ثواب.
وأيضًا: فمن عفا عن عباد الله عفا الله عنه، ومن سمح عنهم سامحه الله)
(2)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على فضل التواضع، وأنه سبب لرفعة
(1)
انظر: "قاعدة في الصبر والشكر" لابن تيمية ص (47) ضمن: "المجموعة العليّة".
(2)
"فتح الرحيم الملك العلَّام" ص (118).
المتواضع، قال ابن حبان:(الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه ألا يتزيَّا بغيره).
ويقول -أيضًا-: (لا يمتنع من التواضع أحد، والتواضع يكسب السلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويذهب الصَّدَّ، وثمرة التواضع المحبة، كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه، كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته، وكيف لا يتواضع من خُلق من نطفة مَذِرَةٍ، وآخره يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟)
(1)
.
(1)
"روضة العقلاء" ص (59، 61).
بعض مكارم الأخلاق
1540/ 13 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أيّها النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "صفة القيامة والرقائق والورع"، (2485)، وابن ماجه (1334)(3251)، وأحمد (39/ 201)، والحاكم (4/ 159 - 160) وغيرهم، من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أولُ شيء تكلم به أن قال:"يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" وهذا لفظ الترمذي، وليس فيه:(وصلوا الأرحام) وإنما هي عند أحمد، وابن ماجه في الموضع الثاني، كما أن لفظة (بالليل) ليست عند الترمذي ولا أحمد، وإنما هي عند ابن ماجه، وبهذا يتبين أن اللفظ الذي ساقه الحافظ ليس هو لفظ الترمذي الذي عزا الحافظ الحديث إليه، وإنما هو لابن ماجه في الموضع الثاني.
وهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، قال الترمذي:(هذا حديث صحيح)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وقد تُكُلِّمَ في سماع زرارة بن
أوفى من عبد الله بن سلام، فأثبت سماعه منه مسلم، وأبو حاتم لا يرى أنه سمع، ولم يصرح البخاري بسماعه وإلا لذكره فيمن سمع، وقد اختلف في التصريح بالسماع في هذا الحديث، والأكثرون على عدمه
(1)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أفشوا السلام) بقطع الهمزة؛ أي: أشيعوا وأظهروا السلام على من عرفتم ومن لا تعرفون، يقال: فَشَا الشيء فَشْوًا وفُشُوًّا: ظهر وانتشر
(2)
.
قوله: (وصلوا الأرحام) أمرٌ مِن وصل يصل صلة ووصلًا، والوصل: ضد القطع والهجران، والمراد بذلك: الإحسان إلى الأقارب وإيصال الخير والنفع لهم بالمال أو بالخدمة أو بالزيارة أو بالسلام، أو بغير ذلك على حسب حال الواصل والموصول، وقد تقدم الكلام في ذلك.
قوله: (وأطعموا الطعام) أي: ابذلوا الطعام لمن يحتاجه من فقير وضعيف وغريب.
قوله: (وصلوا بالليل) أي: تهجدوا.
قوله: (والناس نيام) جملة حالية من فاعل (صلوا) والمراد بذلك وقت غفلة الناس ونومهم؛ لأنه أبعد عن الرياء والسمعة، وأعظم في الأجر، وأقرب إلى الخشوع وتواطؤ القلب واللسان.
قوله: (تدخلوا الجنة بسلام) بجزم المضارع بحذف النون؛ لأنه وقع جوابًا للطلب، والمعنى: تدخلوا الجنة متلبسين بالسلام من الله تعالى ومن الملائكة الكرام من مكروه أو تعب أو مشقة.
وجاء في رواية الترمذي: (تدخلون) بثبوت النون، فيكون الفعل مرفوعًا على اعتبار أن الجملة حال من واو الجماعة، كإعرابها صفة لوقوعها بعد نكرة في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]
(3)
.
(1)
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 439)، "الكنى والأسماء"(1/ 271)، "المراسيل" لابن أبي حاتم ص (63)، "التابعون الثقات" ص (522).
(2)
"المصباح المنير" ص (473).
(3)
"النحو الوافي"(3/ 390 - 391).
° الوجه الثالث: في الحديث أربع خصال من مكارم الأخلاق التي توجب محبة الله تعالى ومحبة الخلق لمن اتصف بها، ولهذا كانت من أسباب دخول الجنة، وهي إفشاء السلام ونشره بين الناس بحيث تسلم على كل من لقيت، سواء عرفته أم لم تعرفه، وتقدم هذا في باب "الأدب" أول كتاب "الجامع".
والثانية: صلة الأرحام، وذلك بإيصال ما تيسر من الخير لهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم، وهي تكون بالمال، وبالعون عند الحاجة، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، وبالسؤال عنهم، وهي تختلف باختلاف القدرة والحاجة، وتقدم تفصيل ذلك في باب (البر والصلة).
والثالثة: إطعام الطعام، وقد جعله الله تعالى من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، المباعدة من النار وعذابها، قال تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 8 - 9] إلى قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاءً لإطعامهم الطعام. وقال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 11 - 16] وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكُّوا العاني"
(2)
، وإطعام الطعام يحصل بإعداد الأكل وتقديمه للأسرة الفقيرة، أو الدعوة إليه، أو إعطاء الفقير أطعمة يستفيد منها في مستقبل الأيام، على أن الحديث عام في الفقير وغيره، لكن يتأكد الإطعام للجائع والجار، وللإطعام في رمضان مزية على غيره من الشهور، لشرف وقته، ومضاعفة أجره، وإعانة الصائمين على طاعتهم.
والرابعة: الصلاة بالليل، وهي أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة،
(1)
رواه البخاري (1413)، ومسلم (1016).
(2)
رواه البخاري (5373) وتقدم أول "الأدب".
وهي أفضل من صلاة النهار، وذلك -والله أعلم- لما فيها من صفاء المناجاة، وتواطؤ القلب واللسان، وقلة الشواغل، والإخلاص، والبعد عن الرياء؛ لأنها في وقت الراحة والسكون ومحبة النوم، فقيام الليل شاقٌّ، إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، قيام الليل كما يقول المنادي:
يا رجالَ الليل جِدُّوا
…
رُبَّ داعٍ لا يُردُّ
ما يقومُ الليلَ إلا
…
من له عَزْمٌ وجِدُّ
قيام الليل -ولو كان قليلًا- من أهم المولدات الإيمانية، بما يضفي على صاحبه من نور الوجه، ويقظة القلب، وحلاوة الإيمان، وهو سبب من أسباب دخول الجنة، قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 15 - 18]، وقال تعالى في صفة عباد الرحمن:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64]، وقال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17].
فينبغي للمؤمنين أن يكون لهم نصيب من قيام الليل؛ لأن دقائق الليل غالية، فلا تُرْخَصُ بالغفلة، قال ابن عبد البر:(قيام الليل سنة مسنونة، لا ينبغي تركها، فطوبى لمن يُسِّرَ لها، وأُعينَ عليها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل بها، ونَدَبَ إليها)
(1)
. وقد مضى الكلام على ذلك في باب (صلاة التطوع). والحمد لله رب العالمين.
(1)
"التمهيد"(13/ 209).
الدين النصحية
1541/ 14 - عَنْ تَمِيمٍ الدَّاريِّ رضي الله عنه قَال: قَال صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: "للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو تميم بن أوس بن حارثة الداري، نسبة إلى الدار، وهم بطن من لَخْمٍ، ولَخْمٌ فخذ من يعرب بن قحطان، كان يكنى أبا رقية بابنة له لم يولد له غيرها، قدم تميم وأخوه نُعيم المدينة سنة تسع فأسلما، وذكر تميم للنبي صلى الله عليه وسلم قصة الجساسة والدجال
(1)
، فحدث النبي صلى الله عليه وسلم عنه بذلك على المنبر، وعُدَّ هذا من مناقبه الشريفة رضي الله عنه، ويسمى هذا عند المحدثين: رواية الأكابر عن الأصاغر، قال ابن الأثير:(كان له هيئة ولباس)، وقال الذهبي:(كان عابدًا تلَّاءً لكتاب الله)، روى ابن سعد بإسناد صحيح أنه كان يختم القرآن في سبع، وروى له الجماعة سوى البخاري، وليس له عند مسلم سوى حديث الباب. بقي في المدينة إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم انتقل إلى الشام، ونزل بيت المقدس إلى أن مات قريبًا من سنة أربعين
(2)
.
(1)
يسمى حديث الجساسة، وهي الدابة التي رآها تميم في جزيرة البحر، وسميت بذلك لأنها تجس الأخبار للدجال، والقصة رواها مسلم في آخر صحيحه (2942).
(2)
"الطبقات"(3/ 500)، "الاستيعاب"(2/ 58 - 59)، "أسد الغابة"(1/ 256)، "السير"(2/ 442)، "تهذيب الكمال"(4/ 326)، "الإصابة"(1/ 302).
° الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإيمان"، باب (بيان أن الدين النصيحة)(55) من طريق سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه"
…
وذكر تمام الحديث.
وهذا الحديث جعله البخاري ترجمة لأحد أبواب كتاب "الإيمان"
(1)
تنبيهًا على صلاحيته في الجملة، ولم يخرجه في "صحيحه" لأنه اختلف فيه على سهيل بن أبي صالح، بل إن البخاري لم يحتج بسهيل أصلًا، وإنما روى له مقرونًا وتعليقًا
(2)
.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (الدين النصيحة) هذا من باب الحصر غير الحقيقي
(3)
؛ أي: عماد الدين ومعظمه النصيحة، وهذا فيه مدح النصيحة حتى كأنها هي الدين كله، وإن كان الدين مشتملًا على خصال كثيرة غيرها
(4)
، وقيل: لا حذف بل الدين محصور فيها؛ لأن من جملتها الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما والعمل بما جاء عنهما
(5)
.
والنصيحة مصدر نصحت لزيد أنصح نصحًا ونصيحة، وهي مشتقة من نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه، والنِّصَاحُ: الخيط، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسدُّه من خلل الثوب وقيل: إنها مشتقة من نصحت العسل: إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول والعمل من الغش بتخليص العسل من الخَلْط الذي فيه
(6)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 137).
(2)
انظر: "أعلام الحديث"(1/ 187)، "فتح الباري"(1/ 138).
(3)
انظر: "التلخيص في علوم البلاغة" ص (137).
(4)
انظر: "أعلام الحديث"(1/ 190).
(5)
انظر: "الفتوحات الوهبية" ص (122).
(6)
"أعلام الحديث"(1/ 190).
وأما في الاصطلاح: فهي إرادة الخير للمنصوح له
(1)
، وذلك بدعائه إلى ما فيه الصلاح ونهيه عما فيه الفساد. قال الخطابي:(هذه الكلمة من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام؛ فإنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، حتى يُضَمَّ إليها شيء آخر)
(2)
.
قوله: (ثلاثًا) هذه اللفظة ليست في "صحيح مسلم" كما تقدم في السياق، وقد جاء في "مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم":(ثلاث مرات)
(3)
، وجاء عند الترمذي:("الدين النصيحة" ثلاث مرار)
(4)
، وعند أبي داود:"إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة"
(5)
.
قوله: (لمن يا رسول الله؟) وجه هذا السؤال أن النصيحة من باب المضاف، فلهذا استفصل الصحابة رضي الله عنهم لمن تكون النصيحة.
وقوله: (يا رسول الله) هكذا في نسخ "البلوغ" وليست في "صحيح مسلم" كما تقدم.
قوله: (لله) أي: بالإيمان به وتوحيده في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته وإخلاص الدين له، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه وشكره عليها قولًا وفعلًا واعتقادًا.
قوله: (ولكتابه) وذلك بالإيمان بأنه منزل من عند الله، وأنه كلامه لا يشبه شيئًا من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد منهم، ثم تعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف عند أوامره ونواهيه، وتفهم معانيه، والذَّبُّ عنه في تأويل المحرّفين له، وطعن الطاعنين عليه.
قوله: (ولرسوله) وذلك بالإيمان برسالته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، ومحبته، واتباعه، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر رسالته، ونفي التهمة عن جميع ما قاله ونطق به.
(1)
"أعلام الحديث"(1/ 190).
(2)
المصدر السابق.
(3)
(1/ 44).
(4)
"جامع الترمذي"(1925).
(5)
"السنن"(4944).
قوله: (ولأئمة المسلمين) الأئمة جمع إمام، والإمامة قسمان: إمامة الدين، وإمامة السلطة، فالإمامة في الدين هي بيد العلماء، والإمامة في السلطة هي بيد ولاة الأمور
(1)
.
فالنصيحة للعلماء هي أخذ العلم عنهم ومعرفة قدرهم وفضلهم ومكانتهم في المجتمع وتنبيههم إذا وقعوا في خطأ بالحكمة والأسلوب الحسن، ومن النصح لهم أن يدافع الإنسان عن أعراضهم، وألا يتتبع زلاتهم وسقطاتهم فهم غير معصومين.
وأما النصيحة لولاة الأمور فهي السمع والطاعة لهم بالمعروف، ومعاونتهم على الحق وأمرهم به، وعدم الخروج عليهم، وإعلامهم بما غفلوا عنه برفق ولطف، وأن يكف عن مساويهم، وألا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، ويدعى لهم بظهر الغيب بالصلاح والتوفيق والهداية.
قوله: (وعامتهم) أي: عامة المسلمين، وهم من لم يكن أميرًا ولا عالمًا، ولم يعد اللام مرة أخرى لكونهم تبعًا لأئمتهم لا استقلال لهم، ومعنى نصيحتهم: محبة الخير لهم، وإرشادهم إلى ما يصلح دينهم ودنياهم بتعليم جاهلهم، وإرشاد ضالهم، وإعانتهم، وتَخَوُّلُهم بالموعظة الحسنة، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم.
° الوجه الرابع: في هذا الحديث بيان فضل النصيحة وأن الدين كله نصيحة؛ لأن النصيحة هي أساس الدين وعماده، وهي من أعظم مكارم الأخلاق، ومن أعظم خصال المؤمن، ومن الدلائل على صفاء قلبه، ومحبته الخير لإخوانه المسلمين، وببذل النصيحة تصلح المجتمعات، وتصلح الأسر، ويصلح الأفراد، وبالغفلة عنها والتساهل فيها تكثر الشرور ويعم الفساد.
وقد عد العلماء هذا الحديث من ركائز الإسلام ومبانيه العظام، قال ابن حجر:(هذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها: إنها أحد أرباع الدين)
(2)
،
(1)
"دليل الفالحين"(1/ 460).
(2)
"فتح الباري"(1/ 138).
وقال النووي: (وأما ما قاله جماعات العلماء أنه أحد أرباع الإسلام؛ أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوا، بل المدار على هذا وحده)
(1)
يريد بذلك أن عماد الدين وقوامه هو النصيحة كما تقدم.
° الوجه الخامس: في الحديث بيانٌ لمن تكون النصيحة وبيانٌ لمراتبهم، وكون النصيحة بأنواعها الخمسة من الدين يضفي عليها ثوب العبادة، فيتقرب بها المسلم إلى الله تعالى مع الإخلاص وسلوك الأساليب المناسبة لكل مقام.
قال ابن بطال: (النصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، وأما إن خشي الأذى فهو في سعة فيها)
(2)
.
° الوجه السادس: للنصيحة شروط تستفاد من عمومات الأدلة ومقاصد الشريعة، ينبغي مراعاتها، ليتحقق الغرض المقصود، ويستفيد الناصح والمنصوح، وأهم هذه الشروط:
1 -
الإخلاص لله تعالى، وذلك بأن يكون القصد من النصيحة نفع المنصوح، وحثه على الخير وتحذيره من ضده، ومن علامة الإخلاص حرص الناصح على هداية المنصوح وإصلاحه، وترك المحاباة والمجاملة في النصيحة، وذلك بإهمال النصيحة أو التراخي فيها لقرابة أو صداقة أو نحو ذلك.
2 -
أن يكون الناصح عاملًا بما يقول، بأن يكون ملتزمًا بما ينصح به، لا يخالف قوله فعله؛ لأن من الممقوت شرعًا وعقلًا أن ينصح الإنسان عن شيء هو واقع فيه، وقد ذم الله تعالى هذا بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].
(1)
"شرح صحيح مسلم"(1/ 396).
(2)
"شرح ابن بطال"(1/ 129).
3 -
الرفق في النصيحة، إذ لا يتصور نصح بلا رفق، وذلك بتلطيف العبارة وحسن الأسلوب، مع حسن خلق وبشاشة وجه، واحترام للشخص المنصوح، وعلى الناصح أن يتصف بالحلم ويتحلى بالصبر إن سَفِهَ عليه المنصوح أو عابه أو شتمه.
4 -
أن تكون النصيحة مبنية على علم وإدراك لمقاصد الشريعة والتيسير على الناس وترك التشدد ومراعاة أحوال الناس في حدود النصوص الشرعية؛ لأن النصيحة إما أمر بمعروف ودعوة إلى خير، أو نهي عن منكر وتحذير عن شر، ويدل على هذا عموم قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
5 -
أن تكون النصيحة سرًّا بين الناصح والمنصوح، فلا ينصحه على ملأ من الناس؛ لأن الناصح لا يقصد إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.
6 -
مراعاة الوقت المناسب والمكان الملائم للنصيحة وحال الشخص المنصوح ومعرفة منازل الناس وأقدارهم.
7 -
التثبت قبل النصيحة، وذلك بأن يكون الناصح متثبتًا من كون المنصوح بحاجة إلى النصح، فقد يكون بريئًا مما قيل عنه، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
(1)
[الإسراء: 36].
° الوجه السابع: للنصيحة فوائد عظيمة:
منها: أنَّ الدين لا يتم إلا بها، بل هي الدين كما ذكره صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن النصيحة وظيفة شريفة، فإن عمل الناصح لله ولرسوله ولكتابه وللخلق واستعداده وتهيئته للنصيحة من أكبر الأعمال المقربة إلى رب العالمين،
(1)
انظر: "تفسير الطبري"(15/ 62)، "الفرق بين النصيحة والتعيير" ص (39)،، النصيحة شروطها وآدابها" ص (87).
فما تقرّب أحد إلى الله بمثل توطين النفس على النصيحة الشرعية المذكورة، فالناصح في عبادة مستمرة إن قام أو قعد، أو عمل، أو ترك العمل.
ومنها: أن من عجز عن العمل الديني إذا كان ناصحًا لله ولرسوله، ناويًا الخير إذا تيسر له، فإنَّه لا حرج عليه، ويشارك العاملين في عملهم، فإنَّما الأعمال بالنيات.
ومنها: أنَّ الله ييسر للناصح الصادق أمورًا لا تخطر له على بال، وأنَّ الساعي في نفع المسلمين إذا كان قصده النصيحة، فإنَّه يفلح وينجح، فإنْ تم ما سعى له فعلًا وهو الغالب وإلا تمَّ أجرُهُ، فمن عجز عن بعض عمل قد شرع فيه تُمّم له ذلك العمل. قال تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].
ومنها: السلامة من الغش، فإن من غشّ المسلمين في دينهم ودنياهم فليس منهم، والغش من أشنع الخصال القبيحة في حق القريب والبعيد، والمخالف والموافق
(1)
.
° الوجه الثامن: الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنه على تعلم أمور الدين؛ لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة؟.
° الوجه التاسع: في الحديث دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين مواضع النصيحة حتى سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة؟.
° الوجه العاشر: في الحديث دليل على أن للعالم أن يكل فهم ما يلقيه من العلم للسامع، فلا يزيد له في البداية حتى يسأله، لتتشوَّفَ نفسه حينئذٍ إليه، فيكون أوقع في النفس وأرسخ في الذهن مما لو فهمه من أول وهلة، وفيه أنه ينبغي للمتعلم مراجعة مُعلِّمِهِ عند الإبهام والالتباس وألا يستحيي من ذلك. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "فتح الرحيم الملك العلَّام" لابن سعدي ص (109 - 110).
ما جاء في أن التقوى وحسن الخلق من أسباب دخول الجنة
1542/ 15 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في حسن الخلق)(2004)، وابن ماجه (4246)، والحاكم (4/ 324) من طريق عبد الله بن إدريس قال: حدثني أبي، عن جدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة، فقال:"تقوى الله وحسن الخلق"، وسئل عن أكثر ما يدخل النار، فقال:"الفم والفرج".
قال الترمذي: (هذا حديث صحيح غريب)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
وعبد الله بن إدريس ثقة فقيه عابد -كما في "التقريب"- ووالده إدريس ثقة -كما في "التقريب"- أيضًا، وأما جده وهو يزيد بن عبد الرحمن الأودي، فإنه لم يوثقه إلا العجلي
(1)
، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(2)
، وقال الذهبي:(وُثِّقَ)
(3)
، وقال الحافظ في "التقريب":(مقبول).
(1)
توثيق العجلي ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب"(11/ 302) ولم أجده في المطبوع من "تاريخ الثقات" للعجلي.
(2)
(5/ 542).
(3)
"الكاشف"(2/ 386).
° الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل تقوى الله تعالى، وأنها سبب دخول الجنة، والتقوى وصية الله تعالى لجميع خلقه، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"
(1)
بل هي دعوة الأنبياء، فكل نبي يقول لقومه:{أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106]، وهي شعار الأولياء {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62 - 63].
وقد ذكر الله تعالى التقوى في آيات كثيرة جدًّا، جَلَّى فيها صفات أهلها، وأشاد بذكرهم، وبين ما عُلِّق على التقوى من خير، وما وُعِدَ عليها من ثواب، وما ارتبط بها من بشارات.
ولهذا كان السلف الصالح يتواصون بالتقوى، ويوضحون معالمها، فعن عاصم الأحول قال: لقي بكر بن عبد الله طلق بن حبيب، فقال له بكر: صف لنا من التقوى شيئًا يسيرًا نحفظه، فقال:(اعمل بطاعة الله، على نور من الله ترجو ثواب الله، والتقوى: ترك المعاصي على نور من الله، مخافة عقاب الله)
(2)
. وهذا من أحسن ما عرفت به التقوى.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: (أوصيك بتقوى الله: الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل)
(3)
.
وقال له رجل أوصني، قال:(أوصيك بتقوى الله وإيثاره تَخِفُّ عليك المؤونة، وتحسن لك من الله المعونة)
(4)
فعلى المسلم أن يحرص على تحقيق
(1)
رواه البخاري (2587)، ومسلم (1623) وتقدم في باب "الهبة".
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص (473 - 474)، وابن أبي شبية (11/ 23 - 24)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 64).
(3)
رواه أبو نعيم (5/ 267).
(4)
رواه أبو نعيم (5/ 267).
هذه الخصلة العظيمة، وأن يتزود بها، فهي خير حلية، وهي خير زاد، فيتقي الله تعالى في نفسه، ويتقيه في أهله، ويتقيه في الناس أجمعين.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل حسن الخلق، وذلك بحسن المعاملة مع الخلق بالأقوال الطيبة والأفعال الحميدة ولين الجانب، وأن ذلك من أعظم أسباب دخول الجنة.
قال بعض العلماء: (إن الأخلاق الصالحة ثمرة العقول الراجحة، فمن لقي الناس بالإحسان، وعاملهم بالأخلاق الحسان، فهو الذي يَخِفُّ عليهم جانبه، وتُحمد أنحاؤه ومذاهبه، ولن يَعْدَمَ منهم حسن الثناء، ومن الله جزيل الجزاء)
(1)
.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب أن الخلق الحسن والمعاملة الطيبة من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما أُفرد بالذكر للحاجة إلى بيانه؛ لأن كثيرًا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى، دون حقوق عباده، ثم قال رحمه الله:(كثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، والجمعُ بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًّا، لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين)
(2)
.
وبقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (حسن الخلق وسوء الخلق: يكون مع الله ومع خلقه، فحسن الخلق مع الله القيام بعبوديته ظاهرًا وباطنًا مع قوة محبته والطمأنينة إليه واللهج بذكره وقوة الثقة به، ومع الخلق بذل الإحسان لهم ومنع الأذى عنهم واحتمال الأذى منهم، وسوء الخلق بعكس ذلك كله)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"عين الأدب والسياسة" ص (128).
(2)
"جامع العلوم والحكم" شرح الحديث (18).
(3)
"تيسير اللطيف المنان" ص (203).
الحث على بسط الوجه وحسن الخلق مع الناس
1543/ 16 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ". أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة (8/ 331 - 332) في كتاب "الأدب" باب (ما ذكر في حسن الخلق وكراهية الفحش)، وأبو يعلى (6/ 87) من طريق عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه".
ورواه البزار (2/ 192)"مختصر زوائده"، والحاكم (1/ 124) من طريق عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق".
وبهذا يتبين أن لفظ "البلوغ" هو لفظ البزار والحاكم، لا لفظ أبي يعلى.
وهذا الحديث سنده ضعيف جدًّا، من أجل عبد الله بن سعيد المقبري، قال البخاري:(لم يَصِحَّ حديث عبد الله)، وقال -أيضًا-:(قال يحيى القطان: استبان لي كذبه في مجلس)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وقال الدارقطني:(ضعيف الحديث)، وفي موضع آخر:(ضعيف ذاهب)
(1)
، وقال
(1)
"تهذيب الكمال"(15/ 31).
الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد) فتعقبه الذهبي بقوله: (عبد الله واهٍ).
وقد تابع عبدَ الله بنَ سعيدٍ عبدُ الله بن إدريس الأودي، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
أخرجه البزار في "مسنده"(17/ 99)، وابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول"(190) من طريق أسود بن سالم، ثنا عبد الله بن إدريس، به.
قال البزار: (لا نعلم رواه عن ابن إدريس إلا أسود بن سالم، وكان ثقة بغداديًّا).
وجد عبد الله بن إدريس هو يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي، وقد تقدم أنه لم يوثقه إلا العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجال الإسناد ثقات، وذكره الحافظ في "الفتح" وقال:(سنده حسن)
(1)
.
ورواه البزار (16/ 193) من طريق طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
وقال البزار: (طلحة لين الحديث)، وقال أحمد والنسائي:(متروك الحديث)
(2)
.
والحديث له شواهد تؤيد معناه، أما سنده فكما علمت، ومن شواهده حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ" وتقدم في باب "البر والصلة".
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إنكم لا تسعون الناس بأموالكم) ماضيه وَسِعَ يَسَعَ بفتح السين في المضارع، يقال: وسع الإناءُ المتاع؛ أي: استوعبه؛ والمعنى: أنه لا يتم لكم شمول الناس واستيعابهم بإعطاء المال، لكثرة الناس وقلة المال.
قوله: (ولكن لِيَسَعْهم منكم بسط الوجه) اللام مكسورة وهي لام
(1)
(10/ 459).
(2)
"كشف الأستار"(2/ 408)، "تهذيب التهذيب"(5/ 21).
الأمر، والفعل بعدها مفتوح السين ساكن العين؛ والمعنى: ولكن ليشملهم ويعمهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق، وعطف حسن الخلق على بسط الوجه من عطف العام على الخاص؛ لأن بسط الوجه من حسن الخلق، قال عبد الله بن المبارك في وصف حسن الخلق:(هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى)
(1)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل بسط الوجه وطلاقته وبشاشته عند اللقاء وفضل حسن الخلق وحسن المعاشرة ومعاملة الناس بالكلام الطيب والفعل الحسن، وهذا في مقدور كل إنسان، وهو الذي يجلب المحبة ويديم الألفة بين أفراد المجتمع. والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم عند شرح الحديث (1532).
المؤمن مرآة أخيه
1544/ 17 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤمِنُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ" أَخْرجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأدب"، بابٌ (في النصيحة والحياطة)(4918)، والبخاري في "الأدب المفرد"(239)، والبيهقي (1/ 167) من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه".
وهذا الحديث حسنه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"
(1)
والحافظ ابن حجر هنا.
وفي سنده كثير بن زيد الأسلمي، وهو متكلم فيه، فقد قواه الإمام أحمد وابن معين، وضعفه أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي
(2)
، وقال الحافظ:(صدوق يخطئ).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مرآة) بكسر الميم ومد الهمزة؛ أي: آلة لإرآءة محاسن أخيه ومعايبه، وهذا من التشبيه البليغ الذي حذفت منه الأداة ووجه الشبه؛ أي: المؤمن لأخيه المؤمن كالمرآة، بجامع رؤية المحاسن والمعائب، فإذا كانت
(1)
انظر: "الإحياء"(2/ 182).
(2)
"تهذيب التهذيب"(8/ 370).
المرآة يرتسم فيها ما هو مختفٍ عن صاحبه فيراه فيها، فكذا المؤمن يرشد أخاه إلى محاسن الأخلاق فيفعلها، وإلى مساوئ الأخلاق فيجتنبها.
° الوجه الثالث: في الحديث دليل على موقف المؤمن من أخيه وبيان مسؤوليته تجاهه وأن المؤمن إنما يعلم عيب نفسه بإعلام أخيه له، كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة، وهذا يفيد وجوب النصح للمؤمن وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا اطلع على شيء من عيوب أخيه وأخطائه نبهه عليها وأرشده إلى إصلاحها، لكن بينه وبينه؛ لأن النصيحة في الملأ فضيحة
(1)
.
وقد تقدم قول الفضيل بن عياض: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيِّر)، وقال مسعر بن كدام:(رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي في سرٍّ بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع)
(2)
، فعلامة النصح الستر، وعلامة التعيير الإعلان. والله تعالى أعلم.
(1)
"عون المعبود"(13/ 261).
(2)
"الآداب الشرعية"(1/ 290)
فضل المخالطة وترك العزلة
1545/ 18 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ. وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابيَّ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن ماجه في كتاب "الفتن"، باب (الصبر على البلاء) (4032) قال: حدثنا علي بن ميمون الرقي، ثنا عبد الواحد بن صالح، ثنا إسحاق بن يوسف، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس وبصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس. . ." الحديث.
وهذا سند ضعيف، فيه عبد الواحد بن صالح، وهو لا يعرف إلا في هذا الإسناد بهذا الحديث، وقد ذكر الذهبي أنه تفرد بالرواية عنه علي بن ميمون، وقال:(أتى بما لا يتابع عليه عن الثقات)
(1)
. وقال الحافظ في "التقريب": (مجهول).
وقد حسن الحافظ إسناده -هنا- وفي "الفتح" أيضًا" مع أنه قال عن عبد الواحد: إنه مجهول!
(2)
.
(1)
"الميزان"(2/ 674)، "الكاشف"(2/ 672).
(2)
"فتح الباري"(10/ 512).
وقد رواه الترمذي (2507)، وأحمد (9/ 64) من طريق شعبة، عن سليمان الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُراه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس. . ." الحديث.
قال الترمذي: (قال ابن عدي -أحد شيوخ الترمذي فيه-: كان شعبة يرى أنه ابن عمر)، وقد مرَّ في إسناد ابن ماجه التصريح بذلك.
ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(388) من طريق آدم قال: حدثنا شعبة به، إلا أنه قال: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وهذا سند صحيح، والشك فيمن روي عنه هذا الحديث من الصحابة لا يضر، فإنهم كلهم عدول، على أنه قد ورد في بعض المصادر بلا شك
(1)
، وسليمان الأعمش مدلس، لكنه صرح بالسماع من يحيى بن وثاب عند الإمام أحمد في "المسند"، وعند أبي داود الطيالسي (3/ 399) وغيرهما.
وبهذا يتبين أن لفظ "البلوغ" هو لفظ البخاري في "الأدب المفرد" وليس لفظ ابن ماجه.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل مخالطة الناس والاجتماع بهم وأن المؤمن الذي يداخل الناس ويجتمع بهم ويصبر على ما يصيبه من الأذى بسبب نصحهم وتوجيههم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس بل ينفرد عن مجالستهم وينزوي عنهم؛ لأنه لا يصبر على أذاهم.
وقد اختلف العلماء في العزلة والمخالطة أيهما أفضل للمؤمن على قولين:
الأول: استحباب العزلة، وهذا رأي سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن
(1)
انظر: "العلل" للدارقطني (13/ 230).
زيد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض وآخرين.
واستدلوا بالنصوص التي جاء فيها ذكر العزلة والبعد عن الناس، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48]، وبما ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال:"رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعْبٍ يعبد ربه ويدع الناس من شره"
(1)
.
كما استدلوا بأن العزلة فيها مصالح من التفرغ للعبادة، والسلامة من المعاصي الحاصلة بالمخالطة؛ كالرياء والغيبة والنميمة والتساهل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضييع الأوقات، وفضول الكلام.
والقول الثاني: استحباب المخالطة وترك العزلة، وهذا رأي سعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وسفيان بن عيينة وغيرهم
(2)
.
واستدلوا بأن الله تعالى أمر بالاجتماع وحث عليه، ونهى عن التفرق، فقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وبحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره بُحبُوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد"
(3)
.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بد من التفصيل، وهو أن الإنسان إذا خاف على دينه بكثرة الشرور وانتشار الفتن وضَعُفَ عن الإنكار فالعزلة أفضل، وإلا فالأصل هو مخالطة الناس والصبر على أذاهم، ولا سيما فيمن يأمر
(1)
"صحيح البخاري"(6494)، "صحيح مسلم"(1888).
(2)
"الإحياء"(2/ 222).
(3)
رواه الترمذي (2165)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 286)، وأحمد (1/ 268 - 269)، والحديث له عدة طرق، قال الترمذي:(حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه).
بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبين للناس أحكام دينهم، وهو من يكون له أثر في مجتمعه باحترامه وسماع كلمته وقبول نصحه، وإلا لو اعتزل الدعاة والمصلحون لانتشر الفساد وقوي أنصاره، ولَمَا وَجدْتَ للحق ناصرًا ولا لأهله معينًا، يقول محمد بن واسع:(لم يبق من العيش إلا ثلاث: الصلاة في الجماعة، ترزق فضلها، وتُكفى سهوها، وكفاف من معاش ليست لأحد من الناس فيه مِنَّة، ولا لله عليك فيه تبعة، وأخ محسن العشرة، إن زِغْتَ قوَّمك)
(1)
.
وقد بيَّن الإمام الخطابي ضابط العزلة؛ وكأنه لا يراها بصفة دائمة، وإنما قصده الإقلال من المخالطة، وقد ذكر قول الإمام الشافعي لصاحبه:(يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط)
(2)
، ثم قال الخطابي:(إن العزلة يجب أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة)
(3)
، وقال -أيضًا-: (ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقةَ الناس في الجماعات والجمعات، وتركَ حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، وردّ التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سُبُلها، ما لم يحل دونها حائلُ شُغلٍ، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحطَّ العِلاوة التي لا حاجة بك إليها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شَغَفُ النفوس، وإلفُ العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه، كان جديرًا ألا يحمد غِبَّه، وأن يستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يُلْبِثُه أن يقع في أمراض مُدنِفَةٍ، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن
(1)
"روضة العقلاء" ص (86).
(2)
"العزلة" ص (8).
(3)
"العزلة" ص (85).
جهل، ولا من جرب وامتحن كمن بَادَهَ وخاطر. ولله درُّ أبي الدرداء حين يقول:"وجدت الناس أُخْبُرْ تَقْلِهْ")
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"العزلة" ص (58 - 59). وقوله: (العلاوة) بالكسر أي: الزيادة، وقوله:(غِبَّه) أي: عاقبته وآخره. وقوله: (بادَهَ) أي: فاجأ الأمر، وقوله:(أخبر تقله) القِلَى: البغض، والمعنى: جرِّب الناس، فإنك إذا جربتهم قليتهم وتركتهم، لما يظهر من بواطنهم.
ما جاء في الدعاء بحسن الخلق
1546/ 19 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَحَسِّنْ خُلُقِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أحمد (6/ 373) من طريق محاضر بن المورِّع، وابن حبان (3/ 239) من طريق محمد بن فضيل، كلاهما عن عاصم الأحول، عن عوسجة بن الرَّمَّاح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحسنت خلقي، فأحسن خلقي"، هذا لفظ أحمد، ولفظ ابن حبان:"اللهم حَسَّنْتَ خلقي، فَحَسِّنْ خلقي".
وهذا الإسناد فيه محاضر بن المورع متكلم فيه، فقد قال النسائي:(ليس به بأس، وقال أبو زرعة: (صدوق)، وقال أحمد:(لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلًا جدًّا)، وقال أبو حاتم:(ليس بالمتين)
(1)
.
وفيه عوسجة بن الرماح، وثقه ابن معين، وروى له النسائي في "عمل اليوم والليلة"، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(2)
، وقال الدارقطني:(شبه مجهول، لا يروي عنه غير عاصم، لا يحتج به، لكن يعتبر به)
(3)
.
(1)
"العلل ومعرفة الرجال"(3/ 49)، "تهذيب التهذيب"(10/ 51).
(2)
(7/ 298). وانظر: "تهذيب الكمال"(22/ 431).
(3)
"سؤالات البرقاني" رقم (394).
وللحديث شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلُقِي".
رواه أحمد (40/ 457) من طريق عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح، لكن فيه اختلاف على عاصم بن سليمان وهو الأحول، ومن صور هذا الاختلاف روايته السابقة.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اللهم أحسنت) في بعض نسخ البلوغ: "اللهم كما أحسنت. ." وهي ليست في المصادر المذكورة، ولا في المخطوطة التي سبق وصفها
(1)
، وإنما هي في "مسند الطيالسي"
(2)
فيما وقفت عليه.
قوله: (خَلْقي) بفتح الخاء وسكون اللام هي صورة الإنسان الظاهرة.
قوله: (خُلُقي) بضمتين، هي الصورة الباطنة في النفس التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الدعاء بحسن الخُلق؛ لأن حسن الخُلق من أعظم خصال المؤمن، ومن أكبر أسباب سعادته في الدنيا وفلاحه في الآخرة، وأن العبد يتوسل إلى الله تعالى الذي أحسن صورته الظاهرة وجملها وكملها أن يحسن صورته الباطنة، وأن يهديه لمكارم الأخلاق وجميل الصفات.
وهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم فيه الاعتراف بنعمة ربه عليه، وطلب استمرار ودوام هذه النعمة، وفيه تعليم للأمة، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أشرف العباد خَلْقًا وخُلُقًا، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنه خُلُقًا
(3)
، وليس بالطويل البائن ولا بالقصير)
(4)
.
وقد تقدم في "صفة الصلاة"، حديث علي رضي الله عنه الطويل في دعاء
(1)
انظر: شرح الحديث (1539).
(2)
(1/ 291).
(3)
راجع "فتح الباري"(6/ 571).
(4)
رواه البخاري (3549).
الرسول صلى الله عليه وسلم في أول صلاته: ". . . واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. . ."
(1)
.
وينبغي للمؤمن إذا صار عنده شيء من سوء الخلق وسوء التعامل مع أهله وأولاده أو أفراد مجتمعه أن يضرع إلى الله تعالى ويسأله أن يهديه لأحسن الأخلاق، ثم عليه أن يجاهد نفسه ويعودها الخير؛ لأن الخلق يكتسب بالمجاهدة ورياضة النفس.
واعلم أن الفقهاء يذكرون هذا الحديث في كتاب الطهارة عند الكلام على سنن الوضوء، ومنها: استحباب النظر في المرآة وقول ما ورد، يريدون بالقول هذا الحديث
(2)
، مع أن الحديث ليس مقيدًا بوقت النظر في المرآة، نعم ورد ذلك في بعض طرقه، ولكنه لا يصح من ذلك شيء
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: الحديث رقم (270).
(2)
"دقائق أولي النُّهى لشرح المنتهى"(1/ 85).
(3)
انظر: "الإرواء"(1/ 113).
باب الذكر والدعاء
الذكر مصدر ذَكَرَ ذِكْرًا، وهو ما يجري على اللسان والقلب من تسبيح الله وتحميده والثناء عليه بالألفاظ التي ورد عن الشارع الترغيب في قولها والإكثار منها، كما سيأتي في هذا الباب.
والذكر يكون بالقلب، وذلك بتعظيم الله تعالى ومحبته، والشوق إليه، وخوفه، ورجائه، ومعرفة حقه على عبده، ويكون باللسان بالنطق بالأذكار المشروعة، ويكون بالقلب واللسان وهذا أفضل؛ لأنه عمل جارحة اللسان مع حضور الجنان في ذكر الرحمن
(1)
، يقول ابن القيم:(أفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده)
(2)
.
ويكون الذكر -أيضًا- بالجوارح وذلك بأن تصير مستغرقة في الطاعات، ولهذا سمى الله الصلاة ذكرًا، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] لكن يطلق عرفًا على التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل
(3)
.
والذكر مع عظم فضله وجزيل أجره وكثرة فوائده هو من أيسر العبادات، فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها
(4)
.
وأما الدعاء فهو مصدر دعا يدعو دعاءً ودعوًا: إذا نادى، والاسم: الدعوة.
(1)
انظر: "الوابل الصيب" ص (195)، "الفتوحات الربانية"(1/ 106).
(2)
"الفوائد" لابن القيم ص (279).
(3)
"شرح رياض الصالحين"(5/ 484).
(4)
"الوابل الصيب" ص (56).
وشرعًا: الالتجاء إلى الله تعالى بطلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه
(1)
.
والدعاء نوعان:
1 -
دعاء عبادة.
2 -
دعاء مسألة.
فدعاء العبادة: شامل لجميع أنواع العبادة من صلاة وصوم وحج وتلاوة وذكر؛ لأن العابد يقصد بعبادته من صلاته وصومه وحجه رضا ربه ونيل ثوابه والسلامة من عقابه، وهذا دعاء، ودعاء العبادة يتضمن الثناء على الله بما هو أهله، ويكون مصحوبًا بالخوف والرجاء.
وأما دعاء المسألة فهو طلب الداعى من ربه ما ينفعه أو كشف ما يضره أو دفعه.
وكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة؛ لأن دعاء المسألة -كما تقدم- هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه، ومن يملك الضر والنفع، فإنه هو المعبود حقًّا، والمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضُّر
(2)
.
وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، قال ابن القيم:(لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أَمَرَ بإخفائه وإسراره)
(3)
.
(1)
"بدائع الفوائد"(3/ 2).
(2)
"بدائع الفوائد"(3/ 835).
(3)
المصدر السابق (3/ 842).
ما جاء في فضل الذكر
1547/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ تَعَالى: أنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكرنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن ماجه في كتاب "الأدب"، باب (فضل الذكر)(3792) من طريق محمد بن مصعب، وأحمد (16/ 568) من طريق محمد بن مصعب، وأبو المغيرة، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه"، هذا لفظ ابن ماجه وأحمد.
وهذا الإسناد فيه محمد بن مصعب القرقساني، متكلم فيه، فقد ضعفه ابن معين والنسائي وأبو حاتم، قال البخاري:(كان ابن معين سيئ الرأي فيه)، وقال أبو داود سمعت أحمد يقول:(حديثه عن الأوزاعي مقارب، وأما عن حماد بن سلمة ففيه تخليط، قلت لأحمد: تحدث عنه؟ قال: نعم)، وقال في موضع آخر:(لا بأس به). وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق كثير الغلط)، وأبو المغيرة -وهو عبد القدوس بن الحجاج- ثقة
(1)
.
ورواه أحمد (16/ 571)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 406) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ورواه البيهقي -أيضًا- (2/ 405) من طريق
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(18/ 237)، (26/ 460).
ربيعة بن يزيد، كلاهما عن إسماعيل، عن كريمة، قالت سمعت أبا هريرة. . .
ورواه ابن حبان (3/ 97) من طريق أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن كريمة بنت الحسحاس قالت: سمعت أبا هريرة في بيت أم الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني. . ." الحديث، وهو لفظ "البلوغ".
وهذا سند لا بأس به، أيوب بن سويد، صدوق يخطئ، وكريمة بنت الحسحاس ثقة، ولما ذكر الدارقطني الاختلاف في هذا الحديث عن إسماعيل بن عبيد الله ذكر أن روايته عن إسماعيل، عن كريمة، عن أبي هريرة هي الصواب
(1)
، قال البيهقي:(هكذا روياه -أي: ابن جابر وربيعة بن يزيد- عن إسماعيل، ورواه الأوزاعي عن إسماعيل، عن أم الدرداء، عن أبي هريرة موقوفًا مرة، ومرة مرفوعًا، وروايتهما أصح من رواية الأوزاعي)
(2)
.
وهذا الحديث علقه البخاري في كتاب "التوحيد"، باب (قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]
(3)
.
وقد جاء هذا المعنى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. . ." الحديث، رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، ولا أدري لماذا عدل عنه الحافظ إلى الحديث المذكور؟ ولو أشار إليه كما هي عادته في مثل هذا، لكان أولى.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أنا مع عبدي) المراد: المعية الخاصة وهي معية الإعانة والهداية والتوفيق المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]،
(1)
"العلل"(9/ 50).
(2)
"شعب الإيمان"(2/ 406 - 407)، وانظر:"فتح الباري"(13/ 500)، "تغليق التعليق"(5/ 362).
(3)
انظر: "فتح الباري"(13/ 499).
وعلامتها: أن تأتي في سياق المدح أو الثناء، فإن جاءت في سياق المحاسبة والمجازاة فهي عامة، وهي معية العلم والإحاطة؛ كقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]
(1)
.
قوله: (ما ذكرني) ما: مصدرية ظرفية تؤول وما بعدها بالظرف والمصدر؛ أي: مدة ذكره إياي، وفي الرواية الأخرى:"إذا هو ذكرني".
قوله: (وتحركت بي شفتاه) مثنى شفة وهي معروفة، ولا تكون الشفة إلا للإنسان، وأصلها شَفَهَة بدليل جمعها على شفاه، ولامها محذوفة، والهاء عوض عنها
(2)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الاشتغال بذكر الله تعالى، وأن ذكره سبب فوز العبد بمعية الله له وتوفيقه وإعانته، وسماع كلامه وإثابته وإجابة دعائه، وهذه المعية لا تخالف علوه واستواءه على عرشه، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] فإن الله تعالى معنا حقيقة، وهو مستو على عرشه فوق خلقه حقيقة. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "التنبيهات السنية" ص (100).
(2)
"المصباح المنير" ص (318).
ما جاء في أن الذكر نجاة من عذاب الله
1548/ 2 - عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أنْجى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ مِنْ ذِكْرِ اللهِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" في كتاب "الدعاء"، بابٌ (في ثواب ذكر الله عز وجل (10/ 300)، والطبراني في "الكبير"(20/ 66) من طريق أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم عملًا أنجى له من النار من ذكر الله" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع، ثلاث مرات".
وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه انقطاعًا، فإن طاوسًا لم يسمع من معاذ رضي الله عنه، كما قال علي بن المديني
(1)
.
وفيه أبو الزبير وهو موصوف بالتدليس وقد عنعنه، ثم إن في سنده اختلافًا، فقد رواه عباد بن العوام، عن يحيى، عن أبي الزبير، عن معاذ، فلم يذكر فيه طاوسًا، وقد ذكر الدارقطني هذا الاختلاف، كما ذكر الاختلاف في رفعه ووقفه على معاذ رضي الله عنه، وقال:(الموقوف أصح)
(2)
.
(1)
"العلل" لابن المديني ص (73)، "المراسيل" ص (99).
(2)
"الموطأ"(1/ 211)، "العلل"(6/ 64)، "نتائج الأفكار"(1/ 99).
وقال في "الأطراف": (تفرد به أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن معاذ مسندًا)
(1)
.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل ذكر الله تعالى وأنه سبب من أسباب النجاة من النار، وهذه من أعظم فضائل الذكر؛ لأن النجاة من النار هي مقصود وغاية كلِّ عبد مؤمن، وقد هيأ الله تعالى لعباده المؤمنين الأسباب التي تنال بها الجنة ويتوقى بها من النار، ومنها ذكر الله تعالى. والله تعالى أعلم.
(1)
(2/ 131).
فضل مجالس الذكر
1549/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا جَلَس قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللهَ إلّا حَفَّتْ بِهِمُ المَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الذكر والدعاء"، باب (فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)(2699) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" وساق الحديث. . وفيه: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة. ." الحديث، وروى مسلم -أيضًا- (2700) من طريق شعبة، سمعت أبا إسحاق، يحدث عن الأغر أبي مسلم، أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده".
ورواه ابن ماجه (3791) من طريق عمار بن زريق، عن أبي إسحاق به. ولفظه:"ما جلس قوم مجلسًا يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وتغشَّتهم الرحمة، وتنزلت عليه السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده" وبهذا يتبين أن لفظ "البلوغ" أقرب إلى لفظ ابن ماجه.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ما جلس قوم مجلسًا) لفظ (القوم) اسم جنس جمعي يصدق على ثلاثة فأكثر، وهم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، لكن في عامة القرآن ومثل هذا الحديث يراد به العموم من الرجال والنساء، وحقيقته للرجال، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب "القضاء".
وقوله: (مجلسًا) نكرة في سياق النفي، فيعم جميع المجالس: المساجد وغيرها، إلا أن المساجد أفضل لشرفها؛ إذ العبادة فيها أفضل من غيرها، وقد جاء التنصيص عليها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم في باب (البر والصلة) وفيه:"وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله. . ."
(1)
، وذكر النووي أن التقييد في هذا الحديث خرج مخرج الغالب لا سيما في الزمان الأول، فلا يكون له مفهوم يعمل به
(2)
.
قوله: (يذكرون الله) الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، فيشمل الموعظة ودروس العقيدة والفقه والحديث وغيرها، وكذا المحاضرة وغيرها مما فيه ذكر الله تعالى
(3)
؛ لأن ما ذكر في الحديث من الفضائل مرتب على الاجتماع على الذكر مطلقًا، وأما ما ورد في حديث أبي هريرة المذكور من تلاوة كتاب الله فهو من باب ذكر العام ببعض أفراده، وهو لا يقتضي التخصيص كما علم في الأصول، وإنما ذلك لكمال الفضل في تلاوة القرآن ومدارسته، على أن الحافظ ابن حجر يميل إلى أن المراد بمجالس الذكر المجالس المشتملة على ذكر الله تعالى أو تلاوة كتابه والدعاء بخير الدنيا والآخرة، وأما دخول الدروس العلمية ففيه نظر
(4)
، هكذا قال، مع أن دخولها ظاهر جدًّا، والله أعلم.
قوله: (إلا حَفَّتْ بهم الملائكة) هكذا في المخطوطة وفي بعض نسخ "البلوغ" وفي بعضها: "حفَّتهم الملائكة" وهو المثبت في "الصحيح" وهو
(1)
"صحيح مسلم"(2699).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(25/ 17).
(3)
انظر: "المفهم"(7/ 11).
(4)
انظر: "فتح الباري"(11/ 212).
بتشديد الفاء؛ أي: أحدقت وأحاطت وطافت بهم الملائكة يستمعون الذكر ويكونون شهداء لهم، وهم الموكلون بحضور مجالس الذكر، فتكون (أل) للعهد، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم. . ." الحديث
(1)
.
وفي التعبير بـ (حفتهم) إشارة إلى القرب الشديد من الذاكرين بحيث لم يدعوا للشيطان فرجة يتوصل منها، ومن ذلك: حافة الطريق وهو جانبه، قال تعالى:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]؛ أي: مطبقين به.
قوله: (وغشيتهم الرحمة) أي: عمتهم وأحاطت بهم من كل جانب.
قوله: (ونزلت عليهم السكينة) قيل: إن المراد بها الرحمة، واختار هذا القاضي عياض، فإنه قال:(وهذا هو أليق الوجوه هنا)
(2)
، والقول الثاني: أن المراد بها الوقار والطمأنينة، كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، قال النووي:(وهذا أحسن) وضعف القول بأنها الرحمة؛ لعطف الرحمة عليها
(3)
.
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (السكينة شيء يقذفه الله عز وجل في القلب فيطمئن ويوقن ويستقر، فلا يكون عنده قلق ولا شك ولا ارتياب. .)
(4)
.
قوله: (وذكرهم الله فيمن عنده) أي: أثنى عليهم لشرف عملهم فيمن عنده من الملائكة والأنبياء مباهاة بهم.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل مجالس الذكر وشرفها عند الله تعالى حيث حظي أهلها بهذه الخصال الأربع العظيمة من حَفِّ الملائكة، وغشيان الرحمة، ونزول السكينة، وذكر الله إياهم في الملأ الأعلى، وهذه خصال عظيمة ومنح جسيمة، تدل على رضا الله تعالى عنهم ومحبته لهم، وإذا
(1)
رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689).
(2)
"إكمال المعلم"(8/ 195).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(25/ 17).
(4)
"شرح رياض الصالحين"(5/ 708).
كانت كل خصلة من هذه الخصال العظيمة كافية في انفرادها على إثارة الرغبة والنشاط إلى مجالس الذكر فكيف باجتماعها؟! فلا ينبغي للمؤمن الموفق الحريص على نفع نفسه أن يفرط في مجالس الذكر؛ لأن مجالس الذكر هي مجالس الملائكة، وفيها اشتغال بالذكر عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو ومدح الناس وذمهم وغير ذلك مما فيه كسب الإثم وإضاعة الأوقات.
وهذا يؤكد أنه ينبغي أن تكون المجالس في المساجد أو غيرها عامرة بذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، وألا يغلب عليها اللغو والهزل ولا سيما أن الناس في هذا الزمان كثر فراغهم وقتل أوقاتهم ووجدت الأماكن التي يقضى فيها هذا الفراغ كساعات الليل الطوال.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على وجود الملائكة وأن لهم أعمالًا يقومون بها، ومن ذلك الملائكة الموكلون بحلق الذكر، وهم زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق، ولا وظيفة لهم إلا حلق الذكر، وفي هذا دليل على محبة الملائكة بني آدم واعتنائهم بهم، كما أن فيه دليلًا على أن الأعمال الصالحة كمجالس الذكر تقرب الملائكة منا وتقربنا منهم، وفي حديث أبي هريرة المتقدم بلفظ مسلم:"إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فُضُلًا يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر، قعدوا معهم وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا. . .". والله تعالى أعلم.
ما جاء في المجلس الخالي من ذكر الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم
-
1550/ 4 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَّا كَانَ عَلَيهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَال: حَسَنٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بابٌ (في القوم يجلسون ولا يذكرون الله)(3380)، وأحمد (15/ 475) من طريق سفيان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةً، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم"
(1)
.
هذا لفظ الترمذي، وقال:(هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وهذا هو الذي نقله عنه المنذري، ومن بعده النووي
(2)
، ثم المزي، ثم الحافظ ابن حجر، وفي بعض النسخ:(حسن صحيح).
وفي سنده صالح مولى التوأمة
(3)
، وهو ضعيف، لاختلاطه، وقد تميز
(1)
انظر: "الفتوحات الربانية"(6/ 175).
(2)
"الترغيب والترهيب"(2/ 409)، "الأذكار" ص (520)، "تحفة الأشراف"(10/ 115).
(3)
هي توأمة بنت أمية بن خلف الجمحي، صحابية، سميت بذلك لأنها ولدت مع أخت لها في بطن. "الإصابة"(12/ 166).
من سمع منه قبل الاختلاط ومن سمع منه بعد الاختلاط
(1)
، ورواية سفيان -وهو الثوري- عنه بعد الاختلاط
(2)
.
لكن لم ينفرد به سفيان فقد تابعه جماعة رووا عن صالح قبل اختلاطه، منهم عبد الرحمن بن أبي ذئب، رواه أحمد (15/ 524)، وزياد بن سعد عند أحمد -أيضًا- (16/ 265)، وعمارة بن غزية عند الطبراني (3/ 1663)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(449)، والبيهقي في "الشعب" (4/ 202) لكن لفظ ابن أبي ذئب وزياد انتهى عند قوله:"عليهم ترة" ولم يذكرا ما بعده، وهذا يدل على اضطراب صالح مولى التوأمة في متنه، فإن اختلاف الثقات عنه يدل على أنه لم يتقن الحديث.
وقد توبع -أيضًا- صالح مولى التوأمة، فقد رواه عن أبي هريرة جماعة منهم أبو صالح ذكوان السمان فيما رواه الإمام أحمد (43/ 16) من طريق شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وسنده صحيح، وليس فيه:(فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) وفيه: (وإن دخلوا الجنة للثواب).
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه ينبغي أن تعمر المجالس بذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى أعم من أن يكون بتلاوة القرآن أو بالأذكار المشروعة أو بتعليم العلوم النافعة، وفي هذا بيان فضل المجالس التي يذكر فيها الله تعالى ويصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيه تحذير من المجالس التي لا يذكر الله فيها ولا يصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن هذه المجالس يندم أهلها يوم القيامة حين لا ينفع الندم على ما فاتهم من هذا الخير العظيم وإن دخلوا الجنة، فإنه قد فاتهم ما فيه زيادة في الدرجات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم
(1)
انظر: "الكواكب النيرات" ص (261).
(2)
"الميزان"(2/ 303).
حسرة"
(1)
.
وهذا كله في المجالس المباحة التي ليس فيها غيبة ولا نميمة ولا لغو، فإن كانت كذلك فالأمر عظيم نسأل الله السلامة.
إن الوقت هو حياة الإنسان، والمرء لا بد له من جليس، ولا بد له من مجالس قهرية كانت أم اختيارية، لذا يلزم العاقل الحريص على ساعات عمره أن يجالس من يستفيد منهم وينتفع بهم، ويحذر مجالسة الكسالى والفارغين الذي لا همَّ لهم إلا القيل والقال وقضاء الفراغ وقتل الأوقات، وقد يكون مع هذا لهو وطرب، وهذه المجالس كثيرة في دنيا الناس اليوم، سواء أكانت جلسات عائلية أو جلسات دورية كل أسبوع أو كل ليلة، وهي المجالس التي لا حظ للملائكة فيها. وتأمل كلام ابن القيم الموجز الشامل حيث يصور المجالس في زمانه فيقول: (الاجتماع بالإخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاح والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
إحداها: تَزَيُّنُ بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة فالاجتماع والخِلْطَةُ لِقَاحٌ: إما للنفس الأمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح؛ فمن طاب لقاحه طابت ثمرته. وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من المَلَكِ، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أبو داود (4855)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(804)، وأحمد (15/ 21)، ولعله نفس حديث الأعمش السابق بلفظ آخر، فهو من طريق سهيل عن أبيه.
(2)
"الفوائد" ص (71).
فضل التهليل عشر مرات
1551/ 5 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَال: لَا إِلهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُس مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (فضل التهليل)(6404)، ومسلم (2693) من طريق عمر بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: من قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل".
وقال عمر بن أبي زائدة: حدثنا عبد الله بن أبي السَّفَر، عن الشعبي، عن ربيع بن خثيم بمثل ذلك، قال: فقلت للربيع ممن سمعته؟ قال: من عمرو بن ميمون، قال: فأتيت عمرو بن ميمون فقلت: ممن سمعته؟ قال: سمعته من ابن أبي ليلى، قال: فأتيت ابن أبي ليلى، فقلت: ممن سمعته؟ قال: من أبي أيوب الأنصاري يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا السياق لمسلم، وأما البخاري فقد ساقه مختصرًا، ولفظه:"من قال عشرًا كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل".
وقد تبين أن عمر بن أبي زائدة أسنده عن شيخين أحدهما: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون موقوفًا، والثاني: عن عبد الله بن أبي السفر،
عن الشعبي، عن الربيع، عن عمر بن ميمون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب مرفوعًا
(1)
.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل هذا الذكر وأن من قاله عشر مرات عارفًا عاملًا بمقتضاه صار له من الأجر مثل أجر من أعتق أربعة من المماليك من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
وخص ولد إسماعيل بالذكر؛ لأن إسماعيل هو أبو العرب، والعرب أشرف الناس نسبًا، وأما العجم فلهم آباء آخرون. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "فتح الباري"(11/ 202).
فضل التسبيح
1552/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَال: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (التسبيح)(6405)، ومسلم (2691) من طريق مالك، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة. . ." الحديث.
وهذا لفظ البخاري، وهو عند مسلم بلفظ:"من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده. . ." الحديث.
وأوله عند البخاري -أيضًا- (6403) لكنه جعله حديثين.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (سبحان الله وبحمده) سبحان: علم للتسبيح، وأصله اسم مصدر منصوب بفعل محذوف متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحانًا، ثم نُزِّلَ
سبحان منزلة الفعل فَسَدَّ مسده، وهو لا يستعمل إلا مضافًا في الغالب
(1)
، ومعناه: تنزيهًا لك يا رب عن منقص في الصفات أو في مماثلة المخلوقات.
وبحمده: الحمد ذكر أوصاف المحمود الكاملة وأفعاله الحميدة مع محبته وتعظيمه، والواو للمعية، فيكون الذاكر جمع بين التنزيه والوصف بالكمال الذاتي والفعلي؛ أي: نزهتك تنزيهًا مقرونًا بالحمد، وقد مضى مثل هذا في "صفة الصلاة".
قوله: (في يوم) قال بعض الشراح: إن المراد باليوم كمال الدورة لا للنهار، وعلى هذا فلو قال هذا الذكر في الليل حصل له الأجر المرتب عليه، وقال ابن علان: الأقرب أن المراد اليوم الشرعي وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، حملًا للفظ الشرعي على المتعارف عنده
(2)
.
قوله: (مائة مرة) مفعول مطلق منصوب، و (مرة) مضاف إليه.
قوله: (حطت خطاياه) ببناء الفعل لما لم يسم فاعله، وحذف الفاعل هنا للعلم به؛ لأن من المعلوم أن هذا الفعل لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ومعنى (حطت) محيت وأزيلت، والخطايا جمع خطية بالتشديد كعطايا وعطية، والمراد بها عند جمهور أهل العلم الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى
(3)
.
قوله: (وإن كانت مثل زيد البحر) الزبد: بالفتح ما يعلو ماء البحر من الرغوة عند تموجه واضطرابه، والمراد بالبحر: جنس البحر، إذ لا بحرَ معهود، كقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} [الكهف: 109] وهذا كناية عن المبالغة والكثرة.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل التسبيح بهذه الصيغة
(1)
انظر: "شرح المفصَّل" لابن يعيش (1/ 119 - 122)، "اللسان"(2/ 471)، "التنقيح في حديث التسبيح" لابن ناصر الدين ص (110).
(2)
انظر: "الفتوحات الربانية"(1/ 207).
(3)
انظر: "الفتوحات الربانية"(1/ 213).
(سبحان الله وبحمده) مائة مرة في اليوم، وجزاء من أتى بذلك أن الله تعالى يمحو خطاياه مهما بلغت من الكثرة ولو كان مثل زيد البحر، وهذا ثواب عظيم وعطاء جزيل من رب كريم، وهو دليل بَيِّنٌ على سعة فضل الله تعالى وكرمه.
وظاهر إطلاق الحديث أن هذا الأجر يحصل لمن قال ذلك في كل يوم، سواء أقالها متوالية أو متفرقة في مجالس، أو بعضها أول النهار وبعضها آخره، لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية، وقد جاء في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"
(1)
.
° الوجه الرابع: اختلف العلماء في الأذكار المقدرة بأعداد معينة هل يزاد عليها أم لا؟.
فذهب جماعة من أهل العلم ومنهم الإمام القرافي
(2)
إلى أن الأذكار التي ورد فيها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص لا يحصل الأجر لمن عملها إلا إذا تقيد بالعدد الوارد، فإن زاد في أعدادها أو نقص فاته الثواب؛ لأن الشرع حدد العدد، وقد يكون هذا لحكمة وخاصية تفوت بها بمجاوزة ذلك العدد، واختار هذا الصنعاني
(3)
.
وقال آخرون ومنهم النووي
(4)
والعراقي
(5)
: يحصل الثواب مع الزيادة؛ لأنه لما أتى بالأصل وهو العدد المقيد حصل له الثواب، ولا تكون الزيادة مزيلة للثواب بعد حصوله، وهؤلاء يستدلون بما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك".
والظاهر أن المانعين يحملون الزيادة في هذا الحديث على أعمال الخير، لا من نفس التهليل، واختار هذا الشوكاني
(6)
.
(1)
"صحيح مسلم"(2692).
(2)
"الفروق"(4/ 204).
(3)
انظر: "تحفة الذاكرين" ص (112).
(4)
"شرح صحيح مسلم"(20/ 13).
(5)
انظر: "الفتوحات الربانية"(3/ 48).
(6)
"تحفة الذاكرين" ص (112).
وذهب فريق ثالث إلى التفصيل وهو أنه إن زاد لنحو شَكٍّ عُذِرَ، وإن زاد لقصد التعبد فلا؛ لأنه مستدرك على الشارع، ومال إلى هذا ابن علان
(1)
.
وفصل آخرون من وجه آخر وهو أن ينوي الامتثال عند الحد المخصوص، ثم يزيد فهذا يثاب، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب على عشرة فيرتبه هو على مائة فيتجه عدم الثواب
(2)
.
والذي يظهر -والله أعلم- أنه ينبغي الاقتصار على العدد الوارد في الأذكار وإلا لما كان لتخصيصها معنى، ثم إن التقيد بالعدد فيه حضور القلب والعناية بالذكر، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه معناه محتمل.
° الوجه الخامس: نقل ابن بطّال عن بعض أهل العلم أن هذه الفضائل التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل: "من قال سبحان الله وبحمده غفر له. . ." وما شاكلها إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصر على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم في ذلك بحكاية أحرف ليس معها تُقًى ولا إخلاص، ولا عمل. . .)
(3)
والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتوحات الربانية"(3/ 48 - 49).
(2)
"فتح الباري"(2/ 330). وانظر: (11/ 205).
(3)
"شرح صحيح البخاري"(10/ 134).
فضل التسبيح والتحميد بهذه الصفة
1553/ 7 - عَنْ جُويرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رضي الله عنها قَالتْ: قَال لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِماتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِه، وَرِضَا نفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
تقدمت ترجمة جويرية رضي الله عنها في كتاب "العتق" في شرح ألفاظ الحديث (1444).
° الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الذكر والدعاء"، باب (التسبيح أول النهار وآخره)(2726) من طريق محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال:"ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات. ." الحديث.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (بعدك) بكسر الكاف، لأنه خطاب لجويرية رضي الله عنها؛ أي: بعد مفارقتك وخروجي من عندك، بدليل السياق.
قوله: (لو وزنت بما قلت. . .) أي: لو قوبلت بما قلت من الأذكار
لساوتهن في أجرهن وقابلتهن في فضلهن، وقيل: غلبتهن وزادت عليهن في الوزن، كما يقال: حاججته؛ أي: غلبته في الحجة، ويؤيد هذا ما جاء عند النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"لقد تكلمت بأربع كلمات أعدتهن ثلاث مرات، هن أفضل مما قلت. . ."
(1)
.
قوله: (ثلاث مرات) منصوب على أنه مفعول مطلق نائب عن المصدر.
قوله: (سبحان الله وبحمده) في رواية عند مسلم: "سبحان الله".
قوله: (عدد خلقه) منصوب على أنه مصدر، وهو صفة لمصدر محذوف؛ أي: تسبيحًا عدد خلقه
(2)
، وكذا الباقي، وقيل: منصوب على الظرفية، وهو رأي السيوطي على تقدير: قَدْرَ عدد خلقه. . . وكذا الباقي، فلما حذف الظرف قام المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه
(3)
.
قوله: (ورضا نفسه) أي: رضا ذاته؛ لأن النفس تطلق على الذات، قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وقد تقدم أن المراد بالنفس ذات الله تعالى المقدسة المتصفة بصفات الكمال.
أي: وعدد من رضي الله عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ورضاه عنهم لا ينقضي ولا ينقطع، وقيل: إن المعنى أنك تسبح الله وتحمده حمدًا يقع منه سبحانه وتعالى موقع الرضا أو ما يرضاه لنفسه
(4)
.
قوله: (وزنة عرشه) أصل زنة: وِزْن، كعدة أصلها وعد بكسر الواو وسكون الزاي، فحذفت الفاء حملًا على المضارع ثم حركت العين بكسرة الفاء لتدل عليها، وجيء بتاء التأنيث عوضًا عن الفاء المحذوفة.
والمراد بزنة عرشه: زنة ما لا يعلم قدر وزنه إلا الله وهو العرش.
(1)
"السنن الكبرى"(9/ 71). وانظر: "الفتوحات الربانية"(1/ 194).
(2)
انظر: "دليل الفالحين"(4/ 236).
(3)
انظر: "رفع السِّنة بنصب الزِّنة" للسيوطي ضمن "الحاوي"(2/ 284).
(4)
"العلم الهيِّب" ص (109).
قوله: (ومداد كلماته) بكسر الميم مصدر المد بمعنى المدد وهو ما كثرت به الشيء، والمراد: ما يكتب به كالحبر، كما في قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] أي: لو كان ماء البحر مدادًا تكتب به كلمات الله تعالى لنفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله؛ لأن كلمات الله لا منتهى لها.
والمراد بـ (كلماته) كلامه وقوله سبحانه وتعالى الذي لا نفاد له؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء.
وما جاء في هذا الحديث مراد به المبالغة في الكثرة؛ لأنه ذكر أولًا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق، ثم زنة العرش، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وهو ما لا يحصيه عدد ولا يحده مقدار وهو كلمات الله، ولذا صرح في الأولى بالعدد وفي الثالثة بالزنة، ولم يصرح في الآخرين بشيء منهما إيذانًا بأنهما لا يدخلان في جنس العدد والموزون ولا يحصرهما تقدير، فحصل الترقي من عدد الخلق إلى رضا النفس ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات
(1)
.
° الوجه الرابع: في الحديث دليل على فضل هذا الذكر (سبحان الله وبحمده عدد خلقه) ثلاث مرات، (سبحان الله وبحمده رضا نفسه) ثلاث مرات، (سبحان الله وبحمده زنة عرشه) ثلاث مرات، (سبحان الله وبحمده مداد كلماته) ثلاث مرات، فيكون الجميع اثنتي عشرة مرة.
وظاهر هذا الذكر أنه مطلق لم يقيد بوقت معين، وقد ذكره النووي ضمن الأذكار غير المقيدة
(2)
، لكن ظاهر الحديث أنه في أول النهار.
° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الأجر ليس على قدر النصب، بل لله أن يأجر على العمل القليل بالأجر الجزيل، وذلك أنه ارتفع فضل التسبيح الأقل زمنًا على الأكثر زمنًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند أم المؤمنين رضي الله عنها بكرة حين صلى الصبح، ثم رجع إليها ضحى
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 237).
(2)
"الأذكار" ص (47).
(3)
انظر: "دليل الفالحين"(4/ 238).
ما جاء في تفسير الباقيات الصالحات
1554/ 8 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لَا إِله إلَّا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَاللهُ أكبَرُ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه النسائي في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف"(3/ 362)، وابن حبان (3/ 121)، والحاكم (1/ 512) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استكثروا من الباقيات الصالحات"، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إِلا بالله" هذا لفظ ابن حبان.
وهذا سند ضعيف، فيه دراج بن سمعان أبو السمح صدوق، لكنه ضعيف في شيخه أبي الهيثم سليمان بن عمرو العُتْواري، قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: (الشأن في دراج)، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(حديثه منكر)، وحكى ابن عدي عن أحمد أنه قال:(أحاديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد فيها ضعف)، وقال أبو داود:(أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد).
وقال النسائي: (ليس بالقوي)، وقال أبو حاتم:(في حديثه صنعة)
(1)
، وقال الدارقطني:(مصري متروك)، ووثقه ابن معين في رواية عنه، وابن حبان وابن شاهين
(2)
.
والحافظ عزا الحديث للنسائي ولم أجده في "عمل اليوم والليلة" المطبوع ضمن "السنن الكبرى" وإنما فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا جُنتكم" قالوا: يا رسول الله أَمِنْ عدو حضر؟ قال: "لا، ولكن جُنتكم من النار، قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مجنِّبات ومعقبات، وهن الباقيات الصالحات".
رواه النسائي (9/ 313) من طريق عبد العزيز بن مسلم، قال: حدثنا ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. وهذا الحديث في سنده اختلاف، وقد أعله البخاري وأبو حاتم والدارقطني بالإرسال
(3)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الباقيات) أي: الكلمات التي تبقى لصاحبها من حيث الثواب.
قوله: (الصالحات) أي: للتقرب بها إلى الله تعالى.
قوله: (ولا حول) هذه هي الحوقلة أو الحولقة، وأصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره أو يفسر بالحيلة.، وهو ما يتوصل به إلى حالٍ ما خُفْيةً، والمعنى: لا يتوصل إلى تدبير أمر وتغيير حال إلا بمشيئتك ومعونتك، و (لا) نافية للجنس، و (حولَ) اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف تقديره: لا حول لنا أو لا حول موجود، وذكر العيني أن الجار
(1)
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في تعليقه على "الجرح والتعديل"(3/ 311): (يعني أنه يتصرف فيه ولا يأتي به على الوجه).
(2)
انظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 208).
(3)
انظر: "التاريخ الكبير"(2/ 122)، "التاريخ الأوسط"(2/ 42)، "العلل" لابن أبي حاتم (1793)، "العلل" للدارقطني (8/ 155).
والمجرور هو الخبر
(1)
، وقيل: لا تحول للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله. قال النووي:(هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر، وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بإرادة الله تعالى)
(2)
.
قوله: (ولا قوة) بالبناء على الفتح على أن (لا) عاملة عمل (إن) كالأولى، والواو عاطفة، من باب عطف الجمل أو المفردات
(3)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل هذا الذكر وأن هذه الألفاظ مما يبقى أثره ونفعه للمؤمن بعد موته، قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46]؛ أي: إن صاحبها ينتظر الثواب وينبسط أمله على خيرٍ من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح
(4)
.
وقد جاء عن كثير من السلف تفسير الباقيات الصالحات بهذا الذكر منهم أمير المؤمنين عثمان وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة ومجاهد وآخرون، وعزاه بعض المفسرين إلى الجمهور
(5)
.
والقول الثاني: أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس، وهذا مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، كما قال ابن كثير.
والقول الثالث: أن الباقيات الصالحات هي الأعمال الصالحة كلها، وهذا مروي عن ابن عباس -أيضًا- وهو قول قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهذا اختيار ابن جرير
(6)
، وهذا هو الأقوى في نظري، وما جاء في حديث الباب هو فرد من أفراد الأعمال الصالحة. والله تعالى أعلم.
(1)
"العَلَمُ الهيِّب" ص (110).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(17/ 30 - 31) بتصرف، "فتح الباري"(11/ 500 - 501).
(3)
انظر: "دليل السالك إلى ألفية ابن مالك"(1/ 226).
(4)
"المحرر الوجيز"(5/ 615).
(5)
"المحرر الوجيز"(5/ 157)(5/ 615).
(6)
"الدر المنثور"(9/ 561)، "تفسير ابن كثير"(5/ 157).
ما جاء في أحب الكلام إلى الله تعالى
1555/ 9 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأَتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلهَ إلا اللهُ، وَاللهُ أكبَرُ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الآداب"، باب (كراهية التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه)(2137) من طريق منصور، عن هلال بن يساف، عن الربيع بن عَميلة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله كبر، لا يضرك بأيهن بدأت، ولا تسمينَّ غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلح؛ فإنك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا، إنما هن أربع فلا تزيدُنَّ عليَّ"
(1)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أحب الكلام) إما أن يراد كلام البشر؛ لأن القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، وهذا قول النووي
(2)
، أو أن المراد الكلام المتضمن للأذكار والدعاء والقُرَب، وهذا رأي القرطبي
(3)
.
(1)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (13/ 365).
(2)
المصدر السابق (17/ 52).
(3)
"المفهم"(5/ 461). وانظر: "دليل الفالحين"(4/ 214).
قوله: (أربع) أي: أربع كلمات، وإنما قال: أربع ولم يقل أربعة؛ لأن المعدود مؤنث
(1)
.
قوله: (لا يضرك بأيهن بدأت) أي: بأي الكلمات بدأت أولًا، قال الطيبي:(قوله: "لا يضرك" بعد إيراد الكلمات على النسق والترتيب يشعر بأن العزيمة أن يراعى الترتيب، والعدول عنه رخصة ورفع للجناح)
(2)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل هذه الجمل الأربع، وأنها من أحب كلام البشر إلى الله تعالى وأحقه قبولًا وأكثره ثوابًا؛ لاشتمالها على أمور عظيمة، وهي تنزيه الله تعالى، ووصفه بكل ما يجب له من صفات الكمال، وإفراده بالوحدانية والأكبرية، وأن فضلها وحصول ثوابها لا يقتضي ترتيبها كما جاءت في الحديث، بل لا بأس بتقديم بعضها على بعض؛ لأن كل جملة منها مستقلة بمعناها عن الأخرى، لكن لو حافظ على سياق الحديث لكان أولى؛ لأن فيه تقديم التنزيه -وهو تخلية عن كل قبيح- على إثبات الحمد والوحدانية والأكبرية، وهذه تحلية بكل صفات الكمال، والتخلية -بالخاء- مقدمة على التحلية -بالحاء- لكنه لما كان سبحانه وتعالى منزهًا ذاتًا عن كل قبيح لم تضر البداءة بالتحلية وتقديمها على التخلية
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"العلم الهيب" ص (105).
(2)
"شرح الطيبي على مشكاة المصابيح"(5/ 71).
(3)
"الفتوحات الربانية"(1/ 184 - 185)، "سبل السلام"(8/ 402).
فضل لا حول ولا قوة إلا بالله
1556/ 10 - عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيسٍ! ألا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
زَادَ النّسَائيُّ: "وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيهِ".
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (الدعاء إذا علا عَقَبَةً)(6384)، ومسلم (2704) من طريق أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا. . . وساق الحديث إلى أن قال: ثم أتى عليَّ وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال:"يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة" أو قال: "ألا أدلك على كلمة هي من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" هذا لفظ البخاري.
ورواه النسائي في "عمل اليوم والليلة"(358) وهو ضمن "السنن الكبرى"(9/ 140 - 141) من طريق إسرائيل، وأحمد (13/ 447) من طريق معمر، كلاهما عن أبي إسحاق، عن كُميل بن زياد النخعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا منجى
(1)
من الله إلا إليه".
(1)
ذكر محقق "عمل اليوم والليلة" للنسائي أنه في بعض النسخ باللام (ولا ملجأ).
وهذا لفظ النسائي، ورواه أحمد مطولًا، وفيه:"ولا ملجأ. . ." وفي ثبوت هذه الزيادة نظر؛ لأن حديث أبي هريرة له طرق أخرى، وليس فيها هذه اللفظة، ويقوي هذا عدم ثبوتها في رواية "الصحيحين".
وقول الحافظ: إن هذه الزيادة من حديث أبي موسى وهم منه، فإن النسائي روى حديث أبي موسى في عشرة مواضع من "السنن الكبرى"
(1)
وليس في واحد منها هذه الزيادة.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يا عبد الله بن قيس) هذا اسم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
قوله: (ألا أدلك) ألا: بفتح الهمزة وتخفيف اللام، كلمة تنبيه؛ لأن المتكلم ينبه السامع على أمر عظيم الشأن، ومعنى (أدلك): أعلمك وأرشدك.
قوله: (كنز من كنوز الجنة) أصل الكنز في اللغة: ما يدفن من الأموال والأمتعة، والمراد هنا: أن هذا القول يعد لقائله ويدخر له من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في دار الدنيا، بمعنى أن قائل هذه الكلمة يحصل ثوابًا نفيسًا يدخر له في الجنة أحوج ما يكون إليه.
وتسميتها كنزًا هو من إطلاق السبب على المسبب، وهو أنها لما كانت سببًا للثواب في الجنة المعبر عنه بالكنز أطلق عليها اسمه من باب المجاز.
قوله: (ولا ملجأ من الله) أي: لا مفر ولا مهرب من قضاء الله أو من عذاب الله، وملجأ يحتمل أنه مصدر ميمي، و (من الله) متعلق به، فيكون منصوبًا على أنه اسم (لا)، ويحتمل أن يكون اسم مكان فهو مبني على الفتح، و (من الله) متعلق بمحذوف صفة له
(2)
.
قوله: (إلا إليه) أي: إلا بالالتجاء إليه والتحصن برضاه.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل هذه الكلمة العظيمة (لا حول
(1)
انظر: "السنن الكبرى"(7/ 132) مع الحاشية.
(2)
"البدر التمام"(5/ 375).
ولا قوة إلا بالله) وأن ثوابها مدخر لقائلها في الجنة أحوج ما يكون إليه، وذلك لأنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر؛ لأنه ضعيف ليس له قدرة ولا تصرف إلا بالله تعالى.
وفي هذا تحقيق التوحيد الربوبية الذي هو دليل وبرهان على توحيد العبادة وهو توحيد الألوهية، فإن من أقر بأن الله تعالى هو صاحب الحول والقوة، بيده كل شيء كان هذا داعيًا له لإفراد ربه بالعبادة، فهي كلمة عظيمة ولا سيما عند الشدائد والكروب والنوازل، فمن قالها فهو حري بأن الله تعالى يعينه وييسر له أموره.
يقول ابن القيم عن هذه الكلمة العظيمة: (وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، والدخول على الملوك ومن يُخاف، وركوب الأهوال، ولها -أيضًا- تأثير في دفع الفقر)
(1)
.
° الوجه الرابع: في الحديث رد على القدرية
(2)
القائلين إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر؛ لأن الحديث دل على أن العبد ليس له قدرة ولا تصرف إلا بالله تعالى. والله تعالى أعلم.
(1)
"الوابل الصيب" ص (98).
(2)
انظر: "شفاء العليل"(2/ 711).
ما جاء في أن الدعاء هو العبادة
1557/ 11 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
1558/ 12 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أنَسٍ بِلَفْظِ: "الدُّعاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ".
1559/ 13 - وَلهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رَفَعَهُ: "لَيسَ شَيءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعاءِ". وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود في كتاب "الصلاة"، باب (الدعاء)(1479)، والترمذي (3247)(3372)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 244 - 245)، وابن ماجه (3828) من طريق ذر بن عبد الله المُرْهبي، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: " {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] ".
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) وزاد في الموضع الثاني: (وقد رواه منصور والأعمش، عن ذر، ولا نعرفه إلا من حديث ذر، وهو ذر بن عبد الله الهَمْداني، ثقة، والد عمر بن ذر).
وصححه النووي في "الأذكار"، وقال الحافظ ابن حجر:(إسناده جيد)
(1)
.
(1)
"الأذكار"ص (614)، "فتح الباري"(1/ 49).
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد رواه الترمذي (3371) من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبان بن صالح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء مخ العبادة".
قال الترمذي: (هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة).
وهذا سند ضعيف فيه ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ وقد تفرد به، كما قال الترمذي، وضعفه الحافظ المنذري في "الترغيب"
(1)
، حيث صدره بـ (روي) وقد ذكر في مقدمة كتابه أن من دلالة الحديث الضعيف عنده تصديره بلفظ (روي)، وعلى هذا فالظاهر أن لفظ الحديث هو اللفظ الأول وليس هذا.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه الترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وأحمد (14/ 360)، وابن حبان (3/ 151 - 152)، والطبراني في "الأوسط"(2544)(3718)، والحاكم (1/ 490) كلهم من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء".
قال الترمذي: (هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمران القطان)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
والحديث مداره على عمران بن دَاوَر القطان، كما قال الترمذي، وقال الطبراني:(لم يَرْو هذا الحديث عن قتادة إلا عمران القطان)، وهو متكلم فيه، فقد ضعفه ابن معين وأبو داود والنسائي، وقال الفلاس:(كان ابن مهدي يحدث عنه، وكان يحيى لا يحدث عنه، وقد ذكره يحيى يومًا فأحسن الثناء عليه) وقال أحمد: (أرجو أن يكون صالح الحديث)، وقال ابن عدي:(هو ممن يكتب حديثه)، وقال الدارقطني:(كان كثير الوهم والمخالفة)
(2)
، وقال
(1)
(2/ 482).
(2)
"تهذيب الكمال"(22/ 328)، "موسوعة أقوال الدارقطني"(2/ 499).
الحافظ في "التقريب": (صدوق يهم، ورُمي برأي الخوارج).
ولما رواه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 301) قال: (لا يتابع عليه، ولا يعرف بهذا اللفظ إلا عن عمران)، ونقله عنه الحافظ
(1)
، وعلى هذا فتفرد مثل عمران عن قتادة يجعل حديثه منكرًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (إن الدعاء هو العبادة) هذا لفظ ابن ماجه، وعند الثلاثة بدون (إن)، وهذا أسلوب قصر؛ لأنه أتى بضمير الفصل مع تعريف المسند والمسند إليه؛ ليدل على الحصر في أن العبادة ليست غير الدعاء، وهذا حصر حقيقي؛ لأن العبد إذا انقطع أمله مما سوى الله وأظهر العجز والاحتياج من نفسه وأفرد ربه بالدعاء ولم يلتفت قلبه إلى غيره فقد اعترف لله تعالى بالكمال وإجابة الدعاء وأنه سميع بصير، رحيم عليم، غني كريم، على كل شيء قدير، وهذه حقيقة العبادة وخلاصة التوحيد.
وقيل: إن الحصر غير حقيقي
(2)
، ومعناه: أن الدعاء معظم العبادة، أو أفضل العبادة
(3)
، وقد تقدم نظير هذا عند حديث:(الدين النصيحة).
قوله: (الدعاء مخ العبادة) بضم الميم وتشديد الخاء المضمومة، ومخ الشيء: خالصه وما يقوم به كمخ الدماغ الذي هو نِقْيُهُ، ومخ العين: شحمها، والمعنى: أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ، وإنما كان الدعاء مخ العبادة لأمور ثلاثة:
الأول: أنه امتثال لأمر الله تعالى في قوله: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فهو محض العبادة وخالصها.
الثاني: لأن العبد إذا رأى نجاح الأمور من الله تعلق به وقطع أمله عما سواه.
(1)
"فتح الباري"(11/ 94).
(2)
انظر: "التلخيص في علوم البلاغة" ص (137).
(3)
انظر: "شأن الدعاء" ص (5).
الثالث: أن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء
(1)
.
قوله: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) وذلك لأنه عبادة، والعبادة هي التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]؛ ولأن الدعاء يدل على قدرة الله تعالى وكماله، وعجز الداعي واحتياجه، كما تقدم.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الدعاء وعظيم منزلته عند الله تعالى حيث صار الدعاء هو العبادة، وذلك لأن الداعي قد أتى بأوصاف العبادة ولوازمها، فإن الدعاء يجتمع فيه من أنواع التعبد ما لا يجتمع في غيره، ففيه عبودية القلب بالقصد والرجاء والرغبة والرهبة، وفيه عبودية اللسان بالحمد، والثناء، والطلب، والابتهال، والتضرع، وفيه عبودية البدن بالانكسار والاستكانة بين يدي الله تعالى، والتذلل له
(2)
.
وفي الدعاء أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وفي الدعاء يظهر افتقار العبد وضعفه وحاجته، وفيه تتجلى قدرة الله تعالى وتعلق القلوب به، وهرب الخلائق إليه.
والدعاء مستحب عند جمهور العلماء، وحكى الخطابي وجوبه
(3)
، وقد أمر الله تعالى به في قوله سبحانه:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقوله تعالى:{وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعبادة في قوله: {عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي وتوحيدي
(4)
، فالداعي مطيع لله، مستجيب لأمره.
قال الشوكاني: (فأفاد أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو
(1)
"النهاية"(4/ 305).
(2)
انظر: "تصحيح الدعاء" ص (17).
(3)
"شأن الدعاء" ص (8).
(4)
"تفسير ابن كثير"(7/ 144).
خالقه ورازقه وموجده من العدم وخالق العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه، فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون وشعبة من كفران النعم)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"تحفة الذاكرين" ص (33).
استحباب الدعاء بين الأذان والإقامة
1560/ 14 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ بَينَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ لَا يُرَدُّ". أَخْرَجَهُ النَّسائِيُّ، وَغَيرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَغَيرهُ.
* الكلام مع عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه والكلام عليه في باب "الأذان"(203)، وقد أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة"(67)، وهو في "السنن الكبرى"(9/ 22)، وابن ماجه (67)، وابن حبان (3/ 594) من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة"، وعند ابن خزيمة في رواية: "
…
فادعوا"، وأخرجه أحمد (20/ 41) بهذه الزيادة بهذا الإسناد، وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، قال ابن القطان:(هذا إسناد جيد، وبُريد ثقة، فاعلمه)
(1)
.
وقد مضي زيادة كلام في تخريجه في الموضع المشار إليه.
* الوجه الثاني: الحديث دليل علي فضل الدعاء بين الأذان والإقامة وأن المسلم مأمور بذلك لقوله: "فادعوا"، كما في بعض الروايات، فيستحب الدعاء والإكثار منه في هذا الوقت؛ لأن صاحبه حري بالإجابة، فإن من أُلهم الدعاء فقد أُريد به الإجابة؛ لأن الله تعالى يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 227).
[غافر: 60]، ويقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وهذا كله من كرم الله تعالى وفضله علي عباده.
ولعل الحكمة في استحباب الدعاء في هذا الوقت -والله أعلم- أن الإنسان ما دام ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والصلاة موطن استجابة دعاء العبد؛ لأن العبد يناجي ربه فيها
(1)
.
فينبغي للمسلم أن يبادر إلي حضور الصلاة، فإن المتقدم إلي المسجد يتابع المؤذن، ويدعو بين الأذان والإقامة، وفي ذلك ثواب عظيم، بخلاف المتأخر فقد لا يتابع المؤذن، ولا يدعو بين الأذان والإقامة؛ لغفلته أو لانشغاله، أو لغير ذلك من الصوارف، فيفوته بذلك خير كثير، والله المستعان.
(1)
"توضيح الأحكام"(6/ 433).
ما جاء في رفع اليدين حال الدعاء
1561/ 15 - عَنْ سَلْمَانُ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَبَّكُمْ حَييٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إذا رَفَعَ إِلَيهِ يَديهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا". أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب، "الصلاة"، باب (الدعاء)(1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، والحاكم (1/ 497) من طريق جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم
…
" الحديث.
وهذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي:"صفرًا خائبتين، وعند ابن ماجه: "صفرًا" أو قال: "خائبتين".
والحديث قال عنه الترمذي: (هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه)، وقال الحافظ:(سنده جيد)
(1)
.
وفي سنده جعفر بن ميمون التميمي بياع الأنماط، وهو متكلم فيه، قال أحمد:(ليس بقوي في الحديث)، وقال ابن معين:(ليس بذاك) وقال في موضع آخر: (صالح الحديث)، وقال مرة:(ليس بثقة)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال أبو حاتم:(صالح)، وقال البخاري:(ليس بشيء)، وقال
(1)
"فتح الباري"(11/ 143).
الدارقطني: (يعتبر به)
(1)
، وقال الحافظ في التقريب:(صدوق يخطئ).
وقد تابع جعفرَ بن ميمون سليمانُ التيمي، فرواه محمد بن الزبرقان عنه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان مرفوعًا، رواه ابن حبان (3/ 163)، والطبراني في "الدعاء"(180)، والحاكم (1/ 535)، كما تابعه أبو المعلى يحيى بن ميمون، عن أبي عثمان، رواه الخطيب في "تاريخه"(8/ 317) والبغوي في "شرح السنة"(5/ 186).
وقد رواه الإمام أحمد (39/ 119)، والحاكم (1/ 497)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (484) من طريق يزيد بن هارون، ورواه الإمام أحمد في "الزهد" ص (151) من طريق يحيى بن سعيد، ورواه ابن أبي شيبة (10/ 340) من طريق معاذ بن معاذ، ثلاثتهم عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي موقوفًا.
وقد تابع سليمانَ التيمي علي وقفه حميدُ الطويل كما في "حديث علي بن حجر"(127)، وعند البيهقي ص (91)، ويزيد بن أبي صالح عند وكيع في "الزهد"(504) وهنَّاد في "الزهد" -أيضًا- (1361)، كما تابعه ثابت البناني، وسعيد الجُريري، كما عند البيهقي (91 - 92) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وسعيد عن أبي عثمان، عن سلمان أنه قال:(أجد في التوراة: إن الله حيي كريم .. الحديث). وهذه اللفظة تفرد بها حماد.
وبهذا يتبين أن سليمان التيمي قد اختلف عليه في رفعه ووقفه، ولعل الوقف في رواية سليمان وفي الحديث أشبه بالصواب.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (حيي) هو فعيل من الحياء؛ أي: ذو حياء، والله تعالى يوصف بالحياء على ما يليق بجلاله كسائر صفاته
(2)
.
قوله: (كريم) هو الذي يعطي من غير سؤال، فكيف بعد السؤال؟.
قوله: (يستحي) جملة مستأنفة بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، يعني: حياؤه وكرمه يمنعه من أن يخيب عبده السائل
(1)
.
قوله: (صفرًا) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء؛ أي: خاليتين، يقال: صَفِرَ الشيء يَصْفَرُ من باب تَعِبَ: إذا خلا، وبيت صِفْر؛ أي: خالٍ من المتاع
(2)
، والمعنى: لم يعطه ما سأله. قال الطيبي: (هذا الوصف يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع)
(3)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل علي ثبوت صفة الحياء لله تعالي علي ما يليق بجلاله وكماله كسائر صفاته التي ليس فيها شبيه ولا مثيل من خلقه، قال تعالى:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشوري: 11] وقد وصف الله نفسه بالحياء، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]. قال ابن القيم: (حياء الله تعالى لا تدركه الأفهام، ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبِرٍّ وجود وجلال)
(4)
.
* الوجه الرابع: الحديث دليل علي استحباب رفع اليدين في الدعاء وأن هذا من أسباب الإجابة، وهو -أيضًا- استكانة وعبودية واستطعام، فإن العبد يتفاءل برفع يديه أن الله تعالى يجيب دعاءه، ويضع فيهما حاجته التي سأل ربه
(5)
.
وقد تواتر رفع اليدين حال الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ومواطن كثيرة، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في دعائه صلى الله عليه وسلم علي الصفا والمروة
(6)
، وحديث أسامة رضي الله عنه في وقوفه صلى الله عليه وسلم في عرفة
(7)
، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في
(1)
"شرح الطيبي"(4/ 313).
(2)
"المصباح المنير" ص (342).
(3)
"شرح الطيبي"(4/ 313).
(4)
"مدارج السالكين"(2/ 261).
(5)
"تصحيح الدعاء" ص (26).
(6)
رواه مسلم (1780).
(7)
رواه النسائي (5/ 254)، وأحمد (36/ 146)، وابن خزيمة (2824)، قال في "الفتح":(إسناده جيد)(11/ 142).
دعائه صلى الله عليه وسلم بعد رمي الجمرتين
(1)
، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في دعائه صلى الله عليه وسلم لقبيلة دوس
(2)
، وغير ذلك.
ورفع اليدين في الدعاء من المسائل التي تواترت فيها الأحاديث تواترًا معنويًّا، فقد ذكر السيوطي في رسالة له ما يقرب من ستين حديثًا، لكنها في مواضع مختلفة، فكل واحد منها لم يتواتر لفظًا، وإنما القدر المشترك فيها وهو الرفع تواتر باعتبار المجموع
(3)
.
فكل موضع رفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نرفع فيه، تأسيًا به صلى الله عليه وسلم، وكل موضع دعا فيه ولم يرفع، فإنه لا يشرع لنا الرفع كدعائه صلى الله عليه وسلم في الطواف وأثناء السعي والدعاء بين السجدتين وآخر التشهد وبعد الفراغ من الصلاة، وهكذا في خطبة الجمعة، فإنه لم يرفع، فلا يشرع للخطيب ولا للحاضرين الرفع إلا إذا استسقى، وكذا دخول الخلاء والخروج منه، يقول العز بن عبد السلام:(لا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه)
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (1752).
(2)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(611)، وهو في "الصحيحين" بدون ذكر رفع اليدين، "صحيح البخاري"(6397)، "صحيح مسلم"(2524)، وانظر:"فتح الباري"(11/ 142).
(3)
انظر: "نظم المتناثر" ص (176) ورسالة السيوطي: "فضّ الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء".
(4)
"الفتاوى" للعز بن عبد السلام ص (47).
ما جاء في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
1562/ 16 - عَن عُمَرَ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَدَّ يَدَيهِ فِي الدُّعاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا، حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا:
1563/ 17 - حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
(1)
.
وَمَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي أنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
* الكلام عليهما من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عمر رضي الله عنه فقد رواه الترمذي في أبواب "الدعوات"، باب (ما جاء في رفع الأيدي عند الدعاء)(3386) والبزار في "مسنده"(1/ 243)، من طريق حماد بن عيسى الجهني، عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه.
وفي رواية: لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه.
هذا الحديث مداره علي حماد بن عيسى الجهني غريق الجحفة، وقد ضعفه الأئمة، قال ابن معين:(شيخ صالح)، وقال أبو حاتم وأحمد والدارقطني:(ضعيف الحديث)، وقال أبو داود:(ضعيف، روي أحاديث مناكير)
(2)
.
(1)
في بعض النسخ: (عند أبي داود وغيره) ولم أرها في المخطوطة.
(2)
"تهذيب التهذيب"(3/ 16 - 17).
قال الترمذي: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به، وهو قليل الحديث، وقد حدث عنه الناس، وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي هو ثقة، وثقه يحيى بن سعيد القطان)، وكلام الترمذي هذا يفيد ضعف الحديث، وقد جاء في بعض النسخ غير المعتمدة:(صحيح غريب) وهذا لا يصح، ولهذا فإن المزي لم ينقل عن الترمذي سوى قوله:(غريب)
(1)
، وقال البزار:(هذا الحديث إنما رواه عن حنظلة حماد بن عيسى، وهو ليِّن الحديث، وإنما ضعف حديثه بهذا الحديث، ولم نجد بُدًّا من إخراجه؛ إذ كان لا يُروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، أو من وجه دونه)، وقال أبو زرعة:(هو حديث منكر أخاف ألا يكون له أصل)
(2)
، وقال ابن الجوزي: قال يحيى بن معين: (هو حديث منكر)
(3)
.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود (1485) من طريق عبد الملك بن محمد بن أيمن، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن محمد بن كعب القرظي، حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تستروا الجدر، من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه، فإنما ينظر في النار، سلوا الله عز وجل ببطون كفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم".
قال أبو داود: (روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف أيضًا).
وذلك أن هذا الإسناد مسلسل بالمجاهيل، فعبد الملك بن محمد بن أيمن قال عنه الحافظ:(روي له أبو داود حديثًا منقطعًا وضعفه، وقال أبو الحسن بن القطان: حاله مجهولة)
(4)
، وقال في "التقريب":(مجهول).
(1)
"تحفة الأشراف"(8/ 58 - 59).
(2)
"علل ابن أبي حاتم"(2106).
(3)
"العلل المتناهية"(2/ 356).
(4)
"تهذيب الكمال"(18/ 398)، "تهذيب التهذيب"(6/ 370).
وشيخه عبد الله بن يعقوب قال عنه الذهبي: (لا أعرفه)
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(مجهول).
وشيخ عبد الله بن يعقوب لم يسمَّ فهو مبهم، وقد يكون صالح بن حسان، أو عيسى بن ميمون -كما سيأتي-، وكلاهما متروك.
ورواه ابن ماجه (3866) من طريق صالح بن حسان، عن محمد بن كعب به، وصالح بن حسان قال عنه البخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وقال ابن عدي:(هو إلي الضعف أقرب منه إلي الصدق)
(2)
، وقال ابن حبان:(كان صاحب قينات وسماع، وكان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، حتى إذا سمعها مَنِ الحديث صناعته شهد لها بالوضع) ثم ذكر له هذا الحديث
(3)
.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل": (سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن محمد الوراق، عن صالح بن حسان
…
فقال: هذا حديث منكر)
(4)
.
وقد تابع صالحَ بنَ حسانٍ عيسى بن ميمون، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، رواه محمد بن نصر في "الوتر"
(5)
، وعيسي بن ميمون قال عنه البخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي:(ليس بثقة)، وقال ابن معين:(ليس حديثه بشيء)، وقال ابن حبان:(لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد)
(6)
.
وبهذا يتبين ضعف الحديثين -حديث عمر وابن عباس رضي الله عنهما وأنه لا يصلح تقوية أحدهما بالآخر؛ لشدة ضعفهما.
وأما قول الحافظ: (ومجموعها يقتضي أنه حديث حسن) فلا ريب أنه
(1)
"تهذيب الكمال"(16/ 331)، "الميزان"(2/ 527).
(2)
"الكامل"(4/ 51).
(3)
"المجروحين"(1/ 467)، "تهذيب التهذيب"(4/ 336).
(4)
"العلل"(2572).
(5)
ص (169).
(6)
"المجروحين"(2/ 102)، "الميزان"(3/ 325).
يريد الحسن لغيره، لا الحسن لذاته، وهذا غير وارد هنا؛ لأن حديث ابن عباس ضعيف -كما تقدم في كلام أبي داود- بل قال عنه أبو حاتم -كما تقدم- (هذا حديث منكر) فمثله لا يصلح في باب الشواهد ولا المتابعات.
* الوجه الثاني: يستدل العلماء بحديث عمر وابن عباس رضي الله عنهما علي مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء، وهذا القول هو أحد الروايتين عن الإمام أحمد داخل الصلاة وخارجها، وقد ذكر المرداوي في "الإنصاف" أنها هي المذهب
(1)
، وهو أحد الوجهين عند الشافعية
(2)
، قال ابن مفلح:(ويمسح وجهه بيديه، فعله أحمد)
(3)
، وقال الموفق بعد أن ذكر الاستحباب عن أحمد وذكر الحديث قال:(ولأنه دعاء يرفع يديه فيه، فيمسح بهما وجهه، كما لو كان خارجًا عن الصلاة، وفارق سائر الدعاء، فإنه لا يرفع يديه فيه)
(4)
.
والقول الثاني: أنه لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، وهذا مروي عن الإمام أحمد -أيضًا- فقد نقل ابن هانئ أنه رفع يديه ولم يمسح
(5)
، وقال أبو داود:(سمعت أحمد وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ من الوتر فقال: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله)
(6)
.
وقد ذكر الموفق هذه الرواية ثم قال: (ولأنه دعاء في الصلاة، فلم يستحب مسح وجهه بها كسائر دعائها)
(7)
.
وهذا القول هو الوجه الثاني في مذهب الشافعية.
ومما تقدم يتبين أن رواية ترك المسح في المذهب سندها قول أحمد وتركه له، وسند رواية المسح: فعل أحمد له، وعلى هذا فالظاهر أن تركه
(1)
(2/ 173).
(2)
"المجموع"(3/ 442).
(3)
"الفروع"(1/ 541).
(4)
"المغني"(2/ 585).
(5)
"الفروع"(1/ 541).
(6)
"مسائل الإمام أحمد لأبي داود" ص (71)، "الوتر" للمروزي ص (170).
(7)
"المغني"(2/ 585).
للمسح المطابق لقوله: (لم أسمع فيه بشيء) أولى أن تكون الرواية فيه هي المذهب لا الرواية الثانية
(1)
.
وقال المروزي: سئل مالك رحمه الله عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء فأنكر ذلك، وقال:(ما علمت)
(2)
.
وروي البيهقي بسنده إلى علي الباشاني قال: سألت عبد الله -يعني ابن المبارك-: عن الذي إذا دعا مسح وجهه، قال:(لم أجد له ثبتًا) قال علي: ولم أره يفعل ذلك، قال: وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر، وكان يرفع يديه
(3)
.
وقال البيهقي: (فأما مسح الوجه باليدين عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارجها، وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف، وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس، فالأولى ألا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة، وبالله التوفيق)
(4)
.
وجاء في "فتاوى العز بن عبد السلام": (ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل)
(5)
، هكذا قال، مع أن الإمام أحمد وغيره قد فعله، كما تقدم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسح وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا تقوم بهما حجة، والله أعلم)
(6)
.
(1)
انظر: "جزء في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء" للشيخ بكر أبو زيد.
(2)
"الوتر" ص (170).
(3)
"السنن الكبرى"(2/ 212).
(4)
المصدر السابق (2/ 212).
(5)
ص (47).
(6)
"الفتاوي"(22/ 519).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (الأفضل الترك، فإن فعله في بعض الأحيان فالأمر واسع، وأما القول بأنه بدعة فهو محل نظر، والأقوي والأقرب عندي أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا؛ لأنه لو فعله لنقله رواة الأخبار الصحيحة).
والراجح -والله أعلم- أنه لا يشرع المسح لا في الصلاة ولا خارجها، فإن عمدة القائلين بمشروعيته أن الأحاديث الواردة فيه إذا جمع بعضها إلي بعض قويت ونهضت علي الاستدلال بها، وتقدم رد هذا، والمعول على الأحاديث الصحيحة وليس فيها مسح الوجه، والله أعلم.
ما جاء في فضل الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
-
1564/ 18 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "الوتر"، باب (ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)(484)، وابن حبان (3/ 192) من طريق محمد بن خالد بن عثمة قال: حدثنا موسى بن يعقوب الزَّمْعِي، قال: حدثني عبد الله بن كيسان أن عبد الله بن شداد أخبره، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث. وهذا لفظ ابن حبان، وليس عند الترمذي لفظة:(إن).
والحديث سنده ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الله بن كيسان وهو مجهول، قال ابن القطان:(لا تعرف حاله، ولا يعرف روى عنه إلا موسى بن يعقوب الزمعي)
(1)
.
وفي سنده -أيضًا- موسى بن يعقوب الزمعي متكلم فيه، وأكثر النقاد على تضعيفه، ووثقه بعضهم، فقد وثقه ابن معين، وقال أبو داود:(صالح)،
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 613).
وقال ابن عدي: (لا بأس به عندي)، لكنه استنكر حديثه هذا، وضعفه ابن المديني فقال:(ضعيف الحديث، منكر الحديث)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال الدارقطني:(لا يحتج به)
(1)
، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق سيئ الحفظ).
ثم إن في سنده اختلافًا، فقد رواه ابن حبان من طريق خالد بن مَخْلَد قال: حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، حدثنا عبد الله بن كيسان قال: حدثني عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أبيه
…
فزاد (عن أبيه)، ولما ذكر الدارقطني الاختلاف في إسناده قال:(والاضطراب فيه من موسى بن يعقوب، ولا يحتج به)
(2)
.
* الوجه الثاني: يستدل العلماء بهذا الحديث علي فضل الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالشفاعة وأقربهم منه منزلة يوم القيامة الذين يكثرون الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
وقد روي مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلي عليَّ واحدة صلي الله عليه عشرًا"
(3)
.
وهذه الصلاة من الله تعالى فسرت بالرحمة وتضعيف الأجر، كما قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقد تكون الصلاة علي حقيقتها بكلام تسمعه الملائكة تعظيمًا للمصلي وتشريفًا له، كما في حديث:"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الكامل"(6/ 342)، "العلل" للدارقطني (5/ 113)، "تهذيب التهذيب"(10/ 373).
(2)
"العلل"(5/ 111 - 113).
(3)
"صحيح مسلم"(408).
(4)
"إكمال المعلم"(2/ 306)، "شرح الأُبِّي علي صحيح مسلم"(2/ 165)، "الفتوحات الربانية"(2/ 121)، والحديث تقدم تخريجه في أول حديث في باب "الذكر والدعاء".
سيد الاستغفار
1565/ 19 - عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ، أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إلهَ إلا أنتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فإنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أَنْتَ". أَخْرَجَهُ الْبُخارِيُّ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (أفضل الاستغفار)(6306) من طريق الحسين بن ذكوان المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن بُشير بن كعب العدوي، قال: حدثني شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي
…
" وذكر الحديث، وتمامه: قال: "ومن قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (سيد الاستغفار) أي: سيد ألفاظ، قال الطيبي:(السيد هنا مستعار من الرئيس المقدم الذي يصمد إليه في الحوائج لهذا الدعاء الذي هو جامع لمعاني التوبة كلها)
(1)
. و (الاستغفار) مصدر استغفر، وهو مأخوذ من
(1)
"شرح الطيبي"(5/ 102 - 103).
مادة (غَفَرَ) التي تدل على الستر والتغطية، والاستغفار: طلب مغفرة الذنوب بسترها في الدنيا والتجاوز عنها في الآخرة
(1)
.
قوله: (أن يقول العبد) لفظة: (العبد) ليست عند البخاري، كما تقدم في السياق، وقد ثبتت في رواية أحمد والنسائي
(2)
.
قوله: (اللهم) الميم المشددة عوض عن حرف النداء؛ أي: يالله، وهذه الصيغة تستعمل في الطلب، كما هنا، وفي غيره مثل: اللهم إني أصبحت أُشْهِدُك.
قوله: (أنت ربي) أي: لا غيرك، واستفيد الحصر من تعريف المسند والمسند إليه.
قوله: (لا إله إلا أنت) أي: ليس لي معبود ولا مألوه إلا أنت.
قوله: (خلقتني) كذا في "صحيح البخاري"، وذكر الحافظ أنه وجد في نسخة معتمدة:(أنت خلقتني) بزيادة الضمير، وقدم ذكر التوحيد على طلب المغفرة؛ لأن التوحيد أعظم الأسباب التي تستجلب بها المغفرة، وعدمه مانع من المغفرة بالكلية
(3)
.
قوله: (وأنا عبدك) معطوف علي قوله: (أنت ربي) كأنه قال: اللهم أنت ربي وأنا عبدك؛ أي: تألهًا وخلقًا، وأجاز الطيبي أن تكون حالًا مؤكدة، أو حالًا مقدرة، أي: أنا عابد لك، كقوله تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] ويؤيد هذا ما بعده
(4)
.
قوله: (وأنا على عهدك ووعدك) أي: أنا علي ما عاهدتك عليه من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك، وأنا مقيم علي حقيقة وعدك لي بالتوبة والأجر. أو أنا مقيم علي ما عهدت إليَّ من أمرك ومتمسك به، وعلي وعدك؛
(1)
انظر: "اللسان"(5/ 25).
(2)
انظر: "فتح الباري"(11/ 99).
(3)
انظر: "شرح حديث لبيك اللهم لبيك" ضمن رسائل ابن رجب (1/ 147).
(4)
انظر: "شرح الطيبي"(5/ 103).
أي: مصدق بوعدك في المثوبة والأجر
(1)
.
قوله: (ما استطعت) ما: مصدرية؛ أي: بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي، والاستطاعة هي القدرة علي الشيء، وفي هذا إعلام من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن العبد لا يقدر علي الإتيان بجميع ما أُمر به، ولا الوفاء بكمال طاعة الله، ولا القيام بما يجب من شكر النعم.
قوله: (أعوذ بك) أي: ألتجئ إليك وأعتصم بك، فأنت المستعاذ به.
قوله: (من شر ما صنعت) أي: من شر الذي صنعته، علي أن (ما) موصول اسمي، أو من شر صنعي علي أنه موصول حرفي، وهذا هو المستعاذ منه، وخص الشر؛ لأن صنع الخير محبوب لله تعالي، والعبد مأمور بفعله عهدًا وميثاقًا ووعدًا، بخلاف الشر فإنه معاهد علي تركه واجتنابه.
قوله: (أبوء لك بنعمتك عليَّ) يقال: باء يبوء: رجع وانقطع؛ أي: اعترف لك طوعًا بنعمتك عليَّ، فكأنه رجع إلي الإقرار والاعتراف، ولفظ النعمة يفيد العموم في جميع نعم الله تعالى علي عباده ظاهرها وباطنها؛ لأنه مفرد مضاف كقوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
قوله: (وأبوء بذنبي) أي: أرجع علي نفسي بالإقرار والاعتراف بإثمي ومعصيتي، وقال صاحب كتاب "الأفعال":(باءَ بالذنب: أَقَرَّ)
(2)
. وقال الخطابي: (معناه الإقرار بها -أيضًا- كالأول، ولكن فيه معنى ليس في الأول، تقول العرب: باء فلان بذنبه: إذا احتمله كرهًا، لا يستطيع دفعه عن نفسه)
(3)
. ولفظ الذنب وإن كان مفردًا، فإنه يعم كل ذنب من فعل محظور أو ترك واجب؛ لأنه مفرد مضاف كالذي قبله، والمعنى: أنا معترف لك بإنعامك عليَّ الذي يستوجب عليّ حمدًا، ومعترف بذنبي الذي يستوجب مني استغفارًا.
(1)
انظر: "أعلام الحديث" للخطابي (3/ 2236).
(2)
"الأفعال" لابن القوطية ص (132).
(3)
"معالم السنن"(7/ 331).
قوله: (فاغفر لي) لفظ "الصحيح": (اغفر لي) بدون فاء، لكن جاء في طبعة الناصر لـ "الصحيح" ما يدل علي صحة سماعها
(1)
، وقوله:(اغفر) فعل دعاء من: غفر يغفر غفرًا، من باب ضرب، وأصل الغفر: الستر والتغطية، والمغفرة من الله تعالى ستره للذنوب، ووقاية العبد آثامها، بعفوه عنها بفضله ورحمته.
قوله: (فإنه لا يغفر النفوب إلا أنت) ضمير الهاء للشأن والأمر.
* الوجه الثالث: الحديث دليل علي فضل الاستغفار وأنه من أعظم أسباب مغفرة الذنوب إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، ومن ذلك أن يسلم العبد من الإصرار علي المعصية؛ وهذا هو الاستغفار التام، أما الاستغفار مع إصرار القلب علي الذنب فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده، وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة.
وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار فتارة بالأمر به، كما في قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وتارة بمدح أهله، كقوله تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وتارة بالوعد بالمغفرة لمن استغفره، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]
(2)
. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: (أي: من تجرأ علي المعاصي واقتحم علي الإثم، ثم استغفر الله استغفارًا تامًّا، يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع، والعزم علي ألا يعود، فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة، فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلًا عن توفيقه؛ لأنه قد غفره وإذا غفره، غفر ما يترتب عليه)
(3)
.
(1)
"صحيح البخاري"(8/ 67).
(2)
انظر: "جامع العلوم والحكم" شرح حديث (42)، "نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار" ص (350).
(3)
"تفسير ابن سعدي" ص (200).
* الوجه الرابع: الحديث دليل علي أن هذه الصيغة الواردة في هذا الحديث هي أفضل صيغ الاستغفار، وذلك لأن فيه الثناء علي الله تعالى، ثم الاعتراف بربوبيته وألوهيته وأنه لا معبود بحق غيره، وأن العبد مقيم الوعد ثابت العهد بحسب طوقه واستطاعته، ثم فيه الاستعاذة بالله سبحانه من شر ما صنع العبد من ارتكاب للآثام أو تقصير في طاعة أو شكر علي نعمة، ثم فيه الإقرار بترادف النعم وما يصيب العبد من الذنوب والمعاصي، وختمه بسؤال المغفرة من الله الذي لا يغفر الذنوب سواه، قال الحافظ ابن رجب:"أفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء علي ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة"
(1)
.
* الوجه الخامس: في الحديث الاعتراف بنعم الله تعالى علي عبده وترادف فضله وإحسانه، وهذا يتضمن شكر المنعم سبحانه وتعالى؛ لأن من أعظم الدواعي لشكر النعم تذكر النعمة والاعتراف بها، ومن مظاهر التقصير في الشكر الغفلة عن النعم، قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وهذا يفيد أنهم لن يقوموا بالشكر علي الوجه المطلوب؛ لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها؟.
وفيه الاعتراف بالذنب الذي يستدعي من العبد لزوم الاستغفار، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(متى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية، وترقي في درجات المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسه، وتواضع لربه، وهذا هو كمال العبودية، وبه يبرأ من العجب والكبر، وزينة العمل)
(2)
.
وقال ابن القيم: (العبد يسير إلي الله بين مَشَاهِدِ مِنَّتِهِ عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، وهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأن أقضيته كلها عدل فيه، وأن ما هو فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه، ولهذا كان في حديث سيد
(1)
"جامع العلوم والحكم" شرح حديث (42).
(2)
انظر: "المجموعة العليّة من كتب ورسائل وفتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية" ص (59).
الاستغفار: "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فلا يري نفسه إلا مقصرًا مذنبًا، ولا يري ربه إلا محسنًا متفضلًا)
(1)
.
* الوجه السادس: الحديث دليل علي إثبات قوة العبد وقدرته واستطاعته، وأنه غير مجبور علي ذلك، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وفي هذا رد علي القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد مجبر علي عمله، وليس له فيه إرادة ولا قدرة، وإنما يعاقبه الله علي فعله هو، لا علي فعل العبد. وهذا مذهب باطل يرده الشرع والعقل والواقع أما الشرع فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29].
وأما الواقع فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل والشرب والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحُمَّى والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه
(2)
. والله تعالي أعلم.
(1)
"شفاء العليل"(2/ 722) وقد جاء فيه: (وصدقه عليه .. ) والمثبت من طبعة مصرية قديمة ص (166).
(2)
"المجموعة العلية" ص (56)، "نبذة في العقيدة الإسلامية" ص (63).
من الأدعية الجامعة في الصباح والمساء
1566/ 20 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ:"اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلكَ الْعَافِيَةَ فِي دِيني، وَدُنيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي. اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، واحْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَديَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَال مِنْ تَحْتِي". أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأدب"، باب (ما يقول إذا أصبح)(5074)، ورواه النسائي في "الصغرى"(8/ 282) وفي "السنن الكبرى"(9/ 210)، وابن ماجه (3871)، وأحمد (8/ 403)، والحاكم (1/ 517 - 518) من طريق عُبادة بن مسلم الفَزَاري، عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الدعوات
…
الحديث.
وهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات، قال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي، وقال النووي:(رويناه بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه)
(1)
.
(1)
"الأذكار" ص (145).
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يَدَعُ) أي: يترك، من ودع الشيء: إذا تركه، وقد زعم النحاة أن العرب أماتت ماضيَ (يَدَعُ) ومصدره واسم الفاعل مع ثبوتها
(1)
، ولو عبروا بالقلة لكان أحسن، وتقدم الكلام على هذا في أول "الجمعة" عند الحديث (445).
قوله: (حين يمسي) أي: يدخل في المساء، وهو مضارع أمسي وهو تام، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو، ومثله (حين يصبح)، والمساء: خلاف الصباح، قال ابن القوطية:(المساء ما بين الظهر إلي المغرب)، وقال بعضهم: إلى نصف الليل
(2)
، وقال في "القاموس" (الصُّبْحُ: الفجر أو أول النهار، والمساء: ضد الصباح).
قوله: (العافية في ديني) السلامة في ديني من المعاصي والآثام والمخالفات والبدع، وجاء عند أبي داود والنسائي وابن ماجه: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي
…
".
قوله: (ودنياي) أي: أسألك العافية في دنياي من المصائب والشرور المكدرة، والمعيشة المنغصة، والانهماك فيها الذي يلهي عن الله تعالى وعن الدار الآخرة.
قوله: (وأهلي) يطلق الأهل على الزوجة، والمراد هنا: الزوجة والأولاد؛ لأن الأهل يطلق -أيضًا- على سكان الدار، والمراد سؤال العافية لأهله من الأمراض والانحراف وسوء العشرة وألا يري فيهم ما يسوؤه.
قوله: (ومالي) أي: وأسألك العافية في مالي من الآفات والشبهات المؤثرة علي سلامة الكسب.
قوله: (استر عوراتي) العورة: اسم لكل ما يستحيي منه إذا ظهر من
(1)
"اللسان"(8/ 383 - 384) مادة: (ود ع).
(2)
"الأفعال" لابن القوطية ص (154)، "تهذيب اللغة"(13/ 122)، "ترتيب القاموس"(2/ 792)، (4/ 243)، "فتح الباري"(3/ 569).
الذنوب والعيوب؛ أي: عيوبي وزلاتي، والدعاء بسترها يتضمن الدعاء بمغفرتها.
قوله: (وآمن روعاتي) جمع روعة وهي الفزع؛ أي: فزعاتي التي تخيفني، تقول: راعني الشيء روعًا من باب ضرب: أفزعني، ويروعني مثله
(1)
.
وإيراد هذا وما قبله بصيغة الجمع إشارة إلي كثرتها، وبالأمن منها يتم كمال الإنسان وخَلاصه؛ ولأنه يدخل في الحديث روعات يوم القيامة.
قوله: (واحفظني من بين يدي
…
) إلخ، أي: ادفع عني البلاء من جهاتي الست، فلا يصيبني شر من أي جهة منها، وعمم الجهات لأن الآفات تأتي منها.
قوله: (وأعوذ بعظمتك) أي: وأستجير وأتحصن بعظمتك وجلالك، والعظمة: صفة من صفات الله تعالى، وهي تعني جميع معاني العظمة والجلال؛ كالقوة والعزة وكمال القدرة وسعة العلم، وغير ذلك من أوصاف العظمة التي لا يستحقها أحد سواه.
وبالغ في الدعاء لجهة السفل فخصها بالعظمة لعظم شأنها؛ لأن الاغتيال أمره خطير بأن تُخسف به الأرض، كما صنع الله بقارون، أو بالغرق كما صنع الله بفرعون، فالكل اغتيال من التحت.
قوله: (أن أغتال من تحتي) بضم الهمزة للمتكلم، وهو مبني لما لم يسم فاعله، من الاغتيال وهو أخذ الشيء غِيلة؛ أي: خفية.
وقد فسر جبير بن أبي سليمان -أحد رواة الحديث- الاغتيال من الجهة التحتية بالخسف، قال في "القاموس":(خسف الله بفلان الأرض: غيبه فيها)
(2)
، قال عُبادة بن مسلم:(فلا أدري قول النبي صلى الله عليه وسلم أو قول جبير)
(3)
،
(1)
"المصباح المنير" ص (246).
(2)
"ترتيب القاموس"(2/ 55).
(3)
"سنن النسائي"(8/ 282).
وقد فسره -بذلك أيضًا- وكيع بن الجراح، كما جاء مصرحًا به عند أبي داود.
* الوجه الثالث: استحباب الدعاء بهؤلاء لكلمات الجامعة في الصباح والمساء تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولما في هذا الدعاء من الخير العظيم الجامع لسعادة الدنيا والآخرة؛ لأن فيه الدعاء بسلامة الإنسان في دينه ودنياه وأهله وماله من الشرور وأسبابها، وفيه الدعاء بحفظ الإنسان من جميع الجهات؛ لأن العبد بين أعدائه من شياطين الإنس والجن كالشاة بين الذئاب إذا لم يكن له حافظ من الله فما له من قوة.
إن على العبد أن يأخذ بأسباب حفظ الله تعالى له، ويحرص عليها، وأعظمها: توحيد الله تعالى، وفعل ما يحبه، واجتناب ما يسخطه، ومن ذلك: المحافظة علي مثل هذه الأدعية الجامعة، وأذكار الصباح والمساء؛ ليحظي العبد من ربه بحفظ دينه وإيمانه من الشبهات المردية، والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، وبحفظ دينه عند موته، فيتوفاه علي الإسلام، كما يحظي من ربه بحفظ دنياه وبدنه وولده وأهله وماله وذريته، ولا حافظ للعبد في دينه ودنياه وجميع شؤونه إلا الله تعالى:{فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، {إِنَّ رَبِّي عَلَي كُلِّ شَئٍ حَفِيظٌ} [هود: 57] ومن تخلي الله عن حفظه فإنه هالك ضائع، ولا حافظ له من بعبد الله، وعلي حسب ما عند العبد من الإيمان واليقين والتوكل يكون حفظ الله له، وتكون مدافعة الله عنه بلطفه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
* الوجه الرابع: جاءت الأذكار والأدعية في الكتاب والسنة، منها ما هو مطلق لم يقيد بوقت، كما تقدم في بعض الأحاديث، ومنها ما هو مقيد بوقت، ومنه الصباح والمساء وما جاء في معناهما، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، وقد جاء في القرآن قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]،
والبكرة: أول النهار، والأصيل: آخر النهار، ما بين العصر والمغرب
(1)
.
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقال تعالى:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] قال الخليل: (العَشِيُّ: آخر النهار)
(2)
، وقال الأزهري:(العَشِيُّ عند العرب: ما بين أن تزول الشمس إلي أن تغرب)
(3)
واقتصر عليه ابن جرير
(4)
، وقال الجوهري:(من صلاة المغرب إلي العَتَمَةِ)
(5)
وقال ابن فارس: (العين والشين والحرف المعتل أصل صحيح يدل علي ظلام وقلة وضوح في الشيء، ثم يُفَرَّعُ منه ما يقاربه، من ذلك العِشَاءُ، وهو أول ظلام الليل
…
والعَشِيُّ: آخر النهار، وقد قيل: كل ما كان بعد الزوال فهو عَشِيٌّ .. )
(6)
.
وقد فُسِّرَ التسبيح الذي جاء مقيدًا بالغداة والعشي بأن المراد به: الصلاة المكتوبة، قال به مجاهد ومقاتل
(7)
، وفي قوله تعالى:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة)
(8)
والصلاة تسمي تسبيحًا، لأن الله يوحد فيها وينزه
(9)
.
وما ورد من ذكر المساء والصباح في الأحاديث الشريفة فقد أريد به أن يكون من أوراد طرفي النهار، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما أن طرفي النهار ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب، قال ابن القيم:(وهذا تفسير ما جاء في الأحاديث أن من قال كذا وكذا حين يصبح وحين يمسي، أن المراد به: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر)
(10)
.
(1)
"الصحاح"(4/ 1623).
(2)
"العين"(2/ 188).
(3)
"الزاهر"(143).
(4)
"تفسير الطبري"(3/ 262).
(5)
"الصحاح"(6/ 2426).
(6)
"معجم مقاييس اللغة"(4/ 322).
(7)
"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 646)، "زاد المسير"(1/ 386).
(8)
"تفسير الطبري"(7/ 203) وسنده جيد.
(9)
"التفسير البسيط"(5/ 242)، (8/ 162).
(10)
"الوابل الصيب" ص (200)، وانظر:"الكلم الطيب" ص (30)، "الفتوحات الربانية"(3/ 73).
فظهر بذلك أن وقت أذكار الصباح بعد الصبح وقبل طلوع الشمس، وأذكار المساء بعد العصر وقبل غروب الشمس.
ولعل الحكمة في هذا -والله أعلم- أن يكون مفتتح الأعمال وابتداؤها ذكر الله تعالى، فيرجي أن يكتب للعبد سائر يومه طاعةً وذكرًا؛ لأن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين
(1)
، إضافة إلي ما في الأذكار من فوائد عظيمة ومصالح جمة، ذكرها العلامة ابن القيم، ومنها:
1 -
أن الأذكار سبب انشراح الصدر وسرور القلب ولذته بذكر الله تعالي.
2 -
أن ذكر الله تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده.
3 -
أن العبد إذا تعرف إلي الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه الله في الشدة.
4 -
أن الذكر جلاب للنعم دافع للنقم.
5 -
أن الذكر حرز من الشياطين يحفظ الإنسان في نفسه وأهله وولده وماله
(2)
والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح ابن بطال"(10/ 91)، "نتائج الأفكار في شرح حديث صيد الاذكار" ص (381).
(2)
انظر: "الوابل الصيب"(91 - 187).
استحباب الاستعاذة من هذه الأربع
1567/ 21 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام مع عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الرقائق"، باب (أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء)(2739) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك
…
" الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أعوذ بك) أي: ألتجئ وأعتصم بك.
قوله: (من زوال نعمتك) أي: ذهابها من غير بدل، والنعمة مفرد مضاف، فتعم النعم الظاهرة والباطنة، فالظاهرة هي التي تعرف كالأكل والشرب والسكن واللباس، ونعمة الجوارح وسائر النعم التي تري في الكون، والباطنة هي لا تعرف، وإنما يعرفها الإنسان من نفسه؛ كالقوة والصحة والفهم وقوة الإيمان واليقين ومحبة الله وتعظيمه وغير ذلك، وأعظم النعم نعمة الإسلام والإيمان.
قوله: (وتحول عافيتك) بفتح التاء والمهملة وتشديد الواو مضمومة
مصدر تحوَّل، والتحول هو الانتقال؛ أي: وانتقال عافيتك عني بحصول المرض بدل الصحة، والفقر بدل الغِنَي، والعافية: ضد المرض، أو هي السلامة من جميع مكاره الدارين، وهذا أحسن
(1)
.
والفرق بين الزوال والتحول: أن الزوال في شيء كان ثابتًا ثم فارقه، والتحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، فمعني زوال النعمة: ذهابها من غير بدل، وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض والغني بالفقر (1)، وقد يكون المعنى واحدًا، وتغيير اللفظ له معنى بلاغي، وهو التفنن في التعبير.
قوله: (وفجأة نقمتك) ضبطت في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي لـ "الصحيح" بضم الفاء وبفتح الجيم ممدودة، ويروي بفتح الفاء وإسكان الجيم من غير مد على وزن جَلْسة
(2)
. قال أهل اللغة: (فَجَأ الأمرُ، وفَجِئَ فُجَاءَةً: جاء بغتة، وفَجَأْتُهُ، وفَجِئْته: مثله)
(3)
.
والنقمة: بكسر النون وسكون القاف بوزن النعمة اسم من الانتقام، وهو المكافأة بالعقوبة والأخذ بغتة، وخصها بالذكر لأنه أشد.
قوله: (وجميع سخطك) هذا تعميم بعد تخصيص، وهو يحتمل أنه استعاذة بالله من الأسباب الموجبة لسخط الله تعالى، وإذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط حصلت أضدادها؛ لأن الرضا ضد السخط كما في حديث:"أعوذ برضاك من سخطك"
(4)
، ويحتمل أن تكون الاستعاذة علي ظاهرها؛ أي: من السَّخَطِ نفسه.
* الوجه الثالث: الحديث دليل علي استحباب الدعاء بهؤلاء الكلمات
(1)
انظر: "الفتوحات الربانية"(7/ 205).
(2)
انظر: "الفتوحات الربانية"(7/ 205).
(3)
"الأفعال" لابن القوطية ص (292).
(4)
رواه أبو داود (879)، والترمذي (3493)، والنسائي (2/ 222)، وابن ماجه (3841) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح) وله طرق أخرى. وانظر: "تحفة الأشراف"(12/ 296).
الجامعة؛ لاشتمالها علي المعاني السامية والمطالب العظيمة التي بها سعادة الإنسان في الدنيا وفلاحه في الآخرة.
وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من أربعة أمور:
الأول: الاستعاذة من زوال النعم التي بها قوام الإنسان وصلاحه، وهذا يتضمن السؤال بالتوفيق لشكرها، والسلامة مما يكون سببًا في زوالها من الذنوب والمخالفات.
الثاني: الاستعاذة من تحول العافية وانتقالها بحلول المرض بدل الصحة والفقر بدل الغني، والعافية نعمة كبري يطمح إليها الإنسان؛ ليتوج بها نفسه، ليحيا حياة سعيدة معمورة بطاعة الله تعالى، فيسأل الله تعالى أن يبقي هذه النعمة في دينه ودنياه وأهله وأولاده.
الثالث: الاستعاذة بالله تعالى من بغتة النقمة والأخذ بالعقوبة حيث لا يكون عنده سابق تحذير أو إنذار.
الرابع: الاستعاذة بالله تعالى من سخطه علي عبده ومن الأسباب الموجبة لذلك من الوقوع في مخالفة الشرع من ترك واجب أو فعل محرم. والله تعالى أعلم.
استحباب الاستعاذة من غلبة الدين
1568/ 22 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّينِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ". رَوَاهُ النَّسائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه النسائي في كتاب "الاستعاذة"، باب (الاستعاذة من غلبة الدين)(8/ 265) من طريق عبد الله بن وهب، وأحمد (11/ 189) من طريق ابن لهيعة، والحاكم (1/ 104) من طريق ابن وهب -أيضًا- كلاهما عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات
…
الحديث.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح علي شرط مسلم، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
والحديث في إسناده ابن لهيعة عند أحمد، وهو سيئ الحفظ، ومداره على حيي بن عبد الله وهو المعافري متكلم فيه، فقد قال عنه البخاري:(فيه نظر)
(1)
، وقال أحمد:(أحاديثه مناكير)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال ابن معين:(ليس به بأس)، وقال ابن عدي:(أرجو أنه لا بأس به إذا روي عنه ثقة)
(2)
، وقال الحافظ:(صدوق يهم).
(1)
"التاريخ الكبير"(3/ 269).
(2)
"تهذيب التهذيب"(3/ 63).
وقول الحاكم: إنه على شرط مسلم، فيه نظر، فإن حيي بن عبد الله لم يخرج له مسلم. كما يفهم من ترجمته في "التهذيب"
(1)
.
ولبعض جمل هذا الحديث شواهد صحيحة، فقد روي البخاري (6347)، ومسلم (2707) من طريق سفيان حدثني سُمَيٌّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء. قال سفيان: الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة لا أدري أيتهن هي. وقد رجح الحافظ أنها:"شماتة الأعداء"
(2)
، وروي البخاري الحديث في "القدر" (6616) بلفظ: "تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء
…
" الحديث.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من غلبة اللين) بفتح الغين المعجمة واللام، والدين: بفتح الدال هو القرض وكل ما لزمك لغيرك من المال كثمن مبيع ونحوه. وغلبة الدين: ثقله وشدته بحيث يعجز الإنسان عن قضائه.
قوله: (وغلبة العدو) أي: انتصاره عليَّ وقهره إياي وتحكمه فيَّ، والعدو: ضد الولي، وهو يقال للواحد والاثنين والجمع، ويقال للأنثي: عدوة، وقد يجمع على عِدًى وأعداء
(3)
.
قوله: (وشماتة الأعداء) الشماتة: بالفتح الفرح على ما ينزل بالمعادي ويصيبه من المصائب، والمعنى: أعوذ بك أن يفرحَ عليَّ عدوي ويسَرَّ بسبب نكبة في بدني أو أهلي أو مالي.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الاستعاذة من الأمور المذكورة لشدة وقعها على الإنسان وعظيم أثرها؛ لأن الدين إذا كثر وعجز المدين عن القضاء وقع في الهم والغم والتعب والقلق في بدنه وقلبه وفكره،
(1)
"تهذيب الكمال"(7/ 488).
(2)
انظر: "فتح الباري"(11/ 148)، "الفتوحات الربانية"(7/ 199).
(3)
انظر: "الصحاح"(6/ 1924)، "المفردات في غريب القرآن" ص (326).
وقد يقع في الكذب وإخلاف الوعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أعوذ بك من المَأْثَمِ والمَغْرَمِ" قالت عائشة رضي الله عنها: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله، فقال:"إن الرجل إذا غَرِمَ حدث فكذب، ووعد فأخلف"
(1)
.
وغلبة العدو سبب في الذلة والمهانة والاحتقار؛ لأن العدو إذا غلب لا يرحم ولا يشفق، بل يقسو ويعذب مما يؤدي إلي التشرد والجلاء عن الديار، أو الهلاك في الأعمار، والاستيلاء على الممتلكات والأموال والحرمات وغير ذلك مما ينتجه العدوان، نسأل الله السلامة.
وشماتة الأعداء وقعها على النفس عظيم، فهي من أشد ما ينكأ القلب، ويبلغ في النفس أشد مبلغ، ولهذا قال هارون لأخيه موسى عليه السلام:{فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]، أي: لا تفرحهم بما تصيبني به من ضربٍ وإهانة. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (832)(2397)، ومسلم (589).
من أفضل صيغ الدعاء
1569/ 23 - عَن بُرَيدَةَ رضي الله عنه قَال: سَمِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسَألُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلهَ إلَّا أَنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَال:"لَقَدْ سَأَل اللهَ باسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ". أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الصلاة"، باب (الدعاء)(1493)، والترمذي (3475)، والنسائي في "الكبرى"(7/ 125 - 126)، وابن ماجه (3857)، وابن حبان (3/ 173) كلهم من طريق مالك بن مِغْول، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول:
…
وذكر الحديث.
وهذا الحديث سنده صحيح، رجاله ثقات، ونقل المنذري عن شيخه الحافظ أبي الحسن على بن الفضل المقدسي أنه قال:(إسناده لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث أجود إسنادًا منه)
(1)
، وقد تُكُلِّمَ في سماع عبد الله بن بريدة من أبيه
(2)
.
(1)
"الترغيب والترهيب"(2/ 485).
(2)
انظر: "تهذيب التهذيب"(5/ 137)، "التابعون الثقات"(2/ 497).
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أسألك بأني أشهد أنك أنت الله
…
) هذا قسم استعطافي؛ أي: أسألك باستحقاقك لهذه الصفات الثبوتية والسلبية
(1)
، ولم يذكر المسؤول لعدم الحاجة إليه.
قوله: (أنك أنت) ضمير الرفع (أنت) إما أنه ضمير فصل لا محل له، أو أنه توكيد لاسم (أن) مبني على الفتح في محل نصب على سبيل الاستعارة، ومثل هذا قوله:{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} [طه: 68].
قوله: (الأحد) أي: الواحد الذي لا شريك له في ذاته ولا صفاته ولا في ربوبيته وألوهيته، ولم يرد هذا الاسم في القرآن إلا مرة واحدة.
قوله: (الصمد) كالذي قبله لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، وأصل الصمد في اللغة: القصد، ومعناه: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، وهو الذي يُقصد في الأمور ويُصمد إليه في الحوائج والنوازل؛ لما له من الغني المطلق والكمال المطلق في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله.
قوله: (الذي لم يلد) لأنه لا مثيل له؛ ولأنه مستغنٍ عن كل أحد؛ لأن الوالد محتاج إلي الولد في النفقة والخدمة وبقاء النسل.
قوله: (ولم يولد) أي: ولم يسبقه عدم؛ لأنه لو ولد لكان مسبوقًا بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف يكون مولودًا؟!
قوله: (ولم يكن له كفوًا أحد) أي: وليس له أحد يماثله لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
قوله: (باسمه الذي إذا سئل به أعطي) هذا قريب من رواية ابن حبان: "لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطي"، ورواية أبي داود:"باسمه العظيم"، وعند الترمذي والنسائي وابن ماجه:"باسمه الأعظم".
(1)
"الفتوحات الربانية"(7/ 211)، "النحو الوافي"(2/ 498 - 499).
قوله: (الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعي به أجاب) السؤال: أن يقول العبد: أعطني فيعطي، والدعاء: أن ينادي ويقول: يا رب، فيجيب الرب تبارك وتعالى، ويقول: لبيك عبدي، ففي مقابلة السؤال الإعطاء، وفي مقابلة الدعاء الإجابة، وقد يذكر أحدهما مقام الآخر
(1)
، والظاهر أنهما كالإسلام والإيمان، وعلي هذا الجملة الثانية غير الأولى، فإن الإجابة أبلغ من الإعطاء؛ لأن إجابة الدعاء تدل على شرف الداعي ووجاهته عند المجيب، فيتضمن -أيضًا- قضاء حاجته، بخلاف السؤال، فإنه قد يكون مذمومًا، على أن في الحديث دلالة على فضل الدعاء على السؤال
(2)
، ومنهم من قال: إنها مؤكدة للأولي.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب استفتاح الدعاء بهذا الثناء على الله تعالى المشتمل على إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته، وأنه هو الغني بذاته وجميع الكائنات فقيرة إليه في كل حالة من حالاتها.
وهذا من أعظم الأسباب في إجابة الدعاء؛ لأن مثل هذا التوسل مما يحبه الله تعالى ويجيب على أثره الدعاء، يقول ابن القيم: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله عز وجل والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء أنه يجعل الدعاء مستجابًا
…
)
(3)
.
* الوجه الرابع: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب هو ما ذكر هنا، وهذا رأي الطيبي، وقال الحافظ ابن حجر: إن الحديث أرجح ما قيل في الاسم الأعظم من حيث السند
(4)
.
والقول الثاني: أن اسم الله الأعظم (الحي القيوم) لحديث أبي أمامة رضي الله عنه
(1)
"عون المعبود"(4/ 392).
(2)
"شرح الطيبي"(5/ 68 - 69).
(3)
"الوابل الصيب" ص (116 - 117).
(4)
"فتح الباري"(11/ 225).
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في سور ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه"
(1)
. وهذا اختيار ابن القيم، فإنه قال معللًا لكون: الحي القيوم، هو الاسم الأعظم: الآن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمه لها، وصفة القيّوميَّة متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي هو اسم الحيُّ القيّوم)
(2)
.
القول الثالث: أن اسم الله الأعظم هو "الله" وبه قال جمع من أهل العلم، ومنهم ابن المبارك، وابن منده، والطحاوي، وابن العربي، واستدل هؤلاء بأن هذا الاسم الكريم قد ورد في جميع الأحاديث التي فيها الإشارة إلى الإسم الأعظم، وبأن له من الخصائص ما ليس لغيره من الأسماء، ومن خصائصه: أن الله تعالى يضيف سائر الأسماء إليه، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، ويقال: العزيز والرحمن والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن
(3)
، يقول ابن منده:(فاسمه الله معرفة ذاته، منع الله عز وجل خلقه أن يتسمي به أحد من خلقه أو يدعي باسمه إله من دونه، جعله أول الإيمان، وعمود الإسلام، وكلمة الحق والإخلاص، ومخالفة الأضداد والإشراك فيه، يحتجز القائل من القتل، وبه تفتح الفرائض، وتنعقد الأيمان، ويستعاذ من الشيطان، وباسمه يفتتح ويختم الأشياء، تبارك اسمه ولا إله غيره)
(4)
.
والمسألة خلافية، وقد ذكر الشوكاني وغيره أن الأقوال في ذلك بلغت أربعين قولًا، وهي في كثرتها كالأقوال في ساعة الجمعة وليلة القدر، بل أوصلها بعضهم إلي ستين قولًا، وذكر الحافظ ابن حجر أربعة عشر قولًا، وقد ألف السيوطي في ذلك رسالة سماها:"الدر المنظم في الاسم الأعظم"، وذكر
(1)
رواه ابن ماجه (3856)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(1/ 162)، والحاكم (1/ 505) والحديث له طرق، ولعله يصل إلي درجة الحسن بمجموعها.
(2)
"زاد المعاد"(4/ 204). وانظر: "مختصر الصواعق" للموصلي ص (100).
(3)
انظر: "أسماء الله الحسني" ص (95)، "فقه الأسماء الحسني" ص (72).
(4)
"التوحيد"(2/ 21).
عشرين قولًا
(1)
، وكثير من هذه الأقوال ضعفه واضح، لعدم قيام الدليل عليه، بل في بعضها تكلف ظاهر، وشطط بيِّن، وبعض المتصوفة لهم في هذا الباب أباطيل كثيرة ينبغي الحذر منها
(2)
.
والقول بتفاضل أسماء الله الحسني هو الذي عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والقول بأنها لا تتفاضل هو قول الأشاعرة ومن تبعهم
(3)
، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقول من قال: صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك قول لا دليل عليه
…
، وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة فهي -أيضًا- متفاضلة كما دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَةُ والإجماع مع العقل)
(4)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(11/ 224)، "الفتوحات الربانية"(7/ 212)، "تحفة الذاكرين" ص (83)، "الحاوي"(1/ 394).
(2)
انظر: "فقه الأسماء الحسنى" ص (72).
(3)
انظر: "أسماء الله الحسنى" ص (85).
(4)
"جواب أهل العمل والإيمان في أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل: ثلث القرآن" ص (197 - 200).
من أذكار الصباح والمساء
1570/ 24 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَينَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيكَ النُّشُورُ"، وَإِذَا أَمْسَى قَال مِثْلَ ذَلِكَ؛ إلَّا أَنَّه قَال:"وَإِلَيكَ المَصِيرُ". أخَرَجَهُ الأَرْبَعَةُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأدب"، باب (ما يقول إذا أصبح)(5068) من طريق وهيب، والترمذي (3391) من طريق عبد الله بن جعفر، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ضمن "السنن الكبرى"(9/ 8، 209) من طريق حماد ووهيب -أيضًا-، وابن ماجه (3868) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، أربعتهم عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكر الحديث. قال الترمذي: (هذا حديث حسن).
إلا أنه عند أبي داود والنسائي من فعله صلى الله عليه وسلم، وعند الترمذي وابن ماجه من قوله، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه يقول: "إذا أصبح أحدكم فليقل:
…
"، وعند ابن ماجه: "إذا أصبحتم فقولوا:
…
"، ولعل هذا الاختلاف عند ابن ماجه من شيخه يعقوب بن حميد بن كاسب الراوي عن عبد العزيز بن أبي حازم؛ لأنه ضعيف، ضعفه أبو حاتم والنسائي وابن معين في رواية
(1)
، وقال الحافظ في التقريب:"صدوق ربما وهم".
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(32/ 318).
والحديث عند الترمذي من رواية عبد الله بن جعفر، وهو ابن نجيح السعدي، وهو ضعيف، ضعفه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وآخرون. قال ابن عدي:(عامة حديثه لا يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه ممن يكتب حديثه)
(1)
.
والحديث صححه النووي
(2)
، ونقل ابن تيمية في "الكلم الطيب"
(3)
أن الترمذي قال: (حديث حسن صحيح)، وهذا ليس في النسخ المطبوعة، وقال الحافظ ابن حجر:(هذا حديث صحيح غريب)
(4)
.
وقد حصل في ألفاظ هذا الحديث اختلاف ظاهر، والذي وقفت عليه هو ما يلي:
1 -
ذكر الصباح، وفي آخره:(وإليك النشور) وذكر المساء وفي آخره: (وإليك المصير) وهذا عند البخاري في "الأدب المفرد"(1199) من طريق معلَّى، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل به، وتابع وهيبًا رَوْحُ بن القاسم، عند ابن منده في "التوحيد"(1/ 285). وهذا هو لفظ "البلوغ" وسيتبين أن عزوه إلي الأربعة ليس في محله
(5)
.
2 -
ذكر الصباح وفي آخره: (وإليك النشور) وذكر المساء وفي آخره: (وإليك النشور) -أيضًا- وهذا عند أبي داود من طريق موسى بن إسماعيل، وعند النسائي من طريق عبد الأعلى، كلاهما عن وهيب به.
3 -
ذكر الصباح، وفي آخره:(وإليك المصير) وذكر المساء وفي آخره: (وإليك النشور) وهذا عند الترمذي عن على بن حُجْر قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن سهيل به
(6)
.
(1)
"الكامل"(4/ 180)، "تهذيب الكمال"(14/ 379).
(2)
"الأذكار" ص (141).
(3)
ص (32).
(4)
"نتائج الأفكار"(2/ 350).
(5)
عزا ابن القيم هذا الحديث بهذا اللفظ إلي الترمذي في "الوابل الصيب" ص (122) وإلى ابن حبان في "مختصر تهذيب السنن" وسيتبين أن هذا خلاف الصواب.
(6)
عزا ابن القيم هذا اللفظ في "مختصر تهذيب السنن" إلي أبي داود، وهو ليس عنده -كما تقدم- ولعله سهو من الناسخ.
4 -
ذكر الصباح فقط وفي آخره: (وإليك المصير) رواه ابن أبي شيبة (10/ 244)، وأحمد (14/ 290)، (16/ 444)، وابن حبان (3/ 244)، من طريق حماد، ورواه ابن حبان -أيضًا- من طريق عبد الأعلى، عن وهيب، كلاهما عن سهيل به.
5 -
ذكر الصباح فقط، وفي آخره:(وإليك النشور) وهذا عند النسائي من طريق حماد عن سهيل به.
6 -
ذكر الصباح، وليس في آخره شيء، وذكر المساء وفي آخره (وإليك المصير) وهذا عند ابن ماجه من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهيل به.
وبهذا يتبين أن وهيبًا قد اختلف عليه، والذي يظهر لي رجحان رواية معلَّى عنه؛ لأنه ثقة ثبت، ولمتابعة روح بن القاسم عن سهيل، وهو ثقة حافظ، ويؤيد ذلك من جهة المعنى، ما ذكر ابن القيم من أن الصباح والانتباه من النوم بمنزلة النشور
…
والمساء والصيرورة إلي النوم بمنزلة الموت والمصير إلي الله تعالى، ويدل عليه ما ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ قال:"الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"
(1)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا أصبح) أي: دخل في وقت الصباح، وأصبح هنا: فعل ماضٍ تام، ومثله أمسى، وفاعله ضمير مستتر يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في بقية الحديث إلا أن الفاعل هو الضمير البارز، وذكر بعض الشراح أن الفعل في قوله:"بك أصبحنا، وبك أمسينا" ناقص، والجار والمجرور قبله خبر مقدم
(2)
.
قوله: (بك أصبحنا) الباء: للاستعانة، وتقديم الجار والمجرور يفيد
(1)
رواه البخاري (6312)، (6325) من حديث حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما ورواه مسلم (2711) من حديث البراء رضي الله عنه. وانظر:"تهذيب مختصر السنن"(7/ 330).
(2)
"شرح الطيبي"(5/ 103)، "دليل الفالحين"(4/ 267)، "عون المعبود"(13/ 406).
الاختصاص، وقد ذكر الشراح أنه على حذف مضاف يستدعيه السياق؛ أي: بقدرتك الباهرة أصبحنا؛ أي: دخلنا في الصباح وطلع علينا النهار، وقد جاء في حديث الذكر عند النوم التصريح بهذا المضاف، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: "باسمك اللهم أموت وأحيا
…
" الحديث
(1)
، وتقدم تعريف الصباح والمساء ص (442).
قوله: (وبك أمسينا) أي: وبقدرتك الباهرة دخلنا في المساء وأظلم علينا الليل، وذكر هذا لحضوره في الذهن عند ذكر ضده.
قوله: (وبك نحيا وبك نموت) التعبير بالمضارع لحكاية الحال المستمر؛ أي: مستمر حالنا على ذلك، والتعبير بالنون الدالة على الجمع فيه معنى التأكيد والتفخيم، والتقدير: بقدرتك وقضائك (نحيا) أي: تدب فينا الحياة، (ونموت): نفارق الحياة.
والمعنى: أنه يستمر حالنا على هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال، والمقصود من ذلك التبرؤ من الحول والقوة.
قوله: (وإليك النشور) النشور: بالضم هو الرجوع، والمراد: البعث بعد الموت، يقال: نشر الله الموتى نشورًا من باب قعد: أحياهم.
قوله: (وإذا أمسى قال مثل ذلك) هنا عبر بالماضي في قوله: (قال مثل ذلك) وفي أول الحديث عبر بالمضارع، ولعل هذا من باب التفنن في التعبير وإلا فالمراد من الماضي -هنا- المستقبل.
قوله: (وإليك المصير) أي: إليك المرجع والمآل بالبعث.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب ذكر الله تعالى بهذه الصيغة في الصباح والمساء، وذلك فيما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وما بين صلاة العصر وغروب الشمس.
(1)
تقدم تخريجه قبل هذا. ويحتمل أن الباء للاستعانة، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر.
وهذا من الأذكار الموجزة الجامعة التي ينبغي للإنسان حفظها، فإنّ فيه الإيمان بقدرة الله تعالى على تعاقب الليل والنهار بتعاقب الإصباح والإمساء، وهما آيتان من آيات الله العظيمة، ولا غنى للإنسان عنهما، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالليل بما فيه من الظلام جعله الله سكنًا وقرارًا، والنهار بما فيه من الضياء جعله الله نشاطًا وعملًا، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} [الفرقان: 47].
وفي هذا الذكر استحضار نعمة الحياة بعد النوم الذي هو أخو الموت، لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهرًا وهو النوم، وباطنًا وهو الموت، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول:"اللهم باسمك أموت وأحيا"، وإذا استيقظ قال:"الحمد لله الذي أحيانًا بعد ما أماتنا وإليه النشور"
(1)
وأرشد من أوى إلي فراشه أن يقول: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"
(2)
.
وفي هذا الذكر -أيضًا- الإيمان بالبعث يوم القيامة والإحياء بعد الإماتة. وهذا من قوله: "وإليه المصير" في ورد المساء، وقد جاء التنبيه على هذا المعنى في آيات كثيرة، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَينَا الْمَصِيرُ (43)} [ق: 43]، وقال تعالى:{لَا حُجَّةَ بَينَنَا وَبَينَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَينَنَا وَإِلَيهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15] أي: مرجع العباد إليه يوم القيامة، لإطلاعهم ومحاسبتهم على أعمالهم ومجازاتهم عليها، والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
رواه البخاري (6320)، ومسلم (2714).
من جوامع الدعاء
1571/ 25 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: كَانَ أَكْثرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النّارِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة") (6389) من طريق عبد الوارث، ومسلم (2690)، (26) من طريق إسماعيل ابن علية، كلاهما عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث. هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسًا: أيّ دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة
…
" الحديث، وتمامه: قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم) أي: أكثر ما يداوم عليه من الدعاء.
قوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) هذا لفظ البخاري في "الدعوات"، ورواية عند مسلم من طريق ثابت، عن أنس
(1)
، ورواه البخاري في "التفسير"
(1)
"صحيح مسلم"(2690)، (27).
من طريق ابن صهيب عن أنس بلفظ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم ربنا آتنا
…
")
(1)
وكذا عند مسلم كما تقدم. ومعني آتنا: أعطنا، والجار والمجرور (في الدنيا) متعلق بـ (آتنا) أو بمحذوف حال من (حسنة) لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما قدم عليها صار حالًا.
وقد اختلف العلماء من سلف هذه الأمة في تفسير حسنة الدنيا على أقوال كثيرة، فقيل: العافية والصحة وكفاف المال، قاله قتادة، وقال الحسن بن أبي الحسن: العلم والعبادة، وقيل: المرأة الحسناء.
والصحيح الحمل على العموم؛ لأن النكرة في سياق الدعاء عامة؛ فكأنه يقول: أعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة، أو يقال: إن الحسنة وإن كانت نكرة في سياق الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة، فتنصرف إلي الفرد الكامل، والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها، فتشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسناء، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلي غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، وبيانها بشيء مخصوص -كما تقدم- ليس من باب تعيين المراد، إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلًا، وإنما هو من باب التمثيل
(2)
.
قوله: (وفي الآخرة حسنة) الواو عطفت شيئين على شيئين متقدمين، ففي الآخرة عطف على (في الدنيا) باعتبار العامل وهو حرف الجر، وحسنة عطف على (حسنة).
وحسنة الآخرة دخول الجنة، وأحسنها النظر إلي وجه الله الكريم -جعلنا الله من الناظرين إلي وجهه الكريم- وتوابع ذلك من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب أو العفو من الله وغير ذلك من أمور
(1)
"صحيح البخاري"(4522).
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 355 - 356)، "فتح الباري"(11/ 192)، "روح المعاني"(2/ 91).
الآخرة
(1)
، فتكون كالتي قبلها، نكرة مراد بها الإطلاق فتنصرف إلي الفرد الكامل المراد به الرحمة والإحسان
(2)
.
قوله: (وقنا عذاب النار) هذا تخصيص بعد تعميم، لأنه هو الفوز؛ أي: واحفظنا وأجرنا من عذاب النار وذلك بتيسير أسباب النجاة منها في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام
(3)
.
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على استحباب وفضل الدعاء بهؤلاء الدعوات العظيمة؛ لأنها من جوامع الدعاء التي تتضمن خير الدنيا والآخرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء، وجاء من دعاء موسى عليه السلام:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيكَ} [الأعراف: 155، 156].
وقد عمل بهذا الحديث أنس رضي الله عنه فقد كان إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بذلك، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بهذه الدعوة في جملة دعائه، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم لإكثاره منها، لقلة ألفاظها وإحاطتها بخير الدارين
(4)
.
وروي أبو داود
(5)
، والنسائي
(6)
، وابن خزيمة
(7)
، وأحمد
(8)
من طريق ابن جريج، حدثني يحيى بن عبيد مولى السائب، أن أباه أخبره، أن عبد الله بن السائب أخبره، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جُمَحٍ والركن الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة
…
"
(9)
. وروي عبد الرزاق والبيهقي أن عمر رضي الله عنه كان يقول في الطواف: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة،
(1)
انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 356).
(2)
"روح المعاني"(2/ 91).
(3)
"تفسير ابن كثير"(1/ 356).
(4)
"دليل الفالحين"(4/ 283).
(5)
"السنن"(1892).
(6)
"السنن الكبرى"(4/ 129).
(7)
"صحيح ابن خزيمة"(2721).
(8)
"المسند"(24/ 119).
(9)
في سنده عبيد مولى السائب بن أبي السائب، وهو مجهول، لم يرو عنه سوى ابنه يحيي، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 139). انظر:"تهذيب الكمال"(19/ 253).
وقنا عذاب النار"
(1)
. قال الإمام الشافعي بعد حديث عبد الله بن السائب: (وهذا من أحبِّ ما يقال في الطواف إليّ، وأحب أن يقال في مكة)
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"المصنّف"(5/ 52)، "السنن الكبرى"(5/ 84).
(2)
"الأم"(3/ 436).
من جوامع الدعاء
1572/ 26 - عَنْ أَبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَال: كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الدعوات"، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت") (6398)، ومسلم (2719) من طريق أبي إسحاق، عن ابن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء
…
وذكر الحديث. وهذا لفظ مسلم.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اللهم اغفر لي خطيئتي) أي: ذنبي، ويجوز تسهيل الهمزة فيقال: خطيَّتي بالتشديد
(1)
.
قوله: (وجهلي) أي: عدم معرفتي؛ لأن الجهل ضد العلم، والمراد ما صدر مني من أجل جهلي.
(1)
"فتح الباري"(11/ 198).
قوله: (وإسرافي في أمري) أي: مجاوزتي الحدَّ في كل شيء، ومن ذلك الإسراف في ارتكاب المعاصي القاصرة أو المظالم المتعدية، وفيه التعميم بعد التخصيص، والجار والمجرور (في أمري) متعلق بما قبله، أو بجميع ما تقدم.
قوله: (اللهم اغفر لي جِدِّي وهزلي) بكسر الجيم ضد الهزل؛ أي: اغفر لي ما أفعله من المخالفات على طريق الجد، ووقع عند البخاري:(وجهلي وجدي) قال الحافظ: (وما في "مسلم" أنسب)
(1)
.
قوله: (وخطئي وعمدي) الخطأ: ما يقع بدون قصد، والعمد: ما يقع عن قصد، وقد وقع عند البخاري:(خطاياي) بالجمع، قال الحافظ ابن حجر:(وقع في رواية الكُشْمِيهَني في طريق إسرائيل (خطئي) وكذا أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" بالسند الذي في "الصحيح" وهو المناسب لذكر العمد، ولكن جمهور الرواة على الأول)
(2)
.
وعلى رواية "الصحيح" فإن خطايا جمع خطيئة، وعطف العمد عليها من عطف الخاص على العام؛ لأن الخطيئة أعم من أن تكون عن خطأ أو عمد، أو هو من عطف أحد العامين على الآخر
(3)
.
قوله: (وكل ذلك عندي) أي: كل المذكور من هذه الأمور ممكن أو موجود عندي، وهو كالتذييل للسابق؛ أي: أنا متصف بهذه الأشياء فاغفرها لي.
قوله: (اللهم اغفر ما قدمت وما أخرت) كناية عن التعميم.
وقوله: (ما قدمت) من الذنوب.
وقوله: (وما أخرت) معناه: أن يحفظه الله، فلا يقع منه ذنب بقية عمره، أو بمعنى عدم المؤاخذة بما سيقع من الذنوب المستقبلة بحيث يوفق لتوبة نصوح، وهذا أقرب.
(1)
"فتح الباري"(11/ 198).
(2)
"فتح الباري"(11/ 198).
(3)
"فتح الباري"(11/ 198)، "الفتوحات الربانية"(7/ 203).
قوله: (وما أسررت وما أعلنت) أي: وما فعلته مخفيًا له عن أعين الناس، وما أظهرته لهم.
قوله: (وما أنت أعلم به مني) أي: من المعاصي والسيئات والتقصير في الطاعات، وهذا تعميم بعد تخصيص -أيضًا-.
قوله: (أنت المقدم) أي: أنت تقدم من تشاء من عبادك إلى الجنة بتوفيقه للعمل الصالح وإعانته عليه.
قوله: (وأنت المؤخر) أي: لمن تريد إلى النار بالخذلان والابتعاد عن صالح الأعمال
(1)
.
والمقدم والمؤخر من أسماء الله تعالى الحسنى المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله تعالى إلا مقرونًا بالآخر؛ لأن الكمال في اجتماعهما.
وهذا التقديم قد يكون كونيًّا كتقديم بعض المخلوقات على بعض وتأخير بعضها على بعض. وقد يكون شرعيًّا، كتفضيل الأنبياء على الخلق، وتفضيل بعضهم على بعض، وتفضيل بعض العباد على بعض في العلم والإيمان والعمل والأخلاق وسائر الأوصاف
(2)
.
قوله: (وأنت على كل شيء قدير) جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها، وهي صيغة عموم؛ أي: مما ذكر ومن غيره، وقدير؛ أي: لا يعجزه شيء، والجار والمجرور متعلق بـ (قدير).
* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الدعاء بهؤلاء الكلمات العظيمة المشتملة على طلب المغفرة من الله تعالى وما في هذا الطلب من التواضع والانكسار بين يدي الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر هو الذي يدعو بهؤلاء الدعوات ويقول:(وكل ذلك عندي) تواضعًا لربه وانكسارًا بين يديه وإظهارًا للعبودية وتعليمًا للأمة، فحري بالمسلم
(1)
انظر: "دليل الفالحين"(4/ 292).
(2)
"الحق الواضح المبين" ص (100 - 101).
الذي هو أولى بأن يدعو بهذا الدعاء أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم وأن يظهر الاعتراف بذنبه والبكاء على خطيئته والانكسار بين يديه.
وليس في الحديث -كما يقول ابن حجر- بيان محل هذا الدعاء، لكن جاء آخره في دعائه صلى الله عليه وسلم في دبر الصلاة قبل السلام كما في حديث علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"
(1)
، وجاء -أيضًا- في دعاء الاستفتاح، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض
…
وساق الحديث إلى أن قال: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
رواه مسلم (771).
(2)
رواه البخاري (1120)، ومسلم (769).
من جوامع الدعاء
1573/ 27 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِيني الّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنيَايَ الّتي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتي الّتي إِلَيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاة زِيادَةً لِي فِي كُلِّ خَيرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كلِّ شَرٍّ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الذكر والدعاء"، باب (التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل)(2720) من طريق قدامة بن موسى، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أصلح لي ديني) أي: وفقني للقيام بآدابه بأن يكون على الوجه الأكمل الأتم، فيكون خالصًا صوابًا.
قوله: (الذي هو عصمة أمري) أي: رباطه وعماده، والأمر بمعنى الشأن، فمعنى (عصمة أمري) أي: أعتصم به من الشر والفتن وجميع أموري، وصلاح دين العبد هو رأس ماله وغاية أمنيته ومراده؛ لأنه إذا فسد الدين لم يصلح للإنسان دنيا ولا آخرة
(1)
.
(1)
انظر: "المفهم"(7/ 48 - 49).
قوله: (وأصلح لي دنياي) أي: بإعطاء الكفاف فيما يُحتاج إليه، وبأن يكون حلالًا معينًا على طاعة الله تعالى
(1)
.
قوله: (التي فيها معاشي) أي: مكان عيشي وزمان حياتي؛ لأن الدنيا معاش يعيش فيها الإنسان ثم يتركها إلى دار القرار.
قوله: (وأصلح لي آخرتي) بالتوفيق للعمل الصالح وحسن الخاتمة، ثم دخول الجنة ونجاتي من النار.
قوله: (التي إليها معادي) أي: مكان عودتي أو زمان إعادتي؛ لأن كل إنسان مآله إلى الآخرة، وهو على الأول مصدر ميمي، وعلى الثاني اسم زمان.
قوله: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير) اي: اجعل مدة بقائي في دار الدنيا زيادة لي في كل خير من العلم النافع والعمل الصالح.
قوله: (واجعل الموت راحة لي من كل شر) أي: واجعل انقضاء أجلي راحة لي من كل شر من الفتن والمحن والابتلاء بالغفلة والمعصية
(2)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أستحباب هذا الدعاء بهذه الجمل العظيمة؛ لأن هذا من الأدعية الجامعة؛ لأن محصله أن الداعي يسأل ربه أن يجعل عمره مصروفًا فيما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وأن يجنبه الله ما يكرهه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، يقول القرطبي:(هذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة، والدين والدنيا، فحق على كل سامع له أن يحفظه، ويدعو به آناء الليل وآناء النهار، لعل الإنسان يوافق ساعة إجابة، فيحصل على خير الدنيا والآخرة)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"دليل الفالحين"(4/ 287).
(2)
انظر: "الفتوحات الربانية"(7/ 209 - 210).
(3)
"المفهم"(7/ 49).
الدعاء بالعلم ونفعه
1573/ 38 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَال: كَان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي". رَوَاهُ النَّسائي، وَالحَاكِمُ.
1574/ 29 - وَللتِّرْمِذِيِّ: مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ نَحْوُهُ، وَقَال فِي آخِرِهِ:"وَزِدْنِي عِلْمًا، الْحَمْدُ للهِ عَلَى كلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ". وَإسْنَادُهُ حَسَنٌ.
* الكلام عليهما من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
حديث أنس رضي الله عنه رواه النسائي في "الكبرى" في كتاب "الاستعاذة" باب (الاستعاذة من علم لا ينفع)(7/ 205)، والحاكم (1/ 510) من طريق ابن وهب قال: حدثني أسامة بن زيد، أن سليمان بن موسى حدثه عن مكحول أنه دخل على أنس رضي الله عنه فسمعه يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يقول:
…
وذكر الحديث، إلا أن في آخره:(علمًا تنفعني به).
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
وفي إسناده أسامة بن زيد غير معين، فيحتمل أنه العدوي أو الليثي، وكلاهما روى عنه عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي
(1)
، والظاهر أنه الليثي؛
(1)
انظر: "تهذيب الكمال"(16/ 277).
لأن المزي ذكر في ترجمة سليمان بن موسى أن ممن روى عنه أسامة بن زيد الليثي ولم يذكر العدوي، وكلاهما ضعيف.
وأما سليمان بن موسى فهو الأموي مولاهم أبو أيوب، وهو المعروف بالرواية عن مكحول، كما في ترجمته من "التهذيب"
(1)
، وهو متكلم فيه، قال البخاري:(عنده مناكير)، ونقل عنه الترمذي أنه قال:(سليمان بن موسى منكر الحديث، أنا لا أروي عنه شيئًا، روى أحاديث عامتها مناكير)
(2)
، وقال أبو حاتم:(محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه ولا أثبت منه)، وقال النسائي:(أحد الفقهاء، وليس بالقوي في الحديث)، وقال في موضع آخر:(في حديثه شيء)، وقال ابن عدي:(روى أحاديث ينفرد بها يرويها ولا يرويها غيره، وهو عندي ثبت صدوق)، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل).
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه الترمذي في "أبواب الدعوات"(3599)، وابن ماجه (251، 3804، 3833) من طريق عبد الله بن نمير، عن موسى بن عُبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار".
وهذا سند ضعيف، قال الترمذي:(هذا حديث غريب من هذا الوجه)؛ لأن فيه محمد بن ثابت، وهو مجهول، قال ابن معين:(لا أعرفه)، وقال أبو حاتم:(لا نفهم من محمد هذا؟)
(3)
.
وفيه موسى بن عُبيدة بن نَشيط الرَّبذي ضعفه الإمام أحمد وقال: (ما تحل أو ما تنبغي الرواية عنه)، وقال:(منكر الحديث)، وكذا قال أبو حاتم، كما ضعفه ابن معين وابن المديني والترمذي والنسائي وآخرون
(4)
.
(1)
"تهذيب الكمال"(12/ 93).
(2)
"العلل الكبير"(2/ 666).
(3)
"الجرح والتعديل"(7/ 216).
(4)
"تهذيب الكمال"(29/ 104).
ويشهد لهذا الحديث ما قبله من حديث أنس رضي الله عنه إلا قوله: (الحمد لله
…
) إلخ لما تقدم من حال الإسناد.
ولعل الحافظ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما فيه من الزيادة على حديث أنس رضي الله عنه ولا سيما قوله: (وزدني علمًا).
• الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الدعاء بهؤلاء الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهي أن يسأل الله تعالى أن ينفعه بما علمه، وذلك بالعمل بمقتضى العلم، وأن يعلمه ما ينفعه في دينه ودنياه، وذلك بألا يطلب من العلم إلا النافع وأن يزيده من العلم النافع علمًا مضافًا إلى ما علمه، ثم يختم ذلك بالثناء على الله تعالى، ووصفه بصفات الكمال، مع محبته وتعظيمه، والحمد لله على كل حال من أحوال السراء والضراء، ثم يستعين بالله تعالى من حال أهل النار من الكفر والفسق في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وسؤال العبد ربه أن ينفعه بما علمه؛ لأن العلم الذي لا ينفع وبال على صاحبه، فلا يهذب الأخلاق، ولا ينفع في حيازة الفضل والثواب، ولهذا ثبت في "صحيح مسلم" من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
…
"
(1)
. والعلم النافع له علامات، منها:
1 -
أن له ثمرة خاصة به، وهي خشية الله تعالى. كما قال-عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قال ابن القيم: (إن الآية تقتضي الحصر من الطرفين، ألا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالمًا إلا من يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم، وما من عالم إلا وهو يخشاه، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم)
(2)
.
2 -
ومن علامة العلم النافع المسارعة إلى طاعة الله ونيل رضاه، والبعد عما يكرهه ويسخطه، قال بعض السلف:(من خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل).
(1)
"صحيح مسلم"(2722).
(2)
"شفاء العليل"(2/ 949).
3 -
القناعة والزهد في الدنيا، قال الحسن البصري:(إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المواظب على عبادة ربه)
(1)
.
4 -
ومن علامة العلم النافع: التواضع وقبول الحق والانقياد له.
5 -
ومن علامته كراهة المدح والتزكية والبعد عن الرئاسة والشهرة، فإن وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته.
6 -
أن صاحب العلم النافع لا يدعي العلم ولا يفخر به على أحد، ويعترف بفضل السلف الصالح من الأئمة والعلماء ويحسن الظن بهم
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم تخريجه ص (325).
(2)
انظر: رسالة ابن رجب "بيان فضل علم السلف على علم الخلف".
من جوامع الدعاء
1575/ 30 - عَنْ عَائِشةَ رضي الله عنها؛ أَن النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلّمَهَا هذَا الدُّعَاءَ:
"اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألكَ مِنَ الخَيرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلكَ مِنْ خَيرِ مَا سَأَلكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إنِّي أَسَأَلُكَ الجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلكَ أَنْ تَجْعَلَ كُل قَضَاءٍ قَضَيتَهُ لِي خَيرًا". أَخْرَجَهُ ابْن ماجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه ابن ماجه في كتاب "الدعاء"، باب (الجوامع من الدعاء)(3846)، وأحمد (41/ 474) من طريق عفان، ثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا جبر بن حبيب، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء
…
وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
ورواه ابن حبان (3/ 150 - 151) من طريق موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الجُريري، عن أم كلثوم به، وليس فيه ذكر جبر بن حبيب.
ورواه أبو يعلى (4456) عن إبراهيم، عن حماد، عن جبر والجريري
به، ورواه الطبراني في "الدعاء"(1347) من طريق موسى، عن حماد، عن جبر والجريري به
(1)
.
والجريري -بضم الجيم- وهو سعد بن إياس ممن سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط
(2)
.
ورواه الحاكم (1/ 521 - 522) من طريق محمد بن جعفر وآدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، عن جبر بن حبيب، عن أم كلثوم به.
وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.
وأم كلثوم هي أخت عائشة - ضي الله عنها -، مات أبوها أبو بكر رضي الله عنه وأمها حامل بها، وقد روى لها مسلم في "صحيحه"، وروى عنها الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وهو أكبر منها
(3)
، قال الحافظ في "التقريب":(ثقة).
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من الخير) من: بيانية؛ أي: أسألك مسؤولًا هو الخير كله، أو لابتداء الغاية؛ أي: أسألك شيئًا مبدؤه الخير.
قوله: (عاجله وآجله) أي: حاضره ومستقبله، والمراد بالعاجل ما يحصل مستعجلًا، والمراد خير الدنيا، والآجل ما يحصل مؤجلًا، والمراد خير الآخرة.
قوله: (من خير) من: للتبعيض.
قوله: (ما عاذ) أي: تعوذ واستجار، تقول: عذت بالله واستعذت به معاذًا وعياذًا: اعتصمت.
قوله: (وما قرب) بتشديد الراء المهملة؛ أي: وما يجعلني قريبًا منها.
قوله: (من قول أو عمل) بيان للاسم الموصول، و (أو) للتنويع؛ أي: سواء كان بالجوارح أو بالقلب.
(1)
انظر: "العلل" للدارقطني (14/ 247).
(2)
"الكواكب النيرات" ص (183).
(3)
"تهذيب الكمال"(35/ 380).
قوله: (وأسألك أن تجعل كل قضاء
…
) أي: وأدعوك وأضرع إليك أن تجعل ما قدرته عليَّ وأمضيته خيرًا لي.
• الوجه الثالث: استحباب الدعاء بما ورد في هذا الحديث من الكلمات الجامعة. والمطالب النافعة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنه جمع في هذا الحديث خمسة مطالب في خمس دعوات:
الأول: سؤال الخير كله الذي يشمل منافع الدنيا والآخرة العاجل منها والآجل المعلوم للداعي وغير المعلوم مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله.
الثاني: الاستعاذة من الشر كله الذي يشمل مضار الدنيا والآخرة العاجل منها والآجل ما علمه الداعي وما جهله.
الثالث: الترقي في العموم إلى ما هو أبلغ من ذلك وهو أن يسأل الله تعالى من خير ما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم ويستعيذ مما استعاذه منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرابع: سؤال الجنة وسؤال الوسيلة التي تقرب إلى الجنة من الأقوال والأعمال، والاستعاذة من النار وما يكون سببًا في دخولها.
الخامس: سؤال العبد ربه أن يجعل كُلَّ قضاءٍ قضاه خيرًا وأن تكون عاقبته إلى خير.
ثم ينبغي للمسلم أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم الذي علم أهله هذا الدعاء أن يعلمه زوجته وأولاده، والله تعالى أعلم.
فضل التسبيح مع التحميد والتعظيم
1576/ 31 - وَأَخْرَجَ الشَّيخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلي الرَّحْمنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ. سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ".
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "التوحيد"، باب (قول الله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]) (7563)، ومسلم (2694) من طريق محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة
(1)
، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وذكر الحديث. وهذا لفظ البخاري في الباب المذكور من رواية أحمد بن إشكاب، عن محمد بن فضيل، وعنده في "الدعوات"(6406) من رواية زهير بن حرب. وفي "الأيمان والنذور"(6682) من رواية قتيبة بن سعيد، كلاهما عن ابن فضيل بلفظ:"كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن .. " وهو لفظ مسلم، وقد رواه عن محمد بن فضيل جماعة من الحفاظ عند البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد ختم البخاري "صحيحه" بهذا الحديث، مع أنه ذكره قبل ذلك، وقد جرى الحافظ على منهجه في كتابه "البلوغ"، ومن حسن تصرفه أنه خالف
(1)
هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، مختلف في اسمه. انظر:"تهذيب الكمال"(33/ 323)، "فتح الباري"(11/ 208).
منهجه في تأخير ذكر من أخرج الحديث إلى تمام الحديث، فقدم هنا ذكر من أخرجه؛ ليحصل الختام بهذا الذكر العظيم، وقد بدأ كتابه بالبسملة والتحميد، وختمه بالتسبيح والتحميد والتعظيم، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في ختام رسالته:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3] فما أحسن الفاتحة والخاتمة، وهذا من لطائف العلماء في العلم والتعليم
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كلمتان) أي: جملتان؛ لأن الكلمة تطلق عند النحاة على الجملة من إطلاق اسم البعض على الكل، مثل كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، وهي مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة أنها وصفت، والخبر (سبحان الله) فهو في محل رفع، وقيل:(كلمتان) خبر مقدم، و (سبحان الله) مبتدأ مؤخر، والمراد لفظهما محكيًا وإلا فسبحان مصدر منصوب ملازم النصب، قالوا: والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما كثرت الصفات حسن التقديم؛ لأن هذا مما يزيد السامع شوقًا.
قوله: (حبيبتان إلى الرحمن) مثنى حبيبة، فعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: محبوبة، والمراد: محبوب قائلهما، هكذا ذكر الشراح
(2)
، والحق أنه لا داعي لصرف اللفظ عن ظاهره؛ لأن الحديث وصف الكلمتين بأنهما محبوبتان، وأما محبة قائلهما فيدخل ضمنًا إذا كان أهلًا لهذه الكرامة، والله تعالى إذا أحب العمل أحب من عمل به.
وخص الرحمن بالذكر دون غيره من الأسماء؛ لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى بعباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل.
(1)
انظر: "التنقيح في حديث التسبيح" لابن ناصر الدين ص (173)، "فتح الباري"(13/ 542)، "إتحاف الكرام" ص (478).
(2)
انظر: "فتح الباري"(11/ 208).
قوله: (خفيفتان على اللسان) أي: سهلتان على اللسان؛ إذ ليس في حروفهما حروف متباعدة المخارج، وفي هذا مجاز بالاستعارة حيث شبه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بالشيء الخفيف المحمل، وصرح بالمشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية.
قوله: (ثقيلتان في الميزان) تقدم تعريف الميزان في باب "الترغيب في مكارم الأخلاق"، والثقل على حقيقته؛ لأن الأعمال توزن، والميزان محسوس كما تقدم عند شرح الحديث (1532).
قوله: (سبحان الله وبحمده) تقدم شرحهما عند شرح الحديث (1552) وقد جاء عند البخاري في "الدعوات" عن زهير بن حرب بلفظ: "سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده".
قوله: (سبحان الله العظيم) كرر التسبيح تأكيدًا للاعتناء بشأن التنزيه من جهة كثرة المخالفين الواصفين له بما لا يليق بجلاله، أو للإكثار من ذكره. سبحانه وتعالى الذي هو من أفضل الأعمال.
والعظيم: اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: الجامع لصفات العظمة والكبرياء، فهو عظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وحكمته ورحمته وعدله وفضله وعطائه، فله العظمة المطلقة فلا أحد يساويه ولا أحد من الخلق يستحق أن يعظم كما يعظم الله جل جلاله.
ووصفه بالعظمة، ليستحضر أنه أهل التسبيح ومستحقه دائمًا، وأن العبد لن يؤدي حقه مهما أكثر من تسبيحه وعبادته
(1)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل هاتين الكلمتين الخفيفتين؛ لأن الله تعالى يحبهما ويحب من عمل بهما؛ ولأنهما ثقيلتان في ميزان الأعمال؛ لعظم ثوابهما عند الله تعالى، ولاشتمالهما على تسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله؛ سواء في ذاته أو صفاته أو أفعاله مقرونًا هذا
(1)
انظر: "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري"(2/ 596).
التسبيح بالحمد المطلق الذي هو وصف الله بالكمال والثناء عليه بجميع المحامد مع محبته وتعظيمه، ثم إعادة التنزيه مرة أخرى مع وصفه بالعظمة المطلقة التي لا يستحقها إلا من اتصف بصفات الكمال.
• الوجه الرابع: في الحديث حث على المواظبة على هذا الذكر وترغيب في ملازمته، وتعريض بأن سائر التكاليف شاقة على النفس ثقيلة، وهذه خفيفة سهلة عليها مع أنها تثقل في الميزان ثقل غيرها من التكاليف
(1)
.
• الوجه الخامس: أن الله تعالى يحب بعض الكلام وبعض العمل أكثر من غيره، وفي هذا دليل على إثبات المحبة لله تعالى، وهي صفة من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وقد تقدم الكلام على ذلك عند شرح الحديث (1483).
• الوجه السادس: إثبات البعث والنشور والجزاء على الأعمال يوم القيامة، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} لواقعة: 49، 50]، وقال تعالى:{إِنَّ إِلَينَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُمْ (26)} لغاشية: 25، 26] وقد أجمع المسلمون على ثبوت البعث، وإثبات الحساب والجزاء على الأعمال، وهو مقتضى الحكمة
(2)
.
• الوجه السابع: توحيد الله تعالى الذي هو أصل الإيمان، لأن قوله:(سبحان الله) معناه تنزيه الله تعالى، وقوله:(سبحان الله العظيم) تأكيد التنزيه والطهارة والبراءة من النقائص وكل سوء.
• الوجه الثامن: إثبات الميزان وأنه حق توزن فيه الحسنات والسيئات يوم القيامة، ولهذا ذكر البخاري هذا الحديث في (باب قول الله-عز وجل:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]) كما تقدم. وقد نقل غير واحد إجماع سلف هذه الأمة على وجوب الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وما يوضع في الميزان فهو مخلوق، وقد بلغت أحاديث ثبوته مبلغ
(1)
"شرح الطيبي"(5/ 73).
(2)
انظر: "نبذة في العقيدة الإسلامية" ص (40 - 43).
التواتر
(1)
.
• الوجه التاسع: أنه يستحب لمن رغّب غيره في عمل خير أن يذكر له شيئًا من فوائده وما يحصل له إذا عمل به، ليرغب فيه وينشط للعمل به.
• الوجه العاشر: أن الذكر يتفاضل، وأن فيه شيئًا أعظم من شيء، ويتبع ذلك تفاضل الأجور عند الله تعالى
(2)
.
وبهذا يتم ما يسر الله تعالى جمعه وكتابته بيدي شرحًا لهذا الكتاب النافع "بلوغ المرام" والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه، مقرِّبًا إليه، نافعًا لعباده، وقد تم الفراغ من مراجعته صبيحة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر من عام اثنين وثلاثين وأربعمائة وألف، والحمد لله رب العالمين.
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(4/ 302)، "فتح الباري"(13/ 538)، "لوامع الأنوار البهية"، ص (184 - 185).
(2)
انظر: "التنقيح في حديث التسبيح" ص (109).