الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الغسل وحكم الجنب
الغُسل - بضم الغين ـ: اسم مصدر بمعنى: اَغتسال، وجمعه: أغسال، وهو تعميم البدن بالغَسل بالماء، والجُنُب: بضم الجيم والنون، اسم لمن حصلت منه الجنابة، وهي إنزال المني.
والجنب: البعيد، سمي به من حصلت منه جنابة: إما لأن المنيَّ بَعُدَ عن محله وانتقل عنه، أو لبعده عما كان مباحاً له قبلها من الصلاة والقراءة ونحو ذلك.
ولفظ (الجنب) يطلق على الذكر والأنثى، والمفرد والمثنى والجمع، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وربما طابق على قلة، فيقال: أجناب وجُنُبون، ونساء جُنبات، ومنه قول عائشة رضي الله عنها:(كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ونحن جنبان)
(1)
.
وأحاديث هذا الباب تبحث في مسألتين:
الأولى: في أحكام الغسل، ما يجب منه، وما يستحب، وكيفيته.
الثانية: أحكام الجنب، ما يحل وما يحرم، من القراءة، واللبث في المسجد، والنوم على جنابة، ونحو ذلك.
(1)
أخرجه مسلم (321).
ما جاء في أنه لا اغتسال إلا من إنزال
108/ 1 - وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «المَاءُ مِنَ المَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (343) في كتاب «الحيض» باب «إنما الماء من الماء» من طريق شريك - يعني ابن أبي نَمِرٍ ـ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عِتْبان فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعجلنا الرجل» ، فقال عتبان: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمنِ ماذا عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما الماء من الماء» .
وأخرجه البخاري (180)، ومسلم (345) من طريق شعبة، عن الحكم، عن ذكوان أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار فجاء ورأسه يقطر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لعلنا أعجلناك» ؟ فقال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا أُعْجِلْتَ - أو قُحِطت - فعليك بالوضوء» ، وهذا لفظ البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الماء من الماء) لفظ مسلم: «إنما الماء من الماء» ، والماء الأول: مبتدأ، والمراد به: ماء الاغتسال، والثاني: متعلق بمحذوف خبر، والمراد به: المني النازل دفقاً بلذة، وقد سمَّاه الله تعالى ماء، فقال تعالى:
{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، ولفظ الحديث فيه جناس تام، حيث اتفق اللفظان في الحروف، واختلف المعنى.
وفي الحديث أسلوب من أساليب القصر عند البلاغيين، وطريقه (إنما) ومعناه: أن الاغتسال مقصور على الإنزال.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الغسل من إنزال المني، وهذا منطوق الحديث، وأما مفهومه فإنه يفيد عدم وجوب الغسل بدون إنزال، فلو جامعها في فرجها ولم ينزل فليس عليه غسل، وقد دل على ذلك قوله:«إذا أُعجلت أو قُحطت فعليك بالوضوء» ، وأُعجلت: بضم الهمزة وكسر الجيم، وقُحطت: بضم القاف وفتحها، وبالهمز: أُقحطت، ومعناه: جامعت ولم تنزل، وهو الإكسال.
وقد جاء هذا المعنى وهو أن الماء من الماء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، عثمان وأُبي بن كعب، وحديثهما في الصحيحين، ورافع بن خديج، وحديثه عند أحمد، وأبي أيوب وحديثه عند النسائي وابن ماجه، وقد ورد عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان، فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأُبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك
(1)
.
وكان هذا في أول الإسلام، وهو أن من جامع ولم ينزل استنجى وتوضأ، ثم شُرع الغسل مطلقاً بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وقد ورد ما يدل على النسخ من طريق ابن شهاب، حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أُبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام، لقلة الثياب، ثم أُمِرَ بالغسل، ونُهِيَ عن ذلك
(2)
، قال أبو داود:(يعني الماء من الماء).
(1)
أخرجه البخاري (292)، ومسلم (347) دون قوله:"فسألت .. ".
(2)
أخرجه أبو داود (214) وإسناده صحيح، وشيخ ابن شهاب يشبه أن يكون أبا حازم سلمة بن دينار، وهو ثقة، ذكر ذلك ابن خزيمة (1/ 114) وغيره.
على أن بعض العلماء حمل حديث الباب على الاحتلام، وقد بوَّب عليه النسائي في سننه
(1)
، ومال إليه الحافظ
(2)
، وأيد ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إنما الماء من الماء في الاحتلام»
(3)
.
لكن إدخال الاحتلام يكون من باب العموم، وأما الحديث فليس في الاحتلام، لما تقدم من التصريح بسببه، وهو أنه سؤال عن الجماع لا عن الاحتلام، وصورة السبب قطعية الدخول في الحكم عند الأكثرين، فيضعف القول باختصاص ذلك بحالة الاحتلام في النوم، والله أعلم.
(1)
"سنن النسائي"(1/ 155).
(2)
"فتح الباري"(1/ 398).
(3)
"جامع الترمذي"(112) وفي مصنف عبد الرزاق (1/ 252 - 253)، وابن أبي شيبة (1/ 89) لكن دون قوله:(في الاحتلام).
وجوب الغسل من الجماع
109/ 2 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمّ جَهَدَها، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ: (وَإنْ لَمْ يُنزِلْ).
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري (291) في كتاب «الغسل» باب «إذا التقى الختانان» ، ومسلم (348) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن أبي رافع
(1)
، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
وأخرجه مسلم - أيضاً - من طريق مطر الوراق، عن الحسن به، وفيه:«وإن لم ينزل» .
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا جلس) أي: الرجل، وهو مفهوم من السياق، والمراد بالجلوس: كونه بذلك المحل.
قوله: (بين شعبها الأربع) أي: شعب المرأة الأربع، والضمير لم يتقدم له مرجع، لكنه معلوم من السياق، والشُّعب - بضم الشين ـ: جمع شُعبة، وهي القطعة من الشيء، والمراد بها هنا: يداها ورجلاها على الأظهر، وهو كناية عن مكان الرجل من المرأة في حال الجماع، وهي حال يستقبح ذكرها،
(1)
هو نفيع بن الحارث، الصائغ المدني.
فَكَنّى عنها بلفظ الشُّعَبِ التي هي بمعنى الأطراف، ليفهم بذلك المراد من حالة اتصال محلَّي الجماع.
قوله: (ثم جَهَدها) بفتح الجيم والهاء، يقال: جهد وأجهد، أي: بلغ المشقة، والمعنى: بلغ جهده فيها، وذلك بإيلاج ذكره في فرجها، ثم كَدِّها بحركته؛ لأن المرأة وإن كانت تتلذذ بذلك لكن يحصل منها جهد ومشقة.
وهذا من محاسن اللغة، حيث إنه يُكنَّى عما يُستحيا من ذكره بما يدل عليه، فإن المقصود من ذلك الكناية عن الجماع ومعالجة الإنزال، وأن ذلك إذا حصل فقد وجب الغسل وإن لم ينزل، وفي رواية:«وألزق الختان الختان» بدل «ثم جهدها» ، وهذا يدل على أن الجهد كناية عن معالجة الإيلاج، وفي رواية عند مسلم:«إذا مسّ الختان الختان» .
والمراد من التقاء الختانين: تغييب الحشفة في الفرج، وهو المراد بالمسّ، وليس المراد حقيقته؛ لأن ختان المرأة في أعلى الفرج، ولا يمس الذكر في الجماع.
قوله: (فقد وجب الغسل) أي: عليهما جميعاً.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الغسل من الجماع على الرجل والمرأة، سواء أحصل إنزالٌ أم لا، لقوله في رواية مسلم:«وإن لم ينزل» .
وقد أخرج مسلم من طريق هشام، عن حميد بن هلال، قال: ولا أعلمه إلا عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل.
قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة رضي الله عنها، فأذنت لي، فقلت لها: يا أماه، أو يا أم المؤمنين: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أُمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟
قالت: على الخبير سقطت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل»
(1)
.
الوجه الرابع: هذا الحديث ناسخ لمفهوم حديث: «إنما الماء من الماء» ، ودليل النسخ حديث أبي بن كعب قال:(إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نُهي عنها)
(2)
، وهو صريح في النسخ، على أن حديث إيجاب الغسل ولو لم ينزل أرجح ولو لم يثبت النسخ؛ لأنه منطوق، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم في العمل على المفهوم، وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، عن أم كلثوم، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يُكْسِلُ، هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل»
(3)
، وتقدم معنى الإكسال قريباً.
ونقل ابن رجب عن الدارقطني أنه قال: (لم يختلف عن أبي الزبير في رفع الحديث)
(4)
. وأم كلثوم: هي أخت عائشة رضي الله عنهما؛ ذكره ابن رجب، والنووي
(5)
وقال: (هذا من رواية الأكابر عن الأصاغر).
وقد حكى النووي وغيره انعقاد الإجماع على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال، وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم لا يرون الغسل إلا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين
(6)
.
وقد ساق الإمام مسلم في صحيحه في هذا الموضع عن أبي العلاء ابن الشّخير أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه
(1)
أخرجه مسلم (349).
(2)
أخرجه الترمذي (110)، وأحمد (35/ 27) من طريق الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب به. وهذا الأثر له طرق متعددة عن الزهري، وقد صححه الترمذي، وابن خزيمة (1/ 112)، وابن حبان (3/ 447).
(3)
أخرجه مسلم (350).
(4)
في "فتح الباري"(1/ 369).
(5)
"شرح صحيح مسلم"(3/ 281).
(6)
نفس المصدر (3/ 275).
بعضاً، كما ينسخ القرآن بعضه بعضاً)
(1)
، وغرضه بذلك - والله أعلم - الإشارة إلى أن حديث «الماء من الماء» منسوخ، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح مسلم"(344).
وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها
110/ 3 - وعَنْ أُمّ سَلَمةَ رضي الله عنها أَنّ أُمَّ سُلَيمٍ وَهي امرأةُ أَبي طَلْحَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّ اللهَ لا يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ، فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ الغُسْلُ إذا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ:«نَعمْ، إذا رَأَتِ المَاءَ» الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
111/ 4 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ قَالَ: «تَغْتَسِلُ» . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلمٌ: فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيمٍ: وَهَلْ يَكُونُ هذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، فمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول: فقد أخرجه البخاري (282) في كتاب «الغسل» باب «إذا احتلمت المرأة» ، ومسلم (313) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال:«نعم إذا رأت الماء» ، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أوَ تحتلم المرأة؟! فقال: «تربت يداك فبم يشبهها ولدها» ، هذا لفظ مسلم، وزاد في رواية أخرى:(قالت: فضحتِ النساء).
وأما الثاني: فقد أخرجه مسلم (311) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل» ، فقالت أم سليم - واستحييت من ذلك - قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «نعم فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه» .
وقد وهم الحافظ في عزوه للبخاري، فإنه من أفراد مسلم، وقد ذكره المزي ولم يعزه للبخاري
(1)
، والله أعلم.
وظاهر هذا الحديث وما قبله أن المراجعة وقعت بين أم سليم وأم سلمة رضي الله عنهما؛ وهو الثابت في الصحيحين من رواية هشام بن عروة عن أبيه.
وأخرجه مسلم من رواية الزهري عن عروة لكن قال: عن عائشة، بدل (أم سلمة) وفيه أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة رضي الله عنهما.
والأحسن في الجمع بين هذه الروايات ما قاله النووي، وهو أنه يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعاً أنكرتا على أم سُليم، فإنه لا يمتنع حضور أنس وعائشة وأم سلمة هذه القصة، وقد يكون أنس رواه عن أمه أم سُليم، والله أعلم
(2)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (أم سُليم) هي: سهلة بنت ملحان - بكسر الميم على الأشهر - الأنصارية، أم أنس بن مالك، لها صحبة ورواية، كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنساً؛ فلما جاء الإسلام أسلمت مع قومها من الأنصار، فغضب لذلك زوجها؛ فخرج إلى الشام فهلك، ثم خطبها أبو طلحة فقالت: إن أسلمت تزوجتك، ولا أريد منك صداقاً غيره، فأسلم، فزوجها به ابنها أنس بن مالك رضي الله عنه، كانت من أعقل النساء، وأثبتهن قلباً، وأفضلهن أدباً وديناً رضي الله عنها، وقصتها مع زوجها أبي طلحة لما مات ولده فلم تخبره حتى تغشاها، وأصاب منها؛ مشهورة، وهي في الصحيحين
(3)
، قال ابن الملقن:
(1)
"تحفة الأشراف"(1/ 310).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(3/ 227).
(3)
"صحيح البخاري"(5470)، ومسلم (2144).
(لم أر من أرّخ وفاتها، ولم يذكرها أيضاً المزي في تهذيبه ولا من تبعه)
(1)
.
قوله: (وهي امرأة أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي مشهور بكنيته، من فضلاء الصحابة، شهد غزوة بدر وأحد، وتصدق بأحب ماله إليه حين نزل قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين، رضي الله عنه
(2)
.
قولها: (إن الله لا يستحي من الحق) أي: لا يمتنع من ذكره حياءً، والحياء لغة: التغير والانكسار والانقباض يعتري النفس الإنسانية من خوف ما يعاب به، وشرعاً: خُلُق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
والحق: كل خبر خلا من الكذب، وكل حكم خلا من الجور، وهذه الجملة ابتدائية الغرض منها تقديم الاعتذار عما ستسأل عنه، لكونه مما يستحيا منه بحضرة الرجال.
قولها: (فهل على المرأة الغسل)، هذا لفظ البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «خلق آدم وذريته»
(3)
، ولفظ الصحيحين في «الطهارة» «من غُسلٍ» وعند البخاري في كتاب «الأدب»:«غُسلٌ»
(4)
.
قولها: (إذا احتلمت) أي: إذا رأت في المنام أنها تُجَامَعُ، والاحتلام: افتعال من الحُلْم بضم المهملة وسكون اللام، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال: حَلَمَ يَحْلُم من باب (قتل)، واحتلم فهو حالم ومحتلم، وأما (حَلُمَ) بالضم (حِلْماً) بالكسر فمعناه: صفح وستر، فهو حليم.
والمراد بالحُلْم - هنا ـ: أمر خاص منه، وهو الجماع، فالأول استعمال وضعي، وهذا استعمال عرفي.
قوله: (نعم إذا رأت الماء) أي: نعم عليها الغسل إذا أبصرت الماء وهو المني، والمراد من ذلك: تحقق وقوعه.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(2/ 63).
(2)
"الإصابة"(4/ 55).
(3)
"فتح الباري"(6/ 362).
(4)
"فتح الباري"(10/ 504، 523).
قوله: (الحديث .. ) إشارة إلى أن له بقية، ولعله تركها اختصاراً واقتصاراً على موضع الاستدلال، واكتفاءً بما ورد في آخر حديث أنس رضي الله عنه، وتقدم سياق الحديث بتمامه.
الوجه الثالث: الحديثان دليل على فضيلة أم سلمة رضي الله عنها بحرصها على الفقه في الدين، وحسن أدبها، حيث قدمت بين سؤالها كلاماً يمهد لعذرها.
الوجه الرابع: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه حتى في الأمور التي يستحيا منها، ولا ينبغي أن يمنعه الحياء من معرفة الحق والسؤال عنه، لكن يقدم ما يمهد لعذره أو يوكِّل غيره، وأما الامتناع من السؤال عما ينبغي، أو ترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو الإخلال ببعض الحقوق فهذا ضعف وعجز وخَوَرٌ ومهانة، ولا يسمى حياءً، وإنما يطلق عليه بعض أهل العرف الحياء من باب المجاز، لمشابهته الحياء الحقيقي.
وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقَّهن في الدين)
(1)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على نفي صفة الحياء من الحق عن الله تعالى، وذلك لكمال عدله ورحمته.
والحياء ثابت لله تعالى على ما يليق بجلاله، ولا يشابه فيه خلقه، كسائر صفاته، وقد ورد في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حييّ سِتّير، يحب الحياء والستر»
(2)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن المرأة كالرجل إذا رأت في منامها أنها تُجَامَعُ فإنها تغتسل، كما يغتسل الرجل، لكن بشرط وجود الماء، وهو المني لقوله:«إذا رأت الماء» .
والمحتلم له ثلاث حالات:
(1)
أخرجه مسلم (332)، (61)، وعلقه البخاري (1/ 228).
(2)
أخرجه أبو داود (4012) والنسائي (1/ 200) وأحمد (29/ 483) وهو صحيح بطرقه.
الأولى: أن يذكر الاحتلام ويرى المني، فهذا يجب عليه الغسل، كما يدل عليه الحديث الأول.
الثانية: أن يرى الفعل ولم يَرَ الماء (يعني أنه يجامع ولا يرى الماء) فهذا لا غسل عليه، لمفهوم قوله:«نعم إذا رأت الماء» .
الثالثة: أن يرى الماء ولا يذكر احتلاماً، فيجب عليه الغسل، لعموم «إنما الماء من الماء» ، ولأن الإنسان قد يرى الشيء في منامه ثم ينساه.
أما إذا استيقظ بالغ أو من يمكن بلوغه فوجد في ثوبه بللاً وجَهِلَ كونه منياً، فإن سبق نومه تفكير في الجماع جعله منياً، وإن لم يسبق نومه تفكير فقيل: يغتسل احتياطاً، وقيل: لا غسل عليه، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية
(1)
، وهو الراجح لقوله:«إذا رأت الماء» يعني بذلك المني، وهنا لم يتيقن المنتبه أن البلل منيّ، فلا يجب الغسل مع الشك؛ لأن الأصل براءة الذمة. هذا بالنسبة للنائم.
أما اليقظان فظاهر قوله: «إنما الماء من الماء» أن خروج المني يوجب الغسل مطلقاً حتى ولو بدون شهوة وبأي سبب خرج، وهذا مذهب الشافعية
(2)
، ورواية عن أحمد، والمشهور خلافها، وقالت الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يجب الغسل إلا إذا خرج بدفق ولذة
(3)
، والظاهر أنه إن كان بلذة فلا بد أن يكون دفقاً، ولهذا اقتصر صاحب «المنتهى»
(4)
على اللذة ولم يذكر الدفق.
ودليل ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذَّاءً فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا خذفت الماء فاغتسل من الجنابة، وإن لم تكن خاذفاً فلا تغتسل» ، وفي لفظ:«إذا فضخت الماء فاغتسل»
(5)
والخذف والفضخ: خروجه بالغلبة،
(1)
"شرح العمدة"(1/ 353).
(2)
"المجموع"(2/ 139).
(3)
"الإنصاف"(1/ 227)، "بدائع الصنائع"(1/ 36)، "حاشية الدسوقي"(1/ 127).
(4)
"المنتهى"(1/ 79).
(5)
تقدم تخريجه عند الكلام على الحديث رقم (69).
وهو الدفق، وعلى هذا فوصفه بالدفق أقرب وأوفق، لقوله تعالى:{خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6].
وعليه فلو خرج بدون لذة لم يجب الغسل، بل يكون نجساً وليس منياً، ويحمل حديث:«إنما الماء من الماء» على الماء المعهود المعروف، وهو الذي يخرج بلذة ويوجب ضعف البدن وفتوره.
الوجه السابع: الحديث دليل على أن المرأة تحتلم وتنزل المني، كما ينزل الرجل، والجنين يخلق من نطفتي الرجل والمرأة، كما قال تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا ثم ينتقل بعدُ من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن والربيع بن أنس: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة
(1)
.
الوجه الثامن: الحديث دليل على أن شَبَهَ الولد - ذكراً كان أو أنثى - بأبيه أو أمه مبني على سبق أحد المائين، فإذا سبق ماء أحدهما كان الشبه له، وهذا ما يسمى عند الأطباء بالوراثة
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن كثير"(8/ 310).
(2)
انظر: "خلق الإنسان بين الطب والقرآن" ص (137)، "الأمومة ومكانتها في الإسلام"(2/ 643).
حكم الغسل من تغسيل الميت
112/ 5 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الجمعَةِ، وَمِنَ الحِجَامَةِ، وَمِنْ غُسْلِ المَيّتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (348) في كتاب «الطهارة» باب «الغسل يوم الجمعة» ، وفي كتاب «الجنائز» (3160) بابٌ «في الغُسل من غَسْلِ الميت» ، وابن خزيمة (256) من طريق مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب العَنَزِي، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع
…
وهو عند أبي داود من فعله صلى الله عليه وسلم، كما ساقه الحافظ، وأما عند ابن خزيمة فهو من قوله، ولَفْظُهُ، قال: (يُغتسل من أربع:
…
).
وأخرجه الحاكم (1/ 268) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). وتعقب بأن البخاري لم يخرج لمصعب بن شيبة، ولذا قال ابن عبد الهادي:(على شرط مسلم)
(1)
، ومع أنه على شرط مسلم إلا أن مصعب بن شيبة متكلم فيه، فالجمهور على تضعيفه، وقد ذكره الذهبي في كتابه (من تُكُلِّم فيه وهو موثق)
(2)
، ونقل عن الدارقطني قوله:(ليس بالقوي)، وقد وثقه ابن معين، كما في رواية إسحاق بن منصور
(3)
، ووثقه العجلي
(4)
.
(1)
"التنقيح"(1/ 510).
(2)
ص (174).
(3)
"تهذيب التهذيب"(10/ 147).
(4)
"تاريخ الثقات" رقم (1580).
قال أبو داود عقبه في الموضع الثاني: (وحديث مصعب ضعيف؛ فيه خصال؛ ليس العمل عليه)، ونقله عنه المزي
(1)
.
وقال الدارقطني بعد سياقه الحديث: (مصعب بن شيبة ليس بالقوي ولا بالحافظ)
(2)
، وقال الترمذي: قال البخاري: (حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك)
(3)
، ونقل ابن أبي حاتم عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: (مصعب بن شيبة روى أحاديث مناكير)
(4)
، وقال سألت أبي عن مصعب بن شيبة فقال:(لا يحمدونه، وليس بالقوي)
(5)
، ولما نقل الذهبي ذلك ساق هذا الحديث من مناكيره
(6)
، ومن قبله العقيلي في «الضعفاء»
(7)
.
وقال البيهقي: (أخرج مسلم في الصحيح حديث مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن ابن الزبير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة
(8)
، وترك هذا الحديث فلم يخرجه؛ ولا أراه تركه إلا لطعن بعض الحفاظ فيه)
(9)
، والظاهر أن الإمام مسلماً لم يلتفت إلى ما قيل في مصعب بن شيبة فهو ثقة عنده، فلذا أخرج له في الصحيح، وقد نقل العقيلي عن الإمام أحمد أنه عدَّ حديث «عشر من الفطرة» من مناكير مصعب هذا
(10)
.
ونقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة قوله في هذا الحديث: (لا يصح هذا، رواه مصعب بن شيبة، وليس بالقوي)، قلت لأبي زرعة: لم يُرو عن عائشة من غير حديث مصعب؟ قال: (لا)
(11)
.
ونقله ابن حجر في «النكت الظراف» ولم يتعقبه، مما يدل على إقراره به
(12)
.
(1)
"تحفة الأشراف"(11/ 439).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 113).
(3)
"العلل الكبير"(1/ 403).
(4)
"الجرح والتعديل"(8/ 305).
(5)
المصدر السابق.
(6)
"الميزان"(4/ 120).
(7)
(4/ 197).
(8)
"صحيح مسلم"(261).
(9)
"السنن الكبرى"(1/ 267).
(10)
"الضعفاء"(4/ 197).
(11)
"العلل"(1/ 49).
(12)
"النكت الظراف"(11/ 439).
والحاصل من ذلك أن الحديث ضعيف، ضعفه من ذُكر، وضعفه - أيضاً - الإمام أحمد، وعلي بن المديني وقالا:(لا يصح في هذا الباب شيء)، وضعفه محمد بن يحيى الذهلي - كما نقله المنذري
(1)
ـ وابن عبد البر
(2)
، وقد ذكره ابن دقيق العيد في (الإلمام) ونقل تصحيحه عن الحاكم، ونقل قول البيهقي أنه قال:(رواة هذا الحديث كلهم ثقات)، ثم قال:(قلت: وقد عُلّل، ومصعب بن شيبة راويه قد مُسّ أيضاً، وقد احتج به مسلم)
(3)
.
ومما يؤيد ضعفه أنه قد ورد عن عائشة رضي الله عنها خلافه، فقد ورد أنها سُئِلت: هل على الذي يغسل المتوفى غُسل؟ قالت: لا
(4)
.
قال ابن عبد البر بعد سياقه أثر عائشة السابق: (فدل على بطلان حديث مصعب بن شيبة؛ لأنه لو صحّ عنها ما خالفته، ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه، ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد به عليه، ولا اتفق العلماء على إيجابها
…
)
(5)
.
وقال ابن التركماني: (وقد صح عن عائشة رضي الله عنها إنكار الغُسل من غَسْلِ الميت، فكيف ترويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتنكره؟)
(6)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه غسّل ميتاً قط، فهذا يدل على ضعفه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الاغتسال من هذه الأمور الأربعة:
الأول: الجنابة، والاغتسال منها واجب بالإجماع، لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
الثاني: يوم الجمعة، والغسل فيه مستحب على قول الجمهور، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله ـ.
(1)
"مختصر السنن"(1/ 215).
(2)
"الاستذكار"(8/ 202).
(3)
"الإلمام" رقم (108).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 268)، "الأوسط" لابن المنذر (5/ 349).
(5)
"الاستذكار"(8/ 202).
(6)
"الجوهر النقي"(1/ 300).
الثالث: الحجامة، والغسل من الحجامة سنة عند بعض العلماء، وقال به الشيخ عبد العزيز بن باز، والجمهور على عدم استحبابه، لعدم الدليل، وقد جاء عن الإمام أحمد أنه قال: (لا يغتسل من الحجامة، وليس يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وذلك لأنه دم خارج يشبه الرعاف.
والحكمة من الغسل منها - والله أعلم، عند القائلين به - أن الحجامة تضعف البدن بخروج الدم الذي هو قوة الإنسان، فيكسل ويتعب وتضعف قوته، فإذا اغتسل عاد إليه نشاطه.
الرابع: تغسيل الميت، والغسل من تغسيل الميت تقدم الكلام فيه في باب «نواقض الوضوء» عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الحديث العاشر، وذُكر هناك ترجيح القول بالاستحباب
(2)
، والله أعلم.
(1)
انظر: "شرح فتح القدير"(1/ 66)، "روضة الطالبين"(2/ 44)، "مسائل الإمام أحمد" -رواية ابنه عبد الله- (1/ 82)، "الإنصاف"(1/ 251).
(2)
راجع: "تمام المنة" ص (121).
حكم الغسل بعد الإسلام
113/ 6 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في قِصّة ثُمَامَة بْنِ أُثال، عِنْدَما أسلمَ وَأمَرَهُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرّزَّاق، وَأَصْلهُ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه عبد الرزاق (6/ 9) ومن طريقه ابن خزيمة (1/ 125)، وابن حبان (4/ 41)، وابن الجارود (15)، والبيهقي (1/ 171)، قال: أخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن ثُمامة الحنفي أُسر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه، فيقول: ما عندك يا ثمامة، فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنَّ تَمُنَّ على شاكر، وإن ترد المال نُعْطِ منه ما شئت، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمرّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فأسلم، فحلّه، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لقد حَسُنَ إسلام أخيكم» .
قال الألباني: (هذا سند صحيح على شرط الشيخين، وعبد الله بن عمر وإن كان ضعيفاً فقد تابعه عبيد الله بن عمر، وهو ثقة، روى له الشيخان)
(1)
.
وأصل الحديث عند البخاري (4372)، ومسلم (1764) من طريق الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: وذكر الحديث إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة» ، فانطلق إلى نخل
(1)
"إرواء الغليل"(1/ 164).
قريب من المسجد فاغتسل .. الحديث، وسيأتي سياقه بتمامه إن شاء الله، وليس فيه الأمر بالغسل، وإنما الأمر بالغسل في لفظ عبد الرزاق، ولهذا ذكره الحافظ، وأشار إلى رواية الصحيحين.
ولحديث الباب شاهد من حديث قيس بن عاصم رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر
(1)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ثمامة بن أُثال) بضم المثلثة وتخفيف الميم، وأثال: بضم الهمزة وتخفيف المثلثة وباللام، وهو ثمامة بن أُثال بن النعمان الحنفي، سيد أهل اليمامة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد
(2)
، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«ماذا عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي خير، يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم
(3)
وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فَتُرِكَ حتى الغد، ثم قال له:«ما عندك يا ثمامة؟» ، فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال:«ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال:«أطلقوا ثمامة»
(4)
، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغضُ إلي من وجهك؛ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إلي، والله ما
(1)
أخرجه أبو داود (355)، والترمذي (605)، والنسائي (1/ 109)، وأحمد (34/ 216) وهو حديث صحيح، صححه ابن خزيمة (255)، وابن حبان (1240)، وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 114):(حديث ثابت) وصححه النووي في "الخلاصة"(455).
(2)
ليرى الناس ويشاهدهم.
(3)
أي: أن دمه له شأن؛ لأنه كبير من كبراء بني حنيفة، أو أن المعنى: أن لدمه موقعًا فيشتفي قاتله بقتله ويدرك ثأره لرياسته وعظمته.
(4)
أمر بإطلاقه لأنه تبين له أن ظاهره الخير، لقوله:(إن تنعم تنعم على شاكر).
كان من دين أبغض إليَّ من دينك؛ فأصبح دينك أحبَّ الدين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغضُ إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقد ذكر ابن إسحاق أن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمن، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة لكبيرهم، فرآها عليه ناس من بني قيس بن ثعلبة فظنوه أنه هو الذي قتل كبيرهم وسلبه، فقتلوه رضي الله عنه، وذلك في سنة ثنتي عشرة من الهجرة
(2)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم؛ لقوله في رواية عبد الرزاق: (فأمره أن يغتسل فاغتسل) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، أما في رواية الصحيحين فثبوت الغسل عن طريق الإقرار، وظاهر ذلك أنه سواء وجد من الكافر في كفره ما يوجب الغسل من حيض أو جنابة أم لا، وهذا قول في مذهب المالكية
(3)
، وهو المشهور من مذهب الحنابلة
(4)
، واختاره ابن المنذر، والخطابي، ورجحه الشوكاني
(5)
، وعللوا أيضاً بأن الكافر لا يسلم غالباً من جنابة، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة، كالنوم.
والقول الثاني: أنه لا يجب عليه الغسل، إلا أن يكون وجد منه في حال كفره ما يوجب الغسل، فإن لم يوجد ذلك فالمستحب له أن يغتسل، وهذا
(1)
أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764).
(2)
"الإصابة"(2/ 27).
(3)
"المدونة الكبرى"(1/ 36)، "تفسير القرطبي"(8/ 102).
(4)
"الإنصاف"(1/ 236).
(5)
"الأوسط"(2/ 115)، "نيل الأوطار"(1/ 256).
مذهب الحنفية والمالكية والشافعية
(1)
.
القول الثالث: أنه لا يجب الغسل على الكافر بحال، وهو قول في مذهب الحنابلة
(2)
.
ودليل القولين:
1 -
أنه قد أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، ولو أمرهم لكان هذا مما تتوفر الهمم على نقله، ولو كان واجباً لما خُصّ بالأمر به بعضٌ دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله
…
) الحديث
(3)
، ولو كان الغسل واجباً لأمرهم به؛ لأنه أول واجبات الإسلام.
والأظهر - والله أعلم - أن الغسل من الإسلام ليس واجباً، وإنما هو مستحب، جمعاً بين الأدلة؛ والأحوط لمن أسلم أن يغتسل، والغسل ليس فيه مشقة، بل فيه فوائد كثيرة، والله تعالى أعلم.
(1)
"بدائع الصنائع"(1/ 90)، "حاشية الدسوقي"(1/ 131 - 132)، "المجموع"(2/ 152).
(2)
"الإنصاف"(1/ 236).
(3)
أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19)، وسيأتي -إن شاء الله- في أول "الزكاة".
حكم الغسل لصلاة الجمعة
114/ 7 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «غُسْلُ الجُمعَةِ وَاجِبٌ عَلى كُلِّ مُحْتَلمٍ» . أَخْرَجَهُ السّبْعَةُ.
115/ 8 - وعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمْعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسّنُه الترْمِذِيّ.
ساق الحافظ هنا حديثين: الأول ظاهره الوجوب، والثاني ظاهره الاستحباب، وفي الباب أحاديث أخرى في هذين الحكمين، لكن قصد الحافظ بذكرهما - والله أعلم - الإشارة إلى أن الغسل فيه قولان لأهل العلم، كما سيأتي إن شاء الله.
والكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو سمرة بن جندب - بفتح الدال وضمها - بن هلال الفزاري؛ حليف الأنصار رضي الله عنه، قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه، وكان غلاماً، فاستعرض النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم غلمان الأنصار، فأجاز غلاماً في البعث، وردّ سمرة، فقال: يا رسول الله لقد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فصارعه» ، قال: فصارعته فصرعته، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
له أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه ابنه سليمان، وعمران بن حصين، والحسن البصري، والشعبي، وغيرهم، وكان يستخلفه زياد على الكوفة ستة أشهر، وعلى البصرة ستة أشهر، ولما مات زياد أمَّره معاوية على
البصرة، ثم عزله وبقي فيها إلى أن مات، سنة ثمان وخمسين رضي الله عنه
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أبي سعيد، فقد أخرجه البخاري (879) في كتاب «الجمعة» باب «فضل الغسل يوم الجمعة» ، ومسلم (846)، وأبو داود (341)، والنسائي (3/ 92)، وابن ماجه (1089)، وأحمد (18/ 125) كلهم من طريق صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، به مرفوعاً.
وعزوه للترمذي وهمٌ من الحافظ، فإنه لم يخرجه الترمذي في جامعه.
وأما حديث سمرة رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود (354) في كتاب
«الطهارة» بابٌ «في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة» ، والترمذي (497)، والنسائي (3/ 94)، وأحمد (33/ 308) كلهم من طريق قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
وهذا الطريق أحسن طرق الحديث، وله طرق أخرى ضعَّفها الحفاظ، وقد رواه عبد الرزاق (5311)، والبيهقي (1/ 296) من طريق قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
أما عزوه لابن ماجه فهو وهم من الحافظ، فإن الحديث عنده من رواية أنس رضي الله عنه
(2)
لا من رواية سمرة، وكذا عزاه في «التلخيص» لأصحاب السنن
(3)
، أما في «فتح الباري» فقد عزاه لأصحاب السنن الثلاثة
(4)
، والله أعلم.
وهذا الحديث من رواية الحسن البصري عن سمرة وفي سماعه من سمرة خلاف على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه سمع منه مطلقاً، فحديثه محمول على الاتصال، وهذا مذهب علي بن المديني، والبخاري، والترمذي
(5)
، فقد نقل الترمذي عن البخاري أنه
(1)
"الاستيعاب"(4/ 256)، "الإصابة"(4/ 257).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 347).
(3)
"التلخيص"(2/ 71).
(4)
"فتح الباري"(2/ 362).
(5)
"تهذيب التهذيب"(2/ 234).
قال: (سماع الحسن من سمرة بن جندب صحيح)، وحكى عن علي بن عبد الله أنه قال مثل ذلك
(1)
، ورجح هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: (والقول بأنه سمع منه قول قوي؛ لأن سمرة مقيم في البصرة، ومات سنة ثمان وخمسين أو تسع وخمسين، والحسن مقيم في البصرة فيبعد جداً ألا يلقاه وألا يأخذ عنه إلا حديث العقيقة، مع حرص التابعين على لقاء الصحابة والأخذ عنهم
…
فهذا مما يؤيد قول من قال: إنه سمع منه مطلقاً).
القول الثاني: أن الحسن لم يسمع من سمرة مطلقاً، وقالوا: هي كتاب لا سماع، وهو مذهب يحيى القطان وابن معين وابن حبان، قال الحافظ: وذلك لا يقتضي الانقطاع
(2)
، وقَوَّى ذلك ابن القيم
(3)
.
القول الثالث: أنه لم يسمع منه إلا حديثاً واحداً، وهو حديث العقيقة، وقد ذكر ذلك البخاري في «صحيحه» عن حبيب بن الشهيد قال:(أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن: ممن سمع حديث العقيقة، فسألته: فقال: من سمرة بن جندب)
(4)
.
وهذا قول النسائي والدارقطني والبزار، واختاره ابن عساكر، وادعى عبد الحق أنه هو الصحيح
(5)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (غسل الجمعة واجب) إضافة الغسل ليوم الجمعة يحتمل أنه من إضافة الشيء إلى سببه أي: إن الصلاة سبب لوجوب الغسل .. ، أو أنه من إضافة الشيء إلى زمانه، أي: الغسل الذي يكون في يوم الجمعة، وبينهما فرق، فعلى الأول لا تحصل فضيلة الغسل إلا إذا اغتسل وقت الرواح للجمعة، وعلى الثاني يكون الغسل مراداً به يوم الجمعة، سواء كان قبلها أو بعدها، والأول أقرب، كما سيأتي إن شاء الله.
(1)
"العلل"(2/ 963)، "التاريخ الكبير"(2/ 290).
(2)
"تهذيب التهذيب"(2/ 234).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 125).
(4)
"فتح الباري"(9/ 590).
(5)
"سنن النسائي"(3/ 94)، "علل الدارقطني"(10/ 263)، "التلخيص"(2/ 71).
قوله: (على كل محتلم) بضم الميم وسكون المهملة ثم تاء ولام وميم أي: بلغ سن الحُلُم - بضم الحاء واللام - والمراد به: البالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب.
قوله: (فبها ونعمت) الضمير يعود على مقدر يفهم من السياق، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، والتقدير: من توضأ فبالرخصة أخذ ونعمت الرخصة؛ لأن فيها تيسيراً على الناس، فالوضوء رخصة، والسنة الغسل، وقال الزمخشري:(الباء متعلقة بفعل مضمر، أي: فبهذه الخصلة أو الفعلة - يعني الوضوء - ينال الفضل، ونعمت: أي: نعمت الخصلة هي، فحذف المخصوص بالمدح)
(1)
.
وسئل عنه الأصمعي فقال: (أظنه يريد: فبالسنة أخذ، وأضمر ذلك إن شاء الله)، وحكى ذلك الخطابي وقال:(وإنما ظهرت التاء في قوله: «ونعمت» التي هي علامة التأنيث، لإضمار السنة أو الخصلة أو الفعلة)
(2)
.
الوجه الرابع: حديث أبي سعيد رضي الله عنه دليل ظاهر لمن قال بوجوب الغسل يوم الجمعة، وهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كعمر وأبي هريرة وأبي سعيد وعمار وغيرهم، حكاه ابن المنذر، وهو قول الظاهرية، ورواية عن مالك، حكاها الخطابي
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد فيمن تلزمه الجمعة
(4)
.
ومن أدلة القائلين بالوجوب:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل»
(5)
.
(1)
"الفائق"(4/ 3).
(2)
"معالم السنن"(1/ 211).
(3)
"الأوسط"(4/ 39)، "المحلى"(2/ 13)، "معالم السنن"(1/ 211)، "المغني"(3/ 224)، "فتح الباري" لابن رجب (8/ 81).
(4)
"الإنصاف"(1/ 247).
(5)
أخرجه البخاري (877)، ومسلم (844)، وأخرجه ابن خزيمة (3/ 126)، ولفظه:(من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء).
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طاووساً قال لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب» ، قال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري
(1)
.
ووجه الدلالة: أن قوله: «اغتسلوا» صيغة أمر، وهي تقتضي الوجوب.
3 -
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده .. » الحديث
(2)
.
4 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً
(3)
؟.
ووجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه ترك الخطبة واشتغل بمعاتبة الداخل، وأنكر عليه ترك الغسل، ولو كان مباحاً لما فعل، وقد أقرّه الحاضرون على ذلك، وهم جمهور الصحابة، وهذا من أوضح الأدلة القاضية بأن الوجوب كان معلوماً عند الصحابة، ولو كان الأمر عندهم على غير الوجوب لما حصلت المعاتبة، ولما عَوَّلَ الصحابي على الاعتذار.
وأما الاستدلال بالحديث على استحباب الغسل - لأن عمر رضي الله عنه لم يأمر الداخل بالخروج للغسل، كما قاله النووي وجماعة - فليس بناهض، إلا لو كان الغسل شرطاً في صحة الصلاة، ولأن مثل ذلك لا يجب على من رأى من شخص الإخلال بواجب من واجبات الشريعة، بل غاية ما كلفنا به الإنكار أ
(1)
أخرجه البخاري (884)، ومسلم (848) وهذا لفظ البخاري.
(2)
أخرجه البخاري (896)، ومسلم (894).
(3)
أخرجه البخاري (878)، ومسلم (845) وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه التصريح بأن الداخل هو عثمان رضي الله عنه.
على من ترك واجباً؛ وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه، على أنه يحتمل أن يكون عثمان رضي الله عنه قد اغتسل أول النهار، لما ثبت عن حمران مولاه أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء
(1)
، وإنما لم يعتذر لعمر بذلك كما اعتذر عن التأخير؛ لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة.
الوجه الخامس: حديث سمرة رضي الله عنه دليل لمن قال: بأن الغسل يوم الجمعة مستحب، وليس بواجب، وهو قول جمهور الفقهاء من السلف والخلف، وهو القول الثاني في حكم الغسل يوم الجمعة.
ووجه الدلالة: أن الحديث دلّ على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل، وعلى عدم تحتم الغسل.
ومن الأدلة أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس مَهَنَةَ أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم:«لو اغتسلتم» ، وفي رواية أخرى من طريق عروة عن عائشة قالت: كان الناس ينتابون إلى الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العِباء، ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم - وهو عندي - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا»
(2)
.
ووجه الدلالة: أن قوله: «لو اغتسلتم .. » يقتضي أن الغسل ليس بواجب؛ لأن تقديره: لكان أفضل وأكمل، ونحو هذا من العبارات.
ومن الأدلة أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا»
(3)
.
ووجه الدلالة: أن ذكر الوضوء وما معه من الأوصاف مرتباً عليه الثواب المقتضي للصحة دليل على أن الوضوء كافٍ، قال الحافظ: (إنه من أقوى ما
(1)
أخرجه مسلم (845).
(2)
أخرجه البخاري (902)، ومسلم (847).
(3)
أخرجه مسلم (857).
استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة)
(1)
.
هذان القولان في حكم الغسل يوم الجمعة:
الأول: أنه واجب مطلقاً.
والثاني: أنه مستحب، وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن القيم، وهو التفصيل بين من له رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه فيستحب له، ثم ذكر أن الأقوال الثلاثة لأصحاب أحمد
(2)
، وقد أشار الحافظ إلى هذا القول
(3)
، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
.
والقول بالوجوب قوي - فيما يظهر لي - لما يلي:
أولاً: أن أدلة الوجوب أقوى إسناداً، وأصرح دلالة، فقد وردت تارة بصيغة الأمر، وتارة بأنه واجب، وتارة بأنه حق، والوجوب يثبت بأقل من ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبينهم وأنصحهم، فلا يتكلم بلفظ يراد به غير ظاهره، وإن كان قد ينازع في الاستدلال بلفظ: (غُسل الجمعة واجب
…
) على الوجوب، بناءً على أنه لم يرد استعمال لفظ (واجب) في نصوص الكتاب والسنة بالمعنى الاصطلاحي عند الأصوليين، لكن نقول: إن تعدد الصيغ - كما تقدم - يقوي ذلك.
ثانياً: أنه لا يعدل عن هذا الوجوب إلا بصارف قوي؛ لأن صرف اللفظ عن ظاهره إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحاً في الدلالة على هذا الظاهر، فحينئذ يُترك الظاهر، ويُعوّل على هذا المعارض الراجح.
وأقوى ما عارضوا به أدلة الوجوب حديث سمرة، وعنه جوابان:
الأول: أنه مختلف في صحته، فلا يقاوم سنده سند الأحاديث الدالة على الوجوب، وهي في الصحيحين.
(1)
"التلخيص"(2/ 72).
(2)
"زاد المعاد"(1/ 377).
(3)
"فتح الباري"(2/ 363).
(4)
"الاختيارات" ص (17)، "الإنصاف"(1/ 247).
الثاني: على فرض صحته على قول من يقول: إن الحسن سمع من سمرة فليس فيه ما يدل على أن الغسل ليس بواجب، وإنما فيه أن الوضوء نعم العمل، وأن الغسل أفضل، وهذا لا شك فيه، وقد قال الله تعالى:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110]، فهل يدل على أن الإيمان ليس فرضاً؟
(1)
.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من توضأ فأحسن الوضوء
…
»، فعنه جوابان:
الأول: أنه ليس فيه نفي الغسل، بل يحتمل أن يكون ذِكْرُ الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء، فيكون مقيداً بأحاديث الغسل.
الثاني: أنه ورد عند مسلم بلفظ: «من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم صلى معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام»
(2)
.
ثالثاً: ومما يؤيد الوجوب أن الأحاديث التي صرحت بوجوب غسل الجمعة فيها حكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه، والواجب الأخذ بما تضمن الزيادة منها.
والأحوط للمسلم ألا يدع الغسل يوم الجمعة متى تهيأت أسبابه، فإن الأحاديث اتفقت على فضله والترغيب فيه، وينبغي أن يؤخذ بالاعتبار الأدلة التي ورد وجوب الغسل فيها لعلة، وهي وجود رائحة كريهة مؤذية للحاضرين بل وللملائكة المكرمين.
وعلى القول بوجوب الغسل فليس شرطاً في صحة الصلاة، قال الخطابي:(لم تختلف الأمة في أن صلاة من لم يغتسل مجزئة)
(3)
.
(1)
انظر: "المحلى"(2/ 14).
(2)
أخرجه مسلم (857)، وانظر:"فتح الباري"(2/ 362).
(3)
"معالم السنن"(1/ 212).
وقد ورد في كتاب «الرسالة» للشافعي قول بوجوب الغسل، وأنه لا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل
(1)
.
الوجه السادس: ظاهر قوله: (غسل يوم الجمعة) أن الغسل لليوم؛ للإضافة إليه، وهو قول الظاهرية، وبنوا على ذلك أن وقت الغسل يمتد عندهم من طلوع الفجر إلى أن يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله قبل غروب آخره، فمن اغتسل في هذا الوقت فقد أدرك الفضيلة وأدى الواجب
(2)
.
وقال الجمهور من أهل العلم: إن الغسل للصلاة لا لليوم، لورود أدلة صريحة تؤيد ذلك، ومنها: حديث ابن عمر - المتقدم ـ: «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل» ، وعند ابن خزيمة:«من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء» ، فهذا نص صريح في أن الغسل للصلاة لا لليوم؛ لأنه إنما شرع للنظافة وإزالة الروائح الكريهة، وهذا يناسب الصلاة، ولأن الجمعة اختصَّت بشرائع ليست لغيرها من الصلوات.
وأما حديث الباب الذي تمسكت به الظاهرية فلا يعني مطلق اليوم، وإنما المراد منه الصلاة؛ لأنها أعظم شعيرة تقام في هذا اليوم في جماعة في أكبر مساجد البلد، ومن مقتضاها النظافة؛ لكي لا يتأذى بعض المصلين ببعض، وهذا لا يتأتى بعد الصلاة لو قلنا بأنه يجزئ بعدها.
ومن هنا شرطت المالكية اتصال الغسل بالرواح إلى الصلاة، لتتحقق الحكمة من مشروعيته، بحيث لو طال الأمد بينه وبين الصلاة فعليه الإعادة، إلا أنه لا يضر الفصل اليسير
(3)
، وأما الجمهور فلم يشترطوا الاتصال بالرواح، لكنهم استحبوا تأخيره إلى الذهاب، لكي يتأتى المقصود منه على أحسن الوجوه، والله تعالى أعلم
(1)
"الرسالة" ص (302).
(2)
"المحلى"(2/ 19).
(3)
انظر: "المنتقى" للباجي (1/ 186).
حكم قراءة القرآن للجنب
116/ 9 - وعَنْ عَليّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يَكنْ جُنُباً. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَهَذا لَفْظُ الترْمِذيّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (229) في كتاب «الطهارة» باب «في الجنب يقرأ القرآن» ، والترمذي (146)، والنسائي (1/ 144)، وابن ماجه (594)، وأحمد (2/ 61)، وابن حبان (799)(800) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمَة المرادي، قال: دخلت على عليّ رضي الله عنه أنا ورجلان: رجل منا ورجل من بني أسد، أحْسِبُ
(1)
، فبعثهما علي رضي الله عنه وجهاً، وقال: إنكما علجان
(2)
فعالجا عن دينكما
(3)
، ثم قام فدخل المخرج، ثم خرج فدعا بماء، فأخذ منه حفنة فتمسح بها
(4)
ثم جعل يقرأ القرآن، فأنكروا ذلك، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه، أو قال: يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة، هذا لفظ أبي داود.
(1)
أي: أظن أن الرجل الآخر من بني أسد ولا أتيقن به.
(2)
العلج: القوي الضخم.
(3)
أي: مارسا العمل الذي ندبتكما إليه واعملا به، وقيل: دافعا عن دينكما.
(4)
أي: غسل بتلك الحفنة يديه؛ كما صرح به في رواية الدارقطني.
وهذا الحديث مداره على عبد الله بن سلِمة - بكسر اللام - المرادي الكوفي، وهو متكلم فيه، فقد وثقه ابن حبان
(1)
، والعجلي
(2)
، ويعقوب بن شيبة
(3)
، وضعفه الأكثرون، فقد ذكر الخطابي عن الإمام أحمد أنه كان يوهن حديث عليّ هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سلمة
(4)
، وأسنده عنه ابن عدي في «الكامل» من طريق أبي طالب قال:(قال أحمد بن حنبل: لم يرو أحد «لا يقرأ الجنب» غير شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي)
(5)
، وقال الشافعي:(وأحبُّ للجنب والحائض أن يدعا القرآن احتياطاً، لما روي فيه، وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه)
(6)
ووهَّنَه ابن المنذر
(7)
.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة: (سمعت عبد الله بن سلمة يحدثنا، وإنا لنعرف وننكر، وكان قد كبر)، نقله الذهبي
(8)
، وهذا يدل على أن ابن سلمة وإن قيل: إنه ثقة فقد تغير حفظه في آخر عمره، وأن عمرو بن مرة إنما روى عنه في هذه الحالة، فهذا مما يوهن الحديث ويضعفه
(9)
.
وقد مال الشيخ عبد العزيز بن باز إلى تأييد كلام الحافظ المتقدم، وقال: إنه حديث حسن تقوم به الحجة، وعبد الله بن سلمة صدوق وإن كان قد تغير بأخرة، لكن سياقه للحديث يدل على حفظه له، فإنه ساقه وذكر قصة عليّ مع الرجلين.
وحكم الترمذي بصحته فقال: (حديث عليّ هذا حديث حسن صحيح)
(10)
، وكذا ابن السكن، وعبد الحق، والبغوي
(11)
.
(1)
"الثقات"(5/ 12).
(2)
"تاريخ الثقات" ص (528).
(3)
"تهذيب التهذيب"(5/ 213).
(4)
"معالم السنن"(1/ 156)، وانظر "العلل" للإمام أحمد -رواية عبد الله- (1/ 482)، (4/ 221).
(5)
"الكامل"(4/ 170)، وانظر:"موسوعة أحكام الطهارة"(7/ 55).
(6)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 323).
(7)
"الأوسط"(2/ 100).
(8)
"الميزان"(2/ 430).
(9)
"إرواء الغليل"(1/ 241).
(10)
"جامع الترمذي"(1/ 274).
(11)
انظر: "الأحكام الوسطى"(1/ 204)، "شرح السنة"(2/ 41)، "التلخيص"(1/ 147).
وقال شعبة: (هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال: لا أدري أحسن منه عن عمرو بن مرة)، وقال الحافظ:(والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة)
(1)
.
وقد توبع عبد الله بن سلمة على معنى هذا الحديث، فقد ورد من طريق عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السِّمْط، عن أبي الغَريف، قال: أُتي علي رضي الله عنه بوضوء فمضمض
…
ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية)
(2)
.
وورد في الباب حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن»
(3)
.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن الجنب لا يقرأ شيئاً من القرآن حتى يغتسل، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، قالوا: وما ذكر في الباب وإن كان في بعضه مقال لكنه يقوي بعضه بعضاً، واستثنت المالكية
(1)
"فتح الباري"(1/ 408).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 220)، وأبو يعلى (365) وإسناده حسن إن شاء الله، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:(إسناده جيد). اهـ، عائذ بن حبيب وثقه ابن معين وابن حبان؛ وأثنى عليه الإمام أحمد. وعامر بن السمط وثقه يحيى بن سعيد القطان والنسائي؛ وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن معين:(صالح)، وأبو الغريف: روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال أبو حاتم (5/ 313):(كان على شُرطة علي رضي الله عنه، وليس بالمشهور، قيل له: هو أحب إليك أو الحارث الأعور؟ قال: الحارث أشهر، وهذا شيخ تكلموا فيه، من نظراء أصبغ بن نباتة). وأصبغ هذا قال فيه الحافظ: (متروك). والحديث أعلَّه الدارقطني في "السنن"(1/ 118) بالوقف.
(3)
أخرجه الترمذي (131)، وابن ماجه (595)، من طريق إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة لا يحتج بها أهل العلم بالحديث، وقد تفرد بهذا الحديث، كما قال الترمذي رحمه الله، وقد أُعِلَّ بالوقف على ابن عمر رضي الله عنهما كما في "علل ابن أبي حاتم"(1/ 49).
اليسير لنحو تَحَصُّنٍ، كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، وقالت الشافعية: يجوز ما كان بقصد الذكر لا بقصد القرآن، وقال أحمد:(يرخص للجنب أن يقرأ آية ونحوها)
(1)
.
والقول الثاني: أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وهو قول ابن حزم
(2)
، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد ذكر البخاري أنه لا يرى بالقراءة للجنب بأساً
(3)
، وهو قول سعيد بن المسيب، واختاره ابن المنذر
(4)
، واستدلوا بدليلين:
الأول: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه
(5)
، قالوا: والقرآن ذكر، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} ، قال الحافظ ابن حجر:(الذكر أعمُّ من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فُرق بين الذكر والتلاوة بالعرف)
(6)
وقد نازع بعض أهل العلم في هذا الاستدلال، لكن يرد عليه أن لفظ الذكر جاء على لسان الشرع، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة العرفية كما في الأصول
(7)
.
الثاني: أن الأصل عدم التحريم حتى يرد الدليل الصحيح الناقل عن البراءة الأصلية، وأجابوا عن أحاديث الباب بأنها معلولة - كما تقدم - وعلى فرض تسليم الاستدلال بها فليس فيها نهي، وإنما هي حكاية فعل
(8)
.
والقول بالجواز فيه وجاهة، لما علمت من كلام الأئمة على أحاديث المنع، ومعلوم تشدد الأئمة في الأحاديث التي يستدل بها في الحلال
(1)
"حاشية الدسوقي"(1/ 138، 139)، "المجموع"(2/ 178)، "الإنصاف"(1/ 243).
(2)
"المحلى"(1/ 77).
(3)
انظر: "المحلى"(1/ 77، 80)، "الأوسط"(2/ 98)، "فتح الباري"(1/ 407).
(4)
"الأوسط"(2/ 99، 100).
(5)
أخرجه مسلم (337) وقد تقدم.
(6)
"فتح الباري"(1/ 408).
(7)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (2/ 45)، "موسوعة أحكام الطهارة"(11/ 300).
(8)
"المحلى"(1/ 78)، "التلخيص"(1/ 147).
والحرام، فأحاديث الباب غير ناهضة على المنع، فيكون الحكم باقياً على الأصل، ويؤيده ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما، لكن الاحتياط الذي أبداه الإمام الشافعي وجيه جداً، لا سيما وأن الجنب يمكنه رفع الحدث غالباً.
وأما الحائض فيجوز لها قراءة القرآن، لأن الأصل هو الجواز حتى يثبت الدليل الناقل، ولم يثبت في حكم قراءتها نص، وقياسها على الجنب لا يصح، لوجود الفارق، وقد نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم
(1)
، ومن أهل العلم من قيد الجواز بالحاجة، كالأوراد، أو كونها معلمة أو نحو ذلك
(2)
والأظهر الجواز مطلقاً، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "الفتاوى"(21/ 460)، "إعلام الموقعين"(3/ 34 - 35).
(2)
انظر: "الفتاوى"(21/ 460)، "الشرح الممتع"(1/ 291).
مشروعية الوضوء لمن عاود الجماع
117/ 10 - وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَتى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثمّ أَرَادَ أَن يَعُودَ فَلْيَتَوَضّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً» . رَوَاهُ مُسْلم.
زَادَ الْحَاكِمُ: «فَإِنّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (308) في كتاب «الحيض» باب «جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع» من طريق عاصم الأحول، قال: سمعت أبا المتوكل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
…
فذكره.
وأخرجه الحاكم (1/ 254) بزيادة: «فإنه أنشط للعود» ، وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما أخرجاه إلى قوله: «فليتوضأ» فقط، ولم يذكرا فيه «فإنه أنشط للعود». وهذه لفظة تفرد بها شعبة، عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عندهما)، وهذا فيه نظر، فقد ذكر ابن حبان أن المتفرد بهذه الزيادة مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، وليس شعبة، وقد رواه غيره عن شعبة بدونها
(1)
، وبهذا يتبين أن مسلماً أعرض عنها لهذه العلة.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا أتى أحدكم أهله)، أي: إذا جامع أهله.
(1)
"صحيح ابن حبان"(4/ 12، 13)، وانظر:"إتحاف المهرة"(5/ 359).
قوله: (ثم أراد أن يعود)، أي: للجماع مرة أخرى.
قوله: (فليتوضأ بينهما وضوءاً) مصدر مؤكد لعامله، وفائدته تأكيد أن المراد الوضوء الشرعي، وهو غسل الأعضاء الأربعة، وهذا قول بعض أهل الظاهر، وقال الفقهاء وأكثر أهل العلم: إن المراد به غسل الفرج فقط، مبالغة في النظافة واجتناباً لاستدخال النجاسة
(1)
.
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بذلك غسل الفرج، ثم الوضوء بغسل أعضائه الأربعة؛ لأن ذلك أكمل في الطهارة والنظافة، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«توضأ واغسل ذكرك، ثم نَمْ»
(2)
.
قوله: (فإنه أنشط للعود) جملة تعليلية، فيها بيان الحكمة من الأمر بالوضوء، وهي أن الوضوء يعطي الجسم قوةً، عوضاً عما حصل له من الضعف في الجماع الأول.
الوجه الثالث: الحديث دليل على شرعية الوضوء لمن جامع أهله ثم أراد أن يعود إلى الجماع مرة أخرى، وظاهر الأمر الوجوب، وحكاه القرطبي عن بعض أهل الظاهر
(3)
، وحكاه ابن حجر عن ابن حبيب المالكي أيضاً
(4)
.
وحمله الجمهور على الاستحباب
(5)
، ويدل لذلك حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ
(6)
.
لكن ينبغي له ألا يعود إلا بعد الوضوء، وقد علل لذلك بأنه أنشط للعود، مع ما في ذلك من النظافة، أما الغسل فلا يلزم، كما سيأتي.
(1)
انظر: "المفهم"(1/ 567).
(2)
أخرجه البخاري (290)، ومسلم (306)(25).
(3)
"المفهم"(1/ 566).
(4)
"فتح الباري"(1/ 376).
(5)
المصدر السابق.
(6)
أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 127)، وذكره في "فتح الباري" وسكت عنه.
وعموم الحديث يفيد أنه سواء أكانت التي يريد العود إليها هي الموطوءة أو الزوجة الأخرى؛ ممن عنده أكثر من واحدة.
أما الغسل فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم غشي نساءه ولم يحدث غسلاً بين الفعلين، وروي أنه اغتسل بعد غشيانه، عند كل واحدة، فالكل جائز، والأول أثبت.
أما الأول: فقد ورد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، قال - أي قتادة - قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين، وقال سعيد عن قتادة إن أنساً حدثهم: تسع نسوة
(1)
.
أما الثاني: فقد ورد في حديث أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر»
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (268)، ومسلم (309) وبوب عليه البخاري في كتاب، "الغسل"، وفي كتاب "النكاح":"باب إذا جامع ثم عاد، ومن دار على نسائه في غسل واحد".
(2)
أخرجه أبو داود (219)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 207 - 208)، وابن ماجه (590)، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 376)، مستدلًا به، وحسنه الألباني في "تمام المنة" ص (122).
حكم نوم الجنب قبل أن يتوضأ
118/ 11 - وَلِلأرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً. وَهُوَ مَعْلُولٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب في «الجنب يؤخر الغسل» (228)، والترمذي (118، 119)، والنسائي في «الكبرى» (8/ 212)، وابن ماجه (583) من طريق أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه (305) من طريق شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة). ورواه من طريق عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة بنحوه. وليس في هذا السياق قولها:(قبل أن يمس ماء)، ولهذا طعن الحفاظ - ومنهم الإمام مسلم
(1)
ـ في هذه الجملة من الحديث، وقالوا: إن أبا إسحاق السبيعي أخطأ فيها.
وقال أبو داود (1/ 108) سمعت يزيد بن هارون يقول: (هذا الحديث وهم)، وقال الترمذي (1/ 136):(يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق).
ونقل ابن عبد الهادي عن الإمام أحمد أنه قال: (هذا الحديث ليس صحيحاً)
(2)
.
(1)
انظر: "التمييز" لمسلم رقم (40).
(2)
"المحرر"(1/ 108).
ووجه ذلك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينام حتى يغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، كما في رواية مسلم.
قال بعضهم: ويمكن حمله على أن الماء في قولها: «من غير أن يمس ماء» هو ماء الغسل، أما الوضوء فهو ثابت.
أو يحمل الوضوء على الاستحباب، وتركه صلى الله عليه وسلم له على الجواز
(1)
، والأول ذكره البيهقي، ونسبه لأبي العباس ابن سُريج، ثم قال:(وبه نأخذ)
(2)
، والثاني قاله ابن قتيبة
(3)
.
ويؤيد ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: «نعم إذا توضأ»)، وفي رواية:«نعم ليتوضأ، ثم لينم حتى يغتسل إذا شاء»
(4)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن للجنب أن ينام دون أن يتوضأ، لكن تبين أن الحديث معلول، وعلى هذا فالصواب أن يتوضأ، وعلى فرض صحته فهو محمول على أن المراد الغسل جمعاً بين الأدلة، فيكون الوضوء ثابتاً لدلالة السنة عليه قولاً وفعلاً، فالقول كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه، والفعل كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام، وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة
(5)
.
الوجه الثالث: أخذت الظاهرية وابن حبيب من المالكية بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم، وقالوا: يجب على الجنب أن يتوضأ قبل أن ينام، وهو
(1)
"شرح صحيح مسلم" للنووي (3/ 221).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 202)، وفيه (ابن شريح) بالشين المعجمة، وصوابه ما ذكر، انظر:"معرفة السنن والآثار"(1/ 505).
(3)
"تأويل مختلف الحديث" ص (240، 241).
(4)
أخرجه البخاري (287)، ومسلم (306).
(5)
أخرجه مسلم (305).
ظاهر كلام الإمام مالك في «المدونة»
(1)
؛ لأن الحديث جاء بصيغة الأمر وبصيغة الشرط.
وذهبت الشافعية إلى كراهة ترك الوضوء وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة، واختاره ابن تيمية
(2)
، وقالت: الحنفية: إن الوضوء أفضل
(3)
، وقالت المالكية وابن حزم: يندب
(4)
.
والقول باستحباب الوضوء هو الأظهر، بل هو سنة مؤكدة، لثبوت السنة القولية والفعلية، كما تقدم، والقول بوجوبه فيه وجاهة.
أما الغسل فيجوز تأخيره إلى ما بعد الاستيقاظ، لحديث عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، قلت: كيف كان يصنع في الجنابة أكان يغتسل قبل أن ينام، أم كان ينام قبل أن يغتسل؟
قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المدونة"(1/ 135)، "التمهيد"(17/ 44).
(2)
"المهذب"(1/ 30)، "مطالب أولي النهى"(1/ 185 - 186)، "مجموع الفتاوى"(21/ 343).
(3)
"المبسوط"(1/ 73).
(4)
"حاشية الدسوقي"(1/ 138)، "المحلى"(1/ 85).
(5)
أخرجه مسلم (307).
صفة الغسل من الجنابة
119/ 12 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثمّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِل فَرْجَهُ، ثُمّ يَتَوَضَّأُ، ثمّ يَأْخُذُ المَاءَ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ في أُصُولِ الشَّعَرِ، ثمّ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثمّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثمّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللّفْظُ لمُسْلِمٍ.
120/ 13 - وَلَهمَا في حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها: (ثُمّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ، فَغَسَلهُ بِشِمالِهِ، ثُمّ ضَرَبَ بهَا الأرْضَ، وَفِي رِوَايَةٍ: (فَمَسَحَهَا بِالتّرابِ)، وَفِي آخِرِهِ:(ثُمّ أَتَيْتُهُ بِالمِنْدِيل) فَرَدّهُ، وَفِيهِ:(وَجَعَلَ يَنْفُضُ المَاءَ بِيَدِهِ).
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الغسل» وأولها باب «الوضوء قبل الغسل» (248)، ومسلم (316) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. واللفظ لمسلم، إلا أن في سياقه (فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حَفَنَ على رأسه
…
) الحديث.
لكن غسل الرجلين تفرد به أبو معاوية عن هشام، عن سائر الرواة، وقد أشار إلى هذا مسلم في «صحيحه» وأعلها أبو الفضل الشهيد
(1)
، وله شاهد من
(1)
"علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج" ص (69).
طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها. رواه أحمد (41/ 192)، وأبو داود الطيالسي (3/ 81) ومن طريقه البيهقي (1/ 174). والأكثرون على أن سماع حماد من عطاء كان قبل اختلاطه.
أما حديث ميمونة، فقد أخرجه البخاري في «الغسل» في مواضع كثيرة وأولها الباب المذكور في حديث عائشة رضي الله عنها (249)، وأخرجه مسلم (317) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثتني خالتي ميمونة .. ثم ساقه بتمامه.
وقد أورده الحافظ من أجل الزيادات التي لم ترد في حديث عائشة رضي الله عنها، لكن الظاهر أن قولها:(ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله) مذكور في الحديث الأول، وهو حديث عائشة رضي الله عنها.
وقوله: (وفي رواية: فمسحها بالتراب) أي: للبخاري، وعند مسلم:(ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً) والظاهر أنه ذكرها تفسيراً لرواية: (ثم ضرب بها الأرض).
وقوله: (وفي آخره) أي: آخر حديث ميمونة، ولم يسق لفظه اكتفاء بحديث عائشة، وإنما انتقى منه بعض ما لم يرد في الحديث الأول، فقد جاء في آخره عند مسلم بلفظ:(ثم أتيته بالمنديل فرده)، وعند البخاري:(ثم أُتي بمنديل فلم ينفُض بها)، وفي لفظ:(فناولته ثوباً فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه).
وقوله: (وفيه: وجعل ينفض بيده) هذا لفظ البخاري، وعند مسلم (وجعل يقول بالماء هكذا، يعني ينفضه).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قولها: (إذا اغتسل) أي: أراد الاغتسال، وهو من التعبير بالفعل عن إرادته، من باب المجاز المرسل، حيث أطلق المسبب وهو الاغتسال، وأراد السبب وهو الإرادة.
قولها: (من الجنابة) من: للسببية، والجنابة في الأصل: إنزال المني، ثم ألحق به الجماع على وجه شرعي، لا على وجه لغوي.
قولها: (فيغسل يديه) أي: كفيه؛ لأنهما المراد عند الإطلاق، والمراد قبل إدخالهما في الإناء.
قولها: (ثم يتوضأ) لفظ مسلم بالسياق المذكور: (ثم يتوضأ وضوءه للصلاة)، وعند البخاري في رواية:(ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة).
قولها: (فيدخل أصابعه في أصول الشعر) أي: يدخل أصابعه مفرقة في أصول شعره، وهي: أسافله مما يلي بشرة الرأس، وإنما فعل ذلك ليُليِّن الشعر ويرطبه، فيسهل مرور الماء عليه.
قولها: (حتى إذا رأى أن قد استبرأ)، أي: أوصل البلل إلى جميع الرأس.
قولها: (ثم حَفَنَ على رأسه)، أي: أخذ الماء بيديه جميعاً، وهو فعل من باب (ضرب)، والحفنة: ملء الكفين، والجمع: حفنات.
قولها: (ثم أفاض على سائر جسده)، أي: صب الماء على باقي جسده، قال الأزهري:(اتفق أهل اللغة أن (سائر) الشيء: باقيه قليلاً أو كثيراً)
(1)
.
قولها: (ثم أفرغ على فرجه) أي: صَبَّ، تقول: أفرغت الشيء: صببته إذا كان يسيل.
قولها: (ثم ضرب بها الأرض) تفسره الرواية الأخرى التي ذكرها بعدها، وهي قوله:(فمسحها بالتراب)، أي: مسح بيده الأرض ودلكها ليزيل ما عَلِقَ بعد غسل الفرج.
قولها: (ثم أتيته بالمنديل) نسيج من قطن أو حرير أو نحوهما، ولفظه مذكر، قاله ابن الأنباري وجماعة، تقول: تمندلت بالمنديل وتندلت: تمسَّحت به، وحذف الميم أكثر، حتى إن الكسائي أنكر: تمندلت، بالميم
(2)
.
(1)
"تهذيب اللغة"(13/ 47).
(2)
"اللسان"(11/ 653).
قولها: (فردَّه) أي: لم يأخذه، وفي رواية:(فناولته خرقة فلم يُرِدْهَا) وهي بضم الياء وكسر الراء المخففة، أي: لم يأخذها، كما في رواية أخرى.
قولها: (وجعل ينفض الماء بيده) أي: يسلته من على جسده، وقولها:(بيده) يحتمل بيد واحدة أو باليدين الثنتين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الغسل من الجنابة على هذه الكيفية، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيبدأ بغسل كفيه ثلاثاً - كما في بعض الروايات - لأنهما أداة غرف الماء من الإناء، ثم يغسل فرجه فينظفه؛ لأنه محل التلوث في الجنابة، ثم يدلك يده اليسرى على الأرض لإزالة ما علق بها من غسل الفرج، ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً، ثم يخلل بيده شعر رأسه بالماء إن كان شعره كثيفاً، فإذا ظن أنه أرواه صب عليه الماء ثلاث مرات، ثم يغسل باقي جسده بعد ذلك، ثم يغسل رجليه؛ لأن كل ما تحدر من جسده من أوساخ وفضلات أصابت رجليه، فكان حقهما أن يُطهرا بعد ذلك، وقد جاء في بعض الروايات من حديث ميمونة رضي الله عنها:(ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه) وهذا أبلغ في تطهيرهما.
واعلم أن صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم جاء من حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وبينهما بعض الفروق في الصفة، وهذا كثير في العبادات؛ يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه متنوعة، فيكون في ذلك توسعة على الأمة، فعلى أي وجه فعلوها مما ورد أدركوا السنة، وتمام السنة أن يفعلوها على الوجوه كلها، أحياناً على وجه، وأحياناً على الوجه الآخر.
وقد ذكر العلماء أنه إذا عمّ بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق أجزأ ذلك ولو لم يتوضأ قبله، لكنه ترك السنة، لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ومن عَمَّ بدنه بالغسل مرة واحدة صدق عليه أنه تطهر، ولأن الله تعالى لم يفصِّل في الغسل، كما فصّل في الوضوء، فدل على أنه لا يجب الغسل على صفة معينة، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان جنباً ولم يصل:«خذ هذا وأفرغه عليك»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (344) وأصله في مسلم (682).
الوجه الرابع: ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها في قولها: (ثم يتوضأ)، وفي رواية للبخاري:(ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة)، وعند البخاري ومسلم:(ثم يتوضأ وضوءه للصلاة)، وهكذا جاء في حديث ميمونة في رواية عند البخاري ومسلم، ظاهر ذلك أنه غسل رجليه، وظاهر حديث ميمونة عند البخاري في رواية:(توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه) أنه لم يغسل رجليه مع وضوئه، وإنما أخرهما إلى نهاية الغسل، لقولها في رواية:(ثم تنحى فغسل رجليه)، وفي رواية للبخاري من حديث عائشة:(ثم يتوضأ وضوءه للصلاة)، وفي آخره قالت:(ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه)، وقد تقدم تفرد أبو معاوية بذكر غسل الرجلين بعد الوضوء ونهاية الغسل، فإما أن تكون هذه الرواية معلولة، أو تحمل على حديث ميمونة، ويكون المراد بقولها:(ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) غير رجليه
(1)
، أو يحمل على جواز الأمرين: غسلهما مع الوضوء، أو تأخير غسلهما.
الوجه الخامس: لم يرد في هذا السياق ذكر المضمضة والاستنشاق، وورد ذكرهما في حديث ميمونة عند البخاري بلفظ:(ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه)
(2)
، والظاهر أنهما داخلان في عموم قولها:(ثم توضأ وضوءه للصلاة) وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب، والمضمضة والاستنشاق من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء سقطت توابعه
(3)
، لكن تعقبه الحافظ بأن جماعة من أهل العلم ذهبوا إلى وجوبه، منهم أبو ثور، وداود الظاهري
(4)
.
وقد ذهبت الحنفية - كما ذكر الحافظ - إلى وجوب المضمضة والاستنشاق، لفعله صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا من باب بيان الغسل المأمور به في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز
(5)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 361).
(2)
"صحيح البخاري"(259).
(3)
"شرح ابن بطال"(1/ 375).
(4)
"فتح الباري"(1/ 360).
(5)
"فتح الباري"(1/ 362).
الوجه السادس: الحديث دليل على أنه يكتفى بغسل الجسد مرة واحدة ولا يكرر، لقولها:(ثم أفاض على سائر جسده) فلم تقيده بعدد، فيحمل على أقل ما يسمى، وهو المرة الواحدة؛ لأن الأصل عدم الزيادة، وقد بوَّب البخاري على حديث ميمونة «باب الغسل مرة واحدة» وفيه:(ثم أفاض على جسده)
(1)
.
والمشهور من مذهب الحنابلة أنه يغسل جسده ثلاث مرات، قياساً على أعضاء الوضوء؛ لأنه يشرع فيها التثليث.
والصحيح الأول، وهو أنه لا يشرع تثليث غسل الجسد، بل يغسل مرة واحدة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(من نقل غُسْلَ النبي صلى الله عليه وسلم كعائشة وميمونة رضي الله عنهما لم ينقل أنه غسل بدنه كله ثلاثاً، بل ذكر أنه بعد الوضوء وتخليل أصول الشعر حثا حثية على شق رأسه، وأنه أفاض الماء بعد ذلك على سائر بدنه)
(2)
.
والذين استحبوا الثلاث إنما ذكروه قياساً على الوضوء، والسنة قد فرقت بينهما، قال الزركشي:(وهو ظاهر الأحاديث)
(3)
.
الوجه السابع: استدل بهذا الحديث من قال باستحباب ترك التنشف بالمنديل بعد الغسل أو الوضوء، لقولها:(ثم أتيته بالمنديل فرده)، وفي رواية:(فناولته ثوباً فلم يأخذه، وانطلق وهو ينفض الماء)
(4)
، ولأن ما على البدن أو على أعضاء الوضوء هو من أثر العبادة، فينبغي بقاؤها، ويدل لذلك - أيضاً - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب فقال لنا:«مكانكم» ، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه
(5)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 368).
(2)
"الفتاوى"(20/ 369 - 370).
(3)
"شرح مختصر الخرقي"(1/ 311).
(4)
"صحيح البخاري"(276).
(5)
أخرجه البخاري (640).
فقوله: (ثم خرج ورأسه يقطر) دليل على أنه لم يتمسح بشيء، وهذا قول الشافعية في الصحيح عندهم من أوجه خمسة هذا أحدها
(1)
.
وذهب الجمهور إلى أن التنشف مباح يستوي فعله وتركه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل ينفض الماء بيده ولم يَنْهَ عنه، وأما رده المنديل في حديث ميمونة فهو كما قال الحافظ واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، إما لسبب في المنديل، كعدم نظافته، أو يخشى أن يبله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، أو لكونه كان مستعجلاً أو غير ذلك
(2)
، وعندي أن الاحتمال الأول فيه نظر.
وقال بعض العلماء: إن هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل، وقال ابن دقيق العيد:(نفضه الماء بيده دليل على أنه لا كراهة في التنشيف؛ لأن كلًّا منهما إزالة)
(3)
.
وقد جاء عند أبي داود في حديث ميمونة رضي الله عنها من طريق الأعمش، عن سالم، عن كريب به. وفي آخره قول الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم - يعني النخعي - فقال: كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، ولكن كانوا يكرهون العادة
(4)
، والمعنى أن السلف لا يرون بالمنديل بأساً، ولكنهم يكرهونه مخافة أن يصير عادة بعد الوضوء
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المجموع"(1/ 461).
(2)
"فتح الباري"(1/ 363).
(3)
"إحكام الأحكام"(1/ 386).
(4)
"سنن أبي داود"(245).
(5)
انظر: "بلوغ الأماني"(2/ 136 - 137).
حكم نقض المرأة شعرها في الغسل
121/ 14 - وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغسْلِ الْجَنَابَةِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَيْضَةِ؟ فقال: «لَا، إنّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه مسلم (330) في كتاب «الحيض» باب «حكم ضفائر المغتسلة» من طريق سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال:«لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تُفيضين عليك الماء فتطهرين» .
وفي رواية لمسلم - أشار إليها الحافظ - من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أيوب .. ولفظه:(أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ قال: لا .. ).
وقد حكم ابن القيم على هذه الرواية، وهي رواية عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، بأنها غير محفوظة
(1)
، وتبعه على هذا الألباني
(2)
، وذلك لتفرد عبد الرزاق بها عن الثوري، وقد رواه عن الثوري يزيد بن هارون، ورواه سفيان بن عيينة، وروح بن القاسم، عن أيوب بن موسى، ولم يذكروا لفظة
(1)
"تهذيب مختصر السنن"(1/ 165).
(2)
"إرواء الغليل"(1/ 168).
(الحيضة) قال ابن القيم: (والصحيح في حديث أم سلمة الاقتصار على ذكر الجنابة دون الحيض، وليست لفظة: «الحيض» بمحفوظة)، ثم ساق الروايات في هذا، ثم قال:(فقد اتفق ابن عيينة وروح بن القاسم عن أيوب، فاقتصر على الجنابة، واختلف فيه على الثوري، فقال يزيد بن هارون عنه كما قال ابن عيينة وروح، وقال عبد الرزاق عنه: «أفأنقضه للحيضة والجنابة؟»، ورواية الجماعة أولى بالصواب، فلو أن الثوري لم يختلف عليه لترجَّحت رواية ابن عيينة وروح، فكيف وقد روى عنه يزيد بن هارون مثل رواية الجماعة؟ ومن أعطى النظر حقه علم أن هذه اللفظة ليست محفوظة في الحديث)
(1)
.
وروى مسلم - أيضاً - (331) من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا!! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (أشد شعر رأسي) لفظ مسلم (ضَفْر رأسي) كما تقدم، وكأن المصنف رواه بالمعنى، والمشهور في (ضَفْر) فتح الضاد وإسكان الفاء، ومعناه هنا: أُحْكِمُ فتل شعري، مصدر ضفر الشَّعْرَ وغيره: نسج بعضه على بعض أو جعله ضفائر بثلاث طاقات، وهو من باب التسمية بالمصدر، كالصيد ونحوه، ويجوز ضمهما معاً، جمع ضفيرة كسفينة وسفن، وهي كل خصلة من الشعر مفتولة أو مجدولة على حدة.
قولها: (أفأنقضه) هذا يقوي المعنى الأول، وعند النسائي وغيره:(أفأنقضها) وهذا يقوي المعنى الثاني، وهو أنه جمع ضفيرة.
قوله: (أن تحثي .. حثيات) بالثاء المثلثة، يقال: حثا الرجل التراب
(1)
"تهذيب مختصر السنن"(1/ 165 - 168).
يحثوه حثواً، ويحثيه حثياً، إذا أهاله بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده ثم رماه، والمراد بالحثيات هنا: جمع حثية، وهي الحفنة التي هي ملء الكفين من الماء، وهذا على التشبيه، لما تقدم.
قوله: (ثم تُفيضين) بضم التاء، من أفاض الماء: صبه - وقد تقدم قبل هذا - أي: تصبين الماء على جسدك حتى يسيل.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجب على المرأة نقض شعرها للغسل من الجنابة أو الحيض، لما في ذلك من المشقة، ولا سيما في غسل الجنابة، بل تكتفي في ذلك بثلاث غرفات، تحثوها على رأسها.
وهذا هو قول الجمهور من أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها الموفق
(1)
، والمجد، والشارح عبد الرحمن بن قدامة
(2)
، وهو أنه لا يجب نقضه لا في غسل الجنابة ولا في غسل الحيض.
قال في الشرح الكبير: (ولا يجب على المرأة نقض شعرها لغسلها من الجنابة رواية واحدة، إذا رَوّتْ أصوله، ولا نعلم في هذا خلافاً، إلا أنه روي عن ابن عمرو .. وهو قول النخعي، ولا نعلم أحداً وافقهما على ذلك .. )
(3)
.
أما نقضه في غسل الحيض ففيه قولان:
الأول: أنه لا يجب نقضه في غسل الحيض، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في قول، واستدلوا بحديث أم سلمة المذكور
(4)
.
الثاني: أنه يجب نقضه، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقول الظاهرية
(5)
، وبعض المالكية، واختاره ابن القيم
(6)
.
(1)
"المغني"(1/ 298).
(2)
"الشرح الكبير"(2/ 137).
(3)
المصدر السابق (2/ 137).
(4)
"حاشية الدسوقي"(1/ 134)، "المجموع"(1/ 215)، "الإنصاف"(1/ 256).
(5)
"المحلى"(2/ 53)، "الإنصاف"(1/ 256).
(6)
"تهذيب مختصر السنن"(1/ 167).
واستدلوا بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «انقُضي رأسك وامتشطي»
(1)
.
وعند ابن ماجه: «انقضي رأسك واغتسلي»
(2)
، وقد شك الألباني في لفظة:(واغتسلي)، لكون الحديث في الصحيحين بدونها
(3)
، وهذا الحديث وإن كان في غسل الإحرام؛ فإن أمره بالنقض في هذا الغسل وهو غير رافع لحدث الحيض تنبيه على وجوب نقضه إذا كان رافعاً لحدثه من باب أولى.
والقول الأول أرجح، وهو أنه لا يجب نقض الرأس عند الغسل من الحيض لقوة أدلته، ومما يقويه إنكار عائشة رضي الله عنها على عبد الله بن عمرو، كما تقدم، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الشعر ملبداً لا يصل الماء إلى أصوله بالصب، فيجب نقضه عند ذلك.
أما أدلة القول الثاني: فإن حديث عائشة ليس فيه أمر بالغسل في رواية الصحيحين، ولو سلم بالأمر بالغسل لم يكن فيه حجة؛ لأن ذلك ليس هو غسل الطهارة من الحيض، وإنما أمرت بالغسل في حال الحيض للإحرام بالحج
(4)
، لقولها:(أدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي»)، ولو ثبت الأمر به حمل على الاستحباب، جمعاً بينه وبين حديثها المذكور في الباب.
والحكمة من التفريق بين الجنابة والحيض - عند القائل به - هو أن الأصل وجوب نقض الشعر، ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله، فعفي عنه في غسل الجنابة؛ لأنه يكثر فيشق ذلك فيه، بخلاف الحيض فالغالب أنه في الشهر مرة، فلا مشقة في نقضه، فيبقى على مقتضى الأصل، وهو الوجوب، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (316)، ومسلم (1211).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 210)، وانظر:"الصحيحة" للألباني رقم (188).
(3)
"الإرواء"(1/ 167).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (2/ 204).
تحريم المسجد على الحائض والجنب
122/ 15 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إني لَا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (232) في «الطهارة» بابٌ في «الجنب يدخل المسجد» ، وابن خزيمة (1327)، من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا الأفلت بن خليفة، قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة
(1)
، قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال:«وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً، رجاءَ أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال:«وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» .
وقد اختلف العلماء في تصحيح هذا الحديث والاحتجاج به.
فقد صحَّحه ابن خزيمة، كما ذكر الحافظ، وحسَّنه ابن القطان والزيلعي، كما صححه الشوكاني
(2)
، وقد نقل الحافظ - هنا - تصحيح ابن خزيمة، فكأنه يميل إلى تصحيحه، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:(لا بأس بإسناده).
(1)
بكسر الدال، "المؤتلف والمختلف" للدارقطني (2/ 990).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 332)، "نصب الراية"(1/ 194)، "نيل الأوطار"(1/ 270).
وضعفه آخرون منهم البيهقي، فقال:(ليس بالقوي)، وقال عبد الحق:(لا يثبت)، وبالغ ابن حزم فقال:(إنه باطل)
(1)
.
وذلك لأن مداره على جسرة بنت دجاجة، ولم يوثقها من يعتمد على توثيقه، فقد وثقها ابن حبان والعجلي
(2)
، وقال عنها البخاري:(عند جسرة عجائب)
(3)
وهذا يفيد تضعيفها. وقال الدارقطني: (يعتبر بحديثها إلا أن يحدث عنها من يترك)
(4)
.
ثم إنها قد اضطربت في رواية الحديث، فمرة قالت: عن عائشة، كما في هذا السياق، ومرة قالت: عن أم سلمة، كما عند ابن ماجه (645)، وهذا مما يوهن الحديث؛ لأنه يدل على عدم ضبط الراوي وحفظه.
وبالإضافة إلى ذلك، ففي حديثها هذا مخالفة لأحاديث الثقات فيما يتعلق بسد الأبواب إلى المسجد، فقد قال عروة وعباد بن عبد الله، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:«سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر» ، قال البخاري:(وهذا أصح).
وعلى ما تقدم فهي علة ضعف هذا الحديث، أما تضعيفه بأفلت بن خليفة - كما قال ابن حزم وغيره - وأنه مجهول الحال، فليس بصحيح؛ فإنه روى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد، وقال أحمد:(ما أرى به بأساً)
(5)
، وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال:(شيخ)
(6)
، وحكى البخاري أنه سمع من جسرة بنت دجاجة.
وقال ابن القطان: (إن قول البخاري في جسرة: عندها عجائب، لا يكفي لمن يسقط ما روت)
(7)
، وهذا فيه نظر، فإن اضطرابها في الرواية،
(1)
"السنن الكبرى"(2/ 443)، "المحلى"(2/ 186).
(2)
"الثقات"(4/ 121)، "تاريخ الثقات"(2087).
(3)
"التاريخ الكبير"(2/ 67).
(4)
"سؤالات البرقاني للدارقطني"(69).
(5)
"العلل"(3/ 136).
(6)
"الجرح والتعديل"(2/ 346).
(7)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 331).
وتفردها بهذا الحديث عن عائشة دون أصحاب عائشة الكبار، ومخالفة حديثها هذا لما ذكره البخاري كلها قرائن تطعن في الحديث، والله أعلم.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبث الجنب والحائض في المسجد، ومثل الحائض النفساء، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وكذا الحنابلة في الحائض
(1)
، ومن أدلتهم - أيضاً - قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، قالوا: إن المراد بالصلاة: أماكنها، وهي المساجد، والمعنى: لا تقربوا المُصَلّى للصلاة وأنتم سكارى
…
ولا تقربوه جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، أي: مجتازين للخروج منه، فكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما بأسانيد فيها مقال، وثبت هذا التفسير عن جماعة من التابعين، كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وذهب إلى هذا التفسير الشافعي
(2)
.
ورجحه ابن جرير
(3)
، وابن كثير
(4)
؛ وقال: (هو الظاهر من الآية)، ومال إليه القرطبي
(5)
؛ والشوكاني
(6)
، قالوا: ولا يراد بالآية: الصلاة، وبقوله:{إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} المسافر؛ لأن التيمم لا يخص المسافر، ولأنه بين حكم المسافر في آخر الآية:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، لكن صحَّ هذا التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال جماعة من التابعين
(7)
، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النهي في الآية عن قربان الصلاة وعن قربان مواضعها
(8)
.
(1)
"شرح فتح القدير"(1/ 165)، "بدائع الصنائع"(1/ 38)، "حاشية الدسوقي"(1/ 173)، "المجموع"(2/ 160)، "المغني"(1/ 200).
(2)
"الأم"(1/ 70، 71)، "الأوسط"(2/ 108).
(3)
"تفسير الطبري"(8/ 379 - 384).
(4)
"تفسير ابن كثير"(2/ 275).
(5)
"تفسير القرطبي"(5/ 207).
(6)
"تفسير الشوكاني"(1/ 469).
(7)
"تفسير الطبري"(8/ 379).
(8)
"الفتاوى الكبرى"(1/ 126).
قال الجمهور: ويقاس على الجنب الحائض، فإذا نُهي عن قربان مواضع الصلاة، فهي أولى بالنهي، لأن حدثها أغلظ، فهو يمنع الصيام، ويسقط الصلاة، والجنب مأمور بالصيام، ومأمور بالصلاة إذا تطهر
(1)
.
والقول الثاني: أنه يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يدخلوا المسجد ويمكثوا فيه، وبه قال ابن حزم، وذكره قولاً لداود
(2)
، وهو قول ابن المنذر، والمزني
(3)
، واستدلوا بما يلي:
1 -
أن الأصل في الأشياء الإباحة وعدم التحريم، وليس مع من حرم المسجد على من ذُكِرَ دليل صحيح
(4)
.
2 -
ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أن وليدةً سوداءَ كانت لحي من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد أو حِفْش
(5)
قال ابن حزم: (فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعهود من النساء الحيض، فما منعها صلى الله عليه وسلم من ذلك ولا نهى عنه، وكل ما لم ينه عليه الصلاة والسلام عنه ويأمر به فمباح)
(6)
.
3 -
أن أهل الصُّفَّة كانوا يبيتون في المسجد
(7)
.
وقد بوب البخاري على ذلك بقوله: (باب نوم الرجال في المسجد)، ومن ينام في المسجد لا سيما إذا كان ملازماً له فإنه لا يسلم من الاحتلام.
والقول الثالث: أنه يجوز للجنب فقط أن يمكث في المسجد إن كان متوضئاً، وبه قال الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(8)
لما روى سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
"المغني"(1/ 200).
(2)
"المحلى"(2/ 184).
(3)
"الأوسط"(2/ 110).
(4)
"المجموع"(2/ 160).
(5)
أخرجه البخاري (439)، وابن خزيمة (2/ 287)، وسيأتي ضمن أحاديث "البلوغ" رقم (261).
(6)
"المحلى"(2/ 186).
(7)
"فتح الباري"(1/ 535).
(8)
"الفتاوى"(21/ 344 - 345)(26/ 178).
يجلسون في المسجد، وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة
(1)
.
وروى حنبل بن إسحاق عن أبي نعيم، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ ثم يدخل المسجد فيتحدث
(2)
. ولأن الوضوء يخفف حدثه فيزول بعض ما يمنعه، كما تقدم في الجنب إذا أراد أن ينام أنه يتوضأ، لكن هذا الأثر عن الصحابة رضي الله عنهم حكاية فعل، والفعل المجرد من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب، فكيف من غيره
(3)
؟ كما علم من الأصول.
وسبب الخلاف في هذه المسألة أمران:
الأول: الاختلاف في تفسير الآية المتقدمة، وهل النهي فيها عن الصلاة؛ والمراد بعابر السبيل: المسافر، أو أن المراد: مواضعها، والمراد بعابر السبيل: المجتاز المار في المسجد للخروج منه؟
الأمر الثاني: الاختلاف في تصحيح الحديث وتضعيفه.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور (646) من طريق عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال:
…
فذكره.
وهذا سند حسن، عبد العزيز بن محمد الدراوردي من رجال مسلم، لكن فيه ضعف من قبل حفظه، فهو كما لخص الذهبي حاله في "الميزان" (2/ 633) وفي "السير" (8/ 368): بأنه صدوق حسن الحديث. وأما قول الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(2/ 275): (هذا إسناد صحيح على شرط مسلم) ففيه نظر، لما تقدم.
وهشام بن سعد قال عنه الحافظ في "التقريب": (صدوق له أوهام)، ويستثنى من ذلك روايته عن زيد بن أسلم، فإنه ثقة فيه، لطول ملازمته له ومعرفته بحديثه، ولذا نقل الآجري عن أبي داود أنه قال:(هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم)["تهذيب التهذيب" (11/ 37)].
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 146) عن شيخه وكيع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال:(كان الرجل منهم يجنب، ثم يدخل المسجد، فيحدث فيه).
وهذا السياق ورد بدون ذكر عطاء بن يسار، فهل الدراوردي زاد في الإسناد الأول عطاء، أو أن هذا حديث آخر؟ أشار إلى هذا محقِّق "سنن سعيد".
(3)
انظر: "موسوعة أحكام الطهارة"(11/ 284).
وقد ذهب الجمهور إلى أن الجنب لا يلبث في المسجد، استدلالاً بالآية الكريمة، على أن المراد بالصلاة: موضعها، وهو المسجد، كما رجحه ابن جرير وابن كثير، وأخذاً بالحديث على رأي من صححه، وأما على التفسير الأول، وهو أن الصلاة باقية على حقيقتها، والمعنى: لا تصلوا وأنتم سكارى، ولا أنتم جنب إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا
(1)
، فلا يكون في الآية دليل على منع الجنب من دخول المسجد واللبث فيه، ولا يبقى في المسألة إلا حديث الباب وقد علمت ما فيه.
وأما الحائض فليس في منعها من المسجد إلا حديث الباب، وأما القياس على الجنب ففيه نظر، للفارق بينهما، وهو قدرته على التطهر دونها، وعلى هذا فيجوز لبثها في المسجد، وعليها أن تحترز من إصابة المسجد بالأذى؛ لما سيأتي - إن شاء الله - من الأدلة في الحث على نظافة المساجد، ومن أهل العلم من خصَّ لبثها بالضرورة، وهو قول المالكية، وشيخ الإسلام ابن تيمية - كما لو خافت من يقتلها إذا لم تدخل المسجد أو كان البرد شديداً أو فيه مطر، أو نحو ذلك
(2)
.
أما عبورها في المسجد أو أخذها شيئاً منه مثل سجادة أو كتاب فهذا يجوز، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخُمرة
(3)
من المسجد»، قالت: فقلت: إني حائض، فقال:«إن حيضتك ليست في يدك»
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "تفسير آيات الأحكام" للسايس (2/ 107).
(2)
"حاشية الدسوقي"(1/ 174)، "الفتاوى"(26/ 177).
(3)
الخمرة: السجادة، سميت خمرة لأنها تخمر الوجه أي: تغطيه.
(4)
أخرجه مسلم (298).
حكم غسل الرجل مع امرأته من إناء واحد
123/ 16 - وَعَنْهَا قَالتْ: كُنْتُ أَغْتَسلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينا فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ. مُتّفَقٌ عَلَيْهِ، زَادَ ابْنُ حِبّانَ: وَتَلْتَقِي.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في «الغسل» باب «غسل الرجل مع امرأته» ، وباب «هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها» (261)، ومسلم (321)(45) من طريق عبد الله بن مسلمة، حدّثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ لمسلم، لأن البخاري ليس عنده لفظة:(من الجنابة).
وأخرجه ابن حبان (3/ 395) من طريق ابن وهب قال: حدثني أفلح بهذا الإسناد، ولفظه:(سمعت عائشة تقول: إن كنت لأغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه وتلتقي) وسنده صحيح.
قال الحافظ: (وللإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان، عن أفلح: (تختلف فيه أيدينا، يعني: حتى تلتقي)، وللبيهقي من طريقه:(تختلف أيدينا فيه، يعني وتلتقي)، وهذا يشعر بأن قوله:(وتلتقي) مدرج، وسيأتي في باب (تخليل الشعر) من وجه آخر عنها:(كنا نغتسل من إناء واحد نغترف منه جميعاً) فلعل الراوي قال: وتلتقي بالمعنى)
(1)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يجوز في (رسول الله)
(1)
"فتح الباري"(1/ 373).
النصب على أنه مفعول معه، والرفع عطفاً على الضمير المستتر في (أغتسل) وهو أحسن من النصب، لأن العطف على الضمير المستتر مع الفصل بالضمير المنفصل قوي، وفيه تغليب المتكلم على الغائب إيذاناً بأن النساء محل الشهوات وحاملات للاغتسال، فكنّ أصلاً فيه.
قولها: (تختلف أيدينا فيه) الاختلاف ضد الاتفاق، والمراد بذلك أن يدخل كل واحد منهما يده ويغرف من الإناء بعد يد الآخر، فيكون كل واحد منهما اغتسل بفضلة الآخر.
وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم: (من إناء واحد من قدح يقال له الفَرَق) قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع.
قولها: (من الجنابة) متعلق بالفعل (أغتسل) و (من) للسببية.
قولها: (وتلتقي) أي: تجتمعان أثناء الأخذ والغرف من الإناء.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد، وأن ذلك لا يؤثر في طهارة الماء، وجواز رؤية كل واحد منهما عورة الآخر، ويدل لذلك - أيضاً - قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج: 29، 30].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن وضع الجنب يده في الإناء الذي فيه ماءُ غُسْلِهِ لا يسلبه الطهورية، وذلك أن اليد إذا كانت نظيفة ليس عليها قذر جاز إدخالها في الإناء؛ لأنه ليس شيء من أعضاء الجنب نجساً بسبب كونه جنباً، ولو كانت الجنابة تتصل بالماء حكماً لما جاز للجنب أن يدخل يده في الإناء حتى يكمل طهارته، ويزول حدث الجنابة عنه، فلما جاز إدخالها في أثناء الغسل علم أن الجنابة ليست مؤثرة في مباشرة الماء باليد، فلا مانع من إدخالها أولاً كإدخالها وسطاً
(1)
.
(1)
"المتواري" ص (75، 76).
وعن عامر الشعبي قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب، والنساء وهن حُيَّضٌ، لا يرون بذلك بأساً، يعني قبل أن يغسلوها)
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 82)، وعلقه البخاري (1/ 372 فتح).
وجوب العناية بغسل الجنابة
124/ 17 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنّ تَحْتَ كلِّ شَعَرَةٍ جَنَابَةً، فَاغْسِلوا الشَّعَرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَر» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتّرْمِذِيّ وَضَعّفَاهُ.
125/ 18 - وَلأحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول: فقد أخرجه أبو داود في «الطهارة» ، باب «الغسل من الجنابة» (248)، والترمذي (106)، وابن ماجه (597) كلهم من طريق نصر بن علي، حدثنا الحارث بن وجيه، قال: حدثنا مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعاً.
قال أبو داود: (الحارث بن وجيه حديثه منكر، وهو ضعيف). وقوله: (منكر) أي: لتفرد الحارث به، وهو ضعيف، فلا يعتمد على روايته، وقال الترمذي:(حديث الحارث بن وجيه حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة، وقد تفرد بهذا الحديث عن مالك بن دينار).
وقد ضعف العلماء هذا الحديث لضعف راويه وهو الحارث بن وجيه الراسبي، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وعن ابن معين أنه قال فيه:(ليس بشيء)، وقال البخاري:(في حديثه بعض المناكير)، وقال النسائي:(ضعيف)
(1)
، ونقل العقيلي عن نصر بن علي الجهضمي أنه يضعف
(1)
"الضعفاء" للعقيلي (1/ 216)، "تهذيب التهذيب"(2/ 141).
الحارث بن وجيه، وقال:(وله عنه - أي عن مالك بن دينار - حديث منكر لا يتابع عليه)، ثم ساق هذا الحديث
(1)
.
وقال ابن أبي حاتم: (قال أبي: هذا حديث منكر، والحارث ضعيف الحديث)
(2)
.
وقال البيهقي: (أنكره أهل العلم بالحديث: البخاري وأبو داود وغيرهما، وإنما يروى عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن الحسن عن أبي هريرة موقوفاً)
(3)
.
أما الحديث الثاني وهو حديث عائشة رضي الله عنها: فقد أخرجه أحمد (41/ 306)(43/ 248) من طريق شريك، عن خُصيف، قال: حدثني رجل منذ ثلاثين سنة عن عائشة قالت: أجمرت شعري إجماراً شديداً
(4)
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، أما علمت أن على كل شعرة جنابة» .
وهذا إسناد ضعيف، قال الهيثمي:(رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه رجلاً لم يُسمّ)
(5)
.
وخصيف هو ابن عبد الرحمن الجزري، صدوق سيئ الحفظ، خلط بِأَخَرَةَ.
وشريك هو ابن عبد الله النخعي القاضي، صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن تحت كل شعرة جنابة) هذا كناية عن شمول الجنابة كل ظاهر البدن الذي هو محل الشعر عادة.
(1)
"الضعفاء"(1/ 216).
(2)
"العلل"(1/ 29).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 179).
(4)
أي: جمعته وضفرته، يقال: أجمر شعره إذا جعله ذؤابة، والذؤابة: الجميرة؛ لأنها جمرت، أي: جمعت، قاله في "بلوغ الأماني"(2/ 134).
(5)
"مجمع الزوائد"(1/ 272).
قوله: (فاغسلوا الشعر) الفاء للترتيب، والمعنى: ترتيب الحكم الذي هو وجوب الغسل على الوصف الذي هو عموم الجنابة للبدن، للدلالة على أن الشعر قد يمنع وصول الماء إلى البشرة، فيجب استقصاء الشعر بالغسل، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.
قوله: (أنقوا) بهمزة القطع، يقال: نَقِيَ الشيءُ ينقى، من باب (تعب) نقاء ونقاوة: نَظُفَ، فهو نقي.
قوله: (البشر) بفتح الباء الموحدة والشين المعجمة: ظاهر الجلد، مفرده: بشرة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الغسل من الجنابة، وتعميم الجسم كله بالماء، وإزالة كل ما يمنع وصول الماء إلى البشرة وأن الطهارة لا تكمل بترك الشيء من الجسد ولو كان قليلاً، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً في سنده - كما تقدم - فهو صحيح في معناه، دل القرآن على مقتضاه؛ لأن الله تعالى يقول:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فأوجب الله التطهير لجميع البدن.
إلا إن كان عليه جبيرة فإنه يكفي غسل ظاهرها إن أمكن غسله، وإن لم يمكن مسحه، فإن كان الجرح ليس عليه شيء ويضره الماء، فعليه أن يتيمم، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وسيأتي ذلك في «التيمم» .
الوجه الرابع: فيه دليل على تعليق الأحكام بعللها، وأنه لما كانت الجنابة شاملة لجميع البدن، كان التطهير شاملاً لجميع البدن، وذلك أن اللذة أثناء الجماع قد عمَّت جميع البدن واهتز لها فصار التطهير شاملاً لجميع البدن، كما أن جَلْدَ الزاني يعم بدنه، لحصول اللذة في جميع البدن، والله تعالى أعلم.
باب التيمم
لما ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بالطهارة المائية الصغرى والكبرى، شرع في ذكر الأحاديث المتعلقة بالطهارة الترابية وهي التيمم، وأَخّره عنهما اقتداء بالقرآن، ولأنه بدل عنهما، ولذا لا يصار إليه إلا عند العجز عنهما، وترجم له بالباب دون الكتاب؛ لأنه نوع من الطهارة، فيشمله كتاب «الطهارة» .
والتيمم في اللغة: القصد، يقال: تيمم الشيء ويمَّمه: أي: قصده، قال ابن السِّكِّيت: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، أي: اقصدوا الصعيد الطيب
(1)
.
وشرعاً: مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب، بدلاً عن طهارة الماء، عند تعذر استعماله.
وهو يشرع عند تعذر استعمال الماء لمرض أو سفر، أو عَدَمٍ في حضر أو سفر، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
وشُرع في السَنَة السادسة في غزوة بني المصطلق، لما ضاع عقد عائشة رضي الله عنها، ومكثوا في طلبه على غير ماء، فنزلت آية التيمم، وهذا ثابت في الصحيحين
(2)
.
والتيمم من خصائص هذه الأمة، شرعه الله تعالى لها تكميلاً لدينها؛ ورحمة بها وإحساناً إليها، وكان الإنسان في الأمم السابقة إذا لم يجد ماء
(1)
"الصحاح"(5/ 2064).
(2)
"صحيح البخاري"(334)، "صحيح مسلم"(367).
يبقى حتى يجده فيتطهر به، وفي هذا مشقة عليه وحرمان للإنسان من الصلة بربه، أما في هذه الشريعة العظيمة فقد تجلى حرص الإسلام على الصلاة وعلى إقامتها، وصلة العبد بربه، بحيث لا ينقطع عن الصلاة لسبب من الأسباب، فإذا تعذر الماء أو تضرر باستعماله وجب عليه أن يتيمم ويصلي، فلله الحمد على فضله ونعمائه.
بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ومنها التيمم
126/ 1 - عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أُعْطِيتُ خَمْساً لمْ يُعْطَهُنّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجداً وَطَهُوراً، فَأيّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَلِّ
…
» وَذَكَرَ الحديثَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «التيمم» (335) ومسلم (521) من طريق هُشيم بن بشير قال: أخبرنا سيّار أبو الحكم قال: حدثنا يزيد - هو ابن صهيب الفقير
(1)
ـ قال: أخبرنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم، ولم تُحلَّ لأحد قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامة» ، وهذا لفظ البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أعطيت خمساً) أي: أعطاني الله تعالى خمس خصال، فَحُذِفَ الفاعل للعلم به، وهذا ليس على سبيل الحصر، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (لم يعطهن أحد قبلي)، وفي رواية للبخاري ومسلم:«أحد من الأنبياء» .
(1)
تابعي مشهور، قيل له الفقير؛ لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيرًا من المال.
قوله: (نصرت بالرعب) الباء: للسببية، والرعب: الخوف والذعر لتوقع نزول محذور، والمراد هنا: حصول الخوف والوجل في قلوب الأعداء.
قوله: (مسيرة شهر) أي: مسافة شهر، والمعنى: أن عدوه مرعوب منه ولو كان بينه وبينه مسافة شهر.
قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً) أي: صيَّر الله لي جميع الأرض مكاناً للسجود، أي: للصلاة، بخلاف الأمم السابقة فإنهم لا يصلون إلا في أماكن معينة كالكنائس، وفي حديث عمرو بن شعيب:«وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم»
(1)
، وهذا من العام الذي دخله التخصيص، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (وطهوراً) بفتح الطاء، أي: شيئاً أتطهر به، والمراد: المطهر لغيره لا الطاهر فقط، وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً:«جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً»
(2)
.
قوله: (فأيما رجل) أيُّ: اسم شرط زيدت فيه (ما) للتأكيد، وذكر الرجل لشرفه، والمرأة مثله.
قوله: (أدركته الصلاة فليصلِّ) أي: دخل عليه وقتها وهو من أهلها، فليتطهر بالأرض وليصل عليها، ولا ينتظر وجود الماء.
قوله: (وأحلت لي الغنائم) أي: جعلها الله لي حلالاً، والمراد بها: ما يؤخذ من أموال الكفار في الجهاد، وكانت في الأمم السابقة تجمع في مكان، ثم تنزل عليها نار من السماء فتحرقها.
قوله: (وأعطيت الشفاعة) المراد بها: الشفاعة العظمى، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في أهل الموقف أن يُقضى بينهم.
(1)
أخرجه أحمد (11/ 639). قال ابن كثير في "تفسيره"(3/ 489): (إسناده جيد قوي، ولم يخرجوه).
(2)
أخرجه ابن الجارود (124) قال الحافظ في "فتح الباري"(1/ 438): (إسناده صحيح).
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية التحدث بنعم الله تعالى لا على سبيل الافتخار؛ ولكن إظهاراً لنعمة الله تعالى واستجلاباً لشكره عليها، قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، ولا أقول فخراً .. »
(1)
، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر»
(2)
، قال بعض السلف:(من كتم النعمة فقد كفرها، ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها).
الوجه الرابع: الحديث دليل على فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته حيث إن الله تعالى منّ عليه وعلى أمته بخصائص وفضائل، لم تكن لأحد من الأنبياء ولا لأممهم، ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن ذِكْرُ العدد لا يدل على الحصر؛ لأن هناك خصائص غير ما ذكر في هذا الحديث، ففي حديث حذيفة:«فُضّلنا على الناس بثلاث» وسيأتي - إن شاء الله ـ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«فُضِّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأحلَّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون»
(3)
، وحديث علي رضي الله عنه:«أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء» ، وسيأتي - أيضاً إن شاء الله تعالى ـ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه (
…
فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيمَ سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المُقْحِمَاتُ)
(4)
.
فمن يقول بمفهوم العدد يقول: لعله أُطْلع أولاً على ما اختص به، ثم أُطلع على الباقي، وقد ذكر الحافظ سبع عشرة خصلة، استنبطها من
(1)
أخرجه أحمد (4/ 119)، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(2)
أخرجه أحمد (30/ 390)، وحسنه الألباني في "الصحيحة"(667).
(3)
أخرجه مسلم (524).
(4)
أخرجه مسلم (279)(173) والمقحمات بضم الميم: هي الذنوب التي تقحم صاحبها في النار، أي: تلقيه فيها، انظر:"إكمال المعلم"(1/ 526).
الأحاديث، وقال:(يمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع)
(1)
.
وقد عني العلماء بموضوع الخصائص، وأفردت لها مؤلفات مستقلة؛ ومنها: كتاب «غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم» ، لابن الملقن وهو مطبوع في مجلد، وكتاب:«الخصائص الكبرى» للسيوطي، وقد تحدث عنه في حاشيته على النسائي، وهو - أيضاً - مطبوع
(2)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من وسائل النصر على الأعداء إلقاء الرعب في قلوبهم ولو كان بينهما مسافة شهر، وهذا النصر ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو من تأييد الله له، وهذه الخصلة ترجى لمن أخذ بسنته وتابعها واستقام عليها واهتدى بهديه ظاهراً وباطناً من ولاة الأمور
(3)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز التيمم على كل أرض طاهرة لقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فسمى الأرض طهوراً كالوضوء، فدل على أن التراب طهور كالماء، و (أل) في الأرض للاستغراق، فيشمل كل أرض، سواء أكانت ترابية أم رملية أم صخرية، وسواء كانت يابسة أم نديَّة، فالإنسان يتيمم في الأرض التي هو فيها، مهما كان نوعها.
وقد ثبت في حديث أبي الجهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار
(4)
؛ لأنه متصل بالأرض، وهو من جنسها، فإن كان الجدار مكسوّاً بالأخشاب أو الدهان وكان عليه غبار جاز التيمم به، ولا حرج إذا لم يجد صعيداً ويكون كالذي يتيمم على الأرض؛ لأن التراب أو الغبار من مادة الأرض، أما إذا لم يكن عليه تراب فإنه ليس من الصعيد فلا يتيمم عليه، وكذا يقال في الفُرُشِ.
الوجه السابع: الحديث دليل على جواز الصلاة على كل مكان من الأرض، لما تقدم من الاستغراق في قوله:«الأرض» ، لكن هذا من العام المخَصَّص، فيخرج من هذا العموم ما استثناه الشرع، كالمكان النجس
(1)
"فتح الباري"(1/ 439).
(2)
انظر: "سنن النسائي"(1/ 210).
(3)
انظر: "بهجة قلوب الأبرار" للسعدي ص (74).
(4)
تقدم تخريجه في آخر الكلام على الحديث (78).
والمقبرة والحمام وأعطان الإبل، وسيأتي ذلك في كتاب «الصلاة» ، إن شاء الله.
الوجه الثامن: الحديث دليل على وجوب أداء الصلاة في وقتها على أي حال كان، سواء أكان واجداً للماء أم عادماً له، لقوله:«فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل» ، لكن إن ترجح عنده وجود الماء في آخر الوقت فإن الأفضل له أن يؤخر الصلاة، محافظةً على شرط من شروطها وهو الطهارة بالماء، والصلاة في أول وقتها فيها محافظة على فضيلة الوقت فقط.
أما إذا علم أنه لن يجد الماء أو ترجح عنده عدم وجوده فتقديم الصلاة في أول وقتها أفضل.
الوجه التاسع: الحديث دليل على حلّ الغنائم لهذه الأمة.
الوجه العاشر: الحديث دليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى التي يتدافعها كبار الرسل عليهم الصلاة والسلام.
الوجه الحادي عشر: الحديث دليل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس إلى يوم القيامة، فكلهم ملزمون بشريعته بعد بعثته، والله تعالى أعلم
اشتراط التراب في التيمم
127/ 2 - وَفِي حَدِيثِ حُذَيفَةَ عِنْدَ مُسْلِم: «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُوراً، إذَا لمْ نَجِدِ المَاءَ» .
128/ 3 - وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ: «وَجُعلَ التُّرَابُ لِي طَهُوراً» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه مسلم (522) في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» من طريق أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» ، وذكر خصلة أخرى.
وأخرجه - أيضاً - من طريق سعد بن طارق، حدثني ربعي بن حِرَاشٍ، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بمثله.
وقوله: (وذكر خصلة أخرى) هي الثالثة؛ لأن المذكور خصلتان، لأن ما ذُكر عن الأرض من كونها مسجداً وطهوراً خصلة واحدة، كما تقدم في حديث جابر، وأما الثالثة فهي محذوفة هنا، وجاء ذكرها في رواية النسائي من طريق أبي مالك الأشجعي - الراوي هنا عند مسلم - ومنه:«وأُوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يُعْطَ أحد منه قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي»
(1)
.
(1)
"السنن الكبرى"(5/ 15)، وأخرجه أحمد (38/ 287)، وابن خزيمة (1/ 133)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
أما حديث علي رضي الله عنه، فقد أخرجه أحمد (2/ 156 - 460) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن الحنفية، أنه سمع أباه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يُعْطَ أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسُمِّيت أحمد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم» .
وهذا سند فيه ضعف، فإن عبد الله بن محمد بن عقيل متكلم فيه، قال ابن عيينة:(أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم)، وقال الدارقطني:(ابن عقيل ليس بقوي)
(1)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(صدوق في حديثه لين، ويقال: تغير بأَخَرة).
والصواب إن شاء الله، أن حديثه لا ينزل عن رتبة الحسن
(2)
، فإن الكلام فيه إنما هو من قبل حفظه، وهو في نفسه صدوق، فيتقى من حديثه ما انفرد به، وحديثه هذا له شواهد.
قال الترمذي: (سألت محمداً عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: رأيت أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي يحتجون بحديثه، وهو مقارب الحديث)
(3)
.
وقد اختلف في إسناده، فقال ابن أبي حاتم:(سألت أبي عن حديث اختلف في الرواية على عبد الله بن محمد بن عقيل، فروى سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت ما لم يعط أحد، وجعل التراب لي طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم»، ورواه زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي أنه سمع عليّاً، فقال أبو زرعة: حديث سعيد بن سلمة عندي خطأ، وهذا عندي الصحيح)
(4)
.
(1)
"سنن الدارقطني"(1/ 83)، "تهذيب التهذيب"(6/ 13).
(2)
"ميزان الاعتدال"(2/ 485).
(3)
"العلل الكبير"(1/ 81).
(4)
"العلل"(2/ 399).
الوجه الثاني: ساق الحافظ حديث حذيفة وعلي رضي الله عنهما؛ لأن فيهما تقييدين للحديث السابق.
أما القيد الأول فقوله: (إذا لم نجد الماء)، وهذا القيد دل عليه كتاب الله تعالى في قوله سبحانه:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] وهذا بإجماع المسلمين، وكذا المرض.
والقيد الثاني قوله: «وجعلت تربتها» و «جعل التراب لي طهوراً» ، وهذا تقييد لقوله في حديث جابر المتقدم:«وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ، فإن (أل) في الأرض لاستغراق أفراد الجنس - كما تقدم - فيشمل جميع أفراد الأرض، كالرمل والتراب والحجارة، وهنا قيَّده بالتراب، والتراب: ما كان له غبار.
وهذا القيد يَستدل به من يقول: إنه لا بد في التيمم من التراب الذي له غبار يعلق باليد منه شيء، ويكون هذا مخصصاً للعموم السابق في حديث جابر رضي الله عنه؛ لأنه خَصّصَ الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه، ويكون الصعيد في قوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} المراد به: التراب، وقد ورد عن ابن عباس أنه قال:(أطيب الصعيد تراب الحرث)
(1)
، وهذا قول الإمام الشافعي وأحمد وأصحابهما
(2)
، ودليلهم على ذلك أن الله تعالى قال:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، و (من) تبعيضية، ولا يمكن أخذ البعض من الصعيد إلا إذا كان تراباً له غبار.
والقول الثاني: أنه لا يشترط التراب، بل يجوز التيمم على كل ما تصاعد على وجه الأرض، من تراب أو رمل أو حجارة، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] أي: وجهاً من الأرض طهوراً، قال الزجاج:(لا أعلم بين أهل اللغة اختلافاً في أن الصعيد وجه الأرض)
(3)
،
(1)
"تفسير ابن كثير"(2/ 280)، "تفسير ابن عباس"(1/ 241)، وإسناده ضعيف.
(2)
"المجموع"(2/ 212)، "الإنصاف"(1/ 284).
(3)
"معاني القرآن"(2/ 56).
واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، والشوكاني
(1)
.
وقالوا: إن (مِنْ) في الآية لا يتعين أن تكون تبعيضية، بل يجوز أن تكون بيانية أو ابتدائية، أي: إن المسح يكون من هذا الصعيد، أو إن ابتداء المسح منه، بمعنى: أن تصل أيديكم إليه ثم ترفعوها، والقرينة على ذلك عموم الحديث، فإنه نص صريح في أن من أدركته الصلاة في أيِّ أرض فهي له طهور.
ثم إن آية النساء ليس فيها (من)، قال تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، وآية النساء سبقت آية المائدة بسنوات.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك وقطعوا تلك الرمال في طريقهم، لم يرد أنهم حملوا التراب معهم ولا أمرهم به، بل كانوا يتيممون بما تيسر لهم من الأرض.
وأما القول بتخصيص الحديث فهو مردود لأمرين:
الأول: أن التربة فرد من أفراد الأرض، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصاً له عند الجمهور، فإذا قلت: أكرم الطلبة وأكرم زيداً، لم يكن تخصيصاً لزيد بالإكرام؛ لأنه ذُكِرَ بحكم العام، لكن لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم محمداً، كان ذلك تخصيصاً؛ لأنك ذكرته بحكم غير حكم العام.
الثاني: أن الاحتجاج بلفظ (التراب) من باب مفهوم اللقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند الجمهور من الأصوليين، والله أعلم
(2)
.
(1)
"مجموع الفتاوى"(21/ 364)، "نيل الأوطار"(1/ 305 - 306).
(2)
انظر: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص (219)، "نيل الأوطار"(1/ 305)، "أضواء البيان"(2/ 37).
بيان كيفية التيمم
وأنه لا فرق بين الحدث الأكبر والأصغر
129/ 4 - وعَنْ عَمّارِ بْنِ يَاسرٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرّغْتُ في الصّعِيدِ كَمَا تَمَرّغُ الدّابّةُ، ثمّ أَتَيْتُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لَهُ، فَقَالَ:«إنّما كان يكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هكَذَا» ، ثمّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثمّ مَسَحَ الشِّمالَ عَلَى اليَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفّيْهِ وَوَجْهَهُ. مُتّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللّفْظُ لمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَضَرَبَ بِكَفّيْهِ الأرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثمّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفّيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عمار بن ياسر بن عامر العنسي، أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، أسلم قديماً هو وأبوه وأمه، وعذبهم المشركون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون في مكة فيقول:«صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة»
(1)
، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الغزوات كلها، وعن علي رضي الله عنه قال: جاء عمار يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له، مرحباً بالطيِّب المطيَّب»
(2)
، وقد تواترت
(1)
صححه الألباني في "تخريج السيرة" ص (107)، وذكر أن له طرقًا تشهد بصحته.
(2)
أخرجه الترمذي (3798) وابن ماجه (146) وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). والظاهر أنه من قبيل الحسن.
الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا على أنه قتل مع علي رضي الله عنه في صِفِّين، سنة سبع وثلاثين
(1)
رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «التيمم» باب «التيمم ضربة» (347) ومسلم (368) من طريق الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: كنت جالساً مع عبد الله - أي: ابن مسعود - وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا بَرَدَ عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، واللفظ لمسلم.
وأما رواية البخاري فقد أخرجها في: باب «المتيمم هل ينفخ فيهما؟» من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يكفيك هكذا» فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، هذا لفظ البخاري، وفي مسلم نحوه، ولفظه:«إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك .. » .
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (بعثني في حاجة) أي: أرسلني في غرض، وكان مع إحدى السرايا.
(1)
"الاستيعاب"(224)، "الإصابة"(7/ 64).
قوله: (فتمرغت في الصعيد) أي: تقلبت على الأرض كما تتقلب الدابة، ليشمل التراب جميع جسده، قياساً منه للتيمم من الجنابة على الغسل منها، والصعيد: وجه الأرض أو التراب، على الخلاف المتقدم.
قوله: (يكفيك) أي: يغنيك عن التمرغ في الصعيد أو عن الاغتسال بالماء.
قوله: (أن تقول بيديك) أي: تفعل بكفيك، فأطلق القول وأراد به الفعل.
قوله: (هكذا) ها: للتنبيه، والكاف للتشبيه؛ أي: مثل ما أقول بيدي.
قوله: (وظاهرَ كفيه) بنصب (ظاهر) معطوفاً على مفعول (مسح) والتقدير: ومسح ظاهر كفيه، أي: مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى، كما ورد مفسراً عند أبي داود.
قوله: (ووجهه) بالنصب أي: ومسح وجهه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز التيمم من الجنابة إذا لم يجد الماء، وأن التيمم ليس خاصاً بالحدث الأصغر، بل يكون مع الحدث الأكبر، وقد دل على ذلك القرآن - أيضاً - في قوله تعالى بعد طهارة الماء:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، فذكر الله تعالى سببين لطهارة التيمم، أحدهما: الحدث الأصغر {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، والثاني: الحدث الأكبر {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وهو الجماع، كما تقدم في باب «الغسل» .
الوجه الخامس: أن كيفية التيمم من الجنابة مثل كيفية التيمم عن الحدث الأصغر، فيضرب الأرض بكفيه ضربة واحدة، ويمسح يده اليسرى على باطن كفه اليمنى؛ وظاهر كفيه ووجهه، وعند أبي داود:(ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه)، ولفظ الإسماعيلي:(إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفضهما، ثم تمسح بيمينك على شمالك وبشمالك على يمينك، ثم تمسح على وجهك)، وهي
أوضح في المراد
(1)
.
وفي الرواية الأولى المتفق عليها تقديم مسح اليدين على مسح الوجه، وفي الثانية عند البخاري: تقديم مسح الوجه على الكفين، وهي الموافقة للقرآن في قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، فقدم في الحديث مسح الوجه على مسح اليدين؛ لأنه ظاهر القرآن، والموافق للترتيب في الوضوء، حيث يقدم غسل الوجه على غسل اليدين، ولأن أكثر الروايات في حديث عمار بتقديم الوجه.
أما رواية تقديم اليدين فلأن الواو لا يلزم أن تكون للترتيب في كل المواضع؛ لأنها لمطلق الجمع.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز تخفيف الغبار الكثير العالق باليدين من ضرب الأرض بالنفخ، ثم مسح الوجه والكفين بهما.
وقد بوب البخاري - كما تقدم - على حديث عبد الرحمن بن أبزى، وفيه الرواية المذكورة بقوله:(باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟).
قال الحافظ: (وإنما ترجم بلفظ الاستفهام لينبه على أن فيه احتمالاً كعادته؛ لأن النفخ يحتمل أن يكون لشيء عَلِقَ بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم، أو عَلِقَ بيده من التراب شيء له كثرة فأراد تخفيفه، لئلا يبقى له أثر في وجهه، ويحتمل أن يكون لبيان التشريع .. )
(2)
، والله أعلم.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 457).
(2)
"فتح الباري"(1/ 443).
بيان صفة أخرى للتيمم
130/ 5 - وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التّيَمّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ» . رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيُ، وَصَحّحَ الأئِمّةُ وَقْفَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/ 180)، والحاكم (1/ 287)، وابن عدي (5/ 188) من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه علي بن ظبيان بن هلال العبسي، وهو ضعيف جداً، اتهمه ابن معين، وقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وقال في موضع آخر:(ليس بثقة، ولا يكتب حديثه)، وقال أبو زرعة:(واهي الحديث جداً)، وقال أبو حاتم:(متروك)، وقال ابن عدي:(الضعف على حديثه بيّن)
(1)
.
وقد تابعه على رفعه سليمان بن أرقم، وسليمان بن أبي داود، وكلاهما ضعيف، لا يحتج بروايته، كما قال البيهقي وغيره.
والصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، قال الدارقطني:(ووقفه يحيى بن القطان وهُشيم وغيرهما، وهو الصواب)، ثم ساقه بسنده من طريق هشيم ويحيى موقوفاً، وساقه البيهقي (1/ 206) من طريق يحيى بن سعيد موقوفاً.
(1)
"تهذيب التهذيب"(7/ 300).
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن حديث رواه محمد بن ثابت عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم ضربتين، قال:(هذا خطأ إنما هو موقوف)
(1)
.
ولا حجة في هذا الموقوف؛ لأن الحجة فيما روى الصحابي، لا فيما رأى إذا خالف النص، وقد تقدم في حديث عمار أن التيمم ضربة واحدة.
قال الحافظ: (إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه .. )
(2)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن التيمم يكون بضربتين: ضربة لمسح الوجه، وضربة لمسح الكفين، وبهذا أخذ من قال: إن التيمم ضربتان، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي
(3)
، قال ابن قدامة:(المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة، فإن تيمم بضربتين جاز، وقال القاضي: الإجزاء يحصل بضربة؛ والكمال ضربتان)
(4)
، والراجح الاقتصار على ضربة واحدة، لما تقدم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن التيمم في اليدين يمتد إلى المرفقين، وقد ورد في حديث عمار في الصحيحين بذكر الكفين، وورد عند أبي داود من حديث سلمة بن كهيل:(الكفين والوجه والذراعين)، وورد عنده - أيضاً - من طريق سلمة:(إلى نصف الساعدين)
(5)
، وورد عنده وعند النسائي في حديث عمار أن الصحابة رضي الله عنهم تيمَّموا وهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط
(6)
.
والصواب أن التيمم يكون في الكفين فقط، تيسيراً من الله تعالى، وأما
(1)
"علل الحديث"(1/ 54).
(2)
"فتح الباري"(1/ 444).
(3)
"المجموع"(2/ 210)، "بدائع الصنائع"(1/ 45).
(4)
"المغني"(1/ 320).
(5)
"سنن أبى داود"(325).
(6)
"سنن أبي داود"(318)، و"سنن النسائي"(1/ 167).
حديث الباب فتقدم أنه موقوف ولا حجة فيه، وأما حديث عمار فالمعوَّل على رواية الصحيحين، وأما غيرها فلا يعول عليه؛ لأن سلمة شك فيه، فقال له منصور بن المعتمر ذات يوم:(انظر ما تقول، فإنه لا يذكر الذراعين غيرُك)، ذكره أبو داود، وذكر النسائي: أن سلمة شك لا يدري فيه إلى المرفقين أو إلى الكفين
(1)
.
وأما المسح إلى الآباط: فإما أن يكون مشروعاً كذلك، ثم نسخ تخفيفاً على هذه الأمة ورحمة بها، أو أنهم فعلوه باجتهادهم وعدم سؤالهم فوقعوا فيه خطأً، وهذا هو الأقرب، لقوله:(تيممنا .. ) فهو حكاية لفعلهم، والله أعلم.
وقد جاء ذكر اليد مطلقة في آية التيمم في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، واليد عند الإطلاق هي الكف فقط، بدليل قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ويد السارق تقطع من الكف إجماعاً
(2)
.
أما في الوضوء فقد جاء تقييدها في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، ولا يجوز حمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن من شرط ذلك أن يتفقا في الحكم، وهنا لم يتفقا؛ لأن الحكم في آية الوضوء غسل، وفي آية التيمم مسح، والله أعلم.
(1)
"السنن"(1/ 166).
(2)
"المغني"(12/ 440).
التيمم رافع للحدث بمنزلة الوضوء
131/ 6 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الصّعِيدُ وَضُوءُ المُسْلمِ، وإنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيَتّقِ الله، ولْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» . رَوَاه الْبَزّارُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْقَطّانِ، ولكِنْ صَوّبَ الدّارقُطْنِي إرْسَالَهُ.
132/ 7 - وللتّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرّ نَحْوُهُ، وَصَحّحَهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو ذر جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ - على المشهور - أسلم قديماً، وكان من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وقصة إسلامه في الصحيحين من رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري، ومن رواية عبد الله بن الصامت عند مسلم
(1)
، وبينهما اختلاف ظاهر، وقد عذّب في سبيل إسلامه وأوذي كثيراً، وكان زاهداً صادقاً عالماً عاملاً شجاعاً يصيب في الرمي، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر»
(2)
، مات رضي الله عنه في الرّبذة سنة اثنتين وثلاثين
(3)
.
(1)
"صحيح البخاري"(3861)، و"صحيح مسلم"(2473).
(2)
أخرجه أحمد (11/ 70) وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(3)
"الاستيعاب"(11/ 241)، "الإصابة" (11/ 118). والرَّبذة: بالتحريك، قرية تقع شرق المدينة، تميل نحو الجنوب بمسافة (98) ميلًا. انظر:"المغانم المطابة" ص (151).
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما الأول: فقد أخرجه البزار (1/ 175)«مختصر زوائده» قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثني عمي القاسم بن يحيى بن عطاء بن مقدم، ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره، وفي آخره:«فإن ذلك خير» .
قال البزار: (لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومقدم ثقة معروف النسب)، وقال الهيثمي:(رجاله رجال الصحيح)
(1)
، وصححه ابن القطان
(2)
، وقال الدارقطني:(الصواب عن ابن سيرين مرسلاً)
(3)
.
أما الثاني وهو حديث أبي ذر: فقد أخرجه أبو داود، في «الطهارة» باب «الجنب يتيمم» (332)، والترمذي (124)، والنسائي (1/ 171)، وأحمد (35/ 448) من طريق أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدان، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: اجتمعت غُنيمة
(4)
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذر ابْدُ فيها»
(5)
، فبدوت إلى الرّبذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أبو ذر» ، فسكتُّ، فقال:«ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل» ، فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بُعسّ
(6)
فيه ماء، فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال:«الصعيد وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك، فإن ذلك خير» ، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي مختصر، وهو آخر الحديث، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
وعمرو بن بُجْدان: وثقه ابن حبان
(7)
، والعجلي
(8)
، وترجمه البخاري
(9)
، وابن أبي حاتم
(10)
، فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، والأكثرون
(1)
"مجمع الزوائد"(1/ 259).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 266).
(3)
"العلل"(8/ 93).
(4)
غُنيمة: تصغير (غنم) للتقليل.
(5)
ابدُ فيها: أي: اخرج إلى البادية مصاحبًا الغنم، وهو بضم الهمزة، أمر من: بدا يبدو: إذا خرج إلى البادية.
(6)
بعسّ: بضم العين وتشديد السين: القدح الكبير، وجمعه عساس وأعساس.
(7)
"الثقات"(5/ 171).
(8)
"تاريخ الثقات" ص (362).
(9)
"التاريخ الكبير"(6/ 317).
(10)
"الجرح والتعديل"(6/ 222).
على أنه مجهول الحال، قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: عمرو بن بجدان معروف؟ قال: (لا)، وقال ابن القطان:(لا يعرف)
(1)
، وقال الذهبي:(مجهول الحال)
(2)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(لا يعرف حاله).
ولعل تصحيح الترمذي لهذا الحديث باعتبار شواهده، ومنها: حديث أبي هريرة المتقدم؛ لأن الأكثرين قد جزموا بجهالة عمرو بن بجدان.
وقد صححه - أيضاً - ابن حبان (4/ 135)، والحاكم (1/ 170)، وظاهر صنيع الحافظ تصحيحه، فإنه نقل - هنا - تصحيح الترمذي وأقره؛ وكذا فعل في «فتح الباري» ، وزاد ابن حبان، والدارقطني
(3)
، والحديث أخرجه الدارقطني (1/ 186) وسكت عنه، والذي يظهر - والله أعلم - أن الحديث بالاعتبارات المذكورة لا ينزل عن درجة الحسن.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (الصعيد وضوء المسلم) مبتدأ وخبر، ولفظ أبي داود من حديث أبي ذر:(الصعيد الطيب .. ) أي: الطاهر المطهر، والصعيد: تقدم معناه.
ووضوء: بفتح الواو؛ لأن التراب بمنزلة الماء في صحة التطهر به، وقيل: بضم الواو؛ أي: استعمال الصعيد على الوجه المخصوص كوضوء المسلم من باب التشبيه البليغ، وعلى كل منهما فهو يفيد أن التيمم رافع للحدث، كما سيأتي - إن شاء الله ـ. قوله:(ولو إلى عشر سنين) المراد منه الكثرة لا التحديد، والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين.
قوله: (فليتق الله) مناسبتها لبيان عظم شأن الطهارة وأن أمرها عظيم.
قوله: (وليمسه بشرته) بضم الياء من المضارع، وماضيه أمسّ، تقول: مسست الجسد بماء، وأمسست الجسد ماء، والمعنى: إذا وجدت الماء
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 266).
(2)
"الميزان"(3/ 273).
(3)
"فتح الباري"(1/ 466).
الكافي لطهارتك فاضلاً عن حاجتك الضرورية وكنت قادراً على استعماله فعليك أن تتطهر به.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن التيمم مطهر ورافع للحدث وليس مبيحاً لما تجب له الطهارة فقط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه وضوءاً فقال: (التيمم وضوء المسلم).
وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، وجماعة
(1)
.
والقول الثاني: أن التيمم مبيح للصلاة ونحوها، لا رافع للحدث، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم مالك، والشافعي، والمشهور من مذهب الإمام أحمد
(2)
.
واستدلوا بقوله: (فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته)، ووجه الدلالة: أنه أمره إذا وجد الماء أن يمسه بشرته، وهذا يدل على أن التيمم لم يرفع حدثه، وإنما أباح له فعل ما شُرعت الطهارة له، ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إذا وجده.
والقول الأول أظهر، وهو أن التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً إلى أن يجد الماء أو يستطيع استعماله، ويؤيد ذلك ما يلي:
1 -
قوله تعالى بعد ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، فأخبر الله تعالى أنه يريد أن يطهرنا بالتراب كما يطهرنا بالماء، وَوَصَفَ النبي صلى الله عليه وسلم التيمُّمَ بأنه طهور.
2 -
أن التيمم بدل عن طهارة الماء، والقاعدة الشرعية أن البدل له حكم المبدل، فإذا كانت طهارة الماء ترفع الحدث، فكذلك التيمم يرفع الحدث.
(1)
"بدائع الصنائع"(1/ 55)، "المغني"(1/ 329)، "الفتاوى"(21/ 436)، "زاد المعاد"(1/ 200)، "سبل السلام"(1/ 184).
(2)
"المنتقى"(1/ 109)، "المجموع"(2/ 221)، "المغني"(1/ 329).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقيل: بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقاً ويستبيح به كما يستباح بالماء، ويتيمم قبل الوقت، كما يتوضأ قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت، كما تبقى طهارة الماء بعده، وإذا تيمم لنافلة صلّى به الفريضة، كما أنه إذا توضأ لنافلة صلّى به الفريضة، وهذا قول كثير من أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية، وقال أحمد: هذا هو القياس ..... وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار
…
).
ثم قال: (فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكن رفعه مؤقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذراً .. )، وقال:(والله قد جعله طهوراً للمسلمين عند عدم الماء، فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم، وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجاً .. )
(1)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من تيمم للجنابة ثم قدر على استعمال الماء أنه يلزمه الغسل، وهو قول كافة العلماء، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(21/ 436، 439، 459).
حكم من تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت
133/ 8 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدرِيّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَجُلانِ في سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصلاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمّما صَعيداً طَيِّباً، فَصَلّيَا، ثُمّ وَجَدَا المَاءَ في الوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصلاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ الآخَرُ، ثُمّ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلّذِي لَمْ يُعِدْ:«أَصَبْتَ السُّنّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلاتُكَ» ، وَقَالَ للآخَرِ:«لَكَ الأجْرُ مَرّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَالنّسائيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (338) في «الطهارة» ، باب في «المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت» ، والنسائي (1/ 213) من طريق عبد الله بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وعبد الله بن نافع هو ابن أبي نافع الصائغ المخزومي مولاهم، متكلم فيه، قال أبو زرعة:(لا بأس به)، وكذا قال النسائي، وقال أبو حاتم:(ليس بالحافظ، هو لين في حفظه، وكتابه أصح)
(1)
وقال عنه الحافظ في التقريب: (ثقة صحيح الكتاب، في حفظه لين).
والحديث فيه مقال من حيث الإرسال والوصل، كما أُعل بالانقطاع بين
(1)
"تهذيب التهذيب"(6/ 46).
الليث وبكر، كما سيأتي، فقد قال أبو داود:(وغير ابن نافع يرويه عن الليث، عن عَميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (وذِكْرُ أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل) أي: من مراسيل عطاء.
وغرض أبي داود بذلك بيان أن غير ابن نافع وهو عبد الله بن المبارك ويحيى بن بكير قد رويا هذا الحديث عن الليث بن سعد بسنده إلى عطاء بن يسار مرسلاً، ولم يذكرا أبا سعيد، وبذلك يتضح أن أصحاب الليث اختلفوا عليه في هذا الحديث، فعبد الله بن نافع روى الحديث عنه عن بكر بن سوادة متصلاً، لكن فيه انقطاع بإسقاط الواسطة بين الليث وبين بكر بن سوادة، وهو عَمِيرة بن أبي ناجية، وعبد الله بن المبارك رواه عن الليث مرسلاً بإسقاط أبي سعيد، غير منقطع، وروايته أخرجها النسائي (1/ 213)، وأخرجها الدارقطني (1/ 189)، إلا أنه لم يذكر الواسطة، فظاهره الانقطاع.
ويحيى بن بكير روى الحديث عن الليث بسنده مرسلاً غير منقطع، وهو من أثبت الناس في حديث الليث، وروايته أخرجها البيهقي (1/ 231)، والحاكم (1/ 178).
وعلى هذا فعبد الله بن نافع تفرد بوصله، وقد خالفه ابن المبارك ويحيى بن بكير فروياه مرسلاً من مراسيل عطاء، وتابعهما وكيع عند ابن أبي شيبة
(1)
، فلم يذكروا أبا سعيد رضي الله عنه، وابن المبارك رواه موصولاً بذكر عميرة، ومنقطعاً كرواية ابن نافع بإسقاطه، لكنه خالفه فأرسله، ويحيى لم يروه إلا موصولاً بذكر عميرة.
لكن قد يرد على قول أبي داود: إن ذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، أن ابن السكن روى الحديث في صحيحه - كما قال ابن القطان - من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن الليث، عن عمرو بن الحارث وعَمِيرة بن أبي ناجية جميعاً، عن بكر بن سوادة، عن عطاء، عن أبي سعيد أن رجلين
(1)
"المصنف"(2/ 433).
خرجا في سفر .. الحديث
(1)
.
فوصله ما بين الليث وبكر؛ بعمرو بن الحارث الثقة، وقرنه بعميرة، وأسنده بذكر أبي سعيد، وعلى هذا فهو متصل لا مرسل، وقال الألباني عن هذا الموصول:(إسناده صحيح)
(2)
.
لكن يلاحظ أن الأئمة - كأبي داود - لم يذكروا هذه المتابعة، ولذا قال الدارقطني:(تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث بهذا الإسناد متصلاً؛ خالفه ابن المبارك وغيره)
(3)
، وكذا قال الطبراني
(4)
، وعلى هذا فرواية ابن السكن شاذة، لأنها مخالفة رواية الثقات عن الليث - كما تقدم - والوهم فيها قد يكون من أبي الوليد أو ممن هو دونه، والله أعلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فتيمما صعيداً طيباً) أي: قصدا الصعيد الطاهر على الوجه المخصوص، فالمراد بالتيمم هنا: المعنى الشرعي.
قوله: (فأعاد أحدهما .. ) إما ظناً منه أن الأولى بطلت بوجود الماء في الوقت، وإما احتياطاً، ولم يعد الآخر لاعتقاده أن تلك الصلاة صحيحة؛ لأنه تيمم وصلّى حال فقد الماء.
قوله: (أصبت السنة) أي: وافقت الحكم المشروع بالكتاب والسنة، وفيه تصويب لاجتهاده وتخطئة لاجتهاد الآخر.
قوله: (وأجزأتك صلاتك) أي: كفتك عن القضاء، وهذا من عطف اللازم على الملزوم؛ لأنه يلزم من الإصابة الإجزاء.
قوله: (لك الأجر مرتين) مرة لصلاته الأولى بالتيمم، ومرة لصلاته الثانية بالوضوء، فإن كلاًّ منهما صحيحة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من تيمم وصلّى ثم وجد الماء
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(2/ 434).
(2)
"مشكاة المصابيح"(1/ 166).
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 189).
(4)
"المعجم الأوسط"(2/ 501).
في أثناء الوقت فإنه لا إعادة عليه، بل لا ينبغي له أن يعيد؛ لأن السنة عدم الإعادة، لقوله لمن اكتفى بصلاته الأولى:(أصبت السنة)، وهذا الحديث وإن أُعِلَّ بالإرسال لكن يؤيده ما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما تيمم وصلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلين ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يُعد
(1)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من تيمم وصلّى ثم وجد الماء فأعاد الصلاة، فإنه يؤجر على ذلك، بشرط أن يكون معتقداً أن هذا هو الواجب عليه، لكونه لم يعلم بالسنة فاجتهد في ذلك، وهو قد أخطأ السنة لأن السنة عدم الإعادة.
أما إن فعل ذلك عالماً بالحكم الشرعي وأن السنة عدم الإعادة، لكنه أعاد طلباً للأجر مرتين فهو مسيء؛ لأنه مخالف للسنة عمداً.
الوجه الخامس: اعلم أن من تيمم لفقد الماء ثم وجده فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يجده بعد الصلاة وبعد خروج الوقت، فهذا لا إعادة عليه إجماعاً، حكاه ابن المنذر
(2)
، ونقله عنه الموفق ابن قدامة
(3)
.
الثانية: أن يجد الماء بعد الصلاة وقبل خروج الوقت، فهذا لا إعادة عليه، بل ولا تشرع له الإعادة، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، ورجحه ابن المنذر
(4)
، ويؤيد ذلك أن هذا قد أدى فرضه كما أُمِرَ، فمن ادعى نقض ذلك وإيجاب الإعادة عليه فعليه الدليل.
الثالثة: أن يجد الماء وهو يصلي، كأن يبعث أحداً في طلب الماء فيأتي وهو في الصلاة، فهذه الحالة فيها قولان:
(1)
رواه عبد الرزاق (1/ 229) من طريق الثوري، عن محمد ويحيى بن سعيد، عن نافع به، وهذا سند صحيح، والحديث له طرق أخرى، فانظر:"موسوعة أحكام الطهارة"(12/ 238).
(2)
"الأوسط"(2/ 63).
(3)
"المغني"(1/ 320).
(4)
"الأوسط"(2/ 64).
الأول: أنه يبطل التيمم وتبطل الصلاة، وعليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الحنفية، واختاره ابن حزم، وحكاه ابن المنذر عن الثوري
(1)
، وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز، ودليل ذلك ما يلي:
1 -
عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وهذا قد وجد الماء في أثناء الصلاة فبطل حكم التيمم، وإذا بطل حكم التيمم بطلت الصلاة؛ لأنه يعود إليه حدثه.
2 -
عموم حديث أبي هريرة المتقدم: «فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته» ، وهذا قد وجد الماء قبل نهاية الصلاة فعليه أن يمسه بشرته، وهذا يقتضي بطلان التيمم.
والقول الثاني: أنه لا يبطل تيممه، ولا يلزمه إعادة الصلاة، وهو قول الجمهور، ومنهم المالكية، والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، لكن قيل: إنه رجع عنها
(2)
، وحكاه ابن المنذر
(3)
عن أبي ثور واختاره.
واستدلوا بأن هذا المتيمم قد دخل في الصلاة على وجه مأذون فيه شرعاً، وهو قد تطهر وفرغ من طهارته ثم شرع في صلاته، وهو في صلاته غير مخاطب بالطهارة، فلا يجوز نقض طهارةٍ قد مضى وقتها، وإبطالُ ما أدى من الصلاة كما فرضت عليه وأُمر به، إلاّ بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولم يوجد شيء من ذلك.
والقول الأول أرجح، وأحوط، وهو أنه لا يمضي بل يقطع الصلاة ويتوضأ لقوة الأدلة، فإن هذا واجدٌ الماء، وأيده ابن القيم بناء على قاعدة
(1)
"الأوسط"(2/ 66)، "بدائع الصنائع"(1/ 57)، "المحلى"(1/ 22)، "الإنصاف"(1/ 298).
(2)
"الموطأ"(1/ 55)، "الأم"(1/ 48)، "روضة الطالبين"(1/ 115)، "الإنصاف"(1/ 299).
(3)
"الأوسط"(2/ 64).
ذكرها وهي: (أن ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مُبْدَلِهِ لم يبق متعبداً به بحال، فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه كوجوده قبل الشروع فيه، وما لم يبطل حكمه رأساً بل بقي معتبراً في الجملة لم يبطله وجود المبدل بعد الشروع فيه .. )
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"بدائع الفوائد"(4/ 28).
حكم المريض إذا كان يضره الماء
134/ 9 - وعَنْ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما في قولِهِ عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6]، قَالَ:(إذَا كانَتْ بالرّجُل الْجِراحَةُ في سَبِيلِ اللهِ وَالقُرُوحُ، فَيُجْنِبُ، فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إنْ اغْتَسَل: تَيَمّمَ). رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفاً، وَرَفَعَهُ الْبَزّارُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/ 177) موقوفاً من طريق جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمم) هذا لفظ الدارقطني.
وقد تابع عطاء بن السائب على وقفه عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة، كما عند البيهقي (1/ 224) من طريق شعبة، أخبرني عاصم بن الأحول، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في المجدور وأشباهه إذا أجنب قال: «يتيمم بالصعيد» . وعزرة ثقة، كما في «التقريب» .
وأخرجه مرفوعاً ابن خزيمة (1/ 138)، والحاكم (1/ 270)، والبيهقي (1/ 224) من طريق جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] قال: «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري، فيجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» .
قال ابن خزيمة: (هذا خبر لم يرفعه غير عطاء بن السائب)، والراوي عن عطاء بن السائب هو جرير بن عبد الحميد، وقد ذكر ابن عدي وابن معين أنه سمع من عطاء بعد الاختلاط
(1)
، فيظهر أنه وهم في رفعه وأن الصواب وقفه، وقد رجح أبو حاتم وأبو زرعة وقفه
(2)
.
الوجه الثاني: أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للمرض بما ذكر في الحديث من الجراحة في سبيل الله والقروح ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل التمثيل، وإلا فكل مريض يضره استعمال الماء فله أن يتيمم ولو لم يصل الاستعمال إلى الموت، بل لو خاف أن يتعفن الجرح أو يزيد أو يتأخر الشفاء أو تطول عليه مدة المرض ونحو ذلك فإنه يتيمم، لعموم قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}
…
} [المائدة: 6].
الوجه الثالث: حصول الجنابة لصاحب الجرح كما هو ظاهر الحديث ليس بشرط في التيمم، بل لو أحدث حدثاً أصغر فالحكم واحد، وذِكْرُ الجنابة في الحديث على سبيل المثال.
الوجه الرابع: ذكر السفر في الآية الكريمة مبني على الغالب؛ أن السفر مظنة فقد الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب أو طبخ ونحوهما جاز له التيمم، أما السفر نفسه فليس عذراً يبيح التيمم، فإذا وجد المسافر الماء ولا ضرر عليه في استعماله لم يجز له أن يتيمم، والله تعالى أعلم.
(1)
"تاريخ ابن معين"(2/ 403)، وانظر:"تهذيب التهذيب"(7/ 184).
(2)
"العلل"(1/ 25).
حكم المسح على الجبيرة
135/ 10 - وعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيَّ فَسَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَندٍ وَاهٍ جِدّاً.
136/ 11 - وعَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما في الرّجُلِ الّذِي شُجَّ، فَاغْتَسَل فَمَاتَ ـ:(إنّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ اخْتِلافٌ عَلَى رُواتِهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث علي رضي الله عنه: فقد أخرجه ابن ماجه (657) من طريق إسرائيل بن يونس، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وهذا إسناد واه جداً، كما قال الحافظ؛ لأن فيه عمرو بن خالد القرشي الواسطي، قال عنه البيهقي بعد سياقه الحديث:(عمرو بن خالد الواسطي معروف بوضع الحديث، كذّبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من أئمة الحديث، ونسبه وكيع بن الجراح إلى وضع الحديث، قال: وكان بجوارنا، فلما فُطن له تحول إلى واسط، وتابعه على ذلك عمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن زيد بن علي مثله، وعمر بن موسى متروك منسوب إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان)
(1)
.
(1)
"السنن الكبرى"(1/ 228).
وقال البخاري عنه: (منكر الحديث). وقال الحاكم: (يروي عن زيد بن علي الموضوعات)، وقال أبو حاتم:(هذا الحديث باطل لا أصل له، وعمرو بن خالد متروك الحديث)
(1)
، وقال ابن حزم: (هذا خبر لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه
…
)
(2)
.
وأما حديث جابر رضي الله عنه: فقد أخرجه أبو داود (336) في «الطهارة» بابٌ في «المجروح يتيمم» فقال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، ثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ
(3)
السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر» أو «يعصب» شك موسى «على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» .
وقد اختصره الحافظ وساق القدر المقصود، وظاهر سياقه أنه موقوف على جابر رضي الله عنه، مع أنه مرفوع، كما في هذا السياق، ولعل المصنف لم يذكر أنه مرفوع من أجل الاختصار.
وهذا الحديث رواته ثقات، إلا الزبير بن خريق فهو لين الحديث، وقد تفرد به، قال أبو بكر بن أبي داود:(لم يروه عن عطاء، عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي)
(4)
.
وقد اختلف في إسناده، فقد رواه الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه أبو داود (237) فجعله من مسند ابن عباس، وأخرجه - أيضاً - ابن ماجه (572)، وأحمد (5/ 173)، وابن خزيمة (1/ 138)
(1)
"العلل"(1/ 46)، "تهذيب التهذيب"(8/ 24).
(2)
"المحلى"(2/ 75).
(3)
العي: بالكسر هو الجهل.
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 190)، "الخلافيات" للبيهقي (2/ 492).
وغيرهم، ولفظه:(أن رجلاً أجنب في شتاء، فسأل، فأُمر بالغسل فاغتسل فمات، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لهم قتلوه قتلهم الله - ثلاثاً ـ، قد جعل الله الصعيد - أو التيمم - طهوراً»؛ شك ابن عباس، ثم أثبته بعد).
ورواية الأوزاعي أرجح من رواية الزبير لأمرين:
الأول: أن الأوزاعي أوثق من الزبير بدرجات.
الثاني: أن الزبير زاد في الحديث (المسح على الجبيرة) وتفرد بها؛ فهي زيادة ضعيفة منكرة - كما قال الألباني ـ
(1)
وأصل الحديث محفوظ بتعدد طرقه وشواهده، لكن بدون هذه الزيادة، كما تقدم في سياقه عن ابن عباس.
لكن اختلف فيه على الأوزاعي، فبعضهم رواه عنه عن عطاء، كما في هذا السياق، وبعضهم رواه عنه قال: بلغني عن عطاء
(2)
.
قال الدارقطني: (وأرسل الأوزاعي آخره، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب).
وقد ورد هكذا عند ابن ماجه (572)، والحاكم (1/ 178)، والدارقطني (1/ 190)، لكن ظاهره الانقطاع، كما قال البوصيري؛ فإن الأوزاعي صرح بعدم سماعه من عطاء، وبين ذلك ابن أبي العشرين، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة فقالا: (رواه ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس .. )
(3)
.
على أن ابن ماجه قد رواه من طريق ابن أبي العشرين، فلم يذكر إسماعيل وهو ابن مسلم المكي، فإن صح ذكره؛ فالإسناد ضعيف؛ لأن إسماعيل هذا قال عنه ابن معين:(ليس بشيء)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وابن أبي العشرين هو عبد الحميد بن حبيب الدمشقي؛ صدوق ربما أخطأ، قال أبو حاتم:(كاتب ديوان، ولم يكن صاحب حديث)
(4)
، ثم
(1)
"تمام المنة" ص (131).
(2)
أخرجه أبو داود (337)، وأحمد (5/ 173)، والدارقطني (1/ 191) وغيرهم.
(3)
"العلل"(1/ 37)، وانظر:"الخلافيات" للبيهقي (2/ 493).
(4)
"الجرح والتعديل"(6/ 11)، "تهذيب التهذيب"(1/ 289).
إنه قد خالف من هو أوثق منه، كما صرح به ابن عبد البر
(1)
.
قال صاحب «المنهل العذب المورود» : (يحتمل أن الأوزاعي روى الحديث عن عطاء بواسطة وبغير واسطة)
(2)
.
وقد رواه الحاكم في «المستدرك» (1/ 178) وعنه البيهقي في «الخلافيات» (2/ 493) من طريق بشر بن بكر: حدثني الأوزاعي، حدثني عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس
…
وهذا سند صحيح إن كان بشر قد حفظه، لكن قال الحاكم عقبه:(وقد رواه الهِقْل بن زياد - وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي - ولم يذكر سماع الأوزاعي من عطاء).
والحاكم يشير بذلك إلى أن بشراً قد خالف غيره؛ فهو معلول، فقد قال سلمة بن قاسم عن بشر هذا:(يروي عن الأوزاعي أشياء تفرد بها)، وقال عنه الحافظ في «التقريب»:(ثقة يُغْرِبُ). وعليه فهذا الإسناد ليس بصحيح؛ لأنه خالفه من هو أكثر منه عدداً وأحسن حالاً.
والخلاصة: أن حديث الباب حديث ضعيف، لا تقوم به حجة، قال البيهقي:(لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأصح ما فيه حديث عطاء بن أبي رباح، الذي تقدم، وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم، مع ما روِّينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، والله أعلم)
(3)
، وأثر ابن عمر سيأتي ذكره - إن شاء الله - في الكلام على الأحكام.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إحدى زندي) بفتح الزاي المعجمة وسكون النون ثم دال مفتوحة، وآخره ياء مشددة تثنية زَنْد، وهو ما انحسر عنه اللحم من الذراع. وقال الجوهري: (الزند مَوْصِلُ طرف الذراع في الكف، وهما زندان: الكوع،
(1)
انظر: "جامع بيان العلم" ص (144).
(2)
(3/ 193).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 228).
والكرسوع)
(1)
، فالكوع: طرف الزّنْد الذي يلي الإبهام، والكرسوع: طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند الرسغ.
قوله: (الجبائر) جمع جبيرة وهي ما يجبر به العظم المكسور من أعواد تشد عليه أو خرقة تلف عليه، ويدخل في ذلك الوسائل الطبية كالجبس على الكسور واللزقات على أجزاء من البدن أو على الجروح ونحو ذلك.
قوله: (بسند واهٍ جداً) بكسر الجيم منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي: أجد جداً، ومعناه: بالغ الغاية في الضعف. والواهي: هو الذي لا يصلح لا في الشواهد ولا في المتابعات.
قوله: (الذي شج) بضم الشين المعجمة مبني للمجهول، يقال: شجه شجاً من باب (قتل) على القياس، وفي لغة من باب (ضرب): إذا شق جلده، والشجة: الجراحة، وإنما تسمى بذلك إذا كانت في الوجه أو الرأس، والجمع شجاج، وشجات على لفظ المفرد.
الوجه الثالث: هذان الحديثان - حديث علي وجابر رضي الله عنهما في موضوع المسح على الجبيرة، وفيهما ما تقدم من الضعف الشديد، وليس في المسح على الجبيرة دليل سالم من المعارضة، ولهذا اختلف أهل العلم في هذه المسألة:
فمنهم من قال: إن حديث جابر رضي الله عنه بطريقيه مع حديث عليٍّ رضي الله عنه على ما فيهما من الضعف يتعاضدان على شرعية المسح على الجبائر، وهذا القول ذكره الصنعاني
(2)
والشوكاني
(3)
والشيخ عبد العزيز بن باز، مع ما يؤيدهما مما سيأتي.
ومن أهل العلم من قال: إنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لضعفها الشديد وهؤلاء فريقان:
(1)
"الصحاح"(2/ 481).
(2)
"سبل السلام"(1/ 189).
(3)
"نيل الأوطار"(1/ 302).
الأول: قال: يسقط تطهير محل الجبيرة؛ لأنه عاجز عنه، فلا مسح ولا تيمم، وهذا قول ابن حزم الظاهري، وذَكَرَ عن الشعبي ما يوافق قوله، ومثله عن داود وأصحابه، فقد قال: (برهان ذلك قول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
، فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله، فسقط القول بذلك)، وقد رد ابن حزم القول بأن مسح الجبائر مقيس على المسح على الخفين وقال:(إنه قياس باطل)
(2)
.
الفريق الثاني: أنه يتيمم عوضاً عما تُرك غسله، ولا يمسح على الجبيرة، وهو قول لبعض الشافعية
(3)
.
والأظهر في هذه المسألة والأقرب إلى القواعد بغض النظر عن الأحاديث الواردة في الباب أنه يمسح على الجبائر وما في بابها، وهو قول الجمهور من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية، واختاره ابن المنذر
(4)
وحكاه عن ابن عمر وعطاء وعبيد بن عمير وإبراهيم والحسن وجماعة آخرين، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
.
ويؤيد هذا القول ما يلي:
1 -
القياس على المسح على الخفين، فإن هذا عضو وجب غسله، وسُتر بما يسوغ ستره شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين.
فالمسح على الخفين يقوي القول بالمسح على الجبائر؛ لأن المسح على الخفين مسح لغير ضرورة، بل هو من باب الإرفاق ورحمة الله تعالى بعباده
(1)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1373).
(2)
"المحلى"(2/ 74، 75).
(3)
"المجموع"(2/ 326).
(4)
"الأوسط"(2/ 23).
(5)
"الفتاوى"(21/ 181).
والإحسان إليهم، والتيسير عليهم، فإذا جاز المسح على الخفين من غير ضرورة، فلأن يجوز على الجبائر التي هي موضع ضرورة من باب أولى.
ولهذا لم يشرع التوقيت لمسح الجبيرة، بل يمسح عليها مدة الحاجة، بخلاف المسح على الخفين فإنه مؤقت - كما تقدم في بابه - لأنه مسح اختياري.
2 -
أن طهارة المسح بالماء في محل الغسل الواجب عليه أولى من طهارة المسح بالتراب في غير محل الغسل الواجب؛ لأن الماء أولى من التراب، وما كان في محل الفرض فهو أولى به مما يكون في غيره
(1)
.
3 -
ما أخرجه البيهقي من طريق موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح على العصائب، وغسل سوى ذلك
(2)
.
ولا حاجة إلى التيمم مع المسح، بل يكفي المسح على الراجح من قولي أهل العلم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
؛ لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف للقواعد الشرعية؛ لأنه يجب تطهير هذا العضو إما بكذا وإما بكذا، أما إيجاب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظير له في الشرع، لكن إن كان العضو مكشوفاً ويضره الغسل والمسح فهذا يتيمم له، وذلك أن العضو الذي أصيب بجرح ونحوه له حالتان:
الأولى: أن يكون مستوراً، فهذا حكمه المسح على الجبيرة.
الثانية: أن يكون مكشوفاً، فهذا له ثلاث حالات:
1 -
ألا يضره الغسل، فهذا يغسل إذا كان في أعضاء الوضوء.
2 -
أن يضره الغسل دون المسح، فيمسح عليه.
3 -
أن يضره الغسل والمسح، فهذا يتيمم له، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(21/ 181 - 182).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 228) وقال: "هو عن ابن عمر صحيح".
(3)
"الفتاوى"(21/ 467).
ما جاء في أن التيمم لا يُصلى به إلا صلاة واحدة
137/ 12 - وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلّيَ الرّجُلُ بالتَّيَمُّمِ إلاّ صَلَاةً وَاحِدةً، ثُمّ يَتَيَمَّمُ لِلصّلَاةِ الأُخْرَى). رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيُّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدّاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/ 185)، وعبد الرزاق (1/ 214)، والبيهقي (1/ 221)، من طريق الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الدارقطني عَقِبَهُ:(الحسن بن عمارة ضعيف).
وهذا الإسناد ضعيف جداً - كما قال الحافظ - لأن الحسن بن عمارة بن المضَرِّب البجلي متروك الحديث؛ قاله الإمام أحمد وأبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني.
وقال ابن المديني: (كان يضع الحديث)، وقال شعبة:(يكذب)، وقال أيضاً:(روى أحاديث عن الحكم، فسألنا الحكم عنها فقال: ما سمعت منها شيئاً)، وقال الساجي:(ضعيف متروك، أجمع أهل الحديث على ترك حديثه)
(1)
.
والحديث ذكره الألباني، وحكم عليه بأنه موضوع، وأنه لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، بل ثبت عنه خلافه، كما نقله ابن حزم
(2)
.
(1)
"تهذيب التهذيب"(2/ 264).
(2)
"السلسلة الضعيفة"(1/ 423).
وقد ورد في الباب آثار عن الصحابة رضي الله عنهم ولم يصح منها إلا أثر ابن عمر رضي الله عنهما، قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث
(1)
.
قال البيهقي: (هذا إسناد صحيح، وقال: أصح حديث في الباب: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وبه تقع الكفاية، إذ لا يعرف له عن الصحابة رضي الله عنهم مخالف، والله أعلم)
(2)
.
الوجه الثاني: هذا الأثر دليل على أنه لا يجوز للمتيمم أن يصلي بالتيمم الواحد إلا صلاة واحدة، سواء أكانت الصلاة الثانية في الوقت نفسه كالقضاء مثلاً، أم كانت كل واحدة منهما في وقت، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنه
(3)
، هو مبني على أن التيمم مبيح لا رافع.
والقول الثاني: أنه يجوز للمتيمم أن يصلي ما شاء من الصلوات، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، ورجحه ابن المنذر
(5)
وابن حزم
(6)
والصنعاني
(7)
، وهذا مبني على أن التيمم رافع للحدث إلى وجود الماء، وقد تقدم بيان ذلك، وهو الأظهر إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 184) والبيهقي (1/ 221) من طريق عبد الوارث، عن عامر الأحول، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
"الخلافيات"(2/ 464).
(3)
"الأم"(2/ 99)، "التمهيد"(19/ 294 - 295)، "المغني"(1/ 329).
(4)
"بدائع الصنائع"(1/ 55)، "الفتاوى"(21/ 473)، "الإنصاف"(1/ 292).
(5)
"الأوسط"(2/ 58).
(6)
"المحلى"(2/ 130).
(7)
"سبل السلام"(1/ 184).
كتاب الحيض
الحيض لغة: مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض: إذا جرى دمها وسال، فأصل الكلمة مأخوذة من السيلان والانفجار.
وشرعاً: دم طبيعة يخرج من قعر الرحم، يعتاد الأنثى إذا بلغت، في أوقات معلومة.
ومعنى (دم طبيعة) أي: فطرة وخلقة، وليس بدم فساد ناشئ من مرض أو جرح أو نحوهما، بل هو دم جَبَلَ الله عليه بناتِ آدم عليه السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا شيء كتبه الله على بنات آدم»
(1)
، ولما كان الحيض دم طبيعة اختلفت فيه النساء اختلافاً ظاهراً.
وهذا يُخرج دم الاستحاضة، فليس بدم طبيعة، بل هو دم فساد، يخرج من عرق انقطع وسال دمه.
وقولنا: (يخرج من قعر الرحم) فيه بيان مصدر دم الحيض، وهو الرحم، أما دم الاستحاضة فمصدره أدنى الرحم دون قعره، أو الفرج دون الرحم، كما سيأتي إن شاء الله.
ومعنى (يعتاد الأنثى إذا بلغت): أن الحيض علامة على البلوغ.
ومعنى (في أوقات معلومة) أي: تعرفها المرأة، والغالب أن الحيض يحدث مرة كل شهر، إما في أوله أو وسطه أو آخره حسب عادة المرأة، وقد يتقدم وقد يتأخر.
(1)
أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211)(120)، وسيأتي بتمامه عند الحديث (148) إن شاء الله تعالى.
والحكمة من هذا الحيض أن الله تعالى جعل في الأنثى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه، ينفذ إلى جسمه من طريق السُّرة، فإذا وضعت المرأة حملها تحول بقدرة الله تعالى لبناً يتغذى به الولد، ولذا قل أن تحيض الحامل، وقل أن تحيض المرضع، فإذا خلت المرأة من حمل أو رضاع بقيت هذه الإفرازات لا مصرف لها، فتستقر في مكان، ثم تخرج في أوقات معلومة.
وأصل ذلك أن الرحم بقدرة الباري يتكون فيه أغشية مَخْملية يتبطن بها الرحم، وهي مُعَدَّةٌ لاحتضان البويضة والحيوان المنوي، فإذا لم يتم التلقيح في الميعاد المحدد بحكمة الله تمزقت الأغشية وخرج إثْر ذلك دم الحيض، وبعد الطهر يبدأ الرحم في عمل غشاء جديد، وهكذا يكون في كل دورة بقدرة الله
(1)
.
ومما يجب على المرأة معرفته أَنَّ تَدَفُّقَ دم الحيض مع ما فيه من إزعاج لها هو العلامة الصحيحة لصلاح الرحم ودورته وأنه صالح لأن يكون وعاءً سليماً للإنجاب والذرية.
واعلم أن باب الحيض من أصعب أبواب الفقه وأكثرها غموضاً، لا من جهة الأحكام المترتبة عليه، فكثير منها اتفاقي واضح، وإنما ذلك لأن المرأة ينزل منها دماء غير دم الحيض، فيشتبه الأمر عليها وعلى المفتي، ولأن الحيض قد يتقدم وقد يتأخر، وقد يزيد وقد ينقص، مع ما ظهر في هذا العصر من أسباب، وأهمها استعمال وسائل منع الحمل ومنع الحيض، وغير ذلك مما صار له أثر كبير على اضطراب الدورة وكثرة الإشكالات عند النساء مما يحير المفتي. والله المستعان.
(1)
انظر: "خلق الإنسان بين الطب والقرآن" ص (77).
حكم المستحاضة التي لا عادة لها
138/ 1 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إنّ فَاطمَةَ بِنْتَ أَبي حُبَيْشٍ كانت تُسْتَحاضُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دَمَ الحيضِ دَمٌ أسودُ يُعْرَفُ، فإذا كانَ ذلكَ فأَمْسِكي عَنِ الصَّلاةِ، فإذا كانَ الآخَرُ فتَوَضَّئي، وصَلِّي» . رَواهُ أبو دَاوُدَ، والنَّسائيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّان، والحَاكِمُ، واستنكَرَه أبو حَاتِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في «الطهارة» ، باب «من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة»، وفي باب «من قال: توضأ لكل صلاة» (286، 304)، والنسائي (1/ 185)، وابن حبان (1348)، والحاكم (1/ 174)، وفي آخره عند أبي داود، والنسائي، والحاكم:«فإنما هو عرق» ، كلهم من طريق محمد بن أبي عدي من حفظه، عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت حبيش رضي الله عنها
…
فذكره، وهذا الحديث في سنده ومتنه اختلاف.
أما الاختلاف في سنده فقد قيل فيه: عن ابن شهاب، عن عروة، عن فاطمة رضي الله عنها، وقيل: عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة. فعلى الأول هو من مسند فاطمة، وعلى الثاني من مسند عائشة، ومدار هذين الإسنادين كما عند أبي داود وغيره على محمد بن أبي عدي، حدَّث بالأول من كتابه، والثاني من حفظه، كما ذكره أبو داود عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب به، ورجح بعضهم الإسناد الأول لأنه من كتابه.
وردّ ابن حزم هذا الاضطراب فقال: (إن هذا كله قوة للخبر، وليس هذا اضطراباً؛ لأن عروة رواه عن فاطمة وعائشة معاً، وأدركهما معاً، فعائشة خالته أخت أمه، وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد ابنة عمه، وهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومحمد بن أبي عدي الثقة الحافظ المأمون .. )
(1)
.
أما الاختلاف في المتن فقد ورد الحديث في الصحيحين، وليس فيه قوله فإنه:«أسودُ يُعْرَفُ» كما أن السياق المذكور صريح باعتبار التمييز لا العادة، وظاهر قصة فاطمة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ردها إلى العادة، ولا يمكن التعدد في هذه القصة، وقد ورد في الصحيحين من طريق هشام، عن عروة، عن عائشة قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما ذلكِ عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» ، وهذا لفظ البخاري
(2)
.
قال ابن رجب: (والأظهر - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها إلى العادة لا إلى التمييز، لقوله: «فإذا ذهب قدرها»)
(3)
.
وعلى هذا فقوله في حديث الباب فإنه: «أسود يعرف» ، لم يرد في الصحيحين، بل انفرد به محمد بن عمرو، وهو ممن لا تحتمل مخالفته، ولذا قال أبو حاتم:(لم يُتَابَعْ محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر)
(4)
، وظاهره أن المقصود المتن.
وقال النسائي بعد سياقه الحديث: (وقد روى هذا الحديث غير واحد، لم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن أبي عدي، والله تعالى أعلم)
(5)
.
والحديث صححه جماعة، منهم: ابن حبان، والحاكم، وقد صححه
(1)
انظر: "المحلى"(2/ 168)"تهذيب مختصر السنن"(1/ 182).
(2)
"صحيح البخاري"(306) و "صحيح مسلم"(303).
(3)
"فتح الباري" لابن رجب (2/ 58).
(4)
"العلل"(1/ 49).
(5)
"سنن النسائي"(1/ 185).
على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وكذا صححه ابن حزم، والنووي
(1)
، وقد تعقب الألبانيُّ الحاكمَ والذهبيَّ بأن الحديث لا يصل إلى رتبة الصحيح، بل هو من قبيل الحسن؛ لأن فيه محمد بن عمرو وهو ابن علقمة، وإنما أخرج له البخاري مقروناً بغيره، ومسلم متابعة، وفي حفظه ضعف يسير، فيكون حديثه في رتبة الحسن
(2)
، قال الحافظ عنه في «التقريب»:(صدوق له أوهام).
والحديث مع ما فيه من المقال فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله، وحملوه على المستحاضة المبتدأة التي ليس لها عادة ترجع إليها، ولكنها مميزة، فقالوا: ترجع إلى التمييز، وهذا أولى من ردها إلى عادة غالب النساء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن فاطمة بنت حبيش) تقدم ذكرها في «نواقض الوضوء» .
قوله: (تستحاض) أي: يصيبها حيض كثير، فالسين والتاء للمبالغة، والاستحاضة: استمرار خروج دم المرأة كل الوقت أو أكثره.
ودم الاستحاضة قد يكون من الرحم أو من أدنى الرحم أو من الفرج، والاستحاضة لها أسباب متعددة ذكرها الأطباء، منها:
1 -
وجود أورام بجسم الرحم.
2 -
وجود قرحة في عنق الرحم.
3 -
وجود ورم في عنق الرحم.
4 -
وجود التهابات أو أورام أو أجسام غريبة في الفرج.
وقد قررت الندوة الثالثة للفقه الطبي في الكويت في 20 شعبان 1407 هـ: (الاستحاضة طبياً: الدم المرَضِيّ غيرُ السّوي، وأسبابها المرضية شتى)
(3)
.
(1)
"الخلاصة"(1/ 232)، "المجموع"(2/ 402 - 403).
(2)
"إرواء الغليل"(1/ 224).
(3)
"الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب" ص (25).
قوله: (أسود يُعرف) بضم الياء وفتح الراء مبني للمجهول، مأخوذ من المعرفة، أي: تعرفه النساء بلونه وثخانته كما تعرفه بالعادة، ويجوز ضم الياء وكسر الراء مأخوذ من الإعراف، أي: له عَرْف - بفتح فسكون - والعَرْفُ: الرائحة.
قوله: (فإذا كان ذلكِ) بكسر الكاف، والمشار إليه: الدم الأسود، والمخاطب: فاطمة، وكان: تامة بمعنى: حصل، واسم الإشارة: فاعل.
قوله: (فأمسكي عن الصلاة) رواية الصحيحين: «فاتركي الصلاة» .
قوله: (فإذا كان الآخر) أي: غير الأسود، بأن كان أصفر أو أشقر أو أكدر.
قوله: (فإنما هو عرق) على حذف مضاف، أي: دم عرق، ومعناه: أن غير الأسود ليس بحيض فاغتسلي وتوضئي؛ لأنه دم عرق انفجر، لا دم حيض، فلا يمنع صلاة ولا صوماً ولا غيرهما مما يحل للطاهرات.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المستحاضة التي زاد دمها وكثر أنها تنظر في الدم إذا اشتبه عليها الحيض، فتميز أيام حيضها بلون دم الحيض الأسود، فالأسود حيض تجلس له، وما عداه استحاضة.
وقد حمل جماعة من أهل العلم هذا الحديث على المرأة المبتدأة التي أطبق عليها الدم أول ما بدأت تحيض، فهذه ترجع إلى التمييز بكل حال؛ لأنه ليس لها عادة ترجع إليها.
وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأة من آل أنس، فأمروني فسألت ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة من النهار فلتغتسل وتصلي
(1)
.
قال في «تاج العروس» : (دم بحراني: شديد الحمرة .... ومن المجاز: دم بحراني: أي أسود، نسب إلى بحر الرحم، وهو عمقه)
(2)
.
(1)
"المصنف"(1/ 128) وإسناده صحيح.
(2)
(3/ 28).
فهذا الأثر يؤيد حديث الباب ويدل على أن المستحاضة التي ليس لها عادة ترجع إليها أنها ترجع إلى التمييز.
أما إن كان لها عادة تعرفها، ثم طرأت عليها الاستحاضة فهذه فيها قولان:
الأول: أنها ترجع إلى عادتها ولا تنظر إلى التمييز، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو قول الحنفية، ووجه في مذهب الشافعية
(1)
، لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة:«فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» ، ولم يستفصل الرسول صلى الله عليه وسلم هل هي مميزة أو لا؟.
القول الثاني: أنها تعمل بالتمييز وتقدمه على العادة، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: ولأن عادتها قد تتغير فتكون في آخر الشهر بدلاً من أول الشهر، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية والشافعية على بعض التفاصيل عندهم والتي موضعها كتب الفقه، وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
.
والقول بالرجوع إلى العادة أرجح؛ لأنه هو الثابت في الصحيحين، ولأنه أسهل على المرأة وأبعد لها عن الاضطراب.
فإن كان لا تمييز لها ولا عادة عملت بعادة غالب النساء ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية، لحديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من الفروق بين دم الحيض ودم الاستحاضة: اللون وأن دم الحيض أسود، ودم الاستحاضة أحمر يميل إلى الصفرة، وقد ورد ذلك - أيضاً - في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: اعتكفتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي
(3)
، قال ابن رجب: (وفي حديث
(1)
"كشاف القناع"(1/ 208)، "نهاية المحتاج"(1/ 345)، "بدائع الصنائع"(1/ 41).
(2)
"الشرح الصغير"(1/ 213)، "روضة الطالبين"(1/ 150)، "الإنصاف"(1/ 366).
(3)
أخرجه البخاري (309).
عائشة ما يدل على أن دم الاستحاضة يتميز عن دم الحيض بلونه وصفرته)
(1)
، وهذا الفرق هو الذي ورد في السنة صراحة، وقد ذكر العلماء ثلاثة فروق أخرى وهي:
1 -
أن دم الحيض ثخين ودم الاستحاضة رقيق، ولعل سبب ذلك ما ذكره الدكتور محمد البار حيث يقول:(وعند فحص دم الحيض بالمجهر فإننا نرى كرات الدم الحمراء والبيضاء وقطعاً من الغشاء المبطِّن للرحم) ويقول: (وينزل دم الحيض محتوياً على قطع من الغشاء المبطِّن للرحم مفتتة)
(2)
.
2 -
أن دم الحيض كريه الرائحة، ودم الاستحاضة لا رائحة له. ذكر ذلك بعض الفقهاء، والدكتور البار
(3)
.
3 -
أن دم الحيض لا يتجمد ودم الاستحاضة يتجمد، وهذا قد يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما ذلك عرق» ودماء العروق تتجمد، وقد نقل الدكتور البار عن بعض الأطباء الغربيين: أن دم الحيض لا يتجمد؛ لأنه قد تجمد في الرحم ثم انفجر وسال، فإن ظهر أثناء الحيض دم متجمد فإن ذلك دم غير طبيعي
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(2/ 82).
(2)
"خلق الإنسان بين الطب والقرآن" ص (90 - 93).
(3)
المرجع السابق ص (91).
(4)
المرجع السابق ص (89 - 93).
ما جاء في اغتسال المستحاضة ووقته
139/ 2 - وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ: (لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ، فإذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ المَاءِ، فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلاً وَاحِداً، وَتَغْتَسِلْ للمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلاً وَاحِداً، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلاً، وَتَتَوَضّأْ فِيما بَيْنَ ذلِكَ).
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي أسماء بنت عُميس - بضم العين المهملة - وفي نسبها اختلاف كثير، وهي من السابقين إلى الإسلام، هاجرت رضي الله عنها إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فولدت له هناك ثلاثة أولاد، ثم هاجرت إلى المدينة، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه وهو حديث طويل، وفيه: لما قال لها عمر رضي الله عنه: (سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم)، فذكرتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان
…
»
(1)
.
فلما استشهد زوجها يوم مؤتة تزوج بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فولدت له محمداً وقت الإحرام في حجة الوداع، ولما توفي الصدِّيق غسَّلته أسماء
(2)
، ثم تزوجها علي رضي الله عنه.
وقد نقل الذهبي عن الشعبي أنه قال: أول من أشار بنعش المرأة - يعني
(1)
أخرجه البخاري (4230)، ومسلم (2503).
(2)
أخرجه مالك (1/ 223).
المكبّة - أسماء، رأت النصارى يصنعونه بالحبشة
(1)
.
روى عنها ابنها عبد الله بن جعفر، وابن أختها عبد الله بن شداد، وسعيد بن المسيب، وعروة، والشعبي، وآخرون
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (296) في «الطهارة» باب: «من قال: تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً» ، وأخرجه الدارقطني (1/ 215)، والحاكم (1/ 281)، والبيهقي (1/ 353) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله: إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا، فلم تصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! هذا من الشيطان، لتجلس في مركن
…
» الحديث بتمامه، وهو لفظ أبي داود.
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه الألفاظ).
وهذا فيه نظر، فإن في إسناده سهيل بن أبي صالح، وهو متكلم فيه، ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال:(يخطئ)
(3)
، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وقال أحمد:(ما أصلح حديثه!)، وقال أبو حاتم:(يكتب حديثه ولا يحتج به)، قال ابن المديني:(كان لسهيل أخ فمات فَوَجَدَ عليه فنسي كثيراً من الحديث)
(4)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(صدوق تغير حفظه بأخرة، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً).
وقد خالف سهيل بقية الرواة عن الزهري، فقد رواه الليث، وإبراهيم بن سعد، وابن عيينة، ومعمر، والأوزاعي، وعمرو بن الحارث، وابن إسحاق، وابن أبي ذئب، وغيرهم، كلهم رووه عن الزهري، عن عروة، وتارة عن عمرة
(1)
"الطبقات"(8/ 281)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 284).
(2)
"الاستيعاب"(12/ 201)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 282)، "الإصابة"(12/ 116).
(3)
"الثقات"(6/ 416 - 417).
(4)
"ميزان الاعتدال"(2/ 243).
بنت عبد الرحمن بن سعد
(1)
، وتارة يجمعهما عن عائشة، ولم يذكروا أسماء، وجعلوه في قصة أم حبيبة، ولم يجعلوه في قصة فاطمة، وقد ذكر ذلك البيهقي
(2)
.
وقد حكم بعض العلماء كابن عبد البر على حديث الزهري بأنه مضطرب لذلك
(3)
، وهذا فيه نظر، فإنه لا مانع أن يكون الزهري سمعه من عروة وعمرة عن عائشة، فكان تارة يجمعهما وتارة يفرقهما، وقد وردت الرواية في الصحيحين عن عروة وعمرة مجتمعين
(4)
. قال الدارقطني: (هو صحيح عن عروة وعمرة جميعاً).
وخالفهم سهيل فرواه عن الزهري، عن عروة، عن أسماء، كما في هذا السياق، ثم إنه اختلف في لفظه على سهيل، فإنه قد ذكر فيه الاغتسال للصلوات المجموعة، وكذا الفجر، وخالف بذلك رواية الأكثر، فإنه ليس فيها الأمر بالاغتسال للصلوات المجموعة، بل فيها:«وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» ، وفي رواية:«وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» .
ولا ريب أن هذه المخالفة لا تقبل منه، لا سيما أنه تغير في آخر عمره، فيكون حديثه من قبيل الحسن، بشرط ألا يخالَف أو يُختلف عليه، وهذا لم يتحقق في هذا الحديث، فتكون رواية الصحيحين مقدمة على روايته، وقد ورد عند أبي داود (281) من رواية جرير عن سهيل به، بلفظ:(أمرها - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل)، وهذا قريب من لفظ البخاري.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (لتجلس في مركن) بكسر الميم وسكون الراء، هو وعاء تُغسل فيه الثياب.
(1)
الأنصارية وهي من أعلم الناس بحديث عائشة، على ما قاله ابن حبان في "الثقات"(5/ 288).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 354).
(3)
"التمهيد"(16/ 65).
(4)
"صحيح البخاري"(327)، و "صحيح مسلم"(334).
قوله: (فإذا رأت صفرة فوق الماء) أي: أنها تجلس في مركن فيه ماء لتعرف حال دمها، فإذا علا الماءَ صفرةٌ كان دمَ استحاضة، وإن علاه غيرها فهو حيض.
قوله: (وتتوضأ فيما بين ذلك) أي: إذا أرادت أن تصلي فيما بين الصلوات صلاة أخرى، وقد رأت ناقضاً فإنها تتوضأ ولا تغتسل؛ لأن الغسل مختص بالأوقات الخمسة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المستحاضة تغتسل لكل صلاتين غسلاً واحداً، فتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وللمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وأنها تصلي الظهر آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وهكذا المغرب والعشاء، وبذا قال جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم: علي وابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي، لكن تقدم أن الصواب رواية الصحيحين، وأنه يجب الاغتسال عند إدبار الحيضة غسلاً واحداً.
وأما الجمع فقد قال أبو داود بعد سياقه الحديث: (رواه مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما لما اشتد عليها الغسل أمرها أن تجمع بين الصلاتين)
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"السنن"(1/ 80).
المستحاضة تجمع بين الصلاتين
140/ 3 - وعَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَبِيرَةً شَدِيدةً، فأَتَيْتُ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ:«إنمَا هِي رَكْضَةٌ مِنَ الشّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتّةَ أَيّامٍ، أَوْ سَبْعَةً، ثمّ اغْتَسِلِي، فَإذَا اسْتَنْقَأْتِ فَصَلّي أَرْبَعَةً وَعِشْرِين، أَو ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَصُومِي وَصَلّي، فَإنّ ذلِكَ يُجْزِئُكِ، وَكذلِكَ فَافْعَلِي كما تحِيضُ النّساءُ، فَإنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤخّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجّلي الْعَصْرَ، ثمّ تَغْتَسِلي حِينَ تَطْهُرِينَ وتُصَلّين الظهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً، ثمّ تُؤَخّرِينَ المَغْربَ وتُعَجّلينَ الْعِشَاءَ، ثمّ تَغْتَسِلينَ وَتجْمَعِينَ بَينَ الصّلَاتَينِ، فَافْعَلِي، وَتغتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ. قَالَ: وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إليّ» . رَوَاهُ الخمسَةُ إلاّ النّسَائِيّ، وَصَحّحَهُ التّرْمِذِيّ، وَحَسّنَهُ الْبُخَارِيّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي حَمْنَةُ - بفتح الحاء المهملة وسكون الميم - بنت جحش الأسدية، أخت أم المؤمنين زينب، والصحيح أن هذا اسمها، وكانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله - أحد المبشرين بالجنة ـ، وكانت من المبايعات، وشهدت أحداً، فكانت تسقي العطشى، وتحمل الجرحى وتداويهم، وكانت تستحاض - كما في هذا الحديث - وكذا أختها أم حبيبة بنت جحش، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، بل ذكر الحافظ أن كل بنات جحش كن مستحاضات
(1)
، ونقل عن الواقدي أنه أنكر
(1)
"الإصابة"(12/ 202).
أن تكون حمنة استحيضت أصلاً، ثم قال:(والعلم عند الله)
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
الظاهر أن الحافظ رحمه الله تصرف في سياق لفظ الحديث، فحذف بعض العبارات، ثم إنه مجموع من بعض ألفاظ أبي داود وألفاظ الترمذي.
فقد أخرجه أبو داود (287) في «الطهارة» ، باب «من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة»، والترمذي (128) في «الطهارة» ، باب «ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد» ، وابن ماجه (627)، وأحمد (6/ 439) كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش رضي الله عنها.
وهذا الإسناد فيه ضعف، قال البيهقي:(تفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به)
(2)
، وقد تقدم قول ابن عيينة:(أربعة من قريش يترك حديثهم فذكر منهم ابن عقيل)، وقد نقل أبو داود بعد سياق الحديث عن الإمام أحمد أنه قال:(حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء).
وقال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث رواه ابن عقيل عن إبراهيم بن محمد، عن عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش في الحيض فوهّنه ولم يقوّ إسناده)
(3)
، وضعفه الدارقطني، وابن منده، كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب
(4)
.
أما الترمذي فقد قال عنه: (هذا حديث حسن صحيح، وقال: سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن صحيح
(5)
، وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح) انتهى كلام الترمذي.
(1)
"الاستيعاب"(12/ 262)، "الإصابة"(12/ 201).
(2)
"معرفة السنن والآثار"(2/ 159).
(3)
"العلل"(1/ 51).
(4)
"فتح الباري"(2/ 64).
(5)
الذي في "علل الترمذي"(1/ 187)(هو حديث حسن)، وهو الموافق لما في "البلوغ"، وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 339) ومعه "الجوهر النفي"، "نيل الأوطار"(1/ 318 - 319).
وما نقله الترمذي - هنا - عن الإمام أحمد يخالف ما نقله عنه أبو داود، كما تقدم قريباً، فإن قلنا بالترجيح فنقْلُ أبي داود أرجح؛ لأنه من تلاميذ الإمام أحمد الملازمين له، وله عنه كتاب «المسائل» المشهور، وإلا فقد يكون كلام أبي داود متقدماً؛ لأن ابن رجب ذكر أن الإمام أحمد ضعَّف الحديث ولم يأخذ به، ثم ذكر عن أبي بكر الخلال أن الإمام رجع إلى القول بحديث حمنة والأخذ به
(1)
.
على أن القول بالحديث والأخذ به لا يعني الحكم بالصحة ما لم يصرح المحدث بأن الحديث صحيح، وهذا موجود في جامع الترمذي، ففيه أحاديث ضعيفة، ثم يذكر أن العمل عليها عند أهل العلم، وهذا لا يعني صحتها.
والأظهر أن هذا الحديث ضعيف، لأن مداره على ابن عقيل، وهو حسن الحديث - كما قال الذهبي وغيره - إذا لم يخالف، وأما مع المخالفة فليس بحجة، وحديثه هذا مخالف للأحاديث الواردة في الصحيحين في ردِّ المستحاضة إلى عادتها، لا إلى غالب النساء كما في هذا الحديث، فتفرد ابن عقيل بمثل هذا الحكم لا يجعله مقدماً على أحاديث الصحيحين، وقد حمله بعض أهل العلم على المبتدأة التي ليس لها عادة ولا تمييز، كما سيأتي
(2)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قولها: (كنت أُستحاض حيضة) بفتح الحاء من (حيضة)، وهو مصدر: حاض، لا مصدر استحاض، فهو على حد: أنبته الله نباتاً، ولا يضره الفرق في اصطلاح العلماء بين الحيض والاستحاضة، إذ الكلام وارد على أصل اللغة.
قولها: (حيضة كبيرة شديدة) لفظ أبي داود والترمذي: «كثيرة شديدة» وفي نسخة للترمذي (كبيرة شديدة)، ومعنى (كثيرة أو كبيرة) أي: أيامها كثيرة أو كثيرة في كميتها، ومعنى:(شديدة) أي: في كيفيتها، بمعنى أن دمها شديد الدفق.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب (2/ 64).
(2)
انظر: "معالم السنن"(1/ 183)، "فتح الباري" لابن رجب (2/ 65).
قوله: (إنما هي ركضة من الشيطان) هذا لفظ الترمذي، وعند أبي داود «إنما هي ركضة من ركضات الشيطان» ، وأصل الركض: الضرب بالرجل، والإصابة بها لقصد الإضرار والأذى، ومعناه - والله أعلم - أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك عادتها، فكأنها ركضة نالتها من ركضاته، وقيل: هو حقيقة وأن الشيطان ضربها حتى فتق عرقها.
قوله: (فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة) يقال: تحيَّضت المرأة: إذا قعدت أيام حيضها تنتظر انقطاعه، أراد: عُدّي نفسك حائضاً، وافعلي ما تفعل الحائض، وإنما خص الست والسبع لأنهما الغالب على أيام الحيض، و (أو) في الحديث ليست للتخيير، وإنما هي للاجتهاد بأن تنظر إلى الأقرب ممن يشابهها خلقةً ويقاربها سناً ورحماً، فتجعل حالها كحالها، فإن كان الأقرب ستة جعلته ستة، وإن كان الأقرب سبعة جعلته سبعة.
قوله: (فإذا استنقأت فصلي
…
) هكذا بالهمزة عند أبي داود والترمذي وغيرهما، وقد جاء بالياء (استنقيت) عند الدارقطني
(1)
، قالوا: وهو القياس؛ لأنه من نَقِيَ الشيء ينقى، من باب تعب، نقاءً ونقاوة: نظف، وتقول: نقيته وأنقيته: إذا نظفته، قال المطرِّزي:(والاستنقاء المبالغة في تنقية البدن، قياس، ومنه قوله: «فإذا رأيت أنك طهرت واستنقيت فصلي» والهمزة فيه خطأ)
(2)
.
والحق أنه ليس خطأ، فإن هَمْزَ ما ليس بمهموز كثير في كلام العرب، فقد نقل السيوطي عن يونس أنه قال:(أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب فيهمزون: النبي، والبرية، والذرية، والخابية)
(3)
، ونقل الجوهري عن ابن السكيت أنه قال:(قالت امرأة من العرب: (رثأت زوجي بأبيات) وهَمَزَتْ، وقال الفراء: (ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس
(1)
"سنن الدارقطني"(1/ 214).
(2)
"المغرب" ص (465).
(3)
"المزهر"(2/ 252).
بمهموز، قالوا: رثأت الميت، ولبأت بالحج، وحلأّت السويق تحلئة، وإنما هو من الحلاوة .. )
(1)
.
قوله: (ثم اغتسلي) أي: بعد الستة أو السبعة من الحيض.
قوله: (فصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين) أي: على حسب مدة الحيض التي تجلسين، فيكون الباقي من الشهر هو مدة الطهر، تصلين فيها.
قوله: (وصومي وصلي) أي: ما شئت من فريضة أو تطوع.
قوله: (وكذلك فافعلي كما تحيض النساء) عند أبي داود: «فافعلي كل شهر» ، أي: اجعلي مدة حيضتك كل شهر بقدر ما تحيض النساء عادة من ست أو سبع، وكذا مدة الطهر.
قوله: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر
…
إلخ) أي: إن قدرت بعد مرور الستة أو السبعة أن تغتسلي للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتجمعي بينهما جمعاً صورياً بأن توقعي الظهر في آخر وقته والعصر في أول وقته، وكذا تفعلين في المغرب والعشاء، وتغتسلين للصبح فافعلي.
قوله: (ثم تغتسلي حين تطهرين) هذا اللفظ عند الترمذي، ولفظ أبي داود:«فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر» .
قوله: (قال: وهو أعجب الأمرين إلي) أي: الجمع بين الصلاتين بغسل واحد أحب الأمرين إلي.
ولم يتقدم الأمر الأول في السياق صراحة، وقد ورد عند أبي داود والترمذي في أول الحديث:«سآمرك بأمرين، أيّهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، فإن قويت عليهما فأنتِ أعلم» ، ولم يرد الأمر الأول صراحة في السياق عندهما، والظاهر أن الأمر الأول هو الاغتسال لكل صلاة؛ لأن أبا داود ذكر أنه ورد في حديث ابن عقيل: الأمران جميعاً، حيث جاء فيه:«إن قويت فاغتسلي لكل صلاة وإلا فاجمعي»
(2)
.
(1)
"الصحاح"(6/ 2352).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 78 - 79).
وهذا من رواية القاسم بن مبرور عن ابن عقيل، أي أنه: روى عنه الأمرين جميعاً، لكن هذا المعنى يتوقف على ثبوت رواية القاسم بن مبرور عن ابن عقيل لهذا الحديث
(1)
.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إن المرأة المستحاضة التي لا تعرف عادة حيضتها الأصلية، وليس لدمها تمييز صالح تعرف به دم الحيض من دم الاستحاضة أنها تعمل بعادة غالب النساء، فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر، يبتدئ من أول المدة التي رأت فيها وما عداه استحاضة، وتقدم أن هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية.
وهذا هو القسم الثالث من أقسام المستحاضة، وهي التي ليس لها حيض معلوم ولا تمييز صالح، وقد مضى الكلام على القسمين الأولين في الحديث الأول.
والقول الثاني: أن هذه المستحاضة تجلس عادة نسائها، كأمها، وأختها، وهذا رواية عن أحمد، وقول لمالك، لأن الغالب شبهها بهن
(2)
.
والمقصود أن من احتج بالحديث مشى على القول الأول. وحمل الحديث على المبتدأة التي لا عادة لها ولا تمييز، مع أن حمل الحديث على ذلك يحتاج إلى دليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسألها عن شيء من ذلك، ومن لم يأخذ به لضعفه أفتاها بالقول الثاني، وفي المسألة أقوال أخرى، كلها ضعيفة. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المنهل العذب المورود"(3/ 108).
(2)
"التمهيد"(16/ 75)، "كشاف القناع"(1/ 209).
حكم اغتسال المستحاضة ووضوئها لكل صلاة
141/ 4 - وعَن عَائشَةَ رضي الله عنها أَنّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ شَكَتْ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدّمَ، فَقَالَ:«امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثمّ اغْتَسِلِي» ، فكَانَتْ تَغْتَسِلُ كلَّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
142/ 5 - وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيّ: «وَتَوَضّئي لِكلِّ صَلَاة» ، وَهِيَ لأبي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول: فقد أخرجه مسلم (334)(63) من طريق الليث، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، ولفظه:«إنما ذلك عرق، فاغتسلي ثم صلي» ، فكانت تغتسل عند كل صلاة، قال الليث بن سعد: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي، وقال ابن رمح في روايته: ابنة جحش، ولم يذكر أم حبيبة.
وأخرجه - أيضاً - من طريق جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها باللفظ المذكور في الكتاب.
وأما رواية البخاري: فقد أخرجها في كتاب «الوضوء» باب «غسل الدم» (228) من طريق أبي معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، وفيه قال:«ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» .
وقد تقدم في باب «نواقض الوضوء» سياق الحديث، وإيراد لفظ
البخاري، والإشارة إلى أن مسلماً حذف هذه الجملة عمداً، وسبب ذلك أنه تفرد حماد بن زيد بذكرها، على ما ذكره النسائي في «سننه» .
وقد تقدم في باب «نواقض الوضوء» أن مدار الحديث في ذكر الوضوء لكل صلاة على هشام بن عروة، وقد رواه عن هشام جماعة، بعضهم يذكر هذه الزيادة وبعضهم لا يذكرها، والذين لم يذكروها أئمة ثقات هم أعلى قدراً وأكثر عدداً ممن ذكرها، ومنهم الإمام مالك ووكيع بن الجراح وزهير بن معاوية ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم من الحفاظ الذين بلغوا ستة عشر حافظاً وأحاديثهم بعضها في الصحيحين، وعلى هذا ففي النفس شيء من ثبوت هذه الزيادة، والعلم عند الله تعالى.
وأما قول الحافظ: (وهي عند أبي داود وغيره من وجه آخر) فهو يشير إلى ما أخرجه أبو داود (298) من طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر خبرها، وقال:«ثم اغتسلي لكل صلاة، وصلي» ، وأخرجه أحمد (42/ 454) وابن ماجه (624) وهو حديث ضعيف، لعنعنة حبيب بن أبي ثابت، وهو كثير التدليس، ولأن عروة مختلف فيه، فلم ينسبه أبو داود ولا أحمد، وقد صرح ابن ماجه في روايته بأنه عروة بن الزبير، فإن كان هو فالإسناد منقطع؛ لأن حبيباً لم يسمع منه، كما قال البخاري وأحمد ويحيى بن معين وغيرهم، وإن كان عروة المزني فهو مجهول، ثم إن الحديث مختلف في رفعه ووقفه، والذين وقفوه أثبات، كما قال الدارقطني
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الغسل على المستحاضة إذا مضى قدر الأيام التي هي عادتها الأصلية.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يتكرر الغسل أو لا؟ على أقوال:
(1)
"سنن الدارقطني"(1/ 211).
القول الأول: ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجب عليها الغسل إلا مرة واحدة إذا أدبرت حيضتها
(1)
.
واستدلوا بما ورد في الصحيحين من طريق هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة، وفيه:«ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين، ثم اغتسلي وصلي» .
القول الثاني: أنه يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهو مروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح، وقول لعلي وابن عباس رضي الله عنهم
(2)
.
واستدلوا بما ورد في قصة أم حبيبة بنت جحش عند أحمد من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر، وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، وفيه:(فلتنظر قدر قرئها التي كانت تحيض له، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة ولتصل)
(3)
.
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا عبد العزيز بن أبي حازم، فقد قال عنه في «التقريب»:(صدوق فقيه)، لكن ذكر الغسل فيه لكل يوم مرفوعاً شاذ، كما سيأتي.
والقول الثالث: أنها تغتسل لكل صلاتين مجموعتين، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وهو قول علي وابن عباس وإبراهيم النخعي وجماعة.
واستدلوا بما تقدم في حديث حمنة بنت جحش.
والقول الرابع: أنها تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر، وهو مروي عن ابن عمر وأنس بن مالك، كما حكى ذلك أبو داود
(4)
، وهو قول سعيد بن المسيب، لما ورد عن سُمي مولى أبي بكر أن القعقاع بن حكيم
(1)
"شرح فتح القدير"(1/ 179)، "الاستذكار"(3/ 226)، "المجموع"(2/ 535)، "الإنصاف"(1/ 377).
(2)
انظر: "المجموع"(2/ 536).
(3)
"المسند"(41/ 439).
(4)
"سنن أبي داود"(1/ 81).
وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله: كيف تغتسل المستحاضة؟ فقال: (تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب)
(1)
.
لكن قال ابن عبد البر: (كان مالك يقول: ما أرى الذي حدثني به من ظهر إلى ظهر إلا وهم)
(2)
، يريد بذلك أن الصواب: من طهر إلى طهر، بالطاء المهملة، بدلاً من الظاء المشالة، وقد نقل ذلك أبو داود في سننه عن مالك.
قال ابن عبد البر: (ليس ذلك بوهم؛ لأنه صحيح عن سعيد، معروف عنه) لكن يؤيد ما قاله الإمام مالك ما رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا فضيل عن يحيى بن سعيد، عن القعقاع بن حكيم قال: سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة، فقال:(ما أحد أعلم بهذا مني، إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة، وإذا أدبرت فلتغتسل ولتغسل عنها الدم، ولتتوضأ لكل صلاة)
(3)
. وهذا يوافق القول الأول، وهو قول الجمهور.
والذي يظهر - والله أعلم - قول الجمهور، وهو أن الواجب أن تغتسل عند إدبار حيضتها؛ لأن هذا هو الثابت في الصحيحين، وما عدا ذلك لا تقوم به حجة على الوجوب، مع ما في اغتسالها لكل صلاة أو لكل صلاتين أو لكل يوم من المشقة العظيمة التي لا تأتي الشريعة بمثلها، ولا سيما الاغتسال في أيام الشتاء.
وأما ما ورد في صحيح مسلم من حديث عائشة في قصة أم حبيبة بنت جحش (فكانت تغتسل لكل صلاة) فهذا لا حجة فيه؛ لأنه أمر فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل قال لها:«امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي» وتقدم ذلك.
قال الشوكاني عن أحاديث الاغتسال لكل صلاة: (وقد صرح جماعة من الحفاظ بأنها لا تقوم بها الحجة، وعلى فرض أن بعضها يشد بعضاً فهي لا
(1)
أخرجه مالك (1/ 63)، ومن طريقه أبو داود (1/ 81) وإسناده صحيح.
(2)
"الاستذكار"(3/ 232).
(3)
"المصنف"(1/ 119) وسنده صحيح.
تقوى على معارضة ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم لها بالغسل إذا أدبرت الحيضة فقط، وترك البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرر في الأصول)
(1)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب وضوء المستحاضة لوقت كل صلاة، وأنها تصلي بذلك الوضوء ما شاءت من فروض ونوافل ما لم يخرج الوقت، بناء على أن خروج دم الاستحاضة ناقض من نواقض الوضوء، وبه قالت الحنفية والحنابلة
(2)
، قالوا: والمراد بكل صلاة في هذا الحديث: وقت كل صلاة؛ لأنه جاء إطلاق الصلاة على الوقت، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المتقدم في باب «التيمم»:«فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» أي: أدركه وقت الصلاة.
القول الثاني: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل فريضة، سواء أكانت مؤداة أم مقضية، وأما النوافل فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت، وهذا مذهب الشافعية
(3)
.
واستدلوا بما تقدم من قوله: «وتوضئي لكل صلاة» حيث حملوا الصلاة في الحديث على الفريضة دون النافلة.
وهذا تفريق لا دليل عليه، وصيغة العموم في الحديث تمنع من ذلك، والأصل في الشريعة استواء الفريضة والنافلة في الطهارة، ولذا قال ابن حزم:(ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهراً إن أراد أن يصلي تطوعاً، ومحدثاً غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة، هذا ما لا خفاء به، وليس إلا طاهرٌ أو محدث)
(4)
، وعليه فهذا من أضعف الأقوال.
القول الثالث: أنه لا يجب عليها الوضوء بل يستحب؛ لأن دم
(1)
"السيل الجرار"(1/ 149)، "نيل الأوطار"(1/ 284).
(2)
"شرح فتح القدير"(1/ 181)، "المغني"(1/ 421).
(3)
"المجموع"(2/ 537).
(4)
"المحلى"(1/ 255).
الاستحاضة ليس حدثاً ناقضاً للوضوء، وهذا قول المالكية، وذكره أبو داود بسنده عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن
(1)
، وهو قول عكرمة.
واستدلوا بما ذكر ابن عبد البر: أن صاحب الحدث الدائم كالاستحاضة وسلس البول لا يرتفع حدثه بالوضوء، فيكون في حقه مستحباً لا واجباً
(2)
.
وهذا القول وجيه؛ لأن الاستحاضة قد تكررت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان الوضوء واجباً لما سكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولأمر به كل واحدة، ونُقِلَ ذلك نقلاً صحيحاً كما نقل الأمر بالغسل، والقول بإيجاب الوضوء لكل صلاة لا يخلو من المشقة، لكن من يفتي بذلك من العلماء قديماً أو حديثاً يرى أن الروايات التي وردت في الوضوء يشد بعضها بعضاً، والوضوء أحوط وأبرأ للذمة، وتصلي به ما شاءت من الفروض والنوافل.
الوجه الرابع: حديث عائشة دليل على القول المختار وهو أنه ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حدّ بالأيام، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق أحكام الحيض على إقباله، وعلق أحكام الطهارة على إدباره - كما جاء في بعض الروايات - ولو كان له حد لا يزيد عليه لبيَّنه لها وللأمة عموماً لما يتعلق به من أحكام شرعية كثيرة أهمها الصلاة والصيام ..
وحكى ابن المنذر هذا القول عن طائفة من العلماء
(3)
، ونقله النووي: عن الدارمي
(4)
.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال: (ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك، واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قَدّرَ في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة)
(5)
.
ومما يبين ضعف أقوال المحددين اختلافها واضطرابها، مما يدل على
(1)
"سنن أبي داود"(1/ 82).
(2)
"التمهيد"(16/ 97، 98).
(3)
"الأوسط"(2/ 228).
(4)
"المجموع"(2/ 381).
(5)
"الفتاوى"(19/ 237).
أنه ليس في المسألة دليل يجب المصير إليه، وإنما هي أقوال مبنية على اجتهاد معرض للخطأ والصواب، والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
انظر: "رسالة في الدماء الطبيعية للنساء" ص (13).
حكم الصفرة والكدرة
143/ 6 - وعَنْ أُمّ عَطِيّةَ رضي الله عنها قَالتْ: كُنّا لَا نَعُدُّ الكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئاً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللّفْظُ لَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هي أم عطية نُسيبة - بضم النون - بنت الحارث الأنصارية رضي الله عنها معروفة باسمها وكنيتها، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وغزت معه سبع غزوات، تخلف الغزاة في رحالهم، كما روى ذلك مسلم عنها
(1)
، وكانت ممن يغسل النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتهن، وعنها أُخِذَ كثير من أحكام غسل الميت، قال ابن عبد البر:(حديثها أصل في غسل الميت، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت)
(2)
، روى عنها محمد بن سيرين وأخته حفصة وآخرون
(3)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري (326) في كتاب «الحيض» باب «الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض» ، وأبو داود (308)، والنسائي (1/ 186)، وابن ماجه (1/ 337) من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها.
وهذا لفظ أبي داود كما ذكر الحافظ، ولفظ البخاري:(كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً)، وترجمة البخاري المذكورة موافقة لرواية أبي داود، وهذا دليل على أنه يرى صحة زيادة:(بعد الطهر).
وأخرجه أبو داود - أيضاً - من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أم الهذيل، حفصة بنت سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها باللفظ المذكور.
وقد اختلف فيه على أيوب، فرواه معمر عنه، عن ابن سيرين، عن أم عطية، كما في مصنف عبد الرزاق (1216) ومن طريقه أخرجه ابن ماجه (647)، ورواه إسماعيل عنه كما تقدم، وخالفهما وهيب بن خالد فرواه عن أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: (كنا لا نعد
(1)
"صحيح مسلم"(1812).
(2)
"الاستيعاب"(13/ 256).
(3)
"الإصابة"(13/ 253).
الصفرة والكدرة شيئاً) أخرجه ابن ماجه (647).
قال الحافظ: (وما ذهب إليه البخاري من تصحيح رواية إسماعيل أرجح لموافقة معمر له، ولأن إسماعيل أحفظ لحديث أيوب من غيره، ويمكن أن أيوب سمعه منهما)
(1)
أي: من ابن سيرين ومن حفصة أخته.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قولها: (كنا) هذه الصيغة لها حكم الرفع إذا قالها الصحابي وأضافها إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، على القول الصحيح؛ لأن قولها ذلك محمول على زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قطع الحاكم أبو عبد الله
(2)
، وهو قول الجماهير؛ لأن ظاهر ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وتقريرهم عليه.
قولها: (الكدرة) بضم الكاف وسكون الدال المهملة ثم راء مفتوحة بعدها تاء، هي اللون الأحمر الذي يضرب إلى السواد، والمراد أن الدم يكون متكدراً بين الصفرة والسواد.
قولها: (الصفرة) بضم الصاد المهملة وسكون الفاء الموحدة ثم راء مفتوحة بعدها تاء، هي اللون الأحمر الذي يميل إلى البياض، والمراد: أن ترى الدم أصفر كماء الجروح.
(1)
"فتح الباري"(1/ 426).
(2)
"معرفة علوم الحديث" ص (22).
قولها: (بعد الطهر) أي: بعد انقطاع الدم ورؤية الطهر، والطهر إما أن يكون برؤية القَصَّةِ البيضاء، وهي ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، قاله الحافظ
(1)
، والقَصّ: هو الجصّ بلغة الحجاز
(2)
، فشبه به الطهر بجامع البياض، ونقل الحافظ عن مالك قوله:(سألت النساء عنه فإذا هو معلوم عندهن يعرفنه عند الطهر)، وإما أن يكون الطهر بالجفوف، وهو أن تشعر بالطهارة إذا جفت، وعلامة ذلك أن تحتشي بالقطنة فتخرج بيضاء ليس فيها شيء من الصفرة ولا الكدرة، والنساء يختلفن في ذلك، فأكثرهن بالعلامة الأولى، وبعضهن بالثانية، والقصة البيضاء أبلغ من الجفوف.
قولها: (شيئاً) مفعول (نَعُدّ) أي: لا نعتبر الصفرة والكدرة بعد الطهر حيضاً تقعد فيه المرأة عن الصلاة والصيام وغيرها من العبادات.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الكدرة والصفرة بعد الطهر ليست بحيض فلا يلتفت إليها، وأما إذا كان ذلك في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهو حيض، تثبت له أحكام الحيض.
وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وقول في مذهب المالكية، بل بعضهم جعله هو المذهب
(3)
.
ووجه الدلالة من حديث الباب: أن قول أم عطية: (بعد الطهر) يدل على أن ما قبل الطهر حيض، وفي رواية الدارمي:«كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغُسل»
(4)
.
قال الحافظ ابن حجر على قول البخاري (باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض): (يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها: (حتى ترين القصة البيضاء)، وبين حديث أم عطية المذكور في هذا الباب، بأن ذلك محمول على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام الحيض، وأما في
(1)
"فتح الباري"(1/ 420).
(2)
"المصباح المنير"(506).
(3)
انظر: "المنتقى"(1/ 118)، "شرح فتح القدير"(1/ 162)، "المغني"(1/ 413).
(4)
"سنن الدارمي"(1/ 175) قال النووي في "الخلاصة"(1/ 332): إسناده صحيح.
غيرها فعلى ما قالته أم عطية)
(1)
.
وحديث عائشة الذي أشار إليه هو ما رواه مالك، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدِّرَجَةِ فيها الكُرْسف، فيه الصفرة من دم الحيضة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء
(2)
.
ووجه الدلالة منه: أن عائشة رضي الله عنها اعتبرت الصفرة في زمن العادة حيضاً وقالت: (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) أي: علامة الطهر.
والقصة البيضاء: بفتح القاف وتشديد الصاد، ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، كما تقدم.
والدِّرَجَة: بكسر أوله وفتح الراء والجيم، جمع دُرْج بالضم ثم السكون، وقيل: الدُّرْجة: بضم فسكون تأنيث دُرْج، والمراد: وعاء أو خرقة
(3)
.
والكرسف: بضم الكاف والسين المهملة، هو القطن، والضمير في قوله:(فيه) يعود على القطن، أي: فيه الصفرة الحاصلة من دم الحيضة بعد وضع ذلك في الفرج لاختبار الطهر، واخترن القطن لبياضه، ولأنه ينشف الرطوبة، فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر في غيره
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(1/ 426).
(2)
"الموطأ"(1/ 59)، وقد علقه البخاري جازمًا به في كتاب "الحيض" باب "إقبال الحيض وإدباره" وسكت عليه الحافظ في "فتح الباري"(1/ 588)، وصححه النووي في "المجموع"(2/ 416)، وتعليق البخاري له بصيغة الجزم يدل على صحته إلى من علقه عنه؛ كما هو معلوم في تعليقات البخاري.
(3)
"شرح الزرقاني"(1/ 117).
(4)
المصدر السابق.
ما يَحِلُّ فعله مع الحائض وما يحرم
144/ 7 - وعَنْ أَنَس رضي الله عنه: أَنّ الْيَهُودَ كانوا إذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ لَمْ يُؤاكِلُوهَا، فَقَالَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اصْنَعُوا كلَّ شَيْءٍ إلاّ النّكاحَ» . رَوَاهُ مُسلِمٌ.
145/ 8 - وعَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قَالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُني وَأَنَا حَائِضٌ. مُتّفَقٌ عَلَيه.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول: فقد أخرجه مسلم (302) في كتاب «الحيض» باب «جواز غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله وطهارة سؤرها
…
»، من طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول: كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وَجَدَ
(1)
عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما.
(1)
أي: غضب.
وأما الثاني: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحيض» باب «مباشرة الحائض» (300) ومسلم (293) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر ثم يباشرها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (فأتزر) أي: ألبس الوزرة - بكسر الواو - وهي كساء صغير، والجمع وِزْرات على لفظ المفرد، وأصله: أأتزر، بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية ساكنة، بوزن (أفتعل) ثم حصل الإدغام فصار: أتّزر بألف وتاء مشددة، وقد نص أكثر النحاة كابن هشام
(1)
وغيره على أن ذلك خطأ، والقياس: فآتزر بإبدال الهمزة الثانية ألفاً من جنس حركة الأولى على القاعدة عند الصرفيين، والصحيح أنه مقصور على السماع.
قوله: (فيباشرني) يقال: باشر الرجل امرأته: لامس بشرتها بإلصاق بشرته ببشرتها، وقد ترد بمعنى الجماع، ولكن هذا غير مراد هنا، وإنما المراد هنا الأول بالإجماع.
الوجه الثالث: حديث أنس رضي الله عنه دليل على تحريم جماع الحائض، ولقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، والمراد بالمحيض: زمان الحيض، ومكانه وهو الفرج، والمراد بالقرب: الكناية عن الجماع؛ لا النهي عن القرب مطلقاً، والدليل على ذلك حديث أنس هذا.
وقد أجمع المسلمون على تحريم وطء الحائض في فرجها، وقد نقل الإجماع ابن المنذر
(2)
، وابن حزم
(3)
، وابن قدامة
(4)
، والنووي
(5)
، كما نقله
(1)
"أوضح المسالك"(4/ 398).
(2)
"الأوسط"(2/ 208).
(3)
"مراتب الإجماع" ص (28).
(4)
"المغني"(1/ 414).
(5)
"المجموع"(2/ 359).
شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
، وجماعة من المفسرين.
وقد نقل النووي عن الشافعي قوله: (من فعل ذلك فقد أتى كبيرة)، ونقل عن الشافعية وغيرهم أن من استحل وطء الحائض فقد كفر، وذلك لأنه أنكر أمراً مجمعاً على تحريمه
(2)
.
الوجه الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها دليل على جواز مباشرة الحائض، وهذه المباشرة لا يراد بها الجماع، كما مضى، وهي نوعان:
الأولى: الاستمتاع بالحائض فيما فوق السرة ودون الركبة، بالقبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك، وهذا جائز بالنص والإجماع، كما نقله ابن قدامة
(3)
، والنووي
(4)
.
الثانية: الاستمتاع بها فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر؛ أما القبل والدبر فكل منهما حرام، والدبر حرام مطلقاً، وأما ما عداهما كالفخذين فتجوز المباشرة، لقوله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، والمحيض اسم لمكان الحيض أو زمانه، فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه، ولا تُحمل الآية على معنى: فاعتزلوا النساء في الحيض؛ لأن النص وهو حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما والإجماع يردان ذلك، وبدليل سبب النزول، كما تقدم.
والأولى ألاَّ يباشر إلا من وراء حائل، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن باشرها بدون حائل جاز إن وثق من نفسه ألا يقع في المحظور، قال ابن المنذر: (الأعلى والأفضل اتباع السنة واستعمالها، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها أن تتزر، ثم يباشرها وهي حائض، ولا يحرم عندي أن يأتيها دون الفرج إذا اتقى موضع الأذى
…
)
(5)
.
(1)
"الفتاوى"(21/ 624).
(2)
"المجموع"(2/ 359).
(3)
"المغني"(1/ 414).
(4)
"شرح المهذب"(2/ 364).
(5)
"الأوسط"(2/ 208).
وقال النووي: (وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار فمحمول على الاستحباب جمعاً بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله)
(1)
، ولعله يقصد بالقول حديث أنس المتقدم.
الوجه الخامس: تحريم الشرع جماع الحائض لما فيه من الأضرار البالغة التي كشفها الطب الحديث، ومن ذلك ما يلي:
1 -
أن جماع الحائض يؤدي إلى اشتداد النزف الطمثي؛ لأن عروق الرحم تكون محتقنة وسهلة التمزق.
2 -
أنه يؤدي إلى تعريض الرحم لعدوان البكتيريا لضعفه عن المقاومة بسبب الحيض؛ لأن أجهزة الدفاع معطلة، والبيئة صالحة لتكاثر الميكروبات.
3 -
أن من أضرار جماع الحائض ما يمتد إلى قناة مجرى البول فالمثانة فالحالبين فالكلى.
4 -
أن جسم الحائض ضعيف لتعرضه لآثار كثيرة، كما أن نفسيتها أثناء الحيض وخاصة عند بدايته على درجة من القلق والكآبة، ومثل هذه الصفات لا تسمح لها بالرغبة في الجماع.
أما بالنسبة للرجل فله نصيبه من الأضرار؛ لأن إدخال عضوه في مهبل الحائض سبب في أمراض كثيرة لا تقتصر على عضوه، وإنما تتعدى إلى قناة مجرى البول؛ بل قد تتعدى إلى الجهاز البولي بكامله مع الكلى، مع ما في ذلك من تعريض جدار المهبل للخدش الذي يؤدي إلى التهاب الرحم أو التهاب في عضو الرجل بسبب الخدوش التي تحصل أثناء الاحتكاك
(2)
، والله تعالى حكيم عليم.
(1)
"المجموع"(2/ 393).
(2)
راجع كتاب "خلق الإنسان" ص (100).
كفارة وطء الحائض
146/ 9 - وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ:«يَتَصَدّقُ بِدِينارٍ، أَوْ نِصْفِ دِينارٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وصَحَّحَه الحاكِمُ وَابْنُ الْقَطّانِ، وَرَجّح غَيْرُهُمَا وَقْفَه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (264) في «الطهارة» بابٌ في «إتيان الحائض» ، والترمذي (136)، والنسائي (1/ 153)، وابن ماجه (640)، وأحمد (3/ 473)، والحاكم (1/ 172) كلهم من طريق شعبة، حدثني الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مِقْسَم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لفظ أبي داود.
وقد ورد هذا الحديث بأسانيد كثيرة وبألفاظ مختلفة، وكثر فيه كلام أهل العلم بسب ما أُعل به.
ومداره في أكثر الأسانيد على مقسم مولى ابن عباس، عن ابن عباس، وهو متكلم فيه، فقد وثقه جماعة منهم يعقوب بن أبي سفيان، والدارقطني، وضعفه آخرون منهم ابن سعد وابن حزم
(1)
، قال عنه الحافظ في «التقريب»:(صدوق، وكان يرسل، وما له في البخاري سوى حديث واحد)
(2)
، وقال في «التلخيص»:(ما أخرج له البخاري إلا حديثاً واحداً في تفسير سورة النساء، قد توبع عليه)
(3)
.
(1)
"تهذيب التهذيب"(10/ 256).
(2)
انظر: "فتح الباري"(8/ 260).
(3)
"التلخيص"(1/ 175).
وقد أعل الحديث بعلل أهمها علتان:
الأولى: الاختلاف في رفعه ووقفه، كما ذكر الحافظ، فقد رواه جماعة عن شعبة موقوفاً على ابن عباس، وأن شعبة كان يرفعه ثم رجع عن رفعه، قال ابن الجارود (110): حدثنا محمد بن زكريا الجوهري، قال: ثنا بِنْدار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة بهذا الحديث ولم يرفعه، فقال رجل لشعبة: إنك كنت ترفعه، قال: كنت مجنوناً فَصَحَّحْتُ.
قال أبو حاتم: (اختلفت الرواية، فمنهم من يروي عن مقسم عن ابن عباس موقوفاً، ومنهم من يروي عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وأما حديث شعبة فإن يحيى بن سعيد أسنده، وحكى أن شعبة أسنده، وقال: أسنده الحكم لي مرة ووقفه مرة)
(1)
.
العلة الثانية: أن في متنه اضطراباً، لأنه روي بدينار، أو بنصف دينار - بالشك ـ، وروي:«يتصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار» ، وروي التفرقة بين أن يصيبها في أول الدم أو في انقطاع الدم، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف.
والحديث ضعفه الإمام الشافعي، وابن المنذر، وابن عبد البر، والنووي وآخرون
(2)
.
وصححه جماعة آخرون، منهم: الحاكم
(3)
وابن القطان
(4)
، وابن دقيق العيد
(5)
، وابن حجر وقال: (وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين ونحوهما، وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في «شرح المهذب» و «التنقيح» و «الخلاصة» أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن
(1)
"العلل"(1/ 50 - 51).
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 319)، "الأوسط"(2/ 212)، "التمهيد"(3/ 178)، "المجموع" للنووي (2/ 360).
(3)
"المستدرك"(1/ 287).
(4)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 271).
(5)
"الإلمام"(133)، "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"(3/ 349).
الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في بعض ذلك ابن الصلاح، والله أعلم)
(1)
.
كما صحح الحديث ابن تيمية
(2)
، وابن القيم
(3)
، وأحمد شاكر
(4)
، والألباني
(5)
، والشيخ عبد العزيز بن باز.
وأجابوا عما أُعِلَّ به كالآتي: أما وقفه على ابن عباس فلا ينافي رفعه، لأن ذلك يؤيد المرفوع، ثم إن هذا ليس من قبيل الرأي، بل له حكم الرفع، وكلام شعبة هنا لا يضر، فإن الرفع زيادة من ثقة، قال أبو بكر الخطيب:(اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهذا مذهب أهل الأصول؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة وهي واجبة القبول)
(6)
، ثم إن شعبة تابعه غيره على رفعه، فلم ينفرد بذلك، فقد تابعه قتادة، قال: حدثني الحكم بن عتبة به مرفوعاً، عند البيهقي (1315)، وعند النسائي في «الكبرى» (5/ 347) عن قتادة، عن عبد الحميد، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً بنحوه، وفي هذين الإسنادين مقال.
أما الاضطراب في متنه فإنه ينظر إلى الأرجح، فإن الاضطراب إنما يثبت مع تساوي الروايات، أما إذا ترجحت إحدى الروايات فلا اضطراب، ولهذا قال أبو داود:(هكذا الرواية الصحيحة، قال: بدينار أو نصف دينار)، أي: على التخيير، بخلاف الروايات الأخرى التي فيها بنصف دينار أو بخمس دينار أو عتق نسمة؛ فإنها ضعيفة.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن من وطئ امرأته وهي حائض يطلب منه أن يتصدق بدينار أو نصف دينار كفارة لذنبه.
(1)
"التلخيص"(1/ 179).
(2)
"شرح العمدة"(1/ 467).
(3)
"تهذيب مختصر السنن"(1/ 173).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 253).
(5)
"إرواء الغليل"(1/ 218).
(6)
"المنهل العذب المورود"(3/ 47)، وكلام الخطيب هو أحد المسلكين في زيادة الثقة، انظر:"شرح العلل" لابن رجب (1/ 426).
وهذا قول الإمام أحمد والشافعي في القديم
(1)
.
والقول الثاني: أنه لا شيء عليه في ماله، لكن يستغفر الله، وهو قول الجمهور، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية في الجديد، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول الظاهرية
(2)
وجماعة من السلف، منهم ابن سيرين وعطاء وإبراهيم النخعي
(3)
.
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد برئ مما أنزل على محمد» ، وفي رواية:«فقد كفر»
(4)
.
ووجه الدلالة: أنه لم يذكر أن عليه كفارة.
وقالوا: إن حديث إيجاب الكفارة مضطرب في متنه، وفي سنده مقال؛ فلا ينهض حجة على شغل الذمة، والأصل براءتها إلاّ بحجة لا مدفع فيها ولا مطعن عليها.
وقد ذكر ابن رشد أن سبب الخلاف هو اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في هذه المسألة أو ضعفها، ثم قال:(فمن صَحَّ عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها، ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور، عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل)
(5)
. وهذا هو الأظهر - إن شاء الله - فإن الحديث لا تقوم بمثله حجة مع اضطرابه والاختلاف الكثير في إسناده، ولم ينقل عن المتقدمين بشأنه ما يعتمد عليه،
(1)
"المغني"(1/ 416)، "الفروع"(1/ 262).
(2)
"الأوسط"(2/ 209)، "المحلى"(2/ 187)، "شرح فتح القدير"(1/ 166)، "بداية المجتهد"(1/ 153)، "مغني المحتاج"(1/ 110).
(3)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(1/ 329)، "الأوسط"(2/ 210).
(4)
أخرجه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، والنسائي في "الكبرى"(9017)، وأحمد (15/ 164) وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه، فإنه من رواية أبي تميمة الهُجيمي، عن أبي هريرة، ولا يعرف له سماع منه، كما ذكره البخاري في "تاريخه"(3/ 16 - 17)، والمعروف وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه ذكر إتيان الحائض.
(5)
"بداية المجتهد"(1/ 153 - 154).
وجميع الذين صححوه هم من القرن الرابع فما بعده، وفتاوى السلف جاءت على خلافه.
وعلى القول بوجوب الكفارة فهي واجبة على الرجل، وأما المرأة فإن كانت مطاوعة وعالمة بالتحريم، فعليها كفارة كالرجل؛ لأنه وطء يوجب الكفارة، فيجب على المرأة المطاوعة، ككفارة الوطء في الإحرام، حكاه ابن قدامة عن أحمد
(1)
.
والقول الثاني: أن المرأة ليس عليها كفارة، وقد جعله القاضي وجهاً في مذهب أحمد؛ لأن الشرع لم يرد بإيجابها عليها، وإنما يتلقى الوجوب من الشرع.
والقول الأول أظهر، لما تقدم، ولتساويهما في ارتكاب المحرم.
وإن كانت جاهلة أو مكرهة فلا كفارة عليها، لقوله تعالى:{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، فإذا عذر المكلف بالإكراه حتى بالكفر فما دونه من باب أولى، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(1/ 418).
الحائض تترك الصوم والصلاة
147/ 10 - وعَنْ أَبي سَعِيد رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ في حَدِيثٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحيض» باب «ترك الحائض الصوم» (304) من طريق سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى فمرّ على النساء، فقال:«يا معشر النساء تصدَّقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» ، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» ، قلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» قلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان دينها» .
فهذا لفظ البخاري، وقد اقتصر الحافظ على القدر المطلوب، وأما الإمام مسلم فإنه ساق الإسناد المذكور دون المتن (132)(80) في كتاب «الإيمان» باب «بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات» ، وأحال على حديث ابن عمر الذي ساقه (132)(79)، وفيه:«أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين» .
قال الحافظ: (والواقع أن مسلماً لم يسق لفظه أصلاً، وإنما أورد حديث ابن عمر بسند آخر إليه في قصة النساء ونقصان عقلهن ودينهن خاصة، وأردفه بحديث أبي سعيد المذكور)
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الحائض تترك الصلاة أثناء حيضها، ولا تصح منها لو فعلتها؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، وهي غير طاهرة، وهذا أمر مجمع عليه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحائض تترك الصيام أثناء حيضها ولا يصح منها لو فعلته، وهذا أمر مجمع عليه.
وقد بوب البخاري على هذا الحديث - كما تقدم - بقوله: باب «ترك الحائض الصوم» ، قال الحافظ:(قال ابن رُشيد وغيره: جرى البخاري على عادته في إيضاح المشكل دون الجلي، وذلك أن تركها الصلاة واضح من أجل أن الطهارة مشترطة في صحة الصلاة وهي غير طاهر، وأما الصوم فلا يشترط له الطهارة؛ فكان تركها له تعبداً محضاً فاحتاج إلى التنصيص عليه بخلاف الصلاة)
(2)
.
الوجه الرابع: اتفق العلماء على عدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض، وعلى وجوب قضاء الصيام عليها، ودليل ذلك حديث معاذة العدوية قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية
(3)
أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة
(4)
.
(1)
"النكت الظراف على الأطراف"(3/ 440).
(2)
"فتح الباري"(1/ 405).
(3)
قولها: أحرورية أنت؟ استفهام إنكاري، والحرورية نسبة إلى حروراء، قرية في العراق قرب الكوفة، نزلت فيها أول فرقة خرجت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، تنسب الخوارج إليها، وكان من رأيهم الخاطئ أن الحائض تفضي الصلاة كما تقضى الصوم.
(4)
أخرجه البخاري (321)، ومسلم (335)(69) واللفظ له.
فهذا دليل قاطع على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لقول عائشة رضي الله عنها:(فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فاكتفت رضي الله عنها بذكر الدليل الشرعي عن ذكر الحكمة؛ لأن المؤمن يقتنع بالدليل، والشرع متضمن للحكمة بكل حال.
وقد ذكر العلماء ومنهم ابن القيم أن الحكمة في أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، أن الصلاة تتكرر كل يوم، والحيض يتكرر كل شهر غالباً، فالإلزام بقضائها فيه مشقة، كما أن في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض، فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر لتكررها كل يوم، بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر، بل هو شهر واحد في العام، فلو سقط عنها فعله بسبب الحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره، وفاتت عليها مصلحته، فأمر بقضاء ما فاتها لتحصل مصلحة الصوم، والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 60).
نهي الحائض عن الطواف بالبيت
148/ 11 - وعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: لمّا جِئْنَا سَرِفَ حِضْتُ، فَقَالَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«افْعَلي ما يَفْعَلُ الحاجُّ، غَيْرَ أَلاَّ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتّى تَطْهُرِي» . مُتّفَقٌ عَلَيْهِ في حَدِيثٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحيض» باب «تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت» (305)، ومسلم (1211)(120) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سَرِفَ طمثت، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:«ما يبكيك؟» ، قلت: لوددت والله أني لم أحجَّ العام، قال:«لعلك نَفِسْت؟» ، قلت: نعم، قال:«فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير ألاَّ تطوفي بالبيت حتى تطهري» ، وهذا لفظ البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (سَرِف) بفتح السين المهملة ثم راء مهملة مكسورة؛ ثم فاء موحدة، اسم لا ينصرف للعلمية والتأنيث، وهو وادٍ شمال مكة، بين مكة وبين وادي الجموم (مرّ الظهران) يبعد عن حد الحرم من جهة التنعيم بنحو عشرة أكيال، وكان فيه آبار ومزارع صغيرة، ثم شمله العمران في العصر الحاضر، ويمر به الطريق بين مكة والمدينة.
قولها: (طمثت) بفتح الميم وكسرها أي: حضت.
قولها: (نفست) بفتح النون في الحيض، وبضمها في النفاس، وهذا قول الأكثر، وحكى أبو حاتم عن الأصمعي قال:(يقال: نُفست المرأة في الحيض والولادة بضم النون فيهما)، قال الحافظ:(وقد ثبت في روايتنا بالوجهين فتح النون وضمها)
(1)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحائض تفعل ما يفعله الحاج من الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى، والسعي بين الصفا والمروة، إن كانت قد طافت قبل الحيض، وذلك لأن هذه المناسك لا تشترط لها الطهارة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الطواف على الحائض، وأنه لا يصح منها، وكذا لو حدث الحيض أثناء الطواف فإنه يبطل، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور، والظاهرية
(2)
، لقوله:«فافعلي ما يفعل الحاج غير ألاَّ تطوفي بالبيت حتى تطهري» ، وفي رواية لمسلم:«حتى تغتسلي» ، فهذا نص صريح ونفي واضح في منع الحائض من الطواف وعدم صحته منها؛ لأن النهي في الأصل يقتضي الفساد.
قال ابن عبد البر: (الحائض لا تطوف بالبيت، وهذا أمر مجتمع عليه، لا أعلم فيه خلافاً)
(3)
، وكذا نقل الإجماع ابن حزم
(4)
، وابن رشد
(5)
، والنووي
(6)
، وابن تيمية
(7)
، وغيرهم.
لكن إن كانت الحائض لا تتمكن من البقاء في مكة حتى تطهر وتطوف؛ إما خوفاً على نفسها أو مالها أو لكون رفقتها أو محرمها لا يوافقونها على البقاء وهي من بلاد بعيدة يتعذر عليها الرجوع مرة أخرى، فإن شيخ الإسلام
(1)
"فتح الباري"(1/ 403).
(2)
"المنتقى" للباجي (2/ 290)، "المجموع"(8/ 17)، "الإنصاف"(4/ 16).
(3)
"التمهيد"(17/ 265).
(4)
"المحلى"(7/ 179).
(5)
"بداية المجتهد"(1/ 148).
(6)
"المجموع"(2/ 386).
(7)
"الفتاوى"(26/ 106).
ابن تيمية وابن القيم يقولان بجواز طوافها في هذه الحال بناء على القاعدة الشرعية التي دلت عليها نصوص كثيرة وهي: أن جميع الشروط والواجبات المتعلقة بالعبادة معلقة بقدرة المكلف، فمن عجز عن شرط أو ركن أو واجب سقط عنه.
أما إن أمكنها البقاء أو كانت في مكان قريب يمكنها الإتيان منه مع محرمها بعد الطهر للطواف، فهذه تذهب ثم ترجع.
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في نصرة هذا القول واعتبر الإجماع على تحريم طواف الحائض إنما هو في حق القادرة على الطواف مع الطهر
(1)
، وكذا فعل تلميذه ابن القيم
(2)
، والله أعلم.
(1)
"الفتاوى"(26/ 177).
(2)
"إعلام الموقعين"(3/ 25 - 41).
موضع مباشرة الحائض
149/ 12 - وعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنّهُ سَأَلَ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَحِلُّ لِلرّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ:«مَا فَوْقَ الإزَارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَضَعّفَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الطهارة» باب في «مباشرة الحائض ومؤاكلتها»
(1)
، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك اليَزَني، ثنا بقية بن الوليد، عن سعد الأغطش - وهو ابن عبد الله - عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي - قال هشام: وهو ابن قُرط أمير حمص ـ، عن معاذ بن جبل .. فذكره، وفي آخره:«والتعفف عن ذلك أفضل» .
وهذا إسناد ضعيف، قال أبو داود عقبه:(وليس هو - يعني الحديث - بالقوي)، لما يلي:
1 -
أنه سند منقطع، لأن عبد الرحمن بن عائذ لم يسمع من معاذ، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (عبد الرحمن بن عائذ الأزدي لم يدرك معاذاً)
(2)
.
2 -
أن سعد بن عبد الله الأغطش ضعيف، ضعفه عبد الحق الإشبيلي
(3)
نقله عنه الحافظ، وقال: (روى له أبو داود حديثاً واحداً فيما يحل من
(1)
هذا في بعض النسخ وهو المناسب، وفي أكثرها بإسقاط الترجمة وإدخال الحديث تحت باب "المذي"، ومناسبته أن مباشرة الحائض سبب لخروج المذي.
(2)
"المراسيل" ص (125).
(3)
"الأحكام الوسطى"(1/ 208).
الحائض لزوجها)
(1)
، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»
(2)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(لين الحديث).
3 -
أن في سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الاستمتاع بالحائض فيما عدا ما بين السرة والركبة؛ لأن المراد بموضع الإزار ما بين السرة والركبة.
ومفهوم قوله: «ما فوق الإزار» أن ما تحت الإزار لا يحل الاستمتاع به، وبهذا قالت الحنفية والمالكية والشافعية أخذاً بهذا الحديث وما في معناه
(3)
.
والقول الثاني: أنه يحل له ما تحت الإزار، ولا يحرم عليه إلا الإيلاج في الفرج خاصة، وهو مذهب الحنابلة، وابن حزم، وبعض الأفراد من المذاهب الأخرى
(4)
، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» .
وهذا هو الراجح لقوة دليله، وأما حديث الباب فهو حديث ضعيف فلا يعارض الحديث الصحيح، وعلى فرض صحته فالاستدلال به على تحريم ما تحت الإزار بطريق المفهوم، والاستدلال على أنه لا يحرم إلا الفرج منطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم.
قال ابن رجب: (وأما الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يحل من الحائض؟ فقال: «فوق الإزار»، فقد رويت من وجوه متعددة، لا تخلو أسانيدها من لين، وليس رواتها من المبرزين في الحفظ، ولعل بعضهم روى ذلك بالمعنى الذي فهمه من مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض من فوق الإزار .. )
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"تهذيب التهذيب"(3/ 413).
(2)
"الثقات"(4/ 286).
(3)
"شرح فتح القدير"(1/ 166)، "حاشية الدسوقي"(1/ 173)، "المجموع"(2/ 362).
(4)
"المغني"(1/ 414)، "المحلى"(2/ 176).
(5)
"فتح الباري"(2/ 32).
مقدار ما تمكثه النفساء من غير صلاة ولا صوم
150/ 13 - وعَنْ أُمّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ. رَوَاهُ الخمسَةُ إلاّ النّسَائِيُّ، وَاللّفْظُ لأبي دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: (وَلَمْ يَأْمُرْهَا النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَضَاءِ صَلَاةِ النِّفَاسِ)، وَصَحّحَهُ الْحَاكُمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (311) في كتاب «الطهارة» باب «ما جاء في وقت النفساء» والترمذي (139)، وابن ماجه (648)، وأحمد (44/ 186) كلهم من طريق علي بن عبد الأعلى، عن أبي سهل، عن مُسّة الأزدية، عن أم سلمة رضي الله عنها.
وهذا لفظ أبي داود كما قال الحافظ، إلا أن في المطبوع في أبي داود:(أربعين يوماً أو ليلة) وفي بعض نسخ «البلوغ» : (أربعين) وفي بعضها: (أربعين يوماً).
وأخرجه أبو داود (312)، والحاكم (1/ 282) من طريق يونس بن نافع، عن كثير بن زياد - وهو أبو سهل - قال: حدثتني الأزدية يعني مُسّة، قالت: حججت فدخلت على أم سلمة، فقلت: يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة المحيض، فقالت: لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس.
وهذا الحديث مداره على أبي سهل - وهو كثير بن زياد - عن مُسّة الأزدية، عن أم سلمة رضي الله عنها، وأبو سهل قال عنه ابن معين في رواية إسحاق بن منصور:(ثقة)، وقال أبو حاتم:(ثقة من أكابر أصحاب الحسن).
وقد رواه عن أبي سهل اثنان: علي بن عبد الأعلى، ويونس بن نافع، وقد ذكره الحافظ - هنا - من طريق علي بن عبد الأعلى باللفظ الأول، ثم ذكره من طريق يونس بن نافع باللفظ الثاني.
وعلي بن عبد الأعلى وثقه البخاري، كما نقله عنه الترمذي في «جامعه» و «علله»
(1)
، وقال أحمد والنسائي:(ليس به بأس)
(2)
، وذكره ابن حبان في «الثقات»
(3)
، وقال الذهبي:(صدوق)
(4)
.
وقال أبو حاتم: (ليس بقوي)، وقال الدارقطني:(ليس بالقوي)
(5)
، وتوثيقه مقدم، فإنه صريح، فيقدم على الجرح المبهم.
وأما يونس بن نافع: فقد ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» وسكت عنه، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال:(يخطئ)
(6)
.
وقد اختلفت كلمة العلماء في هذا الحديث، فصححه قوم، وضعفه آخرون، فالذين ضعفوه أعلوه بعلل، أهمها علتان:
الأولى: نكارة المتن كما في رواية يونس، وهي الرواية الثانية، قال ابن القطان:(فالخبر هذا ضعيف الإسناد، منكر المتن، فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما منهن من كانت نفساء أيام كونها - أي أم سلمة - معه إلا خديجة، وزَوْجِيَّتُهَا كانت قبل الهجرة، فإذاً لا معنى لقولها: «كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين يوماً»)
(7)
، وكذا ذكر الحافظ ابن رجب أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
"جامع الترمذي"(1/ 257)، "العلل الكبير"(1/ 193 - 194).
(2)
"تهذيب التهذيب"(7/ 314).
(3)
"الثقات"(7/ 214).
(4)
"الكاشف"(2/ 43).
(5)
"الجرح والتعديل"(6/ 196)، "تهذيب التهذيب"(7/ 314).
(6)
"الجرح والتعديل"(9/ 247)، "الثقات"(7/ 650).
(7)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 329).
لم يلد منهن أحد بعد فرض الصلاة، فإن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الصلاة
(1)
.
ويجاب عن ذلك بأن هذا في رواية يونس؛ فتقدم عليها رواية علي بن عبد الأعلى وليس فيها اللفظ المذكور؛ لأنه أحفظ منه، وقد وثقه الأئمة، بخلاف يونس فإنه يخطئ، كما تقدم
(2)
.
أو يقال: المراد بنسائه: غير زوجاته من بنات وقريبات وسُرِّيته مارية، وبهذا يتبين أن هذه العلة غير قادحة، ولا تؤثر على أصل الحديث؛ ولا سيما أن الحديث مشهور من طريق علي بن عبد الأعلى، وليس من طريق يونس بن نافع.
العلة الثانية: جهالة (مُسّة) بضم الميم وتشديد السين المهملة، قال ابن القطان:(وعلة الخبر المذكور مُسّة المذكورة، وهي تكنى أم بُسّة، ولا تعرف حالها ولا عينها، ولا تعرف في غير هذا الحديث؛ قاله الترمذي في «علله»)
(3)
.
وكذا قال ابن حزم
(4)
، وذكرها الذهبي، وكذا الحافظ في المجهولات
(5)
ونقل عن الدارقطني أنه قال: (لا تقوم بها حجة)، ومقولة الدارقطني لم أجدها في السنن عند هذا الحديث، لكن ذكرها الحافظ الغساني في «تخريجه»
(6)
، وعادته أن ينقل كلام الدارقطني بعد كل حديث، فإما أن يكون هذا سقط من المطبوع، أو أنه في إحدى روايات السنن، والله أعلم.
وقد حاول بعض العلماء أن يدفع الجهالة عن مُسَّة، فنقل صاحب «عون المعبود» عن ابن الملقن أنه قال: (لا نسلم جهالة عينها، وجهالة حالها
(1)
"فتح الباري"(2/ 190 - 191)، وانظر:"نصب الراية"(1/ 205).
(2)
"الثقات"(7/ 650).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 329).
(4)
"المحلى"(2/ 204).
(5)
"ميزان الاعتدال"(4/ 640)، "اللسان"(9/ 500).
(6)
"تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" ص (71).
مرتفعة؛ فإنه روى عنها جماعة: كثير بن زياد، والحكم بن عتيبة، وزيد بن علي بن الحسين، ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي، عن الحسن، عن مسة - أيضاً - فهؤلاء رووا عنها، وقد أثنى على حديثها البخاري، وصحح الحاكم إسناده، فأقل أحواله أن يكون حسناً)
(1)
.
وقال في «خلاصة البدر المنير» : (والحق صحته)
(2)
، وقال الخطابي:(وحديث مسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل)
(3)
، ولعله يريد بذلك ما جاء في «علل الترمذي» من قوله:(سألت محمداً عنه، فقال: علي بن عبد الأعلى ثقة روى له شعبة، وأبو سهل كثير بن زياد ثقة، ولا أعرف لمُسّة غير هذا الحديث)
(4)
، ولا أرى في كلام البخاري هذا ما يدل عليه كلام الخطابي، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد؛ ولم يخرجاه) وأقرَّه الذهبي
(5)
، مع أنه عدّ مُسّة من المجهولات!!
وقال النووي: (حديث حسن)
(6)
.
والخلاصة: أن الحديث لا يخلو من ضعف بسبب جهالة مُسّة الأزدية، فإن الروايات المذكورة عنها لم تثبت، لكن الحديث له شواهد، وفيها ضعف - أيضاً - ومن أمثلها أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما وسيأتي ذكره إن شاء الله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (كانت النفساء) النفاس: بالكسر ولادة المرأة، وسميت الولادة نفاساً: من التنفس، وهو التشقق والانصداع، والنفس هو الدم، سمي نفساً؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم.
يقال: نُفِست، ونَفِست: أي: ولدت، ويقال: نَفِست بفتح النون وكسرها: حاضت، وقيل: بالضم - أيضاً - كما تقدم.
والنفاس عند الفقهاء: دم ترخيه الرحم بسبب الولادة، إما معها أو بعدها أو قبلها بمدة يسيرة كيوم أو يومين مع الطلق.
(1)
"عون المعبود"(1/ 501).
(2)
"الخلاصة"(1/ 83).
(3)
"معالم السنن"(1/ 169).
(4)
"العلل الكبير"(1/ 193).
(5)
"المستدرك"(1/ 282).
(6)
"المجموع"(2/ 525).
ولا يختلف تعريف الأطباء للنفاس كثيراً عن تعريف الفقهاء غير أن الأطباء يركزون في تعريفهم على حالة الرحم وعودتها إلى حالها الطبيعية، وهذا يحتاج مدة تتراوح بين ستة وثمانية أسابيع
(1)
، وعلى هذا فالنفاس عندهم هو الدم النازل بعد فراغ الرحم من الولد نتيجة تمزق جدار الرحم الوظيفي.
قولها: (تقعد) أي: تمكث بعد ولادتها من غير صلاة ولا صيام أربعين يوماً، وظاهره أنه تحديد نهاية؛ لأنه كثر اتفاق النساء في ذلك، كالحيض.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن أكثر مدة النفاس أربعون يوماً، وهو مذهب الحنفية والمشهور من مذهب الحنابلة، وهو الراجح إن شاء الله، وما ورد في هذا الباب وهو حديث أم سلمة وإن ضُعّفَ بما تقدم فقد حسنه آخرون، كما تقدم، ويقويه ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(النفساء تنتظر نحواً من أربعين يوماً)
(2)
.
قال ابن عبد البر: (وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال: بالأربعين، فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مخالف لهم منهم
(3)
، وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم، ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على غيرهم، والنفس تسكن إليهم، فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل؟ وبالله التوفيق)
(4)
.
وقال الشوكاني: (والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يوماً متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار)
(5)
وبمعناه قال النووي، وردّ على من ضعف الحديث.
(1)
"خلق الإنسان" ص (455).
(2)
أخرجه الدارمي (1/ 185)، وابن الجارود (119)، والبيهقي (1/ 341) من طريق أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده صحيح، وأبو بشر: هو جعفر بن إياس.
(3)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 248).
(4)
"الاستذكار"(3/ 250).
(5)
"نيل الأوطار"(1/ 332).
يقول الدكتور عمر الأشقر: (قد انتهت المقولات الطبية في الندوة الفقهية المقدم إليها البحث إلى الاتفاق مع بعض الآراء الفقهية القائلة بأن النفاس: هو ما ينزل من المرأة بعد الولادة أو الإسقاط ريثما يندمل موقع المشيمة المنفصلة من تجويف الرحم، ويبدأ دماً ثم سائلاً مُصْفراً حتى يتوقف، ولا حدّ لأقله، وأقصاه السوي ستة أسابيع فإن زاد عليها اعتبر غير سوي، ويلحق بالاستحاضة، وقد يكون من جراء بقايا المشيمة داخل الرحم، أو نتيجة وهن الرحم عن الانقباض الكافي لحبس الدم، أو غير ذلك مما يلتمس له التشخيص والعلاج، والنفاس إذا انتهى قد يفضي إلى حيض، وقد يفضي إلى طهر يمتد فترة تطول أو تقصر)
(1)
.
الوجه الرابع: لا حدّ لأقل النفاس، بل متى رأت الطهر قبل الأربعين فإنها تغتسل وتصلي، وهذا قول الجمهور من أهل العلم؛ لأنه لم يرد من الشرع له تحديد، فيكون المرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد قليلاً وكثيراً.
قال الترمذي: (أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي
…
).
الوجه الخامس: لا يثبت حكم النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، وأقل مدة يتبين فيها خلق الإنسان واحد وثمانون يوماً من ابتداء الحمل، وغالبها تسعون يوماً؛ لأن الخلق أربعون يوماً نطفة؛ وأربعون يوماً علقة؛ وأربعون مضغة.
وينبغي التثبت إذا أسقطت لواحد وثمانين يوماً هل هو مخلَّق أم غير مخلَّق؟ لأن الله تعالى قسم المضغة إلى مخلَّقة وغير مخلَّقة، قال تعالى:{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، والغالب أنه إذا تم له تسعون يوماً تبين فيه خلق الإنسان.
(1)
"الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب" ص (63، 64).
وقد ذكر الأطباء أن الإجهاض (الإسقاط) قبل الشهر الرابع لا يشبه الولادة، إذ يقذف الرحم في هذه الحال محتوياته: الجنين وأغشيته، ويكون السقط في هذه الحال محاطاً بالدم غالباً.
أما الإجهاض بعد الشهر الرابع فإنه يشبه الولادة، إذ تنفجر الأغشية أولاً، وينزل منها الحمل، ثم تتبعه المشيمة
(1)
.
الوجه السادس: إذا تجاوز الدم الأربعين على القول بأنها أكثر مدة النفاس، فهو حيض إن صادف زمن حيضها، فتجلس له، وقد ذكر الأطباء أن الحيض قد يعود إلى الظهور في نهاية الأسبوع السادس بعد الولادة ثم ينقطع، كما كان قبل الحمل، أو يغيب خلال أشهر الرضاعة عند بعض النساء
(2)
.
فإن استمر معها فهي مستحاضة تأخذ أحكامها، وذكر بعض الفقهاء أنه إن كان لها عادة بزيادة يسيرة على الأربعين كيومين ثم ينقطع؛ أو ظهرت فيه أمارة قرب الانقطاع كصفرة أو كدرة انتظرت حتى ينقطع، والله أعلم
(3)
.
(1)
"خلق الإنسان" ص (425).
(2)
"الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب" ص (41).
(3)
"رسالة في الدماء الطبيعية" ص (52).
كتاب الصلاة
لما فرغ الحافظ رحمه الله من كتاب «الطهارة» ذكر كتاب «الصلاة» ، وتقديم الطهارة من باب تقديم الصلاة؛ لأن الطهارة مفتاحها وشرطها، كما في الحديث:«مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»
(1)
.
والصلاة في اللغة: الدعاء بالخير، قال تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، أي: ادع لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ، وإن كان مفطراً فليطعم»
(2)
، ومعنى فليصلِّ: فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ونحو ذلك، على ما قاله الجمهور.
وفي الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
ومعظم تعريف المتقدمين رحمهم الله يخلو من كلمة (عبادة) أو ما يؤدي معناها، إلا ما رأيت في «شرح حدود ابن عرفة» ، فإنه قال:(قربة فعلية)
(3)
، ولعل المتقدمين لم يرو حاجة إلى هذا الوصف؛ لأن من المعلوم أن الركوع والسجود وما ذُكِرَ معهما إذا صدر من مسلم فهو يحكي صفة الصلاة وهيئتها.
والصلاة ثاني أركان الإسلام وأهمها بعد الشهادتين، ويدل على أهميتها أن الله تعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم في السماء ليلة المعراج بلا واسطة كما ثبت
(1)
أخرجه أبو داود (61، 618)، والترمذي (3)، وأحمد (2/ 123)، وإسناده حسن.
(2)
أخرجه مسلم (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وسيأتي شرحه في باب "الوليمة" من كتاب "النكاح" إن شاء الله.
(3)
(1/ 107).
في «الصحيحين»
(1)
، وكان ذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين على المشهور، ومما يدل على أهميتها - أيضاً - أنها تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وأنها واجبة على كل مكلف ما دام عاقلاً.
وقد فرضها الله تعالى خمسين صلاة، حتى استقرت الفريضة خمس صلوات في اليوم والليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها ركعتين ركعتين إلا المغرب فثلاث ركعات، فلما هاجر إلى المدينة بقيت الركعتان للمسافر، وزيدت صلاة المقيم إلى أربع ركعات، إلا الفجر فبقيت ركعتين، وقد ثبت ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين
(2)
، وغيره من الأحاديث، كما سيأتي في باب «قصر الصلاة» إن شاء الله.
وقد ذكر الله تعالى الصلاة في القرآن في أكثر من ستين مرة ما بين مقرونة بالزكاة ومفردة عنها، وهذا وما قبله يدل دلالة واضحة على محبة الله تعالى لها وعنايته بها؛ لأن لها ثمرات عظيمة، فهي صلة بين العبد وربه، وفيها انشراح الصدر، وقرة العين، والانزجار عن الفحشاء والمنكر، وبالجملة فحكمها باهرة، ومصالحها عظيمة، ومنافعها متصلة بالقلب والروح والبدن وسائر القوى
(3)
.
(1)
البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث أنس عن أبي ذر رضي الله عنهما.
(2)
البخاري (350)، ومسلم (685).
(3)
انظر: "شفاء العليل" لابن القيم ص (310 - 313)، واقرأ في كتاب "الصلاة والرياضة والبدن"، تأليف: عدنان الطرشة.
باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات، والمراد به هنا: الزمن المحدد لأداء الصلاة فيه، والأوقات خمسة لمن لا يجمع، لكل صلاة وقت خاص، وثلاثة لمن يجمع؛ لاندماج وقت العصر في وقت الظهر، ووقت العشاء الآخرة في وقت المغرب.
وبدأ المصنف بالمواقيت؛ لأنها سبب للوجوب، وشرط للأداء، فكان لها جهتان في التقديم، فهي أهم شروط الصلاة، فإن الصلاة فريضة مؤقتة بوقت محدد، لا يجوز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي: فرضاً مؤقتاً، وفي السنة أحاديث كثيرة، ذُكِرَ بعضها في هذا الباب.
بيان أول الوقت وآخره
151/ 1 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَقْتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلمٌ.
152/ 2 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ في الْعَصْر: «وَالشَّمْسُ بَيضَاءُ نَقِيَّةٌ» .
153/ 3 - وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسى: «وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعةٌ» .
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الله بريدة بن الحصيب - بضم الحاء - الأسلمي. أسلم قبل غزوة بدر، ولم يشهدها، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد الحديبية، فكان ممن بايع بيعة الرضوان، وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة
(1)
، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وغزا خراسان زمن عثمان رضي الله عنه ومات بمرو زمن يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين
(2)
.
وأما أبو موسى فهو عبد الله بن قيس الأشعري القحطاني رضي الله عنه، مشهور باسمه وكنيته، قدم مكة وأسلم، ثم رجع إلى بلاد قومه، وقدم في خمسين
(1)
البخاري (4473)، مسلم (1814).
(2)
"الاستيعاب"(2/ 41)، "الإصابة"(1/ 214).
منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند فتح خيبر، وكان حسن الصوت بقراءة القرآن، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود»
(1)
.
ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وشهد فتوح الشام، ثم استعمله عمر رضي الله عنه على البصرة، فافتتح الأهواز ثم أصبهان، ثم عزله عثمان رضي الله عنه عن البصرة فتحول إلى الكوفة فولاه عثمان عليها، وتفقه به أهلها، ومات فيها سنة أربع وأربعين
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجها:
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أخرجه مسلم (612)(173) من طريق همام، حدثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو، وتمامه:«فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان» ، وله ألفاظ أخرى، ساقها الإمام مسلم رحمه الله من طرق عن قتادة، وفيها فوائد كثيرة، قال النووي:(لا نعلم أحداً شاركه فيها)
(3)
، ولذا فإن مسلماً لما ساق حديث عبد الله بن عمرو بطرقه أردفه بسنده عن يحيى بن أبي كثير أنه قال:(لا يُستطاع العلم براحة الجسم) مع أن ذلك لا يتعلق بأحاديث المواقيت، ولعله ذكره إشارة إلى أن من أتعب جسمه في تحصيل العلم تحقق له ما يريد، مثل جمع طرق هذا الحديث وتحصيل فوائده.
وأما حديث بريدة رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم - أيضاً - (613) من طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة فقال له:«صل معنا هذين» يعني: اليومين (ثم أمره - أي بلالاً - فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية .. ).
(1)
أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793)(235) واللفظ له.
والمراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن؛ وآل داود: هو داود النبي عليه السلام.
(2)
"الاستيعاب"(7/ 3)، "الإصابة"(6/ 194).
(3)
"شرح النووي"(5/ 119).
وأما حديث أبي موسى رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم - أيضاً - (614) من طريق بدر بن عثمان، حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يردَّ عليه شيئاً، قال: (فأقام الفجر حين انشق الفجر
…
إلى أن قال: ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة .. ).
ولعل غرض الحافظ من إيراد هذا القدر من حديث أبي موسى وحديث بريدة في صلاة العصر الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجل العصر، لوصف الراوي الشمس بالارتفاع وبأنها بيضاءُ نقية، فيكون ذلك تفصيلاً وبياناً لقوله:«ما لم تصفرَّ الشمس» .
الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:
قوله: (زالت الشمس) أي: مالت عن وسط السماء إلى جانب الغروب.
قوله: (وكان ظل الرجل كطوله) أي: ويمتد وقت الظهر حتى يصير ظِلُّ الرجل مِثْلَهُ، والمراد: أن يكون ظل الشيء مثله، وذُكِرَ الرجل في الحديث تمثيلاً.
قوله: (تصفر الشمس) الصفرة لون دون الحمرة، والشمس تكون صفراء عند قربها من الغروب لذهاب بياضها وضعف نورها.
قوله: (الشفق) هو بقية ضوء الشمس وحمرتها بعد غروبها، قال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب؛ قيل: غاب الشفق، وهذا هو المشهور في كتب اللغة، كما ذكر الجوهري، والأزهري، وغيرهما
(1)
، وذكر النووي
(2)
نقولاً عن بعض الصحابة والتابعين وأئمة اللغة أن الشفق هو الحمرة، وقد ساق الحافظ في «البلوغ» حديثاً في ذلك، وهو ضعيف، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أما من قال: هو البياض الذي يكون بعد الحمرة فهو مرجوح.
(1)
انظر: "الزاهر" ص (148)، "الصحاح"(4/ 1501).
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 165).
قوله: (إلى نصف الليل الأوسط) هكذا في رواية همام عن قتادة بلفظ (الأوسط) وجميع من روى الحديث عن قتادة عند مسلم؛ وهم هشام وشعبة والحجاج لم يذكر هذه اللفظة، قال القرطبي:(وكأن هذه الرواية وَهْمٌ؛ لأن الأوسط في المقدرات والمعدودات إنما يقال فيما يتوسط بين اثنين فأكثر، اللهم إلا أن يريد بالأوسط: الأعدل، فحينئذ يصح أن يقال: هو أوسط الشيئين، أي: أعدلهما، وهذا الشيء أوسط من هذا، أي: أعدل منه، ويمكن أن تحمل رواية تلك الزيادة على الصحة ويكون معناه: أن النصف الأول أعدل بالنسبة إلى إيقاع الصلاة فيه من النصف الآخِر، لتأدية الصلاة في الأول، وكثرة الثواب فيه)
(1)
.
والليل في اللغة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو إلى طلوع الشمس
(2)
.
وأما في الشرع فالظاهر أنه ينتهي بطلوع الفجر، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
قوله: (بيضاء نقية) أي: صافية لم تصفر، وفي هذا مع حديث أبي موسى (والشمس مرتفعة) إشارة إلى بقاء حرها وضوئها.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء طوله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس، ويعرف ذلك بأن يُنصب عود مستو في أرض مستوية، ويعلم على رأس الظل، فما دام الظل ينقص من الخط فالشمس لم تزل في الارتفاع، وإن وقف لا يزيد ولا ينقص فهو وقت الاستواء، فإن عاد الظل إلى الزيادة علم أن الشمس زالت، ودخل وقت الظهر، ثم تقيس من ابتداء عودة الظل، فإذا كان الظل طول الشاخص فقد خرج وقت صلاة الظهر.
والظل يقصر في الصيف لارتفاع الشمس إلى كبد السماء، ويطول في
(1)
"المفهم"(2/ 238).
(2)
كما في "القاموس"(4/ 191) وغيره.
(3)
"الفتاوى"(5/ 470).
الشتاء لمسامتتها للمنتصب، ولهذا يظهر في الشتاء ظل لكل شاخص من ناحيته الشمالية؛ لأن الشمس تميل إلى الجنوب، أما علامة الزوال بالساعة فاقسم ما بين طلوع الشمس إلى غروبها نصفين، وهذا هو الزوال.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن وقت صلاة العصر يبدأ من انتهاء وقت الظهر، وأنه لا فاصل بينهما ولا اشتراك، على الراجح من أقوال أهل العلم، ويمتد وقتها المختار ما دامت الشمس بيضاء نقية، فإذا اصفرت انتهى وقتها المختار؛ لقوله:(ما لم تصفر الشمس) ويدخل وقت الضرورة إلى الغروب، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»
(1)
، فهو نص صريح في أن وقت العصر يمتد إلى الغروب، وإنما قَدَّمَ الحافظ حديث ابن عمرو رضي الله عنهما (ما لم تصفر الشمس) لأن فيه تحديد بداية وقت العصر ونهايته، فيحمل على وقت الاختيار، ويحمل حديث أبي هريرة على الضرورة.
والمراد بالضرورة: العذر الذي لا مندوحة عنه، كالحائض تطهر في هذا الوقت، أو كافر يسلم، أو نائم يستيقظ، أو مغمى عليه يفيق، أو جريح اشتغل بتضميد جرحه، فهؤلاء يصلون ولو بعد اصفرار الشمس، وتكون صلاتهم أداء، والله أعلم
(2)
.
والقول الثاني وهو المشهور في كتب الفقه ككتب الحنابلة - مثلاً - أن وقت العصر المختار يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، مستدلين بحديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (ثم صلّى العصر حين كان ظل كل شيء مثل ظله
…
وصلى المرة الثانية حين كان ظل كل شيء مثليه)
(3)
.
والقول الأول هو الراجح، وهو أوسع من القول الثاني؛ لأن امتداد
(1)
أخرجه البخاري (579)، ومسلم (608).
(2)
"المغني"(2/ 16، 17).
(3)
أخرجه أبو داود (393)، والترمذي (149)، وأحمد (3/ 333).
وقت الاختيار إلى ما لم تكن الشمس صفراء يزيد على كون ظل الشيء مثليه؛ ووجه الترجيح ما يلي:
1 -
أن حديث عبد الله بن عمرو في «صحيح مسلم» ، وهو متأخر؛ لأن إمامة جبريل كانت بمكة في أول الفرض، فقد نقل الحافظ عن ابن إسحاق أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة
(1)
.
2 -
أنه اشتمل على زيادة لم ترد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والأخذ بالزيادة لا ينافي ذلك.
3 -
أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس فعل.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن وقت المغرب من مغيب الشمس ويمتد إلى مغيب الشفق، وهي الحمرة في الأفق، وهذا معروف بالمشاهدة، وهو يتراوح ما بين ساعة وربع إلى ساعة ونصف تقريباً بعد غروب الشمس.
الوجه السابع: الحديث دليل على أن وقت العشاء يبدأ بعد مغيب الشفق إلى نصف الليل، فإذا انتصف الليل خرج وقت العشاء، ويعرف ذلك بحساب الساعات من الغروب إلى طلوع الفجر، فيعرف ثلث الليل ونصف الليل، وقد وقع الخلاف بين العلماء في آخر وقت العشاء على ثلاثة أقوال، ذكرها ابن رشد
(2)
، وسبب الخلاف: تعدد الأحاديث، ثم الترجيح بينها.
وحديث ابن عمرو نص صريح لا يحتمل التأويل، في أن وقت العشاء يمتد إلى نصف الليل، ولم يرد ما يدل على امتداده إلى ما بعد ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]؛ والغسق: سواد الليل وظلمته، وهذا أشد ما يكون في منتصف الليل.
والقول الثاني: أن آخر صلاة العشاء طلوع الفجر، واستدلوا بحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من
(1)
"فتح الباري"(2/ 4).
(2)
"بداية المجتهد"(1/ 241).
أخَّر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى»
(1)
، قالوا: هذا يدل على أن وقت كُلِّ صلاة يمتد إلى دخول وقت الصلاة الأخرى، إلا صلاة الفجر فلا يمتد وقتها إلى الظهر بالإجماع، فيكون آخر صلاة العشاء وقت طلوع الفجر.
والأول أرجح؛ لقوة دليله كما تقدم، وحديث أبي قتادة لا دلالة فيه، لأمرين:
الأول: أنه محمول على صلاتين وقتهما متصل كالظهر والعصر، ولهذا لا تدخل صلاة الفجر مع صلاة الظهر بالإجماع.
الثاني: أن الحديث ليس فيه بيان أوقات الصلاة ولا سيق من أجل ذلك، وإنما هو لبيان إثم من يؤخر الصلاة عامداً حتى يخرج وقتها؛ لأن الحديث ورد في الفجر حينما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه رضي الله عنهم عنها في السفر، فلو كان الحديث لبيان ما ذكروه لكان دليلاً على امتداد وقت الصبح إلى الظهر، وهم لا يقولون به، فكيف يصح استثناؤها؟.
والقائلون بامتداد العشاء إلى طلوع الفجر يرون أن وقتها المختار إلى نصف الليل، وأما وقت الأداء فهو ممتد إلى طلوع الفجر، لكنه وقت ضرورة، وقد نص على ذلك الفقهاء، لكنه قول مرجوح، لما تقدم.
والقول الثالث: أن آخر وقت العشاء ثلث الليل مستدلين بحديث إمامةِ جبريلَ عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني، لقوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم - (ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل)، والذي يظهر أنه لا دليل فيه على أنه آخر وقتها إذا ما قُرن بحديث ابن عمرو، وتقدم الكلام على ذلك.
الوجه الثامن: الحديث دليل على أن وقت الصبح من طلوع الفجر الثاني حتى تطلع الشمس، ووقت الفجر منفصل عما قبله وما بعده؛ لأن بينهما وبين العشاء نصف الليل الثاني - على أحد الأقوال - وبينهما وبين الظهر نصف
(1)
أخرجه مسلم (680).
النهار الأول، وقد جاء في القرآن ما يدل على ذلك، قال تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
فقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} معطوف على (الصلاة) وتقديره: وأقم قرآن الفجر؛ أي: صلاة الفجر، وعبر عنها بالقرآن لمزيد الاعتناء به فيها وإطالته، وفي الآية فصلُ صلاة الفجر عن قوله:{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ؛ لعدم اتصال وقتها، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
بيان متى كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المفروضة
154/ 4 - وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسْلمِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ في أَقْصى المدينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ، وَكَان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، ويَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلى المائَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
155/ 5 - وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَدِيث جَابِرٍ: وَالْعِشَاءَ أَحْيَاناً وَأَحْيَاناً: إذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وإذَا رَآهُمْ أَبْطَؤوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ: كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ.
156/ 6 - وَلِمُسْلمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبي مُوسى: فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لَا يَكادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو برزة نَضْلة بن عبيد أو ابن عبد الله الأسلمي رضي الله عنه، في نسبه خلاف، مشهور بكنيته، أسلم قديماً، وشهد فتح خيبر ومكة والطائف، وهو الذي قتل ابن خطل عام الفتح، وهو متعلق بأستار الكعبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، غزا خراسان، وشهد قتال الخوارج في الأهواز، ثم مات بمَرْو سنة خمس وستين
(1)
.
(1)
"الاستيعاب"(10/ 195)، "الإصابة"(10/ 152).
الوجه الثاني: في تخريجها:
أما حديث أبي برزة: فقد أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة» باب «وقت العصر» (547)(640) من طريق سيار بن سلامة وهو أبو المنهال الرياحي قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة، فقال:
…
فذكره، واللفظ للبخاري.
وقد حذف الحافظ أول الحديث (كان يصلي الهجير - التي تدعونها الأولى - حين تدحض الشمس، ويصلي العصر .. إلخ)، وكان الأولى أن يثبتها؛ لأن الحديث في بيان متى كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات الخمس، كما أن الحافظ أسقط ذكر المغرب، وفيه:(ونسيت ما قال في المغرب)، والقائل هو سيار بن سلامة؛ أي: نسي ما قال أبو برزة في المغرب، بيَّنه أحمد في روايته عن حجاج، عن شعبة عنه
(1)
.
وأما حديث جابر: فقد أخرجه البخاري في باب «وقت المغرب» (560)، ومسلم (646) من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: قدم الحجاج المدينة، فسألنا جابر بن عبد الله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة .. وساق الحديث، واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم:(والعشاء أحياناً يؤخرها وأحياناً يعجل).
وقد وقع في «مسند أبي عوانة» عن شعبة: سألنا جابر بن عبد الله - في زمن الحجاج - وكان يؤخر الصلاة عن وقت الصلاة
(2)
.
وأما حديث أبي موسى فقد مضى تخريجه.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان يصلي) كان: فعل ماض، وإذا كان خبرها جملة فعلية دلت على الاستمرار غالباً، وتقدم ذلك في «الطهارة» .
قوله: (رحله) بفتح الراء وسكون الحاء: مسكنه ومنزله.
(1)
"المسند"(33/ 46).
(2)
"مسند أبي عوانة"(1/ 307).
قوله: (والشمس حية) أي: بيضاء نقية حارة، فحياتها وصف مستعار لبقاء ضوئها وشدة حرارتها وصفاء لونها، والجملة حال من فاعل (يرجع)، وقد أخرج أبو داود في «سننه» بسنده عن خيثمة بن عبد الرحمن قال:(حياتها أن تجد حرها)
(1)
.
قوله: (أن يؤخر من العشاء) بكسر الخاء المعجمة، أي: يبطئ من صلاة العشاء، والمراد: يؤخر من وقت العشاء، فلا يصليها في أول وقتها.
قوله: (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) أي: يبغض النوم قبل صلاة العشاء؛ لأنه إن استغرق فيه فاتته الصلاة، وإن قطعه قام وهو كسلان، ويكره التحدث بعدها؛ لأنه قد يفضي إلى السهر الضار بالجسم المعوق عن قيام الليل وصلاة الفجر، وهذه الجملة استطراد من أبي برزة رضي الله عنه، وهو في غاية المناسبة.
قوله: (وكان ينفتل) أي: ينصرف.
قوله: (من صلاة الغداة) أي: صلاة الفجر. والغداة: أول النهار.
قوله: (ويقرأ بالستين إلى المائة) أي: في صلاة الغداة، وظاهره أن هذا المقدار في كلا الركعتين.
قوله: (والعشاء أحياناً وأحياناً) جمع حين بمعنى: وقت، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان على المشهور، وهما منصوبان على الظرفية بفعل محذوف، والتقدير: أحياناً يعجل، وأحياناً يؤخر، ثم فَصَّلَ فقال:«إذا رآهم - أي: الجماعة - اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر» .
و (العشاءَ): بالنصب عطفاً على أول الحديث، وهو قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهرَ بالهاجرة
…
).
قوله: (والصبح
…
يصليها بغلس) الصبحَ: بالنصب بفعل محذوف يفسره المذكور، والتقدير: وكان يصلي الصبح
(2)
.
(1)
"سنن أبي داود"(406)، قال في "فتح الباري" (2/ 27):(سنده صحيح).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 206).
والغلس: بفتحتين: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل مع غلبة الظلمة.
قوله: (انشق الفجر) أي: طلع، قال في «النهاية»: شق الفجر وانشق: إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب تعجيل صلاة العصر في أول وقتها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلونها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع الرجل إلى منزله في أقصى المدينة، والشمس لم تزل تحتفظ بضوئها وحرارتها، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة، قال الزهري: وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه
(1)
.
وعنه قال: كنا نصلي العصر - أي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة
(2)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية التأخير في صلاة العشاء عن أول وقتها، لكن هذا مقيد بما دل عليه حديث جابر رضي الله عنه وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي الجماعة، فإن رآهم اجتمعوا عجل لئلا يشق عليهم الانتظار، وإذا رآهم أبطؤوا أخر؛ لأن تأخيرها أحب إليه، وهذا يدل على حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته واجتنابه ما يشق عليهم.
فعلى الإمام أن يتحرى ما تحراه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي العشاء إن رآهم حضروا عجل الصلاة، وإن رآهم تأخروا أخر الصلاة، أما بقية الصلوات فينبغي أن يكون لها وقت محدد واضح يعرفه الناس حتى يحضروا، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فالمغرب يبادر بها ولا ينتظر إلا بمقدار الوضوء، والعصر يصليها في أول وقتها، وهكذا الظهر والفجر يصليهما في أول وقتهما، ويعطي الناس فرصة الحضور والاجتماع.
الوجه السادس: الحديث دليل على كراهة النوم قبل صلاة العشاء لأنه
(1)
أخرجه البخاري (550)، ومسلم (621).
(2)
أخرجه البخاري (551)، ومسلم (193)(621).
وسيلة إلى إضاعتها في الوقت أو إضاعتها في الجماعة؛ لأن الإنسان إذا غلبه النوم فقد يصعب عليه القيام لها وحضور الجماعة.
الوجه السابع: الحديث دليل على كراهة السهر والتحدث بعد صلاة العشاء، لئلا يشق عليه الاستيقاظ لصلاة الليل أو صلاة الفجر، والمراد بالتحدث هنا: التحدث في أمر مباح؛ لأن المحرم لا اختصاص لكراهته بما بعد صلاة العشاء، بل هو حرام في الأوقات كلها.
وبهذا يعلم أن السهر في المستراحات أو غيرها عند آلات اللهو والطرب أو في مجالس الفسق والعصيان من قمار وشرب مسكر ونحو ذلك مما اخترعته لنا قوى الشر العالمية وأمدت به أمة الإسلام، أقول: لا شك في تحريم السهر عند ذلك؛ لأن من يسهر على هذه الصفة فقد لا يصلي الفجر مع المسلمين، وقد لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، وهذا واقع، نسأل الله العافية.
والسهر له آثار سيئة من أهمها التخلف عن صلاة الفجر، أو إخراجها عن وقتها، وتفويت قيام الليل، والنوم في النهار ساعات طويلة، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى على من نوَّر الله بصيرته.
أما السهر في طلب علم أو لقدوم ضيف أو محادثة أهل أو لمصلحة تتعلق بالمسلمين كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو رجال الأمن، فهذا يجوز، وقد ورد ما يدل على ذلك، لكن بشرط ألا يكثر السهر فيؤدي إلى التخلف عن صلاة الفجر.
الوجه الثامن: الحديث دليل على مشروعية المبادرة بصلاة الفجر في أول وقتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصليها بغلس قبل أن ينتشر ضياء النهار، وينصرف منها حين يميز الرجل جليسه الذي بجانبه فقط، والمسجد حينذاك لم يكن فيه مصابيح، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل القراءة فيها، حيث يقرأ بستين آية إلى مائة آية في غالب أحواله صلى الله عليه وسلم.
الوجه التاسع: الحديث دليل على مشروعية تطويل القراءة في صلاة
الفجر، ولعل من حكمة ذلك أنها صلاة خفيفة فهي ركعتان، فناسب إطالة القراءة فيها، ولأن الناس عندهم نشاط ورغبة في سماع القرآن؛ لأنهم بعد النوم وراحة الليل، فيحصل لهم من طول القراءة وطول التسبيح والدعاء ما فيه الخير والبركة، والله تعالى أعلم.
حكم تعجيل المغرب في أول وقتها
157/ 7 - وعَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي المَغْرِبَ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْصَرفُ أَحَدُنَا وَإنَّه لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو عبد الله أو أبو خديج رافع بن خَديج - بفتح الخاء المعجمة - الأنصاري الأوسي رضي الله عنه، لم يشهد بدراً لصغره، وشهد أحداً والخندق وأكثر المشاهد، أصابه سهم يوم أحد في ثَنْدُؤَتِهِ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، انزع السهم قال: «يا رافع إن شئت نزعت السهم والقُطْبة
(1)
جميعاً، وان شئت نزعت السهم وتركت القطبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد»، قال: يا رسول الله، بل انزع السهم واترك القطبة، واشهد لي يوم القيامة أني شهيد، قال: فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم السهم وترك القطبة
(2)
.
وقد انتقضت جراحته رضي الله عنه بعد ذلك، ومات سنة ثلاث وسبعين
(3)
. قال الذهبي: (كان صحراوياً عالماً بالمزارعة والمساقاة)
(4)
.
(1)
القطبة: بوزن غرفة هي نصل السهم: وهو طرفه الذي يرمى به، والثندؤة: بوزن ترقوة، هي للرجل كالثدي للمرأة.
(2)
أخرجه أحمد (22/ 235) قال الهيثمي (9/ 345) بعد أن عزاه للطبراني: (وامرأة رافع إن كانت صحابية وإلا فإني لم أعرفها، وبقية رجاله ثقات)، وقد ذكر الحافظ في "الإصابة" (13/ 248) امرأة رافع فقال: (أم عبد الحميد امرأة رافع بن خديج، ذكرها الباوَردي في الصحابة
…
).
(3)
"الاستيعاب"(3/ 243)، "الإصابة"(3/ 236).
(4)
"سير أعلام النبلاء"(3/ 182).
قلت: ولهذا روى أحاديث كثيرة في المزارعة
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في باب (وقت المغرب)(559) ومسلم (637) من طريق الأوزاعي قال: حدثنا أبو النجاشي - هو عطاء بن صهيب مولى رافع بن خديج - قال: سمعت رافع بن خديج رضي الله عنه يقول: فذكره.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (وإنه ليبصر مواقع نبله) النبل: بفتح النون وسكون الباء الموحدة هي السهام العربية، وهي مؤنثة، لا مفرد لها من لفظها.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها وعلى تقصير القراءة فيها، بحيث ينصرف منها والضوء باقٍ، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم ينصرفون منها ويرمي الواحد منهم النبل عن قوسه ويبصر موقعه؛ لبقاء الضوء، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المسند"(25/ 121).
حكم تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها
158/ 8 - وعَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلةٍ بِالْعِشَاءِ، حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى، وَقَالَ:«إنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» . رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في باب (وقت العشاء وتأخيرها)(638)(219) من طريق ابن جريج قال: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر أنها أخبرته عن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم
…
إلخ.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أعتم بالعشاء) أي: أخر صلاة العشاء حتى اشتدت عتمة الليل وهي ظلمته، يقال: أعتم: دخل في العتمة، وهي من الليل بعد غيبوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول.
قوله: (حتى ذهب عامة الليل) أي كثير الليل لا أكثره؛ لأنه إن حمل على الأكثر زاد على النصف، وهو معارض لما تقدم من أن صلاة العشاء ما لم ينتصف الليل، فيكون هذا قرينة على أن المراد كثير الليل.
قوله: (إنه لوقتها) أي: وقتها الفاضل لولا المشقة على الأمة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب تأخير صلاة العشاء إلى عامة الليل، والمراد به آخر الثلث الأول، وقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال:(يا رسول الله رقد النساء والصبيان)، وهذا مقيَّد بما إذا لم
يشق على الناس لقوله: «إنه لَوَقْتُها لولا أن أشق على أمتي» .
وفي حديث ابن عباس المذكور: «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة»
(1)
، لكن إن كان الجماعة في مكان واحد كأن يكونوا في البر - مثلاً - فالتأخير أفضل، وكذا حكم النساء في بيوتهن.
وفي هذا الحديث دليل على أنه لم يكن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخيرها، والفيصل في ذلك ما تقدم في حديث جابر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (7239)، ومسلم (642).
حكم الإبراد بصلاة الظهر
159/ 9 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «مواقيت الصلاة» باب «الإبراد بالظهر في شدة الحر» (536)، ومسلم (615) من طريق الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا اشتد الحر) أي: قوي، والحر: وهج الشمس في أيام القيظ.
قوله: (فأبردوا بالصلاة) أي: أخِّروها حتى يبرد الحر، والمراد بالصلاة: صلاة الظهر، وتكون (أل) للعهد؛ لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالباً في أول وقتها، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:«أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم»
(1)
.
والحكمة من ذلك: لأجل أن تؤدى الصلاة براحة وخشوع، والتعجيل في شدة الحر مشقة تسلب الخشوع أو كماله.
والأمر بالإبراد: أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، وهذا مما
(1)
أخرجه البخاري (538).
لا اختلاف فيه بين العلماء؛ ذكر ذلك الحافظ ابن رجب
(1)
ويرى أن الصارف عن الإيجاب هو الإجماع، وحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه:(فإذا أقبل الفيء فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر)
(2)
، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
، فإن فيهما التصريح بأن الصلاة بعد الزوال مشهودة محضورة متقبَّلة، ولم يفرق بين فرض ونفل.
قوله: (فإن شدة الحر من فيح جهنم) جملة تعليلية لمشروعية التأخير المذكور، وقوله:(من فيح جهنم) أي: من وَهَجِ حرها وسعة انتشارها وتنفُّسها، قال أهل اللغة:(فاحت النار فيحاً: انتشرت)
(4)
.
وجهنم: من أسماء النار، وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث.
وظاهر الحديث أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وهذا هو الصواب، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذِنَ لها بنفَسَيْن: نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير»
(5)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الإبراد بصلاة الظهر أيام الحر، وذلك بأن تؤخر عن أول وقتها إلى أن يبرد الحر، وتنكسر قوته ويتيسر شيء من الظل، لتؤدى الصلاة في راحة وطمأنينة وخشوع.
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن الإبراد بالظهر عام لكل مصلٍّ، سواء أكان منفرداً أم في جماعة، حتى النساء في بيوتهن؛ لأن الحديث جاء مطلقاً غير مقيد، والخطاب للجميع، وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله ورسوله، ولهذا ترجم البخاري على حديث أبي هريرة وغيره ترجمة مطلقة فقال: (باب
(1)
"فتح الباري"(4/ 242).
(2)
أخرجه مسلم (832).
(3)
أخرجه ابن خزيمة (1275)، وابن حبان (1550).
(4)
"المصباح المنير" ص (485).
(5)
أخرجه البخاري (537)، ومسلم (615)(617).
الإبراد بالظهر في شدة الحر)
(1)
.
وهذا قول كثير من أهل العلم، فذكر بعض المالكية أنه مذهب الإمام مالك، وذكر ابن قدامة أنه ظاهر كلام الإمام أحمد، ورجحه فقال:(والأخذ بظاهر الخبر أولى)
(2)
، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق ورجحه
(3)
، وكذا حكاه الترمذي عن أحمد وابن المبارك وإسحاق، ورجحه، وبه قال بعض الشافعية، وأصحاب الرأي
(4)
.
ورجحه - أيضاً - الشوكاني قال: (والحق عدم الفرق؛ لأن التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره)
(5)
.
والقول الثاني أن الإبراد مختص بأهل البلاد الحارة، كالحجاز لمن يصلي في جماعة في مسجد يقصده الناس من بُعْدٍ ويمشون إليه في الشمس، أما من صلّى منفرداً فإنه يعجِّلها في أول وقتها، وهذا هو المنصوص عن الشافعي
(6)
، وبه قال طائفة من المالكية
(7)
، ونُقِلَ عن الشافعي أن الإبراد له شروط أربعة:
1 -
أن يكون في بلد حار.
2 -
أن تصلى جماعة.
3 -
أن يقصد الناس الجماعة من بُعْد، فلو كانوا مجتمعين في موضع صلوا في أول الوقت.
4 -
ألا يجدوا كِنَّاً يمشون تحته يقيهم
(8)
.
ولعل الشافعي استنبط هذه الشروط من الحديث، وجعل ذلك تخصيصاً للنص بالمعنى.
(1)
"فتح الباري"(2/ 15).
(2)
"الاستذكار"(1/ 346)، "المغني"(2/ 37).
(3)
"الأوسط"(2/ 360، 361).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 296).
(5)
"نيل الأوطار"(1/ 355).
(6)
"الأم"(1/ 91).
(7)
"الاستذكار"(1/ 346 - 347).
(8)
"طرح التثريب"(2/ 151).
والظاهر أن سبب الخلاف مبني على معرفة المعنى الذي لأجله أُمر بالإبراد، فمن قال: لأجل حصول الخشوع في الصلاة، قال: لا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة، وهذا هو الأظهر، وأما من قال: خشية المشقة على من بَعُدَ عن المسجد بمشيه في الحر قال: يختص الإبراد بمن يصلي في المسجد الذي يُقصد من بُعْد
(1)
، وما قاله الشافعي وجيه، لكن الأخذ بعموم الحديث أولى.
الوجه الخامس: ظاهر هذا الحديث يعارض حديث جابر رضي الله عنه وما في معناه - وفيه (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة)، وهي شدة الحر عند منتصف النهار بعد الزوال؛ لأن قوله (كان يفعل) يشعر بالكثرة والدوام - كما تقدم - وأجيب عن ذلك بأجوبة، لعل من أظهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها أولاً بالهاجرة ثم أمر بالإبراد بعد ذلك، وهذا جواب الإمام أحمد، فإنه قال: (هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، ويدل لذلك حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع نبي الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم»
(3)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن النار موجودة الآن، وأهل السُّنة متفقون على وجود الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك ولله الحمد، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك، وزعموا أن الله تعالى يخلقهما يوم القيامة، وهذا الحديث وما في معناه
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (4/ 240).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (4/ 243).
(3)
أخرجه ابن ماجه (680)، وأحمد (30/ 122)، وابن حبان (1505)، وفيه شريك بن عبد الله النخعي، وهو سيئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، والظاهر أن شريكًا قد حفظ الحديث، فإنه وافق غيره من الرواة ولم ينفرد بشيء، قال البوصيري (1/ 148):(إسناده صحيح ورجاله ثقات). وقد نقل البيهقي في سننه (1/ 439) عن الترمذي قوله: (سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فعده محفوظًا، وقال: رواه غير شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة).
رد صريح عليهم، وقد أورد البخاري في «صحيحه» حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد وغيرهما في كتاب «بدء الخلق» وبوب على ذلك بقوله: باب «صفة النار وأنها مخلوقة» ، وقال الحافظ ابن حجر:(وهذه الأحاديث من أقوى الأدلة على ما ذهب إليه الجمهور من أن جهنم موجودة الآن)
(1)
، أعاذنا الله تعالى منها، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(6/ 333).
استحباب الإصباح والإسفار بصلاة الفجر
160/ 10 - وعَنِ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإنَّهُ أَعْظَمُ لأُجُورِكمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (424) في كتاب «الصلاة» بابٌ «في وقت الصبح» ، والترمذي (154)، والنسائي (1/ 272)، وابن ماجه (671)، وأحمد (25/ 132)، وابن حبان (1490 - 1491) كلهم من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً.
والذي رواه عن عاصم عند هؤلاء هو محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه، لكنه لم يتفرد به، بل تابعه عند بعضهم محمد بن عجلان - وهو حسن الحديث - فرواه عن عاصم، وقد جمع بينهما في «المسند» (25/ 132)، وباقي رجال الإسناد رجال الشيخين، إلا محمود بن لبيد فهو صحابي، قد أخرج له مسلم في «صحيحه» والبخاري في «الأدب المفرد» ، قال عنه الحافظ في «التقريب»:(صحابي صغير، جُلُّ روايته عن الصحابة، مات سنة ست وتسعين).
وقد صحح الحديث الترمذي وابن حبان - كما ذكرالحافظ - وصححه - أيضاً - ابن القطان
(1)
، وابن عبد الهادي
(2)
، والزيلعي
(3)
، وابن تيمية
(4)
.
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 334).
(2)
"التنقيح"(1/ 655).
(3)
"نصب الراية"(1/ 238).
(4)
"الفتاوى"(22/ 97).
قال الحافظ: (صححه غير واحد)
(1)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أصبحوا بالصبح) هذا لفظ أبي داود وابن ماجه ورواية عند ابن حبان، وعند الترمذي والنسائي وابن حبان:«أسفروا بالفجر» و «أسفروا بصلاة الصبح» ، والمراد بالصبح: الصلاة، والإصباح: الدخول في الصبح، يقال: أصبح الرجل: إذا دخل في الصبح، والمعنى: أدخلوا الصلاة في وقت الصبح يقيناً، ولا تكتفوا بمجرد ظن الصبح، ويؤيد ذلك رواية:«أسفروا بالفجر» وهي رواية بالمعنى.
قوله: (فإنه أعظم لأجوركم) تعليل لما قبله، وهو أن التيقن من الإسفار أعظم للأجر؛ لأن الصلاة إذا أُدِّيت بيقين كان أعظم للأجر من أن تصلى على غير يقين من طلوع الفجر، وهذا أحد معاني الحديث
(2)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الإصباح والإسفار بالفجر، وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث وكيفيه العمل به على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به أن يتبين الفجر ويظهر، ويُتحقق طلوعه، فلا يصلي مع غلبة الظن، وقد حكى الترمذي ذلك عن الشافعي وأحمد وإسحاق، فقال:(معنى الإسفار: أن يَضِحَ الفجر، فلا يُشكُّ فيه، ولم يروا أن معنى الإسفار تأخير الصلاة)
(3)
.
وحمل ابن حبان الحديث على الإسفار بالصبح في الليالي المقمرة التي لا يتبين فيها طلوع الفجر
(4)
.
واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذا انشق الفجر - كما في حديث أبي موسى - وفي حديث جابر كان يصليها بغلس، وهذه الأحاديث
(1)
"فتح الباري"(2/ 55).
(2)
"صحيح ابن حبان"(4/ 359).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 261).
(4)
"صحيح ابن حبان"(4/ 358).
أصح وأثبت من حديث رافع، فإنه وإن كان صحيحاً لكنها أثبت منه، وهي مشهورة مستفيضة، والتغليس فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم حتى مات، وكذا فعل الخلفاء الراشدين بعده وجماعة من الصحابة والتابعين، كما حكى ذلك الحازمي
(1)
.
وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: (إن هذا تتفق به معاني أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
؛ واختاره - أيضاً - الشيخ عبد العزيز بن باز.
وعليه فتكون الأدلة المتقدمة، التي تفيد استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة بغلس قرينة على أن المراد بـ «أصبحوا بالصبح» غير ظاهره، وأن المراد تحقق الصبح لا حقيقة الإسفار.
ومما يؤيد ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء، وصلّى الفجر قبل ميقاتها)
(3)
.
ويعني ابن مسعود صلاة الفجر بمزدلفة، كما في رواية أخرى، ومراده رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الفجر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر، إلا ذلك اليوم فإنه عجلها ودخل فيها مع طلوع الفجر من غير تأخير، ليتسع وقت الوقوف بالمشعر الحرام، وليس المراد أنه صلاها قبل دخول وقتها، لحديث جابر رضي الله عنه:(فصلى الفجر حين تبين له الصبح)
(4)
، وذلك أن الناس كانوا بمزدلفة مجتمعين، والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ، وقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من طريق اخر:(ثم صلّى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع)
(5)
.
القول الثاني: أن المراد بالحديث تطويل القراءة في الفجر حتى يخرج منها مسفراً، وهذا قول الطحاوي
(6)
وابن القيم
(7)
، وبعض الحنابلة، كما ذكر
(1)
"الاعتبار"(201).
(2)
"الفتاوى"(22/ 97).
(3)
أخرجه البخاري (1682).
(4)
أخرجه مسلم (1218).
(5)
أخرجه البخاري (1683).
(6)
"شرح معاني الآثار"(1/ 181).
(7)
"إعلام الموقعين"(2/ 383).
ابن تيمية، قالوا: لأن الحديث ورد بلفظ: «أسفروا بالفجر» ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالستين إلى المائة - كما تقدم - وهي مدة كافية في الدخول بالغلس والخروج بالإسفار، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم موافقاً لفعله لا مناقضاً له.
وهذا القول تبدو وجاهته، لكن يؤثر عليه حديث عائشة رضي الله عنها:(أن النساء كن يشهدن صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن لا يعرفهن أحد من الغلس)
(1)
، ولو قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالسور الطوال ما انصرف إلا وهم قد أسفروا ودخلوا في الإسفار جداً، فهذا يفيد أنه كان يصليها في أول وقتها ويخرج منها مغلساً لا مسفراً.
والقول الثالث: أن المراد به تأخير الصلاة حتى يزول الغلس ويحصل الإسفار، وهو قول الحنفية، والذي يستفاد من كلام صاحب «تحفة الأحوذي» أن بعضهم يقول بالتغليس، كما نقله عن السرخسي منهم
(2)
، ومؤدى هذا القول أن حديث رافع ناسخ للصلاة في الغلس.
وهذا القول أضعف الأقوال؛ لأن حديث رافع حديث محتمل، وهو معارض بما هو أقوى منه، وهي الأحاديث القولية والفعلية الدالة على المبادرة بالفجر وأنها تصلى بغلس.
يقول الترمذي عن التغليس: (هو الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، ومن بعدهم من التابعين .. )
(3)
.
وفي كتاب «الرسالة» للشافعي مناقشة علمية حول معنى هذا الحديث والعمل به، فراجعها
(4)
.
يقول ابن تيمية: (التغليس أفضل من الإسفار، إذا لم يكن ثَمَّ سبب يقتضي التأخير، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه كان يغلس بصلاة الفجر)
(5)
. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (578)، ومسلم (645).
(2)
"التحفة"(1/ 482 - 483).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 289).
(4)
"الرسالة" ص (282).
(5)
"الفتاوى"(22/ 95).
بم تدرك الصلاة في الوقت
؟
161/ 11 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشمسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
162/ 12 - وَلمُسْلمٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ:«سَجْدَةً» بَدَلَ «رَكْعَةً» . ثُمَّ قَالَ: وَالسَّجْدةُ إنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «مواقيت الصلاة» باب «من أدرك من الفجر ركعة» (579)، ومسلم (608) من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار؛ وعن بسر بن سعيد، وعن الأعرج يحدثونه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وضمير النصب في قوله:(يحدثونه) يعود على زيد بن أسلم.
أما حديث عائشة رضي الله عنها: فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة» (609) من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أنَّ عروة بن الزبير حدثه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها، والسجدة إنما هي الركعة» .
والظاهر أن الحافظ أورد هذا القدر من حديث عائشة لأمرين:
الأول: لتفسير السجدة الواردة فيه بالركعة الواردة في حديث أبي هريرة قبله.
الثاني: الرد على من ظن أن من أدرك السجدة الأولى من الركعة فقد أدرك الوقت؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً، والله أعلم.
وهذا التفسير إن كان من كلامه صلى الله عليه وسلم فلا إشكال، وإن كان من كلام الراوي فهو أعرف بما روى، والأحاديث الأخرى تدل على ذلك.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (من أدرك من العصر سجدة) أي: ركعة، كما جاء مفسراً فالسجدة تطلق ويراد بها الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة، قاله الخطابي
(1)
.
وقد ورد في نصوص الشرع هذا الإطلاق، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر
…
الحديث)، وقال:(حدثتني حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر)
(2)
.
الوجه الثالث: في الحديثين دليل على أن صلاة الصبح تدرك بإدراك ركعة من وقتها قبل أن تطلع الشمس، وأن العصر تدرك بإدراك ركعة من وقتها قبل أن تغرب الشمس، وتكون الصلاة أداء، وهذا من فضل الله تعالى، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»
(3)
.
فهذا نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة، سواء أكان إدراك جماعة أم إدراك وقت
(4)
.
وعنه - أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من
(1)
"أعلام الحديث"(1/ 438).
(2)
أخرجهما البخاري (1172، 1173)، ومسلم (729)(723) إلا أن لفظ مسلم في الثاني (ركعتين).
(3)
أخرجه البخاري (580)، ومسلم (607).
(4)
"الفتاوى"(23/ 257).
صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته»
(1)
.
ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة ثم طلعت عليه الشمس أو غربت أنه لا يكون مدركاً للوقت، وهذا قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
والقول الثاني: أن إدراك الوقت يحصل بإدراك تكبيرة الإحرام، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(3)
؛ لأن من أدرك تكبيرة الإحرام أدرك جزءاً من الوقت، وإدراك الجزء كإدراك الكل؛ لأن الصلاة لا تتبعض.
والقول الأول أرجح؛ لأن الحديث نص صريح فيه منطوقاً ومفهوماً، ولا يعرف في نصوص الشرع تعليق الإدراك بأقلَّ من ركعة، سواء أكان إدراك الوقت أم إدراك الجماعة، كما تقدم.
الوجه الرابع: هذا الحديث فيه بيان أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمرو المتقدم: «ووقت العصر ما لم تصفر الشمس» ، أن المراد بذلك وقت الاختيار، لا أنه اخر وقت العصر، إذ لو كان اخر وقت العصر هو الاصفرار لم يكن من صلّى ركعة قبل الغروب مدركاً لها، فيستفاد من هذين الحديثين أن هذه الصلاة لها وقتان: وقت اختيار ووقت ضرورة، وبهذا تجتمع الأحاديث ولا تتعارض
(4)
، وقد تقدم ذلك، والحمد لله.
(1)
أخرجه البخاري (556).
(2)
"المهذب"(1/ 80)، "المغني"(2/ 17)، "الفتاوى"(23/ 256، 257).
(3)
"الإنصاف"(1/ 439).
(4)
انظر: "التمهيد"(3/ 273).
بيان شيء من أوقات النهي عن الصلاة
163/ 13 - وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَفْظُ مُسْلمٍ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» .
مناسبة ذكر أحاديث أوقات النهي في باب المواقيت واضحة، فإن المؤلف لما ذكر الأوقات المأمور بالصلاة فيها ذكر الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، ليجمع بين الشيء ومقابله، أو ليبين أن في النوافل ما ليس له وقت محدد، كالنفل المطلق، فيصلى في كل وقت ما عدا أوقات النهي، بخلاف الفرائض فإن لها أوقاتاً محددة، وكذا ما يتبعها من النوافل القبلية أو البعدية.
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «مواقيت الصلاة» باب «لا يتحرى بالصلاة قبل غروب الشمس» (585)، وجاء في هذا الموضع «حتى ترتفع» بدل «حتى تطلع» وبينهما فرق، كما سيأتي - إن شاء الله ـ، لكن وقع هذا اللفظ في مواضع أُخر (3/ 70)(4/ 240 - 241 فتح الباري).
وأخرجه مسلم (827) كلاهما من طريق ابن شهاب، قال: أخبرني عطاء بن يزيد الجُنْدَعي أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد
صلاة الفجر حتى تطلع الشمس»، وهذا لفظ مسلم، وأما لفظ البخاري فهو ما ذكره المصنف، وبهذا يتضح الفرق بينهما في السياق.
وغرض الحافظ من إيراد لفظ مسلم بيان أن رواية البخاري محمولة على رواية مسلم؛ لأنها مفسرة لها، حيث بينت أن النهي متعلق بالصلاة لا بطلوع الصبح، وكذا العصر، وقد اقتصر صاحب «عمدة الأحكام» على لفظ الصحيحين، ولم يورد رواية مسلم
(1)
، ولو ذكرها أو اقتصر عليها لكان أولى.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا صلاة) هذا نفي، والنفي قد يكون نفياً للوجود، مثل: لا خالق إلا الله، وقد يكون نفياً للصحة، مثل: لا صلاة بغير طهارة، وقد يكون نفياً للكمال، مثل لا صلاة بحضرة طعام - على أحد القولين ـ، لا إيمان لمن لا أمانة له. والنفي في حديث الباب ليس نفياً للوجود؛ لأنه قد توجد صلاة في هذين الوقتين، وليس نفياً للكمال؛ لأن الأصل في نفي الشرع أن يكون لنفي الصحة لا لنفي الكمال إلا بدليل، ونفي الصحة نفي للوجود الشرعي في الواقع، فيكون قوله:«لا صلاة» نفياً للصلاة الشرعية، لا نفياً للفعل الحسي، ويكون النفي بمعنى النهي، أي: لا تصلوا فمن فعل فصلاته باطلة، وإنما عبر بالنفي لأنه أبلغ من النهي؛ لأن فيه تقريراً وتأكيداً لاجتنابه، كأنه أمر لا يمكن أن يكون، وأما النهي فلا يعطي هذا المعنى.
قوله: (بعد الصبح) بينت رواية مسلم التي ذكر الحافظ أن المراد بعد صلاة الصبح، وأما قبل الصلاة فليس بوقت نهي، لكن لا يشرع فيه سوى ركعتي الفجر، على أحد القولين، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (حتى تطلع الشمس) في لفظ عند مسلم: «حتى تشرق الشمس» بضم التاء وفتحها، وظاهرهما أن طلوع الشمس وإشراقها غاية النهي، وليس هذا مراداً، بل المراد بطلوعها: ارتفاعها ونقاؤها لا مجرد ظهور قرصها، وقد جاء حديث أبي سعيد بلفظ:«حتى ترتفع الشمس» عند البخاري، كما جاء
(1)
"عمدة الأحكام" ص (57).
عنده «تطلع» كما تقدم، ولو ذكر الحافظ لفظ «ترتفع» كما فعل صاحب «العمدة» لكان أولى؛ لأنه أدل على المراد، فإنه مدَّ وقت النهي إلى ارتفاع الشمس الذي تزول عنده صفرتها أو حمرتها.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر يمتد حتى تطلع الشمس وترتفع، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة وأكثر الشافعية
(1)
، ولهم أدلة أخرى منها حديث عقبة رضي الله عنه الاتي إن شاء الله.
وقال بعض الشافعية: إن النهي يزول إذا طلع قرص الشمس بكماله ولو لم ترتفع، أخذاً بالأحاديث التي جعلت غاية النهي فيها طلوع الشمس
(2)
.
والصحيح الأول؛ لأن أحاديث الارتفاع أدل على المراد، وأوضح في المقصود، وفيها زيادة علم على ما في الأحاديث الأخرى، فيجب العمل بها.
لكن ما مقدار الارتفاع؟ ورد في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: «حتى ترتفع قِيْدَ رمح»
(3)
.
والرمح: قدر متر تقريباً في رأي العين، ويقدر الارتفاع بحوالي ثنتي عشر دقيقة، والاحتياط كونه ربع ساعة.
(1)
"بدائع الصنائع"(1/ 195)، "الشرح الصغير"(1/ 79 - 90)، "المجموع"(4/ 167)، "الفروع"(2/ 574).
(2)
"المجموع"(4/ 167).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (2/ 242)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير"(8/ 347) من طريق عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ فإن عبد الرحمن بن سابط لم يدرك أبا أمامة.
وله شاهد من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه؛ وفيه: (لا صلاة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين .. )، أخرجه الطبراني في "الكبير" وإسناده ضعيف -أيضًا- لأن فيه من لا يعرفون، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 243):(أبو سلمة لم يسمع من أبيه، وبقية رجاله حديثهم حسن)، وهذه الأحاديث مع ضعفها يستأنس بها؛ لأن وصف الارتفاع ثابت في الأحاديث الصحيحة كما تقدم.
الوجه الرابع: ورد في السنة تعليل النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار؛ كما في حديث عمرو بن عبسة
(1)
، فَنُهِيَ المسلم عن الصلاة في هذين الوقتين ليبتعد عن مشابهة الكفار الذين يسجدون للشمس، وفيه حماية لجانب التوحيد، فيستفاد من ذلك عناية الإسلام بالمنع من التشبه بالكفار، وسدِّ جميع الطرق الموصلة إليه.
ومعلوم أن المسلم لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، لكن نهي عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق
(2)
.
ثم تأمل كيف بدأ النهي بعد صلاة الصبح وصلاة العصر سداً للذريعة، فإنه لو أُذن للإنسان أن يصلي بعد الصبح أو العصر لاستمر به الحال إلى أن يصلي حتى مع طلوع الشمس أو مع غروبها؛ فمنع سداً لطريق المشابهة، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (832).
(2)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 194).
(3)
"الفتاوى"(23/ 203).
أوقات النهي عن الصلاة ودفن الميت
164/ 14 - وَلَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي عَنْدَ «الشَّافِعِيِّ» مِنْ:
165/ 15 - حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَزَادَ:«إلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» .
166/ 16 - وَكَذَا لأبي دَاوُدَ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ نَحْوُهُ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عقبة بن عامر الجهني، مختلف في كنيته؛ فقيل: أبو حماد، وقيل: أبو عامر، وقيل غير ذلك، كان عالماً مقرئاً فصيحاً فقيهاً فرضياً شاعراً كبير الشأن، وهو أحد من جمع القران، وكان هو البريد إلى عمر رضي الله عنه بفتح دمشق، مات رضي الله عنه في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجها:
أما حديث عقبة: فقد أخرجه مسلم في باب «الأوقات المنهي عن
(1)
"الاستيعاب"(8/ 100)، "السير"(2/ 468)، "الإصابة"(7/ 21).
الصلاة فيها» (831) من طريق عبد الله بن وهب، عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب).
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/ 52 ترتيبه)، ومن طريقه البيهقي (2/ 464)، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 329)، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا سند ضعيف - كما قال الحافظ - لأن إبراهيم بن محمد وهو ابن أبي يحيى الأسلمي كذبه مالك ويحيى القطان وابن معين وغيرهم على ما ذكره ابن عبد الهادي
(1)
. وقال الحافظ في «التقريب» : (متروك)، وإسحاق وهو ابن أبي فروة متروك - أيضاً - كما في «التقريب» .
وقد ورد الحديث من طرق أخرى كلها ضعيفة، وورد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من طريق ضعيف أيضاً.
أما حديث أبي قتادة: فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» ، باب «الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال» (1083) من طريق حسان بن إبراهيم، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال:«إن جهنم تُسَجَّرُ إلا يوم الجمعة» .
وهذا إسناد ضعيف - كما قال الحافظ - فيه علتان:
الأولى: ليث وهو ابن أبي سليم (صدوق) اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فترك، كما في «التقريب» .
(1)
"التنقيح"(1/ 486).
الثانية: أن فيه انقطاعاً، فقد قال أبو داود عقبه:(هو مرسل: مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة)، قال صاحب «المنهل العذب المورود»:(لعل مراده بالإرسال الانقطاع، فإن الصحابي مذكور، وقد بين المصنف وجه الإرسال بقوله: أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة)
(1)
. ونقل كلام أبي داود البيهقيُّ ثم قال: (وله شواهد، وإن كانت أسانيدها ضعيفة)
(2)
، وقال في «معرفة السنن»:(ورواية أبي هريرة وأبي سعيد في إسنادها من لا يحتج به، ولكنها إذا انضمت الى رواية أبي قتادة أخذت بعض القوة)
(3)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (ثلاث ساعات) جمع ساعة، وهي الجزء من أجزاء الوقت.
قوله: (أن نقبر) الفعل (قبر) من بابي: (قتل وضرب) فيجوز في مضارعه ضم الباء وكسرها، وقبرت الميت: دفنته.
قوله: (حين تطلع الشمس بازغة) قال أهل اللغة: بزغت الشمس: طلعت، فهي بازغة
(4)
، وعلى هذا فالظاهر أن (بازغة) حال مؤكدة لعاملها، مثل قوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79].
قوله: (وحين يقوم قائم الظهيرة) المراد به: قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته: وقفت، والشمس إذا بلغت وسْط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول، فيتخيل الناظر المتأمل أنها وقفت وهي سائرة.
وهذا الوقت قصير جداً لا يكاد يتسع لصلاة، إلا أن تكبيرة الإحرام يمكن إيقاعها فيه، فلا تصح فيه الصلاة، وقد قدره بعض أهل العلم بقراءة الفاتحة
(5)
، وبعضهم بخمس دقائق أو قريب منها.
قوله: (وحين تضيف الشمس للغروب) بفتح التاء الفوقية وفتح الضاد
(1)
"المنهل"(6/ 241).
(2)
"السنن الكبرى"(3/ 193).
(3)
"معرفة السنن والآثار"(3/ 438).
(4)
"المصباح المنير" ص (48).
(5)
"الدرر السنية"(4/ 189).
المعجمة، وتشديد الياء، أي: تميل للغروب، يقال: تتضيف بتاءين، وتضيف، بحذف إحداهما، وله نظائر كثيرة.
قوله: (والحكم الثاني .. إلخ)، أي: أن الحكم الثاني وهو النهي عن الصلاة وقت الزوال ورد عند الشافعي في «مسنده» باستثناء الجمعة، وتسميته حكماً فيه تسامح من الحافظ؛ لأن الحكم في الأوقات الثلاثة هو النهي عن الصلاة والدفن، وإنما هذا أحد محلات الحكم، لا أنه حكم.
قوله: (إن جهنم تسجر) تعليل لكراهة الصلاة وقت الزوال و (تسجَّر) بضم التاء وفتح السين وتشديد الجيم مفتوحة، ومعناه: توقد وتحمى، يقال: سجَّرت التنور: أحميته.
ويرى الخطابي أن مثل هذا اللفظ مما ينفرد الشارع بمعناه ويجب علينا التصديق به والوقوف عند الإقرار بصحته والعمل بموجبه.
الوجه الرابع: دلت الأحاديث المتقدمة على أن أوقات النهي ثلاثة بالاختصار، وخمسة بالبسط، وهي:
1 -
من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها، وبالبسط وقتان: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها إلى ارتفاعها.
2 -
من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وبالبسط وقتان: من صلاة العصر إلى شروعها في الغروب، ومن غروبها إلى أن يتم.
3 -
إذا قامت الشمس في وسط السماء غير مائلة جهة المشرق ولا جهة المغرب.
وقد دل على هذه الأوقات القصيرة حديث عقبة، وبهذا تكون السنة قد دلت على جميع الأوقات الخمسة.
الوجه الخامس: في الأحاديث دليل على النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وأنها لا تصح، وقد حمل الجمهور ذلك على صلاة النفل المطلق الذي لا سبب له، وأنه لا يصح في هذه الأوقات، أخذاً بالعموم الذي دلت عليه أحاديث النهي.
وقد اختلفوا في جواز الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وركعتي الوضوء، وصلاة الكسوف، وإعادة الجماعة، وصلاة الجنازة، وقضاء الوتر لمن نسيه أو فاته، وصلاة الاستخارة ونحو ذلك، على قولين:
الأول: جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي عند وجود أسبابها، وهذا قول الشافعي
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة، كأبي الخطاب، وابن عقيل، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، وتلميذه ابن القيم
(3)
واستدلوا بما يلي:
1 -
أن حديث «لا صلاة بعد الصبح .. » وما في معناه؛ من العام غير المحفوظ؛ لأنه قد دخله التخصيص بأحاديث أخرى، مثل قضاء الفائتة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»
(4)
، وبمثل إعادة الجماعة فيمن دخل مسجداً فوجد الناس يصلون وهو قد صلى، فإنه يصلي معهم، ولو كان الوقت نهياً، لحديث يزيد بن الأسود في قصة الرجلين؛ وفيه: «
…
فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» وسيأتي إن شاء الله، وبمثل ركعتي الطواف، كما سيأتي - أيضاً - إن شاء الله، وكذا قضاء راتبة الفجر بعدها - على القول بصحة الحديث
(5)
ـ وغير ذلك مما دلت عليه السنة.
ومثل حديث تحية المسجد فإنه عام في جميع الأوقات، محفوظ لم يدخله التخصيص، وسيأتي الكلام عليه في آخر باب «المساجد» - إن شاء الله - والقاعدة أن العام الذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام الذي دخله التخصيص.
2 -
أن ذوات الأسباب كتحية المسجد - مثلاً - مقرونة بسبب، فلا
(1)
"المجموع"(4/ 170).
(2)
"الفتاوى"(23/ 91 1)، "الإنصاف"(2/ 208).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 342).
(4)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).
(5)
انظر: "أوقات النهي الخمسة" للجبرين ص (320).
تدخل في أحاديث النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها»
(1)
، والذي يصلي لسبب لا يقال: إنه تحرى الصلاة، بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له.
القول الثاني: أنه لا يجوز فعل ذوات الأسباب من النوافل في أوقات النهي مطلقاً، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وأحمد في المشهور عنه
(2)
، واستدلوا بعموم أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات؛ لأن أحاديث النهي أقوى، فإنها قد بلغت حدّ التواتر، كما جزم بذلك الطحاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما
(3)
.
والقول الأول أظهر؛ لقوة دليله، يضاف إلى ذلك أن ذوات الأسباب تفوت بفوات أسبابها إذا أخرت عن وقت النهي، ويحرم المصلي ثوابها، بخلاف النوافل المطلقة فإنه إذا منع منها المكلف وقت النهي ففي غيره من الأوقات متسع لفعلها.
وأما قول أصحاب القول الثاني: إن أحاديث النهي أقوى فهو مسلَّم، لكن دخلها التخصيص، فضعف بذلك الأخذ بعمومها - كما تقدم - والأحاديث العامة التي فيها الندب لفعل بعض النوافل لم يخصصها شيء، فتقدم.
على أن الأحوط ترك الصلاة في أوقات النهي القصيرة، وهي وقت طلوع الشمس وغروبها ووقوفها، وبخاصة الوقتين الأولين، لما تقدم من أنهما وقت سجود الكفار للشمس، وقد ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، كما سيأتي بعد هذا الحديث - إن شاء الله تعالى ـ.
الوجه السادس: حديث عقبة بن عامر دليل على النهي عن دفن الميت
(1)
أخرجه البخاري (585) ومسلم (828).
(2)
"المغني"(2/ 533)، "الإنصاف"(2/ 208)، "شرح فتح القدير"(1/ 231، 236)، "الكافي" لابن عبد البر (1/ 195).
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار"(1/ 304، 364)، (2/ 186)، "الفتاوى"(23/ 218).
"نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ص (69).
في هذه الأوقات الثلاثة القصيرة، وخصَّ بعض العلماء النهي بالتعمد، فأما إذا وقع بلا تعمد فيجوز، والحديث مطلق يشمل المتعمد وغيره، فالحق عدم جواز الدفن مطلقاً، بل ينتظر قليلاً حتى يخرج وقت الكراهة
(1)
.
وقد ورد في حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة»
(2)
، وهو حديث حسن كما قال الحافظ
(3)
إلا قوله: «إلا أن تصلوا
…
» ففي ثبوتها نظر، لمخالفتها الأحاديث الصحيحة التي تقدمت والتي بلغت حد التواتر، وفيها النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقاً. قال البيهقي:(وهذا حديث واحد، وما مضى في النهي عنها ممتد إلى غروب الشمس حديث عدد، فهو أولى أن يكون محفوظاً، وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يخالف هذا، وروي ما يوافقه)
(4)
.
الوجه السابع: دلَّ حديثا أبي هريرة وأبي قتادة رضي الله عنهما على أن وقت الزوال وقت نهي، إلا يوم الجمعة، فيجوز فعل النوافل فيه مطلقاً.
وهذا قول الشافعي، ووجه في مذهب الحنابلة، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
، والشيخ عبد العزيز بن باز.
والقول الثاني: أن وقت الزوال وقت نهي في جميع الأيام، وهذا قول الإمام أحمد المشهور عنه، وهو مذهب الحنفية، وعزاه الحافظ ابن حجر إلى الجمهور، واستدلوا بعموم النهي، وأن وقت الزوال وقت نهي، فاستوى فيه الجهة وغيرها
(6)
.
(1)
"أحكام الجنائز" للألباني ص (139).
(2)
أخرجه أبو داود (1274) والنسائي (1/ 280)، وأحمد (2/ 322) من طرق عن منصور، عن هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عن علي رضي الله عنه.
(3)
"فتح الباري"(2/ 61).
(4)
"السنن الكبرى"(2/ 459).
(5)
"الأم"(1/ 226)، "الفروع"(1/ 572)، "زاد المعاد"(1/ 378).
(6)
"بدائع الصنائع"(1/ 295 - 296)، "المغني"(2/ 535)، "فتح الباري"(2/ 63).
والقول الأول أرجح، لما يلي:
أولاً: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب والتي فيها استثناء يوم الجمعة وإن كان فيها المقال المتقدم، لكن باجتماعها يقوي بعضها بعضاً، كما قال البيهقي، ومن بعده الحافظ ابن حجر، والشيخ عبد العزيز بن باز.
ثانياً: ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الحث على التبكير والترغيب في الصلاة إلى خروج الإمام وترتيب الفضل العظيم على ذلك، والغالب أن الإمام لا يخرج إلا بعد الزوال، وهذا يؤدي إلى أن جزءاً من الصلاة سيكون في وقت النهي.
ثالثاً: أن ضبط وقت الزوال يوم الجمعة متعسر؛ لأن الناس يكونون في المساجد تحت السقوف، ولا يشعرون بالزوال، والرجل يكون مقبلاً على صلاته مهتماً بها لا يدري بوقت الزوال، ومطالبته بالخروج وتخطي رقاب الناس للنظر إلى الزوال فيه من المشقة ما لا تأتي الشريعة بمثله.
وعلى هذا تكون الأدلة في هذه المسألة مخصصة لعموم أدلة النهي عن الصلاة وقت الزوال، كحديث عقبة وغيره، والله أعلم.
جواز سنة الطواف في جميع الأوقات
167/ 17 - وعَنْ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا تَمْنَعُوا أحَداً طَافَ بهذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أو نَهَارٍ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو جبير - بضم الجيم - بن مطعم - بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين - ابن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه، كان عالماً بأنساب قريش والعرب، وقال: أخذت النسب عن أبي بكر الصديق، وقد أخرج البخاري في «صحيحه» أن جبيراً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعه يقرأ بالطور، قال: فلما بلغ قوله تعالى: {أَمْ هُمُ الْمُسْيطِرُونَ} [الطور: 37] كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبه، ثم أسلم بين صلح الحديبية وفتح مكة، ومات سنة ثمان وخمسين
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك» ، باب «الطواف بعد العصر» (1894)، والترمذي (868)، والنسائي (1/ 284)، (5/ 223)، وابن ماجه (1254)، وأحمد (27/ 297)، وابن حبان (1552، 1553، 1554)، كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(1)
"الاستيعاب"(2/ 131)، "الإصابة"(2/ 65).
وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال مسلم، قال الترمذي:(حديث حسن صحيح) وأبو الزبير - وهو محمد بن مسلم بن تَدْرُسَ المكيّ - صدوق يدلس - كما قال الحافظ في «التقريب» - وقد صرح بالسماع في رواية النسائي، على أن أبا الزبير كان تدليسه عن جابر رضي الله عنه فقط، وقد قال الحاكم:(أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم)
(1)
.
وعبد الله بن باباه: ويقال: ابن بابيه، ويقال: ابن بابي، ثقة، كما في «التقريب» .
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (يا بني عبد مناف) هو عبد مناف بن قُصي، الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم، وذريته هم أعز بيت في قريش، فقد كانوا رؤساء مكة، وفيهم السِّدانة والحجابة واللواء والسقاية، فلذا - والله أعلم - خصَّهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب دون سائر قريش، ولعلمه بأن ولاية الأمر - الخلافة - ستؤول إليهم.
قوله: (وصلى أية ساعة) المراد بذلك صلاة الطواف، ويحتمل أن المراد جميع الصلوات، والأول هو الأظهر، ويؤيده رواية أبي داود:«لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت ويصلي أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار» .
الوجه الرابع: الحديث دليل على استثناء صلاة الطواف من النهي عن الصلاة في أوقات النهي، وأنه لا حرج في فعلها لمن طاف بعد العصر أو طاف بعد الصبح، ويلحق بذلك كل ما له سبب من النوافل - كما تقدم - على القول الراجح.
وهذا قول الأكثرين من أهل العلم، وهو المشهور في مذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الشافعية
(2)
، قالوا: إن المراد بهذا الحديث سُنة الطواف فقط، لا مطلق الصلاة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه تجوز جميع الصلاة في مكة في
(1)
"معرفة علوم الحديث" ص (111).
(2)
"المجموع"(4/ 179)، "الإنصاف"(2/ 205 - 206).
جميع أوقات النهي وأن مكة مستثناة، وهذا هو المشهور في مذهب الشافعية
(1)
؛ لأن قوله: (وصلى) لفظ مطلق، فيحمل على عموم الصلاة.
والأول أرجح، من باب تقديم عموم أحاديث النهي؛ لأنها أحاديث متواترة وصريحة، فينبغي الاقتصار في الاستدلال على المتيقن، وهو سنة الطواف، وما عداها فالأخذ بالعمومات أقوى، وتكون مكة كغيرها من البلاد في أوقات النهي، ما عدا ركعتي الطواف
(2)
.
على أن الأولى أنه إذا كانت ذات السبب مما لا يفوت وقتها، كركعتي الطواف أن لا تصلى في أوقات النهي الثلاثة القصيرة المتقدمة في حديث عقبة، وهي وقت الطلوع، ووقت الزوال، ووقت الغروب، لما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم أخروا ركعتي الطواف وقت الطلوع ووقت الغروب إلى ما بعد خروجهما، كابن عمر، والمسور بن مخرمة، ومعاذ بن عفراء، ذكر ذلك عنهم ابن أبي شيبة
(3)
.
وأما ما رواه مجاهد رحمه الله قال: قدم أبو ذر مكة فأخذ بعضادتي الباب، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة، إلا بمكة» ، فهو حديث ضعيف
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المجموع"(4/ 179 - 180).
(2)
انظر: "الرسالة" للشافعي ص (324).
(3)
"المصنف"(ص 161 - 162 الجزء المفرد).
(4)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 468)، والدارقطني (1/ 424)، والبيهقي (2/ 461)، من طرق، عن عبد الله بن المؤمل، عن حميد مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: فذكره. وهذا حديث ضعيف لأمور ثلاثة:
1 -
أن عبد الله بن المؤمل ضعيف الحديث، كما في "التقريب"، وقد ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن معين في رواية، وابن حبان وثقه -أيضًا- وقال: يخطئ، ذكر ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 228).
2 -
أنه قد اختلف عليه في إسناده، فعند ابن خزيمة (4/ 226) لم يذكر قيس بن سعد، وعند أحمد (35/ 365) لم يذكر حميدًا مولى عفراء.
3 -
الانقطاع، فإن مجاهدًا لم يسمع من أبي ذر، كما قال أبو حاتم والبيهقي وابن عبد البر وآخرون.
تفسير الشفق الذي ينتهي به وقت المغرب
168/ 18 - وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشَّفَقُ الحُمْرَةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ وَقْفَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/ 269) من طريق علي بن عبد الصمد الطيالسي، نا هارون بن سفيان، ثنا عتيق بن يعقوب، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» .
ورواه الدارقطني موقوفاً من طريق اخر: ثنا وكيع، ثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال:(الشفق الحمرة).
قال البيهقي في «السنن» (1/ 373): (الصحيح موقوف)، وقال ابن عبد الهادي:(رواه الدارقطني أيضاً موقوفاً من قول ابن عمر، وهو أشبه)
(1)
.
وقال النووي: (رواه البيهقي، وليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكره موقوفاً على ابن عمر، وقال: (رواه البيهقي، وإسناده صحيح)
(2)
.
وقد نقل الحافظ أن الحاكم جعل هذا الحديث في كتابه «المدخل» مثالاً لما رفعه المجروحون من الموقوفات
(3)
.
(1)
"تنقيح التحقيق"(1/ 627).
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 165).
(3)
"التلخيص"(1، 186).
وأما تصحيح ابن خزيمة وقفه؛ فلم أقف عليه في صحيح ابن خزيمة، وليس فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإنما فيه حديث عبد الله بن عمرو، ولذا نقل كلامه الحافظ في «التلخيص» عن حديث عبد الله بن عمرو، وذكر أن البيهقي صحح وقف حديث ابن عمر الذي معنا، ولم يذكر أن ابن خزيمة صحح وقفه، فالله أعلم.
قال البيهقي: (إنه لا يصح فيه شي عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على تفسير الشفق بالحمرة التي تكون في الأفق الغربي إثر شعاع الشمس بعد مغيبها، والشفق هو نهاية وقت المغرب، وبداية وقت العشاء، كما تقدم في حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أول «المواقيت»:(ووقت المغرب ما لم يغب الشفق)، وهذا التفسير صح موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما، ولا مانع من الاستدلال به لأمرين:
الأول: أن البحث في معنى الشفق بحث لغوي، والمرجع فيه إلى أهل اللغة، فإن المعروف عند العرب أن الشفق الحمرة، وهو مشهور في كلامهم، ويدل عليه نقل أئمة اللغة، كالخليل، والفراء والزجَّاج، وابن دريد، وغيرهم.
قال الفراء عند قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] بعد أن بين أن الشفق هو الحمرة، قال:(وسمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ، كأنه الشفق، وكان أحمر، قال: فهذا شاهد لمن قال: إنه الحمرة)
(2)
.
الأمر الثاني: أن ابن عمر رضي الله عنهما من أهل اللغة، فكلامه حجة، وإن كان موقوفاً عليه، وقد نقل ابن كثير وغيره من المفسرين هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين
(3)
، وذكر النووي أنه قول الجمهور
(4)
.
والقول الثاني: أن الشفق هو البياض الذي بعد الحمرة، وهو قول
(1)
"معرفة السنن والآثار"(2/ 205).
(2)
"معاني القرآن"(3/ 251).
(3)
"تفسير ابن كثير"(8/ 380).
(4)
"تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 165).
أبي حنيفة، والمزني من الشافعية
(1)
، وسبب الخلاف: أن اسم الشفق يطلق عليهما بالاشتراك، وهما متصلان، أحدهما بعد الاخر.
ومذهب الجمهور هو الأولى لأمرين:
الأول: ما ورد عن علماء اللغة، وأهل الشرع، كما تقدم.
الثاني: ما ورد في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة - صلاة العشاء - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثةٍ)
(2)
.
وهذا يبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الاخرة قبل مغيب البياض؛ لأن القمر في الليلة الثالثة من الشهر يغيب أو يسقط إلى الغروب قبل مغيب البياض، فدل ذلك على أن الشفق هو الحمرة، وليس البياض، والله أعلم.
(1)
"المجموع"(3/ 42 - 43).
(2)
أخرجه أبو داود (419)، والترمذي (165)، والنسائي (1/ 264)، وأحمد (30/ 326) وإسناده صحيح.
بيان أن الفجر فجران، والفرق بينهما صفة وحكماً
169/ 19 - وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ: فَجْرٌ يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلاةُ، وَفَجْرٌ تَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ - أَيْ: صَلَاةُ الصُّبْحِ - وَيَحِلُّ فِيهِ الطَّعَامُ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاه.
170/ 20 - ولِلْحَاكِمِ في حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ وَزَادَ في الّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ: «إنَّهُ يَذْهَبُ مُسْتَطِيلاً في الأُفُقِ» . وَفِي الآخَرِ: «إنَّهُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 184، 185) والحاكم (1/ 191) من طريق محمد بن علي بن محرز، نا أبو أحمد الزبيري، نا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا الحديث رجاله ثقات، إلا أنه أُعل بعلتين:
الأولى: أن محمد بن عبد الله الزبيري - وإن كان ثقة - إلا أن العلماء تكلموا في روايته عن سفيان الثوري - كما في هذا الإسناد - قال الإمام أحمد: (كان كثير الخطأ في حديث سفيان)، وقال الحافظ في «التقريب»:(ثقة ثبت، إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري).
الثانية: الاختلاف في رفعه ووقفه، وَتَفرُّدُ الزبيري برفعه، فقد قال ابن خزيمة:(لم يرفعه في الدنيا غير أبي أحمد الزبيري)
(1)
ونقل الحافظ - أيضاً ـ
(1)
"صحيح ابن خزيمة"(1/ 185)، "تهذيب التهذيب"(9/ 277).
عن الدارقطني أنه لم يرفعه غير أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن ابن جريج، ووقفه الفريابي وغيره عن الثوري، ووقفه أصحاب ابن جريج عنه أيضاً
(1)
.
وقال الخطيب: (رواه عمرو بن محمد الناقد عن أبي أحمد الزبيري، ولم يرفعه عن الثوري غيره)
(2)
، وقال البيهقي:(هكذا رواه أبو أحمد مسنداً، ورواه غيره موقوفاً، والموقوف أصح)
(3)
، لكن يشهد له الحديث الذي بعده وهو: حديث جابر رضي الله عنه، ولعل هذا من مقاصد الحافظ لإيراده.
وقد أخرجه الحاكم (1/ 191)، وعنه البيهقي (1/ 377) عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفجر فجران: فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا تحل الصلاة فيه، ولا يحرم الطعام، وأما الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام» ، قال الحاكم:(إسناده صحيح)، وسكت عنه الذهبي.
ورواه الدارقطني (1/ 268)، والبيهقي (1/ 377)، من طريق ابن أبي ذئب، عن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكر الحديث مثله سواء، هكذا مرسلاً، قال البيهقي:(روي موصولاً، وروي مرسلاً، وهو أصح).
وبهذا يتبين أن الصواب في حديث ابن عباس الوقف، وفي حديث جابر الإرسال، ويكون المعوَّل على ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى عن سمرة بن جندب، وطلق بن علي، وعبد الرحمن بن عائش، وفي أسانيدها مقال، وكلها تدل على أن الفجر فجران، وأن لكل منهما حكماً غير حكم الآخر.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (الفجر فجران) أي: الفجر في اللغة فجران، ولما كان الفجر في
(1)
"التلخيص"(1/ 188).
(2)
"تاريخ بغداد"(3/ 58).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 185).
اللغة مشتركاً بين الوقتين، وقد جاء في بعض أحاديث المواقيت أن صلاة الصبح إذا طلع الفجر، وكذا علق الصيام به، بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر علامة ظاهرة لكل منهما، بل واستعمل لذلك وسائل الإيضاح، وبين الأحكام المترتبة عليهما.
قوله: (فجر يُحَرِّمُ الطعام) أي: على الصائم.
قوله: (وتحل فيه الصلاة) أي: صلاة الصبح، بمعنى أنه يدخل وقتها.
قوله: (وفجر تحرم فيه الصلاة) أي: صلاة الصبح، فإنه إذا طلع الفجر الأول لم يحل أن يصلي؛ لأن الفجر الأول يكون بالليل، وقوله:(أي صلاة الصبح) تفسير من الحافظ رحمه الله وإنما فسرها؛ لئلا يتوهم أنه يحرم فيه مطلق الصلاة.
قوله: (ويحل فيه الطعام) أي: لمن يريد أن يصوم يحل له الأكل؛ لأنه في ليل.
قوله: (إنه يذهب مستطيلاً في الأفق) هذه صفة الفجر الثاني، وهي أن الفجر الثاني يكون مستطيلاً، أي: ممتداً من الشمال إلى الجنوب بسبب الضياء المنتشر.
قوله: (وفي الاخر إنه كذنب السرحان) هذه صفة الفجر الأول والسرحان: بكسر السين هو الذئب، والمعنى أن الفجر الأول يرتفع في السماء كالعمود، فهو كذنب السرحان؛ لأن ذنبه يمتد مرتفعاً، وأعلاه أكثر شعراً من أسفله.
وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال» أو قال: «نداء بلال من سحوره، فإنه يؤذن أو قال: ينادي بليل ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم» ، وقال: ليس أن يقول: هكذا وهكذا - وصوب يده ورفعها - حتى يقول هكذا - وفرج بين إصبعيه ـ
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (1093).
ومن الفروق بين الفجرين أن الفجر الأول يظلم، أي: يكون هذا النور لمدة قصيرة، ثم يظلم، أما الفجر الثاني فهو لا يظلم، بل يزداد نوراً وإضاءة، بسبب قرب ظهور الشمس.
والفجر الأول يخرج قبل الثاني بنحو ساعة أو ساعة إلا ربعاً أو قريباً من ذلك على ما ذكره علماؤنا
(1)
، مع أن علماء الفلك يذكرون أقلَّ من هذا.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الفجر فجران، وأنهما مختلفان صفة وحكماً، أما في الصفة فإن الأول يذهب مستطيلاً في الأفق، والثاني معترض ويزداد إضاءة ونوراً.
وأما في الحكم فإن ظهور الأول لا يحرم الأكل على من أراد الصيام، لأنه لا يزال الليل باقياً، ولا تحل فيه صلاة الصبح؛ لأنه لم يدخل وقتها، والثاني يحرم الأكل على من أراد الصيام، لأن ظهوره بداية النهار، وتحل فيه صلاة الصبح؛ لأنه قد دخل وقتها، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "الشرح الممتع"(2/ 107).
فضل الصلاة في أول وقتها
171/ 21 - وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلَاةُ في أَوَّلِ وَقْتِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ. وصَحَّحَاهُ.
وَأَصْلُهُ في «الصَّحِيحَيْنِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الحاكم (1/ 188) من طريق حجاج بن الشاعر، ثنا علي بن حفص المدائني، ثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني قال: حدثنا صاحب هذه الدار، وأشار إلى دار عبد الله بن مسعود، ولم يسمِّه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة في أول وقتها» ، قلت: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» ، قلت: ثم ماذا؟ قال: «بر الوالدين» ، ولو استزدته لزادني.
وصححه، ثم قال:(قد روى هذا الحديث جماعة عن شعبة، ولم يذكر هذه اللفظة - أي: في أول وقتها - غير حجاج بن الشاعر، عن علي بن حفص، وحجاج حافظ ثقة، وقد احتج مسلم بعلي بن حفص المدائني).
والمراد أن جميع أصحاب شعبة قالوا: «على وقتها» إلا علي بن حفص فإنه قال: (في أول وقتها) وهو صدوق، وثقه أبو داود، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وقال الدارقطني:(ما أحسبه حفظه؛ لأنه كبر، وتغير حفظه)
(1)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 10)، "تهذيب التهذيب"(7/ 272).
وعزو الحديث للترمذي فيه نظر، فإني لم أجده في مظانه، وقد عزاه الحافظ وغيره إلى الحاكم والدارقطني والبيهقي وغيرهم دون الترمذي
(1)
، فإما أن يكون عزوه إلى الترمذي سهو من الحافظ، أو سبق قلم من الناسخ، أو في نسخة أخرى للترمذي، فالله أعلم.
والحديث أصله في «الصحيحين» من عدة طرق عن شعبة، وعن الوليد بن العيزار، أنه سمع أبا عمرو الشيباني قال: حدثني صاحب هذه الدار، وأشار إلى دار عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» ، قلت: ثم أيُّ؟ قال: «ثم بر الوالدين» ، قلت: ثم أي؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله» ، قال: حدثني بهنَّ، ولو استزدته لزادني
(2)
.
وإنما ذكر الحافظ لفظ الحاكم؛ لأنه أدل على المراد من لفظ «الصحيحين» ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضيلة الصلاة في وقتها المطلوب فعلها فيه، فلا تقدم عليه ولا تؤخر عنه، وإذا كانت في أول وقتها فهو أفضل، من باب المبادرة والمسارعة إلى ما شرع الله تعالى، قال الشافعي رحمه الله:(إن تقديم الصلاة في أول وقتها أولى بالفضل، لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل)
(3)
، فإن صليت في أثنائه أو في اخره فلا حرج.
ولفظ (في أول وقتها) تفرد به علي بن حفص من بين أصحاب شعبة، وتفرده بها لا يقبل، وفيه ما تقدم، لكن من يأخذ بها يجيب عن ذلك من حيث الرواية ومن حيث الدراية.
أما من حيث الرواية فإنه يقول: إن تفرده لا يضر، لأنه شيخ صدوق من رجال مسلم، وقد صححها الحاكم.
ومن حيث الدراية فإن لفظ (على وقتها) - وهو لفظ الجماعة - يفيد معنى
(1)
"فتح الباري"(2/ 208)، لابن رجب، "شرح العمدة" لابن الملقن (2/ 217)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).
(2)
"صحيح البخاري"(527)، "صحيح مسلم"(85)(139).
(3)
"الرسالة" ص (288).
(أول وقتها) لأن كلمة (على) تفيد الاستعلاء، ومعناه الاستعلاء على جميع الوقت، فيكون فيها دلالة على فضل أول الوقت
(1)
.
ويؤيد ذلك عموم الأدلة في الأمر بالمسارعة إلى الخيرات، وأسباب المغفرة، ومدح المسارعين.
كما يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بالصلاة بعد الأذان، بعد وقت يتوضأ فيه المتوضئ، ويتهيأ فيه، ولا ينافي ذلك أنه في أول الوقت، فإن التأهب للصلاة، والأخذ بأسبابها من الطهارة ونحوها مما يدخل في هذا المعنى.
ويستثنى من ذلك صلاتان:
الأولى: العشاء فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم ملاحظة المأمومين - كما تقدم - فإن راهم تأخروا تأخر حتى يجتمعوا.
الثانية: الظهر، فإنه كان إذا اشتد الحر يأمر بالإبراد، كما مضى.
الوجه الثالث: لا يعارض هذا الحديث الدال على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله .. الحديث»
(2)
.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة، ومنها: أن حديث ابن مسعود - هذا - يراد به مراتب الأعمال الظاهرة البدنية؛ لأنه سيق لبيان ذلك، ولأن المتبادر إلى الفهم عند ذكر الأعمال على الإطلاق هي أعمال الجوارح لا أعمال القلوب، ولا ريب أن الصلاة هي أعظم حقوق الله تعالى بعد الإيمان.
وأما الأحاديث التي فيها أن أفضل الأعمال الإيمان بالله تعالى فهي على الأصل؛ لأن أول وأفضل ما افترضه الله على عباده هو الإيمان، والله تعالى أعلم
(3)
.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب (4/ 209).
(2)
أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84)، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (26)، ومسلم (83).
(3)
انظر: "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 7)، "فتح الباري" لابن رجب (4/ 711) وابن حجر (2/ 9)، "المفاضلة في العبادات" ص (155).
مراتب الوقت في الفضل
172/ 22 - وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ الله، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ الله؛ وَاخِرُهُ عَفْوُ الله» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدّاً.
173/ 23 - وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، دُونَ الأوْسَطِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضاً.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي.
وهو أبو محذورة، أوس بن مِعْير - بكسر الميم وسكون العين المهملة - القرشي الجمحي، مختلف في اسمه، مشهور بكنيته، قال ابن عبد البر:(اتفق الزبير وعمه مصعب ومحمد بن إسحاق المسيَّبي على أن اسم أبي محذورة: أوس، وهؤلاء أعلم بطريق أنساب قريش).
وهو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، لما أعجبه صوته - كما سيأتي إن شاء الله - وبقي على ذلك هو وولده، وبقي في مكة لم يهاجر إلى المدينة، ومات سنة تسع وخمسين، وقيل: تسع وسبعين
(1)
رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أبي محذورة: فقد أخرجه الدارقطني (1/ 249)، من طريق
(1)
"الاستيعاب"(12/ 132)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 117)، "الإصابة"(12/ 12).
إبراهيم بن زكريا - من أهل عَبْدَ سِيّ
(1)
ـ حدثنا إبراهيم بن أبي محذورة، مؤذن مكة، حدثني أبي، عن جدي - يعني أبا محذورة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد ضعيف جداً - كما قال الحافظ - لأن فيه إبراهيم بن زكريا، وهو مجهول، كما قال أبو حاتم، قال:(والحديث الذي رواه منكر)
(2)
، وقال ابن عدي:(حدث عن الثقات بالبواطيل)، وقال بعد أن ساق هذا الحديث وغيره:(وهذه الأحاديث مع غيرها مما يرويه إبراهيم بن زكريا، هذه كلها أو عامتها غير محفوظة، وتبين الضعف على رواية حديثه، وهو في جملة الضعفاء)
(3)
. ونقل ابن عبد الهادي عن الإمام أحمد أنه سئل عن هذا الحديث فقال: (مَنْ روى هذا؟ ليس يثبت)
(4)
، وكذا نقله عنه الزيلعي
(5)
.
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أخرجه الترمذي (172)، قال: حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الاخر عفو الله» .
وقد ضعفه الحافظ، والحق أنه حديث موضوع، فإن يعقوب بن الوليد كذاب وضَّاع وهو افته، قال البيهقي:(هذا الحديث يعرف بيعقوب بن الوليد، ويعقوب منكر الحديث، ضعفه ابن معين، وكذبه أحمد وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان)
(6)
.
وقد أعله عبد الحق بعبد الله بن عمر العمري، وهو متكلم فيه
(7)
، لكن
(1)
هو اسم موضع، فارسي معرَّب. انظر:"معجم البلدان"(4/ 77).
(2)
"الجرح والتعديل"(2/ 101).
(3)
"الكامل"(1/ 256).
(4)
"التنقيح"(1/ 649).
(5)
"نصب الراية"(1/ 243).
(6)
"السنن الكبرى"(1/ 435).
(7)
"الأحكام الوسطى"(1/ 266).
ليس هو علته، ولذا تعقبه ابن القطان
(1)
، وعبد الله بن عمر وثقه قوم وأثنوا عليه، وضعفه اخرون من أجل حفظه، لا من أجل صدقه وأمانته.
ولعل الترمذي ذكره في كتابه لاستدلال بعض الفقهاء به، فإن من العجيب أن الإمام الشافعي استدل به في كتابه «اختلاف الحديث»
(2)
، فقال:(وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الوقت رضوان الله .. »)، وكذا ساقه بدون إسناد في كتابه «الرسالة»
(3)
.
الوجه الثالث: يدل الحديثان على فضل الصلاة في أول وقتها طلباً لرضوان الله تعالى، وأن ذلك مقدم على وسط الوقت وعلى اخره، فإن لم يكن فلتؤدَّ في وسطه لنيل رحمة الله تعالى، ومعلوم أن رتبة الرضوان أبلغ، أما أداؤها في اخر الوقت ففيه تكاسل وتثاقل عن الطاعة، وما أحوج من فعل ذلك إلى عفو الله تعالى لمحو ذنبه وتقصيره.
هذا ما يدل عليه الحديثان، وتقدم أنهما غير صحيحين، ولا يشهد أحدهما للاخر لما تقدم في حال الرواة، وفي الأحاديث الصحيحة القولية والفعلية ما يغني عنهما - ولله الحمد - وقد تقدم ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 93 - 95).
(2)
ص (186).
(3)
ص (286).
النهي عن الصلاة بعد طلوع الفجر سوى الراتبة
174/ 24 - وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلاَّ سَجْدَتَيْنِ» . أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، إلاَّ النَّسَائِيَّ.
وفي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلوعِ الْفَجْرِ إلاَّ رَكْعَتَي الْفَجْرِ» .
175/ 25 - وَمِثْلُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ ابنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أخرجه أبو داود (1278) في كتاب «الصلاة» باب «من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة» ، والترمذي (419)، وابن ماجه (235)، وأحمد (8/ 376)، كلهم من طريق قدامة بن موسى، عن أيوب بن حصين، عن أبي علقمة، عن يسار مولى ابن عمر قال: راني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر فقال: يا يسار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة، فقال:«ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» .
وهذا لفظ أبي داود، وقريب منه لفظ أحمد، ولفظ الترمذي كلفظ الكتاب، ووقع في إسناده وإسناد ابن ماجه: محمد بن الحصين، بدل: أيوب بن الحصين.
أما ابن ماجه فالحديث عنده بلفظ: «ليبلغ شاهدكم غائبكم» دون اخره، وعليه فعزو الحديث له غير وجيه، لعدم وجود اللفظ المقصود عنده.
وأما محمد بن الحصين فقد اختلف في اسمه، فقيل هكذا، وقيل: أيوب بن الحصين، والأول رجحه أبو حاتم وابنه، والثاني رجحه الدارقطني والبيهقي والألباني، وذكر الحافظ احتمالاً لا بأس به، وهو أن اسمه محمد وأبوه حصين، وكنيته: أبو أيوب، فلعل من سماه أيوب وقع له غير مسمى، فسماه بكنية أبيه
(1)
، وعلى أي حال فالرجل مجهول، كما قال الدارقطني، ومن بعده الحافظ ابن حجر، فإنه ليس له إلا راوٍ واحد، وهو قدامة بن موسى، وقال ابن القطان:(إنه مختلف فيه، ومجهول الحال مع ذلك)، ونقل - أيضاً - أنه عند البخاري وابن أبي حاتم مجهول؛ لأنهما لم يُعَرِّفا من حاله بشيء
(2)
.
أما ابن حبان فقد أورده في «الثقات»
(3)
، وهذا من تساهله رحمه الله، وبقية رجاله كلهم ثقات.
وعلى هذا فالإسناد ضعيف من أجل محمد بن الحصين.
وقد روى الحديث عبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 53)(4760) من طريق أبي بكر بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر» .
وأبو بكر بن محمد هو شيخ عبد الرزاق، ينسبه إلى جده، وإلا فهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وهو ضعيف جداً، ونسبه بعضهم إلى الوضع
(4)
.
ولعل الحافظ ذكر رواية عبد الرزاق، لتفسير المراد بقوله:«بعد الفجر» أي: إن المراد بعد طلوع الفجر، لا بعد صلاة الفجر؛ لأن اللفظ محتمل، كما تقدم.
أما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فهو من شواهد الحديث، وقد أخرجه
(1)
"تهذيب التهذيب"(9/ 107).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 389 - 390).
(3)
(7/ 401).
(4)
"تهذيب التهذيب"(12/ 31).
الدارقطني (1/ 419) والبيهقي (2/ 465) من طريق سفيان، عن عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر» .
وهذا إسناد ضعيف، قال البيهقي:(في إسناده من لا يحتج به)، وهو يعني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، كما ذكر بعد ذلك، فقد اختلف في الاحتجاج به، قال الترمذي:(ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، قال أحمد: لا أكتب حديث الأفريقي، قال: ورأيت محمد بن إسماعيل يقوِّي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث)
(1)
.
الوجه الثاني: استدل بحديث ابن عمر وابن عمرو رضي الله عنهم من قال بالنهي عن التنفل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، وهما راتبة الفجر، وذلك أنه وإن كان نفياً فهو في معنى النهي، والأصل في النهي التحريم، وقد نقل الترمذي الإجماع على ذلك فقال:(أجمع أهل العلم على كراهة أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر)
(2)
.
قال الحافظ: (دعوى الترمذي الإجماع على الكراهة لذلك عجيب، فإن الخلاف فيه مشهور، حكاه ابن المنذر وغيره
(3)
، وقال الحسن البصري: لا بأس به
(4)
، وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاته بالليل، وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في «قيام الليل» )
(5)
.
واستدل من أجاز التنفل بأكثر من ركعتي الفجر بحديث عمرو بن عَبَسَة قال: يا رسول الله، أيُّ الليل أسمع؟ قال:«جوف الليل الأخير، فصلِّ ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مقبولة، حتى تصلي الصبح»
(6)
.
والقول بمنع ما زاد على ركعتي الفجر هو قول الجمهور، لدلالة الأحاديث المتقدمة عليه، وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أنهم أوتروا بعد
(1)
"جامع الترمذي"(1/ 384).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 280).
(3)
انظر: "الأوسط"(5/ 190).
(4)
انظر: "مختصر قيام الليل" ص (77).
(5)
"التلخيص"(1/ 202).
(6)
أخرجه أبو داود (1277).
طلوع الفجر، واعتبر النووي القول بالجواز هو الصحيح في مذهب الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد
(1)
، لكن إن ثبتت أحاديث الباب فالسنة مقدمة على قول كل من كان.
قال المؤيد لمذهب الجمهور: أما حديث أبي داود فليس بصريح في عدم الكراهة، إذ يمكن أن يحمل قوله:«فصلِّ ما شئت» أي: في جوف الليل؛ لأن السائل سأله عن أيِّ الليل أسمع؟ ثم إن الحديث أخرجه مسلم في «صحيحه» وليس فيه هذه الجملة: «فصل ما شئت حتى تصلي الصبح» ، فتقدم رواية مسلم على رواية أصحاب السنن، وقد جاء الحديث عند أحمد وغيره بلفظ:«الصلاة مشهودة حتى ينفجر الفجر، فإذا انفجر الفجر فأمسك عن الصلاة إلا ركعتين، حتى تصلي الفجر» ، فحمل الروايات المختلفة على رواية مسلم أولى، على أن أبا داود قال بعد سياقه الحديث، قال العباس:(هكذا حدثني أبو سلام عن أبي أمامة إلا أن أُخطئ شيئاً لا أريده، فأستغفر الله وأتوب إليه)
(2)
.
ثم إن كون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد طلوع الفجر سجدتين خفيفتين يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي زيادة على ذلك.
وقد صحَّ عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة
(3)
.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن النهي في حديث الباب ليس للتحريم، فتجوز الصلاة بعد طلوع الفجر إذا لم يتخذ ذلك سنة، لعموم حديث: «بين كل أذانين صلاة
…
»، فتجوز صلاة الوتر في هذا الوقت، قال النووي عند حديث (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) (قد يستدل به
(1)
انظر: "الأوسط"(5/ 190)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(5/ 247 - 248)، "المغني"(2/ 525).
(2)
"إعلام أهل العصر" ص (100).
(3)
أخرجه البيهقي (2/ 466).
من يقول: تكره الصلاة من طلوع الفجر إلا سنة الصبح وما له سبب
…
وليس في هذا الحديث دليل ظاهر على الكراهة، إنما فيه الإخبار بأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي غير ركعتي السنة، ولم ينه عن غيرها)
(1)
وسيأتي الكلام على وقت الوتر في باب «التطوع» إن شاء الله، والله أعلم
(2)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(5/ 247 - 248).
(2)
الفتاوى" (23/ 205).
حكم قضاء راتبة الظهر بعد العصر
176/ 26 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتِي، فَصَلَّى رَكْعَتَينِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:«شُغِلْتُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الان» ، قُلْتُ: أَفَنَقضِيهِمَا إذَا فَاتَتنَا؟ قَالَ: «لَا» ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
177/ 27 - وَلأبي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِمعْنَاهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أم سلمة رضي الله عنها: فقد أخرجه أحمد (44/ 276 - 277)، وابن حبان (6/ 377) من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر
…
الحديث.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلَّتين:
الأولى: الانقطاع بين ذكوان وأم سلمة، وذكوان هو أبو عمرو المدني، مولى عائشة، ولم يذكر أبو حاتم له رواية عن غير مولاته عائشة رضي الله عنها
(1)
، وهو هنا غير منسوب، ولم يذكره الحافظ فيمن روى عنه الأزرق
(2)
، لكن ذكر المزي - تبعاً للرواية في الإسناد - في ترجمة الأزرق بن قيس الحارثي أنه روى
(1)
"الجرح والتعديل"(3/ 451)، "تهذيب التهذيب"(3/ 190).
(2)
"تهذيب التهذيب"(1/ 175).
عن ذكوان مولى عائشة
(1)
، فلا يلتبس بذكوان أبي صالح السَّمَّان؛ لأنه سمع من أم سلمة رضي الله عنها، كما ذكر الحافظ ابن حجر
(2)
.
الثانية: الاختلاف في إثبات زيادة (أفنقضيهما؟ قال: «لا»)، فقد جاء الحديث من عدة طرق عن أم سلمة دون هذه الزيادة، قال الهيثمي بعد ذكره لهذه الرواية:(قلت: لأم سلمة حديث في الصحيح في شَغْله عن الركعتين بعد الظهر، وليس فيه النهي عن قضائها)
(3)
.
وقال عبد الحق الإشبيلي: (هذه الزيادة «أفنقضيهما» زيادة منكرة، تروى من طريق حماد بن سلمة، ولا تصح، وليست في كتب حماد بن سلمة)
(4)
، وكذا قال ابن حزم
(5)
، ونقل الحافظ عن البيهقي أنه قال:(إنها زيادة ضعيفة لا تقوم بها حجة)
(6)
، فهذه الزيادة غير ثابتة لما يلي:
1 -
تفرد حماد بن سلمة بها، وحماد بن سلمة وإن كان ثقة صدوقاً، لكن تغير حفظه، قال الحافظ ابن حجر:(حماد بن سلمة بن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات، إلا أنه ساء حفظه في الآخر)
(7)
، وقال ابن معين:(هو أعلم الناس بحديث ثابت).
وحماد ثقة في غير حديث ثابت، لكن في ثابت إليه المنتهى، ولا ينفي ذاك تفرده وردّه.
وقد ورد حديث أم سلمة في «الصحيحين» مطولاً من طريق عمرو بن
(1)
"تهذيب الكمال"(2/ 318).
(2)
"في شرح البلوغ" المسجل بالأشرطة للشيخ عبد العزيز بن باز ساق الإسناد على أنه ذكوان أبو صالح السمان، وقد كان جود إسناد الحديث في تعليقه على "فتح الباري"(2/ 65) وردَّ على البيهقي تضعيفه للحديث، ثم راْيت هذا في تعليقه على "بلوغ المرام"(1/ 158)، فلعله بنى على ذلك، والله أعلم.
(3)
"موارد الظمآن" ص (164).
(4)
"الأحكام الوسطى"(1/ 262).
(5)
"المحلى"(2/ 271).
(6)
"فتح الباري"(2/ 64).
(7)
"هدي الساري" ص (399).
الحارث، عن بكير، عن كريب، عن أم سلمة، وفيه قصة، ولم تذكر فيه هذه الزيادةُ
(1)
.
ولا يقال: إنها زيادة من ثقة فتقبل؛ لأن زيادة الثقة تقبل إن لم تكن منافية، فإن كانت منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فإنها لا تقبل إذا خالف من هو أوثق منه، وهنا حماد بن سلمة ثقة، لكن عمرو بن الحارث أوثق منه، فقد قال عنه الحافظ في «التقريب»:(ثقة فقيه حافظ)، وقال في حماد بن سلمة:(ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير بأَخَرَةَ).
2 -
أن حماداً نفسه لم يذكر هذه الزيادة إلا في رواية يزيد بن هارون، ولم يذكرها في رواية أبي الوليد عنه، كما عند الطحاوي
(2)
.
3 -
أن عمرو بن الحارث قد توبع على عدم ذكر هذه الزيادة، فقد تابعه وكيع بن الجراح - وهو ثقة حافظ عابد - ومعمر بن راشد، واخرون، ولم يتابع أحدٌ حمادَ بن سلمة على هذه الزيادة، ولهذا أجمع العلماء على تضعيفها
(3)
.
أما حديث عائشة رضي الله عنها: فقد أخرجه أبو داود (1280) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال.
وهذا الإسناد رجاله ثقات، غير ابن إسحاق فهو مدلس، وقد عنعنه؛ فالإسناد ضعيف، وقد أعله بذلك الشوكاني
(4)
، وذكره الحافظ في «الفتح» وسكت عنه
(5)
.
وقد حكم عليه الألباني بأنه منكر؛ لأنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصلي بعد صلاة العصر ركعتين، كما ثبت في «الصحيحين» ، قال: (فهذا يدل
(1)
أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834).
(2)
"شرح معاني الآثار"(1/ 302).
(3)
"الضعيفة"(2/ 352).
(4)
"نيل الأوطار"(3/ 105).
(5)
"فتح الباري"(2/ 65).
على خطأ حديث ابن إسحاق ونكارته)
(1)
.
وقد ثبت في «الصحيحين» - أيضاً - عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط)
(2)
.
وعنها - أيضاً - قالت: (صلاتان ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي قط، سراً ولا علانية، ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر)
(3)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قولها: (فسألته) أي: عن هاتين الركعتين، وسؤلها يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما قبل ذلك عندها، أو أنها كانت قد علمت بالنهي عن الصلاة بعد العصر فاستنكرت مخالفة فعله صلى الله عليه وسلم لهذا النهي.
قوله: (شُغلت عن ركعتين بعد الظهر) أي: إن هاتين الركعتين راتبة الظهر البعدية، وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها في «الصحيحين» - كما تقدم - بيان الشاغل له وأنه (أتاه ناس من عبد القيس)، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أنه أتاه مال فشغله عن الركعتين)
(4)
.
قوله: (لا) أي: لا تقضوهما في هذا الوقت، بقرينة السياق، وإن كان النهي غير مقيد بوقت معين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر قضاء لراتبة الظهر لما شُغِلَ عنها، وأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لقولها: أفنقضيهما؟ قال: «لا» ، لكن تقدم أن هذه الزيادة لم تثبت، فلا يكون فيها دليل على أن القضاء من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولذا أعرض عنها صاحبا «الصحيحين» ، فيبقى أصل الحديث، وقد ثبت في «الصحيحين» أنه صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين بعد العصر.
(1)
"الضعيفة"(2/ 351).
(2)
أخرجه البخاري (591)، ومسلم (835)(299).
(3)
أخرجه البخاري (593)، ومسلم (835)(300).
(4)
وقال الترمذي: (حديث حسن)، وفيه عطاء بن السائب قد اختلط، ورواية جرير عنه بعد الاختلاط، والله أعلم.
وهذا لا يدل على جواز الصلاة بعد العصر مطلقاً، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك، وإنما يدل على جواز قضاء النافلة عند نسيانها أو الانشغال عنها، كما يدل على ذلك سياق الأحاديث المتقدمة، فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في وقت النهي، أما ما ليس له سبب فهو باق في عموم أحاديث النهي، ولم يرد دليل يخرجه من هذا العموم.
وهذا فيه جمع بين الأدلة، وبه قال جمع من المحدثين، ومنهم الحافظ البيهقي، وابن حجر
(1)
، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، فإنه ضعَّف الزيادة في الحديث، وكذلك العظيم ابادي كما في «إعلام أهل العصر»
(3)
والألباني كما في «الضعيفة»
(4)
.
أما مداومته صلى الله عليه وسلم على هاتين الركعتين بعد العصر، فقد ورد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر؟ فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما، أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها
(5)
.
وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن الصلاة بعد العصر، فَيُغَلَّبُ جانب أحاديث النهي لقوتها وصراحتها، وقد ذكر ذلك الشوكاني عند كلامه على أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:(القسم الخامس: أن يكون القول عاماً له وللأمة، فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصاً له من عموم القول، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر، ثم صلاته الركعتين بعدها، قضاءً لسنة الظهر ومداومته عليهما، وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به ذهب الجمهور، قالوا: وسواء تقدم الفعل أو تأخر)
(6)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(2/ 65).
(2)
"الفتاوى الكبرى"(1/ 184).
(3)
ص (202)(209).
(4)
(2/ 352).
(5)
أخرجه مسلم (835).
(6)
"إرشاد الفحول" ص (40).
باب الأذان
أي: والإقامة.
والأذان في اللغة: اسم مصدر للفعل: أذن يؤذِّن تأذيناً وأذاناً؛ ومعناه: الإعلام، يقال: أُذِّن بالظهر: أي أُعْلِم الناسُ بوقت صلاة الظهر.
وشرعاً: الإعلام بحضور وقت فعل الصلاة بذكر مخصوص.
والإقامة لغة: مصدر أقام، كأن المؤذن إذا أتى بألفاظ الإقامة أقام القاعدين، وأزالهم عن قعودهم، وشرعاً: الإعلام بالقيام إلى الصلاة بذكر مخصوص.
والأذان من شعائر الإسلام الظاهرة، وفضائله العظيمة، ورد في ذلك أحاديث كثيرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو يعلم الناس ما في النداءِ والصفِّ الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه»
(1)
.
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة»
(2)
.
وقد ذكر أهل العلم أن الأذان أفضل من الإمامة؛ لما ثبت فيه من الفضل، ولما فيه من إعلان ذكر الله تعالى، وتنبيه الناس، ولأنه أشق من الإقامة، قال القرطبي:(يحصل بالأذان إعلام بثلاثة أشياء: بدخول الوقت، وبالدعاء إلى الجماعة ومكان صلاتها، وبإظهار شعائر الإسلام)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).
(2)
أخرجه مسلم (387).
(3)
"المفهم"(2/ 7).
وإنما لم يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون لانشغالهم بأمور المسلمين ومصالحهم، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن يمان بن قيس قال: قال عمر رضي الله عنه: (لو أطقت الأذان مع الخِلِّيفَى لأذَّنت)
(1)
.
قال القرطبي: (اعلم أن الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله تعالى ووجوبه وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد، ثم ثلَّث برسالة رسوله، ثم ناداهم لِمَا أراد من طاعته، ثم ضمن ذلك بالفلاح، وهو البقاء الدائم، فأشعر بأن ثمَّ جزاء، ثم أعاد ما أعاد توكيداً)
(2)
.
وقد شُرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة، على القول الراجح، على رأس تسعة أشهر من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع في مكة قبل الهجرة، ولكنها معلولة لا يصح منها شيء، ولذا قال عنها الحافظ:(والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر ثم حديث عبد الله بن زيد)
(3)
.
والأظهر من أقوال أهل العلم أن الأذان والإقامة فرض كفاية على الرجال المقيمين والمسافرين، فإذا قام به من تحصل به الكفاية سقط عن الباقين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به مالك بن الحويرث وأصحابهرضي الله عنهم فقال:«إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» ، وهم وافدون على النبي صلى الله عليه وسلم، مسافرون إلى أهليهم، وسيأتي إن شاء الله.
وقد داوم النبي صلى الله عليه وسلم على الأذان هو وخلفاؤه وأصحابه حضراً وسفراً، والأمر يقتضي الوجوب، ومداومته على فعله دليل على وجوبه، ولأنه من
(1)
"المصنف"(1/ 224)، وأخرجه -أيضًا- البيهقي (1/ 433)، وصححه الحافظ في "فتح الباري"(2/ 77).
(2)
"المفهم"(2/ 14).
(3)
"فتح الباري"(2/ 78).
شعائر الإسلام الظاهرة، فكان فرضاً كالجهاد، وقد كان بلال رضي الله عنه يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فيكتفي به، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
.
أما المنفرد فيسن له الأذان والإقامة، وليسا بواجبين عليه؛ لأنه ليس لديه من يناديه بالأذان، لكن لما كان فيه ذكر الله تعالى سُنَّ له.
وقد ورد أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري: «إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة» ، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
"الفتاوى"(22/ 64).
(2)
أخرجه البخاري (609).
صفة الأذان
178/ 1 - وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رضي الله عنه قَالَ: طَافَ بِي - وَأَنَا نَائِمٌ - رَجُلٌ فَقَالَ: تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَذَكَرَ الأَذَانَ - بِتَرْبِيِعِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ تَرْجِيعٍ، وَالإقَامَةَ فُرَادَى، إلاَّ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ - قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ
…
» الحَديثَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَزَادَ أَحْمَدُ في اخِرِهِ قِصَّةَ قَوْلِ بِلَالٍ في أذَانِ الْفَجْرِ: «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» .
179/ 2 - وَلابْنِ خُزَيْمَةَ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إذَا قَالَ المُؤَذِّنُ في الْفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو محمد، عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، من سادة الصحابة رضي الله عنهم، شهد العقبة وبدراً والمشاهد بعدها، وهو الذي أُري الأذان في النوم، في السنة الأولى من الهجرة، قال الترمذي: (ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني له أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
)
(1)
.
(1)
"جامع الترمذي"(1/ 361).
وقد نقل ابن حجر كلام الترمذي هذا، ثم قال:(وقال ابن عدي: ولا نعرف له شيئاً يصح غيره، وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره، وهو خطأ، فقد جاءت عنه عدة أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء)
(1)
، توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث عبد الله بن زيد: فقد أخرجه أحمد (26/ 402)، وأبو داود في كتاب «الصلاة» ، باب:«كيف الأذان» (499)، والترمذي (189)، وابن خزيمة (371)، كلهم من طريق محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال: حدثني أبي عبدُ الله بن زيد، قال: قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يُعمل، ليُضرب به للناس، لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجلٌ يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى قال: تقول: الله أكبر
…
الحديث بطوله.
قال الترمذي: (حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح).
وقال ابن خزيمة: (وخبر محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم
…
ثابت صحيح من جهة النقل؛ لأن محمد بن عبد الله قد سمعه من أبيه، ومحمد بن إسحاق قد سمعه من محمد بن إبراهيم التيمي، وليس هو مما دلسه محمد بن إسحاق).
وصححه - أيضاً - محمد بن يحيى الذهلي، فيما نقله عنه البيهقي، والبخاري فيما نقله البيهقي - أيضاً - عن الترمذي أنه سأل البخاري عنه فقال:(هو عندي حديث صحيح)
(3)
.
(1)
"الإصابة"(6/ 90).
(2)
"الاستيعاب"(6/ 207)، "السير"(2/ 375)، "الإصابة"(6/ 90).
(3)
"معرفة السنن والآثار"(1/ 446).
وقال الحاكم: (تداوله فقهاء الإسلام بالقبول، ولم يُخَرَّجْ في الصحيحين، لاختلاف الناقلين في أسانيده)
(1)
، وخبر عبد الله بن زيد جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم حتى عُدَّ من المتواتر
(2)
.
وقد أخرجه الإمام أحمد (26/ 399) من طريق ابن إسحاق قال: (وذكر محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، فذكر قصة الرؤيا إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه لرؤيا حق إن شاء الله» ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك، ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، قال: فجاء فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر)، والحديث بهذه الزيادة وهي قوله:(ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إلخ) ضعيف؛ لأنها زيادة منكرة انفرد بها ابن إسحاق، وهو مدلس، ولم يسمع هذا الحديث من الزهري، فإنه قال:(وذكر محمد بن مسلم .. إلخ)، وقد أخرج الحديث بهذا الإسناد ابن خزيمة (373)، والبيهقي (1/ 415) وليس فيه هذه الزيادة.
ورواه ابن ماجه (716) من طريق معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن بلال بنحوه مختصراً قال البوصيري:(إسناده ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً، سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال)
(3)
.
وقد أخرجه عبد الرزاق (1/ 472) عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلاً، أي: بدون ذكر بلال، وهو الصحيح عنه.
لكن معنى الحديث صحيح، وهو زيادة:«الصلاة خير من النوم» ، فإن له شواهد كثيرة يأتي بعضها إن شاء الله تعالى.
وأما حديث أنس رضي الله عنه: فقد أخرجه ابن خزيمة (1/ 202)، والدارقطني
(1)
"المستدرك"(3/ 279).
(2)
"نظم المتناثر" رقم (42).
(3)
"مصباح الزجاجة"(1/ 253).
(1/ 243)، والبيهقي (1/ 423)، من طريق أبي أسامة، ثنا ابن عون
(1)
عن محمد بن سيرين، عن أنس قال:
…
فذكره، قال البيهقي:(إسناده صحيح).
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (طاف بي رجل) أي: ألمَّ بي وقَرُب حولي حالة كوني نائماً.
قوله: (فذكر الأذان بتربيع التكبير) أي: تكريره أربع مرات، وهذا ليس من كلام عبد الله بن زيد، وإنما هو من كلام الحافظ ابن حجر ذكره تلخيصاً.
قوله: (بغير ترجيع) الترجيع: هو العود إلى الشهادتين برفع الصوت بعد قولهما بخفض الصوت، بحيث لو كان أحد بجانبه لسمعه.
قوله: (والإقامة فرادى) أي: لا تكرير في ألفاظها إلا التكبير مرتين و (قد قامت الصلاة) مرتين.
قوله: (إنها لرؤيا حق) أي: صادقة ثابتة مطابقة للوحي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، أو موافِقةً للاجتهاد، وحَكَمَ النبي صلى الله عليه وسلم بصدق هذه الرؤيا، لما ورد أن عمر رضي الله عنه لما رأى الأذان في المنام أتى ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم به، فقال له عليه الصلاة والسلام:«سبقك بذلك الوحي»
(2)
، وعلى هذا فلا يقال إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان مستنداً إلى رؤيا عبد الله بن زيد، ورؤيا غير الأنبياء لا تؤمن من الخطأ، فلا يبنى عليها حكم شرعي، بل إن الاستناد إلى الرؤيا أمر ظاهري، والاستناد حقيقة إنما هو إلى الوحي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فقد جاء مقارناً للرؤيا، ثم إن هذا الرؤيا جاء تقريرها من النبي صلى الله عليه وسلم فقوي جانبها.
قوله: (في أذان الفجر) هكذا جاءت الرواية مطلقة لم تبين هل المراد الأذان الأول أو الثاني، لكن جاء عند النسائي من حديث أبي محذورة: (
…
الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم؛ في الأولى من
(1)
وقع في "صحيح ابن خزيمة"(ابن عوف) بالفاء، وصوابه: بالنون، كما في المصادر المذكورة.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (1/ 456)، وأبو داود في "المراسيل" ص (126) وإسناده صحيح إلى مرسله كما قال محقق "المراسيل".
الصبح .. )
(1)
، أي: في المناداة الأولى، وفي نسخة:(في الأول) أي في الأذان الأول، وحمله السندي في «حاشيته على النسائي» على الأذان دون الإقامة، فهو أول بالنسبة إليها، كما سيأتي.
قوله: (الصلاة خير من النوم) خير: اسم تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفاً أو لكثرة الاستعمال، والظاهر أنه ليس على بابه، أي: لا يقصد التفضيل بين الصلاة وبين النوم، إذ لا خير في النوم مع وقت الصلاة، إلا على رأي من يقول: إن هذه الجملة في الأذان الأول قبل طلوع الفجر، وهذا يسمى التثويب، مصدر ثوَّب يثوِّب إذا رجع، سمي بذلك لأن المؤذن عاد إلى ذكر الصلاة بعد ما فرغ منه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الأذان، لإظهار شعائر الإسلام وإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، ودعائهم إلى المساجد لأداء فريضة الله تعالى.
الوجه الخامس: أن الأفضل في الأذان التربيع في أوله، وهو التكبير أربع مرات، وعلى هذا أكثر أهل العلم، لشهرة روايته، ولأنها زيادة عدل غير منافية فهي مقبولة، فقد ورد التربيع في حديث عبد الله بن زيد، وورد في حديث أبي محذورة عند أصحاب السنن وأحمد، وورد تثنية التكبير فيه عند مسلم في «صحيحه» كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن الإقامة تفرد ألفاظها، فلا تكرر، ما عدا التكبير و (قد قامت الصلاة) فإنها تكرر مرتين، وإنما لم تكرر الإقامة لأنها للحاضرين في الأصل، فلا تحتاج إلى تكرار كالأذان.
الوجه السابع: استحباب أن يقول المؤذن في أذان الفجر بعد: حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين؛ لأن صلاة الفجر في وقت ينام فيه عامة الناس، ويقومون إلى الصلاة من نوم، فاختصت صلاة الفجر بذلك دون غيرها من الصلوات، وهل التثويب في الأذان الأول أو الثاني؟ قولان:
(1)
"سنن النسائي"(2/ 7)، وصححها ابن خزيمة (385).
الأول: أنه في الأذان الأول، وبه قال بعض الحنابلة، وحكاه الصنعاني عن ابن رسلان
(1)
واستدلوا بظاهر الأحاديث المتقدمة.
القول الثاني: أنه في الأذان الثاني الذي يكون عند طلوع الفجر، وهو مذهب الحنابلة، وهو قول السندي
(2)
، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، لما يلي:
1 -
أن التثويب ورد مقيداً بصلاة الصبح، كما في رواية أبي داود وأحمد من حديث أبي محذورة:(فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم .. )، فهذا ليس فيه تقييد بالأذان الأول، وإنما قيد بأذان الصبح، ومعلوم أن الأذان لصلاة الصبح لا يكون إلا بعد طلوع الفجر ودخول وقتها، لقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث:«إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم» ، أما الأذان الأول فليس لصلاة الصبح، وإنما هو كما قال صلى الله عليه وسلم:«ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم»
(3)
، فهو نص صريح أن الأذان الأول ليس لصلاة الفجر.
2 -
ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم، مرتين
(4)
.
أما ما ورد في بعض الروايات من تقييد الأذان بالأول أو بالأولى - كما تقدم - فليس نصّاً صريحاً في أن المراد به الأذان الذي يكون قبل الفجر لأمرين:
الأمر الأول: أن وصفه بالأول ليس نصّاً في أن المراد الأذان الأول بل
(1)
"شرح منتهى الإرادات"(1/ 266)، "الإنصاف"(1/ 413)، "سبل السلام"(1/ 231).
(2)
"حاشية السندي على سنن النسائي"(2/ 7).
(3)
تقدم تخريجه عند الحديث (169).
(4)
أخرجه الطحاوي (1/ 137)، والدارقطني (1/ 243)، والبيهقي (1/ 423) قال البيهقي:(إسناده صحيح)؛ وانظر: "فقه السيرة" للغزالي ص (203).
يحتمل أن ذلك لكونه قبل الإقامة، فإن الإقامة يطلق عليها أذان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«بين كل أذانين صلاة»
(1)
، وكما في قول السائب بن يزيد رضي الله عنه: (إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة
…
الحديث)
(2)
، وليس في الجمعة سوى أذانين وإقامة.
ويؤيد ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يتبين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة)
(3)
.
قال الحافظ ابن حجر: (والمراد بالأولى: الأذان الذي يؤذن به عند دخول الوقت، وهو أول باعتبار الإقامة، وثاني باعتبار الأذان الذي قبل الفجر، وجاء التأنيث إما من قبل مؤاخاته للإقامة، أو لأنه أراد المنادة، أو الدعوة التامة، ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف، والتقدير: إذا سكت عن المرة الأولى أو في المرة الأولى)
(4)
.
وعنها - أيضاً رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويحيي اخره، وفيه: فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين .. )
(5)
، فأطلقت النداء الأول على أذان الصبح الذي بعد طلوع الفجر لقولها:(ثم صلّى الركعتين) وهما سنة الفجر.
الأمر الثاني: أنه لم ينقل أن أبا محذورة كان يؤذن للفجر مرة قبل طلوعه ومرة بعده
(6)
، وإنما كان هذا في المدينة.
ثم إن الأذان الثاني هو المناسب لهذه الجملة، وذلك ببيان أن الصلاة التي فرض الله تعالى على عباده خير لهم من نومهم في هذا الوقت، فالواجب القيام من النوم والمسارعة إليها، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (624)، ومسلم (838).
(2)
أخرجه البخاري (912).
(3)
أخرجه البخاري (626).
(4)
"فتح الباري"(2/ 109).
(5)
أخرجه مسلم (739).
(6)
انظر: "فتاوى ابن عثيمين"(12/ 176 وما بعدها).
صفة أذان أبي محذورة
180/ 3 - وعَنْ أَبي مَحْذُورةَ رضي الله عنه. أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الأَذَانَ، فَذَكَرَ فِيهِ التَّرْجِيعَ. أَخْرَجَهُ مُسْلمٌ. ولكِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.
وَرَوَاهُ الْخَمْسَةُ فَذَكَرُوهُ مُرَبَّعاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «صفة الأذان» (379) من طريق عامر الأحول، عن مكحول، عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان:«الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله» ، ثم يعود فيقول:«أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين» ، زاد إسحاق:«الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» .
وأخرجه أبو داود (502)، والترمذي (192)، والنسائي (2/ 4 - 5)، وابن ماجه (709)، وأحمد (24/ 91)، كلهم من طريق عامر الأحول به، وفيه التكبير في أوله أربعاً.
ولفظ الترمذي عن أبي محذورة (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة) وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، وهذا هو المحفوظ في حديث عبد الله بن زيد، وهو أذان بلال، ورواه مسلم كما في
بعض النسخ، قال القاضي عياض: (كذا في أكثر الأصول، وروايات جماعة شيوخنا، ووقع في بعض طرق الفارسي
(1)
التكبير أربع مرات)
(2)
، وكذا نسب ابن الأثير رواية الترجيع إلى مسلم، ونسبه - أيضاً - المجد ابن تيمية
(3)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على صفة أذان أبي محذورة وفيه صفتان:
الأولى: أن التكبير في أوله مرتان فقط، على ما في رواية مسلم، وأربع على ما في رواية أحمد وأصحاب السنن، ويؤيد رواية أصحاب السنن بالتربيع ما تقدم في حديث عبد الله بن زيد.
الثانية: الترجيع وتقدم أن معناه: أن يقول الشهادتين بصوت منخفض يُسْمِعُ من كان بقربه، ثم يقولهما بصوت مرتفع كسائر جمل الأذان.
سمي ترجيعاً لأنه يرجع إلى لفظ الشهادة بعد مجيئه بها، ولعل السر في ذلك تثبيت التوحيد في قلوب الناس وحثهم على التدبر والتأمل في هاتين الكلمتين العظيمتين، وقيل: إن الترجيع قصد به تلقين أبي محذورة؛ لأنه كان حديث عهد بإسلام، فأمر بالتكرار لتستقر الشهادتان في قلبه، ولكن ليس هذا بظاهر، والأول أوضح.
وعلى هذا الحديث تكون جمل الأذان تسْعَ عَشْرَةَ بالتربيع في أوله والترجيع في الشهادتين، وبدون الترجيع خَمْسَ عَشْرَةَ جملة.
فالجمهور على تربيع التكبير في أول الأذان
(4)
، لما تقدم من أن الزيادة من الثقة مقبولة، ولأن التربيع عملُ أهلِ مكةَ، وهي مَجْمَعُ المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم.
(1)
هو عبد الغافر بن محمد الفارسي الفسوي ثم النيسابوري، سمع صحيح مسلم من محمد بن عيسى الجلودي قراءة عليه، وهي النسخة المعتمدة المشهورة، كما ذكر ابن الصلاح، مات سنة ثمان وأربعين وأربعمائة "صيانة صحيح مسلم" ص (106).
(2)
"إكمال المعلم"(2/ 244).
(3)
"جامع الأصول"(5/ 285)، "المنتقى"(2/ 49).
(4)
"بدائع الصنائع"(1/ 147)، "المجموع"(3/ 90)، "المغني"(2/ 56 - 57).
وقال مالك وأبو يوسف من الحنفية بتثنية التكبير، استدلالاً بحديث أبي محذورة عند مسلم، وبأنه عمل أهل المدينة، وهم أعرف بالسنن
(1)
.
وأما الترجيع فالجمهور على إثباته أخذاً بحديث أبي محذورة، وحديثه سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر بعد الهجرة، كما تقدم، وقال جماعة من أهل العلم: لا يشرع الترجيع، عملاً بحديث عبد الله بن زيد، وقد أذن بلال بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بدون ترجيع
(2)
.
وما دام أن السنة وردت بهذا وهذا فلا حرج في فعل ما ورد من التربيع والتثنية والترجيع، لدخول ذلك تحت اختلاف التنوع، وهو قول المحققين من أهل العلم، قال ابن عبد البر:(ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن رَبَّعَ التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجَّع في التشهد أو لم يرجع، أو ثَنَّى الإقامة أو أفردها كلها، أو إلا «قد قامت الصلاة» فالجميع جائز)
(3)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم، وهو تسويغ كلِّ ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئاً من ذلك، إذ تَنَوُّعُ صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سَنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته)
(4)
.
ومع ذلك فالأفضل الاقتصار على صفة واحدة، وهي خَمْسَ عَشْرَةَ جملة، وهو أذان بلال، وهو الأذان المعمول به الان، وهو الذي كان يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من بلال حضراً وسفراً، لكن لو أذن على الصفة الأخرى فلا بأس إذا لم يحصل تشويش على الناس، أو يخشى فتنة، والله تعالى أعلم.
(1)
"بدائع الصنائع"(1/ 147)، "بداية المجتهد"(1/ 258).
(2)
انظر: "أحكام الأذان والنداء والإقامة" ص (70).
(3)
"التمهيد"(24/ 22).
(4)
"الفتاوى"(22/ 66).
تثنية الأذان وإفراد الإقامة
181/ 4 - وَعَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ: أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَيُوتِرَ الإقَامَةَ، إلاَّ الإقَامَةَ، يَعْنِي قوله: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلمٌ الاسْتِثْنَاءَ.
وَلِلَّنَّسَائِيِّ: أَمَرَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» ، باب «الأذان مثنى مثنى» (605)، ومسلم (378)(5) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه
…
فذكره.
وهذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم بلفظ:(أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة)، أي: بدون الاستثناء، كما ذكر الحافظ، لكن ورد الاستثناء عند مسلم من طريق اخر.
وأخرجاه - أيضاً - من طريق خالد الحذَّاء
(1)
، عن أبي قلابة، عن أنس قال:(أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة).
وأخرجه النسائي (2/ 3) من طريق أيوب بلفظ: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة).
(1)
ظاهره أنه نسبة لصناعة الحذاء، وليس كذلك، فإنه لم يكن حَذَّاءً، وإنما كان يجلس في الحَذّائين، قاله النووي في "شرح صحيح مسلم"(3/ 320).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أُمِرَ بلال .. ) بضم الهمزة وكسر الميم، أي: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل رواية النسائي، ولهذا الغرض - والله أعلم - ذكرها الحافظ، لبيان هذا المعنى وتأكيده، والصيغة الأولى تفيد ذلك على القول المختار عند الأصوليين والمحدثين، وأما من جعله من قبيل الموقوف لاحتمال أن يكون الامر غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشيء، بل الصواب الأول؛ لأن مثل ذلك اللفظ ينصرف إلى صاحب الأمر والنهي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المتبادر إلى الفهم، فكان الحمل عليه أولى، والأمر: طلب الفعل ممن دون الطالب.
وبلال هو: ابن رباح الحبشي، أسلم بمكة قديماً، وأظهر إسلامه، فعذِّب على ذلك، حتى كان أمية بن خلف إذا حميت الظهيرة طرحه في بطحاء مكة على ظهره، وألقى على صدره صخرة عظيمة، ليرجع عن الإسلام، ويعبد اللات والعزى، وهو يقول: أحد، أحد، حتى مَرَّ به أبو بكر رضي الله عنه وهم يعذبونه، فاشتراه، وأعتقه، هاجر بلال إلى المدينة، وشهد بدراً وما بعدها، وتولى الأذان في المدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتناوب مع ابن أم مكتوم، إلا في رمضان، فيؤذنان جميعاً - كما سيأتي إن شاء الله - شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على التعيين، في حديث وارد في «الصحيحين»
(1)
، وترك الأذان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الشام مجاهداً، وتوفي هناك سنة عشرين من الهجرة رضي الله عنه
(2)
.
قوله: (أن يشفع الأذان) أي: يجعله شَفْعاً بأن يكرر الجمل تكراراً زوجياً، والمراد بالأذان: أكثر الأذان؛ لان اخره جملة (لا إله إلا الله) مرة، ليختم بالتوحيد على وتر.
قوله: (ويوتر الإقامة) أي: يجعلها وتراً بأن لا يكرر جملها، بل تكون فردية، والمراد: أكثرها ما عدا التكبير.
(1)
"صحيح البخاري"(1149)، ومسلم (2458).
(2)
"الاستيعاب"(2/ 26)، "السير"(1/ 347)، "الإصابة"(1/ 273).
قوله: (إلا الإقامة) فسرها الحافظ بقوله: يعني قد قامت الصلاة، ثم رأيته هكذا عند ابن خزيمة
(1)
.
والمعنى: أنها تُشْفَعُ فتكرر مرتين؛ لأنها المقصودة، فصار لها مزيد عناية.
والحكمة من ذلك - والله أعلم - أنه لما كان الأذان للبعيدين ناسب تكراره ليتحقق سماعهم، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين في الأصل، ولغيرهم بالتبعية.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المشروع في الأذان أن يكون أكثره شفعاً، وفي الإقامة أن يكون أكثرها وتراً؛ لأن الأذان لإعلام الغائبين، ومن ثم استحب أن يكون على مكان عال، وبصوت مرتفع، وأن يكون بتمهل وبدون إسراع، كل ذلك لقصد الإسماع.
وأما الإقامة فهي للحاضرين، ومن ثم تكون بسرعة متوسطة، ولا يكرر إلا التكبير، ولفظ الإقامة (قد قامت الصلاة) فإنها تكرر مرتين؛ لأنها المقصودة بالذات، ولذا قال العلماء:(يكره رفع الصوت في الإقامة، دونه في الأذان)، ذكره النووي
(2)
.
الوجه الرابع: استدل بعض العلماء
(3)
بهذا الحديث على أن المؤذن يجمع بين تكبيرتين بنَفَس واحد، لقوله:(يشفع الأذان) وهذا الاستدلال ليس في محله، وإلا لزم جمع الشهادتين في نفس واحد، وكذا الحيعلتين، وإنما المراد بالحديث كما تقدم أن جمل الأذان مشفوعة، أي: مثناة لا وتر، سوى التهليل فهو مرة واحدة، وقد بَوَّبَ البخاري على هذا الحديث (باب: الأذان مثنى مثنى) كما تقدم، كما استدلوا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن لا إله إلا الله
…
الحديث) وسيأتي
(1)
"صحيح ابن خزيمة"(1/ 194).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(3/ 321).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 321).
بتمامه - إن شاء الله - فإن ظاهره أن المؤذن يجمع بين كل تكبيرتين
(1)
.
وهذا غير وجيه لأمور:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد جنس التكبير، ولهذا لم يذكر إلا تكبيرتين، ولم يذكر شهادة أن لا إله إلا الله إلا مرة واحدة، وكذا شهادة أن محمداً رسول الله.
2 -
أن هذا الحديث في إجابة المؤذن، لا في أداء الأذان، ولم يترجم عليه أحد بهذا المفهوم، ولم يقرر ذلك أحد من الشراح.
3 -
أنه لا يُدرى هل جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين التكبيرتين في نَفَسٍ واحد، أو فرق بينهما.
وعليه فالأظهر أن السنة في الأذان أن يقف المؤذن على كل تكبيرة، ويؤديها بنفس واحد، لما يلي:
1 -
ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علّم أبا محذورة الأذان قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر .. ولم يقل تقرن بين كل تكبيرتين، والمقام مقام بيان وتعليم.
2 -
أن من سنن الأذان الترسل، وهو التمهل والتأني في أداء ألفاظه، لأن ذلك أبلغ في الاستماع، ليعم الصوت، ويطول أَمَدُ التأذين، وهذا يناسبه سكوت المؤذن على كل جملة.
3 -
أن هذا عمل السلف الصالح فإنه لم ينقل خلافه، ولو نقل لاشتهر.
وقد أنكر وَصْلَ الأذان بعضُ علماء المالكية، وهو محمد بن أحمد الراعي الأندلسي، المتوفى سنة 853 هـ
(2)
واعتبر ذلك مخالفاً للسنة وما درج عليه السلف الصالح، وهذا يدل على أن وصل التكبير كان معروفاً منذ القرن التاسع، والله أعلم.
(1)
انظر: "تحفة الأحوذي"(1/ 588).
(2)
انظر: "انتصار الفقير السالك" للراعي الأندلسي ص (336).
بيان شيء من صفات المؤذن حال الأذان
182/ 5 - وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ بِلَالاً يُؤَذِّنُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ، ههُنَا وههُنَا، وَإصبْعَاهُ في أُذُنَيْهِ. رَوَاه أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَلاِبْنِ مَاجَهْ: وَجَعَلَ إصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ.
وَلأبي دَاوُدَ: لَوَى عُنُقَهُ، لَمَّا بَلَغَ «حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ» يَمِيناً وَشِمالاً وَلَمْ يَسْتَدرْ.
وَأَصْلهُ في الصَّحِيحَيْنِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو جُحيفة - بضم الجيم - وَهْبُ بن عبد الله السُّوائي - بضم السين المهملة وتخفيف الواو وبهمزة بعد الألف - نسبة إلى سُواءة بن عامر بن صعصعة من هوازن، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم صغيراً في اخر حياته عليه الصلاة والسلام، فسمع منه وحفظ عنه، وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وأبو جحيفة لم يبلغ الحُلُم، صحب علياً رضي الله عنه وشهد معه مشاهده كلها، وجعله عليٌّ على بيت المال في الكوفة، وكان يسميه: وَهْبَ الخير، توفي في الكوفة سنة أربع وسبعين
(1)
.
(1)
"الاستيعاب"(11/ 169)"الإصابة"(10/ 321) وفيها أن وفاته سنة أربع وستين، وعزاه إلى ابن حبان، والظاهر أنه غلط من الطابع، صوابه أربع وسبعين؛ لأني رجعت إلى "الثقات"(3/ 428) لابن حبان، فوجدت فيه ذلك، وكذا ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب"(11/ 145) أن وفاته سنة أربع وسبعين، ولما ترجمه الذهبي في=
الوجه الثاني: في تخريجه:
أخرجه أحمد (31/ 52)، والترمذي في «أبواب الصلاة» باب «ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان» (197)، من طريق عبد الرزاق، أخبرنا سفيان الثوري، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال:(رأيت بلالاً يؤذن ويدور، ويُتْبِعُ فاه ها هنا وها هنا، وإصبعاه في أذنيه .. ) الحديث، وقال الترمذي:(حديث أبي جحيفة حديث حسن صحيح).
وأخرجه الحاكم (1/ 202) من طريق عبد الرزاق به، وقال:(صحيح على شرط الشيخين).
واللفظ الذي ذكره الحافظ هو لفظ أحمد في «مسنده» ، والمثبت في «المسند»:(رأيت بلالاً يؤذن ويدور .. ) كما تقدم، فلا أدري هل الحافظ حذف لفظ (ويدور) أو أنها سقطت من الناسخ؟
وهو في «الصحيحين» - كما سيأتي - عن سفيان به، دون ذكر الدوران ووضع الإصبع في الأذنين.
وأخرجه ابن ماجه (711) من طريق حجاج بن أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال:(أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح وهو في قبة حمراء، فخرج بلال فأذن فاستدار في أذانه، وجعل إصبعيه في أذنيه).
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، قال ابن خزيمة:(لا ندري هل سمع من عون أم لا؟)
(1)
.
لكن تابعه سفيان عن عون، كما في الإسناد الذي قبله، قال البيهقي:(ويحتمل أن يكون الحجاج أراد بالاستدارة التفاته في حي على الصلاة حي على الفلاح، فيكون موافقاً لسائر الرواة، والحجاج بن أرطاة ليس بحجاج، والله يغفر لنا وله)
(2)
.
= "السير"(3/ 202) ذكر أن وفاته مختلف فيها وأنها سنة أربع وسبعين على الأصح.
(1)
"صحيح ابن خزيمة"(1/ 203).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 395).
وأخرجه أبو داود (520) في كتاب «الصلاة» ، «باب في المؤذن يستدير في أذانه» من طريق قيس بن الربيع وسفيان جميعاً، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال:(أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو في قبة حمراء من أدم، فخرج بلال، فأذن، فكنت أتتبع فمه ها هنا وها هنا، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء، برود يمانية قِطْري، وقال موسى - وهو ابن إسماعيل شيخ أبي داود قال: أي: أبو جحيفة ـ: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن، فلما بلغ (حي على الصلاة، حي على الفلاح) لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر، ثم دخل فأخرج العنزة) وساق حديثه.
وإسناده صحيح، صححه الألباني
(1)
.
والحديث أصله في البخاري (634) ومسلم (503) من طريق سفيان، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه (أنه رأى بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان). هذا لفظ البخاري وهو مختصر، ولفظ مسلم أتم منه، ولفظه:(فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا ويقول يميناً وشمالاً، يقول: حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح .. الحديث)، وليس فيه ذكر الدوران ولا وضع الإصبع في الأذنين كما تقدم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (رأيت بلالاً يؤذن) كان ذلك في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم نازل في الأبطح بمكة، كما في الروايات الأخرى.
قوله: (وأتتبع فاه ها هنا وها هنا) أي: أتابع ببصري فمه يميناً وشمالاً؛ لأنه كان يتتبع بفيه الناحيتين، وقد بينت رواية أبي داود أن المراد بقوله:(ها هنا وها هنا) اليمين والشمال، كما بينت موضع الالتفات وهو (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح)، ولعل الحافظ أوردها لهذين الأمرين، ولأمر ثالث وهو أن رواية أبي داود بينت أن الالتفات يكون بالرأس فقط، لقوله (لوى عنقه)، وعند مسلم من رواية وكيع:(يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) وهي أوضح.
(1)
"صحيح سنن أبي داود"(1/ 105).
قوله: (وإصبعاه في أذنيه) مثنى إصبع - بكسر الهمزة وفتح الباء - وهي اللغة التي ارتضاها الفصحاء من عشر لغات
(1)
، والمراد هنا: الأَنْمُلَةُ - بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الميم أو ضمها - وهي المفصل الذي فيه الظفر، من باب المجاز المرسل، وعلاقته الكلية أي: إطلاق الكل وإرادة الجزء، ولم يرد تعيين الأصبع التي توضع في الأذن، وجزم النووي بأنها المسبِّحة.
قوله: (ولم يستدر) يقال: دار الشيء يدور دوراً ودوراناً: تحول وعاد على ما كان عليه، فالمراد بها: لم يدر بجملة بدنه. فالاستدارة تختلف عن الالتفات.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الالتفات في الحيعلتين يميناً وشمالاً ولم يبين في هذه الرواية ولا في غيرها كيفية الالتفات، وظاهر السياق عند مسلم من رواية وكيع عن سفيان:(فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح .. )، ظاهر هذا أنه يلتفت يميناً لحيَّ على الصلاة في المرتين جميعاً، وشمالاً لحيَّ على الفلاح في المرتين جميعاً، قال النووي:(إنه قول الجمهور، وهو الأصح عند الشافعية)، وقال ابن دقيق العيد:(إنه الأقرب عندي)
(2)
.
وظاهر الحديث أنه يلتفت في كل الجملة لا في بعضها، وأما ما يفعله بعض المؤذنين من أنه يقول:(حيَّ على) ثم يلتفت، فهذا خلاف السنة.
وللالتفات فائدتان:
الأولى: أنه أرفع للصوت وأبلغ في الإعلام، لا سيما في الحيعلتين؛ لأنهما خطاب ونداء، وغيرهما من الألفاظ ذِكْرٌ.
الثانية: أنه علامة للمؤذن، ليعرف من يراه على بُعْدٍ أو من كان به صمم أنه يؤذن، وهذا إذا كان يؤذن في المنارة أو على الأرض، أما إذا كان يؤذن
(1)
"المصباح المنير" ص (332).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(4/ 467)، "شرح العمدة"(2/ 177).
في مكبر الصوت - كما هو الآن - فهل تبقى سنية الالتفات؟ هذا مبني على حكم الالتفات هل هو سنة مطلقاً ولو كان منفرداً، أو أنه لعلة إسماع مَنْ على اليمين والشمال؟ فعلى أنه معلَّل بالإسماع فالظاهر أنه لا يلتفت؛ لأن ذلك يضعف صوته، فتفوت حكمة الالتفات وهي رفع الصوت وتوزيعه، وعليه فيكون وجهه مقابل مكبر الصوت، وصوته يتوزع في جميع الجهات بواسطة المكبرات الموزعة على الجهات في أعلى المنارة، وعلى أن الالتفات سنة مطلقاً نقول: إنه يلتفت؛ لأن الالتفات قد يكون لمقاصد أخرى، ثم إن العلة التي ذُكرت مستنبطة
(1)
، ويمكن أن المؤذن يلتفت ويبقى صوته على قوته.
الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية وضع الإصبعين في الأذنين لقوله: (وإصبعاه في أذنيه) لأنه أجمع للصوت، ولأنه علامة على المؤذن - كما تقدم ـ.
وقد علقه البخاري بغير صيغة الجزم فقال: (ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه)
(2)
، وحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجعل إصبعيه في أذنيه، ووصله ابن أبي شيبة
(3)
، وظاهر صنيع البخاري أنه غير مستحب؛ لأنه حكى تركه عن ابن عمر رضي الله عنهما
(4)
.
لكن أكثر العلماء على استحبابه، قال الترمذي:(وعليه العمل عند أهل العلم: يستحبون أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان، وقال بعض أهل العلم: وفي الإقامة - أيضاً - يدخل إصبعيه في أذنيه، وهو قول الأوزاعي)
(5)
.
لكن قول الأوزاعي في الإقامة ليس عليه دليل من السنة، وقياسه على الأذان قياس مع الفارق؛ لما تقدم من أن الأذان للبعيدين، والإقامة للحاضرين
(6)
.
(1)
انظر: "أحكام الأذان والنداء والإقامة" ص (238).
(2)
"فتح الباري"(2/ 114).
(3)
"المصنف"(1/ 210).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/ 381).
(5)
"جامع الترمذي"(1/ 377).
(6)
انظر: "تحفة الأحوذي"(1/ 591).
الوجه السادس: اختلفت الروايات في استدارة المؤذن، فقد جاء من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عون إثباتها، كما عند أحمد والترمذي، وعند ابن ماجه من طريق الحجاج بن أرطاة عن عون.
وقد تكلم البيهقي بما حاصله تضعيف رواية حجاج هذه وأنه لم يسمع هذه اللفظة من عون، لكن تعقبه ابن التركماني بكلام طويل مفاده إثباتها
(1)
.
وجاء من طريق سفيان وقيس بن الربيع عن عون نفيها، كما عند أبي داود، والأظهر أن المحفوظ عن سفيان حذفها؛ لما تقدم، وقال البيهقي:(إن لفظ الاستدارة مدرج في حديث سفيان)
(2)
وقد اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: لا يدور بل يلتفت بعنقه يميناً وشمالاً، من غير تحول عن القبلة، ومنهم من قال: يدور.
والحق - كما قال الشوكاني - استحباب الالتفات حال الأذان، وأما الدوران فالأحاديث مختلفة، والجمع ممكن - كما قال الحافظ - بأن من أثبت ذلك عنى به استدارة الرأس، ومن نفاه عنى به استدارة الجسد كله، والله أعلم
(3)
.
(1)
"السنن الكبرى"(1/ 395)، وانظر:"فتح الباري"(2/ 115).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 395)، "فتح الباري" لابن رجب (5/ 375)، ولابن حجر (2/ 115).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 396)، "فتح الباري"(2/ 115)، "نيل الأوطار"(1/ 53).
استحباب كون المؤذن صيتاً
183/ 6 - وَعَنْ أَبي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْجَبَهُ صَوْتُهُ، فَعَلَّمَهُ الأذَانَ. رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارمي (1/ 216)، وابن خزيمة (1/ 195)، كلاهما من طريق سعيد بن عامر، عن همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نحواً من عشرين رجلاً، فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة، فعلمه الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
…
الحديث.
وهذا الإسناد قد مرَّ، بدون هذه الزيادة، وهي عند الدارمي وابن خزيمة والحديث رجاله ثقات، إلا عامر الأحول، وهو ابن عبد الواحد الأحول البصري فإنه مختلف فيه، قال أحمد:(ليس بالقوي)، وقال مرة:(ليس حديثه بشيء)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال ابن معين:(ليس به بأس)، وقال أبو حاتم:(ثقة لا بأس به)
(1)
.
وأخرج أبو داود (501)، والنسائي (2/ 7)، وأحمد (24/ 92)، والدارقطني (1/ 234)، عن أبي محذورة قال: (لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين، خرجت عاشر عشرة من أهل مكة أطلبهم، قال: فسمعناهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن نستهزئ بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان
(1)
"تهذيب التهذيب"(5/ 67).
حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا كلنا رجلاً رجلاً، فكنت اخرهم، فقال حين أذنت: تعال، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي، وبارك عليَّ ثلاث مرات، ثم قال:«اذهب فَأَذِّنْ عند البيت» ، قلت: كيف يا رسول الله؟ قال: فعلمني الأذان .. الحديث، وهو حديث صحيح بطرقه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب كون المؤذن حسن الصوت؛ لأن ذلك أبلغ في دعوة الناس إلى الصلاة، وأدعى للخشوع والإقبال على سماع الأذان وإجابة المؤذن، بخلاف الصوت الذي ليس بذلك، فإنه قد ينفِّر من سماع الأذان والإصغاء إليه.
وعلى ذلك فينبغي للمسؤولين عن وظيفة الأذان أن يختاروا من هو أندى صوتاً وأحسن صوتاً متى تيسر ذلك.
ومن حسن الصوت قوة الصوت وحسن الأداء، وليس من ذلك الإفراط في المد، كما عليه بعض المؤذنين، فإن أقصى المد ست حركات، وما زاد عليها فهو تمطيط خارج عن حدود الشرع ولسان العرب
(1)
.
وليس من حسن الصوت - أيضاً - التلحين والتطريب، وهو التغني بالأذان وإيقاعه على نغم الألحان، فهذا محرم بالإجماع.
قال ابن الجوزي: (كره مالك بن أنس وغيره من العلماء التلحين في الأذان كراهية شديدة؛ لأنه يخرجه عن موضع التعظيم إلى مشابهة الغناء)
(2)
.
وقال الشيخ علي محفوظ: (من البدع المكروهة تحريماً: التلحين في الأذان وهو التطريب، أي: التغني به، بحيث يؤدي إلى تغير كلمات الأذان وكيفياتها بالحركات والسكنات ونقص بعض حروفها أو زيادة فيها، محافظة على توقيع الألحان، فهذا لا يحل إجماعاً في الأذان، كما لا يحل في قراءة القران)
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتاوى ابن إبراهيم"(1/ 125)، "تصحيح الدعاء" ص (377).
(2)
"تلبيس إبليس" ص (137).
(3)
"الإبداع" ص (176).
صلاة العيد ليس لها أذان ولا إقامة
184/ 7 - وَعَنْ جَابِر بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَين، غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَينِ، بِغَيرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
185/ 8 - وَنَحْوُهُ في المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَغَيْرِهِ.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: فقد أخرجه مسلم في كتاب «صلاة العيدين» (887)، من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال:
…
فذكره.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرجه البخاري في كتاب «العيدين» ، باب:«المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة، وبغير أذان ولا إقامة» (959) ومسلم (886)(6) من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: (أنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة) وهذا لفظ البخاري.
ومن طريق ابن جريج - أيضاً - قال: (أخبرني عطاء عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، ثم سألته بعد حين عن ذلك، فأخبرني قال: أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة) أخرجه البخاري (960) مختصراً، ومسلم (886) وهذا لفظه.
الوجه الثاني: حديث جابر بن سمرة وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما دليل على أن صلاة العيد لا يشرع لها أذان ولا إقامة، وهذا كالإجماع من أهل العلم، قال الإمام مالك:(سمعت غير واحد من علمائنا يقول: لم يكن في عيد الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة، منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، قال مالك: وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا)
(1)
.
وقال ابن عبد البر: (لا خلاف بين فقهاء الأمصار في أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين ولا في شيء من الصلوات المسنونات، ولا في شيء من النوافل في التطوع
…
)
(2)
.
وقال ابن القيم: (كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة بغير أذان ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة: أنه لا يُفعل شيء من ذلك)
(3)
.
والحكمة في عدم الأذان للعيدين - والله أعلم - أن الغرض من الأذان الإعلام بدخول الوقت، ووقت صلاة العيد محدد معلوم، وليس الناس في حال غفلة عن الصلاة ووقتها حتى يحتاجوا إلى الأذان.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (إنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد أذان ولا إقامة ولا شيء، ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان، والله أعلم)
(4)
.
وما ذكره رحمه الله من أنه لا ينادى للعيد بأي لفظ كان دل عليه قول جابر المتقدم: (ولا إقامة ولا نداء ولا شيء)، قال الحافظ:(يستدل بذلك على أنه لا يقال أمام صلاة العيد شيء من الكلام)
(5)
.
وعلى هذا فالأذان للعيد أو النداء بنحو: صلاة العيد، وما في معناها من البدع المحدثة في الدين، وقد نقل الشاطبي عن ابن حبيب - من المالكية ـ:
(1)
"الموطأ"(1/ 177).
(2)
"الاستذكار"(7/ 12).
(3)
"زاد المعاد"(1/ 442).
(4)
"فتاوى ابن باز"(2/ 452).
(5)
"فتح الباري"(2/ 452).
(أن أول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين هشام بن عبد الملك)
(1)
، وهذا اجتهاد منه لإعلام الناس بمجيء الإمام، لكنه اجتهاد مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن مجيء الإمام لا يشرع فيه الأذان وإن خفي على بعض الناس لبعده؛ لأن هذه العلة موجودة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وهي غير مؤثرة في زمانه، فكيف تكون مؤثرة فيما بعده، والقاعدة الأصولية:(أن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وانتفاء المانع فتركه هو السنة، وفعله هو البدعة)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الاعتصام"(283).
(2)
"الإبداع في مضار الابتداع" ص (59، 171).
مشروعية الأذان والإقامة للصلاة الفائتة
186/ 9 - وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ في الحَديثِ الطَّوِيلِ، في نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْم. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الاول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «قضاء الصلاة الفائتة» (680)، من طريق ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة رضي الله عنه .. وذكر حديثاً طويلاً، وفي اخره: أنهم ناموا عن الصلاة حتى طلعت الشمس، وفيه: (ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم
…
الحديث).
وهذا الأذان كان بأمره صلى الله عليه وسلم، ففي «سنن أبي داود» (438):(ثم أمر بلالاً أن ينادي بالصلاة فنودي بها).
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الأذان والإقامة للصلاة الفائتة بنوم، وألحق بها العلماء الصلاة المنسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمعهما في الحكم فقال: «من نام عن صلاة أو نسيها
…
الحديث»
(1)
، ويؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه رضي الله عنهم:«إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم»
(2)
، فإنه يشمل حضورها في الوقت، وحضورها بعد الوقت.
(1)
تقدم تخريجه عند أحاديث أوقات النهي.
(2)
سيأتي برقم (196).
وهذا إذا كان من فاتتهم الصلاة حتى خرج وقتها في مكان لم يؤذن فيه كالصحراء، وأما إذا كانوا في بلد قد أُذِّنَ فيه؛ فإنه لا يجب عليهم الأذان اكتفاء بالأذان العام في البلد؛ لأنه حصلت به الكفاية، وسقطت به الفريضة.
وإذا أُذِّنَ للصلاة الفائتة فإن المؤذن لا يرفع صوته، لئلا يشوش على من قد يسمعه.
وأما ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة نومهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوعهم من خيبر، وفيه:«وأمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح .. »
(1)
وظاهره أنه لم يُؤذَّن للصلاة الفائتة، فهذا أجيب عنه بجوابين:
الأول: أنه لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن لها، فلعله أُذِّنَ وأهمله الراوي، أو لم يعلم به لكونه ذهب لقضاء حاجته ونحو ذلك.
الثاني: لعله ترك الأذان في هذه المرة لبيان جواز تركه والإشارة إلى أنه ليس بواجب في هذه الحال، ولا سيما في السفر، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (680).
الاكتفاء في المجموعتين بأذان واحد
187/ 10 - وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بَأَذانٍ وَاحِدٍ وإقَامَتَيْنِ.
188/ 11 - وَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: جَمَع بَيْنَ المَغْرِبِ والْعِشَاءِ بِإقَامَةٍ وَاحِدَةٍ.
زَادَ أَبُو دَاوُدَ: لِكُلِّ صَلَاةٍ.
وفي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَمْ يُنَادِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث جابر رضي الله عنه: فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج» (1218)، وهو حديث طويل، وهو يعد منسكاً مستقلاً، اعتنى فيه جابر رضي الله عنه بحجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى اخرها، وسيأتي بتمامه أو ما يقارب ذلك في كتاب «الحج» - إن شاء الله تعالى - وهو من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، وفيه:(حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً .. الحديث).
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أخرجه مسلم - أيضاً - (1288)(289)(290) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثاً، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة)، وهكذا أخرجه أبو داود (1931).
وأخرجه أبو داود - أيضاً - (1927)، من طريق حماد بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال فيه: بإقامة واحدة لكل صلاة. وهذا يوافق حديث جابر رضي الله عنه.
وأخرجه أيضاً (1928) من طريق مخلد بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري به، وقال:(لم يناد في واحدة منهما)، ولعل الحافظ قصد بإيراد هذه الروايات بيان تعددها واختلافها ليقوم الطالب بدراستها ويعرف كيفية العمل بها.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيه اضطراب في متنه، فإن لفظه عند مسلم (بإقامة واحدة) وعند البخاري (1673)(كل واحدة منهما بإقامة .. )، والظاهر أن مراده إقامة واحدة لكل صلاة، كما وقع عند أبي داود، وهو أولى من القول بأن ذلك وهم من بعض الرواة، أو نسيان من ابن عمر رضي الله عنهما في بعض أحواله؛ لأنه عاش طويلاً، وحج حجات كثيرة، فإنه مات سنة (73) فلعله نسي ذلك، فالمعتمد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما على ما في البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم صلاهما بإقامة لكل واحدة، وكأن المؤلف نسي ذلك فلم يستحضر ما في البخاري فعزا الإقامة لكل واحدة منهما إلى أبي داود فقط مع أن ذلك في البخاري
(1)
.
وهذا يوافق حديث جابر رضي الله عنه كما تقدم من أنه صلاهما بإقامتين، وكذا أخرج البخاري (1672)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه صلاهما بإقامتين، فتكون الأحاديث الثلاثة: حديث جابر، وحديث ابن عمر، عند البخاري وأبي داود، وحديث أسامة كلها قد ذكرت الإقامة لكل صلاة، إلا رواية ابن عمر عند مسلم فلم تذكر إلا إقامة واحدة، فتكون رواية مرجوحة، أو تؤول بما تقدم.
أما الأذان ففي حديث جابر رضي الله عنه أنه ذكر أذاناً واحداً لهما، وأما أسامة وابن عمر رضي الله عنهما فلم يذكرا الأذان، ففي حديث أسامة عند البخاري: (فجاء
(1)
ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في شرحه على "البلوغ".
المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى، ولم يصل بينهما) لكن لا يقدم سكوته عن الأذان على حديث جابر رضي الله عنه الذي أثبته سماعاً صريحاً، بل لو نفاه جملة لقدم عليه حديث من أثبته، لتضمنه زيادة علم خفيت على النافي.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما كما تقدم (لم يناد في واحدة منهما)، وهذه تعارض حديث جابر رضي الله عنه الذي أثبت الأذان، ولا شك أن رواية أبي داود لا تقوى على معارضة حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البخاري - كما سيأتي ـ، غير أن حديث ابن مسعود أثبت أذانين، وحديث جابر أثبت أذاناً واحداً، لكن الأذان الثاني للعشاء في حديث ابن مسعود ورد بالشك، فلا يعارض اليقين الذي عند مسلم.
فقد ورد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: حج عبد الله رضي الله عنه فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريباً من ذلك، فأمر رجلاً فأذن وأقام ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر - أُرى رجلاً - فأذن وأقام، ثم صلى العشاء ركعتين .. الحديث
(1)
.
والمحفوظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يصلِّ بينهما شيئاً، ولم يتعشَّ بينهما، بل صلاهما جميعاً، كما قال جابر وأسامة رضي الله عنهما، ولعل ابن مسعود رضي الله عنه اجتهد في ذلك، ثم إنه لم يصرح بأن الأذان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون موقوفاً عليه، والموقوف إذا خالف المرفوع فالحجة في المرفوع، وهو حديث جابر رضي الله عنه فإنه صريح في أنه أذن لهما أذاناً واحداً، فهو المعتمد في هذا الباب، لأمور ثلاثة:
1 -
أن جابر رضي الله عنه له مزيد عناية بنقل حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن الأحاديث سواه مضطربة، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه من فعله، إضافة إلى الشك في الأذان الثاني.
(1)
أخرجه البخاري (1675).
3 -
أنه صح من حديث جابر رضي الله عنه جمعه صلى الله عليه وسلم بعرفة بأذان واحد وإقامتين، ولم يأت في حديثٍ ثابتٍ قط خلافه، والجمع بمزدلفة كالجمع بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم والتأخير، ولو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جملة لأخذنا حكم الجمع من جمع عرفة
(1)
.
الوجه الثاني: حديث جابر رضي الله عنه دليل على أن الصلاتين المجموعتين في وقت واحد لهما أذان واحد، وإقامتان، لكل صلاة إقامة، وهذا قول الشافعي وأحمد، وهو الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وفيها أقوال أخرى سببها تعدد الروايات كما تقدم، وكيفية الترجيح.
وبما أن الواقعة واحدة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما حج إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع، فالمعول في هذه المسألة على حديث جابر رضي الله عنه الذي تتبع حجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى اخرها.
هذا في حكم الأذان والإقامة، أما حكم الجمع فسيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام عليه في كتاب «الحج» ، والله المستعان.
(1)
انظر: "تهذيب مختصر السنن"(2/ 401، 402).
حكم الأذان قبل الفجر
189/ 12، 190/ 13 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ، وَكَانَ رَجُلاً أَعمى لَا يُنَادِي، حَتّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ، أَصْبَحْتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيه.
وفي اخره إدْرَاجٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، وأولها كتاب «الأذان» ، باب:«أذان الأعمى إذا كان له من يخبره» (617)، ومسلم (1092)، من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .. فذكره بهذا اللفظ.
وأخرجه البخاري في باب: «الأذان قبل الفجر» (623)، ومسلم (1092)(38)، من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، بدون قوله: وكان رجلاً
…
وأخرجه البخاري - أيضاً - في باب «الأذان بعد الفجر» (620)، من طريق مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً، دون قوله: وكان رجلاً
…
وأما حديث عائشة: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «الأذان قبل الفجر» (622)، ومسلم (1092)(38)، من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة به مرفوعاً، بدون تلك الزيادة.
وقول الحافظ: (وفي اخره إدراج) يريد قوله: (وكان رجلاً أعمى .. إلخ) فهو مدرج من كلام الزهري، فقد رواه الطحاوي
(1)
والبيهقي
(2)
، بهذا الإسناد، وفيه: (قال ابن شهاب: وكان رجلاً أعمى
…
إلخ)، وجزم ابن قدامة بأنه من كلام ابن عمر
(3)
، ونقله عنه الحافظ، وأجاب بأنه لا يمنع أن يكون ابن شهاب قاله، أن يكون شيخه قاله - أيضاً - وكذا شيخ شيخه، وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(4)
.
والإدراج: أن يدخل أحد الرواة في الحديث كلاماً من عنده بدون بيان. إما تفسيراً لكلمة، أو استنباطاً لحكم، أو بياناً لحكمة، وهو يكون في أول الحديث، وفي وسطه، وفي اخره وهو الغالب، كما هنا.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل) هذا يفيد أن هذه عادة بلال وطريقته، والباء للظرفية، أي في ليل لا في نهار؛ لأنه يؤذن قبل طلوع الفجر قريباً من طلوعه، فقد ورد عند البخاري:(لم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا)، فيكون هذا اللفظ تقييداً لما أطلق في الروايات الأخرى من قوله:«إن بلالاً يؤذن بليل» .
قوله: (فكلوا واشربوا) الأمر للإباحة، والخطاب للصائمين.
قوله: (ابن أم مكتوم) هو عمرو، قال ابن عبد البر:(وهو الأكثر عند أهل الحديث)، وقيل: عبد الله بن قيس القرشي العامري رضي الله عنه منسوب إلى أمه، كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة في عامة غزواته يصلي بالناس، شهد القادسية في خلافة عمر رضي الله عنه فاستشهد فيها سنة أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وقيل: رجع إلى المدينة، فمات فيها على ما ذكر الواقدي، وهو المذكور في سورة (عبس) رضي الله عنه
(5)
.
(1)
"شرح معاني الآثار"(1/ 137).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 426 - 427).
(3)
"المغني"(2/ 69) وفيه (ابن عمرو) والظاهر أنه خطأ.
(4)
"فتح الباري"(2/ 100).
(5)
"الاستيعاب"(8/ 351)، "الإصابة"(7/ 83).
قوله: (وكان رجلاً أعمى) ذكر الحافظ أنه عمي بعد بدر بسنتين
(1)
، وسبقه إلى ذلك ابن الملقن
(2)
، قال الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على «الفتح»:(هذا فيه نظر؛ لأن ظاهر القران يدل على أنه عمي قبل الهجرة؛ لأن سورة (عبس) النازلة فيه مكية، وقد وصفه الله فيها بأنه أعمى، فتنبه). اهـ.
قوله: (أصبحت أصبحت) أي: دخلت في وقت الصباح، والمعنى: أن أذانه يكون مقارناً لابتداء طلوع الصبح، ويدل على ذلك رواية البخاري:«كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»
(3)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الأذان قبل الفجر إذا كان ثَمَّ أذان بعده، وذلك ليستيقظ النائم، ويرجع القائم استعداداً للسَّحُور، فإن لم يوجد بعده أذان اخر فلا يصح على الراجح؛ لأنه يوقع الناس في اللبس، وقد حدَّه بعض الفقهاء كالحنابلة من بعد نصف الليل، ولكن رواية البخاري لهذا الحديث تفيد أن الوقت بين الأذانين قليل جداً، فقد ذكر البخاري في كتاب «الصيام» أن القاسم قال:(لم يكن بينهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا)
(4)
، وقد ثبت عند النسائي والطحاوي وابن خزيمة من رواية القاسم عن عائشة أنها قالت ذلك، فيكون معنى قول البخاري:(قال القاسم .. ) أي: في روايته عن عائشة رضي الله عنها لأن القاسم تابعي ولم يدرك ذلك
(5)
.
وعلى هذا فالأفضل في الأذان قبل الفجر أن يكون وقت السحر قبيل طلوع الفجر، لدلالة الحديث على ذلك، ورجحه ابن الملقن، هذا من جهة الرواية، ومن جهة المعنى: أن الأذان قبيل الفجر فيه مصلحة إيقاظ النائم وتأهبه لإدراك فضيلة أول الوقت، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو قال: ينادي بليل ـ، ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم»
(6)
، فإذا كان قبيل
(1)
"فتح الباري"(2/ 100).
(2)
"شرح العمدة"(2/ 455).
(3)
انظر: "فتح الباري"(4/ 136).
(4)
انظر: المصدر السابق (4/ 136).
(5)
انظر: المصدر السابق (2/ 105).
(6)
تقدم تخريجه عند الحديث (169).
الفجر حصل المقصود؛ لأنه إذا قام الإنسان لا ينام مرة ثانية بل ينشط ويستعد، بخلاف إذا كان بعيداً عن الأذان الثاني فقد يكسل الإنسان وينام.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز كون المؤذن أعمى إذا وجد من يخبره بدخول وقت الأذان، أو أذَّن بعد بصير؛ لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة، وقد بوب البخاري على الحديث بقوله:(باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره) كما تقدم، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم
(1)
، وقالت طائفة: يكره أذان الأعمى، ولعل ذلك محمول على ما إذا لم يكن معه من يخبره بالوقت
(2)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز اتخاذ مُؤَذِّنَيْنِ في مسجد واحد إذا أذن أحدهما في وقت، والاخر في وقت اخر، أما أذانهما معاً بصوت واحد فهو من البدع، ويسمى الأذان الجماعي.
الوجه السادس: دلَّ الحديث على فوائد مجملة في باب «الأذان» ومنها:
1 -
جواز العمل بالأذان إذا كان المؤذن ثقة، لقوله: «فكلوا
…
» إلخ.
2 -
استحباب أن يكون الأذان على مكان عال، لقوله في رواية البخاري:(لم يكن بينهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(2/ 69)، "بدائع الصنائع"(1/ 150)، "المجموع"(3/ 102)، "مختصر خليل" ص (23).
(2)
المصادر السابقة.
حكم الأذان قبل تحقق دخول الوقت
191/ 14 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ بِلَالاً أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ، فَيُنَادِيَ:«أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (532)، في كتاب «الصلاة» باب في «الأذان قبل دخول الوقت» ، من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي:«ألا إن العبد قد نام، ألا إن العبد قد نام» ، زاد موسى بن إسماعيل شيخ أبي داود: فرجع فنادى: ألا إن العبد نام.
وهو حديث معلول، فقد تفرد به حماد بن سلمة، كما قال أبو حاتم
(1)
وغيره، وقال أبو داود عقبه:(هذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة)، وكذا قال البيهقي
(2)
.
وقال الترمذي: (هذا حديث غير محفوظ)، وَنَقَلَ عن علي بن المديني قوله:(حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو غير محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة)
(3)
.
والغرض من ذلك أن المحفوظ هو ما تقدم من كون بلال يؤذن بليل، ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم بوقت قصير.
(1)
"العلل"(308).
(2)
"السنن الكبرى"(1/ 383).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 394).
وقد أخرج أبو داود من طرق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كان لعمر مؤذن يقال له: مسروح أو مسعود، فأذن قبل الصبح، فأمره عمر أن يعيد الأذان)
(1)
.
وقد ذكر الترمذي احتمال أن حماد بن سلمة سمع حادثة مؤذن عمر فخانه حفظه فأخطأ في التحديث ظناً منه ووهماً أن الحادثة لبلال وأن الآمر بالإعادة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر) أي: ظناً منه أن الفجر قد طلع، ولعل هذا كان في أول الهجرة قبل مشروعية الأذان الأول وقبل تعيين ابن أم مكتوم مؤذناً؛ لأن بلالاً كان يؤذن في اخر أيامه صلى الله عليه وسلم بليل، ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر، كما تقدم.
قوله: (ألا إن العبد قد نام) أي: غفل عن الوقت بسبب النعاس ولم يتبين الفجر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ الناس بذلك، لئلا ينزعجوا من نومهم وسكونهم، والعبد: كناية عن بلال رضي الله عنه.
وفي رواية للدارقطني: (فرجع وهو يقول: ليت بلالاً لم تلده أمه، وابتلَّ من نضح دم جبينه)
(2)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمؤذن أن يتحرى الوقت، وعلى أنه يجوز عليه الخطأ مهما اجتهد، لكن إذا أخطأ فأذن قبل الوقت فعليه أن يعود فينبه الناس إلى خطئه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأذان لصلاة الصبح لا يصح إلا بعد طلوع الفجر، وقد تقدم ذلك، والله أعلم.
(1)
"سنن أبي داود"(533) وصححه الألباني (1/ 107)"صحيح سنن أبي داود".
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 244).
حكم متابعة المؤذن
192/ 15 - وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
193/ 16 - وَلِلْبُخَارِيِّ: عَنْ مُعَاوِيَةَ.
194/ 17 - وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عُمَرَ في فَضْل الْقَوْلِ كَما يَقُولُ المُؤَذِّنُ كَلِمَةً كَلِمَةً، سِوَى الْحَيْعَلَتيْنِ، فَيَقُولُ:«لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بالله» .
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «ما يقول إذا سمع المنادي» (611)، ومسلم (383)، من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
…
فذكره.
وأما حديث معاوية رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور مختصراً (612، 613) وفيه: (أنه لما قال حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال معاوية: هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول)، ثم ساقه تاماً في كتاب «الجمعة» بابٌ «يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء» (914)، فقال: حدثنا ابن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حُنيف، عن أبي أسامة بن سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال: الله أكبر، الله أكبر، قال:
معاوية، الله أكبر، الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال معاوية: وأنا، فلما قضى التأذين قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس - حين أذن المؤذن - يقول ما سمعتم من مقالتي.
وأما حديث عمر رضي الله عنه: فقد أخرجه مسلم (385) من طريق أبي جعفر محمد بن جهضم الثقفي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عُمارة بن غَزِيَّة، عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة» .
ولو أن الحافظ رحمه الله ساقه بتمامه لكان أكمل، لقوله في اخره:«دخل الجنة» ، فإن هذا فضل عظيم، نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا سمعتم النداء) أي: صوت المؤذن بالأذان، وهذا لفظ الصحيحين «النداء» وقد وقع في «عمدة الأحكام»:«إذا سمعتم المؤذن» ، وهو المثبت في «الجمع بين الصحيحين» للحميدي
(1)
وظاهر هذا أن اختصاص الإجابة بمن يسمع، فلو راه ولم يسمعه لم يجبه.
قوله: (فقولوا مثل ما يقول المؤذن) في بعض نسخ البلوغ: «قولوا» بدون فاء، وجميع الروايات بالفاء، وهو الموافق لقواعد اللغة العربية، وقد
(1)
انظر: (3/ 443).
تكون الفاء سقطت من الطابع أو الناسخ، والفاء تفيد التعقيب، فتكون المتابعة عقب كل كلمة، كما سيأتي.
وقوله: (مثل ما يقول) أي: مثل كل جملة يقولها، والمراد: تلفظوا بمثل ما يتلفظ به المؤذن من أذكار الأذان، والمماثلة لا تقتضي المساواة من كل وجه، فلا يراد المماثلة في كل الأوصاف، كرفع الصوت - مثلاً ـ.
وقد اتفقت الروايات في «الصحيحين» على إثبات لفظة «المؤذن» ولم يصب صاحب «عمدة الأحكام» في حذفها، وكأنه اغتر بدعوى ابن وضَّاح أنها مدرجة في الحديث، وغفل عن أن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى المخالفة لما ثبت في روايات «الصحيحين»
(1)
، أو أنه اعتمد على الحميدي، فإنه حذفها
(2)
.
قوله: (سوى الحيعلتين) مثنى حيعلة، أي: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وهذا يسمى في اللغة بـ (النحت) ومعناه: بناء كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر، أو من جملة، بحيث تدل على المعنى المراد، مثل: البسملة، والمراد: بسم الله الرحمن الرحيم، والحوقلة أو الحولقة: لا حول ولا قوة إلا بالله، والهيللة: لا إله إلا الله، ونحو ذلك.
قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله) الحول: الحركة، أي: لا حركة ولا استطاعة، ولا قوة: أي: على طاعة الله إلا بالله.
الوجه الثالث: ظاهر حديث أبي سعيد رضي الله عنه وجوب متابعة المؤذن في ألفاظ الأذان لأن هذا أمر، والأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا قول الظاهرية، وحكاه الطحاوي عن قوم من السلف
(3)
.
والقول الثاني: أن متابعة المؤذن مستحبة، وليست بواجبة، وهذا مذهب الجمهور
(4)
، والصارف للأمر عن الوجوب حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(1)
انظر: "فتح الباري"(2/ 91).
(2)
انظر: "الجمع بين الصحيحين"(3/ 443).
(3)
"شرح معاني الآثار"(1/ 146).
(4)
انظر: "المغني"(2/ 85)، "فتح الباري" لابن رجب (5/ 250).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغِيْر إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«على الفطرة» ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خرجت من النار» ، فنظروا فإذا هو راعي معزى
(1)
.
ووجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع المنادي ينادي، فقال غير ما قال، فدل على أن الإجابة غير واجبة.
لكن هذا الدليل ليس صريحاً في ذلك، فإنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تابع المؤذن ولم ينقله الراوي، اكتفاءً بالعادة، وحرصاً على نقل القول الزائد، ويحتمل أن يكون قبل صدور الأمر بإجابة المؤذن، والمقصود أن دلالته غير صريحة، وأصرح منه قوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن معه - كما سيأتي قريباً ـ:«إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» ، فهذا يدل على أن المتابعة غير واجبة، وذلك لأن المقام مقام تعليم، والحاجة داعية إلى بيان كل ما يحتاج هؤلاء، وقد لا يكون عندهم علم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في متابعة المؤذن، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه على ذلك مع دعاء الحاجة إليه دل على أن الإجابة غير واجبة، والله أعلم
(2)
.
الوجه الرابع: ظاهر حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن المتابع يقول مثل ما يقول المؤذن في جميع جمل الأذان، وحديث عمر رضي الله عنه وكذا حديث معاوية في إحدى روايات البخاري يفيد أنه يتابع بمثل ما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيحمل حديث أبي سعيد العام على الخاص وهو حديث عمر رضي الله عنه عملاً بنصوص السنة كلها، ولأن المعنى مناسب لإجابة الحيعلة بالحوقلة، كما سيأتي، وهذا هو المشهور عند الجمهور
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (382).
(2)
انظر: "الشرح الممتع"(2/ 75).
(3)
"فتح الباري"(2/ 91).
وقال ابن المنذر: (وقد يجوز أن يقول قائل: هذا من الاختلاف المباح، إن شاء قال كما يقول المؤذن، وإن شاء قال كما في خبر معاوية بن أبي سفيان، أيَّ ذلك قال فهو مصيب)
(1)
، وهذا القول عزاه ابن رجب إلى أبي بكر الأثرم، ومحمد بن جرير الطبري
(2)
.
والقول الثالث: أنه يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهذا قول لبعض الحنابلة، وكأنه أراد العمل بالحديثين، قال ابن رجب:(وهو ضعيف؛ لأن الجمع لم يرد).
والقول الأول أقوى؛ لأن حديث أبي سعيد مجمل، فسَّره حديث عمر رضي الله عنه والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، ولأن الراوي روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:«لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ولم يقل: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فدل على أنه لا يجمع بينهما ولا يذكر الحيعلة، بل يكتفي بالحوقلة.
والإجابة في الحيعلة بالحوقلة في غاية الحسن وتمام المناسبة، فإن السامع يجيب المؤذن بمثل ما يقول من ألفاظ الذكر والثناء على الله تعالى، وأما في النداء إلى حضور الصلاة بـ (حي على الصلاة حي على الفلاح)، فهذا دعاء ونداء، فالمناسبة أن العبد يظهر أنه عاجز عن حضور الجماعة والقيام بها إلا إذا قوَّاه الله تعالى وأعانه، فهو يقول: أنا أجيب هذا النداء وأحضر الجماعة ولكن بحول الله وقوته وإعانته وتوفيقه.
الوجه الخامس: يدخل في عموم حديث أبي سعيد رضي الله عنه القارئ ومن كان في ذكر أو دعاء، فإنه إذا سمع الأذان يتوقف عن القراءة والذكر ويجيب النداء؛ لأن إجابة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، بخلاف القراءة والذكر والدعاء فإن وقتها لا يفوت.
وكذا الطائف يجيب المؤذن حال طوافه؛ لأن إجابته من الذكر، والذكر
(1)
"الأوسط"(3/ 35).
(2)
"فتح الباري"(5/ 252).
مشروع في الطواف، وبالجملة فإجابة المؤذن مطلوبة من كل إنسان على حالٍ صالحةٍ لذكر الله تعالى، إلا في الأحوال التي نهى الشرع فيها عن الذكر كدخول الخلاء، وحال الجماع، ونحو ذلك.
وأما المصلي إذا سمع المؤذن فإنه لا يجيبه في الصلاة ولو كانت نفلاً، وهو قول أكثر أهل العلم
(1)
، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن في الصلاة لشغلاً»
(2)
.
وقال مالك: يجيبه في صلاة النافلة دون الفريضة
(3)
، وقال بعض المالكية: يجيبه مطلقاً
(4)
، ونقله صاحب «الإنصاف» وغيره عن شيخ الإسلام ابن تيمية
(5)
، لكن جاء في «الفتاوى» أنه قال:(إذا سمع المؤذن يؤذن وهو في صلاة فإنه يتمها، ولا يقول مثل ما يقول عند جمهور العلماء، وأما إذا كان خارج الصلاة في قراءة أو ذكر أو دعاء فإنه يقطع ذلك ويقول مثل ما يقول المؤذن؛ لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا تفوت)
(6)
.
أما المؤذن فهل يجيب نفسه؟ قولان:
من أهل العلم من قال
(7)
: يجيب نفسه، أخذاً بعموم حديث أبي سعيد رضي الله عنه؛ لأن المؤذن يُسمع نفسه، فيكون مأموراً بالإجابة، وقاسوه على تأمين الإمام بعد فراغه من الفاتحة مع المأمومين.
والقول الثاني: أن المؤذن لا يجيب نفسه، لأن قوله:«إذا سمعتم النداء» يدل بظاهره على التفريق بين المؤذن والسامع، فلا يدخل المؤذن في ذلك، ولأن المؤذن أتى بألفاظ الأذان فلا معنى لكونه يجيب نفسه، قال ابن رجب:(هذا هو الأرجح)
(8)
.
(1)
"المغني"(2/ 88)، "المنتقى"(1/ 131)، "المجموع"(3/ 118).
(2)
أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (538)(34).
(3)
"المدونة"(1/ 180).
(4)
"المنتقى"(1/ 131).
(5)
"الاختيارات" ص (39)، "الإنصاف"(1/ 426).
(6)
"الفتاوى"(22/ 72).
(7)
انظر: "الاستذكار"(4/ 21).
(8)
"قواعد ابن رجب"(2/ 29).
وأما القياس على تأمين الإمام ففيه نظر؛ لأن تأمين الإمام فيه نص خاص، والأصل عدم القياس في العبادات.
الوجه السادس: ظاهر حديث أبي سعيد أنه يتابع المؤذن، وإن تعدد المؤذنون، وأن ذلك لا يختص بأول أذان، وقد حكى القاضي عياض قولين في المسألة
(1)
:
القول الأول: استحباب متابعة كل مؤذن، أخذاً بظاهر الحديث، وهو من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، وهو من الطرق الدالة على التعليل على المشهور، وحينئذ يتكرر الحكم بتكرر علته
(2)
.
وقد اختار هذا القول جمع من أهل العلم، منهم العز بن عبد السلام فإنه قال:(وإن أذنوا مرتين أجاب كل واحد إجابة، لتعدد السبب، وإجابة الأول أفضل .. )
(3)
، ونقله عنه الحافظ ابن حجر
(4)
، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد جاء في «الاختيارات»: (ويجيب مؤذناً ثانياً وأكثر حيث يستحب ذلك، كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
، ومنهم النووي فإنه قال:(ولم أر فيه شيئاً لأصحابنا، والمسألة محتملة، والمختار أن يقال: المتابعة سنة متأكدة، يكره تركها، لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر بها، وهذا يختص بالأول؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وأما أصل الفضيلة والثواب في المتابعة فلا يختص، والله أعلم)
(6)
.
والقول الثاني: أن المتابعة تختص بالمؤذن الأول، وقال بعضهم: لا يجيب غير أذان مسجده الذي يصلي فيه؛ لأن ما عداه غير مدعو به، فلا يتابعه، وكذا لا يجيب إذا صلّى؛ لأنه غير مدعو به - أيضاً ـ
(7)
.
قالوا: والحديث محمول على الأذان المعهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن المؤذن واحد، ولا يمكن أن يؤذن اخر بعد أن تؤدى الصلاة.
(1)
"إكمال المعلم"(2/ 250).
(2)
"التمهيد" للإسنوي ص (283).
(3)
"فتاوى العز بن عبد السلام" ص (78).
(4)
"فتح الباري"(2/ 92).
(5)
ص (39).
(6)
"المجموع"(3/ 119).
(7)
انظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(2/ 473)، "الفروع"(1/ 281).
والأول أقوى، أخذاً بالعموم، ولأن الإجابة ذكر لله تعالى، فمن أجاب فهو على خير، وإجابة المؤذن في الأصل مستحبة لا واجبة.
وأما قول أصحاب القول الثاني: إنه لا يجيب؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان، ففيه نظر؛ لأن ظاهر الحديث أن كل سامع يقول كما يقول المؤذن، ومتابعة المؤذن ليست إجابة وحضور فقط، وإنما هي متابعة له على أذكار يقولها.
ويمكن أن يُؤَيَّدَ ذلك بتكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه، ولا يكتفى بالصلاة الأولى فقط، لتعدد السبب، وهو ذكر اسمه، فكذا هنا لتعدد السبب، وهو مجيء مؤذن اخر.
الوجه السابع: ظاهر الحديث أن متابعة المؤذن مشروطة بسماع الأذان، فمن شاهد المؤذن ولم يسمعه فإنه لا يقول شيئاً، ومن سمعه ولم يره - كما في هذا الزمان - فإنه يتابعه لقوله:«إذا سمعتم» فعلق الأمر بالسماع.
الوجه الثامن: ظاهر الحديث أنه يجيب المؤذن في التثويب لصلاة الفجر بـ (الصلاة خير من النوم) بمثل ما يقول، فيقول المجيب: الصلاة خير من النوم، وهذا هو الصواب؛ لأنه لم يرد في السنة استثناءٌ من هذا العموم، إلا في الحيعلتين، كما تقدم، وما عداهما يبقى على العموم، وأما ما ذكره بعض علماء الحنابلة والشافعية وغيرهم من أنه يقول:«صدقت وبررت» فليس عليه دليل
(1)
، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن قول المجيب:«صدقت وبررت» لا أصل له
(2)
. وقال الصنعاني: (هذا استحسان من قائله، وإلا فليس فيه سنة تعتمد)
(3)
.
الوجه التاسع: ظاهر الحديث أن متابعة المؤذن تكون عقب كل كلمة يقولها، لا معها ولا يتأخر عنها
(4)
.
(1)
انظر: "أحكام الأذان والنداء والإقامة" ص (429).
(2)
"التلخيص"(1/ 222).
(3)
"سبل السلام"(1/ 244).
(4)
"الإعلام"(2/ 471).
وإذا لم يسمع الأذان إلا في منتصفه، فقيل: يتابع فيما بقي، ويقضي ما فاته؛ لأن الأذان من الأذكار، والمسلم ينبغي له أن يحافظ على الأعمال الصالحة، فيقضي ما فاته منها، ومن ذلك الأذكار.
والقول الثاني: أنه يتابعه فيما سمع فقط، وما فاته فإنه يتركه لفوات محله، قال الشيخ عثمان النجدي في حاشيته على «المنتهى»:(فإن سمع بعضه، فالظاهر: أنه يتابع فيما سمع فقط)
(1)
، قال الشيخ محمد بن إبراهيم:(ولعل هذا أرجح)
(2)
.
الوجه العاشر: في الحديث دليل على فضل إجابة المؤذن، والإتيان بهذه الأذكار العظيمة، وهذا يدل على سعة فضل الله تعالى ورحمته بعباده، وكمال شريعته، حيث أُمر من سمع النداء بإجابة المؤذن من أجل أن يشمل أجر الأذان المؤذنين ومن سمعهم وتابعهم على أذانهم.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه»
(3)
.
وأخرجه أبو عوانة بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع المؤذن - قال: وقال ابن عامر: من قال حين يسمع المؤذن: - أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رضيت بالله رباً .. » الحديث
(4)
، وكذا أخرجه النسائي والترمذي وابن خزيمة، ولفظه قال:«من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً .. » الحديث
(5)
، وهذا يدل على أن السامع يقول بعد جواب المؤذن على الشهادتين: رضيت بالله رباً
…
إلخ،
(1)
(1/ 146).
(2)
"فتاوى ابن إبراهيم"(2/ 136).
(3)
أخرجه مسلم (386).
(4)
"مسند أبي عوانة"(1/ 283).
(5)
"عمل اليوم والليلة" رقم (73)، "جامع الترمذي"(210)، "صحيح ابن خزيمة"(421، 422).
أي: مرة واحدة، وهذا ذكره النووي
(1)
وغيره.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل كما يقولون، فإذا انتهيت، فَسَلْ تُعْطَ»
(2)
.
وهذا يفيد استحباب الدعاء بعد الفراغ من إجابة المؤذن؛ فإنه من مواطن الإجابة؛ لقوله: «فَسَلْ تُعْطَ» ، والله أعلم.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(4/ 329).
(2)
أخرجه أبو داود (524) -ومن طريقه البيهقي (1/ 410) - والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(44)، وأحمد (11/ 174) وابن حبان (4/ 593) كلهم من طريق ابن وهب، عن حُيَيَّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو به.
وهذا سند حسن؛ لأن حُيَيِّ بن عبد الله مختلف فيه، قال ابن عدي:(أرجو أنه لا بأس به إذا حدث عنه ثقة) وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق يهم)، وعليه فحديثه من قبيل الحسن، وباقي رجال السند رجال الصحيح، وقد حسنه الحافظ في "نتائج الأفكار"(1/ 367 - 368)، والألباني في "صحيح الكلم الطيب" ص (73).
كراهة أخذ الأجرة على الأذان
195/ 18 - وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبي الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله اجْعَلنِي إمَامَ قَوْمِي، قَالَ:«أنْتَ إمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بَأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّناً لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً» ، أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الله عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي رضي الله عنه، الأمير الفاضل المؤتمن - كما قال الذهبي - قدم في وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، فأسلموا، فأمَّره النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، لِمَا رأى من عقله وحرصه على الخير والدين، وله سبع وعشرون سنة، ثم أقره أبو بكر رضي الله عنه على الطائف، ثم عمر رضي الله عنه، ثم استعمله عمر على عُمان والبحرين، ثم سكن البصرة حتى مات بها سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفاً عن الردة، فقال لهم:(يا معشر ثقيف كنتم اخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أولهم ارتداداً)، فامتنعوا عن الردة.
روى عنه سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وموسى بن طلحة، وأبو العلاء، ومطرف ابنا عبد الله بن الشِّخِّير، وكل هؤلاء الرواة رووا عنه حديث الباب عند أحمد وغيره، وروى عنه اخرون، قال الذهبي: (له أحاديث في «صحيح مسلم»
(1)
وفي السنن)
(2)
.
(1)
انظر رقم (468، 2202، 2203).
(2)
"الطبقات"(5/ 508)، "السير"(2/ 374)، "الإصابة"(6/ 388).
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في «كتاب الصلاة» باب «أخذ الأجر على التأذين» (531)، والنسائي (2/ 23)، وأحمد (26/ 201)، والحاكم (1/ 199، 201)، من طريق حماد، عن سعيد الجُريري، عن أبي العلاء، عن مطرف بن عبد الله، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
…
فذكره.
وأخرجه أحمد - أيضاً - عن أبي العلاء، عن عثمان.
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم)، وهو كما قال، والجريري: اسمه: سعيد بن إياس، وهو من رجال الجماعة، وقد طرأ عليه الاختلاط، إلا أن سماع حماد - وهو ابن سلمة - منه قبل اختلاطه، كما ذكر الحافظ
(1)
.
وأبو العلاء: هو يزيد بن عبد الله بن الشخير، أخو مطرف.
وأخرجه الترمذي في كتاب «الصلاة» ، باب:«ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً» (209)، وابن ماجه (714) من طريق أشعث، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص قال: إن من اخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، وقال الترمذي:(حديث عثمان حديث حسن).
وبهذا يتضح أن إسناد الحديث عند الترمذي وابن ماجه يختلف عن الباقين، وكذا المتن، وعلى هذا فعزو الحديث للجميع يوهم أن الإسناد والمتن متحدان، والله أعلم.
وقد اختلفت نسخ الترمذي في الحكم على هذا الحديث، ففي «جامع الترمذي» بشرح ابن العربي
(2)
، وشرح المباركفوري
(3)
، وتحقيق أحمد شاكر: حديث حسن صحيح، وقد أضاف أحمد شاكر كلمة (صحيح) من بعض
(1)
"تهذيب التهذيب"(4/ 7).
(2)
"عارضة الأحوذي"(2/ 11).
(3)
"تحفة الأحوذي"(1/ 619).
المخطوطات، وقال:(يظهر أن نسخ الترمذي مختلفة في إثباتها اختلافاً قديماً)
(1)
.
لكن أكثر العلماء لم ينقلوا عن الترمذي إلا التحسين فقط، كابن قدامة
(2)
والنووي
(3)
والمزي
(4)
والحافظ في «البلوغ» كما هنا، وهو المثبت في تحقيق بشار عواد لجامع الترمذي
(5)
.
ثم إن (أشعث) الوارد في سند الترمذي وابن ماجه غير منسوب، فلذا اختلف فيه، فابن حزم روى الحديث من طريق ابن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحُمراني - عن الحسن، عن عثمان به
(6)
.
وقد تابع أحمد شاكر ابنَ حزم، وتابعه على ذلك - أيضاً - الألباني
(7)
.
وبالرجوع إلى مصنف ابن أبي شيبة وجدت هذا الإسناد، وليس فيه أنه ابن عبد الملك الحمراني، بل سقط منه اسم (أشعث) فصار عن الحسن، عن عثمان
(8)
، والظاهر أن هذه النسبة اجتهاد من ابن حزم ليس في محله، فإن المزي ساق إسناد ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن الأشعث، عن الحسن به، بدون تحديد، ولو كان معيناً ما تركه المزي
(9)
.
ويحتمل أنه أشعث بن سَوَّار الكندي، بل جزم بذلك ابن عبد الهادي فقال:(هو أشعث بن سوار، وقد تكلم فيه غير واحد)
(10)
.
ومما يؤيد ذلك أن المزي لما ترجم لحفص بن غياث ذكر أنه روى عن أشعث بن سوار، ورمز للترمذي وابن ماجه
(11)
، ولما ذكر روايته عن أشعث بن
(1)
"جامع الترمذي"(1/ 410).
(2)
"المغني"(2/ 70).
(3)
"المجموع"(3/ 126).
(4)
"تحفة الأشراف"(7/ 238).
(5)
(1/ 250).
(6)
"المحلى"(3/ 145).
(7)
"الإرواء"(1492).
(8)
"المصنف"(1/ 228).
(9)
"تحفة الأشراف"(7/ 238).
(10)
"التنقيح"(1/ 718).
(11)
"تهذيب الكمال"(7/ 56، 57).
عبد الملك الحراني لم يرمز له بشيء، وهكذا لما ترجم لأشعث بن سوار ذكر من الرواة عنه حفص بن غياث، ورمز لما تقدم
(1)
، ولما ترجم لأشعث بن عبد الملك ذكر من الرواة عنه حفص، ولم يرمز له بشيء
(2)
.
وبين الرجلين فرق، فالأول وهو ابن سوار ضعفه أحمد والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال عنه الحافظ في «التقريب»:(ضعيف)، وقال عن الثاني، وهو أشعث بن عبد الملك:(ثقة فقيه)، وعلى هذا فلعل تحسين الترمذي لهذا الحديث لوروده من طرق أخرى، ومنها ما تقدم عند أبي داود وغيره، والله أعلم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أنت إمامهم) أي: جعلتك إماماً لهم، وعدل إلى الجملة الإسمية للدلالة على الثبوت، فكأن إمامته حاصلة، وهو صلى الله عليه وسلم يخبر عنها.
قوله: (واقتد بأضعفهم) أي: راعِ حال الضعيف منهم في تخفيف الصلاة مع الإتمام حتى لا يَمَلَّ القوم، وعبر عن المراعاة بالاقتداء مشاكلة لاقتدائهم به، فكأنه قال: كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتد أنت - أيضاً - بضعفه، واسلك له سبيل التخفيف في القيام والقراءة.
قوله: (لا يأخذ على أذانه أجراً) أي: أجرة دنيوية؛ لأن الذي لا يأخذ على الأذان أجرة أقرب إلى الإخلاص، والحرصِ على إبراء الذمة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز سؤال الإمامة - وكذا الولاية - لقصد صالح، وهو مصلحة المسلمين وتوجيههم وتعليمهم، وليس هذا بمذموم بل هو محمود، لما فيه من الخير والمصلحة، وهذا مشروط بكون الإنسان يعلم من نفسه الكفاءة والقدرة على القيام بالمهمة التي أنيطت به.
أما طلبها لأجل الرياسة والاستعلاء على الناس وطلب الجاه والمنصب فهذا مذموم.
(1)
"تهديب الكمال"(3/ 264).
(2)
المصدر السابق (3/ 277).
الوجه الخامس: أنه يستحب للإمام مراعاة أحوال الضعفاء وكبار السن من المأمومين فلا يشق عليهم بطول الصلاة في القيام والركوع والسجود، ولا بطول الانتظار بحيث يشق عليهم التأخر، وسيأتي لذلك زيادة بيان في باب «صلاة الجماعة والإمامة» إن شاء الله تعالى.
ويؤخذ من ذلك مراعاة الضعفاء في كل شيء في السفر وفي الجهاد وفي مواساتهم بالمال ونحو ذلك؛ لأنه إذا طلب مراعاتهم في الصلاة التي هي عمود الإسلام، فغيرها من باب أولى.
وقد ورد عن مصعب بن سعد قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلاً على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» ، وفي رواية: أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم»
(1)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على تفضيل من يتولى الأذان حِسْبَةً ولا يأخذ على أذانه أجراً؛ لأن من كان كذلك يكون أكمل في رعاية الوقت لحرصه على الأذان، وإبراء ذمته، لما في قلبه من الدافع الإيماني القوي، بخلاف من يؤذن لأجل عرض الدنيا فقد يتساهل، ولا يكون عنده من الإخلاص والحرص ما عند ذاك.
وقد استدل بهذا الحديث على منع الاستئجار على الأذان متقدمو الحنفية، وابن حبيب من المالكية، وهو المشهور عند الحنابلة، وهو وجه عند الشافعية، وبه قال ابن حزم
(2)
.
ووجه الاستدلال - كما قال الصنعاني ـ: (أن من صفة المؤذن المأمور باتخاذه ألاَّ يأخذ على أذانه أجراً، فيكون دليلاً على أن من أخذ على أذانه أجراً ليس مأموراً باتخاذه)
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (2896)، والرواية الثانية للنسائي (6/ 45).
(2)
"بدائع الصنائع"(1/ 152)، "المجموع"(3/ 125)، "المحلى"(3/ 145)(8/ 191)، "المغني"(2/ 70)، "الخرشي على مختصر خليل"(1/ 441).
(3)
"سبل السلام"(1/ 246).
ولأن الأذان قربة لفاعله، والقربة لا يؤخذ عليها أجرة؛ لأن الأجرة تفوت الأجر، فلا يكون فيها أجر بالاتفاق؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، لا ما فُعل لأجل عرض الدنيا، وتقاس الإمامة على الأذان بجامع أن كلًّا منهما قربة.
والقول الثاني: جواز الاستئجار على الأذان والإمامة، وهذا رواية عند الحنابلة، والأصح عند الشافعية، والمشهور عند المالكية
(1)
؛ لأن الأذان عمل معلوم، يجوز أخذ الرِّزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه، كسائر الأعمال التي فيها مصلحة للمسلمين.
والقول الثالث: جواز الاستئجار على الأذان والإمامة عند الحاجة، وهو أن يكون الآخذ فقيراً، يأخذ الأجرة لحاجته ليستعين بها على العبادة، فالله تعالى يأجره على نيته، بخلاف الغني فلا حاجة له إلى الأجرة، وهذا القول لمتأخري الحنفية، وهو المفتى به، وهو قول ثالث في مذهب الحنابلة، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
لما تقدم، ولحاجة المسلمين إلى المؤذن والإمام، والحاجة تقتضي جواز الاستئجار، لظهور التواني في الأمور الدينية، وفتور رغبات الناس وكسلهم في الاحتساب، لعدم أو قلة الأعطيات من بيت المال. وهذا أظهر الأقوال إن شاء الله.
وأما حديث الباب فليس فيه دلالة على التحريم، وإنما غاية ما يدل عليه هو الندب.
قال ابن قدامة: (ولا نعلم خلافاً في جواز أخذ الرِّزق على الأذان)
(3)
، والرِّزق: بكسر الراء هو ما ينتفع به، وهو ما يعرف في وقتنا بالراتب، والرَّزق: بالفتح هو المصدر، وهو الإعطاء، وإنما جاز أخذ الرزق على الأذان لأن بالمسلمين حاجة إليه وبيت المال إنما وضع لمصالح المسلمين، والأذان والإمامة من مصالح المسلمين، وشرط ذلك ألا يوجد متطوع بالأذان،
(1)
المصادر السابقة.
(2)
"الفتاوى"(24/ 316)(30/ 207).
(3)
"المغني"(2/ 70).
فإن وجد لم يُرزق غيره، لعدم الحاجة إليه، وحمايةً لبيت المال من أن يصرف بدون حاجة إليه.
لكن ذكر ابن مفلح توجه احتمال جواز رزقه من بيت المال وإن وجد متطوع إذا امتاز بحسن الصوت
(1)
، ولعل الصفة المقصودة غير حسن الصوت تلحق به، كأن يكون طالب علم، ينوب عن الإمام، أو فيه منفعة، ونحو ذلك
(2)
.
وبين الرزق والإجارة فروق، ومن أهمها:
1 -
أن الرزق أدخل في باب الإحسان والمسامحة، بينما الإجارة أدخل في باب المكايسة والمعاوضة والمغابنة.
2 -
أنه لا يشترط في الرزق مقدار من العمل ولا أجل ينتهي إليه، بخلاف الإجارة فلا بد من شروطها، كمعرفة الأجل ومقدار المنفعة، ونحو ذلك من شروطها، والله أعلم
(3)
.
(1)
"الفروع"(1/ 323).
(2)
انظر: "الروض المربع بحاشية ابن عثيمين" ص (63).
(3)
راجع: "الفروق" للقرافي (3/ 3).
مشروعية الأذان في السفر
196/ 19 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وإذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ
…
» الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو سليمان، مالك بن الحويرث، ويقال: ابن الحارث الليثي رضي الله عنه، قدم مع نفر من قومه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لتبوك، كما ذكره ابن سعد، وكانوا شببة متقاربين، فأقاموا عنده عشرين ليلة، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فلما رأى أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، قال:«ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلِّموهم، ومروهم»
(1)
.
سكن مالك البصرة، ومات فيها سنة أربع وستين، وذكر ابن عبد البر، ومن بعده النووي أنه مات سنة أربع وتسعين، لكن لما نقل الحافظ ما ذكر ابن عبد البر، قال:(والأول هو الصحيح، وبه جزم ابن السَّكَنِ وغيره)، روى عنه ابنه عبد الله، وأبو قلابة - عبد الله بن زيد الجرمي - وأبو عطية، وسلمة الجرمي وغيرهم
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الأذان» وغيره، وأولها باب «من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد» (628)، ومسلم (674)، وأبو داود
(1)
أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674).
(2)
"الاستيعاب"(9/ 307)، "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 80)، "الإصابة"(9/ 43).
(589)
، والترمذي (205)، والنسائي (2/ 9)، وابن ماجه (979)، وأحمد (3/ 436، 5/ 53)، كلهم من طريق أيوب بن أبي تميمة، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال:«ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصَلُّوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم» ، وهذا اللفظ للبخاري، ورواه - أيضاً - عن أبي قلابة خالد الحذاء في «الصحيحين» وغيرهما، وهذا الحديث له عدة ألفاظ، وهو عند بعضهم مطولاً، وعند بعضهم مختصراً.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الأذان، وأنه فرض كفاية، فإذا أذن واحد من الجماعة كفى، لحصول المقصود، كما تقدم في أول الباب، وإذا كان البلد واسعاً بحيث لا يكفي مؤذن واحد جُعل اثنان أو أكثر حسب حاجة البلد.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأذان لا يصح إلا إذا حضرت الصلاة وذلك بدخول وقتها، وهذا نص عام لا يستثنى منه شيء، ولأن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة، والإعلام بدخول وقت الشيء لا يكون إلا بعد دخوله.
وأما ما يذكره بعض الفقهاء من أنه يجوز الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها فهو قول مرجوح، والصواب أنه لا يصح الأذان إلا بعد دخول الوقت مطلقاً في جميع الصلوات، وأما أذان بلال الذي يكون اخر الليل فهو ليس للفجر، ولهذا لا يقال فيه: الصلاة خير من النوم، كما تقدم.
الوجه الخامس: يصح أن يستفاد من قوله: «إذا حضرت الصلاة» أن المراد حضور فعلها، وذلك بأن يكون الأذان عند إرادة فعل الصلاة، لا عند دخول الوقت، كما لو كان جماعة في السفر أو في نزهة وأرادوا تأخير صلاة العشاء - مثلاً - عن أول وقتها وهو مغيب الشفق إلى وقتها الأفضل، فالأفضل في حقهم تأخير الأذان إلى إرادة فعل الصلاة.
ويؤيد ذلك حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبرد» ثم أراد أن يؤذن فقال له: «أبرد» حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة»
(1)
.
قال ابن رجب: (وظاهر حديث أبي ذر الذي خرجه البخاري يدل على أنه يشرع الإبراد بالأذان عند إرادة الإبراد بالصلاة، فلا يؤذن إلا في وقت يُصَلَّى فيه، فإذا أُخِّرت الصلاة أُخر الأذان معها، وإن عُجِّلَتْ عُجِّل الأذان)
(2)
، وعلى هذا فالأذان عند فعل الصلاة خاص بالسفر، وأما في الحضر فإن الأذان يكون عند حضور الصلاة، أي: دخول وقتها.
الوجه السادس: الحديث دليل على مشروعية الأذان للمسافر، وقد بوب البخاري على حديث مالك بن الحويرث بقوله:«باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد» ، وبقوله:«باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة» ، وساق في الباب الأخير هذا الحديث من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بلفظ:«إذا أنتما خرجتما فأذنا ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما»
(3)
، ولفظه عند الترمذي من هذا الطريق:(قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وابن عم لي، فقال لنا: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما»)
(4)
.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم: اختاروا الأذان في السفر).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الأذان ولا الإقامة حضراً ولا سفراً، ولأنهما من أعلام الدين الظاهرة.
قال ابن المنذر: (فالأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان، وأَمْرُهُ على الفرض .. )
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (539).
(2)
"فتح الباري"(4/ 249).
(3)
"صحيح البخاري"(360).
(4)
"جامع الترمذي"(205).
(5)
"الأوسط"(3/ 24).
مشروعية الانتظار بين الأذان والإقامة
197/ 20 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الاكِلُ مِنْ أَكْلِهِ» الحَدِيثَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَضَعَّفَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصلاة» ، باب «ما جاء في الترسل في الأذان» (195) من طريق عبد المنعم، وهو صاحب السِّقَاءِ
(1)
، قال: حدثنا يحيى بن مسلم، عن الحسن وعطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال:«يا بلال، إذا أذنت فترسَّل في أذانك، وإذا أقمت فاحدُر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغُ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعْتَصِرُ إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني» ، هذا لفظ الترمذي.
وقال الترمذي: (حديث جابر هذا لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبد المنعم، وهو إسناد مجهول، وعبد المنعم شيخ بصري).
فهذا الحديث ضعيف جداً، وعلته:
1 -
عبد المنعم وهو ابن نُعيم الأسواري البصري، قال فيه أبو حاتم والبخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي:(ليس بثقة)
(2)
، وقال ابن حبان:
(1)
لعله كان يسقي الناس الماء.
(2)
"تهذيب التهذيب"(6/ 382).
(منكر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد بأوابد)
(1)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(متروك)، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وحده.
2 -
يحيى بن مسلم شيخ عبد المنعم، وهو يحيى البكَّاء، قال أحمد:(ليس بثقة)، وكذا قال أبو داود والنسائي
(2)
، وقال في «التقريب»:(مجهول).
ومدار هذا الحديث عليه، وقد رواه راوٍ اخر عند الحاكم (1/ 204) وهو عمرو بن فائد، عن يحيى، وهو ضعيف - أيضاً - قال الحاكم:(لا أعرف له إسناداً غير هذا)، وعمرو بن فائد: قال فيه الدارقطني: (متروك)
(3)
، قال أحمد شاكر:(ومن الطريف فيه أن له إسنادين ضعيفين - يقصد إسناد عمرو بن فائد، وإسناد عبد المنعم - عَرَفَ الترمذي أحدهما ولم يعرف الآخر، وعرف الحاكم الثاني، ولم يعرف الأول)
(4)
.
وقوله في اخر الحديث: «ولا تقوموا حتى تروني» ، هذه الجملة قد رويت بإسناد صحيح
(5)
.
وقد ورد في الباب حديث أبي هريرة
(6)
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما
(7)
، وعن عمر رضي الله عنه من قوله
(8)
. وكلها واهية، ومع ذلك فهذه الأحاديث معانيها صحيحة، تدل عليها عمومات الشريعة ومقاصدها في الأحكام الشرعية، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا أذنت فترسَّل) الترسُّل: التمهل والتأني، من قولهم: جاء فلان على رِسْله، أي: على مهله، وهو بكسر الراء وسكون السين.
قوله: (وإذا أقمت فاحدُرْ) بضم الدال من حَدَرَ يَحْدُرُ، من باب (قَتَلَ) يقال: حدر الرجل الإقامة: أسرع بكلماتها.
(1)
"المجروحين"(774).
(2)
"تهذيب التهذيب"(11/ 244).
(3)
"الميزان"(3/ 283).
(4)
"جامع الترمذي"(1/ 374).
(5)
أخرجه البخاري (638)، ومسلم (604).
(6)
أخرجه البيهقي (1/ 429).
(7)
رواه الدارقطني (1/ 238).
(8)
رواه الدارقطني (1/ 238)، والبيهقي (1/ 328).
قوله: (والمعتصر .. ) هو من يؤذيه بول أو غائط، أي: يفرغ الذي يحتاج إلى الغائط ويعصر بطنه وفرجه.
قوله: (الحديثَ .. ) بالنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف، أي: اقرأ الحديث، أو أتمَّ الحديث، ونحو ذلك، وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ حذف خبره، أي: الحديث له بقية، ونحو ذلك، وبالجر على تقدير: إلى آخر الحديث.
وهذه العبارة يذكرها المؤلفون وغيرهم إشارة إلى أنه لم يُستوفَ الحديث ولم يُذكر بتمامه، وإنما اقتصر منه على المقصود، ومثل هذا قولهم: الآية أو البيت.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي في الأذان التمهل والتأني وفي الإقامة الإسراع والحدر؛ لأن الأذان دعوة للغائبين فناسب فيه التمهل؛ لأنه أبلغ في الإعلام؛ لأن بعض الناس قد لا ينتبه لأوله فينتبه لآخره.
وأما الإقامة فهي دعوة للحاضرين فلا يحتاجون فيها ما يحتاج إليه البعيد، فكان الإسراع بها أنسب ليفرغ منها بسرعة، فيأتي بالمقصود وهو الصلاة، وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق مِسْعَرٍ، عن أبي بكر بن حفص قال:(كان ابن عمر يَحْذِمُ الإقامة)
(1)
.
والحذم: بالذال المعجمة مصدر (حَذَمَ، يَحْذِمُ) من باب (ضرب): الإسراع في الشيء، وكل شيء أسرعت فيه فقد حَذَمْتَهُ.
وليس من التمهل في الأذان المبالغة في التمطيط والتلحين الذي عليه بعض المؤذنين، بل يكون أذاناً سمحاً، سكتاته خفيفة، ومده واضح، لا تمطيط فيه، ولا تلحين، وقد تقدم بيان ذلك.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي التراخي بين الأذان والإقامة وعدم العجلة، بل يعطى الناس وقتاً يفرغون مما هم فيه من الأكل
(1)
"المصنَّف"(1/ 195) وإسناده صحيح.
واللبس والطهارة ونحو ذلك، ليتمكنوا من حضور الجماعة، وإدراك الصلاة من أولها.
والحديث وإن كان إسناده ضعيفاً إلا أن المعنى الذي من أجله شرع الأذان يقويه، فإن الأذان نداء لغير الحاضرين ليحضروا للصلاة، فلا بد من تقدير وقت يتسع للتأهب للصلاة وحضورها وإلا لضاعت الفائدة من النداء؛ لأن غالب الناس لا يقومون إلى الصلاة إلا عند سماع الأذان.
وقد ترجم البخاري في كتاب «الأذان» بقوله: بابٌ «كم بين الأذان والإقامة» ؟ وساق فيه حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «بين كل أذانين صلاة .. » ، وحديث أنس رضي الله عنه في صلاة الصحابة ركعتين بعد أذان المغرب
(1)
.
ونقل ابن بطال عن بعض الفقهاء أنه لا حدَّ لذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت
(2)
.
وقد دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم على السنة في ذلك وعدم العجلة، ففي الفجر كان عليه الصلاة والسلام يصلي بعد الأذان سنة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن، وقد يتحدث مع عائشة رضي الله عنها ثم يخرج إلى الصلاة، وهذا ثابت في «الصحيحين» .
وكان في المغرب - وهي أعجل الصلوات - ينتظر بعد الأذان وقتاً قليلاً، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يركعون ركعتين قبل الإقامة، كما تقدم، وفي الظهر كان يؤخر الصلاة في السفر والحضر حتى يحصل الإبراد، فعلى من شرفه الله تعالى بإمامة الناس أن يعطيهم وقتاً مناسباً بعد الأذان ليتمكنوا فيه من الطهارة والحضور وإدراك الصلاة من أولها، وأداء السنة الراتبة بالنسبة للصلوات التي لها رواتب، كالفجر والظهر، ولا ينبغي له إطالة الانتظار بين الأذان والإقامة، لئلا يشق على الحاضرين، لا سيما من يأتي إلى المسجد متقدماً، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(2/ 106).
(2)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاري"(2/ 252).
مشروعية الوضوء للأذان
198/ 21 - وَلَهُ: عَنِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُؤَذِّنُ إلاَّ مُتَوَضِّئ» وَضَعَّفَهُ أيضاً.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في «أبواب الصلاة» ، باب «ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء» (200) من طريق الوليد بن مسلم، عن معاوية بن يحيى الصَّدَفي، عن الزهري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
فذكره.
وهذا إسناد ضعيف جداً، ضعفه الترمذي بقوله:(الزهري لم يسمع من أبي هريرة) وذلك أن الزهري ولد سنة إحدى وخمسين، وأبو هريرة توفي سنة تسع وخمسين، وإن كان ذلك يحتمل السماع إلا أنه لم يثبت ذلك.
وفيه - أيضاً - الوليد بن مسلم، وهو معروف بتدليس التسوية، وقد عنعنه.
وفيه - أيضاً - معاوية بن يحيى، قال ابن معين:(ليس بشيء)، وقال ابن عدي:(عامة رواياته فيها نظر)، وقال ابن حبان:(منكر الحديث جدّاً، كان يشتري الكتب ويحدث بها، ثم تغير حفظه .. )
(1)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(ما حدث بالشام أحسن مما حدث بالرَّي).
وقد أخرج الترمذي الحديث موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه (201)، من
(1)
"المجروحين"(2/ 334)، "تهذيب التهذيب"(10/ 197).
طريق ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب قال: قال أبو هريرة: (لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ)، وقال الترمذي:(هذا أصح من الحديث الأول).
لكنه منقطع، كما تقدم، وعليه فالحديث لا يصح لا مرفوعاً ولا موقوفاً.
الوجه الثاني: ظاهر الحديث اشتراط الطهارة للأذان، ولكن هذا لا يتم؛ لأن الحديث ضعيف، فلو أذن على غير طهارة صح أذانه، ولكن تستحب الطهارة للأذان؛ لأنه عبادة وذكر لله تعالى، فينبغي الإتيان به على طهارة، وقد ورد في حديث المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فلم يردَّ عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال:«إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طُهر» أو قال: «على طهارة»
(1)
.
وهذا - كما قال النووي ـ: (أصح ما يحتج به على شرعية الطهارة للأذان)
(2)
؛ لأنه ذكر لله تعالى وثناء عليه، ولأن عدم الطهارة يحوج المؤذن للخروج من المسجد، وقد يشغله شاغل فيأتي الإمام وهو لم يتوضأ، والإقامة من باب أولى، فتسن لها الطهارة، لقربها من الدخول في الصلاة، ولو أقام وهو على غير طهارة صح، لكن إن كان طاهراً فهو أفضل حتى يتمكن من الدخول مع الإمام من أول الصلاة.
أما أذان الجنب فمن أهل العلم من قال: لا يصح أذان الجنب، لهذا الحديث.
والقول الثاني: أنه يصح أذان الجنب، ونسبه ابن قدامة إلى أكثر أهل العلم
(3)
، قالوا: لأن الجنابة أحد الحدثين، فلم تمنع صحة الأذان، كالحدث
(1)
أخرجه أبو داود (17)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (350)، وأحمد (34/ 361) وغيرهم بأسانيد صحيحة.
(2)
"المجموع"(3/ 105).
(3)
"المغني"(2/ 68).
الأصغر، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه يكره الأذان للجنب
(1)
، وجاء في «الاختيارات» أن أكثر الروايات عن الإمام أحمد المنع من أذان الجنب، وعنه في الإعادة روايتان
(2)
، واختار الخرقي في «مختصره» الإعادة
(3)
.
هذا إذا لم تكن المنارة في المسجد، فإن كانت في المسجد فقد تقدم في «الطهارة» حكم دخول الجنب المسجد، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(26/ 190).
(2)
"الاختيارات" ص (37).
(3)
"المغني"(2/ 67).
الحكم إذا أذن رجل وأقام آخر
199/ 22 - وَلَهُ: عَنْ زِيَادِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» وَضَعَّفَهُ أيضاً.
200/ 23 - وَلأبي دَاوُدَ: في حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنا رَأَيْتُهُ - يَعْنِي: الأذَان - وأنَا كُنْتُ أُريدُهُ. قَالَ: «فَأَقِمْ أَنْتَ» وَفِيهِ ضَعْفٌ أَيضاً.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو زياد بن الحارث الصُّدائي - بضم الصاد، نسبة إلى صُداء: اسم قبيلة في اليمن - حليف بني الحارث بن كعب، نزل مصر، بايع النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن بين يديه، له حديث طويل في قصة إسلامه
(1)
، جاء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له:(إنك مطاع في قومك يا أخا صُداء) وجاءت فيه اللفظة المذكورة في هذا الباب، ومدار هذه القصة على عبد الرحمن بن زياد
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث زياد رضي الله عنه: فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصلاة» ، باب «ما جاء أن من أذن فهو يقيم» (199)، وأبو داود (514)، وابن ماجه (717)، وأحمد (29/ 79، 80)، والبيهقي (1/ 399)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن زياد - يعني الأفريقي - أنه سمع زياد بن نُعيم الحضرمي، أنه
(1)
انظر: "فتوح مصر" لابن عبد الحكم ص (312 - 313)، "المعرفة والتاريخ"(2/ 495)، "دلائل النبوة"(5/ 355).
(2)
"الاستيعاب"(4/ 34)، "الإصابة"(4/ 27).
سمع زياد بن الحارث الصدائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن يا أخا صُداء» ، قال: فأذنت، وذلك حين أضاء الفجر، قال: فلما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إلى الصلاة، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يقيم أخو صُداء، فإن من أذن فهو يقيم» .
والحديث ضعفه الترمذي؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وهو ضعيف عند أهل الحديث، قال الحافظ في «التقريب»:(ضعيف في حفظه .. ) وقد تقدم الكلام عليه عند الحديث (175).
أما حديث عبد الله بن زيد: فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» بابٌ «في الرجل يؤذن ويقيم اخر» (512)، وأحمد (26/ 397)، من طريق أبي سهل محمد بن عمرو، عن عبد الله بن محمد
(1)
عن عمه عبد الله بن زيد قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أشياء
(2)
لم يصنع منها شيئاً، قال: فأُري عبد الله بن زيد الأذان في المنام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:«ألقه على بلال» فألقاه عليه، فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده، فقال:«فأقم أنت» ، وعند أحمد:(فأقام هو، وأذن بلال).
وهذا إسناد ضعيف، والحديث صحيح بغير هذا اللفظ - كما تقدم - وسبب ضعف هذا الإسناد: محمد بن عمرو الواقفي، وهو أبو سهل، كما وقع في «مسند أحمد» ، ووُصِفَ بالواقفي عند أبي داود الطيالسي في «مسنده» (2/ 425)، والبيهقي (1/ 499).
ومحمد هذا ضعيف، فقد ضعفه ابن معين، وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه: فضعفه جداً، وقال ابن القطان:(محمد بن عمرو ضعيف لا يساوي شيئاً)
(3)
، وقال ابن عبد الهادي: (أبو سهل محمد بن عمرو، وهو
(1)
في "السنن": (محمد بن عبد الله) وفي "المسند"(عبد الله بن محمد). وانظر: "بيان الوهم والإيهام"(3/ 348).
(2)
أي: من البوق والناقوس والراية والنار.
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 348)، "تهذيب التهذيب"(9/ 336).
الأنصاري، وهو ضعيف، تكلم فيه يحيى بن معين وغيره)
(1)
.
الوجه الثالث: حديث زياد بن الحارث يدل على أن الإقامة حق لمن أذن، فلا يصح من غيره أن يتولاها، ولكن الحديث ضعيف كما علمت، فلا ينهض دليلاً على المنع، فيجوز أن يؤذن شخص ويقيم اخر، كما يدل عليه حديث عبد الله بن زيد، وهو وإن كان ضعيفاً - كما تقدم - لكنه يقوي الأصل، وهو جواز كون المقيم غير المؤذن، كما ذكر الصنعاني
(2)
، وكأنه رأى أن الإقامة عبادة مستقلة عن الأذان، فجاز أن يقعا من اثنين، فإن تولاهما شخص واحد فهو أفضل، لأجل ان يلاحظ الإقامة كما يلاحظ الأذان، حتى لا يقع تفريط في الإقامة فيختل الأمر.
والظاهر أن هذا هو فعل بلال وأبي محذورة رضي الله عنهما، على أن حديث الصدائي أقوم إسناداً من حديث عبد الله بن زيد، ثم إن حديث عبد الله بن زيد كان في السنة الأولى، وحديث الصدائي بعده بلا شك، والأخذ باخر الأمرين أولى، ثم إن حديث عبد الله بن زيد خاص به من أجل الرؤيا، وحديث الصدائي عام، والله أعلم.
(1)
"التنقيح"(1/ 290).
(2)
"سبل السلام"(2/ 250).
الأذان موكول إلى المؤذن والإقامة إلى الإمام
201/ 24 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «المُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بِالأَذَانِ، وَالإمَامُ أَملَكُ بِالإقَامَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ.
202/ 25 - وَلِلْبَيْهَقِيِّ نحْوُهُ: عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه ابن عدي في «الكامل» (4/ 12) في ترجمة شريك القاضي، من طريق يحيى بن إسحاق، ثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين» .
قال ابن عدي: (وهذا اللفظ لا يروى إلا عن شريك، من رواية يحيى بن إسحاق عنه، وإنما رواه الناس عن الأعمش بلفظ اخر، وهو قوله: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين»)
(1)
.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي (207)، وأبو داود (1/ 143)، وأحمد (12/ 89)، وهو حديث صحيح.
أما حديث الباب فهو حديث ضعيف من أجل شريك بن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ، وقد تفرد به، ولذا قال البيهقي (2/ 19):(إن الحديث ليس بمحفوظ)، ولكن يؤيد الحديث ما ورد عن علي رضي الله عنه، ويؤيد الحديثين عمل النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي إن شاء الله.
(1)
انظر: "المسند"(14/ 485)، "تحفة الأحوذي"(1/ 613).
وأما أثر علي رضي الله عنه: فقد أخرجه البيهقي (2/ 19) من طريق محمد بن غالب، أنبأ أبو عمرو الحوضي، وعمرو بن مرزوق، ومسلم بن إبراهيم قالوا: أنبأنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال:(المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة) فهو بلفظ المرفوع تماماً، وليس كما قال الحافظ، إلا إن كان يقصد الزيادة التي في اخره، وهي قوله: (اللهم أرشد الأئمة
…
).
وهذا الأثر إسناده قوي، ورجاله ثقات، ومحمد بن غالب الملقب بـ (تمتام) وثقه الدارقطني، وقال:(وهم في بعض الأحاديث)، قال الذهبي:(حافظ مكثر عن أصحاب شعبة)
(1)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه
قوله: (المؤذن أملك بالأذان) أي: إن أمره موكول إليه، فكأنه مالك له، لأنه أمين على الوقت.
قوله: (والإمام أملك بالإقامة) أي: إن أمرها موكول إليه، فكأنه مالك لها؛ لأن الصلاة لا تقام إلا بأمره.
قوله: (اللهم أرشد الأئمة) أي: وفقهم للعمل بما تكفلوا به والخروج من عهدته.
قوله: (واغفر للمؤذنين) أي: تجاوز عما عساه يقع منهم من التقصير في الأمانة التي تحملوها بسبب تقدم أو تأخر، ونحو ذلك.
قوله: (الإمام ضامن .. )، الضامن بمعنى: الحافظ والراعي، والضمان بمعنى: الحفظ والرعاية، فالإمام يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم، والمؤذن مؤتمن: أي: أمين الناس على صلاتهم وصيامهم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المؤذن أملك بالأذان، بمعنى: أن ابتداء الأذان موكول إليه؛ لأنه أمين على الوقت، فمراقبته منوطة به.
(1)
"الميزان"(3/ 681).
والإمام أملك بالإقامة، بمعنى: أنه أحق بها، فلا يقيم المؤذن إلا بإشارته، فالأمر موكول إليه، فهو الذي يتحرى وقت الإقامة، وينظر في حال الجماعة، فيقدم إن رأى التقديم، ويؤخر إن رأى التأخير، مراعاةً للمصلحة الشرعية في ذلك.
والعمدة في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي كان يأمر بالإقامة ويأذن فيها، وبلال وغيره هو المسؤول عن الأذان.
وقد روى جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان بلال يؤذن إذا دحضت - يعني الشمس - فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه)
(1)
.
وفي حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة
(2)
.
وقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني»
(3)
، وظاهر هذا أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، والحق أنه لا معارضة بينهما، ووجه الجمع أن بلالاً يراقب وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا راه شرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا إلى الصلاة، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في وقت قيام الناس إلى الصلاة، وأحسن ما قيل في ذلك ما ورد عن الإمام مالك أنه قال:(وأما قيام الناس حين تقام الصلاة فإني لم أسمع في ذلك بحدٍّ يقام له، إلا أني أرى ذلك على قدر طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف، ولا يستطيعون أن يكونوا كرجل واحد)
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (606).
(2)
تقدم تخريجه أول "الأذان".
(3)
تقدم تخريجه عند الحديث (197).
(4)
"الموطأ"(1/ 71).
استحباب الدعاء بين الأذان والإقامة
203/ 26 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (67)، وهو في «السنن الكبرى» (9/ 22)، وابن خزيمة (67)، من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» ، وعند ابن خزيمة في رواية:« .. فادعوا» ، وأخرجه أحمد (20/ 41) بهذه الزيادة بهذا الإسناد، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، قال ابن القطان:(هذا إسناد جيد، وبُريد ثقة، فاعلمه)
(1)
.
والحديث أخرجه أبو داود (521)، والترمذي (212)، والنسائي (68)، وأحمد (19/ 234)، والبيهقي (1/ 410)، والبغوي في «شرح السنة» (2/ 289)، من طريق سفيان الثوري، عن زيد العمِّيِّ، عن أبي إياس - يعني معاوية بن قُرَّةَ - عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً.
وهذا الإسناد ضعيف، لضعف زيد بن الحوَاري العمِّيِّ - بكسر الميم مشددة - قال أبو زرعة فيه:(واهي الحديث، كان شعبة لا يحمد حفظه)، وقال ابن معين:(لا شيء)، وقال أبو حاتم:(يكتب حديثه، ولا يحتج به) وقال الإمام أحمد: (صالح)
(2)
، لكن إن كان ضعفه من سوء حفظه فإن مجيء
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 227).
(2)
"تهذيب التهذيب"(3/ 351).
الحديث من طرق أخرى - ومنها ما تقدم - يدل على أنه قد حفظ الحديث.
فيكون الحديث من قبيل الحسن لغيره؛ لأن له طرقاً أخرى، ولذا قال الترمذي:(حديث حسن)، وفي طبعة أحمد شاكر:(حسن صحيح)
(1)
، وهذا فيه نظر؛ فإن هذه الزيادة لم ترد في نسخ أخرى، وقد وضعها أحمد شاكر بين معقوفتين، قال ابن حجر: (وهذا حديث حسن، وهو غريب من هذا الوجه، وسكت عليه أبو داود، إما لحسن رأيه في زيد العمِّي، وإما لشهرته في الضعف، وإما لكونه في فضائل الأعمال، وضعفه النسائي، وأما الترمذي فقال: هذا حديث حسن
…
، وقد نقل المصنف - يعني النووي - أن الترمذي صححه، ولم أر ذلك في شيء من النسخ التي وقفت عليها
…
، ويبعد أن الترمذي يصححه مع تفرد زيد العمِّي به، وقد ضعفوه)
(2)
. اهـ. ببعض تصرف.
وقد أخرجه الترمذي - أيضاً - في كتاب «الدعوات» (3594)، من طريق يحيى بن اليمان، عن سفيان به. ولفظه:«الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» ، قال: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: «سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» ، وقال الترمذي:(حديث حسن، وقد زاد يحيى بن اليمان في هذا الحديث هذا الحرف .. ).
وقد تعقبه الألباني فقال: (كلاَّ، بل هو ضعيف منكر بهذه الزيادة، تفرد بها ابن اليمان، وهو ضعيف لسوء حفظه، أما الحديث فصحيح بدونها)
(3)
، والحق أنه لا داعي لهذا التعقب، لأن الترمذي حسن الحديث، ثم قال: وقد زاد يحيى
…
فأشار إلى الزيادة.
ولعل الحافظ اقتصر على إسناد النسائي وابن خزيمة؛ لأن سندهما أصح، ولم يذكر أبا داود والترمذي، لما تقدم في سندهما من الكلام في زيد العمّي، وهذا من دقته رحمه الله.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الدعاء بين الأذان والإقامة وأن
(1)
"جامع الترمذي"(1/ 416).
(2)
"نتائج الأفكار"(1/ 364).
(3)
"الإرواء"(1/ 262).
المسلم مأمور بذلك لقوله: «فادعوا» كما تقدم في بعض الروايات، فيستحب الدعاء والإكثار منه في هذا الوقت؛ لأن صاحبه حري بالإجابة، فإن من أُلهم الدعاء فقد أُريد به الإجابة؛ لأن الله تعالى يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويقول سبحانه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وهذا كله من كرم الله تعالى وفضله على عباده.
فينبغي للمسلم أن يبادر إلى حضور الصلاة، فإن المتقدم إلى المسجد يتابع المؤذن، ويدعو بين الأذان والإقامة، وفي ذلك ثواب عظيم، بخلاف المتأخر فقد لا يتابع المؤذن، ولا يدعو بين الأذان والإقامة، لغفلته أو لانشغاله، أو لغير ذلك من الصوارف، فيفوته بذلك خير كثير، والله المستعان.
استحباب الدعاء بطلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان
204/ 27 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ القَائِمَةِ، اتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» ، باب:«ما جاء في الدعاء عند الأذان» ، (529)، والترمذي (211)، والنسائي (2/ 26)، وابن ماجه (722)، من طريق علي بن عياش، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره.
والحديث رواه عن علي بن عياش اثنا عشر نفساً منهم البخاري، وأحمد، وأبو داود، واخرون، رووه من طريقه، وإلا فهو سند فرد في طبقاته الأربع، والحديث أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» ، باب «الدعاء عند النداء»
(1)
، والحافظ مع حفظه واطلاعه غاب عن ذهنه أنه في البخاري بهذا الإسناد في الباب المذكور (614)، فعزاه إلى أصحاب السنن فقط، لكن وقع في هذا الحديث زيادات، وأهمها اثنتان:
الأولى: زيادة «والدرجة الرفيعة» ، وهي عند ابن السني في «عمل اليوم
(1)
نقل ابن أبي حاتم في "العلل"(2/ 172 - 173) عن أبيه أنه قد طُعن في هذا الحديث.
وانظر: "شرح العلل"(2/ 759)، "فتح الباري"(5/ 265) كلاهما لابن رجب.
والليلة» برقم (95) وهي مدرجة من بعض النساخ؛ لأنه روى الحديث من طريق النسائي بالإسناد المتقدم، وهي ليست عند النسائي، ولا عند غيره، قال الحافظ:(وليس في شيء من طرقه ذكر الدرجة الرفيعة)
(1)
.
الثانية: زيادة «إنك لا تخلف الميعاد» في اخر الحديث، وهي زيادة شاذة وقعت عند البيهقي (1/ 410)، من طريق محمد بن عوف بن سفيان الطائي، حدثنا علي بن عياش .. وقد انفرد بها ابن عوف عن بقية الرواة عن ابن عياش، وهم أحد عشر نفساً كما تقدم، وقد قال عنه الحافظ في «التقريب»:(ثقة حافظ)، والحكم عليها بالشذوذ مبني على أن الشاذ مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه
(2)
.
واعلم أن هذا الحديث يوجد في بعض نسخ «بلوغ المرام» ومنها التي عليها شرح المغربي
(3)
، وسقط من شرح الصنعاني «سبل السلام» وإثباته في غاية المناسبة، وهو مثبت في «الإلمام» لابن دقيق العيد، و «المحرر» لابن عبد الهادي، وهذه الكتب الثلاثة بينها تشابه كما مرَّ في «المقدمة» .
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من قال حين يسمع النداء) أي: الأذان، فاللام للعهد الذهني، وظاهر هذا أنه يقول هذا الذكر حال سماع الأذان، ويحتمل أن المراد من النداء إتمام الأذان، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص الاتي:«قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، ثم سلوا الله لي الوسيلة .. » .
قوله: (اللهم) أي: يا الله، فالميم عوض عن حرف النداء، ولا يجوز الجمع بينهما.
قوله: (ربَّ هذه الدعوة التامة) ربَّ: بالنصب على النداء، ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: أنت ربُّ هذه الدعوة.
(1)
"التلخيص"(1/ 221).
(2)
انظر: "إرواء الغليل"(1/ 260 - 262).
(3)
انظر: "البدر التمام"(1/ 423).
والدعوة: بفتح الدال، يراد بها ألفاظ الأذان، ووصفت بالتامة؛ لأنها ذكرٌ لله تعالى وتعظيم له وشهادة بالوحدانية والرسالة ودعوة إلى الخير، يُدعى بها إلى عبادة الله تعالى، ولذا يهرب الشيطان عند سماعها دون غيرها من بقية العبادات، فهي دعوة تامة.
قوله: (والصلاة القائمة)، إما أن المراد بالقائمة: التي ستقام الان، أو أن المراد بها: الدائمة التي لا يغيرها ملة ولا ينسخها شريعة.
قوله: (ات محمداً الوسيلة) الوسيلة: ما يُتقرب به إلى الغير، يقال: وَسَلَ فلان إلى ربه وسيلة، وتوسل إليه بوسيلة، إذا تقرب إليه بعمل من الأعمال الصالحة.
والمراد بها في هذا الحديث: منزلة في الجنة، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الآتي، وسميت درجة النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة: لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، وهي أقرب الدرجات إلى الله تعالى، وأصل اشتقاق الوسيلة من القرب، كما مضى.
قوله: (والفضيلة) معطوفة على الوسيلة، وهي مرتبة زائدة على سائر الخلق، وبعض الناس يزيد فيها:(والدرجة الرفيعة) - كما تقدم - وهذا غلط، لأنها زيادة لا أصل لها، فإن الوسيلة هي الدرجة الرفيعة.
قوله: (وابعثه مقاماً محموداً) أي: المقام المحمود الذي يحمده القائم فيه، وكل من راه وعرفه، و (مقاماً) منصوب على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاماً محموداً، أو ضُمِّنَ (ابعثه) معنى (أقمه).
قوله: (الذي وعدته) إما بدل أو عطف بيان، وإما صفة لـ (مقام)، ورجحه ابن القيم
(1)
لأن مقاماً وإن كان نكرة لكنه لما تعين وانحصر نوعه في شخصه جرى مجرى المعرفة، فوصف بما توصف به المعارف، كالاسم الموصول ونحوه.
(1)
"حادي الأرواح" ص (53).
والمراد هنا: الشفاعة العظمى في فصل القضاء، حيث يحمده فيه الأولون والآخرون.
وقد وقع عند ابن خزيمة (420) وغيره بهذا الإسناد: «وابعثه المقام المحمود .. » معرفاً بأل، وذكر ابن القيم أن التنكير هو الصحيح لوجوه خمسة:
1 -
موافقته للفظ القران.
2 -
اتفاق أكثر الرواة عليه.
3 -
أن فيه معنى التعظيم.
4 -
أن دخول اللام يعيِّنه ويخصه بمقام معين.
5 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على ألفاظ القران تقديماً وتأخيراً، وتعريفاً وتنكيراً، كما يحافظ على معانيه
(1)
.
قوله: (حلت له شفاعتي) أي: وجبت له وحصلت واستحق الشفاعة، فهي ثابتة لا بد منها بهذا الوعد الصادق، أو بمعنى: نزلت ووقعت، فتكون اللام بمعنى (على) يقال: حَلَّ يَحِلُّ ويَحُلُّ بالكسر والضم: إذا نزل، وحَلَّ يَحِلُّ: خلاف حرم، ويؤيده رواية مسلم (حلت عليه) ووقع عند الطحاوي من حديث ابن مسعود «وجبت له»
(2)
، والشفاعة: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والمراد بالشفاعة: إما الشفاعة العظمى، أو غيرها من الشفاعات الأخرى، كالشفاعة بإدخال الجنة بغير حساب.
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل هذا الدعاء بعد الأذان؛ لأنه دعاء عظيم جالب للخير الكثير واستحقاق الشفاعة، ووجه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم به أنه صلى الله عليه وسلم أكمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأرشدها إلى طريق العبادة، وأبواب السعادة، ومن ذلك الصلاة، فاستحق أن تخصه بالدعاء له بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهذا دعاء من المفضول للفاضل، ليرتفع ذكره بكون أمته إلى يوم القيامة تدعو له بهذا الدعاء.
(1)
"بدائع الفوائد"(4/ 105).
(2)
"شرح معاني الآثار"(1/ 145).
قال ابن القيم: (ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوها له، لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان.
وأيضاً فإن الله تعالى قدرها له بأسباب، منها دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه)
(1)
.
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة»
(2)
.
فهذا الحديث يدل على أن السنة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الدعاء، فإذا فرغ من إجابة المؤذن وقال: لا إله إلا الله، قال: اللهم صل وسلم على رسول الله، اللهم رب هذه الدعوة التامة .. إلخ، وهذا مما لا يعرفه أو يغفل عنه كثير من الناس.
ولو ساق المؤلف هذا الحديث هنا لكان أولى؛ لما فيه من هذه الفائدة العظيمة، ولعله تركه خشية أن تكثر أحاديث الباب.
وقد ذكر ابن القيم أن في إجابة المؤذن خمس سنن:
1 -
إجابة المؤذن.
2 -
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
سؤال الله تعالى لرسوله الوسيلة والفضيلة.
4 -
قوله: رضيت بالله ربّاً
…
5 -
أن يدعو الله تعالى بما أحب، كما تقدم
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"حادي الأرواح" ص (54).
(2)
أخرجه مسلم (384).
(3)
"جلاء الأفهام" ص (209)، "الوابل الصيب" ص (131).
باب شروط الصلاة
الشروط: لغة: جمع شرط، بسكون الراء، بمعنى العلامة في لغة، وهو يجمع على شروط وشرائط، ومنه: شَرْطُ الحجَّام؛ لأن ذلك علامة وأثر، والشَّرَط: - بالتحريك - العلامة، ويجمع على أشراط، قال تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}
(1)
.
وأما الشرط في الاصطلاح: فهو ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ويلزم من عدمه العدمُ، ولا يلزم من وجوده وجودُ الشيء.
والمراد بوجود الشيء: وجوده الشرعي، الذي تترتب عليه آثاره الشرعية، فالطهارة شرط لصحة الصلاة، يتوقف عليها وجود الصلاة شرعاً، وتبرأ بها الذمة، ويلزم من عدمها عدم الصلاة، لكن لا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، فقد توجد الطهارة ولا تصح الصلاة لفقد شرط آخر، كستر العورة - مثلاً ـ.
ويتفق الشرط والركن في أن كلًّا منهما يتوقف عليه وجود الشيء وجوداً شرعياً، ويختلفان في أن الشرط أمر خارج عن حقيقة الشيء وماهيته، أما الركن فهو جزء منه، كالركوع في الصلاة فهو ركن فيها؛ لأنه جزء من حقيقتها، ولا يتحقق وجود الصلاة شرعاً بدونه، بخلاف الوضوء فإنه وإن كان لا بد منه لصحة الصلاة، لكنه أمر خارج عن حقيقتها
(2)
.
وقد ذكر المصنف في هذا الباب أحاديث تتعلق بأربعة من شروط
(1)
انظر: "معجم مقاييس اللغة"(3/ 260)، "الأفعال" لابن القطاع، ص (267)، "تاج العروس"(10/ 409).
(2)
انظر: "الوجيز في أصول الفقه" ص (59).
الصلاة، وهي: الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، واجتناب النجاسة.
وأما الوقت فقد عقد له المصنف فيما مضى باباً مستقلاً، وإنما قدمه؛ لأنه سبب للوجوب، وشرط للأداء - كما تقدم - ثم ذكر بعده باب «الأذان» لأنه لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت، ثم ذكر باب «الشروط» ، وذكر فيه إضافة إلى ما تقدم أحاديث تتعلق ببعض مبطلات الصلاة، ومنها: الكلام والحركة.
اشتراط الطهارة لصحة الصلاة
205/ 1 - وعَنْ عَليِّ بْنِ طَلْقٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصلاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصلاةَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حبَّان.
206/ 2 - وعَن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصابَهُ قَيْءٌ، أو رُعافٌ، أو مَذْيٌ، فلينصَرِفْ، فَليتوضَّأْ، ثم ليَبْنِ على صَلاتِهِ، وهُو في ذلك لا يتكَلَّمُ» . رواه ابنُ ماجه، وضعَّفه أحمد.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو علي بن طلق الحنفي السُّحيمي اليمامي، قال ابن حبان:(له صحبة)
(1)
، وقال ابن عبد البر:(أظنه والد طلق بن علي الحنفي اليمامي)، قال الحافظ:(وهو ظن قوي؛ لأن النسب الذي ذكره خليفة - هنا - هو النسب المتقدم في ترجمة طلق بن علي، من غير مخالفة، وجزم به العسكري)
(2)
.
وقد نقل الترمذي عن البخاري أنه قال: (لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السُّحيمي)، قال الترمذي: (وكأنه رأى أن هذا رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
"الثقات"(3/ 262).
(2)
"تهذيب التهذيب"(7/ 299).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 468)، "العلل الكبير" ص (27).
وقد نقل الحافظ عبارة الترمذي في «تهذيبه» ، وقال المباركفوري:(وهو الظاهر عندي، والله أعلم)
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث علي بن طلق: فقد أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب «من يحدث في الصلاة» (205)، والترمذي (1164)، والنسائي في «الكبرى» (5/ 324)، وأحمد (2/ 82) وقد جعله من مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو خطأ نبه عليه ابن عساكر
(2)
، وابن كثير في تفسير قوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
(3)
[البقرة: 223].
وهذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي وغيره زيادة:«ولا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن الله لا يستحي من الحق» ، وأما عزوه لابن ماجه فهو وهم من الحافظ رحمه الله.
وهذا الحديث جاء عند أصحاب السنن الثلاثة من طريق عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلاَّم، عن علي بن طلق الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وقال الترمذي: (حديث حسن)، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن حبان (6/ 8).
وهذا إسناد ضعيف، فإن مسلم بن سلاَّم لم يرو عنه غير عيسى بن حطان، ولم يوثقه غير ابن حبان، فقد ذكره في «الثقات» وذكر هذا الحديث بإسناده ومتنه
(4)
.
ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه قال: (هذا حديث لا يصح، فإن مسلم بن سلام الحنفي أبا عبد الملك مجهول الحال)
(5)
.
(1)
"الاستيعاب"(8/ 220)، "الإصابة"(7/ 61)، "تهذيب التهذيب"(7/ 299)، "تحفة الأحوذي"(4/ 328).
(2)
"ترتيب أسماء الصحابة" ص (84).
(3)
"تفسير ابن كثير"(1/ 385).
(4)
"الثقات"(3/ 262).
(5)
"نصب الراية"(2/ 62).
وعيسى بن حِطَّان قال عنه في «التقريب» : (مقبول) أي: حيث توبع، وقد تابعه وكيع، عند الترمذي (1166)، وأحمد (2/ 82) فرواه عن مسلم بن سلاَّم.
وأما الجملة الأخيرة في الحديث: «ولا تأتوا النساء في أعجازهن» فهي صحيحة بشواهدها، ولها ذكر في باب «عشرة النساء» من كتاب «النكاح» - إن شاء الله تعالى - حيث ذكر الحافظ هناك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فقد تقدم تخريجه والكلام عليه في باب «نواقض الوضوء» رقم (74)، وهو يوجد في بعض نسخ «البلوغ» دون بعض، ولهذا لا يوجد في نسخ الشرح وهما: شرح المغربي والصنعاني.
وقد ورد في الباب - أعني اشتراط الطهارة للصلاة - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ» ، قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُساءٌ أو ضراط. وفي لفظ: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»
(1)
.
وفي حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقبل صلاة بغير طهور
…
»
(2)
.
وهذان الحديثان وما جاء في معناهما من أدلة اشتراط الطهارة لصحة الصلاة، وقد صَدَّرَ البخاري رحمه الله كتاب «الوضوء» من «صحيحه» بحديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد آية الوضوء، ولو ذكرهما المصنف هنا كما فعل ابن دقيق العيد في «الإلمام» حيث بدأ باب «شروط الصلاة» بحديث أبي هريرة لكان أولى وأنسب من اقتصاره على حديث علي بن طلق؛ لأن هذين الحديثين أصح منه وأشهر وأظهر، وقد يقال: إنه عدل عنهما لظهورهما ومعرفة الطالب بهما، بخلاف حديث علي بن طلق فقد يجهله كثير من الطلبة فلذا اقتصر عليه، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (135) واللفظ له، ومسلم (225)، وله اللفظ الثاني.
(2)
أخرجه مسلم (224).
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الفُساء يبطل الطهارة ويبطل الصلاة، وهذا أمر مجمع عليه، قال ابن المنذر:(اتفق علماء الأمة أن الصلاة لا تجزي إلا بطهارة، إذا وجد السبيل إليها) وقال: (أجمع أهل العلم على أن خروج الريح من الدبر حدث ينقض الوضوء)
(1)
.
والفُساء: بضم الفاء، ريح يخرج من الدبر بلا صوت يسمع، فإن كان معه صوت فهو ضُراط.
وقد تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه فسر الحدث المفسد للصلاة بالفساء أو الضراط، وهذا تفسير للحَدَثِ بنوع منه؛ لأن الحدث أعم من ذلك، وكأنّ أبا هريرة فسره بالأخص تنبيهاً بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وإذا فسدت الصلاة وجب الخروج منها وإعادتها من أولها، لبطلانها بالحدث، وهذا قول الجمهور، وحكى ابن الملقن عن مالك والشافعي في القديم أنه يتوضأ ويبني على صلاته، ثم ضعفه
(2)
.
وأما حديث عائشة المتقدم في «نواقض الوضوء» والذي أعاده المؤلف هنا وفيه: «فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته
…
»، فهو حديث ضعيف من أفراد ابن ماجه عن بقية الستة، وحديث علي هذا ضعيف - أيضاً - فَيُرجع إلى أدلة أخرى تفيد بطلان الطهارة والصلاة وعدم البناء على ما مضى، ويمكن أن يستدل على ذلك بالحديث المتقدم «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» ، فإنه يفيد أن صلاة المحدث لا تقبل، وهذا يعم ما قبل الصلاة من الحدث اختياراً وما حصل في أثنائها اضطراراً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين حدث وحدث
(3)
، وقد يقدم حديث عليٍّ رضي الله عنه على حديث عائشة رضي الله عنها بكون أصحاب السنن - عدا ابن ماجه - أخرجوه، ولأنه صححه ابن حبان، بخلاف حديث عائشة فليس فيه شيء من ذلك.
(1)
"الأوسط"(1/ 107).
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(1/ 224).
(3)
"الإعلام"(1/ 224).
وأما الاستمرار في الصلاة وإتمامها ولو صورياً مع حصول الحدث، فهذا أمر محرم؛ لأن صلاته بلا وضوء استهزاء بالدين وتلاعب بالشريعة، يقول ابن تيمية: (من صلّى بغير طهارة شرعية مستحلًّا لذلك فهو كافر، ولو لم يستحل ذلك فقد اختلف في كفره، وهو مستحق للعقوبة الغليظة
…
وإن كان لعجز فيصلي على حسب حاله)
(1)
.
وجميع الأحداث الناقضة للوضوء حكمها حكم خروج الريح في بطلان الطهارة، ووجوب استئناف الصلاة، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(21/ 295).
المرأة البالغة لا تصلي إلا بخمار
207/ 3 - وعنها، عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقْبَلُ الله صَلَاةَ حَائِضٍ إلاَّ بِخِمَارٍ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلاَّ النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «المرأة تصلي بغير خمار» (641)، والترمذي (377)، وابن ماجه (655)، وأحمد (42/ 87)، وابن خزيمة (775) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً.
قال الترمذي: (حديث عائشة حديث حسن) وقال الحاكم (1/ 251): (صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة).
وصفية بنت الحارث قال عنها في «التقريب» : (صفية بنت الحارث بن طلحة العبدرية صحابية، لها عن عائشة، وذكرها ابن حبان في التابعين).
وقد أخرجه الحاكم (1/ 251) وعنه البيهقي (2/ 233) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، أنبأ سعيد - يعني ابن أبي عروبة - عن قتادة، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره
…
مرسلاً.
وهذا المرسل علقه أبو داود بعد روايته المتصلة، كأنه يُعِلِّهُ به! ويرى بعض العلماء، ومنهم الألباني أن هذا ليس بعلة، فإن حماد بن سلمة ثقة، والرواية المرسلة تؤيد المتصلة، وهي من طريق آخر، فهو عن قتادة عن
شيخين، عن ابن سيرين متصلاً، وعن الحسن مرسلاً
(1)
.
ورجح آخرون من أئمة الحديث الإرسال، منهم أبو داود في ظاهر صنيعه - كما تقدم - ولعل وجه هذا الترجيح للإرسال أنه من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وسعيد من أثبت الناس في قتادة، وقد توبع قتادة على هذه الرواية المرسلة؛ تابعه عمرو، عن الحسن، عند عبد الرزاق (3/ 130)، وهذا هو الأقرب، فإن الحديث مداره على قتادة، ومن صححه لا يداني من أعلَّه.
وقد أخرجه أحمد (41/ 189)، وأبو داود (642)، وابن حزم في «الإحكام» (5/ 687) من طريق حماد بن زيد قال: ثنا أيوب، عن محمد، أن عائشة نزلت على صفية أمِّ طلحة الطلحات، فرأت بنات لها يصلين بغير خُمُر قد حِضْنَ، قال: فقالت عائشة: لا تصلينَّ جارية منهن إلا في خمار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ، وكانت في حجري جارية، فألقى عليَّ حَقْوه
(2)
، فقال:(شقيه بين هذه، وبين الفتاة التي في حجر أم سلمة، فإني لا أراها إلا قد حاضت، أو لا أراهما إلا قد حاضتا).
وهذا لفظ أحمد، وأخرجه أحمد - أيضاً - (43/ 145)، وابن أبي شيبة (2/ 229) من طريق هشام بن حسان، عن محمد أن عائشة
…
به.
لكن أُعلَّ بأن محمد بن سيرين في سماعه من عائشة مقال، فقد قال ابن أبي حاتم:(سمعت أبي يقول: ابن سيرين لم يسمع من عائشة شيئاً)
(3)
، وقد رجح الدارقطني ذلك فقال:(وقول أيوب وهشام أشبه بالصواب)
(4)
وعلى هذا فليس في الحديث حجة، ويكون المعوَّل على الإجماع
(5)
.
(1)
الإرواء" (1/ 216).
(2)
الحقو: بفتح الحاء: موضع شد الإزار على الخاصرة، ثم توسعوا فيه حتى سموا الإزار الذي يشد على العورة حقوًا.
(3)
"المراسيل" ص (188).
(4)
"نصب الراية"(1/ 296).
(5)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص (45)، "مراتب الإجماع" لابن حزم ص (34).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يقبل الله
…
)، اعلم أن نفي القبول إما أن يكون بفوات شرط أو لوجود مانع، أو ليس لذلك، فإن كان لفوات شرط أو وجود مانع فهو نفي للصحة، مثال فوات الشرط: من صلّى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، من صلَّت بغير خمار لم تقبل صلاتها، ومثال وجود مانع: من تكلم في صلاته لم تقبل.
أما إذا كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع فلا يلزم منه نفي الصحة، فقد يراد به نفي القبول التام، أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به الرضا وتمام المثوبة.
وقد يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان فتكون كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة، وتبرأ بها الذمة
(1)
.
ومن ذلك نفي القبول عن صلاة الآبق، ومن في جوفه خمر، ومن يأتي عرَّافاً، مع ثبوت صحة صلاتهم بالإجماع، وإنما المراد أن الله تعالى لا يثيبهم عليها.
قوله: (صلاة حائض) المراد بالحائض، المرأة التي بلغت، وجرى عليها قلم التكليف، وليس المراد: من هي حائض؛ لأن الحائض لا صلاة عليها.
وليس المراد من الحديث البالغة بالحيض فقط، وإنما المراد: البالغة بأي علامة من علامات البلوغ كالاحتلام، وإنما عبر بالحيض لأنه يخص النساء، قال الحافظ ابن حجر:(قد أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والنساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام)
(2)
.
قوله: (إلا بخمار) بكسر الخاء، ما تخمِّر به المرأة رأسها، أي: تغطيه به.
(1)
"القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/ 51).
(2)
"فتح الباري"(5/ 277).
الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن البنت إذا بلغت وجب عليها أن تغطي رأسها في صلاتها، فإن صلت وشيء من شعرها مكشوف لم تصح صلاتها، قال الترمذي رحمه الله عقب حديث الباب: (والعمل عليه عند أهل العلم، أن المرأة إذا أدركت فصلَّت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها
…
).
ومفهوم الحديث أن البنت التي دون البلوغ تصح صلاتها ولو كان رأسها مكشوفاً؛ لأن عورتها أخف من عورة البالغة.
وأما الوجه فإن المرأة تكشف وجهها في الصلاة، وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ويراه الغرباء
(1)
، وقال ابن المنذر:(أجمع أكثر أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تصلي مكشوفة الوجه)
(2)
إلا إذا كان بحضرتها أجانب ليسوا من محارمها، كأخي زوجها وابن عمها فيجب عليها ستره على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأنه عورة في باب النظر، فستره أبعد للفتنة، وأسلم للدين، وأصلح للمسلمين.
وأما الكفَّان - وحدُّهما إلى الرُّسغين - فالجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في إحدى الروايتين على أنه يجوز للمرأة أن تكشف كفيها في الصلاة
(3)
.
واختار هذه الرواية من الحنابلة الموفق وابن تيمية والمرداوي؛ لأن أمرها بتغطية يديها في الصلاة يحتاج إلى دليل، وإنما هي مأمورة بالخمار مع القميص
(4)
.
(1)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاري"(9/ 11)، لكن قوله:(ويراه الغرباء) فيه نظر ظاهر، فإن هذا ليس محلَّ إجماع.
(2)
"الأوسط"(5/ 69).
(3)
"شرح فتح القدير"(2/ 258 - 259)"المنتقى"(1/ 251)، "المجموع"(3/ 168)، "المغني"(2/ 326 - 327).
(4)
"الفتاوى"(22/ 115، 117، 118)، "الإنصاف"(1/ 452).
والرواية الثانية في مذهب الحنابلة - وهي الصحيح من المذهب - أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف كفيها في الصلاة، واختارها الأكثر، وجزم بها الخرقي
(1)
، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان»
(2)
.
لكن قد ينازع في هذا الاستدلال بأن المرأة عورة إذا صلت بحضرة الأجانب فتغطي كفيها، أما إذا صلت وحدها بحيث لا يراها أحد أو حيث لا يراها إلا محارمها ونساء المسلمين فلا يتأتى هذا الاستدلال، والله أعلم.
وأما القدمان فالجمهور من الشافعية والحنابلة والمالكية أنهما عورة في الصلاة، فلا يجوز كشفهما
(3)
.
واستدلوا بحديث أم سلمة - الآتي إن شاء الله ـ: «إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها
…
».
والقول الثاني: أن القدمين ليسا بعورة، فيجوز كشفهما في الصلاة، وهو قول الحنفية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
؛ لأن الأمر بتغطية القدم يحتاج إلى دليل.
قال صاحب «الإنصاف» : (وهو الصواب)
(5)
.
وهذه الأحكام إنما هي للحرة، وأما الأمة فعورتها من السرة إلى الركبة على قول الجمهور، إلا ابن حزم فيرى أنها كالحرة، وتفاصيل المسألة في كتب الفقه
(6)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المغني"(2/ 326).
(2)
أخرجه الترمذي (1173) وقال: (هذا حديث حسن غريب).
(3)
المصادر السابقة.
(4)
"شرح فتح القدير"(1/ 259)، "الفتاوى"(22/ 115، 117، 118).
(5)
"الإنصاف"(1/ 452).
(6)
انظر: "المحلى"(3/ 218)، "الفتاوى"(22/ 109 - 120)، "الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام"(2/ 61).
جواز الصلاة في ثوب واحد وكيفية لبسه
208/ 4 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «إن كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعاً فَالْتَحِفْ بِهِ» - يَعْنِي: في الصَّلَاةِ ـ، وَلِمُسْلِمٍ:«فَخَالِفْ بَيْن طَرَفَيهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقاً فَاتَّزِرْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
209/ 5 - وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيءٌ» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث جابر رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» ، باب «إذا كان الثوب ضيقاً» (361) قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجئت ليلة لبعض أمري، فوجدته يصلي، وعليَّ ثوب واحد، فاشتملت به وصليت إلى جانبه، فلما انصرف قال:«ما السُّرى يا جابر؟» ، فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت قال:«ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟» ، قلت: كان ثوب - يعني ضاق - قال: «فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» .
وأخرجه مسلم في أواخر «صحيحه» (3010) من حديث طويل، قال: حدثنا هارون بن معروف ومحمد بن عباد (وتقاربا في لفظ الحديث، والسياق لهارون) قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت .. فذكر قصة قدومه مع جابر،
وساق جابر حديثاً طويلاً في سفره مع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء فيه: (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر، ثم فطنت به، فقال:«هكذا» بيده، يعني: شد وسطك، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يا جابر» ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال:«إذا كان واسعاً فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقاً فاشدده على حَقْوِكَ» .
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إذا صلّى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه» (359)، ومسلم (516) من طريق أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» ، وهذا لفظ مسلم، وقد ورد بالتثنية، كما في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي
(1)
، ولما ساقه ابن الأثير
(2)
ذكره بلفظ الإفراد، وقال: أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم وقال:«على عاتقيه» ، إلا أن المثبت في البلوغ «عاتقه» بالإفراد، وهي كذلك في مسلم بشرح القرطبي، ولفظ البخاري:«ليس على عاتقيه شيء» ، قال الحافظ:(في رواية: «عاتقِهِ» بالإفراد).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا كان الثوب) الثوب: ما يلبس من إزار أو رداء أو غيرهما، فهو قطعة قماش لم تُفَصَّلْ على قدر البدن، وليس المراد به القميص؛ لأن القميص ثوب ذو أكمام، والقميص يقوم مقام ثوبين؛ لأنه يغطي أعلى البدن وأسفله.
قوله: (فالتحف به) الالتحاف أن يتزر ويرتدي بثوب واحد، يخالف بين طرفيه، ولذا ساق الحافظ رواية مسلم:«فخالف بين طرفيه» ، وكأنه أراد أن يبين أن معناهما واحد، وكيفية المخالفة بين طرفيه: أن يلقي طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن، ليستر بذلك صدره، ويكون وسط الثوب على ظهره ليستر أعلى البدن.
(1)
وكذا التي عليها شرح الأُبي، وهي طبعة قديمة (2/ 224).
(2)
"جامع الأصول"(5/ 452).
قوله: (وإن كان ضيقاً فاتزر به) أي: وإن كان الثوب ضيقاً لا يكفي للارتداء والاتزار، فاتزر به فقط، والاتزار: ستر أسفل البدن ما بين السرة والركبة؛ لأن القصد الأصلي ستر العورة، وهو يحصل بالاتزار.
قوله: (لا يصلي) قال ابن الأثير: كذا هو في «الصحيحين» بإثبات الياء، ووجهه أن «لا» نافية، وهو خبر عن الحكم الشرعي، أو خبر يراد به النهي، وذكر الحافظ بعد نقله هذا عن ابن الأثير، أنه ورد عند الدارقطني في «غرائب مالك» بلفظ:«لا يصلِّ» بغير ياء
(1)
، فتكون «لا» ناهية.
قوله: (ليس على عاتقه منه شيء) العاتق: ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء، يذكر ويؤنث، والجمع عواتق، والمنكب: مجتمع رأس العضد والكتف، وقوله:«شيء» نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء يستر العاتق.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه إن كان الثوب واسعاً فعلى المصلي أن يلتحف به، فيغطي به من المنكبين إلى ما تحت الركبتين؛ لأنه وجد سترة كاملة.
أما إن كان الثوب ضيقاً لا يكفي ستر كل البدن فليستر به العورة الواجب سترها، وهي من السرة إلى الركبة، وهذا يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد. قال ابن رشد:(اتفقوا على أنه يجزئ الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد)
(2)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة، فيستر ذلك بالإزار أو بالسراويل، لقوله:«وإن كان ضيقاً فاتزر به» ، فإن كان عنده سعة فالمشروع أن يغطي عاتقيه، وقد اختلف العلماء في حكم ستر العاتقين أو أحدهما على قولين:
فالقول الأول: وجوب ستر العاتقين في الصلاة إن كان قادراً، وهو قول
(1)
انظر: "تحفة الأشراف"(10/ 167)، "فتح الباري"(1/ 471).
(2)
"بداية المجتهد"(1/ 286).
الإمام أحمد وابن المنذر وجماعة من السلف
(1)
، وهو ظاهر صنيع البخاري
(2)
، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز
(3)
.
واستدلوا بحديث أبي هريرة هذا، ففيه نهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على العاتق منه شيء، والنهي يقتضي تحريم الفعل وفساد الصلاة.
وعن الإمام أحمد رواية أنه يجوز ترك ستر العاتق في النفل
(4)
؛ لأن النفل مبناه على التخفيف، ولذا يسامح فيه بترك القيام والاستقبال في حال سيره، ولأن عادة الإنسان في بيته وخلواته قلة اللباس وتخفيفه، وغالب نفله يقع في بيته.
والقول الثاني: لا يجب ستر العاتقين في الصلاة، بل هو مستحب، والواجب ستر العورة، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعزاه النووي للجمهور
(5)
، واستدلوا بالنص والقياس.
أما النص فهو ما رواه محمد بن المنكدر، قال:(رأيت جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب)
(6)
. وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال:«أَوَ كُلُّكم يجد ثوبين؟»
(7)
.
قالوا: فجمعاً بين الأخبار تكون صلاته في الثوب الواحد لبيان الجواز، ونهيه عن الصلاة في الثوب الذي ليس على العاتق منه شيء لبيان الكمال والتمام.
وأما القياس: فهو أن العاتقين ليسا بعورة، فأشبها بقية البدن.
والقول بوجوب ستر العاتق أو بعضه في الصلاة إن تيسر قول قوي، فإن النهي الوارد فيه نهي تحريم، ولا يجوز صرفه إلا بصارف، وأما حمله على أنه نهي أدب وتنزيه، فهو صرف له عن ظاهره.
(1)
"فتح الباري"(1/ 472)، "الإنصاف"(10/ 454).
(2)
"فتح الباري"(1/ 472).
(3)
"الفتاوى"(10/ 415).
(4)
"الإنصاف"(1/ 455).
(5)
"المجموع"(3/ 175).
(6)
أخرجه البخاري (353).
(7)
أخرجه البخاري (365)، ومسلم (515).
والحق أن حديث جابر الذي معنا تجتمع به الأدلة وهو أن القادر على ستر العاتقين أو أحدهما يجب عليه ذلك، والعاجز يقتصر على ستر العورة
(1)
، وأما حديث جابر فإما أن يكون قبل النهي، أو لعدم وجود ثوب ثانٍ، مع أن هذا الجواب فيه نظر
(2)
، والله أعلم، وأما القياس فهو في مقابلة نص.
فإن قيل: إن المنكب ليس بعورة فكيف تقولون بستره؟
فالجواب: ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن العورة في الصلاة ليست مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً ولا عكساً، فهذا نوع وهذا نوع، فإن أَخْذَ الزينة في الصلاة إنما هو لحق الله تعالى، ولهذا لا يجوز أن يصلي عرياناً ولو كان وحده، وزينة الصلاة غير الزينة خارج الصلاة، فقد يستر المصلي ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، فالمرأة تلبس الخمار على رأسها في الصلاة ولو كانت عند زوجها ومحارمها، ولا تختمر عندهم إذا كانت في غير الصلاة، وكذا المنكبين، فقد ثبت النهي عن ترك تغطيتهما في الصلاة، وذلك لحق الصلاة، مع أنه يجوز كشفهما للرجال خارج الصلاة
(3)
، وعلى هذا فالأفضل للمسلم أن يأخذ بالأحوط، فيصلي في ثوبين، ويستر عاتقه أو بعضه متى كان قادراً على ذلك، لقوله:«ليس على عاتقيه منه شيء» ، وهذا يقع على ما يعم المنكيبن وما لا يعمهما.
وبهذا يتبين تقصير بعض الناس عندما يصلي في الصيف بالفنيلة ذات الحبل اليسير الذي يكون على الكتف، فمثل هذا لا تصح صلاته عند من يشترط ستر العاتق، وقد ذكر الفقهاء أنه لو طرح على كتفه حبلاً أو خيطاً ونحوه أنه لا يجزئه، وهذا ظاهر كلام الخرقي، وهو قول القاضي؛ لأن مثل هذا لا يسمى لباساً، ولعله محمول على القدرة
(4)
.
(1)
انظر: "نيل الأوطار"(2/ 80).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 467).
(3)
"الفتاوى"(22/ 113 - 114).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (2/ 362 - 363).
وكذا ما يفعله بعض المحرمين في الحج أو العمرة عندما يصلي وعاتقه مكشوف مع أنه بإمكانه أن يضع عليه الرداء.
وينبغي للمصلي أن يأخذ زينته في الصلاة، فيصلي في القميص والسراويل ويغطي رأسه، أو يصلي في إزار ورداء وعمامة، لقوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، فعلق الأمر بالزينة لا بستر العورة، إيذاناً بأن العبد ينبغي له أن يلبس في الصلاة أحسن ثيابه، للوقوف بين يدي الله تعالى. والله أعلم.
لباس المرأة في الصلاة
210/ 6 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتُصَلِّي المَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ، بِغَيْرِ إِزَارٍ؟ قَالَ:«إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغاً يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (640) في كتاب «الصلاة» بابٌ «في كم تصلي المرأة؟» ، قال: حدثنا مجاهد بن موسى، ثنا عثمان بن عمر، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله - يعني ابن دينار - عن محمد بن زيد، بهذا الحديث قال: عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معلول، قال أبو داود عقبه: (روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، عن محمد بن زيد، عن أمه، عن أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم، قصروا به على أم سلمة رضي الله عنها.
وغرض أبي داود بهذا بيان أن الحديث روي موقوفاً، كما روي مرفوعاً، وأكثر الرواة عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ رووه موقوفاً على أم سلمة، وخالفهم عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار فرواه عن محمد بن زيد مرفوعاً، وعبد الرحمن هذا متكلم فيه، فقد ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم:(فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال ابن المديني:(صدوق)، وقد روى له البخاري في «صحيحه» ووثقه بعضهم
(1)
، لكنه قد غلط في رفع هذا
(1)
"تهذيب التهذيب"(6/ 187).
الحديث، كما ذكر ابن الجوزي، وابن عبد الهادي، ولعله بسبب ضعفه في حفظه، فمثله لا يحتج به عند التفرد والمخالفة.
وعلى هذا، فالصواب أنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها وأنه من كلامها وتوجيهها، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساقه أبو داود من طريق مالك، عن محمد بن زيد موقوفاً (639) وهو في «الموطأ» (1/ 142) قال عبد الحق الإشبيلي: (هذا هو الصحيح أنه من قول أم سلمة، وقد ذكر بعضهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وذكر نحو ذلك البيهقي
(2)
، وقال الحافظ:(وأعله عبد الحق بأن مالكاً وغيره رووه موقوفاً وهو الصواب)
(3)
، وكذا صحح الحافظ هنا وقفه عن الأئمة، منهم: أبو داود، والدارقطني، وابن الجوزي، وابن عبد الهادي
(4)
. لكن هذا لا يعني صحة الموقوف، إذ إن هناك فرقاً بين صواب الرواية وصحتها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بغير إزار) أي: ليس تحت قميصها إزار ولا سراويل.
قوله: (إذا كان الدرع سابغاً) أي: ساتراً لكل البدن، والدرع: - بكسر الدال - وهو هنا قميص المرأة بدليل إطلاقه، وإن أريد به درع الحرب وجب تقييده فيقال: درع حديد، وهذا قيد للجواب المحذوف، فكأنه قيل: نعم تصلي إذا كان الدرع ساتراً للبدن.
قوله: (يغطي ظهور قدميها) أتت بهذه الجملة لدفع ما يتوهم أنه يغتفر عدم تغطية ظهور القدمين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المرأة تصلي في الدرع والخمار، فالدرع وهو القميص، يغطي بدنها وقدميها، والخمار يغطي رأسها، والحديث وإن كان ضعيفاً لكن هذا أقل ما تطالب به المرأة؛ لأن المراد ستر جميع جسدها، ولو حصل ذلك بثوب واحد كفى.
(1)
"الأحكام الوسطى"(1/ 216).
(2)
"السنن الكبرى"(2/ 232).
(3)
"التلخيص"(1/ 299).
(4)
انظر: "التحقيق"(1/ 323)، "التنقيح"(1/ 748).
وقد وردت آثار تدل على أن صلاة المرأة في الدرع والخمار كان أمراً معروفاً لدى السلف الصالح، فقد ورد من طريق أم الحسن قالت: رأيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تصلي في درع وخمار
(1)
.
وورد من طريق الأوزاعي قال: قال عطاء: تصلي المرأة في درع وخمار
(2)
.
وورد من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عبيد الله الخولاني، عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلت في درع وخمار
(3)
.
وورد أيضاً أن المرأة تصلي في ثلاثة أثواب: درع وخمار وملحفة، لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة)
(4)
.
وهذا مراد به الأكمل والأفضل، والمبالغة في التستر، لا على سبيل الإيجاب.
وفرق بين من تصلي في بيتها ليس عندها أحد، أو تصلي في المسجد أو في بيتها وعندها من غير محارمها.
وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد
(5)
.
والمروط: الأردية الواسعة، واحدها: مِرْط، وقد بوب البخاري عليه في
(1)
أخرجه عبد الرزاق (3/ 128)، وابن أبي شيبة (2/ 224) وأم الحسن قال عنها الحافظ:(مقبولة)، وانظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1/ 137).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 226) وإسناده صحيح عن عطاء.
(3)
أخرجه مالك (1/ 142)، وابن أبي شيبة (2/ 224)، والبيهقي (2/ 233)، وصححه الألباني في "تمام المنة" ص (162).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 224) وسنده صحيح.
(5)
أخرجه البخاري (372)، ومسلم (645)، وقد تقدم عند الحديث (160).
كتاب «الصلاة» بقوله: باب «في كم تصلي المرأة من الثياب؟» ، وقال عكرمة:(لو وارت جسدها في ثوب لأَجَزْتُه).
وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى حديث أم سلمة الذي معنا، وأشار بقوله: وقال عكرمة
…
إلخ، إلى أن المطلوب ثوب يستر جميع الجسد
(1)
.
وعلى هذا فينبغي للمرأة أن تصلي في القميص والخمار والجلباب الذي تلتحف به من فوق الثوب، والغرض من ذلك الستر؛ لأن الجلباب تجافيه راكعة وساجدة، لئلا تصفها ثيابها. والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح تراجم البخاري" ص (61).
حكم من صلّى في الغيم لغير القبلة
211/ 7 - وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في لَيْلةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَشْكَلَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ، فَصَلَّيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إذا نَحْنُ صَلَّيْنَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الله عامر بن ربيعة بن مالك العَنْزي - بتسكين النون نسبة إلى عَنْز بن وائل وهو أخو بكر وتغلب - وفي نسبه خلاف ذكره ابن عبد البر وغيره، أسلم عامر بن ربيعة قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة مع امرأته، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً وسائر المشاهد.
وروى ابن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: قام عامر بن ربيعة يصلي من الليل حين نَشِبَ الناس في الطعن على عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: فصلى من الليل، ثم نام، فأُتي في المنام، فقيل له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام، فصلى ودعا، ثم اشتكى فما خرج بعد إلا بجنازته، روى عنه ابنه عبد الله، وهو تابعي ثقة من كبار التابعين.
قال الحافظ: ليس له في البخاري إلا حديث الصلاة على الراحلة في السفر - وسيأتي قريباً - وحديث في «الجنائز» ، وثالث علقه البخاري في «الصيام»
(1)
،
(1)
"فتح الباري"(2/ 573).
مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: خمس، وقيل: سبع، رضي الله عنه والله أعلم
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصلاة» باب: «ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم» (345)، وابن ماجه (102)، وأبو داود الطيالسي (2/ 462) من طريق أشعث بن سعيد السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم نَدْرِ أين القبلة؟، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وهذا لفظ الترمذي، زاد أبو داود الطيالسي: فقال: «مضت صلاتكم» ، ونزلت:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}
…
}.
وهذا حديث ضعيف، ضعفه الترمذي فقال:(هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وهو يضعف في الحديث)، قال أحمد:(مضطرب الحديث ليس بذاك)، وقال ابن معين:(ليس بثقة)، وقال أبو حاتم:(ضعيف الحديث، منكر الحديث، سيئ الحفظ، يروي المناكير عن الثقات)
(2)
.
وفيه - أيضاً - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو سيئ الحفظ، قال ابن القطان:(وموضع العلة منه عاصم بن عبيد الله، فإنه مضطرب الحديث، تنكر عليه أحاديث، وأشعث السمان سيئ الحفظ، يروي المنكرات عن الثقات)
(3)
.
وقد أعله به الألباني، وحسن إسناده، ولم يعله بأشعث؛ لأن له متابعاً وهو عمرو بن قيس الملائي، عند أبي داود الطيالسي
(4)
، وكذا فعل أحمد شاكر في تعليقه على «جامع الترمذي»
(5)
، والمثبت في «مسند أبي داود
(1)
"الاستيعاب"(5/ 287)، "الإصابة"(5/ 277).
(2)
"الجرح والتعديل"(2/ 272)، "تهذيب التهذيب"(1/ 307).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 358).
(4)
"إرواء الغليل"(1/ 323).
(5)
"جامع الترمذي"(2/ 176).
الطيالسي» - الطبعة الأخيرة المحققة - عمر بن قيس - بدون واو - وليس هو الملائي الذي هو ثقة، ومن رجال مسلم، وإنما هو عمر بن قيس المكي، أبو جعفر، المعروف بسندل، وهو متروك الحديث، وعلى هذا فلا يفرح بهذه المتابعة، على أن ذكره في إسناد أبي داود الطيالسي مقروناً بأشعث السمان فيه نظر، فقد روى الحديث ابن ماجه، والدارقطني (1/ 272) من طريقين عن الطيالسي، بدون ذكر عمر بن قيس، ولذا قال الطبراني في «الأوسط» (460):(لم يرو هذا الحديث عن عاصم إلا أبو الربيع السمان)، فيكون قد تفرد به عن عاصم، ولا متابع له.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير الآية عدة أحاديث كحديث جابر وابن عباس رضي الله عنهما ثم قال: (وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضاً، وأما إعادة الصلاة لمن يتبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم)
(1)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (فأينما تولوا) أي: فإلى أيِّ مكان تتجهوا.
قوله: (فَثَمَّ) - بفتح الثاء والميم المشددة - اسم إشارة للمكان مبني على الفتح في محل نصب خبر مقدم، أي: فهناك.
قوله: (وجه الله) مبتدأ مؤخر، أي: إن أمامكم وجه الله؛ لأن الله قِبَلَ وجه المصلي، وهو مستوٍ على عرشه تبارك وتعالى.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من صلّى في الغيم لغير القبلة، ثم استبان له بعدما صلّى أنه صلّى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وليس عليه إعادة، سواء علم بالخطأ في الوقت أو بعده.
وهذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفاً لكن معناه صحيح، فإن المؤمن إذا خفيت عليه القبلة وجب عليه أن يجتهد في طلب القبلة
(2)
، وأدلة الجهة
(1)
"تفسير ابن كثير"(1/ 229).
(2)
انظر: "بدائع الفوائد"(3/ 259).
متفاوتة الخفاء والظهور، فيجب على كل أحد فِعْلُ مقدوره من ذلك، فإذا فعل ذلك وصلّى صحت صلاته وإن صلّى إلى غيرها على الصحيح من أقوال أهل العلم، خلافاً لمن قال: تجب عليه الإعادة، لوجوب الاستقبال قطعاً؛ لأنه أدى ما عليه، والله تعالى أوجب على العبد أن يتقيه ما استطاع، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
والواجب على المسافر ونحوه عند حضور الصلاة أن يجتهد ويتحرى القبلة وينظر في الوسائل التي تعينه على ذلك، كالشمس والقمر والنجوم لقوله تعالى:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، ويدخل في عموم الآية الاهتداء بها إلى جهة القبلة، والمراد به: القطب، وهو نجم خفي جداً بقربه نجم واضح وهو الجدي، وأما الشمس والقمر فلأن كلًّا منهما يخرج من المشرق ويغرب من المغرب، فيمكن تحديد القبلة بهما، أو يعتمد على الآلة المعروفة في تحديد القبلة، ثم يصلي حسب ما أداه إليه اجتهاده، فإن ظهر له أنه صلى لغير القبلة فصلاته صحيحة؛ لأنه أدى ما عليه واجتهد، والآية الكريمة:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] تفيد ذلك من حيث العموم؛ فحيثما صلّى فقد صلّى لله وإلى وجه الله.
يقول الشيخ محمد البنوري: (أصل جميع ذلك أن الشريعة الإسلامية قد وسعت الأمر في باب القبلة على المكلفين، فأجازت لهم استقبال الجهة التي فيها الكعبة حيث تعسر عليهم الاهتداء إلى عين الكعبة، فقال سبحانه:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
وأجاز لهم عند الاشتباه بقوله سبحانه وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وسرُّ ذلك: أن الاستقبال حقيقة إلى الله ذي الكبرياء والعظمة وتقدست ذاته عن حدود الجهات، فكانت الجهات إليه تعالى سواسية، ولكن اقتضت الحكم الربانية والمصالح الإلهية الأزلية تخصيص الكعبة المباركة المحترمة بالاستقبال، ولكن إذا تعذر الاستقبال عادت الحقيقة الأصلية التي لا تختص بالجهات، فقال تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، ففطن لهذا
السر علماء الأمة، وهداة الملة، فوسَّعوا الأمر على العباد في باب القبلة
…
)
(1)
.
وهذا الحكم خاص بالسفر، أما من صلى في الحضر لغير القبلة فعليه أن يعيد الصلاة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، وذلك لأنه قادر على اليقين، إما بالسؤال، أو برؤية محاريب المساجد، فلم يعذر بالجهل.
قال أبو داود في «مسائله» : (قيل لأحمد وأنا أسمع: هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة في بيت؟ قال: يعيد؛ لأن عليه أن يسأل).
وظاهر هذا أنه لا يجتهد في الحضر، وعنه: أنه إذا كان من أهل الاجتهاد فاجتهد فصلاته صحيحة، وهذا قول وجيه؛ لأنه باجتهاده فعل ما يجب عليه، ومن فعل ما يجب عليه فقد اتقى الله ما استطاع، ومن اتقى الله ما استطاع فلا إعادة عليه، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وسأل ثم تبين له خطأ من سأله، فالمذهب أنه يعيد، وقيل: لا يعيد؛ لأنه استند إلى خبر ثقة
(2)
.
الوجه الخامس: إثبات صفة الوجه لله تعالى، وأنه صفة لله كسائر صفاته التي لا تشبه صفات المخلوقين، بل نثبتها له على ما يليق بجلاله وعظمته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، فلا يعدل عنها إلا بدليل صحيح، يمنع من حمل الكلام على حقيقته، ومن فسر الوجه بالثواب فتفسيره باطل؛ لأنه خلاف ظاهر النصوص، وخلاف طريقة السلف، وليس عليه دليل، والله تعالى أعلم.
(1)
"بغية الأريب في مسائل القبلة والمحاريب" ص (98).
(2)
انظر: "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (45)، "شرح العمدة" كتاب "الصلاة" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (541)، "المبدع"(1/ 411)، "الإنصاف"(2/ 11)، "الشرح الممتع"(2/ 279)، "فتاوى ابن باز"(10/ 420).
حكم الانحراف اليسير عن القبلة
212/ 8 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصلاة» باب «ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة» (344) قال: حدثنا الحسن بن أبي بكر المروزي، حدثنا المُعلَّى بن منصور، حدثنا عبد الله بن جعفر المَخْرَميِّ، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. فذكره.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه الترمذي - أيضاً - قال: حدثنا محمد بن أبي معشر، حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف، فيه أبو معشر، تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه - كما قاله الترمذي
(1)
ـ ونقل عن البخاري أنه قال: (لا أروي عنه شيئاً، وقد روى عنه الناس)، وأما ابنه محمد فهو صدوق كما في «التقريب» وهو من أقدم شيوخ الترمذي.
وقول الحافظ عن حديث الباب: (وقواه البخاري)، يريد بذلك ما نقله الترمذي عن البخاري أنه قال: (حديث عبد الله بن جعفر المخرمي، عن
(1)
"جامع الترمذي"(2/ 172).
عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أقوى من حديث أبي معشر وأصح)، وقد نقل ابن رجب عن الإمام أحمد تضعيف هذا الحديث، وأن في أسانيده ضعفاً
(1)
.
وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا شيخ الترمذي الحسن
(2)
بن أبي بكر، قال عنه الحافظ في «التقريب»:(صدوق)، وقال عنه مسلمة بن قاسم في كتاب «الصلة»:(مجهول)، وهذا فيه نظر، إذ كيف يكون مجهولاً من يروي عنه اثنان
(3)
، وأحدهم الترمذي، كما في هذا الإسناد؟ فالصواب فيه ما قاله الحافظ، إلا إن كان مسلمة يعني جهالة الحال، إذ لا يعرف أحد تكلم في الحسن هذا بتعديل أو تجريح، وأما جهالة العين فهي مرتفعة برواية الترمذي.
الوجه الثاني: الحديث دليل على التيسير في أمر القبلة وأن المقصود باستقبال القبلة استقبال الجهة عند البعد والغيبة عن الكعبة.
وهذا الحديث ليس عاماً في سائر البلاد، وإنما هو في حق أهل المدينة وما وافق قبلتها، كأهل الشام وما كان على سمتها، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال.
وهذا الحديث كحديث أبي أيوب المتقدم في «الطهارة» : «لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» متفق عليه
(4)
.
والناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في جهة غرب الكعبة فقبلته إلى المشرق، ومن كان شرقها فقبلته إلى المغرب، ومن كان شمالها فقبلته إلى الجنوب، ومن كان جنوبها فقبلته إلى الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما
(1)
"فتح الباري"(3/ 59 - 60).
(2)
في "تهذيب الكمال"(6/ 62): الحسن بن بكر.
(3)
المصدر السابق.
(4)
انظر الحديث (97).
بين الجنوب والمشرق.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الشريعة قد وسعت الأمر على العباد في أمر القبلة عند البعد، وأنه يكفي الظن متى اجتهد ونظر في العلامات التي ترشده إلى القبلة، كما تقدم.
وهذا يؤيد عدم التكلف في تحديد جهة القبلة، وأن من صلّى إلى الجهة صحت صلاته وإن انحرف عنها قليلاً؛ لأن جهته التي صلّى إليها هي القبلة؛ لأن فرض المصلي إذا كان بعيداً عن الكعبة أن يتوجه إلى جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين؛ لأن ذلك مستحيل أو متعذر.
والقبلة تضيق كل الضيق لمن كان في المسجد الحرام فإنه لا بد أن يصيب عينها، وهي لأهل الحرم أوسع قليلاً، ثم لأهل مكة أوسع قليلاً، ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما تقدم بيانه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للعالم أن يخصَّ أولاً أهل بلده بتعليم أمور الدين ومسائل الشرع المبين؛ فهم أحق وأولى بالتقديم، حيث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قبلة أهل المدينة خاصة، وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام عند قضاء الحاجة:«ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» ، والله تعالى أعلم.
بيان ما يستقبله المتنفل بالصلاة حال السفر
213/ 9 - وعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعةَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيه.
زَادَ البُخَارِيُّ: يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَلَم يَكنْ يَصْنَعُهُ في المَكْتُوبَةِ.
214/ 10 - وَلأبِي دَاوُدَ: مِنْ حديثِ أَنَسٍ كَانَ إِذَا سَافَرَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُ رِكَابِهِ. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عامر بن ربيعة: فقد أخرجه البخاري في كتاب «تقصير الصلاة» باب «صلاة التطوع على الدواب وحيثما توجهت» (1093)، ومسلم (701) من طريق ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أخبره أن أباه أخبره، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري هو لفظ الكتاب.
وفي لفظ للبخاري: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبح، يومئ برأسه قِبَل أي وجه توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة).
وذكر الحافظ رواية البخاري؛ لأن فيها لفظ الإيماء، وأن ذلك خاص بالمكتوبة، ففيها تفسير للرواية الأولى.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب
«التطوع على الراحلة والوتر» (1225) من طريق ربعي بن عبد الله بن الجارود، حدثني عمرو بن أبي الحجاج، حدثني الجارود بن أبي سبرة، حدثني أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره، وفي آخره (حيث وجهه ركابه) بدل:(حيث كان وجه ركابه).
وهذا إسناد حسن؛ لأن ربعي بن عبد الله بن الجارود، وجَدَّهُ صدوقان - كما في «التقريب» - فحديثهما من قبيل الحسن، وقد حسنه المنذري
(1)
والنووي
(2)
.
وصححه ابن الملقن ونقل تصحيحه عن ابن السكن
(3)
، وإنما أورد الحافظ حديث أنس رضي الله عنه للزيادة التي لم ترد في «الصحيحين» وهي استثناء تكبيرة الإحرام وأنها إلى القبلة.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (يصلي على راحلته) المراد بالصلاة: النافلة في السفر، كما في رواية البخاري، وقد دلت رواية مسلم المذكورة على أنها صلاة الليل، والراحلة: المركب من الإبل ذكراً أو أنثى، تقول: رحلت الإبل رحلاً: من باب (نفع): شددت عليه رحله، ورَحْلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة المسافر؛ لأن هناك مأواه
(4)
.
قوله: (حيث توجهت) أي: إلى أي جهة توجهت الدابة صلّى، سواء أكان إلى القبلة أم إلى غيرها.
قوله: (يومئ برأسه) أي: يشير به للركوع والسجود، وظاهره عدم التفريق بينهما في مقدار الإيماء، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
قوله: (ولم يكن يصنعه في المكتوبة) أي: لم يكن يصلي على راحلته في الصلاة المكتوبة، بل ينزل إلى الأرض، لقلتها؛ ولأنها أوكد من النوافل.
(1)
"مختصر السنن"(2/ 59).
(2)
"المجموع"(3/ 234).
(3)
"خلاصة البدر المنير"(1/ 110).
(4)
"المصباح المنير" ص (222).
قوله: (فكبر) أي: للإحرام عقب الاستقبال.
قوله: (ثم صلّى) أي: أتمَّ صلاته، و (ثم) هنا للتراخي في الرتبة؛ لأن الاهتمام بالتكبير أشد لكونه مقارناً للنية، ولذا خُصَّ بالتوجه إلى القبلة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية صلاة النافلة في السفر كركعتي الضحى، وصلاة الليل، وسنة الوضوء ونحو ذلك، أما السنن الرواتب وهي راتبة الظهر والمغرب والعشاء فالسنة تركها، إلا راتبة الفجر فإنها تصلى في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتركها حضراً ولا سفراً.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المتنفل بالصلاة في السفر على راحلته يستقبل جهة سيره، ولا يلزمه استقبال القبلة، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير، وهكذا لو أراد إنسان أن يتنفل وهو في السيارة أو في الطائرة أو في السفينة فإنه يسقط عنه الاستقبال، ويصلي إلى جهة سيره، لكن إن تمكن من الاستقبال وأداء الصلاة على الحال الذي تؤدى فيه في غير حال الركوب كما في السفن الحديثة أو الطائرات التي يوجد فيها سعة فإنه يلزمه
(1)
.
الوجه الخامس: دلَّ حديث أنس رضي الله عنه على مشروعية استقبال القبلة حال تكبيرة الإحرام فقط، وحمله بعض العلماء على الوجوب، وهو المذهب عند الحنابلة.
وهذا الحديث مخالف للأحاديث الواردة في «الصحيحين» ، كحديث عامر بن ربيعة، وحديث ابن عمر، وأنس رضي الله عنهم، فإنه ليس فيها استثناء تكبيرة الإحرام وأنها إلى القبلة، وإذا كان الحديث سنده حسناً فلا بأس بقبول هذه الزيادة، فإذا فعله الإنسان على سبيل الاحتياط والفضيلة والندب والجمع بين الأخبار فهو حسن، إذا تيسر ذلك، وإلا فالصلاة إلى جهة سيره مطلقاً من أولها إلى آخرها صحيحة عملاً بالأحاديث التي ليس فيها استثناء، وهي أصح
(1)
انظر: "غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام"(3/ 576).
وأكثر، وهذا القول هو مذهب الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد
(1)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن المسافر المتنفل على راحلته يومئ في الركوع والسجود، وظاهر ذلك عدم الفرق بينهما في مقدار الإيماء، لكن جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع
(2)
.
وهو يدل على أن السجود أخفض من الركوع، ليكون البدل على وفق الأصل، وقد نص الفقهاء على ذلك
(3)
.
الوجه السابع: دل الحديث على أن الفريضة لا تصلى على الراحلة، بل لا بد أن ينزل على الأرض ويصليها، لقلتها بالنسبة إلى النافلة؛ ولأنها آكد - كما تقدم - وهكذا لو كان في السيارة، فإنه يقف ويصلي الفريضة.
أما إذا كان الإنسان في الطائرة أو في السفينة، وليس فيهما مكان مخصص لأداء الصلاة وحضرت الصلاة والرحلة مستمرة، ويخشى فوات الوقت قبل نزول الطائرة أو وقوف السفينة، ولم تكن الصلاة مما يجمع مع غيرها، فإنه يصلي حسب استطاعته، فإن استطاع أن يقف ويركع ويسجد فعل ذلك، وإلا صلّى قاعداً وأومأ بالركوع والسجود؛ لعموم قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وذلك للإجماع على أنه يجب على المكلف أن يؤدي الصلاة في وقتها حسب الاستطاعة، ولا يؤخرها عنه إذا لم تكن مما يجمع، والله تعالى أعلم.
(1)
"الأوسط"(5/ 249)، "الإنصاف"(2/ 605).
(2)
أخرج عبد الرزاق (4521)، وعنه أحمد (22/ 61)، وأخرجه الترمذي (351)، وأبو داود (1227) وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وصححه البغوي في "شرح السنّة"(4/ 189).
(3)
"فتح الباري"(2/ 574).
المواضع التي نُهي عن الصلاة فيها
215/ 11 - وعَنْ أَبي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ.
216/ 12 - وَعَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلَّى في سبعةِ مَوَاطِنَ: المَزْبَلةِ، والمَجْزَرَةِ، وَالمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطريقِ، وَالحَمَّامِ، وَمَعَاطِنِ الإبلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ الله. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه: فقد أخرجه الترمذي في «أبواب الصلاة» باب «ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (317)، وأبو داود (492)، وابن ماجه (745)، وأحمد (18/ 312) من طريق عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
فذكره.
وهذا الحديث إسناده على شرط الشيخين، لكن اختلف في وصله وإرساله، وأعله بعضهم بالإرسال، فقد رواه موصولاً سفيان الثوري وحماد بن سلمة وعبد الواحد بن زياد، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن إسحاق كلهم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه - يحيى بن عمارة الأنصاري - عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحماد بن سلمة ثقة، وعبد الواحد بن زياد ثقة، والدراوردي صدوق، وابن إسحاق صدوق يدلس.
ورواه مرسلاً الثوري، والدراوردي، وابن إسحاق عن عمرو بن يحيى،
عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكروا أبا سعيد رضي الله عنه
(1)
، قال الترمذي مرجحاً الإرسال: (وكأن رواية الثوري
…
أثبت وأصح)، وقال الدارقطني:(والمرسل المحفوظ)
(2)
، وقال البيهقي: (حديث الثوري مرسل، وقد روي موصولاً، وليس بشيء
…
)
(3)
.
ويرى آخرون من أهل العلم ترجيح الموصول، منهم ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وابن دقيق العيد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قال:(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار وغيرهم بأسانيد جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه)
(4)
، وقال:(إن رواية من أرسله لا تنافي الرواية المسندة الثابتة)
(5)
.
وممن صحح الحديث أحمد شاكر
(6)
، والألباني
(7)
والشيخ عبد العزيز بن باز، رحم الله الجميع.
وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي في «أبواب الصلاة» في باب «ما جاء في كراهية ما يصلى إليه وفيه» (346)، وابن ماجه (746) من طريق زيد بن جَبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف جداً، قال الترمذي:(حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وتُكُلِّمَ في زيد بن جَبيرة من قبل حفظه)، وقد نقل عبد الحق مقولة الترمذي هذه، ثم قال: (كذا قال، وغير أبي عيسى يقول في هذا الإسناد أكثر من هذا
…
)
(8)
.
فعلة هذا الحديث زيد بن جَبيرة، قال عنه البخاري:(منكر الحديث)،
(1)
انظر: "تنقيح التحقيق"(1/ 727 - 731).
(2)
"العلل"(11/ 321).
(3)
"السنن الكبرى"(2/ 435).
(4)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 677).
(5)
"الفتاوى"(21/ 320)، "التلخيص"(1/ 296)، "المنهل العذب المورود"(1/ 119).
(6)
"جامع الترمذي"(2/ 133).
(7)
"إرواء الغليل"(1/ 320).
(8)
"الأحكام الوسطى"(1/ 228).
وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، متروك الحديث، لا يكتب حديثه) ونقل عن ابن معين أنه قال: (لا شيء)، وقال الساجي:(حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جداً)
(1)
.
وقد ذكر ابن عدي والذهبي هذا الحديث من مناكير زيد بن جبيرة
(2)
.
وقد جاء الحديث عند ابن ماجه (747) من طريق أبي صالح، عن الليث، عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما وإسناده ضعيف؛ لأن أبا صالح وهو كاتب الليث كثير الغلط - كما في «التقريب» - وعبد الله العمري ضعيف، وقد جزم الحافظ أبو حاتم بأنه واهٍ، قال ابنه: سألت أبي عن حديث رواه الليث
…
، ورواه زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين .. فقال:(جميعاً واهيين)
(3)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (المَقْبرة) بفتح الميم وتثليث الباء، ما يدفن فيها الموتى.
قوله: (والحمام) أصله موضع الاغتسال بالماء الحار، ثم قيل لموضع الاغتسال بأي ماء كان.
قوله: (المزبلة) بفتح الميم والباء، الموضع الذي يجمع فيه الزِّبل، وهي القمامة وما في معناها.
قوله: (والمجزرة) بفتح الميم، وهي المكان الذي تجزر فيه المواشي، أي: تذبح أو تنحر.
قوله: (وقارعة الطريق) وهي ما تقرعه الأقدام بالمرور عليه.
قوله: (ومعاطن الإبل) مفردها: عَطَن - بفتح العين والطاء - وهي مبارك الإبل حول الحوض والبئر، ثم توسِّع في ذلك فصار اسماً لما تأوي إليه وتقيم فيه.
(1)
"الجرح والتعديل"(3/ 559).
(2)
"الكامل"(3/ 212)، "الميزان"(2/ 100).
(3)
"علل الحديث"(1/ 148).
قوله: (وفوق ظهر بيت الله) المراد به: الكعبة.
الوجه الثالث: حديث أبي سعيد رضي الله عنه دليل على أن الأرض كلها مسجد، فيجوز الصلاة في كل مكان من الأرض، وقد دل على هذا الحكم أحاديث كثيرة، ومنها حديث جابر رضي الله عنه في «الصحيحين» ، وقد تقدم في باب «التيمم» ، إلا ما استثناه الشارع، وهذا من نعم الله تعالى على هذه الأمة، وتيسيره عليها ورحمته بها؛ لأن الأمم السابقة لا يصلون إلا في أماكن معينة كالبِيَعِ والصوامع
(1)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الصلاة في المقبرة، وأنها لا تصح
(2)
لأنه استثناها من عموم الأرض، سواء أكانت الصلاة على القبر أم بين القبور، والمراد بالمقبرة: ما يدفن فيها الموتى، ولو كان قبراً واحداً
(3)
، أما لو عينت الأرض مقبرة ولم يبدأ بالدفن فيها فإنها تصح الصلاة فيها.
والحكمة من هذا النهي ما نص عليه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من أن العلة هي سد الذريعة عن عبادة أربابها؛ لأن ذلك من أعظم وسائل الشرك، ومشابهة المشركين.
وأما من اعتقد من الفقهاء أن سبب النهي كون المقبرة مظنة النجاسة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، أو قد تنبش وفيها صديد فينجس التراب فهذا التعليل ليس بشيء لأمور ثلاثة:
1 -
أن الغالب أن المقابر تبقى على حالها ولا تنبش، وحتى لو نبشت لا دليل على نجاستها.
2 -
أن احتمال نجاسة الأرض لا يوجب كراهة الصلاة عليها، بل الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح والاستحالة
(4)
.
3 -
أنها لو كانت هذه هي العلة لما نهي عن الصلاة في مقابر الأنبياء؛
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 437).
(2)
انظر: "الاقتضاء"(2/ 682).
(3)
انظر: "الشرح الممتع"(2/ 235).
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(21/ 321 - 323)، "إغاثة اللهفان"(1/ 158، 187 - 189).
لأن أجسادهم لا تأكلها الأرض، كما ورد في السنة، على قول من صحح الحديث
(1)
.
ويستثنى من النهي الصلاة على القبر، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المرأة التي كانت تقمُّ المسجد عندما ماتت بالليل وصلى عليها الصحابة رضي الله عنهم ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، وخبرها في «الصحيحين» ، وسيأتي في كتاب «الجنائز» إن شاء الله تعالى.
وأما الصلاة على الميت في المقبرة فسيأتي الكلام عليها في كتاب «الجنائز» - أيضاً - إن شاء الله.
الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم الصلاة في الحمام، وأنها لا تصح، والنهي عن الصلاة في الحمام إما لأنه مظنة النجاسة، وإما لكونه بيت الشيطان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كلا التعليلين، لكن مال إلى تضعيف التعليل الأول وقال:(إن ظاهر مذهب أحمد لم يُنه عن الصلاة فيه لكونه مظنة النجاسة، فإذا غُسل موضع منه أو تيقنا طهارته جازت الصلاة فيه)
(2)
.
وإنما النهي إما للتعبد، أو لأنها مأوى الشيطان، ويقاس على الحمام الكنيف بل أولى، وكذا دورات المياه؛ لأن ذكر الله تعالى في هذه الأماكن ممنوع شرعاً تعظيماً لله تعالى وتشريفاً له عز وجل أن يذكر اسمه في موضع خبث ونجاسة.
وأما سطح الحمام فيجوز الصلاة فيه على الراجح من قولي أهل العلم من باب قصر النهي على ما تناوله النص وأن الحكم لا يُعدى إلى غيره.
الوجه السادس: في حديث ابن عمر رضي الله عنهما النهي عن الصلاة في سبعة مواضع، والحديث ضعيف كما مضى، وعلى هذا فما ثبت فيه نص آخر أو دلَّ عليه عموم عُمل به، وإلا بقي على أصل الجواز.
(1)
أي حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، وقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، والمتقدمون كأبي حاتم، والبخاري على تضعيفه. فانظر:"جلاء الأفهام" ص (77).
(2)
"الفتاوى"(21/ 319).
فالمزبلة: لا تصح الصلاة فيها؛ لأنها محل النجاسة وإلقاء القاذورات، لكن إن كان الزِّبل طاهراً صحت الصلاة فيها
(1)
.
والمجزرة: لا تصح الصلاة فيها؛ لأنها محل الدماء، وهي نجسة، وكذا الأرواث وحتى لو قيل بطهارتها فإن مثل هذه البقعة لا تصلح لمناجاة الله تعالى.
والمقبرة والحمام: تقدما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
وقارعة الطريق: لا تصح الصلاة فيها؛ لأن المصلي فيها يؤذي ويؤذى، فيؤذي المارة بأخذ حقهم من الطريق، ويؤذى بما يشغل خاطره المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو سر الصلاة، وقيل: لأنها مظنة النجاسة، والقول بمنع الصلاة في قارعة الطريق هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
والقول الثاني: وهو قول أكثر أهل العلم، ورواية عن أحمد صحة الصلاة في قارعة الطريق، لعموم «جعلت لي الأرض مسجداً»
(2)
، ولم يستثن منه إلا المقبرة والحمام والمعاطن، للأحاديث الواردة فيها، فيبقى ما عداها على العموم، والأولى ألاَّ يصلى في الطريق لما تقدم، لكن إن دعت الحاجة إلى الصلاة في قارعة الطريق فلا بأس، كما لو ضاق المسجد جاز أن يصلى في الشوارع التي حوله إذا فرشت.
ومعاطن الإبل: لا تصح الصلاة فيها، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا»
(3)
، وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين»
(4)
.
وقد مال شيخ الإسلام ابن تيمية إلى تقوية هذا المعنى، وضعف قول من
(1)
انظر: "الشرح الممتع"(2/ 249).
(2)
"المغني"(2/ 472)، "المجموع"(3/ 162).
(3)
أخرجه مسلم (360).
(4)
أخرجه أبو داود (493) بإسناد صحيح.
قال: إن ذلك لعلة النجاسة، إذ لا فرق بين أعطان الإبل ومبارك الغنم، وكلاهما في الطهارة والنجاسة سواء
(1)
.
أما مبارك الإبل في سيرها أو ما تناخ فيه لعلفها أو وردها فلا يُمنع من الصلاة فيها؛ لأن هذا عارض، وقد ورد عن الإمام أحمد ما يدل على ذلك
(2)
.
وفوق ظهر بيت الله: هذا مما انفرد به هذا الحديث الضعيف، ولم يرد في حديث غيره، فمن أخذ به أضاف إليه تعليلاً، وهو أن الله تعالى أمر باستقبال الكعبة في قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، والمصلي فوق الكعبة غير مستقبل جهتها ولا مصلياً إليها، وقد أمر بالصلاة إليها، فمن صلى فوقها فقد صلى إلى الهواء.
والأظهر صحة الصلاة فوق الكعبة لعدم ثبوت النهي، ولأن الحكم ليس مُناطاً بالقائم، وإنما هو مناط بهواء الكعبة، ولهذا تصح الصلاة في سطح المسجد الحرام وعلى جبل أبي قبيس بالاتفاق، وهي أعلى من الكعبة، والمصلي فيها استقبل هواء الكعبة، وهواؤها مسامت لها، ولهذا لو هدمت - والعياذ بالله كما في آخر الزمان - صحت صلاة الناس إلى محلها، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(21/ 320).
(2)
"المغني"(2/ 472)، "الفتاوى"(20/ 524).
النهي عن استقبال القبر في الصلاة
217/ 13 - وعَنْ أَبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو مَرْثَدٍ الغَنَوي - من بني غنيّ من قيس عيلان - صحابي جليل، مشهور بكنيته، واسمه: كَنَّاز - بفتح الكاف وتشديد النون ثم زاي - بن الحصين، وابنه مرثد - بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة - وهو وأبوه صحابيان، شهدا بدراً وأحداً، وكانا حليفين لحمزة بن عبد المطلب، وكان أبو مرثد تِرْباً لحمزة رضي الله عنه أي: مساوياً له في السن - وقتل مرثد يوم الرجيع، سنة ثلاث من الهجرة
(1)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الجنائز» باب «النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه» (972) من طريق ابن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكره.
وأخرجه أيضاً من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الصلاة إلى القبور، بأن يكون القبر في جهة المصلي، وهذا النهي في الحديث يقتضي تحريم الفعل،
(1)
"الاستيعاب"(12/ 140)، "الإصابة"(9/ 162)(12/ 15).
وفساد الصلاة؛ لأن الصلاة إلى القبور تشبه عبادتها، أو فيه تشبُّه بمن يعبدها، وهذا قد يكون ذريعة إلى نوع من الشرك بالعكوف عندها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الجلوس على القبر، والوطء من باب أولى، وذلك لما فيه من الاستهانة بحق المسلم، إذ القبر بيت المسلم، وحرمته ميتاً كحرمته حياً، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لأن يجلسَ أحدكم على جمرة فتحرقَ ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر»
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (971).
جواز الصلاة في النعلين إذا كانتا طاهرتين
218/ 14 - وعَنْ أَبِي سَعيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ، فَإنْ رَأَى في نَعْلَيَهِ أَذًى أَوْ قَذَراً فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحه ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة في النعل» (650)، وابن خزيمة (2/ 107) من طريق حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:«ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟» ، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً» ، وقال: «إذا جاء أحدكم
…
» الحديث.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم؛ حماد بن سلمة: ثقة، وأبو نعامة وثقه ابن معين وأبو حاتم، وأبو نضرة - واسمه: المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبدي - ثقة.
وقد تابع حماد بن سلمة الحجاج بن الحجاج الأحول، عن أبي نعامة به، عند ابن خزيمة (1/ 384) والحجاج ثقة، كما في «التقريب» .
لكن قد اختلف في وصله وإرساله
(1)
، فقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة أن النبي صلى الله عليه وسلم .. ، وقد رجح الموصول أبو حاتم، والدارقطني، لأنه اتفق على وصله اثنان عن أبي نضرة،
(1)
"التلخيص"(1/ 297).
عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهما: حماد بن سلمة، والحجاج بن الحجاج الأحول، وكلاهما ثقة، كما تقدم
(1)
.
والحديث له شواهد، ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلع نعليه في الصلاة إلا مرة واحدة، خلع، فخلع الناس، فقال:«ما لكم؟» قالوا: خلعت فخلعنا، فقال:«إن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً أو أذى»
(2)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الصلاة في النعال، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، ومن ذلك: ما رواه أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعله؟ قال: نعم
(3)
.
وعن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه
(4)
.
وقد ذكر الطحاوي أن الأحاديث الدالة على شرعية الصلاة في النعال متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
والعلماء رحمهم الله لا يشترطون في المتواتر أن تكون كل طرقه صحيحة أو حسنة بل يذكرون جميع ما في الباب من صحيح أو حسن أو ضعيف
(6)
.
وشرط ذلك أن تكون النعل طاهرة، وقد كانت المساجد قديماً تفرش بالحصباء والرمل ونحو ذلك، فيصلى فيها بالنعال ولا تتأثر، والناس عندهم دين وعناية بالنعال وتفقدها، والآن فرشت المساجد لترغيب المصلين والوقاية من الغبار، فيقال حينئذ: إن مراعاة حال المساجد تقتضي ألا يصلى بالنعال وإن كانت نظيفة، لأمرين:
(1)
"علل الحديث"(1/ 121)، "العلل" للدارقطني (8/ 112)، (11/ 328).
(2)
أخرجه الحاكم (1/ 235)، والبيهقي (2/ 404) وغيرهما، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط البخاري) وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني في "الإرواء"(1/ 315).
(3)
أخرجه البخاري (386)، ومسلم (555).
(4)
أخرجه عبد الرزاق (1/ 384) ورجاله رجال الصحيح.
(5)
"شرح معاني الآثار"(1/ 511).
(6)
انظر: رسالة: "شرعية الصلاة في النعال".
الأول: أن المساجد لا تسلم من تلويث فرشها حتى مع العناية بالنعال وتفقدها؛ لأن الفرش سريعة التأثر باللون والرائحة، وطبيعة الشوارع تساعد على التلويث حتى مع طهارة النعل، ولذا قال ابن عابدين:(إذا خشي تلويث فرش المسجد ينبغي عدم الصلاة في النعال، وإن كانت طاهرة)
(1)
.
الثاني: أن الغالب على الناس الغفلة عن العناية بنعالهم حين يدخلون المسجد.
والصلاة في النعال موضع خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنها من باب الرخص، فتكون مباحة، ولا تصل إلى درجة الاستحباب، وهو قول ابن دقيق العيد
(2)
؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو الزينة؛ لأن ملامسة النعل للأرض يقصر بها عن هذا المقصود.
والقول الثاني: أن الصلاة في النعال سنة، وهو قول الحنابلة، واستدلوا بحديث شداد بن أوس مرفوعاً:«خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم»
(3)
، وهذا أمر، وأقل أحواله الاستحباب، ومخالفة اليهود أمر مطلوب شرعاً. لكن إن خيف من الصلاة في النعال مفسدة، فإنه يجب مراعاتها، على قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن كان الإنسان في أرض حصباء أو في البر جاز أن يصلي في نعليه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من صلّى بالنجاسة جاهلاً أو ناسياً فإن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بنى على ما مضى من صلاته، ولو كان التلبس بالنجاسة حال النسيان أو الخطأ موجباً للإعادة لاستأنف الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة من أولها ولم يبن على ما كان صلّى، وهذا هو القول الراجح من قولي أهل العلم، أما إن علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فإن أمكن طرحها بدون عمل كثير أو كشف عورة ألقاها، كما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه، وإلا بطلت صلاته، واستأنفها بعد إزالة النجاسة، والله أعلم.
(1)
"حاشية ابن عابدين"(2/ 429).
(2)
"شرح العمدة"(2/ 344).
(3)
أخرجه أبو داود (652) وإسناده صحيح.
كيفية تطهير الخف من النجاسة
219/ 15 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمُ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُما التُّرابُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الطهارة» بابٌ «في الأذى يصيب النعل» (386)، والبيهقي (2/ 430)، وابن حبان (4/ 250)، وابن خزيمة (1/ 148) كلهم من طريق محمد بن كثير - يعني الصنعاني - عن الأوزاعي، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن في إسناده محمد بن كثير الصنعاني، وهو كثير الخطأ، قال البخاري:(ضعفه أحمد)، وقد ذكر ابن القطان أنه ضعيف، وأضعف ما يكون في الأوزاعي
(1)
، وقال علي بن المديني:(كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ - يعني محمد بن كثير - فالآن لا أحب أن أراه)، وقال النسائي:(ليس بالقوي كثير الخطأ)
(2)
.
ومع هذا فقد صحح حديثه ابن حبان، وشيخه ابن خزيمة، وتلميذه الحاكم، ومحمد بن عجلان وإن ضعفه بعضهم لكن الأكثر على توثيقه.
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 126).
(2)
"تهذيب التهذيب"(5/ 369).
والحديث اختلف فيه على الأوزاعي، فرواه محمد بن كثير عن الأوزاعي كما تقدم، ورواه أبو المغيرة والوليد بن مزيد، وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد حدث عن أبيه
…
رواه أبو داود (385)، ورواه عبد الله بن زياد بن سمعان، عن المقبري، عن القعقاع بن حكيم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. رواه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 256) ورواه عبد الرزاق (1/ 33) وليس فيه (عن أبيه) ولما ذكر الدارقطني في «العلل» (8/ 159 - 160) الأوجه في هذا الحديث قال عن هذا:(وهو أشبهها بالصواب وإن كان ابن سمعان متروكاً).
والحديث له شاهد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم، ومن حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود (387) بمعناه ولم يسق لفظه، ويشهد للحديث - أيضاً - ما أخرجه أبو داود (384)، وابن ماجه (533)، وأحمد (45/ 443)، وابن الجارود (143) عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن امرأة من بني عبد الأشهل أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لنا طرقاً منتنة فَتُمْطَرُ، فقال:«أليس بعدها طريق أطيبُ منها؟» ، قالت: بلى، قال:«فهذه بهذه» . وإسناده صحيح.
وأخرج مالك (1/ 24)، وأبو داود (383)، والترمذي (143)، وابن ماجه (531)، والدارمي (1/ 155)، وأحمد (6/ 290)، وابن الجارود (142) من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، عن أم ولد لإبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطهره ما بعده» .
وإسناده ضعيف، أم ولد إبراهيم مجهولة، وقد تفرد بالرواية عنها محمد بن إبراهيم، ولكن تتقوى روايتها بالحديث المذكور قبله.
قال الشوكاني: (هذه الروايات يقوِّي بعضها بعضاً، فتنتهض للاحتجاج بها على أن النعل يَطْهُرُ بدلكه في الأرض رطباً ويابساً)
(1)
، وقال العقيلي:
(1)
"نيل الأوطار"(1/ 58).
(هذا إسناد صالح جيد)
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث وما جاء في معناه دليل على أنه يكفي في تطهير نجاسة الخف دلكه بالتراب دون الغسل بالماء - على الصحيح من قولي أهل العلم - ولا فرق بين أنواع النجاسات، بل كل ما علق بالنعل مما يطلق عليه اسم الأذى فطهوره مسحه بالتراب.
وهذا من سماحة الإسلام ويسره، فإن الخف معرض للأذى من أجل مباشرته الأرض، ولو لزم تطهيره بالماء لشق ذلك على الناس وأدى إلى إتلاف الخفاف والنعال بالماء وتكرره عليها، والله تعالى أعلم.
(1)
"الضعفاء"(2/ 257).
النهي عن الكلام في الصلاة، وحكمه من الجاهل
220/ 16 - وعَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ الحَكَمِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فيها شَيْءٌ مِنْ كلامِ النَّاسِ، إنَّما هُوَ التَّسْبِيحُ، والتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو معاوية بن الحكم السلمي، كان ينزل المدينة، وسكن في بني سُليم، وعداده في أهل الحجاز، روى عنه ابنه كثير، وعطاء بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو صاحب الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال:«من أنا؟» ، قالت: أنت رسول الله، قال:«أعتقها فإنها مؤمنة» ، أخرجه مسلم، وهو بعض حديث الباب.
وقد روى مالك
(1)
حديث معاوية هذا من طريق هلال بن أسامة بهذا الإسناد، وسماه: عمر بن الحكم، قال ابن عبد البر: (هكذا قال مالك في هذا الحديث عن هلال، عن عطاء، عن عمر بن الحكم، لم يختلف الرواة عنه في ذلك، وهو وهم عند جميع أهل العلم بالحديث، وليس في الصحابة رجل يقال له: عمر بن الحكم، وإنما هو معاوية بن الحكم
…
)
(2)
، مات سنة سبع عشرة ومئة
(3)
.
(1)
"الموطأ"(2/ 776).
(2)
"التمهيد"(22/ 76).
(3)
"الاستيعاب"(10/ 131)، "الإصابة"(9/ 229).
الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «تحريم الكلام في الصلاة» (537) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة - وهو هلال بن علي بن أسامة
(1)
ـ عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عَطَسَ رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكني سكت، فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة
…
» الحديث بطوله، وفيه ذكر الكهانة والطِّيَرة وقصة الجارية التي تقدم ذكرها.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (واثكل أمِّياه) الثُّكْل: الحزن لفقد الولد، وأمياه: مضاف إلى ثكل، وأصله: أمّي، زيدت عليها ألف الندبة لمد الصوت، وأُردفت بهاء السكت الثابتة في الوقف، المحذوفة في الوصل.
قوله: (لكني سكت) معطوف على مقدر، أي: لم أتكلم لكني سكت.
وقوله: (ما كهرني) الكهر: الانتهار، ذكره أبو عبيد
(2)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مخاطبة الناس في الصلاة عمداً ولو بالدعاء كتشميت العاطس يبطل الصلاة؛ لأنه ينافي مقصود الصلاة، فإن الصلاة صلة بين العبد وربه، وفي الكلام إعراض عن مناجاة الله تعالى، ومناجاته سبحانه أرفع درجات العبد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه»
(3)
.
(1)
وإنما ذكره مسلم بكنيته؛ لأنه بها أشهر، كما قال ابن عبد البر في "التمهيد"(22/ 75).
(2)
"غريب الحديث"(3/ 114).
(3)
أخرجه البخاري (531)، ومسلم (551).
وأما إذا عطس الإنسان في الصلاة فإنه يحمد الله تعالى، لكن من أهل العلم من قال: يحمد سراً؛ لأنه ذكر، والسنة في أذكار الصلاة الإسرار إلا ما استثني، ومنهم من قال: إنه يجهر به، ويؤيده حديث سهل بن سعد في «الصحيحين»
(1)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من تكلم في الصلاة جاهلاً بتحريم الكلام فيها أن صلاته صحيحة، وأنه لا يلزمه قضاء ما مضى من صلواته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بإعادة هذه الصلاة ولا سأله هل كان يتكلم فيما مضى من صلواته، وإنما علمه لما يستقبل من أمره.
وهذا مبني على قاعدة عظيمة نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي من أعظم القواعد الفقهية عنده، وهي: أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزاً عن أحدهما سقط عنه ما يُعجزه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها
(2)
.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بالإعادة؛ لأنه لم يبلغه العلم بتحريم الكلام في الصلاة، ولا تكليف قبل بلوغ العلم، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (684، 1234)، ومسلم (421).
(2)
"الفتاوى"(21/ 634).
بيان حكم الكلام في الصلاة
221/ 17 - وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: إنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُكلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه أول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، واسْتُصْغِرَ يوم أحد، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقول المنافق عبد الله بن أُبيّ:«لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ، فأنكره عبد الله بن أُبيّ، فأنزل الله القرآن بتصديق زيد بن أرقم رضي الله عنه والحديث في «الصحيحين»
(1)
، نزل الكوفة، ومات فيها سنة ثمان وستين
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «ما ينهى من الكلام في الصلاة» (1200)، ومسلم (539) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، قال: قال لي زيد بن أرقم: (إن كنا لنتكلم في الصلاة .. ) الحديث، واللفظ للبخاري، وزاد مسلم:(ونهينا عن الكلام) ولم يسق من الآية إلا آخرها.
(1)
أخرجه البخاري (4900) وبنحوه مسلم (2772).
(2)
"الاستيعاب"(3/ 38)، "الإصابة"(3/ 38).
وأما قول الحافظ: (إن اللفظ لمسلم)، فلعله أراد من أجل هذه الزيادة، وإلا فاللفظ الذي ساقه هو لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم اختلاف يسير.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن كنا .. ) بتخفيف (إن) وهي مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، واللام فارقة بين النافية والمخففة.
قوله: (لنتكلم في الصلاة) أي: خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (يكلم أحدنا صاحبه بحاجته) الجملة بيان لقوله: (نتكلم)، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء، وإنما يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه.
قوله: (حتى نزلت
…
)، هذا ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية باتفاق.
قوله: ({حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}) أي: داوموا وواظبوا على الصلوات المفروضة مع الإتقان. و «الوسطى» أي: الفضلى، والمراد بها: صلاة العصر، على الراجح من أقوال أهل العلم، وقد بلغت عشرين قولاً، كما ذكر ذلك العلامة مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي
(1)
.
والقول بأنها صلاة العصر هو الصحيح؛ للأدلة الصحيحة التي لا يمكن دفعها، وهو قول جماهير السلف والخلف، ومن ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً»
(2)
.
وعطفها على الصلوات في الآية الكريمة من باب عطف الخاص على العام، للاهتمام بشأن الخاص، وخصت بذلك - والله أعلم - لشرفها وفضلها،
(1)
المتوفى سنة (1033 هـ) في كتابه: "اللفظ الموطأ في بيان الصلاة الوسطى".
(2)
أخرجه البخاري (6396)، ومسلم (628) وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(وهي صلاة العصر).
ولأنها اختصت بمزيد من التأكيد، والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيعها.
قوله: (وقوموا لله) أي: قفوا لله، واللام للتعليل، أي: إخلاصاً وتعظيماً لله تعالى.
قوله: (قانتين) القنوت له معان كثيرة منها: القيام، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت»
(1)
، ومنها: الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، وعليه قول أنس رضي الله عنه لما سئل: أقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أَوَ قنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً
(2)
. ومنها: السكوت مع التعظيم، كما هنا.
قوله: (فأُمرنا بالسكوت) أي: أمرنا الله تعالى بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أو أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم تفسيراً للآية، ويؤيده قوله:(نهينا).
والمراد بالسكوت: الكف عن الكلام، أي: كلام الناس لا كل كلام؛ لأن الصلاة فيها قراءة وتكبير وتسبيح ودعاء، وهذا كلام.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الكلام في الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، قليلاً كان الكلام أو كثيراً، وأن الكلام مبطل لها لتحريمه ومنافاته لمقصودها، فإن الصلاة صلة بين العبد وربه، فلا ينبغي أن يتشاغل المصلي بغير مناجاة الله تعالى والذل بين يديه.
قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً لكلامه، وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة)
(3)
.
وعلى هذا فلا خلاف بين أهل العلم في أن من تعمد الكلام في الصلاة لغير مصلحتها وهو عالم بالتحريم أن صلاته باطلة.
(1)
أخرجه مسلم (1/ 94) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1001).
(3)
"الأوسط"(3/ 234).
وإنما وقع الخلاف فيمن تكلم ناسياً أنه في صلاة، أو يظن أن صلاته تمت، أو تكلم لمصلحتها، ففي ذلك قولان:
الأول: أن صلاته باطلة، إلا أنهم يفرقون فيما كان لمصلحة الصلاة بين اليسير فلا تبطل والكثير فتبطل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(1)
، أخذاً بعموم (ونهينا عن الكلام) لأن المصلي قد فعل ما ينافي الصلاة، فتبطل لأنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة.
الثاني: أن صلاته صحيحة، وهذا قول مالك، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من المحققين
(2)
؛ لما يلي:
1 -
قصة ذي اليدين، وهي مذكورة في أحاديث «سجود السهو» .
2 -
قصة معاوية بن الحكم، كما تقدم.
3 -
قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال إجابة لهذا الدعاء:«قد فعلت» ، وفي رواية: قال: «نعم»
(3)
.
4 -
عموم حديث ابن عباس: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(2/ 446).
(2)
"الإشراف"(1/ 91)، "المجموع"(4/ 85)، "الاختيارات" ص (59).
(3)
أخرجه الدارقطني (4/ 170)، والبيهقي (7/ 356)، وغيرهما، وهو حديث صححه جمع من أهل العلم، له طرق وشواهد تؤيده من الكتاب والسنة، قال تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. وسيأتي شرحه في آخر كتاب "الطلاق" إن شاء الله تعالى.
(4)
رواه مسلم (199، 200).
ما يفعله من نابه شيء في صلاته
222/ 18 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ: «في الصَّلَاةِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «التصفيق للنساء» ، ومسلم (422) من طريق سفيان بن عيينة، حدثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم من طرق، عن أبي هريرة، فأخرجه من طريق الأعمش، عن أبي صالح - وهو ذكوان السمان - عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه - أيضاً - من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وزاد:(في الصلاة).
وأخرجه البيهقي (2/ 247) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي فإذنها التصفيق» ، قال الألباني:(هذا إسناد صحيح على شرط البخاري)
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الرجل إذا نابه شيء وهو يصلي
(1)
"السلسلة الصحيحة"(497).
كتنبيه إمام، أو تنبيه مارٍّ، أو من يريد منه أمراً وهو لا يدري أنه يصلي فإنه يسبِّح، فيقول: سبحان الله، وأن المرأة إذا نابها شيء وهي تصلي فإنها تصفق، وهذا من فضل الله تعالى على عباده، فإنه لما نسخ الله الكلام في الصلاة أبقى ما يُنتفع به ويحصل به المقصود كالتسبيح، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء» ، وفي لفظ:«من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت» ، وفي رواية:«إنما التصفيق للنساء»
(1)
، وهذا أسلوب من أساليب القصر.
وصفته: إما أن تضرب ببطن كفها على ظهر الأخرى، أو تضرب بظهر كفها على بطن الأخرى، أو ببطن كفها على بطن الأخرى، كما هو المعروف عند النساء الآن
(2)
، والأمر في ذلك واسع؛ لأن الشرع لم يحدد صفة معينة.
وإذا انتبه المنبَّه بالتسبيح مرة واحدة لم يعده المصلي مرة أخرى؛ لأنه ذكرٌ مشروع لسبب، فيزول بزوال سببه، وإن لم ينتبه كرره حتى يحصل المقصود.
وحكمة التفريق يبن الرجال والنساء في موضوع التنبيه أثناء الصلاة ظاهرة، فإن المرأة مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقاً خشية الافتتان بها، ولهذا نهيت عن رفع صوتها في القراءة والتلبية ونحو ذلك من مسائل العبادات، وكذا في غير العبادة لا ترفع صوتها إذا كان بحضرتها أجانب.
لكن إن كانت المرأة بحضرة نساء فقط فهل تسبح - لأن التسبيح ذكر مشروع في الصلاة بخلاف التصفيق - أو أنها تصفق مطلقاً؟ المسألة محتملة
(3)
فمن أخذ بعموم الحديث وأن النساء لهن التصفيق قال بالثاني، ومن أخذ بالتعليل المذكور والمعنى المتقدم قال: تسبح، وقد يؤيد ذلك ظاهر الحديث،
(1)
تقدم تخريجه عند الحديث (220).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (9/ 311).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (9/ 310).
فإن قوله: «فليسبح الرجال ولتصفق النساء» ، قد يفهم منه أن المراد مع اجتماع الرجال والنساء؛ لأنه أعطى كل صنف حكمه، فإذا انفردن سبَّحن.
الوجه الثالث: إذا أخذنا برواية الحصر: «إنما التصفيق للنساء» ، فهي دليل على أن التصفيق من خصائص النساء، وأنه لا مدخل للرجال في ذلك بحال من الأحوال.
وبهذا يتبين أن ما يفعله كثير من الناس من التصفيق في المحافل عند رؤيتهم ما يعجبهم أن هذا سخف ودليل على قلة العقل، والله تعالى ذم المشركين بقوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] والمكاء: هو الصفير، والتصدية: التصفيق، كما قال بذلك جمهور المفسرين.
ثم إنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا سلف هذه الأمة إذا رأوا ما يعجبهم أو سمعوا الخطب والأشعار أنهم يصفقون، وإنما حدث ذلك عن طريق التشبه بأعداء الله تعالى، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واستقبله المهاجرون والأنصار ولم ينقل أنهم صفقوا.
فالمسلم إذا أعجبه شيء يقول: ما شاء الله، أو يقول: الله أكبر، ونحو ذلك مما له أصل في الشرع في مثل هذه الأحوال، والله تعالى أعلم.
البكاء في الصلاة لا يبطلها
223/ 19 - وعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَال: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَفي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرجَلِ، مِنَ الْبُكَاءِ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، إِلاَّ ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو مُطَرِّفُ - بضم الميم وفتح الطاء فراء مشددة مكسورة ثم فاء - بن عبد الله بن الشخير - بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المعجمة المشددة - العامري البصري، قال ابن سعد:(كان ثقةً، له فضل وورع ورواية وعقل وأدب)
(1)
، وقال في «التقريب»:(ثقة عابد فاضل)، مات سنة خمس وتسعين.
ووالده عبد الله بن الشخير، له صحبة ورواية، يُعَدُّ في البصريين روى عنه أبناؤه: الأول: مطرف، والثاني: يزيد أبو العلاء، وهو أصغر من مطرف بعشر سنوات، كما روى البخاري ذلك في «تاريخه» ، وهو ثقة، وله أحاديث صالحة، والثالث: هانئ، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «البكاء في الصلاة» (904)، والترمذي في «الشمائل» «المختصر» (276)، والنسائي (3/ 13)،
(1)
"الطبقات"(7/ 142).
(2)
"التاريخ الكبير"(8/ 345)، "الثقات"(7/ 582)، "الاستيعاب"(6/ 239)، "الإصابة"(6/ 116)، "تهذيب التهذيب"(11/ 20، 298).
وأحمد (26/ 238)، وابن خزيمة (665، 753)، وابن حبان (753)، والحاكم (1/ 264) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف، عن أبيه.
وإسناده صحيح على شرط مسلم، صححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن خزيمة، والألباني في تعليقه على «الشمائل» ، وقال الحافظ:(إسناده قوي)
(1)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (وفي صدره أزيز) بفتح الهمزة بعدها زاي معجمة مكسورة ثم ياء ثم زاي، أي: صوت وغليان بالبكاء.
قوله: (كأزيز المرجل) بكسر الميم، وهو القدر، فإنه عند غليان الماء فيه بالنار يخرج منه صوت.
وقوله: (من البكاء) بيان لما قبله، والبكاء: بالمد، خروج الدمع مع الصوت.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى أو النشيج لا يبطلها، ولا يؤثر فيها؛ لأن هذا ليس من الكلام، وإنما هو من آثار الخشوع والانطراح فيها بين يدي الله تعالى عند قراءة الآيات أو سماعها، قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر بن الخطاب في صلاة الصبح وهو يقرأ من سورة يوسف، وأنا في آخر الصفوف، يقرأ:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]
(2)
.
فإن كان البكاء في الصلاة لغير خشية الله تعالى بل لعارض آخر كأن يأتيه خبر وهو يصلي بأن فلاناً قد مات فيبكي، فالمشهور من مذهب الإمام
(1)
"فتح الباري"(2/ 206).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور، وعلّقه البخاري (2/ 206 فتح) وقال الحافظ:(إسناده صحيح)[تغليق التعليق 2/ 300].
أحمد أنه يبطل الصلاة إن ظهر منه حرفان، وهو قول مالك، وأبي حنيفة
(1)
، لكن إن غلبه البكاء ولم يستطع دفعه فالصواب أن صلاته لا تبطل؛ لأن هذا بغير اختياره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(فأما ما يغلب على المصلي من عطاس وبكاء وتأوهٍ، فالصحيح عند جمهور العلماء أنه لا يبطل، وهو منصوص أحمد وغيره)
(2)
، والله أعلم.
(1)
"المغني"(2/ 453)، "الكافي" لابن عبد البر (1/ 243)، "المجموع"(4/ 89)، "الاختيار"(1/ 62)، "فتح الباري"(2/ 206).
(2)
"الفتاوى"(22/ 623).
التنحنح في الصلاة لا يبطلها
224/ 20 - وعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَدْخَلَانِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي تَنحْنَحَ لِي. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه النسائي (3/ 12) في كتاب «السهو» باب «التنحنح في الصلاة» ، وابن ماجه (3708)، وأحمد (2/ 43) من طريق أبي بكر بن عياش، عن مغيرة، عن الحارث العُكْلي، عن ابن نُجَيٍّ قال: قال علي: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان: مدخل بالليل ومدخل بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي.
وهذا لفظ ابن ماجه، وهو لفظ «البلوغ» ، وليس عند النسائي من هذا الطريق (وهو يصلي) وإنما هو عنده من طريق آخر، وهذا إسناد ضعيف لثلاثة أمور:
الأول: الكلام في بعض رواته، وهو أبو بكر بن عياش
(1)
، فإنه وإن كان ثقة وهو من رجال البخاري، لكنه كبر وساء حفظه، كما في «التقريب» ، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(ثقة وربما غلط)، فَيُرَدُّ من حديثه ما يعلم أنه أخطأ فيه كما قال ابن حبان
(2)
، ووصف الألباني كلمة ابن حبان هذه بأنها من أحسن ما قرأت فيه.
وهذا الحديث قد أخطأ فيه، فإنه قد خولف في إسناده ومتنه، كما سيأتي.
(1)
صحَّح الحافظ في "تهذيبه"(12/ 37) أن اسمه كنيته.
(2)
"العلل ومعرفة الرجال"(2/ 481)، "الثقات"(7/ 668 - 670).
وعبد الله بن نُجيّ متكلم فيه، فقد وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في «الثقات»
(1)
، وقال البخاري وابن عدي:(فيه نظر)
(2)
، وقال الدارقطني:(ليس بقوي في الحديث)
(3)
وقال الحافظ: (صدوق)، فمثله لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، لكن اختلف في سماعه من علي رضي الله عنه فقد نفى سماعه منه ابن معين فقال:(لم يسمع من علي، بينه وبين علي: أبوه)
(4)
ومثله قال الدارقطني
(5)
واختاره المزي
(6)
، وقال البزار: (سمع هو وأبوه من علي
(7)
)، وهذا يدل عليه ما ورد عند الطحاوي في الطريق الآتي، وكذا عند النسائي كما في «الخصائص»
(8)
.
الأمر الثاني: الاختلاف في إسناده، فقد جاء الحديث من طريق جرير - وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن مغيرة بن مِقْسم، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن نجي به، أخرجه النسائي (3/ 12)، وابن خزيمة (904)، وأبو يعلى (592) فخالف جرير أبا بكر بن عياش فزاد في الإسناد بين الحارث وعبد الله بن نجي أبا زرعة بن عمرو، والحارث وأبو زرعة كلاهما له رواية عن ابن نُجي، وجاء من طريق عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عمارة بن القعقاع، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن نجي قال: قال علي .. فذكره، أخرجه أحمد (2/ 13)، والطحاوي في «المشكل» (5/ 7)، بلفظ (قال: قال لي علي
…
) وابن خزيمة (904)، ومن الاختلاف في سنده أنه جاء من طريق شرحبيل بن مدرك الجعفي، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عند أحمد (2/ 77)، والنسائي (3/ 12)، وابن خزيمة (902).
وهذا إسناد ضعيف لجهالة نجي والد عبد الله، فإنه لم يرو عنه غير ابنه، ولم يوثقه إلا ابن حبان وقال:(لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد)
(9)
،
(1)
"الثقات"(5/ 30).
(2)
"تهذيب التهذيب"(6/ 50).
(3)
"العلل"(3/ 258).
(4)
"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (110).
(5)
"العلل"(3/ 258).
(6)
"تحفة الأشراف"(7/ 416).
(7)
"تهذيب التهذيب"(6/ 50).
(8)
انظر: "السنن الكبرى"(7/ 449).
(9)
"الثقات"(5/ 480).
وقال الحافظ في «التقريب» : (مقبول)، وفي هذا الإسناد انفرد شرحبيل بذكره، كما نص على ذلك ابن خزيمة.
الأمر الثالث: الاختلاف في المتن، فقد جاء من طريق جرير وعبد الواحد بلفظ:(فإن كان في صلاة سبح) مكان قوله: (تنحنح) وجرير وعبد الواحد أوثق من ابن عياش.
وعلى هذا فالحديث لا يثبت بلفظ: (تنحنح) فقد تفرد به ابن عياش، على ما ذكر ابن خزيمة، فإنه قد ترجم على هذا الحديث بقوله:«باب الرخصة في التنحنح في الصلاة عند الاستئذان على المصلي إن صحت هذه اللفظة، فقد اختلفوا فيها» ، وممن ضعفه البيهقي (2/ 247)، والطحاوي كما سيأتي، والنووي فإنه قال:(وضعفه ظاهر)
(1)
، وضعَّفه الألباني
(2)
، وقد نقل الحافظ أن ابن السكن قد صححه
(3)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن التنحنح في الصلاة غير مبطل لها، لكن الأفضل للمصلي أن يسبِّح؛ لأن الأحاديث الواردة في التسبيح أقوى، يقول الطحاوي لما ذكر الاختلاف في متن هذا الحديث:(فوقفنا بذلك على أن رواته بالمعنى الأول من التنحنح قد خالفوا فيه، وأن مكان التنحنح المذكور فيه التسبيح في الحديث الثاني، وكان ذلك هو أولى عندنا؛ لأن الآثار التي روتها العامة من أهل العلم فيما ينوب الرجل في الصلاة مما يستعملونه فيه هو التسبيح، وأن ما يستعمله النساء في مثل ذلك هو التصفيق)
(4)
.
والتنحنح والنحنحة: هو تردد الصوت في الجوف، يقال: نحَّ نحيحاً: تردد صوته في جوفه، والنحيح: هو الصوت يُردد في الجوف
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المجموع "(4/ 80).
(2)
"تمام المنة" ص (312).
(3)
"التلخيص"(1/ 303).
(4)
"شرح مشكل الآثار"(8/ 5)، وانظر:"الفتاوى"(22/ 616 - 624) ففيها تفصيل وافٍ في النحنحة وغيرها من الأصوات الحلقية.
(5)
"اللسان"(2/ 612).
المصلي يرد السلام بالإشارة
225/ 21 - وعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ لِبِلَالٍ: كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيُهِمْ حِيْنَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ هكَذا، وَبَسَطَ كَفَّهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» ، باب «ردِّ السلام في الصلاة» (927)، والترمذي (368) من طريق جعفر بن عون، ثنا هشام بن سعد، ثنا نافع قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: خرج رسول الله إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق.
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الكتاب هو لفظ الترمذي، فقد أخرجه هو وأحمد (39/ 320) من طريق وكيع، حدثنا هشام به، إلا أن في آخره:(قال: كان يشير بيده)، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح)، والحديث صححه الألباني
(1)
، مع أن هشام بن سعد متكلم فيه من قبل حفظه، قال الحافظ في «التقريب»:(صدوق له أوهام)، وقال الألباني:(الذي استقر عليه رأي المحققين أنه حسن الحديث إذا لم يخالف، ومع المخالفة فلا يحتج به)
(2)
.
(1)
"السلسلة الصحيحة" رقم (185)(318).
(2)
"فتح الباري" لابن رجب (9/ 359)، "إرواء الغليل"(4/ 91).
وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث، فقال إسحاق بن منصور:(قلت لأبي عبد الله: هل يسلم على القوم وهم في صلاة؟ قال: نعم، وذكر هذا الحديث)
(1)
.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بجواز السلام على المصلي وأنه لا كراهة في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم سلامهم بل أقرهم عليه، وهذا قول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مذهب الحنابلة والشافعية، ونقل ابن القاسم عن مالك أنه قال: لم يكن مالك يكره السلام على المصلين، وحكى عنه ابن وهب أنه لم يكن يعجبه أن يسلم الرجل على المصلي
(2)
، واختار هذا القول ابن المنذر
(3)
.
والقول الثاني: أنه يكره السلام على المصلي، وهذا مروي عن جابر رضي الله عنه، وبه قال عطاء والشعبي وإسحاق، وهو قول الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد؛ لأنه يُشغل قلب المصلي؛ ولأنه ربما غلط فردَّ بالكلام
(4)
.
الوجه الثالث: استدلّ بهذا الحديث من قال بأن المصلي يرد السلام بالإشارة، وأن الإشارة لا تبطل الصلاة ولو كانت إشارة مفهومة؛ لأنها قليلة لحاجة، وإنما الذي يبطلها الرد بالكلام؛ لأنه خطاب، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة
(5)
.
والقول الثاني: أنه يكره للمصلي ردُّ السلام ولو بالإشارة، وهذا قول
(1)
"مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه" برواية إسحاق بن منصور (2/ 624).
(2)
انظر: "المجموع"(4/ 105)، "المغني"(2/ 460)، "المدونة"(1/ 189)، "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" ص (37).
(3)
"الأوسط"(3/ 250).
(4)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 337)، "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 73)، "الأوسط"(3/ 250)، "بدائع الصنائع"(1/ 237)"المبدع"(1/ 513).
(5)
انظر: "المدونة"(1/ 189)، "المجموع"(4/ 103)، "المغني"(2/ 460).
الحنفية
(1)
، واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة - فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلِّم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال:«إن في الصلاة شغلاً»
(2)
.
قالوا: فيتناول هذا الحديث جميع أنواع الردّ، ولأن في الإشارة ترك سنة وضع اليدين.
والقول الثالث: أن المصلي يرد السلام إذا فرغ من صلاته، وهذا مروي عن أبي ذر رضي الله عنه، وبه قال عطاء والنخعي، بل قال النخعي وسفيان الثوري إذا انصرفت، فإن كان قريباً فاردد عليه، وإلا فاتبعه السلام
(3)
.
والقول الأول أظهر، فإن الأحاديث الواردة في هذا الباب صالحة للاستدلال بها، وقد احتج بها الإمام أحمد وعمل بها، أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فهو محمول على نفي الرد بالكلام دون الإشارة، جمعاً بين الأدلة
(4)
.
وعلى القول بأن المصلي يرد بالإشارة، فقد ورد أن الإشارة تكون بالكف على ما تقدم في سياق الحديث، وورد في السنّة صفات أخرى ومنها: الرد بالإشارة بالإصبع، والأظهر أنها السّبّاحة؛ لأنها أيسر؛ ولأن العادة جرت برفعها.
وقد وردت هذه الصفة في حديث ابن عمر - أيضاً - عن صهيب قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه، فردَّ عليَّ إشارة، وقال الليث بن سعد أحد رواته: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بإصبعه
(5)
.
(1)
"بدائع الصنائع"(1/ 237).
(2)
تقدم تخريجه عند الحديث (192).
(3)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(2/ 338)، "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 75 - 84)، "الأوسط" لابن المنذر (3/ 253)، "فتح الباري" لابن رجب (9/ 356).
(4)
"الأوسط"(3/ 229).
(5)
أخرجه أبو داود (925)، والترمذي (2/ 363)، والنسائي (3/ 5)، وأحمد (31/ 259)، وحسّنه الترمذي.
قال الشوكاني: (ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار بإصبعه مرة، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع حملاً للمطلق على المقيد)
(1)
.
كما ورد الرد إيماءً بالرأس، وذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه:(فأومأ برأسه)، وفي رواية:(فقال برأسه، يعني: الرد)
(2)
.
وفي ثبوت هذه الصفة نظر، لضعف الحديث، والأولى الاقتصار على الصفتين الأوليين.
قال الشوكاني: (ويجمع بين الروايات أنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزاً)
(3)
، والله أعلم.
(1)
"نيل الأوطار"(2/ 370).
(2)
أخرجه البيهقي (2/ 260) من رواية محمد بن الصلت التَّوَّزي، وقد تفرّد به، قاله البيهقي، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يهم).
(3)
"نيل الأوطار"(2/ 371).
حكم حمل الصبي ووضعه في الصلاة
226/ 22 - وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَها، وإذَا قَامَ حَمَلَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إذا حمل جارية على عنقه في الصلاة» (516)، ومسلم (543) من طريق مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم من طريق سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير به، وفيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص - وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه ..
وأخرجه مسلم - أيضاً - من طريقين آخرين، أحدهما: شاركه فيه البخاري، وهو طريق سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم الزرقي، سمع أبا قتادة يقول
…
ومن طريق ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي به، وهذا فيه انقطاع، قال أبو داود:(مخرمة لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً)، ونقل المزي هذه العبارة عن أبي داود، وزاد:(وهو حديث الوتر)
(1)
،
(1)
"تهذيب الكمال"(27/ 326).
وقال الإمام أحمد: (هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما روى كتاب أبيه) نقله عنه ابن أبي حاتم
(1)
، وعلى هذا فروايته كتاب أبيه وجادة، والوجادة من طرق التحمل عند أهل العلم، فالحديث صحيح، ومنهج الإمام مسلم في هذا معروف، وهو ترتيبه المرويات حسب ما ذكر في مقدمة «صحيحه» ، وقد جعل هذا في آخر الباب.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان يصلي) أي: صلاة الظهر أو العصر، لما ورد عند أبي داود من حديث أبي قتادة قال: بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عنقه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه
…
الحديث
(2)
، وفي رواية لمسلم:(يؤم الناس).
وقوله: (كان يصلي) لم يقع هذا الفعل إلا مرة واحدة، ففيه ما يدل على أن هذه العبارة لا تدل على التكرار مطلقاً.
قوله: (وهو حامل أمامة) الجملة في محل نصب على الحال من فاعل (يصلي) و (حامل) بالتنوين اسم فاعل، و (أمامة) منصوب باسم الفاعل على أنه مفعول به.
وروي بالإضافة، كما قرئ قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] بالتنوين والإضافة، وكلاهما سبعيتان، وقد ورد عند أبي داود: (بينما نحن في المسجد جلوساً خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة
…
وهي صبية)
(3)
وهذا يدل على أنها كانت صغيرة.
وهذه الرواية مطلقة، لكن وقع عند البخاري في «الأدب» ومسلم (على عاتقه)
(4)
، وتقدم أن العاتق ما بين المنكب والعنق.
(1)
"المراسيل" ص (220).
(2)
"السنن"(920).
(3)
"السنن"(918) وإسناده صحيح.
(4)
البخاري (5996)، ومسلم (543)(42).
وأُمامة: بضم الهمزة وتخفيف الميمين، وهي بنت أبي العاص بن الربيع، ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها.
قوله: (بنت زينب) نسبها إلى أمها لشرف نسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لأن أباها كان مشركاً آنذاك، وزينب هي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرى بناته، وقيل: أكبر أولاده، ولدت وللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة، وزَوَّجَها ابن خالتها أبا العاص قبل البعثة بيسير، ثم هاجرت، وتركته على شركه، واسمه لقيط بن الربيع بن عبد العزى القرشي العبشمي رضي الله عنه وأمه هالة بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة لأبيها وأمها، أسلم قبل الفتح في المحرم سنة سبع، وهاجر، فردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب
(1)
، وماتت زينب سنة ثمان من الهجرة، وغسلتها أم عطية رضي الله عنها مع أخريات، كما سيأتي في «الجنائز» إن شاء الله.
وقد ثبت في «الصحيحين» بعد قوله: (بنت زينب) قوله: (ولأبي العاص) وهي معطوفة على زينب بإظهار اللام المقدرة في الإضافة، والتقدير: بنت لزينب ولأبي العاص، ونسبتها ثانية لأبيها فيه مراعاة للأدب في نسبتها له، لبيان أنه أبوها الحقيقي، وقد أخرجه البخاري في «الأدب» - كما تقدم - بلفظ:(خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه)
(2)
.
قوله: (فإذا سجد) معطوف على قوله: (يصلي)، وفي رواية عند البخاري ومسلم:(فإذا ركع وضعها) أي: وضعها على الأرض.
قوله: (وإذا قام) أي: من السجود إلى الركعة التالية حملها، وعند أبي داود: (حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام، أخذها فردها في مكانها
…
).
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن العمل المشابه لهذا الفعل لا يبطل الصلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، وسواء أكان إماماً أم منفرداً، وقد تقدم في رواية مسلم:(أنه كان يؤم الناس)، وإذا جاز ذلك في حال الإمامة جاز في حال الانفراد، وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة بالأولى.
(1)
سيأتي ذلك -إن شاء الله- في كتاب "النكاح".
(2)
"صحيح البخاري"(5996).
قال الحافظ ابن رجب: (والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلاً عن أن يبطلها .. )
(1)
.
وقد ذكر العلماء لهذا الحديث تأويلات بعيدة، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه شغل كثير، كما ذكر القرطبي
(2)
، فقال بعضهم: إنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: إن أُمامة كانت تعلَّق به من دون فعل منه، وبعضهم قال: إن هذا في النافلة، وبعضهم قال: هذا للضرورة وإذا لم يوجد من يكفي الطفل ويحفظه، وبعضهم قال: إنه منسوخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها، وهذا قاله ابن عبد البر، ومال إليه القرطبي.
وهذه دعاوى لا يلتفت إليها، وبعضها يرده سياق الحديث، كما تقدم؛ فالصواب أن مثل هذا العمل لا يؤثر في الصلاة.
وقد اختلف العلماء في ضابط الحركة التي تبطل الصلاة، فمن أهل العلم من حددها بثلاث حركات، ونسب هذا إلى ابن عقيل الحنبلي
(3)
، وهو قول ضعيف لأمرين:
الأول: أن كل من حدد شيئاً بعدد معين أو كيفية معينة فعليه الدليل؛ لأن التقدير بابه التوقيف، وهذا لا توقيف فيه
(4)
.
الثاني: أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة، كما في هذا الحديث، وفي صلاة الكسوف تقدم ورجع وتأخر
(5)
.
وقال آخرون: يُرجع في هذا إلى العرف، فما عُدَّ في العرف كثيراً فهو كثير يبطل الصلاة، وما عُدّ في العرف يسيراً فهو يسير لا يبطلها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة
(6)
، وهذا فيه شيء من الضعف؛ لأن الأعراف تختلف
(1)
"فتح الباري"(4/ 114).
(2)
"المفهم"(2/ 152).
(3)
"الإنصاف"(2/ 98).
(4)
"الشرح الكبير على المقنع"(3/ 613).
(5)
أخرجه البخاري (1052)، ومسلم (525).
(6)
"الإنصاف"(2/ 97).
باختلاف البلدان واختلاف الأفهام، فقد يرى بعض الناس هذا كثيراً، وقد يراه آخرون قليلاً.
والقول الثالث: أن الكثير من الحركة ما خُيل للناظر أن المتحرك ليس في صلاة، وهذا حكاه صاحب «الإنصاف»
(1)
بلفظ: (وقيل)، ولعل هذا هو أظهر الأقوال وأقربها، وهو أن كل حركة تنافي الصلاة بحيث إذا رؤي الشخص يتحرك خُيِّل للناظر أنه ليس في صلاة، فهي مبطلة للصلاة، أما الشيء اليسير الذي لا ينافيها فلا يبطلها.
ويمكن أن تقسم الحركة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام مستفادة من الأدلة وهي:
1 -
حركة مأمور بها، وهي كل حركة تتوقف عليها صحة الصلاة، أو كمالها، فالأول: كما لو رأى على غطاء رأسه أو عباءته نجاسة فألقاها، وكما لو استدار إلى القبلة لما تبين له الصواب، ومن أدلة ذلك ما ورد في «الصحيحين» من استدارة الصحابة رضي الله عنهم إلى الكعبة لما أُخبروا بتحويل القبلة إليها
(2)
، وقد ورد في «الصحيحين» أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من ورائه إلى يمينه لما وقف عن يساره
(3)
، وهذا على القول بعدم صحة الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه.
والثاني: وهو ما يتوقف عليه كمال الصلاة، كالتقدم إلى مكان فاضل، كسدِّ فرجة في الصف، أو تَحَرُّكٍ لتسوية الصف، فهذه مأمور بها لكمال الصلاة.
2 -
حركة منهي عنها، فإن كانت كثيرة متوالية لغير حاجة فهي مبطلة للصلاة - على ما تقدم - وإلا فهي مكروهة، وهي كل حركة يسيرة لغير حاجة، كما عليه كثير من الناس من العبث بالساعة أو النظر إليها أو تسوية غطاء
(1)
"الإنصاف"(2/ 98).
(2)
أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526).
(3)
سيأتي تخريجه -إن شاء الله- في باب (الإمامة).
الرأس أو العبث باللحية ونحو ذلك، فكل ذلك مكروه؛ لأنه ينافي الخشوع في الصلاة، فإن كَثُر وتوالى فهو محرم مبطل للصلاة.
3 -
حركة مباحة، وهي اليسيرة لحاجة أو الكثيرة للضرورة، فالأولى كما في حديث الباب، والكثيرة للضرورة كما في حالة الخوف إذا لم يتمكنوا معه من أداء الصلاة على الوجه المطلوب فإنهم يصلون وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم، قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239]
(1)
.
ومن الحركة المباحة أن يحك جسده أو يصلح إزاره إذا استرخى، وقد نقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه سأله حرب عن الرجل يصلي فتحتك ساقه فيحكه، فكأنه كرهه، قلت: يحكه بقدمه؟ قال: هو بالقدم أسهل، وكأنه رخص فيه.
ونقل عن بعض متأخري الحنابلة أنه قال: الحك الذي لا يصبر عنه المصلي لا تبطل صلاته وإن كَثُر
(2)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز حمل الأطفال في الصلاة؛ لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفوٌّ عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم طاهرة، ما لم تتحقق نجاستها، ولو كان محكوماً بنجاستها لم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم وهو حامل أمامة، وقد نصَّ الشافعي وغيره على طهارتها.
والقول الثاني: أنه لا يحكم بطهارتها؛ لأنهم لا يتنزهون من البول، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، والأول أصح؛ لأن هذا الحديث يدل على طهارتها
(3)
.
الوجه الخامس: حسنُ خلق النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته وملاطفته للصبيان جبراً لهم ولوالديهم، وهذا فيه التواضع مع الصبيان، وسائر الضعفة ورحمتهم
(1)
انظر: "الشرح الممتع"(3/ 356)، "فتاوى ابن عثيمين"(13/ 309).
(2)
"فتح الباري"(9/ 285).
(3)
"فتح الباري" لابن رجب (4/ 149).
وملاطفتهم، ولذا أعاد البخاري هذا الحديث في كتاب «الأدب» - كما تقدم - وبوّب عليه:«باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» .
الوجه السادس: في الحديث دليل على يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها، حيث إن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وكذا الكثير المتفرق.
الوجه السابع: الحديث دليل على جواز إدخال الصبيان المساجد، وقد استدل بذلك النسائي حيث بوَّبَ على هذا الحديث بـ (إدخال الصبيان المساجد)
(1)
. ويدل لذلك أن هذه الصلاة كانت مكتوبة، وهي لا تكون إلا في المسجد كما تقدم، والله تعالى أعلم.
(1)
"سنن النسائي"(2/ 45).
حكم قتل الحية والعقرب في الصلاة
227/ 23 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ في الصَّلاةِ: الحَيَّةَ، والْعَقْرَبَ» . أَخْرَجَه الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «العمل في الصلاة» (921)، والترمذي (390)، والنسائي (3/ 10)، وابن ماجه (1245)، وابن حبان (2352)، كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن ضمضم بن جَوْس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
فهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير ضمضم بن جوس فمن رجال أصحاب السنن، وهو ثقة، ويحيى بن أبي كثير: ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل - كما في «التقريب» - وقد صرح بالتحديث عند أحمد (16/ 117).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اقتلوا الأسودين) تثنية أسود، يطلق على الحية والعقرب على أيِّ لون كانا، ولو لم يكونا أسودين، وتسميتهما بذلك من باب التغليب؛ لأن المسمى بالأسود في الأصل: الحية، هكذ ذكروا.
قوله: (الحية والعقرب) بيان للأسودين، والحية: دابة من الزواحف، طويلة البطن، جسمها محرشف، عديم الأطراف، وهي أنواع، بعضها أخبث من بعض، وهي تلدغ بواسطة العضِّ بفمها، ثم تفرز مادة سامة تنتقل إلى
اللديغ، ولذا قال علماء اللغة: لدغته العقرب: لسعته، ولدغته الحية: عضته.
والعقرب: دابة معروفة، تلسع بشوكة في طرف ذيلها، فتفرز مادة سامة، وهو لفظ يطلق على الذكر والأنثى.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب قتل الحية والعقرب في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في قوله: «اقتلوا .. » ، ويغتفر في ذلك المشي اليسير أو أخذ النعل لضربها، ونحو ذلك.
ولعلّ الأمر بقتلهما والمسامحة عما يحصل من الحركة مقصود به مبادرة الفرصة قبل فواتها، كإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، ونحو ذلك مما يفوت بفوات وقته؛ ولأن في قتلهما دَفْعَ انشغال الخاطر بهما، ولا سيّما في حال الصلاة، وإزالة الأذى.
وظاهر الحديث أن قتلهما غير مقيد بضربة أو ضربتين، لكن الظاهر أنه إن احتاج قتلهما إلى معالجة كثيرة فسدت صلاته، كما إذا قاتل في صلاته؛ لأنه عمل كثير ليس من أعمال الصلاة.
وكذا لو كانت الحية أو العقرب بعيدة ويخشى منها على نائم أو على طفل، فالذي يظهر من قواعد الشريعة أنه يقطع صلاته ويقتلها، كحالة الغرق أو الحريق أو العدو ونحو ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: سألته، قلت: الرجل يصلي، فيرى صبياً على بئر يتخوف أن يسقط بها أينصرف؟ قال: نعم، قلت: فيرى سارقاً يريد أن يأخذ بغلته؟ قال: ينصرف
(1)
، وقد علق البخاري الجزء الثاني بمعناه
(2)
.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن بعض الحنابلة أنه قال: (إنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير في أخذ الشيء، فإن كان العمل يسيراً لم تبطل به الصلاة)
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصنَّف"(2/ 262).
(2)
انظر: "فتح الباري"(3/ 81).
(3)
"فتح الباري"(9/ 337).
باب سترة المصلي
السُّترة، بالضم: ما يُستتر به مطلقاً، لكن غلب إطلاقها عند الفقهاء على ما ينصبه المصلي أمامه، لمنع المرور بين يديه من عصا أو سوط، أو غير ذلك من شجرة أو دابة أو سارية ونحو ذلك.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه يستحب للمصلي إماماً كان أو منفرداً أن يصلي إلى سترة، سواء صلّى في العمران أو في الفضاء، لما ورد في ذلك من السنّة القولية والفعلية.
ولا فرق على الأظهر بين أن يخشى المصلي ماراً أو لا يخشى، فتستحب له السترة مطلقاً، وإنما وقع الخلاف في وجوبها، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما المأموم فلا يسن له أن يتخذ سترة؛ لأن ذلك لم يرد؛ ولأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقد حكى جمع من أهل العلم كابن بطال، وابن حزم، والقاضي عياض الإجماع على أن المأموم لا يكلف اتخاذ سترة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى إلى العنزة، ولم يرد أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم اتخذ غيرها
(1)
، وورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد
(2)
)، ولا ريب أن الصلاة إلى سترة فيها فوائد ومصالح؛ منها:
(1)
"المحلى"(4/ 12)"شرح ابن بطال"(2/ 128).
(2)
أخرجه البخاري (76)، ومسلم (504).
1 -
امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذها، واتباع هديه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي إلى سترة حضراً وسفراً، والإنسان يثاب على اتباع السنّة وإحيائها.
2 -
أن الصلاة إلى سترة تحفظ على المصلي صلاته من مرور الشيطان أمامه وقطعه لصلاته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا صلّى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته»
(1)
(2)
.
ومرور الشيطان أمام المصلي يؤدي إلى استيلائه عليه وتمكنه من قلبه بالوسوسة إما كلاًّ وإما بعضاً، بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وهذا يؤثر على خشوع المصلي وخضوعه وتدبُّره القراءة والذكر.
3 -
كف البصر عما وراء السترة، لا سيّما إذا كانت سترة شاخصة، كسارية أو جدار، وهذا أمر محسوس، فإن المصلي إلى سترة يرى أنه أجمع لقلبه وأقرب لخشوعه، وأغض لبصره.
4 -
أن السترة تنفع المصلي، فلا تبطل صلاته إذا كان المار مما يقطعها، ولا تنقص إذا كان المار ممن لا يقطعها، وتنفع المار لأنه يكون له مجال المرور من وراء السترة فلا يحوجه إلى المرور بين يديه فيقع في الإثم، أو الوقوف حتى تنتهي صلاته، وهذا فيه حرج.
(1)
أخرجه أبو داود (2/ 388)، وابن خزيمة (2/ 13)، والحاكم (1/ 251) من حديث سهل بن أبي خيثمة، وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين).
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(19/ 52)(21/ 15).
حكم المرور بين يدي المصلي
228/ 1 - وعَنْ أَبي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمْ المَارُّ بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَوَقَعَ فِي «الْبَزَّارِ» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: «أَرْبَعِينَ خَرِيفاً» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو جهيم ويقال: أبو جهم، عبد الله بن الحارث بن الصِّمَّة - بكسر المهملة وتشديد الميم - الأنصاري النجاري، صحابي معروف، وهو ابنُ أختِ أُبي بن كعب رضي الله عنهما له حديثان، أحدهما هذا، والآخر في السلام على من يبول
(1)
، وهو غير صاحب الأنبجانية، فذاك يقال له: أبو الجهم، وهو قرشي، وهذا أنصاري، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه.
وهل أبو جهيم هو عبد الله بن جهيم؟ قولان، فأبو حاتم ومن وافقه يرى أنهما اثنان، وأن عبد الله بن جهيم هو راوي هذا الحديث، وابن الحارث هو راوي حديث البول.
وابن منده وابن عبد البر يريان أنهما شخص واحد، قال ابن عبد البر:(أبو جهيم عبد الله بن جهيم الأنصاري)، ثم ذكر حديثه هذا
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (337)، ومسلم تعليقًا (114، 369).
(2)
"الاستيعاب"(11/ 181)، "الإصابة"(11/ 68).
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إثم المار بين يدي المصلي» (510)، ومسلم (507) من طريق مالك، عن أبي النضر
(1)
مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم
…
فذكره.
وزاد البخاري ومسلم: قال أبو النضر: لا أدري أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. وأخرجه مسلم - أيضاً - من طريق سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر به.
ولفظ البخاري ومسلم سواء، وعليه فلا وجه لقول الحافظ: واللفظ للبخاري، إلا إن كان يريد لفظة (من الإثم) وأنها للبخاري دون مسلم، وهذا غير صحيح، فإنها ليست في صحيح البخاري ولا مسلم، وقد روى الحديث باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، كما ذكر ذلك الحافظ، وذكر أنه عِيْبَ على صاحب «العمدة» في إيهامه أنها في «الصحيحين» ، فالعجب من نسبة المصنف لها هنا إلى الشيخين، فقد وقع له من الوهم ما وقع لصاحب «العمدة» ، وذكر الحافظ أنها من زيادات الكُشْمَيْهَنِي، وذكر احتمال أن تكون هذه اللفظة وجدت في حاشية أصل البخاري، فظنها بعض رواة البخاري - وهو الكشميهني - أصلاً، فزادها؛ لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، بل كان راوية.
لكن البخاري بوّب على الحديث - كما تقدم - بقوله: «باب: إثم المار بين يدي المصلي» وكأن هذا الذي غرَّ الكشميهني في ظنه المذكور، وأما البخاري فقد اعتمد في ترجمته على ما يفهم من معنى الحديث.
أما رواية البزار فقد أخرجها في «مسنده» (9/ 239)(3782) من طريق سفيان - وهو ابن عيينة ـ، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد قال:
(1)
اسمه: سالم بن أبي أمية، تابعي ثقة، مات سنة (129 هـ).
أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله عن المار بين يدي المصلي، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو يعلم المارّ بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفاً خير له من أن يمر بين يديه» .
وقد ذكر العلماء أن ابن عيينة أخطأ في الحديث سنداً ومتناً
(1)
، أما في السند فلأنه خالف مالكاً والثوري الراويين عن أبي النضر، فروى الحديث عنه مقلوباً، فجعل المسؤول هو زيد بن خالد، والسائل أبو جهيم، وفي لفظ الصحيحين السائل زيد بن خالد والمسؤول أبو جهيم، وهو عندهما من طريق مالك، وكذا رواه في «الموطأ» (1/ 154) وتابعه الثوري عند مسلم وغيره، ومالك والثوري إذا اجتمعا كانا أولى من ابن عيينة، على أن ابن عيينة روى الحديث على الصواب، فيما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 83) ومن قبله ابن خزيمة (2/ 14).
أما الخطأ في المتن فقد تفرّد ابن عيينة بلفظة: (أربعين خريفاً) فرواها عن أبي النضر، وهي لم ترد في رواية مالك والثوري عنه، فإن أبا النضر قال: لا أدري أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. وهذه رواية الجماعة، ورواه أحمد، عن ابن عيينة (28/ 286) بما يوافق رواية الجماعة ولفظه:(لا أدري من يومٍ أو شهرٍ أو سنةٍ .. )، وما دام أن الأئمة رووا الحديث عن ابن عيينة على الصواب، فلعل الخطأ المذكور من الراوي عنه، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (لو يعلم المار) لو: حرف شرط، يدل على ما كان سيقع لوقوع غيره نحو: لو حضر أخوك لحضرت، أي: كان سيقع حضوري فيما مضى لو حضر أخوك، والتقدير هنا: سيقع اختيار الوقوف في الزمن الماضي لو وقع المرور بين يدي المصلي.
والشرط قوله: يَعْلَمُ، والجواب: لكان أن يقف، وقيل: محذوف تقديره: لاختار أن يقف.
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (4/ 90).
والمراد بالمار: العابر من اليمين إلى الشمال أو بالعكس، وخرج بذكر المار: القائم والقاعد والنائم وغيره، فلا إثم عليه إلا إن قصد بذلك التشويش على المصلي فهو في معنى المار
(1)
.
قوله: (بين يدي المصلي) أي: أمام المصلي من قدميه إلى منتهى سجوده على الأظهر، وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رمية حجر، وقيل: إذا بَعُدَ عرفاً بحيث لا يمكن دفعه إلا بالتقدم خطوات، وهذا إذا لم يتخذ المصلي سترة، فإن اتخذ سترة فإنه يمر وراءها ولا حرج.
والتعبير باليدين من باب المجاز المرسل، حيث عبّر بالبعض عن الكل، قيل: وجه ذلك لأن أكثر عمل الإنسان بهما حتى نسب الكسب إليهما في نحو: بما كسبت يداك، وأشباهه.
قوله: (ماذا عليه من الإثم) أي: من العقوبة.
قوله: (لكان أن يقف) أي: يبقى واقفاً منتظراً فراغ المصلي، و (أن) وما بعدها في تأويل مصدر اسم (كان)، و (خيراً) خبرها، والتقدير: لكان وقوفه أربعين خيراً له من أن يمر.
قوله: (خريفاً) الخريف: الفصل الذي تُخرف فيه الثمار، وهو أحد فصول السنة الأربعة: الشتاء والربيع والخريف والصيف.
وقد أُبهم المعدود في رواية «الصحيحين» وغيرهما، تفخيماً للأمر وتعظيماً، وإن كان ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه، معترضاً في الصلاة، كان لأن يقيم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها»
(2)
.
(1)
"فتح الباري"(1/ 586).
(2)
أخرجه ابن ماجه (946)، وأحمد (14/ 431)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(1/ 84) وغيرهم من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة به، وفي سنده مقال؛ لأن عبيد الله بن موهب ليس بالقوي، وعمه: عبيد الله بن عبد الله لم يوثقه إلا ابن حبان.
لكن ذكر الحافظ أن هذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين
(1)
.
وقد مال الطحاوي إلى أن حديث أبي هريرة - هذا - متأخر عن حديث الباب الذي هو حديث أبي جهيم؛ لأن في حديث أبي هريرة زيادة في الوعيد، وهذا يناسب تأخره تغليظاً، لا تقدمه، فيكون ما في حديث الباب تخفيفاً؛ لأن المقام مقام زجر وتخويف، والله أعلم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وأنه من المسائل التي جاء فيها الوعيد، وقد ذكر الشوكاني أن هذا دليل على أن المرور بين يدي المصلي من الكبائر
(2)
، وذلك - والله أعلم - لأن المصلي واقف بين يدي الله تعالى يناجيه، وفي المرور بين يديه قطع لمناجاته، وتشويش عليه، وقد نقل ابن حزم الإجماع على أنه آثم
(3)
.
وقد عبّر جمع من أهل العلم كابن عبد البر وابن حزم والبغوي بكراهة المرور بين يدي المصلي، والظاهر أن المراد كراهة التحريم، لما ثبت في ذلك من الوعيد الشديد
(4)
، ولَمَّا قال الترمذي:(والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، كرهوا المرور بين يدي المصلي)، قال الشارح المباركفوري:(المراد بالكراهة عند الترمذي: التحريم)
(5)
، فيجب على المسلم أن يحذر المرور بين يدي المصلي أو التساهل في ذلك، خشية الوقوع تحت هذا الوعيد، كما أنه ينبغي للمصلي أن يبتعد عن الصلاة في طرق الناس والأمكنة التي لا بدّ لهم من المرور بها، كالممرات في مثل المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمساجد الكبيرة؛ لئلا يعرض صلاته للنقص أو التشويش، ويعرض المارة للإثم، أو الحرج بالوقوف حتى يفرغ من صلاته.
(1)
"فتح الباري"(1/ 585).
(2)
"نيل الأوطار"(3/ 8).
(3)
"مراتب الإجماع"(35).
(4)
"فتح الباري" لابن رجب (4/ 95).
(5)
"التحفة"(2/ 305).
الوجه الخامس: المصلي إن صلّى إلى سترة حرم المرور بينه وبين سترته، وكذا لو اتخذ سجادة يصلي عليها، فإن هذه السجادة محترمة، فلا يحل لأحد أن يمر بين يدي المصلي فيها.
فإن كان المصلي إلى غير سترة، فإن المحرم ما بين قدمه وموضع سجوده، فلا يحل لأحد أن يمر في هذا الموضع، وإنما قيّد بذلك على الأظهر؛ لأن المصلي لا يستحق أكثر مما يحتاج إليه في صلاته، فليس له الحق أن يمنع الناس مما لا يحتاجه، فإن بعُد المار سلم من الإثم؛ لأنه إذا بعُد عنه عرفاً لا يسمى ماراً بين يديه، فهو كالذي يمر من وراء السترة.
الوجه السادس: الراجح من قولي أهل العلم أن المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام محرم، لا فرق في ذلك بينه وبين غيره، لعموم هذه الحديث، وليس هناك دليل يخص مكة أو المسجد الحرام. ومن تراجم البخاري في صحيحه:«باب السترة بمكة وغيرها» قال ابن حجر: (أراد البخاري التنبيه على ضعف الحديث - يعني حديث المطلب ابن أبي وداعة - وأنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، قال: وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها)
(1)
.
وقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى ركعتي الطواف جعل المقام بينه وبين البيت
(2)
.
وعن صالح بن كيسان قال: (رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحداً يمر بين يديه، يبادره، قال: يرده)
(3)
.
لكن إن صلّى الإنسان في مكان يحتاج الناس المرور فيه كالممرات الموجودة داخل المسجد الحرام فإن الجناية من المصلي نفسه؛ لأن الحق
(1)
"فتح الباري"(1/ 576).
(2)
أخرجه مسلم (1218).
(3)
علّقه البخاري في "صحيحه" بصيغة الجزم (1/ 582 فتح) ووصله الحافظ في "تغليق التعليق"(2/ 247) وإسناده صحيح.
للمارة، وكذا من يصلي في المطاف، فإنه لا حرمة له، ولا يلزم الناس أن يتحاشوا المرور بين يديه؛ لأنه هو الذي وقف يصلي في مكانهم.
وقد نصّ جمع من أهل العلم على أنه في حال الزحام الشديد في مكة لا يدفع المار بين يديه، وإنما النهي فيما إذا وجد المار سبيلاً، لكن على المسلم أن يتقي الله ما استطاع، ولا يتهاون في هذا الأمر، كما عليه كثير من الناس، فإن غُلِبَ على ذلك فلا بأس إن شاء الله تعالى، لما يترتّب على منع المرور بين يدي المصلي من الحرج الشديد على المار والممرور عليه، لما يسببه ذلك من مضاعفة الزحام، والله أعلم.
مقدار ارتفاع السترة
229/ 2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالت: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوك - عَنْ سُتْرَةِ المُصَلِّي فَقَالَ: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «سترة المصلي» (500) من طريق أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
…
فذكرته.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مثل مؤخرة الرحل) بضم الميم وسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة، هي العود الذي يكون في آخر الرحل، يستند إليه الراكب، قال النووي: هي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع
(1)
.
والظاهر أن طولها غير مقدر، فقد تكون نصف ذراع، وقد تكون أكثر أو أقل، وكأن هذا - والله أعلم - بيان لنوع السترة، وليس تحديداً لمقدارها، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يكفي من السترة ما كان بمقدار مؤخرة الرحل في الارتفاع، أي: بمقدار ثلثي ذراع تقريباً، وهذا ليس على سبيل التحديد، بل هو على سبيل التقريب؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استتر بالجدار والعَنَزة والحَرْبَةِ ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما هو أطول بكثير من مؤخرة الرحل، وفي الحديث الآتي أمر بالاستتار ولو بسهم، وهو أقصر من مؤخرة الرحل، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(4/ 463).
الأمر باتخاذ السترة وأنه لا تحديد لعرضها
230/ 3 - وَعَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ» . أَخْرَجَهُ الْحَاكِم.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو ثُرية - بضم المثلثة وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية، ويقال: ثَريَّة بالفتح - سَبْرة - بفتح السين وسكون الباء الموحدة - ابن معبد الجهني رضي الله عنه نزل المدينة، وأقام بذي المروة
(1)
، وهو والد الربيع بن سبرة الجهني، روى عنه ابنه الربيع، وروى عن الربيع جماعة، وأجلّهم ابن شهاب، وهو راوي حديث المتعة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن فيها بمكة ثلاثة أيام ثم حرمت إلى يوم القيامة، وحديثه في مسلم، وسيأتي - إن شاء الله - في كتاب «النكاح» ، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه الحاكم (1/ 252)، وأحمد (24/ 57)، وابن أبي شيبة (1/ 278)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (6542) من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استتروا بصلاتكم ولو بسهم» ، هذا لفظ الحاكم من هذا الطريق، وأما ما في الكتاب فهو لفظ ابن أبي شيبة.
(1)
قرية بوادي القرى.
(2)
"الاستيعاب"(4/ 129)، "الإصابة"(4/ 120).
والحديث سنده حسن؛ لأن عبد الملك بن الربيع ضعفه ابن معين
(1)
. وقال ابن القطان: (لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم قد أخرج له فغير محتج به، وعسى أن يكون الحديث حسناً لا ضعيفاً)
(2)
.
وقد ذكر الحافظ أن مسلماً أخرج له متابعة حديثاً في المتعة
(3)
، ونقل - أيضاً - أن العجلي وثقه، كما وثقه الذهبي
(4)
، ثم إنه لم يتفرد به عبد الملك، فقد تابعه أخوه عبد العزيز عند الحاكم من طريق حرملة (1/ 252)، والبخاري في «التاريخ» (4/ 187) من طريق سبرة كلاهما عن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد، عن أبيه، عن جده مرفوعاً:«ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم» وقد وثقه ابن حبان
(5)
. وقال الحافظ في «التقريب» : (صدوق ربما غلط)، وأما الربيع فثقة.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (ولو بسهم) لو: تفيد التقليل، والسهم: هو النصل العريض الذي يبلغ طوله فِتْراً تقريباً
(6)
، والفتر، بالكسر: ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة بالتفريج المعتاد
(7)
، ويقدر بحوالي ستة عشر سم، فإذا غرز جزء منه في الأرض ثلثه - مثلاً - بقي ثلثاه، وهو شيء قليل بالنسبة لمؤخرة الرحل.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن السترة تحصل بكل شيء ينصبه المصلي أمامه ولو كان قصيراً أو دقيقاً كالسهم، وظاهر هذا أنه لا يعدل إلى السهم إلا إذا لم يجد سترة كافية، كمؤخرة الرحل، لقوله:«ولو بسهم» ، وهذا دليل على تيسير الإسلام في موضوع السترة، وقد جاء ما هو أسهل من ذلك، وهو الاستتار بالخط، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الخامس: الحديث دليل على الأمر باتخاذ السترة في الصلاة،
(1)
" تهذيب التهذيب"(6/ 349).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(4/ 138).
(3)
"صحيح مسلم"(1406)(22).
(4)
"الكاشف"(3450).
(5)
"الثقات"(7/ 110).
(6)
"لسان العرب"(12/ 308).
(7)
"اللسان"(5/ 44).
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذا أمر إيجاب، فقالوا بوجوب اتخاذ السترة، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد جاء في «مسائل الإمام أحمد رواية: إسحق بن هانئ» قال: (رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أصلي، وليس بين يدي سترة، وكنت معه في المسجد الجامع، فقال لي: استتر بشيء، فاستترت برجل)
(1)
، ونقل ابن مفلح، والمرداوي
(2)
القول بالوجوب عن كتاب «الواضح» .
وممن قال بالوجوب ابن خزيمة، فقد جاء في «صحيحه» ما يدل على أنه يرى الوجوب، فإنه لما ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى بعرفة وليس شيء يستره، ضعف هذا الحديث وقال: قد زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي إلا إلى سترة، فكيف يَفْعل ما يزجر عنه صلى الله عليه وسلم؟!!
وقد ترجم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تصل إلا إلى سترة
…
) بقوله: «باب النهي عن الصلاة إلى غير سترة»
(3)
.
وممن قال بالوجوب أبو عوانة، فقد بوّب لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور بقوله: «باب إيجاب تقدم المصلي إلى سترة
…
»
(4)
، وكذا الشوكاني
(5)
، والألباني
(6)
.
ومن أدلتهم حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليجعل أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل ويصلي»
(7)
.
ومن أدلتهم - أيضاً - حديث أبي سعيد رضي الله عنه وفيه: «إذا صلّى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها»
(8)
.
(1)
"مسائل الإمام أحمد" ص (66).
(2)
"المبدع"(1/ 489)، "الإنصاف"(2/ 103).
(3)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 9، 26 - 28).
(4)
"مسند أبي عوانة"(1/ 382).
(5)
" نيل الأوطار"(3/ 2).
(6)
"تمام المنة" ص (300).
(7)
أخرجه مسلم (499)، وابن الجارود (166) واللفظ له، وأخرجه أصحاب السنن إلا النسائي.
(8)
أخرجه أبو داود (2/ 390)، وابن ماجه (1/ 307)، وصححه ابن خزيمة (2/ 27).
فهؤلاء: أخذوا بصيغة الأمر على ظاهرها من الدلالة على الوجوب ولم يصرفوها عنها.
وقال الجمهور من أهل العلم: إن اتخاذ السترة غير واجب، بل هو سنّة، واستدلوا بما يلي:
1 -
أنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى في فضاء ليس بين يديه شيء
(1)
.
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في منى إلى غير جدار
(2)
، وقد نقل الحافظ عن الشافعي أنه قال: أي: إلى غير سترة
(3)
..
3 -
ما سيأتي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه»
(4)
.
ووجه الاستدلال به: أن قوله: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره» ، يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره، وقد لا يصلي؛ لأن مثل هذه الصيغة لا تدل على أن الناس كلهم يصلون إلى سترة، بل تدل على أن بعضهم يصلي إلى سترة، وبعضهم لا يصلي إليها.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 224)، والبيهقي (2/ 273) من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس، وقد عنعنه، لكن ورد من طريق أخرى عند أبي يعلى قال: حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت يحيى بن الجزار عن ابن عباس قال: جئت أنا وغلام من بني هاشم على حمار، فمررنا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فنزلنا عنه، وتركنا الحمار يأكل من بقل الأرض، أو قال: نبات الأرض، فدخلنا معه في الصلاة، ففال رجل: أكان بين يديه عنزة؟ قال: لا.
وهذا الإسناد رجاله ثقات، فهو متابعة قوية لحديث حجاج، لكن يحيى بن الجزار لم يسمع من ابن عباس، بينهما صهيب البصري، وهو ثقة، وعليه فالإسناد صحيح لظهور اتصاله.
(2)
أخرجه البخاري (76)، وأخرجه مسلم (504) وليس عنده (إلى غير جدار).
(3)
"الفتح"(1/ 171).
(4)
أخرجه البخاري (905)، مسلم (505).
4 -
أن الأصل براءة الذمة، فلا تشغل بالوجوب إلا بدليل صريح خالٍ عن المعارض، وأدلة الوجوب مصروفة عنه بهذه الأدلة.
والحق أن الأدلة صريحة في الوجوب؛ لأنها جاءت بصيغ الأمر المتعددة، وهو ظاهر في الوجوب، فإن وجد ما يصرفه عن الوجوب إلى الندب فذاك، وإلا بقي على أصله، وأدلة الجمهور ليست بناهضة في صرفه إلى الندب، فإن حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صلّى في فضاء ليس بين يديه شيء، مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على السترة حضراً وسفراً، إلا إن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وقد تقدم قول ابن خزيمة:(وقد زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي إلا إلى سترة فكيف يفعل ما يزجر عنه؟!).
وأما حديث ابن عباس الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في منى إلى غير جدار فهو محتمل أن معناه: إلى غير سترة، أو إلى سترة غير جدار، ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة؛ لأنه لا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم.
وأقوى ما في أدلة الجمهور حديث أبي سعيد رضي الله عنه فإن كان مؤيداً لما قبله في صرف الأمر إلى الندب، وإلا بقي الأمر للوجوب، والأحوط ألا يصلي أحد إلا إلى سترة، والله أعلم.
بيان ما يقطع الصلاة
231/ 4 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقْطَعُ صَلَاةَ المَرْءِ المُسْلِمِ - إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ ـ: المَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ
…
» الحديث.
وَفِيهِ: «الْكَلْبُ الأسْوَدُ شَيْطَانٌ» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
232/ 5 - وَلَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ دُونَ: «الْكَلْبِ» .
233/ 6 - وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوُهُ، دُونَ آخِرِهِ. وَقَيَّدَ المَرْأَةَ بِالحَائِضِ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي ذر رضي الله عنه: فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «قدر ما يستر المصلي» (510) من طريق حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» ، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال:«الكلب الأسود شيطان» .
هذا لفظ الحديث كما في «صحيح مسلم» ، والقائل: قلت .. هو عبد الله بن الصامت، والظاهر أن الحافظ ساقه بمعناه، فإن الحديث ليس فيه لفظ (المرء المسلم) وقد اعتمد عليها بعض الشرّاح المتأخرين، فاستنبط منها حكماً.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأخرجه مسلم - أيضاً - في الباب المذكور من طريق عبد الواحد - هو ابن زياد - حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» .
وقول الحافظ: (دون الكلب) ظاهره أنه لم يُذكر الكلب في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع أنه مذكور فيه، فهذا إما وهم من الحافظ، وإما أن المراد دون وصف الكلب، فسقطت كلمة (وصف) والله أعلم.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «ما يقطع الصلاة» (703)، والنسائي (2/ 64) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، حدثنا قتادة قال: سمعت جابر بن زيد، يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه شعبة قال:(يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب) والقائل: رفعه شعبة هو يحيى، كما في «المسند» (5/ 293).
وقد اختلف في رفعه ووقفه، فرفعه شعبة كما عند أبي داود والنسائي، وخالفه غيره من أصحاب قتادة، قال أبو داود عقبه:(وقفه سعيد وهشام وهمام عن قتادة عن جابر بن زيد على ابن عباس)، وقد رواه النسائي موقوفاً أيضاً.
فهؤلاء الثلاثة: سعيد بن أبي عروبة، وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهمام بن يحيى، كلهم رووه عن قتادة بن دعامة، عن جابر بن زيد موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما.
وقول الحافظ: (دون آخره) أي: دون آخر حديث أبي هريرة، وهو قوله:(ويقي من ذلك .. إلخ)، فهي ليست في حديث ابن عباس، مع أن الحافظ ما ذكر حديث أبي هريرة بلفظه، لكن يؤيد ذلك أنه أقرب مذكور، ويحتمل عود الضمير على حديث أبي ذر، ومراده قوله:(الكلب الأسود شيطان)، فهو ليس في حديث ابن عباس، ويؤيد ذلك أنه ساق حديث أبي ذر بلفظه، والله أعلم.
الوجه الثاني: هذه الأحاديث الثلاثة دليل على أن المصلي إذا لم يجعل له سترة لصلاته يكون أعلاها بقدر مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته واحد من ثلاثة أشياء: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فإن وضع سترة أمامه لم يضرَّه ما مرَّ من ورائها ولو كان واحداً من هذه الثلاثة.
والمراد بقطع الصلاة: فسادها وإبطالها، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة وأنس وابن عباس - في رواية عنه - وبه قال الحسن البصري، وهو رواية عن الإمام أحمد، حكاها المرداوي
(1)
واختارها المجد، ورجحها الشارح عبد الرحمن بن قدامة، ومال إليها الموفَّق
(2)
، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، وتلميذه ابن القيم
(4)
، قال المرداوي:(وهو الصواب).
والقول الثاني: أن هذه الأشياء وغيرها لا تقطع الصلاة ولا تبطلها، إنما المراد بأحاديث القطع: نقص الصلاة، لشغل القلب بهذه الأشياء، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن أحمد
(5)
.
واستدلوا بحديث أبي سعيد الآتي في آخر الباب: (لا يقطع الصلاة شيء)، وهو حديث ضعيف، لا تقوم به حجة، كما سيأتي إن شاء الله.
والقول الثالث: إن الصلاة لا يقطعها ويبطلها إلا مرور الكلب الأسود فقط، ولا تبطل بمرور المرأة ولا الحمار، وهذا قول أحمد وإسحاق، قال الأثرم: سئل أبو عبد الله: ما يقطع الصلاة؟ قال: لا يقطعها عندي إلا الأسود البهيم
(6)
.
(1)
"تصحيح الفروع"(1/ 472).
(2)
"المغني"(3/ 97)، "الشرح الكبير"(3/ 648).
(3)
"الفتاوى"(21/ 16).
(4)
"زاد المعاد"(1/ 306).
(5)
"شرح معاني الآثار"(1/ 460)، "بداية المجتهد"(1/ 428)، "المجموع"(3/ 250)، "المغني"(3/ 97).
(6)
"المغني"(3/ 97).
وحجة هذا القول أن الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض الأحاديث المذكورة، وهي حديث أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم، وأما المرأة فقد ورد عن مسروق عن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة - الكلب والحمار والمرأة - فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأنسلُّ من عند رجليه
(1)
.
وأما في الحمار فقد ورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي مرَّ ذكره أول الباب وفيه: (فمررت بين يدي بعض الصف .. ).
والراجح - والله أعلم - القول الأول، وهو أن هذه الثلاثة المذكورة تقطع الصلاة وتفسدها، لما يلي:
1 -
أن أحاديث القطع أقوى من دليل عدم القطع، فإن دليل عدم القطع ضعيف، والضعيف ليس بحجة في الأحكام الشرعية.
2 -
أنه ورد حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ: (تعاد الصلاة من ممر الحمار والمرأة والكلب الأسود)
(2)
، فهذا نص صحيح صريح لا مطمع لأحد في ردّه.
3 -
أن الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة أدرى منا بفهم نصوص الشرع ومعرفة مقاصده، فقد ورد عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر فدخل بيني وبينه - يريد جرواً - فمرَّ بين يديه، فقال لي ابن عمر: أما أنت فأعد الصلاة، وأما أنا فلا أعيد؛ لأنه لم يمر بين يدي، وفي رواية: أن جرواً مرَّ بين يدي ابن عمر فقطع عليه صلاته
(3)
.
والجرو: بكسر الجيم وضمها: ولد الكلب والسباع.
(1)
أخرجه البخاري (514)، ومسلم (512)(270).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (2/ 21)، وابن حبان (6/ 151) وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 282)، وابن حزم في "المحلى"(4/ 15) وإسناده صحيح، قال ابن حزم:(هذا أصح إسناد يكون).
وأما دليل أصحاب القول الثالث فأجيب عنه بما يلي:
أما حديث عائشة رضي الله عنها فعنه جوابان:
الأول: أن إنكارها إنما هو بحسب علمها وفهمها، وقد حفظ غيرها ما لم تحفظه، وهو أن المرأة تقطع الصلاة، والإنسان وإن كان عظيماً فإنه قد يخفى عليه ما حفظه غيره، شأنها في ذلك شأن غيرها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في قضايا معروفة.
الثاني: أن حديث أبي ذر مسوق مساق التشريع العام للأمة، وحديث عائشة هذا واقعة حال يتطرق إليها احتمالات عديدة، منها: أنها زوجته، والمرأة في حديث أبي ذر مطلقة، فيفيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها، بخلاف الزوجة.
ومنها: أن عائشة لم تَمُرَّ، وإنما كانت نائمة، وفرق بين المرور واللبث، وقد بوّب عليه البخاري بعدة أبواب منها:«باب الصلاة خلف النائم»
(1)
.
وأما حديث ابن عباس فأجيب عنه بأن الأتان لم يمرَّ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن مرّ بين يدي بعض الصف، وابن عباس راكب عليه، وهذا لا يؤثر، وقد بوّب عليه البخاري بقوله:«باب سترة الإمام سترة لمن خلفه»
(2)
، قال ابن القيم عن أحاديث القطع:(ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه)
(3)
.
الوجه الثالث: قيدت المرأة في حديث ابن عباس بالحائض، والمراد بها: البالغة، فأما غير البالغة أو الطفلة الصغيرة فلا تقطع الصلاة
(4)
؛ لأن الصغيرة لا يصدق عليها أنها امرأة.
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 587).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 571).
(3)
"زاد المعاد"(1/ 306).
(4)
"تصحيح الفروع"(1/ 474)، "الإنصاف"(2/ 107).
وجاء وصف الكلب بأنه أسود في حديث أبي ذر، وأطلق في حديث أبي هريرة فيحمل المطلق على المقيد، ولا يقطع الصلاة إلاّ الكلب الأسود، دون غيره؛ لأنه جاء وصفه بأنه شيطان، فدل على أن وصفه بالسواد مقصود.
وأما الحمار فجاء مطلقاً غير مقيد، وقيّده بعض الفقهاء بالأهلي، قال المرداوي:(وهو الصحيح)
(1)
؛ لأن اسم الحمار إذا أطلق ينصرف إلى المعهود المألوف في الاستعمال وهو الأهلي، ولأنه يخالف الوحشي في أن هذا طاهر ويباح أكله، وهذه المسألة مبنية على تخصيص العموم بالعرف، كما ذكر ابن رجب، وفرع عليها مسائل كثيرة
(2)
.
وقيل: الحمار الوحشي كالحمار الأهلي، أخذاً بظاهر اللفظ.
الوجه الرابع: يدخل في عموم الحديث مرور المرأة بين يدي المرأة، فإنه يقطع الصلاة؛ لأنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل.
وذهب ابن حزم إلى أن النساء لا يقطع بعضهن صلاة بعض
(3)
، مستدلًّا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»
(4)
.
وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال:(لا تقطع المرأة صلاة المرأة .. )
(5)
.
والأول أظهر، لقوة مأخذه، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما دليل ابن حزم فلا حجة فيه؛ لأن الحديث في صلاتهن جماعة، والمرأة لو مرّت بين صفوف الرجال لما قطعت صلاتهم، فكذا النساء، والله أعلم.
(1)
"تصحيح الفروع"(1/ 472).
(2)
"قواعد ابن رجب"(2/ 555).
(3)
"المحلى"(4/ 15).
(4)
سيأتي في باب (صلاة الجماعة والإمامة) إن شاء الله تعالى.
(5)
"المصنف"(2/ 28) وسنده صحيح.
ما يُصنع بمن أراد المرور بين يدي المصلي
234/ 7 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِن النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . مُتَّفَقٌ عليه.
235/ 8 - وفي رِوَايَةٍ: «فَإنَّ مَعَه الْقَرِينَ» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «يرد المصلي من مر بين يديه» (509)، ومسلم (505) من طريق سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن هلال العدوي قال: حدثنا أبو صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشدَّ من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فذكره .. ).
وهذا لفظ البخاري، وقد قرن مع رواية سليمان المذكورة رواية يونس بن عبيد، لكن القصة المذكورة من رواية سليمان، ولفظ يونس أورده البخاري في (بدء الخلق) كما سأذكره إن شاء الله.
وعند مسلم: «فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره» .
وأما رواية: «فإن معه القرين» ، فقد وردت عند مسلم (506) من طريق الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين» .
وظاهر صنيع الحافظ أن هذه الرواية من حديث أبي سعيد، وأنها من المتفق عليه، وليس كذلك، وإنما هي عند مسلم من حديث ابن عمر، كما ذكرت، وكان الأولى بالحافظ أن يشير إلى ذلك كما هي عادته، وقد وَهِمَ الصنعاني فعزا هذه الرواية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، وليس كذلك.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إذا صلى أحدكم إلى شيء) أي: جعل شيئاً أمامه في صلاته يحول بينه وبين الناس.
قوله: (أن يجتاز بين يديه) أي: قريباً منه بينه وبين سترته.
قوله: (فليدفعه) أي: فلينحه، وفي رواية مسلم - المتقدمة ـ:«فليدفع في نحره» واللام: لام الأمر.
قوله: (فإن أبى فليقاتله) أي: فإن امتنع أن يندفع ويرجع (فليقاتله) أي: فليدافعه بشدة، وليس المراد بذلك المقاتلة بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك بالإجماع، وإنما المراد أن يدفعه بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد منه، كما فعل أبو سعيد رضي الله عنه.
قوله: (فإنما هو شيطان) الضمير يعود على الشخص الممتنع عن الاندفاع والرجوع.
ومعنى «شيطان» أي: متمرد، وشيطان كل جنس: متمرِّدُه وعاتيه، قال تعالى:{شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] والمعنى: فإنما هو شيطان من بني آدم قد تعدى وعتا.
وهذه الجملة للتعليل، والغرض منها الحث على مدافعته، حيث إنه شيطان، ومروره يفسد على المصلي صلاته أو ينقصها.
أما ما تقدم في أول الباب من أن الشيطان يقطع مروره الصلاة، فالظاهر أن المراد به: شيطان الجن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يقطع الصلاة، أما شيطان الإنس فلم يرد ما يدل على أنه يقطع الصلاة - فيما أعلم - إلا ما خصه الدليل، وهو المرأة البالغة، على ما تقدم
(1)
.
قوله: (فإن معه القرين) لعل الحافظ أورد هذه الرواية؛ لأن فيها معنى آخر غير معنى الأولى، ومعناها: أن الحامل له على المرور بين يدي المصلي هو الشيطان الذي هو قرينه، فهو الذي يؤزُّه ويسوقه إلى ذلك؛ لأنه من دعاة النار، وكل إنسان معه قرين، لما ورد في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن» ، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: «وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم
(2)
فلا يأمرني إلا بخير». وفي لفظ: «ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة .. »
(3)
، قال ابن الأثير:(«ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه» أي: مصاحبه من الملائكة والشياطين، وكل إنسان فإن معه قريناً منهما، قرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه، وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه)
(4)
.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية دفع من أراد المرور بين يدي من صلّى إلى شيء يستره من الناس؛ لأن مروره يشوش على المصلي صلاته، ويوقع المار في الإثم.
وظاهر الحديث أن دفع المار واجب لقوله: «فليدفعه» ، وهذا أمر فيقتضي الوجوب، ويؤيد ذلك قوله:«فإن أبى فليقاتله» ، وهو رواية عن الإمام
(1)
انظر: "إتحاف الإخوة" ص (55).
(2)
قوله: (فأسلم) بضم الميم وفتحها، فالضم على معنى: فأسلمُ أنا منه، وهي التي صححها الخطابي ورجحها، والفتح على معنى: أنه أسلمَ، من الإسلام، ورجحها القاضي عياض في "شرحه على مسلم" (8/ 350) لقوله:"فلا يأمرني إلا بخير".
(3)
أخرجه مسلم (2814).
(4)
"النهاية"(4/ 54).
أحمد، نصّ عليها ابن مفلح
(1)
والمرداوي
(2)
، ونسب الحافظ
(3)
القول بالوجوب إلى الظاهرية، واختاره الشوكاني
(4)
.
ويرى آخرون أن الأمر بالدفع أمر ندب واستحباب، وهو متأكد، قال النووي:(لا أعلم أحداً من العلماء أوجبه)
(5)
، وتعقبه الحافظ ابن حجر بما تقدم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مدافعة المار تكون بالأسهل فالأسهل، فيدفعه بالإشارة ولطيف المنع، فإن أبى أن يندفع ويرجع دافعه بشدة؛ لأنه شيطان، ولو سقط في هذا الحال وأصابه شيء من جرح أو كسر فإنه غير مضمون؛ لأنه هو المتعدي.
الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن دفع المار مقيد بوضع السترة لقوله: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره» ، ومفهومه أنه إن لم يضع سترة فليس له أن يدفعه، لتقصيره بترك السترة، وهذا قول جماعة من أهل العلم كالخطابي، والبغوي، والنووي، وابن القيم، وابن حجر، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم.
وقد حكى النووي الاتفاق على أن الدفع مختص بمن اتخذ سترة
(6)
، وهذا فيه نظر، فإن الخلاف ثابت في ذلك، وممن حكاه النووي نفسه في شرحه على «المهذب»
(7)
.
فالقول الثاني في المسألة: أن المصلي يرد المار مطلقاً، سواء أكان بين يديه سترة فَمَرَّ دونها، أم لم تكن سترة فمر قريباً منه.
ولعلّ سبب الخلاف في ذلك: أن أحاديث دفع المار منها ما هو مقيد بوضع سترة، كحديث أبي سعيد باللفظ المذكور، ومنها ما هو مطلق، كما في
(1)
"الفروع"(1/ 471).
(2)
"الإنصاف"(2/ 94)، و"تصحيح الفروع"(1/ 471).
(3)
"فتح الباري"(1/ 584).
(4)
"نيل الأوطار"(3/ 8).
(5)
"شرح صحيح مسلم"(3/ 471).
(6)
المصدر السابق (3/ 470).
(7)
"المجموع"(3/ 249).
حديث أبي سعيد عند البخاري في (بدء الخلق) ولفظه: «إذا مرَّ بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه، فإن أبى فليمنعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان»
(1)
، وليس فيه تقييد الدفع بما إذا كان المصلي يصلي إلى سترة، وكذا حديث ابن عمر - المتقدم ـ، ولفظه:«إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين» ، وليس فيه ذكر السترة.
فمن أهل العلم - ومنهم الحافظ ابن حجر - من قال: يحمل المطلق على المقيد، فلا يرد المار إلا إذا وضع سترة؛ لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر في تركها.
وقال آخرون: لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن هذا قيد أغلبي، فلا مفهوم له في أنه إذا صلّى إلى غير سترة لا يرد، بل يرده مطلقاً إذ لا تعارض بين المطلق والمقيد، فالمقيد يبقى على تقييده فيدفع إن اتخذ سترة، ويبقى المطلق على إطلاقه فيرد ولو لم يتخذ سترة؛ لأن المصلي مأمور بالصلاة إلى سترة - كما تقدم - ومأمور بدفع المار، سواء امتثل فوضع سترة أم لم يمتثل فلم يضع سترة.
وقد تقدم في حديث أبي جهيم أنه يحرم المرور بين يدي المصلي سواء أكان له سترة أم لا، فهذا يؤيد أنه يدفعه مطلقاً، لأن المار يحرم عليه المرور، فيجب منعه من ارتكاب الحرام، ومن التشويش على المصلي، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز
(2)
.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز الحركة في الصلاة لمصلحتها حيث شرع للمصلي ردّ المار ومدافعته.
الوجه السابع: الحديث دليل على عظم مرتبة الصلاة، ومناجاة الله تعالى حيث وجب احترام المصلي، وعدم تعاطي ما فيه تشويش عليه، أو شغل عما هو فيه، والله أعلم.
(1)
"صحيح البخاري"(3274).
(2)
تعليقه على "فتح الباري"(1/ 582).
جواز كون السترة خطاً إذا لم يكن غيره
236/ 9 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئاً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصاً، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطّاً، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، بَلْ هُوَ حَسَنٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (12/ 354 - 355)، وأبو داود (689)، وابن ماجه (943)، وابن حبان (2361)، من طريق إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثاً يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
فذكره.
وهذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه، فقد صححه قوم، وضعفه آخرون، فممن ضعفه: سفيان بن عيينة، فقد نقل عنه أبو داود أنه قال:(لم نجد شيئاً نشدُّ به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه)
(1)
، أي: فهو حديث غريب، وقال الدارقطني:(الحديث لا يثبت)
(2)
وضعفه - أيضاً - العراقي، وابن الصلاح - ومثّلا به للحديث المضطرب ـ
(3)
، وكذا ابن حزم، والنووي، والبغوي وجماعة آخرون، قال السخاوي: (حَكَم غير واحد من الحفاظ
…
باضطراب سنده، بل عزاه النووي للحفاظ)
(4)
.
(1)
"سنن أبي داود"(1/ 184).
(2)
"العلل"(8/ 50).
(3)
"مقدمة ابن الصلاح" ص (94)، "فتح المغيث"(1/ 257).
(4)
"المحلى"(4/ 263)، "شرح السنة"(2/ 451)، "فتح المغيث"(1/ 258).
وسبب ضعفه ثلاث علل:
الأولى: تفرّد إسماعيل بن أمية به، كما تقدم عن ابن عيينة ومن وافقه.
الثانية: أن إسماعيل بن أمية قد اضطرب في اسم شيخه، وفي كنيته، وهل روايته عن أبيه أو عن جده أو عن أبي هريرة بلا واسطة؟ فإنه مرة قال: عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جده، ومرة قال: عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده، وقال ثالثة: عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه.
العلة الثالثة: جهالة حال أبي عمرو بن محمد بن حريث، فقد جهله أبو جعفر الطحاوي والذهبي وابن حجر وغيرهم، وكذا جهالة جده حريث.
وصحح الحديث جماعة آخرون منهم: ابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر، ونَقَلَ تصحيحه عن الإمام أحمد، وعلي بن المديني
(1)
ونقل ذلك عنهما - أيضاً - عبد الحق الإشبيلي
(2)
كما صححه البيهقي
(3)
، وحسنه الحافظ ابن حجر، قال ابن رجب (وأحمد لم يُعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة، لا على الحديث المرفوع؛ فإنه قال في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف)
(4)
.
وقد أجاب ابن حجر وغيره عن المطاعن التي وجهت إلى الحديث بما يلي:
أما ما أُعل به من تفرد إسماعيل بن أمية فهذا فيه نظر، فإن للحديث طرقاً أخرى
(5)
وهي وإن كانت ضعيفة لكن تعددها يجعلها صالحة للاعتبار؛ لأن بعضها يشد بعضاً؛ لأنه ضعف ليس بشديد، فيزول بتعدد الطرق، كما هي قاعدة المحدثين.
(1)
"التمهيد"(4/ 199).
(2)
"الأحكام الوسطى"(1/ 345).
(3)
"السنن الكبرى"(2/ 271).
(4)
"فتح الباري"(4/ 40).
(5)
"مسند الطيالسي"(8/ 314)، "النكت على ابن الصلاح"(2/ 773)، "فتح المغيث"(1/ 259).
وأما العلة الثانية: وهي الاضطراب فقد نفاها الحافظ ابن حجر معللاً بأن الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحاً، واختلاف الرواة في اسم رجل أو في كنيته، وهل روايته عن أبيه أو عن جده؟ لا يؤثر في ذلك؛ لأن ذلك الرجل إن كان ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه، لا من قبل الاختلاف في اسمه
(1)
، ولذا قال - هنا - في «البلوغ»:(ولم يصب من زعم أنه مضطرب)، وكأنه يعني العراقي وابن الصلاح فإنهما قد مثلا به للمضطرب - كما تقدم ـ، وقد نقل السيوطي عن الحافظ أنه انتقد التمثيل بمثل هذا الحديث للمضطرب
(2)
!
ثم إن ابن خزيمة رجح إسناد: إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده حريث، عن أبي هريرة
(3)
.
وأما العلة الثالثة: وهي جهالة أبي عمرو بن محمد بن حريث، فإن أريد بها جهالة العين - وهو الغالب عند الإطلاق - فذلك مرتفع عنه؛ لأنه روى عنه إسماعيل بن أمية، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي المدني، وزاد ابن حبان: ابن جريج، وابن أبي محمد
(4)
، وبرواية اثنين تنتفي الجهالة، فكيف برواية أكثر من ذلك؟
وإن أريد بذلك جهالة الحال، فالظاهر أنها مرتفعة - أيضاً - لأن ابن حبان ذكره في «الثقات» وخَرَّجَ حديثه في «صحيحه» ، وكذا صححه ابن خزيمة والحاكم، قال ابن حجر:(وذلك مقتضى ثبوت عدالته عند من صححه)
(5)
، يعني بذلك أن تصحيح حديثه تعديل له.
والذي يظهر - والله أعلم - أن الحديث ضعيف، وما أجيب به عنه فهو غير ناهض، ويكفي في الحكم عليه كلام المتقدمين ومن بعدهم أمثال ابن
(1)
"النكت على ابن الصلاح"(2/ 772).
(2)
"تدريب الراوي"(1/ 265).
(3)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 13).
(4)
"الثقات"(7/ 218)، "تهذيب الكمال"(5/ 567).
(5)
"فتح الباري"(7/ 655).
عيينة، والدارقطني، وابن حزم، والعراقي
…
ومعلوم أن المصلي لا يلجأ إلى الخط في الغالب إلا عند عدم غيره مما يصلح سترة، فالعمل بالحديث أقل أحوال الاستطاعة، والله تعالى يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولذا قال النووي:(والمختار استحباب الخط؛ لأنه وإن لم يثبت الحديث ففيه تحصيل حريم للمصلي .. )
(1)
.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية اتخاذ المصلي سترة، وأن السنة أن ينظر، فإن وجد شاخصاً كجدار أو شجرة أو سارية صلّى إليها، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة
(2)
، فإن لم يجد نصب عصاً، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها .. الحديث
(3)
.
فإن لم يجد خطَّ خطًّا، ثم لا يضر من مرّ بين يديه إذا كان من وراء السترة، ولم يرد في الحديث كيفية الخط، فإن خطه بالطول أو على هيئة الهلال فلا بأس، وقد ورد عن الإمام أحمد ما يدل على ذلك
(4)
.
وموضوع الخط قد يحتاج إليه لإمكانه قديماً عندما كانت أرض المسجد وفناؤه مفروشة بالرمل، أما الآن فالمساجد فيها الفرش، فلا أثر للخط، إلا إذا كان الإنسان في الصحراء أو نحو ذلك.
ونقل النووي عن الغزالي والبغوي وغيرهما: أن المصلي إذا لم يجد شاخصاً بسط مصلاه
(5)
، فهذا فيه قياس فراش المصلي على الخط؛ بأن تكون نهاية السجادة من أمامه سترةً له، ومحل ذلك ما لم تطل السجادة من أمامه،
(1)
"المجموع"(3/ 248).
(2)
أخرجه البخاري (496)، ومسلم (508).
(3)
أخرجه البخاري (496)، ومسلم (501).
(4)
"مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" ص (44).
(5)
"المجموع"(3/ 248).
وإلا فلا تصلح أن تكون سترة
(1)
، ونقله الصنعاني، ونسبه للشافعية، ثم قال:«وهو صحيح»
(2)
، والله أعلم.
(1)
"المنهل العذب المورود"(5/ 80).
(2)
"سبل السلام"(2/ 156).
الصلاة لا يقطعها شيء
237/ 10 - وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ، وَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْتَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب (الصلاة) باب (من قال: لا يقطع الصلاة شيء)(719) من طريق مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان» .
وهذا الحديث ضعيف جداً لأمور ثلاثة:
الأول: أنه من رواية مجالد بن سعيد، قال فيه أحمد:(ليس بشيء)، وقال فيه ابن معين:(لا يحتج به)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال الدارقطني:(ضعيف)
(1)
.
الثاني: أنه من رواية أبي الودَّاك، وهو جبر بن نوف الهمداني البِكَالي - بكسر الباء - وهو ضعيف، ضعفه ابن حزم
(2)
وقال النسائي: (ليس بالقوي)، ووثقه ابن معين
(3)
وذكره ابن حبان في «الثقات»
(4)
، وقال الحافظ في «التقريب»:(صدوق يهم).
(1)
"تهذيب التهذيب"(10/ 36).
(2)
"المحلى"(4/ 18).
(3)
" تهذيب التهذيب"(2/ 52).
(4)
"الثقات"(4/ 117).
الثالث: أن مجالداً قد اضطرب في هذا الحديث، فمرة رفعه - كما هنا - ومرة أوقفه، فقد أخرجه أبو داود (720) والبيهقي من طريق مجالد به، ولفظه:(مَرَّ شاب من قريش من بين يدي أبي سعيد الخدري وهو يصلي، فدفعه، ثم عاد، فدفعه، ثلاث مرات، فلما انصرف، قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان»).
ففي السياق جاء موضع الشاهد من الحديث موقوفاً على أبي سعيد رضي الله عنه وقد ورد للحديث شواهد من حديث أنس، وأبي أمامة، وأبي هريرة رضي الله عنهم وغيرها، وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تُعارض بمثلها الأحاديث الصحيحة، الدالة على أن المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة، كما تقدم، ولا يشدّ بعضها بعضاً لما فيها من الضعف الشديد.
ولهذا حكم أئمة هذا العلم على حديث أبي سعيد وغيره بالضعف، فقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (يقطع الصلاة الكلب الأسود البهيم) أصح من حديث أبي سعيد: (لا يقطع الصلاة شيء)
(1)
.
وقال عبد الحق عن هذا الحديث: (هذا يرويه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف الحديث)
(2)
.
وضعفه النووي
(3)
. وقال ابن الجوزي بعد أن ساق حديث أبي سعيد وغيره: (هذه الأحاديث كلها ضعاف .. )، ثم بيّن وجه ضعفها
(4)
.
وكذا ضعف الحديث الشوكاني، والألباني
(5)
والشيخ عبد العزيز بن باز.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الصلاة لا يبطلها مرور شيء من امرأة أو حمار أو كلب أو غيرها بين يدي المصلي، وهذا الحديث هو عمدة الجمهور القائلين بعدم بطلان الصلاة، وأن القطع الوارد في مثل حديث أبي ذر
(1)
"علل الحديث"(204).
(2)
"الأحكام الوسطى"(1/ 347).
(3)
"المجموع"(3/ 246)، "الخلاصة"(1/ 525).
(4)
"تنفيح التحقيق"(3/ 51)، "العلل المتناهية"(1/ 449).
(5)
"نيل الأوطار"(3/ 16)، "تمام المنة" ص (306).
ـ المتقدم - يراد به شغل القلب وقطع الخشوع لا إفساد أصل الصلاة، كما تقدم.
أما القائلون بالبطلان فقد أجابوا عن هذا الحديث بأنه ضعيف، لا تقوم به حجة - كما تقدم - فلا تُعارض بمثله الأحاديث الصحيحة الدالة على القطع، ومنها: حديث أبي ذر وأبي هريرة الثابتين في «صحيح مسلم» ، والله أعلم.
باب الحث على الخشوع في الصلاة
هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله لبيان أهمية الخشوع وقيمته في الصلاة، وأنه روحها ولبها، فَذَكَرَ الأحاديث التي تضمنت النهي عن بعض الأفعال التي تضعف الخشوع أو تنافيه.
والخشوع في اللغة: هو السكون والانخفاض والهدوء، قال تعالى:{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} [طه: 108] أي: انخفضت وسكنت.
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39] أي: منخفضة ساكنة.
والخشوع في الصلاة: حضور القلب بين يدي الله تعالى، وسكون الجوارح واستحضار ما يقوله المصلي أو يفعله من أول صلاته إلى آخرها، مستحضراً عظمة الله تعالى وقربه من عبده، وأنه بين يديه يناجيه.
والحامل على الخشوع: هو الخوف من الله تعالى ومراقبته، والشعور بقربه من عبده، وكلما امتلأ القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه كلما قوي خشوعه.
والخشوع يحصل في القلب، ثم يتبعه خشوع الجوارح والأعضاء من السمع والبصر والرأس وسائر الأعضاء حتى الكلام، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: «
…
اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي، وعصبي، وما استقل به قدمي»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (771) من حديث علي رضي الله عنه الطويل. وسيأتي في باب "صفة الصلاة" إن شاء الله.
فإذا خشع القلب خشعت الجوارح، وظهر عليها السكون والطمأنينة والوقار والتواضع، وإذا فسد خشوع القلب بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء، وذهب خشوعها.
والخشوع أمر عظيم شأنه، أثنى الله تعالى على المتصفين به، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] وهو سريع فقده، لا سيما في هذا الزمان، وقد ورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً»
(1)
.
والخشوع في الصلاة هو روحها ولبها، ولا يحصل ذلك إلا لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، واستحضر فيها عظمة الله تعالى فصارت راحة له وقرة عين، والصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، إلا أن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها، لما ورد عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها»
(2)
.
وقد حكى النووي إجماع العلماء على استحباب الخشوع في الصلاة
(3)
، وهذا فيه نظر؛ فإن الغزالي نصر القول بالوجوب
(4)
، والقرطبي حكى في «تفسيره»
(1)
أخرجه الطبراني بإسناد حسن، كما قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 351)، وله شاهد من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند النسائي في "الكبرى"(5/ 392)، وأحمد (39 - 417 - 418) والطبراني في "الكبير"(7/ 354) وغيرهم، وانظر:"صحيح الترغيب والترهيب" للألباني (1/ 288)، والأحاديث في هذا وإن كانت لا تخلو من مقال، لكنها باجتماعها تقوى، والواقع يؤيدها، انظر:"إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" ص (9، 399).
(2)
أخرجه أبو داود (796) والنسائي في "الكبرى"(1/ 316)، وأحمد (31/ 189) والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(3/ 136 - 137) من طرق عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عمر بن الحكم، عن عبد الله بن عَنَمَةَ، عن عمار رضي الله عنه مرفوعًا، وحسنه الألباني. "صحيح الجامع"(2/ 65).
(3)
"المجموع"(2/ 314).
(4)
"الإحياء"(1/ 159).
القولين: الوجوب، وعدم الوجوب، وأنه من فضائل الصلاة ومكملاتها، ورجح الأول
(1)
. وممن قال بالوجوب الحافظ العراقي، وردَّ على النووي حكاية الإجماع
(2)
، وممن قال بوجوب الخشوع شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
وعلى المسلم أن يحذر خشوع النفاق، فقد ورد عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:(إياكم وخشوع النفاق) فقيل له: (وما خشوع النفاق؟) قال: (أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع)
(4)
. فخشوع الإيمان خشوع القلب، فيتبعه خشوع الجوارح، وخشوع النفاق ما يظهر على الجوارح تكلفاً وتصنعاً، والقلب غير خاشع.
وأسباب الخشوع نوعان، وكل منهما في مقدور المكلف:
الأول: جلب ما يوجب الخشوع ويقويه، وهو الذي يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية «قوة المقتضي»
(5)
ويتم ذلك بالاستعداد للصلاة، والتفرغ لها، والطمأنينة، وترتيل القراءة وتنويعها، وتدبرها، وتنويع الأذكار والأدعية وتدبرها، ولا سيما في حالة السجود.
الثاني: إزالة الشواغل ودفع الموانع التي تصرف عن الخشوع، وهذا هو الذي يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية «ضعف الشاغل» وهو الذي جاءت فيه أحاديث الباب، حيث تضمنت نهي المصلي عن أمور تنافي الخشوع أو تضعفه، فيتعين على المكلف اجتنابها ليحصل له الخشوع.
فينبغي للمصلي إذا دخل في صلاته أن يُعنى بها وأن يقبل عليها بقلبه وقالبه، حتى يحصل من الأجر والثواب والعاقبة الحميدة والتأثر بالصلاة ما لا يحصيه إلا الله تعالى، لأنها صلة بين العبد وربه، فيحذر ما يشغل قلبه.
وكثير من الناس إذا دخل الصلاة جعلها فرصة للعبث إما ببدنه أو بثيابه أو بنظره ها هنا أو ها هنا، وهذا لا ينبغي، بل يخشى عليه بطلان صلاته إذا كثرت الحركات، كما تقدم.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن"(12/ 104).
(2)
"طرح التثريب"(2/ 372).
(3)
"الفتاوى"(22/ 553).
(4)
"مدارج السالكين" ص (521).
(5)
"الفتاوى"(22/ 605).
النهي عن التخصر في الصلاة
238/ 1 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِراً. مُتَّفَقٌ عَليْهِ، وَاللَّفْظُ لمُسْلمٍ.
وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ عَلى خَاصِرَتِهِ.
239/ 2 - وَفِي الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ ذلِكَ فِعْلُ الْيَهُودِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «الخصر في الصلاة» من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، به (1219)، (1220). وأخرجه مسلم (545) بالإسناد الأول، واللفظ المذكور له، كما ذكر الحافظ.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» (3458) من طريق مسروق، عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (الرجل) لا مفهوم له، فالمرأة مثله.
قوله: (مختصراً)، اسم فاعل من (اختصر) الرجل فهو مختصر: إذا وضع يده على خاصرته، والخاصرة من الإنسان هي ما بين الورك وأسفل الأضلاع، قال النووي: (هذا هو الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل
اللغة والغريب والحديث
…
)
(1)
.
وقد ورد هذا التفسير عن ابن سيرين، أحد رواة الحديث
(2)
، ونقله عنه الحافظ في «فتح الباري»
(3)
وذكره هنا، ولعله ذكره ونص عليه بهذا المعنى، لورود الاختلاف في معناه، كما ذكره الشراح، فقد قيل: إن معناه: قراءة آية أو آيتين من أخر السورة، يكتفي بذلك عن السورة، وقيل: أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مرّ بها في الصلاة لئلا يسجد، وقيل: أن يتوكأ على عصا، وقيل غير ذلك.
الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المصلي أن يضع يديه على خاصرتيه، وهذا النهي عند الجمهور للتنزيه، قالوا: ولا تبطل به الصلاة، وهو قول فقهاء الحنابلة والشافعية وغيرهم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الحكمة من النهي عن الاختصار هي الابتعاد عن مشابهة اليهود، فإنهم يضعون أيديهم على خواصرهم في الصلاة، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه في حكمة النهي عن الاختصار في الصلاة، وأما ما قيل: إنه فعل الشيطان، أو أن إبليس أُهبط من الجنة كذلك، فهي علل لا تقف أمام ما ورد عن الصحابي الذي هو أعرف بسبب الحديث، ويحتمل أن يكون ذلك مرفوعاً.
ومناسبة الحديث للباب أن وضع اليد على الخاصرة دليل على عدم الخشوع، فإنه قد يَملّ، وقد يرفعها، وقد يرسلها، فهي لا تسلم من الحركة.
وقد دلت السنة على أن المصلي يضع يده اليمنى على اليسرى فوق السرة أو عليها أو تحتها، وسيأتي الكلام على ذلك في «صفة الصلاة» إن شاء الله.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(5/ 39).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 47 - 48).
(3)
(3/ 89).
حكم تأخير الصلاة إذا حضر العَشاء
240/ 3 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أنْ تُصَلُّوا المَغْرِبَ» مُتفقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «إذا حضر الطعام وأُقيمت الصلاة» (672) ومسلم (557) من طريق ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم» . وهذا لفظ البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا قدم العشاء) بفتح العين، الطعام الذي يؤكل في وقت العشي، وهو آخر النهار، وظاهر هذا الحديث وغيره أن عادة أهل المدينة أنهم يتناولون طعام العشاء قبل المغرب، لأنهم أهل حرث فلا يفرغون إلا آخر النهار، وكانت هي عادة أهل نجد قديماً، يأكلون طعام العشاء قبل المغرب، والغداء قبل الظهر، وهو شيء خفيف كالتمر واللبن، ثم صار الناس يأكلون العشاء بعد صلاة المغرب، ثم صاروا في هذه الأزمنة المتأخرة يأكلونه بعد صلاة العشاء بل ويتأخرون، وفي ذلك مفاسد كثيرة، والله المستعان.
قوله: (فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب)، الأمر للندب عند الجمهور، وحمله ابن حزم الظاهري
(1)
على الوجوب، فلو قدم الصلاة فهي
(1)
"المحلى"(4/ 46).
باطلة عنده، عملاً بظاهر الأمر، والأول أظهر، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على صحة من صلى بحضرة طعام فأكمل صلاته ولم يترك من فرائضها شيئاً
(1)
، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:(إذا وضع العَشَاءُ وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشَاء)
(2)
.
وهذا أعم من حديث الباب، فإن قوله:(وأقيمت الصلاة)، عام في المغرب وغيرها، ويؤيد ذلك الحديث الآتي:(لا صلاة بحضرة طعام).
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الطعام إذا قدم وقت صلاة المغرب فإنه يُبدأ به قبل أداء الصلاة، وعلى الآكل ألا يعجل حتى تنقضي حاجته منه، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ولا يتم ذلك إلا بحضور القلب وتفرغه من الشواغل - كما تقدم - فتقديم الأكل على الصلاة لتؤدَّى بخشوع وحضور القلب.
وليس هذا من باب التهاون بالصلاة أو تقديم حق العبد على حق الله تعالى، بل إنه من باب تعظيم الصلاة حتى يقبل عليها بقلبه وقالبه.
وظاهر الحديث أنه يقدم الطعام مطلقاً، سواء أكان محتاجاً إليه أم لا، لكن حمله أهل العلم على ما إذا كانت النفس محتاجة للطعام ومتعلقة به، أما مع عدم الحاجة إليه فلا ينبغي للمسلم أن يتخذ ذلك عادة، فيرتب موعد طعامه مع وقت حضور الصلاة، لأن هذا يفوت صلاة الجماعة، ولعلهم لاحظوا المعنى المراد، فإن النفس إذا لم تَتُقْ إلى الطعام فإن تقديم الصلاة لن يؤثر على الخشوع، بخلاف ما إذا تاقت إليه، ويؤيد ذلك قضايا وردت عن الصحابة رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن الصلاة تؤخر إذا قدم الطعام ولو فاتت الجماعة أو فات أول الوقت، لكن إن ضاق الوقت بحيث لو قدم الطعام
(1)
"التمهيدي"(22/ 206).
(2)
أخرجه البخاري (671) ومسلم (560).
لخرج الوقت، فالجمهور على تقديم الصلاة محافظة على الوقت، وعندهم التقديم مختص بالحالتين المذكورتين.
وذهب آخرون إلى وجوب تقديم الطعام محافظة على تحصيل الخشوع في الصلاة، ولعل المسألة مبنية على حكم الخشوع في الصلاة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن رجب (6/ 98).
حكم تسوية الحصى في الصلاة
241/ 4 - وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ في الصلاة فَلَا يَمْسَحِ الحَصَى؛ فإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَزَادَ أَحْمَدُ: «وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» .
242/ 5 - وفِي «الصَّحِيحِ» عن مُعَيْقِيبٍ نَحْوُهُ بِغَيْرِ تَعْلِيلٍ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو معيقيب - بضم الميم وفتح العين - ابن أبي فاطمة الدوسي مولى سعيد بن أبي العاص، وقيل: حليف لآل سعيد، شهد بدراً، وقد أسلم قديماً في مكة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك ابن القيم
(1)
، واستعمله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على بيت المال، روى عنه ابناه: محمد والحارث، وابن ابنه: إياس بن الحارث، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو قليل الحديث، مات سنة أربعين، وقيل: في آخر خلافة عثمان، رضي الله عن الجميع
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث أبي ذر رضي الله عنه أخرجه أبو داود (945) في كتاب «الصلاة» بابٌ
(1)
"زاد المعاد"(1/ 128).
(2)
"الاستيعاب"(10/ 259)، "الإصابة"(9/ 266).
«في مسح الحصى في الصلاة» والترمذي (379) والنسائي (3/ 6) وابن ماجه (1027) وأحمد (35/ 259) من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر رضي الله عنه، به.
وهذا إسناد ضعيف، لأن أبا الأحوص مجهول، لم يرو عنه غير الزهري، ولم يوثقه إلا ابن حبان
(1)
فلم تثبت عدالته وحفظه، قال النسائي:(لم نقف على اسمه، ولا نعرفه، ولا يعلم أحد روى عنه غير ابن شهاب)، وذكره الذهبي في كتابه:«من تُكلِّم فيه وهو موثَّق»
(2)
.
والحديث حسنه الترمذي، ولعله لشواهده، وصححه الحافظ هنا في «البلوغ» ، وهذا فيه نظر، فإنه قال عن أبي الأحوص في «التقريب»:(مقبول)، يعني عند المتابعة، ولم يتابع على هذا الحديث، فيكون ليِّن الحديث، ويدل على ذلك أنه خولف فيه، فقد أخرجه أحمد (35/ 351) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه، عن أبيه
(3)
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى؟ فقال: «واحدةً أو دع»).
ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، لكنه حَفِظَهُ، بدليل الحديث الذي بعده، وهو ما أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» ، باب:«مسح الحصى في الصلاة» (1207) ومسلم (546) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (حدثني معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: «إن كنت فاعلاً فواحدة»، والحديث له طريق أخرى عند الطيالسي (1/ 377) فقد رواه من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي ذر به، دون قوله:(أودَعْ) وعلى هذا فهو حديث صحيح، كما قال الألباني
(4)
.
وقول المصنف: وزاد أحمد: (واحدة أو دع)، ظاهره أنه زاد على اللفظ
(1)
"الثقات"(5/ 564).
(2)
ص (206).
(3)
أخوه هو عيسى بن عبد الرحمن، وأبوه هو عبد الرحمن.
(4)
انظر: "إرواء الغليل"(2/ 99).
السابق، وهذا غير مراد، لأن لفظه عند أحمد يختلف عن لفظه السابق، وقد تقدم سياق لفظه عند أحمد، ولو قال: وفي رواية لأحمد
…
لكان أوضح.
قوله: (بغير تعليل) أي: إن حديث معيقيب فيه النهي، دون التعليل بأن الرحمة تواجهه.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إذا قام أحدكم في الصلاة) هذا لفظ النسائي، والمثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه (إلى الصلاة). والمعنى: إذا شرع في الصلاة ليتفق اللفظان.
قوله: (فلا يمسح الحصى) أي: يسويه للسجود، والحصى: الحجارة الصغيرة، والتقييد بذلك خرج مخرج الغالب، لكونه الغالب على فَرْشِ مساجدهم، وإلا فلا فرق بينه وبين التراب والرمل، ويؤيد ذلك حديث معيقيب الآتي.
قوله: (فإن الرحمة تواجهه) هذا تعليل للنهي عن مسح الحصى، وقد ورد في رواية أبي داود وابن ماجه تقديم التعليل، ولفظهما:(إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى)، والمعنى: أن الرحمة تقابله وتنزل عليه فلا ينبغي أن يشتغل عنها بذلك.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا ينبغي للمصلي أن يمسح موضع سجوده من الأرض، بل عليه أن يقبل على صلاته ويخشع فيها، فيسجد على الأرض بدون مسح، قال الصنعاني:(إن النهي ظاهر في التحريم)
(1)
.
لكن إن كان هناك حاجة لتسوية موضع السجود وهو التراب أو الحصى فليكن ذلك مرة واحدة، وقد أخرج مالك بإسناد صحيح عن أبي جعفر القارئ أنه قال:(رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحاً خفيفاً)
(2)
، فإن سَوّى ذلك قبل دخوله في الصلاة فهو أفضل، لئلا يحتاج ذلك أثناء الصلاة، ولئلا ينشغل باله في الصلاة.
(1)
"سبل السلام"(2/ 166).
(2)
"الموطأ"(1/ 157).
الوجه الخامس: دلَّ الحديث على أن حكمة النهي عن مسح الحصى أن الرحمة تواجهه وتكون تلقاء وجهه، والحديث الذي فيه التعليل فيه المقال المتقدم، وقيل: إن علة ذلك المحافظة على الخشوع والبعد عن العبث، ولعل المصنف لحظ هذا المعنى فذكر الحديث في هذا الباب، ولا مانع من إرادة الأمرين، ويدخل في ذلك كراهة مسح الجبهة والأنف أثناء الصلاة، فإنه من العبث وعدم الخشوع، لأن الاستغراق في الصلاة والخشوع فيها يُنسي ذلك ويُشغل عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن في الصلاة لشغلاً»
(1)
، قال القاضي عياض:(كره السلف مسح الجبهة في الصلاة وقبل الانصراف مما يتعلق بها من الأرض)
(2)
.
وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في ماء وطين وبقي أثر ذلك في جبهته، ولم يكن ينشغل في كلّ رفعٍ من السجود بإزالة ما علق
(3)
، فإقبال المصلي على صلاته وعنايته بها ينسي ذلك، والله المستعان.
(1)
تقدم تخريجه عند الحديث (225).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(2/ 482).
(3)
انظر: "فتح الباري"(2/ 322).
النهي عن الالتفات في الصلاة
243/ 6 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الالْتِفَاتِ في الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
244/ 7 - وَلِلتِّرْمِذِيِّ: عَنْ أَنس - وَصَحَّحَهُ - «إيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ، فَإنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ ففي التَّطُّوعِ» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «الالتفات في الصلاة» (751)، من طريق أشعث بن سليم، عن أبيه - أبي الشعثاء المحاربي - عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
…
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد ذكر الحاكم في «المستدرك» (1/ 237) أن الشيخين اتفقا على إخراجه، وهذا وهم منه، رحمه الله.
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي (589) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة» ، وهذا إسناد ضعيف لأمرين:
1 -
لأنه من رواية علي بن زيد، المعروف بابن جُدْعان، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو زرعة وأبو حاتم:(ليس بقوي)
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب"(7/ 283).
2 -
أن رواية سعيد عن أنس رضي الله عنه لا تُعرف، قال المنذري:(رواية سعيد عن أنس غير مشهورة)
(1)
.
وقول الحافظ والمجد ابن تيمية - أيضاً
(2)
ـ: إن الترمذي صححه .. ، هذا ذكره المزي في «التحفة» (1/ 226) والموجود في نسخ الترمذي:(هذا حديث حسن غريب) وفي بعضها: (هذا حديث غريب) قال الشيخ أحمد شاكر: (ولم نجد تصحيحه في أية نسخة من سنن الترمذي)، وقد حسن الترمذي هذا الإسناد نفسه في موضع آخر من «جامعه»
(3)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (عن الالتفات) هو تحويل الوجه عن القبلة يميناً أو شمالاً.
قوله: (هو اختلاس)، مصدر اختلس الشيء أي: استلبه في خفية، واختطفه بسرعة عن غفلة، والمعنى: أن الالتفات انتقاص ينتقصه الشيطان من صلاة العبد على وجه السرعة والخفية، فاعتبر التفاتة المصلي وذهاب الخشوع عنه اختلاسة ينتقصها الشيطان من صلاة العبد، لأنه يفرح بإعراض المصلي عن صلاته.
يقول الطيبي: (من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان، تصويراً لقبح تلك الفعلة، أو أن المصلي حينئذٍ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الفرصة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه)
(4)
.
قوله: (إياك والالتفات في الصلاة) هذا أسلوب تحذير، و (إياك) ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به لفعل محذوف وجوباً، والتقدير: إياك أحذر، و (الالتفات) مفعول به لفعل محذوف وجوباً تقديره: احذرْ، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها.
(1)
"الترغيب والترهيب"(1/ 371)، "زاد المعاد"(1/ 248 - 249).
(2)
"المنتقى"(1/ 488).
(3)
انظر: رقم (2678).
(4)
"شرح المشكاة"(2/ 399).
قوله: (فإنه هلكة) بفتح الهاء واللام والكاف، أي: هلاك، لأنه طاعة للشيطان وهو سبب الهلاك، والهلاك: استحالة الشيء وفساده، والصلاة بالالتفات تستحيل من الكمال إلى الاختلاس المذكور في الحديث المتقدم.
قوله: (فإن كان لا بد .. ) أي: لا مفر ولا محيد عن الالتفات فليكن في التطوع، لأنه مبني على المساهلة والمسامحة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المصلي منهي عن الالتفات في صلاته؛ لأنه وُصِفَ بأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، والمراد بذلك: التفاته بالوجه، فإن كان بجملة البدن بأن استدار إلى غير جهة القبلة حرم وبطلت الصلاة باتفاق العلماء
(1)
.
وحكمة النهي عن الالتفات ما يلي:
1 -
أنه نقص في الصلاة، لأنه دليل على عدم الخشوع، ولهذا ذكره المصنف هنا.
2 -
أنه إعراض عن الله تعالى، وإقبال على غيره، والله تعالى قِبَلَ عبده.
3 -
أنه حركة لا داعي لها، والأصل في الحركات أنها مكروهة مخلة بالخشوع.
وقد نقل الحافظ الإجماع على أن الالتفات في الصلاة مكروه، والجمهور على أنها كراهة تنزيه، وحكى عن الظاهرية وبعض الشافعية التحريم، إلا للضرورة
(2)
.
والالتفات في الصلاة نوعان:
الأول: التفات القلب إلى غير الله عز وجل.
الثاني: التفات البصر.
وكلاهما منهي عنه، والالتفات لا يبطل الصلاة بهذه الصفة، ولكن
(1)
انظر: "المنهل العذب المورود"(6/ 12).
(2)
"فتح الباري"(2/ 235).
ينبغي للمصلي أن يخشع في صلاته، ويصمد في وجهه إلى موضع سجوده، ويقبل على الله تعالى في صلاته، فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً ولا يحقق مقاصد الشيطان.
الوجه الرابع: إذا وجد حاجة للالتفات فلا بأس به، كترقب عدو أو سقوط شيء أو نحو ذلك، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه التفت في الصلاة حينما تقدم يصلي بالصحابة رضي الله عنهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف خلفه، فأكثر الناس من التصفيق فالتفت. وهو حديث طويل
(1)
.
وعن سهل بن الحنظلية قال: ثُوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعْبِ
(2)
، قال أبو داود:(وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس)، وهذا فيه بيان لسبب التفاته صلى الله عليه وسلم
(3)
.
الوجه الخامس: الحديث دليل على حرص عائشة رضي الله عنها على العلم ورغبتها في التفقه في الدين، ولهذا أدركت بتوفيق الله تعالى علماً جماً، وخيراً كثيراً، وحفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألواناً من الأحاديث على صغر سنها، لأنه صلى الله عليه وسلم توفي وسنّها ثماني عشرة سنة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين.
(1)
أخرجه البخاري (684) ومسلم (421).
(2)
أخرجه أبو داود (916) والحاكم (1/ 363) والبيهقي (2/ 348) واسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
انظر: "فتح الباري"(2/ 235).
نهي المصلي عن البصاق وبيان صفته عند الحاجة
245/ 8 - وعَنْ أَنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ فَإنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنَ يَمِينِهِ، وَلكِنْ عَنْ شِمالِهِ؛ تَحْتَ قَدَمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رِوايَةٍ: «أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة» (1214) ومسلم (551) من طريق شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس رضي الله عنه
…
فذكره.
وهذا لفظ مسلم، وعند البخاري:(تحت قدمه اليسرى).
وفي رواية للبخاري (413) بهذا الإسناد: (إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)، وكان الأولى بالمصنف أن يبين أن الرواية للبخاري، وسأذكر غرض الحافظ من إيرادها، إن شاء الله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فإنه يناجي ربه) أصل المناجاة: المسارَّة، تقول: ناجيته أي: ساررته، والاسم النجوى، والمراد هنا: الإقبال على الله تعالى، فالمصلي يناجي ربه بذكره ودعائه وتلاوة آياته، فاللائق به الخشوع والإقبال على ربه.
وقد علل النهي في هذا الحديث عن البصاق أمامه بكونه مناجياً لله، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:( .. بأن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى)
(1)
، أي: مواجهه، ولا منافات بين ذلك لأن المراد إقبال الله تعالى على عبده في أثناء صلاته.
قوله: (فلا يبزقن). يقال: بزق يبزُق بُزاقاً من باب «قتل» وهو بمعنى بصق، وهو إبدال منه، قال الأزهري:(البصق والبزق والبسق واحد)
(2)
، والبزق: لفظ ماء الفم، وما دام فيه فهو ريق
(3)
.
قوله: (فلا يبزقنّ بين يديه) أي أمامه، وقد جاء في رواية للبخاري:(فإن ربه بينه وبين القبلة)
(4)
. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فإن الله قبل وجهه إذا صلى).
ولا يبصق عن يمينه، لما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً)
(5)
، وهذا التعليل بشقيه يفيد أن المصلي لا يبصق أمامه ولا عن يمينه مطلقاً، لا في المسجد ولا في غيره، كما سيأتي، فإن قيل: إن مقتضى التعليل بكونه عن يمينه ملكاً يقتضي ألا يبصق عن يساره، لأن عن يساره ملكاً، لقوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]. فالجواب:
1 -
أن المصلي لا يبصق في الصلاة إلا عند الحاجة، وعليه أن يبصق في ثوبه ما استطاع.
2 -
أنه إذا بصق تحت قدمه اليسرى لم يبصق في جهة الملك.
3 -
أن الملك المقيم في جهة اليمين أشرف من المقيم في جهة الشمال، فاحتُرم بما لم يُحترم به غيره، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
قوله: (ولكن عن شماله تحت قدمه) أي: اليسرى، كما في رواية البخاري، وكذا جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (406) ومسلم (547).
(2)
"تهذيب اللغة"(8/ 418).
(3)
"المعجم الوسيط" ص (60).
(4)
برقم (405)(417).
(5)
برقم (416).
(6)
أخرجه البخاري (414) ومسلم (548).
والمعنى: أنه إذا بدره البصاق فإنه لا يبصق عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى، وهذا إذا كان الإنسان خارج المسجد، كأن يصلي في بيته في أرض غير مفروشة أو في الصحراء، وأما في المسجد فلا يبصق تحت قدمه، وإنما في ثوبه أو منديله، كما سيأتي.
وفي رواية: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) والظاهر أن الحافظ ذكر هذه الرواية لأنها أعم من قوله: (ولكن عن شماله تحت قدمه) لأن الرواية المذكورة تشمل ما تحت القدم وغير ذلك من جهة اليسار، فإن الظاهر أن (أو) للإباحة أو التخيير، ففي أيهما بصق لم يكن به بأس.
أما رواية (ولكن عن شماله تحت قدمه) فهي مقيدة، فهي أخص، ويرى القرطبي أن الرواية الأولى ترجع إلى الرواية الثانية
(1)
.
ثم إن قوله: (عن يساره) مطلق، لكنه محمول على ما إذا كانت جهة يساره خالية من المصلين، لما ورد في حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه قال:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة أو إذا صلّى أحدكم فلا يبزقن أمامه، ولا عن يمينه، ولكن تلقاء يساره إن كان فارغاً أو تحت قدمه»)
(2)
.
وفي بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (
…
فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا، ووصف القاسم - أحد رواته - فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض)
(3)
.
(1)
"المفهم"(2/ 160).
(2)
أخرجه أبو داود (478) والترمذي (571) والنسائي (2/ 52) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) ولم يذكر الترمذي: إن كان فارغًا.
وورد في هذا الحديث عند الترمذي زيادة: (ولكن خلفك أو تلقاء شمالك أو تحت قدمك اليسرى) وقد أنكر الإمام أحمد هذه اللفظة في هذا الحديث وهي قوله: (ولكن خلفك) قال في "المسند"(45/ 197): (لم يقل وكيع ولا عبد الرزاق: وابصق خلفك).
(3)
أخرج مسلم (550)(53).
الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المصلي عن البصاق بين يديه، وعن يمينه، سواء أكان ذلك في المسجد أم خارج المسجد، لما تقدم من التعليل من أن الله تعالى قبل وجه المصلي وأنه يناجي ربه وأن عن يمينه ملكاً.
والظاهر أن النهي للتحريم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى البصاق في جهة القِبلة، ونهى وبين علة النهي.
فإذا اضطر الإنسان إلى البصاق وهو يصلي فإنه يبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى إذا كان يصلي في صحراء، أو في مكان في بيته فيه تراب.
وأما البصاق في المسجد فسيأتي الكلام عليه في «أحكام المساجد» إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للمصلي أن يخشع في صلاته وذلك بإخلاص قلبه وحضوره وتفريغه لذكر الله تعالى وتمجيده وتلاوة كتابه وتدبره، لأن المصلي واقف بين يدي ربه يناجيه.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الله تعالى قِبَلَ وجه المصلي، أي: مواجهه مواجهة تليق بالله تعالى، ولا يلزم من ذلك أنه سبحانه مختلط بخلقه، فهو تعالى فوق سمواته مستو على عرشه، وهو قريب من خلقه، ومحيط بهم، فالنصوص جمعت بين كون الله تعالى قِبَلَ وجه المصلي، وأنه على عرشه، والنصوص لا تجمع بين متناقضين بحال، لأن ذلك محال، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَلَ وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوق، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت - أيضاً - قبل وجهه)
(1)
، والمعنى: أنه إذا كان هذا ممكناً في المخلوق، ففي الخالق أولى بلا شك، والنص إذا كان محتملاً وجب أن يفسّر بما يوافق النصوص المحكمة الصريحة، والواجب على المسلم أن يؤمن بهذه النصوص ولا يسأل عن كيفيتها، والله تعالى أعلم.
(1)
"مجموع الفتاوى"(5/ 107).
اجتناب المصلي ما يلهيه في صلاته
246/ 9 - وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَمِيطي عَنَّا قِرَامَكِ هذَا، فَإنَّهُ لَا تَزَالُ تَصاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي في صَلَاتِي» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
247/ 10 - وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِها فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أبي جَهْمٍ، وَفِيهِ:«فَإنَّها ألْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إن صلّى في ثوب مُصَلَّبٍ أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما يُنهى عن ذلك» (374) من طريق عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أميطي عنا قرامكِ هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» .
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في باب «إذا صلّى في ثوب له أعلام، ونظر إليها» (373) ومسلم (556) من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال:(اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي).
وأخرجه مسلم (556)(63) من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خميصة لها عَلَمٌ، فكان يتشاغل بها في الصلاة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ كساء له أنبجانياً).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قرام) بكسر القاف، هو ستر رقيق من صوف ذي ألوان.
قوله: (أميطي) أمر من الفعل (أماطَ يُميط) والثلاثي من باب «باع يبيع» أي: أزيلي.
قوله: (تعرض لي في صلاتي) أي: تلوح وتظهر.
قوله: (في خميصة) أي: كساء رفيع يلبسه أشراف العرب، وقد يكون له عَلَمٌ وقد لا يكون.
قوله: (لها أعلام) جمع عَلَمٍ، وهو الخط.
قوله: (فلما انصرف) أي: فرغ من صلاته، أو انصرف إلى بيته.
قوله: (بخميصتي هذه) أضافها إلى نفسه تحقيقاً لقبولها، وتملكها، وكان أبو جهم قد أهداها إليه، والإشارة للتعيين.
قوله: (أبي جهم) هو عبيد أو عامر بن حذيفة القرشي العدوي، أسلم عام الفتح، وعُمِّر حتى أدرك ابن الزبير، فأدرك بناء الكعبة في زمنه وفي الجاهلية أيضاً، كان معظماً في قريش ومقدماً فيهم، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب، روي عنه أنه قال:(تركت الخمر في الجاهلية وما تركتها إلا خوفاً على عقلي) توفي في آخر خلافة ابن الزبير، رضي الله عنه
(1)
.
قوله: (بأنبجانية) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الباء، ويجوز فتحها: كساء غليظ ليس فيه خطوط، وطلبه صلى الله عليه وسلم أنبجانية أبي جهم عوضاً عن الخميصة التي ردها لئلا ينكسر قلبه برد النبي صلى الله عليه وسلم هديته، فأخذ بدلها الأنبجانية، وعلل ذلك بأنها ألهته عن الخشوع في الصلاة، ولا يلزم من ذلك أن أبا جهم كان يصلي فيها.
(1)
"الاستيعاب"(11/ 177)، "الإصابة"(11/ 66).
قوله: (فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) أي: فإنها شغلتني قريباً عن الخشوع في صلاتي، والمراد: بعض الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى أعلامها إلا نظرة واحدة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمصلي أن يجتنب كل ما يشغله ويلهيه عن صلاته من نقوش أو تصاوير أو كتابات، لأن الصلاة يطلب فيها الخشوع بحضور القلب وسكون البدن، والإقبال على الله تعالى، ولهذا استحب العلماء أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده ولا يتجاوزه، كما سيأتي إن شاء الله.
قال ابن رجب: (في الحديث دليل على استحباب التباعد عن الأسباب الملهية عن الصلاة، ولهذا أخرج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الخميصة عنه بالكلية، فينبغي لمن ألهاه شيء من الدنيا عن صلاته أن يخرجه عن ملكه
(1)
).
ولا يفهم من الحديث البعد عن الثوب الحسن في الصلاة، بل يستحب ذلك للآية، إلا إن خشي من ثوبه الحسن الالتهاء عن الصلاة أو حدوث الكبر أو نحو ذلك.
الوجه الرابع الحديث دليل على أنه ينبغي أن تصان المساجد عما يشوش على المصلين من الزخرفة أو كتابات شيء من الآيات أو تعليق الساعات ونحو ذلك مما يكون في قبلة المصلي.
قال الإمام مالك رحمه الله: (أكره أن يكتب في قبلة المسجد شيء من القرآن والتزويق). وقال: (إن ذلك يشغل المصلي)
(2)
، وحكاه ابن رجب
(3)
عن أحمد، ولا يفهم من كلام الإمام مالك أنه يرى جواز كتابة القرآن في غير جهة القبلة، وإنما خص القبلة لأنها أهم ما يشغل المصلي لكونه يستقبلها.
وكذا فُرُشُ المسجد فينبغي العناية بها وأن تكون خالية من التصاوير
(1)
"فتح الباري"(2/ 420).
(2)
"الحوادث والبدع" ص (107).
(3)
"فتح الباري"(2/ 429).
والزخارف، لأن صور الصلبان والآدميين والحيوانات تكثر في الفرش التي تصنع للمساجد، فينبغي تركها وعدم شرائها، معاملةً لصانعيها بنقيض قصدهم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لا يجوز تعليق الصور لا على الأبواب ولا على الجدران، بل يجب هتكها، سواء أكانت من صور بني آدم أم صور حيوانات من السباع أو الطيور ونحو ذلك، لأن هذه الصور فيها مشابهة لعباد الأصنام، وقد يفضي تعليقها إلى عبادتها من دون الله تعالى، كما وقع لقوم نوح ولليهود والنصارى، والله تعالى أعلم ..
النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
248/ 11 - وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِينَّ أَقْوامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السّماءِ في الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِم» . رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (428) في كتاب «الصلاة» باب «النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة» من طريق الأعمش عن المسيب - وهو ابن رافع الأسدي - عن تميم بن طَرَفَة، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء
…
الحديث».
وأخرجه أيضاً (429) من طريق عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» .
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لينتهين) مضارع مؤكد بالنون واللام الواقعة في جواب القسم المقدر، وذلك لتأكيد النهي، وهو خبر بمعنى الأمر.
قوله: (أو لا ترجع إليهم)(أو) للتخيير المقصود به التهديد، والمعنى: ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار أو خطف الأبصار عند الرفع فلا تعود إليهم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم رفع البصر إلى السماء حال الصلاة، سواء أكان ذلك في حال القيام أم في حال الرفع من الركوع أم غير ذلك، وكذا في حال الدعاء، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، واشتد قوله فيه، وذكر عقوبة من فعل ذلك، وهذا هو الراجح في حكم رفع البصر إلى السماء وهو التحريم، لأن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا على محرَّم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟!» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهُنَّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم»
(1)
.
والجمهور على أن ذلك لا يبطل الصلاة، وذهب ابن حزم الظاهري إلى بطلان صلاة من رفع بصره إلى السماء
(2)
، بناء على أن النهي يقتضي الفساد والبطلان. وإنما نُهي عن رفع البصر - والله أعلم - لأنه ينافي الخشوع والإقبال على الله تعالى، ولأنه إعراض عن القبلة، لأن القبلة ما يقابل الإنسان، لا ما يرفع إليه بصره؛ ولأنه خروج عن هيئة الصلاة، لأن الصلاة لها حالة معينة غير حالات الإنسان التي يعتادها في غير الصلاة.
قال ابن رجب: (والمعنى في كراهة ذلك؛ خشوع المصلي وخفض بصره، ونظره إلى محل سجوده، فإنه واقف بين يدي الله عز وجل يناجيه، فينبغي أن يكون منكساً رأسه ومطرقاً إلى الأرض)
(3)
.
الوجه الرابع: اختلف العلماء في رفع البصر خارج الصلاة حال الدعاء فكرهه أناس، وأجازه الأكثرون، كما قال الحافظ، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. والراجح المنع؛ لأن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة؛ لوجوه ثلاثة:
(1)
أخرجه البخاري (750).
(2)
"المحلى"(4/ 16 - 17).
(3)
"فتح الباري"(6/ 442).
الأول: أن القول برفع البصر حال الدعاء لا دليل عليه، ولم يقل به أحد من سلف الأمة، وهذا من الأمور الشرعية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه، كما ثبت عنه ذلك في مواطن كثيرة، ففي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة)
(1)
، وترجم له البخاري في كتاب «الدعوات» باب «الدعاء مستقبل القبلة» .
الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تُستقبل الكعبة في الصلاة والذكر والدعاء والذبح، وليست القبلة ما يُرفع إليه البصر، ولا ما تُرفع إليه الأيدي
(2)
.
الوجه الخامس: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، سواء أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً، إلا عند المالكية، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده
(3)
، مستدلين بقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].
ووجه الدلالة: أن المصلي مأمور بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وإذا نظر إلى موضع سجوده احتاج إلى نوع من الانحناء، والمنحني إلى موضع سجوده لم يولّ وجهه شطر المسجد الحرام.
وقد استدل الجمهور بما يلي:
1 -
أن الله تعالى أثنى على المؤمنين ومدحهم بالخشوع في الصلاة، ومن صفات الخاشع أن ينظر إلى موضع سجوده، قال ابن تيمية:(إن خفض البصر من تمام الخشوع)
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (6343).
(2)
"شرح الطحاوية"(317).
(3)
"الجامع لأحكام القرآن"(2/ 160).
(4)
"الفتاوى"(6/ 578).
2 -
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة وما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها
(1)
.
3 -
أنه ورد مراسيل عن ابن سيرين وعطاء وغيرهما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم
(2)
.
وعن أبي قلابة الجرمي قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين، يعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال سليمان: فرمقت عمر في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده
…
، وذكر باقي الحديث
(3)
.
ويستثنى من ذلك حال التشهد فإن المصلي ينظر إلى سبَّاحته، لحديث عبد الله بن الزبير في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:(وكان لا يجاوز بصره إشارته)
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه ابن خزيمة (4/ 332) والحاكم (1/ 479) وعنه البيهقي (5/ 158) وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، والحديث قال عنه أبو حاتم:(منكر) كما في "العلل"(895) وفيه: أحمد بن عيسى، عن عمرو بن سلمة، قال ابن عدي عنه كما في "الكامل" (1/ 191):(له عن عمرو بن سلمة بواطيل) ثم إن الحديث ليس فيه دلالة على مسألة الصلاة، ولهذا ذكره ابن خزيمة في "الحج" وبوب عليه بما لا يدل على الصلاة.
(2)
"تفسير ابن كثير"(5/ 456).
(3)
أخرجه البيهقي (2/ 283) وابن عساكر في "تاريخه"(22/ 304)، وفيه صدقة بن عبد الله السمين، قال عنه في "التقريب":(ضعيف).
(4)
أخرجه أبو داود (990) والنسائي (3/ 39) وأحمد (26/ 25) وابن خزيمة (718، 719) وهو حديث صحيح.
حكم الصلاة عند حضور الطعام أو مدافعة الأخبثين
249/ 12 - وَلَهُ: عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبثَانِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (560) في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين» ، من طريق يعقوب بن مجاهد، عن ابن أبي عتيق قال: (تحدثت أنا والقاسم عند عائشة رضي الله عنها حديثاً، وكان القاسم رجلاً لَحّانَةً
(1)
، وكان لأمِّ ولد، فقالت له عائشة: ما لك لا تحدث، كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أُتيت، هذا أدبته أمه، وأنت أدبتك أمك، قال: فغضب القاسم، وأضبَّ عليها، فلما رأى مائدة عائشة قد أُتي بها قام، قالت: أين؟ قال: أُصلي، قالت: اجلس، قال: إني أُصلي، قالت: اجلس غُدَر، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
فذكرت الحديث.
وابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، يعرف بابن أبي عتيق، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى: أضب عليها، بالضاد أي: حقد، ومعنى غُدَر: يا غادر، والغدر في الأصل: تركُ الوفاءِ. وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ في النداء
(1)
هو بفتح اللام وتشديد الحاء: كثير اللحن في كلامه.
بالشتم، وإنما قالت له: غُدَر؛ لأنه مأمور باحترامها، لأنها أم المؤمنين وعمته وأكبر منه وناصحة له ومؤدبة، فكان حقه أن يحتملها ولا يغضب عليها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا صلاة) لا: نافية، والنفي هنا يتضمن النهي، أي: لا يصلِّ إنسان، والنفي عند البلاغيين أبلغ من النهي؛ لأن فيه تقريراً لاجتنابه، كأنه أمر لا يمكن أن يكون، وتقدم ذلك في «المواقيت» .
والجمهور على أن هذا النفي نفي للكمال، وأنه يكره أن يصلي في هذه الحال، ولو صلّى فصلاته صحيحة
(1)
، قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(وهذا أظهر)، لأنَّ له نظائر، مثل:(لا إيمان لمن لا صبر له)، ومثل:(والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، ونحو ذلك مما يراد به نفي الكمال، فهذا مثله.
وقال بعض أهل العلم: إنه نفي للصحة، فلو صلّى في هذه الحال فصلاته محرمة، فتكون باطلة، لأن الأصل في نفي الشرع أن يكون لنفي الصحة، وهذا هو قول الظاهرية
(2)
.
قوله: (بحضرة طعام) الباء للمصاحبة، أي: مع حضور طعام، والمراد به: وضعه وتقديمه للأكل.
قوله: (ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي: البول والغائط، وقد ورد التصريح بهما عند ابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها بالإسناد المذكور، ولفظه:(لا يقوم أحدكم إلى الصلاة، وهو بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان: الغائط والبول)
(3)
.
ومعنى يدافعه: أنه يدفعهما عن الخروج، وهما يدفعانه عن الشغل بغيرهما ليخرجا.
(1)
انظر: "شرح النووي"(5/ 48).
(2)
انظر: "المحلى"(4/ 46).
(3)
"صحيح ابن حبان"(5/ 429).
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن الصلاة حال حضور الطعام الذي يريد أكله، لما تقدم من أن الصلاة صلة بين العبد وربه، ولا يتم ذلك إلا بحضور القلب وتفريغه من الشواغل، فيقدم الطعام لتؤدى الصلاة بخشوع وحضور قلب، ولو فات أول الوقت أو فاتت الجماعة.
وحضور الطعام قيد معتبر، فإن كان غير حاضر فلا تؤخر، إلا إن تيسر حضوره عن قرب، كأن توجد أمارات تقديمه، فلا يبعد أن يكون كالحاضر.
وقال بعض العلماء: إذا كان الطعام غير حاضر ونفسه تتوق إليه فالحكم فيه كما لو حضره، لوجود المعنى، وهو ترك الخشوع.
والأول أظهر، فإن الحضور قيد معتبر لا ينبغي إهداره، لأن حضور الطعام يوجب زيادة تشويق وتطلع إليه، فقد يكون الشارع اعتبر هذا الوصف وهو زيادة التشويق بسبب حضوره، فلا يلحق به ما لا يساويه للقاعدة الأصولية: أن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبراً لم يُلْغَ
(1)
.
الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن الصلاة حال مدافعة البول والغائط، لأنه يكون مشغولاً بهما حتى ينتهي من صلاته ليفرغ منهما مع ما في ذلك من مضرة البدن، بل عليه أن يقضي حاجته ويتوضأ ولو فاتته الجماعة، لأن صلاته وحده بحضور قلب وخشوع أهم من صلاته مع الجماعة في حال مدافعة الأخبثين.
أما إذا كان شيئاً يسيراً لا يشغله، أو أحسَّ بالبول والغائط ولم يصل إلى حد المدافعة فلا بأس في الصلاة، لأن المدافعة تقتضي أن هناك شدة بحيث إن البول والغائط يؤذيه تأخره.
فإن ترتب على قضاء حاجته خروج الوقت فهل يصلي مع المدافعة أو يتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت؟ قولان:
(1)
انظر: "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 67).
القول الأول: أنه يصلي ولو مع مدافعة الأخبثين حفاظاً على الوقت، ولا يجوز له تأخيرها؛ وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت، وهو قول ابن حزم، وحكاه النووي عن بعض الشافعية
(1)
، وهذا هو الأقرب إلى قواعد الشريعة وتيسيرها على المكلفين.
الوجه الخامس: ألحق العلماء بمدافعة الأخبثين كل ما يشغل بال المصلي من ريح في جوفه، أو حر أو برد شديدين لا يخشع معهما، أو جوع أو عطش كذلك، لأن المعنى المراد موجود في الجميع، وهو حضور القلب وسكون الجوارح.
هذا ولو أن المصنف ذكر هذا الحديث مع حديث أنس المتقدم أول الباب، (إذا قُدم العَشاء
…
)، في موضع واحد لكان أنسب، والله أعلم.
(1)
"المحلى"(4/ 47)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(5/ 49)، "فتح الباري"(2/ 161).
كراهة التثاؤب في الصلاة
250/ 13 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ:«فِي الصَّلَاةِ» .
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (2994) في كتاب «الزهد والرقائق» ، باب «تشميت العاطس وكراهة التثاؤب» ، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وأخرجه الترمذي (370) بالإسناد نفسه، ولفظه:(التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) وقال: (حديث حسن صحيح).
وذكر الحافظ زيادة الترمذي لمناسبتها لكتاب الصلاة، لكنه ذكر حديث مسلم لأنه مقدم، ثم أشار إلى الزيادة، ولم يبين موضعها من الحديث، وقد بينتها بسياق اللفظ عند الترمذي.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (التثاؤب) مصدر تثاءب، مثل: تقاتل تقاتلاً، وهو بالهمز، وتثاوب: بدون همز، عامي، ذكره الجوهري
(1)
وتبعه صاحب «المصباح المنير» وآخرون، وقيل: هما لغتان
(2)
، والتثاؤب: حركة للفم ليست إرادية، وتكون هذه الحركة من كسل أو نوم.
(1)
"الصحاح"(1/ 92).
(2)
انظر: "فتح الباري"(10/ 611).
قوله: (من الشيطان) جعله من الشيطان كراهية له، لأنه يكون مع ثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل والنوم، فأُضيف إليه، لأنه الداعي إلى إعطاء النفس شهواتها وتوسعها في المآكل والمشارب.
قوله: (فليكظم) بفتح ياء المضارعة وكسر الظاء المشالة من باب «ضرب يضرب» أي: ليحبسه وليمسكه، والكظم: سَدُّ الفم بإطباق الشفتين، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:(فليردَّه ما استطاع) فإما أن المراد الأخذ بأسباب رده، لا أنه يرده إذا وقع، أو أن المراد: إذا أراد أن يتثاءب فليرده.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمتثائب أن يرد تثاؤبه ما استطاع، وذلك بإطباق فمه وضم شفتيه.
وهذا هو الأمر الأول المشروع الذي دلت عليه السنة، ودليله حديث الباب.
والأمر الثاني: أن يضع يده على فيه، لأن فَغْرَ الفم شيء مستقبح، وربما وقع في فمه شيئ كذباب ونحوه، وقد دلّ على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل»
(1)
، والأفضل أن تكون اليد اليسرى، لأنه في أمر مستقذر.
فأمر بوضع يده على فمه لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله فمه، وضحكه منه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (
…
فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)
(2)
.
والأمر الثالث: أن يلزم الصمت، ولا يقول:(ها) لأنه صوت مستقبح، ليس بواضح، فالسنة ألا يتكلم في هذه الحال حتى ينتهي التثاؤب.
وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب
(1)
أخرجه مسلم (2995).
(2)
أخرجه البخاري (6226).
من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان»
(1)
، فهذه أمور ثلاثة دلت عليها السنة، وأما ما يفعله بعض الناس من الاستعاذة من الشيطان ظناً منهم أنه مستحب، فهذا لا أصل له، ولو كان مشروعاً لجاء النقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نقل في هذه الأمور الثلاثة، بل إن بعضهم يُقَصّرُ في هذه الأمور المشروعة، ويأتي بأمر غير مشروع، والله المستعان.
الوجه الرابع: تبين من أحاديث التثاؤب أن بعضها مطلق وبعضها مقيد في حالة الصلاة، كما في رواية الترمذي، والظاهر أن التثاؤب مكروه مطلقاً لأنه من الشيطان، لكن كراهته في حال الصلاة أشد، لأن للشيطان غرضاً قوياً في التشويش على المصلي وإذهاب خشوعه، وحالة الصلاة أولى بدفع التثاؤب، لبعده عن الخشوع وأدب الصلاة، وللخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة، فيتأكد في حق المصلي دفعه ما استطاع، فإن غلبه وَضَعَ يده على فيه، وعليه أن يمسك عن القراءة حتى يذهب عنه، لئلا يتغير نظم القرآن، وكذلك إذا كان يقرأ خارج الصلاة
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (3289).
(2)
انظر: "التذكار في أفضل الأذكار"، للقرطبي ص (109).
باب المساجد
المساجد: جمع مسجد، على وزن مَفْعِل بكسر العين، اسم لمكان السجود وهو بهذا الاعتبار لا يختص بموضع معين، وبالفتح: اسم للمصدر، قال في «تثقيف اللسان»:(ويقال للمسجد: مَسْيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد)
(1)
.
ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه، فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع
(2)
.
والمسجد شرعاً: هو كل موضع من الأرض، لقوله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»
(3)
وفي عرف الفقهاء: بقعة من الأرض تحررت عن التملك الشخصي، وخصصت للصلاة والعبادة
(4)
.
ومصلى العيد مسجد، على الراجح من قولي أهل العلم، وهو قول جماعة من أهل العلم، كالقاضي عياض والدارمي
(5)
، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة، قال صاحب «الفروع»:(والصحيح أن مصلى العيد مسجد)
(6)
، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحُيَّض باعتزاله، والمرأة الحائض لا تعتزل إلا المسجد، على الخلاف المتقدم في باب «الغسل» .
والمساجد أفضل البقاع في الأرض، وذلك لما يقام فيها من ذكر الله تعالى وعبادته بإقامة الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعليم الدين، وغير ذلك مما يدل على أن المسجد هو مدرسة الإسلام الأولى.
(1)
ص (186).
(2)
"إعلام الساجد بأحكام المساجد" ص (28).
(3)
تقدم تخريجه أول باب "التيمم".
(4)
"إعلام الساجد" ص (28).
(5)
"المجموع"(2/ 180).
(6)
(1/ 202).
وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»
(1)
.
وللمساجد أحكام كثيرة عُني بها العلماء وبحثوها في كتب الحديث والتفسير والفقه، وألفوا فيها مؤلفات مستقلة، وقد جاء في هذه الأحكام أدلة من الكتاب والسنة، وقد ذكر المصنف في هذا الباب جملة من الأحاديث المتعلقة بذلك.
(1)
أخرجه مسلم (671).
الأمر ببناء المساجد وتنظيفها
251/ 1 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنظَّفَ، وَتُطَيَّبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ إرْسَالَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (455) في كتاب «الصلاة» ، باب «اتخاذ المساجد في الدور» والترمذي (594) وابن ماجه (759) وأحمد (43/ 396) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله، فقد رواه موصولاً عامر بن صالح الزبيري، عند أحمد والترمذي، وزائدة بن قدامة عند أبي داود وابن ماجه، ومالك بن سُعير عند ابن ماجه - أيضاً - ثلاثتهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ببنيان المساجد
…
الحديث.
وعامر بن صالح متروك، وكذبه ابن معين، ووثقه أحمد
(1)
، لكنه توبع، وزائدة ثقة، ومالك بن سُعير لا بأس به، وهو من رجال البخاري ومسلم، كما في «التقريب» .
ورواه مرسلاً وكيع وعَبْدة بن سليمان عند الترمذي (595) قال: حدثنا هناد، حدثنا عبدة ووكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
…
فذكر نحوه ..
(1)
"تهذيب التهذيب"(5/ 62).
قال الترمذي: (وهذا أصح من الحديث الأول).
وتابعهما سفيان بن عيينة عند الترمذي أيضاً (596) فلذا رجح الترمذي الإرسال على الوصل، بناء على القاعدة عند المحققين، وهي أنه إذا تعارض الوصل والإرسال قُدِّمَ الأوثق والأكثر ولو في الإرسال، ورواة الإرسال هنا أوثق، فوكيع ثقة حافظ عابد، وعبدة بن سليمان الكلابي ثقة ثبت، وسفيان بن عيينة ثقة حافظ فقيه إمام حجة، كما رجح الإرسال أبو حاتم كما في «العلل» (481).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ببناء المساجد في الدور) أي: في القبائل، وهي الآن المحلّة أو الأحياء السكنية، وقد كان للأنصار وغيرهم دور تجتمع فيها جماعتهم ويكون فيها نخيلهم وزروعهم، فيقال: دار بني ساعدة، ودار بني النجار، وغير ذلك، وقد فسر سفيان بن عيينة أحد رواة الحديث الدور بالقبائل، كما نقله عنه الترمذي.
الوجه الثالث: الحديث دليل على شرعية بناء المساجد في الدور، وهي الآن الأحياء السكنية، فيشرع بناء المساجد فيها، ليجتمع أهل الحي كل يوم وليلة خمس مرات، فيتم في ذلك عبادة الله تعالى وتعليم الجاهل، وتنشيط العاجز، والتعاون على البر والتقوى؛ إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة، وعلى هذا فيجب على المسؤولين عن تخطيط الأراضي والأحياء السكنية ألا يُغفلوا موضوع بيوت الله تعالى، ولتكن مقدمة على غيرها من المرافق.
الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب تهيئة المساجد للمصلين، وذلك بتنظيفها من كل قذر يقع في أرضها أو فرشها أو حيطانها، كما يجب أن تصان عن الأقذار كالمخاط وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط ونحو ذلك.
وكذلك ينبغي تطييبها وتحسين رائحتها، لتيسير الإقامة فيها، والتشجيع على التردد عليها، والبقاء فيها للقراءة والذكر والصلاة وطلب العلم، وغير ذلك.
وقد بوب البخاري في «صحيحه» في كتاب «الصلاة» فقال: (باب كَنْسِ المسجد والتقاط الخِرَقِ والقذى والعيدان) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا: مات، قال:«أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره - أو قال: قبرها ـ» فأتى قبره فصلى عليه
(1)
.
ففي هذا دليل على فضل تنظيف المسجد، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر من يكنس المسجد دليل على تعظيم عمله، والله أعلم.
(1)
"صحيح البخاري"(458).
حكم بناء المساجد على القبور
252/ 2 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قَاتَلَ الله الْيَهُودَ: اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ مُسْلِمٌ: «وَالنَّصَارَى» .
253/ 3 - وَلَهُمَا: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «كَانَوا إذَا مَات فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَالحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً» ، وَفِيهِ:«أُولئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ» .
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة في البيعة» (437) ومسلم (530) من طريق الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: فذكره مرفوعاً.
وأخرجه مسلم من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور (434) ومسلم (528) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» .
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قاتل الله اليهود) هذا لفظ «الصحيحين» أي: قتلهم الله، وقيل: لعنهم، وقيل: عاداهم، والمراد هنا: لعنهم، كما في الرواية الأخرى - كما ذكر النووي وغيره - ولا يخرج اللفظ عن هذه المعاني، وقد ترد بمعنى التعجب نحو: ما أشعره قاتله الله!
وأصل (فاعل) أن يكون بين اثنين في الغالب، وقد يجيء من واحد كقولك: سافرت، وطارقت النعل. ذكره ابن الأثير
(1)
.
وفي اللفظ الآخر عندهما: (لعن الله) أي: طرد وأبعد عن رحمته، والجملة خبرية يحتمل أن تكون على حقيقتها، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله لعن اليهود والنصارى، ويحتمل أن تكون على غير حقيقتها، وأن المراد بها الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، فتكون خبرية لفظاً إنشائية معنىً.
قوله: (اليهود والنصارى) اليهود هم الذين ينتسبون في ديانتهم إلى شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، سموا بذلك إما نسبة إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، أو لأنهم هادوا، أي: رجعوا وتابوا من اتخاذ العجل إلهاً.
والنصارى: من ينتسبون في ديانتهم إلى شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، سموا بذلك إما لأنهم نزلوا قرية تُسمى ناصرة، أو لأن الحواريين منهم قالوا: نحن أنصار الله.
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) جملة مستأنفة لبيان سبب اللعن، والضمير في السياق الأول واضح أنه يعود على اليهود، أما في لفظ مسلم فالضمير يعود على اليهود والنصارى باعتبار مجموع الطائفتين، لا كل طائفة، لأن النصارى نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام وليس له قبر اتخذوه مسجداً،
(1)
"النهاية"(4/ 12).
فيكون المراد: الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيد ذلك حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الآتي، ولفظه:(كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) كما يؤيده حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم؛ واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المساجد عليها، أو اتخاذها مكاناً للصلاة عندها ولو لم يبن المسجد، فمن تردد على قبر يصلي عنده فقد اتخذه مسجداً، لأن كل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»
(1)
.
قوله: (بنوا على قبره مسجداً) أي: مكاناً للصلاة، ويُسمى عند النصارى كنيسة.
قوله: (أولئِك شرار الخلق) بكسر الكاف، لأن الخطاب للمؤنث والمشار إليه بانو المساجد على القبور وواضعو الصور فيها.
ومعنى (شرار الخلق): أعظمهم شراً عند الله تعالى، لما يحصل بفعلهم من الفتنة والشرك بالله تعالى، وكل ما كان وسيلة إلى الشرك فصاحبه جدير بهذا الوصف.
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بناء المساجد على القبور، وأن هذا من كبائر الذنوب، وهو من فعل شرار الخلق عند الله تعالى، وهو من عمل اليهود والنصارى - وهم الغلاة في أنبيائهم وصالحيهم - والبناء على القبور من وسائل تعظيمها وعبادتها من دون الله تعالى، ويدخل في ذلك قصد القبور للصلاة عندها، فإن ذلك من اتخاذها مساجد، لأن العلة في بناء المساجد عليها موجودة في الصلاة عندها، فإن ذلك ذريعة إلى نوع من الشرك، بقصدها والعكوف عندها، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
وقد تبع اليهودَ والنصارى ضُلاّلُ هذه الأمة وغلاتُها في بلدان كثيرة،
(1)
تقدم في أول باب "التيمم".
(2)
"اقتضاء الصراط المستقيم" ص (337).
كمصر والشام وغيرهما، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:(بسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد)
(1)
وذكر رحمه الله أنهم شر أهل البدع، وقد كان ذلك موجوداً في مكة في المعلاة، وفي المدينة في البقيع، فقيض الله تعالى لها من هدمها وأزالها، وكذا كانت القبور موجودة في بلاد نجد، فجاء الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب فسعى في إزالة الشرك ومعالمه، وتحقق على يديه خير كثير، ولا زال أناس يدعون إلى الشرك ويريدون أن تعود الحال إلى ما كانت عليه، وكما هو في الأمصار الأخرى، وهذا لجهلهم وضلالهم الذي أدى بهم إلى الغلو والتعلق بالقبور وأهلها.
وقد ورد عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال قبل أن يموت بخمس: «
…
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»
(2)
.
وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته وإبعادهم عن جميع وسائل الشرك وأسبابه، حتى نهى عن ذلك في آخر حياته، بل إنه نهى عن ذلك وهو في حال الموت وفراق الدنيا، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك:«لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا
(3)
). فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات: الأولى: في سائر حياته، الثانية: قبل موته بخمس، الثالثة: وهو في السياق.
الوجه الرابع: الحديث دليل على عظم ذنب من يسهلون للناس الوقوع في الشرك والبدع عن طريق البناء على القبور والعكوف عندها والصلاة والدعاء ونحو ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم شرار الخلق عند الله تعالى، لأنهم جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور والبناء عليها، وفتنة التماثيل، نسأل الله تعالى السلامة، والثبات على صحة المعتقد حتى الممات.
(1)
"فتح المجيد" ص (243).
(2)
أخرجه مسلم (532).
(3)
أخرجه البخاري (1330) ومسلم (531).
حكم دخول الكافر المسجد
254/ 4 - وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوارِي المَسْجِدِ
…
الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيِهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري مختصراً في كتاب «الصلاة» باب «دخول المشرك المسجد» (469) وأخرجه في كتاب «المغازي» باب: «وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال» (4372) ومسلم (1764)، من طريق ابن أبي سعيد المقبري، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال:(فذكره بطوله). وقد تقدم سياقه بتمامه في باب «الغسل» عند الحديث «السادس» منه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إدخال الكافر المسجد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة رضي الله عنهم على ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وكان يمر به ثلاثة أيام، ويقول: (ما عندك يا ثمامة
…
؟).
وقيده أكثر العلماء بقيود؛ منها: أن يكون ذلك لغرض نافع، كسماع قرآن، أو علم، أو يرجى إسلامه، أو يدخل للمحاكمة ونحو ذلك مما يستفاد من الأدلة، ومنها: أن يكون ذلك بإذن المسلمين، وإلا فلا يجوز دخوله، وهذا قول بعض الشافعية والمالكية والحنابلة في رواية هي المذهب
(1)
.
والقول الثاني: أنه يجوز دخول الكافر جميع المساجد، إلا المسجد
(1)
"حاشية الدسوقي "(1/ 139)، "روضة الطالبين"(10/ 310)، "المغني"(13/ 245)، "فتاوى ابن تيمية"(22/ 194).
الحرام، وهذا ما نص عليه الشافعي
(1)
، وبه قال ابن حزم
(2)
، لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] بناء على أن نجاسة المشرك نجاسة بدنية.
والقول الأول أظهر، لقوة أدلته، ولأن فيه عملاً بجميع النصوص، ولما يترتب على دخول الكافر من المصالح إذا رأى المسلمين وصلاتهم وقراءتهم، كما وقع من ثمامة رضي الله عنه، لكن لا بد من تقييده بالمصلحة والإذن، لأن كل تصرف يحدث من المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يتعلق بشؤونهم العامة فإنه لا بد أن يأذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما وقع في ربط ثمامة، والله أعلم.
ومن أدلة ذلك ما ورد في حديث جبير بن مطعم - وكان ممن قدم في فداء أسارى بدر - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور
(3)
.
وورد - أيضاً - قصة الأعرابي الذي دخل المسجد وعقل بعيره فيه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم أسلم
(4)
.
وأما الآية الكريمة فأجاب الأولون عنها بأن المراد بها: منعهم من الحج، كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عليّاً رضي الله عنه أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر: (لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). وهذا كان سنة تسع من الهجرة
(5)
.
والذي يظهر لي قوة الاستدلال بعموم الآية على منع الكافر من دخول المسجد الحرام، والله أعلم.
الوجه الثالث: إذا كان دخول الكافر المسجد مقيداً بالمصلحة أو بالحاجة، فإنه يستفاد من ذلك أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد أو
(1)
"الأم"(4/ 390).
(2)
"المحلى"(4/ 243).
(3)
أخرجه البخاري (765)، ومسلم (463) وسيأتي شرحه في "صفة الصلاة" رقم (289) إن شاء الله.
(4)
أخرجه البخاري (63).
(5)
أخرجه البخاري (369) ومسلم (1347).
وضع مخططات لها، لأنه يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخطط المسجد أو عند تنفيذه، فقد يصممون المسجد على هيئة قريبة من هيئة الكنائس أو يغشون في التنفيذ والبناء، لأنهم أعداء لهذا الدين وأهله
(1)
، ثم إن في ذلك تكثيراً لسوادهم في بلاد المسلمين، وعلى أصحاب المؤسسات أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وأموالهم ومجتمعهم فلا يستقدموا الأيدي العاملة غير المسلمة، بحجة أنهم أتقن للعمل من المسلمين، فإن الله تعالى يقول {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]، فالعمالة المسلمة مهما كانت خير من العمالة غير المسلمة، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة"(7/ 519).
حكم إنشاد الشعر في المسجد
255/ 5 - وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ بِحَسَّانَ رضي الله عنه يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتابه «بدء الخلق» باب «ذكر الملائكة» (3212) ومسلم (2485) من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن عمر مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه: فقال: قد كنت أُنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أجب عني، اللهم أيده بروح القدس» ؟ قال: اللهم نعم.
وهذا السياق لمسلم، وساقه البخاري ومسلم - أيضاً - عن ابن المسيب قال: مَرَّ عمر في المسجد وحسان ينشد
…
والحديث بهذا الإسناد مرسل، لأن سعيد بن المسيب لم يدرك مرور عمر بحسان، قال الحافظ:(ورواية سعيد لهذه القصة مرسلة، لأنه لم يدرك زمن المرور، ولكن يحمل على أن سعيداً سمع ذلك من أبي هريرة بعدُ أو من حسان، أو وقع لحسان استشهاد أبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك سعيد، ويقويه حديث الباب)
(1)
ويعني بذلك ما رواه البخاري في كتاب الصلاة «باب
(1)
"فتح الباري"(1/ 548).
الشعر في المسجد» (453) ومسلم (2485)(152) من طريق شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله
…
فذكره.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مرّ بحسان) هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو الأنصاري الخزرجي النجاري، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو عبيدة: فُضّل حسان على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنه سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وآخرون.
واشتهر عند المؤرخين أنه كان جباناً، قال ابن عبد البر:(ذكروا من جبنه أشياء .. كرهت ذكرها لنكارتها، ومن ذكرها قال: إن حساناً لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من مشاهده لجبنه، وأنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كان حقاً لَهُجِيَ به).
وهذا هو الصواب إن شاء الله، فإنه أحد الصحابة المشهورين، وأشعاره تدل على شجاعته، أما ما قيل في قصته مع صفية مما يدل على جبنه فلا أصل لها.
مات رضي الله عنه سنة أربعين أو قبلها، وقيل غير ذلك، وعمّر مئة وعشرين سنة
(1)
.
قوله: (فلحظ إليه) أي: نظر إليه، قال في «المصباح المنير»:(لحظته بالعين، ولحظت إليه: نظرت إليه بمؤخر العين عن يمين ويسار، فاللِّحاظ بالكسر مؤخر العين مما يلي الصِّدْغ)
(2)
والمراد هنا: نظر إليه نظر عتب وإنكار.
(1)
"الاستيعاب"(3/ 26)، وانظر:"الإصابة"(2/ 337).
(2)
"المصباح" ص (550).
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز إنشاد الشعر في المسجد، وذلك إذا كان مباحاً، فإن كان مناصرة للسنة ودفاعاً عنها فهو مشروع، وإلقاؤه في المسجد مباح، وكذا إذا كان الشعر علماً نافعاً أو وعظاً فهذا جائز في المسجد. بل يثاب عليه قائله إن شاء الله تعالى وكذا قارئه.
وقد ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد
…
) الحديث
(1)
.
وهذا لا يعارض حديث الباب، لأنه محمول على تناشد الأشعار الباطلة، أما الأشعار التي تمدح الإسلام أو فيها علم نافع فإنها جائزة، ذكر ذلك البيهقي، والقرطبي
(2)
غير أنه يكره تشاغل جماعة المسجد بتناشد الأشعار والإكثار منه حتى يكون ذلك هو الغالب على أمرهم، وذلك لأنه إذا أُكْثِرَ منه يُذْهِبُ وقار المسجد وتزول حرمته.
الوجه الرابع: الحديث دليل على قوة عمر رضي الله عنه في الحق، وحرصه على الخير، حيث أنكر على حسان إنشاد الشعر في المسجد، لكن لما قال له حسان ما قال كفّ عنه ولم يقل شيئاً، وهذا فيه بيان وجوب الوقوف عند الدليل وعدم تجاوزه، وكان عمر رضي الله عنه وقافاً عند كتاب الله تعالى.
الوجه الخامس: الحديث دليل على شجاعة حسان وقوته في الصدع بالحق، لأنه صاحب حق، فإنه رد على عمر إنكاره عليه، لاعتماده على الدليل، ولم يمنعه من ذلك قوة عمر وصلابته وهيبته، لأن صاحب الحق أقوى، وفي هذا درس لأهل العلم أن يبلغوا عن الله تعالى شرعه، وأن يصدعوا بالحق، وألا يخافوا في الله لومة لائم، ليتوارث الناس الحق وينقله جيل عن جيل، لكن إذا تركوا إظهاره اندثر، وذهب بموت أهله، والله المستعان.
(1)
أخرجه أبو داود (1079) والترمذي (322) والنسائي (2/ 47) وابن ماجه (749)، وأحمد (11/ 257)، وقال الترمذي:(حديث حسن).
(2)
"السنن الكبرى"(2/ 448)، "الجامع لأحكام القرآن"(12/ 271).
حكم إنشاد الضالة في المسجد
256/ 6 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإنَّ المسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن نَشْدِ الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد» (568) من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مولى شداد بن الهاد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول .. فذكره مرفوعاً.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من سمع رجلاً يَنْشُدُ ضالة) بفتح الياء وسكون النون وضم الشين من باب «نصر» من نَشَدَ الضالة: إذا طلبها وسأل عنها.
والضالة: كل ما ضلّ، والجمع ضوال، من ضل الشيء: خفي وغاب. قال أهل اللغة: الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وأما الأمتعة فتسمى لقطة، ولا تسمى ضالة، لكن يشكل على ذلك حديث الباب، فإنَّ حَمْلَ الضالة فيه على المعنى الأعم أولى من تخصيصها بالحيوان، كما هو مدلولها في اللغة
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" ص (363).
قوله: (لا ردها الله عليك) جملة دعائية، وهي دعاء عليه بنقيض قصده، وهو نوع من التعزير.
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن نَشْدِ الضالة في المسجد، وهذا الحكم عام، سواء كانت حيواناً أو متاعاً أو نقداً أو غير ذلك، وأن من سمع من ينشد ضالة في المسجد فليدع عليه جهراً بقوله:(لا ردها الله عليك). وهذا من باب التعزير، لأنه لما تساهل وأتى بأمر لا يناسب المسجد عوقب بأن يدعى عليه بألا تُرَدّ ضالته.
وقد ورد عن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وَجَدْتَ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له»
(1)
، فإن خرج عند باب المسجد فنشدها جاز، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (569).
حكم البيع والشراء في المسجد
257/ 7 - وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَو يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، والترمذيُّ وَحَسَّنَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «البيوع» باب «النهي عن البيع في المسجد» (1321) والنسائي في «الكبرى» (6/ 52) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، أخبرنا يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: .. فذكره، وفي آخره:«وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا ردّ الله عليك» وقال الترمذي: (حديث حسن غريب).
والحديث أخرجه ابن خزيمة (2/ 274) والحاكم (2/ 65) وابن حبان (4/ 528) وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن البيع والشراء في المسجد، وقد ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد .. وتقدم تخريجه قريباً، وهل هو للتحريم أو للكراهة؟ قولان:
الأول: أنه للكراهة، فيكره البيع والشراء في المسجد، ويصح إن وقع
فيه، وهذا قول الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدعاء عليه، وهذا يدل على كراهة البيع، ولم يبين بطلانه، ولو كان البيع باطلاً لبيّنه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكونه منهياً عنه لا يقتضي بطلانه، كالغش والتدليس والتصرية، وقد نقل الماوردي الإجماع على أن ما عُقِدَ من البيع في المسجد لا يجوز نقضه، ومثله قال العراقي
(2)
.
الثاني: أنه للتحريم فإن وقع لم يصح، وهذا مذهب الحنابلة
(3)
، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على البائع والمشتري في المسجد بألا تربح تجارته، وهذه عقوبة له، لأنه فعل أمراً محرماً، وما كان محرماً فهو باطل.
والقول الأول أظهر، وهو صحة البيع، لأن فيه عملاً بجميع الأدلة، لكنّ صَرْفَ النهي من التحريم إلى الكراهة يحتاج إلى دليل، وما نقل من الإجماع على عدم جواز نقضه وصحة العقد لا ينافي القول بالتحريم، فقد يأتي النهي للتحريم ويكون العقد صحيحاً، كما في بيع التصرية، وعلى هذا فلا يصح جعل الإجماع قرينة لحمل النهي على الكراهة، والله أعلم
(4)
.
(1)
"الإنصاف"(3/ 386).
(2)
"نيل الأوطار"(2/ 177).
(3)
"الإنصاف"(3/ 385).
(4)
انظر: "نيل الأوطار"(2/ 177).
النهي عن إقامة الحد في المسجد
258/ 8 - وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقَامُ الحُدُود فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُسْتَقَادُ فِيها» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزّى بن قصي الأسدي، ابن أخي خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الفيل بثلاث أو اثنتي عشرة سنة، وكان من سادات قريش، ومن العلماء بأنسابها وأخبارها، وكان صديق النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يواده ويحبه بعد البعثة، لكنه تأخر إسلامه حتى عام الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم، له ستون حديثاً، أربعة منها في «الصحيحين» كما ذكر الذهبي، روى عنه: ابنه حزام وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسعيد بن المسيب وعروة وغيرهم، مات سنة خمسين، وقيل أربع، وقيل ثمان، وقيل غير ذلك، وعمره مائة وعشرون، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، كما ذكر البخاري
(1)
، وتعقبه الذهبي بأنه لم يعش في الإسلام إلا بضعاً وأربعين سنة
(2)
.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (24/ 346) وأبو داود (4409) في كتاب «الحدود»
(1)
" التاربخ الكبير"(3/ 11).
(2)
"الاستيعاب"(3/ 53)، "السير"(3/ 44)، "الإصابة"(2/ 278).
بابٌ «في إقامة الحد في المساجد» من طريق محمد بن عبد الله المهاجر الشُّعيثي، عن زُفر بن وَثِيمة، عن حكيم بن حزام أنه قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُستقاد في المسجد، وأن تُنشد فيه الأشعار، وأن تُقام فيه الحدود) هذا لفظ أبي داود.
وقد ضعف الحافظ هذا الحديث، لأنه أُعل بثلاث علل:
1 -
أن فيه انقطاعاً، كما نص على ذلك ابن عبد الهادي
(1)
، لأن زفر بن وثيمة لم يلق حكيم بن حزام على ما ذكره الحافظ
(2)
، ونقله عن دُحيم القاضي.
2 -
أن محمد بن عبد الله الشعيثي مختلف فيه، فقد وثقه ابن معين، ودحيم القاضي. وقال أبو حاتم:(ضعيف الحديث، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به)
(3)
.
3 -
أن زفر بن وثيمة مجهول الحال، فإنه لم يروِ عنه إلا الشعيثي، على ما ذكره ابن القطان
(4)
.
لكن الحديث له شواهد ذكرها الألباني، وهي وإن كانت ضعيفة لكنها باجتماعها تقوى، إضافة إلى المعنى، كما سيأتي إن شاء الله، وقد قال الحافظ في «التلخيص» عن حديث الباب (إسناده لا بأس به)
(5)
. ولعله نظر إلى شواهده، وحسنه الألباني
(6)
.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أن يستقاد في المسجد) أي: لا يؤخذ القصاص فيها، والقود:
(1)
"المحرر"(1/ 272).
(2)
"تهذيب التهذيب"(3/ 283).
(3)
معنى يكتب حديثه: أنه من جملة الضعفاء، ولكن حديثه يكتب ليعتبر به، وليس ضعفه بالشديد، ويستثنى من ذلك أن الإمام مسلمًا يقول:(أكتب عنه). يريد بذلك التوثيق، قال مكي بن عبدان:(سألت مسلم بن الحجاج عن أبي الأزهر؟) فقال: (أكتب عنه).
قال الحاكم: (هذا رسم مسلم في الثقات)، ذكره في "تهذيب التهذيب"(1/ 10).
(4)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 344).
(5)
(4/ 86).
(6)
"الإرواء"(7/ 361).
بفتح القاف والواو: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، وسمي القَوَد قَوَداً، لأن الجاني يقاد إلى أولياء المقتول فيقتلونه به إن شاؤوا.
قوله: (وأن تُقام فيه الحدود) أي: تُنفذ، والحدود هي العقوبات البدنية المقدرة شرعاً لحق الله تعالى، كحد الزنى، وحد القذف، وحد الشرب.
الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن استيفاء القصاص أو تنفيذ الحدود في المسجد، وظاهر النهي أنه للتحريم، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم إلا أن معناه صحيح، فإن إقامة الحد في المسجد وإن كان إجراء لحكم الله تعالى إلا أنه يؤدي إلى تلويث المسجد، فإنه إذا ضرب الجاني أو قُطعت يده أو اقتص منه لوث المسجد، مع ما في ذلك من اللغط ورفع الأصوات فيه، وكل ذلك غير لائق بالمسجد، لأن الله تعالى يقول:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وهذا الرفع يشمل الرفع الحسي بالبناء والتطهير من الأذى والقذر وكل ما لا يليق بالمسجد، والرفع المعنوي بإقامة ذكر الله تعالى وطاعته من الذكر والتلاوة والصلاة والابتعاد عن معصيته من اللغو وقول الزور وكل فعل يخل بتشريفها.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم أقاموا الحدود في المسجد، ولما جاء ماعز رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وأقرّ عنده بالزنى قال:«اذهبوا به فارجموه»
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (5271) ومسلم (1691)(16) وسيأتي شرحه في كتاب "الحدود" إن شاء الله تعالى.
جواز نصب الخيمة في المسجد لحاجة
259/ 9 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع، أولها في كتاب «الصلاة» باب «الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم» (463) ومسلم (1769)، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(أصيب سعد يوم الخندق في الأَكْحَل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يَرُعْهُم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جُرحه دماً، فمات فيها) أخرجه البخاري مطولاً في كتاب «المغازي» (4122).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أصيب سعد .. ) هو أبو عمرو، سعد بن معاذ الأوسي، أسلم في المدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير، وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار، شهد بدراً وأحداً، وأصيب يوم الخندق في أَكْحَلِهِ - وهو عرق في الذراع يفصد - فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر، وذلك في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وقد ورد في «صحيح البخاري» (3803) ومسلم (2466) عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» وفي لفظ: «اهتز عرش الرحمن» ، قال ابن عبد البر: (وهو حديث رُوي من وجوه عديدة كثيرة
متواترة، رواها جماعة من الصحابة)
(1)
.
قوله: (يوم الخندق) أي: في شوال سنة خمس من الهجرة.
قوله: (يغذو) بغين وذال معجمتين، أي: يسيل.
قوله: (فمات فيها) أي: في الخيمة، أو في تلك المرضة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز نصب الخيمة في المسجد للمريض وإن كان جريحاً إذا كان هناك مصلحة، كأن يكون الرجل ذا شأن فيحتاح أن يعوده الناس من قريب، أو لأنه لا سكن له، أو توضع الخيمة في المسجد لقصد الاعتكاف، فكل ذلك جائز بشرط ألا يضيق على المصلين، وبشرط الصيانة والنظافة، وغالب المساجد اليوم فيها غرف صالحة للإقامة فيها، فتقوم مقام الخيمة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي تقدير أهل الفضل والسابقة في الإسلام وتنزيلهم منازلهم من الشفقة والعناية، والله أعلم.
(1)
"الاستيعاب"(4/ 163)"سير أعلام النبلاء"(1/ 279)، "الإصابة"(4/ 171).
جواز اللعب بالحراب في المسجد
260/ 10 - وَعَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي، وَأَنَا أَنْظُرُ إلى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ
…
الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع كثيرة من «صحيحه» ومنها: كتاب «الصلاة» باب «أصحاب الحراب في المسجد» (454) ومسلم (892)(17) من طريق الزهري، عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت:(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم).
وفي رواية لها: (والحبشة يلعبون بحرابهم) ولفظ البلوغ هو لفظ البخاري في كتاب «المناقب» رقم (3530).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (والحبشة) هم الحبش، وهم جنس من السودان وسكان بلاد الحبشة، الواحد حبشي، والجمع حُبْشان، وبلادهم هي أثيوبيا - الآن - في أفريقيا الشرقية.
قوله: (يلعبون) فسِّر ذلك برواية: (يلعبون بحرابهم) والحراب: جمع حربة، وهي آلة قصيرة من الحديد، محددة الرأس، تستعمل في الحرب.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد، ويلحق بذلك كل ما في معناه من الأسباب المعينة
على الجهاد وأنواع البر، لأن ذلك ليس لعباً مجرداً، وإنما هو وسيلة لغاية سامية، وهي التدريب على الشجاعة والقتال، مع ما في ذلك من تأليف القلوب، وبيان سماحة الإسلام، ولهذا لما أراد عمر رضي الله عنه أن ينكر عليهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعهم يا عمر» كما ثبت في «الصحيحين» .
وشرط ذلك ألا يكون بصفة دائمة بحيث يتخذ المسجد ملعباً، وألا يؤذي أحداً من المصلين أو الذاكرين أو حلقات العلم، وألا يكون فيه أصوات وسب وشتم ونحو ذلك مما يذهب معه وقار المسجد.
وكأنّ عمر رضي الله عنه بنى إنكاره هذا على الأصل من تنزيه المساجد واحترامها، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن التعمق والتشديد ينافي سماحة الإسلام ويسره، لا سيما فيما يترتب عليه مصلحة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز نظر المرأة إلى جملة الرجال دون تفصيل لأفرادهم، كما تنظر إلى الرجال في الأسواق أو المساجد، وليس في الحديث ما يدل على أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، فالمقصود بالنظر ذات اللعب، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن؛ ولذا جاء في لفظ مسلم:(يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم) قال القاضي عياض: (فيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال، مثل هذا، لأنه إنما يكره لهن من النظر إلى الرجال ما يكره للرجال فيهن من تحديق النظر لتأمل المحاسن، والالتذاذ بذلك والتمتع به .. )
(1)
.
وقد نقل النووي: الاتفاق على تحريم نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي إذا كان مقروناً بشهوة
(2)
.
الوجه الخامس: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وكريم معاشرته لأهله، فينبغي على المسلم امتثال ذلك والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم"(3/ 309).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(5/ 435).
جواز إقامة المرأة في المسجد ونومها فيه
261/ 11 - وَعَنْهَا: أَنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي
…
الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «نوم المرأة في المسجد» (439) من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحيّ من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبية لهم، عليها وِشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوضعته، أو وقع منها، فمرت به حُدَيّاةٌ وهو ملقى، فحسبته لحماً فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشونني، حتى فتشوا قُبُلَها، قالت: والله إني لقائمة معهم، إذ مرت الحدياةُ فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، زعمتم وأنا منه بريئة، وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حِفْشٌ، قالت: فكانت تأتيني فَتَحَدّثُ عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويومَ الوِشَاحِ من تعاجيب ربِّنا
ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث.
والحديث تفرد البخاري بإخراجه، وعزوه لمسلم وهم من الحافظ رحمه الله.
والوليدة: هي الأمة، وهي في الأصل المولودة ساعة تولد، ثم أطلق على الأمة وإن كانت كبيرة.
والوشاح، بكسر الواو ويجوز ضمها: خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، تشده المرأة بين عاتقها وكشحها.
والحديّاةُ: بضم الحاء، تصغير: حدأة، وهي الطائر المعروف.
والخباء: بالكسر الخيمة.
والحفش: بالكسر - أيضاً - البيت الصغير.
وتعاجيب: أي: أعاجيب، واحدها أعجوبة.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إقامة المرأة في المسجد ونومها فيه، لأن هذه المرأة كان لها خباء في المسجد تقيم فيه وتنام، وينبغي تقييد ذلك بأمن الفتنة منها أو عليها، وفي زماننا هذا لا يجوز للمرأة أن تسكن المسجد، لأن الفتنة غير مأمونة.
الوجه الثالث: استدل طائفة من أهل الظاهر بهذا الحديث على جواز مكث الحائض في المسجد، لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالباً.
وهذا فيه نظر، لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً قد يئست من الحيض، وقد تقدم ذكر ذلك في باب «الغسل»
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "شرح الحديث" رقم (122).
حكم البزاق في المسجد
262/ 12 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «كفارة البزاق في المسجد» (415) ومسلم (552) من طريق شعبة قال: حدثنا قتادة قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: .. فذكره.
وفي رواية لمسلم: (حدثنا شعبة قال: سألت قتادة عن التفل في المسجد فقال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التفل في المسجد خطيئة .. ) الحديث.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يحرم على المسلم أن يبصق في المسجد، استهانة بالمسجد أو بمن فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ ذلك خطيئة، تكتب على ابن آدم، والخطيئة هي السيئة والإثم، وقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عُرضت عليّ أعمال أمتي، حَسَنُها، وسَيّئُها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها: النخامة تكون في المسجد لا تدفن»
(1)
.
وليس معنى ذلك أن يبصق ويدفن، فإنه جعل البصاق معصية، ولا يجوز لأحد أن يعمل ذنباً ويتبعه بما يكفره من الحسنات الماحية.
(1)
أخرجه مسلم (553).
لكن إن بدر المصلي بصاق فإنه يبصق في منديل أو في طرف ردائه أو ثوبه ويحك بعضه ببعض، لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (
…
فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا، ووصف القاسم - أحد رواته - فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض). أخرجه مسلم، وتقدم.
فإن بصق في أرض المسجد مضطراً وكانت أرض المسجد تراباً وجب عليه دفنها وتغييبها في التراب، لئلا تعلق بثوب مسلم أو رجله فتؤذيه، ولذا أمر بدفنها ولا كفارة لها إلا ذلك، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيِّب نخامته، أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه»
(1)
.
قال ابن رجب: (وهذا مما يدل على أن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفناً للأقذار الطاهرة)
(2)
.
فإن كان المسجد مفروشاً - كحال المساجد الآن - لم يجز البصق فيه بحال من الأحوال، لا سيما وقد تيسرت - ولله الحمد - المناديل بأنواعها وشاع استعمالها بين الناس، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه أحمد (3/ 121) وابن أبي شيبة (2/ 367) وابن خزيمة (1311) وحسنه الألباني في"الصحيحة"(1265).
(2)
"فتح الباري"(3/ 137).
ذمُّ التباهي بالمساجد وأنه من أشراط الساعة
263/ 13 - وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» . أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «بناء المساجد» (449) والنسائي (2/ 32) وابن ماجه (739) وأحمد (19/ 372) وابن خزيمة (1322) و (1323) من طرق، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس مرفوعاً، وهذا لفظ أبي داود وابن ماجه وأحمد، ولفظ النسائي وابن خزيمة (من أشرط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد) وإسناده صحيح على شرط مسلم، ورجاله ثقات، رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا تقوم الساعة .. ) الساعة في اللغة: هي جزء من أجزاء الليل والنهار، والمراد بها هنا: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، فإذا أطلقت الساعة في القرآن فالمراد بها القيامة الكبرى، قال تعالى:{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]، وقال تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، سميت بذلك لسرعة الحساب فيها، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة.
قوله: (حتى يتباهى الناس في المساجد) أي: يتفاخرون في بنائها، فيفاخر كل أحد بمسجده، ويقول: مسجدي أرفع أو أوسع أو أَحسن؛ رياءً وسمعة واجتلاباً للمدحة، مما وقع فيه الناس اليوم.
الوجه الثالث: الحديث دليل عى ذم التباهي والتفاخر في بناء المساجد، لأن ذلك من أشراط الساعة وعلامة قربها، وهو دليل على تغير الأحوال من غلبة الجهل ونقص الدين وضعف الإيمان، وغلبة المقاصد الدنيوية على المقاصد الأخروية، ولهذا قال أنس رضي الله عنه:(يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)
(1)
.
وقد حصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حيث تباهى الملوك والخلفاء في بناء المساجد وتزويقها حتى أتوا في ذلك بالعجب، ولا زالت هذه المساجد قائمة حتى الآن في بلاد الشام ومصر، وبلاد المغرب والأندلس وغيرها.
وفي عصرنا الحاضر اتضحت ظاهرة التباهي بالمساجد، لما تقدم، ولتفنن الناس في البناء تخطيطاً وتنفيذاً، ووجود الوسائل المعينة على ذلك.
ولا ريب أن التباهي في المساجد يقود إلى الإسراف في بنائها وصرف الهمة إلى تزويقها، والله المستعان.
(1)
علَّقه البخاري (1/ 539)، ووصله أبو يعلى (3/ 197)، وابن خزيمة (2/ 281)، وضعفه الألباني في تعليقه على "صحيح ابن خزيمة". وما الواقع عن معنى هذا الحديث ببعيد.
تشييد المساجد ليس من الأمور المشروعة
264/ 14 - وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَسَاجِدِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» في باب «بناء المساجد» (448) وابن حبان (4/ 493) من طريق محمد بن الصباح، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس: (لتُزَخْرِفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى) وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، كما قال النووي
(1)
.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا علقه البخاري في «صحيحه» بصيغة الجزم في كتاب «الصلاة» ، باب «بنيان المسجد»
(2)
.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بتشييد) المراد بذلك رفع البناء وتطويله، يقال: شاد الرجل بناءه يشيده، وشيَّده يُشَيّده: طوَّله ورفعه، ومنه قوله تعالى:{فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] على أحد التفسيرين، وقال في «القاموس»:(شاد الحائط يشيده: طلاه بالشِّيد، وهو ما طلي به حائط من جص ونحوه)، وعلى هذا فرفع البناء ليس من مسمى هذا اللفظ، لكنه قال:(المُشَيَّد: المطوَّل)
(3)
.
(1)
"الخلاصة"(1/ 305).
(2)
"فتح الباري"(1/ 539).
(3)
"ترتيب القاموس"(2/ 784).
وعلى هذا فالتشييد تطويل البناء ورفعه، أو طليه بالشيد، وهو الجص، وقد ذكر المفسرون هذا عند الآية الكريمة.
قوله: (لتزخرفنها) بفتح اللام - وهي لام القسم - وضم التاء، وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وكسر الراء، وضم الفاء، وتشديد النون؛ والزخرفة: الزينة، وأصل الزخرفة: الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن تشييد المساجد وزخرفتها ليس أمراً مشروعاً وليس من القُرَبِ، لأنه قال:(ما أمرت) وهذا فيه إشعار بأن ذلك أمر لا يحسن ولا ينبغي، فإنه لو كان حسناً لأمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا يدل ذلك على التحريم، وإلا لقال: نهيت عن تشييد المساجد، وفرق بين اللفظين، لكنه يدل على أنه عمل غير مشروع، وقال الشوكاني:(والحديث يدل على أن تشييد المساجد بدعة)
(1)
لأن المطلوب في بناء المساجد الاقتصار على ما أكنّ من الحر والبرد والمطر، ولكن لما طال العهد شيد الناس المساجد وزخرفوها، ورفعوا بنيانها فوق الحاجة، والمطلوب البعد عن ذلك، لأن هذا مما يشغل المصلين ويجعلهم ينظرون ويتأملون، فتحصل الغفلة عن الخشوع في الصلاة والإقبال عليها.
وقد ورد عن نافع أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر رضي الله عنه وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج
(2)
.
قال ابن بطال، بعد أن ذكر آثاراً تدل على كراهة المغالاة في تشييد المساجد قال: (وهذه الآثار مع ما ذكر البخاري في هذا الباب تدل على أن
(1)
"نيل الأوطار"(2/ 146).
(2)
أخرجه البخاري (446).
السنّة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها.
وكان عمر رضي الله عنه قد فتح الله الدنيا على أيامه، ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال في زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل في مكان اللبن حجارة وقَصَّة
(1)
، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصِّر هو وعمر عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما من الرسول صلى الله عليه وسلم بكراهة ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها وإيثار البلغة منها)
(2)
.
فعمر رضي الله عنه أبقى المسجد على صفته التي كان عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نهى عن زخرفة المسجد، لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم، وقال عندما أمر بتجديد المسجد النبوي:(أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتفتن الناس)
(3)
.
وأما عثمان رضي الله عنه فقد حسّن المسجد النبوي بما لا يقتضي الزخرفة، ولعله فعل ذلك، لأنه لما رأى الناس قد حسنوا بيوتهم بما أعطاهم الله رأى أن من المناسب تحسين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أنكر عليه بعض الصحابة رضي الله عنهم.
فقد ورد عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من بنى مسجداً - قال بكير: حسبتُ أنه قال - يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة»
(4)
).
وعن محمود بن لبيد - وهو من صغار الصحابة - أن عثمان بن عفان رضي الله عنه
(1)
القصة: بالفتح: الجص بلغة الحجاز.
(2)
"شرح ابن بطال"(2/ 97).
(3)
البخاري (1/ 539)"فتح".
(4)
أخرجه البخاري (450) ومسلم (533) وفي رواية له (بيتًا في الجنة).
أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله»
(1)
.
فالمطلوب في بناء المسجد هو توسيعه وإحكام البناء وتجهيزه بكل ما هو من مستلزمات العصر مما يرغِّب في المساجد والبقاء فيها للصلاة وتلاوة القرآن وحلق العلم، مع الحذر من الإسراف والمباهاة، سواء في بنائه أو في توابعه ومكملاته من محراب وأبواب ونوافذ وفرش وإنارة ومكبرات صوت ووسائل تبريد وغير ذلك، لما في ذلك من إضاعة المال، والتسبب في إشغال المصلين، لأن عمارة المساجد إنما تكون بالطاعة والذكر، كما يجب البعد عن الإسراف في تطويل المنائر - أو تعددها - كما يوجد في بعض المساجد، مما يكلف مبالغ عظيمة، قد تكفي لبناء مساجد أخرى، ومكبرات الصوت تغني عن رفع المنائر أو تعددها، ولا نقول بإلغائها لأن وجودها له فائدة، وهو إبلاغ الصوت، والاستدلال بها على المسجد، وليتميز المسجد بها عن بقية بيوت الحي
(2)
، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (533)(25).
(2)
انظر: "أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية"(1/ 359).
فضل إخراج القذر من المسجد
265/ 15 - وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتي، حَتَّى الْقَذاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (461) في كتاب «الصلاة» بابٌ «في كنس المسجد» والترمذي (2916) وابن خزيمة (1297) من طريق عبد الوهاب بن عبد الحكيم الخزاز، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» . وهذا الحديث معلول سنده ومتنه، أما السند فهو ضعيف لعلتين:
الأولى: أنه من رواية المطلب بن عبد الله، عن أنس، وهو صدوق، كثير التدليس والإرسال، قال أبو حاتم:(روايته عن الصحابة مرسلة)
(1)
، وقال الترمذي بعد سياق حديثه: (قال محمد: لا أعرف للمطلب بن عبد الله بن حنطب سماعاً من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه ففي السند انقطاع.
الثانية: فيه ابن جريج، وهو ممن يدلس عن الضعفاء والمجهولين، وقد عنعنه.
(1)
"المراسيل" ص (209).
ولهذا ضعفه البخاري، والترمذي، والقرطبي، والحافظ ابن حجر
(1)
. وقوله: (استغربه الترمذي): أي: قال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، أي انفرد بروايته راوٍ واحد، وليس له إلا هذا الإسناد.
وأما إعلاله من جهة المتن فلأن المكلف غير مؤاخذ بالنسيان، فكيف يكون نسيان السورة أو الآية من أعظم الذنوب، وقد نسي النبيُّ صلى الله عليه وسلم آية، كما ثبت في «الصحيح» ، إلا إن كان المراد بالنسيان الإعراض عنها وعدم الإيمان بها، أو المراد ترك القرآن عمداً إلى أن يفضي هذا الترك إلى النسيان، والمقصود أنه إن كان عن إهمال ففيه مؤاخذة وإلا فلا.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عرضت عليَّ) الظاهر أنه في ليلة المعراج، لأنه المتبادر عند الإطلاق.
قوله: (حتى القذاة) هي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي: عرضت عليّ أجور أعمال أمتي وأجر القذاة، أي: أجر إخراج القذاة.
ويجوز فيها الرفع والجر، فالرفع على أن (حتى) حرف عطف، والقذاة مبتدأ، وجملة (يخرجها) خبر، ويجوز الجر، و (حتى) حرف جر بمعنى (إلى) وتكون جملة (يخرجها) للبيان.
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل تنظيف المساجد وإخراج القمامة منها، لأنه إذا حصل الأجر لمن يخرج القذاة منه وهو شيء يسير فالذي يكنسه ويزيل ترابه وغباره وينظفه عن الأقذار والأوساخ الكثيرة بالطريق الأولى له أجور كثيرة، وعَدّ إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيماً لبيت الله عز وجل، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(9/ 86).
حكم تحية المسجد
266/ 16 - وعَنْ أَبي قَتَادَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «التهجد» ، باب «التطوع مثنى مثنى» (1163) ومسلم (714) من طريق عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزُّرقي، عن أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي رواية للبخاري (444) ومسلم (714)(69)(فليركع ركعتين قبل أن يجلس). ولمسلم أيضاً (714)(70): (فلا يجلس حتى يركع ركعتين).
الوجه الثاني: الحديث دليل على نهي داخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تعظيماً لله عز وجل، وهي تحية المسجد، لأن داخله يبتدئ بهذه الصلاة كما يبتدئ الداخل على القوم بالتحية، وقد وردت تسميتها تحية المسجد في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يا أبا ذر إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان .. »
(1)
.
والجمهور من العلماء على أن تحية المسجد من السنن المندوب إليها، وليست واجبة، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، لكن هذا فيه نظر، فقد نقل ابن بطال عن أهل الظاهر أنهم قالوا بالوجوب
(2)
، وحكى ذلك القاضي
(1)
أخرجه ابن حبان (2/ 76) ضمن حديث طويل، وهو حديث ضعيف جدًا.
(2)
"شرح صحيح البخاري"(2/ 93).
عياض عن داود وأصحابه
(1)
، وقد نقل ابن عبد البر الإيجاب عن أهل الظاهر
(2)
، مع أن ابن حزم صرح بخلاف ذلك
(3)
، ودليلهم حديث الباب، فقد ورد بلفظ الأمر:(فليركع ركعتين) وبلفظ النهي: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) والأمر عند الإطلاق للوجوب، والنهي عند الإطلاق للتحريم.
وأما الجمهور فاستدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجب عليه من الصلاة فأجابه: «الصلوات الخمس» ، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»
(4)
. قالوا: فلو قلنا بوجوب تحية المسجد للزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس.
كما استدلوا بحديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اجلس فقد آذيت» ، وفي رواية:«وآنيت»
(5)
.
والقول بالوجوب قوي، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد
(6)
والصنعاني
(7)
والشوكاني
(8)
؛ وذلك لأن سبب الوجوب هو دخول المسجد، فلا معارضة بين هذا وبين ما يدل على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع.
وأما حديث «اجلس فقد آذيت» فلا دلالة فيه صريحة على عدم الوجوب؛ لاحتمال أن المراد (اجلس) أي: لا تتخط، ولم يقصد ترك التحية، أو لأنه صلاها في مكان آخر، أو قبل الأمر بها، ونحو ذلك من الاحتمالات التي تضعف الاستدلال بالحديث.
(1)
"إكمال المعلم"(3/ 49).
(2)
"التمهيد"(20/ 100).
(3)
"المحلى"(2/ 231).
(4)
أخرجه البخاري (46) ومسلم (11).
(5)
أخرجه أبو داود (1118)، والنسائي (3/ 103)، وأحمد (29/ 221) والزيادة له، والحديث إسناده حسن، صححه ابن خزيمة (3/ 156) وله شواهد، ومعنى (آنيت): أخَّرت المجيئ وأبطات.
(6)
"شرح العمدة"(4/ 468).
(7)
"سبل السلام"(1/ 308) وفي حاشيته على "شرح العمدة"(4/ 468).
(8)
"نيل الأوطار"(3/ 79).
لكن قد يشكل على ذلك أن القول بالاستحباب هو قول الجمهور، بل نُقِلَ فيه الإجماع، وما نقل عن الظاهرية، صرح ابن حزم في «المحلى» بخلافه، وعلى هذا فتحية المسجد سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
الوجه الثالث: عموم الحديث يدل على أن الداخل يصلي ولو في وقت النهي، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وقد نصر ابن تيمية هذا القول
(1)
، ووجه ذلك أن حديث النهي «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» قد ثبت تخصيصه بقضاء الفائتة وإعادة الجماعة وركعتي الطواف - كما تقدم في أوقات النهي - وحديث تحية المسجد عام محفوظ لم يدخله التخصيص، والعام الذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام الذي دخله التخصيص، ومما يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتحية المسجد حال الخطبة، والنهي عن الصلاة في وقت الخطبة أشد، لأن السامع منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع حتى الصلاة، حيث أمر الشرع بتخفيفها، فإذا فُعلت تحية المسجد وقت الخطبة ففعلها في سائر الأوقات أولى.
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أنه تستحب التحية لكل مرة إذا تكرر دخوله، قال النووي:(وهو الأقوى والأقرب لظاهر الحديث)
(2)
وأفتى به الشيخ عبد الرحمن السعدي
(3)
.
والقول الثاني: أنه يكفيه ركعتان، وهو قول الحنفية
(4)
، ونقله المرداوي عن ابن عقيل الحنبلي، وعلل ذلك بالمشقة لو صلّى كل مرة
(5)
.
وهذا هو الأظهر، لأن من خرج من المسجد وعاد إليه عن قرب لم
(1)
"الفتاوى"(23/ 178 - 199، 210 - 217).
(2)
"المجموع"(4/ 52).
(3)
"الفتاوى السعدية" ص (161).
(4)
"حاشية ابن عابدين"(2/ 19).
(5)
"تصحيح الفروع"(1/ 502).
يخرج خروجاً منقطعاً، فلا يعد خروجاً، بدليل أن مثل ذلك لا يقطع اعتكاف المعتكف، أما من خرج خروجاً منقطعاً ولم ينوِ الرجوع فهذا تشرع له التحية مرة أخرى إن رجع
(1)
، والله أعلم.
انتهى الجزء الثاني، ويليه - بعون الله وتوفيقه - الجزء الثالث
وأوله: باب «صفة الصلاة»
(1)
انظر: "فتاوى ابن عثيمين"(14/ 353).