المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب صلاة الجمعة الجمعة: بضم الجيم والميم، ويجوز تسكين الميم تخفيفًا، - منحة العلام في شرح بلوغ المرام - جـ ٤

[عبد الله بن صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

‌باب صلاة الجمعة

الجمعة: بضم الجيم والميم، ويجوز تسكين الميم تخفيفًا، والأولى هي قراءة الجمهور في الآية الكريمة: {

إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] وهي مشتقة من الجمع، بمعنى الاجتماع والتأليف ضد التفرق، وسمي بذلك لأن الله تعالى جمع فيه من الأمور الكونية والشرعية ما لم يجمعه في غيره، ففيه كمل خلق السماوات والأرض، وخلق آدم، وفيه تقوم الساعة، ويبعث الناس، وفيه صلاة الجمعة، واجتماع الناس عليها.

ويوم الجمعة من أفضل الأيام عند الله تعالى، ادخره الله لهذه الأمة لشرفها وكرمها على الله تعالى، وفيه من الفضائل، وله من الخصائص ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعظمه ويخصه بعبادات ليست لغيره

(1)

.

وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا، هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد"

(2)

.

وعنه أيضًا رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة"

(3)

.

وإذا كان الله تعالى فضلنا على سائر الأمم بهذا اليوم فعلينا أن نشكره

(1)

"زاد المعاد"(1/ 375).

(2)

أخرجه البخاري (876)، ومسلم (855) واللفظ له.

(3)

أخرجه مسلم (854).

ص: 5

على هذه النعمة العظيمة، ومن شكره أن نهتم بهذا اليوم وأن نستشعر عظم هذا العطاء الذي هو زيادة في ثوابنا ورفعة في درجاتنا، وذلك بأن نخص هذا اليوم بمزيد من الطاعة، والإقبال على العبادة بالصلاة، وتلاوة القرآن، والمبادرة إلى حضور الجمعة، وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعات.

وأكثر الناس في زماننا هذا لا يرون يوم الجمعة إلا أنه يوم نوم وكسل، وصار من آثار ذلك السهر في الليل، والنوم في النهار، والتأخر عن الحضور إلى الجمعة كما هو مشاهد، وقد استقر في أذهان الناس أنه أفضل أيام الأسبوع، لكنهم لا يعملون بمقتضى علمهم، وهذا من علامات الحرمات، فالله المستعان.

* * *

ص: 6

‌الترهيب من ترك الجمعة

445/ 1 - [*] عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنه أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره:" لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الجمعة"، باب " التغليظ في ترك الجمعة" (865) من طريق معاوية وهو ابن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام قال: حدثني الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

الحديث.

ووقع عند النسائي في "سنته"(3/ 88)(ابن عباس) بدل (أبي هريرة)، ورواه ابن خزيمة (3/ 175) من طريق الحكم بن ميناء، عن أبي هريرة وأبي سعيد، ولعل الحكم سمعه من الجميع، فأنه قد روى عن المذكورين

(1)

، وقد تكلم عليه الدارقطني، وذكر الاختلاف في إسناده

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (على أعواد منبره) المنبر: اسم آلة، مأخوذ من النبر وهو الرفع؛ لأنه يتخذ للارتفاع عليه، وتعلية الصوت، وكان منبره صلى الله عليه وسلم من أعواد الطرفاء، وهو نوع من الأثل.

(1)

انظر: "تهذيب التهذيب"(2/ 378 - 379).

(2)

انظر: "العلل"(13/ 152)، "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 171 - 172).

[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، قفز في الترقيم

ص: 7

قوله: (عن ودعهم) أي: تركهم، من ودع الشيء: إذا تركه، يقال: ودعته أدعه ودعًا، وزعم النحاة أن العرب أماتت ماضي "يدع" ومصدره، واسم الفاعل، وفي هذا الحديث رد عليهم، فقد ثبت المصدر عن أفصح العرب، وثبت الماضي واسم الفاعل في بعض الأشعار

(1)

، فلو عبروا بالقلة بدل الإماتة لكان أحسن.

قوله: (الجمعات) بضم الجيم والميم، جمع جمعة.

قوله: (أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم: الطبع والتغطية، وأصل الختم: الاستيثاق من الشيء بوضع الخاتم عليه حتم لا يعلم ما فيه، ومثله الطبع، والقلب إذ ختم عليه لو يع ما ينفعه، ولم يسمع ما يفيده، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وهذا من أكبر الخذلان عياذًا بالله وقد ورد عن أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من ترك ثلاث جمع تهاونًا بها طبع الله على قلبه"

(2)

.

والمراد بالتهاون: الترك من غير عذر، وقيل: التكاسل وعدم الجد في أداء الجمعة لا الاستهانة والاستخفاف فإنه كفر، والمراد بيان كونها معصية عظيمة.

قال العراقي: (والمراد بالطبع: أنه يصير قلبه قلب منافق)

(3)

، وكأنه أخذه من قوله تعالى:{فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3].

قوله: (ثم ليكونن من الغافلين) أي: إذا ختم على القلب وطبع عليه صار صاحبه من الغافلين اللاهين الذين غفلوا عن اكتساب ما ينفعهم وترك ما يضرهم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم شأن صلاة الجمعة وشدة فرضيتها وأن تاركها قد تعرض لعقوبة عظيمة، وهي الختم والطبع على قلبه،

(1)

"اللسان"(8/ 383 - 384) مادة "ودع".

(2)

أخرجه أبو داود (1052)، والترمذي (500)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (1125)، وقال الترمذي:(حديث حسن).

(3)

"تحفة الأحوذي"(3/ 13).

ص: 8

فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، ولا يعي خيرًا، ولا تغشاه رحمة الله، ولا ألطافه، فلا يزكيه ولا يطهره، بل يبقى دنسًا تغشاه ظلمات الذنوب والمعاصي، ثم يكون من الغافلين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

قال القاضي عياض: (هذا الحديث حجة بينة في وجوب الجمعة وكونها فرضاً، إذ العقاب والوعيد والطبع والختم إنما يكون على الكبائر)

(1)

.

فعلى من كان متساهلًا بهذه الفريضة العظيمة أن يبادر بالتوبة النصوح، وأن يحرص على أدائها والاهتمام بها بالتبكير وسماع الخطبة، والاستفادة منها، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"إكمال المعلم"(3/ 265).

ص: 9

‌وقت الجمعة زمن النبي صلى الله عليه وسلم

446/ 2 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. متفق عليه. واللفظ للبخاري.

وفي لفظ لمسلم: كنا نجمع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع، نتتبع الفيء.

447/ 3 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وفي رواية: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

فالأول: هو سلمة بن عمرو بن سنان الأسلمي رضي الله عنه، وهو منسوب إلى جده سنان، ولقبه: الأكوع، كان سلمة رضي الله عنه شجاعًا عداءً يسبق الخيل، وأول مشاهده غزة الحديبية، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الموت مرتين أو ثلاثا

(1)

، واستنقذ لقاح النبي صلى الله عليه وسلم من أربعين رجلًا من غطفان أغاروا عليها فأخذوها، فلحقهم حتى أدركهم وجعل يرميهم ويرتجز:

(1)

أخرجه البخاري (2960)(4169)، ومسلم (1707)، وتكررت بيعة سلمة إما لأنه كان مقداماً في الحرب فأكد عليه العقد احتياطًا، أو لأنه يقاتل قتال الفارس والراجل فتعددت البيعة بتعدد الصفة. ("فتح الباري" 6/ 119).

ص: 10

أنا ابن الأكوع

واليوم يوم الرضع

(1)

حتى افتكها واستلب منهم ثلاثين بردة ورمحًا، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل

(2)

، توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة أربع وسبعين

(3)

.

والثاني: هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه كان اسمه حزنًا، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سهلًا

(4)

.

روى عنه ابن عباس، وأبو حازم الأعرج، وابن شهاب الزهري، وآخرون، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وهو من مشاهير الصحابة، كان عمره حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، ومات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وهو آخر من توفى منهم بالمدينة على قول بعض المحدثين

(5)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث سلمة فقد أخرجه البخاري في كتاب "المغازي"، باب "غزوة الحديبية"

(6)

(4168)، ومسلم في كتاب "الجمعة"، باب "صلاة الجمعة حين تزول الشمس"(860) من طريق يعلى بن الحارث المحاربي، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، قال: حدثني أبي وكان من أصحاب الشجرة، قال:

فذكره.

(1)

أي: يوم هلاك اللئام، وهم الرضع، من قولهم: لئيم راضع، أي: رضع اللؤم في بطن أمه، وقيل غير ذلك. (شرح النووي 11/ 415).

(2)

القصة بطولها في "صحيح مسلم"(1807).

(3)

"الاستيعاب"(4/ 227)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 326)، "الإصابة"(233)، "تنبيه الأفهام"(2/ 108).

(4)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(6/ 122)، وفي إسناده عبد المهيمن ابن عباس وهو ضعيف.

(5)

"الاستيعاب"(4/ 227)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 422)، "الإصابة"(4/ 275).

(6)

لعله أخرجه في "المغازي" لقوله: (وكان من أصحاب الشجرة)، كما ذكر الحافظ (7/ 450 "فتح الباري").

ص: 11

وهذا لفظ البخاري، كما قال الحافظ، ولفظ مسلم:(فنرجع وما نجد للحيطان فيئًا نستظل به).

وفي رواية لمسلم (860)(31): (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء)، وسأذكر إن شاء الله غرض الحافظ من إيراد هذه الرواية.

وأما حديث سهل، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجمعة"، باب "قول الله تعالى:{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10] " (939)، ومسلم في الباب المذكور في الحديث قبله (859) من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد، به.

وقوله: (واللفظ لمسلم) لا داعي له؛ لأن اللفظ المذكور لهما معًا، لا فرق بينهما فيه.

ورواه مسلم (859) من طريق علي بن حجر، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، به، وزاد: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعل الحافظ ذكر هذه الرواية لبيان أن قيلولتهم وغداءهم بعد الجمعة إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرواية الأولى لم تبين ذلك، فيكون إخبارًا عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يصلي الجمعة في عهده أحد سواه.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (ثم ننصرف) أي: إلى بيوتنا بعد الصلاة.

قوله: (وليس للحيطان ظل يستظل به) أي: ليس للجدران ظل نتقي به الشمس، وإنما ظلها قصير لا يقي من الشمس، وليس المراد نفي الظل مطلقًا، وإنما المراد نفي ظل طويل يستظل به، بسبب صلاتهم الجمعة في أول وقتها قبل أن يستطيل الظل، بدليل الرواية الثانية التي عند مسلم:(ثم نرجع نتتبع الفيء)، ولعل هذا غرض الحافظ من إيرادها، وهو تأييد أن النفي للقيد، وهو قوله:(نستظل به) لا لأصل الظل، خلافًا لمن حمله على ذلك، كما سيأتي إن شاء الله.

ص: 12

قوله: (كنا نجمع) بضم النون وتشديد الميم مكسورة: نصلي الجمعة.

قوله: (إذا زالت الشمس) أي: مالت عن وسط السماء نحو المغرب.

قوله: (نتتبع الفيء) أي: نتطلبه لنمشي فيه، والفيء: الظل بعد زال الشمس، سمي بذلك لرجوعه.

قوله: (ما كنا نقيل) من القيلولة، وهي الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم.

قوله: (إلا بعد الجمعة) أي: بعد انصرافنا من صلاة الجمعة.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء في وقت صلاة الجمعة على قولين:

الأول: أن وقتها وقت صلاة الظهر، أي: بعد زال الشمس إلى آخر وقت الظهر، فيجب أن تقع الخطبة والصلاة بعد الزوال.

وهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها الآجري، ورجحها ابن قدامة والمرداوي

(1)

.

واستدلوا بحديث الباب على أن النفي في قوله: (وليس للحيطان ظل نستظل به) نفي للقيد، وهي الظل الذي يستظل به، وليس نفيًا للظل من أصله، وإذا ثبت أن هناك ظلًا دل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بعد الزوال.

كما استدلوا بحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس)

(2)

.

وهذا يشعر بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس، كما قال الحافظ، وهو دليل صريح على أن وقت الجمعة عند زوال الشمس، مع أنه يحتمل أن المراد: يفرغ من صلاة الجمعة حين الزوال.

(1)

"الهداية"(1/ 83)، "بداية المجتهد"(1/ 381)، "الأم"(2/ 386)، "المغني"(3/ 159)، "الإنصاف"(2/ 376).

(2)

أخرجه البخاري (904) وبوّب عليه "باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس".

ص: 13

كما استدلوا بأن الجمعة بدل من صلاة الظهر، والبدل يقوم مقام المبدل منه.

القول الثاني: أنه يجوز فعلها قبل الزوال، وهذا مذهب الحنابلة، والمنصوص عن أحمد، والذي عليه الأكثرون منهم أن أول وقتها وقت صلاة العيد، أي: بعد ارتفاع الشمس قدر رمح

(1)

.

واستدلوا بحديث الباب على أن النفي راجع لأصل الظل، وليس للقيد الذي هو الاستظلال، والمعنى: وليس للحيطان ظل فنستظل به، فيدل على أنهم فعلوها قبل الزوال.

وهذا الاستدلال فيه نظر، والأظهر ما تقدم، وهو أن المراد نفي الظل الطويل الذي يكفي في الاستظلال، بدليل اللفظ الثاني، على أن الحديث لا يدل على الصلاة في أول النهار، بل ضعف ابن قدامة هذا القول، فقال:(وأما فعلها في أول النهار فالصحيح أنه لا يجوز، لما ذكره أكثر العلماء، ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل)

(2)

.

كما استدلوا بحديث سهل بن سعد المذكور، فإنه يدل على أنهم صلوا قبل الزوال؛ لأنه لم يكن الغداء ولا القيلولة بعد الزوال في ذلك الوقت، قال علماء اللغة: القيلولة: النوم نصف النهار، والغداء: هو الطعام الذي يؤكل أول النهار، وهذا فيه نظر، فإنه ليس بصريح على أنهم صلوها قبل الزوال، بل غاية ما يدل عليه أنهم كانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد الجمعة؛ لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فواتها أو فوات التبكير إليها.

كما استدلوا بحديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا)

(3)

، وفي رواية:(حين تزول الشمس)، والنواضح: جمع ناضح، وهو الجمل الذي ينضح الماء من البئر.

(1)

"المغني"(3/ 239).

(2)

"المغني"(3/ 241).

(3)

أخرجه مسلم (858).

ص: 14

فظاهر هذا أنهم يريحونها حين الزوال، فدل على أنهم صلوا الجمعة قبل الزوال، وهذا من أقوى الأدلة للقائلين بأن صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين ويجلس بينهما، وثبت عنه قراءة (ق)، وكان يصلي بـ {سبح} و {الغاشية} ، وأحيانًا بـ {الجمعة} و {المنافقون} ، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال ما كانت إراحة النواضح عند الزوال بل بعده بكثير.

وعن أحمد رواية ذكرها الخرقي في "مختصره"

(1)

أنه يجوز فعلها في الساعة السادسة، أي: قبيل الزوال، واختارها أيضًا أبو بكر عبد العزيز، وابن شاقلا، والموفق ابن قدامة صاحب "المغني"، والشارح عبد الرحمن بن قدامة صاحب "الشرح الكبير"

(2)

، وهذه الرواية أظهر مما قبلها، فتصلى قرب الزوال لا أول النهار، ويؤيد ذلك حديث جابر المذكور، فإنه يدل على أنهم صلوها قبيل الزوال.

وهذا القول قوي جدًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الساعات الخمس في حضور الناس إلى الجمعة، قال بعدها:"فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"

(3)

، فظاهر هذا أن الإمام يخرج في الساعة السادسة

(4)

.

ويؤيد ذلك حديث جابر المذكور فهو صريح في صلاتها قبل الزوال، وحديث سلمة يدل بظاهره على صلاتها قريب من الزوال، ولا داعي لتأويل هذه الأحاديث، فإن الأدلة التي تدل على صلاتها بعد الزوال لا تنافي أدلة جواز صلاتها قبل الزوال.

على أن الأفضل والأحوط صلاتها بعد الزوال مع المبادرة بها رفقًا بالناس؛ لأنهم ينتظرونها فيشق عليهم التأخير؛ لأمرين:

(1)

"المغني"(3/ 239)، "شرح الزركشي"(2/ 208).

(2)

"الشرح الكبير"(5/ 186).

(3)

أخرجه البخاري (841)، ومسلم (850).

(4)

انظر: "الشرح الممتع"(5/ 33).

ص: 15

الأول: اتفاق الجميع على أن الأفضل بعد الزوال، حتى من يقول: إن وقتها قبل الزوال.

الثاني: أن هذا هو الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه غالبًا.

قال ابن قدامة: (الأولى أن لا تصلى إلا بعد الزوال، ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه في أكثر أوقاته، ويعجلها في أول وقتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها، ولأن الناس يجتمعون لها في أول وقتها، فلو انتظر الإبراد بها لشق على الحاضرين

)

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(3/ 241).

ص: 16

‌صحة الجمعة باثني عشر رجلًا

448/ 4 - عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا، فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع منها: كتاب " الجمعة" باب "إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة"(936)، ومسلم (863) من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب

فذكره.

وفي آخره قال: فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائماً} [الجمعة: 11].

وقد وهم الحافظ في عزو الحديث لمسمل فقط، فإنه عند البخاري أيضًا كما تقدم، وقد قال في "التلخيص":(متفق عليه من حديث جابر)

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كان يخطب) رواية البخاري في الباب المذكور: (بينما نحن نصلي)، وفي رواية:(ونحن نصلي) وهذا ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، لكن الأظهر أن انفضاضهم كان في الخطبة بدلالة الآية.

وقد جمع الحافظ بين الروايتين بأن قوله: (نصلي) أي: ننتظر الصلاة، أو يكون المراد بالصلاة الخطبة، من تسمية الشيء بما يقاربه.

(1)

(2/ 61).

ص: 17

قوله: (عير) بكسر العين، اسم جمع لا مفرد له من لفظه، وهي الإبل التي تحمل التجارة من طعام أو غيره، وقد ورد عند البخاري:(غير تحمل طعامًا)، وقد دلت الروايات في غير " الصحيحين" أن التجارة كانت لعبد الرحمن بن عوف، وكان دحية الكلبي هو السفير فيها

(1)

.

قوله: (فانفتل الناس إليها) أي: انصرفوا وانفضوا إليها وخرجوا من المسجد لينالوا من هذه التجارة، والراجح أن هذا الانفضاض كان في الخطبة كما تقدم، لقوله تعالى:{وتركوك قائما} .

والظاهر أن انصرافهم هذا كان قبل أن يعلموا الحكم الشرعي بوجوب البقاء في المسجد وسماع الخطبة فظنوا أن هذا جائز، مع ما هم عليه من الحاجة وضيق العيش، وما لقدوم التجارات من وقع في نفوسهم، ومع هذا فإن الله تعالى عاتبهم عتابًا لينًا فقال:{وإذا رأوا} أي: أبصروا، والضمير للصحابة رضي الله عنه، {تجارة} أي: سلعة يتجر بها، {أو لهوًا} أي: عملًا يلهي من التصفيق ودق الطبول عند قدوم عير التجارة، {انفضوا إليها} أي: تفرقوا ذاهبين إليها، وأفرد الضمير مع تقدم التجارة واللهو إما لأن التجارة هي المقصود فعاد الضمير إليها، أو يعود الضمير إلى ما رأوه، {وتركوك قائمًا} أي: واقفًا تخطب، وقد جاء في "مراسيل أبي داود" بإسناده عن مقاتل أن خروجهم إنما كان بعد الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة قبل الخطبة، ولكنه مرسل لا تقوم به حجة، قال الحافظ:(إن ثبت هذا أزال الإشكال، لكنه مع شذوذه معضل)

(2)

.

قوله: (لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا) بالرفع على أنه فاعل؛ لأن الاستثناء مفرغ، وفي رواية لمسلم:(فيهم أبو بكر وعمر)، وفي رواية له أيضًا من حديث جابر:(أنا فيهم). وقد ورد في رواية العقيلي عن ابن عباس: (أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسًا من الأنصار)، قال الحافظ: (وهذا

(1)

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (14/ 482).

(2)

"المراسيل" ص (168)، "فتح الباري"(2/ 425).

ص: 18

أقوى وأشبه بالصواب)

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية كون الخطيب قائمًا، وسيأتي ذلك إن شاء الله في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه بعد حديث.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث المالكية على أن العدد الذي تنعقد به الجمعة اثنا عشر رجلًا

(2)

، وهذا فيه نظر، فإن هذه واقعة عين لا حجة فيها، وأكثر ما فيها هو أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر، وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وسيأتي الكلام في هذه المسألة إن شاء الله.

* * *

(1)

"فتح الباري"(2/ 424)، وانظر:"الضعفاء" للعقيلي (1/ 24).

(2)

"حاشية الدسوقي"(1/ 376)، "فتح الباري"(2/ 425).

ص: 19

‌حكم من أدرك ركعة من صلاة الجمعة

449/ 5 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته".

رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطني، واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوي أبو حاتم إرساله.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه النسائي في كتاب "المواقيت"، باب "من أدرك ركعة من الصلاة"(1/ 174 - 275)، وابن ماجه (1123)، والدارقطني (2/ 12) من طريق بقية بن الوليد، ثنا يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكر الحديث.

قال الدارقطني: (قال لنا ابن أبي داود: لم يروه عن يونس إلا بقية)، والحديث رجاله ثقات، إلا بقية بن الوليد فهو صدوق مدلس، وإن سلم الحديث من تدليسه حيث صرح بالتحديث، ففيه تدليس التسوية؛ لأنه عنعن لشيخه.

والحديث ذكره ابن عبد الهادي وقال: (إسناده جيد)

(1)

، وقد خالف بقية سليمان بن بلال، فروى الحديث مرسلًا عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات فقد

(1)

"المحرر"(1/ 282).

ص: 20

أدركها إلا أنه يقضي ما فاته" رواه النسائي (1/ 275)، فهذا المرسل يدل على خطأ بقية في وصل الحديث، كما يدل على خطئه في ذكر لفظة: "الجمعة"، ولهذا أعله أبو حاتم باختلاف السند والمتن، فقال:(هذا خطأ المتن والإسناد)

(1)

، فاختلاف السند هو: وصله، واختلاف المتن: ذكر لفظة: "الجمعة".

والمحفوظ في هذا ما أخرجه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"

(2)

، ولا ريب أن الجمعة مندرجة تحت لفظ:" الصلاة"، وقد تقدم في المرسل عند النسائي:"من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات فقد أدركها".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة، وعليه أن يضيف إليها أخرى، وتتم جمعته وإن لم يدرك من الخطبة شيئًا، وهذا قول جمهور الفقهاء، ومنهم الأئمة الأربعة وجماعة من الصحابة والتابعين.

وذهب جماعة من التابعين منهم عطاء وطاوس ومجاهد ومكحول كما ذكر ابن المنذر إلى أن إدراك شيء من الخطبة شرط لا تصح الجمعة إلا به، فمن لم يدرك الخطبة صلى أربعًا

(3)

، وهذا قول مرجوح لأمرين:

الأول: أنه مخالف لعموم حديث أبي هريرة: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة".

الثاني: أن اشتراط الخطبة لصحة الصلاة يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل عدم اشتراطه حتى يقوم عليه دليل.

(1)

"العلل"(1/ 172).

(2)

البخاري (555)، ومسلم (607).

(3)

"الأوسط"(4/ 100).

ص: 21

الوجه الثالث: مفهوم الحديث أن من أدرك من الجمعة أقل من ركعة لم يكن مدركًا للصلاة، كأن يدرك الإمام بعد الرفع من الركوع أو في السجود من الثانية أو في التشهد فهذا يصليها ظهرًا أربع ركعات، وينويها ظهرًا بعد سلام الإمام، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد

(1)

.

وقال أبو حنيفة وجماعة منهم: الحكم، وحماد، وابن حزم

(2)

: إذا أدرك الإمام في التشهد صلى ركعتين، واستدلوا بحديث:"فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا أو فأتموا"

(3)

.

قالوا: ومن أدرك الإمام ساجدًا أو جالسًا أو في التشهد يسمى مدركًا، فيقضي ما فاته أو يتمه وهو ركعتان، فكيف يؤمر بأربع؟

وأجابوا عن حديث: "من أدرك ركعة" بأن الاستدلال به وبأمثاله هو من باب المفهوم، وهو ليس بحجة عند الأكثرين، ذكر هذا ابن التركماني

(4)

.

والصواب قول الجمهور؛ لأن العمل بالمفهوم طريق من طرق الاستدلال عند الكثيرين، ويؤيد هذا أنه قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ كابن عمر وابن مسعود وغيرهما، ولا مخالف لهم في عصرهم، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:" إذا أدرك الرجل يوم الجمعة ركعة صلى إليها أخرى، وإن وجدهم جلوسًا صلى أربعًا"

(5)

.

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن المنذر من طريق أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: "من أدرك الركعة فقد أدرك

(1)

"المدونة الكبرى"(1/ 229)، "الأم"(2/ 425)، "المغني"(3/ 184).

(2)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 131)، "الهداية"(1/ 84)، "المحلى"(5/ 111).

(3)

تقدم تخريجه رقم (422).

(4)

"الجوهر النقي"(3/ 202).

(5)

"مصنف عبد الرزاق"(3/ 234).

ص: 22

الجمعة، ومن لم يدرك الجمعة فليصل أربعًا"

(1)

، وله طريق أخرى عند ابن أبي شيبة

(2)

.

لكن من فاتته الجمعة اشترط في حقه دخول وقت الظهر، لاحتمال أن يكون إمامه صلى الجمعة قبل الزوال، فإن لم يدخل الوقت أتمها مع إمامه نفلًا، ثم إذا دخل وقت الظهر صلى الظهر، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"مصنف عبد الرزاق"(3/ 232)، "مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 128)، "الأوسط"(4/ 101).

(2)

(2/ 129).

ص: 23

‌مشروعية قيام الخطيب وجلوسه بين الخطبتين

450/ 6 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن أنبأك أنه كان يخطب جالسًا، فقد كذب. أخرجه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الجمعة"، باب "ذكر الخطبتين وما فيهما من الجلسة"(862)(35) من طريق سماك بن حرب، قال: أنبأني جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا

الحديث، وفي آخره:(فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة)، وقد جاء في "صحيح مسلم"(نبأك) بدل (أنبأك).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية خطبتين لصلاة الجمعة؛ لأن صلاة الجمعة يجتمع لها الناس فكان من الحكمة أن يكون فيها خطبة توجه الناس لما فيه الخير، وتعظهم بالتزامه، وتحذرهم من الشر وتعظهم بالبعد عنه، وقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليهما فلم يتركهما أبدًا.

وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أنه يشترط للجمعة خطبتان، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من التابعين، قال القاضي عياض:(وإليه ذهب كافة العلماء)

(1)

، وقال ابن قدامة:(لا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن)

(2)

، والمراد أنه لا يرى الاشتراط، كما عزاه إليه ابن

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(3/ 222)، "بدائع الصنائع"(2/ 195)، "إكمال المعلم"(3/ 256).

(2)

"المغني"(3/ 171).

ص: 24

المنذر

(1)

، وقد رواه عنه عبد الرزاق

(2)

، لكن أخرج ابن أبي شيبة من طريق يونس عنه قال:(الإمام إذا لم يخطب صلى أربعًا)

(3)

، وهذه الرواية عنه توافق مذهب الجمهور، لكن لا نعلم أيهما المتأخر.

وقد استدل القائلون بشرطية الخطبتين بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]، وقد ذكر المفسرون أن المراد بـ {ذكر الله}: الخطبة والصلاة.

ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى ذكره، ومنه الخطبة، وهذا يتضمن الأمر بها من باب أولى؛ لأن ما كان السعي إليه واجبًا يكون واجبًا، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليهما مواظبة غير منقطعة، وهذا قد يكو بيانًا للآية الكريمة، وعلى هذا فلا يقال: إنه لا دليل على الوجوب إلا الفعل المجرد، وهو لا ينتهض لإثبات الوجوب، بل الدليل الآية والفعل البياني.

والقول الثاني: أن الخطبة ليست شرطًا، فتصح الجمعة بدونها، وهذا أحد قولي الحسن، وقول داود، ورواية عن مالك، لعدم الدليل على شرطيتها

(4)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية كون الخطيب يوم الجمعة قائمًا؛ لأن ذلك أشد في وعظه، وأشمل في صوته.

قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائمًا لمن قدر على القيام

)

(5)

، وقال ابن رجب: (لعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك، فإن الأكثرين على أنها تصح من الجالس مع القدرة على القيام مع الكراهة، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والمشهور عن أحمد، وعليه

(1)

"الأوسط"(4/ 59).

(2)

"المصنف"(3/ 172).

(3)

"المصنف"(2/ 121 - 122).

(4)

انظر: "إكمال المعلم"(3/ 256)، "نيل الأوطار"(3/ 301).

(5)

"الاستذكار"(5/ 129).

ص: 25

أصحابه، وقول إسحاق أيضًا)

(1)

.

وقد دل حديث جابر بن سمرة على وجوب القيام في الخطبة وهو قول الشافعي، ومالك في رواية

(2)

من وجهين:

الأول: مشروعية الجلوس بينهما، ولو كان القعود مشروعًا في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بينهما بجلوس.

الثاني: قول جابر: (فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي مرة).

وقد روى ابن عمر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما)، وفي رواية:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون الآن)

(3)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الجلوس بين الخطبتين؛ ليحصل الفصل بين الخطبتين، ولئلا يتعب الخطيب، ويمل السامع.

وهذا الجلوس سنة عند الجمهور؛ لأن مجرد الفعل لا يفيد إلا الندب، وقالت الشافعية بوجوبه

(4)

، والواجب الفصل بين الخطبتين ولو بغير الجلوس، لكن الجلوس أفضل.

وليس في هذا الجلوس ذكر مشروع، وليس له مقدار معين على القول الراجح، وإنما يحصل المقصود بمقدار ما يحصل الفصل، وقيل: بقدر سورة الإخلاص

(5)

، ولا دليل عليه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"فتح الباري"(8/ 246)، وانظر:"الهداية"(1/ 83)، "المغني"(3/ 170)، "حاشية الدسوقي"(1/ 379).

(2)

"المجموع"(4/ 515).

(3)

أخرجهما البخاري (920 - 928)، وأخرج مسلم (861) الرواية الثانية.

(4)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 399).

(5)

"المجموع"(4/ 514).

ص: 26

‌بعض صفات الخطبة والخطيب

451/ 7 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول:" أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". رواه مسلم.

وفي رواية له: كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته.

وفي رواية له: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له".

وللنسائي: " وكل ضلالة في النار".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب "تخفيف الصلاة والخطبة"(867) من طريق عبد الوهاب بن حميد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

فذكر الحديث.

إلا أن الحافظ حذف منه بعض الجمل وهي: (ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، ويقرن بين إصبعية السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد

").

ورواه مسلم أيضًا من طريق سليمان بن بلال، حدثني جعفر بن

ص: 27

محمد، عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله

) الحديث.

ورواه أيضًا من طريق وكيع، عن سفيان، عن جعفر بن حمد، عن أبيه، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول:" من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله".

ورواه النسائي (3/ 188 - 189) من طريق ابن المبارك، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، وفيه:" وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (صبحكم ومساكم) أي: نزل بكم العدو صباحًا ومساءً، فاحتفظوا منه.

قوله: (أما بعد) أما: كلمة يؤتى بها عند الدخول في الموضوع الذي يقصد، وهي حروف متضمنة للشرط، ولهذا تدخل الفاء في جوابها، وحذفها كثير إذا دخلت على قول محذوف، وقليل فيما عدا ذلك، وهي قائمة مقام أداة الشرط وفعل الشرط، ولهذا قدرها النحويون بـ (مهما يكن من شيء)، والتقدير: مهما يكن من شيء بعد حمد الله فخير الحديث كتاب الله.

وبعد: ظرف مبني على الضم في محل نصب، وهو ملازم للإضافة منصوب بالفتحة، فإذا قطع عن الإضافة لفظًا لا معنى بني على الضم.

قوله: (خير الهدي هدي محمد) خير: بالنصب عطفًا على اسم إن، وبالرفع عطفًا على محل إن واسمها

(1)

.

والهدى: ضبط بضم الهاء وفتح الدال بمعنى: الدلالة والإرشاد، وضبط بفتح الهاء وسكون الدال، بمعنى: أحسن الطريقة والأخلاق، والأول هو

(1)

انظر: "شرح المشكاة" للطيبي (1/ 296)، "النحو الوافي"(1/ 666).

ص: 28

الذي يضاف إلى الرسل والقرآن، قال تعالى:{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52] وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9].

قوله: (وشر الأمور محدثاتها) الأمور: جمع أمر، وهو الحال والشأن، والمحدثات: بفتح الدال، جمع محدثة، والمراد: كل ما أحدث في دين الله على خلاف ما شرع الله، وهي المسماة بالبدع.

قوله: (وكل بدعة ضلالة) البدعة في اللغة: اسم من الابتداع، يقال: بدع الشيء يبدعه وابتدعه: أنشأه وبدأه.

وأما في الاصطلاح: فهي طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله تعالى، ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح

(1)

، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

(2)

، وعلى هذا فما كان له أصل يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة؛ كقول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح خلف إمام واحد:(نعمت البدعة هذه)

(3)

، فهذه هي البدعة اللغوية، وليست الشرعية؛ لأن قيام رمضان مشروع بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في "الصحيحين"، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

، ولكن تسميتها بدعة لغوية فيه نظر، وذكر الشاطبي أن تسميتها بدعة باعتبار ظاهر الحال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تركها، ولم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه

(5)

.

وأما ما ليس له أصل من أصول الشرع فهو بدعة؛ كالاجتماع في الذكر على صوت واحد، والاحتفال بيوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أو بليلة الإسراء والمعراج، أو التزام صيام النصف من شعبان، أو قيام ليلته، والتلحين في

(1)

انظر: "الاعتصام"(1/ 28).

(2)

رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

(3)

أخرجه البخاري (2010).

(4)

"الاقتضاء"(2/ 93).

(5)

"الاعتصام" ص (141).

ص: 29

القراءة والأذان، وزخرفة المساجد، ونحو ذلك، وعلى هذا فالبدعة اللغوية أعم من البدعة الشرعية.

والضلالة: ضد الهداية، وهي البعد عن الحق؛ لأن الحق ما جاء به الشرع نصًا أو استنباطًا، فما لا يرجع إليه يكون بدعة وضلالة، قال تعالى:{فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32].

• الوجه الثالث: الحديث دليل على ما ينبغي أن يتصف به الخطيب، وما ينبغي أن تكون عليه خطبته، لأجل أن يؤثر في السامعين ويستفاد منه، وذلك بمراعاة أمور كثيرة منها:

أولًا: صفته حال إلقاء الخطبة: وذلك بأن يكون جيد الإلقاء، بعيدًا عن الأخطاء النحوية، بعيدًا عن السجع المتكلف، والعبارات المترادفة، والألفاظ الغريبة.

وعليه أن يشد انتباه الحاضرين، ويثير حماسهم لمتابعته حتى يستفيدوا منه، وذلك بأن يكون حال الإلقاء متحمسًا، ليكون لكلامه وقع، فيصل إلى المسامع ويهز القلوب.

ثانيًا: انتفاء الموضوع، فعلى الخطيب أن يُعنى بما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وذلك بأن يكثر من حثهم على العمل بكتاب الله تعالى الذي أنزله الله هداية للعباد إلى ما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم وفلاحهم وسعادتهم، وبحثهم على تحقيق التوحيد، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فهي التي تصل بسالكها إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويحذرهم من البدع في الدين، سواء ابتدع الإنسان عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلًا؛ كأذكار أو صلوات، وكالتقرب بسجدة منفردة، كما تفعل بعض الفرق الضالة، أو ابتدعها على وجه يغير به ما شرعها الله ورسوله؛ كالذكر الجماعي، والتكبير الجماعي، ونحو ذلك.

ويذكرهم بالموت والقبر وأهوال يوم القيامة والجنة والنار والثواب والعقاب، فإن ذلك من أعظم الأسباب لترغيب الناس في فعل الطاعات رجاء الثواب، وترهيبهم من المعاصي خوف العقاب.

ويحسن بالخطيب مراعاة المناسبات؛ كرمضان والحج أو الأمور

ص: 30

العارضة التي تستدعي معالجة ما يعانيه الناس؛ لأن ملاءمة الخطبة للأحداث الجارية والملابسات التي قد تقع في دنيا الناس له أثر كبير على نفوس السامعين وشد انتباههم واستفادتهم.

ثالثًا: عدم تطويل الخطبة، والكلام على ذلك في الحديث الآتي.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية حمد الله تعالى والثناء عليه في خطبة الجمعة، وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الحمد في الخطبة، كما ذكر ذلك الشوكاني

(1)

.

وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد الجذماء"

(2)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على ذم البدع والتحذير منها، حيث وصف البدعة بأنها ضلالة وأنها في النار، وهذا نص صريح لا يقبل التأويل ولا يدخله التخصيص، قال الحافظ ابن حجر:(وهذه الجملة قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: (حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فلا تكون من الشرع؛ لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب)

(3)

.

وأما تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة، أو محمودة ومذمومة، أو تقسيمها إلى أقسام الأحكام التكليفية فهو تقسيم مخترع، وليس عليه دليل شرعي، فإن الأدلة جاءت عامة، وليس فيها استثناء شيء من ذلك البتة، ومن القواعد الأصولية المقررة أن النصوص العامة يجب العمل بها على عمومها، وليس لأحد أن يخصصها إلا بدليل من كتاب أو سنة.

(1)

"نيل الأوطار"(3/ 305).

(2)

أخرجه أبو داود (4841)، والترمذي (1106)، وأحمد (13/ 391) من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا. وسنده حسن، عاصم بن كليب وأبوه صدوقان، كما في "التقريب".

(3)

"فتح الباري"(14/ 254).

ص: 31

ثم إن هذا التقسيم نفسه متدافع؛ لأن البدعة لا يدل عليها دليل شرعي، ولو كان هناك دليل على الوجوب أو الندب لما كان ذلك بدعة! وقد أخرج اللالكائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال:(كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة)

(1)

، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)

(2)

.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:" كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذه إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل

)

(3)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"شرح اعتقاد أهل السنة"(1/ 92) وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه الدارمي (1/ 61) وإسناده صحيح.

(3)

"الاقتضاء"(2/ 591) ط. الأولى.

ص: 32

‌استحباب تقصير الخطبة وإطالة الصلاة

452/ 8 - عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب "تخفيف الصلاة والخطبة"(869) من طريق عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر، عن أبيه، عن واصل بن حيان قال:(قال أبو وائل خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرًا"). وكان الولى بالحافظ أن يذكر بقية الحديث؛ لأنه بصيغة الأمر.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لو كنت تنفست) أي: أطلت قليلًا.

قوله: (مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشدودة، أي: علامة ودليل.

قوله: (وإن من البيان لسحرًا) من: للتبعيض، والبيان هنا يراد به: الفصاحة التامة والبلاغة القوية، وشبهه بالسحر لميل القلوب إليه، والسحر: هو الصرف والعطف، والبيان من حيث هو لا مدح فيه ولا ذم، ولكن ينظر

ص: 33

إلى أثره ومقصوده، فإن قصد به رد الحق وإثبات الباطل فهو مذموم، وإن قصد به إثبات الحق وإبطال الباطل فهو ممدوح.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية تقصير خطبة الجمعة وعدم إطالتها، وذلك لئلا يمل الناس ويسأموا، ويضعفوا عن مواصلة الاستماع والاستفادة؛ لأنهم إذا ملوا وضعفوا لم يستفيدوا من الخطبة، بل تضيع عليهم، أما إذا كانت قصيرة فإنهم يحفظونها ويستفيدون منها.

وهذه صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال جابر بن سمرة رضي الله عنه: (كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا)

(1)

، قال الحافظ ابن حجر:(القصد: الوسد، أي: لا قصيرة، ولا طويلة)

(2)

.

وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرات)

(3)

.

وتقصير الخطبة مع الإتيان بالمقصود وهو الوعظ والإرشاد دليل على فقه الخطيب وفهمه، حيث استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة في ألفاظ قليلة، قال الشافعي:(وأحب أن يكون كلامه أي الخطيب قصدًا بليغًا جامعًا)

(4)

.

أما إطالة الخطبة فهي دليل على عدم فقه الخطيب، وليست دليلًا على علمه ولا بلاغته؛ لأن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومراعاة حال المخاطب.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية إطالة صلاة الجمعة، وذلك بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما يقرأ فيها مع الطمأنينة، والمراد أنها طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا أنه طول يشق على المأمومين، لئلا يكون ذلك مخالفًا للأحاديث الصحيحة في الأمر بتخفيف الصلاة.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة بـ (سبح) و (الغاشية)، أو بـ (الجمعة) و (المنافقين)، كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

أخرجه مسلم (866).

(2)

"التلخيص"(2/ 68).

(3)

أخرجه أبو داود (1107)، والحاكم (1/ 289)، والبيهقي (3/ 207)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم) وسكت عنه الذهبي.

(4)

"الأم"(1/ 409).

ص: 34

‌استحباب قراءة سورة {ق} في خطبة الجمعة

453/ 9 - عن أم هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت: ما أخذت: {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم هشام بنت حارثة بن النعمان الأنصارية، صحابية مشهورة -كما قال الحافظ في "التقريب" وهي مذكورة في الكنى؛ لأنه لم يشتهر اسمها، نقل ابن عبد البر عن أحمد بن زهير

(1)

، قال:(سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان)

(2)

، وقد روى مسلم في حديثها المذكور في إحدى روايته أنها قالت:(وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، سنتين أو سنة وبعض سنة)

(3)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب "تخفيف الصلاة والخطبة"(873)(52) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن أم

(1)

انظر: "الجرح والتعديل"(2/ 51 - 52).

(2)

"الاستيعاب"(13/ 303).

(3)

"الاستيعاب"(13/ 303)، "الإصابة"(13/ 302).

ص: 35

هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: (لقد كان تنورنا وتنتور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم

) الحديث.

ورواه من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن أخت لعمرة بنحوه، ولعل المراد بذلك أنها أخت لها من أمها كما ذكر البيهقي، وقيل غير ذلك

(1)

، والله أعلم.

وقولها: (لقد كان تنورنا

إلخ) قصدت به الإشارة إلى حفظها ومعرفتها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقربها من منزله، ذكره النووي.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب قراءة سورة {ق} في خطبة الجمعة، وذلك والله أعلم لما اشتملت عليه من ذكر ابتداء الخلق، والموت وسكراته، والبعث وما فيه من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، وما اشتملت عليه من المواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة، ومن ذلك ما يتعلق بحفظ اللسان، فهي خير ما يوعظ به السامعون؛ لأن أنفع ما يوعظ به عامة الناس هو ذكر الموت وسكراته، وذكر البعث وما فيه من الأهوال، وذكر الجنة والنار.

• ولم يبين في هذا الحديث محل قراءتها هل هو في الخطبة الأولى أو الثانية، لكن لو قرأها في الأولى وفسرها تفسيرًا موجزًا في الثانية لكان حسنًا؛ لأن الناس بحاجة إلى تفسيرها، لا سيما في مثل زماننا هذا.

• الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن سورة {ق} تقرأ كل جمعة؛ لأن قولها: (كل جمعة) صيغة عموم، لكن الظاهر أن هذا محمول على الغالب، أو أنه من العام المخصوص؛ لأنه ورد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلازم سورة معينة أو آية مخصوصة، يدل على ذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الآتي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس

(2)

.

(1)

"السنن"(3/ 211)، "عون المعبود"(3/ 452).

(2)

انظر: "نيل الأوطار"(3/ 303 - 304)، "الشامل في فقه الخطيب والخطبة" ص (260).

ص: 36

الوجه الخامس: اختلف العلماء في حكم القراءة في خطبة الجمعة على قولين:

الأول: وجوب قراءة القرآن في الخطب ولو آية واحدة إذا كانت تستقل بالمعنى، وهذا قول الشافعي، وأحمد، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة قال:(كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكر الناس)

(1)

.

القول الثاني: أن القراءة غير واجبة في الخطبة، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، اختارها ابن قدامة

(2)

، وهذا هو الراجح؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك لا تفيد الوجوب، وإنما الاستحباب؛ لأنها من قبيل الفعل المجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، ورجح ذلك الشوكاني

(3)

.

• الوجه السادس: الحديث دليل على أن تكرير بعض المواعظ من كتاب الله تعالى شيء مستحسن، لقولها:(يقرؤها كل جمعة)، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (862).

(2)

"المغني"(3/ 175 - 176)، "المجموع"(4/ 516)، "الهداية"(1/ 83)، "فتح الباري" لابن رجب (5/ 491 - 492).

(3)

"نيل الأوطار"(3/ 302).

ص: 37

‌وجود الإنصات لخطبتي الجمعة

454/ 10 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة". رواه أحمد، بإسناد لا بأس به، وهو يفسر.

455/ 11 - عن أبي هريرة رضي الله عنه في " الصحيحين " مرفوعًا: " إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت".

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما الأول فقد أخرجه أحمد (3/ 475) من طريق مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وإسناده ضعيف، لضعف مجالد بن سعيد الهمداني، ضعفه يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وغيرهم، قال البخاري: (كان يحيى القطان يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه

)، وقال أحمد:(مجالد ليس بشيء)

(1)

.

وأما قول الحافظ: (بإسناد لا بأس به) ففيه نظر، لما تقدم، وقد أورده ابن عبد الهادي في (التنقيح) وقال:(هذا الحديث لم يخرجه أصحاب السنن، ومجالد ليس بالقوي)

(2)

، وبه أعله أيضًا في كتابه "المحرر"

(3)

، وقد ذكر الحافظ أنه مفسر لحديث أبي هريرة المذكور بعده.

(1)

"الضعفاء الصغير" ص (322)، "تهذيب التهذيب"(10/ 36).

(2)

"التنقيح"(2/ 1215).

(3)

(2/ 287).

ص: 38

أما الثاني فقد أخرجه البخاري في كتاب "الجمعة"، باب "الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب (934)، ومسلم (851) من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كمثل الحمار يحمل أسفارًا) الأسفار: جمع سفر - بكسر السين وإسكان الفاء - وهو الكتاب، وقيل: الكتاب الكبير، وقد شبه من حضر وتكلم والإمام يخطب بالحمار الذي يحمل كتبًا؛ لأنه قد فاته الانتفاع وسماع الذكر مع تكلفه مشقة التهيؤ للجمعة والحضور إليها، وهو تشبيه تمثيلي؛ لأن وجه الشبه منتزع من صور متعددة.

قوله: (ليست له جمعة) قيل: ليس له جمعة كاملة، فيأثم بالكلام لكن لا تبطل جمعته، ولا يؤمر بإعادتها، ذكره النووي

(1)

، وقال ابن حزم:(معناه: بطلت وعليه إعادتها في الوقت؛ لأنه لم يصلها)

(2)

، ويؤيد الأول حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا"

(3)

، ومعناها: أن صلاته هذه مثل صلاة الظهر في الثواب، فيحرم فضيلة الجمعة، لكن هذا إذا جمع بين اللغو والتخطي.

قوله: (إذا قلت لصاحبك) أي: من بينك وبينه صحبة وملازمة، وذكره هنا للتغليب؛ لأن غير الصاحب مثل الصاحب في ذلك.

قوله: (أنصت) فعل أمر من أنصت الرباعي، ومعناه: اسكت عن الكلام.

قوله: (يوم الجمعة) ظرف متعلق بـ (قلت).

(1)

"المجموع"(5/ 524).

(2)

"المحلى"(5/ 63).

(3)

أخرجه أبو داود (347)، وحسّنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 71).

ص: 39

قوله: (والإمام يخطب) جملة في محل نصب على الحال، مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة لا من خروج الإمام.

قوله: (فقد لغوت) أي: وقعت في اللغو، وهو الكلام الباطل الذي تفوت به فضيلة الجمعة، وقد دل على هذا التفسير حديث ابن عباس الذي قبله؛ لأن قوله:" ليست له جمعة " يفسر قوله: "فقد لغوت" كما ذكر الحافظ.

• الوجه الثالث: دل الحديثان على وجوب الإنصات لخطبتي الجمعة وتحريم الكلام والإمام يخطب؛ لأن الخطبة شرعت لمصلحة الحاضرين وإفادتهم وتذكيرهم، ولا يحصل ذلك إلا بالاستماع للخطيب والإصغاء له، وعلى هذا فلا يليق بأحد أن يتكلم أو يتشاغل بشيء في هذه الحال، بل عليه أن ينصت ويحضر قلبه للاستفادة.

والإنصات للخطيب واجب إذا سمعه على الصحيح من قولي أهل العلم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه، ورواية في مذهب الشافعي، وهو قول ابن حزم

(1)

، واستدلوا بهذا الحديث.

والقول الثاني: أنه لا يجب الإنصات بل يستحب، وهذا هو الراجح من مذهب الشافعي، كما ذكر النووي

(2)

، ورواية عن أحمد حكاها ابن قدامة

(3)

، واستدلوا بقصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع الله أن يسقينا

) الحديث بطوله في " الصحيحين"، وقول الآخر له:(متى الساعة؟) كما ثبت في " الصحيحين" أيضًا.

قالوا: ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم، ولو كان حرامًا لأنكره عليهم.

والراجح هو الأول كما تقدم لقوة دليلهم، وأما دليل القول الثاني فإنه مختص بمن كلمهم الإمام أو كلم الإمام؛ لأنه لا يشغل بذلك عن

(1)

"المحلى"(5/ 61)، "الهداية"(1/ 84)، "المدونة"(1/ 230)، "المغني"(3/ 193).

(2)

"المجموع"(4/ 523).

(3)

"المغني"(3/ 194).

ص: 40

سماع خطبته، وبهذا تجتمع الأخبار وتتفق الأدلة، فإن قدر التعارض فحديث الباب أقوى؛ لأنه قول ونص، وذلك سكوت، والنص أقوى من السكوت.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم جميع أنواع الكلام والإمام يخطب ولو كان أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر، كقوله لصاحبه: أنصت، وإذا كان من يتكلم بمثل ذلك يعد لاغيًا، فغيره من باب أولى.

لكن استثنى العلماء الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر أو من يخاف عليه نارًا أو حية أو نحو ذلك، فهذا يجوز؛ لأنه إذا جاز في الصلاة مع إفسادها به فجوازه حال الخطبة من باب أولى.

وقد اختلف العلماء في رد السلام وتشميت العاطس أثناء الخطبة على قولين:

الأول: أن ذلك يجوز، وهو قول لبعض الشافعية، وأبي يوسف من الحنفية، وابن حزم

(1)

، ورواية عن أحمد هي الصحيح في المذهب

(2)

، واستدلوا بالأدلة التي توجب رد السلام وتشميت العاطس، وكل ذلك واجب بالإجماع، قالوا: والإنصات لاستماع الخطبة فيه خلاف كما تقدم؛ ولأنه يجوز تكليم الخطيب وإجابته، ويجوز صلاة التحية للداخل، فصح أن الكلام المأمور به مغلب على الإنصات فيها.

القول الثاني: أن المستمع للخطبة لا يرد السلام ولا يشمت العاطس، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، ورواية عن أحمد

(3)

، واستدلوا بحديث الباب، ووجه الدلالة: أن المستمع منهي حتى عن إنكار المنكر، فكذا رد السلام وتشميت العاطس، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس.

(1)

"المحلى"(5/ 61)، "المجموع"(4/ 524)، "شرح فتح القدير"(1/ 421).

(2)

انظر: "مسائل أحمد وإسحاق"(2/ 870 - 871)، "المغني"(3/ 198)، "الإنصاف"(2/ 418).

(3)

"المغني"(3/ 198)، "شرح فتح القدير"(1/ 421)، "المدونة"(1/ 230).

ص: 41

وقد نقل ابن القيم عن " مسائل أحمد وإسحاق" قلت: (إذا عطس الرجل يوم الجمعة؟ قال: لا تشمته)

(1)

، وهكذا نقله عنه أبو داود

(2)

، وأبو طالب

(3)

.

أما من أراد الإنكار على من يتكلم أو نحوه فإنه يشير إليه بالسكوت، قال أبو داود:(سمعت رجلًا قال لأحمد: أرى الرجل يتكلم والإمام يخطب؟ قال: أشر إليه أو أوح إليه)

(4)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الكلام بين الخطبتين؛ لأن قوله: "والإمام يخطب" تقيد للنهي في حال الخطبة، فدل على أن الكلام بين الخطبتين جائز، وكذا الكلام قبل شروعه في الخطبة، والإنصات أحسن؛ لأنه ربما تكلم قبل الشروع في الخطبة فاستمر به الكلام والإمام قد بدأ في خطبته، فالسكوت أولى.

ولا يجوز الكلام حتى لو شرع الخطيب في الدعاء؛ لأن الخطبة اسم لمجموع ذلك كله، والدعاء ما دام متصلًا بالخطبة فهو منها، والمذهب عند الحنابلة جواز الكلام حال دعاء الخطيب

(5)

، لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، والصواب الأول، والله أعلم.

* * *

(1)

"بدائع الفوائد"(3/ 278)، والمثبت في "المسائل" خلاف هذا كما تقدم.

(2)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (58).

(3)

"المغني"(3/ 199).

(4)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (58).

(5)

"الإنصاف"(2/ 418).

ص: 42

‌حكم تحية المسجد وقت الخطبة

456/ 12 - عن جابر قال: دخل رجل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:"صليت؟ "، قال: لا، قال:"قم فصل ركعتين". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجمعة"، باب " إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين"(930)، ومسلم (875)(55) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، به، وأخرجاه أيضًا من طريق سفيان، عن عمرو، عن جابر، به.

وأخرجه مسلم من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، وفيه تسمية الرجل يسليك الغطفاني.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية صلاة ركعتين لمن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب؛ لأن الخطبة لا تمنع من التحية، وقد ورد عند الإمام مسلم من طريق آخر:"وليتجوز فيهما"، فهذا يدل على أنه يستحب له أن يخففهما ليفرغ لسماع الخطبة.

وهذا قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن حزم

(1)

، وفقهاء المحدثين، وجماعة من السلف.

(1)

"المحلى"(5/ 68)، "المجموع"(4/ 552)، "المغني"(3/ 192).

ص: 43

وقال أبو حنيفة، ومالك، وجماعة من الفقهاء، إن الداخل في هذه الحال يجلس ولا يركع أثناء خطبة الإمام

(1)

، واستدلوا بحديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجلس فقد آذيت"، وفي رواية:"وآنيت"

(2)

.

ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس ولم يأمره بتحية المسجد، فدل على أنها غير واجبة.

واعتذروا عن حديث الباب بأعذار غير ناهضة، لا داعي لشغل الأوقات والأوراق بها، والراجح هو القول الأول، لقوة دلالته؛ فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سليكًا بتحية المسجد بعدما جلس وقطع الخطبة لأجل سؤاله وأمره بالصلاة دليل واضح على أن الداخل يصلي ولا يجلس، ولو سقطت تحية المسجد في حال لكان هذا الحال أولى بها، فإنه مأمور باستماع الخطبة، فلما ترك لها استماع الخطبة دل على تأكيدها، ولذا قال النووي:(هذا نص صريح لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحًا فيخالفه)

(3)

.

وأما حديث عبد الله بن بسر فلا دلالة فيه على أن التحية لا تشرع حال الخطبة؛ لاحتمال أن المراد اجلس؛ أي: لا تتخط، ولم يقصد ترك التحية، أو أن المراد اجلس بشرط الجلوس المفهوم في قوله:" فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، ولاحتمال أنه صلاها في مكان آخر من المسجد قبل وقوع التخطي منه، ولهذا سأله الرسول صلى الله عليه وسلم هل صلى أو لا؟ أو أن ذلك قبل الأمر بها، وعلى أي حال فحديث جابر أصح وأقوى دلالة؛ لأن حديث عبد الله بن بسر يدل على عدم وجوبها، وحديث جابر يدل على مشروعيتها، فتكون دلالته

(1)

"شرح فتح القدير"(1/ 421)، "المدونة"(1/ 229)، "المجموع"(4/ 552).

(2)

رواه أبو داود (3/ 467)، والنسائي (3/ 103)، وأحمد (4/ 188)، والزيادة له، والحديث سنده حسن، وله شواهد ومتابعات.

(3)

"شرح صحيح مسلم"(6/ 412).

ص: 44

مقدمة، ثم إن حديث جابر فيه بيان عام للأمة وهو قوله:" إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصل ركعتين"

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز تكلم الخطيب يوم الجمعة مع غيره للحاجة أو المصلحة؛ كالإنكار على سائل يتخطى رقاب الناس ويشوش عليهم، أو رجل دخل ولم يصل تحية المسجد، أو انقطع مكبر الصوت فأمر المسؤول بإصلاحه، أو انقطع التيار الكهربائي والناس في شدة الحر، ونحو ذلك مما قد يعرض، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (1166)، ومسلم (875)(57)(59).

ص: 45

‌ما يقرأ في صلاة الجمعة

457/ 13 - عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين. رواه مسلم.

458/ 14 - وله: عن النعمان بن بشير: كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} ، و {هل أتاك حديث الغاشية} .

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عباس، فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب "ما يقرأ في يوم الجمعة"(879) من طريق مخول بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {ألم * تنزيل} السجدة، و {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون).

وأما حديث النعمان، فقد أخرجه أيضًا في الكتاب المذكور، باب "ما يقرأ في صلاة الجمعة"(878) من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه به مرفوعًا، وفي آخره قال:" وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين"، وليت أن الحافظ ذكر هذه الزيادة لفائدتها.

• الوجه الثاني: دل الحديثان على استحباب قراءة سورة الجمعة وسورة المنافقين في صلاة الجمعة بعد الفاتحة، أما سورة الجمعة فمناسبتها ظاهرة، وذلك لما فيها من أمر الله تعالى لعباده المؤمنين بالمبادرة إلى الخطبة والصلاة

ص: 46

لما فيهما من ذكر الله تعالى والتذكير بآياته وترك البيع والشراء عند النداء الثاني، وذلك خير لهم، لما فيه من الثواب الجزيل والأجر العظيم، كما أن فيها ذكر من حملوا التوراة ولم يعملوا بها، وفيه تحذير المسلمين من أن يتركوا العمل بكتاب ربهم.

أما سورة المنافقين فلعل مناسبتها توبيخ حاضريها من المنافقين وتنبيههم على التوبة، وغير ذلك مما جاء فيها؛ لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها، كما أن فيها التحذير من النفاق والمنافقين، وقج جاءت الإشارة إلى هذه الحكمة فيما أخرجه الطبراني بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة، فيحرض به المؤمنين، والثانية بسورة المنافقين فيفزع به المنافقين)

(1)

.

وكذلك يستحب أن يقرأ في بعض الأحيان في الركعة الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية {هل أتاك حديث الغاشية} كما دل على ذلك حديث النعمان رضي الله عنه، وفي رواية عند مسلم مفادها: في الأولى بالجمعة، والثانية بالغاشية، وذلك والله أعلم لأن سورة الأعلى فيها تقرير التوحيد وتعظيم الرب وتنزيهه وإثبات كمال قدرته، كما أن فيها حث الناس على الاستفادة من الخطبة، وأن هذا شأن من يخشى الله تعالى، كما أن فيها حث الناس على الإقبال على الدار الآخرة، لأن نعيمها لا يزول، بخلاف نعيم الدنيا.

وأما الغاشية فلأن فيها ذكر يوم القيامة وأحوال أهلها من السعداء والأشقياء، وفيها الحث على التفكر في مخلوقات الله تعالى المشاهدة، كما أن فيها بيان مهمة الداعية إلى الله تعالى وطريق الدعوة، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الأوسط"(10/ 129) وإسناده حسن، كما قال الهيثمي (2/ 191).

ص: 47

‌سقوط الجمعة عمن صلى العيد إذا اجتمعا

459/ 15 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، فقال:" من شاء أن يصلي فليصل". رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في أبواب الجمعة، باب " إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد"(1070)، والنسائي (3/ 194)، وابن ماجه (1310)، وأحمد (32/ 68)، وابن خزيمة (2/ 359) من طريق إسرائيل، حدثنا عثمان بن المغيرة، عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم، قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة، فقال:" من شاء أن يصلي فليصل".

وهذا الحديث رجاله ثقات، إلا إياس بن أبي رملة، فهو مجهول، كما قاله ابن المنذر، ونقله عنه الذهبي

(1)

، وكذا ابن القطان

(2)

، ثم قال:(وهو كما قال)، وكذا قال الحافظ في " التقريب".

وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، ونقل الحافظ في "التلخيص"

(4)

عن

(1)

"الميزان"(1/ 282).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 204).

(3)

(4/ 36).

(4)

(2/ 94).

ص: 48

علي بن المديني أنه صحح الحديث، وقد نقل ابن عبد البر عن علي بن المديني أنه قال:(في هذا الباب غيرما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد)

(1)

. وقال النووي: (إسناده حسن)

(2)

.

والحديث له شواهد، ومنها: ما رواه أبو داود (1073)، وابن ماجه (1/ 416) من طريق بقية، حدثنا شعبة، عن المغيرة الضبي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون). وفي سنده ضعف، ورواه عبد الرزاق (3/ 304) وغيره من طريق الثوري وغيره عن ابن رفيع، عن ذكوان مرسلًا. وقد صحح إرساله أحمد والدارقطني

(3)

ومن شواهده ما أخرجه أبو داود (1072) من طريق ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال:(اجتمع يوم الجمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر). وإسناده صحيح، وفي متنه اضطراب.

وفي رواية لأبي داود: وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال:(أصاب السنة)، وأخرجه الفريابي في "العيدين" (153) بلفظ: فذكر ذلك لابن عباس وقال: (أصاب) ولم يذكر (السنة).

وعلى هذا فأحاديث الباب كلها معلولة - كما يقول ابن عبد البر - ومن يستدل بها يرى أنها باجتماعها يقوي بعضها بعضًا، ويرى أن تصحيح ابن المديني لحديث الباب - على ما نقله الحافظ - يرفع جهالة إياس بن أبي رملة، على ما هو مقرر في "علوم الحديث".

وأما قول الحافظ: (وصححه ابن خزيمة) ففيه نظر، فإن ابن خزيمة لم يصحح الحديث، وإنما علق صحته بعدالة إياس، فقال:(إن صح الخبر، فإني لا أعرف إياس بن أبي رملة بعدالة وجرح).

(1)

"الاستذكار"(7/ 29).

(2)

"الخلاصة"(2/ 816).

(3)

"التلخيص"(2/ 94)"العلل"(10/ 215).

ص: 49

الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة يجوز فعلها ويجوز تركها، لقوله:" من شاء أن يصلي فليصل" وهذا في حق من صلى العيد، وذلك إذا اجتمعا في يوم واحد؛ لأنهما عيدان اجتمع فيهما عبادتان من جنس واحد، فدخلت إحداهما في الأخرى، ولأن في إيجابهما على الناس تفويتًا لمقصود عيدهم وما سن لهم فيه من السرور والانبساط

(1)

.

لكن من لم يصل الجمعة وجب عليه أن يصلي ظهرًا، على قول جمهور أهل العلم؛ لأن الأدلة مستفيضة في أن صلاة الجمعة إذا فاتت أقيمت مكانها صلاة الظهر، فإن حضر جماعة فذاك وإلا صلى وحده، وإن حضر الجمعة فهو أفضل.

وقاء عطاء: تسقط صلاة الظهر، ولا صلاة بعد العيد إلا العصر، واعتمد في ذلك على روايته لفعل ابن الزبير حين قال:(لم يزد عليهما حتى صلى العصر)، ورجح هذا الشوكاني

(2)

، وهذا فيه نظر، فإن الحديث قد سكت عن صلاة الظهر، ولعل ابن الزبير صلاها في بيته، فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في هذه الحال غير صحيح

(3)

.

وأما من لم يصل العيد فإن الجمعة تلزمه، ولا تقوم الظهر مقامها في حقه؛ لأنه لم يصل العيد، والقول بأن العيد يجزئ عن الجمعة هو قول الحنابلة، وهو مروي عن الشعبي والنخعي

(4)

.

والقول الثاني: أن الجمعة تسقط عمن هو خارج المصر، لأنه يشق عليهم العود لبعد منازلهم، وهذا مذهب عثمان رضي الله عنه، وتبعه الشافعي

(5)

، لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، وكان

(1)

"الفتاوى"(24/ 210 - 211).

(2)

"نيل الأوطار"(3/ 321) ..

(3)

انظر: "التمهيد"(10/ 268)"سبل السلام"(2/ 84).

(4)

"الأوسط"(4/ 290)، "المغني"(3/ 242).

(5)

"المجموع"(4/ 491).

ص: 50

ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال:(يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت)

(1)

.

والقول الثالث: أن الجمعة واجبة على من صلى العيد، ولا تسقط عنه بحضور العيد، وهذا قول مالك وأبي حنيفة

(2)

، وهو ظاهر اختيار ابن المنذر وجزم به ابن حزم

(3)

؛ لعموم الأدلة في وجوب الجمعة، وحملوا أدلة الترخيص على ما فيها من مقال على من حضر العيد من أهل البوادي

(4)

.

وينبغي لأئمة الجوامع إقامة الجمعة ليحضرها من لم يصل العيد، وكذا من صلى العيد وأراد زيادة الخير بحضور الجمعة؛ لأن بعض العلماء أوجب الجمعة على الإمام

(5)

، وقد ذكر ابن رجب روايتين عن الإمام أحمد في سقوطها عن الإمام، وفي إقامة الإمام لها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أقام الجمعة.

وذهب فريق من أهل العلم إلى أن الجمعة تسقط عن الإمام أيضًا؛ لأن الترخيص عام لكل أحد، وقد ترك ابن الزبير الجمعة وهو الإمام كما تقدم ورجح هذا الشوكاني

(6)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

رواه البخاري (5572).

(2)

"المدونة"(1/ 142)"الهداية"(1/ 423).

(3)

"الأوسط"(4/ 291)، "المحلى"(5/ 89).

(4)

"شرح مشكل الآثار"(3/ 187).

(5)

"القواعد"(1/ 156).

(6)

"نيل الأوطار"(3/ 321).

ص: 51

‌الصلاة بعد الجمعة

460/ 16 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب " الصلاة بعد الجمعة"(881) من طريق خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية أربع ركعات بعد صلاة الجمعة، وظاهر الحديث الوجوب، لقوله:" فليصل"، لكن روى مسلم من طريق جرير وسفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا"، فهذا دليل على أن الأمر في حديث الباب للاستحباب، وليس للوجوب.

• الوجه الثالث: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الأربع في المسجد أو في البيت، وقد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنه في باب " التطوع" - ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:" وركعتين بعد الجمعة في بيته"

(1)

، وعن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك

(2)

، وقد اختلف أهل العلم في ذلك:

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه أبو داود (1128)، ونقل في "نيل الأوطار"(3/ 318)، عن العراقي أنه قال:(إسناده صحيح).

ص: 52

فمنهم من قال: إن صليت سنة الجمعة في المسجد فهي أربع، وإن كانت في البيت فهي ركعتان، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم

(1)

، وكأن هذا لأجل العمل بالحديثين.

وقال آخرون: أقلها ركعتان، وأكثرها أربع، سواء صلاها في المسجد أم في البيت، وهذا قول الشافعي وأحمد، واختاره الشوكاني

(2)

، والأربع أفضل؛ لأنها أكثر عملًا، ولأنه تعلق بها الأمر، كما في حديث الباب، ولأن القول مقدم على الفعل، واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز.

وعموم الأدلة في فضل النافلة في البيت يدل على أن الأفضل أن تكون سنة الجمعة في البيت، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي النوافل في بيته كما تقدم لكن لو صلاها في المسجد أحيانًا فلا بأس، أخذًا بظاهر حديث أبي هريرة الذي في هذا الباب.

• الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن الأربع تصلى بسلام واحد، وهو قول أهل الرأي وإسحاق بن راهويه، واختاره الشوكاني

(3)

؛ لأنه ورد في الأربع بدون فصل في الظاهر دليل خاص، وبناء العام على الخاص واجب.

وقال الشافعي والجمهور: يفصل بين كل ركعتين بسلام، واستدلوا بحديث:" صلاة النهار مثنى مثنى"، وقد تقدم في باب " التطوع".

والذي يظهر أن الأمر فيه سعة؛ فإن صلاها بسلام واحد فله أن يتشهد تشهدًا واحدًا أو تشهدين؛ لأن الحديث مطلق، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "زاد المعاد"(1/ 440).

(2)

"نيل الأوطار"(3/ 319).

(3)

المصدر السابق (3/ 320).

ص: 53

‌مشروعية الفصل بين الفريضة والنافلة

461/ 17 - عن السائب بن يزيد، أن معاوية قال له: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة، حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي

وهو أبو يزيد السائب بن يزيد الكندي في الأشهر؛ ولد في السنة الثانية من الهجرة، وروى البخاري من طريق محمد بن يوسف عن السائب قال: حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين

(1)

، قال الذهبي:(له نصيب من صحبة ورواية)، وروى البخاري أيضًا عن الجعيد بن عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: (ذهبت بن خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وقع، وفي رواية: (وجع)، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، وتوضأ، فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه)

(2)

.

قال ابن عبد البر: كان عاملًا لعمر على سوق المدينة مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقد اختلف في وفاته، فقيل: سنة اثنتين وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين، وقيل غير ذلك

(3)

.

(1)

"صحيح البخاري"(1858).

(2)

"صحيح البخاري"(3541).

(3)

"الاستيعاب"(4/ 116)، "السير"(3/ 437)، "الإصابة"(4/ 117).

ص: 54

* الوجه الثاني، في تخريجه:

أخرجه مسلم في كتاب "الجمعة"، باب "الصلاة بعد الجمعة" (883) من طريق ابن جريج قال: أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخُوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد بن أخت نور يسأله عن شيءٍ رآه منه معاوية في الصلاة

(1)

، فقال: نعم صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تَعُدّ لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه: قوله: (معاوية) تقدمت ترجمته عند الحديث (80).

قوله: (في المقصورة) هي الحجرة التي تكون في المسجد للإمام، وأول من أحدثها من الخلفاء معاوية حين طعنه الخارجي، ثم استمر العمل عليها تحصينًا للأمراء.

قوله: (قمت في مقامي) أي: فصليت النافلة في مقامي من غير فاصل بينها وبين الفرض

قوله: (فلا تصلها بصلاة) بفتح التاء من المضارع، من الوصل، والمعنى: لا تصل صلاة الجمعة بصلاة بعدها بدون فاصل.

قوله: (أمرنا بذلك أن لا نصل) هكذا لفظ "البلوغ": (أن لا نصل) بالنون، والذي في مسلم كما تقدم:(أن لا توصل) بالتاء المثناة من فرق، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر بدل أو عطف بيان الاسم الإشارة قبله.

قوله: (حتي نتكلم أو نخرج) بيان للفاصل، وهو إما كلام كالأذكار المشروعة أو خروج من المسجد.

(1)

أي: أرسل نافع بن جبير عمر بن عطاء إلى السائب بن يزيد يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فأنكره معاوية عليه.

ص: 55

الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الفصل بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة، وذلك إما بالكلام وهي الأذكار المشروعة بين الصلاة، أو بأي كلام آخر يحصل فيه الفصل، أو بالتحول، والانتقال من مكان إلى مكان آخر وذلك ليحصل تمييز الفريضة عن النافلة، لئلا يزاد في الفريضة ما ليس منها، وقد أخرج ابن المنذر

(1)

، والبيهقي

(2)

- بإسناد صحيح - عن ابن عمر أنه رأى رجلاً يصلي بعد الجمعة ركعتين في مقامه، فدفعه، وقال:(تصلي الجمعة أربعًا؟)، وهذا له نظائر في الشريعة، كتعجيل الإفطار وتأخير السحور، والأكل يوم الفطر قبل الصلاة، والنهي عن استقبال رمضان بيوم أو يومين، فهذا كله للفصل بين المأمور به وغير المأمور به، والفصل بين العادة وغيرها.

وقد ذكر العلماء حكمة أخرى وهي تكثير مواضع العبادة، نسب ذلك الشوكاني إلى البخاري والبغوي

(3)

؛ لأن مواضع العبادة تشهد للعابد، أخذًا من عموم قوله تعالى:{فما بكت عليهم السماء والأرض} [الدخان: 29]؛ أي: إن الأرض تبكي على صاحب الطاعة، كما ذكر ابن كثير

(4)

، وكذا قوله تعالى:{يومئذ تحدث أخبارها} [الزلزلة: 4]؛ لأن الأرض من جملة الشهود على العباد بأعمالهم، كما أخرجه الترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف

(5)

، وورد في آية سورة "الدخان" أحاديث؛ كحديث أنس عند الترمذي وإسناهد ضعيف

(6)

أيضًا.

وأكمل أنواع الفصل أن يتحول الإنسان إلى بيته فيصلي فيه النافلة، لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة؛ صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" متفق عليه، وتقدم في صلاة "التطوع".

وصلاة المرء في بيته النافلة فيها مصالح عظيمة تقدم ذكرها في الباب

(1)

"الأوسط"(4/ 124).

(2)

"السنن الكبرى"(3/ 240).

(3)

"نيل الأوطار"(3/ 224).

(4)

"تفسير ابن كثير"(7/ 239).

(5)

"جامع الترمذي"(2429)(3353)، "مسند الإمام أحمد"(14/ 455).

(6)

"جامع الترمذي"(3255).

ص: 56

المذكور، إلا ما شرع له الجماعة؛ كالتراويح، والكسوف، والاستسقاء، وإذا صلى النافلة في المسجد، كراتبة الظهر أو المغرب عند قوم يجهلون هذه الأمور ليعملوا أنها مشروعة، فهذا قد يؤجر عليه أكثر من صلاته في البيت.

وليست مشروعية الفصل خاصة بصلاة الجمعة، وإنما ذلك عام في جميع الصلوات، ولهذا استدل الراوي على تخصيصه بذكر الجمعة بحديث يعمها وغيرها، وفي هذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بالعام على الخاص.

أما وصل النافلة بنافلة فمن أهل العلم من خصه بالفريضة والنافلة، استنادًا إلى التعليل المتقدم، وهو لئلا يزاد في الفريضة ما ليس منها، وعلى هذا فيجوز وصل النافلة بالنافلة ولا يلزم الفصل بينهما بكلام ولا تحول.

وقال آخرون: يشرع الفصل حتى في النوافل وذلك بالانتقال من مكان إلى آخر، والعلة في هذا تكثير مواضع العبادة، كما تقدم، وقد يستدل عليه بعموم حديث الباب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالفريضة والنافلة، كما تقدم، والله أعلم.

* * *

ص: 57

‌فضل يوم الجمعة

462/ 18 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت، حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي منعه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجمعة"، باب " فضل من استمع وأنصت للخطبة"(857)(26) من طريق يزيد يعني ابن زريع، حدثنا روح، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الغسل يوم الجمعة، وأنه من الأوصاف التي ترتبت عليها المغفرة الموعود بها، ولا خلاف بين العلماء في استحباب الغسل يوم الجمعة، وإنما الخلاف في وجوبه، إما على الإطلاق، وهذا هو القول الثاني، وإما على من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، وهذا هو القول الثالث، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في باب " الغسل" من كتاب "الطهارة"، والقول بالاستحباب هو قول الجمهور من أهل العلم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يستحب لمن دخل المسجد يوم الجمعة قبل الصلاة أن يتنفل حتى يخرج الإمام، وأن هذا التنفل ليس له عدد محدود، لقوله:" فصلى ما قدر له"، وفي حديث سلمان: " ثم يصلي ما

ص: 58

كتب له"

(1)

، وهذا من النفل المطلق، إذ ليس للجمعة سنة راتبة قبلية مقدرة بعدد معين، كما في الصلوات الأخرى؛ لأن السنن إنما تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، وهو لم يسن للأمة في ذلك شيئًا لا بقوله ولا بفعله، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم

(2)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المغفرة الموعودة بها مرتبة على هذه الأمور؛ وهي: الغسل، والتنفل، والإنصات، والصلاة مع الإمام، وهي مغفرة ما بين الجمعة والجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي تفعل فيه هذه الأفعال الجليلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها، وقد ورد في أحاديث أخرى زيادة أوصاف مثل: التطيب، وعدم التفريق بين اثنين، وذلك بالقعود بينهما، أو إخراج أحدهما والقعود في مكانه، كما في حديث سلمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"

(3)

، وجاء في حديث أبي أيوب:" وليس من أحسن ثيابه، ولم يؤذ أحدًا"

(4)

.

فينبغي للمسلم أن يحرص على جميع ما وردت به الأحاديث، فيأتي بما طلب منه الغسل والطيب ولبس أحسن الثياب والتبكير والتنفل والإنصات والصلاة مع الإمام، ويبتعد عما نُهي عنه من التفرقة بين الاثنين والأذية وتخطي الرقاب، ويجتنب الكبائر.

• الوجه الخامس: الجمهور من أهل العلم على أن المراد بالمغفرة؛ مغفرة الصغائر دون الكبائر، فهذه لابد فيها من التوبة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى

(1)

أخرجه البخاري (883).

(2)

"مجموع الفتاوى"(24/ 189).

(3)

أخرجه البخاري (883).

(4)

أخرجه أحمد (38/ 547)، وابن خزيمة (1775)، والطبراني في "الكبير"(4/ 161) وسنده حسن.

ص: 59

رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر"

(1)

، فهذا نص صريح في أن المراد مغفرة الصغائر لا الكبائر.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الكبائر تغفر بالأعمال الصالحة، كالطهارة، والصلاة، والصيام ونحوها

(2)

، وسأذكر هذا في آخر كتاب " الصيام" إن شاء الله تعالى.

وقال النووي: إن المراد الصغائر، فإن لم يوجد صغائر رجي أن يخفف من الكبائر، فإن لم تكن رفعت له درجات

(3)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (233).

(2)

"مجموع الفتاوى"(7/ 489).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(3/ 116).

ص: 60

‌ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة

463/ 19 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله عز وجل شيئًا إلا أعطاه إياه"، وأشار بيده يقللها. متفق عليه.

وفي رواية لمسلم: " وهي ساعة خفيفة".

464/ 20 - وعن أبي بردة، عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". رواه مسلم، ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة.

465/ 21 - وفي حديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجه.

466/ 22 - وجابر عند أبي داود، والنسائي: أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.

وقد اختلفت فيها على أكثر من أربعين قولًا، أمليتها في "شرح البخاري".

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو بردة بضم الباء الموحدة، وسكون الراء عامر بن عبد الله بن قيس، وأبوه عبد الله، هو أبو موسى الأشعري الصحابي الجليل، ولد لما كان أبوه أميرًا في البصرة في خلافة عمر أو عثمان رضي الله عنه.

ص: 61

حدث عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنه وآخرين، قال ابن سعد:(كان ثقة كثير الحديث)، وقال العجلي:(كوفي تابعي ثقة)، وقال الذهبي:(كان من أوعية العلم، حجة باتفاق) مات سنة أربعة ومائة، وقيل: ثلاث ومائة

(1)

، وأما أبوه فقد تقدمت ترجمته في "مواقيت الصلاة".

وأما عبد الله بن سلام، فهو أبو يوسف عبد الله بن سلام بتخفيف اللام الخزرجي الإسرائيلي الأنصاري، أسلم وقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كما أخرج ذلك البخاري في قصة طويلة

(2)

، وهو أحد من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، كما ثبت في صحيح البخاري أيضًا

(3)

.

روى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وأنس بن مالك وأبو هريرة رضي الله عنه وآخرون، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين رضي الله عنه

(4)

.

• الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجمعة"، باب " الساعة التي في الجمعة"(935)، ومسلم (852)، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

ورواه مسلم من طريق الربيع يعني ابن مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة".

أما حديث أبي بردة عن أبيه، فقد أخرجه مسلم في الباب المذكور (853) من طريق

(5)

ابن وهب، أخبرنا مخرمة، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر، أسمعت إباك يحدث عن

(1)

"السير"(5/ 5)، "تهذيب التهذيب"(12/ 21).

(2)

"صحيح البخاري"(3911).

(3)

"صحيح البخاري"(3812).

(4)

"الاستيعاب"(6/ 228)، "السير"(2/ 413)، "الإصابة"(6/ 108).

(5)

هذا الإسناد وقع عند مسلم في مواضع، انظر:"غرر الفوائد المجموعة" لرشيد الدين العطار ص (323)، ومنها حديث في المذي (303)(19)، والزكاة (982)(10).

ص: 62

رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة"، وهذا الحديث معلول بعلتين:

الأولى: الانقطاع فإن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه شيئًا، وإنما كان يري من كتب أبيه، قال أبو طالب: سألت أحمد عنه فقال: (ثقة لم يسمع من أبيه شيئًا، إنما كان يروي من كتاب أبيه)، وكذا قال ابن معين.

وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوتر، وقال سعيد بن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة: أتيت مخرمة فقلت: حدثك أبوك؟ فقال: لم أدرك أبي، هذه كتبه.

فإن قيل: مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو موجود هنا؟ فالجواب: أن هذا صحيح، ولكن وجود التصريح من مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه شيئًا كافٍ في دعوى الانقطاع، ثم إن مسلمًا لا يخرج حديث من ثبت عدم سماعه، ومخرمة بشهادته على نفسه لم يسمع من أبيه، ولهذا استدرك الدارقطني على مسلم هذا الحديث.

العلة الثانية: أنه موقوف على أبي بردة من قوله، وقد تفرد برفعة بكير بن الأشج، وهو مدني ثقة كما في " التقريب"، لكن أبا بردة كوفي، وقد روى أهل الكوفة هذا الخبر عن أبي بردة من قوله موقوفًا عليه، ومنهم أبو إسحاق السبيعي، وواصل الأحدب، ومعاوية بن قرة، وغيرهم، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني؛ لأن رواية الكوفي عن الكوفي أثبت من رواية المدني عن الكوفي، ثم إن هؤلاء عدد وكبير واحد، ولهذا جزم الدارقطني بأن الموقوف هو الصواب

(1)

، كما ذكر الحافظ هنا.

وخالف في هذا الإمام بناء على قاعدته وهي أن ما وصله الثقات فهو مقدم، وتبعه على هذا الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأن الزيادة من الثقة

(1)

انظر: "التتبع" ص (167)، "العلل"(7/ 212).

ص: 63

تقبل، فيقدم قول من رفعه على من وقفه، ثم إن هذا ليس مما يدخله الرأي إذ لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادات، فجزمه بهذا يدل على تأييد رواية الرفع، وهذا إنما يتم على رأي من يقول: إن قول التابعي مما لا مجال للاجتهاد فيه مرفوع.

وأما حديث عبد الله بن سلام، فقد أخرجه ابن ماجه (1139)، وأحمد (39/ 198) من طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتابنا في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي، يسأل الله فيها شيئًا إلا قضى له حاجته، قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو بعض ساعة"، فقلت: صدقت، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: " هي آخر ساعات النهار"، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال:" بلى، إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة".

قال البوصيري: (إسناده صحيح، ورجاله ثقات)

(1)

، والضحاك هو ابن عثمان بن عبد الله الحزامي، وثقه أحمد وابن معين، وغيرهما، وقال أبو حاتم:(يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو صدوق)

(2)

، وأبو النضر: هو سالم بن أبي أمية.

وأما حديث جابر، فقد أخرجه أبو داود (1048)، والنسائي (3/ 99 - 100) من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو - يعني ابن الحارث - عن الجلاح مولى عبد العزيز حدثه أن أبا سلمة يعني عبد الرحمن حدثه عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يوم الجمعة ثنتا عشرة - يريد ساعة - لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا إلا آتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر"، قال النووي:(إسناده صحيح)

(3)

، وقال الحافظ:(إسناده حسن)

(4)

، ولعل هذا هو الصواب؛ لأن في إسناده الجلاح الأموي مولاهم المصري، قال عنه الحافظ في "القريب":(صدوق).

(1)

"مصباح الزجاجة"(1/ 380).

(2)

انظر: "تهذيب التهذيب"(4/ 392).

(3)

"الخلاصة"(2/ 754).

(4)

"فتح الباري"(2/ 420).

ص: 64

وأما قول الحافظ - هنا -: (وفي حديث جابر أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)، فليس في شيء من ألفاظ الحديث كما تقدم، فلعله عبر بالمعنى.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (فيه ساعة) المراد بالساعة هنا: الجزء من الزمان، وفي حديث جابر:"يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة" أي: إن النهار ثنتا عشرة ساعة، والمراد بها: الجزء، طال أو قصر، ومن ذلك حديث أبي هريرة:" ثم راح في الساعة الأولى" فالمراد بذلك: الزمن، فيقسم ما بين طلوع الشمس ودخول الإمام إلى خمسة أجزاء صيفًا وشتاءً.

وقد جاءت الساعة في هذه الرواية مبهمة، بل جميع روايات " الصحيحين" من حديث أبي هريرة، ولعل الحكمة من إخفائها ليجتهد الناس في هذا اليوم ويستوعبوه بالدعاء، ولو عرفت لخصوها بالدعاء وأهملوا ما سواهما، ومثل ذلك إخفاء ليلة القدر.

وجاء تعيينها في روايات أخرى - كما تقدم في التخريج - ولا معارضة في ذلك فتحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة، وهذا متعين، كما في الأصول.

قوله: (لا يوافقها عبد مسلم) أي: يصادفها، وهذه اللفظة تشمل ما إذا قصدها وتحراها، أو وقع له الدعاء فيها اتفاقًا بدون قصد.

قوله: (وهو قائم يصلي يسأل الله) هذه الجمل كلها أحوال من قوله: "عبد" الموصوف بـ "مسلم"، وهي أحوال مترادفة أو متداخلة.

وقد استشكل بعض الصحابة رضي الله عنهم؛ كأبي هريرة

(1)

على القول بأنها آخر ساعة بعد العصر أو وقت الخطبة أنه جاء في الحديث: "وهو قائم يصلي" وهذا الوقت ليس وقت صلاة، وكذا وقت الخطبة، فسأل عبد الله بن سلام

(1)

"مسند أحمد"(39/ 202).

ص: 65

وقال له: (كيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم يصلي"، وتلك ساعة لا يصلي فيها؟)، وكذا سأل عبد الله بن سلام أحد رواة الحديث، كما في رواية عند أحمد.

والجواب: أن قوله: " وهو قائم" ليس المراد به القيام حقيقة، وإنما المراد به ملازمة الطاعة والمواظبة عليها، مثل قوله تعالى:{ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} {آل عمران: 75] أي: ملازمًا له تطالبه به ليل نهار.

ومعنى: " يصلي": يدعو؛ لأن الصلاة تطلق على الدعاء لغة، أو أن منتظر الصلاة في صلاة، كما مر في حديث عبد اللن بن سلام، ومما يدل على صحة هذا التأويل أن أبا هريرة سلم لابن سلام تأويله ولم يعترض عليه، قاله ابن عبد البر

(1)

.

وعلى هذا فالصلاة محمولة على مدلول شرعي وهو الانتظار، لكنه ليس المدلول الحقيقي، وإنما هو مجاز شرعي، أو مدلول لغوي وهو الدعاء، وظاهر سياق الحديث عند ابن ماجه يدل على أن السائل هو عبد الله بن سلام، والمسؤول هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث على لسان عبد الله بن سلام من أوله إلى آخره.

قوله: (شيئًا) أي: مما يليق أن يدعو به المسلم، وفي رواية للبخاري

(2)

وكذا مسلم كما تقدم: "يسأل خيرًا"

(2)

، فيخرج بذلك الشر؛ كالدعاء بالإثم، وقطيعة الرحم.

قوله: (وأشار بيده يقللها) كذا في هذه الرواية بإبهام الفاعل، وفي رواية: (وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أن وقتها قليل، والغرض من ذلك الترغيب فيها والحث على اغتنامها، ولم يبين في هذه الرواية كيفية الإشارة، وقد جاء في رواية عند البخاري: (وقال بيده ووضع أنملته على بطن الوسطى،

(1)

"التمهيد"(19/ 24).

(2)

"صحيح البخاري"(5294)(6400).

ص: 66

والخنصر، قلنا: يزهدها)

(1)

.

قوله: (وهي ساعة خفيفة) أي: قصيرة غير طويلة، كما جاء في رواية (يزهدها) أي: يقللها.

• الوجه الرابع: في هذه الأحاديث دليل على أن الله تعالى قد خص يوم الجمعة من بين سائر الأسبوع بساعة شريفة يستجاب فيها الدعاء، فلا يوافق هذه الساعة عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا من أمور الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه إياه عاجلًا أو آجلًا.

وقد وقع الخلاف في تعيين هذه الساعة على أقوال كثيرة، ذكر ابن القيم بعضها

(2)

، وأوصلها الحافظ ابن حجر

(3)

إلى ثلاثة وأربعين قولًا، وذكر أنها أقوال متداخلة ويمكن ضم بعضها إلى بعض، وقد لا تزيد على عشرة أقوال، وسبب الخلاف تعدد الروايات والآثار، ومعظم هذه الأقوال استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، وأرجح هذه الأقوال كما قال ابن القيم قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر، ويلاحظ أن الحافظ في "البلوغ" اقتصر على أحاديث هذين الوقتين، وكأنهما الأرجح دليلًا.

الأول: أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، ودليل هذا حديث أبي بردة المتقدم بناءً على سلامته مما علل به، وإلا فلا يصح الاستدلال به؛ لأنه قول تابعي.

وقد رجح هذا القول الإمام مسلم، فقد أخرج البيهقي عن أحمد بن سلمة

(4)

قال: (سمعت مسلم بن الحجاج يقول: وذاكرته بحديث مخرمة هذا، فقال: هذا أجود حديث وأصحه في بيان الجمعة)

(5)

.

(1)

"صحيح البخاري"(5294).

(2)

"زاد المعاد"(1/ 388).

(3)

"فتح الباري"(2/ 416).

(4)

هو: أحمد بن سلمة النيسابوري البزاز، أبو الفضل، حافظ من علماء الحديث، كان رفيق الإمام مسلم في رحلته إلى بلخ وبصرة، مات سنة (286 هـ).

(5)

"السنن الكبرى"(3/ 25).

ص: 67

وهذا القول موافق لظاهر لفظ "الصحيحين"، كما تقدم:" وهو قائم يصلي" فلا يحتاج إلى تأويل.

وقال القرطبي: (وحديث أبي موسى نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره، والله أعلم)

(1)

، وقال أيضًا:(إن رواية: "وهي ساعة خفيفة" يدل على أنها ليست من بعد العصر إلى غروب الشمس لطول هذا الوقت)، وقال النووي: (والصحيح بل الصواب ما رواه مسلم من حديث أبي موسى

)

(2)

.

وصحح هذا ابن العربي وقال: (وبه أقول؛ لأن ذلك العمل من ذلك الوقت كله صلاة، فينتظم به الحديث لفظًا ومعنى)

(3)

.

والقول الثاني: أنها آخر ساعة بعد العصر لحديث عبد الله بن سلام وما جاء في معناه، وهذا قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، فقد نقل عنه الترمذي أنه قال:(أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر)

(4)

، وهو قول أكثر السلف.

وقد روى سعيد بن منصور عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة

(5)

.

فإن قيل بالترجيح فلا شك أن الأحاديث الدالة على أنها آخر ساعة بعد العصر أرجح لقوتها، ولأنه لم يختلف في رفعها، ولأنه قول جمهور الصحابة والتابعين، كما قال ابن القيم، ورجح هذا الشوكاني

(6)

.

وأما حديث أبي موسى ففيه مرجح واحد، وهو كونه في أحد "الصحيحين" دون بقية الأحاديث، لكن عارض ذلك ما تقدم من إعلاله

(1)

"المفهم"(2/ 494).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(6/ 389).

(3)

"العارضة"(2/ 275).

(4)

"جامع الترمذي"(2/ 361).

(5)

قال الحافظ في "فتح الباري"(2/ 421): (إسناده صحيح).

(6)

"نيل الأوطار"(3/ 280).

ص: 68

بالانقطاع والوقف على أبي بردة، والترجيح بما في "الصحيحين" أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ؛ كحديث أبي موسى هذا، وإن قيل بالجمع وهو مسلك ابن القيم وتبعه على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز

(1)

- فيقال: إن ساعة الإجابة منحصرة في أحد هذين الوقتين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر، لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر.

قال ابن عبد البر: (والذي ينبغي لكل مسلم الاجتهاد في الدعاء للدين والدنيا في الوقتين المذكورين رجاء الإجابة، فإنه لا يخيب إن شاء الله)

(2)

.

يقول العراقي: (إن من كان مطلبه خطيرًا عظيمًا كسؤال المغفرة والنجاة من النار ودخول الجنة ورضى الله تعالى عنه لجدير أن يستوعب جميع عمره بالطلب والسؤال، فكيف لا يسهل على طالب مثل ذلك سؤال في يوم واحد، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن طلب حاجة في يوم يسير

)

(3)

.

فعلى المسلم من رجل أو امرأة أن يعتني بهذه الساعة وأن يجتهد في الدعاء في جميع يوم الجمعة، ويكثر من ذلك لعله أن يصادف هذه الساعة، ويخص ما بعد العصر ووقت جلوس الخطيب إلى نهاية الصلاة بمزيد عناية؛ لأنها أخص الأوقات وأرجاها، فإن فاتته ساعة الصلاة فعليه أن يحرص على ما بعد العصر، والله الموفق.

* * *

(1)

"الفتاوى"(12/ 403).

(2)

"التمهيد"(19/ 24).

(3)

نقله عنه ابنه في "طرح التثريب"(3/ 214).

ص: 69

‌اشتراط العدد في الجمعة

467/ 23 - عن جابر رضي الله عنه قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعدا جمعة. رواه الدارقطني بإسناد ضعيف.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (2/ 3 - 4) من طريق إسحاق بن خالد البالسي، ثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن، ثنا خصيف، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل ثلاثة إمام

(1)

، أو في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرًا، وذلك أنهم جماعة).

وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ لأن فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي، قال عنه أحمد:(اضرب على أحاديثه، هي كذب، أو قال: موضوعة)، وقال النسائي وغيره:(ليس بثقة)

(2)

.

وقال ابن حبان: (يأتي بالمقلوبات عن الثقات فيكثر، والملزقات بالأثبات فيفحش)، ثم ذكر حديث هذا، ثم قال:(كتبناه عن عمر بن سنان، عن إسحاق بن خالد البالسي، عنه بنسخ شبيهًا بمائة حديث مقلوبة، منها ما لا أصل له، ومنها ما هو ملزق بإنسان، ليس يروي ذلك الحديث البتة، لا يحل الاحتجاج به بحال)

(3)

.

(1)

هكذا بالرفع، وحقها بالنصب، وقد كتبت على الصواب في طبعة الرسالة.

(2)

"العلل ومعرفة الرجال"(3/ 319)، "الميزان"(2/ 631).

(3)

"المجروحين"(2/ 121).

ص: 70

الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث فقهاء الشافعية والحنابلة على أن صلاة الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين رجلًا

(1)

، واستدلوا أيضًا بما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره، عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال: نقيع الخضمات

(2)

، قلت: كم أنتم يؤمئذ؟ قال: أربعون

(3)

.

ومسألة العدد في الجمعة فيها خلاف بين أهل العلم إلى أربعة عشر قولًا أو تزيد، وأكثرها ليس عليه حجة قائمة.

وأرجح الأقوال في هذه المسألة أن الجمعة تنعقد بأقل عدد يطلق عليه الجمع، وهو ثلاثة على الراجح، أو اثنان على القول الثاني، لعموم الأدلة وعدم وجود نص يدل على اشتراط عدد معين.

والقول بأنها تنعقد بثلاثة رواية عن الإمام أحمد، كما في مسائل ابن هانئ، فقد نقل عن أحمد قوله:(إذا فاتت الرجل الجمعة فأدرك رجلين، فيصلون جميعًا، ويؤمهم واحد، ويقوم وسطهم، كذا فعل ابن مسعود بعلقمة والأسود)

(4)

.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، ومما يؤيد ذلك ما يلي:

(1)

"المجموع"(4/ 502)، "المغني"(3/ 202).

(2)

هزم النبيت: موضع من حرة بني بياضة، وأصل الهزم: المنخفض من الأرض، والنبيت أبو حيٍّ من اليمن، والنقيع: بطن الأرض يستنقع فيه الماء مدة، والخضمات -بفتح الخاء وكسر الضاد، وقيل بفتحهما-: موضع بنواحي المدينة.

(3)

رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وسنده حسن؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق، وهو وإن كان مدلساً لكنه صرح بالتحديث عند الدارقطني (2/ 5)، والحاكم (1/ 281)(3/ 187)، والبيهقي (3/ 176)، فإن صحَّ ذلك وإلا فالحديث معلول.

(4)

"مسائل ابن هانئ"(1/ 90).

(5)

"الاختيارات" ص (79).

ص: 71

1 -

أنه لو كان الأربعون أو غيره من الأعداد شرطًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بيانًا عامًا، لحاجة الناس إليه، إذا كانت الصلاة لا تنعقد إلا به.

2 -

أن اسم الجمع يتناول الثلاثة، وقد قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] وهذه صيغة جمع، وقد ورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم"

(1)

، وهذا نص عام.

وأما حديث كعب بن مالك، فعنه جوابان:

الأول: أنه واقعة عين، فلا تدل على أنهم لو كان أقل من هذا العدد لم يقيموا الجمعة؛ لأن هذا العدد وقع لهم صدفة لا قصدًا، وقد تقرر عند الأصوليين أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم.

الثاني: أن هذا الحديث معارض بما تقدم أول الباب من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا، فدل على أن الجمعة تنعقد بمثل هذا العدد

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (672).

(2)

في "الدرر السنية"(5/ 28) أحد عشر جوابًا عن هذا الحديث، جمعها الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع.

ص: 72

‌مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة

468/ 24 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة. رواه البزار بإسناد لين.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البزار (451)"مختصر زوائده": حدثنا خالد بن يوسف السمتي، حدثني أبي يوسف بن خالد حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة، عن خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات كل جمعة. قال البزار:(لا نعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد).

وهذا إسناد ضعيف جدًا، بل هو إلى الوضع أقرب؛ لأنه حديث مسلسل بالضعفاء والمجاهيل، فخالد بن يوسف السمتي ضعيف، ووالده يوسف بن خالد ضعيف، بل متهم بالوضع والكذب

(1)

.

وجعفر بن سعد جزم ابن حزم بأنه مجهول

(2)

، وذكره ابن حبان في " الثقات"

(3)

، وقال الحافظ في "التقريب":(ليس بالقوي).

وخبيب بن سليمان مجهول، كما قال ابن حزم

(4)

، وقال عبد الحق:(ليس بقوي)، وقال الذهبي:(لا يعرف، وقد ضعف)

(5)

.

(1)

"الميزان"(1/ 648).

(2)

"تهذيب التهذيب"(2/ 80).

(3)

(6/ 137).

(4)

"تهذيب التهذيب"(3/ 116).

(5)

"الميزان"(2/ 649).

ص: 73

وسليمان بن سمرة قال عنه الحافظ أبو الحسن القطان: (لا تعرف له حال)

(1)

، وقال الحافظ بن " التقريب":(مقبل) أي: في المتابعات.

فالحديث ضعيف جدًا.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة، وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الدعاء في الخطبة واجب، ولم يذكر هؤلاء دليلًا على الوجوب.

• القول الثاني: أن الدعاء مستحب وليس بواجب، وهذا قول في مذهب الشافعية، وبه قال فقهاء الحنابلة

(2)

، واستدلوا بحديث الباب، قالوا: لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والفعل يدل على الاستحباب في مثل ذلك لا على الوجوب.

ولكن تقدم أن الحديث ضعيف جدًا، والأولى الاستدلال بحديث عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه، فقال:(قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة)

(3)

، وفي رواية عند أحمد:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا، ورفع السبابة وحدها)

(4)

.

وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في "سننه" وبوب عليه: " باب ما يستدل به على أن يدعو في خطبته"، ثم ذكر حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال:(ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهرًا يديه قط على منبره، ولا على غيره، ولكن رأيته يقول: هكذا، وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى بالإبهام)، وفيه ضعف، ثم قال:(والقصد من الحديثين إثبات الدعاء في الخطبة، ثم فيه من السنة أن لا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة، ويقتصر على أن يشير بإصبعه)

(5)

.

فالدعاء في الخطبة للإسلام والمسلمين أمر مشروع، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 138).

(2)

"المجموع"(4/ 521)، "المغني"(3/ 181).

(3)

"صحيح مسلم"(874).

(4)

"المسند"(28/ 458).

(5)

"السنن الكبرى"(3/ 210).

ص: 74

وإن لم يرد في السنة بيان ما كان يدعو به، فيكفي ثبوت الأصل، وكذا الدعاء بنصرة المجاهدين في سبيل الله، وكذا الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل، مشروع أيضًا.

وإذا دعا الخطيب على المنبر فإن السامع يؤمن سرًا لا جهرًا، وأما الدعاء في الخطبة على سبيل التخصيص كتخصيص الخلفاء الراشدين أو غيرهم فهذا لا أصل له ولا دليل عليه، بل نص جمع من أهل العلم كالشاطبي

(1)

ومن قبله العز بن عبد السلام

(2)

وغيرهما على أنه بدعة، إذ لم يكن ذلك شأن السلف، بل يدعو للمسلمين عامة.

لكن إذا كان في المكان شيعة فالدعاء للخلفاء الراشدين أمر حسن، لإغاظة الرافضة وبيان اعتقاد الفرقة الناجية نحو صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الترحم عليهم والترضي عنهم

(3)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الاعتصام"(1/ 21).

(2)

"فتاويه" ص (48)، وانظر:"المنار" للمقبلي (1/ 235).

(3)

انظر: "مختصر منهاج السنة"(1/ 216 وما بعدها).

ص: 75

‌مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة

469/ 25 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس. رواه أبو داود.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في أبواب "الجمعة"، باب " الرجل يخطب على قوس"(1101) من طريق أبي الأحوص، ثنا سماك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال:(كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدًا وخطبته قصدًا، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس).

وهذا إسناد صحيح، سماك بن حرب ثقة، لكن تكلم فيه علي بن المديني ويعقوب بن سفيان وغيرهما في روايته عن عكرمة، وقال ابن المبارك:(سماك ضعيف في الحديث)، وقال أبو طالب عن أحمد:(مضطرب الحديث) وقال يعقوب بن شيبة: (قلت أبو طالب عن أحمد: (مضطرب الحديث) وقال يعقوب بن شيبة: (قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة)، وقال يعقوب بن سفيان:(روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع منه قديمًا مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قال ابن المبارك إنما نرى أنه فيمن سمع منه بأخرة)

(1)

، وقال الدارقطني:(سماك بن حرب إذا حدث عنه شعبة والثوري وأبو الأحوص، فأحاديثهم عنه سليمة، وما كان عن شريك بن عبد الله وحفص بن جميع ونظرائهم ففي بعضها نكارة)

(2)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 204).

(2)

"موسوعة أقوال الدارقطني"(1/ 304).

ص: 76

وهذا الحديث ليس من روايته عن عكرمة، وإنما هو عن الصحابي الجليل جابر بن سمرة رضي الله عنه.

وأصل هذا الحديث في مسلم (862) بهذا الإسناد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا) وتقدم هذا الحديث في باب "استحباب تقصير الخطبة".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية قراءة آيات من القرآن في خطبة الجمعة، وهل ذلك واجب أو مستحب؟ تقدم الخلاف في ذلك، وترجيح الاستحباب؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك من قبيل الفعل المجرد، ومثل ذلك لا يدل على الوجوب.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي أن يكون قصد الخطيب وعظ الناس وتذكيرهم، وذلك بتعليم قواعد الدين، وذكر الجنة والنار، والأمر بتقوى الله، وبيان مواقع غضبه، وأسباب رضاه، وما في اليوم الآخر من الحساب والجزاء، فهذا هو الذي ينفع الناس ويصلح حالهم، وقد تقدم الكلام على ذلك. والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 77

‌بيان من لا تلزمهم الجمعة

470/ 26 - عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض". رواه أبو داود، وقال: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى.

471/ 27 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على مسافر جمعة". رواه الطبراني بإسناد ضعيف.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو طارق بن شهاب بن عبد شمس الأحمسي

(1)

البجلي الكوفي، أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل، لكنه لم يسمع منه شيئًا، فيكون حديثه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة، بل حكى غير واحد إجماع أهل العلم على ذلك؛ لأنهم إنما يرسلون عن صحابة، وقد أخرج الإمام أحمد بسنده عن قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر وعمر بضعًا وأربعين أو بضعًا

(1)

الأحمسي: نسبة إلى الأحمس، والجمع الحُمْس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا بذلك: لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا، ومن ذلك أنهم يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ولا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. "النهاية"(1/ 440).

ص: 78

وثلاثين من بين غزوة وسرية) وسنده حسن

(1)

، مات سنة اثنتين وثمانين

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث طارق، فقد أخرجه أبو داود في أبواب " الجمعة"، باب " الجمعة للملوك والمرأة"(1067) من طريق هريم، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به مرفوعًا.

قال أبو داود عقبه: (طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا) وغرضه بذلك بيان أن الحديث مرسل؛ لأنه مرسل صحابي، وهو حجة عند الجمهور.

وغرض الحافظ من ذكر رواية الحاكم (1/ 288) بيان أن الإرسال قد اندفع وصار الحديث موصولًا برواية الحديث من طريق هريم بن سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد اتفقا جميعًا على الاحتجاج بهريم، ولم يخرجاه).

ولكن هذا الإسناد ضعيف؛ لأن أبا داود قد رواه عن إبراهيم من دون ذكر أبي موسى، فالاختلاف على إبراهيم.

ولهذا قال البيهقي: (هذا هو المحفوظ، مرسل، وهو مرسل جيد، وله شواهد ذكرناها في السنن

)

(3)

.

وعلى هذا فالحديث صحيح، صححه الحافظ ابن حجر

(4)

، ولا يضر إرساله؛ لأنه مرسل صحابي، وطارق بن شهاب ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يسمع منه، ولحديثه شواهد تؤيده، كما ذكر البيهقي، لكنها ضعيفة.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط"(822) من طريق عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، به مرفوعًا.

(1)

"مسند الإمام أحمد"(31/ 125).

(2)

"الاستيعاب"(5/ 213)، "الإصابة"(5/ 213).

(3)

"المعرفة"(4/ 330).

(4)

"فتح الباري"(2/ 357).

ص: 79

وهذا إسناد ضعيف جدًا، لضعف عبد الله بن نافع، قال البخاري وأبو حاتم وابن حبان:(منكر الحديث)، وقال البخاري مرة:(يخالف في حديثه)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وقال في موضع آخر:(ليس بثقة)

(1)

.

وقد خالف الثقات في رفع هذا الحديث، قال البيهقي:(الصحيح أنه موقوف على ابن عمر)

(2)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الجمعة حق لازم على كل مسلم، وأن تؤدى جماعة لا أفرادًا، ويستثنى من هذا الوجوب هؤلاء المذكورون في الحديثين فليس عليهم جمعة، إلا أن حضروها فصلوا مع الناس أجزأتهم، وليس عليهم صلاة ظهر.

فالأول: المملوك، وهو الرقيق، فلا تجب عليه جمعة لهذا الحديث، ولأنه محبوس على خدمة سيده، وهذا مذهب الجمهور، وهو المذهب عند الحنابلة

(3)

.

لكن تعليلهم هذا فيه نظر؛ لأن حق الله تعالى مقدم على حق السيد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

والقول الثاني: أن الجمعة تلزم المملوك؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]، والحديث الوارد في إسقاطها عنه لا تقوم به حجة، ويؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم:" رواح الجمعة واجب على كل محتلم"

(4)

، وهذا قول الظاهرية

(5)

، ورواية عن أحمد

(6)

، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي

(7)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 48).

(2)

"السنن"(3/ 174).

(3)

"المغني"(3/ 216).

(4)

أخرجه أبو داود (342)، والنسائي في "الكبرى"(1660)، وابن خزيمة (1721) من حديث عبد الله بن عمر، عن حفصة رضي الله عنهما، مرفوعًا، وإسناده صحيح على شرط مسلم. قاله النووي في "الخلاصة"(2/ 758).

(5)

"المحلى"(5/ 49 - 51).

(6)

"المغني"(3/ 217).

(7)

"المختارات الجلية" ص (50).

ص: 80

والقول الثالث: أن الجمعة تجب على المملوك، إلا أن منعه سيده، فإن أذن له فذاك، وإن منعه أثم السيد وسقط الوجوب عن المملوك، وهذا قال به طائفة، وهو رواية ثالثة عن الإمام أحمد

(1)

، وهذا القول هو الأقرب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وجوبها على العبد قوي إما مطلقًا، وإما إذا أذن له سيده)

(2)

؛ لأن حال الرقيق حال شخص ضعيف مملوك، لا يمكن أن يذهب إلا بإذن سيده، فإلزامه بشيء لا يستطيعه فيه حرج، قد قال تعالى:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، فهذا القول وسط بين رأي من يلزمه مطلقًا، ورأي من لا يلزمه مطلقًا، وحديث الباب محمول على ذلك.

وأما الأجير فيجب عليه حضور الجمعة؛ لأنه وقت الصلاة مستثنى زمن الأجرة، وليس للمستأجر أن يمنعه.

ويستثنى من ذلك الحارس ومن في حكمه ممن يخشى على حراسته من الضياع أو الاعتداء، فهذا يعذر بترك الجمعة والجماعة.

والثاني: المرأة فليس عليها جمعة؛ لأنها ليست من أهل حضور مجامع الرجال، قال ابن المنذر:(أجمعوا على أنه لا جمعة على النساء، وعلى أنهن إن حضرن الإمام فصلين معه أن ذلك يجزئ عنهن)

(3)

.

والثالث: الصبي: وهو من دون البلوغ من الذكور، فلا تجب عليه الجمعة؛ لأنه غير مكلف، لكن ينبغي إحضار الصبي إلى الجمعة، ليتعلم ويستفيد ويعتاد الصلاة ويرغب في حضورها.

والرابع: المريض: وهو من اعتلت صحته، فلا تجب عليه الجمعة لعذر المرض، وكذا ممرض المريض الذي لا يستطيع مفارقته يأخذ حكم مريضه في جواز التخلف عن صلاة الجمعة وكذا صلاة الجماعة، لكن إن تيسر للمريض الحضور وتحامل على نفسه وحضر ليستفيد فهذا خير له، لما ورد في حديث

(1)

"الإنصاف"(2/ 369).

(2)

"الفتاوى"(24/ 184).

(3)

"الإجماع" ص (41).

ص: 81

الأسود، قال: كنا عند عائشة رضي الله عنها فذكرنا الموظبة على الصلاة والتعظيم

ثم ذكرت مرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قالت: (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع

) الحديث

(1)

.

قال الحافظ ابن حجر: (وفيه تأكيد أمر الجماعة، والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها)

(2)

.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف"

(3)

، فإذا كان هذا في صلاة الجماعة فالجمعة أولى بذلك، لعظم شأنها.

والخامس: المسافر، فليس عليه إقامة جمعة؛ لأن من شرطها الإقامة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر هو وأصحابه رضي الله عنه ولم يصل بهم جمعة، ووافق يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة فصلى بهم الظهر والعصر جميعًا، ولم يصل الجمعة، وكذا خلفاؤه الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره ولم يصل أحد منهم الجمعة في سفره.

أما كون المسافر يلزمه أن يصلي الجمعة أو لا يصلي فهذا فيه تفصيل؛ فإن كان المسافر سائرًا في طريقه فهذا لا يلزمه أن يقف ويصلي الجمعة؛ لأن السائر يأخذ ح كم المسافر من كل وجه؛ ولأن المسافر لو حضر الجمعة لتخلف عن رفقته؛ ولأنه بحضورها يحتاج إلى دخول البلد وانتظار الإمام فيلحقه بذلك مشقة وحرج.

أما إن كان المسافر نازلًا فالأظهر أن الجمعة تلزمه إذا سمع النداء، لعموم قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] ولعموم الأخبار

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (664).

(2)

"فتح الباري"(2/ 156).

(3)

تقدم تخريجه عند الحديث (401).

(4)

انظر: "المحلى"(5/ 49)، "الشرح الممتع"(5/ 14 - 15).

ص: 82

وقد روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: " الجمعة على كل من سمع النداء"

(1)

، وروى مرفوعًا، وقد يقال: إن الموقوف في قوة المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.

وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له"

(2)

، والظاهر أن السفر ليس بعذر، إذا أقام المسافر في بلد تقام فيه الجمعة؛ لأن ظاهر السنة أن الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم ويدركون الجمعة كانوا يصلونها مع النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (156)، ومن طريقه البيهقي (3/ 173) وسنده حسن.

(2)

"المصنف"(1/ 345) وإسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

انظر: "الشرح الممتع"(5/ 15).

ص: 83

‌استحباب استقبال الإمام حال الخطبة

472/ 28 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. رواه الترمذي، بإسناد ضعيف.

473/ 29 - وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الصلاة"، باب " ما جاء في استقبال الإمام إذا خطب"(509) من طريق محمد بن الفضل بن عطية، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

فذكره.

قال الترمذي: (حديث منصور لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل بن عطية، ومحمد بن الفضل بن عطية ذاهب الحديث عند أصحابنا).

فالحديث ضعيف جدًا؛ بل لو قيل موضوع أو كذب لكان أقرب؛ لأن محمد بن الفضل كذبه ابن معين وغيره، وضعفه أحمد، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(ليس بشيء، حديثه حديث أهل الكذب)

(1)

.

قال الجوزجاني: (كان كذابًا، سألت ابن حنبل عنه، فقال: ذاك عجب، يجيئك بالطامات

(2)

، هو صاحب حديث ناقة ثمود، وبلال المؤذن)

(3)

.

(1)

"العلل"(2/ 549)، "تهذيب التهذيب"(9/ 356).

(2)

جمع طامة، ومعناها: وضاع كذاب، ويقتضي أن يتهم بالكذب.

(3)

"أحوال الرجال" ص (202).

ص: 84

أما الشاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة فلم أقف عليه في مظانه من "صحيح ابن خزيمة"، وقد أخرجه البيهقي (3/ 198) من طريق ابن خزيمة، ثنا إسماعيل بن إسحاق - أصله كوفي - بالفسطاط، ثنا محمد بن علي بن غراب، ثنا أبي، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن عندي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أو قال: قعد على المنبر استقبلناه، بوجوهنا) ثم نقل البيهقي عن ابن خزيمة أنه قال: (هذا الخبر عندي معلول)

(1)

.

الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب استقبال الحاضرين الخطيب بوجوههم إذا شرع في الخطبة، سواء كانوا محاذين له أم لا، وليس معنى ذلك أنهم يحقلون حوله، وإنما يبقون على صفوفهم ولو كانت طويلة ويعطي كل واحد منهم وجهه إلى الإمام؛ لأن استقبال الخطيب تهيؤ لسماع كلامه، وسلوك الأدب معه في الاستماع، ولأن ذلك أدعى للفهم، وأحضر للقلب، وأبعد عن الانوم وهو أيضًا أشجع للخطيب إذا رأى المستمع له مصغيًا ومستفيدًا.

قال الترمذي بعد حديث الباب: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء).

قال الشوكاني: (وأحاديث الباب وإن كانت غير بالغة إلى درجة الاعتبار، فقد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك)

(2)

.

قال البخاري: " باب يستقبل الإمام القوم، واستقبال الناس الإمام إذا خطب" واستقبل ابن عمر وأنس رضي الله عنه الإمام، ثم ساق حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال:(إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله)

(3)

.

(1)

انظر: "إتحاف المهرة"(2/ 491).

(2)

"نيل الأوطار"(3/ 299).

(3)

"فتح الباري"(2/ 402).

ص: 85

ومن هنا يتبين أن ما يفعله بعض الناس من الاعتماد على جدار أو عمود مستدبرين القبلة ووجه الخطيب، أن هذا خلاف الأولى، وانظر كيف أذن الشرع للخطيب أن يستدبر القبلة ليواجه الحاضرين، فكيف ينصرف بعض الناس ويستدبر القبلة والخطيب؟!

ص: 86

‌حكم اعتماد الخطيب على عصا أو قوس

474/ 30 - عن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئًا على عصًا أو قوسٍ. رواه أبو جاود.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو الحكم بن حزن - بفتح المهملة وسكون الزاي فنون - الكلفي - بفتح اللام على قول السمعاني - وكلفة بطن من تميم، قال ابن عبد البر:(له حديث واحد، ليس له غيره)

(1)

، والمراد حديث الباب.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في أبواب " الجمعة"، باب " الرجل يخطب على قوس"(1096) من طريق شهاب بن خراش، حدثني شعيب بن رزيق الطائفي قال: جلست إلى رجل، له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: الحكم بن حزن الكلفي، فأنشأ يحدثنا قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زرناك، فادع لنا بخير، فأمر بنا، أو أمر لنا بشيء من التمر، والشأن إذ ذاك دون فأقمنا بها أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام متوكئًا على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال:" أيها الناس، إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به، ولكن سددوا وأبشروا".

وهذا الحديث حسن إسناده الحافظ

(2)

، وفي ابن خراش وشعيب كلام

(1)

"الاستيعاب"(4/ 52).

(2)

"التلخيص"(2/ 69).

ص: 87

يسير لا ينزل الحديث به عن رتبة الحسن، فشهاب بن خراش، ثقة، وثقة ابن المبارك، وابن عمار، وابن معين، والعجلي، وأبو زرعة، وقال أبو حاتم:(صدوق ليس به بأس)، وشعيب بن رزيق قال ابن معين:(ليس به بأس)، وقال أبو حامت:(صالح)

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الاعتماد على عصا أو قوس حال الخطبة، وهذا من باب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أن ذلك سنة دائمة، إذ لم يثبت ذلك في يوم الجمعة في سوى حديث الباب، ولم ينقل ذلك أكابر الرواة؛ كأبي هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة رضي الله عنه، ولو كان هذا مما لازمه النبي صلى الله عليه وسلم لنقلوه كما نقلوا صفات خطبته، وعلى هذا فالظاهر أنه لم يقع على صفة الدوام.

ولع السر في الاتكاء والله أعلم أنه أثبت قيام الخطيب، وأجمع لليدين، وهي عادة عربية عند الخطباء في العصر الجاهلي فما بعده.

وليس في الحديث ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ ما يتكئ عليه باليد اليمنى أو اليسرى، فمن أهل العلم من قال: إنه مخير، ومنهم من قال: يأخذه باليد اليسرى، وأما الأخرى فيعتمد بها على حرف المنبر، أو يرسلها

(2)

.

وهذا إذا كان الخطيب يخطب ارتحالًا بدون قراءة ورقة، أما إذا كان يحمل الأوراق بيده، فتكون العصا باليد اليسرى والأوراق باليد اليمنى، فإن لم يعتمد على شيء وضع اليمنى على اليسرى أو أرسلهما، لأن المقصود الخشوع والمنع من العبث

(3)

. والله أعلم.

* * *

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 307، 321).

(2)

"المجموع"(4/ 528)"الإنصاف"(5/ 240).

(3)

"المجموع"(4/ 528).

ص: 88

‌باب صلاة الخوف

الخوف: ضد الأمن. وأصله: الفزع والذعر، قال ابن فارس: (الخاء والواو والفاء أصل واحد يدل على الذعر والفزع، يقال: خفت الشيء خوفًا وخيفة

)

(1)

.

والمراد بصلاة الخوف: كيفية أداء الصلاة حال الخوف من العدو، لا أنها صلاة جديدة تشرع بسبب الخوف.

وقد أنزل الله تعالى مشروعية صلاة الخوف سنة ست من الهجرة، وأول غزوة صلاها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ذات الرقاع في قول بعضهم.

والقول الثاني: أن أول غزوة صلاها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة عسفان وهي سنة ست، وكانت قبل خبير، أما غزة ذات الرقاع فكانت بعد خيبر وخيبر سنة سبع، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

ومشروعية صلاة الخوف تخفيف من الله تعالى على عباده ورحمة بهم وتحصيل لمصلحتي الصلاة في وقتها وأخذ الحذر من العدو، وهذا يدل على عظم أمر الصلاة وشدة الاهتمام بها والحرص على أدائها في وقتها مع جماعة المسلمين، فإنه إذا لم يعذر المسلم في أدائها جماعة في حال الخوف والكر والفر، فكيف يتخلف عنها من هو آمن في سربه معافى في بدنه! والله المستعان.

وصلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا

(1)

"معجم مقاييس اللغة"(2/ 230).

ص: 89

أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينا} [النساء: 102].

وأما السنة فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بأصحابه مرات متعددة على صفات متنوعة، كما سيأتي.

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فعلها، وصلوها بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أحمد:(كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز)

(1)

.

وقال: (ستة أوجه أو سبعة يروى فيها)

(2)

.

* * *

(1)

"المغني"(3/ 311).

(2)

"مسائل أبي داود" ص (77).

ص: 90

‌كيفية صلاة الخوف

إذا كان العدو في غير جهة القبلة

475/ 1 - عن صالح بن خواتٍ عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: " أن طائفة صلت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصلوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلموا بهم". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

ووقع في " المعرفة " لابن منده: عن صالح بن خوات عن أبيه.

476/ 2 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو فصاففناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا، فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين". متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو صالح بن خوات بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو تابعي مشهور، سمع من جماعة من الصحابة، والحافظ في "التقريب": (ثقة من

ص: 91

الرابعة) أي: من صغار الطبقة الوسطى من التابعين، وقال في " فتح الباري":(ليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد)

(1)

.

وأما أبوه خوات، فهو صحابي جليل، أول مشاهده غزوة أحد، روى له البخاري في " الأدب المفرد"، مات سنة أربعين

(2)

.

الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث صالح بن خوات، فقد أخرجه البخاري في كتاب " المغازي"، باب " غزوة الرقاع"(4129)، ومسلم (842) من طريق مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره.

وأما حديث ابن عمر، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الخوف"، باب " صلاة الخوف"(942)، ومسلم (839) من طريق الزهري، عن سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (غزوت

) فذكر الحديث

(3)

.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

• قوله: (عمن صلى مع رسول الله صىل الله عليه وسلم) اختلف العلماء في صحابي هذا الحديث، فقد ورد عند البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة

الحديث.

وأخرج ابن منده في " معرفة الصحابي"(1/ 526 - 527) عن صالح بن خوات، عن أبيه، فيكون خوات والد صالح هو المبهم، واختار هذا الحافظ في " فتح الباري"

(4)

، وذكره هنا في " البلوغ" تفسيرًا لقوله: (عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أن سهل بن أبي حثمة كان صغيرًا، فقد جزم الطبري وابن حبان وابن السكن وغير واحد بأن سنة وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وذكر ابن عبد البر وغيره أنه ولد سنة ثلاث من الهجرة، وهذا يبعد معه

(1)

"فتح الباري"(7/ 422).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"البخاري"(4131)، و"مسلم"(841).

(4)

(7/ 425).

ص: 92

أن يخرج في غزوة ذات الرقاع، وهي سنة ست أو بع - كما تقدم - لكن هذا لا يؤثر، فإنه قد يرويها عن غيره، وتكون من مراسيل الصحابة رضي الله عنه.

والأقرب هو الأول، لأنه لفظ الصحيحين، وهو الذي صوبه أبو زرعة وأبو حاتم

(1)

؛ لكن تعيين كونها ذات الرقاع إنما هو في رواية صالح عن أبيه، وليس في رواية صالح عن سهل أنه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا يؤيد ما تقدم من أن سهلًا كان وقت الغزوة صغيرًا.

ويحتمل كما قال الحافظ أن صالح بن خوات سمعه من أبيه ومن سهل بن أبي حثمة، فلذلك يبهمه تارة، ويعينه أخرى.

قوله: (يوم ذات الرقاع) أي: غزوة ذات الرقاع، سميت بذلك: لأن الصحابة رضي الله عنه رقت أقدامهم من الحفاء، فجعلوا يلفون عليها الخرق كالترقيع لها، هذا هو الصحيح في سبب التسمية، وهو الذي ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

(2)

، وكانت سنة سبع بعد خيبر، على القول الراجح الذي جزم به البخاري في "صحيحه"

(3)

، وكانت لغزوة بني محارب وبني ثعلبة من غطفان في أعالي نجد.

والمشهور عند أهل السير أنها بعد بني النضير، وقبل الخندق، سنة أربع، وقيل: في المحرم سنة خمس.

والأظهر أنها بعد الخندق؛ لأن صلاة الخوف لم تكن شرعت في غزوة الخندق، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن وقتها، كما ثبت في " الصحيحين"، وقد ثبت فعلها في غزوة ذات الرقاع، فدل على تأخرها عن الخندق

(4)

.

(1)

"العلل"(209)، (352).

(2)

"صحيح البخاري"(4128)، "صحيح مسلم"(1816)، وانظر:"البداية والنهاية"(4/ 83).

(3)

"فتح الباري"(7/ 416).

(4)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 252)، "البداية والنهاية"(4/ 83).

ص: 93

قوله: (وجاه العدو) بكسر الواو، أي: قبل وجهه، والعدو: لفظ يقع على الواحد والاثنين والجماعة، المذكر والمؤنث بلفظ واحد، قال تعالى:{فإنهم عدو لي} وهو ضد الولي، ويجمع على أعداء، وعدى، وغيرهما.

قوله: (وأتموا لأنفسهم) أي: أتم كل واحد الركعة الباقية وحده.

قوله: (قبل نجد) بكسر القاف وفتح الباء الموحدة؛ أي: جهة نجد، والمراد بها: نجد اليمامة، لا نجد العراق التي منها تظهر الفتن.

قوله: (فوازينا العدو) أي: قابلنا العدو.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية صلاة الخوف عند وجود سببها، تخفيفًا على الأمة، ومعونة لهم على الجهاد، وأداء للصلاة في جماعة، وفي وقتها المحدد، وهذا يدل على أن صلاة الجماعة تجب على الرجال حضرًا وسفرًا في حال الأمن والخوف، إذا كانوا يتمكنون من أداء الصلاة على الكيفيات الواردة في السنة.

• الوجه الخامس: أن من أنواع صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة أن يقسم القائد الجيش إلى طائفتين: طائفة تصلي معه، وأخرى تحرس، فإذا قام للركعة الثانية ثبت قائمًا واستمر على ذلك، وانفردوا عنه، وأتموا صلاتهم، فأتوا بالركعة الثانية ثم سلموا، وانصرفوا فقاموا في وجه العدو، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس، فتصلي معه الركعة التي بقيت من صلاته، فإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا الركعة التي بقيت من صلاتهم، ثم جلسوا للتشهد مع الإمام، ثم سلم بهم، وهذه الصفة هي الموافقة لظاهر القرآن في قوله تعالى:{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من وارئكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} [النساء: 102]، ولهذا اختار الإمام أحمد هذه الصفة.

ودل حديث ابن عمر رضي الله عنه على صفة أخرى وهي أنه يقسمهم طائفتين: طائفة تقف أمام العدو تحرس، والأخرى تصلي معه ركعة، ثم تذهب فتقف

ص: 94

أمام العدو تحرس، وهي على صلاتها، ثم تأتي الطائفة التي كانت تحرس فتصلي معه الركعة التي بقيت من صلاته، فإذا سلم قضت ما بقي من صلاتها ثم ذهبت تحرس أمام العدو، ثم ترجع الطائفة الأخرى فتكمل ما بقي من صلاتها ثم تسلم.

وسمح لهم بهذا العمل الكثير في الصلاة للضرورة، ولا يخفى أن النوع الأول أرفق وأقرب إلى ضبط الحراسة وإتقان الصلاة، والنوع الثاني جائز.

واعلم أنه لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صفة صلاة الخوف تعرض لصلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها قصر، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين فإذا جلس قاموا فأتموا لأنفسهم ركعة، وسلموا، ويصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية، فإذا قعد أتموا لأنفسهم ركعتين، ثم يسلم ويسلمون

(1)

.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على حسن تنظيم الإسلام وعدالته، ووجوب اتخاذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فاختصت الطائفة الأولى في حديث صالح بن خوات بتحريم الصلاة، وهو تكبيرة الإحرام، واختصت الثانية بتحليل الصلاة، وهو السلام، فحصلت صلاة الجماعة، وفوت الفرصة على الأعداء، والحمد لله رب العالمين.

* * *

(1)

انظر: "الإقناع" لابن المنذر (1/ 123)"المغني"(3/ 309)"فتح الباري"(2/ 424).

ص: 95

‌كيفية صلاة الخوف

إذا كان العدو في جهة القبلة

477/ 3 - عن جابر رضي الله عنه قال: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين: صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه

" فذكر الحديث.

وفي رواية: " ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قدموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني" وذكر مثله، وفي آخره:" ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا". رواه مسلم.

478/ 4 - ولأبي داود عن أبي عياش الزرقي، مثله، وزاد:" أنها كانت بعسفان".

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عياش: بالشين المعجمة الزرقي الأنصاري نسبة إلى زريق أحد أجداده، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، قال ابن عبد البر:(أكثر أهل الحديث يقولون: زيد بن الصامت)، وقيل غير ذلك، شهد أحدًا وما بعدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في باب صلاة الخوف، أخرج حديثه أبو داود

ص: 96

والنسائي، يقال: إنه عاش إلى خلافه معاوية في حدود سنة أربعين

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم في باب " صلاة الخوف"(840)(307) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف

فذكر الحديث.

وتمامه: (فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلم قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا، قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم).

وأما رواية مسلم المذكورة: فقد أخرجها من طريق زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: غزنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا من جهينة

وذكر الحديث، وفيه تعيين الصلاة وأنها صلاة العصر.

ولعل الحافظ أشار إلى هذه الرواية؛ لأن فيها تعيين القوم الذين حاربوهم، وهم من جهينة، ثم أكمل الحافظ المقصود من ألفاظ هذه الرواية، وإلا فهي كذلك في الرواية الأولى.

وأما حديث أبي عياش الزرقي: فقد أخرجه أبو داود في باب " صلاة الخوف"(1236) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد،

(1)

"الاستيعاب"(8/ 74)، "الإصابة"(7/ 273).

ص: 97

عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه

وذكر الحديث بمثل حديث جابر رضي الله عنه.

وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه الدارقطني

(1)

، والبيهقي

(2)

، وقال الحافظ:(سنده جيد)

(3)

، وقد تكلم بعضهم في سماع مجاهد من أبي عياش الزرقي، والصواب أنه سمع منه، كما ذكر ذلك البيهقي في " السنن" وفي " المعرفة"

(4)

.

ثم إن مجاهدًا لا يعرف بالتدليس، ولا يجوز وصفه به، وسماعه من أبي عياش ممكن، فإنه ولد في خلافة عمر سنة إحدى وعشرين، وأبو عياش مات في خلافة معاوية سنة أربعين، كما تقدم، ولعل الحافظ أورد حديث أبي عياش؛ لأن فيه تعيين محل الصلاة، وهو عسفان.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: حضرت، وكان ذلك في غزو النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من جهينة، والصلاة صلاة العصر، كما مر في الرواية الثانية لمسلم.

قوله: (والعدو بيننا وبين القبلة) جملة حالية تبين مكان العدو حينئذ، وأنه كان في جهة القبلة.

قوله: (والصف الذي يليه) بالرفع عطفًا على الناس، وهو الضمير المستتر في قوله:(انحدر) وجاز العطف على الضمير المتصل من دون تأكيد لوجود الفاصل.

(1)

"السنن"(2/ 59).

(2)

"السنن الكبرى"(3/ 254 - 255).

(3)

"الإصابة"(11/ 273).

(4)

"معرفة السنن والآثار"(5/ 29).

ص: 98

قوله: (في نحر العدو) أي: أمام العدو.

قوله: (بعسفان) بضم العين وإسكان السين المهملتين، قرية عامرة بين مكة والمدينة، وتقع الآن على الطريق السريع، وتبعد عن مكة شمالًا بـ (80) كيلًا.

وقول المشركين: (قد أصبنا غرة

)، أي: أدركنا من المسلمين غفلة في صلاة الظهر، فلو حملنا عليهم لكان أحسن والمعنى: أنهم يتمنون أنهم حملوا على المسلمين أثناء صلاتهم.

قوله: (فنزلت آية القصر) أي: صلاة الخوف من قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة

} إلى قوله: {عذابًا مهينًا} [النساء: 102]، وعند النسائي: (فنزلت، يعني صلاة الخوف

)

(1)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على صفة صلاة الخوف إذا كان العدو في جهة القبلة، وذلك بأن يصف القائد الجيش صفين، فيصلي بهم جميعًا، يكبر ويركع ويرفع بهم جميعًا، فإذا سجد سجد معه الصف الأول، وبقي الصف الثاني واقفًا يحرس، فإذا قام الإمام والصف الأول من السجود سجد الصف الثاني، فإذا قاموا من السجود تقدموا مكان الصف الأول، وتأخر الصف الأول إلى مكانهم، فيركع بهم الإمام جميعًا، ويرفع بهم جميعًا، ثم يسجد هو والصف الذي يليه، فإذا جلسوا للتشهد سجد الصف المتأخر، ثم سلم بهم جميعًا.

وهذه هي الصفة الثالثة من صفات صلاة الخوف، وهذا التقدم والتأخر لمراعاة العدل بين الصفين حتى لا يكون الصف الأول في مكانه في جميع الصلاة، وهذه حركة من غير جنس الصلاة، لكنها لمصلحة الصلاة، ولمصلحة الحراسة أيضًا.

وليس في هذه الصفة شيء من الحركة أو التنفلات؛ لأن العدو أمامهم، والحراسة إنما هي في حال السجود فقط، دون حال الركوع؛ لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو، وإذا بقي في حال السجود طائفة قائمة وأختها تصلي ركعتها مع الإمام حصل المقصود، والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن"(3/ 177).

ص: 99

‌صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين

صلاة منفردة

479/ 5 - وللنسائي من وجه آخر عن جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بآخرين أيضًا ركعتين، ثم سلم".

480/ 6 - ومثله لأبي داود، عن أبي بكرة.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه النسائي في كتاب " صلاة الخوف"(3/ 178) من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين

الحديث.

وهذا الحديث رجاله ثقات، حماد بن سلمة: ثقة عابد، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وقتادة: ثقة ثبت، وكان يدلس، وعنعنته هنا لا تؤثر؛ لأنه لقي الحسن، وروى عنه

(1)

والحسن وهو البصري ثقة، يرسل كثيرًا، ويدلس، لكن قال ابن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم: أنه لم ير جابرًا ولم يسمع منه

(2)

.

وهذا الحديث علقه البخاري

(3)

، فقال: (وقال أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال:

) فذكر الحديث.

(1)

"تهذيب التهذيب"(8/ 315).

(2)

"المراسيل" ص (36، 37).

(3)

"صحيح البخاري"(4136).

ص: 100

ووصلاه مسلم

(1)

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عثمان، حدثنا أبان بن يزيد به.

وأخرجه أيضًا من طريق معاوية بن سلام، أخبرني يحيى، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابرًا أخبره

الحديث.

وظاهر السياق عند البخاري وعند مسلم على كلا الروايتين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم بعد صلاته بالطائفة الأولى، ورواية النسائي صريحة في أنه سلم في كل ركعتين، وكذا حديث أبي بكرة الآتي.

وقد فات الحافظ عزة الحديث إلى من هو أعلى من النسائي مع سعة حفظه رحمه الله، إلا أن يكون المقصود من قوله:(من وجه آخر) هذا الإسناد.

أما حديث أبي بكرة، فقد أخرجه أبو داود (1248)، والنسائي (3/ 178)، وأحمد (34/ 50) من طريق الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه بمثل حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى بكل طائفة ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا، وعلى هذا فحديث أبي بكرة أصله في مسلم.

وهذا الحديث إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقد تكلم العلماء في سماع الحسن من أبي بكرة، فقد نقل العلائي عن الدارقطني أنه قال:(الحسن لم يسمع من أبي بكرة)

(2)

، وكذا نقل الحافظ عن أبي حاتم

(3)

.

لكن ظاهر صنيع البخاري أنه سمع منه، فقد أورد عدة أحاديث في " صحيحه" من طريق الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه

(4)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على نوع رابع من أنواع صلاة الخوف، وهو أن يصلي الإمام بكل طائفة صلاة منفردة، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يسلم بها، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعتين، ثم يسلم بهم.

(1)

"صحيح مسلم"(843).

(2)

"جامع التحصيل" ص (163).

(3)

"فتح الباري"(2/ 527).

(4)

انظر: "صحيح البخاري" رقم (1040).

ص: 101

وهذا في الصلاة الرباعية، أما المغرب فإنه يصلي بكل طائفة ثلاثًا.

والسلام بعد الركعتين في صلاته بالطائفة الأولى جاء صريحًا في رواية أبي داود والنسائي، أما رواية "الصحيحين" فلم يذكر فيهما السلام، ولهذا ظن بعض الفقهاء أن هذا نوع خامس من أنواع صلاة الخوف غير النوع الذي قبله، فذكره مستقلًا، ومنهم ابن قدامة

(1)

.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (إن ذكر السلام هو الصواب، ومن قال: إنه صلى بدون سلام فقد غلط، ومن أهم شيء عند طالب العلم إذا أشكل عليه بعض الأحاديث أن يجمع الروايات وطرقها حتى يتضح له الأمر)

(2)

.

• الوجه الثالث: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بكل طائفة ركعتين دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأولى فرض وبالطائفة الثانية نفل.

وفيه دليل على أن العدل مطلوب حسب الإمكان؛ لأن الذين صلى بهم الفرض أفضل من الطائفة الذين صلى بهم وهي نافلة، ولكن هذا غاية ما يملكه النبي صلى الله عليه وسلم من إمكان العدل بينهم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(3/ 313).

(2)

انظر: "صلاة الخوف" للقحطاني ص (32).

ص: 102

‌جواز الاقتصار في صلاة الخوف

على ركعة واحدة لكل طائفة

481/ 7 - عن حذيفة رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الخوف بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة، ولم يقضوا". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان.

482/ 8 - ومثله عند ابن خزيمة عن ابن عباس رضي الله عنه.

483/ 9 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان". رواه البزار بإسناد ضعيف.

• الكلام عليها من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث حذيفة فقد أخرجه أحمد (38/ 302)، وأبو داود (1246)، والنسائي (3/ 167 - 168)، وابن خزيمة (2/ 293)، وابن حبان (4/ 302)(6/ 182) من طريق الأشعث بن سليم بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم قال:(كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام، فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا). هذا لفظ أبي داود، وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه ابن خزيمة وابن حبان.

وطبرستان بفتح الطاء والباء وكسر الراء: اسم بلاد واسعة تقع ضمن دولة إيران اليوم، وتسمى إقليم:(مازندران) فتحت في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سعيد بن العاص رضي الله عنه سنة تسع وعشرين من الهجرة.

ص: 103

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فقد أخرجه ابن خزيمة (2/ 293) كما قال الحافظ، وأخرجه النسائي (3/ 269)، وأحمد (3/ 493)، وابن حبان (7/ 22) من طريق سفيان قال: حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد وصف الناس خلفه صفين، صفًا خلفه، وصفًا موازي العدو، وصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا.

وهذا لفظ النسائي، أما ابن خزيمة فلم يذكر لفظه، وإنما أحال على لفظ حديث حذيفة الذي قبله، وهذا الحديث إسناده صحيح.

وعبيد الله بن عبد الله: هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كما ورد التصريح به عند أحمد (3/ 493)(38/ 301)، والحاكم (1/ 335)، وهو ثقة ثبت.

وورد مثل ذلك في حديث جابر رضي الله عنه

(1)

.

وقوله: (بذي قرد) بفتحتين، موضع على ليلتين من المدينة، بينهما وبين خبير

(2)

.

وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه البزار (1/ 296)" مختصر زوائده" من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة المسايفة ركعة على أي وجه كان الرجل، يجزئ عنه

".

قال البزار: (محمد بن عبد الرحمن أحاديثه مناكير، وهو ضعيف عند أهل العلم) وعلى هذا فالحديث منكر؛ لأن البيلماني هذا متروك، قال ابن معين:(ليس بشيء)، وقال البخاري، وأبو حاتم، والنسائي:(منكر الحديث)

(3)

.

(1)

أخرجه النسائي (3/ 174)، وأحمد (3/ 298)، وابن خزيمة (1347)، وابن حبان (7/ 120).

(2)

"معجم البلدان"(4/ 321).

(3)

"تهذيب التهذيب"(9/ 261).

ص: 104

ولعل الحافظ ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه؛ ليعلم ضعفه، أو يكون شاهدًا لما قبله وإلا ففي الأحاديث المتقدمة ما يغني عنه، بل ويغني عن الجميع حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:(فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)

(1)

، وتقدم في "قصر الصلاة"، وكان الأولى بالحافظ أن يذكره هنا، كما فعل ابن عبد الهادي في " المحرر" وغيره.

• الوجه الثاني: هذه الأحاديث دليل على أن صلاة الخوف ركعة واحدة، وذلك بأن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة، ثم تذهب ولا تقضي شيئًا، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصف خلفه ويصلي بهم ركعة، ثم يسلم، ولا تقضي شيئًا، فتكون لكل طائفة ركعة، وللإمام ركعتان، وهذا على أن صلاة الخوف تقصر كمية وكيفية، وتكون هذه صفة خامسة، وقد قال بذلك ابن عباس وجابر وأبو هريرة وأبو موسى رضي الله عنه وجماعة من التابعين، قال الموفق ابن قدامة:(وكلام أحمد يقتضي كون هذا الوصف من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له)

(2)

، وذكر المرداوي أنهم حملوا هذه الصفة على شدة الخوف

(3)

.

• وقال أكثر أهل العلم منهم: ابن عمر رضي الله عنه، والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم رحمهم الله: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فلا تنقص عن ركعتين

(4)

وحملوا هذه الأحاديث على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها المصلي منفردًا، كما جاء في الأحاديث الأخرى، ذكر ذلك النووي، ثم قال:(وهذا التأويل لابد منه للجمع بين الأدلة، والله أعلم)

(5)

.

وهذا التأويل فيه نظر، فإن قوله:(لم يقضوا) نص صريح على أنهم

(1)

أخرجه مسلم (687).

(2)

"الكافي"(1/ 472).

(3)

"الإنصاف"(2/ 356).

(4)

"المغني"(3/ 315).

(5)

"شرح صحيح مسلم"(5/ 203).

ص: 105

اقتصروا على ركعة واحدة، ويؤيده قوله:(فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولهم ركعة واحدة)، كما يرد هذا التأويل حديث ابن عباس رضي الله عنه:(صلاة الخوف ركعة)، وعلى هذا فلا داعي لهذا التأويل، فيؤخذ الحديث على ظاهره، وتحمل الأحاديث الدالة على الركعتين على أنها الأكمل، وتجزئ ركعة واحدة؛ لأن صلاة الخوف وردت بكيفيات مختلفة، ومنها الاقتصار على ركعة واحدة، أو يحمل حديث ابن عباس رضي الله عنه على شدة القتال، وهذا أولى

(1)

والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(3/ 316).

ص: 106

‌سقوط سجود السهو في صلاة الخوف

484/ 10 - وعن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: " ليس في صلاة الخوف سهو". أخرجه الداري قطني بإسناد ضعيف.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (2/ 58) من طريق بقية ثنا عبد الحميد بن السري الغنوي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره.

قال الدارقطني: (تفرد به عبد الحميد بن السري، وهو ضعيف)، وقال أبو حاتم:(هو مجهول، روى عن عبيد الله بن عمر حديثًا موضوعًا)

(1)

.

وذكره الذهبي في "الميزان" وقال: (من المجاهيل، والخبر منكر)، ثم ذكر حديثه هذا، ونقل كلام أبي حاتم وتضعيف الدارقطني

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على سقوط سجود السهو في صلاة الخوف، والحديث وإن كان لا يثبت، لكن المعنى يؤيد ذلك؛ لأن الله تعالى يسر في صلاة الخوف في ترك أشياء كثيرة، منها: الاكتفاء بركعة، ومنها: التأخر في السجود عن الإمام، ومنها: جواز القضاء قبل سلام الإمام، فإذا جاز مثل ذلك فسقوط سجود السهو وجيه، وليس ببعيد.

ويرى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مشروعية سجود السهو في صلاة

(1)

"الجرح والتعديل"(6/ 14).

(2)

"الميزان"(2/ 541).

ص: 107

الخوف حيث يقول: (الأصل بقاء سجود السهو، ولا تكون هذه التجاوزات كافية في إسقاطه، فالأصل بقاؤه مع القدرة؛ لعموم الأدلة، فإذا سهى الإمام في صلاة الخوف شرع له سجود السهو، وإذا كان يخشى من سجودهم جميعًا تمكن العدو سجد الصف الأول، ثم سجد الصف الثاني، كما فعلوا في أصل الصلاة، إلا أن يثبت دليل في إسقاطه)، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 108

‌باب صلاة العيدين

أي: صفتها وأحكامها، وما يتعلق بذلك.

والعيدين: مثنى عيد، وهما عيد الفطر من رمضان: وهو أول يوم من شوال، وعيد الأضحى: وهو العاشر من ذي الحجة.

سميا عيدين؛ لأنهما يعودان ويتكرران كل عام، وكل منهما له مناسبة شرعية ومرتبط بعمل جليل وركن من أركان الإسلام، فعيد الفطر مناسبته فراغ المسلمين من صيام شهر رمضان، وعيد الأضحى مرتبط بحج بيت الله الحرام وختام عشر ذي الحجة والتقرب إلى الله تعالى بذبح القربان.

وليس في دين الإسلام عيد يتكرر كل عام سوى هذين العيدين، لا عيد ميلاد، ولا عيد معراج، ولا عيد انتصار ولا عيد جلوس على كرسي الملك أو الرئاسة؛ بل كل ذلك مما ابتدعه الناس نتيجة التشبه بالأمم الأخرى، فصار ندًا للأعياد الشرعية.

وقد مر بالأمة مناسبات عظيمة من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوة بدر، والمعراج، وغيرها، ولم يكن لها أعياد مشروعة، فما دونها من باب أولى، ويكفي في ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو خير الهدي.

ويوم العيد يوم عبادة وشكر وفرح وسرور، فيه الصلاة وذكر الله تعالى ودعاؤه، وفيه موعظة الناس وتوجيههم، وفيه من الفوائد الاجتماعية والصلات الأسرية والأخوية والفرح والسرور هو المنهج الإلهي الذي جاء من عند الله تعالى لإسعاد البشرية.

ص: 109

‌ما جاء من أن الفطر والصوم مع جماعة الناس

485/ 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس". رواه الترمذي.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي (802) في كتاب " الصوم" باب " ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون؟ " من طريق يحيى بن اليمان، عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكرت الحديث.

وهذا الحديث لا بأس برجاله، غير يحيى بن يمان العجلي، فإنه متكلم فيه، قال أحمد:(ليس بحجة)، وقال ابن معين:(أرجو أن يكون صدوقًا)، ومرة قال:(ليس به بأس)

(1)

.

وقال ابن عدي: (عامة ما يرويه غير محفوظ، وهو في نفسه لا يتعمد الكذب، إلا أنه يخطئ ويشتبه عليه)

(2)

.

وقد اختلف في سماع ابن المنكدر من عائشة، لكن قال الترمذي بعد الحديث المذكور: سألت محمدًا يعني البخاري قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ قال: (نعم، يقول في حديثه: سمعت عائشة).

وقد ورد حديث الباب عند أبي داود (2324) من طريق أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(3)

، وفيه انقطاع، قال ابن معين وأبو

(1)

"تهذيب التهذيب"(11/ 267 - 268).

(2)

"الكامل"(7/ 235).

(3)

راجع: "العلل" للدارقطني (10/ 62).

ص: 110

بكر البزار: (لم يسمع ابن المنكدر من أبي هريرة)، وقال أبو زرعة:(لم يلقه)، وروى الترمذي (697) من طريق عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون"، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب)، وفي الأخنس كلام يسير، وقد حسنه أيضًا النووي

(1)

، فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس، وعلى هذا فلو رأى الهلال وحده وردت شهادته، فإنه لا يصوم إلا مع الناس، ولا يفطر إلا مع الناس.

وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

لحديث الباب؛ ولأن الشهر هو ما اشتهر وظهر، والهلال ما استهل به وأعلن، وليس ما يظهر في السماء من غير رؤية ولا اشتهار.

والقول الثاني: أنه يصوم إذا رأى هلال رمضان، ولا يفطر إذا رأى هلال شوال إلا مع الناس، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة

(3)

، ووجه ذلك أنه رأى هلال رمضان فلزمه العمل بما رأى، ولأنه يثبت بشهادة واحد، وأما الفطر فلا يفطر؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين.

والقول الثالث: أنه يصوم إذا رأى هلال رمضان، ويفطر إذا رأى هلال شوال سرًا، وهذا مذهب الشافعي؛ لأنه رأى الهلال فيلزمه العمل بما يتقن، ولكن يلزمه سرًا، لئلا يخالف الجماعة

(4)

.

والقول الأول أظهر لقوة دليله، ولأن فيه جمع كلمة المسلمين وعدم تفرقهم، وهذا من أعظم المقاصد الشرعية، والله تعالى أعلم.

(1)

"الخلاصة"(2/ 839).

(2)

"الفتاوى"(25/ 114 - 117).

(3)

انظر: "الهداية"(1/ 120)، "مختصر خليل" ص (58)، "المغني"(4/ 416، 420).

(4)

انظر: "المهذب"(1/ 243).

ص: 111

‌حكم الصلاة إذا لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال

486/ 2 - عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الصحابة:" أن ركبًا جاؤوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وإذا أصبحوا يغدو إلا مصلاهم". رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه؛ وإسناد صحيح.

• الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عمير بن أنس بن مالك، يقال: إن اسمه: عبد الله، وهو أكبر ولد أنس رضي الله عنه كما ورد في "سنن البيهقي"

(1)

وهو من صغار التابعين، روى له أصحاب السنن غير الترمذي، وتفرد بالرواية عنه أبو بشر جعفر بن إياس أبي وحشية، وصحح حديثه غير واحد من أهل العلم، قال ابن سعد:"كان ثقة قليل الحديث" وذكره ابن حبان في " الثقات"، تفرد ابن عبد البر بتجهيله، ولم يتابع على ذلك؛ لأن من وثقد فقد عرفه، وقد جزم الحافظ في " التقريب" بأنه ثقة

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (34/ 186)، وأبو داود (1157) في كتاب " الصلاة"، باب " إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد"، والنسائي

(1)

(3/ 316).

(2)

انظر: "تهذيب التهذيب"(12/ 206).

ص: 112

(3/ 180) من طريق محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن جعفر بن أبي وحشية، عن أبي عمير بن أنس، به.

وأخرجه ابن ماجه (1653) وفيه: (فجاء ركب من آخر النهار

).

وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه إسحاق بن راهويه، والخطابي، والبيهقي، واحتج به أحمد

(1)

، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن السكن وابن حزم

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الناس إذا لم يعلموا بعيد الفطر إلا بعد الزوال فإنهم يفطرون، ويصلون العيد من الغد في وقتها، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق

(3)

، وقال الشافعي: إن عدل الشاهدان قبل الزوال صلوا العيد، وإن عدلا بعد الزوال لم يصلوا يومهم بعد الزوال ولا من الغد

(4)

، وقال مالك: تصلي إذا ذهب وقتها

(5)

.

والراجح القول الأول؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، قال ابن المنذر:(حديث أبي عمير بن أنس ثابت، والقول به يجب)

(6)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"فتح الباري" لابن رجب (8/ 462)، "معرفة السنن والآثار"(5/ 112)، "السنن الكبرى"(3/ 316).

(2)

"التلخيص"(2/ 93).

(3)

انظر: "الهداية"(1/ 86)، "المغني"(3/ 286)، "المجموع"(5/ 27).

(4)

"الأم"(1/ 482).

(5)

"بداية المجتهد"(1/ 510).

(6)

"الأوسط"(4/ 295).

ص: 113

‌الأكل يوم الفطر قبل الخروج

487/ 3 - عن أنس رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات". أخرجه البخاري.

وفي رواية معلقة - ووصلها أحمد -: "ويأكلهن أفرادًا".

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " العيدين"، باب " الأكل يوم الفطر قبل الخروج"(953) من طريق سعيد بن سليمان، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس رضي الله عنه قال:

فذكره.

وقال البخاري عقبه: (وقال مرجى بن رجاء: حدثني عبيد الله، قال: حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ويأكلهن وترًا").

وهذه الرواية المعلقة وصلها الإمام أحمد (19/ 287) فقال: حدثني حرمي بن عمارة، قال: حدثني مرجى بن رجاء به، إلا أنه قال:" يأكلهن أفرادًا".

وبهذا يتبين وهم الحافظ رحمه الله في عزو اللفظ المذكور في " البلوغ" إلى البخاري وأحمد، وإنما هو لأحمد فقط، وأما لفظ البخاري فكما تقدم.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب أكل تمرات يوم عيد الفطر قبل الخروج إلى مصلى العيد، هذا هو الأفضل في وقتها أخذًا بظاهر الحديث، فإن أكلها قبل أن يصلي الفجر حصل المقصود؛ لأنه أكلها في النهار، ويستحب أن تكون وترًا، ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك

ص: 114

يقطعها على وتر؛ لأن الله تعالى وتر يحب الوتر، كما ثبت في " الصحيحين"، ولعل الحكمة من ذلك والله أعلم إظهار المبادرة إلى فطر هذا اليوم الذي أوجب الله فطره، وشكر لله تعالى على إنعامه وفضله، كما أن في ذلك تمييز هذا اليوم بالأكل عن الأيام التي قبله التي كان المسلم فيها صائمًا.

وفي ذلك فوائد صحية، فإن المعدة بعد النوم تكون فارغة من الطعام، والجسم قد تحللت مواد عناصره، ويحتاج إلى سرعة إسعاف بما يرد إليه قوته ونشاطه، واسرع مفعول لذلك هو التمر، ولهذا ينبغي الاقتصار عليه، فإن لم يجد تمرًا أكل غيره لتحصل السنة بالأكل قبل الخروج، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 115

‌حكم الأكل يوم الأضحى قبل الخروج

488/ 4 - عن ابن بريدة عن أبيه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي". رواه أحمد، والترمذي، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (38/ 87)، والترمذي (542) في أبواب " الصلاة"، باب " ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج"، وابن حبان (2812) من طريق ثواب بن عتبة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال:

فذكره.

وهذا الحديث إسناده حسن؛ لأن ثواب بن عتبة صدوق حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، والحديث صححه ابن حبان، والحاكم

(1)

، وابن القطان

(2)

، قال الحاكم:(هذه سنة عزيزة من طريق الرواية، مستفيضة في بلاد المسلمين).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يستحب في يوم الفطر أن يأكل قبل الخروج إلى المصلى كما تقدم؛ وأما في يوم الأضحى فيستحب ألا يأكل شيئًا حتى يصلي.

قال ابن القيم: (وكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات، ويأكلهن وترًا، وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى،

(1)

"المستدرك"(1/ 294).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 356).

ص: 116

فيأكل من أضحيته)

(1)

، وقال الشوكاني:(والحكمة في تأخير الفطر يوم الأضحى أنه يوم تشرع فيه الأضحية، والأكل منها، فشرع له أن يكون فطره على شيء منها)

(2)

، لكن شرعية أن يكون فطره على شيء منها يحتاج إلى دليل.

وقيده كثير من الفقهاء بما إذا كان له أضحية فإنه لا يأكل حتى يضحي، فإن لم يكن لديه أضحية لم يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"زاد المعاد"(1/ 441).

(2)

"نيل الأوطار"(3/ 329).

ص: 117

‌حكم خروج النساء لصلاة العيد

489/ 5 - عن أم عطية رضي الله عنه قالت: " أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين؛ يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من " صحيحه"، منها: كتاب " العيدين"، باب "خروج النساء والحيض إلى المصلى"(974)، ومسلم (890) من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها قالت:(أمرنا تعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين) وهذا لفظ مسلم.

والحديث له عدة طرق بألفاظ متعددة، ويبدو أن الحافظ قد تصرف في لفظ الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (العواتق) جمع عاتق، وهي الأنثى التي قاربت البلوغ.

قوله: (وذوات الخدور) أي: صاحبات الخدور، وهي جمع خدر، وهو ستر يجعل ناحية البيت للبكر تستتر به.

قوله: (الحيض) بضم الحاء وتشديد الياء، جمع حائض، وهي التي أصابها الحيض.

ص: 118

قوله: (يعتزلن مصلى المسلمين) أي: يتنحين عن مصلى المسلمين، وهو مكان صلاتهم العيد.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية خروج النساء لصلاة العيد، وظاهره أنه لا فرق بين العجائز والشابات، بشرط أن يكون ذلك على وجه تؤمن معه الفتنة بهن ومنهن، فيخرجن غير متطيبات، ولا متبرجات بزينة، بعيدات عن أماكن الرجال.

وخروجهن لصلاة العيد سنة بالشرط المذكور وليس بواجب؛ لأن من جملة من أمر بالخروج من ليس بمكلف وهن الحيض، ولا أعلم أحدًا قال بوجوبها على النساء، ولو قيل بذلك لحصل حرج عظيم، ولا سيما في زماننا هذا.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال بوجوب صلاة العيد على الرجال.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بحضور صلاة العيد وإخراج العواتق وذوات الخدور، بل أمر من لها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها، كما في بعض روايات حديث أم عطية في " الصحيحين"، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلبات، قال:"لتلبسها أختها من جلبابها"، وإذا ثبت هذا في حق النساء فالرجال من باب أولى.

وهذا مذهب الحنفية

(1)

، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، وابن القيم

(3)

، واختار هذا القول الصنعاني

(4)

، والشوكاني

(5)

، وابن سعدي

(6)

، والشيخ عبد العزيز بن باز

(7)

.

وقد نوزع في هذا الاستدلال من وجهين:

(1)

"بدائع الصنائع"(1/ 274 - 275).

(2)

"الفتاوى"(24/ 183).

(3)

"كتاب الصلاة" ص (29).

(4)

"سبل السلام"(3/ 228).

(5)

"نيل الأوطار"(1/ 315).

(6)

"المختارات الجلية" ص (72).

(7)

"الفتاوى"(13/ 7).

ص: 119

الأول: أن الحديث لا يدل على وجوب صلاة العيد؛ لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن المقصود منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر

(1)

.

الثاني: سلمنا أن الأمر للوجوب لكنه مصروف إلى الاستحباب بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد

" الحديث

(2)

، وكذا حديث أنس رضي الله عنه في قصة الأعرابي، وهو ضمام بن ثعلبة، لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجب عليه من الصلاة، فأجابه صلى الله عليه وسلم:" الصلوات الخمس"، فقال: هل علي غيرها؟ قال: " لا، إلا أن تطوع"

(3)

، ومثله حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

(4)

.

والقول الثاني: أن صلاة العيد فرض كفاية، فإذا حضرها بعد الناس سقط الإثم عن الباقين، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وهو من المفردات.

واستدلوا بقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالصلاة: صلاة العيد، والأمر للوجوب؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها، وهي من أعلام الدين الظاهرة؛ كالجمعة، وأما كونها غير واجبة على الأعيان فدليله ما تقدم من حديث عبادة وأنس رضي الله عنه.

والقول الثالث: أن صلاة العيد سنة، وهذا ظاهر قول المالكية والشافعية ورواية عن أحمد، واستدلوا بحديث عبادة وحديث أنس رضي الله عنه، وهما يدلان على أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس.

والذي يظهر والله أعلم أن صلاة العيد سنة مؤكدة في حق الرجال ينبغي حضورها إلا لعذر شرعي، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعدم تركها، إذ ليس مع القائلين بالوجوب دليل قوي، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(2/ 470).

(2)

أخرجه مالك (1/ 123)، وأبو داود (425)، والنسائي (1/ 230)، وهو حديث صحيح بطرقه.

(3)

أخرجه البخاري (63)، ومسلم (12).

(4)

أخرجه البخاري (46) ومسلم (11).

ص: 120

الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحيض أن يعتزلن المصلى، وهذا يدل على أن مصلى العيد مسجد، له حكم المساجد، ولو لم يكن كذلك لما منعت منه الحائض. وأجيب عن ذلك بأن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، فإذا جلست الحائض خلفهن أو قريبًا منهن فلا حرج، ما دام أنها لم تأخذ مكانًا من أمكنة المصلين، وعلى هذا فالاستدلال به على أنه مصلي العيد مسجد غير ظاهر

(1)

، والله أعلم.

* * *

(1)

انظر: "المجموع"(2/ 180)، "فتح الباري" لابن رجب (2/ 141 - 142).

ص: 121

‌تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد

490/ 6 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " العيدين" باب " الخطبة بعد الصلاة"(963)، ومسلم (888) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال:

فذكر الحديث.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنه تقديم صلاة العيد على الخطبة، وقد استمر العمل على ذلك حتى جاء مروان فخرج وخطب قبل الصلاة كما سيأتي إن شاء الله، قال ابن قدامة: (وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافًا بين المسلمين، إلا عن بني أمية

ولا يعتد بخلاف بني أمية؛ لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم، وعد بدعة، ومخالفًا للسنة)

(1)

.

وفائدة ذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنه، بيان أن الحكم لم ينسخ وأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته رضي الله عنه.

• الوجه الثالث: قد يأخذ بظاهر هذا الحديث من يقول بأن خطبة العيد واحدة

(2)

؛ لقوله: (بعد الخطبة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أنهى خطبته توجه إلى

(1)

"المغني"(3/ 276).

(2)

انظر: "الشرح الممتع"(5/ 191).

ص: 122

النساء ووعظهن، إما لعدم وصول الخطبة إليهن، أو لأنه أراد أن يخصهن بأمور تناسبهن، أو لكلا الأمرين.

والمشهور عند الفقهاء أن للعيد خطبتين، ويستدلون على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال:(خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائمًا ثم قعد قعدة ثم قام)

(1)

، وبما أخرجه الشافعي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد الفقهاء السبعة زمن التابعين أنه قال:(السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس)

(2)

.

كما استدلوا بالقياس على الجمعة، قالوا: والقياس يقوي مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ذكر ذلك الشوكاني

(3)

.

وظاهر الأحاديث الصحيحة أن خطبة العيد واحدة، لكن مضى سلف هذه الأمة على أنهما خطبتان، وقد نقل ابن حزم أن هذا مما لا خلاف فيه

(4)

.

وأما ما استدل به الفقهاء فهو غير ناهض على مشروعية الخطبة الثانية؛ لأن حديث جابر منكر سندًا ومتنًا، فإن المحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة، وفي سنده إسماعيل بن مسلم، وقد أجمعوا على ضعفه، كما قال البوصيري

(5)

، وفيه أبو الزبير، وهو مدلس، وقد عنعن.

وأما المرسل فقد قال عنه النووي: إنه ضعيف

(6)

، ومع ضعفه فلا دلالة فيه على الصحيح؛ لأن عبيد الله تابعي كما تقدم والتابعي إذا قال: من السنة كذا، فهو من قبيل الموقوف، لا من قبيل المرفوع، فيكون قول صحابي لم يثبت انتشاره، فلا يحتاج به على الصحيح، وحتى على القول بأنه مرفوع مرسل لا يحتج به.

وأما القياس، ففيه نظر، وعلى هذا فالمعول في أن للعيد خطبتين على ما نقله ابن حزم، وما فهمه فقهاء سلف هذه الأمة من النصوص الصحيحة، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه ابن ماجه (1289).

(2)

"مسند الشافعي"(1/ 176 ترتيبه).

(3)

"نيل الأوطار"(2/ 606).

(4)

"المحلى"(5/ 82).

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن رجب (453)، "الزوائد"(1/ 422).

(6)

"المجموع"(5/ 22)، "تنوير العينين" ص (243).

ص: 123

‌حكم النافلة قبل صلاة العيد وبعدها

491/ 7 - عن ابن عباس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها". أخرجه السبعة.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "العيدين" في عدة مواضع، منها: باب " الصلاة قبل العيد وبعدها"(969)، ومسلم (884)، وأبو داود (1159)، والترمذي (537)، والنسائي (3/ 193)، وابن ماجه (1291)، وأحمد (5/ 245) من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، وفي آخره زيادة:(ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية صلاة النافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا أمر به، فليس بمشروع في حقه فلا يكون مشروعًا في حقنا.

وهذا قول جماعة من الصحابة والتابعين، منهعم: ابن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنه، والحسن وسعيد رحمهما الله، وغيرهم، كما حكاه ابن المنذر

(1)

.

والقول الثاني: جواز الصلاة في مصلى العيد قبل الصلاة وبعدها إذا دخل المصلي بعد ارتفاع الشمس؛ لأن الصلاة مباحة في كل وقت إلا في

(1)

"الأوسط"(4/ 265).

ص: 124

أوقات النهي، ولم يثبت في المنع دليل، وهذا مروي عن أنس بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنه كما حكاه ابن المنذر، وهو منصوص الإمام الشافعي

(1)

، واختيار ابن المنذر

(2)

، وابن حزم

(3)

.

وهذا هو الراجح، فإن المنع ليس عليه دليل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التنفل في المصلى، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، فمن دخل مصلى العيد صلى تحية المسجد مطلقًا، فإن لم يكن وقت نهي جاز له أن يتنفل.

وأما حديث الباب فلا حجة فيه؛ لأنه وارد في حق الإمام، فإن ابن عباس رضي الله عنه إنما نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبلها أو بعدها، وقد أجمع العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي قبل العيد ولا بعدها في موضعها، وأما المأموم فلم يرد في حقه على منعه من التنفل فيبقى على الأصل.

فإن صليت العيد في بعض المساجد كما يحصل في زماننا هذا شرع للداخل أن يؤدي تحية المسجد، كما لو دخل لغير صلاة العيد قولًا واحدًا، بناءً على القول بجواز ذوات الأسباب في أوقات النهي، كما تقدم في " المواقيت" والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الأم"(1/ 268).

(2)

"الأوسط"(4/ 270).

(3)

"المحلى"(5/ 90).

ص: 125

‌ترك الأذان والإقامة لصلاة العيد

492/ 8 - وعنه رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بلا أذان ولا إقامة". أخرجه أبو داود، وأصله في البخاري.

• الكلام على وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب " ترك الأذان في العيد"(1147) من طريق يحيى، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر أو عثمان. شك يحيى، وهو ابن سعيد القطان، قال الحافظ:(إسناده صحيح)

(1)

.

وهذا الحديث أصله في البخاري (959)، ومسلم (886) من طريق ابن جريج أخبرني عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له، أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر، فلا يؤذن لها، قال: فلم يؤذن لها ابن الزبير، وأرسل مع ذلك، إنما الخطبة بعد الصلاة

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة، ولا نداء بأي لفظ كان، وقد نقل غير واحد من أهل العلم الاتفاق على أنه لم يفعل شيء من ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين، وقد حكى ذلك الإمام مالك في " موطئه"، وقد قدم في باب الأذان حديث جابر بن

(1)

"فتح الباري"(2/ 452).

ص: 126

سمرة صلى الله عليه وسلم قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة

(1)

، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في باب "الأذان"، والحمد لله رب العالمين.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (887).

ص: 127

‌جواز التطوع بركعتين

بعد الرجوع من المصلى

493/ 9 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين". رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب " إقامة الصلاة"، باب " ما جاء في الصلاة قبل العيد وبعدها"(1293) وأحمد (17/ 323 - 324) وابن خزيمة (1469) والحاكم (1/ 297) من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، به.

وهذا سند حسن كما قال الحافظ؛ لأن فيه ابن عقيل وهو متكلم فيه، كما تقدم

(1)

، وخلاصة ما قيل فيه: إنه صدوق، في حديثه لين، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن إذا لم يخالف، لكن يبدو أنه قد اضطرب في هذا الحديث، فقد رواه أحمد بن عبد الملك بن واقد، عن عبيد الله به، ولفظه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى)

(2)

، وأحمد ثقة، فترجح روايته على رواية ابن عقيل؛ لما تقدم، ولما قال الحاكم: (سنة

(1)

انظر: باب "التيمم"، عند حديث (128).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (2/ 162) ومن طريقه ابن عبد البر في "الاستذكار"(7/ 38).

ص: 128

عزيزة بإسناد صحيح) قال الحافظ ابن رجب: (كذا قال وابن عقيل مختلف فيه)

(1)

.

• الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية التطوع بصلاة ركعتين في البيت بعد الرجوع من مصلى العيد، وهذا لا يعارض ما تقدم من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل قبل العيد ولا بعدها؛ لأن الصلاة المنفية هي ما كانت في مصلى العيد، وفي هذا الحديث أنه صلى في منزله، فإذا رجع الإنسان إلى منزله وأراد أن يصلي فلا بأس؛ لهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"فتح الباري"(9/ 94)، وانظر:"تنوير العينين" ص (94).

ص: 129

‌مشروعية صلاة العيد في المصلى

وخطبة الناس

494/ 10 - وعنه؛ قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " العيدين"، باب " الخروج إلى المصلى بغير منبر"، (956)، ومسلم (889) من طريق عياض بن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف).

قال أبو سعيد: (فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإن مروان يريد أن يرتقيه أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة). هذا لفظ البخاري.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن السنة في صلاة العيد أن تكون

ص: 130

في المصلى لا في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى وترك مسجده مع ما ثبت فيه من الأجر العظيم، وكان مصلى العيد في عهده صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الشرقية من المسجد النبوي، كما يفيده حديث البراء رضي الله عنه

(1)

، بينه وبين المسجد ألف ذراع، ولا شقة في الخروج لها العدم تكررها.

ولعل من حكمة هذا الخروج والله أعلم إظهار شعائر الإسلام، وكثرة المسلمين في صعيد واحد خلف إمام واحد، يكبرون ويهللون ويدعون الله تعالى فرحين مستبشرين بهذه النعم العظيمة.

وسن في هذا الاجتماع الصلاة والخطبة، لئلا يكون شيء من اجتماعهم بغير ذكر الله تعالى وتنويه بشعائر الدين.

وظاهر الحديث أنه عام في جميع البلدان، إلا أن الجمهور استثنوا مكة شرفها الله تعالى، فقالوا: تصلى العيد في المسجد الحرام؛ لأنه خبر بقاع الأرض، ولأنه لا يوجد ساحة قريبة من المساكن أقرب من ساحة البيت الحرام؛ لأن مكة جبال وأودية فيشق على الناس أن يخرجوا، ولهذا لم ينقل أن أهل مكة خرجوا عن المسجد الحرام لصلاة العيد، وقد أشار الشافعي رحمه الله إلى هذا المعنى

(2)

.

فإن وجد عذر يمنع من الخروج إلى المصلى من مطر أو خوف أو ريح شديدة أو شدة برد أو نحو ذلك من الأعذار صليت في المسجد، كما سيأتي إن شاء الله.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية صلاة العيد، وقد قام الإجماع على أنها ركعتان، كما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنه.

أما من فاتته صلاة العيد فمن أهل العلم من قال: تقضي ركعتين كهيئتها؛ لأن القضاء يحكي الأداء، وبه قال أنس بن مالك رضي الله عنه، كما ذكر

(1)

أخرجه البخاري (976).

(2)

انظر: "الأم"(2/ 496).

ص: 131

البخاري عنه معلقًا

(1)

، ووصله ابن أبي شيبة

(2)

، وحكاه ابن المنذر

(3)

عن النخعي وابن سيرين وعطاء ومجاهد وعكرمة، وذكر ابن أبي شيبة بعض هذه الآثار

(4)

، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وهو رواية عن أحمد

(5)

.

والقول الثاني: أنها تصلى أربعًا، وبه قال جماعة: منهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد روي عنه ذلك بأسانيد صحيحة، وهو قول الإمام أحمد

(6)

.

والقول الثالث: أنها تصلى أربعًا، وبه قال جماعة: منهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد روي عنه ذلك بأسانيد صحيحة، وهو قول الإمام أحمد.

والقول الثالث: أنها لا تصلى إذا فاتت، وبه قالت الحنفية

(7)

، وهو قول المزني

(8)

، واختاره ابن عثيمين، وعزاه إلى ابن تيمية

(9)

، إذا لم يرد دليل عليه قضائها، ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.

والقول الأول اختاره ابن المنذر، وفيه وجاهة.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية خطبة العيد؛ لأن الناس يجتمعون لصلاة العيد أكثر من اجتماعهم لصلاة الجمعة، لكونهم في مكان واحد، فناسب أن يقوم الإمام بوعظ الناس وتذكيرهم بأوامر الله تعالى ونواهيه، وتحذيرهم من المنكرات والمحدثات التي انتشرت بين المسلمين، كما ينبغي أن تكون الخطبة مناسبة للوقت والحال، فيذكر في كل وقت وحال ما يناسبها.

وخطبة العيد كسائر الخطب، تفتتح بالحمد والثناء على الله تعالى، فإنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح خطبة العيد بالتكبير، كما ذكر ذلك ابن القيم

(10)

.

وينبغي للخطيب تخصيص النساء بخطبة إذا لم يسمعن خطبة الرجال، تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا سمعن بواسطة مكبرات الصوت فلا داعي

(1)

"فتح الباري"(2/ 474).

(2)

"المصنَّف"(2/ 183).

(3)

"الأوسط"(4/ 292).

(4)

"المصنَّف"(2/ 184).

(5)

"المغني"(3/ 285)، "فتح الباري" لابن رجب (9/ 75).

(6)

"مسائل أبي داود" ص (60)، و"ابن هانئ"(1/ 93).

(7)

"الهداية"(1/ 86).

(8)

"فتح الباري"(2/ 475).

(9)

"الشرح الممتع"(5/ 208).

(10)

"زاد المعاد"(1/ 447).

ص: 132

لتخصيصهن بخطبة، لكن يشير في خطبته إلى بعض ما يتعلق بالنساء من آداب وأحكام.

وحضور الخطبة ليس واجبًا، لكن ينبغي للمسلم أن يحضرها وأن يستفيد منها علمًا وعملًا، وقد روى عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة، قال:" إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب"

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (1155)، والنسائي (3/ 185)، وابن ماجه (1290)، وإسناده صحيح.

ص: 133

‌التكبير في صلاة العيد وعدده

495/ 11 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما". أخرجه أبو داود، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب " التكبيرات في العيدين"(1151) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، يحدث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره.

وأخرجه أيضًا (1152) على أنه سنة فعلية من طريق سليمان بن حيان، عن عبد الله الطائفي به، بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأول سبعًا، ثم يقرأ، ثم يكبر، ثم يقوم فيكبر أربعًا، ثم يقوم ثم يركع، قال أبو داود:(رواه وكيع وابن المبارك قالا: سبعًا وخمسًا).

ومقصود أبي داود بهذا بيان ضعف رواية سليمان بن حيان التي فيها أن التكبير في الثانية أربع.

وحديث الباب سنده حسن، وعبد الله الطائفي مختلف فيه، قال فيه أبو حاتم:(ليس بالقوي)، وقال ابن معين:(ضعيف)، وقال في موضع آخر:(صويلح)، وقال ابن عدي: (يروي عن عمرو بن شعيب أحاديثه مستقيمة،

ص: 134

وهو ممن يكتب حديثه)

(1)

، وقال الحافظ في " التقريب":(صدوق، يخطئ، ويهم)، وقد نقل الترمذي عن البخاري أنه صحح هذا الحديث.

(2)

ونقل الحافظ تصحيحه أيضًا عن أحمد وعلي بن المديني

(3)

.

ويشهد له عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما أخرجه مالك، عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه قال:(شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة رضي الله عنه فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة)، وإسناد صحيح، قال الإمام مالك عقبة:(وهو الأمر عندنا)

(4)

.

وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه: (أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الافتتاح، وفي الآخرة ستًا بتكبيرة الركعة، كلهن قبل القراءة)

(5)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية افتتاح صلاة العيد بالتكبير، فيقول:(الله أكبر) في الركعة الأولى ست مرات غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس مرات غير تكبيرة الانتقال من السجود إلى القيام، ثم يتعوذ ويقرأ الفاتحة، وهذه التكبيرات سنة إجماعًا؛ لأنه ذكر مشروع بين تكبيرة الإحرام والقراءة، أشبه دعاء الاستفتاح.

ويرفع يديه مع كل تكبيرة هذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول أبي حنيفة، وعزاه ابن المنذر إلى عطاء والأوزاعي والشافعي، ثم اختار القول به

(6)

؛ لعموم الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في تكبيرات الصلاة، ولا سيما في حالة القيام، وقال مالك: لا يرفع إلا عند تكبيرة الإحرام

(7)

، ولأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فأشبهت تكبيرات السجود، وقال الباجي:

(1)

"الكامل"(4/ 168)، "تهذيب التهذيب"(5/ 261).

(2)

"العلل الكبير"(1/ 288).

(3)

"التلخيص"(2/ 90).

(4)

"الموطأ"(1/ 180).

(5)

"المصنف"(2/ 173) وإسناده صحيح، كما قال الألباني، "الإرواء"(3/ 111).

(6)

"الأوسط"(4/ 282).

(7)

حكاه عنه ابن القاسم، كما في "المدونة الكبرى"(1/ 246).

ص: 135

وقد روي عن مالك أنه خير في رفع اليدين مع كل تكبيرة من الزوائد)

(1)

.

والأول أرجح، وأما تشبيهها بتكبيرات السجود ففيه نظر؛ لأن شبهها بتكبيرات القيام أقرب؛ لأنها بمنزلة تكبيرة الافتتاح.

وليس في الحديث ما يدل على شرعية ذكر معين بين التكبيرات، لكن ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يدل على أنه بين كل تكبيريتن حمد لله عز وجل وثناء على الله

(2)

؛ كأن يقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، والأمر في هذا واسع، فإن فعل فهو خير، وإن ترك فلا بأس؛ لأن الإمام قد يوالي بين التكبيرات فلا يكون هناك محل لذكر بينهما، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المنتقى"(1/ 319).

(2)

أخرجه البيهقي (3/ 291)، وإسناده جيد، كما في "الإرواء"(3/ 115).

ص: 136

‌ما يقرأ به في صلاة العيد

496/ 12 - عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأضحى والفطر بـ {ق} ، و {اقتربت} . أخرجه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو واقد بالقاف بعدها دال مهملة الليثي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث، ذكر ابن سعد أنه أسلم قديمًا، قيل: إنه شهد بدرًا، وقيل: لم يشهدها وأنه أسلم عام الفتح أو قبيل لك، بدليل قوله يوم خيبر:(ونحن حديثو عهد بكفر)، وقد رجح هذا أبو نعيم، ورد على من قال: إنه شهد بدرًا

(1)

، يعد في أهل المدينة، وجاور بمكة سنة، ومات بها سنة ثمان وستين رضي الله عنه

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " صلاة العيدين"، باب " ما يقرأ به في صلاة العيدين"(891) من طريق مالك، عن ضمرة بن سعد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة وانشق القمر} .

وهذا سند منقطع؛ لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يدرك

(1)

"معرفة الصحابة"(2/ 72).

(2)

"الاستيعاب"(12/ 180)، "الإصابة"(12/ 88).

ص: 137

أيام عمر ومسألته أبا وقد، لكن أخرجه مسلم من طريق ضمرة بن سعد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي واقد الليثي قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيد

(1)

.

وهذا سند متصل؛ لأن عبيد الله أدرك أبا واقد بلا شك، وسمعه بلا خلاف.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية القراءة بهاتين السورتين في صلاة العيد، وهما سورة {ق} و {اقتربت الساعة} ، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم ما اشتملت عليه السورتان من الإخبار عن ابتداء الخلق وذكر البعث والنشور وأحوال القيامة، كما أن فيهما الإخبار عن القرون الماضية وإهلاك المكذبين، وفي قراءتهما أيضًا تشبيه بروز الناس للعيد وخروجهم إلى المصلى ببروزهم للبعث وخروجهم كأنهم جراد منتشر، وكل ذلك فيه عظة للسامعين، وتوجيههم إلى الخير، وتذكيرهم بأهوال يوم القيامة.

وقد تقدم في باب " الجمعة" حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين)

(2)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من تواضع العالم الكبير أن يسأل من هو دونه؛ لأن عمر رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي مع أن عمر رضي الله عنه أقدم منه إسلامًا وأعلم منه وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر العلماء؛ كالقرطبي والنووي وغيرهما احتمالات عديدة لسؤال عمر أبا واقد، فمنها: أن عمر شك في ذلك فاستثبته من أبي واقد، أو أراد إعلام الناس بذلك، أو أنه نسي فاستذكر بسؤاله، وقيل غير ذلك

(3)

، والعلم عند الله تعالى.

(1)

"صحيح مسلم"(891).

(2)

أخرجه مسلم (878).

(3)

"المفهم"(2/ 532)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(5/ 432).

ص: 138

‌مشروعية مخالفة الطريق إذا خرج للعيد

497/ 13 - عن جابر رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه إذا كان يوم العبيد خالف الطريق". أخرجه البخاري.

498/ 14 - ولأبي داود؛ عن ابن عمر

نحوه.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب " العيدين"، باب "من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد"(986) من طريق أبي تميلة يحيى بن واضح، عن فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن جابر رضي الله عنه، به.

وفليح بن سليمان متكلم فيه، فقد قال الحافظ: (إنه مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود، ووثقة آخرون، فحديثه من قبيل الحسن، لكن له شواهد

يعضد بعضها بعضًا، فعلى هذا من القسم الثاني من قسمي الصحيح)

(1)

، ويقصد الصحيح لغيره.

وقد ذكر الحافظ

(2)

أن البخاري لا يخرج لمن تكلم العلماء فيهم، أمثال: فليح بن سليمان، وإسماعيل بن أبي أويس بعد تتبع مروياتهم وانتفاء ما تبين أنه ضبطه وشارك فيه الثقات.

وقد أخرج الترمذي هذا الحديث (541) وابن ماجه (1301) وأحمد

(1)

"فتح الباري"(2/ 472).

(2)

انظر: "هدي الساري" ص (384 - 391)، "تهذيب التهذيب"(1/ 273).

ص: 139

(14/ 166) والدارمي (1/ 317) وابن خزيمة (1468) وابن حبان (7/ 54) من طريق محمد بن الصلت، عن فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.

قال البخاري: (وحديث جابر أصح)، وقال الترمذي:(وحديث جابر كأنه أصح). ومنهم من رجح حديث أبي هريرة؛ كأبي مسعود الدمشقي والبيهقي، قال الحافظ:(ولم يظهر لي ترجيح)

(1)

، ولماذا لا يكون سعيد بن الحارث روى الحديث عن أبي هريرة وجابر؟ ومما يقوي ذلك اختلاف اللفظين، كما أشار إلى ذلك الحافظ، وقد ذكر الحافظ ابن رجب الاختلاف على فليح في إسناد هذا الحديث

(2)

.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود (1156) من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع من طريق آخر).

وهذا الحدي رجاله ثقات إلا عبد الله بن عمر العمري المكبر فهو ضعيف، وقد أعله الإمام أحمد وغيره بالوقف، وضعفه النووي

(3)

، لكن يشهد له الحديث الذي قبله، ولعل الحافظ ذكره؛ لأنه مفسر للحديث الذي قبله وإن لم يذكر بلفظه خشية لإطالة.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية مخالفة الطريق يوم العيد، وذلك بأن يذهب للمصلى من طريق ويرجع من آخر، وقد ذكر العلماء لهذا حكمًا كثيرة، فقيل: ليسلم على أهل الطريقين، وقيل: ليظهر شعائر الإسلام، وقيل: لإغاظة المنافقين، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل غير ذلك، والأقرب أنه خالف الطريق لحكم كثيرة؛ لأن حكم الشارع لا تعد ولا تحصى، قال النووي:(وإذا لم يعم السبب استحب التأسي مطلقًا، والله أعلم)

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(2/ 474).

(2)

"فتح الباري"(9/ 69).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن رجب (9/ 71 - 72)، "المجموع"(5/ 11).

(4)

"روضة الطالبين"(2/ 77)، "زاد المعاد"(1/ 448).

ص: 140

الوجه الثالث: الظاهر أن مخالفة الطريق تشريع عام، فيكون مستحبًا للإمام والمأموم، وهذا قول جمهور العلماء

(1)

.

• وهل يلحق بالعيد الجمعة وجميع الصلوات؟ قولان، والأظهر أن المخالفة في العيد شرعت لمعنى خاص فلا يلحق به غيره، فإنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الجمعة لنقل إلينا، والترك حجة شرعية، ثم إن المخالفة في الجمعة غير واردة؛ لقرب منزله صلى الله عليه وسلم، بخلاف العيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى، فتمكن المخالفة، والله أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(3/ 283)، "تحفة الأحوذي"(3/ 96).

ص: 141

‌استحباب إظهار السرور في العيدين

499/ 15 - عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:" قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر". أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب " صلاة العيدين" (1134) قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن حميد

، وأخرجه النسائي (3/ 179 - 180) قال: حدثنا علي بن حجر، قال: أنبأنا إسماعيل، قال: حدثنا حميد، به.

وهذا الحديث إسناده صحيح، ورواته كلهم ثقات حفاظ، وقد اتلف حماد بن سلمة وإسماعيل بن جعفر في الرواية عن حميد الطويل، وحميد رواه عن أنس رضي الله عنه.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

قوله: (ولهم يومان) أي: لأهل المدينة قبل مجي الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وهما: يوم النيروز، والمهرجان، والنيروز أول يوم تتحول فيه الشمس إلى برج الحمل، وهو أول السنة الشمسية، كما أن غرة محرم أول السنة القمرية، والمهرجان: أول يوم من برج الميزان، كما يظهر من مقابلته بالنيروز؛ لأن بينهما ستة أشهر.

ص: 142

قوله: (أبدلكم الله بهما) أي: في مقابلتهما، والمعنى: أن الله تعالى أبطل ما كانوا يعملون في هذين اليومين من أعمال الجاهلية، وشرع في مقابلتهما يومي العيدين.

قوله: (خيرًا منهما) هذا أفعل تفضيل ليس على بابه، إذ لا خيرية في يوميهما، وهذا يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الله تعالى جعل يوم الفطر ويوم الأضحى يومي بهجة وفرح وسرور واجتماع على طاعة الله تعالى بدلًا من أعياد الجاهلية القائمة على اللعب واللهو والغفلة.

فيوما الفطر والأضحى يومان عظيمان، فيهما شكر الله تعالى على ما من به من صيام رمضان وقيامه، وأداء ما تيسر من المناسك والأضاحي، وذلك كله خير عظيم.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن إظهار السرور في العيدين أمر مندوب إليه، وذلك من يسر الشريعة التي شرعها الله تعالى لعباده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبطل عيدي الجاهلية ذكر البديل عنهما لئلا تبقى النفوس متطلقة إليهما، ويأتي من يروج لهما، وذلك أن كل قوم لهم يوم يتخذونه عيدًا يتجملون فيه ويخرجون من بلادهم بزينتهم، العرب والعجم في ذلك سواء، فشرع الله تعالى للمسلمين هذين العيدين العظيمين.

وإظهار الفرح والسرور في العيدين مقيد بما ليس بمحظور أو شاغل عن طاعة الله تعالى، مما عليه كثير من الناس في هذا الزمان، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنه قالت:(دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار به يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا")

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (949)، ومسلم (892).

ص: 143

‌مشروعية الخروج إلى العيد ماشيًا

500/ 16 - عن علي رضي الله عنه قال: " من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا". رواه الترمذي وحسنه.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في كتاب " العيدين"، باب " ما جاء في المشي يوم العيد"(530) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب، قال:(من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا، وأن تأكل شيئًا قبل أن تخرج).

وهذا إسناد ضعيف جدًا من أجل الحارث هذا، وهو الأعور الهمداني فهو ضعيف جدًا، واتهمه بعضهم، ونقل الجوزجاني أن الشعبي كذبه، ثم قال:(سألت عليًا - يعني ابن المديني - عن عاصم والحارث؟ فقال لي: يا أبا إسحاق، مثلك يسأل عن ذا؟ الحارث كذاب)

(1)

، والمراد بعاصم: عاصم بن ضمرة.

وفيه أيضًا شريك بن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ، وقد تقدم ذكره.

وقد ورد في الباب أحاديث أخرى؛ كحديث ابن عمر، وسعد القرظ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وغيرها، وكلها أحاديث ضعيفة.

(1)

"أحوال الرجال" ص (46).

ص: 144

الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب المشي إلى مصلى العيد، قال الترمذي:(والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيًا، وأن يأكل شيئًا قبل أن يخرج لصلاة الفطر، وألا يركب إلا من عذر).

ودليل مشروعية المشي، عموما لأدلة؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار

"

(1)

، وصلاة العيد داخلة في هذا العموم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (610)، ومسلم (603).

ص: 145

‌جواز صلاة العيد في المسجد لعذر

501/ 17 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد". رواه أبو داود بإسناد لين.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب " يصلي با لناس العيد في المسجد إذا كان يوم مطر"(1160) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا رجل من الفرويين - وسماه الربيع في حديثه عيسى بن عبد الأعلى بن أبي فروة - سمع أبا يحيى عبيد الله التيمي يحدث عن أبي هريرة

ثم ذكره.

وهذا إسناد ضعيف؛ لأن عيسى بن عبد الأعلى مجهول، ولم يرو عنه سوى الوليد بن مسلم، والوليد كثير الرواية عن الضعفاء والمتروكين، قال الذهبي:(لا يكاد يعرف)، ولما ذكر حديثه هذا قال:(وهذا حديث فرد منكر)

(1)

، وقال ابن القطان:(لا أعلم عيسى هذا مذكورًا في شيء من كتب الرجال ولا في غير هذا الإسناد)

(2)

.

وكذا أبو يحيى التيمي، واسمه عبيد الله بن وهب بن موهب مجهول، كما قال الشافعي وابن القطان وغيرهما.

والحديث

(3)

حسنه النووي، وقال في موضع آخر:(إسناده جيد)

(4)

، وهذا فيه نظر، قال الألباني: (وكأنه اعتمد على سكوت أبي داود عليه، وهذا

(1)

"الميزان"(3/ 315).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 145).

(3)

"الخلاصة"(2/ 825).

(4)

"المجموع"(5/ 5).

ص: 146

ليس بشيء، فإن أبا داود كثيرًا ما يسكت على ما هو بين الضعف)

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه إذا وجد عذر يمنع من الخروج إلى مصلى العيد جاز أن تصلى في المسجد، وذلك كوجود مطر أو رياح شديدة أو خوف، ونحو ذلك، كما تقدم، وحديث الباب وإن كان ضعيفًا لكن العمل عليه عند أهل العلم، وقواعد الشريعة وعموماتها تدل على ذلك.

قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقال تعالى:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"صلاة العيدين في المصلى" ص (32).

(2)

أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

ص: 147

‌باب صلاة الكسوف

صلاة الكسوف: صلاة تفعل حدوث الكسوف، فإضافتها إليه من إضافة الشيء إلى سببه.

والكسوف والخسوف بمعنى واحد؛ فالكسوف مأخوذ من كسفت حاله؛ أي: تغيرت، والخسوف من خسف الشيء: ذهب إلى الأرض، وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان، فيقال: كسوف وخسوف، وقيل: الخسوف في الجميع، والكسوف في بعض

(1)

.

والكسوف: أن ينحجب ضوء الشمس أو القمر كليًا أو جزئيًا، ولا يقع الكسوف إلا بأمر الله تعالى، وقد جعل الله تعالى له سببين:

أحدهما: كوني، يدركه علماء الفلك بالحساب، كما ذكر ذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، فسبب خسوف القمر: توسط الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يكتسب ضوءه من الشمس، ولهذا لا يقع خسوف القمر إلا في وسط الشهر القمري، حيث يكون القمر مقابلًا للشمس من الناحية الأخرى، فيمكن أن تحول الأرض بينهما.

وأما كسوف الشمس فسببه حيلولة القمر بين الأرض والشمس، ولهذا لا يقع كسوف الشمس إلا في آخر الشهر القمري، حيث يدنو القمر من مدار الشمس، فيمكن أن يحول بينهما وبين الأرض

(2)

، ومع ذلك فلا يترتب على خير الفلكيين حكم شرعي؛ لأنها لا تصلي إلا برؤية الكسوف

(3)

، كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

"الصحاح"(4/ 1350، 1421)، "فتح الباري"(2/ 535).

(2)

انظر: "الفتاوى"(35/ 175)، "مفتاح دار السعادة"(2/ 206 - 207).

(3)

"الفتاوى"(24/ 258).

ص: 148

السبب الثاني: شرعي لا يدركه الناس، وإنما يعلم عن طريق الوحي، وهو إرادة الله تخويف عباده بذلك، إذ قد يكون إيذانًا بعقوبة، فإن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة، قال تعالى:{وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء: 59]، نسأل الله تعالى رحمته وعفوه وغفرانه، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي فعله عند حدوث الكسوف.

وقد ضعف شأن الكسوف عند كثير من الناس، وصار شيئًا عاديًا لا بسبب خوفًا ولا يدعو إلى الفزع، لما صاروا يعلمونه قبل وقوعه، وهذا جهل ناشئ من اعتقاد أنه لا يمكن اجتماع السبب الكوني والشرعي للكسوف، أو أنه ناشئ عن ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله تعالى، ولا تنافي بين الأسباب الكونية والشرعية، فإن عقوبات الله تعالى لعباده لها أسباب؛ فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، وثوران البراكين لها أسباب، وهكذا.

لقد صار الاهتمام في هذا الزمان بالسبب الكوني وإهمال السبب الشرعي، عكس ما ورد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرد في السنة بيان السبب الكوني، ولا عنيت الشريعة بتفاصيل ذلك، إذ لا فائدة للأمة من العلم به، والاطلاع عليه، بل نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن هذا علم قليل المنفعة

(1)

، وقال ابن القيم رحمه الله:(فشرع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة عند انعقاد هذا السبب، ما هو أنفع لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأن الكسوف وأسبابه)

(2)

.

لا ريب أن للكسوف أسبابًا، تدرك بالحساب، كما أن الصواعق والعواصف والزلازل المدمرة لها أسباب معلومة عند أهل المعرفة بها، لكن هذا لا يعني إبطال السبب الشرعي الذي هو تخويف العباد، أو محاولة إهماله ونسيانه وإبعاده عن أذهان الناس وعن العمل بمقتضاه، وأنه لا داعي للخوف

(1)

"الفتاوى"(35/ 175).

(2)

"مفتاح دار السعادة"(2/ 213).

ص: 149

عند حدوثه، إن في هذا ردًا للشرع، وإبطالًا لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى أسباب النجاة عند انعقاد أسباب العقوبات.

ثم لماذا هذا الاهتمام بوقت الكسوف والجزم بوقوعه والمبادرة بالإخبار به؟

إن مثل هذا لا نفع فيه، والجزم به من الخطأ البين؛ لأن الحساب يخطئ ويصيب، وقد كان علماء الدعوة في نجد ينكرون الجزم بوقت الكسوف، وينكرون نشره وإفشاءه، وينكرون على من يتوضأ ويستعد لصلاة الكسوف وهو لم يقع بعد

(1)

، وإذا ترتب على إفشائه مفاسد كما هو واقع الآن كان تركه متعينًا، ولا سيما في حق عامة الناس.

* * *

(1)

انظر: "فتاوى ابن إبراهيم"(1/ 169)، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه: إذا استعد لرؤية الكسوف بناءً على غلبة ظن المخبر كان هذا حثًا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته "الفتاوى"(24/ 258)، ولعل الأول أقرب إلى الصواب؛ لأنه لو استعدَّ لها ما صارت صلاة رهبة، بل صارت صلاة ركبة، والله أعلم. انظر:"فتاوى ابن عثيمين"(16/ 300).

ص: 150

‌الحكمة من الكسوف

وماذا يصنع إذا وقع

502/ 1 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا، حتى تنكشف". متفق عليه.

وفي رواية للبخاري: " حتى تنجلي".

503/ 2 - وللبخاري؛ من حديث أبي بكرة: " فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم".

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث المغيرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الكسوف"، باب " الصلاة في كسوف الشمس"(1043) من طريق شيبان أبي معاوية، ومسلم (915) من طريق زائدة، كلاهما عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول:

فذكره، وهذا لفظ البخاري إلا قوله:"حتى تنكشف" فقد تفرد به مسلم.

وأما الرواية المذكورة فهي عند البخاري في باب " الدعاء في الخسوف"(1060) من طريق زائدة قال: حدثنا زياد به، لكن بلفظ:" حتى ينجلي".

ص: 151

وأما حديث أبي بكرة رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور أولًا (1040) من طريق خالد، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دخل المسجد فدخلنا، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم:" إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا، وادعوا، حتى يكشف ما بكم".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

• قوله: (انكسفت الشمس) المحققون من أهل العلم على أن الكسوف لم يقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وهذا قول ابن تيمية وابن القيم وآخرين، وذهب الإمام الشافعي وابن حزم وجماعة إلى تعدد الكسوف في زمنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي ذلك.

قوله: (يوم مات إبراهيم) أي: ابنه صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وهو من مارية القبطية رضي الله عنها، وكان ميلاده في ذي الحجة سنة ثمان، مات وهو ابن ستة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا

(1)

.

قوله: (فقال الناس) أي: بعض الناس.

قوله: (انكسفت الشمس لموت إبراهيم) أي: لعظم المصيبة، وهذا كان من معتقدات الجاهلية، وهو أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيم، فجاء كسوفها في الوقت المناسب لإبطال هذه العقيدة، وهذا من حكمة الله تعالى.

قوله: (آيتان من آيات الله) أي: علامتان على كمال الله وقدرته وحكمته، وتصرفه في هذا الكون، وقد ورد في حديث أبي مسعود الأنصاري:" يخوف الله بهما عباده".

قوله: (لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) اللام للتعليل، وذكر الحياة لأجل التعميم، وهذا إبطال لاعتقاد الجاهلية، وفيه بيان أن الحوادث الأرضية

(1)

"البداية والنهاية"(8/ 244).

ص: 152

لا توثر في الشمس والقمر شيئًا، فلا ينكسفان لموت عظيم، وإنما ينكسفان بأمر الله تعالى تخويفًا للعباد.

قوله: (فإذا رأيتموهما) وفي رواية: " فإذا رأيتموها" بإفراد الضمير الذي يعود إلى الآية، وأما ضمير التثنية فمعناه: إذا رأيتم كسوف كل واحد منهما، لاستحالة وقوع ذلك فيهما معًا في حالة واحدة عادة.

قوله: (فادعوا الله) أي: بسؤاله الرحمة وكشف ما نزل بكم.

قوله: (وصلوا) أي: صلاة الكسوف، وهذا لفظ مجمل جاء بيانه بفعله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (حتى تنكشف) هذا اللفظ لمسلم فقط كما تقدم؛ أي: حتى تنكشف الآية، لكن المثبت في مسلم:" ينكشف" بالياء؛ أي: يرتفع ويزول ما حل بكم من الكسوف.

قوله: (حتى تنجلي) هكذا في نسخ " البلوغ"، والذي في البخاري:" حتى ينجلي" بالياء.

و (حتى) يحتمل أن تكون للتعليل، والمعنى: صلوا وادعوا لينكشف ما بكم، ويحتمل أن تكون للغاية، والمعنى: صلوا وادعوا إلى أن ينكشف، ولا مانع من حملها على المعنيين؛ إذ لا منافاة بينهما، والسياق صالح لهما.

قوله: (حتى يكشف ما بكم) أي: ما حلبكم، وأبهمه تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره، ولعل الحافظ ذكر هذا القدر من حديث أبي بكرة لهذا الغرض، والله أعلم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى الدالة على عظم قدرته وكمال تصرفه وواسع علمه ورحمته، وأنهما لا ينكسفان لموت أحد، وإنما حكمة كسوفهما تخويف العباد من آثار ذنوبهم وعقوباتها.

• الوجه الرابع: مشروعية صلاة الكسوف عند رؤيته، ولا يعتمد فيها على حساب الفلكيين؛ لقوله:" فإذا رأيتموهما"، وعلى هذا فلو أخبر بوقوع

ص: 153

خسوف للقمر، ولكننا لم نره لتراكم السحب فإنها لا تصلى صلاة الخسوف لمجرد قولهم.

وصلاة الكسوف سنة مؤكدة على قول جمهور أهل العلم، بل حكى النووي الإجماع على ذلك

(1)

، وصرح أبو عوانة بوجوبها

(2)

.

• الوجه الخامس: ظاهر الإطلاق في قوله: "صلوا" أنها تفعل كل وقت حتى في أوقات النهي، كما لو حصل بعد العصر مثلًا؛ لأنه موضع تشريع وبيان للأمة، ولو كانت لا تفعل في أوقات النهي لبين ذلك لأمته، وهذا قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد

(3)

.

والقول الثاني: أن الكسوف لا تصلى في أوقات النهي، وإنما يشتغلون بالدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، وهذا قول أبي حنيفة ومالك، والمشهور عن أحمد

(4)

، واستدلوا بأحاديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي.

والقول الأول أرجح؛ لأن الحديث في الكسوف خاص، فيقدم على النهي العام؛ لأن حديث النهي ضعف عمومه بتخصيصه بأحاديث أخرى، كما تقدم في " أوقات النهي"؛ ولأن صلاة الكسوف من ذوات الأسباب.

• الوجه السادس: ظاهر الحديث الأمر بالصلاة والدعاء عند رؤية الكسوف حتى ينكشف ما وقع، ولذا شرعت إطالة صلاة الكسوف، كما سيأتي إن شاء الله، فإن فرغ من الصلاة قبل انجلاء الكسوف، فالمشهور عند أهل العلم أنها لا تعاد؛ بل ينبغي الاشتغال لم يزد على ركعتين؛ ولأن قوله:" فصلوا، وادعوا، حتى يكشف ما بكم" يفيد ذلك، فإن جعل الغاية لمجموع الأمرين من الصلاة والدعاء.

• الوجه السابع: مشروعية الفزع إلى الدعاء عند رؤية الكسوف، لما في

(1)

"المجموع"(5/ 44).

(2)

"مسنده"(2/ 92).

(3)

"الأم"(1/ 527)، "المغني"(2/ 533)(3/ 332).

(4)

"الاستذكار"(7/ 105)، "بدائع الصنائع"(1/ 282)، "المغني"(3/ 332).

ص: 154

ذلك من جلب الرحمة ورفع العقوبة، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:"فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره"

(1)

، وفي حديث عائشة رضي الله عنه:" فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا"

(2)

.

وتأمل قوله: (فافزعوا) فإنه يدل على أمور ثلاثة:

الأول: الشعور بالخوف، فإن الأمر بالفزع يعني: أن نشعر بالخوف، وأن ندرك عظم الأمر حتى يتحقق الفزع، إذ لا يمكن فزع بدون خوف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم:" يخوف الله بهما عباده": (هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما سبب لنزول عذاب الناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان في ذلك تخويفًا، قال تعالى:{وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا}

(3)

.

الثاني: المبادرة بأداء المأمور به من الصلاة والدعاء والذكر والصدقة وغيرها.

الثالث: أن الالتجاء إلى الله تعالى والفرار إليه عند حصول المخاوف بالدعاء والاستغفار سبب للرضا ومحو ما فرط من العصيان وزوال المخاوف؛ لأن الذنوب سبب البلايا، والعقوبات العاجلة والآجلة، نسأل الله تعالى أن يلطف بنا

(4)

.

وتحقيق ما دلت عليه هذه اللفظة لا يكون إلا لمن كمل إيمانه بالله تعالى وبما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم قلبه من أمراض الشهوات وأمراض الشبهات، واستقامت حاله، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (1059).

(2)

أخرجه البخاري (1044).

(3)

"الفتاوى"(24/ 259).

(4)

انظر: "فتح الباري"(2/ 534).

ص: 155

‌مشروعية النداء لصلاة الكسوف

والجهر فيها بالقراءة

504/ 3 - عن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

وفي رواية له: فبعث مناديا ينادي: " الصلاة جامعة".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الكسوف" باب " الجهر بالقراءة في الكسوف"(1065)، ومسلم (901)(5) من طريق ابن شهاب الزهري، يخبر عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

وأما الرواية المذكورة فهي عند مسلم (901)(4) بلفظ: (فبعث مناديًا: الصلاة جامعة).

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (جهر في صلاة الكسوف) هكذا في نسخ "البلوغ"، والذي في "الصحيحين":(صلاة الخسوف).

قوله: (الصلاة جامعة) يجوز رفعهما على أنهما مبتدأ وخبر، ويجوز نصبهما، الأول بفعل محذوف؛ أي: احضروا الصلاة، والثاني: حال.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الجهر في صلاة الكسوف، سواء أكانت في النهار لكسوف الشمس أم في الليل لخسوف

ص: 156

القمر، لأنها نافلة شرعت لها الجماعة، فكان من سنتها الجهر؛ كصلاة الاستسقاء، والعيد والتراويح.

والحديث وإن كان واردًا في كسوف الشمس فالقمر مثله، لجمعه صلى الله عليه وسلم بينهما في الحكم، حيث قال:" فإذا رأيتموهما"، والأصل استواؤهما في كيفية الصلاة ونحوها.

وهذا قول الإمام أحمد، وإسحاق، وابن حزم، وابن المنذر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من أهل الحديث

(1)

.

والقول الثاني: أنه لا يشرع الجهر في صلاة الكسوف إن كانت نهارية، ويشرع فيها إذا كانت ليلية، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ومالك

(2)

، واستدلوا بحديث ابن عباس الآتي: " فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة

"، قالوا: ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة لذكر ابن عباس ما قرأ به، ولم يقدر ذلك بغيره.

كما احتجوا بحديث سمرة رضي الله عنه: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف لا نسمع له صوتًا)

(3)

.

والراجح الأول لقوة دليله، وصراحته في المراد، فإنه صريح في الجهر في صلاة كسوف الشمس وهي صلاة نهارية، والقياس على الاستسقاء والعيدين قياس قوي، فقد نقل ابن المنذر قول إسحاق بن راهوية:(لو لم يأت في ذلك سنة لكان أشبه الأمر من الجهر تشبيهًا بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وكل ذلك نهارًا)

(4)

.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فليس صريحًا في نفي الجهر، بل يطرقه

(1)

"المغني"(3/ 325)، "المحلى"(5/ 101 - 102)، "الاختيارات" ص (84).

(2)

"الهداية"(1/ 88)، "المهذب"(1/ 169)، "مختصر خليل" ص (43).

(3)

أخرجه أبو داود (1184)، والترمذي (562)، والنسائي (3/ 140)، وابن ماجه (1264)، وأحمد (33/ 330) من طريق الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، عن سمرة رضي الله عنه.

(4)

"الأوسط"(5/ 298).

ص: 157

احتمالات عديدة، منها: أنه يحتمل أن ابن عباس نسي ما قرأ به، وحفظ قدر قراءته، فقدرها بالبقرة، فإن الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه، أو يقال: إنه لا يصح الاستدلال به فإنه ما سبق لموضوع الإسرار، وإنما أراد بيان مقدار قيام النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا.

وأما حديث سمرة رضي الله عنه فهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية ثعلبة بن عباد، وهو مجهول، تفرد بالرواية عنه الأسود بن قيس، كما ذكر الذهبي

(1)

، ولم يوثقه إلا ابن حبان، ونقل الحافظ أن ابن المديني ذكره في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس

(2)

، وبه أعله ابن حزم

(3)

.

ومثل هذا الحديث لا يصح أن يقف في معارضة ما ثبت في " الصحيحين"، ثم لو صح لم يكن فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يجهر، وإنما فيه:(لا نسمع له صوتًا)، ولا يلزم من نفي سماع الصوت نفي الجهر، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعته عائشة رضي الله عنها التي كانت قريبًا من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق

(4)

.

وعلى هذا فأحاديث الجهر صحيحة صريحة، فلا يقدم عليها ما فقد هذين الوصفين.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية النداء لصلاة الكسوف بلفظ: " الصلاة جامعة"، وقد ورد في " الصحيحين" حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:(لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: إن الصلاة جامعة)، ولم يرد في السنة تحديد عدد مرات النداء، فالظاهر أنه ينادي لها بقدر ما يحصل به إسماع الناس، وليس لها أذان ولا إقامة ولا ينادي لغيرها من النوافل؛ كالعيدين ولا الاستسقاء؛ لأنه لم يرد النداء بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاة الكسوف، فيكون النداء لغيرها من البدع المحدثة، وتقدم ذلك في باب "صلاة العيدين"، والله تعالى أعلم.

(1)

"الميزان"(1/ 371).

(2)

"تهذيب التهذيب"(2/ 22).

(3)

"المحلى"(5/ 102).

(4)

انظر: "المحلى"(5/ 102).

ص: 158

‌كيفية صلاة الكسوف

505/ 4 - عن ابن عباس رصي الله عنه قال: " انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس". متفق عليه، واللفظ للبخاري.

506/ 5 - وفي رواية لمسلم: " صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات".

507/ 6 - وعن علي رضي الله عنه، مثل ذلك.

508/ 7 - وله، عن جابر رضي الله عنه:" صلى ست ركعات بأربع سجدات".

509/ 8 - ولأبي داود، عن أبي بن كعب رضي الله عنه:" صلى، فركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، وفعل في الثانية مثل ذلك".

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الكسوف"،

ص: 159

باب "صلاة الكسوف جماعة"(1052)، ومسلم (907) من طريق مالك قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنه.

وهذا لفظ البخاري كما ذكر الحافظ إلا أن قوله في آخره: (فخطب الناس) ليس من نص الحديث، وإنما هو من كلام الحافظ؛ لأن الذي ورد في مسلم: (ثم انصرف، وقد انجلت الشمس فقال: "إن الشمس والقمر آيتان

" إلخ، فعبر عن ذلك بقوله: فخطب الناس.

وأما رواية مسلم فهي من طريق سفيان، عن حبيب، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه.

وهذه الرواية ضعفها ابن حبان، فإنه قال:(خبر حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كسوف الشمس ثماني ركعات وأربع سجدات، ليس بصحيح؛ لأن حبيبًا لم يسمع من طاوس هذا الخبر)

(1)

.

وضعفه أيضًا البيهقي، فإنه قال: (وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، ويحتمل أن يكون حمله عن غير موثوق به عن طاووس

)

(2)

.

والمقصود أن المحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنه في صفة صلاة الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات، وهو الذي اتفق عليه الشيخان، وهو الموافق لحديث عائشة المتفق عليه أيضًا وما عدا ذلك من حديث ابن عباس فهو شاذ.

وأما حديث علي رضي الله عنه، فقد أشار إليه مسلم في آخر سياق حديث ابن عباس الذي قبل هذا، فإنه قال في آخره:(وعن علي مثل ذلك).

فلم يذكر إسناده ولا لفظه، وإنما أحال على ما قبله، وقد أخرجه الإمام أحمد (2/ 389 - 390) من طريق حنش، عن علي رضي الله عنه، وساقه بتمامه.

وهو حديث ضعيف؛ لأن حنش بن المعتمر متكلم فيه، قال ابن حبان:

(1)

"صحيح ابن حبان"(7/ 98).

(2)

"السنن الكبرى"(3/ 327).

ص: 160

(كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي رضي الله عنه بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج به)

(1)

، وذكره العقيلي في " الضعفاء"

(2)

، وقد تفرد بهذا الخبر عن علي رضي الله عنه فيكون ضعيفا.

وأما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم (904)(10) من طريق عبد الملك، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، به.

وأخرجه مسلم أيضًا (904)(9) من طريق إسماعيل بن علية، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله

وساق الحديث إلى أن قال: (فكانت أربع ركعات وأربع سجدات)، وهذا هو المحفوظ عن جابر؛ لأمرين:

الأول: أن رواية هشام أولى، لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك بن أبي سليمان الذي أخذ عليه الغلط في غير حديث.

الثاني: أن رواية هشام في عدد الركعات موافقة لحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنه، كما تقدم.

وأما حديث أبي بن كعب، فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب "من قال: أربع ركعات (1182) من طريق الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، به.

وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه أبا جعفر الرازي، واسمه عيسى بن أبي عيسى التميمي، قال عنه الإمام أحمد:(ليس بقوي في الحديث)، وقال أبو زرعة:(شيخ يهم كثيرًا)، وقال ابن حبان:(كان ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إلا فيما وافق الثقات، ولا يجوز الاعتبار بروايته فيما يخالف الأثبات)

(3)

.

• الوجه الثاني: دل حديث ابن عباس رضي الله عنه المتفق عليه أن صلاة

(1)

"المجروحين"(1/ 333).

(2)

(1/ 288).

(3)

"المجروحين"(2/ 101)، "تهذيب التهذيب"(12/ 59).

ص: 161

الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وسجودان، يطيل فيهما القيام والركوع والسجود والقعود، كل واحد من ذلك أطل مما بعده.

ودل على هذه الصفة أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، وقد تقدم قبل هذا.

ولا خلاف بين العلماء أن صلاة الكسوف ركعتان، ولم تختلف الأحاديث في ذلك، وإنما اختلف في عدد الركوع في كل ركعة، ففي بعضها في كل ركعة ركوعان، كما في حديث ابن عباس وحديث عائشة رضي الله عنها، وفي بعضها في كل ركعة أربع ركوعات، كما في رواية مسلم من حديث ابن عباس وحديث علي رضي الله عنه، وفي بعضها: في كل ركعة خمس ركوعات، كما في حديث أبي بن كعب، وهذا أكثر ما ورد، وللعلماء في هذه الأحاديث مسلكان:

الأول: القول بتعدد الكسوف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلاها عدة مرات بصفات مختلفة، وقد عزى الحافظ القول بالتعدد إلى إسحاق

(1)

، مع أنه لم يثبت عنه الزيادة على أربع ركوعات، والذي نقله عنه ابن المنذر يفيد أن زيادة الركوعات عند عدم الانجلاء

(2)

.

لكن يشكل على ذلك أنه ورد في هذه الروايات ذكر موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يتعدد، فعلم أن الواقعة واحدة.

الثاني: القول بعدم تعدد الكسوف وترجيح ما عند البخاري ومسلم على ما عند مسلم فقط، فما اتفق عليه الشيخان في صفة صلاة الكسوف مقدم على ما انفرد به مسلم، كما تقدم، فيحكم عليه بالشذوذ؛ لأن الثقة خالف من هو أوثق منه، وتخطئة من دون الأثبات مقدم على تخطئة الأثبات.

ومما يؤيد القول بعدم التعدد أن أحاديث الكسوف دلت بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتها، والمدة بين كسوفها وموت إبراهيم وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

"فتح الباري"(2/ 532).

(2)

"الأوسط"(5/ 303).

ص: 162

لا تزيد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف وقع مرة أخرى وصلي لتواترت الهمم والدواعي على نقل ذلك، كما نقل ما قبله بأسانيد كثيرة.

وأصح حديث في صفة صلاة الكسوف هو حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في "الصحيحين"؛ لأنه لم يختلف عليه فيه، وهو الذي ساقه صاحب " العمدة"، أما حديث ابن عباس رضي الله عنه فهو ثابت في " الصحيحين" أيضًا، لكن ورد فيه اختلاف، كما تقدم في رواية مسلم.

• الوجه الثالث: استدل بعض العلماء بقول عائشة رضي الله عنها: (ثم قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "هما آيتان

" الحديث

(1)

، وفي رواية قالت: (فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه

) الحديث

(2)

، على مشروعية الخطبة بعد صلاة الكسوف، وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد، وقول إسحاق، وأكثر أصحاب الحديث

(3)

.

والقول الثاني: أنه لا يشرع للكسوف خطبة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقول أبي حنيفة، ومالك

(4)

؛ لأن الخطبة لم تنقل، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم فليس بخطبة، وإنما أراد أن يبين للناس الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، قالوا: ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر الناس بالصلاة والدعاء والصدقة والاستغفار، ولم يأمرهم بخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها.

والقول الأول أظهر، وهو استحباب خطبة بعد الكسوف، أو يلقي الإمام كلمة في وعظ الناس وحثهم على التقوى والاستغفار والصدقة وبيان أن المعاصي أسباب لغضب الله وعقوبته وأن الطاعة سبب للخير، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901)(6).

(2)

أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901)(1).

(3)

"الإنصاف"(2/ 448)، "المهذب"(1/ 169).

(4)

"المغني"(3/ 328)، "مختصر خليل" ص (43)، "الهداية" ص (88).

ص: 163

‌ما يقال عند هبوب الريح

510/ 9 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وقال:" اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا". رواه الشافعي، والطبراني.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الشافعي في "مسنده"(1/ 199 ترتيبه) وفي "الأم"(1/ 289) قال: أخبرني من لا أتهم، قال: حدثني العلاء بن راشد، وأخرجه الطبراني في " الكبير"(11/ 213 - 214) من طريق الحسين بن قيس، وفي "الدعاء"(977) من طريق حسن بن عبد الله، ثلاثتهم عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:(ما هبت ريح إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: " اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا").

وهذا الحديث ضعيف جدًا، أما إسناد الشافعي ففيه شيخ الشافعي، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال الربيع بن سليمان: إذا قال الشافعي: (أخبرني من لا أتهم) فإنه يريد بذلك إبراهيم بن أبي يحيى، وإبراهيم هذا متهم عند الأئمة، وقواه الشافعي.

قال يحيى بن سعيد القطان: (سألت مالكًا عنه: أكان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه)، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(كان قدريًا معتزليًا جهميًا، كل بلاء فيه)، وفي رواية عنه قال: (لا يكتب حديثه، ترك الناس حديثه، كان يروي أحاديث منكرة لا أصل لها، وكان يأخذ أحاديث الناس

ص: 164

ويضعها في كتبه)

(1)

.

وأما إسناد الطبراني في " الكبير" ففيه الحسين بن قيس الرحبي، ضعيف جدًا، قال عنه أحمد:(ليس حديثه بشيء، لا أروي عنه شيئًا)، وفي رواية قال:(متروك الحديث)، وضعفه ابن معين وأبو زرعة والنسائي، وقال أبو حاتم:(ضعيف الحديث، منكر الحديث)

(2)

، وقال البخاري:(أحاديثه منكرة جدًا، ولا يكتب حديثه)، وقال مسلم:(منكر الحديث)، وأما إسناده في "الدعاء" ففيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو ضعيف، كما في " التقريب".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على ما ينبغي أن يقال عند هبوب الريح، لأن الريح بلفظ الإفراد لا تأتي إلا بالعذاب، قال تعالى:{إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا} [القمر: 19]، وقال تعالى: {

إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات: 41]، وأما الرياح فإنها بشائر خير، قال تعالى: {وأرسلنا الريح لواقح

} [الحجر: 22]، وقال تعالى: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات

} [الروم: 46].

والحديث ضعيف كما تقدم، لكن ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به")

(3)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"تهذيب التهذيب"(1/ 137).

(2)

"تهذيب التهذيب"(2/ 313).

(3)

"صحيح مسلم"(899).

ص: 165

‌حكم الصلاة عند الزلزلة وصفتها

511/ 10 - وعنه: " أنه صلى في زلزلة ست ركعات وأربع سجدا، وقال: هكذا صلاة الآيات" رواه البيهقي.

512/ 11 - وذكر الشافعي؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله؛ دون آخره.

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنه، فقد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى"، في كتاب " صلاة الكسوف"، باب " من صلى في الزلزلة بزيادة عدد الركوع والقيام قياسًا على صلاة الخسوف"(3/ 343) من طريق معمر، عن قتادة وعاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس أنه صلى في الزلزلة بالبصرة، فأطال القنوت ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع ثم سجد، ثم صلى الثانية، ثم قام في الثانية ففعل كذلك، فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات، ثم قال:(هكذا صلاة الآيات)، وهذا الأثر صححه البيهقي، وقال:(هو عن ابن عباس ثابت) وله طرق أخرى عن ابن عباس عند عبد الرزاق

(1)

.

أما حديث علي رضي الله عنه، فقد أخرجه البيهقي أيضًا من طريق الإمام الشافعي، حيث ذكره بلاغًا عن عباد بن عاصم الأحول، عن قزعة عن

(1)

"المصنف"(3/ 98 - 104).

ص: 166

علي رضي الله عنه أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات، خمس ركعات وسجدتين، وركعة وسجدتين في ركعة.

وهذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه من لم يسم، فهو منقطع، ولهذا قال البيهقي عقبه:(قال الشافعي: ولو ثبت هذا الحديث عندنا عن علي رضي الله عنه لقنا به)، وضعفه أيضًا النووي، وقال: (إنه لم يثبت عن علي رضي الله عنه

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الصلاة عند حدوث الآيات كالزلزلة، وهي رجفة الأرض واضطرابها، والريح الشديدة غير المعهودة، ونحو ذلك، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه من آيات الله يخوف بها عباده، فإذا كانت الصلاة تشرع عند الكسوف؛ لأنه آية، فإنها تشرع عند حدوث الآيات، وظاهر فعل ابن عباس أنه صلى بهم جماعة.

وقد أخرج أبو داود والترمذي من طريق سلم بن جعفر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال:(قيل لابن عباس بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة، لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فسجد، قيل له: أتسجد هذه الساعة؟ فقال: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم آية فاسجدوا"، فأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم")

(2)

.

وهذا الحديث إسناده حسن، قال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، وقال النووي:(رواه أبو داود والترمذي في كتاب "المناقب" بإسنادين صحيحين)

(3)

.

وهذا مشكل على قول الترمذي: (إنه غريب)؛ إلا أن يراد به من رواه عن سلم بن جعفر، وهما شيخا أبي داود والترمذي؛ وإلا فليس له إسناد واحد، والله أعلم.

(1)

"الخلاصة"(2/ 865).

(2)

أخرجه أبو داود (1197)، والترمذي (3891) وحسَّنه، وحسَّنه -أيضًا- البغوي (1156)، والألباني في "صحيح سنن الترمذي"(3/ 244).

(3)

"الخلاصة"(2/ 866).

ص: 167

والقول بالصلاة عند الزلزلة هو المذهب المنصوص عليه عند الحنابلة، وهو قول الحنفية والظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

والقول الثاني: أن لا يصلي للزلزلة ولا لغيرها من الآيات سوى الكسوف، وهو قول المالكية والشافعية

(2)

، مستدلين بأن هذه الآيات قد كانت، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لها جماعة غير الكسوف، والقول الأول أرجح؛ لقوة مأخذه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المحلى"(5/ 96)، "المغني"(3/ 332)، "الاختيارات" ص (84).

(2)

"الاستذكار"(7/ 109)، "المجموع"(5/ 55).

ص: 168

‌باب صلاة الاستسقاء

صلاة الاستسقاء من إضافة الشيء إلى سببه؛ أي: الصلاة لأجل الاستسقاء.

والاستسقاء طلب السقيا، سواء أكان من الله تعالى أم من مخلوق، كما لو قلت لشخص: اسقني ماء؛ لأن السين والتاء للطلب، والمراد هنا: سؤال الله تعالى إنزال المطر عند التضرر بفقده.

وهي مشروعة إذا أجدبت الأرض وامتنع المطر، وتضرر الناس، وكذا إذا ضرهم غور ماء العيون أو الأنهار.

والاستسقاء ثلاثة أنواع:

1 -

السؤال من كل واحد من الناس، وقد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم بدون صلاة، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقال:" اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا غدقًا طبقًا عاجلًا غير رائث نافعًا غير ضار"

(1)

.

2 -

سؤال الخطيب حال الخطبة يوم الجمعة، وهذا دل عليه حديث أنس رضي الله عنه الآتي.

3 -

سؤال الخطيب حال خطبة صلاة الاستسقاء، وهذا النوع هو المراد بهذا الباب.

* * *

(1)

أخرجه ابن ماجه (1269)، والطبراني في "الكبير"(12/ 130)، وفي "الدعاء"(2195).

ص: 169

‌مشروعية صلاة الاستسقاء

وكيفية الخروج لها

513/ 1 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " خرج النبي صلى الله عيه وسلم متواضعًا، متبذلًا، متخشعًا، مترسلًا، متضرعًا، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد، لم يخطب خطبتكم هذه". رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأبو عوانة، وابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب "جماع أبوب الاستسقاء وتفريعها"(1165)، والترمذي (558 - 559)، والنسائي (3/ 163)، وابن ماجه (1266)، وأحمد (3/ 478)، وأبو عوانة (2/ 122 - 123)، وابن حبان (2861) كلهم من طريق هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه قال: أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أسأله عن الاستسقاء، فقال ابن عباس:(ما منعه أن يسألني؟ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعًا متبذلًا متخشعًا متضرعًا فصلى ركعتين، كما يصلي في العيدين، ولم يخطب خطبتكم هذه).

هذا لفظ النسائي، ووقع التصريح باسم الأمير عند أبي داود، فقال إسحاق بن عبد الله:(أرسلني الوليد بن عقبة، وهو أمير المدينة).

وهذا الحديث قال عنده الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وصححه أبو عوانة

(1)

، وابن خزيمة

(2)

، وابن حبان، وكذا النووي

(3)

.

(1)

"مسند أبي عوانة"(2/ 122).

(2)

"صحيح ابن خزيمة"(1045).

(3)

"المجموع"(3/ 134).

ص: 170

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر هذا أن المراد خرج إلى الصحراء، وصلاة الاستسقاء تجوز في المساجد، لكنها في الصحراء أبلغ في الخشوع وأقوى من التذلل.

قوله: (متواضعًا) أي: مظهرًا للتواضع.

قوله: (متبذلًا) بمثناة ثم موحدة ثم ذال معجمة، من التبذل: وهو ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع، على خلاف عادته في الجمعة والعيدين.

قوله: (متخشعًا) التخشع: هو التذلل ورمي البصر إلى الأرض وخفض الصوت وسكون الأعضاء، قال الراغب:(أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب)

(1)

.

قوله: (مترسلًا) من الترسل في المشي؛ أي: متأنيًا في مشيته، عليه سيما السكينة والوقار.

قوله: (متضرعًا) التضرع: هو المبالغة في السؤال والرغبة، والابتهال إلى الله تعالى في الدعاء مع حضور القلب وامتلائه بالهيبة والخوف من الله.

قوله: (لم يخطب خطبتكم هذه) أي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يخطب في الاستسقاء مثل خطبة الجمعة والعيد، بل خطب خطبة أخرى أكثر فيها من الدعاء والاستغفار والتضرع، كما سيأتي في الحديث الثاني.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية صلاة الاستسقاء عند وجود سببها، وهي ركعتان عند جمهور العلماء، وخالف في هذا الحنيفة على المشهور عندهم فقالوا: لا صلاة في الاستسقاء، إنما فيه الدعاء، قالوا: ولو كانت الصلاة ثابتة لاشتهر نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به

(2)

.

(1)

"المفردات" ص (149).

(2)

"الهداية"(1/ 88).

ص: 171

وهذا كلام لا يعول عليه ولا يلتفت إليه، فإن حديث الباب حجة عليهم، وحديث عبد الله بن زيد الذي وصفوه بالشذوذ ثابت في " الصحيحين"، كما سيأتي.

وصفتها كصفة صلاة العيد، فتبدأ بالتكبير، على ما تقدم.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن صلاة الاستسقاء تكون في مصلى العيد في الصحراء. هذا هو الأفضل، ليكون أبلغ في إظهار الافتقار والضراعة إلى الله عز وجل.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على صفة الخروج إلى الاستسقاء، فيخرج على الصفة المذكورة في الحديث، فلا يلبس ثياب الزينة ولا يتطيب، ويكون متخشعًا في مشيته وجلوسه في خضوع وتضرع إلى الله تعالى، الإمام والمأموم في ذلك سواء، والله تعالى أعلم.

ص: 172

‌كيفية صلاة الاستسقاء وخطبته

514/ 2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال:" إنكم شكوتكم جدب دياركم وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم".

ثم قال: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغًا إلى حين".

ثم رفع يديه، فلم يزل حتى رثي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، وصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت، وبرقت، ثم أمطرت. رواه أبو داود وقال: غريب، وإسناده جيد.

515/ 3 - وقصة التحويل في "الصحيح" من حديث عبد الله بن زيد، وفيه:"فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة".

516/ 4 - وللدار قطني من مرسل أبي جعفر الباقر: " وحول رداءه ليتحول القحط".

ص: 173

الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الصلاة"، باب " رفع اليدين في الاستسقاء"(1173) من طريق خالد بن نزار، قال: حدثني القاسم بن مبرور، عن يونس بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه أيضًا ابن ح بان (7/ 109)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار"(1/ 325)، والطبراني في "الدعاء"(3/ 1769 - 1770 - 1771 - 1780)، والحاكم (1/ 328)، والبيهقي (3/ 349).

قال أبو داود عقبه: (هذا حديث غريب، إسناده جيد)، وغرضه بذلك بيان حال الحديث وأنه صالح للاحتجاج به، وقد، تفرد به خالد بن نزار، وهو يغرب، وقد ذكره ابن حبان في " الثقات"، وقل عنه:(يغرب ويخطئ)

(1)

، وأخرج له حديثه هذا في " صحيحه" كما تقدم.

وأما حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في عشرة مواضع من كتاب "الاستسقاء" منها: باب " الجهر بالقراءة في الاستسقاء"(1024)، ومسلم (894)(4) من طريق الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد به، وليس عند مسلم ذكر الجهر بالقراءة.

وأما مرسل أبي جعفر، فقد أخرجه الدارقطني (2/ 66) من طريق حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه

وذكره.

وأبو جعفر الباقر هو محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فأكثر، فخبره هذا مرسل على اصطلاح المتقدمين، ومعضل على اصطلاح بعض المتأخرين، والمرسل ليس بحجة عند الأكثرين، والمعضل أولى منه بذلك، لكن يستأنس به، إذ ليس في قبوله إثبات حكم شرعي.

(1)

"الثقات"(8/ 223).

ص: 174

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (شكا الناس) أي: أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم عن مكروه أصابهم لأجل أن يستسقي لهم.

قوله: (قحوط المطر) بضم القاف والحاء المهملة، مصدر قحط، من باب (خضع) كالقحط، أو هو جمع قحط، وهو انحباس المطر وانقطاعه، وأضيف إلى المطر للإشارة إلى عمومه في بلدان شتى.

قوله: (فأمر بمنبر) من النبر: وهو الرفع؛ لأنه يتخذ للارتفاع عليه وتعلية الصوت، وكل شيء مرتفع فهو منبر، وقد شكك ابن القيم في ثبوت لفظه:(فأمر بمنبر) ولعل وجه ذلك أنه لم يثبت إخراج المنبر، والحديث وإن صححه الحاكم ومن ذكر فإن أبا داود قال:(هذا الحديث غريب، إسناده جيد) كما تقدم، وقد أخرج البخاري في "صحيحه" صلاة عبد الله بن يزيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنه فقام لهم على رجليه على غير منبر، ولو كان إخراجه سنة لما تركه، ولو تركه لأنكر عليه الصحابة، ثم إن الاستسقاء فيه زيادة تواضع وتضرع، كما تقدم، وهذا ينافيه الترفع على المنبر.

قوله: (حين بدا حاجب الشمس) بدا: بالألف لا بالهمز؛ أي: ظهر ولاح، وحاجب الشمس: أول ما يبدو من الشمس، والمراد: ظهر شعاعها من الأفق، وسمي حاجبًا لأنه أول ما يبدو منها؛ كحاجب الإنسان، ففيه استعارة.

قوله: (فكبر الله وحمده) هكذا في رواية أبي داود، وكذا البيهقي بذكر التكبير، وعند ابن حبان:(فحمد الله وأثنى عليه)، وعند الطحاوي والطبراني:(فحمد الله)، ولعل هذا هو الأقرب.

قوله: (جدب دياركم) الجدب بإسكان الدال المهملة ضد الخصب، وفي "سنن أبي داود" زيادة:(واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم)، والإبان بكسر الهمزة وتشديد الباء: أول الشيء أو حينه؛ والمعنى: تأخر المطر عن أول وقته.

ص: 175

قوله: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم) تقدم معنى ذلك في " صفة الصلاة".

قوله: (ملك يوم الدين) ملك: بدون ألف، نص على ذلك أبو داود، فإنه قال عقب هذا الحديث:(أهل المدينة يقرأون: "ملك يوم الدين"، وإن هذا الحديث حجة لهم) وعلى هذه القراءة أكثر السبعة، وقرأ عاصم والكسائي "مالك" بالألف، فهما قراءتان سبعيتان ثابتتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتواتر، ولا يتوقف ثبوت أحدهما على الاحتجاج بدليل ظنه كحديث الباب، وقراءة "ملك" أبلغ؛ لأنها أكثر شمولًا من " مالك"؛ لأن الملك يتصرف فيما يملك وفيما لا يملك، بخلاف المالك

(1)

.

قوله: (قوة وبلاغًا إلى حين) أي: أنزل علينا المطر النافع الذي يكون سببًا لنبات الأرزاق، والأرزاق سبب لقوة بني آدم والبهائم، وقوله:" وبلاغًا إلى حين" أي: اجعله كافيًا لنا مدة احتياجنا إليه، والبلاغ: هو ما يتواصل به إلى المطلوب، وفي بعض نسخ أبي داود:"وبلاغًا إلى خير"، أي: إلى خير الدنيا والآخرة.

قوله: (حتى رؤي بياض إبطيه) تقدم معناه في "صفة الصلاة" والذي في " سنن أبي داود": (حتى بدا بياض إبطيه).

قوله: (ثم حول إلى الناس ظهره) أي: صار وجهه إلى القبلة وهو على المنبر، بدليل ما بعده.

قوله: (وقلب رداءه) أي: جعل أيمنه أيسره، وكأن هذا والله أعلم من باب التفاؤل بأن يحول الله الجدب إلى الخصب، والشدة إلى رخاء، كما يدل على ذلك مرسل أبي جعفر الباقر.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه إذا عزم الإمام على الخروج إلى الاستسقاء فإنه يعد الناس يومًا يخرجون فيه، ليتأهبوا للخروج.

(1)

انظر: "فوائد في مشكل القرآن" للعز بن عبد السلام ص (49).

ص: 176

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن شكاية الناس إلى الإمام قحوط المطر لا ينافي التوكل على الله تعالى؛ لأنهم لم يقصدوا الشكوى لذاتها، وإنما قصدوا طلب الاستسقاء من الإمام يصح جماعة وفرادى، ويوم الجمعة على المنبر بدون إذن الإمام.

أما الخروج إلى المصلى فلا يجوز إلا بإذن من الإمام على الأظهر؛ لأن هذا لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه إلا بإذن الإمام الأعظم، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران: (إني كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا يستسقوا

)

(1)

، وهذا رواية عن أحمد، والمذهب أنه لا يشترط لها إذن الإمام، لكن إذا كانوا في بلد قد أمات حكامها الاستسقاء فإنه يشرع لهم أن يصلوها في الصحراء إن تيسر أو في المساجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع ذلك لأمته

(2)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن وقت صلاة الاستسقاء كوقت صلاة العيد، وذلك حين ترتفع الشمس.

• الوجه السادس: هذا الحديث نص صريح في تقديم خطبة الاستسقاء على الصلاة، ودل على ذلك أيضًا حديث عبد الله بن زيد المذكور بعد حديث عائشة، وفيه:(فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين)، وفي حديث ابن عباس المذكور أول الباب من طريق الثوري، عن عشان بلفظ:(فدعا ولم يخطب خطبتكم هذه، ثم صلى ركعتين كما يصلي العيد).

وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الليث بن سعد وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم

(3)

.

والقول الثاني: أن الخطبة بعد الصلاة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة،

(1)

أخرجه عبد الرزاق (3/ 87) وإسناده صحيح.

(2)

"فتاوى ابن باز"(13/ 85).

(3)

"الأوسط"(4/ 318)، "المغني"(3/ 338).

ص: 177

وهو قول الشافعي، ومالك

(1)

، ونسبه ابن حجر إلى الجمهور

(2)

، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج نبي الله يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل

(3)

.

والقول الثالث: أن الإمام مخير إن شاء قدم الصلاة، وإن شاء قدم الخطبة، وهذا رواية عن الإمام أحمد

(4)

، لورود الأخبار بكلا الأمرين.

والقول الأول أظهر؛ لأنه أصح دليلًا.

• الوجه السابع: الحديث دليل على مشروعية خطبة واحدة في الاستسقاء، وينبغي أن تشتمل على تنبيه الناس إلى الحاجة التي خرجوا لها، ليجتهدوا في تحريها وتحقيقها، وأن تبدأ الخطبة بالحمد والثناء على الله تعالى مع الاستغفار، وإظهار الافتقار إلى اله تعالى، والمبالغة في التضرع، ثم يشرع في الدعاء ويرفع يديه، وينبغي أن يبالغ في هذا الرفع؛ لحديث أنس الآتي في آخر الباب.

• الوجه الثامن: الحديث دليل على مشروعية تحويل الرداء في الاستسقاء وما يقوم مقامه من الملابس الظاهرة، وقد ورد في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: (وحول رداءه، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل

(5)

.

(1)

"الاستذكار"(7/ 133)، "المجموع"(5/ 77).

(2)

"فتح الباري"(2/ 513).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1268)، وأحمد (14/ 73)، وابن خزيمة (1409)(1422)، والبيهقي (3/ 347) من طريق النعمان - وهو ابن راشد - يحدث عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، وهذا إسناد ضعيف، لضعف النعمان بن راشد، فقد قال عنه البخاري:(في حديثه وهم كثير)، وقال أحمد:(مضطرب الحديث)، وضعفه ابن معين، وابن خزيمة لما أخرج حديثه قال:(في القلب من النعمان بن راشد، فإن في حديثه عن الزهري تخليطًا كثيرًا).

(4)

"المغني"(3/ 339).

(5)

أخرجه أبو داود (1163)، ومن طريقه البيهقي (3/ 350)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1/ 215).

ص: 178

قال أبو داود: (قلت لأحمد: تقليب الرداء أعني في صلاة الاستسقاء هكذا، وجعلت طرف ردائي الأيمن على اليسار على اليمين؟ قال: نعم

(1)

).

وهذا قول مالك والشافعي في القديم وهو قول سفيان بن عيينة، وأبي ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهوية

(2)

.

والقول الثاني: أن تحويل الرداء يكون بتنكيسه، وذلك بجعل أعلاه أسفله، ويزيد على ذلك بأن يجعل ما على الأيمن على الأيسر والعكس، وهذا قول الشافعي في الجديد، مستدلًا بما أخرجه في "الأم" قالت: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تميم قال:(استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه)

(3)

.

والقول الأول هو الراجح في صفة تحويل الرداء، ثم إن جعل الأسفل هو الأعلى مناسب في الرداء لكن هذا غير مناسب في ألبسة الناس اليوم، كما هو معلوم، وإنما يناسبها جعل ما على الأيمن على الأيسر.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (إن الحديث بذلك أصح وأصرح؛ ولأن فعله أيسر وأسهل، والله أعلم)

(4)

.

• الوجه التاسع: ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها أن تحويل الرداء كان بعد الدعاء، وكذا في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: (فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه

)

(5)

، وفي حديث عبد الله بن زيد عند

(1)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (74).

(2)

"الأوسط"(4/ 323)، "الاستذكار"(7/ 137).

(3)

"الأم"(1/ 550) وهذا مرسل، وأخرجه موصولًا أبو داود (1164)، والنسائي (3/ 156)، وأحمد (26/ 386)، وسنده حسن من أجل الدراوردي؛ لأنه مختلف فيه، وقد خالف بقية الرواة لحديث عبد الله بن زيد، فإنهم لم يذكروا أنه أراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، وقد يكون هذا ظنًا من الراوي، وإنما المعروف ما تقدم في القول الأول.

(4)

تعليقه على "فتح الباري"(2/ 498).

(5)

أخرجه البخاري (1025).

ص: 179

أبي داود كما تقدم: (وحول رداءه

ثم دعا الله عز وجل، وظاهره أن التحويل قبل الدعاء، فإن قيل بالترجيح فتقديم الدعاء على التحويل أرجح؛ لأنه رواية البخاري، وإن قيل بجميع الروايات فالأمر في هذا واسع إن شاء الله تعالى.

• الوجه العاشر: هل تحويل الرداء خاص بالإمام أو عام لجميع الحاضرين؟ ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد إلى مشروعية تحويل المأمومين أرديتهم كالإمام

(1)

، واستدلوا بحديث عبد الله بن زيد من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر به وفيه: (ثم تحول إلى القبلة، وحول رداءه فقلبه ظهرًا لبطن، وتحول الناس معه)

(2)

.

القول الثاني: أن تحويل الرداء خاص بالإمام، وهذا مذهب الحفية

(3)

، وحكي عن سعيد بن المسيب وعررة والثوري، وهو قول الليث وأبي يوسف ومحمد بن الحسن

(4)

.

مستدلين بأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بقلب أدرتيهم؛ ولأن الاستسقاء دعاء، فلا يستحب تحويل الداء فيه، كسائر الأدعية.

وقد حكم الألباني على رواية ابن إسحاق بالشذوذ

(5)

، وهذا جار على طريقة المحدثين، فإن حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه جاء في " الصحيحين" من رواية سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد، عند البخاري ومسلم

(6)

، وكذا جاء في غيرهما، ومن رواية مالك عن عبد الله بن

(1)

"الأم"(2/ 549)، "الاستذكار"(7/ 137)، "المغني"(3/ 339).

(2)

أخرجه أحمد (26/ 388)، والحديث في "الصحيحين" وغيرهما بنسبة التحويل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده -كما تقدم- أي دون قوله:(وتحول الناس معه)، وهذا سند حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.

(3)

"شرح فتح القدير"(2/ 95).

(4)

"المغني"(3/ 340).

(5)

"تمام المنة" ص (264).

(6)

"البخاري (1005)، ومسلم (894)(2).

ص: 180

أبي بكر عند مسلم

(1)

، وليس فيه تحويل الناس أرديتهم، وإنما فيه الاقتصار على تحويل النبي صلى الله عليه وسلم رداء، وهذا هو المحفوظ، ورواية ابن إسحاق شاذة، لا تقف في مقابلة رواية واحد من هذين الإمامين، فكيف باجتماع روايتهما؟.

والقول الأول لا بأس به؛ لأن القاعدة أن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره، ما لم يقم دليل على اختصاصه، كيف وقد عقل المعنى؟

وهو التفاؤل بقلب ما بهم من الجدب إلى الخصب

(2)

.

فإذا ضم إلى ذلك رواية ابن إسحاق قوي هذا القول، ويؤيده أيضًا قول أنس رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر:(فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون)

(3)

، فإذا شاركوا الإمام في رفع الأيدي في الدعاء فما المانع من مشاركته في تحويل الرداء؟.

وقد ذكر ابن مفلح أنهم يتركون الرداء محولًا حتى ينزعوه مع ثيابهم، لعدم نقل إعادته

(4)

.

وهل يسحب للنساء تحويل الرداء؟ هذا مفرع على القول الأول، قال الشوكاني باستحباب ذلك

(5)

، لعموم (وتحول الناس معه) وقال بعض فقهاء المالكية: لا يستحب ذلك في حقهن

(6)

، والقول بالتفصيل جيد، وهو أن المرأة إذا كانت تنكشف عند تحويلها للرداء وينظر إليها الرجال فإنها لا تفعل؛ لأن قلب الرداء سنة، والكشف أمام الرجال فتنة ومحرم.

وأما إذا كانت لا تنكشف أو أنها في مكان خاص، كما يوجد في بعض الجوامع لو صليت فيه صلاة الاستسقاء، فالظاهر أن حكمها حكم الرجال؛ لأن هذا هو الأصل، وهو تساوي الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما دل الدليل على الاختلاف بينهما فيه، وهذا رأي الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(7)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح مسلم"(894)(1).

(2)

"المغني"(3/ 341).

(3)

ذكره البخاري تعليقًا (1029)، وسيأتي.

(4)

"الفروع"(2/ 162).

(5)

"نيل الأوطار"(4/ 14).

(6)

"حاشية الدسوقي"(1/ 406).

(7)

"الفتاوى"(13/ 84).

ص: 181

‌حكم الاستسقاء في خطبة الجمعة

517/ 5 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع يديه، ثم قال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا

"

فذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من " صحيحه"، ومنها في كتاب " الاستسقاء" في عشرة مواضع منها باب " الاستيفاء" في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة" (1014)، ومسم في كتاب "الاستسقاء" (898) من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، ثم قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا".

قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس ستًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسم يديه، ثم قال: " اللهم حوالينا ولا

ص: 182

علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: أهو الرجل الأول؟ فقال: ما أدري.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن رجلًا) أي: أعرابيًا، كما ورد في بعض الروايات عند النسائي وغيره.

قوله: (هلكت الأموال) أي: تلفت المواشي، وقد ورد ذلك في بعض الروايات عند البخاري، وعند البخاري ومسلم:" هلكت البهائم"، والمراد بهلاكها: عدم وجود ما تعيش به من الأقوات المفقودة بحبس المطر.

قوله: (انقطعت السبل) أي: توقف السير فيها، لقلة الإبل أو ضعفها، والسبل: الطرق.

قوله: (يغيثنا) أي: يزيل الشدة بإنزال المطر علينا، وهو بالرفع على الاستئناف؛ أي: فهو يغيثنا، وهي رواية الأكثر، وفي رواية:(يغثنا) بالجزم جوابًا للطلب، وفي رواية:(أن يغيثنا).

قوله: (فرفع يديه) وفي رواية: (حتى رأيت بياض إبطيه).

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الاستسقاء في خطبة الجمعة وأن الخطيب يرفع يديه غير مستقبل القبلة بدون تحويل الرداء، وأما المأمومون فقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه: (

فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون)

(1)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب تكرار الدعاء ثلاث مرات؛ لقوله: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"، وقد ورد عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثًا ويستغفر ثلاثًا

(2)

.

• الوجه الخامس: أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل؛ لأن

(1)

علقه البخاري (1029).

(2)

أخرجه أبو داود (1524) بسند صحيح.

ص: 183

الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب الرجل، ودعا الله تعالى، لكن مقام التفويض إلى الله تعالى أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بما وقع لهم من الجدب، وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه لبيان الجواز، ولتقرير سنة الاستسقاء.

• الوجه الخامس: الحديث آية عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه وكرامته على ربه، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا حيث أجاب الله دعوته في الحال، ونزل المطر الكثير ثم أجاب الله دعوته في الاستصحاب حتى خرجوا يمشون في الشمس.

• الوجه السابع: الحديث دليل على جواز الدعاء بالاستصحاء، وهو الدعاء بإمساك المطر حيث يكون به ضرر، لكن ينبغي أن يكون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعا ربه بإمساك المطر عما فيه الضرر، وإبقائه على ما لا ضرر فيه، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 184

‌حكم الاستسقاء بدعاء الصالحين

518/ 6 - عن أنس رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: " اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ فيسقون). رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الاستسقاء"، باب" سؤال الناس الإمام والاستسقاء إذا قحطوا"(1010) من طريق ثمامة بن عبد الله بن أنسو عن أنس، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:

الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قحطوا) بضم القاف وكسر المهملة، أي: أصابهم القحط، وهو إمساك المطر عنهم.

قوله: (يستسقي بالعباس

) الاستسقاء: طلب السقيا كما تقدم، والمعنى: أن عمر رضي الله عنه طلب من العباس رضي الله عنه أن يدعو الله بإنزال الغيث، ولعل عمر رضي الله عنه كان يستسقي بالعباس لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى.

وظاهر قوله: (كان إذا قحطوا) أنه فعل ذلك مرارًا كثيرة، كما يدل عليه لفظ (كان)، فإن صح أنه لم يقع منه ذلك إلا مرة واحدة، كانت (كان) مجردة عن معناها الذي هو الدلالة على الاستمرار.

ص: 185

والعباس بن عبد المطلب: هو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبله بسنتين، وهو من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام، وكانت له السقاية، حضر بيعة العقبة قبل أن يسلم ليتوثق للنبي صلى اله عليه وسلم وألقى كلمته المذكورة في كتب السير، وشهد بدرًا مع المشركين، وأسر فافتدى نفسه ورجع إلى مكة فبقي فيها، أسلم عام الفتح فهاجر، والتقى بالنبي صلى الله عليه وسلم في الجحفة، فرجع معه إلى مكة، وشهد الفتح، وثبت في حنين، وكان سديد الرأي، واسع العقل، يشاوره الصحابة رضي الله عنهم ويأخذون برأيه، مات في شعبان سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه.

قوله: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) أصل التوسل: التقرب إلى الشيء المطلوب، والوصول إليه برغبة، يقال: وسل: إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة

} [المائدة: 35] أي: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه.

والتوسل الشرعي: هو التقرب إلى الله تعالى بوسيلة مشروعة؛ كأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة.

والتوسل البدعي: هو التوسل إلى الله تعالى بوسيلة غير مشروعة؛ كالتوسل بالذات أو بالجاه، ونحو ذلك.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز التوسل بدعاء الرجل الصالح، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ويقولون: ادع الله أن يغثنا، فكان يدعو وهم يؤمنون على دعائه، فلما مات جاءوا إلى العباس رضي الله عنه وطلبوا منه أن يدعو الله عز وجل أن يغيثهم.

وقد أخرج يعقوب بن سفيان عن سليم بن عامر الخبائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية، فصعد المنبر، فقعد معاوية عند رجليه، فقال معاوية:

ص: 186

اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن فارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح فسقينا، حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم

(1)

.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث أهل البدع وأرباب التوسل على جواز التوسل بذوات الصالحين، وهذا استدلال باطل من وجهين:

الأول: أن التوسل في هذا الحديث ليس من التوسل بالذوات، وإنما هو توسل بدعاء العباس رضي الله عنه؛ لأن عمر رضي الله عنه قال:(اللهم إنا كانا نستسقي بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) ولا شك أن هذا التوسل من نوع واحد، فإذا كان التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكذا التوسل بالعباس رضي الله عنه.

الثاني: أنه لو كان التوسل بالذوات جائزًا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك من العباس؛ لأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتًا كحرمته حيًا، فلما عدلوا إلى التوسل بالعباس علم من ذلك أنهم لا يريدون التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم.

• الوجه الخامس: اعلم أن التوسل نوعان:

1 -

توسل مشروع.

2 -

توسل ممنوع.

والتوسل المشروع ثلاثة أقسام:

1 -

التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فيتوسل بالاسم المقتضي لمطلوبه، أو الصفة المقتضية له، نحو: يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوا بها} [الأعراف: 180].

2 -

التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيذكر من الأعمال الصالحة التي فعلها ابتغاء وجه الله تعالى، قال تعالى عن أولي

(1)

"المعرفة والتاريخ"(2/ 380 - 381) قال الحافظ في "الإصابة"(10/ 382): (إسناده صحيح).

ص: 187

الألباب: {ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا} [آل عمران: 16]، ومن ذلك توسل أصحاب الغار الثلاثة الذين سدت عليهم الصخرة باب الغار، فتوسل أحدهم إلى الله تعالى ببر الوالدين، والثاني بعفته عن الزنا، والثالث بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم

(1)

.

3 -

التوسل إلى الله تعالى بدعاء رجل صالح ترجى إجابته؛ كطلب الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، كما في حديث أنس رضي الله عنه المتقدم، وقول عكاشة للنبي صلى الله عليه وسلم:(ادع الله أن يجعلني منهم)، ومنه التوسل بالعباس، كما في حديث الباب.

وشرط هذا أن يكون في حياة الداعي لا بعد موته؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يلجأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ليدعو لهم، كما كان يدعو في حال حياته، بل طلبوا من العباس أن يدعو لهم بالسقيا؛ لأنه حي حاضر يدعو لهم ويؤمنون على دعائه.

على أن بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية منع طلب الدعاء من الرجل الصالح

(2)

، لما فيه من ضعف النفس، وقلة التوكل على الله تعالى، ومفسدة الافتقار إلى غير الله تعالى وإيذاء المسؤول، كما أن فيه فتحًا لباب الغرور على من يطلب منه الدعاء، فالأولى أن يسأل الإنسان ربه تعالى بنفسه دون أن يجعل بينه وبين ربه واسطة؛ لأن ذلك أقوى في الرجاء وأقرب إلى الخشية.

وأما التوسل الممنوع فهو نوعان:

1 -

توسل إلى الله تعالى بوسيلة أبطلها الشرع، وذلك كالاستغاثة بالأموات والأولياء، وتوسل المشركين بآلهتهم، بطلان هذا النوع ظاهر.

2 -

توسل إلى الله بوسيلة غير مشروعة، كالتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه أو بغيره من الأنبياء أو التوسل بذوات الصالحين أو بجاه فلان، فهذا

(1)

الحديث اْخرجه البخاري (5974)، ومسلم (2743).

(2)

"التوسل والوسيلة" ص (66).

ص: 188

توسل بدعي ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأمرين:

الأول: أنه إثبات لسبب لم يجعله الشرع.

الثاني: أن الوسيلة إلى الشيء ما كان موصلًا إليه، والتوسل بالشيء الذي لا يوصل إلى المطلوب نوع من العبث، وذات الرجل الصالح ليست وسيلة للشيء، إذ لا علاقة بين الدعاء وذات الصالح، فلا يليق بالعبد أن يتخذه فيما بينه وبين الله تعالى، ولو كان مثل هذا النوع جائزًا لفعله الصحابة رضي الله عنهم، لكن لم يفعلوه كما تقدم، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 189

‌استحباب التعرض للمطر

519/ 7 - عن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر ثوبه، حتى أصابه من المطر، وقال:" إنه حديث عهد بربه". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " صلاة الاستسقاء"، باب " الدعاء في الاستسقاء"(898) من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه، به.

وهذا الحديث أعله أبو الفضل الشهيد بتفرد جعفر بن سليمان به من بين أصحاب ثابت، وجعفر متكلم فيه، قال ابن المديني:(أما جعفر بن سليمان، فأكثر عن ثابت، وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير) وقال الذهبي: (هو صدوق في نفسه، وينفرد بأحاديث عدت مما ينكر، واختلف في الاحتجاج بها

) وذكر هذا منها

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب التعرض لأول المطر، وذلك بأن يحسر ثوبه ويكشف عن بعض بدنه؛ كرأسه أو ذراعه أو ساقه ونحو ذلك، ليصيبه المطر، وذلك من الفرح بنعمة الله تعالى؛ ولأن المطر لا يزال على طهارته ونقاوته لم تصبه الأرض ولم يختلط بغيره، وهذا معنى قوله:" إنه حديث عهد بربه"، أي: إنه قريب العهد بتكوين ربه وخلقه له، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "علل الأحاديث في كتاب الصحيح" ص (86)، "العلل" لابن المديني ص (72)"الميزان"(1/ 408).

ص: 190

‌استحباب الدعاء عند نزول المطر

520/ 8 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: "اللهم صيبًا نافعًا". أخرجاه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الاستسقاء"، باب " ما يقال إذا أمطرت"(1032) من طريق نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا.

وعزو الحافظ الحديث إلى " الصحيحين" وهم منه رحمه الله، وإنما هو عند البخاري فقط، كما فعل المزي في " تحفة الأشراف"

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (صيبًا) اسم على وزن (فيعل) أصله: صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت الأولى بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء؛ لأنه من صاب يصوب، إذا نزل، ومعناه: منهمرًا متدفقًا، وهو منصوب بفعل محذوف تقديره: اجعله صيبًا.

قوله: (نافعًا) صفة، واحترز به من الصيب الضار، ويجوز أن يكون احترازًا عن مطر لا يترتب عليه نفع، فيكون أعم من أن يترتب عليه ضرر

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الدعاء عند نزول المطر بهذا الدعاء الجامع، وهو أن يجعله الله تعالى مطر رحمة ونفع، لا مطر عذاب ولا هدم ولا غرق، وهذا هو الصيب النافع، والله تعالى أعلم.

(1)

(2/ 287).

(2)

"شرح الأذكار" لابن علَّان (4/ 287).

ص: 191

‌حكم الاستسقاء بدون صلاة

521/ 9 - عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: " اللهم جللنا سحابًا، كثيفًا قصييفًا، دلوقًا، ضحوكًا، تمطرنا منه رذاذاً، قطقطًا، سجلًا، يا ذا الجلال والإكرام". رواه أبو عوانة في " صحيحه".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو عوانة في " صحيحه"(2/ 119) من طريق عبد الله بن محمد الأنصاري، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني الزهري، عن عائشة بنت سعد، حدثته أن أباها حدثها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل واديًا دهسًا لا ماء فيه، وسبقه المشركون إلى القلاب، فنزلوا عليها، وأصاب العطش المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجم النفاق، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيًا كما يزعم لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه.

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أو قالوها؟! عسى ربكم أن يسقيكم"، ثم بسط يديه، وقال:" اللهم جللنا سحابًا كثيفًا قصيفًا دلوقًا حلوقًا ضحوكًا زبرجًا تمطرنا فيه رذاذًا قطقطًا سجلًا بعاقًا، يا ذا الجلال والإكرام"، فما رد يديه من دعائه حتى أظلتنا السحابة التي وصفت، تتلون في كل صفة وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات السحاب، ثم أمطرنا كالغروب التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفعم السيل الوادي، فشرب الناس من الوادي وارتووا.

وهذا سند فيه نظر، عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري ذكره ابن

ص: 192

حبان في " الثقات"، وقال الحافظ في " التقريب":(مقبول)

(1)

.

وإبراهيم بن سعد: هو ابن إبراهيم بن عوف الزهري، قال عنه في " التقريب:(ثقة، حجة، تكلم فيه بلا قادح).

ومحمد بن إسحاق: صرح بالسماع من الزهري، وهو صدوق، وقد زال ما يخشى من تدليسه، لكنه تفرد به عن أصحاب الزهري.

وعائشة بنت سعد: ذكرها ابن حبان في " الثقات"

(2)

، وقال العجلي:(تابعية ثقة)

(3)

.

وقد سكت الحافظ هنا عن هذا الحديث، وضعفه في " التلخيص" حيث قال:(وفيه غريبة كثيرة، أخرجه أبو عوانة بسند واهٍ)

(4)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (جللنا) بالجيم، من التجليل. يقال: جلل المطر الأرض، بالتثقيل: عمها وطبقها فلم يدع شيئًا إلا غطى عليه، ومنه يقال: جللت الشيء: إذا غطيته.

قوله: (كثيفًا) أي: متكاثفًا متراكمًا بعضه فوق بعض.

قوله: (قصيفًا) بالقاف، هو ما كان رعده شديد الصوت، وقد يكون ذلك من أمارات قوة المطر وكثرته.

قوله: (دلوقًا) بفتح الدال وضم اللام وسكون الواو فقاف، هو المنهمر بغزارة والمندفع بشدة، يقال: خيل دلوق، أي: مندفعة شديدة الدفعة، ويقال: دلق السيل على القوم: هجم.

قوله: (ضحوكًا) بفتح أوله، أي: ذا برق.

قوله: (رذاذًا) الرذاذ: بفتح الراء، كسحاب: المطر الضعيف أو الساكن الدائم الصغير كأنه الغبار.

(1)

"الثقات"(7/ 53).

(2)

"الثقات"(5/ 288).

(3)

"تاريخ الثقات" ص (521).

(4)

"التلخيص"(2/ 106).

ص: 193

قوله: (قطقطًا) بكسر القاف وإسكان الطاء، أصغر من الرذاذ، قال أبو زيد: القطقط أصغر المطر، ثم الرذاذ، وهو فوق القطقط، ثم الطش وهو فرق الرذاذ.

قوله: (سجلًا) مصدر سجلت الماء سجلًا، إذا صببته صبًا، وصف به السحاب مبالغة في كثرة ما يصب منها من الماء حتى كأنها نفس المصدر، والمعنى أنه سأل أنواع المطر؛ لأنه أبلغ في نفع الأرض.

قوله: (يا ذا الجلال والإكرام) هذا توسل بهذين الاسمين العظيمين.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الاستسقاء بدون صلاة؛ لأن الظاهر من سياق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في هذا الوادي بدون صلاة، وقد تقدم في أول الباب أنواع الاستسقاء، وهذا واحد منها.

الوجه الرابع: في الحديث ظهور آية عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه وكرامته على ربه عز وجل، وأن الله تعالى يستجيب دعاءه، لكن هذا ليس على إطلاقه، فقد يستجاب دعاؤه وقد لا يستجاب والله عليم حكيم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الصلاة على أناس من كفار قريش وخلفه الصحابة يؤمنون على دعائه، وهو أشرف الخلق، وهم صفوة الخلق بعد الرسل ومع ذلك أنزل الله:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128] فلم يستجب دعاؤه فيهم، وأسلموا وحسن إسلامهم.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل، فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة

" الحديث

(1)

. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (2890).

ص: 194

‌وجود الاستسقاء في الأمم السابقة

522/ 10 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خرج سليمان عليه السلام، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم". رواه أحمد، وصححه الحاكم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (2/ 66)، والحاكم (1/ 325 - 326) من طريق محمد بن عون، عن أبيه، قال: حدثنا ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

وهذا سند فيه، محمد بن عون، وقد سكت عنه البخاري ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا

(1)

، وقال أحمد:(رجل معروف)

(2)

، وذكره ابن حبان في " الثقات"

(3)

.

ووالده عون مولى أم حكيم بنت يحيى بن الحكم ذكره ابن أبي حاتم ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلًا

(4)

، وذكره ابن حبان في " الثقات"

(5)

، وذكره البخاري في " التاريخ الكبير"

(6)

، وأعل روايته عن الزهري فقال: (

عن الزهري مرسل، روى عنه الماجشون).

(1)

"التاريخ الكبير"(1/ 197).

(2)

"العلل"(2/ 211).

(3)

"الثقات"(7/ 411).

(4)

"الجرح والتعديل"(6/ 386).

(5)

"الثقات"(7/ 281).

(6)

"التاريخ الكبير"(7/ 16).

ص: 195

وظاهر الإسناد الذي معنا يرد هذا، فإنه قد صرح عون بسماعه من الزهري، فإن أخذ بهذا الظاهر وإلا فالمعول على ما قاله البخاري.

ثم إن للحديث طريقًا آخر، فقد رواه الطحاوي

(1)

، والخطيب

(2)

، وأبو الشيخ

(3)

، من طريق محمد بن عزير، حدثنا سلامة بن روح، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.

وإسناده ضعيف، لضعف سلامه، وهو ابن روح بن خالد، قال أبو حاتم:(ليس بالقوي، محله عندي الغفلة)، وقال أبو زرعة:(ضعيف منكر الحديث)، وقال الآجري عن أبي داود:(كان أحمد بن صاح كتب عنه ثم تركه)

(4)

، وقال الحافظ في " التقريب":(صدوق له أوهام، وقيل: لم يسمع من عمه عقيل بن خالد، وإنما يحدث من كتبه).

ومحمد بن عزيز مختلف فيه، وفي سماعه من ابن عمه سلامة نظر، كما ذكر الحافظ في "التقريب" وله طريق ثانٍ رواه ابن حبان

(5)

، وابن أبي حاتم

(6)

، وأبو نعيم

(7)

، والطبراني

(8)

من طريق مسعر بن كدم عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، قال: خرج سليمان

فذكره.

وهذا سند ضعيف، لضعف زيد العمي.

وله طريق ثالث مرسل أخرجه عبد الرزاق

(9)

، ومن طريقه الطبراني

(10)

، عن معمر، عن الزهري أن سليمان بن داود

وإسناده صحيح إلى الزهري، ولعل هذا الصواب في الحديث، أنه من مرسل الزهري، ومراسيله ضعيفة، قال ابن معين ويحيى بن سعيد القطان والشافعي مرسل الزهري ليس بشيء

(11)

.

(1)

"شرح مشكل الآثار"(2/ 331).

(2)

"التاريخ"(12/ 65).

(3)

"العظمة"(1246).

(4)

"تهذيب التهذيب"(4/ 253).

(5)

"الثقات"(8/ 414).

(6)

"تفسير ابن أبي حاتم"(9/ 2858).

(7)

"حلية الأولياء"(3/ 101).

(8)

"الدعاء"(968).

(9)

"المصنف"(3/ 95 - 96).

(10)

"الدعاء"(967).

(11)

"تدريب الراوي"(1/ 205).

ص: 196

وقد عزى الحافظ هذا الحديث في " البلوغ" وعزاه في " التلخيص"

(1)

إلى أحمد، والمراد " المسند" عند الإطلاق، ولم أجده فيه عن طريق الفهارس، وإنما هو في كتاب " الزهد"

(2)

، وعزاه الحافظ ابن كثير

(3)

إلى ابن أبي حاتم، ولو كان في " المسند" لكان عزوه إليه أهم.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الاستسقاء كان موجودًا في الأمم الماضية، فهو شريعة من قبلنا، وذلك لأن الاستسقاء عند حصول القحط والجدب هو لجميع الخلق، فهو رحمة للجميع من الإنسان والحيوان والطير، وقد جاء القرآن، {وإذ استسقى موسى لقومه

} [البقرة: 60]، أي: طلب لقومه ماء يشربون منه.

• الوجه الثالث: استدل بعض الفقهاء من الشافعية والحنابلة وغيرهم بهذا الحديث على مشروعية إخراج البهائم إلى المصلى للاستسقاء، وكذا قال الصنعاني

(4)

، وعللوا لذلك بأن الجدب قد أصابها.

والقول الثاني: أنه لا يسن إخراجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأن فيه إتعابها واشتغالًا بها وانشغالًا بأصواتها.

وأما حديث الباب فلا حجة فيه، لما تقدم من الكلام في إسناده، ولأن سليمان عليه السلام لم يخرج بالنمل تستسقي، وإنما مر على نملة تستسقي.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على إثبات علو الله على خلقه، لقوله:" رافعة قوائمها إلى السماء"، والله تعالى فطر الخلق كلهم العرب والعجم حتى البهائم على الإيمان بالله تعالى وبعلوه، فما من عبد يتوجه إلى ربه بدعاء أو عبادة إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو وارتفاع قلبه إلى السماء، لا يلتفت إلى غيره يمينًا ولا شمالًا، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين والأهواء، وهذه الحشرة التي رفعت قوائمها إلى السماء

(1)

(2/ 97).

(2)

راجع: "التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل" ص (29).

(3)

"تفسير ابن كثير"(16/ 94).

(4)

"سبل السلام"(3/ 283).

ص: 197

تدعو الله تعالى، عندها فطرة غريزية أن الله تعالى في السماء، فهذه النملة أعقل وأسلم فطرة من الجهمية الذين ينكرون علو الله على خلقه، ويقولون: إن الله ليس في السماء، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولو وصف العدم لم يوصف بأكثر من هذا.

وهدى الله تعالى سلف هذه الأمة، فأجمعوا على ثبوت علو الله تعالى على خلقه وكونه في السماء فوق جميع مخلوقاته على ما يليق بجلاله، والحمد لله رب العالمين.

* * *

ص: 198

‌مشروعية رفع اليدين في دعاء الاستسقاء

523/ 11 - عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. أخرجه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " صلاة الاستسقاء" باب " رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء"(896) من طريق الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وكذلك المأمومون كما تقدم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وهو المراد بقوله:(فأشار بظهر كفيه إلى السماء)، وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث على قولين:

الأول: أن الحديث على ظاهره، وأن معناه: أنه جعل ظهورهما نحو السماء، قالوا: وهذا يدل على أن كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه، فإن الداعي يجعل باطنهما إلى الأرض وظاهرهما إلى السماء، وكل دعاء لسؤال شيء وتحصيله يجعل ظاهر كفيه إلى الأرض، وباطنهما إلى السماء.

الثاني: أن المراد بالحديث المبالغة في رفعهما، وأنه لشدة الرفع انحنت يداه؛ لأن الرفع إذا قوي صارت أصابع اليدين نحو السماء مع نوع من

ص: 199

الانحناء، حتى كأن الرائي يرى ظهورهما نحو السماء لا أنه قصد ذلك، والله تعالى أعلم.

ولفظ الحديث ليس بصريح فيما ذكره الأولون؛ لأن النصوص إذا جمعت تدل على أن الدعاء ببطون الأكف لا بظهورها، وقد أخرج أبو داود

(1)

عن مالك بن يسار السكوني ثم العوفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سألتم الله، فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها"

(2)

.

ثم إن الداعي إنما يرفع يديه يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.

وهذا المعنى اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، وكذا الشيخ عبد العزيز بن باز، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"السنن"(1486).

(2)

وإسناده جيد، وله شواهد يصح بها، كما قرره الألباني في "الصحيحة"(595).

(3)

"مختصر الفتاوى" للبعلي، ص (157).

ص: 200

‌باب اللباس

اللباس: بكسر اللام اسم لما يلبس، وأصله اسم مصدر من قولك: لبس الثوب لبسًا ولباسًا، أي: استتر به.

واللباس: ما يلبس على الجسم ليستره أو يدفئه.

وهو من نعم الله تعالى على عباده؛ لأنه يستر أعضاء مخصوصة من بدن الإنسان ويحفظه من عاديات الجو وتقلباته، إضافة إلى أنه زينة وجمال، قال تعالى:{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26].

فذكر تعالى اللباس البدني الضروري: {لباسًا يواري سوءاتكم} ، واللباس التكميلي الذي هو زينة وجمال:{وريشًا} أي: وأنزلنا عليكم ريشًا: وهي ثياب الزينة والجمال، واللباس المعنوي، {ولباس التقوى} وهو: التخلق بتقوى الله تعالى، وهو طاعته بفعل المأمور واجتناب المحظور، سمي لباسًا؛ لأنه يستر عورات الذنوب، {ذلك خير} أي: أفضل وأنفع من لباس البدن.

وهذا الباب عقده الحافظ لبيان ما يحل وما يحرم من اللباس، ومناسبته بعد أبواب الصلاة من جهة أن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فناسب ذكره لذلك.

والأصل في اللباب: الحل كغيره من أنواع المباحات، كالمآكل والمشارب والمراكب والمساكن، ونحو ذلك، قال تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]، وقال تعالى:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32].

ص: 201

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة"

(1)

.

والإسلام لم يقرر نوعًا من اللباس لا يجوز تخطيه، بل أجاز كل لباس ما دام متفقًا مع القواعد والضوابط التي حددها الإسلام في موضع اللباس والتي جاءت النصوص الشرعية ببيانها.

* * *

(1)

أخرجه النسائي (5/ 79)، وابن ماجه (2/ 1192)، وأحمد (2/ 181)، وعلَّقه البخاري (10/ 252)، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن النسائي"(2/ 540).

ص: 202

‌تحريم الحرير والديباج على الرجال

524/ 4 - عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير". رواه أبو داود، وأصله في البخاري.

525/ 2 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه". رواه البخاري.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عامر الأشعري، مختلف في اسمه، فقيل: عبد الله بن هانئ، وجزم البخاري بأنه عبيد بن وهب، وقيل غير ذلك، ذكره خليفة بن خياط في من نزل الشام من الصحابة من قبائل اليمن، بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث أبي عامر، فقد أخرجه أبو داود في كتاب " اللباس"، باب " ما جاء في الخز" (4039) من طريق عطية بن قيس قال: سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك، والله ما كذبني، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير"، وذكر كلامًا قال:" يمسخ آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة".

(1)

"الإصابة"(11/ 236)، "تهذيب التهذيب"(12/ 160).

ص: 203

وهذا الحديث إسناده صحيح، ولا يضر التردد في اسم الصحابي لثبوت عدالتهم مطلقًا، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري من كبار التابعين، ثقة جليل كبير القدر.

والحديث أصله في البخاري معلقًا من طريق عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة"

(1)

.

وقد علقه البخاري عن شيخه هشام بن عمار قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية

فهذا السياق سياق تعليق؛ لأن البخاري لم يذكر صيغة (قال فلان) في "صحيحه" إلا في التعاليق، لكن يشكل على ذلك أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه وسمع منه، وخرج عنه حديثين غير هذا محتجًا به، يقول فيهما: حدثنا هشام بن عمار

(2)

.

وقد التمس الحافظ سبب تعليق البخاري لهذا الحديث على الرغم مما ذكر، فقال:(والذي يظهر لي أنه لقصور في سياقه، وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي).

ولا ضير في ذلك ما دام أن الحديث ورد موصولًا من طرق عن هشام بن عمار عن أبي داود وغيره، وبهذا يتبين أن إعلال ابن حزم لهذا الحديث بأن البخاري قد علقه، قول مردود

(3)

.

(1)

"صحيح البخاري"(5590).

(2)

انظر: "هدي الساري" ص (448 - 449)، وانظر:"فتح الباري"(4/ 308)(7/ 18).

(3)

انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 277)، "فتح الباري"(10/ 53)، "مجموع رسائل ابن رجب"(2/ 449).

ص: 204

وأما حديث حذيفة، فقد أخرجه البخاري في كتاب " اللباس"، باب " افتراش الحرير"، (5837) من طريق وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن حذيفة رضي الله عنه، مرفوعًا.

لكن ذكر الحافظ أن حديث حذيفة قد جاء في " الصحيحين" من عدة أوجه، وليس فيها لفظة:(وأن نجلس عليه)

(1)

، وتوضيح ذلك أن الحديث ورد عند مسلم (2067) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، وليس فيه هذه اللفظة، وسفيان أوثق من جرير بن أبي حازم، فتقدم روايته على رواية جرير، ثم إن الحديث له طرق أخرى في " الصحيحين" ليس فيه لفظة:(وأن نجلس عليه) فتكون شاذة على قواعد المحدثين.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون) الظاهر أن المراد أمة الإجابة، وهذا الاستحلال إما أن المراد به أنهم يعتقدون حلهما، لا أنهم يستحلونهما؛ لأن من استحل محرمًا مجمعًا عليه فهو كافر، فلما صاروا يداومون عليها صاروا كالمستحلين لها، أو أن المراد الاسترسال في استعمالهما والتساهل كالاسترسال في الحلال، وذلك لضعف إيمانهم، وقلة مبالاتهم في آخر الزمان، لقلة العلم وغلبة الجهل والإعراض عن دين الله

(2)

.

قوله: (الحر) هكذا بالحاء المهملة المكسورة بعدها راء مخففة، وأصله: جرح بكسر الحاء المهملة وسكون الراء، وجمعه: أحراح، وهو الفرج

(3)

، يريد أن يكثر فيهم الزنا.

ووقع في بعض نسخ أبي داود (الخز) بالخاء والزاي المعجمتين مع التشديد، قال الحافظ:(كذا هو في معظم الروايات من " صحيح البخاري"، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره، وقال: إنه هو الراجح)

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(10/ 292).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 55).

(3)

"النهاية"(1/ 366)"تاج العروس"(6/ 256).

(4)

"فتح الباري"(10/ 55).

ص: 205

قال ابن الأثير: (الخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم

)

(1)

.

قوله: (والحرير) على رواية: " الخز" بالخاء يكون هذا من عطف العام على الخاص؛ لأن الحرير أعم من الخز، أما على رواية:" الحر" بالحاء، فهو من عطف المغاير.

والحرير: اسم عربي، والمراد الحرير الأصلي، وهو خيط دقيق تفرزه دودة القز، وهي دودة الحرير

(2)

، سمي بذلك: لأنه من خالص الإبريسم، وكل خالص فهو محرر، ومنه طين حر؛ لأنه لم يخالطه رمل.

قوله: (والديباج) بكسر الدال على المشهور، عجمي معرب، وهو ما غلظ من ثياب الحرير، وذكره بعد الحرير وإن كان نوعًا منه هو من باب ذكر الخاص بعد العام.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الأمور المذكورة في الحديث من الحرير والزنا والخز والمعازف، وأن هذه المعاصي العظيمة سبب للعقوبات البالغة.

ولقد كثر في آخر الزمان تعاطي هذه المنكرات، فانتشر الزنا، وشربت الخمور، واستعملت المعازف، ولا سيما في زماننا هذا، لضعف الإيمان، وقلة الوازع، وكثر الجهل، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم الحرير وأنه لا يجوز لبسه، وهو مختص بالرجال دون النساء، كما سيأتي إن شاء الله، ولا فرق في تحريم لبس الحرير بين الصغير والكبير

(3)

؛ لأن الصغير الذكر داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: " هذان حرام على ذكور أمتي" وسيأتي إن شاء الله، والمراد الحرير الخالص، فإن كان مشوبًا بغيره فسيأتي أيضًا إن شاء الله.

(1)

"النهاية"(2/ 28).

(2)

ذكر صفة ذلك في "الموسوعة العربية الميسرة"(11/ 84).

(3)

"المغني"(2/ 310).

ص: 206

وهذا قول الجمهور، وحكى النووي وابن قدامة، وغيرهما الإجماع على ذلك

(1)

، وفيه نظر.

وقد ورد حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة"

(2)

.

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"

(3)

.

فهذه الأحاديث وغيرها تدل دلالة ظاهرة على تحريم لبس الحرير على الرجال، لما فيها من الوعيد الشديد الذي لا يكون إلا في محرم شديد الحرمة.

والحكمة من تحريمه والله أعلم:

1 -

أن في لبسه تشبهًا بالكفار، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا، ولكن في الآخرة"

(4)

.

2 -

أن في لبسه تشبهًا بالنساء.

3 -

أنه شعار النعومة واللين، والمبالغة في ذلك ليس من صفات الرجال، بل المطلوب من الرجال التزين بما لا مبالغة فيه، حتى يكون أهلًا لتحمل مشاق الأمور.

* الوجه السادس: الحديث دليل على تحريم افتراش الحرير والديباج، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية

(5)

.

(1)

"المغني"(2/ 304)، "المجموع"(4/ 345).

(2)

أخرجه البخاري (5832)، ومسلم (2073).

(3)

أخرجه البخاري (5834)، ومسلم (2069)(11).

(4)

متفق عليه، وتقدم في باب "الآنية" من "كتاب الطهارة".

(5)

"الفتاوى الهندية"(5/ 331)، "المجموع"(4/ 435)، "المنتقى"(7/ 222)، "مجموع فتاوى ابن تيمية"(21/ 84)، "الإنصاف"(1/ 475).

ص: 207

واستدلوا بقوله: (وأن نجلس عليه)، وهذا اللفظ وإن كان فيه المقال المتقدم فإن جمهور أهل العلم على العلم على العمل به، يدل لذلك حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تركبوا الخز ولا النمار"

(1)

.

ويؤيد ذلك ما يلي:

1 -

أن سبب تحريم اللبس موجود في الافتراش.

2 -

أنه إذا حرم اللبس مع الحاجة فغيره أولى.

3 -

أنه ليس من المعقول أن يحرم الشرع لبس ما زاد على أربع أصابع كما يأتي ثم يجيز الافتراش الذي هو أكثر من ذلك بكثير، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (4129)، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2/ 778).

ص: 208

‌مقدار ما يباح من الحرير

526/ 3 - عن عمر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث، أو أربع". متفق عليه، واللفظ لمسلم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " اللباس"، باب " لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه"(5828)، ومسلم في " اللباس والزينة"(2069)(14) من طريق شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي، قال:(جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد أو بالشام؛ أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا: إصبعين) وهذا لفظ مسلم.

وأخرجه مسلم أيضًا (15) من طريق معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عامر الشعبي، عن سويد بن غفلة، أن عمر بن الخطاب خطب الجابية فقال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم الحرير على الرجال، إلا الشيء اليسير كموضع إصبع أو إصبعين أو أربعة فهذا يباح؛ لأن صاحبه لا يعد لابسًا للحرير، وذلك كالعلم في الثوب أو القطعة يرقع بها الثوب أو تطريز جيب القميص أو الأكمام، ونحو ذلك، وذلك من سماحة الشريعة وتوسعتها؛ لأن الرجل قد يحتاج الشيء القليل مما ذكر ونحوه، والله تعالى أعلم.

ص: 209

‌جواز لبس الحرير للتداوي به

527/ 4 - عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في سفر من حكة كانت بهما". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجهاد"، باب " الحرير في الحرب"(2919)، وفي " اللباس"، باب "ما يرخص للرجال من الحرير للحكة"(5839)، ومسلم (2076) من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (رخص) الترخيص معناه: التسهيل في الأمر والتيسير، والرخصة: هي الحكم الذي ثبت على خلاف الدليل لعذر.

قوله: (لعبد الرحمن بن عوف) هو أبو محمد، عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي، أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، أسلمت أمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث وهاجرت، وأسلم هو على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت معه يوم أحد، وصلى خلفه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وأتم ما فاته، وهو أحد المشهور لهم بالجنة، وكان من أغنياء المسلمين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، مات سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين، رضي الله عنه

(1)

.

(1)

"الاستيعاب"(6/ 68)، "الإصابة"(6/ 311).

ص: 210

قوله: (والزبير) هو الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي الصحابي الشجاع، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت وأسلم هو قديمًا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو ابن ست عشرة سنة، وعذب ليترك دينه، فلم يفعل، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت معه في أحد، قتل يوم الجمل قرب البصرة، سنة ست وثلاثين رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (في سفر) جاء في بعض الروايات: (فرأيته عليهما في غزاة).

قوله: (من حكة

) من: للتعليل؛ أي: لأجل حكة حصلت بأبدانهما، والحكة: بكسر الحاء، التهاب في الجلد يحمل صاحبه على كثرة حكه، وهي أنواع أشدها الجرب، نسأل الله العافية.

وقد ورد في رواية: (أنهما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما)

(2)

، ويجمع بينهما بأن الحكة حصلت من القمل، فنسبت العلة تارة إلى المسبب وهي الحكة، وتارة إلى السبب

(3)

، وهو القمل.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الحرير على الرجال؛ لأن المشهور عند الأصوليين أن الترخيص لا يكون إلا في مقابل عزيمة.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز لبس الحرير للتداوي به من الحكة أو القمل، ونحو ذلك؛ لأن ما ثبت في حق صحابي ثبت في حق غيره ما لم يقل دليل على اختصاصه، وهذا مذهب الجمهور، والمشهور عندهم أنه ليس خاصًا بالسفر، بل يجز في الخصر.

وقد ذكر النووي وغيره أن الحكمة في لبس الحرير للحكة لما فيه من البرودة

(4)

، وتعقب بأن الحرير حار، والصواب: أن الحكمة لخاصة فيه، وهي دفع ما تنشأ عنه الحكة كالقمل، والله أعلم.

(1)

"الاستيعاب"(3/ 309)، "الإصابة"(4/ 7).

(2)

"صحيح البخاري"(2920)، ومسلم (2076)(26).

(3)

"فتح الباري"(6/ 101).

(4)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 296).

ص: 211

والقول بالإباحة يدخل تحت قاعدة: " الضرورات تبيح المحظورات"، فإن قيل: قد نهي عن التداوي بالمحرمات؛ لأنها مستخبثة لا علاج فيها؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم لبس الحرير لخبث في ذاته، بل هو من أفضل الألبسة، ولذا أحل للنساء كما سيأتي، وجاز لمسه وبيعه والانتفاع بثمنه

(1)

.

الثاني: أن المراد بالنهي عن التداوي بالمحرمات ما يدخل إلى الجوف، وأما الأمور الظاهرة فلا تدخل في هذا، وبهذا أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 291)، "الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام"(1/ 301).

(2)

انظر: "الفتاوى"(21/ 82).

ص: 212

‌إباحة الحرير للنساء

528/ 5 - عن علي رضي الله عنه قال: " كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها بين نسائي". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " اللباس"، باب " الحرير للنساء"، (5840)، ومسلم (2071)(19) من طريق غندر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مرفوعًا.

وقول الحافظ: (وهذا لفظ مسلم) لا فائدة فيه؛ لأن لفظ الحديث واحد عندهما.

وأخرجه مسلم أيضًا (2071)(17) من طريق شعبة، عن أبي عون قال: سمعت أبا صالح يحدث عن علي قال:

فذكره.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كساني) أي: ألبسني، والمراد: أعطاني.

قوله: (حلة سيراء) الحلة: بضم الحاء المهملة، ثوبان إزار ورداء ساترًا لجميع البدن، والسيراء بكسر السين المهملة آخره ألف ممدودة: هي برود مضلعة بالحرير، وقيل: حرير خالص، وعليه أكثر الشراح، وقال الصنعاني:(هو الأقرب)، وقال الحافظ ابن حجر: إن السيراء قد تكون حريرًا صرفًا، كالتي

ص: 213

في قصة عمر رضي الله عنه كما سيأتي، وقد تكونه حريرًا غير خالص كالتي في قصة علي رضي الله عنه، ولهذا لم يقع الوعيد على لبسها، كما في قصة عمر رضي الله عنه

(1)

.

ويجوز في (حلة) التنوين، ويكون قوله:(سيراء) عطف بيان أو نعتًا، كقولهم: ناقة عشراء، ويجوز تركه على الإضافة، من إضافة الشيء لصفته، كقولهم: ثوب خز، وعزاه النووي إلى المحققين

(2)

.

قوله: (فخرجت فيها) يظهر من ذلك أن عليًا رضي الله عنه فهم من إهداء هذه الحلة له أنه يلبسها، مع أن ذلك غير مراد؛ لما ورد في بعض الروايات عند مسلم من طريق شعبة، عن أبي عون به بلفظ:(فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء)، وفي لفظ:(شققه خمرًا بين الفواطم).

قوله: (فشققتها بين نسائي) أي: قطعتها ففرقتها وقسمتها بين نسائي، والمراد بهن: الفواطم كما في الرواية المتقدمة وهي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوج علي، وفاطمة بنت أسد بن هشان والدة علي، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب بنت عمه، وفاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة عقيل أخيه

(3)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الحرير على الرجال؛ بناء على أن الحلة المذكورة حرير خالص.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على إباحة الحرير للنساء، وقد انعقد الإجماع على ذلك، كما نقله غير واحد، ومنهم: ابن عبد البر

(4)

، والنووي

(5)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل إلى شخص لباسًا، فإنه لا يدل على حل لبسه إذا كان الشرع قد حرمه، ولا يلزم من ذلك أن يلبسه؛ لأنه يمكن أن ينتفع به بوجوه أخرى؛ كإعطائه زوجته إذا كان يباح لها، أو بيعه والانتفاع بثمنه، ونحو ذلك.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 300)، "سبل السلام"(2/ 157).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 281).

(3)

انظر: "إكمال المعلم"(6/ 578)، "فتح الباري"(10/ 297).

(4)

"المجموع"(4/ 440).

(5)

"التمهيد"(17/ 97).

ص: 214

ومثل هذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اشتريته، فقال:" إنما يلبس هذا من لا خلاق له"، فأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فأرسل بها إلي، قال: قلت: أرسلت بها إلي، وقد سمعتك قلت فيها ما قلت؟ قال:" إنما بعثت بها إليك لتستمع بها"، وفي رواية:"تبيعها وتصيب منها حاجتك"

(1)

.

ومثل ذلك الذهب لو أهدي لرجل فليس معنى هذا أنه يلبسه، وإنما يعطيه من يباح له أو يبيعه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (2068).

ص: 215

‌إباحة الحرير والذهب للنساء

وتحريمهما على الذكور

529/ 6 - عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورهم". رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (32/ 276)، والترمذي (1720) في أبواب " اللباس" باب " ما جاء في الحرير والذهب" من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى رضي الله عنه، ورواه النسائي (8/ 161) من طريق أيوب، عن نافع به.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).

وهذا الحديث صحيح لما له من الشواهد كما سيأتي، أما هذا الإسناد ففيه انقطاع؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا موسى، على ما ذكره أبو حاتم، فقد قال ابنه: سمعت أبي يقول: (لم يلق سعيد بن أبي هند أبا موسى الأشعري)

(1)

.

ومن شواهده حديث علي رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال:" إن هذين حرام على ذكور أمتي"

(2)

.

(1)

"المراسيل" ص (75).

(2)

أخرجه أبو داود (4039)، والنسائي (8/ 160)، وابن ماجه (2/ 1189)، وزاد: =

ص: 216

الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم الذهب والحرير على الذكور، أما الحرير فتقدم ما يتعلق به، وأما الذهب فقد نقل ابن عبد البر

(1)

، والنووي

(2)

، وغيرهما الإجماع على تحريم لبس الذهب على الرجال للأحاديث الصحيحة.

وقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع؛ نهى عن خاتم الذهب، أو قال: حلقة الذهب

)

(3)

.

ويحرم إلباس الصبي شيئًا من الحرير أو الذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الحكم على الذكورة، ولفظ الذكر شامل للصغير والكبير من هذا الجنس، ولا يجوز إخراج الصبي من هذا العموم إلا بدليل، ولا دليل على ذلك.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على إباحة الحرير والذهب للنساء، أما الحرير فتقدم الكلام عليه، وأما الذهب فقد قال البيهقي:(واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة)

(4)

.

وقال ابن عبد البر: (لا خلاف أن لباس الحرير والذهب للنساء حلال)

(5)

، وقال النووي:(أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي والفضة، والذهب جميعًا؛ كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال، ولا خلاف في شيء من هذا)

(6)

.

= "حل لإناثهم"، وأخرجه أحمد (2/ 250)، وابن حبان (7/ 396) وفي إسناده: أبو أفلح الهمداني، قال عنه ابن القطان:(مجهول)، وقد روى عنه اثنان، ووثقه العجلي في "تاريخ الثقات" ص (490)، وقال الذهبي في "الكاشف":(صدوق)، وقال الحافظ:(مقبول)، فالحديث لا بأس بإسناده، وله شواهد تؤيده، قال النووي:(حديث حسن يحتج به)"المجموع"(4/ 440)، وصحَّحه الألباني في "غاية المرام" ص (64)، وفي "الإرواء"(1/ 305).

(1)

"التمهيد"(17/ 97).

(2)

"المجموع"(4/ 441).

(3)

أخرجه البخاري (5863)، ومسلم (2066).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 142).

(5)

"التمهيد"(17/ 97).

(6)

"المجموع"(6/ 40).

ص: 217

ومما يؤيد القول بالعموم في المحلق وغير المحلق، قوله تعالى:{أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18]، فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده عن مجاهد أنه قال:(رخص للنساء في الحرير والذهب، ثم قرأ: {أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين})

(1)

.

وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة تدل على الإباحة، ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر وخطبته بالرجال ثم بالنساء وحثهن على الصدقة، وفيه:(قال: "فتصدقن" وبسط بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال)

(2)

.

وقد استمر الإجماع على ذلك حتى جاء الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وقال: (إنه يحرم على النساء لبس الذهب المحلق خاصة)، ولم ينسب ذلك لأحد من السلف أو الخلف، وأنكر دعوى النسخ، بحجة أن شروطه غير متحققة، وأن الجمع ممكن، والصواب القول بالنسخ، كما حكاه البيهقي وابن شاهين والنووي وغيرهم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 194) بسند صحيح.

(2)

أخرجه البخاري (4895)، ومسلم (884).

ص: 218

‌استحباب إظهار نعمة الله تعالى

من اللباس وغيره

530/ 7 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه". رواه البيهقي.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (33/ 159)، والبيهقي (3/ 271) من طريق شعبة، عن الفضيل بن فضالة، عن أبي رجاء العطاردي قال: خرج علينا عمران بن حصين، وعليه مطرف

(1)

خز، فقلنا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبس هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يحب

" فذكر الحديث.

والحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير فضيل بن فضالة، فقد روى له النسائي، وهو ثقة، والحديث له شواهد منها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"

(2)

.

وعن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال:" ألك مال؟ "، قال: نعم، قال:" من أي المال؟ " قال: قد أتاني

(1)

مطرف -بكسر الميم وفتحها وضمها مع فتح الراء-: ثوب في طرفيه علمان، وقيل: رداء مربع من خز له أعلام.

(2)

أخرجه الترمذي (2820) وقال: (هذا حديث حسن).

ص: 219

من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال:" فإذا أتاك الله مالًا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته"

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب إظهار نعمة الله على عبده إذا أعطاه الله تعالى ووسع عليه، فيظهر أثر النعمة في لباسه ومأكله ومسكنه، وهذا نوع من شكر الله تعالى على نعمه، ولهذا كان محبوبًا لله تعالى، ولا يتشبه بالفقراء والمعدمين؛ لأن هذا نوع جحد لنعمة الله تعالى وإظهار شكوى، ودعوى للفقر؛ لأن لسان الحال كلسان المقال، وهذا الإظهار المطلوب مقيد بقيدين دلت عليهما نصوص الشريعة:

الأول: ألا يصل إلى حد الإسراف.

الثاني: ألا يكون بقصد الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء واحتقارهم.

وقد دل قوله: (إذا أنعم على عبد نعمة) أن المراد بالحديث من عنده سعة من المال، أما من ليس عنده مال فلا يبنغي أن يقترض ويتظاهر أمام الناس بما ليس له حقيقة، فإن هذا من الزور.

وأما حديث أبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان"

(2)

، والمراد بالبذاذة: رثاثة الهيئة والتواضع في اللباس، وأن ذلك من أخلاق أهل الإيمان، فلا تعارض بين هذا الحديث وحديث الباب؛ لأن معنى هذا الحديث والله أعلم أنه إذا ترك التجمل في بعض الأحيان وأظهر البذاذة فلا بأس به من باب التواضع وكسر النفس عن تكبرها وترفعها على غيرها، فإذا فعله من هذا الباب كان حسنًا، لكن لا يكون عادة دائمة.

(1)

أخرجه أبو داود (4063)، وأحمد (25/ 226)، والحاكم (4/ 201)، وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.

(2)

أخرجه أبو داود (4161)، وابن ماجه (4118) وغيرهما، وفي سنده اختلاف، وقد صحَّحه الحافظ في "فتح الباري"(10/ 368)، وتكلم عليه الألباني في "الصحيحة" رقم (341).

ص: 220

وقال الطحاوي: إن المراد: البذاذة التي لا تبلغ بصاحبها نهاية البذاذة التي لا يعرف بها صاحب النعمة من غيره.

وأما حديث الباب فمراد به النعمة التي ترى على صاحبها بلا خيلاء ولا إسراف، فاللباس المحمود هو البذاذ التي لا بذاذة أقل منها ولا يدخل صاحبه في أكمل اللباس، فيكون داخلًا في قوله تعالى:{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان: 67]

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"شرح مشكل الآثار"(8/ 40).

ص: 221

‌النهي عن لبس القسي والمعصفر

531/ 8 - عن علي رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي والمعصفر". رواه مسلم.

532/ 9 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، فقال:" أملك أمرتك بهذا؟ ". رواه النسائي.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب " اللباس والزينة"، باب " النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر"(2078) من طريق مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن حنين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، مرفوعًا، وتمامه:(وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع).

وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فأخرجه مسلم أيضًا في الباب المذكور (2077) من طريق سليمان الأحول، عن طاوس، عن عبد الله بن عمرو، وفي آخره: قلت: أغسلهما؟ قال: " بل أحرقهما".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (القسي) بفتح القاف وتشديد السين المكسورة بعدها ياء النسبة، ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، منسوبة إلى القس: موضع بمصر على الساحل من جهة الشام، وذكر أبو عبيد أن أهل الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها

(1)

.

(1)

"غريب الحديث"(1/ 137).

ص: 222

قوله: (المعصفر) بصيغة اسم المفعول من الرباعي، وهو الثوب المصبوغ بالعصفر، وهو بضم العين والفاء، نبات يستخرج من أزهاره صبع أحمر، يصيغ به الحرير ونحوه.

قوله: (أمك أمرتك بهذا؟) استفهام إنكاري، ومعناه: أن هذا من لبس النساء وزيهن أخلاقهن.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بس الثياب المضلعة بالحرير على الرجال، وهذا مراد به إذا كان أكثره حريرًا.

• الوجه الرابع: في الحديثين دليل على أن الرجل منهي عن لبس الثوب المعصفر، وهذا قول للحنفية، والصحيح من مذهب الحنابلة

(1)

، لكنهم يعبرون عن النهي بالكراهة، وهي كراهة التنزيه، كما هو اصطلاح المتأخرين.

والصواب القول بالتحريم لما ورد في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما"

(2)

، فعلل ذلك بأنها من لباس الكفار، ولأنه أمره بإحراقهما.

وذهب الجمهور، ومنهم: الشافعية والحنفية والمالكية إلى جواز لبس المعصفر، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، كما ورد في حديث أبي جحيفة

(3)

، وقال البراء رضي الله عنه:(كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت شيئًا أحسن منه)

(4)

.

وقد نقل البيهقي عن الشافعي ما يفيد أن النهي خاص بعلي رضي الله عنه لما جاء في بعض الروايات أنه قال: (نهاني ولا أقول: نهاكم)

(5)

.

والصواب القول الأول، وهو الذي رجحه البيهقي في " المعرفة"، وقال بعد أن حكى قول من كرهه ومن أجازه:(والسنة ألزم)

(6)

؛ لأنه قد تقرر في

(1)

"مجمع الأنهر"(2/ 532)، "الإنصاف"(1/ 481).

(2)

أخرجه مسلم (2077).

(3)

أخرجه البخاري (187)، ومسلم (503).

(4)

أخرجه البخاري (5848).

(5)

أخرجه مسلم (480)(211).

(6)

"معرفة السنن والآثار"(2/ 451)، "شرح صحيح مسلم" للنووي (13/ 298).

ص: 223

الأصول أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الصحابة خطاب لبقية الأمة على الصحيح، ما لم يدل دليل على التخصيص، وقد تقدم ذلك.

وأما حديث أبي جحيفة فلا دليل فيه على لبس المعصفر؛ لأمرين:

الأول: أن الحلة لم تكن حمرتها خالصة، وإنما هي منسوجة بخطوط حمر مع الأسود، وهذا جواب ابن القيم

(1)

، وقد تعقبه الشوكاني

(2)

.

الثاني: أن النهي مختص بما صبغ بالعصفر، ولا يلحق به غيره كاللون الأحمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الحلة الحمراء، وهذا جواب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقد ذكره من قبل الحافظ ضمن الأقوال السبعة في حكم لبس الأحمر

(3)

، واختاره الشوكاني

(4)

.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وقد أخذ أهل العلم من ذلك حل الألوان من أسود وأخضر وأحمر وغيرها).

والذي يظهر لي القول بالإباحة كما قال الشيخ ما لم يكن ثوب شهرة يخالف زي أهل بلده، فيترك لذلك.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز العقوبة بالمال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بإحراق ثوبيه، وهذا من باب التعزير بالمال، ذكر ذلك ابن تيمية

(5)

، قال القاضي عياض:(لعل ذلك على وجه التغليظ والعقوبة في المال)

(6)

.

• الوجه السادس: الحديث دليل على تحريم التشبه بالكفار، وأنه يقع في اللباس وفي غيره. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"زاد المعاد"(1/ 137).

(2)

"نيل الأوطار"(2/ 109).

(3)

"فتح الباري"(10/ 306).

(4)

"نيل الأوطار"(2/ 108).

(5)

"الحسبة" ص (54).

(6)

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 589).

ص: 224

‌جواز لبس الثوب الذي فيه يسير الحرير

533/ 10 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: " أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج". رواه أبو داود.

وأصله في مسلم وزاد: " كانت عند عائشة حتى قبضت، فقبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفى بها".

وزاد البخاري في " الأدب المفرد": " وكان يلبسها للوفد والجمعة".

• الكلام عليه من وجوه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " اللباس"، باب " الرخصة في العلم وخيط الحرير"(4054) من طريق عيسى بن يونس، ثنا المغيرة بن زياد، ثنا عبد الله أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر، قال: رأيت ابن عمر في السوق اشترى ثوبًا شاميًا، فرأى فيه خيطًا أحمر فرده، فأتيت أسماء فذكرت ذلك لها، فقالت: يا جارية، ناوليني جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجت جبة طيالسة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج.

وهذا الحديث في سنده المغيرة بن زياد، وهو متكلم فيه، قال ابن حبان: (كان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، فوجب مجانبة ما انفرد من الروايات، وترك الاحتجاج بما خالف الأثبات، والاعتبار بما وافق الثقات من الروايات

(1)

)، وقال الحافظ في " التقريب": (صدوق له

(1)

"المجروحين"(2/ 339)، "تهذيب التهذيب"(10/ 231).

ص: 225

أوهام)، وقال الألباني:(لا يحتج به عند المخالفة)

(1)

، وفي روايته هنا مخالفة لغيره بالزيادة التي ذكرها.

والحديث أصله في مسلم (2069) من طريق خالد بن عبد الله، عن عبد الملك، عن عبد الله مولى أسماء، وساق الحديث بنحوه وزاد:(فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها)

(2)

.

ورواه البخاري في " الأدب المفرد"(384)، قال: حدثنا مسدد، عن يحيى، عن عبد الملك العرزمي، قال: حدثنا عبد الله مولى أسماء، وساق الحديث، وفيه:(كان يلبسها للوفود ويوم الجمعة)

(3)

، وهذا سند حسن؛ لأن عبد الملك العرزمي صدوق له أوهام، كما في " التقريب".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (جبة طيالسة) الجبة: ثوب واسع مفتوح من الأمام، يلبس فوق الثياب، وهي بدون تنوين للإضافة، والطيالسة: جمع طيلسان، وهو كساء غليظ، والمرد أن الجبة غليظة كأنها من طيلسان.

قوله: (مكفوفة الجيب

) الكف عطف أطراف الثوب، والمراد أن الجبة في أطرافها وجوانبها علم من الديباج، وهو من غلظ من الحرير، فيكون ما استدار حول الذيل والأكمام والجيب من الديباج.

قوله: (والجيب) بفتح فسكون، هو الشق الذي يكون حول العنق في القميص ليسهل خلعه في الرأس.

قوله: (والكمين) تثنية كم، وهو مدل اليد ومخرجها من القميص ونحوه.

(1)

"معجم أسامي الرواة الذين ترجم لهم الألباني"(4/ 172).

(2)

"صحيح مسلم"(2069).

(3)

"الأدب المفرد"(384).

ص: 226

قوله: (والفرجين) تثنية فرج، والفرج في الثوب هو الشق الذي يكون أمام الثوب وخلفه في أسفله.

قوله: (للوفد) بفتح الواو وسكون الفاء، جماعة الكرام تذهب إلى أمير أو كريم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا بأس أن يخاط جيب القميص أو الجبة بشيء من الديباج وهو ما غلظ من الحرير، وكذا الكم ونحوه، وهذا محمول على ما تقدم من أنه لا يباح من الحرير إلا بمقدار أربعة أصابع فأقل، جمعًا بين النصوص، وحملًا للمطلق والمجمل على المقيد والمبين.

• الوجه الرابع: استحباب التجمل لصلاة الجعة واستقبال الوفود وحضور المحافل والاجتماعات العامة، وهذا أمر دلت عليه النصوص.

• الوجه الخامس: جواز التبرك والاستشفاء بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وما مس جسده حتى بعد وفاته، لما جعل الله فيه من البركة، وقد وقع ذلك في أحاديث كثيرة، لكن لا يقاس عليه غيره من الصحابة، فضلًا عمن دونهم ممن يظن به الصلاح، كما جرى عليه كثير من الشراح كالنووي وغيره، فصاروا يذكرون في مثل هذا الموضع التبرك بآثار الصحابة، وهذا غير صحيح؛ لأمرين:

الأول: أن الصحابة رضي الله عنه وهو أعلم الناس ما فعلوه مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوه مع أبي بكر ولا عمر رضي الله عنه ولا غيرهما، فلو كان مثل ذلك جائزًا لفعلوه مع هؤلاء الأخيار والبررة الأطهار.

الثاني: أن فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك.

نسأل الله تعالى السلامة، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 227

‌كتاب الجنائز

الجنائز: بفتح الجيم لا غير، جمع جنازة بالفتح والكسر، وهو الميت، وقيل: الجنازة بفتح الجيم للميت، وبكسرها للنعش وعليه الميت، فالفتح للأعلى والكسر للأسفل.

قال ابن دريد: (جنزت الشيء، أجنزه جنزًا: إذا سترته، وزعم قوم أن منه اشتقاق الجنازة، ولا أدري ما صحته)

(1)

.

وهذا الكتاب عقده المؤلف للأحاديث الواردة في أحكام الأموات من الغسل، والتكفين، والصلاة، والحمل، والدفن، وما يتبع ذلك كالتعزية، وزيارة القبور، وسب الأموات، وغير ذلك مما سيأتي إن شاء الله، وذكر في أوله الأحاديث المتعلقة بذكر الموت وتمنيه، وما يفعله حاضر الميت.

وقد سرد الحافظ في كتاب " الجنائز" خمسة وستين حديثًا دون أن يذكر أي باب في أثناء ذلك، إلا أن ذلك في قوة المبوب؛ لأنه راعى في سرد الأحاديث الترتيب الفعلي الذي يصنع بالميت، وإن كان وجد في ثنايا ذلك أحاديث ليست في محلها.

وذكر الجنائز في آخر كتاب " الصلاة"؛ لأن الصلاة على الميت أهم ما يفعل به، وأنفع ما يكون له؛ لأن فائدتها أخروية، وهي الدعاء له والشفاعة، لعل الله تعالى أن يرحمه ويتجاوز عنه، كما سيأتي إن شاء الله وإلا فحقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض.

* * *

(1)

"الجمهرة"(1/ 472).

ص: 229

‌الأمر بإكثار ذكر الموت

534/ 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت". رواه الترمذي، والنسائي، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الزهد"، باب " ما جاء في ذكر الموت"(2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن حبان (7/ 259) من طريق الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا، وقد جاء عند ابن حبان زيادة:" فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقه عليه".

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب).

وذلك لأن محمد بن عمرو بن علقمة مختلف فيه، فقد وثقه النسائي، ومرة قال:(لا بأس به). وقال عنه الذهبي: (شيخ مشهور حسن الحديث، مكثر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قد أخرج له الشيخان متابعة)

(1)

، وقال عنه الحافظ في " التقريب":(صدوق له أوهام). وهذا هو الذي استقر عليه رأي المحدثين من المحققين الذين درسوا أقوال الأئمة فيه. فالرجل صدوق لكنه يهم ويخطئ، فحديثه في رتبة الحسن.

(1)

"الميزان"(3/ 673).

ص: 230

وروى الحديث ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مرسلًا. وقد أنكر الإمام أحمد توصيله كما في " المسائل" وقال الدارقطني:(والصحيح المرسل)

(1)

.

وقد ورد في الباب حديث أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم من الأنصار يضحكون، فقال:" أكثروا ذكر هادم اللذات"

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أكثروا) هذا أمر بالإكثار. والأصل فيه الوجوب ما لم توجد قرينة تصرفه عن ذلك.

قوله: (هاذم اللذات) بالذل المعجمة بمعنى: قاطعها؛ لأن ذكر الموت يقطع لذائذ الدنيا ويزهد الرجل فيها، ويروى بالمهملة (هادم) من هدم البناء، ففيه تشبيه للذائذ الدنيا بالبناء المنهدم، ومزيلها هو الموت. ويروى:(هازم) بالزاي. ومعناه: القهر والغلبة.

قوله: (الموت) بالجر عطف بيان، وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الموت، وبالنصب على تقدير: أعني، وهو بيان للهاذم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكثر من ذكر الموت ولا يغفل عنه؛ لأن الموت حق، ولا بد منه، فينبغي أن يكون على بال المؤمن دائمًا، حتى يستعد له؛ لأن تذكره يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، فيستكثر القليل، ويستقل الكثير، ويتخفف من تعلقه بالدنيا وشهواتها والإسراف في طلبها، بخلاف ما إذا غفل عن ذكر الموت فإنه تشتد نهمته في

(1)

"المصنف"(13/ 225)، "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود" ص (303)"العلل"(8/ 40).

(2)

أخرجه البزار (2/ 466)"مختصر زوائده"، والطبراني في "الأوسط"(1/ 395)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 252)، وحسَّنه المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 236)، ونقل الحافظ في "التلخيص" عن ابن السكن تصحيحه. وقد أنكره أبو حاتم فقال في "العلل" (2/ 131):(هذا حديث باطل)، وذلك لأنه من رواية مؤمل بن إسماعيل، وهو متكلَّم فيه. قال عنه البخاري:(منكر الحديث).

ص: 231

طلب الدنيا ويرغب في جمعها وإنفاق الوقت والجهد في طلبها، وذكر الموت يحث العبد على الطاعة واجتناب المعصية خشية أن يفجأه الأجل.

قال ثابت البناني: (طوبى لمن ذكر ساعة الموت، وما أكثر عبد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله)

(1)

.

وعن شرحبيل: (أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان إذا رأى جنازة قال: اغدوا؛ فإنا رائحون، أو: روحوا؛ فإنا غادون، موعظة بليغة، وغفلة سريعة، كفى بالموت واعظًا، يذهب الأول فالأول، ويبقى الآخر لا حلم له)

(2)

.

* * *

(1)

"حلية الأولياء"(2/ 326).

(2)

"حلية الأولياء"(1/ 217).

ص: 232

‌حكم تمني الموت

535/ 2 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر ينزل به، فإن كان لابد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع منها: كتاب " المرضى"، باب "تمني المريض الموت"(5671)، ومسلم (2680) من طريق إسماعيل بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، به مرفوعًا.

ورواه البخاري (5671)، ومسلم (2680) أيضًا من طريق عن ثابت البناني، عن أنس رض الله عنه، به.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يتمنين) بنون التوكيد. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: " لا يتمنين أحدكما لموت ولا يدع به قبل أن يأتيه"

(1)

، فجمع في النهي عن ذلك بين القصد والنطق بالدعاء به.

قوله: (أحدكم) الخطاب للصحابة رضي الله عنه، والمراد: هم ومن بعدهم من المسلمين عمومًا.

قوله: (لضر ينزل به) الضر بضم الضاد المعجمة: الفقر والفاقة

(1)

"صحيح مسلم"(2682).

ص: 233

وهو اسم، وبفتحها مصدر ضره يضره من باب (قتل) إذا فعل به: مكروهًا.

قوله: (فإن كان لابد متمنيًا) أي: فإن كان لا محالة ولا غنى له عن فعل التمني لغلبة نفسه وهواه حتى منعاه من اجتناب المنهي عنه.

وقوله: (لابد) لا: نافية للجنس، وبد: اسمها، وخبرها محذوف، أي: لابد موجود. و (متمنيًا) خبر كان.

قوله: (فليقل) هذا أمر إباحة؛ لأنه بعد حظر.

قوله: (ما كانت الحياة خيرًا لي) أي: مدة كونها خيرًا لي من الموت، وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية، والأزمنة شبه خالية عن الفتنة والمحنة.

قوله: (ما كانت الوفاة خيرًا لي) أي: من الحياة إذا كان الأمر على ما تقدم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المسلم منهي عن تمني الموت بسبب ضر ينزل به من فقر أو فاقة أو دين أو مرض أو جراحات وغير ذلك؛ لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا يدل على الجزع من البلاء وعدم الرضا بالقضاء، وفيه اعتراض على القدر المحتوم، والواجب الرضا بالقضاء والتسليم لأمر الله تعالى.

الأمر الثاني: أنه ليس في الدعاء بالموت مصلحة، بل فيه مفسدة ظاهرة، وهي طلب إزالة نعمة الحياة وما يترتب عليها من الفوائد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب"

(1)

، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (5673) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 234

الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن الضر عام في الدنيوي والأخروي، وقد حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي الفتنة في دينه لم يدخل في النهي.

وقد ورد حديث أنس عند النسائي من طريق حميد عنه بلفظ: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا"

(1)

. والاستدلال به على أن (في) سببية، أي: بسبب أمر من أمور الدنيا

(2)

.

وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه"

(3)

. وفي حديث معاذ الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون"

(4)

.

• الوجه الخامس: النهي عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة: " اللهم أحيني

" إلخ؛ لأن في هذه الصيغة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، والله تعالى هو العالم بحقائق الأمور وعواقبها، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه وفيه: " اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي

" الحديث

(5)

.

• الوجه السادس: قد امتثل الصحابة رضي الله عنهم هذا النهي، فهذا أنس رضي الله عنه

(1)

"سنن النسائي"(4/ 3)، وأخرجه -أيضًا- ابن حبان (7/ 232)، وإسناده قوي على شرط مسلم.

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 128).

(3)

أخرجه البخاري (7115)، ومسلم في "الفتن"(53)(157).

(4)

أخرجه الترمذي (3235)، وأحمد (36/ 422) وقال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث صحيح").

(5)

أخرجه أحمد (30/ 264 - 265) وهو حديث صحيح.

ص: 235

يقول: (لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به)

(1)

.

وعن قيس بن حازم قال: أتينا خباب بن الأرت نعوده وقد اكتوى سبعًا، فقال:(لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به)

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (7234)، ومسلم (2680).

(2)

أخرجه البخاري (5662)، ومسلم (2681).

ص: 236

‌موت المؤمن بعرق الجبين

536/ 3 - عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن يموت بعرق الجبين". رواه الثلاثة، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الجنائز"، باب " ما جاء أن المؤمن يموت بعرق الجبين"(982)، والنسائي (4/ 5 - 6)، وابن ماجه (1452) وابن حبان (7/ 281) من طريق المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وقد أعل هذا الحديث بأنه لا يعرف لقتادة سماع من عبد الله بن بريدة.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن، قال بعض أهل الحديث: لا نعرف لقتادة سماعًا من عبد الله بن بريدة)، وهذا قول البخاري

(1)

، مع أن عبد الله بن بريدة قد تأخرت وفاته إلى سنة (115 هـ)، وقتادة سنة (117 هـ) فعاصره جل عمره. فاحتمال اللقاء بينهما وارد، لكن هذا فيه نظر من وجهين:

الوجه الأول: أن البخاري نفى سماعه، والبخاري من أعلم خلق الله بالرواة وعصورهم، وقد يؤيد ذلك بعد البلدين، فقتادة بصري، وابن بريدة خراساني.

الوجه الثاني: أن قتادة مدلس، ومن يقول: يكتفى بإمكان اللقاء، بشترط سلامة الراوي من التدليس.

(1)

"التاريخ الكبير"(4/ 12)، "المراسيل" لابن أبي حاتم (168).

ص: 237

وقد توبع قتادة في روايته، فرواه كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به، أخرجه النسائي (4/ 6)، وكهمس هو ابن الحسن التميمي، ثقة من رجال الجماعة، والحديث إسناده صحيح.

وقد مر في مقدمة " البلوغ" أن مراد الحافظ بالثلاثة: أبو داود والترمذي والنسائي، وهذا الحديث رواه ابن ماجه، ولم يروه أبو داود.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المؤمن يموت بعرق الجبين.

والعرق بالفتح: الماء الذي يخرج من الجسد عند المشقة أو الحرارة. وقد عد الألباني

(1)

ذلك من علامات حسن الخاتمة، وقد فسر الحديث بمعنيين:

المعنى الأول: أن الحديث كناية عن كد المؤمن ومشقته في طلب الحلال وأداء الصوم والصلاة ومراعاة أحكام الدين حتى الموت.

المعنى الثاني: أنه كناية عن الشدة والمشقة التي يلقاها المؤمن عند الموت وسكراته تطهيرًا له من الذنوب، وهذا هو الأقرب.

وقد ورد الحديث عند أحمد

(2)

وغيره بالطريق المذكور عن ابن بريدة عن أبيه، أنه كان بخراسان، فعاد أخًا له وهو مريض، فوجده بالموت؛ وإذا هو يعرق جبينه، فقال:(الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " موت المؤمن بعرق الجبين"). فهذا يؤيد المعنى الثاني؛ ولأن شدة النزع أمر ثابت.

وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه؛ فإذا اغتم بها كشفها

) الحديث

(3)

.

فالموت له سكرات لكنها قد تخفف على إنسان وتشدد على آخر، نسأل الله أن يعيننا على الموت، ويخفف عنا سكراته. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"أحكام الجنائز" ص (35).

(2)

"المسند"(38/ 129).

(3)

أخرجه البخاري (435)، ومسلم (531).

ص: 238

‌مشروعية تلقين المحتضر "لا إله إلا الله

"

537/ 4 - عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله" رواه مسلم، والأربعة.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا المتن عبارة عن حديثين بإسنادين: الأول: حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

وقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " تلقين الموتى لا إله إلا الله"(916)، وأبو داود (3117)، والترمذي (976)، والنسائي (4/ 5)، وابن ماجه (1445) من طريق عمارة بن غزية، حدثنا يحيى بن عمارة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول:

فذكره مرفوعًا.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم (917)، وابن ماجه (1444) من طريق زيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية تلقين المحتضر (لا إله إلا الله) والمراد بقوله: (لقنوا) أي: ذكروا الميت: لا إله إلا الله.

وقد حمل الجمهور من أهل العلم الأمر في هذا الحديث على الاستحباب، كما ذكره النووي وغيره، وظاهر الوجوب؛ لأنه الأصل، ولا صارف له، ولهذا قال الشوكاني بعد أن ذكر القول بالندب:(ولكن ينبغي أن ينظر ما القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب؟)

(1)

.

(1)

"نيل الأوطار"(4/ 23).

ص: 239

وهذا التلقين إنما هو عند الاحتضار. والمراد بقوله: (موتاكم): من حضره الموت، لا من مات. وأما التلقين بعد الموت ووضعه في القبر فهذا بدعة، وسيأتي في موضعه إن شاء الله.

وحكمة هذا التلقين لأجل أن تكون هذه الكلمة العظيمة آخر كلامه من الدنيا فيدخل الجنة.

وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه زيادة عند البزار وابن حبان: (فإنه من كان آخر كلمته: لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يومًا من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه"

(1)

.

والمراد بالتلقين: أن يأمر المحتضر بقول: لا إله إلا الله، وهذا إذا كان قويًا يتحمل؛ فإن كان لا يستطيع لضعفه فإنه يقولها عنده بحيث يسمعها ويكفي، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من الأنصار، وفي رواية: من بني النجار، فقال:" يا خال، قل: لا إله إلا الله"، فقال: أخال أم عم؟ فقال: " لا، بل خال"، قال: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"

(2)

.

والتلقين يكون مرة واحدة لحصول المقصود، ولئلا يضجره فيقول: لا أقول، أو يتكلم بغيرها مما لا يليق، لضيق حاله وشدة كربه.

فإن تكلم بعد التلقين أعاد تلقينة مرة أخرى، لحديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"

(3)

.

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب حضور المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإماض عينيه والقيام بحقوقه. وقد يكون واجبًا بناءً على ما تقدم، والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البزار (1/ 61)"مختصر زوائده"، وابن حبان (7/ 272)، وفي سند ابن حبان: محمد بن إسماعيل الفارسي، ذكره في "الثقات" (9/ 78) وقال:(يُغرب)، وقد روي موقوفًا كما في "مصنف عبد الرزاق"(6045).

(2)

أخرجه أحمد (20/ 18)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(3)

أخرجه أبو داود (3116)، وأحمد (36/ 363)، والحاكم (1/ 351)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(3/ 150)، وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار وابن حبان، وتقدم.

ص: 240

‌حكم قراءة {يس} على المحتضر

538/ 5 - عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرأوا على موتاكم {يس} . رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو معقل بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف ابن يسار بن عبد الله المزني. ومزينة المنسوب إليها: هي والدة أحد أجداده، وهو عثمان بن عمرو، نسبوا إليها، وكنيته أبو علي، وقيل: أبو عبد الله، وقيل غير ذلك. أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان، وهو الذي حفر في البصرة نهر معقل بأمر من عمر رضي الله عنه فنسب إليه

(1)

. روى عنه عمران بن حصين، والحسن البصري، والحكم بن الأعرج، وآخرون، نزل البصرة، وبني بها دارًا، ومات بها في خلافة معاوية رضي الله عنه

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب "القراءة عند الميت"(3121)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(1074)، وابن حبان (7/ 269) من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان، وليس بالنهدي، عن أبيه، عن معقل بن يسار، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

فذكره، ولم يقل النسائي وابن حبان: عن أبيه.

(1)

انظر: "معجم البلدان"(5/ 323).

(2)

"الاستيعاب"(10/ 172)، "الإصابة"(9/ 259).

ص: 241

وهذا الإسناد ضعيف لأمرين:

1 -

الاضطراب في إسناده، فقد روي عن أبي عثمان، عن أبيه، عن معقل مرفوعًا، وروي عن أبي عثمان، عن معقل مرفوعًا، بإسقاط (عن أبيه)، وروي عن رجل، عن أبيه، عن معقل مرفوعًا، وروي عن معقل موقوفًا.

وقد نقل الحافظ عن ابن القطان أنه أعله بالاضطراب، والوقف، وجهالة أبي عثمان وأبيه

(1)

.

2 -

أن أبا عثمان هذا مجهول، وكذا أبوه، كما ذكر الذهبي

(2)

، وقال ابن المدين في أبي عثمان هذا:(لم يرو عنه غير سليمان التيمي، وهو مجهول)، وقد ذكره ابن حبان في " الثقات"

(3)

.

والتنصيص في الإسناد على أن أبا عثمان ليس هو النهدي ملحظ دقيق؛ لأن سليمان التيمي معروف بالرواية عن أبي عثمان النهدي، وهو عبد الرحمن بن مل، وهو ثقة، ثبت، عابد، كما في "التقريب"، وقد نقل الحافظ في " التلخيص"

(4)

عن ابن العربي عن الدارقطني أنه قال: (هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث)، وهذا مقالة يوقف عندها؛ لأنها من إمام نقاد وبصير بالعلل وأحوال الرجال.

• الوجه الثالث: هذا الحديث يستدل به الفقهاء على استحباب قراءة سورة {يس} عند المحتضر، ولهذا يذكرونه في أول " الجنائز"، وقد فسر ابن حبان هذا الحديث بهذا المعنى، لا أن الميت يقرأ عليه، وقد أيد ابن القيم هذا القول من خمسة أوجه

(5)

، لكن الصواب أن قراءتها غير مشروعة، لضعف الحديث، ويقتصر في ذلك على ما ثبت في السنة، وهو تلقينه لا إله إلا الله، كما تقدم.

(1)

"التلخيص"(2/ 110)، وانظر:"بيان الوهم والإيهام"(5/ 49 - 50) ففيه التصريح بالأخير فقط.

(2)

"الميزان"(4/ 550).

(3)

(7/ 664).

(4)

(2/ 110).

(5)

"الروح" ص (18).

ص: 242

وقد ذكر العلماء أن حكمة قراءتها لما فيها من التوحيد والمعاد، وذكر البشري بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه، بقوله تعالى:{يا ليت قومي يلعمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27)} [يس: 26، 27]، ذكر ذلك ابن القيم

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الروح" ص (18).

ص: 243

‌ما ينبغي فعله لحاضر الميت

539/ 6 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة رضي الله عنها وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال:" إن الروح إذا قبض اتبعه البصر"، فضج ناس من أهله، فقال:" لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون"، ثم قال:"اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبة". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر"(920) من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة

الحديث، وفي سياقه اختلاف، ولفظه كما في " الصحيح": "

فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" ثم قال: " اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابربن، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (على أبي سلمة) هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، مشهور بكنيته، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأول من هاجر بظعينته

(1)

إلى

(1)

الظعينة: المرأة.

ص: 244

أرض الحبشة ثم إلى المدينة، وكان أخًا للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، كما في الصحيحين، وتزوج أم سلمة، ثم صارت بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أصابه سهم في أحد، ثم انتقض جرحه سنة أربع من الهجرة فمات منه رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (وقد شق بصره) بفتح الشين وبصره برفع الراء فاعل، والمعنى: شخص وانفتح؛ لأنه يتبع الروح وينظر أين نذهب؟.

قال النووي: (هكذا الرواية فيه باتفاق الحفاظ وأهل الضبط)

(2)

، ويجوز ضبط (بصره) بالنصب وهو صحيح أيضًا يقال: شق الميت بصره: إذا شخص.

قوله: (فأغمضه) أي: أطبق أجفانه لئلا يتشوه منظره.

قوله: (إن الروح إذا قبض اتبعه البصر) أي: إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظرًا أين يذهب؟ وفي (الروح) لغتان: التذكير والتأنيث، وهذا الحديث دليل التذكير.

والروح: جسم نوراني علوي خفيف متحرك ينفذ في الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في العود

(3)

، وهذا الحديث يدل على ذلك، فإن القبض لا يكون إلا لجسم، والبصر لا يتبع إلا شيئًا مرئيًا هو الجسم.

وقوله: (اتبعه) هذا لفظ البلوغ، والمثبت في مسلم المطبوع:" تبعه".

قوله: (فضج ناس) أي: صرخ ناس جزعًا على موته، لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك. قال ابن الأثير:(الضجيج: الصياح عند المكروه والمشقة والجزع)

(4)

.

قوله: (فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) هذا يشعر بأنه وقع منهم دعاء على أنفسهم من هول ما سمعوا.

(1)

"الإصابة"(6/ 14).

(2)

"الأذكار" للنووي ص (131).

(3)

انظر: "التعريفات" للجرجاني ص (112).

(4)

"النهاية"(3/ 74).

ص: 245

قوله: (فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون) أي: فإن الملائكة الحاضرين حينئذ (تؤمن) أي: يقولون: آمين، أي: استجب، على ما تقولون من الدعاء فلا تدعو إلا بخير ليحصل تأمينهم عليه فيستجاب.

قوله: (اللهم اغفر لأبي سلمة) ذكره بكنيته دون اسمه؛ لأنه اشتهر بها، كما تقدم، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه.

قوله: (وارفع درجته في المهديين) أي: اجعل له درجة علية عندك في المهديين، وهم الذين هداهم الله بالإسلام سابقًا وبالهجرة إلى خير الأنام لاحقًا. وهذا الدعاء مع ما قبله في غاية المناسبة والترتيب؛ لأن الأول من باب التخلية بالمعجمة والثاني من باب التحلية بالمهملة.

قوله: (واخلفه) بهمزة الوصل، وضم اللام، أي: كن له خلفًا وخليفة.

قوله: (في عقبه) بفتح فكسر، ويجوز إسكانها للتخفيف: هو الولد وولد الولد.

قوله: (في الغابرين) أي: الباقين، وهو بدل بإعادة العامل، والمعنى: كن خليفة له في ذريته بحفظك لهم وبركتك فيهم.

قوله: (واغفر لنا وله) بتقديم النفس قبل الدعاء للآخر.

قوله: (يا رب العالمين) مناسبة ختم الدعاء بذلك أن من كان خالق العالمين ومالكهم ومدبر شؤونهم هو الذي يطلب منه ذلك.

والعالمين: كل من سوى الله تعالى، وصفوا بذلك؛ لأنهم علم على خالقهم صلى الله عليه وسلم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يستحب لحاضر الميت إغماض عينيه، لئلا تبقى مفتوحة فيتشوه منظره، وكذا ينبغي شد لحييه بعصابة عريضة تربط فوق رأسه؛ لأنه لو ترك لصار كربه المنظر.

• الوجه الرابع: النهي عن الضجيج والصراخ ورفع الصوت عند مصيبة الموت؛ لأن الملائكة تؤمن على ما يقال، فالواجب في هذه الحال الدعاء بكل خير، ليحظى الداعي بتأمين الملائكة واستجابة الدعاء.

ص: 246

الوجه الخامس: أنه يستحب لحاضر الميت أن يشتغل بالدعاء لنفسه وللميت بالرحمة والمغفرة ورفع الدرجات في الجنة، وصلاح أهله وذريته؛ لأن الدعاء له عند أهله وبحضرتهم مما يخفف المصيبة، ويسلي المصابين، ويدل على مشاركتهم في مصيبتهم، فالدعاء في هذا الموطن في غاية المناسبة.

• الوجه السادس: استحباب البدء بالنفس قبل الغير في الدعاء لقوله: " واغفر لنا وله يا رب العالمين"، وقد ورد في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه

(1)

، ولكن هذا ليس عادة لازمة، كما ذكر العلماء

(2)

.

• الوجه السابع: إثبات نعيم القبر من اتساعه للميت وتنويره له، فيكون عليه روضة من رياض الجنة، نسأل الله الكريم من فضله.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (3984)، والترمذي (3385)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 165)، وأحمد (35/ 64، 65)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(2)

انظر: "تحفة الأحوذي"(9/ 327).

ص: 247

‌استحباب تغطية الميت قبل تجهيزه

540/ 7 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

الحديث أخرجه البخاري في كتاب "اللباس"، باب " البرود والحبر والشملة"(5814)، ومسلم (942) من طريق الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث. وهذا لفظ البخاري.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سجي) بضم السين وكسر الجيم المشددة، مبني للمجهول، أي: غطي جميع بدنه صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ببرد) البرد: بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة ثم دال مهملة، كساء له أعلام، جمعه: برود وأبراد.

قوله: (حبرة) بالإضافة لما قبلها، أو بالوصف، وهي بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وتاء التأنيث، وهي برود اليمن تصنع من قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب تغطية جسد الميت كله، وعدم ترك وجهه وأطرافه مكشوفة، صيانة للميت عن الانكشاف والاطلاع على صورته المتغيرة بوفاته، وهذا يكون قبل تغسيله وتكفينه، ويستثنى من ذلك المحرم، كما سيأتي إن شاء الله.

ص: 248

‌جواز تقبيل الميت

541/ 8 - عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجهين:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب "الدخول على الميت إذا أدرج في أكفانه"(1241) من طريق عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني معمر ويونس، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته قالت: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى

) الحديث.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز تقبيل الميت لمن يجوز له تقبيله في حال الحياة والنظر إلى وجهه.

والظاهر من السياق أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم تقبيل المحب لحبيبته، وهذا دليل واضح على شدة محبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أبو بكر رضي الله عنه تبركًا، كما يقول بعض الشراح؛ ليأخذوا منه جواز تقبيل الميت تبركًا؛ فإن هذا لا دليل عليه، بل السياق يدل على أنه محبة لا تبرك، ولو كان تبركًا لفعله بقية الصحابة رضي الله عنهم، ولو سلمنا أنه فعله تبركًا لكان خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد غيره، تقول عائشة رضي الله عنها: (ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى، فقال: بأبي وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها

) الحديث.

ص: 249

‌وجوب المبادرة بقضاء دين الميت

542/ 9 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نفس المؤمن معلقة بدينه، حتى يقضي عنه". رواه أحمد، والترمذي وحسنه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (15/ 425)، والترمذي (1078)(1079) من طريق سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وذلك لأن في إسناده عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المخزومي. قال ابن الميدني عن يحيى بن سعيد:(كان شعبة يضعف عمر بن أبي سلمة)، وقال أحمد:(صالح)، وقالا بن معين:(ليس به بأس) وفي رواية: (ضعيف الحديث)، وقال البخاري:(ليس بالقوي)، وكذا قال النسائي، ونقل الحافظ عن البخاري أنه قال:(صدوق إلا أنه يخالف في حديثه)

(1)

. وقريب منه قول أبي حاتم، وقال الحافظ في " التقريب":(صدوق يخطئ).

وعلى هذا فيقبل حديثه ما لم يخالف؛ فإن خالف ترك، وهنا يقبل حديثه؛ لأنه لم يتفرد به، فقد أخرجه ابن حبان (7/ 331) من طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا،

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 402).

ص: 250

وهذا إسناد رواته كلهم ثقات، لكن قد يعل بتفرد عبد الله بن محمد الأزدي شيخ ابن حبان لأنه وإن كان ثقة، لكن عنده غرائب

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على عظم شأن الدين أن نفس المؤمن محبوسة ومرهونة به مهما كان صلاحها واستقامتها حتى يقضى عنه، وهذا والله أعلم لأن حقوق الآدميين مبنية على الشح ودم السماح بها.

ويستفاد من هذا أنه ينبغي التخلص من الدين قبل الموت، ومما يؤسف عليه أن نجد بعض الناس عليه ديون، وله رصيد من المال في أحد المصارف يستفيد منه صاحب المصرف، وهو محروم من الانتفاع به، وأي نفع أعظم من قضاء الدين منه؟!

قال العراقي في معنى الحديث: (أي: إن أمرها موقوف، لا حكم لها بنجاة ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا؟)

(2)

.

ومما يدل على عظم شأن الدين ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين"، وفي رواية له:" القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين"

(3)

. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال:"صلوا على صاحبكم"، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال:" أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه، ومن ترك مالًا فهو لورثته"

(4)

.

وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه، وعن طريق المعاملة المباحة، فكيف بما أخذ نهبًا أو غصبًا أو سلبًا؟!

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب المبادرة بقضاء دين الميت

(1)

انظر: "زوائد رجال صحيح ابن حبان"(3/ 1523).

(2)

"تحفة الأحوذي"(4/ 193).

(3)

أخرجه مسلم (1886).

(4)

أخرجه البخاري (6731)، ومسلم (1619)، وهذا لفظ مسلم، وسيأتي شرحه في كتاب "البيوع" -إن شاء الله تعالى-.

ص: 251

وتخليص ذمته منه، وهذا من أهم ما يفعل عنه بعد وفاته، سواء كان هذا الدين لله؛ كالزكاة والكفارة والنذر وما أشبه ذلك، أو للآدميين، كالقرض وثمن المبيع والأجرة ونحو ذلك.

والظاهر أن هذا محمول على من له مال يقضى منه دينه؛ وأما من لا مال له ومات عازمًا على القضاء فقد ورد ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (2387)، وسيأتي شرحه -أيضًا- في كتاب "البيوع" -إن شاء الله تعالى-.

ص: 252

‌ما يصنع بالميت إذا كان محرمًا

543/ 10 - عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي سقط عن راحلته فمات: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، ومنها: كتاب " الجنائز"، في عدة أبواب، أولها: باب " الكفن في ثوبني"(1265)، ومسلم (1206)(94) من طريق حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، أو قال: فأوقصته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" هذا لفظ البخاري في الباب المذكور، ورواه البخاري (1851) ومسلم (1206)(99) من طريق أبي بشر، ورواه مسلم أيضًا (1206)(93) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو كلاهما عن سعيد، عن ابن عباس بلفظ:" وكفنوه في ثوبيه".

وجاء في رواية عند مسلم " في الحج"(98) من طريق سفيان، عن عمر بن دينار، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه:" ولا تخمروا رأسه ولا وجهه".

وهذه الزيادة ضعفها الإمام البخاري فقال: (والصحيح لا تخمروا رأسه)

(1)

، كما ضعفها البيهقي، فقال بعد ذكر رواية أبي الزبير عن سعيد

(1)

انظر: "غرائب شعبة" من مجموع "أحاديث الشيوخ الكبار" ص (192).

ص: 253

بلفظ: " وأن يكشفوا وجهه حسبته قال: ورأسه": (ذكر الوجه فيه غريب ورواية الجماعة الذين لم يشكوا، وساقوا المتن أحسن سياقة، أولى بأن تكون محفوظة)

(1)

، وممن ضعفها الحاكم

(2)

، وتعقبه الزيلعي

(3)

، وصحح الزيادة الحافظ

(4)

، والألباني

(5)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب تغسيل الميت، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك.

• الوجه الثالث: استدل العلماء بقوله: " وكفنوه في ثوبيه" على أن الكفن مقدم على الميراث وعلى الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولم يسأل عن وارثه ولا عن دين عليه، ولو اختلف الحال لسأل.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين، وهما إزار ورداء، ويكون التكفين بالثلاثة كما سيأتي محمولًا على الاستحباب

(6)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الميت إذا كان محرمًا يصنع به ما يصنع في الميت غير المحرم من التغسيل والتكفين، إلا أنه يجنب ما يجتنبه المحرم من الطيب وتغطية الرأس، ويشرع تكفينه بثوبي إحرامه، لرواية:" وكفنوه في ثوبيه" ولا يزاد على ذلك، تكرمةً له.

• الوجه السادس: مشروعية خلط الماء بالسدر في تغسيل الميت، والسدر: شجر النبق. والمراد هنا: ورقه، فيدق ويخلط بالماء، وذلك لأن السدر أبلغ في التنظيف وتصليب بدن الميت.

• الوجه السابع: الحديث دليل على مشروعية تحنيط الميت، والحنوط: أخلاط من طيب تعد للأموات خاصة، يذر بين الأكفان ويجعل منه في قطن على منافذ وجهه ومواضع سجوده.

(1)

"السنن الكبرى"(3/ 393).

(2)

"علوم الحديث" ص (148).

(3)

"نصب الراية"(3/ 28).

(4)

"فتح الباري"(4/ 54).

(5)

"الإرواء"(4/ 197 - 200).

(6)

انظر: "زاد المعاد"(2/ 240 - 241).

ص: 254

ووجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تحنيط المحرم دليل على أن تحنيط الميت أمر متبع.

• الوجه الثامن: اختلف العلماء في حكم تغطية وجه المحرم على قولين:

الأول: أن تغطية الوجه ليس من محظورات الإحرام، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول الشافعي، وعزاه ابن حجر إلى الجمهور

(1)

، واختاره ابن حزم، وابن القيم

(2)

.

القول الثاني: أن تغطية الوجه من محظورات الإحرام، وهو قول أبي حنيفة ومالك

(3)

، ورواية عن أحمد، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز

(4)

، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي

(5)

، استدلالًا برواية:" ولا تخمروا رأسه ولا وجهه".

وسبب الخلاف اختلاف العلماء في صحة هذه اللفظة: " ولا وجهه"، فمن صححها أخذ بها، واستدل أيضًا بقول ابن عمر رضي الله عنها:(ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم)

(6)

، ومن ضعفها وقال: إنها غير محفوظة

(7)

، قال: يجوز للمحرم أن يغطي وجهه، وأن يغطي أنفه، وأن يلبس الكمامة

(1)

"الأم"(7/ 255)، "المغني"(5/ 153)، "المجموع"(7/ 268)، "شرح العمدة" لابن تيمية (2/ 52)، "فتح الباري"(4/ 54)، "الإنصاف"(3/ 463).

(2)

"المحلى"(7/ 91 - 92)، "إعلام الموقعين"(1/ 223)، (2/ 198)، "زاد المعاد"(2/ 244).

(3)

"الكافي" لابن عبد البر (1/ 388)، "المغني"(5/ 153)، "المبسوط"(4/ 7).

(4)

"الفتاوى"(17/ 117).

(5)

"أضواء البيان"(5/ 358).

(6)

أخرجه مالك (1/ 327)، وابن أبي شيبة (308)، والبيهقي (5/ 54) عن نافع، عن ابن عمر، وإسناده صحيح، كما قال النووي في "المجموع"(7/ 268) لكن أجاب عنه المجيزون بأنه معارض بفعل عثمان وموافقيه رضي الله عنهم.

(7)

وعلى فرض صحتها أجيب عنها: بأنه إنما نهي عن تغطية وجه المحرم الذي وقع عن راحلته لصيانة رأسه، لا لقصد كشف وجهه، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه، ذكره في "المجموع"(7/ 268).

ص: 255

المعروفة التي تغطي الفم والأنف، والمحرم قد يحتاج إلى تغطية وجهه إذا نام عن الضوء، أو عن الذباب ونحو ذلك

(1)

.

واستدل أيضًا بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تخمروا رأسه"، فإنه لو كان تغطية الوجه حرامًا لنهى عنه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما استدل بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه غطى وجهه وهو محرم

(2)

.

كما ورد أيضًا عن جابر

(3)

، وزيد بن ثابت، وابن الزبير رضي الله عنهم

(4)

.

(1)

انظر: "الشرح الممتع"(7/ 188).

(2)

أخرجه مالك (1/ 354)، وعنه الشافعي كما في "مسنده"(226)، ومن طريقه أخرجه البيهقي (5/ 54)، وابن حزم (7/ 91) من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عن عثمان

وعبد الله هذا ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثقه العجلي رقم (831)، وإسناده صحيح كما قال النووي في "المجموع"(8/ 268)، وله طريق آخر رواه مالك (1/ 327)، وابن أبي شيبة (307 الجزء المفرد)، والبيهقي (5/ 45) من طريق يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن الفرافصة بن عمير، قال: رأيت عثمان مغطيًا وجهه وهو محرم.

والفرافصة هذا لم يعرف بتوثيق إلا عند ابن حبان (5/ 299)، والعجلي رقم (1347)، وقد روى عنه جماعة، وله ترجمة في "تعجيل المنفعة" ص (218).

(3)

رواه ابن أبي شيبة ص (308)، والبيهقي (5/ 54)، وابن حزم (7/ 91)، وأبو داود في "مسائله" ص (110) عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، به، يقول:(يغتسل المحرم، ويغسل ثيابه، ويغطي أنفه من الغبار، ويغطي وجهه وهو نائم).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة ص (308) -ومن طريقه ابن حزم (7/ 91) - وأبو داود في "مسائله" ص (110)، من طريق ابن جربج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن الفرافصة، قال: رأيت عثمان وزيدًا وابن الزبير يغطون وجوههم وهم محرمون إلى قصاص الشعر.

ورواه الشافعي في "الأم"(7/ 255) -ومن طريقه البيهقي (5/ 54) - عن سفيان ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمِّرون وجوههم وهم محرمون.

قال النووي في "المجموع"(8/ 268): (هذا إسناد صحيح). وهذا الأثر رواته ثقات، والقاسم بن محمد أدرك عثمان ومروان، ولكنه لم يدرك زيدًا، كما ذكر ابن المديني في "العلل" ص (44 - 45، 49)، ونقله عنه العراقي في "تحفة التحصيل" ص (261)، وذكر النووي أنه لم يدرك عثمان، والله أعلم.

ص: 256

الوجع التاسع: الحديث دليل على أن الإحرام لا يبطل بالموت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يقربون طيبًا أو يغطوا رأسه، وقال:" إنه يبعث يوم القيامة ملبيًا".

• الوجه العاشر: الحديث دليل على أن المحرم بحج أو عمرة إذا مات قبل إتمام نسكه أنه لا كمل عنه لو كان فرضًا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بإتمام نسكه، ولأنه لو قضي عنه لانتهى منه، فلم يبعث يوم القيامة ملبيًا، فكونه يبعث ملبيًا دليل على أنه باق على نسكه، وقد ذهب الجمهور إلى القول بعموم الحديث لكل من مات محرمًا، وهو قول عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، وهو مذهب أحمد والشافعي وإسحاق.

وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أن هذا الحديث خاص بذلك الرجل لقوله: " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، ولم يقل: فإن المحرم، وأما غيره فإن إحرامه ينقطع بموته، ويصنع به كما يصنع بالحلال؛ لأنه بالموت انقطع التكليف.

وأجاب الجمهور بأن العلة هي الإحرام، وهي عامة لكل محرم، والتلبية شعار الإحرام، ولو كان مختصًا بذلك الرجل لم يشر إلى العلة، ولا سيما إن قيل: لا يصح التعليل بالعلة القاصرة، والأصل أن ما ثبت لشخص في زمنه صلى الله عليه وسلم فهو ثابت لغيره إلا بدليل يدل على تخصيصه به

(1)

. ويدل لذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يبعث كل عبد على مات عليه"

(2)

.

• الوجه الحادي عشر: أن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رجى له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "زاد المعاد"(2/ 245)، "الإعلام" لابن الملقن (4/ 452).

(2)

رواه مسلم (2878).

ص: 257

‌حكم تجريد الميت عند غسله

544/ 11 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري، نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا، أم لا؟

الحديث.

رواه أحمد، وأبو داود.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (43/ 331)، وأبو داود في كتاب "الجنائز"، باب "في ستر الميت عند غسله"(3141) من طريق محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟

فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجلًا إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو؟ أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم.

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. وهذا إسناد جيد. محمد بن إسحاق صرح بالتحديث، فانتفت شبهة تدلسه، وبقية رجاله ثقات.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن تغسيل الميت أمر معروف عند الصحابة رضي الله عنهم، وأن الميت يجرد عن الثياب عند غسله؛ لأن تجريده أمكن في تغسيله وأبلغ في تطهيره، وتلف خرقة على فرجه.

ص: 258

ووجه الاستدلال: أن قوهم: (أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟) دلل على أنهم كانوا يجردون موتاهم.

وأما ستر عورته فلقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة

"

(1)

، والأولى أن يكون تغسيله تحت سقف ونحوه.

• الوجه الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم وقع بينهم اختلاف في تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم هل يجرد من ثيابه كغيره من الموتى أو لا؟ فألقى الله عليهم النعاس فسمعوا من ينادي بتغسيله في ثيابه، فاتفقوا على ذلك، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من الموتى، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (338).

ص: 259

‌حكم تغسيل الميت وصفته

545/ 12 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، فقال:" اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور". فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه. فقال:" أشعرنها إياه" متفق عليه.

وفي رواية: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها".

وفي لفظ للبخاري: " فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناه خلفها".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الوضوء"، ثم في كتاب " الجنائز" في أحد عشر بابًا متوالية، أولها باب " غسل الميت ووضوئه"(1253)، ومسلم (939)(36) من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها قالت:

فذكرت الحديث.

وأخرجه البخاري في كتاب " الوضوء"، باب " التيمن في الوضوء والغسل"(167)، ومسلم (939)(42 - 43) من طريق إسماعيل بن علية، قال: حدثنا خالد، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها، وذكرت الحديث. وفيه " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". وأخرجه البخاري في " الجنائز"، باب " يلقى شعر المرأة خلفها"(1263) من طريق يحيى بن سعيد، عن هشام بن حسان، قال: حدثنا حفصة، عن أم عطية رضي الله عنها وذكرت الحديث، وفيه " فضفرنا شعرها

".

ص: 260

وهذا الحديث هو الأصل في أحكام تغسيل الميت، قال ابن المنذر:(ليس في غسل الميت حديث أعلى من حديث أم عطية)

(1)

. وقال ابن عبد البر: (كان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عن أم عطية غسل الميت)

(2)

. وقال ابن حجر: (ومدار حديث أم عطية على محمد وحفصة ابني سيرين، وحفظت منه حفصة ما لم يحفظه محمد)

(3)

.

قوله: (ونحن نغسل ابنته) لم يرد تسميتها في جميع روايات البخاري، وقد وردت تسميتها في إحدى روايات مسلم

(4)

، وأنها زينب، وهي امرأة أبي العاص، وقد مضى ذكرها في آخر باب " شروط الصلاة

(5)

.

قوله: (اغسلنها) أمر لأم عطية ومن معها، ومنهن صفية بنت عبد المطلب، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهن.

قوله: (ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر) منصوب على المفعول المطلق، أي: غسلًا ثلاثًا. وقوله: (أو أكثر) أي: من خمس، وقد وقع في إحدى الروايات: " اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك

"

(6)

.

قوله: (إن رأيتن ذلك) أي: أكثر من خمس، ومفعول رأى الثاني محذوف، تقديره: إن رأيتن ذلك لازمًا أو نحوه.

قوله: (بماء وسدر) الجار والمجرور متعلق بالفعل (اغسلنها)، وتقدم معنى السدر، وفائدته في غسل الميت.

قوله: (في الآخرة) أي الغسلة الآخرة، وهي آخر الغسلات.

قوله: (كافورًا) نوع من الطيب أبيض زجاجي، يدق ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.

(1)

"الأوسط"(5/ 333).

(2)

"الاستيعاب"(4/ 452).

(3)

"فتح الباري"(3/ 627).

(4)

"صحيح مسلم"(939)(40).

(5)

انظر: الحديث رقم (226).

(6)

"صحيح البخاري"(1259)، و"مسلم"(647).

ص: 261

قوله: (أو شيئًا من كافور) أو: للشك من الراوي هل قال: كافورًا أو قال: شيئًا من الكافور، والفرق بينهما أن الثاني يشعر بقلة الكافور المجعول، وقيل: لا فرق بينهما؛ لأن الأول نكرة في سياق الإثبات ويصدق بكل شيء منه.

قوله: (فألقى إلينا حقوه) بفتح الحاء وكسرها، وهو ما فوق الورك، والمراد به هنا: الإزار، وإطلاق الحقو عليه للمجاورة، وقد جاء في رواية البخاري:" فنزع من حقوه إزاره"

(1)

.

قوله: (أشعرنها إياه) أي: اجعلنه شعارًا لها، والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. والمعنى: اجعلنه يلي جسدها ثم فوقه الأكفان.

قوله: (ابدأن بميامنها) جمع ميمنة، وهو الجانب الأيمن، والمعنى: اغسلن الأيمن من جسدها قبل الأيسر.

قوله: (ثلاثة ثرون) جمع قرن، وهو الشعر المفتول. وفي رواية "نقضنه ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون"، وفي رواية:"ناصبتها وقرنيها"، وفي رواية:" ألقيناها خلفها".

وظاهر الحديث أن أم عطية رضي الله عنها مشطت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسها، وعند ابن حبان من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب: "

واجعلن لها ثلاثة قرون"

(2)

، وظاهر هذا أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ الأول، وأما هذا اللفظ فلعله وهم من حماد بن سلمة، فإنه وإن كان ثقة إلا أن له بعض الأوهام، ولعل هذا منها.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب تغسيل الميت، وقد نقل النووي الإجماع على أن تغسيل الميت فرض كفاية

(3)

، مع أنه روي عن الإمام مالك بأنه سنة مؤكدة

(4)

، كما نقله القرطبي ورجحه

(5)

، فيكون القول بأنه

(1)

"صحيح البخاري"(1257).

(2)

"الإحسان"(7/ 304 - 305).

(3)

"المجموع"(5/ 128).

(4)

"بداية المجتهد"(2/ 9).

(5)

"المفهم"(2/ 592).

ص: 262

فرض كفاية هو مذهب الجمهور، وهو الصواب بلا ريب.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على صفة تغسيل الميت، وذلك بأن يبدأ بغسل أعضاء الوضوء مقدمًا اليمنى من اليدين والرجلين على اليسرى، ثم بغسل سائر جسده مقدمًا اليمين على اليسار، ويستعمل أثناء الغسل السدر أو ما يقوم مقامه في التنظف كالصابون، قال ابن قدامة: (فإن لم يجد السدر غسله بما يقوم مقامه ويقرب منه، كالخطمي

(1)

ونحوه؛ لأن المقصود يحصل منه، وإن غسله بذلك مع وجود السدر جاز؛ لأن الشرع ورد بهذا لمعنى معقول، وهو التنظيف، فيتعدى إلى كل ما وجد فيه المعنى)

(2)

.

ويكرر التغسيل حسبما تقتضيه المصلحة، ويرجع ذلك إلى نظر الغاسل، لقوله:" إن رأيتن ذلك"، والموتى يختلفون، فقد يكون في الجسد أوساخ لطول المرض أو أثر لصوقات أو نحو ذلك فيحتاج إلى مزيد من العناية، وقد يكون جسده طيبًا نظيفًا فلا يحتاج إلى زيادة بينة.

ويقطعه على وتر ثلاث أو خمس أو سبع أو أكثر، ولا ينبغي الاقتصار على غسلة واحدة لقوله:"اغسلنها ثلاثًا"، ولأنه لا يحصل بها كمال الإنقاء.

وقد ذهب فريق من أهل العلم وهم الكوفيون وأهل الظاهر والمزني إلى وجوب الثلاث أخذًا بظاهر اللفظ وذهب الجمهور إلى أن الثلاث مستحبة، وأن الواجب مرة واحدة

(3)

.

ويجعل في الغسلة الأخيرة كافورًا يدق ويخلط بالماء لتطييب رائحة بدن الميت وتصليبه وطرد الهوام عنه في قبره، ولذا جعل في الأخيرة لأجل أن يبقى، وإنما اختير من بين سائر الأطياب لأنه بارد ولخصائصه المذكورة.

(1)

الخطمي -بكسر الخاء وفتحها، والكسر أكثر-: نبات من الفصيلة الخبازية، كثير النفع، يدق ورقه يابسًا ويجعل غِسْلًا للرأس فَيُنَقِّيه. "المصباح المنير" ص (174)، "المعجم الوسيط" ص (245).

(2)

"المغني"(3/ 377).

(3)

"المحلى"(5/ 121)، "المغني"(3/ 378)، "المجموع"(5/ 173).

ص: 263

فإن كان الميت امرأة نقض رأسها وغسل، ثم جعل ثلاثة قرون الناصبة والجانبين، وألقي خلفها، وفائدة النقض تبليغ الماء البشرة، وتنظيف الشعر من الأوساخ.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن النساء لا يغسلن إلا النساء، ويستثنى من ذلك الزوج فيجوز أن يغسل زوجته، وسيأتي بحث هذه المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز التعاون في تغسيل الميت، وقد ذكر أهل العلم أنه لا يحضر عند التغسيل سوى الغاسل ومن يعاونه في تقليب الميت أو صب الماء أو نحو ذلك، لعدم الحاجة إلى حضور غير معين الغاسل، ولأنه ربما كان في الميت ما لا يحب اطلاع أحد عليه، فيتحدث به، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 264

‌ما يكفن فيه الرجل

546/ 13 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب " الجنائز"، وأولها: باب " الثياب البيض للكفن"(1264)، ومسلم (941) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، به، وهذا لفظ مسلم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أثواب) جمع ثوب، وهو ما يلبس من إزار أو رداء أو غيرهما، وقد يطلق على المخيط كالقميص وغيره

(1)

. والمراد هنا: قطعة القماش قبل تفصيلها وخياطتها.

قوله: (سحولية) بالفتح: نسبة إلى سحول قرية باليمن، وقد ضبطها البكري بفتح أوله وضم ثانيه، قال: وإليها تنسب الثياب السحولية

ثم ذكر الحديث

(2)

، ويروى بضم السين، وهي الثياب البيض النقية، ولا تكون إلا من القطن، وسحول: مفردها سحل بالفتح كفلس وفلوس، وقد نسبت إلى الجمع

(3)

.

قوله: (من كرسف) بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء ساكنة، هو: القطن.

(1)

انظر: "الإعلام" لابن الملقن (6/ 33).

(2)

"معجم ما استعجم"(3/ 727).

(3)

"المصباح المنير" ص (268)، "فتح الباري"(3/ 140).

ص: 265

(قوله: ليس فيها قميص ولا عمامة) الجملة صفة لثلاثة: أي: قد انتفى عنها القميص والعمامة، فلم يكفن فيهما، والقميص: ثوب ذو أكمام والعمامة: ما يلبس على الرأس دائرًا عليه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية تكفين الرجل في ثلاثة أثواب، أي: ثلاث لفائف، تبسط بعضها فوق بعض، تحتها ثلاثة أحزمة من قبل الرأس والوسط والأرجل؛ لتعقد على الكفن؛ لئلا تنتشر اللفائف وتتفرق، وتحل في القبر، ويجعل الحنوط فيما بين اللفائف كما تقدم.

فيؤتى بالميت مستورًا وجوبًا من السرة إلى الركبة، ويوضع فوق اللفائف مستلقيًا؛ لأنه أسهل لإدراجه فيها؛ إذ لو وضع على جنبه لانقلب، وصار في إدراجه شيء من الصعوبة، ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الأيمن على شقه الأيسر، ثم تسحب السترة، حيث يصبح جسد الميت قط غطي، وهذا هو الأفضل في عدد الأثواب التي يكفن فيها الرجل، فإن كفن في ثوب واحد يستر جميعه أجزأ ذلك، وقد تقدم في حديث الذي وقع عن راحلته في عرفة أنه كفن في ثوبين، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 266

‌جواز التكفين في القميص

547/ 14 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما توفى عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه إياه. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " الكفن في القميص"(1269)، ومسلم (2400) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، فقال:" آذني أصلي عليه"، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: " أنا بين خيرتين" قال تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} فصلى عليه، فنزلت:{ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا} .

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز التكفين في القميص لغرض شرعي، وإلا فالأولى تركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفن في قميص، والقميص كما تقدم ثوب ذو أكمام.

وقد أخرج البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الله بن أبي بعدما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه

(1)

.

(1)

"صحيح البخاري"(1270).

ص: 267

وظاهر هذا أنه معارض لحديث ابن عمر رضي الله عنه، فإن حديث ابن عمر يدل على أن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، ليكفن فيه أباه فأعطاه إياه، وحديث جابر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه قميصه بعدما دفن حيث نبشه ونفث فيه من ريقه، ثم ألبسه قميصه.

والجواب كما قال الحافظ

(1)

أن معنى قوله في حديث ابن عمر: (فأعطاه)، أي: أنعم له بذلك، فأطلق على العدة اسم العطية مجازًا لتحقق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر:(بعدما دفن) أي: دلي في حفرته، فأمر بإخراجه إنجازًا لوعده في تكفينه في قميصه، وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أولًا: ثم لما حفر أعطاه الثاني لسؤال ولده.

وسبب ذلك ما أخرجه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر أتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصًا، فوجدوا قميص بعد الله بن أبي يقدر

(2)

عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذا نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. قال ابن عيينة أحد رواة الحديث:(كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، فأحب أن يكافئه)

(3)

، فيكون الغرض من تكفينه في قميص أمرين:

الأمر الأول: مكافأة ابن سلول لما أحسن إلى عمه العباس بكسائه له.

الأمر الثاني: تطييب خاطر ابنه عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه لما طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"فتح الباري"(3/ 139).

(2)

بضم الدال بمعنى المماثلة، وإنما كان ذلك لأن العباس كان بَيِّنَ الطول، وكذلك كان عبد الله بن أُبي.

(3)

"صحيح البخاري"(3008).

ص: 268

‌استحباب التكفين في الثوب الأبيض

548/ 15 - عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم". رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (5/ 161)، وأبو داود في كتاب " اللباس"، باب "في البياض"(4061)، والترمذي (994)، وابن ماجه (3566) كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا، وتمامه:"وإن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر". هذا لفظ أبي داود وأحمد. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).

وهذا الحديث إسناده حسن، ورجاله ثقات، وعبد الله بن خثيم متكلم فيه، فقد قال عنه ابن معين:(ثقة حجة)، وعنه:(أحاديثه ليست بالقوية) وقال العجلي: (ثقة)، وقال أبو حاتم:(ما به بأس، صالح الحديث)، وقال النسائي:(ثقة)

(1)

، وقال مرة:(ليس بالقوي في الحدث)، وذلك عند سياق حديثه في كتاب "الحج"، ثم قال:(إن علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث، وكأن علي ابن المديني خلق للحديث)

(2)

. وقد ذكره ابن حبان في

(1)

"الكامل"(4/ 161)، "تهذيب التهذيب"(5/ 275).

(2)

"سنن النسائي"(5/ 247 - 248).

ص: 269

" الثقات" وقال: (وكان يخطئ)

(1)

، وقال عنه الحافظ في " التقريب":(صدوق).

وقد أعل هذا الحديث بالوقف

(2)

، وله شاهد من حديث سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم"

(3)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب لبس الثوب الأبيض في حال الحياة، فيدخل في ذلك لبس القميص الأبيض والغترة البيضاء، لقوله:" فإنها من خير ثيابكم" وهذه صيغة تفضيل، وفي حديث سمرة رضي الله عنها:" فإنها أطهر وأطيب"، وذلك لأنه يظهر فيها أدنى وسخ فيزال، فتكون أطهر، ولكن هذا لا يعني كراهاة اللباس غير الأبيض، فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم غير الأبيض، كما تقدم في باب " اللباس"، وهذا هو الذي صرف الأمر في قوله:" البسوا" عن الوجوب إلى الندب، وإلا فظاهره الوجوب.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب تكفين الميت بالثوب الأبيض وأنه أفضل من غيره؛ لأنه أطيب وأطهر؛ ولأن الله تعالى اختاره في ثلاثة أثواب بيض. ولو كفن الميت في غير الأبيض فلا حرج، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الثقات"(5/ 34).

(2)

انظر: "الكامل"(4/ 161).

(3)

أخرجه النسائي (4/ 34)(8/ 205)، وابن ماجه (3567)، وأعلَّه أبو حاتم، كما في "العلل"(1093) وصححه الحافظ في "فتح الباري"(3/ 135).

ص: 270

‌استحباب تحسين الكفن

549/ 16 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الجنائز"، باب " في تحسين كفن الميت"(943) من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا، فذكر رجلًا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلًا، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه".

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن تحسين كفن الميت أمر مطلوب، وذلك بأن يكون حسنًا في ذاته، فيكون أبيض نظيفًا ساترًا لجميع بدن الميت، ويكون حسنًا في صفة إدراج الميت فيه على الصفة المتقدمة. قال البغوي:(المراد من هذا التحسين هو البياض والنظافة لا كونه مرتفعًا ثمينًا)

(1)

.

وقال النووي: (المراد بإحسان الكفن: نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه، وليس المراد بإحسانه: السرف والمغالاة)

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

شرح السنة" (5/ 315).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(7/ 15).

ص: 271

‌جواز تكفين الاثنين في ثوب

ودفنهما في قبر واحد

550/ 17 - عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول:" أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فيقدمه في اللحد، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم. رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الجنائز" في عدة مواضع، وأولها باب:" الصلاة على الشهيد"(1343) من طريق الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث. وآخره كما في البخاري: (فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز دفن الاثنين في القبر الواحد إذا دعت الحاجة إلى ذلك، مثل كثرة الموتى وقلة من يدفنهم، أو ضعف من يدفنهم لمرض أو جراحات أو نحو ذلك؛ أما إذا لم يوجد حاجة فالأصل أن يدفن كل ميت في قبر مستقل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كراهة دفن اثنين فأكثر في قبر واحد، وهو إحدى الروايتين عن أحمد

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز جمع الاثنين في ثوب واحد

(1)

"الاختيارات" ص (89).

ص: 272

عند التكفين، وهذا أحد الاحتمالين في الحديث، وعليه يدل قول جابر رضي الله عنه:"فكفن أبي وعمي في نمرةٍ واحدة"

(1)

.

والاحتمال الثاني: أن المراد قطع الثوب الواحد بينهما نصفين، ويكفن كل واحد على حدة؛ لأن في ذلك ستر العورة، وعدم التقاء بشرة الميتين.

الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب تقديم أصحاب الفضل على غيرهم إذا جمعوا في قبر واحد، ويكون التقديم إلى جهة القبلة، فيقدم قارئ القرآن على غيره، وهذا يدل على أن القرآن يرفع مقام الإنسان ويعلي مرتبته إذا تعلمه لوجه الله تعالى، وهذا لا يلزم منه الأفضلية في الدار الآخرة، فقد يكون المؤخر أفضل عند الله تعالى من المقدم، وإنما هذا اترتيب حسب المنزلة في دار الدنيا.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن شهيد المعركة لا يغسل، والمرد به شهيد المعركة في حرب الكفار، وهذا مذهب الجمهور. والحكمة من كونه لا يغسل: ما ورد في حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: " لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة" ولم يصل عليهم

(2)

.

وأما غير شهيد المعركة كالمبطون والمطعون والمرأة تموت في نفاسها وصاحب الهدم والغريق والحريق

(3)

فإنه يغسل كسائر موتى المسلمين، وهذا قول الجمهور من أهل العلم

(4)

؛ لأن هؤلاء شهداء في ثوب الآخرة، لا في أحكام الغسل والصلاة، لاختلاف أحكامهم عن أحكام شهيد المعركة.

* الوجه السادس: الحديث دليل على أن الشهيد لا يصلى عليه، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (1348)، والنمرة -بفتح النون وكسر الميم-: بردة من صوف أو غيره مخططة. ["فتح الباري" (3/ 213)].

(2)

أخرجه أحمد (22/ 97)، وإسناده صحيح.

(3)

انظر: "أحكام الجنائز" ص (38).

(4)

المغني (3/ 476).

(5)

"بداية المجتهد"(2/ 41)، "المجموع"(5/ 260).

ص: 273

والقول الثاني: أنه يصلى عليه، وهذا قول أبي حنيفة

(1)

، ورواية عن أحمد، ذكرها ابن قدامة وقال:(إنها محمولة على الاستحباب؛ لأن كلام أحمد يشير إلى ذلك)

(2)

.

واستدلوا بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: " خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت

" الحديث

(3)

.

وفي رواية للبخاري: " صلى رسول الله صلى الله عله وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين؛ كالمودع للأحياء والأموات

" للحديث

(4)

.

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أحد بحمزة فسجى ببردة، ثم صلى عليه تسع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يصفون، يصلي عليهم وعليه معهم

(5)

.

والأظهر في هذه المسألة أن الإمام مخير بين الصلاة على الشهيد وتركها، لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذه إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وهي الأليق بأصوله ومذهبه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة

(6)

.

وأما حديث عقبة فهو ظاهر في أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليهم مثل صلاته على الميت، لكن الأظهر أنها صلاة مودع، لا الصلاة على الجنازة، لأنها تكون قبل الدفن؛ وأما القول بأن المراد الدعاء فظاهر الحديث يرده، والله تعالى أعلم.

(1)

"الهداية"(1/ 94).

(2)

"المغني"(3/ 467).

(3)

أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296).

(4)

"صحيح البخاري"(4042).

(5)

أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 503)، قال الألباني في "أحكام الجنائز" ص (82):(إسناده حسن، ورجاله كلهم ثقات معروفون، وفيه ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث، وله شواهد).

(6)

"تهذيب مختصر السنن"(4/ 295)، "المجموع"(5/ 260)، "الاختيارات" ص (87)، "الإنصاف"(2/ 500).

ص: 274

‌النهي عن المغالاة في الكفن

551/ 18 - عن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سريعًا" رواه أبو داود.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب "كراهية المغالاة في الكفن"(3154) من طريق عمرو بن هاشم أبي مالك الجنبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي، عن علي رضي الله عنه قال: لا تغال لي في كفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلبه سلبًا سريعًا".

وهذا إسناد ضعيف للأمرين:

الأمر الأول: ضعف عمرو بن هاشم. قال فيه البخاري: (فيه نظر)

(1)

، وقال مسلم:(ضعيف الحديث)

(2)

. وقال أحمد: (صدوق، ولم يكن صاحب حديث)

(3)

. وقال ابن حبان: (كان ممن يقلب الأسانيد، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج بخبره)

(4)

.

الأمر الثاني: الانقطاع، ذكر ذلك الحافظ في " التلخيص" ونقل عن الدارقطني أنه قال:(إن الشعبي لم يسمع من علي سوى حرف واحد)

(5)

.

(1)

"التاريخ الكبير"(6/ 381)، وإذا قال البخاري:"فيه نظر" فهي من أشد الجرح عنده، كما ذكر المعلمي في "التنكيل"(1/ 278).

(2)

"الكنى"(2/ 755).

(3)

"تهذيب التهذيب"(8/ 98).

(4)

"المجروحين"(2/ 42).

(5)

"العلل" للدارقطني (4/ 97)، "التلخيص"(2/ 116).

ص: 275

الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن المغالاة في الكفن، وهي المبالغة في زيادة قيمته وتجاوز الحد فيه، واختياره من الثياب الفاخرة والأقمشة الغالية، وذلك لأن الكفن يبلى في الأرض سريعًا ويضيع، فيكون ذلك من باب إضاعة المال، ومن باب السرف والخيلاء.

وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه، به ردع

(1)

، من زعفران، فقال: (اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما، قلت: إن هذا خلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو اللمهلة

) الحديث

(2)

.

قال الحافظ ابن حجر: (وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الكفن، ويؤيده قوله بعد ذلك:" إنما هو للمهلة"

(3)

).

ولا يعارض ذلك حديث تحسين الكفن فقد تقدم معناه، وقد حمل بعض العلماء حديث أبي بكر رضي الله عنه على ما إذا أوصى أن يكفن بغير الجديد فإنها تنفذ وصيته، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أي: لَطْخٌ لم يعمَّه كله.

(2)

أخرجه البخاري (1387).

(3)

قال أبو عبيد: المهل: الصديد والقيح، وروي بلا هاء، وبالهاء صحيح فصيح، وبعضهم بكسر الميم. "غريب الحديث"(2/ 7).

ص: 276

‌جواز تغسيل الرجل زوجته

552/ 19 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " لو مت قبلي فغسلتك" الحديث. رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.

553/ 20 - وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنه أن فاطمة عليها السلام أوصت أن يغسلها علي رضي الله عنه. رواه الدارقطني.

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه أحمد (43/ 81)، والنسائي في " الكبرى"(6/ 381)، وابن ماجه (1465)، وابن حبان (14/ 551) من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبدي الله بن عبد الله، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، قال: "بل أنا وارأساه"، ثم قال: " ما ضرك لو مت قبل، فغسلتك، وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك"، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه) هذا لفظ أحمد، والحافظ ساق القدر المراد.

وهذا إسناد حسن، كما قال الألباني

(1)

، ومحمد بن إسحاق صرح بالتحديث عند ابن هشام في "السيرة"

(2)

والبيهقي في "دلائل النبوة"

(3)

فانتفت شبهة تدليسه على ما يظهر.

(1)

"الإرواء"(3/ 160 - 161).

(2)

(4/ 293).

(3)

(7/ 168 - 169).

ص: 277

والحديث أخرجه البخاري (5666) من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه

وساق الحديث، وليس فيه ذكر التغسيل، وهذا يشعر بإعلال هذه اللفظة، لما تقدم من إعراض الشيخين عم المعلول من الأحاديث والروايات، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب وغيرهما.

قال ابن الجوزي: (لم يق: "وغسلتك" إلا محمد بن إسحاق)

(1)

، وقد رواه صالح بن كيسان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: " فهيأتك ودفنتك

"، أخرجه النسائي في "الكبرى" (6/ 381 - 382) وأحمد (42/ 50) وإسناده صحيح على شرط الشيخين، كما قال الألباني.

وقوله: "فهيأتك" لفظ عام يشمل كل ما يلزم الميت قبل الدفن من الغسل وتوابعه، لكن لا تطمئن النفس لتفرد هؤلاء عن أصحاب الزهري بهذه الألفاظ.

وأما حديث أسماء، فقد أخرجه الدارقطني (2/ 79) من طريق عبد الله بن نافع المديني، عن محمد بن موسى، عن عون بن محمد، عن أمه، عن أسماء رضي الله عنها، به.

وهذا إسناد ضعيف لأمرين:

الأمر الأول: ضعف عبد الله بن نافع المدني، ضعفه ابن معين، ومرة قال:(يكتب حديثه). وقال ابن المديني: (روى أحاديث منكرة). وقال البخاري: (يخالف في حديثه)، وقال مرة:(فيه نظر)

(2)

. وقد أعل الحديث ابن الجوزي بابن نافع، وذكر أن الإمام أحمد أنكر هذا الحديث

(3)

، لكن قال الحافظ:(قد احتج بهذا الحديث أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما)

(4)

.

(1)

"التحقيق"(4/ 218).

(2)

"تهذيب التهذيب"(6/ 48 - 49).

(3)

"التحقيق"(4/ 220).

(4)

"التلخيص"(2/ 151).

ص: 278

الأمر الثاني: أن أم عون بن محمد ويقال لها: أم جعفر غير معروفة. ولذا قال ابن التركماني: (في سنده من يحتاج إلى كشف حاله

)

(1)

، وقد تابع عبد الله بن نافع: قتيبة بن سعيد، ثنا محمد بن موسى به.

أخرجه البيهقي (3963)، وقد حسن الحافظ هذا الحديث، وتابعه الألباني

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز تغسيل الزوج زوجته، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم: الإمام مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وجماعة من السلف

(3)

، كما استدلوا بالقياس على غسل المرأة زوجها، لأنهما زوجان.

والقول الثاني: ليس للزوج غسل زوجته، وهذا قول أبي حنيفة، والثوري، ورواية عن أحمد

(4)

، لبطلان النكاح بينهما؛ لأن الموت فرقة تبيح له أختها، وأربعًا سواها، فحرمت النظر واللمس، فلا يغسلها، والراجح قول الجمهور، لقوة ما استدلوا به.

وأما تغسيل الزوجة زوجها فهو جائز، لما ت قدم من قول عائشة رضي الله عنها:(لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه)

(5)

. قال البيهقي: (فتلهفت على ذلك، ولا يتلهف إلا على ما يجوز)

(6)

.

وقد ورد آثار كثيرة تصح بمجموعها أن نساء أبي بكر رضي الله عنه وعنهن قمن يتغسيله بوصية منه

(7)

.

(1)

"الجوهر النقي"(3/ 396).

(2)

"التلخيص"(2/ 151)، "الإرواء"(3/ 162).

(3)

"الكافي" لابن عبد البر (1/ 271)، "المجموع"(5/ 130 - 131)، "المغني"(3/ 461).

(4)

"شرح فتح القدير"(2/ 111)، "المغني"(3/ 461)، "الإنصاف"(2/ 489).

(5)

أخرجه أبو داود بسند حسن، وتقدم برقم (455).

(6)

"السنن الكبرى"(3/ 398).

(7)

انظر: "الغسل والكفن" للشيخ مصطفى العدوي ص (40).

ص: 279

وقد نقل ابن المنذر، وكذا ابن عبد البر الإجماع على جواز غسل المرأة زوجها

(1)

، إثر كلامهما على حديث أسماء في تغسيلها أبا بكر رضي الله عنه

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الإجماع" ص (46)، "الاستذكار"(8/ 198).

(2)

أخرجه مالك (1/ 223)، وعبد الرزاق (6117)(6119)، وابن أبي شيبة (3/ 249).

ص: 280

‌حكم الصلاة على من قتل في حد

554/ 21 - عن بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها في الزنا - قال: ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الحدود"، باب "من اعترف على نفسه بالزنا"(1695) من طريق بشير بن المهاجر، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه

وساق الحديث بطوله.

وبشير بن المهاجر وثقه جماعة؛ كابن معين والعجلي، وقال البخاري:(يخالف في بعض حديثه)

(1)

. وقال الذهبي: (ثقة فيه شيء)

(2)

. وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق الحديث، لين الحديث)، وقد أخرج له مسلم في المتابعات لا في الأصول.

وقد خولف في هذا الحديث، فإن مسلمًا أخرج الحديث بطوله من طريق غيلان بن جامع المحاربي، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبه، وليس فيه ذكر الصلاة عليها. وقد ذكره أولًا، ثم أردفه بحديث بشير بن المهاجر بناء على منهجه كما في أول " الصحيح". وغيلان بن جامع ثقة، كما في "التقريب".

وله شاهد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت

(1)

"التاريخ الكبير"(2/ 102).

(2)

"الكاشف"(1/ 272)، وانظر:"الميزان"(1/ 329).

ص: 281

النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا

الحديث، وفيه: ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها

الحديث

(1)

.

• الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية الصلاة على من أقيم عليه حد الرجم، وعلى جوازها من الإمام كبقية موتى المسلمين. قال الإمام أحمد:(ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد، إلا على الغال وقاتل نفسه)

(2)

، وهذا قول الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، واختاره ابن المنذر

(3)

.

والقول الثاني: أنه لا يصلي الإمام على من أقيم عليه الحد، ويصلي على الناس غير الإمام، وهذا قول مالك

(4)

؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز رضي الله عنه ولم ينه عن الصلاة عليه

(5)

.

قالوا: ولأن في ترك الصلاة عليه من قبل الإمام ردعًا وزجرًا لأمثاله ممن تسول له نفسه أن يقترف هذا الفعل.

والراجح القول الأول لقوة دليله، وإن أخذنا بظاهر الحديث فإن الإمام لا يصلي إلا على من جاء تائبًا. وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز رضي الله عنه فقد ضعفه المنذري فقال:(في إسناده مجاهيل)

(6)

وقد جاء في بعض الروايات أنه صلى عليه، ولهذا الموضوع زيادة تأتي في كتاب " الحدود" إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (1696)، وسيأتي شرحه في "الحدود" -إن شاء الله تعالى-.

(2)

"المغني"(3/ 508).

(3)

"الأوسط"(5/ 408)، "المغنى"(3/ 508).

(4)

"المدونة الكبرى"(1/ 254).

(5)

أخرجه أبو داود (3186) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وهو حديث ضعيف.

(6)

"مختصر السنن"(4/ 320).

ص: 282

‌حكم الصلاة على من قتل نفسه

555/ 22 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب "ترك الصلاة على القاتل نفسه (1978) من طريق زهير، عن سماك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، به.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بمشاقص) جمع مشقص بكسر الميم وفتح القاف، وهو نصل عريض، والنصل: حديدة الرمح والسهم والسكين.

قوله: (فلم يصل عليه) لفظ أبي داود بعد سياق قصة الرجل: " إذن لا أصلي عليه"، وعند النسائي:" أما أنا فلا أصلي عليه".

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يشرع للإمام ومن هو قدوة للناس ترك الصلاة على من قتل نفسه، لعصيانه بهذا الفعل، وليكون ردعًا لغيره من الإقدام على هذه الجريمة العظيمة. وقد دلت رواية أبي داود والنسائي على أنه لا مانع من الصلاة عليه؛ لأنه بعمله هذا من العصاة الذين هم أحوج وأحق بشفاعة المسلمين بصلاتهم عليهم من غيرهم. والظاهر أن هذا الحكم وهو امتناع الإمام من الصلاة على قاتل نفسه يتعدى إلى غير الإمام ممن يكون في امتناعه من الصلاة عليه ردع ونكال، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(24/ 290).

ص: 283

‌حكم الصلاة على الميت بعد دفنه

556/ 23 - عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد - قال: فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال:" أفلا كنتم آذنتموني"؟ فكأنهم صغروا أمرها، فقال:" دلوني على قبرها"، فدلوه فصلى عليها. متفق عليه.

وزاد مسلم: ثم قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الصلاة"(458) ثم أخرجه في كتاب " الجنائز"، باب " الصلاة على القبر بعدما يدفن"(1337)، ومسلم (956) من طريق حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.

وأما زيادة مسلم، فقد جاءت من طريق أبي كامل عن حماد به، وقد ذكر الدارقطني أن هذه الجملة مدرجة في الحديث من كلام ثابت البناني

(1)

، وذكر الحافظ أن البخاري أعرض عنها؛ لأنها مدرجة في الإسناد، وهي من مراسيل ثابت

(2)

، وعلى هذا فهي زيادة شاذة؛ لأن الحديث عند البخاري رواه

(1)

"العلل"(11/ 203) وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 47).

(2)

"فتح الباري"(1/ 553).

ص: 284

سليمان بن حرب (458)، وأحمد بن واقد (460)، ومحمد بن نفيل (1337) ثلاثتهم عن حماد.

ورواه عنه أبو كامل وأبو الربيع وروايتهما عند مسلم، ولم يذكر أحد من هؤلاء هذه الزيادة، إلا ما تقدم في رواية أبي كامل.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، فإن كان الميت رجلًا وقف عند رأسه؛ وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر. ومنع من الصلاة على القبر أصحاب مالك، والمشهور عندهم المنع فيمن صلى عليه، والجواز فيمن لم يصل عليه

(1)

، واستدل ابن القيم للمانعين بحديث أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"

(2)

.

واعتذروا عن حديث الباب بأعذار ضعيفة، لا حاجة إلى الاشتغال بها، وقد ذكرها القاضي عياض

(3)

.

والصواب الجواز مطلقًا، لحديث الباب ولأحاديث أخرى، ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعًا

(4)

، وحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن

(5)

. ومنها مرسل سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليهما، وقد مضى لذلك شهر

(6)

. وليس فيه تحديد للمدة، وقد احتج به أحمد

(7)

.

(1)

"المفهم"(2/ 616).

(2)

أخرجه مسلم (972)، انظر:"إعلام الموقعين"(4/ 200).

(3)

"إكمال المعلم"(3/ 418).

(4)

أخرجه البخاري (1340)، ومسلم (954).

(5)

أخرجه مسلم (955).

(6)

أخرجه الترمذي (1038)، وابن أبي شيبة (3/ 239)، والبيهقي (4/ 48)، وقال:(هو مرسل صحيح)، وضعَّفه الألباني في "الإرواء"(3/ 186).

(7)

"مسائل الإمام أحمد لأبي داود" ص (157).

ص: 285

وأما التفصيل بين من صلي عليه ومن لم يصل عليه فإن الأحاديث ترده؛ لأنها وردت في حق من صلي عليه قبل أن يدفن

(1)

. وأما حديث: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"، فلا يعارض هذه الأحاديث، فإنه لا يراد به صلاة الجنازة، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يراد به الصلاة ذات الركوع والسجود؛ فإنها لا تجوز في القبور؛ لأنها ذريعة إلى الشرك، وتقدم ذلك في " الصلاة".

وقد اختلف العلماء في تحديد المدة التي تجوز فيها الصلاة على الميت بعد دفنه على أقوال منها:

القول الأول: أنها تجوز إلى شهر من دفنه، وهذا مذهب الحنابلة وبعض الشافعية

(2)

، واستدلوا بمرسل سعيد بن المسيب المذكور.

القول الثاني: عدم التحديد بشهر وأنه يصلى عليه أبدًا، وهو اختيار ابن عقيل الحنبلي، وهو قول عند الشافعية

(3)

.

القول الثالث: أن يصلى عليه أبدًا، بشرط أن يكون المصلي من أهل الصلاة على هذا الميت يوم موته، أما من ولد بعد موته أو كان حين موته ليس من أهل الصلاة عليه كالصغير والمجنون فلا يصلي على قبره. وهذا قول عند الشافعية، اعتبره النووي هو الأصح

(4)

، وفيه وجاهة.

وينبغي أن يعلم أن الأصل عدم الصلاة على القبر؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على كل قبر، ولم يكن أصحابه رضي الله عنه يفعلون ذلك، وقد دل حديث الباب على أن الإنسان لا يصلي على القبر إلا إذا كان له علاقة بالميت من صداقة أو قرابة ونحو ذلك، وهو ممن يحرص على الصلاة عليه لو كان موجودًا. وأما ما عليه بعض الناس الآن من كونه يصلي على قبر

(1)

"فتح الباري"(3/ 205).

(2)

"المغني"(3/ 455)، "روضة الطالبين"(2/ 130).

(3)

"المجموع"(5/ 247)، "الإنصاف"(2/ 532).

(4)

"المجموع"(5/ 247 - 248)، "روضة الطالبين"(2/ 130).

ص: 286

فلان أو فلان وهو لا يعرفه، وقد لا يحرص على الصلاة عليه من الناس، فلا أصل له، وقد يكون من البدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشد زائر المقبرة إلى الصلاة، وإنما أرشده إلى الدعاء

(1)

.

والقول بتحديد ذلك بشهر فيه ضعيف؛ لأن الدليل المذكور لا يدل على التحديد؛ لأن فعل وقع اتفاقًا لا قصدًا، وما فعل اتفاقًا لا يصح دليلًا لأنه لم يقصد، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه تحديد المدة التي تجوز فيها الصلاة على الميت بعد دفنه.

• الوجه الثالث: ظاهر الحديث أن الصلاة على القبر غير محددة بوقت معين، فيصلى على القبر ولو في أوقات النهي، لعموم:" دلوني على قبرها"، فيصلى على القبر في أوقات النهي الطويلة، أما الأوقات المضيقة التي وردت في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه المتقدم في باب "المواقيت" فلا يصلى فيها على الميت، ولا يدفن فيها، لهذا الحديث

(2)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن احتقار المسلم مهما كان وضعه بين المسلمين لقوله: "دلوني على قبرها"، فإن هذا يتضمن الرد عليهم لما صغروا أمرها؛ إذ لا عبرة بالمظاهر؛ وإنما العبرة بالصلاح والتقوى، قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم

} [الكهف: 28]، وفي هذا أحاديث كثيرة.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على استحباب السؤال عن الخادم أو الصديق إذا غاب، فلعله يكون مريضًا فيزار، أو مسافرًا فيطمأن على حاله.

وفي السؤال عن حال المرء فوائد عظيمة، منها:

فرح المسؤول عنه إذا علم أن فلانًا يسأل عنه، لا سيما إذا كان السائل من أولي الفضل كالعالم أو طالب العلم.

(1)

انظر: "فتاوى ابن عثيمين"(17/ 144 - 145).

(2)

انظر: "فتاوى ابن باز"(13/ 157).

ص: 287

ومنها: تطييب خاطر أهله إذا علموا أن فلانًا يسأل عن ابنهم أو والدهم ونحو ذلك.

• الوجه السادس: في الحديث بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم، ولا سيما من كان يقوم بعمل صالح يزهد فيه الأكثرون، فإنه جدير بأن يشجع ويرفع من شأنه ويسأل عنه إذا فقد، حتى لا يزهد الناس في أعمال الخير التي يترفع عنها كثير من الناس مثل: تنظيف المسجد أو تنظيف الطرقات، ونحو ذلك مما فيه نفع للمسلمين.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على استحباب إعلام أقارب الميت وأصدقائه ومن له صلة به بوفاته، لقوله:" أفلا كنتم آذنتموني"، وهذا ليس من النعي المنهي عنه، كما سيأتي قريبًا.

• الوجه الثامن: الحديث دليل على فضل تنظيف المسجد وأنه عمل حسن مندوب إليه؛ فإن هذه المرأة التي كانت تقم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حالها يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

• الوجه التاسع: ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وصفوا خلفه

(2)

، ففيه دليل على جواز الصلاة على القبر ممن صلى عليها في المسجد؛ لأن ذلك من زيادة الخير للمصلي وللميت؛ لأن الصحابة هم الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بموت هذا الرجل وقيامهم على شأنه، ولأن القاعدة الفقهية:" يصح تبعًا ما لا يصح استقلالًا" تؤيد ذلك.

• الوجه العاشر: اختلف العلماء في حكم الصلاة على الميت في المقبرة قبل دفنه على قولين:

القول الأول: أنها تصح مع الكراهة، وهو رواية عند أحمد، اختارها

(1)

"فتح الباري" لابن رجب (3/ 350).

(2)

أخرجه البخاري (1336)، ومسلم (954).

ص: 288

ابن عقيل، وبه قال جماعة من الحنفية والمالكية، وهو مذهب الشافعية، لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة

(1)

.

القول الثاني: تصح من غير كراهة، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو قول جماعة من الحنفية والمالكية، وهو قول الظاهرية

(2)

. ودلي لذلك ما رواه ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور؟ قال: لقد صلينا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنها وسط البقع، والإمام يوم صلينا على عائشة رضي الله عنها أبو هريرة رضي الله عنه، وحضر ذلك ابن عمر

(3)

، وقال ابن المنذر:(وكان عمر بن عبد العزيز يفعل ذلك)

(4)

.

كما استدلوا بالقياس على صلاته صلى الله عليه وسلم على القبر، قالوا: فلا فرق بين أن يصلى على جنازة مدفونة أو غير مدفونة لأن العلة واحدة، وهو أن هذا الميت الذي يصلى عليه في المقبرة

(5)

، وقد أشار ابن القيم إلى ذلك فقال:(لا فرق بين كون الميت على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها)

(6)

.

وهذا القول وجيه في نظري، لقوة مأخذه؛ ولأن فيه مصلحة للميت بكثرة المصلين عليه، وهو تأخير يسير، وينبغي التنبيه على أنه لا ينبغي للناس أن يعتادوا الصلاة على جنائزهم في المقبرة؛ وإنما المقصود بهذا البحث أنه لو فات بعض الناس الصلاة عليها في المسجد فلا بأس أن يصلوا عليها في المقبرة، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"بدائع الصنائع"(1/ 310)، "بداية المجتهد"(2/ 48)، "المجموع"(5/ 268)، "فتح الباري" لابن رجب (3/ 201)، "الإنصاف"(1/ 490).

(2)

"بداية المجتهد"(2/ 481)، "المحلى"(4/ 32)، الأصل (1/ 372)، "المغني"(3/ 423).

(3)

رواه عبد الرزاق (6570)، وابن المنذر في "الأوسط"(2/ 185)، والبيهقي (2/ 435)، وإسناده صحيح.

(4)

"الأوسط"(5/ 417).

(5)

انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 346 - 347)، "الشرح الممتع"(2/ 236).

(6)

"زاد المعاد"(4/ 200)، "فتح الباري" لابن رجب (3/ 202).

ص: 289

‌النهي عن النعي

557/ 24 - عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن النعي. رواه أحمد، والترمذي وحسنه.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (38/ 304) والترمذي في أبواب " الجنائز"، باب " ما جاء في كراهية النعي"(986) من طريق حبيب بن سليم العبسي، عن بلال بن يحيى العبسي، عن حذيفة قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي، إني أخاف أن يكون نعيًا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وهذا هو الذي نقله المزي والمنذري عن الترمذي

(1)

، وكذا الحافظ هنا وفي " فتح الباري"

(2)

، ووقع في بعض النسخ:(حسن صحيح).

والحديث في إسناده، حبيب بن سليم، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا

(3)

، وقد روى عنه جمع من الثقات، منهم: عبد الله بن المبارك، ووكيع، وأبو نعيم، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

، وقال الحافظ في " التقريب":(مقبول).

وله شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية".

(1)

"تهذيب الكمال"(5/ 377)، "الترغيب والترهيب"(4/ 352).

(2)

(3/ 117).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 102).

(4)

(6/ 182).

ص: 290

أخرجه الترمذي (984) مرفوعًا، وأخرجه موقوفًا، ورجح الموقوف، وكذا رجحه الدارقطني

(1)

، ومدار الإسنادين على أبي حمزة ميمون الأعور.

قال الترمذي: (وليس بقوي عند أهل الحديث). وقد ضعفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري والدارقطني؛ بل إنه ضعيف جدًا ذاهب الحديث

(2)

.

• الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بالنهي عن النعي وهو الإخبار بموت الشخص كما سيأتي، وهو الذي كان يفعله أهل الجاهلية من الصياح على أبواب البيوت والأسواق أو فوق الأماكن العالية، وكذا إذا كان لفعل محرم كالمآتم وإظهار الحزن على الميت أو الغلو فيه ونحو ذلك.

وقد ذكر الحافظ رحمه الله بعد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النعي الجائز، وهذا ف غاية المناسبة ليعلم ما يتعلق بالأحاديث التي ظاهرها التعارض، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"العلل"(5/ 165).

(2)

"تهذيب التهذيب"(10/ 353).

ص: 291

‌حكم الصلاة على الميت الغائب وكيفيتها

558/ 25 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف عنهم، وكبر عليه أربعًا. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز" في عدة أبواب، أولها باب " الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه"

(1)

(1245)، ومسلم (951)(62) من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نعي) أي: أخبر بموت النجاشي، تقول: نعيت الميت نعيًا من باب نفع: أخبرت بموته، فهو منعي.

قوله: (النجاشي) علم جنس لكل من ملك الحبشة. والمرد به هنا: أصحمة. كما ورد في بعض الروايات، ومعناه في اللغة العربية: عطية، وكان النجاشي ملكًا على الحبشة من أوائل عهد النبوة، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر إليه المسلمون المضطهدون في مكة في أول الإسلام، فأحسن إليهم وآواهم، توفي في رجب سنة تسع من الهجرة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز نعي الميت، وهو الإخبار

(1)

انظر: "فتح الباري"(3/ 116).

ص: 292

بموته ووقت ومكان الصلاة عليه، لما في ذلك من المصلحة بالمبادرة لشهود جنازته، والصلاة عليه، والدعاء له وتشييعه وحضور دفنه؛ لأن في ذلك أجرًا للمصلين، ونفعًا للميت، كما أن في ذلك تنفيذ وصاياه وإظهار ديونه وغير ذلك من المصالح والأحكام.

وعلى هذا تحمل أحاديث جواز النعي، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في قصة المرأة التي تقدم المسجد فقال صلى الله عليه وسلم:" أفلا كنتم آذنتموني"، أي: أعلمتموني.

وقد يكون النعي واجبًا إذا كان لتحصيل أمر واجب كتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز الصلاة على الميت الغائب، وأن كيفيتها مثل كيفية الصلاة على الميت الحاضر في التكبير أربعًا وغيره، وهذا هو قول الشافعي وأحمد

(1)

.

قالوا: ولأن الصلاة على الميت دعاء له، فكيف لا يدعى له وهو غائب.

والقول الثاني: أن الصلاة على الغائب غير مشروعة مطلقًا، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي خاصة به، وليس ذلك لغيره؛ لأنه توفي كثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم، من أعزهم عليه: القراء، ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد

(2)

.

والقول الثالث: أن الصلاة على الميت غير مشروعة إلا لمن لم يصل عليه، وهذا قول في مذهب أحمد، وبه قال الخطابي، وصوبه شيخ الإسلام ابن تيمية، وصححه ابن القيم

(3)

.

(1)

"المجموع"(5/ 250)، "الإنصاف"(2/ 533).

(2)

"شرح فتح القدير"(2/ 117)، "شرح الزرقاني"(2/ 112)، "الإنصاف"(2/ 533)، "أحكام الجنائز" للألباني ص (93).

(3)

"معالم السنن"(4/ 322)، "زاد المعاد"(1/ 520)، "الإنصاف"(2/ 533).

ص: 293

قالوا: لأنه إذا صلي عليه سقط الفرض بصلاة المسلمين عليه.

والقول الرابع: أنه يصلى على الغائب إذا كان قد نفع المسلمين بعلمه أو جاهه أو ماله أو كان له أياد بيضاء في الدفاع عن الإسلام وأهله، وهذه الأوصاف مأخوذة من قصة النجاشي، وقد جاء هذا القول عن الإمام أحمد، فقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: إذا مات رجل صالح صلي عليه

(1)

، واحتج بقصة النجاشي، ورجح هذا القول بعض المتأخرين، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز

(2)

.

والراجح هو القول الثالث، وهو التفصيل بين من صلي عليه في بلده فلا يصلى عليه، وبين من لم يصل عليه فيصلى عليه، وذلك لقوة مأخذه، والصلاة على النجاشي ليست شرعًا عامًا، وإنما هي قضية عينية مكافأة للنجاشي على صنيعه. والقول بأن النجاشي لم يصل عليه ليس عليه دليل؛ بل هو بعيد جدًا؛ لأن من المعلوم أن الملوك إذا أسلموا يتبعهم أناس، ولا سيما المقربون إليهم.

ويؤيد هذا القول أن كبار الصحابة رضي الله عنهم ومنهم الخلفاء الأربعة لم ينقل أنه صلي عليهم في الأمصار الإسلامية صلاة الغائب، والظاهر أن هذا لو وقع لكانت الهمم والدواعي متوفرة على نقله.

• الوجه الخامس: في الحديث معجزة ظاهرة وآية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته حيث أخبر بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وقد ذكر بعض العلماء أنه بينه وبين النجاشي مسيرة شهر، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الاختيارات" ص (87).

(2)

"الفتاوى"(13/ 159).

ص: 294

‌استحباب كثرة الجمع على الجنازة

559/ 26 - عن ابن عباس رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا، لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخرجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " من صلى عليه أربعون شفعوا فيه"(948) من طريق أبي صخر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له من الناس، قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته. فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما من رجل مسلم) من: مزيدة لتأكيد الاستغراق، والمعنى: أي رجل مسلم، والتعبير بالرجل خرج مخرج الغالب، وإلا فالمرأة كذلك.

قوله: (لا يشركون بالله شيئًا) نكرة في سياق النفي، فيعم الشرك الأكبر والشرك الأصغر؛ لأن صاحب الشرك الأكبر لا تصح صلاته، وصاحب الشرك الأصغر لا تصح شفاعته هنا؛ لأن الشافع لابد أن يكون سالمًا من كل شائبة تخل بعقيدته.

قوله: (إلا شفعهم الله فيه) بفتح الشين وتشديد الفاء، أي: قبل شفاعتهم فيه.

ص: 295

الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب تكثير المصلين على الجنازة وأن من صلى عليه هذا العدد وهم أربعون بالوصف المذكور وهو أنهم لا يشركون بالله شيئًا فإن الله تعالى يقبل شفاعتهم فيه، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بعباده.

وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " ما من ميت صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"

(1)

.

وقد ذكر القاضي عياض أن هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله

(2)

.

وذكر النووي أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به. أو يقال: إن هذا من باب مفهوم العدد، فلا تنافي بينها، ويعمل بجميع الأحاديث، وتقبل الشفاعة بأدناها، فيكون الأقل من العددين متأخرًا عن الأكثر، لأن الله تعالى منعم متفضل إذا وعد المغفرة لمعنى لم يكن من سنته النقصان من الفضل الموعود بعد ذلك بل يزيد تفضلًا، فيدل على زيادة تفضل الله وكرمه على عباده، ولعل الحافظ نظر إلى هذا المعنى عندما ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه وترك حديث عائشة رضي الله عنها في المائة، وكلاهما في " صحيح مسلم".

• الوجه الرابع: الحديث دليل على إثبات الشفاعة للمؤمنين، وأن شفاعة المصلين للميت مقبولة ونافعة بإذن الله تعالى بالوصف المذكور وهو أن يكون الشافع لا يشرك بالله شيئًا والمشفوع فيه كذلك والشفاعة في رفع درجات المؤمنين نوع من أنواع الشفاعة التي يذكرها أهل العلم.

والشفاعة لابد فيها من إذن الله تعالى للشافع أن يشفع، لكن لما أمر الله تعالى المسلم أن يدعو لأخيه الميت، صار هذا الأمر إذنًا بالشفاعة وزيادة

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (947).

(2)

"إكمال المعلم"(3/ 407).

(3)

"القول المفيد على كتاب التوحيد"(1/ 335).

ص: 296

‌بيان موقف الإمام من جنازة المرأة

560/ 27 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " أين يقوم من المرأة والرجل؟ "(1332)، ومسلم (964) من طريق عبد الله بن بريدة، حدثنا سمرة بن جندب رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في نفاسها) في: للظرفية؛ أي: ماتت في مدة النفاس، ويجوز كونها سببية، أي: ماتت بسبب نفاسها. والنفاس: دم عادي يخرج بسبب الولادة، وتقدم في آخر باب " الحيض".

قوله: (فقام وسطها) بسكون السين؛ أي: عند منتصف جسمها، هكذا قيده الحفاظ واقتصر عليه النووي

(1)

، وقيده بعضهم بالفتح أيضًا.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية وقوف الإمام في الصلاة على جنازة المرأة عند وسطها، وأما الرجل فيقف الإمام عند رأسه، وهذا القول بالتفريق قول أحمد وإسحاق، والصحيح من مذهب الشافعية

(2)

، لحديث أنس رضي الله عنه أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه، وعلى جنازة امرأة فقام

(1)

"شرح صحيح مسلم"(7/ 35).

(2)

"المجموع"(5/ 224 - 225)، "المغني"(3/ 452).

ص: 297

وسطها، فقيل له: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فقال:(نعم)

(1)

.

والقول الثاني: أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في موقوف الإمام، فيقف الإمام في وسط الميت مطلقًا، وهذا قول مالك

(2)

، وهو رأي البخاري، كما يفهم من الترجمة المذكورة، وكأنه يشير بها إلى ضعف حديث أنس

(3)

، وقال أبو حنيفة: يقف عند صدر الرجل والمرأة لأنهما سواء

(4)

.

والقول الأول أرجح، لثبوت التفريق، وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل، وإلا فحيثما وقف الإمام أجزأ، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (3194)، والترمذي (1034)، وابن ماجه (1494)، وأحمد (19/ 219)، من طرق عن همام، قال: حدثنا أبو غالب، عن أنس به. ورجاله ثقات، وإسناده قوي، وحسَّنه الترمذي.

(2)

"المدونة"(1/ 175).

(3)

انظر: "فتح الباري"(4/ 201) قال الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه عليه: (إسناده جيد، وهو حجة قائمة على التفرقة).

(4)

"شرح فتح القدير"(2/ 126 - 127)، "حاشية ابن عابدين"(2/ 416).

ص: 298

‌جواز الصلاة على الجنازة في المسجد

561/ 28 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد. رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " الصلاة على الجنازة في المسجد"(973) من طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة رضي الله عنه لما توفى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قالت:(ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه). فأنكر ذلك عليها، فقالت:(والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)، وفي رواية عنها قالت:(ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بين البيضاء إلا في المسجد).

وقولها: (ابني بيضاء) هما: سهل وسهيل، وأمهم البيضاء، واسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الصلاة على الميت في المسجد، وهذا قول الشافعي وأحمد وجمهور العلماء

(1)

، وإنكار الصحابة رضي الله عنهم ذلك على عائشة رضي الله عنها لأنه لم يكن معروفًا على صفة الدوام.

قال ابن القيم: (ولم يكن من هديه الراتب الصلاة على الميت في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، وربما كان يصلي

(1)

"التمهيد"(6/ 344)، "المجموع"(5/ 213)، "الإنصاف"(2/ 538).

ص: 299

أحيانًا على الميت في المسجد

)

(1)

.

وقد ذكر ابن المنذر وغيره أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهم صلي عليهما في المسجد

(2)

، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يصلى على الميت في المسجد

(3)

، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له"

(4)

.

والراجح القول الأول لقوة دليله. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فعنه ثلاثة أجوبة:

الأول: أنه ضعيف؛ لأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، والأئمة يتقون ما تفرد به. وقد نقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال:(هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة)، وكذا قال ابن المنذر والبيهقي والبغوي وجماعة

(5)

.

الثاني: أن هذا الحديث مختلف في لفظه، ففي النسخ المشهورة المحققة المسموعة في سنن أبي داود "فلا شيء عليه"، وعند ابن ماجه وأحمد "فليس له شيء" لوجب تأويله على معنى:"فلا شيء عليه" لتتفق الأحاديث ولا تتعارض

(6)

.

(1)

"زاد المعاد"(1/ 500).

(2)

"الأوسط"(5/ 415). أما الصلاة على عمر رضي الله عنه في المسجد فهذا رواه مالك (1/ 230)، وعنه عبد الرزاق (6577)، ومن طريقه ابن أبي شيبة (3/ 364)، عن نافع عن ابن عمر قال: صلي على عمر في المسجد. وإسناده صحيح. وأما الصلاة على أبي بكر رضي الله عنه فقد رواه عبد الرزاق (6576)، وابن أبي شيبة (3/ 364).

(3)

"حاشية ابن عابدين"(2/ 224)، "المدونة الكبرى"(1/ 177).

(4)

أخرجه أبو داود (3191)، وابن ماجه (1517)، وأحمد (15/ 454) من طريق ابن ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.

(5)

"الأوسط"(5/ 521)، "السنن الكبرى"(4/ 52)، "شرح السنة"(5/ 352)، "زاد المعاد"(1/ 500).

(6)

انظر: "المجموع"(5/ 214)، "تهذيب مختصر السنن"(4/ 325).

ص: 300

الثالث: أن هذا الحديث بلفظ: "فلا شيء له" معارض بما هو أصح منه، وهو حديث عائشة المذكور، فلا يقف في مقابلة الحديث الصحيح السالم من الاحتمال

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 52).

ص: 301

‌عدد تكبيرات صلاة الجنازة

562/ 29 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبر على جنازة خمسًا، فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها. رواه مسلم والأربعة.

563/ 30 - وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستًا، وقال: إنه بدري. رواه سعيد بن منصور.

وأصله في " البخاري".

564/ 31 - وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعًا بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى. رواه الشافعي بإسناد ضعيف.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد اختلف في اسم أبيه أبي ليلى، فقيل: يسار، وقيل: بلال، وقيل غير ذلك. وجده الأعلى مالك بن أوس الأنصاري الأوسي، ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه، وذكر الذهبي أنه ولد في خلافة الصديق رضي الله عنه أو قبل ذلك. وقد روى عن أبيه وعمر وعثمان وعلي وعدد كثير من الصحابة رضي الله عنه، وروى عنه ابنه عيسى وابن ابنه عبد الله بن عيسى والشعبي وعمرو بن مرة وآخرون. قال عنه الحافظ الذهبي:(الإمام العلامة الحافظ). مات سنة ثلاث وثمانين

(1)

، رحمه الله تعالى.

(1)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 262)، "تهذيب التهذيب"(6/ 234).

ص: 302

الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقد أخرجه مسلم في كتاب "الجنائز"، باب " الصلاة على القبر"(957)، وأبو داود (3197)، والترمذي (1023)، والنسائي (4/ 72)، وابن ماجه (1505) كلهم من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

الحديث.

وأما حديث علي رضي الله عنه، فقد أخرجه عبد الرزاق (3/ 480) من طريق ابن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، قال: سمعت ابن معقل يقول: صلى علي على سهل بن حنيف فكبر ستًا.

ويزيد بن أبي زياد هو القرشي الهاشمي متكلم فيه.

ورواه عبد الرزاق (3/ 481) ومن طريقه البيهقي (4/ 36)، وابن حزم (5/ 126)، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستًا، ثم التفت إلينا فقال:(إنه بدري).

زاد ابن حزم: قال الشعبي: وقدم علقمة من الشام فقال لابن مسعود: إن إخوانك بالشام يكبرون على جنائزهم خمسًا، فلو وقتم لنا وقتًا نتابعكم عليه. فأطرق عبد الله ساعة، ثم قال:(انظروا جنائزكم، فكبروا عليها ما كبر أئمتكم، لا وقت ولا عدد).

قال ابن حزم: (هذا إسناد في غاية الصحة؛ لأن الشعبي أدرك علقمة، وأخذ عنه وسمع منه).

وأخرج الطحاوي (1/ 497)، والدارقطني (2/ 73) ومن طريقه البيهقي (4/ 37) عن عبد خير، قال:(كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستًا، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا) وسنده صحيح، كما قال الألباني

(1)

.

(1)

"أحكام الجنانز" ص (113).

ص: 303

وأصل هذا الحديث في البخاري في كتاب المغازي (4004) عن ابن معقل أن عليًا رضي الله عنه كبر على سهل بن حنيف فقال: (إنه شهد بدرًا) وليس فيه ذكر العدد، وهذا قد يستفاد منه إعلال التنصيص على العدد المذكور.

وأما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه الشافعي (1/ 214 ترتيب مسنده) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وإسناده ضعيف جدًا من أجل شيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو رافضي كذاب كل بلاء فيه، كما تقدم

(1)

، وقد أعله الصنعاني بابن عقيل

(2)

، وهذا فيه نظر، فإن الصواب في ابن عقيل أن حديثه لا ينزل عن رتبة الحسن إذا لم يخالف؛ لأن الكلام فيه إنما هو من قبل حفظه، وهو في نفسه صدوق، وقد مضى ذكره

(3)

، وقد ساق الحافظ هذا الحديث لبيان حاله، وأنه ليس هو العمدة في الباب؛ بل العمدة الحديث الذي بعده.

• الوجه الثالث: اختلف العلماء في عدد التكبير في صلاة الجنازة على قولين:

القول الأول: أن التكبير أربع ولا يزاد عليها، وقد عزاه ابن المنذر إلى أكثر أهل العلم، بل نقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك

(4)

. واستدلوا بما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن أبي وائل، قال: كانوا يكبرون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سبعًا وخمسًا وأربعًا حتى كان زمن عمر فجمعهم، فسألهم، فأخبره كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم على أربع تكبيرات كأطول الصلاة، يعني الظهر

(5)

.

والقول الثاني: جواز الزيادة على الأربع؛ لأنه أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

انظر: شرح الحديث (441).

(2)

"سبل السلام"(3/ 352).

(3)

انظر: شرح الحديث (128).

(4)

"الأوسط"(5/ 429)، "الاستذكار"(8/ 239).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (3/ 479)، قال الحافظ في "فتح الباري" (3/ 202):(إسناده حسن).

ص: 304

وفعله بعض أصحابه بمحضر بقيتهم ولم ينكر عليه، ولا سيما في حق أهل العلم ومن له جهود في مصالح المسلمين، مثل: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.

وهذا القول وجيه جدًا، وفيه عمل بجميع الأدلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه المنع مما زاد على أربع؛ بل فعله هو وأصحابه من بعده كما تقدم، فكيف يترك مع ثبوته؟! وما فعله الصحابة رضي الله عنهم هو في حكم المرفوع؛ لأن بعض كبار الصحابة أتى بها على مشهد من الصحابة دون أن يعترض عليه أحد منهم.

وأما ما ورد عن عمر رضي الله عنه فلا يعد إجماعًا؛ بل هو من باب تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال بناءً على المصحلة، ولا يعني ذلك تغيير الحكم الثابت أو إلغاءه بصفة دائمة، ومثل ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه عندما أمضى الطلاق الثلاث على الناس لما رآهم تتابعوا على إيقاعه.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات، فيقرأ في الأولى الفاتحة، كما سيأتي، وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة عليه في التشهد، وبعد الثالثة يدعو للميت، وإنما كان في الثالثة؛ لأن الدعاء يحتاج إلى ثناء وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فناسب ذلك في الثانية ثم يكبر الرابعة ويسلم

(1)

، وقد ورد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم في نفسه عن يمينه

(2)

.

• الوجه الخامس: من فاتته بعض التكبيرات دخل مع الإمام فيما أدركه فيه، معتبرًا ذلك أول صلاته، وما يقضيه بعد سلام إمامه هو آخر صلاته، لعموم:" فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"

(3)

، فإذا أدرك الإمام في

(1)

انظر: "أحكام الجنائز" ص (127).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (6428)، والنسائي (4/ 75)، وصححه ابن حجر في "الفتح"(3/ 204) وهو مرسل صحابي.

(3)

تقدم تخريجه وشرحه برقم (422).

ص: 305

التكبيرة الثانية مثلًا كبر معه وقرأ الفاتحة، فإذا كبر الإمام الثالثة كبر هو وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كبر الإمام الرابعة كبر ودعا للميت دعاء موجزًا، فإذا سلم الإمام كبر الرابعة ثم سلم

(1)

.

والقول الثاني: أنه يدخل مع الإمام فيما هو فيه، فإذا أدرمه في الثالثة مثلًا كبر ودعا للميت، فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، فكبر متواليًا إن بقيت الجنازة، وإن رفعت فله أن يسلم مع إمامه، ولا يجب عليه القضاء

(2)

. والله أعلم.

* * *

(1)

انظر: "المجموع"(5/ 240)، "فتاوى ابن باز"(13/ 149 - 150).

(2)

"المغني"(3/ 424)، "الإنصاف"(2/ 529)، "فتاوى ابن عثيمين"(17/ 135)، "الشرح الممتع"(5/ 342).

ص: 306

‌وجوب الفاتحة بعد التكبيرة الأولى

565/ 32 - عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، فقال:" لتعلموا أنها سنة". رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري المدني قاضي المدينة زمن يزيد، روى عن عمه عبد الرحمن بن عوف الزهري، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وابن عباس، وآخرين، قال ابن معين وأبو زرعة والنسائي والعجلي:(ثقة). وكان شريفًا جوادًا حجة إمامًا، يقال له: طلحة الندى، وكان يكتب الوثائق بالمدينة، مات بها سنة تسع وتسعين رحمه الله

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة"(1335) من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال:

وذكر الحديث.

وقد أخرجه النسائي (4/ 74)، وابن الجارود في "المنتقى"(537) من طريق إبراهيم بن سعد، قال: حدثني أبي، عن طلحة، بلفظ: (فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فجهر حتى سمعنا

)، وقد جود ابن المنذر هذه الزيادة

(2)

،

(1)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 174)، "تهذيب التهذيب"(5/ 18).

(2)

"الأوسط"(5/ 440).

ص: 307

وقال البيهقي: (ذكر السورة فيه غير محفوظ)

(1)

، ورد عليه ابن التركماني فقال:(بل هو محفوظ)

(2)

.

وقد اقتصر البخاري على رواية شعبة، عن سعد، وليس فيها ذكر السورة، وترك رواية إبراهيم بن سعد، عن أبيه التي فيها ذكر السورة؛ لأن شعبة أوثق من إبراهيم بن سعد، ومع هذا فقد جودها ابن المنذر، وأثبتها ابن التركماني، وصحح إسنادها النووي

(3)

، والألباني

(4)

، لكن إعراض البخاري عنها يشعر بضعفها.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى من تكبيرات صلاة الجنازة، لقول ابن عباس رضي الله عنه:(لتعلموا أنها سنة) أي: طريقة متبعة وشرع ثابت، وليس المراد بذلك المندوب أو المستحب، فإن هذا اصطلاح حادث عند الفقهاء، واسم السنة يطلق على الواجب وما ليس بواجب

(5)

.

والسنة في قراءة الفاتحة: المخافتة، وإنما جهر بها ابن عباس لتعليم الناس، كما جهر عمر رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح لتعليم الناس.

وليس في صلاة الجنازة دعاء استفتاح لعدم ثبوته، وفي مسائل الإمام أحمد لأبي داود فقال:(سمعت أحمد سئل عن الرجل يستفتح على الجنازة: سبحانك، قال: ما سمعت)

(6)

.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: باستحباب قراءة سورة بعد الفاتحة، بناءً على ثبوت زيادة ذكر السورة، واستحب النووي

(7)

أن تكون قصيرة، ولعله بنى ذلك على كون صلاة الجنازة مبنية على التخفيف والاستعجال بالجنازة إلى قبرها؛ وإلا فالحديث ليس فيه ما يدل على كونها قصيرة، والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن الكبرى"(4/ 38).

(2)

"الجوهر النفي"(4/ 38).

(3)

"المجموع"(5/ 234).

(4)

"أحكام الجنائز" ص (119).

(5)

انظر: "رسالة في أصول الفقه" للعكبري ص (42).

(6)

"مسائل الإمام أحمد" لأبي داود ص (153)، وانظر:"الأوسط"(5/ 436).

(7)

"المجموع"(5/ 234).

ص: 308

‌ما يدعى به في صلاة الجنازة

566/ 23 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه:" اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار". رواه مسلم.

567/ 34 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: " اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وشاهدنا، وغائبنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده". رواه مسلم، والأربعة.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عوف بن مالك، فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " الدعاء للميت في الصلاة"(963) من طريق ابن وهب، أخبرني معاوية بن صالح، عن حبيب بن عبيد، عن جبير بن نفير، سمعه يقول: سمعت عوف بن مالك يقول:

وذكر الحديث، وفي آخره قال:(حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت).

أما الثاني: فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " الدعاء

ص: 309

للميت" (3201)، والترمذي (1024)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة" (1080) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهذا قد أعل بالإرسال، فقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن وصله، فقال: (هذا خطأ، الحفاظ لا يقولون: أبا هريرة، إنما يقولون: أبا سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقال الترمذي: (روى هشام الدستوائي وعلي بن المبارك

(2)

هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا)

(3)

، وصحح الإرسال أيضًا الدارقطني

(4)

.

وأخرجه الترمذي (1024)، والنسائي (4/ 74)، وأحمد (29/ 87) طريق يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو إبراهيم الأشهلي، عن أبيه قال:

فذكر الحديث.

وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال:(سمعت محمدًا يقول: أصح الروايات في هذا: حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأشهلي، عن أبيه، وسألته عن اسم أبي إبراهيم فلم يعرفه). وكذا قال الدارقطني والبيهقي

(5)

، وقال أبو حاتم:(لا يدرى من هو ولا أبوه)

(6)

، قال الشوكاني:(ولكن جهالة الصحابي غير قادحة)

(7)

، وهذا بناء على أنه صحابي.

وأخرجه ابن ماجه (1498) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا معلول، ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، ثم هو أيضًا على خلاف المحفوظ عن أبي سلمة.

(1)

"العلل"(1047)، وانظر:(1058).

(2)

عند ابن أبي شيبة (3/ 292).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 400).

(4)

"العلل"(9/ 321 - 325).

(5)

"جامع الترمذي"(3/ 344)، وانظر:"العلل" للدارقطني (9/ 325)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 41).

(6)

"الجرح والتعديل"(9/ 332).

(7)

"نيل الأوطار"(4/ 72).

ص: 310

ورواه أحمد في المسند (29/ 88) من طريق همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه مرفوعًا، ورجاله ثقات

(1)

.

ومن هذا البيان الموجز يتبين أن الرواة قد اختلفوا في إسناد هذا الحديث اختلافًا ظاهرًا، وهذا من الاضطراب في الإسناد، ولهذا قال البخاري:(حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وعائشة وأبي قتادة في هذا الباب غير محفوظ، وأصح شيء في هذا الباب حديث عوف بن مالك)

(2)

.

وقد أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة"(1087) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي:(حديث عكرمة بن عمار غير محفوظ). وذلك لأن أضعف روايات عكرمة روايته عن يحيى بن أبي كثير، كما قال ذلك الإمام أحمد وابن المديني وابن القطان والبخاري وآخرون.

والحديث له شواهد عن ابن عباس عند الطبراني

(3)

، وعبد الرحمن بن عوف عند البزار

(4)

، وكلها ضعيفة.

وأما عزو الحافظ هذا الحديث لمسلم فالظاهر أنه خطأ من النساخ، لا من الحافظ؛ لأنه لما ذكره في " التلخيص" عزاه إلى السنن ومسند أحمد فقط

(5)

، وقد فات الصنعاني أن ينبه على ذلك.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (فحفظت من دعائه) لعله صلى الله عليه وسلم جهر به ليحفظ عنه. وقال النووي: (أي: علمنيه بعد الصلاة فحفظته)

(6)

. لكن يرد هذا رواية الترمذي وغيره: (وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

) فالأول أظهر.

قوله: (اللهم اغفر له) المغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، وتقدم ذلك " صفة الصلاة".

(1)

انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1076).

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 42).

(3)

"المعجم الكبير"(12/ 12680).

(4)

"مختصر زوائد البزار"(1/ 386).

(5)

"التلخيص"(2/ 130).

(6)

"شرح صحيح مسلم"(7/ 34).

ص: 311

قوله: (وارحمه) الرحمة صفة تقتضي الإنعام والإحسان إلى المرحوم برفعة درجاته وتحقيق مطلوبه، فهي أبلغ من المغفرة؛ لأن فيها حصول المطلوب بعد زوال المكروه.

قوله: (وعافه) أي: من المؤذيات في القبر من فتنته ووحشته وظلمته وعذابه.

قوله: (واعف عنه) أي: تجاوز عما وقع له من تقصير في الطاعة حال حياته.

قوله: (وأكرم نزله) النزل: بضمتين: ما يهيأ للضيف من الإكرام، أي: اجعل نزله وضيافته عندك كريمة، وأحسن نصيبه من الجنة. وأكرم: بقطع الهمزة.

قوله: (ووسع مدخله) بفتح الميم: مكان الدخول وهو القبر، وبضمها: الإدخال في القبر، والفتح أولى لأنه المناسب للمقام، ليكون المعنى: ووسع مكان الدخول، بأن يفسح له في قبره ويفتح له بابًا إلى الجنة.

قوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد) أي: طهره، وليس المراد بالغسل هنا على ظاهره، وإنما هو استعارة بديعة للطهارة العظيمة من الذنوب، والماء معروف، والثلج: الماء المتجمد، والبرد: بالتحريك المطر المنعقد، وجمع بينهما مبالغة في التطهير.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مناسبة تنقية الذنوب بالثلج والبرد مع أن الماء الحار أبلغ في الإزالة؟ فقال: (إن حرارة الذنوب يناسبها شدة برودة الثلج والبرد)

(1)

.

قوله: (ونقه من الخطايا) أي: خلصه ونظفه. والخطايا: آثارها، وهي جمع خطيئة وهي المعصية؛ إما بترك ما يجب أو بفعل ما يحرم.

قوله: (كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) خص الأبيض لأن النقاء

(1)

"إغاثة اللهفان"(1/ 57).

ص: 312

فيه أبلغ، حيث إن قل دنس يبين فيه. والدنس: هو الوسخ. وهذه الجمل تقدم شرحها في "صفة الصلاة".

قوله: (وأبدله دارًا خيرًا من داره) أبدله: بصيغة الدعاء من الإبدال، أي: عوضه دارًا في الجنة، من القصور ومن سعة القبور خيرًا من داره في الدنيا الفانية.

قوله: (وأهلًا خيرًا من أهله) هذا التبديل إما بالأعيان بأن يعوضه الله عنهم في دار كرامته، أو تبديل أوصاف بأن تكون العجوز شابة، وسيئة الخلق حسنة الخلق، وهو الأقرب لقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم

} [الطور: 21].

قوله: (وزوجًا خيرًا من زوجه) هذه الجملة غير موجودة في نسخ البلوغ، وهو في مسلم ضمن الحديث، والمعنى: أبدله زوجًا من الحور العين أو من نساء الدنيا؛ فإن كانت معه زوجته في الجنة فالظاهر أن المراد إبدال الأوصاف لا إبدال الذوات، لقوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آباءهم وأزواجهم وذريتهم

} [الرعد: 23]، فالمؤمن إذا دخل الجنة وكانت زوجته صالحة فهي زوجته في الجنة، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء لآخر أزواجها"

(1)

؛ وإن كان الميت امرأة فالمعنى: إبدالها زوجًا من طائفة من الفقهاء أن هذا الدعاء خاص بالرجل، ولا يقال في المرأة: أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها، لجواز أن تكون لزوجها في الجنة؛ لأن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها، والرجل يقبل ذلك

(2)

.

وزوج: بغير هاء يقال للذكر والأنثى، وقد يقال للمرأة زوجة بالهاء. وقد جاءت كذلك عند أحمد

(3)

والبيهقي

(4)

.

(1)

انظر: "السلسلة الصحيحة"(3/ 275).

(2)

"شرح السيوطي على سنن النسائي"(4/ 73).

(3)

"المسند"(6/ 23).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 40).

ص: 313

قوله: (وأدخله الجنة) أي: ابتداء مع الناجين الفائزين.

قوله: (وقه فتنة القبر) والمراد بها: ما يحصل بعد الموت حين يسأل الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه. والقبر: ما بين الموت وقيام الساعة وإن لم يدفن الميت.

قوله: (وعذاب النار) أي: وقه عذاب النار بعد البعث، إما بإعاذته منها ابتداءً، أو بإنجائه من الخلود فيها.

قوله: (وشاهدنا) أي: حاضرنا.

قوله: (وصغيرنا) إن كان المراد به المكلف فلا إشكال؛ لأن المكلف أنواع منهم الصغير والكهل والشيبة، وهذا أولى أن يفسر به الحديث، وإن كان المراد من دون التكليف فيرد عليه إشكال، وهو كيف يستغفر للصغير مع أنه غير مكلف ولا ذنب له؟ فإما أن يقال: إن المراد بالألفاظ في الحديث الدلالة على الشمول والاستيعاب، كأنه قال: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات كلهم أجمعين، أو أنه عام مخصوص بمن سيكبر، أو أنه لا يلزم من طلب المغفرة تقدم ذنب؛ بل قد يكون لرفع الدرجات.

قوله: (فتوفه على الإيمان) أي: التصديق القلبي واليقين. فالإسلام: هو العبادات كلها، والإيمان شرط فيها، ووجودها في الحياة ممكن، بخلاف حالة الموت فإن وجودها متعذر، فلهذا اكتفى بالموت على الإيمان خاصة. وطلب الحياة على الإسلام الذي الإيمان جزء منه.

قوله: (اللهم لا تحرمنا أجره) أي: أجر تجهيزه والصلاة عليه ودفنه وتشييعه، وأجر صبرنا على المصيبة فيه؛ فإن المسلمين في المصيبة كالشيء الواحد، وأما أجر عمله فهو له وليس لنا في شيء.

قوله: (ولا تضلنا بعده) وفي رواية: (ولا تفتنا) أي: بتسليط الشيطان علينا حتى ينال منا مطلوبه. وهذا شامل لفتنة الشبهات وفتنة الشهوات.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الدعاء للميت؛ لأن هذا هو المقصود من الصلاة عليه. وقد ورد في الدعاء للميت أحاديث كثيرة،

ص: 314

ومنها ما ذكره الحافظ. وقد تقدم قول البخاري: (أصح شيء في هذا الباب حديث عوف بن مالك). واستحب كثير من الفقهاء أن يبدأ بحديث عوف؛ لأنه دعاء خاص. والأفضل أن يكون بالأدعية المأثورة، ويجوز الدعاء بكل ما يناسب المقام، ومن ذلك الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وتنقيته من الذنوب، وإعاذته من عذاب القبر وفتنته، وعذاب النار، وقد جاء الدعاء في حديث عوف بن مالك بلفظ المفرد المذكر، فبغير الدعاء ما يلزم تغييره في حال التأنيث والتثنية والجمع.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الميت ينتفع بالدعاء له إذا تحققت فيه شروط القبول، ولولا أنه ينتفع ما كان لدعائنا له فائدة.

• الوجه الخامس: إذا كان الميت طفلًا قال بعد الدعاء العام: " اللهم اجعله فرطًا لوالديه وذخرًا، وشفيعًا مجابًا، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقه برحمتك عذاب الجحيم"، وهذا ذكره الفقهاء، وليس في ذلك سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا: "

والطفل يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة"

(1)

.

وذكر البخاري عن الحسن أنه قال: يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب، ويقول:" اللهم اجعله لنا فرطًا وأجرًا وسلفًا"

(2)

.

وعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى على المنفوس، ثم قال:" اللهم أعذه من عذاب القبر"

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أبو داود (3180)، والترمذي (1031)، والنسائي (4/ 55)، وابن ماجه (1481) وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

(2)

"فتح الباري"(3/ 9)، وانظر:"الدعاء" للطبراني (3/ 1363).

(3)

أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 228)، وعبد الرزاق (3/ 533)، وابن أبي شيبة (3/ 317)، والطبراني في "الدعاء"(3/ 1363)، والبيهقي (4/ 9). قال الألباني في "أحكام الجنائز" ص (127):(إسناده حسن)، والمنفوس: المولود.

ص: 315

‌الأمر بإخلاص الدعاء للميت

568/ 35 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء". رواه أبو داود، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " الدعاء للميت"(3199)، وابن حبان (7/ 345 - 346) من طريق محمد بن سلمة الحراني، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

وهذا سند جيد، ومحمد بن إسحاق صرح يالتحديث عند ابن حبان من طريق أخرى

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على انه ينبغي في الصلاة على الميت إخلاص الدعاء له؛ لأنها صلاة مقصودة له، سواء أكان الميت محسنًا أم مسيئًا؛ لأن ملابس المعاصي أحوج الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وشفاعتهم له. ومعنى إخلاصه للميت: أي تخصيصه بالدعاء، فلا يدعى لغيره على وجه الخصوص، وإنما يدعى له مفردًا أو مع غيره، كما في حديث: " اللهم اغفر لحينا

". وقال المناوي: (أي: ادعوا له بإخلاص وحضور قلب؛ لأن المقصود بهذه الصلاة إنما هو الاستغفار للميت، وإنما يرجى قبولها عند توفر الإخلاص والابتهال)

(2)

.

(1)

"الإحسان"(7/ 346).

(2)

"فيض القدير"(1/ 505).

ص: 316

قلت: ولا مانع من اعتبار المعنيين: تخصيص الميت بالدعاء، والدعاء له بإخلاص وحضور قلب، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 317

‌مشروعية الإسراع بالجنازة

569/ 36 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " السرعة بالجنازة"(1315)، ومسلم (944)(50) من طريق سفيان بن عيينة، قال: حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

وذكر الحديث.

وأخرجه مسلم (51) من طريق ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: " فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير

".

قال الحافظ: (وهو محمول على أن للزهري فيه شيخين)

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أسرعوا بالجنازة) بفتح الجيم؛ أي: الميت، وهذا الإسراع يفسر بمعنيين:

المعنى الأول: المبادرة بتجهيزها والصلاة عليها، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(3/ 184).

(2)

أخرجه أبو داود (3159)، وسنده ضعيف.

ص: 318

المعنى الثاني: الإسراع بالسير فيها إلى قبرها. قال ابن الملقن: (وهو أطهر، وعليه الجمهور)

(1)

، ويؤيد هذا ما رواه عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكما نمشي مشيًا خفيفًا، فلحقنا أبو بكرة رضي الله عنه ورفع سوطه فقال:(لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملًا)

(2)

.

وقد رجح النووي هذا المعنى، وقال: إنه الصواب، وأبطل المعنى الأول بقوله:" فشر تضعونه عن رقابكم".

والظاهر أنه لا مانع من حمل الإسراع على المبادرة بتجهيزها، والإسراع بالسير فيها إلى قبرها. قال القرطبي:(لا يبعد أن يكون كل واحد منهما مطلوبًا؛ إذ مقتضاه: مطلق الإسراع؛ فإنه لم يقيده بقيد، والله أعلم)

(3)

، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز،

(4)

وذلك لأنه إذا كان الإسراع أثناء حملها مأمورًا به، فالإسراع في تجهيزها والصلاة عليها من باب أولى؛ لأن تأخير هذه الأمور يطول أكثر من تأخير الإسراع أثناء الحمل

(5)

.

وأما رد النووي للمعنى الأول وإبطاله بقوله: " فشر تضعونه عن رقابكم" ففيه نظر، والظاهر أنه لا يفهم منه رد المعنى الأول، لأمرين:

الأمر الأول: أنه قد يعبر بالحمل على الظهر أو العنق عن المعاني دون الذوات، فيقال: حمل فلان على عنقه موضوع كذا. فيصير معنى الحديث: إنكم تستريحون من هذا الأمانة التي حملتم إياها بالإسراع في تجهيزها ودفنها.

الأمر الثاني: أنه ليس كل حاضري الميت يحملونه، وإنما يحمله القليل منهم.

(1)

"شرح العمدة"(4/ 470).

(2)

أخرجه أبو داود (3182)، والنسائي (4/ 42)، وصححه الحاكم (1/ 355)، وسكت عنه الذهبي، وصححه النووي في "المجموع"(5/ 272).

(3)

"المفهم"(2/ 603).

(4)

"الفتاوى"(13/ 182).

(5)

"من أحكام الجنائز" للزومان ص (49).

ص: 319

قوله: (فإنها إن تك صالحة) الجملة تعليل للأمر بالإسراع.

قوله: (فخير تقدمونها إليه) الفاء رابطة لجواب الشرط، و (خير) مبتدأ.

والخير محذوف؛ أي: فلها خير، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فذلك خير.

وجملة (تقدمونها) صفة لخير، والمراد بالخير: نعيم القبر.

قوله: (وإن تك سوى ذلك) أي: غير صالحة، وعبر عنه بـ (سوى ذلك) تحاشيًا لبشاعة اللفظ.

قوله: (فشر تضعونه) الفاء كما تقدم. و (شر): خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فهي شر.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الإسراع في تجهيز الميت والمبادرة بتغسيله والصلاة عليه ودفنه، وذلك لأن الميت إن كان صالحًا فالإسراع بتجهيزه ودفنه من مصلحته، للمبادرة بإيصاله إلى ما أعد الله له من النعيم والسرور في قبره؛ لأن القبر للميت الصالح خير من الدنيا؛ وإن كان الميت غير صالح فالإسراع بتجهيزه ودفنه من مصلحة حامليه ومشيعيه حيث يضعون عن رقابهم شرًا، ويتخلصون منه؛ إذ لا مصلحة لهم فيه.

• الوجه الرابع: أن الإسراع المأمور به في حمله هو ما كان في رفق ولطف لا في هيئة مزرية تؤدي إلى الإضرار بالميت أو سقوطه أو تؤدي إلى إتعاب من يشيعه، وقد يضعف عن مواصلة تشييعه، فالمطلوب مراعاة السنة بالإسراع ومراعاة الرفق بالميت والمشيعين.

وأما ما يفعله كثير من الناس في هذا الزمان من تأخير الميت يومًا أو يومين من أجل حضور بعض أقاربه أو لنقله من بلد إلى آخر فهذا فيه مخالفة واضحة للأمر بالإسراع بتجهيزه ودفنه، وفيه جناية على الميت كما دل عليه الحديث، فينبغي المبادرة به، فمن حضر من أقاربه فذاك، وإلا صلى بعد مجيئه على القبر.

أما تأخير وقتًا يسيرًا كساعة أو ساعتين أو يموت أول النهار فيؤخر إلى الظهر أو إلى صلاة الجمعة مثلًا ليكثر المصلون عليه فلا مانع إن شاء الله

ص: 320

أو يؤخر لغرض آخر كالبحث في سبب موته إن كان بسب بجناية عليه فلا حرج إن شاء الله؛ لأن في ذلك مصلحة ظاهرة، لا سيما مع وجود أماكن مبردة تحفظ بها الأجساد من الفساد.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن السنة حمل الميت على الأعناق، ويجوز حلمه على دابة أو سيارة لغرض صحيح؛ كبعد المقبرة أو وجود مطر غزير ونحو ذلك. وأما ما اعتاده الناس اليوم من حملها على سيارة مع قرب المقبرة فينبغي تركه لأمرين:

الأمر الأول: أن فيه مخالفة للسنة.

الأمر الثاني: أن حملها على سيارة يفوت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تذكرة الآخرة ومآل الإنسان؛ فإن حمل الميت على الأعناق والذهاب به إلى المقبرة فيه أبلغ عظة وأعظم تذكرة لمن كان له قلب، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عودوا المريض، واتبعوا الجنائز، تذكيركم الآخرة"

(1)

.

وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق باتباع الجنائز، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أحمد (17/ 372) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وسنده صحيح.

ص: 321

‌أجر من اتبع الجنازة

570/ 37 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان".

قيل: وما القيراطان؟ قال: " مثل الجبلين العظيمين". متفق عليه.

ولمسلم: " حتى توضع في اللحد".

وللبخاري: " من تبع جنازة مسلم إيمانًا، واحتسابًا، وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل أحد".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " من انتظر حتى تدفن"(1325)، ومسلم (945)(52) من طريق يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وأما رواية مسلم، فقد أخرجها من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما رواية البخاري، فقد أخرجها في كتاب " الإيمان"، باب " اتباع الجنائز من الإيمان"(47) من طريق روح، قال: حدثنا عوف، عن الحسن ومحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكر الحديث. وتمامه: " ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط"، وقد قرن البخاري فيه بين الحسن وهو البصري، ومحمد هو ابن سيرين، لأنهما حدثا

ص: 322

به عوفًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، إما مجتمعين وإما متفرقين. فأما ابن سيرين فسماعه من أبي هريرة صحيح، وأما الحسن فمختلف في سماعه منه، والأكثرون على نفيه، وهو من ذلك كثير الإرسال. فلا تحمل عنعنته على السماع، وعلى هذا فالاعتماد على ابن سيرين، وقد أورده البخاري كما سمع.

ولعل الحافظ أورد رواية البخاري لاشتمالها على فوائد ليست في الرواية الأولى، وذكر رواية مسلم ليعرف الجمع بينها وبين غيرها، كما سيتبين إن شاء الله تعالى.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من شهد الجنازة) أي: من حضر الجنازة، وهي بفتح الجيم: الميت.

قوله: (حتى يصلى عليها) يصلى: بفتح اللام، وهي رواية الأكثر، كما ذكر الحافظ، وبكسرها في بعض الروايات، ويؤيد رواية الكسر رواية البخاري في الباب المذكور، فإنها بلفظ:" حتى يصلي"، وأما لفظ البلوغ فهو عند مسلم.

و (حتى) للغاية، والمعنى: امتداد شهوده إياها إلى الفراغ من الصلاة عليها.

قوله: (فله قيراط) بكسر القاف: معيار في الوزن وفي القياس، يختلف وزنه بحسب الأمكنة. والمراد هنا: مقدار عظيم من الأجر مثل الجبل، وفي رواية البخاري المذكورة:" كل قيراط مثل أحد"، وعند مسلم:" أحدهما مثل أحد".

قوله: (ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) المراد بذلك: تمام القيراطين، لا أنه يحصل بالصلاة مع حضور الدفن ثلاثة قراريط، والدليل على أن المراد تمام القيراطين رواية البخاري المذكورة:" وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين"، وعند مسلم: " من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى عليها، ثم اتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر

"، فتكون الأحاديث المطلقة والمحتملة محمولة على الرواية الصريحة

(1)

.

(1)

"شرح النووي على صحيح البخاري" ص (237)، "فتح الباري"(3/ 197).

ص: 323

قوله: (وما القيراطان) سأل عن تعيينها لذكرهما مبهمين، ولم يعين في هذه الرواية القائل ولا المقول له، وأراد بذكر الجبل تعظيم الثواب، فمثله بالجبلين العظيمين.

قوله: (ومن شهدها حتى تدفن) أي: حضرها، والمراد من صلى عليها ثم استمر معها حتى (تدفن) أي: حتى يفرغ من دفنها بدليل رواية البخاري، ورواية مسلم (حتى توضع في اللحد) محمولة على ذلك

(1)

.

قوله: (من تبع) وفي رواية: " من اتبع" والمعنى: لحق الجنازة ومشى خلفها.

قوله: (إيمانًا واحتسابًا) مفعول لأجله أو حال، أي: تصديقًا بوعد الله تعالى الوارد في اتباع الجنائز. (واحتسابًا) أي: طلبًا لثواب الله وتقربًا إليه بأن يتبع الجنازة إخلاصًا لوجه الله تعالى، لا مكافأة ولا مخافة.

قوله: (وكان معه) أي: مع المسلم، وهذه المعية تفيد أنه لابد أن يكون مع الميت في جميع الطريق هذا هو الظاهر، لكن لو كان مع الجنازة جمع كثير وتأخر بسبب كثرة المشيعين حصل له القيراط إذا كان ممن ينتسب إلى المشيعين

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل اتباع الجنازة والصلاة عليها وحضور دفنها، وظاهر الحديث أن الأجر المرتب على ذلك مشروط بقوله:" إيمانًا واحتسابًا" وعلى هذا فمن تبع الجنازة على سبيل المكافأة المتبادلة أو على سبيل المجاملة أو نحو ذلك فقد يؤجر على ذلك، لكن لا ينال الأجر المذكور لفوات ما رتب عليه.

وفي اتباع الجنائز فوائد عظيمة ومصالح جمة منها:

1 -

الحصول على هذا الفضل العظيم.

(1)

"المجموع"(5/ 278)، "الإعلام" لابن الملقن (4/ 533).

(2)

"شرح النووي على صحيح البخاري" ص (237).

ص: 324

2 -

القيام بحق الميت من الدعاء له والصلاة عليه.

3 -

أداء حق أهله وجبر خاطرهم عند مصيبتهم في ميتهم ومشاركتهم في ذلك؛ فإن هذا له تأثير ملحوظ.

4 -

إعانة أهل الميت على حمله وحفر قبره والإعانة على دفنه.

5 -

حصول العظة والعبرة بمشاهدة الموتى والمقابر، ففي ذلك ترقيق القلوب وتذكيرها بالآخرة، وتذكر الموت.

فعلى المسلم أن يحرص على تشييع الجنائز مطلقًا، عرفهم أو لم يعرفهم حسب الإمكان، وغالب الناس في هذا الزمان لا يشيعون إلا إذا كانوا يعرفون الميت، لقرابة أو صداقة ونحو ذلك.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من اتبع الجنازة حتى يصلى عليها فله من الأجر قيراط، ومن استمر معها حتى تدفن فله قيراط آخر، وفي رواية البخاري:" ويفرغ من دفنها"، ولمسلم:"حتى يفرغ منها"، وهذا يفيد أن حصول قيراط الدفن متوقف على الفراغ من دفنها، وهو تسوية القبر، ورجح هذا النووي، ومن بعده الحافظ ابن حجر

(1)

، قال النووي:(وأكمل مراتب الانصراف عن الجنازة أن يمكث عقب الفراغ من دفنها، ويستغفر للميت، ويدعو له، ويسأل له التثبيت)

(2)

.

• الوجه الخامس: ظاهر رواية البخاري: " من تبع جنازة مسلم

وكان معه حتى يصلى عليها" أن حصول القيراط يختص بمن شيعها وصلى عليها، وفي رواية عند مسلم: " من خرج مع جنازة من بيتها

".

وجاء عند مسلم من طريق سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى على جازة ولم يتبعها فله قيراط

" الحديث

(3)

، وظاهر ذلك أن القيراط يحصل بمجرد الصلاة عليها ولو لم يتبعها قبل ذلك،

(1)

"فتح الباري"(3/ 197).

(2)

"المجموع"(5/ 278).

(3)

"صحيح مسلم"(53).

ص: 325

وهو صنيع أكثر الناس اليوم، حيث يحضرون إلى المسجد يصلون، ثم يتبعونه.

والجواب كما ذكره ابن الملقن

(1)

ومن بعده الحافظ

(2)

أن القيراط يحصل لمن صلى فقط ولو لم يتبعها من عند أهلها ولم يتبعها قبل الصلاة، لكن قيراط من تبعها وشيعها قبل الصلاة ثم صلى عليها أكمل وأعظم، وذلك لأن القراريط تتفاوت، كما تقدم في رواية مسلم:" أصغرهما مثل أحد".

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن القيراط الثاني مقيد لمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن لقوله: " وكان معها".

قال النووي: (فلو صلى وذهب إلى القبر وحده، ومكث حتى جاءت الجنازة بعد ذلك وحضر الدفن لم يحصل لها القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصل، أو اتبعها ولم يصل، فليس في الحديث حصول القيراط له، إنما جعل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة)

(3)

.

• الوجه السابع: الحديث دليل على عظيم فضل الله تعالى وتكريمه للمسلم حيث أثاب من اتبع جنازته حتى يصلى عليها أو تدفن بهذا الأجر العظيم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الإعلام"(4/ 533).

(2)

"فتح الباري"(3/ 197).

(3)

"شرح صحيح البخاري" ص (237).

ص: 326

‌مكان المشاة مع الجنازة

571/ 38 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، يمشون أمام الجنازة، رواه الخمسة. وصححه ابن حبان، وأعله النسائي وطائفة بالإرسال.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عمر أو أبو عبد الله سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، الإمام الزاهد، الحافظ، مفتي المدينة، مولده في خلافة عثمان رضي الله عنه، قال ابن سعد:(كان سالم ثقة، كثير الحديث، عاليًا من الرجال، ورعًا) وقال ابن حبان: (كان يشبه أباه في السمت والهدي)، وقال ابن المسيب:(كان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به) وقد أخرج له الستة، مات في آخر سنة ست ومائة على الصحيح

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " المشي أمام الجنازة"(3179)، والرمذي (1007 - 1008)، والنسائي (4/ 56)، وابن ماجه (1482)، وابن حبان (7/ 317) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، به.

(1)

"الطبقات"(5/ 200)، "الثقات"(4/ 305)، "سير أعلام النبلاء"(4/ 457)، "تهذيب التهذيب"(3/ 378).

ص: 327

وهذا الحديث رواه ابن جريج وزياد بن سعد وابن عيينة وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، هكذا موصولًا.

ورواه معمر ويونس بن يزيد ومالك وغير واحد من الحفاظ، عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة

هكذا مرسلًا.

قال الترمذي: (أهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح)، وممن رجح إرساله: ابن المبارك، والإمام أحمد، والبخاري، وأبو حاتم، والنسائي، والدارقطني

(1)

.

وقد ذكر البيهقي أن علي بن المديني قال لسفيان: (يا أبا محمد، إن معمرًا وابن جريج يخالفانك في هذا أي: يرسلان الحديث فقال: استيقن، الزهري حدثنيه، سمعته من فيه، يعيده ويبديه، عن سالم عن أبيه

) وقصده بذلك تأكيد أن الحديث موصول وليس بمرسل. وقد رجح البيهقي الموصول؛ لأنه من رواية ابن عيينة، قال:(وهو حجة ثقة)

(2)

.

وممن رجح الموصول الألباني فإنه قال: (إن توهيم سفيان بن عيينة لا وجه له عندي؛ لأنه لم يتفرد بوصله)

(3)

، ثم ذكر من وصله مع ابن عيينة. لكن يقال: إن الأئمة الكبار من علماء هذا الفن حكموا بأن المرسل أصح، وهم أعلم بعلل الأحاديث، فإنهم عاصروا الرواية وعرفوا الشيوخ وأحاديثهم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الماشي مع الجنازة يكون أمامها وهذا مذهب جماعة من الصحابة، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم

(4)

، وهو قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم: مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من السلف

(5)

.

والقول الثاني: أن الماشي يكون خلف الجنازة، وهذا قول أبي حنيفة

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (12/ 280)، "التلخيص"(2/ 118).

(2)

"السنن الكبرى"(4/ 23 - 24).

(3)

"الإرواء"(3/ 187).

(4)

"الأوسط"(5/ 381).

(5)

"المدونة"(1/ 177)، "الأم"(2/ 613)، المغني (3/ 397).

ص: 328

وأصحابه

(1)

، وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري وإسحاق

(2)

، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي

(3)

، واستدلوا بما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:" من تبع جنازة مسلم"، ولا يقال: تبعه إلا إذا صار خلفه.

والقول الثالث: أن الماشي مخير بين أن يمشي أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن يسارها، وهذا قول أنس رضي الله عنه، فقد ذكر البخاري عنه تعليقًا أنه قال: (

أنتم مشيعون، وامش بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها)

(4)

، وقد وصله ابن المنذر وغيره، وروي هذا القول عن إسحاق وجماعة.

ودليل ذلك حديث المغيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبًا منها

"

(5)

، وهذا هو الأظهر إن شاء الله تعالى لأمور ثلاثة:

الأول: أنه ورد الدليل بهذا وهذا، فقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها

(6)

.

الثاني: أن فيه توسعة على الناس؛ لأن الناس يتفاوتون في المشي، وإلزامهم بجهة معينة قد يكون فيه مشقة على بعضهم.

الثالث: أن ذلك يوافق سنية الإسراع بالجنازة وأنهم لا يلزمون مكانًا واحدًا يمشون فيه، وهذا هو ظاهر اختيار البخاري، فإنه لما بوب للسرعة بالجنازة ذكر أثر أنس رضي الله عنه المتقدم.

وأما الراكب فإنه لا يسير إلا خلفها لحديث المغيرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(1)

"بدائع الصنائع"(1/ 309).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 332 - 333).

(3)

"الأوسط"(5/ 383).

(4)

"فتح الباري"(3/ 182).

(5)

تقدم تخريجه ص (315).

(6)

أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 481) بسند صحيح على شرط الشيخين، كما قال الألباني في "أحكام الجنائز" ص (74)، وهذا فيه نظر، فإن فيه وهب الله بن راشد أبا زرعة المصري، وهو متكلم فيه، وليس هو من رجال الشيخين. انظر:"اللسان"(8/ 405) والحديث مداره على الزهري، ولا يصح عنه إلا مرسلًا، كما تقدم.

ص: 329

‌نهي النساء عن اتباع الجنائز

572/ 39 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا. متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " اتباع النساء الجنائز"(1278)، ومسلم (938) من طريق حفصة، عن أم عطية رضي الله عنها.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قولها: (نهينا) أي: معشر النساء، والناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الصيغة لها حكم الرفع، والنهي: طلب الكف عن المنهي عنه ممن هو أعلى من المنهي حقيقة أو حكمًا.

قولها: (عن اتباع الجنائز) أي: تشييع الجنائز والمشي معها.

قولها: (ولم يعزم علينا) بضم الياء وفتح الزاي: لم يؤكد علينا النهي، وهذا من فهمها رضي الله عنها. فقد فهمت أن النهي ليس من عزائم المنهيات التي لابد من اجتنابها، وإنما هو نهي تنزيه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي النساء عن اتباع الجنائز، سواء إلى مكان الصلاة أو إلى المقبرة، وقد اختلف في هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ على قولني:

القول الأول: أنه نهي تنزيه، فيكره لهن اتباع الجنائز، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول

ص: 330

الشافعية والحنابلة وابن حبيب من المالكية

(1)

. واستدلوا بما فهمته أم عطية رضي الله عنها في قولها: (ولم يعزم علينا) فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم.

والقول الثاني: أنه نهي تحريم، وهذا قول الحنفية

(2)

، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الأصل في النهي هو التحريم، ولا صارف له.

وأما قولها: (ولم يعزم علينا) فهذا شيء فهمته إما لأنه لم يرد فيه وعيد، أو لكونه لم يشدد عليهن فيه، أو نحو ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(وأما قول أم عطية: (ولم يعزم علينا) فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي، وهذا لا يقتضي التحريم. وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظن غيره)

(3)

، فالقول بالتحريم قوي جدًا، لأمرين:

الأمر الأول: أن خروجهن يؤدي إلى الفتنة والهلع والحزن بما يشاهدن من الجنازة حال حملها ودفنها والانصراف عنها.

الأمر الثاني: ما يترتب على ذلك من مخالطة الرجال ومزاحمتهم، فإن هذا أمر واقع ولابد، إما في الطريق أو في المقبرة لضيق المكان، ولا ريب أن مخالطة النساء الرجال منكر عظيم، وكل ما كان وسيلة إليه فهو محرم، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المجموع"(5/ 277 - 278)، "المغني"(3/ 401)، "المنتقى" للباجي (2/ 18).

(2)

"بداية الصنائع"(1/ 310)، "حاشية ابن عابدين"(2/ 232).

(3)

"الفتاوى"(24/ 355)، "تهذيب مختصر السنن"(4/ 350)، وانظر:"فتاوى ابن باز"(13/ 178 - 179).

ص: 331

‌حكم القيام للجنازة

573/ 40 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال"(1310)، ومسلم (959)(77) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعًا.

وهذا لفظ مسلم، ومثله لفظ البخاري إلا أن عنده:" فلا يقعد" يدل " فلا يجلس".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب القيام عند رؤية الجنازة، لقوله:" فقوموا" وهذا أمر، والأمر للوجوب.

وقد ورد عن جابر رضي الله عنه قال: مرت جنازة فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا"

(1)

. وفي حديث أنس رضي الله عنه فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال:" إنما قمنا للملائكة"

(2)

.

وهذا القيام للجنازة مراد به تهويل أمر الموت وأنه فزع، وأنه أمر جدير

(1)

أخرجه البخاري (1311)، ومسلم (960) واللفظ له.

(2)

أخرجه النسائي (4/ 47 - 48)، وقال النووي في "الخلاصة" (2/ 701):(بإسناد صحيح على شرط مسلم). انظر: "فتح الباري"(3/ 180).

ص: 332

بأن يقام له. والقيام للفزع من الموت فيه تعظيم لله تعالى وتعظيم للقائمين بأمره وهم الملائكة، كما ورد في بعض الروايات.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من تبع جنازة وشيعها فإنه لا يجلس حتى توضع الجنازة على الأرض، وهذا قول جماعة من الصحابة؛ كابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنه، وجماعة من التابعين؛ كالنخعي، والشعبي، وابن سيرين، والأوزاعي

(1)

، وهو قول الحنفية، وهو المذهب عند الحنابلة. وقد عبروا باستحباب القيام وكراهة الجلوس

(2)

.

والقول الثاني: أن الجلوس جائز، وهو قول المالكية والشافعية، وقالوا: إن الحديث الوارد بالأمر بالقيام منسوخ، سواء في ذلك قيام مشيعها، أو قيام من مرت به، أو قيام المشيع على القبر

(3)

، وذلك بما أخرجه مسلم عن علي رضي الله عنه قال: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا؛ يعني في الجنازة

(4)

.

فقالوا: إن القعود كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون ناسخًا للأمر بالقيام، كما في حديث أبي سعيد وحديث جابر رضي الله عنه.

والأظهر والله أعلم أن الأمر بالقيام مراد به الاستحباب، وأن القعود في حديث علي رضي الله عنه محمول على بيان الجواز، وهذا اختيار ابن حزم، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وجماعة آخرين

(5)

، وهذا القول فيه جمع بين الأدلة، وهو مطلوب متى أمكن، وأما القول بالنسخ فهو قول مرجوح؛ لأن النسخ له شرطان:

الشرط الأول: عدم إمكان الجمع، وهنا قد أمكن، فيكون هو المتعين.

الشرط الثاني: معرفة التاريخ: وهو تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ، وهذا غير ممكن.

(1)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 308)، "الأوسط"(5/ 392).

(2)

"المبسوط"(2/ 77)، "المغني"(3/ 404)(2/ 262).

(3)

"الاستذكار"(8/ 199)، "المجموع"(5/ 280).

(4)

أخرجه مسلم (962).

(5)

"المحلى"(5/ 153)، "المجموع"(5/ 280)، "الاختيارات" ص (88)، "تهذيب مختصر السنن"(4/ 412 - 314).

ص: 333

وقد استثنى بعض الفقهاء من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه

(1)

، قال الترمذي:(قد روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنهم كانوا يتقدمون الجنازة فيقعدون قبل أن تنتهي إليهم الجنازة)

(2)

.

• الوجه الرابع: جاء في حديث الباب (حتى توضع)، وجاء من طريق أبي معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:" حتى توضع في اللحد" وجاء من طريق الثوري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:" حتى توضع على الأرض"

(3)

.

وقد رجح أبو داود هذه الرواية على ما قبلها؛ لأن الثوري أحفظ من أبي معاوية، وتبويب البخاري الذي تقدم في التخريج يدل على ذلك، فإنه قال:" حتى توضع عن مناكب الرجال".

ويؤيد ذلك عمل الصحابة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يجلسون إذا وضعت الجنازة على الأرض ولو لم توضع في اللحد. كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولم يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير

) الحديث

(4)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "المغني"(3/ 405).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 361).

(3)

أخرجه البيهقي (4/ 26) بإسناد صحيح.

(4)

أخرجه أبو داود (4753)، والنسائي (4/ 78)، وابن ماجه (1548)، وهو حديث صحيح. انظر:"إعلام الموقعين"(2/ 308).

ص: 334

‌كيفية إدخال الميت قبره

574/ 41 - عن أبي إسحاق، أن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه أدخل الميت من قبل رجلي القبر، وقال: هذا من السنة. أخرجه أبو داود.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عمرو بن عبد الله الهمداني أبو إسحاق السبيعي بفتح السين وكسر الباء الكوفي، من مشاهير التابعين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، قال الذهبي:(حديث أبي إسحاق محتج به في دواوين الإسلام)، وقال الحافظ في "التقريب":(ثقة، مكثر، عابد، اختلط بأخرة)، وقد وصفه بالتدليس جماعة من الأئمة المتقدمين كالنسائي، والذهبي، والعلائي وغيرهم. مات سنة مائة وتسعة وعشرين

(1)

.

وأما عبد الله بن يزيد فهو عبد الله بن يزيد بن زيد الخطمي الأنصاري من الأوس، مختلف في صحبته، قال أبو حاتم:(كان صغيرًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن صحت رؤيته فذاك) وقال الدارقطني: (له ولأبيه صحبة)، شهد بيعة الرضوان وهو صغير، وكان كثير الصلاة، سكن الكوفة، وكان أميرًا عليها في عهد ابن الزبير رضي الله عنه، ومات في ذلك العهد

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " في الميت يدخل من

(1)

"سير أعلام النبلاء"(5/ 399)، "تهذيب التهذيب"(8/ 56).

(2)

"الجرح والتعديل"(5/ 97)، "الإصابة"(6/ 244).

ص: 335

قبل رجليه" (3211) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، قال: (أوصى الحارث

(1)

أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد رضي الله عنه، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر، وقال:(هذا من السنة).

وهذا إسناد صحيح كما قال البيهقي (4/ 89)، وله حكم الرفع؛ لأن القائل:(هذا من السنة) هو عبد الله بن يزيد، وهو صحابي، كما تقدم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يستحب أن يدخل الميت في قبره سلًا من جهة رجلي القبر، والمراد به: موضع رجلي الميت منه عند وضعه فيه

(2)

، فيجعل رأس الميت في المواضع الذي تكون فيه رجلاه إذا دفن، ثم يسل سلًا رفيقًا.

• وقال بعض العلماء: يدخل من جهة القبلة، معترضًا إذ هو أيسر، واستدلوا بأن عليًا رضي الله عنه أدخل يزيد من المكفف من قبل القبلة

(3)

، وقال آخرون: يسل من قبل رأس القبر.

والذي يظهر أن الأمر فيه سعة، وقد جاء في " مسائل الإمام أحمد لأبي داود" قال:(قلت لأحمد: في الميت يسل أو يؤخذ من قبل القبلة، قال: كل لا بأس به إن شاء الله تعالى)

(4)

. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الخارفي. انظر: "تهذيب التهذيب"(2/ 126).

(2)

"عون المعبود"(9/ 30).

(3)

رواه عبد الرزاق (3/ 499)، وابن أبي شيبة (3/ 328)، وابن المنذر في "الأوسط"(5/ 453)، وانظر:"المحلى"(5/ 178).

(4)

المسائل ص (158).

ص: 336

‌ما يقال عند إدخال الميت قبره

575/ 42 - عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، وأعله الدارقطني بالوقق.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (8/ 430)، وأبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " الدعاء للميت إذا وضع في قبره"(2313)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة"(1088)، وابن حبان (7/ 376) من طريق همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر رضي الله عنه، مرفوعًا، وهذا لفظ أحمد، ولفظ أبي داود وابن حبان:" وعلى سنة رسول الله"، لكن أبا داود ما ساق الحديث على أنه قول، وإنما على أنه فعل، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال:

) الحديث.

وقد أعله الدارقطني بالوقف، وقال:(إنه هو المحفوظ) وتبعه على ذلك البيهقي فقال: (الحديث يتفرد برفعه همام بن يحيى بهذا الإسناد، وهو ثقة إلا أن شعبة وهشام الدستوائي روياه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

.

وقد أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة"(1089) من طريق شعبة،

(1)

"العلل"(12/ 409 - 410)، "السنن الكبرى"(4/ 55).

ص: 337

عن قتادة، به موقوفًا. ووجه ترجيح الوقف أن شعبة وهشامًا أوثق في الرواية عن قتادة من همام بن يحيى.

ويرى آخرون أن القول برفعه قوي، كما هو رأي ابن حبان وجماعة، لأمرين:

الأمر الأول: أنه قد رواه ابن أبي شيبة

(1)

من طريق هشام الدستوائي، وأخرجه ابن حبان

(2)

من طريق شعبة كلاهما، عن قتادة، به مرفوعًا، فشعبة وهشام روياه تارة مرفوعًا وتارة موقوفًا، لكن ينبغي النظر في الرواية الراجحة عنهما، فلا يعنى ذلك الاستدلال برفعه.

الأمر الثاني: أن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع.

• الوجه الثاني: أن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب الدعاء المذكور عند وضع الميت في القبر، وهو أن يقول عند مواراة الميت:(بسم الله وعلى ملة رسول الله) أو (وعلى سنة رسول الله) أي: شريعته وطريقته. والملة: اسم لما شرعه الله تعالى على لسان أنبيائه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المصنَّف"(3/ 329).

(2)

"الإحسان"(7/ 375).

ص: 338

‌تحريم كسر عظم الميت

576/ 43 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كسر عظم الميت ككسره حيًا". رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم.

577/ 44 - وزاد ابن ماجه من حديث أم سلمة: " في الإثم".

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب "الحفار يجد العظيم هل يتنكب ذلك المكان؟ "(3207) من طريق عبد العزيز بن محمد، عن سعد يعني ابن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا.

وفي إسناده سعد بن سعيد الأنصاري أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو وإن كان من رجال مسلم إلا أنه سيئ الحفظ، وقد ضعفه الإمام أحمد، وابن معين في رواية، وفي رواية أخرى قال:(صالح). وقال النسائي: (ليس بالقوي). وقال الترمذي: (تكلموا فيه من قبل حفظه)

(1)

. وقد حكى النووي توثيقه عن الأكثرين وقال: (روى له مسلم في صحيحه، وهو كاف في الاحتجاج به، ولم يضعفه أبو داود)

(2)

. ثم إنه لم يتفرد به، فقد تابعه أخوه يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن به، أخرجه ابن حبان (7/ 437) وإسناده صحيح، لكن وقع في إسناد هذا الحديث اختلاف كثير، بسطه الدارقطني

(3)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 408).

(2)

"المجموع"(5/ 267).

(3)

"العلل"(14/ 408).

ص: 339

وأما الحديث الثاني، فقد أخرجه ابن ماجه (1617) من طريق عبد الله بن زياد، أخبرني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أمه، عن أم سلمة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم".

وهذا إنساد ضعيف، عبد الله بن زياد قال عنه البوصيري:(مجهول، ولعله عبد الله بن زياد بن سمعان المدني أحد المتروكين)

(1)

. والمحفوظ في هذا هو رواية يحيى بن سعيد، عند ابن حبان، كما تقدم.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم كسر عظم الميت؛ لأنه شبهه بعظم الحي في الحرمة والاحترام وعدم التعرض له؛ لأنه معصوم في حياته وبعد مماته ولو كان لا حياة فيه.

وقوله: (في الإثم) إشارة إلى أن كسر عظم الميت لا يوجب القصاص أو الدية، ولكنه يوجب الإثم، ويستحق صاحبه التعزيز إذا فعل ذلك عند عمد.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه لا يجوز تشريح الميت المسلم للأغراض العلمية، لما في ذلك من امتهان كرامته. وإذا كان المقصود يتم بتشريح جثة الميت غير المعصوم كالمرتد والحربي تعين ذلك.

أما التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة التي أدت إلى القتل، فهذا يجوز؛ لأن المصلحة المقصودة مقدمة على المفسدة الناتجة عن التشريح.

وكذا يجوز التشريح للتحقق من أمراض وبائية فتاكة لوقاية المجتمع منها واتخاذ الدواء المناسب له، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الزوائد"(1/ 539).

ص: 340

‌صفة القبر والدفن

.

578/ 45 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا على اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.

579/ 46 - وللبيهقي عن جابر نحوه، وزاد: ورفع قبره عن الأرض قدر شبر. وصححه ابن حبان.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب "في اللحد ونصب اللبن على الميت"(966) من طرق عن عبد الله بن جعفر المسوري، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: (الحدوا لي لحدًا، وانصبوا علي اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه ابن حبان (14/ 602) والبيهقي (3/ 410)، من طريق الفضيل بن سليمان، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد له ونصب عليه اللبن نصبًا، ورفع قبره من الأرض نحوًا من شبر.

وإسناده صحيح على شرط مسلم، لكنه روي مرسلًا من طريق عبد العزيز، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبره الماء، ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة

(1)

، ورفع قبره قدر شبر. أخرجه البيهقي.

(1)

العرصة: كل بقعة ليس فيها بناء.

ص: 341

الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما

قوله: (الحدوا لي لحدًا) يجوز أن تكون الهمزة همزة وصل، وتفتح الحاء من لحد الثلاثي يقال: لحد يلحد كذهب يذهب، ويجوز أن تكون همزة قطع مفتوحة وتكسر الحاء من ألحد الرباعي: إذا حفر اللحد. واللحد: هو الشق الذي يعمل في جانب القبر من جهة القبلة لوضع الميت، سمي بذلك لأنه أميل عن وسط القبر إلى جانبه.

قوله: (وانصبوا علي اللبن) بفتح اللام وكسر الباء جمع لبنة: وهو المضروب من الطين يبنى به دون أن يطبخ.

قوله: (قدر شبر) بكسر الشين وسكون الباء، ما بين طرفي الإصبع الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأفضل في القبر أن يكون ملحدًا، وذلك بأن يحفر للميت حفرة في قرار القبر في جانبه مما يلي القبلة؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان هكذا، وهو الذي اختاره الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على يد أصحابه رضي الله عنهم، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللحد لنا والشق لغيرنا"

(1)

.

قال النووي: (أجمع العلماء على أن الدفن في اللحد والشق جائزان، لكن إذا كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل لما سبق من الأدلة، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل)

(2)

. والشق: أن يحفر حفرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت.

• الوجه الرابع: في كيفية دفن الميت، وذلك بأن يدخل من رجلي القبر كما تقدم، ويقول عند إدخاله ما تقدم أيضًا، ثم يوضع على جنبه

(1)

أخرجه أبو داود (3208)، والترمذي (1045)، والنسائي (4/ 80)، وابن ماجه (1554)، وإسناده ضعيف؛ لأنه من رواية علي بن عبد الأعلى بن عامر التغلبي، عن أبيه، وهو متكلم فيه، وأبوه ضعيف.

(2)

"شرح المهذب"(5/ 287).

ص: 342

الأيمن؛ لأنه يشبه النائم، وهذه سنته، ويكون موجهًا إلى القبلة، ثم ينصب عليه اللبن نصبًا؛ لئلا يسقط في اللحد، ويتعاهد خلال اللبن بالطين؛ لئلا ينهال التراب على الميت، ثم يهال عليه التراب، إسراعًا بتكميل الدفن.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على انه ينبغي أن يرفع القبر عن الأرض قليلًا بنحو شبر؛ ليعرف أنه قبر، فيحترم ولا يهان بوطء أو غيره، أما الزيادة على ذلك فهي لا تجوز. ولا يزاد على تراب القبر الذي خرج منه؛ لأن الزيادة عليه بمنزلة البناء، والبناء محرم، كما سيأتي إن شاء الله.

• الوجه السادس: أجاز العلماء رش تراب القبر بالماء ووضع الحصباء أو الخرسانة على ظهره، كما في المرسل المتقدم؛ لأن ذلك أثبت للقبر وأبعد لدروسه، وأمنع لترابه من أن تذهب به السيول والرياح، ولا بأس أن يعلم القبر بحجر ونحوه مما لا محذور فيه، لمعرفته عند الزيارة أو لدفن قريبه بجانبه، لفعله صلى الله عليه وسلم في قبر عثمان بن مظعون عندما وضع حجرًا عند رأسه وقال:" أتعلم بها قبر أخي، أدفن إليه من مات من أهلي"

(1)

.

وظاهره أنه يكتفى بحجر واحد عند رأسه تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي السنة كما قال النووي

(2)

، وإن عرف القبر بدون وضع حجر كفى، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه أبو داود (3206) ومن طريقه البيهقي (3/ 412) بسند حسن، كما قال الحافظ في "التلخيص"(2/ 141).

(2)

"المجموع"(5/ 298).

ص: 343

‌النهي عن تجصيص القبر والبناء والقعود عليه

580/ 47 - ولمسلم عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه"(970) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع جابرًا رضي الله عنه يقول:

فذكره.

ورواه أيضًا من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.

والحديث أخرجه أبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (4/ 86) من طريق ابن جريج، عن سليمان بن موسى وأبي الزبير، عن جابر، بزيادة:" وأن يكتب عليها". إلا أن الترمذي لم يذكر سليمان بن موسى، وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، وقد صرح أبو داود والنسائي بأن الكتابة من زيادة سليمان بن موسى، وروايته عن جابر مرسلة

(1)

.

وفيه عنعنة أبي الزبير، وقد تكلم العلماء في تدليسه، لكنه صرح بالسماع عند مسلم، فانتفت شبهة تدليسه مع أنه قليل التدليس، بل منهم من نفاه عنه، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، حافظ مكثر، وثقة متقن، وهو من أحفظ أصحاب جابر رضي الله عنه وأكثر من روى عنه.

(1)

"تهذيب الكمال"(12/ 93).

ص: 344

وأخرجه الحاكم (1/ 370) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم؛ عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتاب فيها والبناء عليها والجلوس عليها.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم تجصيص القبور، وهو وضع الجص عليها. والجص بكسر الجيم: مادة بيضاء تزخرف بها المباني، وإنما كان النهي للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل ولا صارف له، ومن قال: للتنزيه، فلا وجه له.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم القعود على القبر؛ لما في ذلك من الاحتقار والامتهان وعدم المبالاة.

وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر"

(1)

. وهذا يدل على أن الجلوس على القبر من كبائر الذنوب لثبوت هذا الوعيد فيه.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم البناء على القبور لما في البناء عليها من المفاسد العظيمة، ومنها:

1 -

أن البناء على القبور من أعظم الوسائل إلى عبادتها؛ لأن البناء يعني تعظيم صاحب القبر والغلو فيه، وهذا من أسباب الشرك والإلحاد.

2 -

أن البناء على القبور فيه تشبه بعباد الأصنام وعباد القبور من الروافض والصوفية الذين يضعون القباب على قبور الأولياء والصالحين.

3 -

أن هـ ذا الفعل فيه مخالفة صريحة لما بعث الله به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام من نشر التوحيد ومحاربة الشرك ووسائل الشرك.

وقد ورد في حديث أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن

(1)

أخرجه مسلم (971).

ص: 345

أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته)

(1)

.

4 -

أن البناء على القبور فيه إسراف وتضييع للمال في غير فائدة، وهذا أمر محرم شرعًا.

5 -

أن في البناء تضييقًا في المقابر وتغييرًا لها عن هيئتها.

• الوجه الخامس: ورد في بعض الروايات، كما تقدم النهي عن الكتابة على القبر، وهذه الزيادة غير محفوظة، كما تقدم، والقول بتحريم الكتابة على القبر وجيه جدًا من باب سد الذرائع، فإن المكتوب إن كان اسمًا لصاحب القبر وكان محبوبًا فقد يكون ذلك من أسباب الغلو فيه، وإن كان مكروهًا فقد يذم ويمتهن، فلا وجه لكتابة الأسماء على القبور وإن كان المقصود معرفة القبر أمكن ذلك بوضع حجر عند رأسه كما تقدم أو الاستدلال عليه بعلامة.

ولا فرق في النهي عن الكتابة على القبر وبين الكتابة على الحجر الذي يوضع عند رأس الميت، أو الكتابة في لوحة، أو إيجاد صبة إسمنتية ثم الكتابة عليها، كل ذلك لا يجوز لما فيها من المفاسد العظيمة، وكذا لا يجوز كتابة شيء من الآيات لما في ذلك من امتهان القرآن واستعماله في غير ما أنزل له.

ويرى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أنه لا ينبغي كتابة دعاء دخول المقبرة عند بوابة المقبرة؛ لأنه لا أصل له، ولأنه يخشى أن يكون ذلك وسيلة إلى الكتابة على القبور

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (969).

(2)

"الفتاوى"(13/ 244).

ص: 346

‌حكم الحثو في القبر

581/ 48 - عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثيات، وهو قائم. رواه الدارقطني.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (2/ 76) من طريق القاسم بن عبد الله العمري، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال:(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعًا، وحتى على قبره بيده ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه).

وهذا إسناد ضعيف جدًا، لأمرين:

1 -

القاسم العمري؛ فقد قال عند أحمد: (أف، أف، ليس بشيء)، ومرة قال:(هو عندي كذاب). وقال أبو زرعة وأو حاتم والنسائي: (متروك)

(1)

.

2 -

عاصم بن عبيد الله؛ قال عنه أحمد: (ليس بذاك). وقال ابن معين: (ضعيف). وقال البخاري وأبو حاتم: (منكر الحديث)

(2)

.

ولعل الحافظ ذكره ليعلم حاله. ويغني عنه ما أخرجه ابن ماجه من طريق سلمة بن كلثوم، ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة،

(1)

"تهذيب التهذيب"(8/ 287).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 42).

ص: 347

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا

(1)

.

وهذا الحديث حسنه ابن القطان

(2)

، وصححه النووي

(3)

، والبوصيري

(4)

. وقال الحافظ: (إسناده ظاهره الصحة)

(5)

.

وصححه الألباني

(6)

، وقال في " أحكام الجنائز":(الحديث قوي بما له من الشواهد)

(7)

. وسئل عنه أبو حاتم فقال: (هذا حديث باطل)

(8)

.

ولعل وجه بطلانه أمران:

الأمر الأول: أن الأوزاعي إمام، فكيف يتفرد بالرواية عنه سلمة بن كلثوم الشامي، وأين بقية الرواة عن الأوزاعي عن هذا الحديث؟!

وقال الدارقطني: (رواه سلمة بن كلثوم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد فيه ألفاظًا لم يأت بها غيره، وهو قوله: (إنه أتى القبر فحثى عليه ثلاثًا، وكبر على الجنازة أربعًا)، ووافقه محمد بن كثير عن الأوزاعي على الإسناد، ولم يذكر هذه الألفاظ)

(9)

.

وقد نقل الحافظ عن الدارقطني أنه قال عن سلمة: (شامي يهم كثيرًا)

(10)

.

الأمر الثاني: عنعنة الأوزاعي، وعنعنة شيخه يحيى بن أبي كثير، وهذا ذكره الحافظ في "التلخيص"

(11)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عثمان بن مظعون) هو أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي

(1)

"سنن ابن ماجه"(1565).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 37).

(3)

"الخلاصة"(2/ 1019).

(4)

"الزوائد"(1/ 511).

(5)

"التلخيص"(2/ 139).

(6)

"الإرواء"(751).

(7)

"أحكام الجنائز" ص (153).

(8)

"العلل"(483).

(9)

"العلل"(9/ 322).

(10)

"تهذيب التهذيب"(4/ 136).

(11)

(2/ 192).

ص: 348

القرشي، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، وكان قد حرم الخمر في الجاهلية، وهو أول من مات من المهاجرين في المدينة، وكان عابدًا مجتهدًا، مات بعد ثلاثين شهرًا أو اثنين وعشرين شهرًا من الهجرة رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (وحثا على قبره) حثا الرجل التراب يحثوه حثوًا، ويحثيه حثيًا من باب "رمى": إذا هاله بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده ثم رماه

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الحثو في القبر ثلاث حثيات من تراب القبر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة في أجر دفن الميت، وفي ذلك أقوى عبرة وأعظم تذكر للموت ومآل الإنسان لمن كان له قلب، وقد قال أكثر الفقهاء باستحباب الحثو من تراب القبر بعد سد اللحد، استنادًا لما ورد في هذا الباب من الأحاديث، ورأوا أن بعضها يقوي بعضًا، مع ما ورد من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم

(3)

، لكن من الملاحظ أن الناس يزدحمون على القبر من أجل الحثو مع ما فيه ويتركون أشياء من السنة الثابتة، ومن أهمها: الوقوف على القبر للدعاء للميت بالثبات، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الاستيعاب"(7/ 60)، "الإصابة"(6/ 395).

(2)

"المصباح المنير" ص (121).

(3)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 331).

ص: 349

‌استحباب الدعاء للميت بعد الفراغ من دفنه

582/ 49 - عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من فدن الميت وقف عليه وقال: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل". رواه أبو داود، وصححه الحاكم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " الاستغفار عند القبر للميت"(3221)، والحاكم (1/ 370) من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن بحير، عن هانئ مولى عثمان، عن عثمان رضي الله عنه، به.

وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الإسناد، ولم يخرجاه).

وسكت عنه الذهبي. وقال النووي: (إسناده جيد)

(1)

. وقال: (رواه أبو داود بإسناد حسن)

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب الوقوف على القبر بعد إكمال دفن الميت والدعاء له بالمغفرة والثبات عند السؤال؛ فيقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبته، ونحو ذلك، وينبغي أن يؤمر الحاضرون بذلك، والميت في تلك الحال أحوج إلى الدعاء منه قبل الدفن؛ لأنه معرض للسؤال والفتنة

(3)

، وليس لهذا الدعاء مدة معينة، أما ما ورد في " صحيح مسلم" عن

(1)

"المجموع"(5/ 292).

(2)

"الخلاصة"(2/ 1028 - 1029)، "الأذكار"(147).

(3)

انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 202).

ص: 350

عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (

إذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر الجزور ويقسم لحمها

)

(1)

، فهذا كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز قاله باجتهاده رضي الله عنه ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحديد مدة في ذلك، والتقدير بابه التوقيف.

وقد دل على مشروعية الوقوف على القبر القرآن، كما في قوله تعالى:{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يصلى عليه ويقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد لم يخصوا بالنهي، ولم يعلل ذلك بكفرهم، ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة

)

(2)

.

وقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين عن رفع اليدين حال القيام على القبر بعد الدفن، فأجاب بأنها: لا ترفع؛ لعدم وروده

(3)

، وقد ورد في "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبور أهل البقيع رفع يديه ودعها لأهلها

(4)

، فإن أخذ هذا الحديث على عمومه

(5)

وإلا فالأمر كما قال الشيخ عبد الله أبا بطين.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على إثبات سؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، والصحيح أن السؤال عام للمؤمن والكافر، لقوله تعالى:{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 27] وقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا

} "

(6)

.

(1)

"صحيح مسلم"(121).

(2)

"الفتاوى"(1/ 165)، (27/ 330).

(3)

"الدرر السنية"(3/ 249).

(4)

"صحيح مسلم"(974)(103).

(5)

انظر: "فتاوى ابن باز"(13/ 337).

(6)

أخرجه البخاري (4699)، ومسلم (2871).

ص: 351

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه

" الحديث

(1)

. والقول بأن السؤال عام هو اختيار جمع من المحققين؛ كالقرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وآخرين

(2)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الميت ينتفع بالدعاء والاستغفار له، ولو كان لا ينتفع بذلك لما كان في الأمر بالدعاء والاستغفار له معنى، وقد نقل النووي إجماع أهل العلم على أن الدعاء للأموات بنفعهم ويصلهم ثوابه

(3)

، وكذا نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية، ووصف من خالف ذلك بأنه من أهل البدع

(4)

، واستدلوا بقوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10]، وقوله: تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. وحديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث

أو ولد صالح يدعو له"

(5)

.

والناس اليوم أو أكثرهم في غفلة عن ذلك، فتراهم يهتمون بتعزية قريب الميت ويتزاحمون على ذلك، ثم ينصرفون دون أن يقفوا على القبر، والميت في هذه اللحظات أحوج ما يكون للدعاء كما تقدم فصار ترك السنة سببًا لاندراسها ونسيانها إلا من القليل.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على إثبات الأخوة الإسلامية بين المسلمين القائمة على رابطة الدين والعقيدة، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة

} [الحجرات: 10]، ومن ثمار هذه الأخوة الحث على الدعاء للميت حتى يخلصوا له الدعاء والاستغفار، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (1338)، ومسلم (2870).

(2)

"التذكرة" للقرطبي ص (62).

(3)

"الأذكار" ص (150).

(4)

"الفتاوى"(7/ 499)(24/ 306).

(5)

أخرجه مسلم (1631)، وسيأتي شرحه في باب "الوقف" -إن شاء الله-.

ص: 352

‌حكم تلقين الميت بعد دفنه

583/ 50 - عن ضمرة بن حبيب أحد التابعين قال: كانوا يستحبون إذا سوى على الميت قبره، وانصرف الناس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، ثلاث مرات، يا فلان! قل: ربي الله، وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم. رواه سعيد بن منصور موقوفًا.

584/ 51 - وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعًا مطولًا.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو ضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي الحمصي، قال عثمان الدارمي، عن ابن معين:(ثقة). وقال أبو حاتم: (لا بأس به). وكان مؤذن المسجد الجامع بدمشق، مات سنة (130 هـ)

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما أثر ضمرة بن حبيب فقد عزاه الحافظ إلى " سنن سعيد بن منصور"، ولم أقف على إسناده، وهو كلام تابعي، فيكون من قبيل المقطوع الذي لا يحتج به، وما ذكره فهو من صنيع أهل الشام، فلا يعل عليه، وقول الحافظ:(موقوفًا) مخالف للمشهور من أن الموقوف ما أسند إلى الصحابي، وأما ما أضيف إلى التابعي فهو مقطوع، إلا إذا قيد فإنه يطلق على التابعي فيقال: هذا حديث وقفه فلان على الزهري أو على عطاء، ونحو ذلك.

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 402).

ص: 353

أما حديث أبي أمامة رضي الله عنه، فقد أخرجه الطبراني في " الدعاء"(1214) و "المعجم الكبير"(7979) من طريق إسماعيل بن عياش، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النزع قال: (إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان ابن فلان، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلان، فإنه يستوي قاعدًا، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يستوي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشد رحمك الله. ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا، فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق، ما نقعد عند من قد لقن حجته، فيكون الله عز وجل حجيجه دونهما".

فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أمه؟ قال: " ينسبه إلى حواء عليها السلام يا فلان ابن حواء".

وهذا الحديث إسناده ضعيف

(1)

، وقال ابن الصلاح:(ليس إسناده بالقائم)، وقال ابن القيم:(هذا الحديث متفق على ضعفه)

(2)

.

إسماعيل بن عياش: ضعيف في روايته عن غير أهل بلده، والظاهر أن عبد الله القرشي حجازي وليس شاميًا، وقد تفرد به عن يحيى بن أبي كثير، ويحيى له أصحاب أئمة، وهذا مظنة النكارة، ثم هو ليس بالمشهور في الرواية، وقد سمي بهذا الاسم كثير من الرواة، وقول الهيثمي:(في إسناده جماعة لم أعرفهم)

(3)

يدل على ذلك.

(1)

"المجموع"(5/ 304).

(2)

"تهذيب مختصر السنن"(7/ 250).

(3)

"مجمع الزوائد"(3/ 45).

ص: 354

ويحيى بن أبي كثير: معروف بالإكثار من التدليس على ثقته، كما قال ذلك الحافظ

(1)

، والعلائي

(2)

، وقد ورى الحديث بالعنعنة.

وسعد بن عبد الله الأودي في حكم المجهول؛ لأن ابن أبي حاتم ذكره في " الجرح والتعديل" وقال: (سعيد الأزدي)، فلم ينسبه لأبيه، فضلًا عن جده، وذكر روايته عن أبي أمامة، وبيض له

(3)

.

فالحديث ضعيف، وفي متنه نكارة من وجوه عديدة، ولهذا قال العز بن عبد السلام:(لم يصح في التلقين شيء، وهو بدعة)

(4)

، وقال الصنعاني:(ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف، والعمل به بدعة، ولا يغتر بكثرة من يفعله)

(5)

.

وقد ذكره الشوكاني ضمن كتابه: " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"

(6)

.

وأما قول الحافظ في " التلخيص": (إسناده صالح

وله شواهد)

(7)

، فإنه يعارضه قوله في "نتائج الأفكار":(حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جدًا)

(8)

. ولا ريب أن هذا هو المعول عليه لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا هو الموافق لقواعد النقد وأصول الجرح والتعديل وكلام الأئمة، كما تقدم.

الأمر الثاني: أن كلامه في " النتائج" متأخر، فإنه فرغ من " التلخيص" سنة (820 هـ) بينما استمر في " أمالي الأفكار" إلى سنة (852)، وأما قوله: إن الحديث له شواهد، ففيه تسامح واضح، فإن الأحاديث التي ذكرها ليست

(1)

"النكت على ابن الصلاح"(2/ 641).

(2)

"جامع التحصيل"(128).

(3)

(4/ 76).

(4)

"الفتاوى" للعز بن عبد السلام ص (95، 96).

(5)

"سبل السلام"(2/ 218).

(6)

ص (268).

(7)

(2/ 143).

(8)

"الفتوحات الربانية"(4/ 196).

ص: 355

من باب التلقين، وإنما هي من باب الدعاء، إلا ما ورد عن ضمرة بن حبيب، وتقدم أنه مقطوع لا يحتج به.

• الوجه الثالث: استدل بالحديث بعض الفقهاء على استحباب تلقين الميت بعد دفنه؛ لأنه وإن كان ضعيفًا فإنه يؤخذ في فضائل الأعمال.

وذهب جمع من المحققين إلى أن التلقين لا يجوز بل هو من البدع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا فعله خلفاؤه من بعده؛ فإنه لو كان ثابتًا لسارع الصحابة رضي الله عنهم إلى العمل به، لأن الموت واقعة حاصلة كل يوم في الغالب، والهمم والدواعي تتوفر على نقل مثل ذلك لو حصل، فالحاصل أنه من البدع التي يجب نبذها وإنكارها، ومما يدل على بطلانه:

أولًا: أنه مخالف للنصوص الشرعية الدالة على أن الأموات لا يسمعون، إلا ما ورد في الحديث المتقدم أنهم يسمعون قرع النعال إذا تولى الناس عنهم.

ثانيًا: أن الميت قد انقطع عمله وختم عليه، فلا يمكنه استدراك التثبت بعد الموت، وإنما المعول على ما قدمه في حياته مما يكون سببًا في ثباته.

ثالثًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا الدعاء للميت بعد وضعه في قبره، ولو كان التلقين مشروعًا لعلمه الأمة، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 356

‌استحباب زيارة القبور للرجال

585/ 52 - عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". رواه مسلم.

زاد الترمذي: " فإنها تذكر الآخرة".

586/ 53 - زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود: " وتزهد في الدنيا"؟

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما"

أما حديث بريدة رضي الله عنه فقد أخرجه مسم في كتاب " الجنائز"، باب "استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل زيارة قبر أمه"(977) من طريق محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث وتمامه: "ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا".

وأخرجه الترمذي (1054) من طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة". وقال الترمذي: (حديث بريدة حديث حسن صحيح).

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه ابن ماجه (5171) من طريق ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا بلفظ:" فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر بالآخرة".

ص: 357

وهذا الحديث رجاله ثقات، إلا أيوب بن هانئ فهو متكلم فيه، قال الحافظ في "التقريب":(صدوق فيه لين).

وفيه تدليس ابن جريج، فإنه لم يصرح بالتحديث.

وقد أخرجه مسلم في " صحيحه"(976)(108) من طريق يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال:"استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزورا القبور فإنها تذكر الموت".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه قد نهى في أول الإسلام عن زيارة القبور، وهذا والله أعلم خشية أن تكون زيارتها سببًا في التعلق بالأموات والأضرحة، فيؤدي ذلك إلى عبادتها كما وقع في الجاهلية، فلما رسخت العقيدة في القلوب وفقه الناس دينهم وعرفوا معنى الزيارة الشرعية والغرض منها نسخ النهي، وهذا من باب نسخ السنة بالسنة، وفي هذا النص اجتمع الناسخ والمنسوخ معًا.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب زيارة القبور. وقد نقل النووي وغيره الإجماع على استحبابها في حق الرجال دون النساء، كما سيأتي إن شاء الله.

وقد قرن الأمر بزيارة القبور ببيان الحكمة من ذلك وما فيه من الفوائد الكثيرة والمصالح العظيمة، ولا ريب أن الحكم إذا قرن بالعلة زاد المسلم طمأنينة، وعرف بذلك سمو الشريعة وموافقتها للحكمة، إضافة إلى أن النفس العاملة تزداد نشاطًا وإقبالًا على الطاعة. ومن هذه المصالح:

1 -

أنها تذكر الآخرة، فيعلم الإنسان أنه مرتحل لا محالة عن دار الدنيا؛ وأنه سائر إلى الآخرة، والقبر أول منازل الآخرة.

2 -

أنها تذكر الموت؛ فإن الإنسان إذا رأى الموتى وقد صاروا تحت أطباق الثرى علم أن الموت نهاية كل حي.

ص: 358

3 -

أنها تزهد في الدنيا؛ لأن الإنسان إذا رأى الموتى وما صاروا إليه بعد جمع الدنيا وحطامها قلت رغبته في الدنيا، فلم يحرص عليها أو ينهمك في الانقطاع إليها؛ لأنه رأى أنها إلى زوال.

• الوجه الرابع: هذه الزيارة المأمور بها هي الزيارة الشرعية التي قصد بها الشارع أمرين:

الأمر الأول: يرجع إلى الزائر، وهو ما نص عليه الحديث من تذكر الآخرة وتذكر الموت والزهد في الدنيا.

الأمر الثاني: يرجع إلى الميت، وهو السلام عليه والدعاء له، كما سيأتي إن شاء الله.

وشرط هذه الزيارة ألا يلزم منها شد رحل، فإن لزم لم يجز ذلك؛ لقول صلى الله عليه وسلم:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"

(1)

.

ولأن الزيارة الشرعية لا تحتاج إلى شد رحل؛ وإنما يفعل ذلك ضعاف الإيمان أو أهل التوسل الذين يقصدون قبورًا معينة.

أما النوع الثاني: فهي الزيارة البدعية، وهي زيارتها لأجل الصلاة عندها والطواف بها وتقبيلها واستلامها ودعاء أهلها والاستعانة بهم في تفريج الكربات وقضاء الحاجات، وغير ذلك مما هو بدعة أو شرك على حسب الفعل والقصد، وهذا من جنس ما يفعله عباد الأوثان، نسأل الله العافية.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (1197)، ومسلم (415)(827)، وسيأتي شرحه في آخر باب "الاعتكاف" -إن شاء الله تعالى- حيث ذكره الحافظ هناك، وأعاده في "الأيمان والنذور".

ص: 359

‌تحريم زيارة القبور للنساء

587/ 54 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور. أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الجنائز"، باب " ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء"(1056)، وابن حبان (7/ 452) من طريق قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. هذا لفظ الترمذي.

وقال: (حديث حسن صحيح). ولفظ ابن حبان: " لعن الله زائرات القبور"، وهو لفظ البلوغ.

وهذا الحديث سنده حسن، فيه عمر بن أبي سلمة، وهو مختلف فيه كما تقدم في غير موضع وحديثه لا يرقى إلى درجة الصحة، بل هو من قبيل الحسن، لا سيما أن هذا الحديث له شواهد؛ كحديث ابن عباس عند أبي داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (4/ 95)، وابن ماجه (1575)، وأحمد (1/ 229) كلهم من طريق محمد بن جحادة قال: سمعت أبا صالح يحدث عن ابن عباس قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".

وهذا الحديث على شهرته فهو بهذا التمام ضعيف جدًا؛ لأن فيه أبا صالح وهو مولى أم هانئ، واسمه باذام، ضعفه جمهور النقاد، قال الإمام مسلم: (هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه،

ص: 360

ولا يثبت له سماع من ابن عباس)

(1)

.

ومن شواهد حديث الباب حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه أخرجه ابن ماجه (1574)، والحاكم (1/ 374)، والبيهقي (4/ 78) من طريق عبد الله بن خثيم، عن عبد الرحمن بن بهمان، عن عبد الرحمن بن حسان، عن أبيه قال:" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور".

قال البوصيري: (إسناده صحيح، ورجاله ثقات)

(2)

. لكن فيه عبد الرحمن بن بهمان، قال ابن المديني (لا نعرفه)

(3)

، وذكر ابن حبان في "الثقات" ووثقه العجلي

(4)

. وقال الحافظ في " التقريب"(مقبول).

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعن رسول الله) اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى:(لعن رسول الله) أي: دعا عليهم باللعنة.

قوله: (زائرات القبور) جمع زائرة، والزيارة هنا: الخروج إلى المقابر.

والرواية الثانية: " زوارات" بضم الزاي أو فتحها مع تشديد الواون. أما الضم فهو جمع زوار، جمع زائرة سماعًا وزائر قياسًا، مثل: كاتب وكتاب

(5)

، وأما بالفتح فهي إما صيغة مبالغة، لكن لا يراد بها المبالغة، وهو الإكثار من الزيارة؛ لأن الرواية الأخرى تحدد المراد، فإننا لو حملناها على المبالغة ما كان للرواية الثانية فائدة في حين أنها أفادت أن المحذور يحصل بزيارة واحدة، ففيها زيادة علم.

وقد يحمل التضعيف على كثرة الفاعلين وتعددهم، لا على كثرة الفعل، كما في قوله تعالى:{جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} [ص: 50]، والأبواب لا تفتح إلا مرة واحدة

(6)

، أو تكون بالفتح صيغة نسب، أي: ذوات زيارة

(1)

"فتح الباري" لابن رجب (3/ 201)، وانظر:"فتاوى ابن تيمية"(24/ 350).

(2)

"الزوائد"(1/ 516).

(3)

"تهذيب التهذيب"(6/ 135).

(4)

"الثقات"(7/ 68)، "تاريخ الثقات" ص (289).

(5)

"شرح المنهاج" للمحلي (1/ 351)، وذكره السيوطي ونقله عنه السندي في "شرحه لابن ماجه"(1/ 478).

(6)

"الفتاوى"(24/ 354).

ص: 361

القبور، والمقصود أن رواية:" زائرات"نص صريح في أن زوارات ليست للمبالغة، لأنها تدل على أن النهي يحصل بزيارة واحدة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم زيارة القبور للنساء وأن ذلك من كبائر الذنوب لثبوت اللعن على ذلك، ولا فرق في ذلك بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من القبور؛ لعموم الأدلة، وهذا قول المحققين من أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب بعض المالكية والشافعية والحنفية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والنووي والشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعة

(1)

.

وذهب أكثر الحنفية والمالكية إلى أن زيارة القبور للنساء مباحة بلا كراهة، وهو رواية عن الإمام أحمد

(2)

. واستدلوا بحديث بريدة المتقدم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، قالوا: فهذا خطاب عام فيتناول النساء، ولأنه علل زيارتها بأمر يشترك فيه الرجال والنساء وهو تذكر الآخرة.

وبما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وساق الحديث، وفي آخره: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المتقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"

(3)

.

كما استدلوا بحديث أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: " اتق الله واصبري

"

(4)

.

وذهب فريق من أهل العلم إلى أن زيارة القبور للنساء مكروهة من غير تحريم، وهذا هو منصوص الإمام أحمد، وبه قال أكثر الشافعية، وبعض

(1)

"المغني"(3/ 523)، "المجموع"(5/ 309)، "الفتاوى"(24/ 344)، "تهذيب مختصر السنن"(4/ 342، 347 - 350).

(2)

"بدائع الصنائع"(1/ 320)، "المغني"(3/ 523).

(3)

"صحيح مسلم"(974)(103).

(4)

أخرجه البخاري (1283)، ومسلم (926).

ص: 362

الحنفية، وبعض المالكية

(1)

. واستدلوا بحديث أم عطية رضي الله عنها المتقدم: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) والزيارة من جنس الاتباع، فيكون كل منهما مكروهًا غير محرم.

والراجح القول بالتحريم لما يلي:

أولًا: أن أحاديث النهي صريحة في المراد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النساء على الزيارة، وهذا من أوضح الأدلة على التحريم؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة.

ثانيًا: أن سد الذرائع ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا كان المقصود من الزيارة تذكر الآخرة والدعاء للميت، وهذا أمر مظنون من المرأة، ومن المؤكد حصول الجزع وقلة الصبر، وقد تشق الجيب وتلطم الخد وما أشبه ذلك، والدعاء يحصل في البيت كما يقول ابن تيمية

(2)

وتذكر الآخرة يحصل بأمور أخرى؛ كالوعظ وذكر الموت ونحو ذلك، فما يحصل لهن بالزيارة من المفاسد أعظم مما يحصل من مصلحة يسيرة، والشريعة تحرم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته.

ثالثًا: أن الأحاديث التي يستدل بها يجيز الزيارة ليست صريحة في دلالتها كصراحة أحاديث النهي، وبيان ذلك فيما يلي:

أما حديث: " فزوروها" وأنه عام يشمل الرجال والنساء، فعنه جوابان:

الجواب الأول: سلمنا أنه عام، لكنه دخله التخصيص بمثل حديث ابن عباس رضي الله عنه فتخرج النساء من هذا الإذن، وأحاديث التحريم من أظهر القرائن على ذلك.

الجواب الثاني: أن الظاهر عدم دخول النساء لأمرين:

(1)

"الكافي" لابن عبد البر (1/ 283)، "رد المحتار"(2/ 242)، "المجموع"(5/ 310)، "المغني"(5/ 523)، "فتح الباري"(3/ 148).

(2)

"الفتاوى"(24/ 356).

ص: 363

الأمر الأول: أن قوله: " فزوروها" صيغة تذكير، فتتناول الرجال بالوضع، ولا يدخل فيه النساء.

الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل الأمر بشيء لا يكون من المرأة، وهو تذكر الموت وترقيق القلب، وإنما يكون منها الجزع وقلة الصبر.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فليس في ألفاظه ما يدل على التصريح بالزيارة، بل إنه محمول على ما إذا اجتازت في طريقها بمقبرة جاز لها أن تدعو بهذا الدعاء في هذه الحالة، ولا تسمى زائرة حينئذ، ويحتمل أنه كان قبل النهي عن زيارة النساء وأنه كان على البراءة الأصلية، والمقصود أن الحديث ليس بصريح، فلا يقدم على ما هو صريح.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فدلالته على المنع أقرب من دلالته على الجواز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر المرأة؛ بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها النهي عن زيارة النساء القبور، وقال لها:" اصبري" ومعلوم أن مجيئها للقبر وبكاءها مناف للصبر، فهذا منه صلى الله عليه وسلم إنكار لحالها من الزيارة والبكاء، ويدل عليه أنها لما علمت أن الآمر لها من تجب طاعته انصرفت مسرعة وجاءت تعتذر إليه، ثم إن القضية قد تكون قبل لعن زائرات القبور، وعلى هذا فلا يعارض بها أحاديث المنع

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: رسالة "جزء في زيارة النساء للقبور" بقلم: بكر أبو زيد.

ص: 364

‌تحريم النياحة على الميت

588/ 55 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائجة، والمستمعة. أخرجه أبو داود.

589/ 56 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أا ننوح. متفق عليه.

590/ 75 - وعن عمر رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" متفق عليه.

591/ 58 - ولهما: نحون عن المغيرة بن شعبة.

• الكلام عليها من وجوه:

أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " في النوح"(3128) من طريق محمد بن الحسن بن عطية، عن أبيه، عن جده، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا إسناد ضعيف جدًا، آفته آل عطية الثلاثة وهم:

محمد بن الحسن، فقد قال عنه أبو زرعة:(لين الحديث)، وقال أبو حاتم:(ضعيف الحديث)، وقال البخاري:(لم يصح حديثه). وقال ابن حبان: (كوفي منكر الحديث جدًا)

(1)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(9/ 103).

ص: 365

وأبوه الحسن بن عطية، قال عنه أبو حاتم:(ضعيف الحديث)، وقال ابن حبان:(أحاديثه ليست بنقية)، وقال البخاري:(ليس بذاك)

(1)

.

وجده عطية العوفي، قال عنه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي:(ضعيف الحديث)، وقال أبو زرعة:(لين)

(2)

.

وأما حديث أم عطية رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك"(1306)، ومسلم (936) من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سيرة امرأة معاذ، وامرأتين، أو ابنة أبي سيرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى.

وأما حديث عمر رضي الله عنه

(3)

، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " ما يكره من النياحة على الميت"(1292)، ومسلم (927)(17) من طريق شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وأما حديث المغيرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور (1201)، ومسلم (933) من طريق سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة، عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من نبح عليه يعذب بما نبح عليه"، وعند مسلم:" فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله،

(1)

"تهذيب التهذيب"(2/ 255).

(2)

"تهذيب التهذيب"(7/ 200).

(3)

في بعض النسخ: (ابن عمر) وهو صحيح، فإن الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما (398)، ومسلم (931)(932) ولكن لفظ البلوغ مطابق لحديث عمر رضي الله عنه.

ص: 366

وتقدم ذلك، ومعنى (لعن رسول الله) أي: دعا على النائحة والمستمعة بذلك.

قوله: (النائحة) اسم فاعل من ناح على الميت ينوح نياحة. والنياحة: رفع الصوت بالندب وتعديد محاسن الميت على سبيل النوح كنوح الحمام، وهو من أعمال الجاهلية، كأن تقول: واجبلاه، واناصراه، واكاسياه، ونحو ذلك.

قوله: (والمستمعة) أي: القاصدة لسماع النياحة.

قوله: (آخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: عند البيعة كما تقدم في سياق الحديث، وذلك لما بايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولعل ذكر النياحة مع البيعة والله أعلم لأنهن اعتدن ذلك؛ لقلة صبرهن وجزعهن، فكان النهي عنها عند البيعة من الأهمية بمكان، ولهذا لم يف أغلبهن بذلك، كما تقدم في سياق الحديث، إما لمجاملة أو لمحبة أو نحو ذلك.

قوله: (الميت يعذب) استشكل العلماء ذلك لأنه تعذيب بفعل غيره، والله تعالى يقول:{ولا تزر وازرة وز أخرى} [الأنعام: 164]، وقد تنوعت طرقهم في الخروج من هذا الاستشكال، فمنهم من أنكر الحديث، وغلط الرواة، ومن هؤلاء عائشة رضي الله عنها، فقد روى البخاري ومسلم أنها قالت: (رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئًا فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال:" أنتم تبكون وإنه ليعذب"، وهذا اللفظ لمسلم

(1)

.

ومنهم من أول الحديث بتأويلات كثيرة، ومنها: أنه خاص بمن أوصى أن يناح عليه، فيكون النوح بسبب فعله، وهذا ضعيف؛ لأن اللفظ عام؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الحديث حصول التعذيب وإن لم يوص الميت بالنوح. وقيل غير ذلك

(2)

. ولعل أقربها ما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه ابن القيم وهو أن المراد بقوله: "يعذب"، أي: يتألم ويتأذى بنوحهم عليه، بدل دعائهم

(1)

أخرجه البخاري (3978)، ومسلم (931 - 932).

(2)

راجع: "تهذيب مختصر السنن"(4/ 290).

ص: 367

واستغفارهم له. ولم يقل: يعاقب. والعذاب أعم من العقاب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" السفر قطعة من العذاب"

(1)

، فسمى السفر عذابًا، وليس هو عقابًا على ذنب

(2)

.

وأما تخطئة عائشة رضي الله عنها لابن عمر رضي الله عنه فهو ليس في محله، فإن الحديث لم ينفرد به ابن عمر، بل رواه أبوه عمر والمغيرة بن شعبة، كما تقدم، وأبو موسى، وحفصة بنت عمر، وصهيب رضي الله عنه، وهذه الأحاديث لا ترد بمثل قول عائشة رضي الله عنها، فإنه من المحال أن يكون كل هؤلاء وهموا في الحديث. ولها نظائر من تأويلاتها واجتهاداتها رضي الله عنها

(3)

.

• والوجه الثالث: هذه الأحاديث دليل على تحريم النياحة على الميت برفع الصوت بتعديد شمائله ومحاسن أفعاله، وهي من أمر الجاهلية، وهي من كبائر الذنوب، لما فيها من المفاسد العظيمة، ومنها:

1 -

أنها لا تزيد النائح إلا شدة وحزنًا.

2 -

أنها تسخط من قضاء الله وقدره واعتراض عليه، وقلة صبره، وكأن النائحة تقول: لا ينبغي أن يموت من كان كذا، وكان كذا.

3 -

أنها تهيج الأحزان.

4 -

أنها تؤذي الميت، كما دل عليه الحديث.

5 -

أنها مع هذه المفاسد لا ترد القضاء ولا ترفع ما نزل.

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"، وقال:" النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"

(4)

، وهذا يؤيد ما تقدم

(1)

أخرجه البخاري (1804)، ومسلم (1927).

(2)

"الفتاوى"(24/ 369)، "تهذيب مختصر السنن"(4/ 293).

(3)

انظر: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة" للزركشي.

(4)

أخرجه مسلم (934).

ص: 368

من أن النياحة من الكبائر؛ لأن هذا وعيد شديد لمن مات على النياحة، وكذا قوله:"إذا لم تتب قبل موتها" فهو دليل على أنها من الكبائر؛ لأن شرطها التوبة.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الاستماع إلى النائحة، وأن المستمعة شريكة للنائحة في اللعن. والحديث وإن كان ضعيفًا كما تقدم لكن عموم الشريعة وقواعدها تدل على ذلك، فهما كالمغتاب والمستمع، شريكان في الوزر، ويقابل ذلك القارئ والمستمع شريكان في الأجر.

وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم} [النساء: 140].

قال القرطبي: (فدل بهذا على وجب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم

فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهله هذه الآية

)

(1)

.

فالواجب على من حضر منكرًا إما الإنكار على الفاعل، أو الانصراف إذا لم يكن له قدرة على الإنكار، والله المستعان.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الميت يعذب بسبب النياحة عليه، بمعنى أنه يتأذى ويتألم، وهذا يفيد أنه يجب على أولياء الميت ترك النياحة والمنع من وقوعها، لئلا يعذب الميت بذلك.

ثم إنه إذا كان المقصود من النياحة محبة الميت والتأسف على فقده فكيف ترضى أن تفعل شيئًا يضره؟! فهذا مما ينفر من النياحة.

وأما كيفية تعذيبه بالنياحة فالله أعلم بها، وقد ورد عن النعمان بن

(1)

"تفسير القرطبي"(5/ 418).

ص: 369

بشير رضي الله عنه قال: (أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل لي: آنت كذلك؟)، وفي رواية:(فلما مات لم تبك عليه)

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (4267).

ص: 370

‌جواز البكاء على الميت بدون رفع صوت

592/ 59 - عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت بنتًا للنبي صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر؛ فرأيت عينيه تدمعان. رواه البخاري.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الجنائز"، باب " قول النبي صلى الله عليه وسلم:" يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته"(1285)، وفي باب " من يدخل قبر المرأة"(1342) من طريق فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان. قال: فقال: " هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟ "، فقال أبو طلحة: أنا، قال: " فانزل"، قال: فنزل في قبرها).

وفليح بن سليمان متكلم فيه، وقد لخص الحافظ حاله في " التقريب" فقال:(صدوق كثير الخطأ). وقد تقدم أن البخاري يتتبع أحاديث أمثال فليح ممن طعن فيه أئمة الجرح والتعديل فلا يخرج له إلا ما وافقه عليه غيره أو علم أنه أتقنه.

وقوله: " لم يقارف الليلة" نقل البخاري عن فليح أنه قال: (أراه يعني الذنب). وقيل: لم يقرب أهله، بدليل أنه ذكر الليل، وبهذا جزم ابن حزم، وقال:(معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يذنب تلك الليلة)

(1)

.

(1)

"المحلى"(5/ 145).

ص: 371

وقال الحافظ: (يقويه أن في رواية ثابت المذكورة في " التاريخ الأوسط" للبخاري، والحاكم في "المستدرك" بلفظ:" لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان"

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دلي على جواز البكاء على الميت، بشرط ألا يصحب ذلك رفع الصوت أو شق الجيوب أو ضرب الخدود، ونحو ذلك مما يدل على الجزع والسخط وعدم الرضا بالقضاء مما هو صنيع أهل الجاهلية.

لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"

(2)

.

وذكر البخاري تعيقًا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: دعهن يبكين على أبي سليمان يعني خالد بن الوليد ما لم يكن نقع أو لقلقة. والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت

(3)

.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم"

(4)

.

وفي حدي ثأنس رضي الله عنه في موت ابنه صلى الله عليه وسلم قال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون"

(5)

.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن السنة أن ينزل المرأة قبرها من لم يقارف تلك الليلة، أي: لم يجامع أهله وإن كان أجنبيًا منها؛ لأن أبا طلحة هو الذي أنزل ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبرها مع أنه ليس من محارمها.

(1)

"فتح الباري"(3/ 158).

(2)

أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (103).

(3)

"فتح الباري"(3/ 160).

(4)

أخرجه البخاري (1304)، ومسلم (924).

(5)

أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315).

ص: 372

قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث جواز إدخال الرجال المرأة قبرها، لكونهم أقوى على ذلك من النساء، وإيثار العهد عند الملاذ في مواراة الميت ولو كان امرأة على الأب والزوج)

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"فتح الباري"(3/ 159).

ص: 373

‌حكم الدفن في الليل

593/ 60 - عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا". أخرجه ابن ماجه. وأصله في " مسلم"، لكن قال: زجر أن يقبر الرجل بالليل، حتى يصلى عليه.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه (1521) من طريق إبراهيم بن يزيد المكي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكره.

وهذا الحديث رجاله ثقات، إلا إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي المكي، فقد قال عنه أحمد:(متروك الحديث). وكذا قال النسائي، وقال ابن معين:(ليس بثقة، وليس بشيء). وقال أبو زرعة وأبو حاتم والدارقطني: (منكر الحديث). وقال البخاري: (سكتوا عنه)

(1)

.

والحديث أصله في مسلم (943) كما تقدم في أحاديث "الكفن"، من طريق ابن جريج، قال: (أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فذكر رجلًا من أصحابه قبض، فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلًا، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك

) الحديث. وكان الأولى بالمصنف أن يذكر هذه الزيادة: (إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن دفن الميت في الليل، وقد

(1)

"تهذيب التهذيب"(1/ 157).

ص: 374

أخذ بهذا ابن حزم الظاهري، وروى كراهة الدفن ليلًا عن سعيد بن المسيب، وأجاب بأن من دفن ليلًا كان لضرورة

(1)

.

والقول الثاني: أنه يجوز الدفن ليلًا ولا كراهة فيه، وهذا قول الجمهور من أهل العلم لحديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة الرجل الذي دفن في الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفلا آذنتموني"

(2)

، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه في الليل، وإنما أنكر عليهم عدم أعلامه بأمره.

ومما يؤيد ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم دفنوا أبا بكر رضي الله عنهم ليلًا، كما ورد في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه:" ودفن أبو بكر قبل الصبح".

قال الحافظ: (وهذا كالإجماع عائشة رضي الله عنه وفيه: " ودفن أبو بكر قبل الصبح"

(3)

. قال الحافظ: (وهذا كالإجماع من الصحابة على الجواز)

(4)

، يعني بذلك أنه أمر مشهور بينهم، وليس فيه نكير.

وأما حديث الباب فهو ضعيف لا تقوم به حجة، وأما حديث مسلم ففيه ذكر سبب النهي، وهو أن الدفن نهارًا يحضره كثير من الناس ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد، وأن الصحابي لما قبض كفن بكفن غير طائل، وعلى هذا فالأقرب ما حرره العلامة ابن القيم، وهو أنه إذا كان الدفن ليلًا لا يفوت به شيء من حقوق الميت، والصلاة عليه فلا بأس، وعليه تدل أحاديث الجواز، وإن كان يفوت بذلك حقوقه وتمام القيام عليه، نهي عن ذلك، وعليه يدل الزجر

(5)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المحلى"(5/ 114).

(2)

أخرجه البخاري (1340)، ومسلم (956)، وبوَّب عليه البخاري باب "الدفن بالليل".

(3)

"صحيح البخاري"(1387).

(4)

"فتح الباري"(3/ 208).

(5)

"تهذيب مختصر السنن"(4/ 309).

ص: 375

‌استحباب إعداد الطعام لأهل الميت

594/ 61 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم". أخرجه الخمسة، إلا النسائي.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمته الراوي:

وهو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، ولد في أرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها، وعداده في صغار الصحابة، كفله النبي صلى الله عليه وسلم بعد استشهاد أبيه في مؤتة سنة ثمان، ونشأ في حجرة. قال عنه الذهبي:(كان كبير الشأن كريمًا جوادًا يصلح للإمامة)، مات سنة ثمانين، وقيل بعدها

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرج أبو داود في كتاب " الجنائز"، باب " صنعة الطعام لأهل الميت"(3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610)، وأحمد (3/ 280) من طريق سفيان بن عيينة، حدثني جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وفي بعض نسخ الترمذي:(حسن صحيح) والصحيح الأول، وهو الذي نقله عنه الذهبي

(2)

ونفى تصحيحه، وكذا

(1)

"سير أعلام النبلاء"(3/ 456، 462)، "الإصابة"(6/ 38).

(2)

"الميزان"(1/ 630).

ص: 376

نقله الشوكاني

(1)

والألباني

(2)

؛ لأن خالد بن سارة والد جعفر روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، وحسن له الترمذي حديثه هذا، وقال الحافظ في " التقريب":(صدوق)، وحسن الحديث ابن كثير في " الإرشاد"

(4)

.

الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لما جاء نعي جعفر) أي: خبر موته. وجعفر هو: جعفر بن أبي طالب أخو علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ذو الجناحين، وصاحب الهجرتين، أسلم قديمًا، وكان أشبه الناس خلقًا وخلقًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجته أسماء بنت عميس، قتل شهيدًا يوم مؤتة سنة ثمان، ولد إحدى وأربعون سنة رضي الله عنه

(5)

.

قوله: (حين قتل) أي: في غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة.

قوله: (اصنعوا لآل جعفر) هذا الخطاب لأهله صلى الله عليه وسلم، ويتناول أقارب الميت أو جيرانه ونحوهم. والمراد بآله: زوجته أسماء بنت عميس وأولاده.

قوله: (فقد أتاهم ما يشغلهم) لفظ أبي داود: " فقد أتاهم أمر شغلهم".

وقوله:: ما يشغلهم" بفتح الياء والغين، ماضية شغل من باب (نفع). ويجوز ضم الأول وكسر الثالث، والشغل والشغل: هو الأمر العارض الذي يذهل الإنسان، وهذا سيق مساق التعليل، والمعنى أنه نزل بهم أمر شغلهم وألهاهم عن صنع طعام ياكلونه، فيحصل لهم ضرر وهم لا يشعرون.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب تقديم الطعام لأهل الميت في يوم مصيبتهم رفقًا بهم مراعاة لحالهم، وهذا من محاسن الإسلام، ومؤكدات الإخوة بين المسلمين، ومشروعية المشاركات عند نزول الحاجات.

ولم يذكر في الحديث مدة الإطعام، فمن أهل العلم من قال: يوم وليلة؛ لأن الغالب أن الحزن الشاغل عن إعداد الطعام لا يستمر أكثر من

(1)

"نيل الأوطار"(4/ 97).

(2)

"أحكام الجنائز" ص (167).

(3)

(6/ 264).

(4)

"إرشاد الفقيه"(1/ 242).

(5)

"الاستيعاب"(2/ 149)، "الإصابة"(2/ 85).

ص: 377

يوم، ومنهم من قال: ثلاثة أيام، وهو المذكور في كتب الحنابلة وغيرهم

(1)

، وكأنهم نظروا إلى مدة العزاء، وهي ثلاثة أيام حسب ما ذكروا.

ولا يجوز الإسراف في إعداد هذا الطعام، كما يفعله كثير من الناس اليوم، فإن الإسراف مذموم شرعًا، وليكن الطعام إلى أهل الميت بقدر حاجتهم، ويجوز لمن حضر أهل الميت أن يأكل معهم من هذا الطعام؛ لأنهم لم يصنعوه بأنفسهم وإنما صنع لهم.

أما أهل الميت فلا يجوز لهم صنع الطعام للناس؛ لأن هذا من البدع، وفيه مفاسد عظيمة:

أولًا: أنه عمل مخالف للسنة، فإن السنة أن الناس يصنعون لأهل الميت طعامًا، وما خالف السنة فهو بدعة.

ثانيًا: أن فيه إعانة على أمر نهى عنه أهل العلم، وهو اجتماع الناس عند أهل الميت، وقد قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه:(كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة)

(2)

.

(1)

انظر: "دقائق أولي النُّهى"(2/ 159).

(2)

أخرجه ابن ماجه (1612)، عن محمد بن يحيى، عن سعيد بن منصور، وأخرجه -أيضًا- عن شجاع بن مخلد، كلاهما عن هشيم بن بشير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله.

وهُشيم من الحفاظ الثقات، إلا أنه كثير التدليس والإرسال الخفي، فقد روى عن جماعة لم يسمع منهم، ولعل هذا منه، وذكر هذا -أيضًا- الدارقطني في "العلل" (13/ 462) فإنه قال: (

ورواه خالد بن القاسم المدائني -قيل: ثقة؟ قال: لا أضمن لك هذا، جرحوه- عن هشيم، عن شريك، عن إسماعيل

).

وعليه فالحديث ضعيف؛ لأن مداره على هشيم، وقد دلَّسه، كما يدل على ذلك كلام الإمام أحمد والدارقطني، ولم يصرح بالتحديث في شيء من طرق الحديث، ورواه سريج بن يونس، والحسن بن عرفة، عن هشيم، كما ذكر الدارقطني في "العلل" وقد تابع هشيمًا نصر بن باب، عند أحمد (11/ 505)، ونصر بن باب ضعيف الحديث، بل رمي بالكذب.

وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد، كما في "مسائل أبي داود" ص (292)، فقال:(زعموا أنه -أي هشيمًا- سمعه من شريك، وما أرى لهذا الحديث أصلًا)، وقد =

ص: 378

ثالثًا: أن هذا الصنيع فيه إنفاق للمال في أمر محرم، فيكون من باب الإسراف والتبذير، ويأثم الوالي إذا كان هذا الطعام من تركه الميت؛ لأنه إجحاف بالورثة وتعد على حقوقهم، لا سيما إذا كان فيهم سفهاء أو صغار.

رابعًا: أن هذا العمل مع كونه بدعة فيه أيضًا تكليف أهل الميت وإتعابهم مع مصيبتهم، وهذا أمر لا يقره الشرع، ولا يرضى به العقل.

ومثل هذا ما يوجد في بعض الجهات من إرسال الذبائح إلى أهل الميت، فإن هذا خلاف السنة، وقد يكون وسيلة لكون أهل الميت يصنعون للناس طعامًا، فمن أراد إطعام أهل الميت فإنه يبعث إليهم طعامًا حتى يريحهم من تعب الطبخ، لا أن يرسل إليهم ذبائح يشق عليهم بذبحها وطبخها، والله تعالى أعلم.

* * *

= صححه البوصيري في "الزوائد"(1/ 525)، والنووي في "المجموع"(5/ 320)، وابن كثير في "الإرشاد"(1/ 241)، والألباني في "أحكام الجنائز" ص (210)، والشيخ عبد العزيز بن باز، كما في "الفتاوى"(13/ 384).

ص: 379

‌ما يقال عند دخول المقبرة

595/ 62 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: " السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكن العافية". رواه مسلم.

596/ 63 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال:" السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكن، أنتم سلفنا ونحن بالأثر". رواه الترمذي، وقال: حسن.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، أخو عبد الله بن بريدة، وكان توأمين، والدا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لثلاث خلون من خلافته، روى عن أبيه وعن عمران بن حصين وعائشة وجماعة. روى له مسلم والأربعة، وهو ثقة، وفضله وكيع وابن عيينة والعجلي على أخيه عبد الله، وقالوا:(إنه أوثق منه). مات سنة خمس ومئة، وله تسعون عامًا

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث بريدة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب " الجنائز"، باب " ما يقال عند دخول القبر والدعاء لأهلها " (975) قال: حدثنا أبو بكر بن

(1)

"السير"(5/ 52)، "تهذيب التهذيب"(4/ 153).

ص: 380

أبي شيبة وزهير بن حرب، قالا: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: السلام على أهل الديار، وفي رواية زهير: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين

) الحديث.

وأخرج مسلم أيضًا (974) حديث عائشة رضي الله عنه في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وفيه: " ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين".

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي (1053) متفردًا به عن بقية أصحاب الكتب الستة، في أبواب "الجنائز"، باب " ما يقول الرجل إذا دخل المقابر" من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وهذا الحديث حسنة الترمذي كما نقله الحافظ وهذا في بعض نسخ الترمذي، وفي بعضها:(حديث ابن عباس حديث غريب).

والحديث فيه قابوس بن أبي ظبيان، واسمه حصين بن جندب، وهو متكلم فيه وفي روايته عن أبيه، فقد قال أحمد عنه:(ليس بذاك)، وقال ابن معين:(ضعيف الحديث)، وروي عنه أنه ثقة، كما وثقه يعقوب بن سفيان، وقال أبو حاتم:(لا يحتج به)، وضعفه النسائي والدارقطني، وقال ابن حبان:(كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المراسيل، وأسند الموقوف، وأبوه ثقة)

(1)

، ولعل الحافظ لخص حاله في "التقريب" عندما قال:(فيه لين).

والفرق بين الحديثين أن الحديث الأول ليس فيه خطاب، والثانية فيه خطاب، وكأن غرض الحافظ أن الأول زيارة عامة، والثاني في زيارة خاصة

(2)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(8/ 274).

(2)

راجع: "شرح الأذكار" لابن علَّان (4/ 219 - 220).

ص: 381

الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (أهل الديار) بالنصب، منادى حذف منه حرف النداء، والتقدير: يا أهل الديار، والديار جمع دار، وهي محل الإقامة، والمراد: المقابر. وفيه جواز إطلاق الأهل على ساكني المكان من أحياء أو أموات.

قوله: (من المؤمنين والمسلمين) هذا من عطف المغاير؛ لأنه إذا اجتمع وصف الإيمان ووصف الإسلام فسر الإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها، والإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، وإذا ذكر الإسلام وحده شمل الدين كله، فيدخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، وقوله تعالى:{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35 - 36]. وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا، وهذا قول المحققين، كما قال ابن رجب

(1)

.

ولما كانت المقبرة تجمع المسلمين والمؤمنين والدعاء لهما جميعًا ذكر الطائفتين بوصفيهما.

قوله: (وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) إنا: مبتدأ، للاحقون، خبره، واللام مؤكدة في خبر (إن) وقوله:" إن شاء الله" معترضة بين اسم إن وخبرها.

وقد اختلف العلماء في وجه هذا الاستثناء، وهو أن الموت أمر محقق، فكيف يعلق بالمشيئة والمحقق لا يعلق بها؟ فقيل: المراد وقت الموت، والمعنى: إذا شاء الله، أي: سنحلق بكم في الوقت الذي يشاء الله أن نلحق، وقيل: المراد الاستثناء: في الوفاة على الإيمان، لقوله:" دار قوم مؤمنين". وقيل: المرد امتثال قول الله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24]، وقيل غير ذلك.

(1)

انظر: "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث الثاني.

ص: 382

قوله: (أنتم سلفنا) بفتح السين المهملة واللام بعدها. وسلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وأقربائه وإخوانه وأقرانه، ولذا سمي الصدر الأول بالسلف الصالح، فهم متقدمون علينا في هذا السفر.

قوله: (ونحن بالأثر) بفتحتين، أي: عقبكم تابعون لكم من ورائكم لاحقون بكم.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب زيارة القبور والسلام على أهلها والدعاء لهم بسؤال الله تعالى العاقبة للأحياء من أمراض الأبدان وأمراض القلوب التي هي أشد من أمراض الأبدان، وللأموات من عذاب القبر ومن عذاب النار، وهذه هي الحكمة من زيارة القبور، وهي تتعلق بالأموات.

وأما الحكمة الثانية وهي المتعلقة بالأحياء فهي تذكر الموت لقوله: " وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"، وفي هذا فائدة عظيمة وهي أن الإنسان إذا أيقن باللحاق بالأموات ولا يدري في أي وقت يكون ذلك، وجب عليه أن يستعد، ويتهيأ لئلا يفاجئه الموت على غرة وغفلة، فاللبيب من تفكر في مآله، والحازم من تزود لارتحاله، والعاقل على غرة وغفلة، فاللبيب من تفكر في مآله، والحازم من تزود لارتحاله، والعاقل من جد في أعماله، نظر في المصير، وجانب التقصير، نسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغفلة، ويوفقنا للاستعداد قبل النقلة، ما دمنا في وقت المهملة.

وليس للزيارة وقت معين، بل تستحب كل وقت، ليلًا ونهارًا، ولهذا ورد في صحيح مسلم حديث عائشة رضي الله عنها في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم قبور البقيع ليلا.

وأما تخصيص الزيارة بيوم الجمعة وأيام الأعياد فلا أصل له في دين الله تعالى.

• الوجه الخامس: ورد في صحيح مسلم كما تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم أهل البقيع، وفيه: (حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع ثلاث مرات

)، الحديث، ففيه دليل على استحباب رفع اليدين في الدعاء لأهل القبور، وأن دعاء القائم أكمل من

ص: 383

دعاء الجالس في المقبرة

(1)

.

• الوجه السادس: استدل العلماء بهذا الحديث على أن الميت ينتفع بدعاء الأحياء؛ إذا لو لم يكن ينتفع لما كان لهذا الدعاء فائدة، وقد مضت هذه المسألة ومضى نقل الإجماع فيها.

كما استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الميت ترد روحه عند السلام عليه، وأنه يسمع في الجملة كلام الحي، وليس سماعًا دائمًا؛ بل قد يسمع في حال دون حال، وهذا قول ابن تيمية وجماعة كابن القيم

(2)

.

• الوجه السابع: استدل الصنعاني بحديث ابن عباس رضي الله عنه على أن المار بالمقبرة يسلم على الأموات وإن لم يقصد الزيارة

(3)

، وهذا فيه نظر، والحديث ضعيف، ولعل ما ذكره الصنعاني ومن قبله من أهل العلم باعتبار أن المقابر لم تكن في الزمن القديم مسورة، والمار بها يشاهد القبور ولم لم يقصد الزيارة، أما في زماننا هذا فالمقابر مسورة، فالظاهر أن السلام لا يشرع إلا للداخل، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:(الأفضل أن يسلم ولو كان مارًا، ولكن قصد الزيارة أفضل وأكمل)

(4)

. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (8/ 47)، "فتاوى ابن باز"(13/ 337 - 338).

(2)

"الفتاوى"(24/ 331 - 364).

(3)

"سبل السلام"(2/ 228).

(4)

"الفتاوى"(13/ 333)، وانظر:"فتاوى ابن تيمية"(17/ 333).

ص: 384

‌النهي عن سب الأموات

597/ 64 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". رواه البخاري.

598/ 65 - وروى الترمذي: عن المغيرة نحوه، لكن قال:" فتؤذوا الأحياء".

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في آخر الكتاب " الجنائز"، باب "ما ينهى من سب الأموات"(1393) من طريق الأعمش، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا.

وأما حديث المغيرة رضي الله عنه، فقد أخرجه الترمذي في أبواب "البر والصلة"، باب "ما جاء في الشتم"(1982) من طريق أبو داود الحفري عن سفيان، عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء".

والحديث صحيح، قال النووي:(رواه الترمذي بإسناد حسن أو صحيح)

(1)

. وصححه الألباني

(2)

. وقد ذكر الترمذي والدرقطني أن في إسناده اختلافًا، وذكر هذا الاختلاف. وكذا ذكره الدارقطني، وبين المحفوظ منه

(3)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم سب الأموات والوقع في

(1)

"الخلاصة"(2/ 1039).

(2)

"صحيح سنن الترمذي"(2/ 190).

(3)

"العلل"(7/ 126) وانظر: "السلسلة الصحيحة"(2397).

ص: 385

أعراضهم؛ لأن النهي في قوله: " لا تسبوا" للتحريم، كما هو الأصل في النهي، وقد استدل بالحديث من منع سب الأموات مطلقًا، سواء أكان الميت مسلمًا أم كافرًا، عدلًا أم فاسقًا، بناء على أن (أل) للاستغراق.

وقال آخرون: إن الحديث مختص بأموات المسلمين، وأن (أل) في (الأموات) عهدية وليست استغراقية؛ لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم، ولأنه قال:" قد أفضوا إلى ما قدموا" وهذا فيه إشعار بأن المراد المسلم.

وذهب فريق ثالث إلى التفصيل في المسألة، وهو أن أموات الكفار يجوز ذكر مساوئهم بشرط ألا يتأذى به قريبه الحي المسلم، فإن كان لا يتأذى بسبه أحد، أو كان الكافر مؤذيًا للمسلمين متعرضًا لحرماتهم فلا مانع من سبه.

وأما المسلم فلا يجوز سبه والوقوع في عرضه؛ لأن له حرمة، وهذا من باب الغيبة؛ إلا أن كان فاسقًا وظهرت مصلحة راجحة في سبه؛ فإنه يجوز ذكر مساوئه للتحذير منه والتنفير عنه، لا لقصد سب الأموات، ولكن لقصد تنفير الأحياء عنه وتحذيرهم منه، وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث أنس الآتي.

وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء أو أمواتًا؛ لأن المصلحة في حفظ السنة تقتضي ذلك. فإن لم يكن مصلحة وجب الكف عنه؛ لأنه أفضى إلى ما قدم

• الوجه الثالث: أشار الحديث إلى الحكمة التي من أجلها نهي عن سب الأموات، وهي أنهم قد أفضوا ووصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، فلا ينفع سبهم فيهم، كما ينفع في الحي؛ لأن الحي ينزجر ويرتدع عن المعصية إذا انتقد فيها، ويحذر الناس منه، وأما بعد موته فقد أفضى إلى ما قدم.

والحكمة الثانية: أن سب الأموات قد يفضي إلى إيذاء الأحياء من أقاربهم، كما في حديث المغيرة. ولا يفهم من ذلك جواز سب الأموات عند عدم تأذي الأحياء؛ كمن لا قرابة له، أو له ولكن لا يبلغهم ذلك؛ لأن سب

ص: 386

الأموات منهي عنه للحكمة الأولى فإذا أدى إلى أذية الأحياء كان محرمًا من جهتين.

والحكمة الثالثة: أن سب الأموات من باب الغبة التي وردت الآيات والأحاديث بتحريمها؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره" يدخل فيه الحي والميت، وقد بوب البخاري في كتابه " الأدب المفرد"، باب " الغيبة للميت"

(1)

. قال ابن بطال: (سب الأموات يجري مجرى الغيبة في الأحياء)

(2)

.

• الوجه الرابع: ورد في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت"، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال:"وجبت". فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"

(3)

.

وهذا فيه دليل على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك، ولعل هذا الذي أثنى عليه شرًا كان مشهورًا بفسقه وفساده، فيخشى أن يقتدى بشره، فيكون ذلك من باب التحذير منه والتنفير عنه.

قال البيهقي: (وكأن الذي أثنوا عليه شرًا كان معلنًا بشره، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم زجر أمثاله عن شرورهم وعن إطالة الألسنة في أنفسهم، فقال ما قال، والله أعلم)

(4)

. ومثل ذلك قال الشراح؛ كالإمام النووي والقرطبي والحافظ ابن حجر وجماعة آخرين، واختاره الشيخ عبد العزيزبن باز وقال:(إن ذلك فيه جمع بين الأخبار)، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الأدب المفرد"(2/ 202).

(2)

"شرح ابن بطال على صحيح البخاري"(3/ 354).

(3)

"صحيح البخاري"(1367).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 75).

ص: 387

‌كتاب الزكاة

الزكاة: في اللغة: النماء والطهارة وصفوة الشيء، يقال: زكا الزرع يزكو زكوا، من باب قعد، إذا نما وزاد وصلح.

وشرعًا: قدر واجب في مال مخصوص، لطائفة أو جهة مخصوصة.

والحكمة من مشروعيتها: تطهير النفس من الشيح والبخل، وتطهير نفس الفقير من الحسد والضغينة على الأغنياء، وسد حاجة الإسلام والمسلمين، وتطهير المال، وحصول الآثار الطيبة على البلاد والعباد.

وهي أحد أركان الإسلام، من جحد فريضتها فهو كافر إجماعًا، ومن أقر بها ومنعها بخلًا فليبشر بعذاب أليم، قال تعالى:{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير} [آل عمران: 180].

وقد دل مفهوم قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] على أنه يكفر تاركها بخلًا، وهو دليل من قال بذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، قواها بعض الأصحاب

(1)

، والأظهر أنه لا يكفر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة مانع الزكاة قال:" فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"

(2)

، ولو كان كافرًا ما كان له سبيل إلى الجنة، فيكون منطوق هذا الحديث مقدمًا على مفهوم آية التوبة.

وأظهر الأقوال في وقت فرضيتها ما ذكره ابن كثير من أن أصل الزكاة فرض في مكة، لقوله تعالى:{وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]،

(1)

"المغني"(4/ 8).

(2)

أخرجه مسلم (987).

ص: 389

وقوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعارج: 24]، وقوله تعالى:{والذين هم للزكاة فاعلون} [المؤمنون: 4] وهذه آيات مكية، وأما فرضها في المدينة فهو فرض ذات النصب والمقادير الخاصة، وأما في مكة فكانت زكاة مطلقة من القيود والحدود، موكولة إلى إيمان الأفراد وشعورهم بواجب الأخوة الإسلامية

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "تفسير ابن كثير"(5/ 457)، "فقه الزكاة" للقرضاوي (1/ 60).

ص: 390

‌ما جاء في وجوب الزكاة

599/ 1 - عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن

فذكر الحديث، وفيه:" أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم". متفق عليه، واللفظ للبخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في أول كتاب " الزكاة"،‌

‌ باب

" الزكاة"(1395)، ومسلم (19) من طريق يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن فقال:" ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"، هذا أحد ألفاظ البخاري، والحديث له ألفاظ متعددة وطرق كثيرة.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية بعث الدعاء إلى الإسلام في أطراف الأرض، لينشروا دين الله، ويعلموا الناس شريعة ربهم وأحكام دينه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الداعية يبدأ في دعوته بالأهم فالأهم؛ وأنه لا ينتقل إلى مرتبة حتى يلتزم المدعوون بما قبلها، وقد ذكر في الحديث أن مراتب الدعوة هي:

ص: 391

الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن ذلك من أفرض الفرائض، فإن الشهادة أساس الدين الذي لا تصح العبادات إلا به.

2 -

الدعوة إلى الصلاة الخمس؛ لأنها أكد العبادات البدنية.

3 -

الدعوة إلى الزكاة؛ لأنها أوكد العبادات المالية.

ولم يرد في هذا الحديث ذكر للصيام والحج مع أنهما من أركان الإسلام، والأقرب والله أعلم أنه لما كان بعث معاذ في ربيع الأول سنة عشر، وليس وقتًا للصيام ولا للحج أخرت الدعوة لهما إلى وقتيهما؛ ليستقر الإيمان في قلوبهم، فيسهل عليهم القبول.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية، وهو قول الجمهور، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وإن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271 [، فلم يذكر في الآية إلا مصرفًا واحدًا وهم الفقراء، والصدقة متى أطلقت في القرآن أو السنة فهي صدقة الفرض، وأما قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء .. } التوبة: 60] فهذا قد استدل به من قال: بوجوب تعميم الأصناف الثمانية.

والأول أظهر، وأما آية التوبة فإن معناها أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف، ولو قيل بوجوب الاستيعاب لكان ذلك مع ما فيه من الحرج والمشقة مخالفًا لما عليه المسلمون سلفًا وخلفًا، وقد يكون الحاصل شيئًا قليلًا لو قسم عليهم لما حصل منه فائدة تذكر.

• الوجه الخامس: استدل بالحديث من قال: بأنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر

(1)

؛ لأن قوله: "على فقرائهم" أي: فقراء أهل اليمن على أحد القولين في مرجع الضمير، أما على القول بأن الضمير يعود على

(1)

انظر: "المغني"(4/ 131)، "المبدع"(2/ 407 - 408).

ص: 392

فقراء المسلمين فلا دليل فيه، قالوا: ولأن المقصود بالزكاة إغناء الفقراء، ولو جاز نقلها لأفضى ذلك إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين.

والقول الثاني: أنه يجوز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر لمصلحة راجحة، كفقراء أشد حاجة، أو لقريب محتاج، أو طالب علم صاحب حاجة، أو نحو ذلك، وهذا قول الجمهور

(1)

، وهو الأظهر؛ لأن الله تعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء

} [التوبة: 60] أي: لهم في كل مكان، كما يدل على ذلك حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه الآتي في آخر " الزكاة".

وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال:(إن تحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي)

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

انظر: "الاختيار"(1/ 122)، "شرح فتح القدير"(2/ 279)، "بلغة السالك"(1/ 235)، "المهذب"(1/ 234)، "الإفصاح"(1/ 228).

(2)

"الاختيارات" ص (99).

ص: 393

‌أحكام زكاة الإبل والغنم

600/ 2 - عن أنس رضي الله عنه؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله:

في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم: في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستًا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستًا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.

وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة. فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها.

ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان

ص: 394

من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق.

وفي الرقة: ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين" رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري مفرقًا في عدة مواضع من كتاب " الزكاة"، وغيره، وأكثر ألفاظه في باب "زكاة الغنم" (1454) من طريق محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنسًا حدثه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين

" الحديث.

وقد تتبع الحافظ روايات الحديث وجمعها في سياق واحد، وإلا فليس في البخاري رواية بهذا السياق والتمام.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الزكاة في الإبل إذا بلغت خمسًا وأن فيها شاة، وفي العشرين أربع شياه، وإنما أوجب الشارع الحكيم فيما دون خ مس وعشرين من الإبل زكاة من الغنم، مع أن زكاة كل مال من جنسه، نظرًا لقلة الإبل عند صاحبها، فخمس من الإبل مال عظيم، ففي إخائه عن الواجب إضرار بالفقراء، وفي إيجاب منه إجحاف بأرباب الأموال، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء

ص: 395

صاحبها، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى، وهي ما استكمل من الإبل السنة الأولى ودخل في الثانية، سميت بذلك لأن أمها غالبًا قد حملت، والماخض: الحامل التي دنت ولادتها، وليس كون أمها ماخضًا شرطًا، وإنما ذكر تعريفًا لها بغالب أحوالها، فإن لم تكن عنده فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى؛ وهي من الإبل ما استكمل الثانية ودخل الثالثة، سميت بنت لبون لأن أمها وضعت غالبًا، فهي ذات لبن.

فإذا بلغت ستًا وأربعين إلى ستين ففيها حقة، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سميت بذلك لأنها استحقت أن تركب وأن يحمل عليها، واستحقت أن يطرقها الفحل.

فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، وهي التي أتى عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة، سميت بذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها، وهذا أعلى سن يجب في الزكاة، فهو غاية كمالها؛ لأنه غاية الحسن دار ونسلًا وقوة، واعتبر في الجميع الأنوثة لما فيها من رفق الدر والنسل.

فإذا بلغت ستًا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، فإذا زادت على عشرين ومائة استقرت الفريضة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ابتداء من مائة وثلاثين، ففيها حقة وبنتا لبون، وكلما زادت عشرًا تتغير الفريضة، وما دون العشر عفو، ففي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاثة حقاق، وهكذا

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الزكاة في الغنم، وشرط ذلك: أن تكون سائمة، ولم يذكر السوم في الإبل في حديث أنس رضي الله عنه، ولعله ترك لأن الغالب أن الإبل لا تكون إلا سائمة، بخلاف الغنم، وقد رد في حديث بهز بن حكيم الآتي:" وفي كل إبل سائمة"، والسوم: معناه الرعي، أي: رعي الغنم في المراعي دون شراء العلف، أو دفع قيمة الزرع الذي ترعاه، وشرط الفقهاء أن ترعى أكثر الحول؛ كسبعة أشهر مثلًا؛ لأن الأكثر له حكم الكل، وهذا بخلاف المعلوفة فلا زكاة فيها إن لم تكن

ص: 396

عرض تجارة لأنها تكثر مؤنتها فيشق على النفوس إخراج الزكاة منها، بخلاف السائمة.

فإذا بلغت الغنم أربعين إلى عشرين ومائة فيها شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت استقرت الفريضة في كل مائة شاة.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على وجود الوقص في بهيمة الأنعام وهو بفتحتين وقد تسكن القاف، والوقف: هو ما بين الفريضتين، فما بين خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين وقص ليس فيه شيء، وكذا الغنم على ما تقدم، وذلك من باب الرفق بالمالك؛ لأن بهيمة الأنعام تحتاج إلى مؤنة كثيرة، من رعي وسقي وحفظ وعلاج وحلب ونحو ذلك، وهو خاص ببهيمة الأنعام، أما غيرها كالذهب والفضة والحبوب والثمار فما زاد زادت الزكاة، ولا وقص فيه.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم الحيل المفضية إلا إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، وذلك بأن يكون لشخص أربعون شاة، فإذا علم بمجيء المصدق جعل عشرين في مكان وعشرين في مكان آخر، حتى لا تجب عليه الزكاة، وكذا لو كان لثلاثة أشخاص مائة وعشرون شاة، لكل واحد أربعون في مكان، فيجمعونها في مكان واحد ليكون فيه شاة واحدة بدل ثلاث شياه.

• الوجه السادس: الحديث دليل على إثبات الخلطة، وهي الشركة في المواشي دون غيرها من الأموال، وأن لها تأثيرًا في الزكاة إيجابًا وإسقاطًا، وتغليظًا وتخفيفًا؛ لأنها تجعل الأموال كالمال الواحد في حكم الزكاة.

فلو ورث شخصان أربعين من الغنم لكل واحد عشرون، ففيها شاة واحدة، إذا أخذت من أحدهما رجع على الآخر بقيمة نصيبه من الفرض، وهو نصف شاة، ولو اشترى شخصان أربعين من الغنم لأحدهما الثالث وللآخر الثلثان فأخذ الفرض من مالك صاحب الثلث، رجع بثلثي قيمة المخرج على صاحبه، وهكذا

ص: 397

الوجه السابع: الحديث دليل على أنه لا يجوز إخراج الهرمة - بفتح الهاء وكسر الراء: وهي المسنة التي سقطت أسنانها من الكبر، ولا ذات عوار - بفتح العين المهملة وبضمها: وهي المعيبة والمريضة البين مرضها؛ كالجرب ونحوه، وفي البخاري:" ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس، إلا ما شاء المصدق".

واختلف في ضبط " المصدق" فالأكثر على أنه بتشديد الصاد والدال المكسورة، والمراد به المزكي، وهو مالك الماشية؛ لأن المصدق أصله المتصدق، فحصل الإدغام، وتقدير الحديث: لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلًا، ولا يؤخذ تيس، وهو فحل الغنم إلا برضا المالك، لكونه يحتاج إليه، وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث فقط، وهو التيس.

ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد " المصدق"، اسم فاعل من صدق، أي: آخذ الصدقة، والمراد به العامل والساعي، فيجتهد في الأصلح، فله أن يأخذ التيس إذا رأى فيه مصلحة، أو الهرمة إذا كانت سمينة وفيها مصلحة للفقراء، أو ذات العوار، وهذا أظهر؛ لأن المصدق وهو المالك، لا يؤمن في الغالب أن يجحف بالفقراء فلا يقبل قوله، أما الساعي فهو كالوكيل، وهو مظنة أن يسعى لهم ويحرص على مصلحتهم.

• الوجه الثامن: الحديث دليل على وجوب الزكاة في الفضة، لقوله:"وفي الرقة ربع العشر" والرقة: بكسر الراء المهملة المشددة، وفتح القاف المخففة، هي الفضة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة

(1)

، ونصاب الفضة: مائتا درهم، لحديث: " ليس فيما دون خمس أواق صدقة

" وسيأتي، والأوقية: أربعون درهمًا بالاتفاق، وفيها ربع العشر، وما كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه، لقوله: " فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها".

• وليس معنى ذلك أنها إذا زادت على التسعين ومائة أن فيها زكاة، وإنما

(1)

انظر: "الزاهر" ص (243).

ص: 398

ذكر التسعين لأنه آخر العقود قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أنه لا صدقة فيما نقص على المائتين، ويدل على ذلك الحديث المتقدم:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة".

• الوجه التاسع: الحديث دليل على أن من وجب عليه سن معين وعدمه كمن وجبت عليه جذعة ولست عنده، وعنده أقل منها وهو الحقة؛ فإنها تقبل منه ويدفع جبرانًا؛ شاتين أو عشرين درهمًا، وكذا من عليه صدقة الحقة وليست عنده، وعنده أعلى منها وهي الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين.

والظاهر أن العشرين درهمًا تقويم مقابل الشاتين وليس تعيينًا، فلو كانت قيمة الشاتين مائتي درهم مثلًا أعطاه مائتي درهم، وليس في غير الإبل جبران بل هو خاص بها؛ لأن السنة وردت به فقط، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 399

‌ما جاء في زكاة البقر

601/ 3 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارًا أو عدله معافر.

رواه الخمسة، واللفظ لأحمد، وحسنه الترمذي، وأشار إلى اختلاف في وصله، وصححه ابن حبان، والحاكم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب في " زكاة السائمة"(1576)، والترمذي (623)، والنسائي (5/ 25 - 26)، وابن ماجه (1803)، وأحمد (36/ 338 - 339) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ رضي الله عنه، به مرفوعًا.

والحديث حسنه الترمذي، كما قال الحافظ، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الترمذي إرساله، فقال: (هذا حديث حسن، وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فأمره أن يأخذ

وهذا أصح)، وممن صحح المرسل الدارقطني

(1)

، وقد أخرجه مرسلًا الطيالسي (1/ 461)، وأبو عبيد في "الأموال" ص (386)، وابن أبي شيبة (3/ 126)، وغيرهم، من طريق شعبة، عن الأعمش، به مرسلًا.

(1)

"العلل"(6/ 69).

ص: 400

ورجح بعضهم الرواية المتصلة؛ لأنها من رواية جماعة من الحفاظ، منهم الثوري، وأبو معاوية، وهما أثبت أصحاب الأعمش

(1)

.

قال الخلال: (أحمد لا يعبأ بمن خالف أبا معاوية في حديث الأعمش، إلا أن يكون الثوري)

(2)

.

وممن رجح الوصل ابن عبد البر، حيث قال:(روى عن معاذ هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت)

(3)

، كما رجح الوصل أيضًا الشيخ عبد العزيز بن باز.

وقد اختلف في سماع مسروق عن معاذ، وسماعه من وارد؛ لإمكانه زمانًا ومكانًا، فمسروق من كبار التابعين، وهو ثقة، فقيه، عابد، لا يجزم بروايته عن معاذ إلا وقد سمعه، وقد ولد عام الهجرة، وكان في اليمن وقت وجود معاذ فيها، والله أعلم

(4)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بعثه إلى اليمن) وذلك في ربيع الأول سنة عشر، كما تقدم في أول حديث، وبقي فيها داعيًا ومعلمًا وقاضيًا، وعاد إلى المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

قوله: (تبيعًا أو تبيعة) التبيع: هو الذي أتم الحول الأول ودخل في الثاني، والأنثى تبيعة، سمي بذلك لأنه لا يزال يتبعه أمه.

قوله: (مسنة) هي التي أتمت الثانية ودخلت في الثالثة.

قوله: (ومن كل حالم دينارًا) الحالم: اسم فاعل من حلم الصبي فهو حالم، ويقال: احتلم فهو محتلم، أي: بلغ مبلغ الرجال.

والدينار: اثنتان وسبعون حبة شعير عند المتقدمين، وهو ما يقارب ثلاث

(1)

"شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/ 529).

(2)

"شرح علل الترمذي"(2/ 533).

(3)

"التمهيد"(2/ 275).

(4)

انظر: "المحلى"(6/ 11، 16)، "بيان الوهم والإيهام"(2/ 575 - 576)، "التلخيص"(2/ 160).

ص: 401

جرامات ونصف الجرام، أو ثلاثة أرباع الجرام، بالأوزان المعروفة عند أصحاب الذهب، والمعنى: أن البالغ الذي لم يسلم يؤخذ منه الجزية دينار.

قوله: (أو عدله معافر) العدل بفتح العين وسكون الدال: أي: ما يساوي قيمة الشيء ومقداره.

والمعافر بفتح الميم والعين وكسر الفاء: ثياب تنسج في اليمن، نسبت إلى معافر على وزن مساجد، وهم حي من همدان في اليمن.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الزكاة في البقر إذا بلغت ثلاثين، وفيها تبيع أو تبيعة على التخيير، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، فإذا بلغت ستنين ففيها تبيعان، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا كانت ثمانين ففيها مسنتان، وهكذا، وإذا نقصت عن ثلاثين فليس فيها صدقة عند الجمهور.

قال ابن عبد البر: (لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ هذا؛ وأنه النصاب المجتمع عليه فيها)

(1)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الذمي ليس بمطالب بالزكاة، وإنما تؤخذ منه الجزية إذا بلغ الحلم، عن كل رأس دينار أو ما يقابله من غير النقد كالثياب وغيرها، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب " الجهاد إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الاستذكار"(9/ 157).

ص: 402

‌مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة

602/ 4 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تؤخذ صدقات المسلمين على مياهم". رواه أحمد.

603/ 5 - ولأبي داود: " ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم".

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما الأول فقد أخرجه أحمد (11/ 343) من طريق عبد الله بن المبارك، حدثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكر الحديث.

وهذا الحديث سنده حسن، أسامة بن زيد، هو الليثي متكلم فيه كثيرًا، والذي يظهر أنه حسن الحديث

(1)

.

وأخرجه أبو داود (1591)، وأحمد (11/ 288) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو في حديث طويل، وفيه:" ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في ديارهم".

وهذا إسناد حسن أيضًا، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث عند أحمد

(2)

، وعند البيهقي

(3)

، والبغوي

(4)

، وقد توبع أيضًا، تابعه عبد الرحمن بن الحارث، عن أحمد

(5)

، وتابعه أسامة بن زيد، كما تقدم.

(1)

"تهذيب التهذيب"(1/ 183).

(2)

"المسند"(11/ 596).

(3)

"السنن الكبرى"(8/ 29).

(4)

"شرح السنة"(2542).

(5)

"المسند"(11/ 587).

ص: 403

ولعل الحافظ أورد رواية أبي داود؛ لأن رواية أحمد خاصة بزكاة الماشية؛ لقوله: " على مياههم" ولفظ أبي داود عام لكل صدقة.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن عمال الزكاة يقصدون أرباب الأموال من الإبل والغنم ونحوهما على مياههم وفي دورهم لقبض الزكاة منهم، ولا يكلف صاحب المال أن يأتي بصدقته إلى بيت المال، لما في ذلك من المشقة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عماله لقبض الزكاة، ثم تفريقها على مستحقيها.

وهذا من أدلة القائلين بجواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر للمصلحة، كما تقدم، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 404

‌حكم زكاة الرقيق والخيل

604/ 6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة". رواه البخاري.

ولمسلم: " ليس في العب صدقة إلا صدقة الفطر".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " ليس على المسلم في عبده صدقة"(1464)، ومسلم (982) من طريق يحيى بن سعيد، عن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وأخرجه مسلم من طريق مخرمة، عن أبيه، عن عراك بن مالك قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر".

• الوجه الثامن: الحديث دليل على عدم وجوب الزكاة فيما اختصه المسلم لنفسه، من الرقيق والخيل، قال ابن الملقن:(هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا تجب زكاتها)

(1)

، وذلك لأنه اختصه لنفسه لا للنماء، وليس هو مما تجب الزكاة في عينه، فلم يكن محتملًا لأخذ الزكاة منه، وهذا دليل على يسر الإسلام، وسهولة تشريعاته.

ويدخل في الحديث كل ما اختصه الإنسان لنفسه إما لاستعماله؛

(1)

"الإعلام"(5/ 53).

ص: 405

كالسيارات، والأواني، والفرش، أو ما اختصه لنفسه ليستغله بما يحصل فيه من أجرة؛ كسيارات الأجرة، وسيارات النقل، وآلات النجارة والحدادة، وآلات المطابع، والمغاسل، وإنما تجب الزكاة في الأجرة وما ينتج عن هذه الآلات إذا تم عليه الحول.

ومفهوم الحديث أنه إذا كان الرقيق أو الخيل معدًا للتجارة ففيه الزكاة؛ لأنه نفي الزكاة فيما أضافه الإنسان إلى نفسه إضافة اختصاص، ومعلوم أن المعد للتجارة لم يختصه مالكه لنفسه، وليس له غرض في عينه، وإنما غرضه في قيمته وربحه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب زكاة الفطر في الرقيق وإن لم يكن للتجارة؛ لأن زكاة الفطر زكاة بدن، وليست زكاة تجارة، فوجبت بكل حال، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 406

‌حكم مانع الزكاة

605/ 7 - عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كل سائمة إبل: في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم، وعلق الشافعي القول به على ثبوته.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة بفتح الحاء بن معاوية القشيري، روى عن أبيه وغيره، وروى عنه سليمان التيمي، وابن عون وآخرون، وهو متكلم فيه، فقال أبو حاتم:(شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال الشافعي:(ليس بحجة)، وقال ابن معين:(ثقة)، وكذا قال النسائي

(1)

، وقال ابن حبان:(كان يخطئ، فأما أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم رحمهما الله فهما يحتجان به، ويرويان عنه، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث: " إنا آخذوها وشطر إبله، عزمه من عزمات ربنا" لأدخلناه في " الثقات"، وهو ممن أستخير الله عز وجل فيه)

(2)

.

وقال الذهبي: (ما تركه عالم قط، إنما توقفوا في الاحتجاج به)

(3)

،

(1)

"تهذيب التهذيب"(1/ 437).

(2)

"المجروحين"(1/ 222) وقوله: (إبله) هكذا أُثبتت.

(3)

"الميزان"(1/ 354).

ص: 407

وقال ابن كثير: (الأكثرون يحتجون به؛ كأحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، وابن معين، وأبي داود، والنسائي

)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق).

أما أبوه حكيم بن معاوية، فهو تابعي، وثقه العجلي

(2)

، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

.

وأما جده، وهو معاوية بن حيدة، فهو صحابي سمع النبي صلى الله عليه وسلم، معدود في أهل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها، روى عنه ابنه حكيم وعروة بن رويم اللخمي وحميد اليزني، أخرج له أصحاب السنن، وعلق له البخاري في "الطهارة" و "النكاح"

(4)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "الزكاة" باب "في زكاة السائمة"(1575)، والنسائي (5/ 15 - 25، 17)، وأحمد (33/ 220)، والحاكم (1/ 398) من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، به مرفوعًا.

وهذا الحديث سنده حسن لما تقدم في الكلام على بهز بن حكيم وأبيه وهما صدوقان.

وكل جملة في الحديث لها شاهد، بعضها مضى، وبعضها سيأتي، إلا قوله:" ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله .. "، ولهذا نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال:(لا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر إبل الغال لصدقته، ولو ثبت لقلنا به)

(5)

.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون) هذا ليس على ظاهره

(1)

"الإرشاد"(1/ 266).

(2)

"تاريخ الثقات" ص (130).

(3)

"تهذيب التهذيب"(2/ 387)، "الثقات"(4/ 161).

(4)

"الإصابة"(9/ 230).

(5)

"السنن الكبرى"(4/ 105).

ص: 408

لما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه، وإنما هذا محمول على ما إذا زادت عن مائة وعشرين، كما تقدم.

قوله: (لا تفرق إبل عن حسابها) أي: إن الخليطين لا يفرقان ماليهما خشية الصدقة، كما تقدم عند قوله:"لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"، أو أن المعنى: أن الكل تحسب في الأربعين، ولا يترك هزيل ولا سمين ولا صغير ولا كبير، والعامل لا يأخذ إلا الوسط.

قوله: (مؤتجرًا بها) بالهمزة، أي: قاصدًا الأجر من الله تعالى بإعطائه الزكاة.

قوله: (وشطر ماله) بالنصب عطفًا على ضمير (آخذوها) لأنه في محل نصب باسم الفاعل، ويجوز جره عطفًا على لفظ المضاف إليه؛ لأنه مجرور لفظًا منصوب محلًا.

قوله: (عزمة من عزمات ربنا) عزمة: بالرفع، خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك عزمة، وبالنصب على المصدرية، وهو مصدر مؤكد لنفسه، والناصب له فعل محذوف يدل عليه جملة " فإنا آخذوها"، والعزمة: العزيمة والجد في الأمر الواجب المتحتم، والمعنى: إنا آخذون ذلك بجد وعزم؛ لأنه واجب مفروض وحق من حقوق ربنا.

قوله: (لآل محمد) المراد بهم: من تحرم عليهم الصدقات من بني هشام، وهم: آل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وسيأتي ذلك إن شاء الله في آخر " الزكاة".

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن في كل أربعين سائمة من الإبل بنت لبون، وقد تقدم في حديث أنس رضي الله عنه أن بنت اللبون تجب من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين، فهو يصدق على أنه يجب في الأربعين بنت لبون، ومفهوم العدد هنا متروك زيادة ونقصانًا؛ لأنه عارضه المنطوق الصريح، وهو حديث أنس رضي الله عنه، أو أنه محمول على ما زاد على مائة وعشرين، كما تقدم.

ص: 409

الوجه الخامس: تحريم التفريق بين المالين الخليطين من الماشية فرارًا من الزكاة، كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه.

• الوجه السادس: الحديث دليل على أن من أدى الزكاة عن طيب نفس طالبًا الأجر من الله تعالى فله أجره، ومن منعها فعليه وزره؛ لأنه هدم ركنًا من أركان الإسلام وحسابه على الله تعالى.

• الوجه السابع: جواز أخذ الزكاة قهرًا ممن منعها بإجماع أهل العلم.

• الوجه الثامن: استدل بهذا الحديث من أجاز التعزيز بالمال، وذلك أن أخذ شطر مال مانع الزكاة هو من باب التعزير بالمال، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(1)

، وابن فرحون من المالكية

(2)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه لا يجوز التعزير بالمال

(3)

؛ لأن في ذلك مخالفة للنصوص الدالة على حرمة مال المسلم، وعدم جواز أخذه بغير حق.

قالوا: وهذا الحديث قد طعن فيه أئمة الجرح والتعديل، وتكلموا في بهز بن حكيم، كما تقدم، وليس لنا أن نأخذ شطر ماله؛ إلا بحجة قوية لا شبهة فيها؛ وإن كان بعض الأئمة قد وثق بهزًا، لكن المقام مقام عظيم، مخالف للأصول في حال مال المسلم، ولم يأت من تابع بهزًا في هذا حتى يقوى أمره، وقد يكون المال عظيمًا، فأخذ شطره لا يثبت بمثل هذا الحديث المقابل للأصول العظيمة في حرمة مال المسلم؛ بل قد يكون فيه شيء من الشبهة، والأقرب والله أعلم أنه يعاقبه ولي الأمر بما يردعه، وأما أخذ شطر المال فالأولى ألا يفعل، وهذا اختيار الصنعاني

(4)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، ولهذه المسألة ذكر في باب " السرقة" من كتاب " الحدود" والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الفتاوى"(28/ 113 - 118)(29/ 294)، "تهذيب مختصر السنن"(2/ 192).

(2)

"تبصرة الحكام" مطبوع على حاشية "فتح العلي المالك"(2/ 298).

(3)

"المغني"(12/ 526)، "شرح فتح القدير"(5/ 345)، "حاشية الدسوقي"(4/ 355).

(4)

"سبل السلام"(2/ 245).

ص: 410

‌اشتراط الحول لوجوب الزكاة

606/ 8 - عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارًا، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليها الحول". رواه أبو داود، وهو حسن، وقد اختلف في رفعه.

607/ 9 - وللترمذي؛ عن ابن عمر: " من استفاد مالًا، فلا زكاة عليه حتى يحول الحول". والراجح وقفه.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " في زكاة السائمة"(1573) من طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، وسمى آخر

(1)

، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وهذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه، فرواه أبو داود، وكذا البيهقي (4/ 95) مرفوعًا.

ورواه ابن أبي شيبة (3/ 158 - 159) موقوفًا من طريق سفيان الثوري

(1)

أي: إن شيخ أبي داود سليمان بن داود قال: إن ابن وهب روى الحديث عن شيخ آخر مع جرير لم أحفظه، وهو الحارث بن نبهان.

ص: 411

وشريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي رضي الله عنه قال:(ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول).

وكذا رواه موقوفًا عبد الله في " زوائد المسند"(2/ 414) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، به.

وتابع سفيان وشريكًا على وقفه زكريا بن أبي زائدة. أخرجه الدارقطني (2/ 91)، ونقل الحافظ في " التلخيص" وقفه أيضًا عن شعبة ومعمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم، ثم قال:(وكذا كل ثقة رواه عن عاصم)

(1)

، فهؤلاء الحفاظ خالفوا جريرًا، فرووه عن أبي إسحاق موقوفًا عن علي رضي الله عنه.

ولعل الحافظ نص على أنه حسن؛ لأن بعض العلماء ضعفه ظنًا منه أنه من رواية الحارث الأعور، وهو ضعيف، والصواب أنه ليس من روايته وحده، كما تقدم، بل رواه معه عاصم بن ضمرة، وقد وثقه أحمد، وابن معين، وابن المديني، والعجلي، والنسائي، وتكلم فيه ابن حبان، وابن عدي، والبيهقي

(2)

، فحديثه من قبيل الحسن، قال الزيلعي:(ولا يقدح فيه ضعف الحارث لمتابعة عاصم له)

(3)

.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي (631) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر، به مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، ضعفه أحمد، وابن المديني، والنسائي، وأبو زرعة، وقال ابن خزيمة:(ليس هو ممن يحتج أهل الحديث بحديثه لسوء حفظه، هو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث)

(4)

.

وقد أخرجه الترمذي (632)، والبيهقي (4/ 103) من طريق عبد الوهاب الثقفي، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا.

(1)

"التلخيص"(2/ 184).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 40).

(3)

"نصب الراية"(2/ 328).

(4)

وقد مضى ذكره عند الحديث الثالث عشر في "الطهارة".

ص: 412

قال الترمذي: (هذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم)، وكذا أخرجه الدارقطني (2/ 92) عن معتمر، عن عبيد الله، عن نافع به موقوفًا. وعلى هذا فالعمدة في هذا الباب على الموقوف.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن نصاب الفضة مائتا درهم، وهذا مجمع عليه؛ وإنما الخلاف في قدر الدرهم، وهو يزن عند المتقدمين إحدى وخمسين حبة شعير، وهي تساوي جرامين وثلاثة من عشرة؛ فإذا ضربت في مائتي درهم، كان الحاصل أربع مائة وستين جرامًا، وهذا نصاب الفضة؛ فإذا عرف قيمة جرام الفضة بالريالات المتداولة؛ سهل معرفة النصاب، يضرب هذا النصاب بقيمة جرام الفضة، والناتج هو النصاب، فيخرج ربع العشر منه؛ لأن العملة المتداولة مقومة بالفضة؛ لأنها نائبة عنها في التعامل.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، وهي تساوي: أحد عشر جنيهًا وثلاثة أسباع جنيه سعودي. والنصاب بالجرام: يساوي سبعين جرامًا من الذهب، حاصل ضرب عشرين مثقالًا بثلاثة جرامات ونصف الجرام؛ لأن هذا وزن المثقال، وهو الدينار، بالأوزان المعاصرة.

لكن ينبغي أن يعلم أن الذهب الموجود بأيدي الناس ليس ذهبًا خالصًا، بل يضاف إليه شيء من النحاس، والذهب الخالص هو عيار (24)، وما كان أقل ففيه إضافة، والطريقة أن تضرب النصاب الخالص (70 × 24) مقدار العيار، والناتج هو النصاب).

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن النقدين ليس فيهما وقص في الزكاة، فكل ما زاد فهو بحسابه، قليلًا كان الزائد أو كثيرًا.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على اشتراط الحول لوجوب الزكاة، وهو أن يمر على المال في ملك صاحبه اثنا عشر شهرًا، وهذا خاص ببهيمة الأنعام والنقود والسلع التجارية، أما الزروع والثمار، وكذا العسل على القول بأن فيه زكاة فلا يشترط لها حول.

ص: 413

والحكمة من اشتراط الحول، هو أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء، والحول مظنة النماء في الماشية، وعروض التجارة، والأثمان، فيكون إخراج الزكاة من الربح؛ لأنه أيسر وأسهل؛ ولأن الزكاة وجبت مواساة.

أما الزروع والثمار، فلا يشترط لها الحول؛ لقوله تعالى:{وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] فأثبت الوجوب وقت حصولها؛ لأن الحبوب والثمار نماء في نفسها، تؤخذ الزكاة عند وجودها، ثم لا تجب ثانية؛ لأنها تبدأ في انقص لا في النماء، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 414

‌ما جاء في أن الماشية التي أعدت للعمل لا زكاة فيها

608/ 10 - عن علي رضي الله عنه قال: ليس في البقر العوامل صدقه. رواه أبو داود، والدارقطني، والراجح وقفه أيضًا.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " زكاة السائمة"(1572) والدارقطني (2/ 103) من طريق زهير، ثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، وعن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليس في البقر العوامل شيء".

وهذا الحديث سنده حسن، لما تقدم في الكلام على عاصم بن ضمرة، وأن حديثه من قبيل الحسن.

وأبو إسحاق السبيعي اختلط بأخرة، وزهير بن معاوية سمع منه بعد الاختلاط، كما قال أبو زرعة

(1)

.

واللفظ المذكور ليس من حديث علي رضي الله عنه، وإنما هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه الدارقطني (2/ 103) من طريق سوار بن مصعب، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، به مرفوعًا. وإسناده ضعيف، سوار بن مصعب: متروك، وليث: ضعيف.

(1)

"الكواكب النيرات" ص (350).

ص: 415

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن البقر العوامل التي تستعمل في حرث الزرع أو سقيه ليس فيها زكاة؛ لأنها آلة عمل، وليست من الأموال النامية حتى تجب فيها الزكاة.

ويدخل في ذلك ما تقدم من آلات النجارة، والحدادة، وآلات المطابع، والمغاسل، ونحو ذلك مما أعد للاستفادة من ريعه وإنتاجه، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 416

‌ما جاء في زكاة مال اليتيم

609/ 11 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من ولي يتيمًا له مال، فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". رواه الترمذي، والدارقطني، وإسناده ضعيف.

610/ 12 - وله شاهد مرسل عند الشافعي.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عمرو بن شعيب، فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الزكاة"، باب " ما جاء في زكاة مال اليتيم"(641)، والدارقطني (2/ 109 - 110) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به مرفوعًا.

وحديث عمرو بن شعيب من قبيل الحسن، كما تقدم، لكن في هذا الإسناد المثنى بن الصباح اليماني. قال عنه الترمذي:(يضعف في الحديث) وقد ضعفه الأكثرون. وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه (لا يساوي حديثه شيئًا، مضطرب الحديث)

(1)

.

وأما المرسل فقد أخرجه الشافعي (1/ 235 ترتيب مسنده) من طريق ابن جريج، عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ابتغوا في مال اليتيم أو في مال اليتامى لا تذهبها أو لا تستأصلها الصدقة".

(1)

"تهذيب التهذيب"(10/ 32).

ص: 417

وهذا سند ضعيف، ابن جريج مدلس، وقد عنعنه، وأما يوسف بن ماهك فهو تابعي، ثقة، كما في "التقريب" لكنه مع ضعفه تعضده العمومات، وتقويه الشواهد وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية تنمية مال اليتيم بالتجارة وغيرها مما يظن الولي أنه يحقق له ربحًا وفائدة وزيادة في ماله.

والحديث وإن كان ضعيفًا لكن معناه صحيح؛ فإن هذا من الإصطلاح المأمور به لليتيم. قال تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 2].

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: (وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم؛ لأن تمام إيتائه ماله حفظه، والقيام بما يصلحه وينميه، وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار)

(1)

.

وقال تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} [البقرة: 220]، وقال تعالى:{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الأنعام: 152]، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:(وفي هذا دلالة على أن اليتيم قبل بلوغ الأشد محجور عليه، وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ، وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ الأشد)

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الزكاة في مال اليتيم إذا بلغ نصابًا، وهذا قول الجمهور، ويدل على ذلك أيضًا عموم الأدلة في وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا؛ كقوله تعالى:{خذ من أمواله صدقة} [التوبة: 103]، وقد صح عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله رضي الله عنه وجوب الزكاة في مال اليتيم، كما يؤيد ذلك المعنى المقصود من شرعية الزكاة، وهو سد خلة الفقراء من مال الأغنياء شكرًا لله تعالى، وتطهيرًا للمال، ومال اليتيم قابل لذلك، وعلى هذا فالمخاطب بإخراجها هو وليه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"تفسير ابن سعدي" ص (163).

(2)

المصدر السابق ص (280).

ص: 418

‌استحباب الدعاء للمزكي

611/ 13 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: " اللهم صل عليهم". متفق عليه.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة"، ومسلم (1078) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال:" اللهم صل على آل فلان" فأتاه أبي بصدقته، فقال:" اللهم صل على آل أبي أوفى".

• الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الدعاء لمن أخرج زكاة مال بصلاة الله تعالى عليه، فيقال: اللهم صل على آل أبي فلان، اللهم بارك لهم فيما أعطيتهم، اللهم أعنهم به على طاعتك، ونحو ذلك من الدعوات الطيبة، وليس في ذلك شيء محدود، وهذا يدل عليه صنيع البخاري في ترجمته السابقة عندما عطف الدعاء على الصلاة، وفائدة هذا الدعاء له تسكين نفسه ليهون عليه بذل المال المحبوب إليها، قال تعالى:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 103].

وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه أن يصلي على من زكى ماله عند دفعه الزكاة، فكان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:" اللهم صل عليهم" أي: اثن عليهم في الملأ الأعلى.

ص: 419

والمراد بقوله: " اللهم صل على آل أبي أوفى"، هو اللهم صل على أبي أوفى نفسه، فقد ذكر الطحاوي أن العرب تجعل آل الرجل الرجل نفسه، ثم احتج بهذا الحديث

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء، والجمهور على أن ذلك مكروه؛ لأن الصلاة شعار للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب كقوله تعالى:{أولئك عليهم صلوات من ربهم} ومن السنة كحديث الباب على الدعاء لهم، ولهذا لم تثبت الصلاة على آل أبي أوفى شعارًا لهم. قال ابن كثير:(وهذا مسلك حسن)

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"شرح معاني الآثار"(8/ 61).

(2)

"تفسير ابن كثير"(6/ 467).

ص: 420

‌حكم تعجيل الزكاة

612/ 14 - عن علي رضي الله عنه أن العباس رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. رواه الترمذي، والحاكم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الزكاة"، باب " ما جاء في تعجيل الزكاة"(678)، والحاكم (3/ 332) من طريق إسماعيل بن زكريا، عن الحجاج بن دينار، عن الحكم بن عتيبة، عن حجية

(1)

بن عدي، عن علي رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقد روى الحديث أيضًا أبو داود (1624)، وابن ماجه (1795)، وأحمد (2/ 192) بهذا الإسناد.

والحديث حسنه البغوي

(2)

، والشيخ أحمد شاكر

(3)

، والألباني

(4)

. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (هو حديث جيد لا بأس بإسناده). مع أن في إسناده حجية بن عدي الكندي، قال فيه أبو حاتم:(شيخ لا يحتج بحديثه، شبيه بالمجهول)

(5)

، وقريب منه قول ابن معين

(6)

. وقال العجلي: (تابعي

(1)

بوزن (عُلية).

(2)

"شرح السنة"(1577).

(3)

في تعليقه على "المسند"(822).

(4)

"الإرواء"(3/ 346).

(5)

"الجرح والتعديل"(3/ 314).

(6)

"من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال" رقم (358).

ص: 421

ثقة)

(1)

. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

. وقال الحافظ في (التقريب): (صدوق يخطئ).

ثم إن الحديث في إسناده اختلاف على الحكم بن عتيبة، كما ذكر الدارقطني، ومن بعده البيهقي، قال أبو داود: روى هذا هشيم، عن منصور بن زاذان، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث هشيم أصح، وكذا رجح المرسل الدارقطني

(3)

والبيهقي

(4)

.

• الوجه الثاني: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على جواز تعجيل الزكاة قبل تمام الحول، وهذا قول أكثر العلماء، وقيده الفقهاء بما إذا كان هناك مصلحة تقتضي التعجيل؛ كأن يوجد مجاعة أو يوجد حاجة تنزل بالناس.

والتعجيل إحسان ومعروف من المعجل، فهو جدير بأن يكون عمله جائزًا ومقبولًا، لما فيه من طيب النفس في تقديم المال قبل وجوبه، وما فيه من الجود والكرم ومراعاة المصالح التي تعم المسلمين، فهذا شيء جيد، وصاحبه مشكور على عمله.

وشرط التعجيل أن يكون بعد وجوب النصاب؛ لأنه سبب الوجوب، فإن عجلها قبل وجود النصاب لم يصح؛ لأن السبب هو الموجب للزكاة، وهو لم يوجد. وأما تقديمها قبل الحول، فهو من تقديم العبادة على شرط وجوبها، وهو جائز، وهذا مبني على قاعدة ذكرها ابن رجب، وهي أنه لا يجوز تقديم العبادة على سبب وجبها، ويجوز تقديمها على شرطها، وذكر من فروعها؛ هذه المسألة

(5)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"تاريخ الثقات" ص (110).

(2)

(4/ 186).

(3)

"العلل"(3/ 187).

(4)

"السنن الكبرى"(4/ 111).

(5)

"القواعد"(1/ 24).

ص: 422

‌نصاب زكاة الحبوب والثمار

613/ 15 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة". رواه مسلم.

614/ 16 - وله من حديث أبي سعيد: " ليس فيما دون خمس أوساق من تمر ولا حب صدقة".

وأصل حديث أبي سعيد متفق عليه.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في أول كتاب " الزكاة"(980) من طريق ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، به مرفوعًا.

وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فأخرجه مسلم أيضًا في أول "الزكاة"(979)(4) من طريق محمد بن يحيى بن حبان

(1)

، عن يحيى بن عمارة، عن أبي سعيد الخدري، به مرفوعًا.

ولعل الحافظ ذكر حديث أبي سعيد؛ لأن فيه بيان المكيل بالأوسق، وأنه من التمر والحب، بخلاف رواية الصحيحين، فلفظها: " ليس فيما دون

(1)

بفتح الحاء كما في "التقريب".

ص: 423

خمسة أوسق صدقة" بدون بيان للمكيل، وهذه إحدى روايات البخاري الموافقة لرواية مسلم.

والحديث أصله عند البخاري (1447)، ومسلم (979) من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

• قوله: (أواق) جمع أوقية، وهي أربعون درهمًا بالاتفاق، ومما يدل على ذلك حديث أنس المتقدم في أول "الزكاة"، وفيه: "وفي الرقة ربع العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء

"، فهذا الحديث مفسر لهذا الحديث.

قوله: (من الورق) بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز إسكان الراء مع فتح الواو وكسرها، قال الأكثرون من أهل اللغة: هي الدراهم المضروبة، وقال بعضهم: هي الفضة كانت مضروبة كالدرهم أو لا

(1)

.

قوله: (صدقة) أي: زكاة، والصدقة إذا أطلقت في القرآن أو السنة فالمراد بها صدقة الفرض، كما تقدم أول "الزكاة".

قوله: (ذود من الإبل) الذود: اسم لا واحد له من لفظه، وهو من الواحد إلى العشر من الإبل، والمعنى: ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، بديل ما تقدم في حديث أنس أول " الزكاة".

قوله: (أوسق) جمع وسق بفتح الواو

(2)

وإسكان السين ويجوز كسر الواو، وجمعه حينئذ على أوساق، كما في الرواية الأخرى؛ كحمل وأحمال، والوسق: الحمل من الحب والتمر. وقدره ستون صاعًا بصاع

(1)

انظر: "الأموال" لأبي عبيد ص (449)، "الصحاح"(4/ 1564)، "اللسان"(10/ 375).

(2)

انظر: "الدر النقي"(2/ 335).

ص: 424

النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، كما ذكره علماء اللغة والشرع، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي أن الصاع حرر تحريرًا تامًا، وهو ثمانون ريالًا فرنسيًا

(1)

، وقد قمت بنفسي بوزن الريال الفرنسي عند باعة الذهب، وفكان وزنه (28) جرامًا، والصاع أربعة أمداد إجماعًا، فيكون المد = 20 × 28 = 650 جرامًا، ويكون الصاع بالجرامات (560 × 4=2240) أي:(2، 25 كيلو) ويكون نصاب الزروع والثمار (300 × 2، 25= 675 كيلو جرام).

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الزكاة على من عنده الأنصبة المذكورة أو شيء منها، وذلك لأن الزكاة مبناها على المواساة بين الأغنياء والفقراء، فمن قصر ماله عن هذه التحديدات لم تجب عليه الزكاة؛ لأن الأقل من ذلك لا يحتمل أن تؤخذ منه الزكاة، فنصاب الفضة مائتا درهم، وفيها ربع العشر كما تقدم، ونصاب الإبل خمس وفيها شاة كما مضى، ونصاب الحبوب والثمار: خمسة أوسق، وهي ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي، وتساوي بالكيلو (675) كيلو جرام على ما تقدم، وسيأتي إن شاء الله مقدار الواجب في الحبوب والثمار.

وإنما اشترط النصاب في الحبوب والثمار؛ لأن الزكاة شرعت لأجل المواساة، والقليل لا مواساة فيه.

وتضم أنواع الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب؛ كأنواع القمح مثلًا، بخلاف الأجناس فلا يضم جنس إلى آخر؛ كالشعير والحنطة، وتضم أنواع الثمار إلى بعضها؛ كالسكري مع الشقراء مثلًا في تكميل النصاب.

وتجب الزكاة في النخيل الموجود في الأحواش أو المستراحات ونحو ذلك، بشرط أن يبلغ نصابًا، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الأجوبة السعدية عن المسائل الكويتية" ص (103).

ص: 425

‌مقدار زكاة الحبوب والثمار

615/ 17 - عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا: العشر، وفيما سقي بالنضح، نصف العشر". رواه البخاري.

ولأبي داود: " أو كان بعلًا: العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح: نصف العشر".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري"(1483) من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وعند أبي داود (1596): " فيما سقت السماء والأنهار العيون أو كان يعلا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر".

ولعل الحافظ أورد هذا اللفظ؛ لأن فيه زيادة بيان على ما في لفظ البخاري.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

• قوله: (فيما سقت السماء العشر) ما: اسم موصول يفيد العموم في القليل والكثير، وقد دخله التخصيص كما سيأتي، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله:(العشر) مبتدأ مؤخر، والسماء: المطر، من باب المجاز المرسل تسمية للحال باسم المحل؛ لأنه ينزل منها، قال تعالى:{وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} [الفرقان: 48].

ص: 426

قوله: (والعيون) جمع عين، وهي الينابيع التي تنبع من الأرض أو من سفوح الجبال.

قوله: (أو كان عثريًا) العثري: بفتح المهملة والمثلثة، هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي؛ كأنه عثر على الماء عثرًا بلا عمل من صاحبه.

قوله: (بالنضح) بفتح النون وسكون الضاد، مصدر نضح البعير الماء: حمله من نهر أو بئر لسقي الزرع فهو ناضح، والأنثى ناضحة، سمي ناضحًا؛ لأنه ينضح العطش، أي: يبله بالماء الذي يحمله، هذا أصله، ثم استعمل الناضح في كل بعير وإن لم يحمل الماء، ومنه قول جابر رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتخلف ناضحي

) أي: بعيري

(1)

، وحديث:" أطعمه ناضحك"، أي: بعيرك، فالمراد بالنضح هنا: سقي الزرع بالماء الذي ينضحه الناضح، ويدخل في ذلك السقي بالآلات الحديثة المعروفة.

قوله: (أو كان بعلًا) اسم كان يعود على السياق، أي: أو كان المسقي بعلًا، والبعل: بفتح فسكون، هو الشجر أو الزرع الذي ينبت بماء السماء من غير سقي، وهو مقارب لمعنى العثري ومرادف له.

قوله: (السواني) جمع سانية، يقال: سنت الناقة تسنو: سقت الزرع، وهو سانية، وهو الدابة من الإبل أو الحمير ذاهبة وآيبة تخرج الماء من البئر بالغرب وأدواته.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الواجب في الحبوب والثمار التي سقيت بلا مؤنة وإنما سقتها الأمطار، أو العيون الجارية، أو البعل الشارب بعروقه، أن فيها العشر، وذلك لأن الثمرة حصلت بلا كلفة ولا مؤنة؛ لأن أصل الكلفة سقي الماء.

وظاهر قوله: (فيما سقت السماء العشر) أن العشر واجب في كل ما سقته السماء قليلًا كان أو كثيرًا؛ لأن (ما) من صيغ العموم كما تقدم، لكنه

(1)

رواه مسلم (715)(112).

ص: 427

خص بحديث أبي سعيد المتقدم: " ليس فيما دون خمس أوسق صدقة".

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الواجب في الحبوب والثمار التي تسقى بكلفة ومؤنة كالنواضح والآلات الحديثة التي ترفع الماء من باطن الأرض إلى ظاهرها بالكهرباء أو غيرها من وسائل الوقود، أن فيها نصف العشر؛ لأنها تحتاج إلى مؤنة، فتحتاج إلى كهرباء وصيانة، وتحتاج زيوت وأدوات، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 428

‌ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار

616/ 18 - عن أبي موسى الأشعري، ومعاذ رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما:" لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". رواه الطبراني، والحاكم.

617/ 19 - وللدار قطني، عن معاذ: فإما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناده ضعيف.

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي موسى رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (2/ 98)، والحاكم (4/ 401)، والبيهقي (4/ 125) من طريق سفيان، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم:" لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة .. " الحديث.

قال الحاكم: (إسناده صحيح)، وسكت عنه اذهبي، وقال البيهقي:(رواته ثقات، وهو متصل).

وأما حديث معاذ رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (2/ 97) من طريق عبد الله بن نافع الصائغ، حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبدي الله، عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو، عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 429

وهذا الحديث إسناده ضعيف - كما قال الحافظ - بل ضعيف جدًا، فيه عبد الله بن نافع، وهو متكلم فيه، قال عنه أحمد:(لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفًا فيه)، وقال أبو حاتم:(ليس بالحافظ، هو لين في حفظه، وكتابه أصح)، وقال أبو زرعة والنسائي:(لا بأس به)

(1)

.

وفيه إسحاق بن يحيى. قال عنه أحمد: (منكر الحديث)، ومرة قال:(متروك الحديث)، وقال ابن معين:(ضعيف ليس بشيء، ولا يكتب حديثه)

(2)

، قال ابن عبد الهادي:(إسحاق تركه غير واحد. وعبد الله بن نافع هو الصائغ: صدوق، في حفظه شيء، وقد روى له مسلم في "صحيحه")

(3)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الزكاة في هذه الأصناف الأربعة، وهي: الحنطة والشعير من الحبوب، والزبيب والتمر من الثمار، وهذا محل اتفاق في هذه الأربعة، وإنما الخلاف في غيرها.

فمن أهل العلم من رأى عدم وجوب الزكاة في غيرها، وهذا مذهب ابن عمر

(4)

، وبه قال بعض التابعين، كالحسن وابن سيرين وجماعة، ورواية عن أحمد، واختاره أبو عبيد، والصنعاني

(5)

، والشوكاني

(6)

، والألباني

(7)

.

واستدلوا بهذا الحديث، وبأن غير هذه الأربعة ليس فيه نص ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسها عليها؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين خص هذه الأصناف الأربعة وأعرض عما سواها يعلم أن الناس أموالًا وأقواتًا مما تخرج الأرض سواها، فتركه لها وإعراضه عنها دليل على أنه لا زكاة فيها.

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 46).

(2)

"تهذيب التهذيب"(1/ 222).

(3)

"تنقيح التحقيق"(2/ 199 - 200).

(4)

"الأموال" ص (472) رقم (1379)، وسنده صحيح، كما قال الألباني في "تمام المنة" ص (372).

(5)

"سبل السلام"(4/ 43).

(6)

"نيل الأوطار"(4/ 161).

(7)

"تمام المنة" ص (369).

ص: 430

والقول الثاني: أن الزكاة تجب في غير هذه الأربعة، وهذا مذهب الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة، لكنهم يختلفون في العلة.

فقالت المالكية والشافعية: كل ما يقتات ويدخر وييبس فيه الزكاة؛ كالحنطة والشعير والشافعية: كل ما يقتات ويدخر وييبس فيه الزكاة؛ كالحنطة والشعير والذرة والأرز، وما أشبه ذلك، بخلاف الجوز واللوز والفستق والترمس، ونحوها مما يدخر، ولكنه ليس يقوت، فلا زكاة فيه، وكذا الفواكه مثل: التفاح والرمان والكمثرى، ومثلها البصل؛ لأنها مما لا ييبس ولا يدخر

(1)

.

وقالت الحنابلة: تجب الزكاة في كل ما يكال ويبقى وييبس من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون، سواء كان قوتًا؛ كالحنطة والشعير والأرز والذرة والفول والعدس والماش والحمص، أو من الأبازير كالكمون، أو حب البقول كالرشاد والحلبة والحبة السواداء، وكذا ما جمع هذه الأوصاف في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما، بخلاف سائر الفواكه والخضار التي تؤكل في الحال ولا تدخر ولا تكال، فهذه لا زكاة فيها إلا العنب إذا كان يتخذ منه الزبيب

(2)

.

واستدلوا بحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، فدل الحديث على انتفاء الزكاة عما لا توسيق فيه، أي: لا كيل.

والقول الثالث: أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من الأرض مما يزرعه الآدمي. وهذا قول أبي حنيفة وداود الظاهري وابن حزم

(3)

.

واستدلوا بالعمومات؛ كقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]، وقوله تعالى:{وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]، وقوله صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء العشر

".

والقول بأن الزكاة تجب في كل ما يكل ويدخر قوي، لأمرين:

(1)

"الموطأ"(1/ 276)، "تفسير القرطبي"(7/ 103)، "المجموع"(5/ 493).

(2)

"المغني"(4/ 155).

(3)

"الهداية"(1/ 109)، "المحلى"(5/ 212 - 213).

ص: 431

الأول: أن قوله: " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة" يشمل الحبوب التي توسق، أي: تكال.

الثاني: أن القول بالعموم لا يخلو من المشقة، فإن الخضروات حاصلات عاجلة، ومنافعها حاضرة، فلا زكاة فيها؛ لأنها ليست محل مواساة، بخلاف ما يكال ويدخر؛ فإن النعمة به أبلغ وأكثر، ثم الخضروات ليست من الغذاء الضروري، وإنما هي للتنعم والتفكه، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج؛ هو الادخار، لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الاختيارات" ص (100).

ص: 432

‌ما جاء في خرص الثمار

وما يترك لأرباب الأموال

618/ 20 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم، فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع".

رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم.

619/ 21 - وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا". رواه الخمسة، وفيه انقطاع.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سهل بن أبي حثمة بفتح الحاء وإسكان الثاء المثلثة اختلف في اسم أبيه فقيل: عبد الله بن ساعدة، وقيل: عامر بن ساعدة الأنصاري الأوسي، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وكانت سنة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سبع سنين أو ثمان، لكنه حفظ عنه، فروى وأتقن، سكن الكوفة، ومات في المدينة رضي الله عنه

(1)

.

الراوي الثاني: هو عتاب بتشديد التاء بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، أسلم يوم الفتح، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عام الفتح حين خروجه إلى حنين، فأقام

(1)

"الاستيعاب"(4/ 272)، "الإصابة"(4/ 271).

ص: 433

للناس الحجة تلك السنة، وهي سنة ثمان، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو عامل عليها، وأقره أبو بكر رضي الله عنه عليها إلى أن مات بها في سنة ثلاث عشرة يوم موت أبي بكر رضي الله عنه، كان من سادات قريش، صالحًا، خيرًا، فاضلًا رضي الله عنه

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث سهل بن أبي حثمة، فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " في الخرص"(1605)، والنسائي (5/ 42)، والترمذي (643)، وأحمد (24/ 458)، وابن حبان (3280)، والحاكم (1/ 402) من طريق شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]: " إذا خرصتم فخذا، ودعوا الثالث، فإن لم تدعوا أو تجدوا الثلث فدعوا الربع" قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد).

وهذا فيه نظر؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، قال عنه ابن القطان:(لا يعرف حاله)

(2)

، وقال الذهبي:(لا يعرف، وقد وثقه ابن حبان على قاعدته)

(3)

، وقال عنه الحافظ:(مقبول). وخبيب بن عبد الرحمن، هو ابن خبيب بن يساف، ثقة.

والحديث له شواهد، ومنها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في خرص النبي صلى الله عليه وسلم حدقة المرأة في طريقهم إلى تبوك

(4)

.

ومنها بعثة صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خبير ليخرص على اليهود نخيلهم، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه

(5)

، وحديث عائشة رضي الله عنها

(6)

.

وأما حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " في خرص العنب"(1603 - 1604)، والنسائي (7/ 109)،

(1)

"الاستيعاب"(8/ 3)، "الإصابة"(6/ 372).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 215).

(3)

"الميزان"(2/ 589).

(4)

أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392).

(5)

أخرجه ابن ماجه (1820).

(6)

أخرجه أبو داود (1606).

ص: 434

والترمذي (644)، وابن ماجه (1819) من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد رضي الله عنه، قال:

وذكر الحديث.

وهذا سند منقطع كما قال الحافظ، قال أبو داود عقبه:(سعيد لم يسمع من عتاب شيئًا). والحديث مداره على سعيد بن المسيب، عن عتاب، ووجه انقطاعه أن مولد سعيد رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه، وقد تقدم أن عتاب بن أسيد مات سنة ثلاث عشرة، يوم مات أبو بكر رضي الله عنه.

وعزو الحديث إلى الخمسة، ومنهم: أحمد، وهم من الحافظ رحمه الله، فإنه ليس في " المسند"، وليس لعتاب مسند ضمن "مسند الإمام أحمد" المطبوع. وقد رجعت إلى كتاب ابن عساكر "ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند" فلم أر مسند عتاب فيه، والله أعلم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية خرص الثمار، كالنخل والعنب، وذلك إذا بدأ صلاح الثمار، فيأتي الخارص ويقدر ما على النخل من الرطب تمرًا، وما على شجر العنب زبيبًا، فيطوف بالنخل، ويرى جميع ثمرتها، ثم يقول: خرصها كذا وكذا رطبًا، ويجيء كذا وكذا يابسًا، وكذا العنب. فيقدر بذلك من غير وزن ولا كيل، ليعرف مقدار الزكاة فيه، فإذا جفت الثمار أخذت منها الزكاة التي سبقت تقدرها بالخرص. والعمل بالخرص ثابت، وليس هو ظنًا وتخمينًا؛ بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار من العارفين الثقات، ويكفي خارص واحد.

وإدراك الثمر بالخرص نوع من المقادير والمعايير، كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين؛ وإن كان بعضها أحصر من بعض. وإن تركوا بلا خرص صح ذلك، لكن الخرص فيه فائدة عظيمة، وهي التوسعة على أهله بحيث يتصرفون، فيبيعون، ويتصدقون، ويهدون؛ لأنهم عرفوا ما فيه من الزكاة؛ لأنه لو منع أرباب الأموال من الانتفاع بثمارهم إلى أن تبلغ غايتها في الصلاح، لأضر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيه لأخل ذلك بحق الفقراء، ولما كانت

ص: 435

الأمانة غير متحققة عند كل واحد من أرباب الأموال جاءت مشروعية الخرص.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يشرع ترك ثلث الثمرة أو ربعها للمالك، والمراد بذلك أن يترك الخارص ثلث الثمرة أو ربعها فلا يؤخذ عليه زكاة، رأفةً بأرباب الأموال، وتوسعة عيهم؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، ويطمعون جيرانهم، وأهلهم وأصدقاءهم، وسؤالهم، ويكون في الثمرة الساقطة، وينتابها الطير، ويأكل منه المارة، فلو استوفى العامل الكل منهم أضر بهم؛ فإذا ترك الثلث أو الربع نظر في الباقي؛ فإن بلغ نصابًا وإلا فلا زكاة فيه.

وقيل: يترك الثلث أو الربع من العشر أو نصف العشر لأهل المال، ليتولوا توزيعه بأنفسهم على الفقراء المستحقين.

وتخيير الخارص بين الثلث والربع راجع إلى نظر الخارص واجتهاده في تحقيق المصلحة على حسب كثرة الثمرة وقلتها، وعلى حسب حال أهلها وسخائهم، وكثرتهم وكثرة أضيافهم وأتباعهم، أو نحو ذلك. فالخارص يترك الثلث، فإن كان الثلث كثيرًا فيدع الربع.

أما ما لم يخرص من الثمار وترك لأمانة أهله، فإنه يجوز لهم أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 436

‌حكم زكاة الحلي

620/ 22 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها:" أتعطين زكاة هذا؟ "، قالت: لا، قال:" أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ "، فألقتهما. رواه الثلاثة، وإسناده قوي.

621/ 23 - وصححه الحاكم: من حديث عائشة.

622/ 24 - وعن أم سلمة رضي الله عنها، أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال: " إذا أديت زكاته، فليس بكنز".

رواه أبو داود، والدارقطني، وصححه الحاكم.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث عمرو بن شعيب فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الزكاة"، باب " الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي"(1563)، والنسائي (5/ 38) من طريق خالد بن الحارث، حدثنا حسين وهو المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، به.

وأخرجه الترمذي (637) من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقد ضعف الترمذي هذا الإسناد؛ لأنه من رواية ابن لهيعة، وذكر أنه جاء من رواية المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب به، وهذا

ص: 437

أخرجه عبد الرزاق

(1)

. والمثنى بن الصباح ضعيف، كما تقدم. وظاهر صنيع الترمذي أنه لم يتعرض لرواية حسين المعلم، ولذا قال بعد ذكرها:(ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء). ولعله كما قال المنذري قصد الطريقين، اللذين ذكرهما، وإلا فطريق أبي داود من رواية حسين المعلم لا مقال فيه، ولا ينزل عن درجة الحسن، إلا أن النسائي أعله بالإرسال، فقد رواه في " السنن الصغرى"(5/ 38) من طريق المعتمر بن سليمان، قال: سمعت حسينًا قال: حدثني عمرو بن شعيب قال: جاءت امرأة

فذكره مرسلًا. قال في "الكبرى"(3/ 27 - 28): (خالد بن الحارث أثبت عندنا من المعتمر، وحديث المعتمر أولى بالصواب) والجملة الثانية غير مثبتة في " الصغرى".

وقد صحح الحديث جمع من أهل العلم، منهم: أبو الحسن بن القطان

(2)

، وابن الملقن

(3)

، والصنعاني

(4)

، وأحمد شاكر

(5)

، وحسن إسناده النووي

(6)

، والألباني

(7)

.

أما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه أبو داود (1565)، والحاكم (1/ 389) من طريق يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في فتخات من ورق، فقال:" ما هذا يا عائشة؟ "، فقالت: صنعتهن أتزين لك فيهن يا رسول الله، فقالت:" أتؤدين زكاتهن؟ "، فقلت: لا، أو ما شاء الله من ذلك.

قال: " هي حسبك من النار".

وهذا الحديث صححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، ورجاله ثقات غير يحيى بن أيوب الغافقي، فهو متكلم فيه، ولا ينزل حديثه عن رتبة الحسن.

(1)

"المصنَّف"(7065).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 366).

(3)

"المرقاة" للقارئ (2/ 439).

(4)

"سبل السلام"(2/ 263).

(5)

"تحقيق المسند"(10/ 150).

(6)

"المجموع"(5/ 490).

(7)

"آداب الزفاف" ص (256).

ص: 438

وقد نقل ابن حجر عن ابن دقيق العيد أنه قال: (هو على شرط مسلم)

(1)

.

وقال في " التلخيص": (إسناده على شرط الصحيحح)

(2)

. وقال النووي: (رواه أبو داود بإسناد حسن)

(3)

، لكنه معلول بما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلي بنات أخيها لهن الحلي فلا تزكية

(4)

، هكذا أعله البيهقي، وابن عبد البر

(5)

.

والحافظ قد عز الحديث إلى الحاكم مع أنه عند أبي داود، كما تقدم، إلا إن كان مراده بيان تصحيح الحاكم، لكن هذا لا يمنع من عزوه لأبي داود.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود (1564)، والدارقطني (2/ 105)، والحاكم (1/ 390) من طريق عتاب بن بشير، عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة رضي الله عنها، وهذا لفظ الدارقطني والحاكم، ولفظ أبي داود:" ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز".

والحديث قوى إسناده جماعة، منهم: ابن دقيق العيد، وصححه ابن القطان، وحسنه النووي. وفيه: عتاب بن بشير، متكلم فيه، قال في "التقريب":(صدوق يخطئ). وفيه: ثابت بن عجلان. تفرد به كما قال البيهقي والذهبي، وهو متكلم فيه أيضًا، ثم إنه منقطع بين عطاء، وهو ابن أبي رباح، وأم سلمة، فإنه لم يسمع منها، كما نص على ذلك ابن المديني

(6)

، ونقله عنه ابن أبي حاتم

(7)

، لكنه صحيح بما له من شواهد، ومنها ما تقدم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (مسكتان) بفتح الميم والسين المهملة، تثنية مسكة بفتح الميم والسين المهملة: وهي السوار من الذهب والخلاخيل.

(1)

"الدراية"(1/ 259).

(2)

(2/ 189).

(3)

"المجموع"(5/ 940).

(4)

رواه مالك (1/ 250)، وعبد الرزاق (4/ 83)، وابن أبي شيبة (3/ 154) وسنده صحيح.

(5)

انظر: "معرفة السنن"(6/ 144)، "الاستذكار"(9/ 74 - 75).

(6)

"العلل" ص (66).

(7)

"المراسيل" ص (155).

ص: 439

قوله: (فتخات) هذا لفظ أبي داود، وهي بالفتح جمع فتخة بسكون التاء وفتحها، وهي الخوام. والورق: الفضة، كما تقدم، وعند الحاكم:(سخابًا من ورق) والسخاب ككتاب: خيط ينضم فيه خرز ويلبس الجواري.

قوله: (أوضاح) جمع وضح بفتحتين نوع من حلي الفضة، سمي بذلك لبياضه، ولكنه هنا مستعمل فيما عمل من الذهب.

• الوجه الثالث: استدل بهذه الأحاديث من قال بوجوب الزكاة في الحلي إذا كان معدًا للاستعمال أو العارية، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وداود

(1)

، وابن حزم

(2)

، وجماعة من المتأخرين، منهم: الصنعاني

(3)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين

(4)

.

وهو ظاهر اختيار الحافظ، حيث اقتصر على أدلة هذا القول.

ومن أدلتهم أيضًا قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 34].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار

"

(5)

.

قالوا: فدلت الآية والحديث على وجوب زكاة الحلي، لعمومها لجميع أنواع الذهب والفضة، ومن ادعى خروج الحلي المباح من هذا العموم فعليه الدليل، وقالوا: إن المراد بالكنز في الآية ما لم تؤد زكاته، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره

(6)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الحلي المعد للاستعمال ليس فيه

(1)

"الاختيار"(1/ 110)، "معالم السنن"(2/ 176).

(2)

ابن حزم لا يستدل بهذه الأحاديث، بل أنكر على مَن يحتج بها، وإنما احتج بالعمومات. انظر:"المحلى"(6/ 92).

(3)

"سبل السلام"(2/ 263).

(4)

رسالة "وجوب زكاة الحلي" ضمن "الفتاوى"(18/ 157).

(5)

تقدم تخريجه أول "الزكاة".

(6)

"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 302).

ص: 440

زكاة، ومنهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو ثابت عن سبعة من الصحابة: جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وأنس، وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وأختها أسماء، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهم

(1)

، ولم يثبت لهم مخالف إلا ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول آخر له، لكن قال الحافظ: إسناده ضعيف جدًا

(2)

.

واختار هذا القول ابن خزيمة

(3)

، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

، وتلميذه ابن القيم

(5)

، واختاره من المتأخرين الشيخ محمد بن عبد الوهاب

(6)

، والشوكاني

(7)

، والشيخ محمد بن إبراهيم

(8)

، والشيخ عبد الله بن حميد

(9)

، وآخرون.

وألف عدد من المعاصرين رسائل نصروا فيها القول بأن الحلي المعد للاستعمال لا زكاة فيه، وهي رسائل مطبوعة.

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في الحلي زكاة". أخرجه البيهقي

(10)

والديلمي

(11)

، وابن الجوزري

(12)

، من طريق إبراهيم بن أيوب، عن عافية بن أيوب، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، به.

وهذا الإسناد لا بأس به، يرتقي إلى درجة الحسن لغيره؛ لأن إبراهيم بن أيوب، وهو الحوراني مختلف فيه، ولعل ما قيل فيه من ثناء محمول على

(1)

"المجموع"(5/ 492)، "المدونة الكبرى"(1/ 211)، "المغني"(4/ 321).

(2)

"الدراية"(1/ 259).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(4/ 34).

(4)

"الفتاوى"(25/ 8).

(5)

"إعلام الموقعين"(2/ 100 - 110).

(6)

مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب "الفقه"(1/ 239).

(7)

"السيل الجرار"(2/ 21).

(8)

"فتاوى ابن إبراهيم"(4/ 95).

(9)

"القول الجلي في زكاة الحلي" لابن بسام ص (16).

(10)

"المعرفة"(6/ 144).

(11)

"فردوس الأخبار"(3/ 439).

(12)

"التحقيق"(5/ 143).

ص: 441

عدالته في دينه، وما قيل فيه من تضعيف محمول على ضعف حفظه وضبطه. وعافية بن أيوب، قال فيه أبو زرعة:(لا بأس به). وهو ليس بمجهول، كما قال البيهقي، ولا ثقة، خلافًا لمن توسع في التعبير، وقد أعله البيهقي بالوقف

(1)

، فقد رواه ابن أبي شيبة موقوفًا على جابر رضي الله عنه بإسناد صحيح على شرط مسلم

(2)

. وهذا لا يؤثر عند من يستدل به، لجواز أن يكون الصحابي يسند الحديث مرة، ويفتي به مرة أخرى.

لكن قد يعل الحديث بتفرد عافية، وأنه يبعد أن يتفرد به أصحاب القرن الخامس فمن بعدهم دون المتقدمين!

2 -

أنه لم يرد في الحلي دليل صحيح بوجوب زكاته، والأصل براءة الذمة من الواجب حتى يثبت دليل ناقل عن ذلك، قال الحافظ ابن رجب: (وفي المسألة أحاديث من الطرفين لا يثبت منها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم

)

(3)

ولا تكفي العمومات في زكاة الذهب والفضة؛ لأنها ليست نصًا في المسألة لما يطرقها من تخصيص.

3 -

أن الزكاة فرضت في الأموال المعدة للنماء دون ما أعد للقنية والانتفاع؛ كمركون الإنسان وأثاب بيته، ونحو ذلك مما هو معد للاستعمال والقنية لا للتجارة والنماء كما تقدم والحلي داخل في ذلك، فإنه لا ينمو بل ينقص. وهذه قاعدة الزكاة فهي لا تجب إلا في الأموال النامية، فما خرج عن ذلك فلا زكاة فيه، وما ذلك إلا ليبقى الأصل وتؤخذ الزكاة من النماء والفضل، وهذا لا ينطبق على حلي المرأة.

وأجابوا عن أدلة القائلين بالوجوب بما يلي:

أولًا: أما الآية الكريمة، فعنها ثلاثة أجوبة:

1 -

لا نسلم أن الآية تدل على وجوب زكاة الحلي؛ لأن منطوقها يفيد

(1)

"المعرفة"(6/ 144).

(2)

"المصنَّف"(4/ 27).

(3)

"أحكام الخواتم" ص (196).

ص: 442

تحريم اكتناز اذهب والفضة إذا لم تؤد زكاتهما؛ لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] ومفهومها يدل على أن غير المكنوز منهما لا يجب إنفاق شيء منه، وما أعد للبس والاستعمال كالحلي والخاتم ونحوها لا يعد كنزًا؛ لأنه خرج بالاستعمال عن حد الاكتناز.

2 -

أن المراد بالذهب والفضة في الآية: الدراهم والدنانير، وقد نقل ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

، وذلك لأن النقود هي التي تكنز وتنفق، أما الحلي المعتاد المستعمل فلا يعتبر كنزًا، كما أنه ليس معدًا للإنفاق بطبيعته؛ بل هو معد للزينة.

3 -

سلمنا أن الآية دلت بعمومها على زكاة الحلي، لكن دخلها التخصيص بحديث جابر:" ليس في الحلي زكاة"، وعلى فرض أن الحديث فيه مقال فهو مؤيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم، كما دخلها التخصيص بالقياس كما تقدم فإنه من مخصصات العموم، كما في الأصول.

ثانيًا: حديث أبي هريرة: " ما من صاحب ذهب ولا فضة

" عنه ثلاثة أجوبة:

1 -

أن الحق المطلوب تأديته مجمل، والمجمل لا يعمل به قبل بيانه، ولم يرد في السنة ما يبين نوع الحق الواجب في الحلي، وإنما البيان الوارد فيما يتعلق بالأثمان من الذهب وهي الدنانير، والفضة وهي الورق والرقة والدراهم. وأما الحلي فهو خارج عن ذلك؛ لأن المراد به الزينة والتحلي لا الثمنية.

2 -

أن هذا الحديث جاء فيه ذكر الإبل والبقر والغنم، وهم لا يقولون بعمومه في ذلك وإلا لوجبت الزكاة في كل ما شمله بهيمة الأنعام من قليل أو كثير، سائمة ومعلوفة؛ لإطلاق الحديث وعدم تقييده، وعدم بيان القدر المطلوب، فقد ورد فيه لفظ:" لا يؤدي حقها" في الذهب والإبل

إلخ.

(1)

انظر: "تفسير ابن كثير"(4/ 83)، "الدر المنثور"(7/ 333).

ص: 443

ثم قال في بيان حق الإبل والبقر والغنم: " إطراق فحلها، وإعارة دلها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله"، فهذا يدل على أن الحق أعم من الصدقة المفروضة شرعًا، وهو تقديم نوع من أنواع الانتفاع، والأولى أن يكون معنى الحق واحدًا في الذهب والفضة، وفي الإبل والبقر والغنم، أما التفريق فلا دليل عليه. ولا ريب أن إعارة الحلي فيها نفع كبير للفقراء والمحاويج، بل نفع إعارته قد يفوق نفع دفع جزء منه.

3 -

أن الحديث على فرض شموله لزكاة الحلي فقد دخله التخصيص بما خصت به الآية، كما تقدم.

أما الأحاديث الثلاثة، وهي أحاديث البلوغ فقد تكلم العلماء في صحتها بناء على ما تقدم من الكلام في رواتها، فمنهم من ضعفها؛ كالشافعي والترمذي وابن العربي وابن حزم وابن الجوزي وآخرين

(1)

. وقالوا: هذه الأحاديث لا تقوم بها حجة، ولا يصح في هذا الباب شيء. ومنهم من صححها، وعلى ذلك فتكون عدم دلالتها على وجوب زكاة الحلي متجهًا إلى متنها لا إلى سندها، وذلك كما يلي:

1 -

أن ما ذكر من المسكتين وهما السواران والفتخات والأوضاح لا يبلغ النصاب ولا يقاربه، فقد تقدم أن النصاب من عيار (21) مثلًا (70 × 24= 80 غرامًا)، ولهذا روى أبو داود عن سفيان الثوري في حديث الفتخات، أنه سئل: كيف تزكي المرأة الخاتم وهو لم يبلغ النصاب؟ فقال: تضمه إلى غيره.

2 -

أن هذه الأحاديث فيها إجمال فلم يبين فيها مقدار الزكاة المأمور بأدائها، ولم يذكر فيها اشتراط النصاب ولا حولان الحول؛ بل ظاهر حديث عائشة أن اتخاذها للفتخات كان قريبًا من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحل عليها الحول.

(1)

"المجموع"(5/ 490)، "جامع الترمذي"(3/ 30)، "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 918)، "المحلى"(6/ 97)، "تنقيح التحقيق"(2/ 1425).

ص: 444

3 -

في حديث عمرو بن شعيب غرابة ونكارة في قوله: (فألقتهما) ولا يصح أن المال المزكى يدفع بكامله، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذًا رضي الله عنه عن أخذ كرائم الأموال.

والأظهر والله أعلم أن الحلي ليس فيه زكاة مفروضة لأمرين:

1 -

أنه قد انعقد الإجماع على أن الشرع قد عفا عن زكاة المنازل السكنية وأثاثها وعبيد الخدمة والبقر والإبل والعوامل، ومثلها سيارات الاستعمال ونحوها، والحلي داخل في ذلك، فيكون ملحقًا بثياب المرأة وأدوات زينتها، وملحق بالأواني التي تستعمل للطبخ والشرب وما أشبه ذلك لو كانت ثمينة، فالحلي متاع شخصي، وليس مالًا مرصدًا للنماء.

2 -

أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا تنقله الأمة، ولو كانت زكاة الحلي واجبة ما اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك لامرأة يخصها به عند رؤية الحلي عليها دون الناس، بل يكون حكمه حكم بقية الأموال الزكوية التي بينها لأمته، وبعث عماله لقبضها بعد بيان أنصبتها، وقد كان الحلي من فعل الناس في آباد الدهر، ومع ذلك لم يرد له ذكر في كتب الصدقات.

وقد أفتى عدد من الأئمة على أن زكاة الحلي عاريته، منهم الإمام أحمد

(1)

، ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال:(خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لسي في الحلي زكاة، ويقولون: زكاته عاريته)

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"مسائل ابنه عبد الله" ص (164)، "مسائل أبي داود" ص (78)، "مسائل ابن هانئ" ص (1/ 113).

(2)

"المغني"(4/ 221)، وانظر:"امتنان العلي بعدم زكاة الحلي" للشيخ: فريح بن صالح البهلال، "فقه زكاة الحلي" للدكتور: إبراهيم بن محمد الصبيحي.

ص: 445

‌زكاة عروض التجارة

623/ 25 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع. رواه أبو داود، وإسناده لين.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " العروض إذا كانت للتجارة هل فيها زكاة؟ " (1562) من طريق جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب قال: حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (أما بعد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا

) الحديث.

وهذا سند ضعيف، انفرد به أبو داود عن بقية أصحاب الكتب الستة، وفي إسناده مجاهيل، وهم: جعفر بن سعد بن سمرة، وشيخه خبيب بن سليمان، وشيخ شيخه سليمان بن سمرة، وقد ذكر الذهبي هذا الإسناد، وقال:(وبكل حال هذا إسناد مظلم، لا ينهض بحكم)

(1)

، وقال الحافظ:(في إسناده جهالة)

(2)

، وهو قريب من قوله هنا:(وإسناده لين).

على أن ابن حبان ذكر هؤلاء الرواة الثلاثة في " الثقات"، وقد نقل الزيلعي تحسين الحديث عن ابن عبد البر

(3)

، وجاء في " سنن الدارقطني"(2/ 127 - 128) ما يدل على أن هذا الحديث كان مكتوبًا مضبوطًا، ومعنى هذا أن سنده سند نسخة تداولها أهل بيت صاحبها، وهو الصحابي

(1)

"الميزان"(1/ 408).

(2)

"التلخيص"(2/ 179).

(3)

"نصب الراية"(2/ 376).

ص: 446

سمرة رضي الله عنه، ومن هنا رأى بعض الباحثين أنه لا يضر جهالة حالة رواتها؛ لأن الاعتماد حينئذ على النسخة لا على حفظ الصدر

(1)

، فإن كان هذا وجيهًا وإلا فالمعول على ما تقدم، وللحديث ما يؤيده من إجماع الصحابة رضي الله عنه، وما ورد عنهم من آثار، كما سيأتي إن شاء الله.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء يقصد الربح إذا بلغ نصاب أحد النقدين، من أي نوع من أنواع التجارة، سواء في السيارات أو الأطعمة أو الملابس أو الأواني أو المجوهرات أو العقار أو الحيوان أو أسهم الشركات، أو غير ذلك مما يدخل تحت هذا المعنى.

والحديث وإن كان ضعيفًا، لكن يؤيده عمومات، كقوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]، وقوله تعالى:{والذين في أمواله حق معلوم} [المعارج: 24]، ومال التجارة أعم الأموال؛ لأنه يشمل كل مال يتجر فيه من حيوان وسيارات وأقمشة وأطعمة، ونحو ذلك، فكانت أولى بالدخول.

كما يؤيده قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم

} [البقرة: 267]، وقد ذكر عامة أهل التفسير؛ كابن جرير الطبري والجصاص، وابن العربي، وغيرهم أن المراد بهذه الآية: زكاة العروض

(2)

، فإنها مما كسبه الإنسان، وأعظم الإنفاق وأوجبه هو الزكاة، وقد بوب البخاري في كتاب " الزكاة"، باب "صدقة الكسب والتجارة" ثم ذكر الآية

(3)

.

وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنه آثار تدل على وجوب زكاة العروض، فقد ورد عن عمر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنه بأسانيد صحيحة، والظاهر أن مثل

(1)

انظر: "الترجيح في مسائل الصوم والزكاة"(2/ 141).

(2)

"تفسير الطبري"(5/ 555)، "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 174)، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 235).

(3)

"فتح الباري"(3/ 307).

ص: 447

ذلك لا يقال بالرأي، ثم إنه لم ينقل ما يخالف ذلك عن صحابة آخرين، كما ذكر ابن عبد البر

(1)

، وهذا أمر مشتهر تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فعدم نقل الإنكار يؤكد إجماعهم.

ونقل ابن المنذر الإجماع على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول

(2)

. ونقله عنه ابن قدامة

(3)

، وأقره.

وذهبت الظاهرية إلى أن عروض التجارة ليس فيها زكاة

(4)

، ووافقهم على ذلك الشوكاني

(5)

، وتبعهم على ذلك الألباني

(6)

. وحجتهم أنه لم يثبت دليل في إيجاب زكاة العروض، والأصل براءة الذمة.

والصواب القول الأول؛ لقوة أدلته، وأما القول الثاني فقد ذكر أبو عبيد أنه ليس من مذاهب أهل العلم

(7)

. قال الخطابي: (وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهرية أنه لا زكاة فيها، وهو مسبوق بالإجماع)

(8)

.

وعلى هذا فلا اعتبار بمخالفة الظاهرية في هذه المسألة، لأنهم سبقوا بالإجماع، وقد قرر أهل العلم أنه لا عبرة بخلافهم المبني على أصولهم التي يخالفون فيها عامة أهل العلم

(9)

. وخلافهم هنا مبني على استصحاب براءة الذمة مع أنه وجد الدليل الناقل عنها، ثم إن القياس والاعتبار كما يقول ابن رشد يؤيد القول بوجوب زكاة العروض من وجهين:

الأول: أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الماشية والحرث والنقدين، بل غالب أموال الناس تجارة، فلو قلنا: ليس فيها زكاة، لسقطت الزكاة في جزء كبير من أموال المسلمين

(10)

.

(1)

"التمهيد"(17/ 130).

(2)

"الإجماع" ص (51).

(3)

"المغني"(4/ 248).

(4)

"المحلى"(5/ 233).

(5)

"الدرر البهية" ص (23)، "السيل الجرار"(2/ 26، 27).

(6)

"تمام المنة" ص (363).

(7)

"الأموال" ص (434).

(8)

"معالم السنن"(2/ 223).

(9)

انظر: "البحر المحيط"(4/ 471).

(10)

"بداية المجتهد"(2/ 75).

ص: 448

الثاني: أن العروض المتداولة للاستغلال هي نقود في المعنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، فلو لم تجب الزكاة في التجارة لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم الاتجار بنقودهم لئلا تلزمهم الزكاة.

وعلى ذلك فتقوم العروض من عقارات، وسيارات، وأدوات كهربائية، وملابس، وأواني منزلية، وأدوات مدرسية، ونحو ذلك، ويكون تقويمها آخر الحول، وتعرف قيمتها ثم يخرج ربع العشر من قيمتها، قياسًا على النقدين، ويكون تقويمها بالأحظ لأهل الزكاة من ذهب أو فضة.

وربح التجارة تابع للأصل، فلا يشترط له حولًا جديدًا؛ لأن المسلمين ما زالوا يخرجون زكاة تجارتهم دون أن يحذفوا ربح التجارة؛ ولأن الربح فرع، والفرع تابع للأصل.

ومثال ذلك: لو أن شخصًا اشترى أرضًا بمائة ألف، وعرضها للبيع، وقبل تمام الحول صارت تساوي مائة وخمسين، فيزكي عن مائة وخمسين، مع أن الربح ما حال عليه الحول؛ لأنه يتبع الأصل، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 449

‌زكاة الركاز

624/ 26 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وفي الركاز: الخمس". متفق عليه.

625/ 27 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربةٍ:" إن وجدته في قربة مسكونة، فعرفه، وإن وجدته في قربة غير مسكونة، ففيه وفي الركاز: الخمس".

أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن.

• الكلام عليهما من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " في الركاز"(1499)، ومسلم (1710) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" العجماء جيار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" وهذا لفظ البخاري.

وأما حديث عمرو بن شعيب، فقد أخرجه الشافعي (1/ 238 ترتيب مسنده)، والحاكم (2/ 56)، والبيهقي (4/ 154)، والبغوي في "شرح السنة"(6/ 58) كلهم من طريق سفيان، عن داود بن سابور ويعقوب بن عطاء، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

ص: 450

والحديث سنده حسن، قال الحافظ:(رواته ثقات)

(1)

، وأما غزوه لابن ماجه فهو وهم، من الحافظ، فإن الحديث ليس عند ابن ماجه، ولهذا لم يخرجه المزي في "تحفة الأشراف"، والحافظ في "التلخيص" عزاه الشافعي، ولم يعزه لابن ماجه

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الخمس في الركاز، وهو بكسر الراء، من ركزت الشيء: إذا دفنته.

وقد اختلف الفقهاء في معناه فالجمهور من الشافعية، والمالكية، والحنابلة أنه المال المدفون في الجاهلية

(3)

، وهم من كانوا قبل الإسلام، سواء أكان ذهبًا أم فضة أم غيرهما، وذك بأن توجد عليه علامات الجاهلية؛ كاسم ملك، أو مدة زمنية، ونحو ذلك؛ فإن لم يكن كذلك فإن عرف صاحبه أعلم به، وإلا فهو لقطة يأخذ حكمها، فيجب تعريفه سنة، لقوله:" وإن وجدته في قرية مسكونة فعرفه".

وعند الحنفية وآخرين، هو المال المركوز في الأرض، فيعم المعدم

(4)

، وعلى هذا فلا فرق عندهم بين الركاز والمعدن كما سيأتي إن شاء الله، لكن قوله:" والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" يقتضي أن الركاز غير المعدن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بالعطف المقتضي للمغايرة.

فالركاز فيه الخمس في الحال في قليله وكثيره، سواء أكان واجده مسلمًا أم ذميًا، صغيرًا أم كبيرًا، عاقلًا أم مجنونًا؛ لأن الحديث الذي أوجب الخمس فيه لم يفرق بين واجد وواجد، ولا يشترط له النصاب، ولا يعتبر له حول، لعدم الكلفة فيه، وقد جرت عادة الشرع أن ما عظمت كلفته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خفت زيد فيه؛ لقوله:" وفي الركاز الخمس" وباقيه ملك لواجده.

(1)

"الدراية"(1/ 262).

(2)

"التلخيص"(2/ 193).

(3)

"المنتقى" للباجي (2/ 104)، "المجموع، (6/ 91)، "المقنع" (2/ 363).

(4)

"شرح فتح القدير"(2/ 233)، "فقه الزكاة"(1/ 443).

ص: 451

والظاهر أن مصرفه مصرف الفيء، مرجعه إلى رأي إمام المسلمين يضعه حيثما تقتضيه مصلحة الدولة، وهو اختيار أبي عبيد

(1)

، وقيل: مصرفه مصرف الزكاة

(2)

، وعلى أي حال فالركاز أمر نادر الوقوع، فنكتفي بما ذكرنا، والله أعلم.

* * *

(1)

"الأموال" ص (350).

(2)

"المغني"(4/ 236)، "فقه الزكاة" ص (451).

ص: 452

‌زكاة المعادن

626/ 28 - عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ من المعادن القبلية الصدقة. رواه أبو داود.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الرحمن بلال بن الحارث المزني المدني، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد زينة سنة خمس، وسكن بالأشعر وراء المدينة وهو عبارة عن سلسلة جبلية مجاورة لينبع النخل من غريبه

(1)

، ثم تحول إلى البصرة.

وكان أحد من يحمل لواء مزينة يوم الفتح، روى عنه ابنه الحارث، وعلقمة بن وقاص، وعمرو بن عوف، مات سنة ستين، وله ثمانون سنة، رضي الله عنه

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مالك في " الموطأ"(1/ 248)، ومن طريقه أبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، باب "في إقطاع الأرض"(3061) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم.

وهذا خير مرسل؛ لأن قوله: (عن غير واحد) لفظ عام يحتمل أن الذين حدثوه صحابة، ويحتمل أنهم غير صحابة. وقد ورد عند البغوي: (عن غير

(1)

انظر: "المغانم المطابة في معالم طابة" ص (16).

(2)

"الاستيعاب"(2/ 36)، "الإصابة"(1/ 373).

ص: 453

واحد من علمائهم

)

(1)

، فهذا يدل على أنهم ليسوا بصحابة. قال ابن عبد البر:(هكذا هو في الموطأ عند جميع الرواة مرسلًا، ولم يختف فيه عن مالك)

(2)

.

ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: (ليس هذا مما يثبت أهل الحديث، ولو أثبتوه لم تكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه، فأما الزكاة في المعادن دون الخمس، فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه)

(3)

. وقال ابن حجر: (وفي الموطأ منقطعًا

)

(4)

ثم ذكره.

والحديث جاء موصولًا، كما ذكر ابن عبد البر، والبيهقي، لكنه ضعيف جدًا.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (اقطع بلال بن الحارث) أي: جعل له غلتها، يقال: قطع السلطان لفلان كذا، وأقطعه كذا، فتكون الهمزة معاقبة للام، والأشهر: قطعه.

قوله: (معادن) جمع معدن، بفتح الميم وكسر الدال، وهو لغة: المكان والموضع الذي تستخرج منه جواهر الأرض، مأخوذ من الإقامة، من عدن بالمكان: أقام به، ثم اشتهر إطلاقه على نفس الأجزاء المستقرة في الأرض.

وعند الفقهاء: كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة. وهذا تعريف الحنابلة

(5)

، وهو تعريف جيد، وبه يتبين الفرق بين الركاز وبين المعدن، فإن الركاز: ما كان بفعل آدمي، من ركزت الشيء إذا دفنته. والمعدن: نبات أنبته الله في الأرض وليس بوضع آدمي، وهذا التفريق هو رأي الجمهور. أما لحنفية ومن وافقهم فيرون أن المعدن ركاز، كما تقدم، ولذا يرون فيه الخمس.

(1)

"شرح السنة"(6/ 60).

(2)

"التمهيد"(3/ 236 - 237).

(3)

"السنن"(4/ 152).

(4)

"الدراية"(1/ 261).

(5)

"المغنى"(4/ 238).

ص: 454

والمعدن قد يكون صلبًا يذوب بالإذابة وينطبع بالنار

(1)

؛ كالذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس، ونحو ذلك، وقد يكون صلبًا لا يذوب؛ كالياقوت والكحل، ونحو ذلك، وقد يكون مائعًا، كالنفط والغاز

(2)

.

قوله: (القبلية) بفتح القاف والباء، مثل عربية؛ كأنه نسبة إلى القبل محركة وهو النشز من الأرض يستقبلك، موضع بناحية ساحل البحر الأحمر من منطقة الفرع في بلاد مزينة

(3)

.

والفرع: بضم أوله وسكون ثانيه، وآخره عين مهملة، وقيل: بضم أوله وثانيه، اسم قرية ذات نخيل ومياه، بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة

(4)

، ولا يزال معروفًا حتى اليوم على الطريق السريع بين مكة والمدينة.

• الوجه الرابع: استدل بالحديث من قال بوجوب الزكاة في المعادن المستخرجة من الأرض، والحديث تقدم ضعفه، لكن يدل على وجوب زكاة المعدن قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة: 267]، قال القرطبي:(يعني: النبات، والمعادن، والركاز)

(5)

، وقد نقل النووي الإجماع على وجوب الزكاة في المعادن

(6)

.

فتجب الزكاة في كل أنواع المعادن المتقدمة، وهي كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة؛ لعموم الآية؛ ولأن هذا يتمشى مع أحكام الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، وقد حصل في هذا العصر من الثروات المعدنية التي يقوم عليها اقتصاد العالم الشيء الكثير الذي لم يكن معروفًا من قبل، ولا سيما المعادن السائلة؛ كالنفط (البترول) والغاز، وهذا مذهب الإمام أحمد، كما تقدم في تعريف المعدن، وعند مالك والشافعي

(1)

معنى (ينطبع بالنار) أي: يقبل الطرق والسحب.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع"(2/ 67).

(3)

انظر: "المغانم المطابة" ص (332).

(4)

انظر: "المغانم المطابة" ص (315).

(5)

"تفسير القرطبي"(3/ 321).

(6)

"المجموع"(6/ 73).

ص: 455

والظاهرية لا يجب في شيء من المعدن زكاة غير الذهب والفضة

(1)

، وعند أبي حنيفة تجب الزكاة في المعادن التي تذوب وتنطبع بالنار؛ كالذهب والفضة والحديد والرصاص، ولا تجب في السائلة، ولا في الصلبة التي لا تنطبع بالنار كالياقون والكحل

(2)

.

وقول الحنابلة أقوى؛ فإنه مؤيد بالمعنى اللغوي كما تقدم، كما أنه مؤبد بالاعتبار الصحيح؛ إذ لا فرق بين ما ينطبع وما لا ينطبع، فكلها أموال ذات قيمة، ولو عاش أئمتنا رحمهم الله حتى أدركوا هذه الثروات المعدنية العظيمة، لصار لها موقف آخر مغعاير لاجتهادهم الأول.

والراجح اعتبار النصاب في المعدن، وذلك بأن يبلغ الخارج ما قيمته نصاب النقود، لكن لا يشترط في نصاب المعدن أن يخرج دفعة واحدة؛ بل ما نيل بدفعات يضم بعضه إلى بعض في الجملة؛ لأن المعدن لا ينال إلا هكذا غالبًا، ويبعد استخراج النصاب دفعه واحدة، والواجب فيه ربع العشر قياسًا على الواجب في النقدين؛ ولأن في إخراجه كلفة ومؤنة، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المنتقى"(2/ 103)، "المجموع"(6/ 77)، "المحلى"(6/ 108).

(2)

"بدائع الصنائع"(2/ 67)، "شرح فتح القدير"(2/ 239).

ص: 456

‌باب صدقة الفطر

المراد بصدقة الفطر: الصدقة التي يخرجها المسلم عن نفسه أو عن غيره في نهاية شهر رمضان، وقد وردت تسميتها بصدقة الفطر في حديث ابن عمر رضي الله عنه كما في بعض رواياته.

وقد أضيفت إلى الفطر، من باب إضافة الشيء إلى وقته؛ لأنه وقت وجوبها، كما يقال: صلاة الفجر وصلاة المغرب، وليست الإضافة بسبب الفطر كما قيل لأن سبب الوجوب كأنها عبادة لله، وطهرة للصائم، وطعمة للمساكين، كما سيأتي في آخر أحاديث الباب.

وتسمى زكاة الفطر، كما في حديث ابن عمر الآتي، وتسمى زكاة رمضان، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان

" الحديث

(1)

.

ويطلق عليها عموم الناس كلمة (الفطرة) بكسر الفاء ويرى النووي أنها كلمة اصطلاحية للفقهاء؛ وكأنها مأخوذة من الفطرة التي هي الخلقة؛ أي: زكاة البدن

(2)

، فليست الكلمة مما تحلن به العامة، كما قال بعضهم.

ويذكرها المحدثون والفقهاء في كتاب " الزكاة" دون كتاب " الصيام" مع ارتباطها به؛ لأنها من الوظائف المالية، لكنها تختلف عن بقية الزكوات؛ لأنها متعلقة بالأشخاص، وتلك متعلقة بالأموال، ولهذا لا يشترط لها ما يشترط للزكوات الأخرى من النصاب والحول، ونحو ذلك.

(1)

أخرجه البخاري (2311).

(2)

"المجموع"(6/ 103).

ص: 457

وقد فرضت صدقة الفطر مع فرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الإعلام" لابن الملقن (5/ 123).

ص: 458

‌حكم زكاة الفطر ومقدارها ونوعها

627/ 1 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير: على العبد والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه.

628/ 2 - ولابن عدي من وجه آخر، والدارقطني بإسناد ضعيف:" أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم".

629/ 3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب. متفق عليه.

وفي وراية: أو صاعًا من أقط.

قال أبو سعيد: " أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأبي داود: لا أخرج أبدًا إلا صاعًا.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " فرض صدقة الفطر"(1503)، ومسلم (984) من طريق نافع، عن ابن عمر، به مرفوعًا، وهذا لفظ البخاري.

ص: 459

وأما الحديث الثاني، فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل"(7/ 55) والدارقطني (2/ 152)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص (131)، من طريق أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج صدقة الفطر

وساق الحديث إلى أن قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها قبل أن ينصرف من المصلى، ويقول:"أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم".

وهذا سند ضعيف كما قال الحافظ، ولعل المراد ضعف هذه الزيادة فيه، وإلا فالحديث أصله صحيح كما تقدم، نبه على ذلك ابن عدي، والحديث فيه أبو معشر، وهو نجيح السندي المدني، ضعفه غير واحد، قال الأثرم عن أحمد:(حديثه عندي مضطرب، لا يقيم الإسناد، ولكن أكتب حديثه أعتبر به)، وقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال ابن معين:(كان أميًا ليس بشيء)

(1)

، وهذه الزيادة معناها صحيح، كما سيأتي إن شاء الله.

وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، في مواضع منها باب " صاع من زبيب"(1508)، ومسلم (985) من طريق زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، أنه سمع أبا سعيد رضي الله عنه يقول:

وذكر الحديث، وهذا لفظ البخاري.

وأخرجه البخاري (1506)، ومسلم (985) من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، به، وفيه:(أو صاعًا من أقط)، وقول أبي سعيد: (أما أنا

) إلخ هو عند مسلم، من طريق داود بن قيس، عن عياض، به، ولفظه:(قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت)، وله من طريق ابن عجلان، عن عياض: (لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

).

وعند أبي داود (1618) من طريق ابن عجلان سمع عياض قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: (لا أخرد أبدًا إلا صاعًا

) الحديث.

(1)

"تهذيب التهذيب"(10/ 374).

ص: 460

الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (فرض) أي: أوجب إيجابًا مؤكدًا؛ لأن الفرض في اللغة معناه: القطع والحز والتقدير.

قوله: (صاعًا من تمر) بدل أو عطف بيان من (زكاة الفطر)، والصاع: مكيال يسع أربعة أمداد، والمد: يزن خمسمائة وستين جرامًا من البر الجيد، فيكون الصاع كيلوين وربع الكيلو، وتقدم ذكر ذلك.

قوله: (أن تؤدى) أي: أن توصل إلى مستحقيها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد.

قوله: (كنا نعطيها) أي: نعطي زكاة الفطر الفقرء.

قوله: (صاعًا من طعام) أي: مما يطعمه الناس، وهو مجمل يفسره ما بعده.

قوله: (من زبيب) هو العنب الجاف بمنزلة التمر في ثمر النخل.

قوله: (اقط) بفتح الهمزة وكسف القاف أو سكونها: لبن الغنم المطبوخ المجفف.

قوله: (لا أخرج أبدًا إلا صاعًا) أي: إن أبا سعيد التزم ألا يخرج إلا صاعًا، سواء أكان من بر أم من غيره، وغرضه بذلك بيان أنه لا يوافق معاوية على ما رآه من إجزاء نصف صاع من قمح، كما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد وفيه: (فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مدًا من هذه يعدل مدين

)، والمعنى: أنه لما جاء معاوية إلى المدينة حاجًا أو معتمرًا أثناء خلافته، وكثرت السمراء، وهي حنظة تأتي من الشام لونها أسمر رأى معاوية أن مدًا من هذه الحنطة يعادل مدين من غيرها؛ لكوها نفيسة عند الناس، فيكون نصف الساع منها مجزئًا في الفطرة، لكن أبا سعيد رضي الله عنه أنكر هذا

والتزم بالاستمرار على إخراج صاع من أي طعام كان، كما كان يخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن زكاة الفطر فرض على كل

ص: 461

مسلم، ذكرًا كان أم أنثى، حرًا أو عبدًا، صغيرًا أو كبيرًا، وهذا أمر مجمع عليه، كما نقله ابن المنذر

(1)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مقدار زكاة الفطر صاع من طعام، سواء كان تمرًا أو شعيرًا، أو زبيبًا، أو أقطًا.

ويجزئ كل طعام يقتاته الناس كالأرز، وإنما خصت الأصناف الأربعة بالذكر؛ لأنها كانت طعام الناس في عهد النبي صلى الله عله وسلم، لما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:(كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا من الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر)

(2)

.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن إخراج غير الطعام من الدراهم وغيرها لا يجزئ في الفطرة، وهذا مذهب الجمهور؛ لأنه خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأصناف المذكورة أو من الطعام عمومًا؛ ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم؛ ولأن ذلك يخرج زكاة الفطر عن كونها شعرية من شعائر الإسلام الظاهرة إلى كونها شعيرة خفية؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء مختلفة القيمة، فدل على أن المراد بها الأعيان لا ثمنها

(3)

.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري

(4)

؛ لعموم: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم"، والإغناء يتحقق بالقيمة كما يتحقق بالطعام.

• الوجه السادس: الحديث دليل على وجوب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد؛ لقوله: " وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، والأفضل أن تكون في صباح يوم العيد؛ لأن المقصود الأعظم منها استغناء

(1)

"الإجماع" ص (49).

(2)

"صحيح البخاري"(1510).

(3)

"معالم السنن"(2/ 219).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 147)، "الاختيار"(1/ 102)، "المغني"(4/ 295).

ص: 462

الفقراء بها عن السؤال يوم العيد، ومشاركة الأغنياء في الفرح بهذا اليوم.

ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين، لحديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدم، وفيه:(وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين)، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 463

‌بيان الحكمة من زكاة الفطر ووقت إخراجها

630/ 4 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر؛ طهرة للصائم من اللغو، والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم.

• الكلام عله من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب "زكاة الفطر"(1609)، وابن ماجه (1827)، والحاكم (1/ 409) من طريق، مروان بن محمد، ثنا أبو يزيد الخولاني، وكان شيخ صدق

(1)

، وكان ابن وهب يروي عنه، ثنا سيار بن عبد الرحمن، قال محمود: الصدفي

(2)

، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، به مرفوعًا، ورواه ابن ماجه (1827)، والحاكم (1/ 409) من طريق مروان بن محمد، به.

وهذا سند حسن، كما قال ابن قدامة

(3)

، والنووي

(4)

،

(1)

القائل: هو مروان بن محمد، كما يدل على ذلك رواية الحاكم من طريق محمود بن خالد، ثنا مروان، ثنا يزيد بن مسلم، وكان شيخ صدق، وليس من كلام عبد الله بن عبد الرحمن؛ إذ لو كان كذلك لما ذكر في رواية محمود بن خالد.

(2)

أي إن محمود بن خالد شيخ أبي داود، وصف ابن سيار بأنه الصَّدَفِي، وكذا وُصِفَ عند ابن ماجه، نسبة إلى صَدَفَ، قرية في تونس قرب القيروان. "معجم البلدان"(3/ 397).

(3)

"المغني"(4/ 284).

(4)

"المجموع"(6/ 126).

ص: 464

وابن الملقن

(1)

، ورجاله لا بأس بهم، قال الدارقطني:(ليس فيهم مجروح)

(2)

.

وأما قول الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه) ففيه نظر؛ لأن أبا يزيد الخولاني وسيار بن عبد الرحمن لم يخرج لهما الشيخان.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على الحكمة من مشروعية زكاة الفطر، وهما حكمتان عظيمتان:

الأولى: تتعلق بالصائم، وهي تطهيره من اللغو، وهو كل ما لا فائدة فيه من القول أو الفعل تعود على الشخص في الدين أو الدنيا، مكروهًا كان أو مباحًا؛ كالهزل واللعب والمبالغة في الشهوات، وغير ذلك.

وتطهيره من الرفث: وهو الفحش في القول، وهو المراد هنا، ويطلق على الجماع أيضًا. وكانت زكاة الفطر طهرة للصائم مما ذكره؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.

الثانية: تتعلق بالمجتمع، وهي قوله:" طعمة للمساكين" وطعمة بضم الطاء وسكون العين: وهو الطعام الذي يؤكل. وفي هذا إشاعة المحبة والفرح بين أفراد المجتمع، ولا سيما المساكين وأهل الحاجة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن وقت إخراج زكاة الفطر هو ما قبل صلاة العيد، فمن أخرجها فهي زكاة مقبولة يثاب عليها ثوابًا كاملًا؛ لأنه امتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في قوله:"وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". وأما من أداها بعد الصلاة فليست بزكاة فطر؛ وإنما هي صدقة من سائر الصدقات، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الإعلام"(5/ 118).

(2)

"السنن"(2/ 138).

ص: 465

‌باب صدقة التطوع

صدقة التطوع: مركب إضافي، من إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأن الصدقة قد تكون فرضًا، وهي الزكاة المفروضة، وقد تكون تطوعًا، وقد جرت عادة أهل العلم بذكر الصدقات النافلة بعد الفريضة.

والتطوع لغة: فعل الطاعة.

وشرعًا: كل طاعة ليست بواجبة، والمراد بصدقة التطوع: ما يخرجه الإنسانا من ماله على وجه القربة، وهي أعم من الزكاة، وقد تطلق عليها أيضًا.

والصدقة فضلها عظيم، وثوابها جزيل، كما سياتي في أحاديث الباب، ويترتب عليها من الفوائد والمصالح الشيء الكبير، ولهذا حث الله تعالى عليها وأمر بها ورغب فيها. قال تعالى:{من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعفًا كثيرة} [البقرة: 245]، وقال تعالى:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 280].

وصدقة التطجوع تكون في الفقراء والمحاويج، وتكون في المعسرين من الغرماء، وتكون في مشاريع الخير؛ من تعمير المساجد، والمدارس، وإصلاح الطرقات، ونحو ذلك.

ولها فوائد عظيمة:

1 -

أنها باب عظيم من أبواب التكافل الاجتماعي كما تقدم.

2 -

أنها دليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، والطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله تعالى.

3 -

أنها سبب لحفظ الإنسان في ماله وبدنه.

4 -

أنها كغيرها من التطوعات طريق موصل إلى محبة الله ورضوانه.

ص: 466

‌إخفاء صدقة التطوع

631/ 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

" فذكر الحديث، وفيه: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخرجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، منها كتاب " الزكاة"، باب " الصدقة باليمين"(1423)، ومسلم (1031) من طريق خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عينها". وقد اقتصر الحافظ على موضع الشاهد من الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سبعة) أي: سبعة أشخاص أو سبعة أنفس، فهو على حذف مضاف إليه، ولذا صح الابتداء به، ومفهوم العدد ليس بحجة على الصحيح، بدليل أن الذين يظلهم الله أكثرمن ذلك، كما في حديث أبي اليسير رضي الله عنه أن النيبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أنظر معسرًا أو وضع له، أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (3006).

ص: 467

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"

(1)

.

قوله: (يظلهم الله في ظله) هذه الإضافة للتشريف؛ كبيت الله، وهذا ظل حقيقي حيث يكون هؤلاء السعداء تحت ظل الله تعالى، فلا يمسهم حر الشمس ولا وهجها؛ لأن الله تعالى يظلهم في ظله؛ إذ لا أحد يملك الظل غيره في ذلك اليوم. وقد ورد تقييد هذا الظل بانه ظل العرش في حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

، وكذا ورد من حديث سلمان:" سبعة يظلهما لله في ظل عرشه"

(3)

، وبهذا جزم القرطبي

(4)

، ورجحه الحافظ ابن حجر

(5)

.

قوله: (إمام عادل) المراد به: الحاكم أو السلطان، ويشمل أيضًا القاضي، وكل من له ولاية على غيره. وقدمه في الذكر؛ لعموم النفع به وتعديه إلى غيره، والعادل: اسم فاعل من عدل، والعدل: هو وضع الشيء في موضعه بدون إفراط ولا تفريط، فالعادل من يحكم بين الناس بالعدل فلا يميل مع هوى ولا يرتشي بمال.

قوله: (وشاب نشأ في عبادة الله) أي: نبت وابتدأ، خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة، لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإذا لازم العبادة مع ذلك كان أدل على غلبة التقوى.

قوله: (معلق في المساجد) أي: محب لها حبا شديدا، فهو ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فيحافظ عليها ويصليها مع الجماعة في المسجد، وهذا

(1)

أخرجه مسلم (2566).

(2)

رواه الطحاوي في "شرح المشكل"(15/ 71) وفي سنده انقطاع. وانظر كلام الطحاوي في هذه المسألة.

(3)

عزاه الحافظ في "فتح الباري"(2/ 144) إلى "سنن سعيد بن منصور" وقال: (بإسناد حسن) وقد ساق السيوطي إسناده عند سعيد، وحسنه في رسالته:"تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش" ص (35).

(4)

"المفهم"(3/ 75).

(5)

"فتح الباري"(2/ 144).

ص: 468

فيه كناية لطيفة، فقد كنى عن ملازمته للمسجد وتردده عليه ومحافظه على الصلاة بالجماعة بتعلق قلبه في المساجد، وهذه كناية عن صفة.

قوله: (ورجلان تحابا في الله) أي: اشتركا في جنس المحبة، وأحب كل منهما صاحبه حقيقة لا ظاهرًا فقط، و (في) تعليلية؛ أي: لأجل الله تعالى، لا لغرض دنيوي.

قوله: (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) الضمير يعود إلى الحب في الله، والمراد أنهما داما على المحبة لم يقطاعها لعارض دنيوي بل بقيا على ذلك حتى الموت. وعدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان؛ لأنها لا تتم إلا باثنين. والغرض عد الخصال لا عد جميع المتصف بها.

قوله: (ذات منصب وجمال) أي: أصل وشرف ومال وجمال، ومعنى "دعته": أي: طلبته إلى الفاحشة والزنا بها، فهي كناية عن صفة، وخص النبي صلى الله عليه وسلم ذات الشرف والجمال لشدة رغبة الناس فيها وحرصهم عليها.

قوله: (إني أخاف الله) الخوف من الله: هو الرهبة من عذابه؛ وكأنه قال ذلك ليزجرها عن الفاحشة بتذكيرها بالله، أو ليعتذر إليها، ولا يصدر ذلك إلا عن خوف من الله تعالى، ومتين تقوى وحياء.

قوله: (تصدق بصدقة) التنكير يشمل كل ما يتصدق به، من قليل وكثير، وهل يشمل ذلك الصدقة الواجبة والمندوبة؟ يأتي ذلك إن شاء الله.

قوله: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) هذا من مجاز التشبيه، فقد شبه اليد اليمنى بإنسان، واليد اليسرى بإنسان آخر، والمراد بذلك: التدليل على شدة إخفائه الصدقة والإسرار بها بحيث لو فرض أن الشمال رجل متيقظ وتصدق الإنسان بيمينه لما شعر ذلك الرجل عن شماله.

وقد جاء في رواية مسلم: " حتى لا تعلم يمنيه ما تنفق شماله" وهذا قلب في المتن وقع من بعض الرواة. قال القاضي عياض: (كذا روي عن مسلم هنا في جميع النسخ الواصلة إلينا، والمعروف الصحيح: "حتى لا تعلم شماله ما

ص: 469

تنفق يمينه"، وكذا وقع في الموطأ والبخاري، وهو وجه الكلام؛ لأن النفقة المعهود فيها اليمين، ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم، بدليل إدخاله بعده حديث مالك

)

(1)

.

قوله: (ذكر الهل) إما من الذكر بكسر الذال فهو باللسان، أو من التذكر بالفكر والقلب، أي: تذكر عظمة الله

فبكى من خشية الله تعالى.

قوله: (خاليًا) حال من فاعل ذكر. أي: في موضع خالٍ بعيدًا من الناس؛ ليكون أبعد من الرياء، والسمعة، وأقرب إلى الإخلاص.

قوله: (ففاضت عيناه) أي: سالت منها الدموع؛ كأنها فيض لغزارتها، وهذا دليل على الخوف من الله تعالى، وقوة اليقين به سبحانه.

وهذا فيه مجاز مرسل؛ أي: فاضت عينينه؛ لأن العين لا تفيض؛ إنما يفيض الدمع فيها، فأسند الفيض إلى العين مبالغة، كأنها هي التي فاضت.

واعلم أن ذكر الرجل في هذا الحديث لا مفهوم له فيما ذكر من الأوصاف، إلا أن أريد بالإمام العادل: الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة، حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم، ويخرج خصلة ملازمة المسجد؛ لأن صلاتها في بيتها أفضل، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن.

• الوجه الثالث: هذا الحديث عظيم القدر، كثير الفوائد، ولهذا شرحت ألفاظه، وقد بين فيه أحوال هؤلاء السعداء يوم القيامة، ولعل في ذلك دروسًا تربوية لكل مسلم يسعى لنيل هذه الكرامة الإلهية والسعادة الأبدية، فيقدم من الأعمال الصالحة ما يكون سببًا لنيل هذه المكانة.

يقول ابن عبد البر: (هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال، وأعمها وأصحها إن شاء الله، وحسبك به فضلًا؛ لأن العلم محيط بأن من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف .. )

(2)

.

(1)

"إكمال المعلم"(3/ 563).

(2)

"التمهيد"(2/ 282).

ص: 470

ولهذا أفرد هذا الحديث بمؤلفات مستقلة، فالحافظ ابن حجر له كتاب " معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال"، ذكره في " فتح الباري" وللسيوطي كتابان مطبوعان:" تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش"، ثم اختصره وسماه: " بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال).

• الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل الإمام العادل، والشاب الناسك الذي نشأ في طاعة الله تعالى، وفضل المشي إلى المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وفضل المتاحبين في الله تعالى، وفضل العفة والبعد عن مواقعة الفاحشة، وفضل البكاء من خشية الله.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على فضل الصدقة، والحرص على إخفائها؛ لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء، كما أن في إخفائها احترامًا لشعور الفقير الذي يرغب غالبًا في إخفاء ما يعطى خشية احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه يأخذ مع الغنى، أو نحو ذلك، وقد خص كثير من أهل العلم الإسرار بصدقة التطوع، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل.

والظاهر والله تعالى أعلم أن حال الصدقة يختلف باختلاف الأحوال، فإذا كان المتصدق ممن يقتدى به ويتبع، وتتبعث الهمم على التطوع بالإنفاق إذا رأته ينفق، فالإظهار أولى كما يحصل في بعض المشاريع الخيرية، عندما يدعى بعض من يقتدى به إلى الإنفاق، ويحصل ذلك فائدة إظهار السنة وثواب القدوة، وهذا لمن قويت حاله، وحسنت نيته، وأمن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسر له أفضل، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 471

فضل صدقة التطوع

632/ 2 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس". رواه ابن حبان، والحاكم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن حبان (8/ 104)، والحاكم (1/ 416) من طريق عبد الله بن المبارك، عن حرملة بن عمران، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدث أن أبا الخير

(1)

قد حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس" أو قال: " حتى يحكم بين الناس".

قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكة ولو بصلة. هذا لفظ ابن حبان، وعند الحاكم:"يفصل".

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل صدقة التطوع، وأن لها شأنًا، وأنها من أسباب الظل والوقاية من حر الشمس يوم القيامة؛ لأن الشمس تدنو من الناس يوم القيامة، وحرها شديد، وهي بعيدة، فكيف إذا دنت؟!

(1)

هو مرثد بن عبد الله اليزنى.

ص: 472

وقد روى مسلم من طريق سليم بن عامر، حدثني المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل"، قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين

الحديث

(1)

.

ولكن الله تعالى بقي أولياءه، وأهل طاعته حرها وأذاها بالأعمال الصالحة التي دلت عليها نصوص الشريعة، ومن ذلك الصدقة.

• الوجه الثالث: ظاهر الحديث أن هناك ظلًا غير ظل العرش على الرواية المتقدمة، لقوله:" في ظل صدقته" وأجيب عنه بجوابين:

الأول: أن هناك ظلالًا بحسب الأعمال، تظل صاحبها حر الشمس وأنفاس الخلائق، ولكن ظل العرش أعظمها وأشرفها بخص الله به من شاء من عباده.

الثاني: أنه ليس هناك إلا ظل العرش يستظل به المؤمنون أجمع، لكن لما كانت تلك الظلال لا تنال إلا بالأعمال، وكانت الأعمال تختلف، حصل لكل عامل ظل يخصه من ظل العرش بحسب عمله، وسائر المؤمنين شركاء في ظله

(2)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (2864).

(2)

"شرح الموطأ" للزرقاني (4/ 332).

ص: 473

ب‌

‌بيان أن أفضل الصدقة

ما وافق حاجة المتصدق عليه

633/ 3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمإ سقاه الله من الرحقيق المختوم". رواه أبو داود، وفي سنده لين.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " فضل سقي الماء"(1682) من طريق أبي خالد الدالاني، عن نبيح، عن أبي سعيد رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وهذا إسناد ضعيف، أبو خالد الدالاني - نسبة إلى بني دالان بطن من همدان - صدوق يخطئ كثيرًا، وكان يدلس

(1)

.

ونبيح، وهو ابن عبد الله العنزي، ذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيسٍ. وقال أبو زرعة:(ثقة، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس). وقال العجلي: (كوفي، ثقة). وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

. وصحح الترمذي حديثه، وكذا ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان.

(1)

"تهذيب التهذيب"(12/ 89).

(2)

"الثقات"(5/ 484)، "تاريخ الثقات" ص (448)، "تهذيب التهذيب"(10/ 372).

ص: 474

والحديث ضعفه الألباني

(1)

. وقد جاء من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا. ورجح الترمذي وقفه. وذكره ابن أبي حاتم في " العلل" ونقل عن أبيه قوله:(الصحيح موقوف، الحفاظ لا يرفعونه)

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على الحث على التحلي بهذه المكارم العظيمة، الدالة على محبة البذل والعطاء ابتغاء الأجر والثواب، وعلى أن من فعل شيئًا يجازى بمثله يوم القيامة، {جزاء من ربك عطاء حسابًا} [النبأ: 36]، {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]، فمن كسا كسي من ثياب الجنة الخضر، وهي أنفس ثيابها وأغلاها، ومن أطعم أطعم من ثمار الجنة، ومن سقى سقي من الرحيق المختوم بالمسك، والرحيق: صفوة الخمر الذي لا غش فيه.

والحديث وإن كان إسناده ضعيفًا، لكن معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل والجنة دار الكرامة ودار النعيم، ودار الجزاء والإحسان، والله تعالى يجازي العامل بعمله وأكثر من عمله تفضلًا منه عز وجل.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن أفضل الصدقة ما وافق حاجة في المتصدق عليه، كأن يكسو مسلمًا على عري، وهي الحاجة إلى الثوب لدفع حر أو برد أو لتجمل؛ وإن لم يكن مكشوف العورة، أو يطعم مسلمًا محتاجًا إلى الأكل، أو يسقي مسلمًا على ظمًا فيعطيه ما يشربه أو يتسبب له بوسيلة من سائل التبريد المعروفة، فإنه كلما كانت الحاجة أشد كان النفع أعظم.

وعلى المسلم أن يتحرى ذلك وينظر ما يناسب كل وقت من الصدقات، فإذا كان وقت الشتاء ناسب التصدق بالأغذية والأغطية والألبسة التي تدفئ الجسم؛ وإن كان صيفًا ناسب التصدق بوسائل التبريد من مكيف وبرادة ماء، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"تخريج المشكاة"(1/ 597).

(2)

"العلل"(2007).

ص: 475

‌بيان أي الصدقة أفضل

634/ 4 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله". متفق عليه، واللفظ للبخاري.

635/ 5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال:" جهد المقل، وابدأ بمن تعول". أخرجه أحمد، وأبو داود، صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " لا صدقة إلا عن ظهر غنى"(1427)، ومسلم (1034) من طريق وهيب

(1)

، حدثنا هشام، عن أبيه، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (14/ 324)، وأبو داود في كتاب " الزكاة"، باب "في الرخصة في التصدق بجميع المال"(1677)، وابن خزيمة (2444)، وابن حبان (3335)، والحاكم (1/ 414) من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا.

(1)

وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي.

ص: 476

وهذا إسناد صحيح. قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، لكن تعقبه ابن عبد الهادي فقال:(ليس كذلك فإن يحيى بن جعدة لم يرو له مسلم، ولكن وثقه أبو حاتم وغيره)

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (اليد العليا) هي يد المعطي.

قوله: (اليد السفلى) هي يد السائل، وقد ورد هذا التفسير وما قبله في عدد من الأحاديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: في الإعطاء والإنفاق ابدأ (بمن تعول) وهم أهل بيتك الذين تنفق عليهم.

قوله: (عن ظهر غنى) أي: ما كان المتصدق به غير محتاج إليه لنفقة عياله وأهله، ولا يحتاجه لسداد دين عن نفسه، وقد ذكر الخطابي أن لفظ (الظهر) يزاد في مثل هذا إشباعًا للكلام.

قوله: (ومن يستعفف يعفه الله) أي: من يطلب العفة واجتناب السؤال (يعفه الله) أي: يوفقه للعفاف ويغنيه عما في أيدي الناس، وييسر له حاجته.

قوله: (ومن يستغن يغنه الله) أي: ومن يستغن بما عنده قل أو كثر ويقتنع به، ويقطع الطمع من نفسه، ويظهر الغنى، فإن الله تعالى يرزقه الغنى عن الناس فلا يحتاج إلى أحد، بل يسد حاجته ويقنعه؛ لأن النفس إن أرسلتها استرسلت؛ وإن فطمتها وقفت وانفطمت.

قوله: (جهد المقل) الجهد بالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة، والمراد هنا الأول، ومعناه: ما يحتمله حال القليل المال. والمقل بضم الميم وكسر القاف: قليل الماء.

وهذا لا ينافي ما قبله من أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في الصبر على الفاقة والشدة والاكتفاء

(1)

"المحرر"(1/ 388).

ص: 477

بأقل الكفاية، وذلك أن من كان ماله أقل ثم جاد فهو أفضل ممن كان ماله كثيرًا، فمن اتسعت أمواله وتصدق بألف دينار فإنها لا تقاس بمن تصدق بدينار يكون هو الفاضل عن حاجته، فإنه كلما دعت الحاجة إلى المال وجاد به كان ذلك دليلًا على رغبته فيما عند الله تعالى وطلب ثوابه ورضوانه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الصدقة، والترغيب في البذل والإنفاق.

• الوجع الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يبدأ بنفقة عياله وأهله ومن تجب عليه نفقتهم.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن أفضل الصدقة ما كان عن سعة وفضل وغنى بعد أن يؤدي ما يلزمه نحو أهله وأولاده ثم يجود بعد ذلك على البعيدين. قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العقو} [البقرة: 219].

والعفو: ما فضل وزاد عن الحاجة، كما قاله غير واحد من السلف

(1)

.

• الوجه السادس: الحديث دليل على استحباب التعفف عما في أيدي الناس، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله؛ بل يثق بربه ويتوكل عليه، ومن استعف عما في أيدي الناس وجاهد نفسه فإن الله تعالى يغنيه بأن يسد حاجته وخلته، ويجعل في قلبه القناعة والغنى، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"

(2)

.

والهدى: هو العلم النافع. والتقى: العمل الصالح وترك المحرمات كلها، وهذا صلاح الدين، وتمام ذلك بصلاح القلب وطمأنينته بالعفاف عن الخلق والغنى بالله تعالى، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"تفسير ابن كثير"(1/ 373).

(2)

أخرجه مسلم (2721) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 478

‌ما جاء في أن النفقة الواجبة

مقدمة على التطوع

636/ 6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: " تصدقوا"، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال:" تصدق به على نفسك" قال: عندي آخر، قال:" تصدق به على ولدك"، قال: عندي آخر، قال:" تصدق به على خادمك"، قال: عندي آخر، قال:" أنت أبصر". رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " في صلة الرحم"(1691)، والنسائي (5/ 62)، وابن حبان (8/ 126)، والحاكم (1/ 415) من طريق محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار. فقال:

فذكر الحديث.

وهذا لفظ أبي داود، ولفظ " البلوغ" هو لفظ أحمد (12/ 381)، وفي جميع المصادر جملة سقطت من "البلوغ": (قال: عندي آخر. قال: "تصدق به على زوجك". لكن في " المسند" بعد قوله: " على نفسك"، وعند أبي داود بعد قوله:" على ولدك".

وهذا سند حسن. قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.

ص: 479

وهذا فيه نظر، فإنه ليس على شرط مسلم؛ لأن ابن عجلان لم يحتج به مسلم في الأصول، وإنما في الشواهد، وقد نقل الذهبي نفسه عن الحاكم أنه قال عن ابن عجلان:(أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثًا كلها شواهد)

(1)

. وقد ذكر الذهبي أنه صدوق متوسط الحفظ، فهو حسن الحديث.

وقال الحافظ في " التقريب": (صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل النفقة على الزوجة والأولاد ومن تحت يد الإنسان من الخدم ونحوهم ممن يمونهم الإنسان، وأن هذه النفقة بمثابة الصدقة، وأن صاحبها مأجور عليها إذا استحضر النية في ذلك؛ لأن مثل هذه النفقات تكون غابًا بدافع المودة والشفقة، والدافع الغريزي.

وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة"

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك

(3)

"، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"الميزان"(3/ 664).

(2)

أخرجه البخاري (55)، ومسلم (1002).

(3)

أخرجه مسلم (995).

ص: 480

‌بيان أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها

637/ 7 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها، غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا".

متفق عليه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع منها: كتاب " الزكاة"، في عدة أبواب منها: باب " من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه"(1425)، ومسلم (1042) من طريق شقيق، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا، والحديث ورد بعدة ألفاظ.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يجوز للزوجة أن تنفق من طعام بيتها ولو لم تستأذن زوجها في ذلك؛ لأن الموضع موضع بيان، ولو كان الإذن شرطًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا محمول عند الفقهاء من الحنفية والشافعية، والمذهب عند الحنابلة على الشيء اليسير الذي جرت العادة بالسماح به، مثل: الرغيف، وزائد الطعام المطهي، وبقية الفاكهة، ونحو ذلك مما يتسامح فيه الناس، وجرى العرف برضا الزوج في مثله، فيكون إذنه في ذلك حاصلًا ولو لم يتكلم.

وشرط ذلك أن تكون غير مفسدة؛ أي: بلا إسراف ولا تبذير؛ كإعطاء ما لم تجر العادة بإعطائه، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يخل بنفقة زوجها ومن يعوله.

ص: 481

وقد قيد بالطعام؛ لأن الذي يتسامح به عادة بخلاف النقود؛ فإن إنفاق المرأة منها لا يكون إلا بعد إذن صريح من الزوج.

• الوجه الثالث: ظاهر الحديث أن المرأة إذا أنفقت من طعام بيتها فلها الأجر كاملًا كما أن لزوجها الأجر كاملًا لأن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، فالزوج له نصيب بكسبه، والمرأة لها نصيب بعملها وتصدقه، ومثل ذلك الخادم، ولا يزاحم أحدهما الآخر؛ لأن فضل الله عظيم.

لكن ورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره، فلها نصف أجره"

(1)

، وهذا يدل على أن لها نصف الأجر.

ولعل المراد والله أعلم أنها إذا أنفقت بإذن زوجها صار لها الأجر كاملًا، وعلى هذا يحمل حديث عائشة رضي الله عنها، وإذا أنفقت بدون إذنه صار لها نصف الأجر؛ فإن عرفت منه عدم الإذن أو صدر منه نهي صريح فليس لها أن تنفق، وليس لها أجر بل عليها وزر؛ لأنها تصرفت في مال غيرها بلا إذنه، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (2066) واللفظ له، وأخرجه مسلم (1026) بزيادة في أوله.

ص: 482

‌حكم إعطاء الزوجة صدقتها لزوجها

638/ 8 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت زينب امرأة ابن مسعود، فقالت: يا رسول الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم". رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " الزكاة على الأقارب"، (1462) من طريق محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة، فقال:" أيها الناس تصدقوا" فمر على النساء فقال: " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء؟ ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: " أي الزيانب؟ " فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: " نعم ائذنوا لها" فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة

الحديث.

• الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بجواز صرف الزوجة

ص: 483

زكاتها إلى زوجها المحتاج. وهذا قول الشافعي، وأحمد في الرواية المعتمدة في المذهب، وصاحبي أبي حنيفة، والثوري، وابن المنذر، واختاره الشوكاني. وحملوا هذا الحديث على الصدقة الواجبة، لقولها:(أفيجزئ عني؟)

(1)

، كما في رواية البخاري

(2)

.

وحمل آخرون الصدقة في هذا الحديث على صدقة التطوع؛ لقولها: (كان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به) ولم تقل: أتصدق منه أو أزكية؛ ولأن فعلها هذا كان بعد أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحث على عموم الصدقة، فبادرت رضي الله عنها بما عندها.

وأما قولها: (أفيجزئ عني) فالمراد به في الوقاية من النار؛ كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحقق لها المقصود من تحصيل الثواب ودرء العقاب.

قال ابن الهمام: (المعنى: هل يكفي التصدق عليه في تحقيق مسمى الصدقة وتحقيق مصودها من التقرب إلى الله تعالى)

(3)

.

وهذا اختيار ابن قدامة، والنووي، وابن حجر، وآخرين. قالوا: المراد بالحديث صدقة التطوع

(4)

.

والقول الثاني: أنه لا يجوز للزوجة أن تدفع زكاة مالها لزوجها المحتاج، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد

(5)

؛ لأن الرجل من امرأته كالمرأة من زوجها، فإذ لم يجز له دفع زكاته لامرأته لم يجز لها دفع زكاتها لزوجها.

والذي يظهر والله أعلم جواز صرف المرأة زكاتها إلى زوجها لأمرين:

(1)

"الاختيار"(1/ 120)، "المغني"(4/ 101)، "فتح الباري"(3/ 329)، "نيل الأوطار"(4/ 199).

(2)

"صحيح البخاري"(1466).

(3)

"شرح فتح القدير"(2/ 271).

(4)

"المغني"(4/ 102)، "فتح الباري"(3/ 330)، "نيل الأوطار"(4/ 187).

(5)

"المغني"(4/ 100).

ص: 484

1 -

عموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء

} [التوبة: 60] والزوج إذا كان فقيرًا داخل في هذا العموم؛ لأنه إذا وجد السبب ثبت الحكم إلا بدليل، ومن قال: إن الزوج مستثنى فعليه الدليل، وليس هناك دليل من القرآن ولا من السنة على أن المرأة لا تدفع زكاتها لزوجها.

2 -

أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هذه المرأة عن الصدقة هل هي تطوع أو واجبة؟ فكأنه قال: يجزئ عنك فرضًا كان أم تطوعًا.

وأما حديث الباب فالظاهر أنه في صدقة التطوع لا في الصدقة الواجبة؛ لأن السياق يرجح ذلك؛ ولأنه ورد في بعض الروايات: " تصدقن ولو من حليكن"؛ كما أن قوله: " زوجك وولدك أحق من تصدقن به عليهم" يؤيد ذلك؛ لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة إذا كان والده ينفق عليه؛ فإن كان الولد فقيرًا والأب عاجز عن نفقه جاز صرف الزكاة إليه على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنه أحد القولين في مذهب أحمد

(1)

.

• الوجه الثالث: اختلف العلماء في جواز صرف الزوج زكاته إلى زوجته على قوليه:

الأول: أنه لا يجوز للزوج دفع زكاته إلى زوجته المحتاجة، وهذا قول الجمهور، ومنهم: أبو حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، وهو مذهب الحنابلة، والشافعية، بل نقل ابن المنذر فيه الإجماع

(2)

، واستدلوا بأن الزوجة غنية بما على زوجها من النفقة، فتستغني بها عن الزكاة، فإذا دفع إليها الزكاة أغنتها عن النفقة الواجبة، فعاد إليه نفع الزكاة، فكأنه دفعها إلى نفسه.

والقول الثاني: أنه يجوز للزوج صرف زكاته إلى زوجته، وهذا وجه مرجوح في مذهب الشافعية، ورواية مرجوحة في مذهب الإمام أحمد

(3)

،

(1)

"الاختيارات" ص (104).

(2)

"الإجماع" ص (52)، "الاختيار"(1/ 120)، "المغني"(4/ 100)، "المجموع"(6/ 229)، "الخرشي على خليل"(2/ 522).

(3)

"المجموع"(6/ 230).

ص: 485

واستدلوا بأنه إذا صرف الزكاة إليها، لا يدفع عن نفسه النفقة؛ لأن نفقتها عوض لازم، سواء أكانت غنية أم فقيرة، لإصار كمن استأجر فقيرًا فإن له دفع الزكاة إليه مع الأجرة.

والقول الأول قوي. لكن قد يقال: إن غنى المرأة بوجوب النفقة على زوجها لا يصيرها غنيةً الغنى الذي يمنع من حل الزكاة، فإذا أعطاها شيئًا لا يسقط به حقًا واجبًا جاز، مثل ما لو أعطاها لقضاء دين عليها، فالظاهر الإجزاء؛ لأن قضاء الدين عن زوجته غير واجب عليه، وهذا اختيار بعض فقهاء الحنابلة، والله تعالى أعلم

(1)

.

* * *

(1)

انظر: "الإنصاف"(3/ 261 - 262)، "الشرح الممتع"(6/ 268).

ص: 486

‌ذم المسألة وما فيها من الوعيد

639/ 9 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم". متفق عليه.

640/ 10 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر". رواه مسلم.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " من سأل الناس تكثرًا"(1474)، ومسلم (1040)(104) من طريق الليث بن سعد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وذكر الحديث.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه امسلم في كتاب " الزكاة"، باب " كراهة المسألة للناس"(1041) من طريق محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا.

• الوجه الثاني: في الحديثين دليل على تحريم سؤال الناس وطلبهم أن يتصدقوا عليه من دون حاجة إلى ذلك. وقد ثبت الوعيد العظيم فيمن سأل بلا فقر ولا حاجة؛ وإنما سأل ليكثر ماله ويزيده، وذلك بأنه يعقاب يوم القيامة بأن يأتي وليس في وجهه مزعة لحم؛ أي: قطعة لحم، للدلالة على أنه كان يسأل الناس من دون حاجة، والجزاء من جنس العمل، فحيث كان وجهه هو الذي يسأل ويقابل الناس عند السؤال صار العذاب منصبًا عليه.

ص: 487

كما دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن من سأل المال تكثيرًا وجمعًا؛ فإنما يجمع جمرًا يعذب به يوم القيامة من نار جهنم؛ لأنه جمع مالًا حرامًا، ولهذا قال على سبيل التهديد:" فليستقل أو ليستكثر".

• الوجه الثالث: مفهوم قوله: " تكثرًا" يفيد أنه لو سأل من فقر وحاجة أن ذلك مباح ولا يعاقب عليه؛ لأنه يطلب حقه الذي أباحه له الشرع من زكاة وصدقة تطوع وكفارة، وغير ذلك.

• الوجه الرابع: حرم الإسلام السؤال واتخاذ التسول مهنة وحرفة لمن كان غنيًا بماله الحاضر، أو بغلة عقار يدر عليه ما يكفيه، أو بصنعة تقوم بكفايته، أو بقوة بدنه على العمل إذا تحققت أسبابه؛ لأن في السؤال مع عدم الحاجة آثارًا سيئة ومفاسد عظيمة، منها:

1 -

أن السؤال ذل ومهانة وإهدار لكرامة الإنسان، والسؤال يذهب الحياء حتى لو أعطي السائل، فكيف لو منع؟!

2 -

أن السؤال تعطيل للقوى والمواهب عن أن تجد وتكدح وتبتكر ما ينفع المجتمع المسلم.

3 -

أن السؤال وسيلة للخداع والاحتيال؛ لأنه يحمل صاحبه على أن يتزيا بزي الفقراء والمساكين، ويتظاهر بالعاهات والأمراض، ليستثير بذلك عواطف الناس استدرارًا لبرهم وإحسانهم ورحمتهم

(1)

.

4 -

أن السؤال فيه جحد لنعمة الله تعالى على عبده وإنكار لها، حيث تشبه بالفقراء والمعدمين، وهذا جحد لنعمة الله وإظهار شكوى؛ لأن لسان الحال كلسان المقال، والمطلوب من العبد إظهار نعمة الله عليه، كما تقدم في باب " اللباس".

فعلى المسلم أن يحذر هذه العادة الذميمة، وأن يتربى على علو الهمة وعزة النفس، والترفع عن الدنايا، ولا يعرض نفسه للهوان والمذلة مع قدرته على العمل والتكسب، وأن يشكر ربه على سلامة البدن وتمام الخلقة وقوة الجوارح، وأن يستغلها فيما ينفع ويفيد، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "من قضايا العمل والمال في الإسلام" ص (25 - 26).

ص: 488

‌الحث على العمل وذم المسألة

641/ 11 - عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". رواه البخاري.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب " الزكاة"، باب " الاستعفاف عن المسألة"، (1471) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في الحديث الحث على الكسب والعمل والاستغناء به عن سؤال الناس؛ لأن هذا خير وأفضل من سؤال الناس أعطوه أو منعوه؛ لأن السؤال ذل ومهانة وانكسار، فلا يليق بالمسلم أن يذل نفسه للناس وهو قادر على أن يترفع عن ذلك بالجد والعمل ولو أتعب نفسه وحصلت له المشقة.

وعلى هذا فقوله: (خير له) أفعل تفضيل ليس على بابه، إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، بل يرى بعض أهل العلم أن سؤال من هذا حالة حرام، ويحتمل أن أفعل التفضيل على بابه بناءً على اعتقاد السائل، وتسمية الذي يعطاه خيرًا.

وذكر الاحتطاب في الحديث ليس مرادًا؛ وإنما المقصود طلب الكسب بأي طريق مباح، وكل ميسر لما خلق له، كما هو مشاهد في حياة الناس.

ص: 489

الوجه الثالث: اختلف العلماء في أفضل المكاسب على أقوال، ستأتي إن شاء الله تعالى في كتاب "البيوع"، والأظهر والله أعلم أن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله"

(1)

.

فعلى المسلم أن يمشي في مناكب الأرض ويبتغي من فضل الله تعالى؛ وأن يدرك تمام الإدراك أن العمل وإن نظر إليه بعض الناس نظر استهانة فهو أفضل من تكفف الناس، وإراقة ماء الوجه بالسؤال، ولا سيما من شاب يتدفق حيوية ونشاطًا، فالعمل والتكسب هو طريق المرسلين، ومنهج الصحابة والتابعين، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (2264) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 490

‌ما يستثنى من ذم السؤال

642/ 12 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صىل الله عليه وسلم: "المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمر لا بد منه". رواه الترمذي وصححه.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب " الزكاة"، باب " ما جاء في النهي عن المسألة"(681) من طريق عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على ذم المسألة وأنها كد وتعب ونصب يلبسها الرجل وجهه أمام الناس حين يسألهم، فيؤدي ذلك إلى ذهاب ماء الوجه وبهائه، مع ما يحدث للسائل حين السؤال من تقيض وتغير عند المسألة.

وقد جاء الحديث عند أبي داود (1639)، والنسائي (5/ 100) بهذا الإسناد بلفظ:" المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًا"، وعند النسائي:" فمن شاء كدح وجهه، ومن شاء ترك".

والكدوح: جمع كدح، وهو كل أثر من خدش أو عض، والمراد هنا ما تقدم من أن السؤال يريق ماء الوجه، ويذهب بهاءه وكرامته، فهو شين في

ص: 491

العرض كالجراحة شين في الوجه، وذلك بما يظهر على السائل من أمارات الذل والهوان.

• الوجه الثالث: استثنى الحديث حالتين يجوز فيهما السؤال:

الأولى: سؤال السلطان، وهو الإمام الأعظم، فإنه يجوز سؤاله؛ لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال، ولا منة للسلطان على السائل؛ لأنه وكيل، فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه.

الثانية: السؤال عند الضرورة، وهو أن يكون ذلك في أمر لابد منه، إما بسبب حمالة تحملها، أو جائحة اجتاحت ماله، أو فاقة أصابته، كما سيأتي في حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 492

‌باب قسم الصدقات

وفي بعض النسخ: قسمة الصدقات.

والغرض من هذا الباب بيان مصارف الزكاة، ومن يعطى منها ومن لا يعطى، وهذا من الأبواب المهمة في كتاب "الزكاة"، لمسيس الحاجة إلى معرفة ما يجوز أخذه وما لا يجوز أخذه.

وقد بين الله تعالى المستحقين للزكاة بنفسه، ولم يكلها إلى أحد سواه، حتى لا تكون هذه الشعيرة العظيمة ألعوبة للعواطف والأهواء، فحصرها الله تعالى في ثمانية أصناف، لا تصرف في سواها.

قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60].

ولعل مناسبة ختم الآية بهذين الاسمين من أسمائه الحنسى، هو التنبيه على أن فريضة دفع الزكاة في هذه الأصناف صادر عن علم بمن يستحق، وحكمة في وضعها مواضعها، حتى يطمئن القلب، ولا يبقى محل لاجتهاد مجتهد في دفعها في غير هذه الأصناف.

وما ذكر المصنف من الأحاديث في هذا الباب هو لبيان الأصناف الذي لا تصرف لهم الزكاة، ومنهم: الأغنياء إلا ما استثنى، والأقوياء المكتسبون، وآل النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يأتي في هذا الباب من أحاديث أخرى.

* * *

ص: 493

‌الغني الذي تحل له الصدقة

643/ 1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وأعل بالإرسال.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (18/ 97)، وأبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني"(1636)، وابن ماجه (1841)، والحاكم (1/ 407) كلهم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، به مرفوعًا.

وقد صححه ابن خزيمة (4/ 71)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي (7/ 15)، وابن عبد البر (5/ 96)، والذهبي، والألباني

(1)

.

وقد روى هذا الحديث مرسلًا مالك

(2)

، ومن طريقه أبو داود

(3)

، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقد رجح المرسل أبو حاتم، وأبو زرعة

(4)

، والدارقطني

(5)

.

(1)

"الإرواء"(3/ 377 - 378).

(2)

"الموطأ"(1/ 266).

(3)

"السنن"(1635).

(4)

"العلل"(642).

(5)

"العلل" للدارقطني (11/ 270).

ص: 494

الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الغني ليس من أهل الزكاة، ولكن قد تحل له بطرق شرعية نص عليها هذا الحديث، وهي:

1 -

أن يكون من العاملين عليها، وهم الولاة على الزكاة؛ كالساعي، والجابي، والحافظ، والقاسم، ومن معهم من كتبة وحاسبين، فهؤلاء يعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء، لأنهم يعطون للحاجة إليهم لعملهم فيها.

2 -

غني اشترى الزكاة من المتصدق عليهم بماله، فتحل له لأنه اشتراها بماله، فإن كانت زكاة غيره فشراؤه لها جائز اتفاقًا، وأما شراؤه زكاة نفسه، فالجمهور على كراهته.

3 -

الغارم، وأصل الغرم في اللغة: اللزوم. وسمي غارمًا؛ لأن الدين قد لزمه. فالغارم من لحقه الغرم، وهو الضمان والإلزام بالمال، وهو نوعان:

الأول: غارم لإصلاح ذات البين، وذلك بأن يقع بين جماعة عظيمة شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم، ويلتزم في ذمته مالًا لإطفاء الفتنة، فهذا قد أسدى نفعًا عظيمًا، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة، لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين، أو يوهن عزائمهم عن تسكين الفتن وكف المفاسد.

الثاني: الغارم لنفسه، وهو من نزلت به مصيبة في المال لا يستطيع احتمالها؛ كوجوب دين عليه في نفقة أو زواج أو علاج أو بناء مسكن، أو أتلف شيئًا لغيره خطأ، أو نزل بماله جائحة، فهذا يعطى وفاء دينه، بشرط أن يكون غير قادر على السداد بنقود أو مرتب أو عروض تجارة؛ وألا يكون مسرفًا بالإنفاق على نفسه.

4 -

الرابع ممن يعطى ولو غنيًا: الغازي في سبيل الله، ومن يقاتل مجاهدًا لإعلاء كلمة الله تعالى، فيعطى من الزكاة ولو كان غنيًا، ويشترى له السلاح وكل ما يقوم به الجهاد دفاعًا أو هجومًا.

ص: 495

5 -

الغني إذا زار مسكينًا قد تصدق عليه من الزكاة، فأهدى منها لهذا الغني، أو أكل من طعامه، فهذا جائز؛ لأنه هدية من هذا المسكين لهذا الغني، وليست بصدقة عليه، ولولا هذا لامتنع الأغنياء عن زيارة الفقراء، ولكن من رحمة الله تعالى أنه أباح ذلك، وسيأتي ضابط الغنى الذي تحرم معه الزكاة في الحديث الآتي، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 496

‌حكم الصدقة للغني والقوي المكتسب

644/ 2 - عن عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال:" إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب". رواه أحمد وقواه، وأبو داود، والنسائي.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو عبيد الله بالتصغير بن عدي بن الخيار بكسر الخاء بعدها ياء مخففة بن عدي القرشي النوفلي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من كبار التابعين، ولم يذكره أحد من الصحابة سوى ابن سعد على ما ذكره الذهبي، ولعل ذلك لما قيل من أنه كان عام الفتح صغيرًا مميزًا، قال ابن سعد:(كان ثقة، قليل الحديث). وقال العجلي: (تابعي ثقة من كبار التابعين).

وفي صحيح البخاري: (أن عثمان رضي الله عنه قال له: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ولكن خلص إلى من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها)

(1)

.

قال الحافظ: (ومراده أنه لم يدرك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره رؤية المميز له، وإن كان قد ولد في حياته صلى الله عليه وسلم، روى عن عمر وعثمان وعلي والمقدار ووحشي بن حرب وغيرهم رضي الله عنهم، وقد روى البخاري في " صحيحه" قصة رؤيته وحشي بن حرب قاتل حمزة رضي الله عنه وذلك في حمص من بلاد الشام

(2)

،

(1)

"صحيح البخاري"(4072).

(2)

"فتح الباري"(7/ 53).

ص: 497

كانت وفاته بالمدينة سنة خمس وتسعين على ما ذكره ابن حبان

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (38/ 162)، وأبو داود في كتاب " الزكاة"، باب " من يعطى من الصدقة؟ وحد الغنى"(1633)، والنسائي (5/ 99 - 100) من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدين فقال:

وذكر الحديث.

وهذا إسناد صحيح، كما قال النووي

(2)

، وابن عبد الهادي

(3)

ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: (ما أجوده من حديث)، وقال:(هو أحسنها إسنادًا)، وهذا مراد الحافظ بقوله:(وقوه أحمد).

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الغني لا تحل له الزكاة؛ لأن أخذ الغني منها من وصوله إلى أهلها، ويخل بحكمة وجوبها، وهو إغناء الفقراء بها، والغنى وصف يختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا يمكن تحديده بقدر معلوم من المال، خلافًا لمن حدده بملك ربع النصاب، وهو خمسون درهمًا

(4)

؛ وإنما الغني وجود ما يكفيه ويكفي من يعول، إما من ريصد مال موجود، أو صنعة نافعة، أو تجارة دارة، أو مرتب يتقاضاه، أو نحو ذلك مما يتحقق به اليسار وتحصل به الكفاية، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأحمد في رواية، وابن حزم

(5)

.

فإن لم يكن له مال ولا دخل يكفيه، فهذا من الفقراء والمساكين الذين تحل لهم الزكاة.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن القوي المكتسب لا تحل له الزكاة؛ لأنه غني بكسبه؛ فإن كان قويًا لكنه غير مكتسب لوجود موانع منعته

(1)

"الثقات"(5/ 64)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 514)، "الإصابة"(7/ 223).

(2)

"المجموع"(6/ 189).

(3)

"التنقيح"(2/ 1522).

(4)

انظر: "معالم السنن"(2/ 226).

(5)

"فقه الزكاة"(2/ 554).

ص: 498

من الكسب، كمرض عارض، أو قلة أعمال، أو لأسباب أخرى منعته من الكسب، فإنه يعطى من الزكاة ما يكفيه، وكذا لو كان مكتسبًا ولكنه كسب ضعيف لا يسد حاجته وحاجة من يعول فإنه يعطى أيضًا.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من ظهر منه ما يدل على أنه ليس أهلًا للزكاة لجلادته وقوته ونشاطه، أنه يوعظ ويبين له أن الزكاة لا يحل أخذها مع الغنى والقوة على الكسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قلب النظر في هذين الرجلين (فرآهما جلدين) تثنية جلد بفتح فسكون: وهو القوي، مأخوذ من الجلد بفتح الجيم واللام: وهو القوة، ثم قال:" إن شئتما أعطيتكما" أي: من الزكاة، ووكلت الأمر إلى ما تعلمانه ما حالكما، ويكون عليكما إثم الأخذ إن كنتما غنيين أو قادرين على الكسب.

وهذا يدل على مسألتين:

الأولى: أن المزكي يتحرى ويتحقق ممن يطلب الزكاة، وينظر هل هو يستحقها أو لا؟

الثانية: أنه يقبل قول الإنسان فيما يخير به عن نفسه من إعسار أو يسار؛ لأن ذلك أمر راجع إليه، فمن أصر على طلبها وأنه من أهلها ونحن لا نعلم خلاف ما يدعي فإننا نعطيه، أما إذا أصر على طلبها ونحن نعلم خلاف ما يدعي فإننا لا نعطيه، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 499

‌جواز المسألة عند الحاجة

645/ 3 - عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة؛ فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا".

رواه مسلم، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو قبيصة بفتح القاف بن مخارق بضم الميم الهلالي البصري رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه قطن، وكنانة بن نعيم، وأبو عثمان النهدي، وغيرهم. قال البخاري وابن حبان:(له صحبة). وقال ابن خزيمة بعد أن ساق حديثه في الكسوف: (ولا أقف ألقبيصة البجلي صحبة أم لا؟)

(1)

، قال الحافظ:(وفي الذي وقع عنده من نسبته نظر، فكأنه ظن أنه آخر وليس كذلك)، ثم ساق حديثه عند النسائي، من طريق أبي قلابة، عن قبيصة قال: (كسفت الشمس، ونحن إذا ذاك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة

) الحديث

(2)

.

(1)

"صحيح ابن خزيمة"(2/ 329 - 330).

(2)

"السنن"(3/ 144)، وانظر:"الإصابة"(8/ 132).

ص: 500

الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الزكاة"، باب " من تحل له المسألة"(1044)، وأبو داود (1640)، وابن خزيمة (2361)، وابن حبان (8/ 190) من طريق هارون بن رئاب، حدثني كنانة بن نعيم العدوي، عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسأله فيها، فقال:" أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"، قال: ثم قال: " يا قبيصة إن المسألة

" وذكر تمام الحديث، وهذا الحديث قد أعاده الحافظ في كتاب " البيوع" آخر باب " التفليس والحجر"، وسيأتي هناك بيان مناسبته إن شاء الله.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (حمالة) بفتح لاحاء كسحابة، هي المال الذي يتحمله الإنسان فيستدينه ويدفعه لإصلاح ذات البين، ودفع نزاع قائم بين طائفتين.

قوله: (جائحة) بفتح الجيم، هي الآفة السماوية التي لا صنع للآدمي فيها كالبرد، والسيل، والنار، والفيضان، ونحو ذلك.

قوله: (قوامًا من عيش) وعند مسلم وغيره زيادة: " أو قال: سدادًا من عيش" والقوام بكسر القاف، والسداد بكسر السين المهملة: ما يقوم بحاجة الإنسان ويسد به خلته. و "أو" للشك.

قوله: (فاقة) أي: فقر شديد اشتهر به بين قومه بعد الغنى.

قوله: (حتى يقوم ثلاثة) أي: يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابت

إلخ.

قوله: (من ذوي الحجا) بكسر الحاء المهملة والقصر: هو العقل، والمعنى: حتى يشهد ثلاثة من قومه من أرباب العقول الراجحة أنه أصابت فلانًا حاجة وفقر، وصارت حالته تدعو إلى العطف.

واعتبار العقل للتنبيه على أنه ينبغي في المخبر أن يكون متيقظًا عالمًا بما يقول؛ لأن غير المتيقظ لا يوثق بخبره.

ص: 501

واعتبار الثلاثة للاحتياط والمبالغة في إثبات الفاقة، وليكون قولهم أدل على براءة السائل من التهمة في ادعائه الحاجة، وأدعى إلى سرعة إجابته.

قوله: (من قومه) إنما خصوا بكونهم من قومه؛ لأنهم هم العالمون بحاله وهم أخبر بباطن أمره.

قوله: (سحت) بضم السين المهملة، وإسكان الحاء المهملة، هو الكسب الحرام، وسمي سحتًا؛ لأنه يسحت البركة، أي: يذهبها.

ورواية مسلم: " فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا" بالنصب. قال النووي: (هكذا هو في جميع النسخ: "سحتًا"، ورواية غير مسلم: " سحت" وهذا واضح، ورواية مسلم صحيحة، وفيه إضمار، أي: اعتقده سحتًا، أو يؤكل سحتًا). ولعل هذا من أسباب إضافة الحافظ أبي داود وابن حبان إلى مسلم، وأما إضافة ابن خزيمة فتفهم مما تقدم.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المسألة لا تحل إلا لأحد هؤلاء الثلاثة:

الأول: من تحمل حمالة دين عن غيره؛ كمال أصلح بن بين طائفتين، فهذا يعطى من الصدقة تسديد ذلك الدين وإن كان غنيًا، لما في ذلك من الترغيب في مكارم الأخلاق، وكانت العرب إذا تحمل أحدهم حمالة بادروا إلى معونه، وإذا سأل لم يعدوا ذلك نقصًا في قدره، بل هو من مفاخره.

الثاني: من أصابت ماله جائحة أهلكت ماله، من سيل أو نار أو نحو ذلك، فهذا يحل له السؤال ويجب إعطاؤه ما يقوم به حاله ويسد خلته، ولا يتوقف ذلك على بينة يقيمها على ثبوت حاجته؛ لأن مثل هذه الأشياء لا تخفى آثارها عند وقوعها.

الثالث: من ادعى أنه أصابته فاقة وحاجة شديدة بعد أن كان غنيًا فإذا شهد له ثلاثة رجال من قومه من ذوي العقول المتيقظة بذلك حلت له المسألة.

وظاهر الحديث أنه لابد من ثلاثة، وبه استدل من قال: إن الإعسار لا

ص: 502

يثبت إلا بشهادة ثلاثة، وهذا قول ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي، وذكر ابن قدامة أنه نقل عن أحمد ما يدل عليه

(1)

.

وذهب الجمهور إلى أنه يقبل في ذلك عدلان كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب

(2)

.

• الوجه الخامس: هذا الحديث مخصص بما تقدم في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه من جواز السؤال لداع آخر غير ما ذكر هنا؛ كسؤال الرجل السلطان، ومثل ذلك سؤال المستحق للزكاة حقه منها.

• الوجه السادس: استدل بهذا الحديث بعض العلماء؛ كأبي عبيد على جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر

(3)

، لأن قوله: (أقم حتى تأتينا الصدقة

) يشمل ما يأتي من المدينة وما يأتي من خارج المدينة، لأن عمال الصدقات كانوا يرجعون إلى المدينة بما بقي في أيديهم، فيضعها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى من المصلحة. وتقدم الكلام على ذلك أول كتاب " الزكاة"، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(14/ 128)، "الطرق الحكمية" ص (172).

(2)

"سبل السلام"(2/ 288).

(3)

"الأموال" ص (592).

ص: 503

‌حكم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب

646/ 4 - عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس".

وفي رواية: " وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". رواه مسلم.

647/ 5 - وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". رواه البخاري.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي، وقد اختلف هل غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه؟ فابن عبد البر يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير اسمه، ورد ذلك الحافظ ابن حجر، ونقل عن الزبير بن بكار، وهو أعلم من غيره ينسب قريش؛ أنه لم يذكر أن اسمه إلا المطلب بن ربيعة، وصوبه أبو القاسم الطبراني، واقتصر عليه ابن عساكر في " تاريخه".

سكن المطلب المدينة، وانتقل إلى الشام في خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفى في دمشق سنة اثنتين وستين، وله في الصحيحين وغيرهما ثمانية أحاديث، رضي الله عنه

(1)

.

(1)

"الاستيعاب"(10/ 103)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 112)، "الإصابة"(6/ 336)، "تهذيب التهذيب"(6/ 341).

ص: 504

الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث عبد المطلب فقد أخرجه مسلم في كتاب " الزكاة"، باب " ترك استعمال آل النبي على الصدقة"(1072)(167) من طريق مالك، عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه، قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين قالا: لي وللفضل بن العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه، فأمرهما على هذه الصدقات

وساق الحديث بطوله

، وفيه " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس

" الحديث.

وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يونس بن يزيد، عن الزهري، به بنحو حديث مالك، وفيه: " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولآل محمد

" الحديث.

وأما حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب " فرض الخمس"، باب "ومن الدليل على أن الخمس للإمام"(3140) من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال:

وذكر الحديث.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الزكاة لا تحل لآل النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم بنو هاشم. وهاشم: هو الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن عبد مناف له أربعة أولاد: هاشم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. وبنو هاشم، هم: آل عباس بن عبد المطلب، وآل أبي طالب بن عبد المطلب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب بن عبد المطلب.

قال عبد الرحمن بن قدامة: (لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة

)

(1)

.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك في قوله: " إنما هي أوساخ الناس"،

(1)

"الشرح الكبير"(7/ 289).

ص: 505

والمعنى: أن الزكاة شرعت لتطهير أموال الناس ونفوسهم، فهي كغسالة أوساخهم وما نظف من أدرانهم.

• الوجه الرابع: استدل الشافعي وأتباعه بحديث جبير بن مطعم على أن بني المطلب كبني هاشم لا يعطون من الزكاة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وذلك لأن لهم نصيبًا من الخمس فيغنيهم عن الزكاة

(1)

.

وذهب الجمهور إلى أن بني المطلب يعطون من الزكاة لما يلي:

1 -

عموم الأدلة.

2 -

أنهم ليسوا من آل محمد، وإنما آل محمد هم بنو هاشم، فلا يدخلون في عموم:" إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد".

وإما إعطاؤهم من الخمس فهو مبني على المناصرة والمؤازرة، لا لمجرد القرابة

(2)

، بدليل أن بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطو شيئًا، ولهذا قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو من بني عبد شمس، وجبير بن مطعم وهو من بني نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطيت بني المطلب من الخمس وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، أي: في قرابتنا لك؛ لأن الجميع من بني عبد مناف كما تقدم، فبين لهم السر في إعطاء بني المطلب، وهو أنهم مع بني هاشم شيء واحد في الجاهلية والإسلام، بخلاف بني نوفل وبني عبد شمس فإنهم صاروا حربًا على بني هاشم لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يكن لهم من الفضل والنصرة ما كان لبني المطلب.

والنصرة لا تقتضي المنع من الزكاة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"، وقال:" إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام"

(3)

.

(1)

"المجموع"(6/ 227).

(2)

"المغني"(4/ 111 - 112).

(3)

رواه أبو داود (2980)، والنسائي (7/ 131)، وابن ماجه (2881)، وأحمد (27/ 304 - 305) من طريق محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيّب، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، وهذا سند حسن. ومحمد بن إسحاق قد صرَّح بالتحديث عند البيهقي في "السنن"(6/ 341)، فإن صحَّ هذا الظاهر، وإلا فالمعوَّل على ما عند المتقدمين.

ص: 506

وذلك أنه لما حصر بنو هاشم في الشعب وتعاهدت قريش على مقاطعتهم في البيع والشراء والنكاح وغيرها دخل معها بنو المطلب، وقالوا: أنتم إخواننا ولا نرضى نتخلى عنكم، فلهذا جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذوي القربى، وأعطاهم من الخمس، ولم يعط بني نوفل ولا بني عبد شمس؛ لأنهم لم يناصروهم.

وهذا هو القول الراجح، فإن النص ورد في بني هاشم، وهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف، وهم آله، كما تقدم.

• الوجه الخامس: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد" أنه يشمل الصدقة الواجبة، وهي الزكاة، ويشمل صدقة التطوع، إلا أن قوله:" إنما هي أوساخ الناس" يدل على أن المراد الصدقة الواجبة لا صدقة التطوع؛ لأنها ليست كذلك، فيجوز لهم أخذها، باستثناء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يأكل الزكاة ولا صدقة التطوع، وهذا هو مذهب الجمهور

(1)

.

ويرى بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الحنابلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، أنه لا بأس بأعطائهم الآن من الزكاة، إذا حرموا من الخمس؛ دفعًا لضرورتهم إذا كانوا فقراء؛ فإن كثيرًا منهم قد يعتريه غرامات وديون، فيعطون عند الحاجة، والجمهور على أنهم لا يعطون مطلقًا؛ لعموم الأدلة، والله تعالى أعلم

(2)

.

* * *

(1)

"المغني"(4/ 113، 115).

(2)

انظر: "الاختيارات" ص (104)، "الإنصاف"(3/ 255)، "فقه الزكاة"(2/ 732).

ص: 507

‌حكم الصدقة على موالي بني هاشم

648/ 6 - عن أبي رافع رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني، فإنك تصيب منها، قال: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله. فأتاه فسأله، فقال:"مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة". رواه أحمد، والثلاثة، وابن خزيمة، وابن حبان.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من القبط، وقد غلبت عليه كنيه، فلذا اختلف في اسمه، فقال يحيى بن معين: اسمه إبراهيم. وقال ابن عبد البر: أشهر ما قيل في اسمه: أسلم. قيل: إنه كان للعباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعتقه لما بشره بإسلام العباس، أسلم أبو رافع قبل قدوم بدر ولم يشهدها، وشهد أحدًا وما بعدها. روى عنه ابناه عبيد الله والحسن، وعطاء بن يسار. توفي بالمدينة قبل.

عثمان بيسير أو بعده. وقال ابن حبان: مات في خلافة علي رضي الله عنه

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (39/ 300)، وأبو داود في كتاب "الزكاة"، باب " الصدقة على بني هاشم"(1650)، والترمذي (657)، والنسائي (5/ 107)،

(1)

"الاستيعاب"(1/ 158)(11/ 250)، و"الإصابة"(11/ 129).

ص: 508

وابن خزيمة (2344)، وابن حبان (8/ 88) كلهم من طريق شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي رافع، عن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على الصدقة

الحديث.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح

وابن أبي رافع هو عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الزكاة لا تدفع لموالي بني هاشم، وأن حكمهم حكم أسيادهم في المنع من الزكاة، وذلك لقوله:" مولى القوم من أنفسهم".

والمعنى: أن احكم عتيق القوم كحكمهم، وشرف أسيادهم يسري إليهم، وهذا مذهب الجمهور، بل نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك

(1)

، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"التمهيد"(3/ 90).

ص: 509

‌جواز أخذ المال إذا جاء من غير إشراف ولا سؤال

649/ 7 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر العطاء، فيقول: أعطه أفقر مني، فيقول:" خذه فتموله، أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك". رواه مسلم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب " الزكاة"، باب " إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف"(1045) من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء

الحديث، وتمامه: قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يرد شيئًا أعطيه

(1)

.

وقد رواه البخاري (1473)، (7163)، ومسلم (1045)(111) على أنه من مسند عمر رضي الله عنه.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز أخذ المال إذا جاء لصاحبه من بيت المال من غير إشراف نفس ولا سؤال ما دام أنه من وجه شرعي؛ كأن يكون أعطيه على صفة هدية أو مكافأة على عمل أو على نشاط في العمل، ونحو ذلك، ولو كان الآخذ غنيًا، فيأخذه ويصرفه في وجه الخير فيأكل منه ويتصدق ونحو ذلك.

(1)

انظر: "تحفة الإشراف"(5/ 358)(8/ 55)، "المسند"(1/ 258).

ص: 510

الوجه الثالث: في الحديث منقبة لعمر رضي الله عنه وما هو عليه من الزهد في الدنيا والبعد عن شهواتها وإيثاره غيره على نفسه.

• الوجه الرابع: يحتمل أن هذا الحديث مراد به ما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم من أموال زائدة كخراج أو جزية أو صدقات تطوع، فيعطي بعض أصحابه منها، ويعطي عمر رضي الله عنه من جملة من يعطيه.

ويحتمل أن المراد بالعطاء أجر عمر رضي الله عنه على عمله على الصدقات، ويؤيد ذلك رواية مسلم: (

إني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني، فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا أعطيت شيئًا من غير أن تسأل فكل وتصدق"، والله تعالى أعلم.

انتهى الجزء الرابع ويليه بعون الله وتوفيقه

الجزء الخامس، وأوله: كتاب "الصيام"

ص: 511