الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب البيوع
باب شروطه وما نُهي عنه
البيوع: جمع بيع، وهو مصدر يقع على القليل والكثير بلفظ واحد، لكن جَمَعَهُ المصنف لاختلاف أنواعه، كما سيأتي.
والبيع لغة: أخذ الشيء وإعطاء الشيء، وهو يطلق على بيع الشيء، الذي هو ضد شرائه، وهو أشهر إطلاقاته، ويطلق على الشراء، فتكون بعت بمعنى: اشتريت، وعلى هذا فهو من الأضداد
(1)
.
وشرعًا: معاوضةُ عينٍ أو منفعةٍ بمثلهما ولو في الذمة على الوجه المشروع
(2)
.
فالعين: كالدار والسيارة والكتاب.
والمنفعة: كممر في دار.
وقولنا: (بمثلهما) أي: عين بعين، أو عين بمنفعة، أو منفعة بمنفعة، أو منفعة بعين.
وقولنا: (ولو في الذمة) مثل: كتاب صفته كذا أو سيارة صفتها كذا.
وقولنا: (على الوجه المشروع) لإخراج الربا؛ فإن فيه معاوضة، لكنه ليس بمشروع، بل هو محرم، كما سيأتي إن شاء الله.
(1)
"المصباح المنير" ص (69).
(2)
انظر: "فقه الدليل شرح التسهيل"(3/ 231).
وجواز البيع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والنظر الصحيح يقتضيه، فإن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وهو لا يبذله له بغير عوض غالبًا.
ثم إن اتساع أمور المعاش وبقاء العالم يقتضيه؛ لأن المحتاج يميل إلى ما في يد غيره، فبغير المعاملة يفضي الأمر إلى التنازع والتقاتل، أو النهب والسرقة.
فجاءت هذه الشريعة الكاملة الشاملة بإباحته وتنظيمه على أكمل الوجوه، وأيسر السبل، مع البعد عن الظلم والفوضى، وبذر العداوة والبغضاء.
والشروط: جمع شرط، وقد تقدم تعريفه في "شروط الصلاة"، وللبيع شروط ذكرها الفقهاء بالتتبع والاستقراء لنصوص الشريعة، وسيتضح ذلك -إن شاء الله تعالى- في أحاديث الباب.
وقوله: (وما نُهي عنه) أي: ما ورد النهي عنه من أنواع البيوع.
فضل البيع المبرور
782/ 1 - عَنْ رِفَاعَةَ بِنِ رَافعٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَال: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيعِ مَبْرُورٍ"، رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
يحتمل أنه رفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري الخزرجي الزُّرَقِي، أمه أخت عبد الله بن أُبي رأس المنافقين، شهد بدرًا وأُحدًا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر الصديق وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما، وروى عنه ابناه عبيد ومعاذ وغيرهما، توفي في أول إمارة معاوية سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، رضي الله عنه
(1)
.
ويحتمل أنه رفاعة بن رافع بن خديج، وهو تابعي، روى عن أبيه رافع، وعنه ابنه عباية، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عنه الحافظ في "التقريب":(ثقة)، مات في ولاية الوليد بن عبد الملك
(2)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البزار (9/ 183) من طريق إسماعيل بن عمر، قال: نا المسعودي، عن وائل بن داود، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم (2/ 10) من طريق المسعودي، عن وائل، عن عَباية بن رافع بن خديج، عن أبيه، به
(3)
.
(1)
"الإصابة"(3/ 281 - 283).
(2)
"الثقات"(4/ 240)، "تهذيب التهذيب"(3/ 243).
(3)
ذكر الحافظ في "التلخيص"(3/ 3)، أنه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، وأن =
وقول الحافظ في "البلوغ": (عن رفاعة بن رافع)، يحتمل أنه رفاعة بن رافع بن مالك، فرواه عنه ابنه عبيد، والحديث متصل لا إرسال فيه؛ لأن رفاعة صحابي، كما تقدم.
ويحتمل أنه رفاعة بن رافع بن خديج فيكون مرسلًا؛ لأنه تابعي، كما تقدم، وقد ساقه الحافظ في "التلخيص"
(1)
على أنه من حديث رافع بن خديج، واعتبر رواية البزار من تخليط المسعودي؛ لأن إسماعيل بن عمر أخذ عنه بعد الاختلاط.
وقد اختلف في هذا الحديث على وائل بن داود، فرواه الثوري، عن وائل، عن سعيد بن عمير، عن عمه، به، متصلًا أخرجه الحاكم، ورواه الثوري -أيضًا- عن وائل، عن سعيد بن عمير، به، مرسلًا. أخرجه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(3/ 179 - 180)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب"(1171)، ورواه شريك، عن وائل، عن جُميع بن عمير، عن خاله أبي بردة، به، أخرجه الحاكم -أيضًا- (2/ 10)، وأخرجه البزار (9/ 259)، وقال:(عن عمه) بدل (عن خاله).
وهذا إسناد معلول غلط فيه شريك -وهو ابن عبد الله القاضي- من وجهين:
الأول: في قوله: (جُميع بن عمير) وإنما هو سعيد بن عمير، كما ترجمه البخاري في "تاريخه"
(2)
.
الثاني: وَصْلُهُ، وإنما رواه غيره عن وائل بن داود مرسلًا، إضافة إلى أن شريكًا قد اختلف عليه، قال البخاري:(أسنده بعضهم، وهو خطأ)، وقال أبو حاتم بعد سياقه مرسلًا:(والمرسل أشبه)
(3)
، وقد ساقه البيهقي من طريق محمد بن عبيد. ثنا وائل بن داود، عن سعيد بن عبيد، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، ثم قال:(هذا هو المحفوظ مرسلًا)
(4)
.
= الصواب قول الطبراني في "الكبير"(4/ 276، 277)، عن عباية بن رفاعة، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
فيكون قول الحاكم: (عن أبيه) فيه تجوّز. ويكون صحابي الحديث رافع بن خديج جد عباية بن رفاعة.
(1)
(3/ 3).
(2)
(3/ 501، 502).
(3)
"العلل"(2837).
(4)
"السنن الكبرى"(5/ 263).
وبهذا يتبين أن هذا الحديث قد أعله كبار المحدثين، وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الطبراني
(1)
، قال عنه أبو حاتم:(حديث باطل)، وآخر من حديث علي رضي الله عنه، وهو كالذي قبله
(2)
.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أي الكسب أطيب) الكسب: هو السعي في طلب الرزق والمعيشة، وقال الشيباني:(الاكتساب: تحصيل المال بما يحل من الأسباب)
(3)
.
قوله: (أطيب) أي: أحل وأبرك؛ لأن الطيب هو الحلال
(4)
.
قوله: (عمل الرجل بيده) لفظ (الرجل) خرج مخرج الغالب؛ لأن الرجل هو المطالب بتهيئة القوت والمسكن وتوابع ذلك، والمرأة مثل الرجل في ذلك إذا احتاجت للإنفاق على نفسها أو أولادها. وعمل اليد: كالزراعة والصناعة والنجارة والحدادة والكتابة، ونحو ذلك.
وقوله: (وكل بيع مبرور) هو ما توفرت فيه شروطه وأركانه، وانتفت موانعه ومفسداته، وقام على الصدق وبيان الحقيقة، وخلا من الغش والخداع.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن التكسب والسعي في طلب الرزق الحلال لا ينافي التوكل على الله تعالى، بل هو من فعل الأسباب المأمور بها شرعًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر السائل عن أطيب الكسب، وأجابه عن سؤاله فأرشده إلى أطيب المكاسب.
والتكسب هو طريق المرسلين الذين أمرنا الله تعالى بالاقتداء بهديهم، قال تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقد كان زكريا عليه السلام نجارًا
(5)
، وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده
(6)
، والنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم على قراريط لأهل مكة
(7)
، واتجر بمال خديجة رضي الله عنها
(8)
.
(1)
"الأوسط"(3/ 82).
(2)
انظر: "العلل"(1168)، (1172).
(3)
"الكسب" ص (34).
(4)
"النهاية"(4/ 171).
(5)
أخرجه مسلم (2379).
(6)
أخرجه البخاري (2073).
(7)
أخرجه البخاري (2262).
(8)
انظر: "صحيح السيرة النبوية"(1/ 164، 321).
° الوجه الخامس: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الكسب الحلال وعلو همتهم حيث لم يسألوا عن الأكثر، وإنما سألوا عن الأطيب، وهذا هو الواجب على كل مسلم يتعاطى البيع والشراء أن يكون هدفه المال الطيب الحلال فإن فيه بركة، لا أن تكون الكثرة هي همّه؛ لأنه قد لا يكون فيها بركة.
° الوجه السادس: أن عمل الرجل بيده أصل المكاسب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدمه على البيع المبرور، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده
…
"
(1)
.
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في أفضل المكاسب، فمنهم من فضَّل الزراعة والحراثة، ومنهم من فضل البيع والشراء، ومنهم من فضَّل الصناعات والحرف، ولكل قائل وجهة نظر، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"
(2)
.
ويرى الشيباني في كتابه "الكسب" أنه لا داعي لهذه المفاضلة؛ لأن المجتمع بحاجة إلى جميع الحِرَف والمِهَن من زراعة ونجارة وصناعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"
(3)
.
لكن إن ثبت حديث الباب فهو نص واضح في أن أفضل المكاسب عمل الرجل بيده، وأفضل المكاسب وأشرفها ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى
(4)
.
° الوجه السابع: في تمجيد الإسلام للعمل والترغيب فيه إعزاز للعمال أنفسهم، وإشادة بالجهد القيم الذي يبذلونه في سبيل طلب الرزق، وإكرام أنفسهم عن ذل السؤال ومنن الرجال.
(1)
أخرجه البخاري (2072).
(2)
أخرجه مسلم (2664).
(3)
أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585).
(4)
انظر: "زاد المعاد"(5/ 792، 793).
ما نُهي عن بيعه
783/ 2 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ:"إِنَّ اللهَ ورَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ شُحومَ الْمَيتَةِ، فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال:"لا، هُوَ حَرَامٌ"، ثُمَّ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "البيوع"، باب "بيع الميتة والأصنام"(2236)، ومسلم (1581) من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وقد تكلم العلماء في هذا الحديث من جهة أن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من عطاء، وقد سئل أبو حاتم عن هذا الحديث فقال:"يزيد بن أبي حبيب عن عطاء، هو من حديث محمد بن إسحاق، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئًا"
(1)
.
لكن جاء ما يدل على أن عطاء قد كتب بهذا الحديث إلى يزيد -كما
(1)
"العلل"(1/ 382).
في رواية أحمد (22/ 377 - 388) من طريق أبي عاصم، حدثنا عبد الحميد، قال: وأخبرني يزيد بن أبي حبيب أن عطاء كتب إليَّ
(1)
يذكر أنه سمع جابرًا
…
وهذا ينفي الواسطة بينهما، والكتابة من طرق التحمُّل المعتبرة عند جمهور المحدثين، ولهذا أخرج البخاري هذا الحديث في "صحيحه" وذكر إثره تعليقًا رواية أحمد المذكورة، وكذا رواه مسلم من طريق محمد بن المثنى، عن أبي عاصم، به.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عام الفتح) أي: فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وفيها بيان تاريخ التحريم، ويحتمل أن يكون التحريم قبل ذلك وأعاده صلى الله عليه وسلم ليسمعه من لم يكن سمعه.
قوله: (إن الله ورسوله حرَّم) هذه رواية "الصحيحين" بإسناد الفعل (حرَّم) إلى ضمير الواحد، وكان القياس (حرما)، وفي بعض الروايات:"إن الله حرم"، وعند ابن مردويه في "تفسيره" من طريق الليث:"إن الله ورسوله حرَّما".
والأظهر جواز إفراد الضمير في مثل هذا، إشارة إلى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه ناشئ وتابع لأمر الله تعالى وحكمه، كما قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ونظيره حديث أنس رضي الله عنه عن الحُمُر الأهلية: "إن الله ورسوله ينهيانكم"، وعند النسائي:"ينهاكم"، أو يكون من باب الحذف والاكتفاء، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
قوله: (الخمر) هي ما أسكر العقل من عصير كل شيء أو نقيعه، سواء كان من العنب أو التمر أو الشعير أو غيرها، وسواء كان مطبوخًا أو غير مطبوخ، فالمدار على الإسكار وغيبوبة العقل، كما سيأتي في "بابه" إن شاء الله.
قوله: (والميتة) اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة شرعية، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحيان ميتة حكمًا كذبيحة المرتد.
قوله: (والخنزير) حيوان نجس العين، قبيح الشكل، قذر، ومعظم غذائه القاذورات، ويأكل الجيف حتى جيف أقرانه.
(1)
انظر: "فتح الباري"(4/ 424).
قوله: (والأصنام) جمع صنم -بالتحريك- وهو ما كان منحوتًا على شكل صورة البشر، أو على أيِّ صورة، والوثن: كل ما عبد من دون الله من قبر وغيره، فالفرق بينهما: أن الصنم يكون على شكل صورة وهيئة، وأما الوثن فهو جثة بلا صورة، وقال الجوهري:(الصنم هو الوثن)
(1)
.
قوله: (أرأيت شحوم الميتة) أي: أخبرني عن حكم بيع شحوم الميتة، فهل يحل بيعها لما فيها من المنافع التي تقتضي صحة بيعها، أو أخبرني عن حكم الانتفاع بشحوم الميتة.
قوله: (فإنها تطلى بها السفن) جملة تعليلية، والمعنى: تدهن السفن بالشحوم بعد أن تذاب، ليمنع ذلك تَشَرُّبَ الخشب للماء.
وكأن السائل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز؛ لما فيها من المنافع، كما طلب العباس رضي الله عنه من الرسول صلى الله عليه وسلم تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز.
قوله: (وتدهن بها الجلود) أي: بعد دبغ الجلود تدهن بالشحوم بعد إذابتها لتلين.
قوله: (ويستصبح بها الناس) أي: يستضيؤن بها حيث يجعلون الشحم المذاب في المصابيح، وهي السرج.
قوله: (فقال: لا) أي: لا يحل بيعها، أو لا تبيعوها، أو لا تنتفعوا بها.
قوله: (هو حرام) جملة فيها معنى التعليل، أي: لا تبيعوها فإن بيعها حرام، على القول بأن الضمير يعود على البيع، وهو تفسير الشافعي، وعزاه ابن القيم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، لأن السائل سأل عن البيع، وقد ذكر الحافظ أنه في رواية أحمد:(فما ترى في بيع شحوم الميتة؟)
(3)
، ولأن الكلام
(1)
"الصحاح"(5/ 1969)، "تيسير العزيز الحميد" ص (117، 200).
(2)
"زاد المعاد"(5/ 749).
(3)
"فتح الباري"(4/ 425)، وقد ساق الحديث بسنده، ثم رجعت إلى "المسند"(22/ 377، 378)، فوقفت على الحديث بالإسناد نفسه، وليس فيه كلمة (بيع)، فالله أعلم.
مسوق لبيان حكم البيع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكرها. ولقوله في آخر الحديث:"جملوه، ثم باعوه".
والقول الثاني: أن الضمير عائد على الانتفاع والأفعال المسؤول عنها، وقال:"هو حرام" ولم يقل: هي؛ لأنه أراد المذكور جميعه، ويؤيد ذلك أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ومن جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها.
والحديث محتمل لرجوع الضمير إلى البيع أو رجوعه إلى الانتفاع، والأول أقرب إلى السياق، كما تقدم.
قوله: (قاتل الله اليهود) أي: أهلكهم؛ لأن من قاتله الله فقد هلك، وهذا دعاء عليهم بالهلاك، وقيل معناه: لعنهم الله وطردهم من رحمته، ذكر هذا المفسرون عند قوله تعالى في سورة براءة:{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]
(1)
، وقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمرًا، فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله اليهود، حُرمت عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها"
(2)
.
قوله: (جملوه) بفتح الجيم والميم المخففة؛ أي: أذابوه حتى يصير وَدَكًا، فيزول عنه اسم الشحم، احتيالًا على الوقوع في المحرم، حيث حُرِّم عليهم الشحم، فباعوه وأكلوا ثمنه، وذلك لأن الشحم المذاب لا يطلق عليه لفظ الشحم في عرف العرب، بل يسمونه: الودك، والضمير في قوله:"جملوه" يعود على الشحوم بتأويله بلفظ: المذكور.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بيع الخمر وعملها وشربها لما فيها من المفاسد وضياع العقل، ولنجاستها على قول الجمهور، كما تقدم في "الطهارة".
(1)
"فتح القدير"(2/ 353).
(2)
أخرجه البخاري (2223)، ومسلم (1582).
والخمر تحتوي على مواد كيميائية كثيرة، وأهمها مادة "الغَول الإيتيلي" وهو السبب في جميع أضرار تعاطي الخمور بأنواعها، وتوجد في غيرها من المشروبات الأخرى بنسب متفاوتة، وأكثر الأجهزة تأثرًا بهذه المادة هو الدماغ، ثم بقية أجزاء البدن، حسب ما أفاده العلم الحديث
(1)
.
ويدخل في اسمها كل مسكر من سائل وجامد أُخذ من أي شيء، سواء كان من عنب أو تمر أو شعير أو غيرها مما ظهر في هذا العصر، كما يدخل في ذلك الحشيش والقات والدخان فكلها خبائث لا يحل بيعها ولا تعاطيها، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كل مسكر خمر"
(2)
، ومن شروط البيع أن تكون العين مباحة النفع، وهذه غير مباحة.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم بيع الخنزير ولحمه وشحمه وجلده وجميع أجزائه؛ لأن عينه نجسة، وفيه مضار عظيمة، فقد أثبت العلم الحديث أن الخنزير ينقل بمفرده إلى الإنسان (27) مرضًا، منها: تليف الكبد، وعسر الهضم، وتصلب الشرايين، والعقم، وكثرة الأكياس الدهنية
…
، وقد ذكر بعض الباحثين أن لحم الخنزير وشحمه له تأثير سيء على العفة والغيرة على العرض
(3)
. قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] والرجس: هو الشيء القذر، والضمير يعود على الخنزير -على أحد القولين
(4)
-؛ لأنه أقرب مذكور، ولأنه ذكَّر الضمير وأتى بالفاء و (إنّ) تنبيهًا على علة التحريم لتنزجر النفوس عنه، فإن الخنزير يأكل النجاسات والجيف، وتحريمه يدل على خبثه وقذارته، وتخصيص اللحم في الآية لأنه هو المقصود في العادة بالأكل.
° الوجه الخامس: تحريم بيع الميتة بجميع أجزائها، ويكون هذا الحديث مخصصًا لحديث:"إنما حَرُمَ أكلها"
(5)
، فإنه يدل بمفهومه على أن ما
(1)
"مع الطب في القرآن الكريم" ص (140).
(2)
أخرجه مسلم (2003) وسيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله.
(3)
راجع كتاب: "الخنزير بين ميزان الشرع ومنظار العلم" للدكتور: أحمد جواد.
(4)
"فتح القدير"(2/ 172).
(5)
أخرجه البخاري (5531)، ومسلم (363)، وقد تقدم في كتاب "الطهارة".
عدا الأكل حلال، ويستثنى من ذلك السمك والجراد لحل ميتته، وما لا تدخله الحياة كالشعر والصوف والوبر والريش؛ لأنه لا يكتسب من خبثها، ولا يصدق عليه أنه ميتة، وهذا قول الجمهور
(1)
، وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها؛ لأن اسم الميتة يتناولها.
وأما حكم الجلد فتقدم الكلام عليه في باب "الآنية" من كتاب "الطهارة".
وقد اختلف العلماء في حكم الانتفاع بشحوم الميتة، وسبب الخلاف مرجع الضمير في قوله:"هو حرام" هل يعود على البيع أو على الانتفاع؟.
فالقول الأول: أنه لا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وعزاه النووي إلى الجمهور
(2)
، قالوا: لأن الضمير يعود على الانتفاع؛ لأنه أقرب مذكور، ولأن إباحة الانتفاع ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها، واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
والقول الثاني: يجوز الانتفاع بشحوم الميتة في غير الأكل، كطلي السفن، والاستصباح، ونحو ذلك، وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم
(3)
، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما حَرُمَ من الميتة أكلها"، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه نهى الصحابة رضي الله عنهم عن الاستسقاء من آبار ثمود، وأباح لهم أن يطعموا ما عجنوا من تلك الآبار للبهائم
(4)
.
وهذا قول قوي؛ لأن الانتفاع بالشحوم في غير الأكل انتفاع محض لا مفسدة فيه، فيجوز الانتفاع بها في مثل ذلك دون بيعها، وقد ذكر ابن القيم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، إذ لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع
(5)
.
(1)
"زاد المعاد"(5/ 753).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(9/ 11).
(3)
"مجموع الفتاوى"(21/ 83، 511)، "زاد المعاد"(5/ 749).
(4)
أخرجه البخاري (3378)، ومسلم (2981) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5)
"زاد المعاد"(5/ 761).
° الوجه السادس: تحريم بيع الأصنام؛ لأنها تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فإن كان ينتفع بها بعد تكسيرها، فقد أجاز بيعها بعض العلماء، ومنعه آخرون، فمن منعه نظر لظاهر النهي وإطلاقه، ومن أجازه اعتمد على الانتفاع، وتأول الحديث على ما لم ينتفع برضاضه. ويدخل في الأصنام تماثيل الزعماء التي تنصب في الميادين والشوارع العامة، ففيها فتنة وغلو يَجُرُّ إلى الشرك، كما يدخل في ذلك الصليب الذي هو شعار النصارى، والكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله تعالى، ذكر هذا ابن القيم
(1)
.
° الوجه السابع: تحريم الحيل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولعن فاعلها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
(2)
.
° الوجه الثامن: أن التحيل على محارم الله تعالى سبب لغضب الله ولعنه؛ لأن المتحيل عاصٍ معاندٌ مخادع لله تعالى، وهو متشبه باليهود المغضوب عليهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وقد كثرت الحيل في عصرنا ولا سيما في أمور البيع والشراء، وذلك لضعف الإيمان والخوف من الله تعالى والاستهانة باحكام الشريعة، وافتتان الناس بالدنيا وحطامها.
° الوجه التاسع: أن كل ما حرمه الله على العباد فبيعه حرام؛ لتحريم ثمنه، وقد دل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "
…
إن الله عز وجل إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"زاد المعاد"(5/ 761).
(2)
أخرجه ابن بطة في "الحيل" ص (112) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل": (هذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة)، انظر:"الفتاوى الكبرى"(3/ 123) وجوده ابن كثير في "تفسيره"(3/ 492)، وحسنه ابن القيم في "تهذيبه"(5/ 103)، وفي "الإغاثة"(1/ 348).
(3)
أخرجه أبو داود (3488)، وأحمد (4/ 95)، وإسناده صحيح، كما قال ابن القيم في "زاد المعاد"(5/ 746).
الحكم في اختلاف البائع والمشتري
784/ 3 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَلَيسَ بَينَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ، أَوْ يَتَتَارَكَانِ"، رَوَاهُ الخَمْسَة، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، باب "إذا اختلف البيعان والمبيع قائم"(3511)، والنسائي (7/ 302، 303)، والحاكم (2/ 45)، والبيهقي (5/ 332) من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، قال: اشترى الأشعث رقيقًا من رقيق الخُمُسِ من عبد الله بعشرين ألفًا، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاختر رجلًا يكون بيني وبينك، قال الأشعث: أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
وذكر الحديث، وهذا السياق لأبي داود، والنسائي اقتصر على المرفوع منه فقط.
قال البيهقي: (هذا إسناد حسن موصول، وقد روي من أوجه، بأسانيد مراسيل، إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قويًّا)، وقال شيخه الحاكم:(صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي.
وتصحيح الحاكم فيه نظر؛ فإن ابن القطان قد أعل هذا الحديث بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه وجده ذكر ذلك في "بيانه"، ونقله عنه الحافظ في "التلخيص"
(1)
.
(1)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 525، 526)، "التلخيص"(3/ 36)، وانظر: =
وأخرجه الترمذي (1270)، وأحمد (7/ 444) من طريق ابن عجلان، قال: حدثني عون بن عبد الله، عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا إسناد منقطع؛ لأن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يدرك عبد الله بن مسعود، فقد ذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة
(1)
، ومحمد بن عجلان: صدوق، حسن الحديث.
وأخرجه أبو داود (3512)، وابن ماجه (2186)، وأحمد (7/ 445) من طريق ابن أبي ليلى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه أن ابن مسعود باع من الأشعث رقيقًا
…
الحديث.
وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فإنه سيء الحفظ، كثير الخطأ في المتون والأسانيد، وقد خالف في هذا الحديث رواية الجماعة، حيث قال:"عن أبيه" والصواب: عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، وقد علقه الترمذي (548) وهو منقطع بين القاسم وجده ابن مسعود، فإنه لم يدركه.
وقد تابع ابن أبي ليلى على وصل الحديث عمر بن قيس الماصر، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، أخرجه ابن الجارود (624) وعمر بن قيس ثقة احتج به مسلم، وقال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق ربما وهم).
وأخرجه النسائي (7/ 303)، وأحمد (7/ 440) من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، بنحوه، وهذا منقطع -أيضًا-، فإن أبا عبيدة لم يدرك أباه، لكن الظاهر أنه في حكم الموصول، فإن أبا عبيدة كان شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، وعنده في ذلك من العلم ما ليس عند غيره
(2)
.
هذه طرق الحديث عند أصحاب السنن وأحمد، وهي كما ترى فيها مقال، لكن كما قال البيهقي:(إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قويًّا)، وقال
= "إرواء الغليل"(5/ 166)، "السلسلة الصحيحة"(798).
(1)
انظر: "العلل"(5/ 203).
(2)
انظر: "فتاوى ابن تيمية"(6/ 404)، "تهذيب مختصر السنن"(6/ 350)، "شرح العلل" لابن رجب (1/ 298)، "تهذيب التهذيب"(5/ 66).
ابن عبد الهادي: (الذي يظهر أن حديث ابن مسعود في هذا الباب بمجموع طرقه له أصل، بل هو حديث حسن يحتج به، لكن في لفظه اختلاف)
(1)
.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه إذا حصل خلاف بين البائع والمشتري، وليس لدى أحدهما بينة فإن القول قول البائع، ومن صور الاختلاف: الاختلاف في قدر الثمن، بأن يقول البائع: بعتها عليك بمائة ريال، ويقول المشتري: بل بثمانين، ولا بينة، فالقول قول البائع، وهو رب السلعة، "أو يتتاركان" أي: يتفاسخان؛ لأن اختلافهما يمنع تقدير العوض، فكأنه بيع لم يقدر فيه العوض.
وظاهر الحديث أن القول قول البائع بدون يمينه، وهذا قول الشعبي، وحكاه ابن المنذر عن الإمام أحمد، كما قال ابن قدامة
(2)
. وذلك لأن السلعة كانت للبائع، والأصل بقاء ملكه عليها، والأصل براءة ذمة المشتري من الثمن، فيبقى الأمر على ما كان: السلعة لصاحبها، لا تخرج منه إلا برضاه.
والقول الثاني: أنهما يتحالفان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"
(3)
، وكل منهما مدعٍ ومنكر، فإن البائع مدَّع أن الثمن مائة، ومنكِر أنه ثمانون، والمشتري مدع أنه ثمانون ومنكر أنه مائة، وعلى هذا فالقول باليمين مستفاد من دليل آخر، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ومالك في رواية، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(4)
.
والقول الأول أرجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه مؤيد بظاهر الحديث إذا قلنا بتحسينه، ولأن البائع غارم، فلا يمكن أن تخرج السلعة من ملكه إلا بثمن يرضاه، فإما أن يقبل المشتري بذلك، وإما أن يفسخ البيع، ولا حاجة للتحالف
(5)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"التنقيح"(2/ 561)، وانظر:"شرح علل الترمذي"(1/ 23).
(2)
"المغني"(6/ 279).
(3)
أخرجه البيهقي (10/ 252)، بإسناد صحيح على ما قاله الحافظ، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في موضعه.
(4)
"المغني"(6/ 278)، "الإنصاف"(4/ 445).
(5)
انظر: "نظرية العقد" لابن تيمية ص (166، 167)، "الشرح الممتع"(8/ 357).
من المكاسب الخبيثة
785/ 4 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ"، مُتَفَّقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "ثمن الكلب"(2237)، ومسلم (1567) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي مسعود رضي الله عنه به.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (نهى) النهي قول يتضمن طلب الترك على وجه الاستعلاء، والأصل فيه التحريم إلا لدليل، وهو يقتضي الفساد، فيكون بيع هذه الأشياء محرمًا والعقد فاسدًا.
قوله: (عن ثمن الكلب) أل: للاستغراق، فيكون عامًّا في جميع الكلاب المعلم وغير المعلم، ما يقتنى وما لا يقتنى.
قوله: (ومهر البغي) البغي: بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء، فعول بمعنى فاعلة، من الأوصاف التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، كركوب وحلوب، والبِغَاءُ: الطلب، وكثر استعماله في النساء، تقول العرب: بَغَتِ المرأة إذا زنت، تَبْغِي بِغَاءً، فهي بَغِيٌّ، وهن بغايا.
ومهرها: ما تعطاه على الزنا بها، سمي مهرًا: من باب التوسع، أو لكونه على صورة المهر.
قوله: (وحلوان الكاهن) الحلوان: بضم الحاء، مصدر حلوته: إذا أعطيته، وحلوته: إذا رشوته، فالحلوان في أصل اللغة: العطية والرشوة، والمراد به هنا: ما يأخذه الكاهن مقابل كهانته، شبهه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلًا بلا كلفة ولا مقابلة مشقة.
والكاهن: هو الذي يخبر عما يحصل في المستقبل.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن بيع الكلب وتحريم ثمنه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
فالجمهور، ومنهم: مالك في المشهور، والشافعي، وأحمد على تحريم بيعه مطلقًا، لا فرق بين المعلم وغيره، ولا بين ما يجوز اقتناؤه، ككلب الزرع والماشية أو لا يجوز
(1)
.
واستدلوا بعموم هذا الحديث، فإن الأصل في النهي التحريم، والنهي عن ثمن الكلب نهي عن البيع بطريق اللزوم.
والقول الثاني: أنه يجوز بيع الكلاب كلها، وهذا قول أبي حنيفة، وعنه رواية في الكلب العقور أنه لا يجوز بيعه، وإنما يجوز بيع كلب الصيد أو الكلب الذي فيه منفعة
(2)
، ودليله:
1 -
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور إلا كلب صيد
(3)
.
2 -
أنه يباح الانتفاع به، ويصح نقل اليد فيه بالميراث والوصية والهبة، فصحَّ بيعه كالبغل والحمار.
والقول الثالث: أنه لا يجوز بيعه، لكن تجب القيمة على متلفه، وهذا قول مالك، وعنه: يجوز بيعه، وعنه: لا يجوز بيعه، ولا تجب القيمة على
(1)
انظر: "الخرشي على مختصر خليل"(5/ 16)، "المجموع"(9/ 272)، "شرح الزركشي"(3/ 670).
(2)
"بدائع الصنائع"(5/ 142).
(3)
أخرجه النسائي، وسيأتي الكلام عليه قريبًا في موضعه.
متلفه، ذكر هذا النووي
(1)
، وقال ابن عبد البر:(والأول -أي تحريم بيعه- تحصيل مذهبه، وهو الصحيح إن شاء الله)
(2)
.
والقول الأول هو الراجح لقوة دليله، فإن الحديث نص واضح في التحريم، ولم يثبت استثناء شيء، فتعين العمل بعموم الحديث.
وأما حديث جابر رضي الله عنه باستثناء كلب الصيد، فهو حديث ضعيف، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما إباحة الانتفاع فلا يلزم منه جواز بيعه؛ لأن باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، وتقدم ذلك.
وأما القياس على البغل والحمار فهو -كما يقول ابن القيم- من أفسد القياس؛ لأن قياس الكلب على الخنزير أصح من قياسه على البغل والحمار؛ لأن الخنزير أقرب شبهًا بالكلب
(3)
. وأما وضع اليد عليه فإنما أجازه الشارع لذات المنفعة، واستثنى بيعه، فمنع منه.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم البغاء، وتحريم ما يؤخذ عليه، سواء كان من حرة أو أمة، فهو مال حرام؛ لأنه في مقابل ما حرم الله عليها من الزنا، فليس لها أكله أو الانتفاع به، ويرى ابن القيم أنه يجب التصدق به
(4)
، ولو قال: تخرجه بنية التخلص منه، لكان أولى، ولا يرد إلى الزاني؛ لأنه دَفَعَهُ باختياره في مقابل عوض لا يمكن صاحب العوض استرجاعه، فهو كسب خبيث، ولأنه لو رجع إلى دافعه لصار عونًا له على الاستمرار في جريمته، ولأنه بذلك يحصل له غرضه مع رجوع ماله.
° الوجه الخامس: تحريم الكهانة، وتحريم ما يأخذه الكاهن؛ لأنه أكل للمال بالباطل، ولأن التكهن محرم، وما حرم في نفسه حرم عوضه، ولأن فيه إعانة له على كهانته.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(9/ 492).
(2)
"الكافي"(2/ 675).
(3)
"زاد المعاد"(5/ 772).
(4)
انظر: "زاد المعاد"(5/ 779).
ويدخل في ذلك تحريم إتيان العرَّافين والمنجمين والمشعوذين الدجَّالين، ولا يجوز دفع المال لرؤية ما يفعلون من السحر والشعوذة؛ لأن في ذلك إعانة لهم وتشجيعًا لهم على الاستمرار في عملهم السيء، وعلى ولاة الأمر منعهم من ذلك، قال الماوردي:(يَمْنَعُ المحتسب من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي)
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الأحكام السلطانية" ص (321).
حكم اشتراط منفعة المبيع
786/ 5 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَال: فَلَحِقَنِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا لي، وَضَرَبَهُ. فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَال:"بِعْنِيهِ بِوقيَّةٍ"، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَال:"بِعْنِيهِ" فَبِعْتُهُ بِوقيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَال:"أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في قريب من عشرين موضعًا، مطولًا ومختصرًا، وموصولًا ومعلقًا
(1)
. وهذا يدل على كثرة فوائده، قال القرطبي: (هو حديث عظيم، فيه أبواب من الفقه
…
)
(2)
. وأول موضع رواه فيه كتابُ "الصلاة"، باب "الصلاة إذا قدم من سفر"(443) حيث ساقه مختصرًا من طريق مِسْعر، قال: حدثنا محارب بن دثار، عن جابر رضي الله عنه، به. ثم أخرجه في "البيوع" وغيره.
وأخرجه مسلم في مواضع من "صحيحه"، ومنها: كتاب "المساقاة"، باب "بيع البعير واستثناء ركوبه"(109) من طريق زكريا، عن عمار، حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .. باللفظ الذي ذكر الحافظ في "البلوغ"، وله طرق
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 537).
(2)
"المفهم"(4/ 501).
أخرى عند مسلم، وسيكون الكلام - إن شاء الله - على هذا اللفظ، ونذكر بعض الروايات الأخرى التي يستفاد منها بعض الأحكام المتصلة بمسائل البيع.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أنه كان يسير على جمل له) لم يحدد في هذه الرواية جهة السير، وقد جاء في إحدى روايات "الصحيحين":(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ)، وعند مسلم:(أقبلنا من مكة إلى المدينة)، وعند أبي عوانة:(فأعطاني الجمل وثمنه وسهمي مع القوم)، فتبين بذلك أنه سفر غزوة، قيل: إنها تبوك، وقيل: ذات الرقاع، وهذا هو الظاهر على ما اختاره الحافظ ابن حجر نقلًا عن ابن إسحاق والواقدي، قال:(لأن أهل المغازي أضبط من غيرهم)، ومما يؤيد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل في تلك القصة جابرًا:"هل تزوجت؟ "، قال: نعم
…
الحديث، وفيه أنه اعتذر بتزوجه الثيب من أجل أخواته الصغار، والثيب أقوم عليهن، وذات الرقاع بعد أُحد بسنة واحدة على الأصح، وفيها استشهاد والد جابر رضي الله عنهما، وتبوك بعدها بسبع سنين، والله أعلم.
قوله: (فأعيا) الإعياء: التعب والعجز عن السير، أي: تعب فلم يساير الجيش، يقال: أعيا الرجل أو البعير: إذا تعب وكل من المشي، يستعمل لازمًا ومتعديًا، تقول: أعيا الرجل، وأعياه الله.
قوله: (أن يسيبه) أي: يتركه رغبة عنه، ليذهب على وجهه، وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد، كما كانت الجاهلية تفعل، فإن هذا محرم في الإسلام، ولا يفعله جابر رضي الله عنه.
قوله: (فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لأنه صلى الله عليه وسلم كان في آخر الجيش انتظارًا للعاجزين، ورفقًا بالمنقطعين.
قوله: (فدعا لي وضربه)، هذا يفيد أن الدعاء كان لجابر رضي الله عنه، وفي رواية:(فضربه برجله ودعا له) وهذا يفيد أن الدعاء كان للجمل، ويجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم دعا له ولجمله.
قوله: (بوقية) بحذف الهمزة، والأصل: أوقية، قال النووي:(هي لغة صحيحة، ويقال: أوقية، وهي أشهر)
(1)
، وقال العيني:(ليست بلغة عالية)
(2)
والأوقية: معيار للوزن، جمعها: أواقٍ، ويختلف مقدارها شرعًا باختلاف الموزون، كما يختلف باختلاف البلاد، وكانت في ذلك الوقت أربعين درهمًا، وقد جاء في بعض الروايات: أنها أوقية ذهب، وفي رواية: أربعة دنانير، وهي لا تخالفها؛ لأن الأربعين أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم من الفضة.
وقد ذكر البخاري اختلاف الروايات في ثمن الجمل، ثم قال:(وقول الشعبي بوقية أكثر)
(3)
؛ أي: أكثر موافقة لغيره من الأقوال، وهذا الاختلاف في ثمن الجمل لا يؤثر؛ لأن أصل المسألة -وهو البيع- ثابت.
قوله: (قلت: لا) أي: لا أبيعه، قال ابن التين:(قوله: (لا) ليس بمحفوظ إلا أن يريد لا أبيعُكَهُ، هو لك بغير ثمن)، قال العيني:(كأن ابن التين نزَّه جابرًا عن قوله: لا، لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم)
(4)
، لكن هذه اللفظ ثابتة في "الصحيحين"، فلا مجال للقول بعدم ثبوتها، والنفي موجه لترك البيع، لا لكلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن جابرًا أراد هبة الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل رواية "الصحيحين":(بل هو لك يا رسول الله)
(5)
، وفي رواية لأحمد:"أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ "، قلت: بل أهبه لك، قال:"لا، ولكن بعنيه".
قوله: (حُملانه) بضم الحاء وسكون الميم، مصدر مضاف إلى فاعله، والمفعول محذوف، أي: حمله إياي إلى المدينة، وفي رواية:(واستثنيت ظهره إلى أن نقدم).
وقوله: (إلى أهلي) أي: في المدينة، بدليل رواية "الصحيحين":(حتى بلغ المدينة).
(1)
"شرح صحيح مسلم"(11/ 34)، "تهذيب الأسماء واللغات"(4/ 195).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 41).
(3)
"فتح الباري"(5/ 314).
(4)
"عمدة القاري"(11/ 216).
(5)
البخاري (2309)، ومسلم (111).
قوله: (فلما بلغت) أي: دخلت المدينة على هذا الجمل، بدليل الرواية المتقدمة:(أقبلنا من مكة إلى المدينة).
قوله: (أتيته بالجمل) في رواية: (فجئت إلى المسجد فوجدته، فقال:"الآن قدمت؟ " قلت: نعم
…
).
قوله: (فنقدني ثمنه) قال ابن الأثير: (نقدته كذا؛ أي: أعطيته نقدًا معجلًا)
(1)
، وقد دلت رواية البخاري ومسلم أن الذي نقده الثمن هو بلال رضي الله عنه، فقد جاء في بعض الروايات: (قال لبلال: "أعطه أوقية من ذهب وزده"، فأعطاني أوقية وزادني قيراطًا
…
).
قوله: (فأرسل في أثري) بفتحتين، أو بكسر فسكون؛ أي: ورائي عن قرب، والمعنى: أرسل من يطلبني ويأتي بي إليه، وقد جاء في رواية:(فانطلقت حتى وَلَّيتُ، فقال: "ادعوا لي جابرًا"، قلت: الآن يرد عليَّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إليَّ منه، قال: خذ جملك، ولك ثمنه)
(2)
، ولعل جابرًا كره رده عليه؛ لأنه عرف أنه يمكن أن يشتري بثمنه أحسن منه ويبقى له بعض الثمن
(3)
.
قوله: (أتُراني) بضم التاء؛ أي: أتظنني كلمتك لأجل نقص ثمن الجمل، والاستفهام للإنكار.
قوله: (ماكستك) من المماكسة، وهي المطالبة بالنقص من الثمن، وأصلها: النقص، ومنه: مكس الظالم، وهو ما ينتقصه ويأخذه من أموال الناس، قال الفقهاء: ماكس فلان في البيع ومكس بمعنى: استنقص الثمن، وضد المماكسة: الاسترسال. وهذا إشارة إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع.
قوله: (خذ جملك ودراهمك) هذا من أحسن التكرم؛ لأن الغالب أن من باع شيئًا فهو محتاج لثمنه، فإذا تعوض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه، كما قال الشاعر:
(1)
"النهاية"(5/ 103).
(2)
"البخاري"(2097).
(3)
"فتح الباري"(5/ 317).
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أُمَّ مالكٍ
…
نفائسَ مِنْ رَبٍّ بِهِنَّ ضَنينُ
فإذا رُد عليه المبيع مع ثمنه ذهب الهمُّ عنه، وثبت فرحه، وقُضيت حاجته، مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأفضل في حق القائد وأمير القوم أن يكون في مؤخرة الجيش والقافلة انتظارًا للعاجزين والمنقطعين، لقوله:(فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم).
° الوجه الرابع: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته، فإنه لم يدع جابرًا وجمله على تلك الحال، بل أعانه بالدعاء، وضَرَبَ الجمل الذي صار له قوة على السير بإذن الله.
° الوجه الخامس: فيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب هذا الجمل العاجز فسار سيرًا لم يسر مثله قط ولحق بالجيش، وفي رواية عند البخاري:(فقال لي: "كيف ترى بعيرك؟ "، قال: قلت: بخير، قد أصابته بركتك)
(1)
.
° الوجه السادس: جواز المماكسة في البيع قبل استقرار العقد.
° الوجه السابع: اختلف العلماء هل يجوز للبائع أن يشترط نفعًا معلومًا في المبيع، كركوب الدابة إلى موضع كذا، أو سكنى الدار مدة معلومة، ونحو ذلك؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح العقد، ولا يصح الشرط؛ لأن هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فأشبه ما لو شرط ألا يسلمه المبيع، وذلك لأنه شَرَطَ تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع المنفعة، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم: الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، إلا أن مالكًا أجاز شرط حمل الدابة إلى المكان القريب لقصر الزمن، كثلاثة أيام، ولعله يأخذ بهذا الحديث، لقصر المدة بين مكان العقد والمدينة
(2)
.
واستدل هؤلاء بدليلين:
(1)
البخاري (2967).
(2)
"بداية المجتهد"(3/ 309).
1 -
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثُّنيا
(1)
، ومعنى (الثنيا): أن يبيع شيئًا ويستثني بعضه.
2 -
حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وسيأتي تخريجه إن شاء الله.
وأجابوا عن حديث جابر هذا بأجوبة، منها:
1 -
أن المبايعة ليست حقيقية، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفع جابرًا بالهبة، فاتخذ ثمن الجمل ذريعة إلى ذلك، بدليل:"أتراني ماكستك لآخذ جملك".
2 -
اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن في بعض ألفاظه:(بعته واشترطت حملانه)، وفي لفظ:(أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهره إلى المدينة) والأخير يدل على عدم الشرط.
والقول الثاني: أنه يجوز اشتراط شرط واحد فقط، وهو قول الأوزاعي والإمام أحمد، ووافقهما على ذلك إسحاق وابن المنذر، فإن جمع بين شرطين بطل البيع
(2)
، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب المتقدم:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا تبع ما ليس عندك".
والقول الثالث: يصح البيع مع كل شرط عائد للبائع أو المشتري بمنافع معلومة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي
(3)
، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث جابر هذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر جابرًا على اشتراط منفعة الجمل، قال البخاري: باب "إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى
(1)
أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه (1536)(85).
(2)
"المغني"(6/ 321).
(3)
"الاختيارات" ص (123)، "تهذيب مختصر السنن"(5/ 146)، "المختارات الجلية"(ص 72، 73).
جاز" ثم أورد الحديث، قال الحافظ:(وهكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده)
(1)
.
2 -
حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالًا أو أحل حرامًا، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله- لقوة دليله، ولأن هذه الشروط لا محذور فيها من ربا أو ظلم أو غرر أو ضرر، فكيف تكون محرمة مفسدة للعقد، وكما أنها لا مفسدة فيها فليست -أيضًا- وسيلة إلى مفسدة.
وأما حديث نهى عن الثنيا، فليس بدليل للمانعين، بل هو دليل للمجيزين، فإنه بتمامه عند أصحاب السنن إلا ابن ماجه:(نهى عن الثنيا إلا أن تعلم) فإذا عُلِمَ القدر المستثنى صح البيع لعدم الجهالة، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
وأما حديث: "نهى عن بيع وشرط"، فقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يوجد في شيء من دواو بن الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه
…
)
(2)
.
وقال ابن القيم: (لا يعلم له إسناد صحيح مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس، ولانعقاد الإجماع على خلافه)
(3)
.
وأما إجابتكم عن حديث جابر رضي الله عنه فهي مردودة كما يلي:
1 -
قولكم: إن المقصود الهبة، خلاف الظاهر، فإن ألفاظ الحديث صريحة بوقوع البيع، كقوله:"بعته منك بأوقية"، وقوله:""قد أخذته"، ثم إن ظاهر الحديث يفيد أن اشتراط مثل ذلك معلومٌ لديهم جوازه؛ لأن جابرًا هو الذي ابتدأ شَرْطَ ظهرِ الجمل، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على شرطه، ولو كان باطلًا لم يقره عليه.
(1)
"فتح الباري"(5/ 314).
(2)
"الفتاوى"(29/ 132).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 327).
2 -
وأما اختلاف الرواة في ألفاظه وأن ذلك يمنع الاحتجاج به، فهذا صحيح بشرط التكافؤ أو التقارب، أما إذا كانت إحدى الروايات أرجح فينبغي العمل بها
(1)
.
وأما قول مالك بالجواز في الزمان القريب دون البعيد، فلا دليل عليه، فإن الحديث لا يمنع ما كان بعيدًا.
وأما دليل أصحاب القول الثاني: "ولا شرطان في بيع"، فهذا دليل صحيح، ولكن الاستدلال به ليس في محله، فإن الحديث لا يتناول الشروط التي فيها مصلحة للبائع أو للمشتري، وهي مقدورة للمشروط عليه ولا محذور فيها، وإنما يتناول الشروط التي تترتب عليها مفسدة شرعية، كمسائل العينة وغيرها، كأن يقول: أبيعك هذه السلعة بألف ريال إلى سنة ثم يشتريها منه حالّة بسبعمائة، فإن مثل هذا لا بد فيه من المشارطة في الغالب لفظًا أو مواطأة، فحمل هذا الحديث على ما فيه محذور شرعي متعين؛ لأن حديث جابر فيه الجمع بين البيع وشرط، وإذا أُذن في شرط أُذن في شرطين لعدم الفارق في نظر الشرع، وسيأتي لذلك مزيد كلام إن شاء الله تعالى.
(1)
انظر: "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 104).
حكم بيع المُدَبَّرِ
787/ 6 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُ، فَدَعَا بِهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "البيوع"، باب "بيع المزايدة"(2141) وفي باب "بيع المدبَّر"(2230) ثم أعاد الترجمة نفسها في كتاب "العتق"(2534) وساق الحديث بلفظ مختصر، وهو أقرب ألفاظه إلى لفظ "البلوغ"، وأخرجه في كتاب "الاستقراض"، باب "من باع مال المفلس أو المعدم وقسمه بين الغرماء"(2403).
وأخرجه مسلم في كتاب "الزكاة"، باب "الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة"(997) كلاهما من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه.
وقد أعاد الحافظ هذا الحديث في كتاب "العتق" في أواخر "بلوغ المرام" بلفظ آخر.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز بيع المدبر، والمُدَبَّرُ: بزنة اسم المفعول، هو الرقيق الذي عُلِّقَ عتقه بموت مالكه، بأن يقول السيد لرقيقه: أنت حر بعد موتي، سمي بذلك لأن عتقه جعل دُبُرَ حياة سيده، والموت دبر الحياة.
وظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باع هذا المدبر لما علم أن صاحبه لا يملك شيئًا غيره، لما ورد في رواية للبخاري: (أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج
…
)، وفي رواية أخرى:(لم يكن له مال غيره)، والقول بأنه لا يباع إلا لحاجة من دين أو نفقة هو قول الحسن وعطاء، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره ابن دقيق العيد
(1)
.
والقول الثاني: جواز بيعه مطلقًا، سواء باعه لحاجة أم لا، وهذا قول الشافعي، والمشهور من مذهب الإمام أحمد
(2)
، قالوا: إنه لما جاز بيعه في صورة من صور البيع جاز في كل صوره، ولأنه شبيه بالوصية التي يجوز الرجوع عنها ما دام الموصي في حال الحياة.
وأجابوا عن قوله: "فاحتاج" بأنه لا مدخل له في الحكم، وإنما ذكره لبيان السبب في المبادرة لبيعه، ليتبين للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى، والقول الأول فيه وجاهة كما ترى؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة
(3)
، وسيأتي الكلام عن بقية أحكامه في الباب المشار إليه، إن شاء الله.
(1)
"إحكام الأحكام" بحاشية الصنعاني (4/ 569).
(2)
"المجموع"(9/ 244)، "المغني"(12/ 316).
(3)
انظر: "الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها"(1/ 170).
حكم السمن تقع فيه الفأرة
788/ 7 - عَنْ مَيمُونَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارَةً وَقَعَتْ في سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَال:"أَلفُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ أَحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ: في سَمْنٍ جَامِدٍ.
789/ 8 - وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ في السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَايعًا فلا تَقْرَبُوهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِالْوَهْمِ.
* الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ميمونة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "الوضوء"، باب "ما يقع من النجاسات في السمن والماء"(235)(236)، وفي كتاب "الذبائح والصيد"، باب "إذا وقعت الفارة في السمن الجامد أو الذائب"(5540) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها.
وأخرجه النسائي (7/ 178) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بهذا الإسناد، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فارة وقعت في سمن جامد
…
) ومع أن إسنادها صحيح إلا أن فيها نظرًا -كما يقول ابن عبد الهادي-؛ لأن أصحاب مالك لم يذكروها
(1)
.
(1)
"المحرر"(2/ 536).
وجاءت عند أحمد في إحدى رواياته (44/ 387) من طريق محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، عن الزهري، به، ولفظه: (عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فأرة سقطت في سمن لهم جامد
…
) الحديث، وقد بيّن ابن عبد الهادي بأن هذه الزيادة من كيس محمد بن مصعب القرقساني، وقد ضعفه يحيى بن معين وجماعة
(1)
. ولخص الحافظ حاله بأنه صدوق كثير الغلط.
وقد دلت هذه الرواية على أن السائلة هي ميمونة رضي الله عنها، ووقع في بعض روايات مالك -أيضًا- أن ميمونة هي السائلة
(2)
.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (12/ 100، 101)، وأبو داود (3842) من طريق معمر: أخبرنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
ومتن هذا الحديث صحيح، ورجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، إلا أنه كما قال البخاري وأبو حاتم والترمذي والدارقطني وغيرهم
(3)
: إن معمر بن راشد قد أخطأ في إسناده، فإنه رواه عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وقد خالفه أصحاب الزهري أمثال الإمام مالك وابن عيينة فرووه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة، قال البخاري:(هذا خطأ، أخطأ فيه معمر)، وقال أبو حاتم:(وَهْمٌ)
(4)
.
وقد جاء في "صحيح البخاري": (قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: ما سمعت الزهري يقول: إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مرارًا)
(5)
.
(1)
"التنقيح"(2/ 566)، "تهذيب التهذيب"(9/ 458، 459).
(2)
انظر: "فتح الباري"(1/ 343، 9/ 670).
(3)
انظر: "علل الترمذي"(2/ 758، 759)، "الفتاوى"(21/ 490).
(4)
انظر: "جامع الترمذي"(4/ 226)، "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 12).
(5)
"الصحيح"(5538).
وفي الحديث خطأ آخر وقع فيه معمر، وهو الزيادة التي تفرق بين السمن الجامد والذائب، فتكون مخالفة معمر حصلت في الإسناد والمتن، ومعمر معروف بالغلط، ولا سيما أحاديثه في البصرة، قال أبو حاتم الرازي:(ما حدَّث بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث)
(1)
، ومعظم الذين رووا عنه هذا الحديث بصريون. ويكون الحديث بهذا التفصيل غير محفوظ، وإنما المحفوظ أن الحديث من مسند ميمونة، لا من مسند أبي هريرة، كما أن المحفوظ هو عدم التفصيل بين الجامد والمائع.
وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن أثبته محمد بن يحيى الذهلي، فيما جمعه من أحاديث الزهري، وكذا احتج به أحمد لما أفتى بالفرق بين الجامد والمائع، وكان أحمد يحتج أحيانًا بأحاديث ثم يتبين له أنها معلولة
(2)
.
° الوجه الثاني: حديث ميمونة رضي الله عنها دليل على أن الفأرة إذا وقعت في السمن وماتت فيه نَجَّست ما حولها مما وقعت فيه، فيجب إلقاؤها وإلقاء ما حولها، ويحكم على البقية بأنه طاهر، لا تسري النجاسة إلى كل أجزائه، فيجوز أكله، ولا فرق في ذلك بين كثير السمن وقليله.
وظاهر الحديث أنه لا فرق بين الجامد والمائع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله جوابًا عامًّا مطلقًا بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان سمنهم مائعًا أو جامدًا مع أن الغالب على سمن الحجاز أنه مائع.
وحد الجامد: ما إذا أُخذ منه شيء لم يترادَّ من الباقي مكانه، ولا يسيل إذا كسر إناؤه، وأما المائع، فهو عكسه: فإنه يتراد عند الأخذ منه، ويسيل إذا كسر إناؤه، وهذا قول بعض أهل الحديث كالبخاري، كما تشعر بذلك ترجمته على حديث ميمونة، وهو رواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
(1)
"الجرح والتعديل"(8/ 257)، وانظر:"مرويات الزهري"(2/ 980).
(2)
"الفتاوى"(21/ 493).
(3)
انظر: "الفتاوى"(21/ 488 - 502).
والقول الثاني: التفريق بين الجامد والمائع، وأن الجامد يحكم فيه بنجاسة ما جاور النجاسة وبطهارة الباقي، بل حكى ابن عبد البر الاتفاق على ذلك
(1)
، وأما المائع فكله ينجس بملاقاة النجاسة، قلَّ أم كثر، تغير أم لم يتغير، وهذا مذهب الجمهور، مستندين إلى الزيادة المذكورة في رواية معمر.
وبهذا يتبين أن سبب الخلاف هو الاختلاف في تصحيح الزيادة المذكورة في الحديث.
والقول الأول أرجح، وهو عدم تنجس المائعات إلا بالتغير، لقوة دليله، وقد أفتى بذلك عدد من الصحابة، كابن عباس وابن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم
(2)
.
وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.
وأما زيادة معمر عن الزهري التي تفرق بين المائع والجامد فهي ضعيفة، كما تقدم، إضافة إلى أن فيها اضطرابًا، وقد أفتى الزهري الذي مدار الحديث عليه بخلافها، فقد روى البخاري من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغيره، فأفتى بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفارة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح
(3)
. فهذه فتيا الزهري الذي مدار الحديث عليه في الجامد وغير الجامد، وقد حكم عليهما باستواء الحكم، فيكيف يروي التفريق بينهما؟!. ولأن مائع الدهن وأشباهه قريب من الجامد؛ لأنه ليس له الميعان الكامل.
ثم إن القول بتنجس المائعات لا يخلو من حرج ومشقة لوجود القناطير المقنطرة من الزيت الذي يكون في معاصر الزيتون أو العسل أو غيرهما، ولا يمكن صيانتها عما يقع فيها، فالقول بنجاسة ذلك فيه حرج شديد، فإنه لو كان ماء لما أُتلف ما دون القلتين عند الجمهور، فكيف بالمائعات من الدهن والعسل ونحوهما؟!.
° الوجه الثالث: أن الحكم بطهارة السمن ونحوه، مشروط بألا يتغير
(1)
"التمهيد"(9/ 40).
(2)
"الفتاوى"(21/ 497، 498).
(3)
"صحيح البخاري"(5539).
بالنجاسة التي تظهر فيه ريحه أو طعمه أو لونه، فإن تغير بشيء من ذلك فإنه يكون نجسًا، فلا يجوز استعماله؛ لأن الماء وهو الطهور إذا تغير بشيء مما ذكر نَجِسَ، فكيف بالمائعات التي لا تدفع عن نفسها نجاسة؟!.
ومعلوم أن الجامد يكون فيه ما حول النجاسة قليلًا لجموده، وقد أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف
(1)
. فإن كان مائعًا صار الذي حول النجاسة أكثر فيلقى أكثر من الجامد.
° الوجه الرابع: يلحق بالسمن غيره من المائعات كالزيت والعسل واللبن ونحوها، وذكر السمن إنما هو واقعة عين لميمونة رضي الله عنها، وإلحاق ما ذكر من القياس الواضح
(2)
.
° الوجه الخامس: دلَّ الحديث بمفهومه على أن الفأرة لو وقعت في السمن ثم خرجت وهي حية أن السمن لا ينجس، ولذا جعل الفقهاء الهرة وما دونها في الخلقة طاهرًا في حال الحياة.
° الوجه السادس: اعلم أن الكلام في مسألة السمن المائع الذي وقعت فيه الفارة إنما هو باعتبار أنه يحل أو لا يحل، لكن لو كرهه الإنسان فلا بأس بإراقته، لا سيما وأن له شبهة قوية في كراهته؛ لأن الجمهور يقولون بتحريمه، كما تقدم.
فإن كان جامدًا وكرهه فالأولى عدم إراقته، بل يعطيه أو يتصدق به، لئلا تكون إراقته من باب إضاعة المال، ولا يلزم أن يبين ما وقع فيه
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
قال في "فتح الباري"(9/ 670): (سنده جيد لولا إرساله).
(2)
"فتح الباري"(9/ 669).
(3)
سمعته من شرح الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على "البلوغ".
حكم بيع الكلب والسِّنَّور
790/ 9 - عَنْ أَبِي الزُّبَيرِ قَال: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ فَقَال: زَجَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ: إلَّا كَلبَ صَيدٍ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "تحريم ثمن الكلب
…
والنهي عن بيع السنور" (1569) من طريق الحسن بن أعين، حدثنا معقل، عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا
…
الحديث.
وأخرجه النسائي (7/ 190، 309) من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير بالزيادة المذكورة، وقال النسائي:(ليس هو بصحيح) وقال في الموضع الثاني: (هذا منكر)، ووجه النكارة استثناء كلب الصيد من عموم الكلاب، ولم يرد هذا في الروايات الأخرى، ومنها رواية مسلم، والمراد تضعيف هذه الزيادة، وإلا فالحديث صحيح بدون هذا الاستثناء.
وفي الحديث علة أخرى، وهي أنه قد اختلف على حماد بن سلمة في رفع هذا الحديث ووقفه، فرواه وكيع عن حماد عن جابر موقوفًا، ورواه الهيثم بن جميل وآخرون عن حماد مرفوعًا، وقد رجح الدارقطني الوقف
(1)
.
قال البيهقي: (الأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن
(1)
انظر: "سنن الدارقطني"(3/ 73)، "الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها"(1/ 131).
الكلب خالية من هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي عن الاقتناء، ولعله شُبِّه على من ذكر في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة، الذي هم دون الصحابة والتابعين، والله أعلم)
(1)
.
° الوجه الثاني: تقدم أن هذا الحديث من أدلة القائلين بجواز بيع الكلب، وبما أن هذه الزيادة غير صحيحة، فإن الاستدلال لا يتم.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم ثمن السِّنَّور، وهو بكسر المهملة وتشديد النون: القط والهر، وتحريم ثمنه يدل باللزوم على تحريم بيعه؛ لأنه نجس العين، ولا ينتفع به إلا لحاجة كأكل الفأر والحشرات، ونحو ذلك، والقول بمنع بيع السنور قد أفتى به جابر بن عبد الله، وأبو هريرة رضي الله عنهما، وهو قول طاووس ومجاهد، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، وابن القيم
(2)
، وصححها ابن رجب
(3)
.
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى جواز بيعه
(4)
، وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه مشى الخرقي في "مختصره"
(5)
، واستدلوا بأن فيه منفعة كما تقدم، وحملوا الحديث في النهي عن بيعه على هرٍّ مملوك أو لا فائدة منه؛ لأن أكثر الهررة معتدٍ لا يمكن الانتفاع به، أو أن النهي مراد به الكراهة إلى غير ذلك مما قالوه
(6)
.
والصواب الأول؛ لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يعارضه، فوجب القول به، قال البيهقي:(متابعة ظاهر السنة أولى، ولو سمع الشافعي رحمه الله الخبر الوارد فيه لقال به إن شاء الله)
(7)
. وما قاله أصحاب القول الثاني صرف للحديث عن ظاهره بلا دليل
(8)
، فالعمل بالعموم أقوى، والله تعالى أعلم.
(1)
"السنن الكبرى"(6/ 6).
(2)
"شرح الزركشي"(3/ 677)، "زاد المعاد"(5/ 773).
(3)
"القواعد" ص (227).
(4)
"المجموع"(9/ 284).
(5)
"المغني"(6/ 359).
(6)
انظر: "شرح الزركشي"(3/ 678)، "زاد المعاد"(5/ 773).
(7)
"السنن الصغير"(2/ 278).
(8)
انظر: "شرح الزركشي"(3/ 678)، "زاد المعاد"(5/ 773، 774).
صحة الشروط المشروعة وبطلان غيرها
791/ 10 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ أُوْقِيَّةٌ، فَأَعِينِينيِ، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا، فَقَالتْ لَهُمْ؛ فَأَبَوْا عَلَيها، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَقَالتْ: إِني قَدْ عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيهِمْ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشةُ النبي صلى الله عليه وسلم. فَقَال:"خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ، فَإِنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ خطيبًا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَال:"أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيسَتْ في كِتَابِ اللهِ عز وجل؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَال:"اشْتَريهَا، وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطي لَهُمْ الْوَلاءَ".
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في أربعة وعشرين موضعًا من "صحيحه" أولها في كتاب "الصلاة"، باب "ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد"(456) وأخرجه في "البيوع"، باب "إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل"(2168) من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، بهذا اللفظ الذي
ذكر الحافظ، وأخرجه في "النكاح" وسيأتي بيان ذلك هناك إن شاء الله تعالى.
وأخرجه مسلم في كتاب "العتق"، باب "بيان أنما الولاء لمن أعتق"(1504) من عدة طرق، واللفظ الذي ذكره الحافظ جاء من طريق أبي أسامة: حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، به.
وهذا الحديث حديث عظيم، جليل القدر، كثير الفوائد، استنبط منه الحافظ ابن حجر قريبًا من مائة وعشرين فائدة
(1)
، وذكر في "الإصابة" أن بعض الأئمة جمع فوائده في مصنف مستقل، فزادت على الثلاثمائة
(2)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (جاءتني بريرة) هي مولاة عائشة رضي الله عنها، اشترتها وأعتقتها، وكانت تخدمها قبل أن تشتريها، وكانت تحت مغيث مولى أبي أحمد بن جحش الأسدي، وكان عبدًا، فعتقت، فخيرها النبي رضي الله عنه، فاختارت فراقه، وسيأتي ذلك في كتاب "النكاح" إن شاء الله، عاشت بريرة رضي الله عنها إلى زمن معاوية رضي الله عنه
(3)
.
قوله: (كاتبت أهلي) الكتابة: شراء العبد نفسه من سيده، وذلك بأن يقع عقد بين الرقيق وبين سيده على أن يدفع له مبلغًا من المال منجمًا -أي: أقساطًا محددة- ليصير بذلك حرًّا، والمراد بقولها:(أهلي) مواليها، وهم ناس من الأنصار.
قوله: (على تسع أواقٍ) جمع أوقية، وتقدم أنها في ذلك الوقت أربعون درهمًا، وأواقٍ أصلها: أواقيّ: بتشديد الياء، ويجوز تخفيفها بحذفها.
قوله: (أن أعدها لهم) أي: أدفعها لهم معدودة دفعة واحدة، كما في رواية البخاري: (أرأيت إن عددت لهم عدة واحدة أيبيعك أهلك؟
…
(4)
).
(1)
"فتح الباري"(9/ 411 - 416).
(2)
"الإصابة"(12/ 157).
(3)
"الإصابة"(12/ 157)، "فتح الباري"(5/ 188).
(4)
"صحيح البخاري"(2560).
قوله: (ولاؤك لي) أي: ولاء عتقك يكون لي، وولاء العتق: أن يرث المعتقُ أو ورثته العتيقَ إذا لم يكن له وارث من عصبته، وأصل الولاء: السلطة والنصرة، ويطلق الولاء على القرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة، أي: الذي سببه العتق، وهو عصوبة، سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق.
قوله: (إنما الولاء لمن أعتق) أي: إن شرطهم هذا لا قيمة له؛ لأن الولاء لمن أعتق لا لمن باع، ومقتضى الحصر بـ (إنما) أن إثبات الولاء لمن أعتق يلزم منه نفيه عمن لم يعتق.
قوله: (ما بال رجال) جواب (أما) والأصل أن يكون بالفاء، وحذفها هنا نادر، كما ذكر ابن هشام، ومثل بهذا الحديث
(1)
. ومعنى: "ما بال" ما شأن وما حال رجال، وقوله:"رجال" لا مفهوم له، وإنما لأن قصة المبايعة كانت مع رجال، وقد جاء في بعض الروايات:"ما بال أقوام".
قوله: (ليست في كتاب الله) أي: ليست في شرع الله وقضائه، في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي مخالفة لذلك. وليس المراد بكتاب الله: القرآن؛ لأن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، وإنما علمت من السنة.
قوله: (فهو باطل) الباطل: ضد الصحيح، وهو لغة: الذاهب ضياعًا وخسرًا، واصطلاحًا: ما لا تترتب آثار فعله عليه، عبادة كان أم عقدًا.
قوله: (قضاء الله أحق) أي: شرع الله تعالى وحكمه أولى بالاتباع من الشروط المخالفة للحق.
قوله: (وشرط الله أوثق) أي: أقوى وأشد إحكامًا، فهو أحكم الشروط، وأوثقها، والظاهر أن اسم التفضيل في الموضعين ليس على بابه، إذ لا مشاركة بين الحق والباطل، وإنما هو من باب الصفة المشبهة، فالمعنى: أن قضاء الله هو الحق، وشرطه هو القوي.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية مكاتبة الرقيق؛ لأنها طريق
(1)
"أوضح المسالك"(4/ 235).
إلى تخليصه من الرق، فيتفق السيد مع رقيقه على عوض معين يدفعه إليه، ويطلق السيد الحرية للمكاتب في الكسب، فإذا دفع العوض صار حرًّا، وهذا يدل على حرص الإسلام على العتق، وذلك بمشروعية العديد من وسائله.
° الوجه الرابع: أن الكتابة يكون دينها مؤجلًا يحل قسطًا قسطًا؛ لأن الرقيق حين عقد الكتابة لا يملك شيئًا، لكن ليس التأجيل شرطًا، فيجوز أن تكون حالَّة إذا كان المال من غير العبد، كما في هذا الحديث: (إنْ أحب أهلك أن أعدها لهم
…
)، وقد يحصل ذلك من العبد إذا كان قويًّا وله صنعة يستطيع بها أن يجمع الثمن في نجم واحد؛ لأن الله تعالى قال:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا} [النور: 33] ولم يذكر آجالًا، وإنما أمر بالكتابة.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز بيع العبد المكاتب بشرط العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر اشتراط العتق، وإنما أنكر اشتراط الولاء؛ لأن بريرة كانت مكاتبة، وباعها أهلها على عائشة بثمن منقود لتعتقها، وقد بوّب البخاري في كتاب "العتق" باب "بيع المكاتب إذا رضي"
(1)
، وإذا بيع المكاتب أدى نجوم الكتابة إلى مشتريه، فإن أدى إليه عتق، وولاؤه له، وإن عجز عاد قنًّا له.
° الوجه السادس: الحديث دليل على أن الولاء لمن أعتق الرقيق لا لمن باعه، واشتراطه من قِبَل البائع باطل، ولا يؤثر في صحة العقد، بل يبطل الشرط وحده، ويصح العقد.
° الوجه السابع: الحديث دليل على أن الشروط التي على خلاف مقتضى العقد شروط فاسدة بنفسها، غير مفسدة للعقد، وهي شروط محرمة لا يجوز اشتراطها؛ لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على هؤلاء الذين اشترطوا شروطًا ليست من شرع الله تعالى وحكمه، قال ابن القيم:(الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم)
(2)
.
(1)
"فتح الباري"(5/ 194).
(2)
"إعلام الموقعين"(3/ 402).
° الوجه الثامن: اختلف العلماء في قوله: "اشترطي لهم الولاء" حيث دل بظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أذن في البيع على شرط فاسد، فكيف يأذن لهم في وقوع البيع بناءً على شرط سيتم إبطاله؟. وللعلماء في الجواب عن ذلك مسلكان:
الأول: إبطال هذه اللفظة وأنها لم تثبت؛ لأنه تفرد بها مالك، عن هشام، عن عروة، بدليل أنه وقع سقوطها في كثير من الروايات، وهذا مسلك ضعيف؛ لأن الأكثرين من أهل العلم على إثبات هذه اللفظة؛ للثقة برواتها.
الثاني: أن يقال: إنهم قد علموا فساد الشرط؛ لأن المحاورة قد طالت في مسألة بريرة، فعلموا أن اشتراطهم الولاء لا يصلح إلا لمن أعتق، لكنهم أصروا على اشتراطه وأقدموا عليه، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم يشترطونه، وكأنه قال: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم؛ لأن وجوده كعدمه، ثم أعلن فساده وعدم نفوذه، وبتن ذلك للأمة بيانًا عامًّا، وهو إلغاء كل شرط خالف حكم الله وشرعه.
° الوجه التاسع: في الحديث دليل على جواز بيع التقسيط. وصورته: أن يبيع بضاعة إلى أجل، ويزيد في سعرها مقابل الأجل. وهو جائز في قول عامة أهل العلم، بل حكى الحافظ ابن حجر الإجماع على جوازه
(1)
، والأدلة على جوازه كثيرة، ومنها حديث الباب، وحديث السلم الآتي في بابه وغيرها، ومن جهة المعنى أن بيع التقسيط فيه مصلحة للمتعاقدين، وليس فيه ضرر.
لكن ينبغي لمن يبيع بالتقسيط أن يكون قنوعًا من ناحية الربح، فلا يزيد فيه بما يضر أخاه المسلم ويشق عليه سداده، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(4/ 302).
حكم بيع أمهات الأولاد
792/ 11 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيعِ أُمّهَاتِ الأَوْلَادِ، فَقَال: لَا تُبَاعُ، وَلا تُوهَبُ، وَلا تُورَثُ، لِيَسْتَمْتِعْ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرّةٌ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيهَقِيُّ، وَقَال: رَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَوَهِمَ.
793/ 12 - وعَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: كُنَّا نَبِيعُ سَرَارَينَا؛ أُمّهَاتِ الأَوْلادِ، وَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، لا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.
* الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرجه مالك في "الموطأ" في كتاب "العتق والولاء"، باب "عتق أمهات الأولاد"(2/ 776) من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والبيهقي (10/ 342، 343) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال البيهقي: (وغلط فيه بعض الرواة
…
فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وهم لا يحل ذكره)، وسبقه إلى هذا الدارقطني فقال عن وقفه: إنه هو الصواب
(1)
.
أما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(5/ 56)(5021) في كتاب "العتق"، باب "في أم الولد"، وابن ماجه (2517)، والدارقطني (4/ 135)، وابن حبان (10/ 165) من طريق ابن جريج، قال:
(1)
انظر: "العلل"(2/ 41)(13/ 191 - 192)، "الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها"(1/ 161).
أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:
…
وذكر الحديث. وإسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه النووي
(1)
، والألباني
(2)
.
وأخرجه أبو داود (3954)، وابن حبان (10/ 166)، والحاكم (2/ 18، 19)، والبيهقي (10/ 347) من طريق حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه قال:(بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر انتهينا)، وإسناده صحيح على شرط مسلم، كما قال الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني
(3)
.
° الوجه الثاني: أثر عمر رضي الله عنه فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد، والمراد بهن: الإماء اللائي ولدن من سادتهن، وقد وافق عمرَ رضي الله عنه على ذلك المهاجرون والأنصار؛ لأن في بيعهن تفريقًا بينهن وبين أولادهن وتعريضًا لأولادهن الأحرار للاسترقاق والأذى، فرأى رضي الله عنه ألا يُبعن، بل يُعْتِقُهن أولادهن بعد موت السيد، وتكون بعد موت سيدها حرة تامة الحرية تملك جميع تصرفاتها، وإنما منع بيعها لأنها استحقت أن تعتق بموته، وبيعها يمنع ذلك.
وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وحكاه بعضهم إجماعًا
(4)
. والظاهر أنه لا يثبت لوجود الخلاف، لكن الذي عليه جمهور أهل العلم وهو كالإجماع أنهن لا يُبعن أخذًا بما رآه الصحابة رضي الله عنهم، وقد حكي ابن قدامة إجماع الصحابة على ذلك
(5)
.
وقد أراد علي رضي الله عنه في خلافته أن يرجع عن ذلك، فقد أخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: قال علي رضي الله عنه: (ناظرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد، فقلت: يُبعن، وقال: لا يُبعن، قال: فلم يزل عمر يراجعني حتى قلت بقوله، فقضى بذلك حياته، فلما أفضى الأمر إليّ رأيت أن يبعن، فقال عبيدة: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة)
(6)
.
(1)
"المجموع"(2/ 243).
(2)
"الإرواء"(6/ 189).
(3)
"إرواء الغليل"(6/ 189).
(4)
انظر: "إرشاد الفقيه"(2/ 120).
(5)
"المغني"(14/ 587).
(6)
"المصنف"(7/ 291)، "السنن الكبرى"(10/ 343)، وإسناده صحيح، وقال الحافظ في =
° الوجه الثالث: دلَّ حديث جابر رضي الله عنه على جواز بيع أمهات الأولاد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ذلك ويقرهم عليه، وهذا القول روي عن علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم
(1)
، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن عقيل، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، وبه قال داود الظاهري، وقتادة، وجماعة آخرين
(3)
.
وذكر بعض العلماء أن حديث جابر رضي الله عنه غير ناهض على الاستدلال به على الجواز لأمرين:
الأول: أن الحافظ البيهقي قال: (ليس في شيء من هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقرهم عليه)
(4)
، وهذا فيه نظر؛ لما تقدم.
الثاني: أن قوله: (لا نرى بذلك بأسًا) قد ثبت بالنون التي للجماعة، ولو كان بالياء التحتية (لا يَرى) لكان فيه دلالة على التقرير.
قالوا: وأما رواية: (بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر انتهينا) فليس بدليل على النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما معناه -والله أعلم-: أن البيع كان مباحًا، ثم نهى عنه في آخر حياته، ولم يظهر النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر رضي الله عنه عمن باع في زمانه لقصر مدته، واشتغاله بأهم أمور الدين، فلما ظهر ذلك في زمان عمر رضي الله عنه نهاهم، وأظهر النهي والمنع
(5)
.
والقول بجواز البيع فيه وجاهة، لعمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد يستدل على ذلك بإقرار الله تعالى لهم، وقال الشوكاني:(الأحوط اجتناب البيع؛ لأن أقل أحواله أن يكون من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقّافون عندها، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والله أعلم)
(6)
.
= "التلخيص"(4/ 241) عن إسناد عبد الرزاق: (وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد).
(1)
انظر: "مصنف عبد الرزاق"(7/ 290 - 292).
(2)
"الفروع"(5/ 132)، "الاختيارات"(200)، "الإنصاف"(7/ 395).
(3)
"المغني"(14/ 585)، "نيل الأوطار"(6/ 112).
(4)
"السنن الكبرى"(10/ 347).
(5)
انظر: "مختصر سنن أبي داود" للمنذري، "معالم السنن"(5/ 414).
(6)
"نيل الأوطار"(6/ 112).
النهي عن بيع فضل الماء وثمن عَسْبِ الفحل
794/ 13 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد اللهِ رضي الله عنهما قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيعِ فَضْلِ الْمَاءِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَعَنْ بَيعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ.
795/ 14 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "تحريم بيع فضل الماء الذي يكون بالفلاة ويُحتاج إليه لرعي الكلأ، وتحريم منع بذله وتحريم بيع ضراب الفحل"(1565) من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، به.
وأخرجه -أيضًا- من طريق روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل، وعن بيع الماء، والأرض لتحرث، فعن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرجه البخاري في كتاب "الإجارة"، باب "عَسْب الفحل"(2284) من طريق علي بن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به
(1)
.
(1)
هذا الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 42)، وقد وهم في ذلك، انظر:"فتح الباري"(4/ 462).
ولعل الحافظ أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، لأنه أعم من حديث جابر رضي الله عنه، لأن الأول خاص بالجمل، وهذا عام في كل فحل.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (فَضْلِ الماء) المراد به: الماء الزائد عن كفاية صاحبه، وهو الماء الذي في الفلاة، ويُحتاج إليه لرعي الكلأ.
قوله: (ضراب الجمل) بكسر الضاد المعجمة، وهو نزوه على الناقة.
قوله: (عسب الفحل) العسب: بفتح العين المهملة وسكون السين، هو ماء الفحل الذي يقذفه في رحم أنثاه، وقيل: هو طَرْقُ الفحل، أي: ضِرابه قال أهل اللغة: (عَسَبَ الفحلُ الناقةَ عَسْبًا من باب ضرب: طرقها)
(1)
.
والقول الثاني: أن عسب الفحل: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، يقال:(عَسَبْتُ الرجلَ عسبًا: أعطيته الكِراء على الضراب) وهذا هو الأقرب، وهو اختيار أبي عبيد
(2)
؛ لأن الضراب نفسه غير منهي عنه، بل هو مطلوب لذاته لمصالح العباد، وإلا لأدى ذلك إلى انقطاع النسل، فيكون المقصود النهي عن أخذ الأجرة على ضراب الفحل.
والفحل: هو الذكر من كل حيوان، جملًا كان أو خروفًا أو تيسًا أو فرسًا أو غير ذلك.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بيع فضل الماء، وأن الواجب بذل الزائد منه لمحتاجه، والمراد بذلك: ما كان في الفلاة من مورد ونحوه، وكذا نقع البئر والعين الجارية، ونحو ذلك مما يفضل عن حاجة الإنسان ولا يلحق في بذله أذى، أما إذا كان الماء بقدر حاجته فله منعه.
أما المياه التي حازها صاحبها في بركة أو خزان أو قربة أو إناء فهي مياه مملوكة يجوز بيعها، ولا يحل أخذها إلا بإذن صاحبها، قياسًا على جواز
(1)
"المصباح المنير" ص (408)، وانظر:"اللسان"(1/ 597).
(2)
"غريب الحديث"(1/ 97).
بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب، ولا يجب على صاحبه بذله إلا لمضطر. ومن مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التسامح في ذلك وبذل الماء للناس من عين أو بئر إذا لم يكن ضرر، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"
(1)
، وفسَّر سفيان بن عيينة الحديث بقوله:(يكون حول بترك الكلأ، فتمنعهم فضل مائك، فلا يعودون أن يرعوا)
(2)
. ووجه هذا النهي أن العرب كانت تمنع فضل الماء لا لشحّ بالماء، ولكن لئلا ينزل عندهم بغنمه أو إبله فيأكل من الكلأ، فيمنعونه من فضل الماء لئلا ينزل بقربهم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن في المنع عن فضل الماء منعًا عن فضل الكلأ، ولا يجوز شيء من ذلك.
ومما يؤيد المنع من بيع الماء قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار"، وسيأتي الكلام عليه مع مزيد بحث -إن شاء الله- في باب "إحياء الموات".
° الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن بيع ضراب الفحل وأخذ الأجرة عليه، ووجوب بذله مجانًا، وهذا مذهب الجمهور؛ لأنه مما ينبغي التعاون والتسامح فيه بين الناس، وبذله ابتغاء وجه الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا.
وقد علل الفقهاء المنع بأنه معدوم عند العقد، وغير مقدور على تسليمه، فإن صاحبه عاجز عن ذلك، قال ابن القيم:(إن النهي عن بيع عسب الفحل من محاسن الشريعة وكمالها، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان وجعله محلًّا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء)
(3)
. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (2353)، ومسلم (1566).
(2)
"المسند"(12/ 276).
(3)
"بدائع الصنائع"(5/ 139)، "الخرشي على خليل"(5/ 71)، "مغني المحتاج"(5/ 30)، "المغني"(6/ 302)، "زاد المعاد"(5/ 597).
من البيوع المنهي عنها
796/ 15 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يتَبايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تنتجَ النَّاقَةُ، ثُم تُنتجُ الَّتي في بَطْنِهَا. مُتَفَق عَلَيهِ، وَالَّلفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
* الكلا عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "بيع الغرر وحَبَلِ الحَبَلَةِ"(2143) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بهذا السياق، وأخرجه مسلم (1514) من طريق الليث، عن نافع، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة.
وأخرجه مسلم -أيضًا- من طريق عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تُنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (حبل الحبلة) بفتح الحاء والباء فيهما، والحبل: مصدر، أريد به الجنين الموجود في بطن أمه حين العقد، والحبلة: جمع حابل، مثل: كاتب وكتبة، وهو النتاج، والهاء للمبالغة، وقيل: للإشعار بالأنوثة، والأكثر استعمال الحبل للنساء خاصة، والحمل لهن ولغيرهن من إناث الحيوان، وحبل الحبلة: هو نتاج النتاج.
وقد فسره في الحديث بأنه من بيوع الجاهلية، ومعناه: أن يشتري الناقة
ويؤجل ثمنها إلى أن تلد الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجتها، وهذا التفسير مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، كما جاء صريحًا في رواية مسلم المذكورة.
والتفسير الثاني: البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ما في بطنها، ثم تلد التي ولدتها، وهذا تفسير لابن عمر -أيضًا- عند البخاري، كما في حديث الباب.
والتفسير الثالث: البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ما في بطنها، وهذا تفسير نافع، كما أخرجه البخاري
(1)
.
والبيع على هذه التفاسير الثلاثة بيع بثمن مؤجل، غير أنها مختلفة في الأجل، فعلى تفسير نافع هو ولادة الناقة، وعلى تفسير ابن عمر الأول ولادة الناقة وحمل ما ولدته، وعلى التفسير الثاني ولادة الناقة وولادة ما ولدته.
التفسير الرابع: أن يبيع ولد الناقة الحابل في الحال، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلَّام وآخرين من أهل اللغة
(2)
، وهذا بيع قائم على الغرر.
ومن أهل العلم من قال: إن تفسير ابن عمر رضي الله عنهما -هو المقدم؛ لأنه تفسير راوي الحديث، والراوي أعلم بمعنى ما روى، والمحققون من أهل الأصول أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر، والأظهر أنه لا مانع من الأخذ بجميع هذه التفاسير؛ لأن بعضها من راوي الحديث، وبعضها تحتمله اللغة، ولا داعي للترجيح إذ لا تعارض، والله أعلم.
قوله: (الجاهلية) هو اسم لما كانت عليه العرب قبل الإسلام من الشرك وعبادة الأوثان، مشتق من الجهل لغلبته عليهم.
قوله: (يبتاع الجزور) أي: يشتريها، والجزور: بفتح الجيم، البعير ذكرًا كان أم أنثى، وذكر الجزور هنا إما لأنه كان فعل الجاهلية فيه خاصة،
(1)
"صحيح البخاري"(2256).
(2)
"غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 263)، "تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 61، 62).
وإما أن يكون ذكره على سبيل التمثيل، إذ لا فرق بين الجزور وغيرها من الحيوانات في ذلك.
قوله: (تُنتج الناقة) أي: تلد، وتنتج: بضم أوله وفتح ثالثه، من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول، يقال: نُتجت الناقة، بالبناء للمجهول دائمًا، تُنْتَجُ، بمعنى: تلد ولدًا، ويعرب ما بعد الفعل فاعلًا لا نائب فاعل، وهي قاعدة الأفعال الملازمة للبناء للمجهول.
قوله: (ثم تنتج التي في بطنها) أي: تلد التي في بطن الناقة التي وقع عليها العقد، بمعنى: تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيع حبل الحبلة، وهذا النهي للتحريم، ويفيد فساد العقد؛ لأنه على التفاسير الثلاثة الأوَلِ بيع إلى أجل مجهول؛ لأن أجل الثمن غير معلوم، والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فدلت الآية على اشتراط كون الأجل معلومًا فيما كان بأجل، ولأن جهالة الأجل تفضي إلى الخصام والنزاع بين المتعاقدين، وهذا أمر لا يرضاه الإسلام.
وأما على التفسير الرابع وهو أن المراد بيع الناقة الحامل في الحال فهي جهالة المبيع؛ لأنه لا يعلم قدره ونوعه، فلا يعلم هل هو أنثى؟ وهل هو واحد أو اثنان؟ وهل هو حي أو ميت؟ وفيه -أيضًا- جهالة الأجل؛ لأنه أجل غير محدد بزمن، فقد يطول، وقد يقصر، وقد يتخلف فلا يوجد أصلًا، فأبطل الشارع ذلك لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، مع ما يصاحب ذلك من النزاع والخصام.
وهذه البيوع تدل على تساهل أهل الجاهلية، وعدم عنايتهم بضبط أمور دنياهم، والسر في ذلك -والله أعلم- أن المبيع قد لا يكون له أهمية، فلهذا لا يبالون بهذه الآجال المجهولة، وبهذا الثمن المعدوم؛ لأن المبيع إما ناقة كبيرة جدًّا أو شبه ذلك مما لا يهمهم لو تأخر الثمن أو لم يحصل، والله تعالى أعلم.
النهي عن بيع الولاء وهبته
797/ 16 - عَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الْوَلَاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "العتق"، باب "بيع الولاء وهبته" (2535) من طريق شعبة قال: أخبرني عبد الله بن دينار، سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:
…
وأخرجه في "الفرائض"، باب "إثم من تبرأ من مواليه"(6756) من طريق سفيان، عن عبد الله بن دينار، به، وأخرجه مسلم (1506) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، به، وقال مسلم بعد سياقه:(الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث)، أي: لأن هذا الحديث اشتهر عنه، ولذا قال الترمذي: (حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار
…
)
(1)
، وقصد الترمذي أن هذا الحديث لا يصح إلا من طريق عبد الله بن دينار، لأن له طرقًا أخرى، وكلها ضعيفة.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن بيع ولاء العتق، وهو التنازل عنه بثمن لشخص آخر، والنهي عن هبته، وهو التنازل عنه بغير ثمن لشخص آخر، وذلك لأن الولاء عصوبة تحصل للإنسان بسبب العتق، فلا تباع ولا توهب؛ لأنها أمر معنوي، كالنسب الذي لا يتأتى انتقاله، كالأبوة
(1)
"جامع الترمذي"(2/ 518).
والأخوة، فلو قلت: يا فلان بعتك قرابتي من أخي أو وهبتك إياها ما صار أخًا لهذا الشخص، بل الحكم باقٍ، وهو الأخوة، فكذا ولاء العتق.
وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره، فنهى عنه الشارع، وهذا مذهب الجمهور، وسيأتي -إن شاء الله- في كتاب "العتق" مزيد كلام، والله تعالى أعلم.
النهي عن بيع الغرر
798/ 17 - عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيعِ الْغَرَرِ، رَوَاهُ مسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في أول "البيوع"، باب "بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر"(1513) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عن بيع الحصاة) هذا من إضافة المصدر إلى نوعه، كبيع الخيار، وليس من إضافة المصدر إلى مفعوله، كبيع الميتة والخمر؛ لأن البيع يقع على الميتة والخمر، وليس المقصود -هنا- وقوعه على الحصاة، والمعنى: نهى عن البيع الذي استعملت فيه الحصاة، وله صور ذكرها ابن القيم
(1)
، ومنها:
1 -
أن يقول البائع للمشتري: إذا نبذت إليك بالحصاة فقد وجب البيع فيما بيني وبينك، وهذا تفسير المحدثين، ذكره الترمذي، ثم قال:(وهذا شبيه ببيع المنابذة، وكان هذا من بيوع الجاهلية)
(2)
.
2 -
أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا.
(1)
انظر: "زاد المعاد"(5/ 817).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 513).
3 -
أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة.
4 -
أن يبيعه سلعة ويقبض على كف من حصا، ويقول: لي بكل حصاة درهم.
5 -
أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة، ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا. وهذه الأربعة الأخيرة عند الفقهاء من أرباب المذاهب.
قوله: (وعن بيع الغرر) هذا من عطف العام على الخاص؛ لأن بيع الحصاة من الغرر، والإضافة فيه من إضافة الموصوت إلى صفته، أو من إضافة المصدر إلى نوعه، ليعم كل بيوع الغرر -كما سيأتي-.
والغرر: بفتحتين، هو الخطر
(1)
، وفي اصطلاح الفقهاء: ما كان مستور العاقبة، بمعنى أن البيع قائم على الجهل، بحيث لا تُعرف أوصافه ولا يُدرى هل يحصل أو لا؟. قال الخطابي: (أصل الغرر: هو ما طُوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسِرُّه، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غَرِّه؛ أي: على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه غير مقدور عليه، فهو غرر"
(2)
.
والغرر قد يكون في العين، وقد يكون في الثمن، وقد يكون في الأجل، فالعين كبيع الحصاة والجمل الشارد، وبيع ما لم يتم ملك البائع عليه، وسيأتي لذلك زيادة أمثلة -إن شاء الله- في باب "من مسائل الغرر"، والثمن كان يبيع السلعة بقيمتها أو برقمها والمشتري لا يعرفه عند العقد، أو بما ينقطع به السعر، أو بما يُعطى فيها، ونحو ذلك. والأجل كأن يكون مجهولًا، مثل: إلى ميسرة أو إلى أن أبيع كذا.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيع الحصاة، وفساد العقد؛ لأنه مقتضى النهي، وقد اتفق الفقهاء على العمل بموجب هذا الحديث، ولكنهم اختلفوا في تفسيره كما تقدم، وهو من بيوع الجاهلية التي نهى عنها الإسلام؛ لما فيها من الغرر والجهالة.
(1)
"الصحاح"(2/ 768).
(2)
"معالم السنن"(5/ 672).
° الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن بيع الغرر، وفساد العقد، سواء كان الغرر في العقد أو في الثمن أو في الأجل، ويدخل تحته أنواع كثيرة.
قال النووي: (النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة
…
)
(1)
.
والحكمة من النهي عنه حفظ أموال الناس من أن تضيع؛ لأن البيع بهذه الصفة من أكل أموال الناس بالباطل، وأيضًا قطع الخصومة والنزاع بين الناس؛ لأن بيع الغرر يؤدي إلى ذلك قطعًا.
الوجه الخامس: المراد بالغرر هنا ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار يوصف ببيع الغرر، فهذا لا خلاف في منعه.
وأما يسير الغرر وما يُتسامح فيه عادة أو يشق الاحتراز عنه فإنه لا يؤثر في فساد العقد؛ لأنه لا يكاد يخلو منه عقد من العقود، كبيع الدار وإن لم يرَ أساسها، وبيع السيارة نظرًا لظاهرها وظاهر محركها، وبيع الشاة التي فيها لبن، ونحو ذلك مما يدخل تبعًا ولا يصح لو أُفرد، وكذا كل ما لا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، ومثله بيع المغيبات في الأرض، كالجزر والفجل والبصل، ونحوها.
وما يقع فيه الخلاف بين الفقهاء فمرجعه إلى تقدير الغرر، فمن يجعله يسيرًا يصحح البيع، ومن يراه كثيرًا يبطل البيع، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(9/ 411).
النهي عن بيع الطعام قبل قبضه
799/ 18 - عَنْ أَبي هُرَيرَة رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتى يَكْتَالهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "البيوع"، باب "بطلان بيع المبيع قبل القبض"(1528) من طريق الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (طعامًا) هو في اللغة: اسم لكل ما يؤكل، وربما خُصَّ بالبر
(1)
، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في زكاة الفطر: "
…
صاعًا من طعام، أوصاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير
…
"
(2)
، وهذا هو عرف أهل الحجاز، ويطلق الطعام على كل ما يطعم من مأكول أو مشروب، قال تعالى عن الماء:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}
(3)
[البقرة: 249]. والأظهر أنه يدخل فيه كل ما تعارف الناس على إطعامه، وعلى هذا فهو اسم لسائر المطعومات من القمح والرز والشعير والتمر، أو الأشربة كالزيت والعسل، وغيرهما.
قوله: (فلا يبعه) هكذا بجزم المضارع على أن (لا) ناهية.
(1)
"الصحاح"(5/ 1974).
(2)
أخرجه البخاري (1505)، ومسلم (985).
(3)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 411).
قوله: (حتى يكتاله) أي: يستوفيه بالكيل، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"، وفي لفظ:"حتى يقبضه"
(1)
. يقال: كال الدافع، واكتال الآخذ، قال تعالى:{وَيلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 1 - 3]. وظاهر اللفظ: "يكتال" يشعر بأنه خاص بما يحتاج إلى كيل، لكن لفظ:"يستوفيه"، ولفظ:"يقبضه" يفيد العموم، كما سيأتي؛ لأن مجموع الألفاظ يفيد معنى القبض والحيازة.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي من اشترى طعامًا أن يبيعه قبل قبضه، وعبَّر بالكيل عن القبض، وذلك بأن يكتاله ويستوفيه؛ لأن قبض المكيل لا يحصل إلا بالكيل، وهذا النهي للتحريم؛ لأنه الأصل في صيغة النهي ما لم توجد قرينة تصرفها عن ذلك، وليس هنا قرينة صارفة عن التحريم، بل قد جاء في بعض الروايات ما يؤكد التحريم، فقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جِزَافًا -يعني الطعام- يُضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم)
(2)
. والعقوبة بالضرب لا تكون إلا على أمر محرم.
° الوجه الرابع: جعل الفقهاء هذا الحكم عامًّا في كل مبيع يحتاج قبضه إلى حق توفيةٍ من مكيل وموزون ومذروع ومعدود، وهذا من باب القياس، فلا يصح بيع شيء من ذلك إلا بعد استيفائها من البائع بما تقبض به، بواحد من هذه الطرق؛ لأن كلًّا منها معيار لتقدير الأشياء، فيجب أن يكون كل ما يحتاج إلى تقدير يجري القبض فيه باستيفاء قدره.
° الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن المنع من بيع الطعام قبل قبضه عام في كل طعام بيع كيلًا أو بيع جزافًا
(3)
، وهذا مذهب الجمهور، ورواية عن
(1)
أخرجه البخاري (2126)، ومسلم (1526).
(2)
أخرجه البخاري (2137)، ومسلم (1527).
(3)
الجزاف: -بكسر الجيم وفتحها وضمها-، شراؤه من غير كيل ولا وزن ولا عد.
الإمام أحمد
(1)
، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، وابن القيم
(3)
.
كما استدلوا بعموم الأدلة التي تفيد النهي عن بيع المشترَى قبل قبضه مطلقًا، فيدخل في عمومها بيع الطعام، سواء كان مقدرًا أو جزافًا، وسيأتي شيء منها إن شاء الله.
والقول الثاني: أن الطعام إذا بيع جزافًا جاز بيعه قبل قبضه، وإذا كان مقدرًا بكيل أو نحوه لم يجز بيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد
(4)
. واستدلوا بدليلين:
1 -
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه"
(5)
، قالوا: فتخصيص الطعام بالكيل والوزن دليل على أن ما بيع جزافًا لا يشترط فيه قبض.
2 -
قول ابن عمر رضي الله عنهما: (ما أَدْرَكَتِ الصفقة حيًّا مجموعًا
(6)
فهو من المبتاع)
(7)
.
والمعنى: أنه من مال المشتري وفي ضمانه، فدل ذلك على جواز التصرف فيه قبل قبضه، قالوا: ولأنه كان متعينًا بالعقد لا يحتاج إلى توفية بكيل أو وزن ونحوهما بحيث يكون المشتري قد تمكن من قبضه، فهو من ضمانه، قبضه أو لم يقبضه
(8)
.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وهو أنه لا بد من القبض، سواء بيع مقدرًا أو جزافًا، ووجه الترجيح أمور:
(1)
"المغني"(6/ 186).
(2)
"الاختيارات" ص (126).
(3)
انظر: "تهذيب مختصر السنن"(5/ 115، 131).
(4)
"المغني"(6/ 185، 186).
(5)
أخرجه أبو داود (3495)، والنسائي (7/ 286)، وأحمد (10/ 139) من طرق، عن المنذر بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح.
(6)
قوله: (مجموعًا) صفة لقوله: (حيًّا) والمعنى: لم يتغير عن حالته. انظر: "عمدة القاري"(9/ 347).
(7)
علقه البخاري (4/ 351)"فتح الباري".
(8)
"الفتاوى"(29/ 405).
الأول: قوة الأدلة.
الثاني: أنه قبل القبض عُرضة للتلف وهو في ضمان البائع.
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، كما سيأتي.
الرابع: أنه ما دام في حوزة البائع فهو في خطر؛ لأنه قد ينكر البيع، وقد يتحيل على إبطاله إذا رأى أنه مغبون، أو أن المشتري قد ربح فيه أو ما أشبه ذلك
(1)
، والشريعة الإسلامية جاءت بما هو كفيل بقطع أسباب النزاع والخصومات والاختلاف والتباغض، ولا شك أن بيوع الغرر، ومنها بيع الطعام قبل قبضه من أسباب ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "تهذيب مختصر السنن"(5/ 115).
حكم البيعتين في بيعة
800/ 19 - عَنْ أَبِي هُرَيرَة رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيعَتَينِ في بَيعَةٍ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائي، وَصححَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبّانَ.
وَلأبي دَاوُدَ: "مَنْ بَاعَ بَيعَتَينِ في بَيعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا، أَو الرِّبَا".
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (15/ 358)، والنسائي (7/ 295، 296)، والترمذي (1231)، وابن حبان (11/ 347 من طرق، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وهذا سند حسن؛ لأنه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وفيه كلام يسير في حفظه، قال في "التقريب":(صدوق له أوهام)، وقد روى له البخاري مقرونًا، ومسلم في المتابعات.
وأما رواية أبي داود (3460) فقد أخرجها -أيضًا- ابن حبان (11/ 348)، والحاكم (2/ 45)، وعنه البيهقي (5/ 343) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) وسكت عنه الذهبي، وصححه ابن حزم
(1)
، لكن تعقبه الألباني بأن الحديث حسن؛ لما تقدم في محمد بن
(1)
"المحلى"(9/ 16).
عمرو، وأن حديثه لا يرقى إلى درجة الصحيح
(1)
، وهذا فيه نظر، فإن يحيى بن زكريا وإن كان ثقة، فقد خالفه عدد من الحفاظ أمثال عبدة بن سليمان، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، وعبد الوهاب بن عطاء وغيرهم، كلهم رووا الحديث باللفظ الأول، وهذا هو المحفوظ، وأما اللفظ الثاني فهو شاذ
(2)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بيعتين في بيعة) البيعة: هي صفقة البيع، والمراد: عقدان في عقد واحد، وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك على أقوال:
الأول: أن يقول: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة أو نسيئة بعشرين، وهذا تفسير سماك بن حرب راوي حديث ابن مسعود: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة
(3)
)
(4)
. وهو تفسير الإمام مالك، كما في "الموطأ"، وهو تفسير النسائي، كما في "سننه"، وهو أحد تفسيري الشافعي، كما نقله ابن عبد البر
(5)
، وهو تفسير سفيان الثوري، كما نقله عنه عبد الرزاق
(6)
.
الثاني: أن يشترط أحد المتعاقدين على الآخر عقدًا آخر، كسلف، أو بيع، أو إجارة، أو شركة، ونحو ذلك كأن يقول البائع: أبيعك هذه السيارة بكذا على أن تبيعني سيارتك بكذا، أو تؤجرني بيتك، وهذا تفسير الحنابلة، ونسبه ابن عبد البر إلى الشافعي أيضًا
(7)
.
(1)
"إرواء الغليل"(5/ 150).
(2)
انظر: "مختصر سنن أبي داود" و"معالم السنن"(5/ 97 - 98)، "عون المعبود"(9/ 334)، "تحفة الأحوذي"(4/ 429)، رسالة، "الوهم والتخليط عند الألباني في البيع بالتقسيط" ص (52).
(3)
من أهل العلم من يقول: إن بيعتين في بيعة مثل صفقتين في صفقة لا فرق بينهما، والأظهر أن صفقتين في صفقة أعم، والله أعلم.
(4)
أخرجه أحمد (6/ 324)، والبزار (5/ 384) من طريق شريك، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عنه به مرفوعًا. وهذا سند ضعيف، وذكر في سياقه هذا التفسير.
(5)
"التمهيد"(24/ 391).
(6)
"المصنف"(14632).
(7)
"التمهيد"(24/ 391)، "المغني"(6/ 332)، "شرح الزركشي"(3/ 659).
الثالث: أن يبيعه سلعة بمائة إلى أجل ثم يشتريها منه حالًّا بأقل، وهذه مسألة العينة، كما سيأتي؛ لأن البيع بمائة عقد، والشراء بثمانين عقد آخر، وهذا هو الذي تدل عليه رواية أبي داود، وقد اختار هذا التفسير ابن تيمية، وابن القيم حيث قال:(هذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره)
(1)
.
قوله: (فله أوكسهما أو الربا) قال في "اللسان": (الوكس: النقص). والمعنى: أن من باع سيارة -مثلًا- بمائة ألف مؤجلة، ثم اشتراها بثمانين نقدًا، فلا يخلو من أمرين: إما أن يمضي العقد وهذا هو الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنه أعطاه ثمانين بمائة، وجعل السلعة واسطة، حيلة على الربا. وإما أن يأخذ الأقل وهي الثمانون، ويسلم من الربا، وهذا هو الأوكس، بمعنى: الأنقص.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيعتين في بيعة، وهذا يقتضي تحريم العقد وفساده، وقد اتفق الفقهاء على القول بموجب أحاديث النهي عن بيعتين في بيعة، ولكنهم اختلفوا في تفسير ذلك؛ كما تقدم
(2)
.
فأما التفسير الأول فليس فيه بيعتان، وإنما هي بيعة واحدة بثمن مبهم، فإن اتفقا على أحدهما قبل التفرق فالأمر واضح، وإن تفرقا على غير شيء بقي الثمن مجهولًا، واختل شرط من شروط البيع، فلا يصح، إلا إن كان بينهما خيار ليومين -مثلًا- فتكون العلة عدم استقرار الثمن، وهذا المعنى بعيد من هذا الحديث، لما تقدم
(3)
.
وأما على التفسير الثاني فهما عقدان لا محذور فيهما في الظاهر إلا تعليق البيع بشرط مستقبل يجوز وقوعه وعدم وقوعه، فلم يستقر الملك. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:(الحديث لا يتناول هذه الصورة لا بلفظه ولا بمعناه، ولا محذور في ذلك)
(4)
، على أن الشوكاني ذكر أن هذا التفسير
(1)
"الفتاوى الكبرى"(3/ 139)، "إعلام الموقعين"(3/ 161)، "تهذيب السنن"(5/ 106).
(2)
راجع: "التمهيد"(24/ 390).
(3)
"المغني"(6/ 333)، "إعلام الموقعين"(3/ 162).
(4)
"الفتاوى السعدية" ص (281).
يصلح لرواية: (نهى عن بيعتين في بيعة) لكنه لا يوافق الرواية الثانية، وهي رواية أبي داود، وقد تقدم ما فيها.
أما الثالث فهو أظهر التفاسير وأقربها وهو ينطبق على الروايتين معًا، والنهي عن هذه الصورة لسد ذريعة الربا، كما تقدم.
° الوجه الرابع: في الحديث أوضح دليل على النهي عن الحيل التي هي في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
° الوجه الخامس: في الحديث دليل على قاعدة سد الذرائع وأن الأمور بمقاصدها، والله أعلم.
من مسائل البيع
801/ 20 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيعٌ، وَلَا شَرْطَانِ في بَيعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيعُ مَا لَيسَ عِنْدَكَ"، رَوَاهُ الْخمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيمَةَ، وَالحاكم.
وأخْرَجَهُ في "عُلُوم الحديثِ" من روايةِ أبي حَنِيفَةَ، عن عَمروٍ المذكورِ بلفظِ:"نَهى عن بَيعٍ وشَرْطٍ" ومِنْ هذا الوجهِ أخْرَجَهُ الطَّبَراني في "الأَوْسَطِ" وَهُوَ غرِيبٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في الرجل يبيع ما ليس عنده"(3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، وابن ماجه (2188)، وأحمد (11/ 203، 253، 516)، والحاكم (2/ 17) من طرق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وهذا سند حسن، بناءً على الراجح من أقوال أهل العلم في أحاديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقد صححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، قال ابن القيم:(هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية)
(1)
.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(5/ 184)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"
(2)
، وابن حزم في "المحلى"(8/ 415، 416) من طريق عبد الله بن
(1)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 144).
(2)
ص (128).
أيوب الضرير، قال: حدثنا محمد بن سليمان الذهلي، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعًا وشرط شرطًا؟ قال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته فقال: البيع جائز، والشرط جائز، فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم عليَّ في مسألة واحدة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، البيع باطل، والشرط باطل
…
وساق تمام الحديث.
وهذا إسناد واهٍ؛ لأن فيه عبد الله بن أيوب الضرير القِربي، قال عنه الدارقطني:(متروك)
(1)
، وشيخه محمد بن سليمان الذهلي، قال عنه الألباني:(لم أعرفه). ومحل الشاهد الذي ساقه الحافظ فيه أبو حنيفة، وهو ضعيف في الحديث، ضعّفه كبار الأئمة، كالإمام مسلم والإمام أحمد وعبد الله بن المبارك والنسائي والدارقطني وغيرهم، وذلك لسوء حفظه. قال ابن حبان:(كان رجلًا جَدِلًا، ظاهر الورع، لم يكن الحديث صناعته، حدَّث بمائة وثلاثين حديثًا مسانيد، ما له في الدنيا غيرها، أخطأ في مائة وعشرين حديثًا، إما أن يكون أقلب إسناده، أو غيَّر متنه من حيث لا يعلم، فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار)
(2)
. فهو رحمه الله وإن كان فقيهًا ورعًا زاهدًا، لكن ليس من شأنه الرواية وضبط الأخبار، بل كان شغله في الفقه والعبادة، ثم إن هذا الحديث في لفظه نكارة، فإن قوله:(نهى عن بيع وشرط) مخالف لحديث جابر رضي الله عنه المتفق عليه- وتقدم-، ثم هو مخالف لحديث:"ولا شرطان في بيع"، ومخالف للإجماع، كما ذكر شيخ الإسلام ابن
(3)
تيمية، وابن القيم
(4)
.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يجوز الجمع بين سلف وبيع،
(1)
"ميزان الاعتدال"(2/ 394).
(2)
"المجروحين"(2/ 406).
(3)
"الفتاوى"(29/ 132).
(4)
"إعلام الموقعين"(4/ 162).
والمراد بالسلف: القرض
(1)
، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة على أن تقرضني كذا، وقد فسره الإمام مالك بهذا المعنى
(2)
، أو أقرضك كذا على أن تبيعني سيارتك، فهذا لا يجوز، وقد حكى ابن عبد البر وابن هبيرة وابن رشد اتفاق العلماء على ذلك
(3)
. وقال ابن قدامة: (لا أعلم فيه خلافًا)
(4)
.
ووجه المنع أن البيع صار وسيلة للقرض، فيكون قرضًا جرَّ منفعة؛ لأنه لم يقرضه إلا من أجل هذا البيع، والقرض يجب أن يكون إرفاقًا محضًا، لا يقصد به حاجة أخرى.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجوز الجمع بين شرطين في عقد البيع، وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك، فمن أهل العلم من حمله على ظاهره، وفسره بأن يشترط المشتري على البائع شرطين، كأن يشتري الحطب ويشترط على البائع حمله إلى منزله وتكسيره، أو يشتري الثوب ويشترط تفصيله وخياطته، ونحو ذلك، فهذا لا يصح، وقد عزا هذا التفسير ابن المنذر إلى الإمام أحمد وإسحاق
(5)
، ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال:(الشرط الواحد لا بأس به، إنما نُهي عن الشرطين)
(6)
. واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز، ووجه النهي: أن اشتراط شرطين يفضي إلى النزاع، بخلاف اشتراط شرط واحد فإن الحاجة تدعو إليه، وليس سببًا للنزاع.
والقول الثاني: أن المراد بالشرطين: أن يقول البائع: خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العِينة. وهذا قول ابن القيم معلِّلًا لذلك: بأن الشرط يطلق على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به، فهو مشروط.
وَرَدَّ التفسير الأول بأنه بعيد عن مقصود الحديث؛ لأن اشتراط منفعة
(1)
"شرح السنة" للبغوي (8/ 145).
(2)
"الموطأ"(2/ 657).
(3)
"التمهيد"(24/ 385)، "الإفصاح"(1/ 360)، "بداية المجتهد"(3/ 312).
(4)
"المغني"(6/ 334).
(5)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 144).
(6)
"المغني"(6/ 321).
البائع في البيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان، وإن كان صحيحًا فأي فرق بين شرط أو شرطين أو أكثر؟!.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يربح في شيء لم يقبضه، وهو أن يبيع السلعة المشتراة قبل قبضها من البائع ويربح فيها، وذلك لأن السلعة قبل قبضها ليست من ضمان المشتري، وإنما هي من ضمان البائع، فلو تلفت تلفت من ماله، فإذا باعها قبل قبضها فقد ربح في سلعة ليس عليه ضمانها لو تلفت، وهذا لا يجوز، وهذا معنى الحديث الآخر:"الخراج بالضمان"، ومعناه: أن الفائدة التي تحصل من العين المبيعة مستحقة لمن تقع العين في ضمانه، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذا الحديث في موضعه.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يبيع ما ليس عنده؛ أي: ما ليس في ملكه وتحت تصرفه، وذلك بأن يبيع ما لا يملكه وقت العقد، على أن يمضي إلى السوق فيشتريه ويسلمه للمشتري، وقد دل على ذلك حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه؟ قال:(لا تبع ما ليس عندك)
(1)
. قال ابن قدامة: (ولا نعلم فيه خلافًا)
(2)
.
وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز أنه يدخل في الحديث ما لو باع أعيانًا اشتراها وهي في ذمم الناس، فليس له بيعها حتى يقبضها؛ لأنه يشملها قوله:"لا تبع ما ليس عندك"، وقد ذكر ذلك من قَبْلُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى هذا فمعنى:"ما ليس عندك" ما ليس في ملكك، وما ليس تحت يدك
(3)
.
وعلة المنع هي الغرر الناشيء عن عدم القدرة على تسليم المبيع وقت العقد، وما يترتب على ذلك من النزاع، فإن البائع قد لا يجد المبيع في
(1)
أخرجه أبو داود (3503)، والنسائي (7/ 289)، والترمذي (1232)، وأحمد (24/ 25، 26)، وهو حديث صحيح بطرقه.
(2)
"المغني"(6/ 296).
(3)
"الفتاوى"(29/ 403).
السوق، ولو كان البائع يثق بوجوده فقد يقع أمور بخلاف ذلك، والمشتري يطالب بالمبيع، ولا يرضى بإمهاله؛ لأن العقد تم على تسليم المبيع في الحال.
وقد حمل العلماء، ومنهم: فقهاء الحنابلة، وغيرهم كالإمام الخطابي، والبغوي
(1)
، هذا النهي على بيع الأعيان التي لا يملكها البائع حال العقد، أما لو باع شيئًا موصوفًا في الذمة فإن البيع يصح، وهذا هو السَّلَم الذي هو بيع موصوف في الذمة، وهو بيع ما ليس عند البائع، فتشترط له شروطه، ومنها: قبض الثمن في مجلس العقد، فإذا قُبِضَ الثمن وأُجِّل المثمن صار دَينًا كسائر الديون، فيدخل في عموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وسيأتي الكلام عليه في بابه، إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح السنة"(8/ 140)، "معالم السنن"(5/ 143).
حكم بيع العربون
802/ 21 - عَنْ عَمْرَوَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه، قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيعِ الْعُرْبَانِ، روَاهُ مَالِكٌ، قَال: بَلَغَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، بِهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مالك في "الموطأ" في أول كتاب "البيوع"، باب"ما جاء في بيع العربان"(2/ 609) عن الثقة عنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وهذا إسناد ضعيف، لإبهام الثقة الذي رواه عنه مالك، قال ابن عدي:(ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، ولم يسمِّه لضعفه، والحديث عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب مشهور)
(1)
.
ونقل ابن القيم أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث، فقال:(ليس بشيء)
(2)
.
وقد روى الحديث أبو داود (3502)، وابن ماجه (2192)، وأحمد (11/ 332) من طريق الإمام مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به.
وهذا حديث ضعيف، فيه انقطاع؛ لأنه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم يدركه، فبينهما راوٍ لم يُسمَّ.
(1)
"الكامل"(4/ 153).
(2)
"بدائع الفوائد"(4/ 184).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بيع العربان) العربان في اللغة: بضم العين، ويقال: عربون بضم العين وفتحها وتسكين الراء، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم، يقال: عربنه: أعطاه العربون
(1)
.
وعند الفقهاء: أن يشتري الرجل شيئًا أو يستأجره، ويدفع جزءًا من الثمن أو الأجرة، على أنه إن تم العقد حُسِبَ المبلغ المدفوع من ثمن المبيع أو قيمة الإجارة، وإلا فهو ملك للطرف الثاني، وهو البائع أو المؤجر.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيع العربان، والنهي يقتضي الفساد، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب
(2)
. قالوا: ولأنه من باب الغرر والمخاطرة، وفيه أكل المال بغير عوض ولا مقابل.
والقول الثاني: جواز بيع العربون، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من مفردات المذهب
(3)
، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، كما روي عن بعض السلف، كابن سيرين ومجاهد
(4)
، واستدلوا بما يلي:
1 -
ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل العربان في البيع
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" ص (401).
(2)
"المغني"(6/ 331)، "الشرح الصغير على أقرب المسالك"(3/ 100)، "روضة الطالبين"(3/ 397).
(3)
"الإنصاف"(4/ 358).
(4)
"المغني"(6/ 331).
(5)
"المصنف"(7/ 304) من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، به، وهذا إسناد ضعيف، فإن بين هشام وبين زيد مفاوز ["إعلام الموقعين" (5/ 377)]. وأخرجه -أيضًا- (7/ 306) من طريق معتمر بن سليمان، عنه، وهو كالذي قبله، ورواه عبد الرزاق: أنا الأسلمي، عن زيد بن أسلم، به، وهو معضل ["التلخيص" (3/ 19)].
2 -
ما رواه سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن فرُّوخ، عن نافع بن الحارث -عامل عمر على مكة- أنه اشترى من صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم
(1)
.
وقد أخذ الإمام أحمد بظاهر هذه الرواية، قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: (أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه) يعني: هذا عمر رضي الله عنه أخذ به وذهب إليه
(2)
.
3 -
ما علقه البخاري عن ابن سيرين قال: قال رجل لِكَرِيِّهِ: أَدْخِلْ ركابك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه
(3)
.
والقول بالجواز فيه وجاهة، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز، بشرط أن يقيد الاشتراط بزمن معين، لما يترتب على الإطلاق من ضرر؛ لأنه يكون بيعًا معلقًا، ولأنه يؤخذ بالاشتراط في خيار الشرط.
وقولهم: إنه بغير مقابل، نقول: هو مقابل الإمهال والانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر، فلا يصح القول بأن العربون أمر قد شُرط للبائع بغير مقابل.
لكن لو تركه البائع لكان أفضل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من أقال مسلمًا أقاله الله عثرته يوم القيامة"، وهو حديث صحيح سيأتي في موضعه. ولأن في تركه خروجًا من خلاف العلماء، وأخذًا بالاحتياط، وهو أسلم لدين المؤمن.
(1)
علقه البخاري (5/ 75 فتح) ووصله ابن أبي شيبة (7/ 306)، وعبد الله بن أحمد في "مسائله"(1044)، والبيهقي (6/ 34)، من طريق ابن عيينة، به، ورجاله ثقات، إلا عبد الرحمن بن فروخ فلم يوثقه إلا ابن حبان (7/ 87)، ولم يرو عنه إلا عمرو بن دينار، كما نقله الذهبي في "الميزان"(2/ 582) عن الحاكم.
(2)
"المغني"(6/ 331)، "إعلام الموقعين"(3/ 401).
(3)
"فتح الباري"(5/ 345).
وإلا فأدلة المانعين ليست قوية، فإذا أخذه البائع احتياطًا لنفسه فله ذلك، والمسلمون على شروطهم، وما ذكره أصحاب القول الثاني وقائع يمكن الاستدلال بها، والله أعلم
(1)
.
(1)
انظر: رسالة"حكم العربون في الإسلام" للدكتور: ماجد أبو رخية.
النهي عن بيع السلعة قبل قبضها
803/ 22 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: ابْتَعْتُ زيتًا في السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ، لَقِيَيني رَجُل فَأعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، فَأخَذَ رَجلٌ مِنْ خَلْفِي بِذرَاعي، فَالْتَفَت، فَإذَا هُوَ زيدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَال: لا تَبِعْهُ حَيثُ ابْتَعْتَهُ حتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِكَ، فَإن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ السّلَعُ حَيثُ تُبْتَاعُ، حتى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأبو دَاوُدَ واللّفْظُ لَهُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، وَالْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (35/ 522)، وأبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في بيع الطعام قبل أن يُستوفى"(3499)، وابن حبان (11/ 360)، والحاكم (2/ 40) من طريق محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن عبيد بن حنين، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وهذا سند حسن من أجل ابن إسحاق، وهو صدوق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وابن حبان وغيرهما، فانتفت شبهة تدليسه، وهو متابع -أيضًا- فقد رواه الطبراني في "الكبير"(5/ 113) والدارقطني (3/ 12)، من طريق جرير بن حازم، والدارقطني (3/ 12) من طريق إسحاق بن حازم، كلاهما عن أبي الزناد، به.
وأما قول الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه)، فهذا فيه نظر، فإن مسلمًا ما روى لابن إسحاق في الأصول، وإنما
روى له في المتابعات مقرونًا بغيره، وهي خمسة أحاديث، كما ذكر الذهبي
(1)
. فهو حسن الحديث؛ لأن في حفظه شيئًا، فلا يرقى حديثه إلى درجة الصحة.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ابتعت) أي: اشتريت، يقال: ابتاع زيد الدار، أي: اشتراها، وتقدم هذا في أول "البيوع".
قوله: (زيتًا) هو دهن الزيتون، وعند ابن حبان:(قدم رجل من الشام بزيت)، ويطلق على دهن غيره.
قوله: (فلما استوجبته) أي: استحققته، وذلك بتمام عقد البيع بيني وبين البائع، وظاهر السياق أن ابن عمر باعه قبل قبضه.
قوله: (فأردت أن أضرب على يد الرجل) أي: أعقد معه البيع؛ لأن من عادة المتبايعين أن يضرب أحدهما يده في يد الآخر عند عقد البيع إشعارًا بالموافقة.
قوله: (حيث ابتعته) أي: حيث اشتريته، والمعنى: لا تبعه في المكان الذي اشتريته فيه.
قوله: (حتى تحوزه) أي: تحرزه وتضمه إليك بنقله إلى مكانك والتصرف فيه، تقول: حزت الشيء أحوزه حوزًا وحيازة: إذا ضممته وجمعته، والحوز والحيازة والقبض ألفاظ مترادفة.
قوله: (إلى رحلك) رحل الإنسان: مسكنه، وما يستصحبه من أثاث ومتاع.
قوله: (حيث تبتاع) أي: نهى أن تباع الأمتعة في المكان الذي تشترى فيه.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجوز للمشتري أن يبيع ما
(1)
"الميزان"(3/ 475).
اشتراه قبل أن يقبضه ويحوزه إلى مكانه، وتقدم وجه النهي عن بيع السلعة قبل قبضها.
وظاهر الحديث أنه عام في كل مبيع، سواء كان طعامًا أو غيره من المنقولات، كالأمتعة، والكتب، والمواد الغذائية، والحيوانات، وغير ذلك.
فإن قوله: (السلع) لفظ عام يشمل الطعام وغيره، ومما يؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما:(أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع قبل أن يقبض)، قال ابن عباس:(ولا أحسب كل شيء إلا مثله)
(1)
. وهذا من تفقه ابن عباس، وهو راوي الحديث، وأعرف بمعناه.
وهذا القول بمنع بيع المنقولات حتى تقبض، هو قول الجمهور من الحنفية والشافعية والظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد
(2)
، وأضافوا -أيضًا- العقار؛ لأن القبض شرط في كل مبيع، إلا عند الحنفية فإنه إذا كان المبيع عقارًا لا يخشى هلاكه جاز بيعه قبل قبضه
(3)
.
وكيفية القبض إن كان منقولًا فإنه يختلف باختلاف المقبوض، فالمكيل وما يشابهه بالكيل، والصبرة والجزاف أو ما ينقل عادة كالأمتعة والكتب والمواد الغذائية والأخشاب ونحوها يكون بنقلها وتحويلها إلى مكان لا اختصاص للبائع به.
وإن كان مما يتناول باليد كالحلي والجواهر ونحوها فقبضه بتناوله، وما عدا ذلك يرجع فيه إلى العرف.
وأما قبض العقار كالأراضي والمساكن والمحلات التجارية، وكذا بيع الثمر على الشجر، فمانه يكون بالتخلية بينه وبين مشتريه يتصرف فيه، بلا مانع ولا حائل، وذلك بتسليم المفاتيح إن وجدت؛ لأن قبض العقار لا يتصور إلا بذلك فهو قبض له في العرف.
(1)
أخرجه البخاري (2135)، ومسلم (1525).
(2)
"روضة الطالبين"(3/ 515)، "الإنصاف"(4/ 470).
(3)
"الإفصاح"(1/ 343)، "حاشية ابن عابدين"(4/ 561)، "الإنصاف"(4/ 471).
ويلحق بالعقار الأشياء الثقيلة، كوسائل الري المعروفة الآن، أو البضائع الكثيرة في المواني، ونحو ذلك مما يترتب على نقله وتحويله من مكان إلى آخر تبعات مالية عظيمة، فالظاهر أن قبضها يحصل بالتخلية
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: رسالة "القبض" للدكتور: سعود الثبيتي.
حكمُ اقتضاءِ الذهبِ فضةً
804/ 23 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنّي أَبِيعُ الإبلَ بِالْبِقِيع، فَأبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذ هذَا مِنْ هذِهِ، وَأُعْطِي هذهِ مِنْ هذَا؛ فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا بَأسَ أَنْ تَأخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفرّقَا وَبَينَكُمَا شَيء"، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصحّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في اقتضاء الذهب من الورق"(3354)(335)، والترمذي (1242)، والنسائي (281، 282، 283)، وابن ماجه (2262)، وأحمد (8/ 489)، والحاكم (2/ 44) من طرق، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وهذا إسناد ضعيف، تفرد سماك بن حرب برفعه، قال الترمذي:(هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، وروى داود بن أبي هند هذا الحديث عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر موقوفًا)
(1)
.
وسماك بن حرب صدوق لا بأس به، لكن قال عنه النسائي:(إذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يُلقن فيتلقن)، وقال ابن معين: (أسند أحاديث
(1)
"جامع الترمذي"(2/ 523).
لم يسندها غيره، وهو ثقة)
(1)
. وقال ابن حزم: (سماك بن حرب ضعيف يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة)
(2)
.
وقد جاء الحديث -كما ذكر الترمذي- من طريق داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسًا؛ يعني: في قبض الدراهم من الدنانير، والدنانير من الدارهم
(3)
، وجاء -أيضًا- من طريق أبي هاشم -وهو الرماني الواسطي- عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما
(4)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بالبقيع) بالباء الموحدة، يطلق على مواضع منها:"بقيع الغرقد" نسبة إلى شجر ينبت فيه، وهو مدفن أهل المدينة الواقع شرقي المسجد النبوي، وكان قبل ذلك سوقًا للإبل في المدينة؛ لأن القبور لم تكن قد كثرت فيه.
ويطلق البقيع -أيضًا- على موضع يقع شمال شرقي المسجد النبوي وشمال بقيع الغرقد، يقال له: بقيع الأسواق أو بقيع الأصواف، وسماه السمهودي: بقيع الخيل، وقال:(إنه هو المراد بهذا الحديث)، ورد القول بأنه بقيع الغرقد، وقال:(إنه لم يذكر أحد من مؤرخي المدينة أنه كان فيه سوق مع عنايتهم بذكر أسواق المدينة)
(5)
.
قوله: (فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم) أي: يبيع الإبل بالدنانير ويأخذ بدلها دراهم، وكذا العكس.
قوله: (آخذ هذا من هذه) هكذا في نسخة "البلوغ"، وفي "سنن أبي داود":(آخذ هذه من هذه) أي: آخذ الدراهم بدل الدنانير.
(1)
"تهذيب التهذيب"(4/ 204).
(2)
"المحلى"(8/ 504).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 332)، وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه النسائي (7/ 282)، وقال الألباني في "الإرواء" (5/ 175):(هذا سند حسن).
(5)
"وفا الوفاء"(2/ 754).
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجوز أن يُقْضَى عن الذهب فضة، وعن الفضة ذهبًا، فإذا استقر في ذمة المشتري عند المبايعة ذهبًا فدفعها فضة أو بالعكس ورضي البائع جاز، بشرط أن يتقابضا قبل التفرق من مجلس العقد، فإذا اختل هذا الشرط لم تصح المعاملة، وتصير داخلة في ربا النسيئة؛ لأن الذهب والفضة مالان ربويان، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا بشرط التقابض بإجماع أهل العلم
(1)
، فإن لم يقبض شيئًا بطل العقد كله، وإن قبض البعض صح العقد فيما قبِضَ لوجود شرطه، وبطل فيما لم يقبض لفوات شرطه. ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يباع غائب منها بناجز"، وسيأتي الكلام على هذين الحديثين.
ومثل ذلك لو باع سلعة بالريال السعودي فله أن يعتاض عنه بالدينار الكويتي -مثلًا- بشرط التقابض.
° الوجه الرابع: ظاهر قوله: (لا بأس أن تأخذ بسعر يومها) أن هذا شرط، فيكون اقتضاء الذهب فضة والعكس له شرطان، وهذا قول الإمام أحمد، واختيار الخطابي والشوكاني والشيخ عبد العزيز بن باز
(2)
. واشتراط سعر الوقت لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه.
والقول الثاني: أنه لا يشترط بل يجوز بسعر يومها وأغلى وأرخص، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ومال إليه الصنعاني
(3)
.
واستدلوا بعموم قوله: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم"، لكن قال الأولون: إن هذا حديث عام، وحديث الباب خاص، فيبنى العام على الخاص، ويخصص به، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(6/ 112).
(2)
"معالم السنن"(5/ 26)، "نيل الأوطار"(5/ 177، 178).
(3)
"سبل السلام"(5/ 53).
النهي عن النجش
805/ 24 - عَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ، مُتَّفَق عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وحوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع"(2142)، ومسلم (1516) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (النجش) بفتح النون وسكون الجيم، أو بفتحهما، هو لغة: من نَجَشَ الصيدَ نجشا: أي استثاره واستخرجه ليمر على الصائد.
وشرعًا: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ولكن لقصد نفع البائع أو مضرة المشتري، أو يمدح السلعة ليروجها، سمي بذلك: لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة لتحصل الزيادة في ثمنها من المشتري.
والنجش يكثر حدوثه في الأسواق، ولا سيما في زماننا هذا؛ لفساد الذمم وانعدام النصح، والحرص على حطام الدنيا. وأكثر ما يقع النجش في سوق المزاد العلني "الحراج" أو في سوق الدلالين.
ويقع النجش من البائع نفسه، كأن يقول: أنا اشتريت هذه السلعة بكذا وهو كاذب، لكي يغتر به المشتري، ويشتريها بقيمة مرتفعة، أو يقول: دُفع لي بهذه السلعة مبلغ كذا، أو يقول: سيمت بكذا وهو كاذب.
وقد ذكر الفقهاء من صور النجش أن يمدح الإنسان السلعة ويطلبها بثمن ثم لا يشتري بنفسه ولكن ليسمع غيره، فيزيد في ثمنها.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم النجش، للنهي عنه، وهو عند الإطلاق للتحريم، وقد ورد -أيضًا- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ولا تناجشوا"
(1)
. قال ابن بطال: (أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله)
(2)
. لما في النجش من الغش والغبن والخديعة لمن يرغب في شراء السلعة؛ لأنه يرى من يزايد في السلعة فيندفع معهم إلى المزايدة حتى يقف عليه السوم بابتعادهم، فيقع عليه البيع بثمن مرتفع ليس قيمة للسلعة في واقع الأمر. والواجب النصح للمسلم وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله المستعان.
لكن إن وقع النجش من غير مواطأة مع البائع فإن الإثم على الناجش وحده، وإن كان بمواطأة كان الإثم عليهما.
° الوجه الرابع: اتفق العلماء على تحريم النجش إذا كانت الزيادة فوق ثمن المثل لظهور الخديعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المكر والخديعة في النار"
(3)
.
أما الزيادة لتصل السلعة إلى ثمن مثلها، ففيها قولان:
القول الأول: التحريم وأن النجش حكمه واحد، سواء أراد رفع ثمن السلعة أو نقصها أو الوصول بها إلى ثمن نظائرها. وهو قول بعض المالكية وبعض الشافعية
(4)
، واستدلوا بحديث الباب.
والقول الثاني: الجواز، بل قال بعضهم: إنه مأجور ومثاب على فعله
(1)
أخرجه البخاري (2150)، ومسلم (1515).
(2)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاري"(6/ 270).
(3)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 162)، من طريق جراح بن مليح: ثنا أبو رافع، عن قيس بن سعد رضي الله عنه، به مرفوعًا، وإسناده لا بأس به، وللحديث طرق تدل بمجموعها على أن له أصلًا، وقد علقه البخاري بصيغة الجزم بلفظ:"الخديعة في النار". انظر: "فتح الباري"(4/ 355، 356)، و"الصحيحة" للألباني (1057).
(4)
"حاشية الدسوقي"(3/ 68)، "مغني المحتاج"(2/ 37).
هذا، وبه قال الحنفية، وأكثر المالكية، وبعض الشافعية
(1)
، واستدلوا بحديث:"الدين النصيحة"
(2)
، والناجش في هذه الحالة إنما أراد نصح أخيه المسلم ونفعه من غير إضرار بغيره.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وأما الاستدلال بالحديث فهو مردود لأمرين:
الأول: أن النصيحة إنما تطلب إذا كانت محققة للمصلحة ولا مضرة فيها على آخر.
الثاني: أنه قد يحصل من إسدائها إيهام الغير بأن الناجش يريد الشراء، وليس الأمر كذلك، وإنما يريد رفع السلعة على من يريد شراءها.
° الوجه الخامس: اختلف العلماء في أثر النجش على العقد على ثلاثة أقوال:
الأول: أن البيع فاسد، وإليه ذهب من التابعين عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب الظاهرية، ورواية عن مالك، ورواية عن أحمد
(3)
، ودليلهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش، والنهي يقتضي الفساد، ونوقش ذلك بأن النهي لا يعود إلى ذات البيع ولا إلى شرطه، بل إلى أمر خارج عنه، وهو النجش، وهذا لا يقتضي الفساد، كالتصرية، والبيع مع الغش ونحوهما.
والقول الثاني: أن العقد صحيح، ولا خيار للمشتري؛ لأن البيع قد تم بأركانه وشروطه، فلم يرجع إليه النجش، وإنما عاد إلى الناجش، وما حصل فهو تفريط من المشتري حيث لم يتأمل ولم يراجع أهل الخبرة، وهذا مذهب الحنفية، والأصح عن الشافعية
(4)
.
وهذا مردود بأن استشارة أهل الخبرة في كل سلعة أمر بالغ الصعوبة لا
(1)
"فتح القدير"(5/ 239)، "حاشية الصاوي"(3/ 106)، "فتح الباري"(4/ 356).
(2)
رواه مسلم (55).
(3)
"المغني"(6/ 305).
(4)
"فتح القدير"(5/ 239)، "المهذب"(1/ 291).
تأت الشريعة بمثله، والشريعة جاءت برفع الضرر في مثل هذه الحالة، ولذا ثبت الخيار في التصرية، وتلقي الركبان ونحوهما.
والقول الثالث: أن العقد صحيح وللمشتري الخيار، وهذا مذهب المالكية والحنابلة
(1)
، لكن قالت المالكية: إن النجش كالعيب فالمشتري بالخيار، وقالت الحنابلة: لا خيار إلا إذا غبن غبنًا يزيد عن العادة بزيادة الناجش، واستدلوا بهذا الحديث الذي ورد فيه النهي عن النجش، وقالوا: النهي يعود إلى الناجش لا إلى العاقد، فلم يؤثر في صحة البيع، وحيث إن النهي لحق آدمي معين يمكن تداركه كالبيع مع الغش وتلقي الركبان، فإنه يثبت الخيار.
وهذا القول هو أظهر الأقوال، وفيه جمع بين الأدلة، وعمل بالقاعدة الشرعية:"الضرر يزال"، ولأن الرضا شرط من شروط العقد، والعاقد المتضرر بالنجش قد شاب رضاه شائبة، ولا يمكن تعويضه إلا بإعطائه حق الخيار، والله تعالى أعلم.
(1)
"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 68)، "المغني"(6/ 305).
النهي عن بعض المعاملات
806/ 25 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما أَن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهي عنْ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثنْيا، إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
807/ 36 - وعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في المخابرة"(3405)، والترمذي (1290)، والنسائي (7/ 37، 38) من طريق عباد بن العوام، قال: أخبرني سفيان بن حسين، عن يونس بن عبيد، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد (23/ 159) من طريق ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وأخرجه -أيضًا- (22/ 258) من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، به.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وقال في "العلل الكبير":(سألت محمدًا -يعني: البخاري- عن هذا الحديث، فلم يعرفه من حديث سفيان بن حسين، عن يونس بن عبيد، عن عطاء، وقال: لا يعرف ليونس بن عبيد سماعًا من عطاء بن أبي رباح)
(1)
.
(1)
"العلل"(1/ 519).
والحديث ورد عن جابر رضي الله عنه من غير هذا الطريق، ومن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنه وغيرهما، في "الصحيحين" أو في أحدهما، دون ذكر الثنيا.
وأما حديث أنس رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع، بابٌ "في بيع المخاضرة" (2207) من طريق عمر بن يونس، قال: حدثنا أبي
(1)
، قال: حدثني إسحاق بن أبي طلحة الأنصاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، به مرفوعًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (نهى عن المحاقلة) بالحاء المهملة والقاف، مأخوذة من الحقل، وهو الزرع وموضعه، والمراد بها هنا: بيع الحنطة بسنبلها، بحنطة صافية من التبن، وقد ورد هذا التفسير عن أبي عبيد القاسم بن سلّام
(2)
.
قوله: (والمزابنة) بضم الميم، مأخوذة من الزبن، وهو الدفع الشديد، والمراد بها: أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمر كيلًا، وإن كان عنبًا بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا بطعام كيلًا، سميت بذلك كأن كل واحد من المتعاقدين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه؛ أي: يدفعه.
وهذا التفسير ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وسيأتي الكلام عليه في باب "الربا" إن شاء الله، وأكثر الأحاديث قصرت تفسير المزابنة على النخل، وبعضها على النخل والكرم، وهذا أعم منها حيث جعلها في النخل والكرم والزرع، ولا منافاة؛ لأن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء بمثاله، ولا يريدون به الحصر، ومن الفقهاء من وقف عند هذه التفاسير الواردة في الأحاديث؛ لأنها إن كانت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنها، وإن كانت من الصحابي فهو أعلم بما رواه، ومنهم من توسع في تفسيرها وهم المالكية، فقد فسَّرها
(1)
هو يونس بن القاسم اليمامي من بني حنيفة، وثقه يحيى بن معين وغيره، وهو قليل الحديث، ليس له في البخاري إلا هذا الحديث [فتح الباري" (4/ 404)].
(2)
"غريب الحديث"(1/ 287).
الإمام مالك بأنها بيع كل شيء لا يعلم كيله أو وزنه أو عدده بشيء من جنسه سواء كان يجري فيه الربا أم لا، فيدخل فيها بيع التمر بالرطب، والزبيب بالعنب، والقديد باللحم، واللبن بالجبن، وغير ذلك من كل مجهول بيع بمعلوم من جنسه
(1)
.
قوله: (والمُخابرة) بضم الميم، مأخوذة من الخبار: وهي الأرض اللينة القابلة للزرع، أو من خبرت الأرض: شققتها للزراعة فأنا خبير. والمراد بها: زراعة الأرض بجزء مما يخرج منها، بأن يكون لصاحب الأرض جانب معين، وللمزارع جانب، أو يخصص لصاحب الأرض أطايب الزرع، كالذي على الأنهار والجداول، فكل مزارعة فيها جهالة فهي مخابرة.
قوله: (وعن الثنيا) بالمثلثة المضمومة بعدها نون ساكنة على وزن (دُنيا): وهي أن يبيع شيئًا ويستثني منه شيئًا غير معلوم، يقول: بعتك هذه الكتب أو هذه الأشجار أو هذه الأغنام ونحوها إلا بعضها.
قوله: (إلا أن تعلم) هذا الاستثناء عائد على (الثنيا)، والمعنى: إلا أن يكون معلومًا، كأن يقول: بعتك هذه الكتب إلا هذا الكتاب.
وقد ورد الحديث في "صحيح مسلم" بلفظ: (نهى عن الثنيا) -كما تقدم
(2)
- وليس فيه الاستثناء، ولهذا اختار الحافظ هذه الرواية على رواية مسلم؛ لأن فيها الاستثناء، وعمومات الأدلة تؤيده، بغض النظر عن صحة هذه الزيادة أو عدم صحتها، ولو أن الحافظ ذكر رواية مسلم وأردفها بهذه لكان أحسن، قال النووي:(هذه الزيادة التي ذكرها الترمذي والنسائي حسنة، فإنها مبينة لرواية مسلم)
(3)
.
قوله: (والمخاضرة) هي بيع الثمار خضرًا قبل أن يبدو صلاحها، وقد ورد عند الإسماعيلي في روايته: (قال يونس بن القاسم: والمخاضرة: بيع
(1)
انظر: "الموطأ"(2/ 625)، "المنتقى" للباجي (4/ 247)، "القوانين الفقهية" ص (247).
(2)
انظر: ص (30).
(3)
"المجموع"(9/ 313).
الثمار قبل أن تطعم، وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه)
(1)
.
قوله: (والملامسة) هي المبايعة بمجرد اللمس، كلمس الرجل ثوب الآخر؛ لأن المفاعلة هي المشاركة بين اثنين في الفعل، فيقول: إذا لمست ثوبي ولمست ثوبك فقد وجب البيع بغير تأمل، وهذا التفسير ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم
(2)
، والنسائي
(3)
.
وفسرت -أيضًا- بأن يقول البائع: أيّ ثوب لمسته فهو لك بكذا، وهذا التفسير يوافق ما في حديث أبي سعيد عند النسائي
(4)
.
ولها تفاسير أخرى كلها تجتمع في أن المبيع غير معلوم للمشتري، وأن اللمس قد جعل أمارة على انعقاد البيع، فهو داخل في الغرر المنهي عنه، وإنما خُصَّت بالذكر؛ لأنه من بيوع الجاهلية المشهورة.
قوله: (والمنابذة) هي مفاعلة من النبذ، وتستدعي الفعل بين اثنين، ومعناها: أن ينبذ كل واحد من المتبايعين ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه، وقد ورد هذا التفسير في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، وفي حديث أبي سعيد عند النسائي. وفسرت -أيضًا- بأن يقول البائع: أي ثوب نبذته إليك فهو لك بكذا.
° الوجه الثالث: في هذين الحديثين سبع صور من صور المعاملات الجاهلية، ذكر هذا علماء الحديث والفقه
(5)
، فجاء الإسلام وأبطلها؛ لأنها مبنية على الغرر والجهالة والمخاطرة، وكل هذا يفضي إلى النزاع.
° الوجه الرابع: في الحديث الأول دليل على النهي عن المحاقلة، وهي بيع الحنطة بسنبلها بحنطة، ووجه النهي عنها أنها جمعت محذورين: الجهالة، والربا؛ أما الجهالة فلأن الحب في سنبله مستور بأوراقه وتبنه، فهو مجهول لا يعرف مقداره، ولا تعرف جودته ورداءته، وأما الربا فلأن الجهل بأحد العوضين
(1)
"فتح الباري"(4/ 404).
(2)
"صحيح مسلم"(1511)(2).
(3)
"السنن"(7/ 260).
(4)
"سنن النسائي"(7/ 261).
(5)
انظر: "جامع الترمذي"(3/ 532).
يوقع في ربا الفضل؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكمَ.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على النهي عن المزابنة التي هي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، كأن يبيع ثمر نخله بتمر كيلًا، أو يبيع العنب بزبيب كيلًا، أو يبيع زرعه بكيل طعام من جنسه، ووجه النهي في الربويات كالتمر والحنطة الغرر والتفاضل؛ لأن فيها الجهل بتساوي العوضين، وهذا يفضي إلى الربا لما تقدم، وأما في غير الربويات فلما فيها من الغرر الناشئ عن عدم تحقق قدر المبيع.
° الوجه السادس: الحديث دليل على النهي عن المخابرة، والمراد بها المزارعة القائمة على تحديد جانب معين من الزرع لصاحب الأرض وللمزارع جانب آخر، ووجه النهي هو الجهالة والغرر والمخاطرة، فإن هذا من أبواب الميسر، إذ لا يعلم عاقبة الأمر، فربما صلح هذا الجانب وتلف الآخر.
فإن كان لصاحب الأرض جزء مشاع معلوم كالنصف -مثلًا- جاز ليشتركا في الغنم والغرم ويسلما من الجهالة، وسيأتي لذلك مزيد بيان -إن شاء الله- في باب "المساقاة".
° الوجه السابع: الحديث دليل على أنه لا يجوز استثناء شيء من المبيع إلا إذا عين، فلا يقول: أبيعك هذا القطيع من الغنم إلا عشرًا، وهي غير معينة، فإذا عينها بوصف أو إشارة ونحو ذلك جاز؛ لأن عدم التعيين نوع من الغرر، لجهالة المستثنى، وهذا يفضي إلى النزاع للتفاوت بين شاة وأخرى.
° الوجه الثامن: حديث أنس رضي الله عنه دليل على النهي عن المخاضرة، وهي بيع الزرع الأخضر والثمر الأخضر؛ لأنه إذا باعه على شرط البقاء فهو عرضة للآفات، فيكون وجه النهي ما فيه من الغرر والخطر، ولهذا جاء النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، كما سيأتي إن شاء الله. أما إذا باعه بشرط حصاده في الحال فلا بأس إذا كان ينتفع به علفًا للبهائم.
° الوجه التاسع: في الحديث دليل على النهي عن بيع الملامسة والمنابذة، لما فيهما من الجهالة المفضية إلى الخصام، والله تعالى أعلم.
النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي
808/ 27 - عَنْ طَاوسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَلَقَّوا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ"، قُلْتُ لابْنِ عَبّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: "وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟، قَال: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
809/ 28 - وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَلَقَّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإذَا أتى سيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني، بالولاء، من أكابر التابعين تفقهًا في الدين، ورواية للحديث، وتقشفًا في العيش، وجرأة على وعظ الخلفاء والملوك، روى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، قال الذهبي:(لازم ابن عباس مدة، وهو معدود في كبراء أصحابه)، ولد سنة (33 هـ) ومات سنة (106 هـ) حاجًّا بالمزدلفة أو منى، رحمه الله
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرجه البخاري في "البيوع"، باب "هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ "(2158)، ومسلم (1521) من طريق عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)
"سير أعلام النبلاء"(5/ 38)، "تهذيب التهذيب"(5/ 8).
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم في كتاب "البيوع"، باب "تحريم تلقي الجلب"(1519)(17) من طريق ابن جريج، أخبرني هشام القردوسي، عن ابن سيرين، قال: سمعت أبا هريرة يقول:
…
الحديث.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:
قوله: (لا تلقوا) أصله: لا تتلقوا، بتاءين، فحذفت إحداهما، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] أصله: تتلظى. والتلقي: أصله الاستقبال، والمعنى: لا تستقبلوا الذين يحملون السلع إلى البلد للشراء منهم قبل قدومهم ومعرفة السعر.
قوله: (الركبان) جمع راكب، وهو في الأصل: راكب الإبل، ثم صار يطلق على راكب كل دابة، والمراد بهم: القادمون من السفر بالسلع لبيعها في أسواق البلد، والركوب وصف أغلبي لا مفهوم له، فيشمل المشاة، بدليل الحديث الذي بعده:"لا تلقوا الجلب"، كما أنه لا فرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدًا، وإنما خرج الحديث على الأغلب في أن الجالب يكون عددًا.
قوله: (ولا يبيعُ) هكذا لفظ "البلوغ"، والمثبت في البخاري:"ولا يبع" بالجزم بلا الناهية، وأصله: يبيع، فالتقى ساكنان بسبب الجزم، فحذفت الياء، وفي رواية:"ولا يبيع" بالرفع على أن (لا) نافية
(1)
.
قوله: (حاضر لبادٍ) اسم فاعل من حضر، وجمعه حُضَّر وحضار وحضور: وهو المقيم في المدن والقرى، ضده البادي: وهو المقيم في البادية، وقوله:"لبادٍ"، اسم منقوص حذفت ياؤه، والمراد بالبادي: القادم لبيع سلعته بسعر وقتها، سواء كان بدويًّا أم حضريًّا، كما لو جاء من مدينة أو قرية إلى مدينة أخرى.
قوله: (سمسارًا) بكسر أوله وسكون ثانيه، اسم فاعل من سمسر فلان:
(1)
"عمدة القارئ"(9/ 377).
توسط بين البائع والمشتري بجُعل. ومصدره: السمسرة، وهو فارسي معرَّب، ومعناه: الوسيط بين البائع والمشتري لتسهيل الصفقة
(1)
، وهو الدلال، سواء كان متوليًا البيع للبائع أو الشراء للمشتري، قال البخاري:(قال ابن سيرين عن أنس: لا يبيع له شيئًا، ولا يبتاع له شيئًا).
قوله: (الجلب) بالتحريك، هو في اللغة: الشيء المجلوب يجاء به من بلد إلى آخر للتجارة، و (تلقي الجلب) استقبال القادمين الذين يحملون البضائع والأقوات لشرائها منهم قبل أن يبلغوا السوق، و (تلقي الجلب) تعبير فقهاء الحنفية، ويسميه فقهاء الشافعية والحنابلة (تلقي الركبان)، والمالكية (تلقي السلع).
قوله: (فمن تُلقي) لفظ مسلم: "فمن تلقاه فاشترى منه".
قوله: (فإذا أتى سيده) المراد به جالب السلعة.
قوله: (فهو بالخيار) أي: بين إمضاء البيع أو فسخه.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن تلقي القادمين لبيع سلعهم والشراء، منهم قبل أن يصلوا إلى السوق، والنهي للتحريم عند الجمهور؛ لأنه مقتضى النهي عند الاطلاق.
° الوجه الخامس: الحكمة من النهي عن تلقي الركبان:
1 -
الرفق بصاحب السلعة، لئلا يُبخس في ثمن سلعته؛ لأنه لا يعرف الأسعار، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، وهذا قول الشافعي، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه إثبات الخيار للبائع لا لأهل السوق.
2 -
الرفق بأهل السوق الذين جاءوا يبتغون من فضل الله، وفي تلقي الركبان إفساد عليهم، وهذا قول مالك، ويؤيده حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه: "
…
ولا تلقوا السلع حتى يُهبط بها إلى السوق"
(2)
. ولا دلالة في ذلك؛ لأنه
(1)
انظر: "النهاية"(2/ 400).
(2)
أخرجه البخاري (2165)، ومسلم (1517).
يمكن أن يكون ذلك لمنفعة البائع؛ لأنه إذا هبط السوق عرف السعر، ولا مانع من الجمع بين العلتين، كما يقول الشوكاني
(1)
.
° الوجه السادس: اختلف العلماء في حكم شراء متلقي الركبان على قولين:
الأول: أن البيع مردود؛ لأنه بيع منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد مطلقًا، وقد جزم بذلك البخاري، فقال:(باب النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود؛ لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالمًا، وهو خداع في البيع، والخداع لا يجوز)، وذكره ابن قدامة رواية عن أحمد
(2)
. ونسبه الشوكاني إلى بعض المالكية وبعض الحنابلة، قال الصنعاني:(وهو الأقرب).
والقول الثاني: أن البيع صحيح وللبائع الخيار، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، ومال إليه الحافظ، واختاره الشوكاني، واستدلوا بدليلين:
الأول: حديث أبي هريرة المذكور، فإنه يدل على انعقاد البيع وصحته، ولو كان فاسدًا لم يجعل للبائع الخيار.
الثاني: أن النهي في حديث الباب لا يعود إلى ذات العقد ولا إلى شرطه، وإنما يعود إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو الإضرار بالركبان، وهذا لا يقتضي الفساد.
وهذا القول وجيه -في نظري- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا"، ولم يقل: لا تشتروا، ثم إن الحديث الذي أثبت الخيار واضح الدلالة على المراد.
° الوجه السابع: لا نزاع في ثبوت الخيار للبائع مع الغبن، حكى ذلك ابن القيم
(3)
. وأما ثبوته بلا غبن بأن يشتري منه بمثل سعر البلد أو أكثر، ففيه روايتان عن أحمد:
(1)
"نيل الأوطار"(5/ 189).
(2)
"المغني"(6/ 313)، "سبل السلام"(5/ 62)، "نيل الأوطار"(5/ 188).
(3)
"الطرق الحكمية" ص (251).
الأولى: أنه يثبت، وهو قول الشافعي، واختاره الشوكاني
(1)
. لظاهر قوله: "فإذا أتى صيده السوق فهو بالخيار"، فأطلق له صلى الله عليه وسلم الخيار ولم يقيده.
الثانية: أنه لا يثبت له الخيار، وهو وجه للشافعية، وقول الحنفية، نظرًا لانتفاء المعنى، وهو الغرر والضرر.
وهذا القول له وجه إذ لا حاجة إلى الخيار ما دام أنه ليس فيه غبن، لكن القول الأول أظهر، وهو أن له الخيار مطلقًا غبن أو لم يغبن، لإطلاق الحديث، ولأمور ثلاثة:
1 -
قطع النزاع، فإن الغبن قد يختلف الناس فيه، فهذا يقول: مغبون، وهذا يقول: غير مغبون.
2 -
أنه أطيب لقلبه.
3 -
تعزير المتلقي وتأديبه حتى لا يعود لمثل ذلك.
° الوجه الثامن: الحديث دليل على نهي بيع الحاضر للبادي، وصورة ذلك أن يأتي إلى البلد من يريد بيع سلعته فيتولى بيعها له أحد المقيمين في البلد، وعموم الحديث يدل على أنه لا فرق بين أن يكون البادي قريبًا للحاضر أو أجنبيًّا، وسواء كانت السلعة يحتاجها أهل البلد أم لا، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه قال:(نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه)
(2)
.
ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- خشية إغلاء السلعة على المقيمين إذا باعها عليهم أحد منهم؛ لأنه لا يبيعها إلا بسعر البلد، بخلاف ما إذا باعها البادي فإنه ربما يبيعها برخص، وهو الغالب، فتحصل التوسعة على الناس، فترخص الأسعار، وتتوفر الخيرات، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"
(3)
.
° الوجه التاسع: استدل بهذا الحديث من قال ببطلان بيع الحاضر
(1)
"نيل الأوطار"(5/ 188).
(2)
أخرجه مسلم (1523).
(3)
أخرجه مسلم (1522).
للبادي، وهم المالكية والحنابلة في المشهور عندهم، وهو قول الظاهرية
(1)
.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الحاضر للبادي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وعليه فيكون البيع باطلًا؛ لأنه بيع محرم من إنسانٍ منهي عنه.
وذهبت الحنفية والشافعية وبعض المالكية إلى صحة بيع الحاضر للبادي، وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
، وقالوا: إن النهي يعود إلى معنى في غير البيع، وهو الإضرار بأهل البلد، والنهي إذا عاد إلى غير المنهي عنه فإنه لا يوجب بطلان العقد.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حق المسلم على أخيه: "وإذا استنصحك فانصح له"
(3)
. قالوا: هذا حديث عام، ناسخ لأحاديث النهي عن بيع الحاضر للبادي؛ لأن النهي إنما كان أول الإسلام؛ لما كانوا عليه من الضيق في ذلك.
وهذا استدلال ضعيف، لأمرين:
1 -
أن دعوى النسخ لا تثبت بالاحتمال، بل لا بد من دليل.
2 -
أن أحاديث النصيحة وإن كانت عامة، إلا أنها مُخَصَّصَةٌ بأحاديث النهي عن بيع الحاضر للبادي.
وعلى هذا فالقول الأول هو الأظهر لقوة دليله، وهو ألا يبيع الحاضر للبادي، بل يُترك القادم يبيع سلعته بما يكفيه، والغالب أنه لا يستقصي جميع قيمتها، فيحصل بذلك السعة على المشترين، ويؤيد ذلك أمران:
الأول: أن القول بصحة البيع فيه إضرار بأهل البلد في التضييق عليهم.
الثاني: أن الحاضر قد لا يكون صادقًا مع البادي في إخباره بالسعر الحقيقي للسلعة مما قد يؤدي إلى الإضرار به.
(1)
"المحلى"(8/ 453)، "المغني"(6/ 308).
(2)
"الهداية"(3/ 53)، "المنتقى"(5/ 104)، "المهذب"(1/ 292).
(3)
أخرجه مسلم (2162)(5)، وعلقه البخاري "فتح الباري" (4/ 370) بلفظ: اإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له".
° الوجه العاشر: في الحديث دليل على تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، فالإسلام يمنع مصلحة فرد واحد يتلقى الركبان؛ لأجل مصلحة أهل البلد الذين لهم الحق في أن ينتفعوا جميعًا من الشراء من الجالب مباشرة، وفي بيع الحاضر للبادي هو المستفيد، لكن الإسلام منع ذلك لينتفع أهل البلد بشرائهم السلعة رخيصة، والله تعالى أعلم.
النهي عن البيع على بيع أخيه أو سومه على سومه
810/ 29 - عَنْ أَبِي هُرَيرَة رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ
حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ ما في إِنَائِهَا، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَلِمُسْلِم: "لا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْم الْمُسْلِمِ".
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سَوم أخيه حتَّى يأذن له أو يترك"(2140)، ومسلم مختصرًا (1520) من طريق سفيان، عن الزُّهْريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا لفظ البخاري.
وأخرجه مسلم (1515)(12) من طريق شعبة، عن عدي -وهو ابن ثابت-، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو لفظ البخاري.
وأخرجه -أيضًا - (1515)(9) من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَسُمِ المسلمُ على سوم أخيه".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ولا يبيع) يروى برفع الفعل على أن (لا) نافية، وبالجزم (ولا يبع) على أنَّها ناهية.
قوله: (ولا يَخْطُبُ) مضارع خطب، من باب "قتل" فالمضارع بالضم،
يقال: خَطَبَ المرأة يَخْطُبُهَا خِطبة، بكسر الخاء في المصدر: إذا طلب الزواج منها أو من وليها فهو خاطب. وخَطَبَ يَخْطُبُ: بالضم -أيضًا- خُطبة بضم الخاء في المصدر: إذا وعظ الناس، فهما يتفقان في الماضي والمضارع، ويختلفان في المصدر.
قوله: (طلاق أختها) أي: غيرها، سواء كانت أختها من النسب، أو أختها في الإسلام، أو كانت كتابية.
قوله: (لتكفأ) مضارع كفأ الإناء: إذا قلبه وأفرغ ما فيه.
قوله: (لا يسم) أصل السوم: الذهاب في ابتغاء شيء، يقال: سام البائع السلعة سومًا: أي عرضها للبيع وذكر ثمنها، وسام المشتري المبيع واستامه سومًا: طلب شراءه بالثمن الذي تقرر به البيع، والتساوم بين اثنين: أن يعرض البائع سلعته بثمن ما، ويطلبها صاحبه بثمن دونه.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنَّه لا يجوز للرجل أن يبيع على بيع أخيه، وذلك بأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة أو أعطيك خيرًا منها بثمنها، أو يغريه بمدة سدادٍ طويلةِ الأجل، والغالب أن يقول: ذلك قبل لزوم العقد، مثل أن يكونا في المجلس أو يكون في العقد خيار شرط.
ومثل ذلك الشراء على شراء أخيه، فهو محرم؛ لأنه في معنى المنهي عنه، ولأن الشراء يسمى بيعًا فيدخل في النهي، وذلك بأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: أنا أشتريها منك بعشرة.
ووجه النهي أن بيعه على بيع أخيه من أسباب العداوة والبغضاء والتقاطع بين المسلمين، حيث تعدى على حق أخيه، وأفسد المعاملة التي بينهما.
وظاهر الحديث تحريم بيعه على بيع أخيه مطلقًا، سواء كان ذلك في زمن الخيارين: خيار الشرط وخيار المجلس، أو بعد انقضاء زمنهما، لعموم الحديث، ولأنه لو باع على بيع أخيه بعد انقضائهما لربما تحيل المشتري بأي سبب من الأسباب، كان يدعي عيبًا أو ما شابه ذلك مما يمكنه من الفسخ، ولأنه يورث العداوة بين البائع الأول والمشتري ويدعي أنَّه غبنه.
والقول الثاني: أن محل النهي هو زمن الخيارين؛ لأن هذا هو الغالب في مسألة البيع على بيع أخيه، فإذا انقضى زمنهما جاز بيعه على بيع أخيه، وعللوا لذلك بأن عقد البيع قد تمَّ، فوجود البيع على بيعه أو الشراء على شرائه وعدمه سواء. والقول الأول هو الصواب، لما تقدم من بيان حكمة النهي.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن الخطبة على خطبة أخيه، بأن يتقدم لطلب زواج امرأة بعد أن تقدم إليها غيره، ووجه النهي أن هذا التصرف من أسباب الشحناء والعداوة، ولأنه ظلم لأخيك وتعدٍّ عليه فإنه قد سبق إلى ذلك، وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتَّى يذر"
(1)
.
وقد جاء تقييد ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب بعضكم على خطبة أخيه، حتَّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب"
(2)
. وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب "النكاح" إن شاء الله.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على نهي المرأة أن تسعى عند زوجها في طلاق أختها، وقد فسره النووي رحمه الله رحمه الله بأن تسأل المرأة الأجنبية رجلًا أن يطلق زوجته ويتزوجها مكانها، بحيث يكون لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بإكفاء ما في الصحفة مجازًا
(3)
.
• الوجه السادس: الحديث دليل على نهي المسلم أن يسوم على سوم أخيه، ومعناه: أن يتفق البائع والمشتري على البيع، ولم يعقداه، فيأتي إنسان ويقول للبائع: استرده، وأنا اشتريه منك بأكثر، أو يقول: للمستام: رده، وأنا أبيعك خيرًا منه بثمنه، أو مثله بأرخص.
(1)
رواه مسلم (1414).
(2)
أخرجه البخاري (5142)، ومسلم (1412).
(3)
"شرح النووي على مسلم"(9/ 204).
والفرق بين بيعه على بيعه وسومه على سومه، أن الأول تم العقد إلَّا أن بينهما خيار شرط أو مجلس، أما في السوم على سومه فهذا بعد الاتفاق تمام وقبل العقد.
والسوم على السوم إنما يحرم إذا كانت السلعة معروضة بغير طريق المزايدة واستقر الثمن بالتراضي بين المتعاقدين، أما إذا كانت معروضة بطريق المزايدة فلا بأس بذلك باتفاق أهل العلم؛ لأن البائع يطلب المزايدة؛ لكونه لم يركن إلى أحد.
ومعنى بيع المزايدة: أن يعرض البائع سلعته في السوق، ويتزايد المشترون فيها، فتباع لمن يدفع الأكثر، وهو المعروف بـ (بيع المزاد العلني)
(1)
.
وعلى هذا فالفرق بين بيع المزايدة وسوم المسلم على سوم أخيه أنَّه في بيع المزايدة لم يقع ركون ولا تقارب مع أحد من المشترين، وعلامة ذلك ألا يكفَّ المنادي على السلعة عن طلب الزِّيادة من الحاضرين، وهذا بخلاف السوم على سوم أخيه فإن الزِّيادة تحصل من الطرف الثالث بعد الكف عن المناداة والركون إلى التعاقد مع الراغب في السلعة.
والجمهور من أهل العلم على جواز بيع المزايدة إذا خلا من الغش والتدليس والاحتيال، قال ابن قدامة بعد أن ذكر جوازه واستدل له من السنة:(وهذا -أيضًا- إجماع المسلمين، يبيعون في أسواقهم بالمزايدة)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
ويعرف في بلاد نجد - وقد يكون في غيرها - بـ (بيع الحراج).
(2)
"المغني"(6/ 307).
النهي عن التفريق بين الأقارب في البيع
811/ 30 - عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فَرَّقَ بَين وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللهُ بَينَهُ وَبَينَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَلكِنْ في إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ.
812/ 31 - وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَال: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَن أَبِيعَ غُلامَين أَخَوَينِ، فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْتُ بَينَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"أَدْرِكْهُمَا، فَارْتَجِعْهُمَا، وَلا تَبِعْهُمَا إلَّا جَمِيعًا"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ الْجَارُود، وابْنُ حِبَّانَ، والْحَاكِمُ، والطَّبَرَانِيُّ، وابْنُ الْقَطَّانِ.
* الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي أيوب رضي الله عنه، فقد أخرجه أحمد (38/ 485)، والتِّرمِذي في كتاب "البيوع"
(1)
، باب "ما جاء في كراهية أن يُفَرَّقَ بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع"(1283)، والحاكم (2/ 55) من طريق حيي بن عبد الله المَعَافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن أبي أيوب رضي الله عنه، به مرفوعًا.
والحديث رجاله ثقات غير حُيي بن عبد الله المعافري فقد اختلف فيه،
(1)
وأخرجه -أيضًا- في أَبواب "السير"(1566)، بمتنه وإسناده.
والأكثرون على تضعيفه، وهو مراد الحافظ بقوله:(ولكن في إسناده مقال). وقد حسَّنه التِّرمِذي، وهو الذي نقله عنه المزي
(1)
، وأما قول الحافظ:(وصحَّحه التِّرمِذي) فلم أقف عليه في "جامعه"، والحافظ نفسه قال في "التلخيص": (
…
والتِّرمِذي وحسنه)
(2)
، بل إن ابن القطان لما نقل تحسين التِّرمِذي قال: (وإنَّما لم يصححه؛ لأنه من رواية ابن وَهْب، عن حيي بن عبد الله
…
قال البخاري: (فيه نظر)، وقال الإِمام أحمد:(أحاديثه مناكير)، وقال ابن معين:(ليس به بأس)، فلأجل الاختلاف فيه لم يصححه)
(3)
.
وأما الحاكم فإنه قال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وهذا فيه نظر؛ لأن حيي بن عبد الله لم يخرج له مسلم شيئًا
(4)
.
وله شاهد -كما قال الحافظ - من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها، فقيل: يا رسول الله، إلى متى؟ قال:"حتَّى يبلغ الغلام، وتحيض الجارية"
(5)
.
وأما حديث علي رضي الله عنه، فقد أخرجه أحمد (2/ 155) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه.
وهذا الإسناد رجاله ثقات -كما قال الحافظ - إلَّا أنَّه منقطع، فإن سعيد بن أبي عروبة لم يسمع من الحكم شيئًا، كما قال ذلك أحمد وأَبو حاتم والبزار والنَّسائي والدارقطني وغيرهم
(6)
.
ومما يدل على ذلك أن الإِمام أحمد أخرجه -أيضًا - (2/ 308، 309)
(1)
"تحفة الأشراف"(3/ 93).
(2)
(3/ 18).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(3/ 521).
(4)
"المحرر"(2/ 548)، "نصب الراية"(4/ 23، 24).
(5)
أخرجه الدَّارَقُطني (3/ 68)، والحاكم (2/ 55)، وفيه عبد الله بن عمرو بن حسان الواقفي، قال عنه الدَّارَقُطني:(ضعيف الحديث، رماه علي بن المديني بالكذب)، وقد صححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي بقوله:(موضوع، وابن حسان كذاب).
(6)
"العلل" للدارقطني (3/ 273)، "جامع التحصيل" ص (221، 222).
وكذا البيهقي (9/ 127) عن سعيد بن أبي عروبة، عن رجل، عن الحكم بن عتيبة، به.
وأخرجه ابن الجارود (575) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم، به.
وله طرق أخرى عن الحكم، ومنها: طريق شعبة عنه، أخرجه الدَّارَقُطني (3/ 65، 66)، والحاكم (2/ 54)، والبيهقي (9/ 127) وقال الحاكم:(هذا حديث غريب، صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي.
وقد ذكر الدَّارَقُطني أن رواية شعبة هذه غير محفوظة، وأن المحفوظ رواية سعيد بن أبي عروبة، عن الحكم
(1)
، كما تقدم، وهي رواية أحمد.
وقال البيهقي: (هذا أشبه -يعني رواية أحمد-، وسائر أصحاب شعبة لم يذكروه عن شعبة، وسائر أصحاب سعيد قد ذكروه عن سعيد هكذا -يعني: عن رجل عن الحكم - وهذا أشبه) وقال أيضًا: (قيل عن شعبة عن الحكم، وهو وهم).
ولما نقل ابن القطان كلام الدَّارَقُطني، قال:(والمقصود أن نبين أن رواية شعبة صحيحة لا عيب فيها، وأنها أولى ما اعتمد في هذا الباب)
(2)
.
ولعل هذا مراد الحافظ بقوله - هنا -: (وصححه ابن القطان)، لكنَّ كلام ابن القطان ليس بشيء أمام كلام الدَّارَقُطني والبيهقي.
ثم إنه قد اختلف على الحكم بن عتيبة، فمن الرواة من يرويه عنه، عن ميمون بن أبي شبيب، عن علي رضي الله عنه رواه أَبو داود (2696)، والتِّرمِذي (1284)، وابن ماجة (2249)، وأحمد (2/ 181)، وهذه رجحها أَبو حاتم، ومن الرواة من يرويه عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما تقدم، ويرى الدَّارَقُطني أنَّه (لا يمتنع أن يكون الحكم سمعه منهما جميعًا، فرواه مرة عن هذا، ومرة عن هذا، والله أعلم)
(3)
.
(1)
انظر: "العلل"(3/ 272).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 396).
(3)
"علل ابن أبي حاتم"(1154)"علل الدَّارَقُطني"(3/ 272).
ولو أن الحافظ ضمَّ هذين الحديثين إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم في بيع أمهات الأولاد لكان أحسن.
• الوجه الثاني: حديث أبي أيوب رضي الله عنه دليل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها في البيع، ونحوه كالهبة، والقسمة وغيرهما، وأن الأرقاء لا يفرق بينهم، بل يباعون جميعًا أو يبقون جميعًا، حرصًا على بقاء الرحم والتعاطف بينهما، وحديث الباب فيه وعيد شديد، وهو يدل على تحريم ذلك، ولا فرق بين البيع وغيره؛ لأن الحديث عام في التفريق بأي وجه من الوجوه لقوله:"من فرق".
وظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين حالة البلوغ وما قبلها، ولو صحَّ حديث عبادة - المتقدم - لكان صالحًا لتقييد الإطلاق في حديث أبي أيوب رضي الله عنه، ويكون النهي خاصًّا بما قبل البلوغ، وهذا رواية عن الإِمام أحمد.
والقول الثاني: جواز التفريق بعد البلوغ، وهي الرواية الصحيحة عن الإِمام أحمد، وهو قول الشَّافعي، لما ورد أن سلمة بن الأكوع أتى أبا بكر بامرأة وابنتها، فنفَّله أبو بكر ابنتها
…
الحديث
(1)
.
قال النووي: (فيه جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ، ولا خلاف في جوازه عندنا
…
)
(2)
.
ولأن الولد بعد البلوغ يصير مستقلًا بنفسه، والعادة التفريق بين الأحرار، فإن المرأة تزوج ابنتها، ويفرق بين الحرة وولدها إذا افترق الأَبوان
(3)
.
• الوجه الثالث: حديث علي رضي الله عنه دليل على تحريم التفريق بين الأخوين وأن العقد إذا تم بالتفريق فإنه لا يصح، بل يجب نقضه، وهذا الحديث نص في تحريم التفريق بالبيع، لكن ألحق به العلماء تحريم التفريق بأسباب أخرى كالهبة، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (1755).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(11/ 312).
(3)
"المغني"(6/ 372).
حكم التسعير
813/ 32 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال: غَلا السِّعْرُ بالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَال النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ! غَلا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا. فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ تَعَالى وَلَيسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُني بِمَظْلَمَةٍ في دَمٍ وَلا مَالٍ"، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسائِيَّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أَبو داود في "البيوع"، باب "التسعير"(3451)، والتِّرمِذي (1314)، وابن ماجة (2200)، وأحمد (20/ 46)(22/ 444، 445) وابن حبان (11/ 307) كلهم من طريق حمَّاد بن سلمة، عن قَتَادة وثابت وحميد، عن أَنس رضي الله عنه، به مرفوعًا.
وقال التِّرمِذي: (حسن صحيح)، وقال الحافظ:(إسناده صحيح على شرط مسلم)
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (غلا السعر) الغلاء: ممدود، وهو ارتفاع السعر على معتاده.
والسعر: بكسر أوله وسكون ثانيه، جمعه أسعار، والمراد: الثمن.
(1)
"التلخيص"(3/ 15).
قوله: (سعر لنا) بتشديد العين، ومصدره التسعير، وهو تحديد أثمان الأشياء.
والمراد به: أن يأمر السلطان أو نائبه أهل السوق ألا يبيعوا أمتعتهم إلَّا بسعر كذا، فيمنع من الزِّيادة عليه أو النقصان منه لمصلحة.
قوله: (إن الله هو المسعر) بتشديد العين المكسورة، قال ابن الأثير:(أي: إنه هو الذي يُرخص الأشياء ويغليها، فلا اعتراض لأحد، ولذلك لا يجوز التسعير)
(1)
.
قوله: (القابض الباسط) أي: مضيق الرزق وغيره على من شاء، كيف شاء، وموسعه، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245].
قوله: (الرازق) اسم فاعل من رزق، بمعنى: واهب العباد أرزاقهم، وهو ليس من أسماء الله، أما الرزاق فهو صيغة مبالغة، وهو من أسماء الله تعالى، والرزق: هو كل ما يُنْتَفَعُ به.
قوله: (بمظلمة) مصدر ظلم، واسم ما أُخذ منك بغير حق، وما تطلبه عند الظالم، وجمعها مظالم، وهي بكسر اللام على الأشهر
(2)
.
• الوجه الثالث: الجمهور من أهل العلم، ومنهم: الأئمة الأربعة على أن التسعير لا يجوز في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسعّر وقت غلاء السعر، فمن باب أولى أن لا يكون تسعير في الأحوال العادية، ولأن التسعير في هذه الحال قد يكون سببًا للغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم التسعير لم يقدموا بسلعهم بلدًا يُكرهون فيه على بيعها بغير ما يريدون، ومن عنده بضاعة يخفيها فيطلبها أهل الحاجة فلا يجدونها، فيدفعون ثمنها ليصلوا إليها، فتغلوا الأسعار، ويحصل الإضرار بالملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وبالمشتري من الوصول إلى غرضه.
(1)
"النهاية"(2/ 368).
(2)
"المصباح المنير" ص (386).
• الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم التسعير في حالة الغلاء على قولين:
الأول: أنَّه لا يجوز التسعير، وبه قال كثير من المالكية والشَّافعية والحنابلة
(1)
، واختاره الشوكاني
(2)
، واستدلوا بحديث الباب، ووجه الدلالة من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لم يسعر، وقد سألوه ذلك، ولو كان التسعير جائزًا لأجابهم إليه.
الثاني: أنَّه صلى الله عليه وسلم علل امتناعه بكونه مظلمة؛ لأن الناس مسلَّطون على أموالهم، وفي التسعير حجر عليهم، والظلم حرام، فعليه يكون التسعير حرامًا.
القول الثاني: أنَّه يجوز التسعير عند الحاجة، وذلك إذا غلت الأسعار، وباع التجار بأكثر من الأسعار المعقولة، وهذا قول الحنفية، وبعض المالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم
(3)
.
واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة عدل، فأعْطَى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلَّا فقد عتق منه ما عتق"
(4)
.
ووجه الاستدال: أن جعل العبد على هوى صاحبه يتحكم في قيمته إضرار بالمعتق، فمن أعتق شركًا له في عبد فإنه لا يُترك صاحب الشرك الثاني يطلب من القيمة ما أراد، بل يُقَوَّم عليه قيمة عدل، فيسلم المعتِقُ قسطه من
(1)
"المنتقى"(5/ 18)، "المهذب"(1/ 292)، "الإنصاف"(4/ 338).
(2)
"نيل الأوطار"(5/ 248).
(3)
"الهداية"(4/ 93)، "المنتقى"(5/ 18)، "الحسبة في الإسلام" ص (37)، "الطرق الحكمية" ص (252).
(4)
أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501)، وسيأتي - إن شاء الله - في كتاب "العتق".
الثمن كالنصف - مثلًا - لصاحب النصف الثاني، فهذا التقويم نوع من التسعير للضرورة، إذ لو تُرك الشريك يتحكم لطمع في ظلم أخيه وإيذائه، والمعتق عمل عملًا يحبه الله، فلا ينبغي أن يضيق عليه ويؤذى.
كما استدلوا بما تقدم من النهي عن بيع الحاضر للبادي، لىلا يزيد الثمن إذا باعها الحاضر عليهم.
وهذا القول هو الراجح، وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في التسعير تفصيلًا وافيًا، وهذه خلاصته:
التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم ما يحرم عليهم من أخذ الزِّيادة على عوض المثل، فهذا جائز بل واجب.
وقد يحصل ذلك في الغالب من فئة خاصة كالجزارين والخبازبن ونحوهم، فيتفقون على إغلاء الأسعار بلا موجب، على ألا يبيعوا إلَّا بكذا، وهو شيء زائد على المعتاد، فلولي الأمر أن يمنعهم من ذلك، ويسعر لهم.
وهذا لا يعارض حديث الباب؛ لأنه ليس لفظًا عامًّا، بل جاء في قضية معينة هي غلاء السعر في المدينة لقلة الجلب إليها
(1)
، قال ابن العربي:(وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق، وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا لربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع، وحكمه أمضى)
(2)
.
ولا بد من أن يستند التسعير إلى دراسات منضبطة، قائمة على أسس
(1)
انظر: "الحسبة" ص (23)، "الطرق الحكمية" ص (252).
(2)
"عارضة الأحوذي"(6/ 53).
علمية وموضوعية، تقوم بها عدة لجان من مختلف قطاعات الدولة التي يعنيها هذا الأمر.
أما إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، فارتفع السعر إما لقلة الشيء أو لكثرة الخلق، فهذا إلى الله تعالى، وإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها" إكراه بغير حق؛ لأن الأصل في الشريعة الإسلامية حرية التعامل بين الناس، ما داموا متقيدين بأوامر الشرع، فلا ظلم ولا غش ولا احتكار ولا تلاعب بالأسعار، ولا ريب أن هذه الحرية تعتبر من أهم العوامل التي توفر المتاع وتزيد في الاقتصاد.
وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين أن إخضاع أي سلعة إلى سياسة التسعير يعتبر أقصر الطرق نحو ارتفاع سعر السلعة أو اختفائها من الأسواق أو حدوث الأزمات التموينية، وقال:(لقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأن التسعير الإجباري الرسمي لم يخدم المستهلكين ومحدودي الدخل، بل إن المحتكرين والقادرين على الضغط هم المستفيدون منه)
(1)
.
(1)
"حكم التسعير في الإسلام"، للدكتور: ماجد أَبو رخية ص (54، 55).
النهي عن الاحتكار
814/ 33 - عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"لا يَحْتَكِرُ إلا خَاطئٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو معمر -بفتح الميم وسكون المهملة- بن عبد الله بن نضلة العدوي، ويقال له: معمر بن أبي معمر، أسلم رضي الله عنه قديمًا، وهاجر الهجرتين، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر رضي الله عنه، وروى عنه سعيد بن المسيب، وبشر بن سعيد وآخرون
(1)
.
• الوجه الثاني: في تخرجه:
فقد أخرجه مسلم في "المساقاة"، باب "تحريم الاحتكار في الأقوات"(1605)(130) من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله، به مرفوعًا.
وأخرجه -أيضًا- من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد به، بلفظ:"من احتكر فهو خاطئ"، فقيل لسعيد: فإنك تحتكر، قال سعيد: إن معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر.
• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يحتكر) الاحتكار في اللغة: مصدر احتكر يحتكر، وأصل معناه: الجمع والإمساك.
(1)
"الاستيعاب"(10/ 175)، "الإصابة"(9/ 262)، "تهذيب التهذيب"(10/ 221).
وفي اصطلاح الفقهاء: حَبْسُ الطَّعام طَلَبَ غلائه، أو حبس ما يحتاج إليه الناس من السلع والمنافع حتَّى يغلو سعره أو ينقطع عن السوق، وهذا التعريف أحسن؛ لأنه أشمل من الأول، فإنه عام في الأقوات وغيرها فيما يشتريه أو تنتجه أرضه أو حيواناته أو مصنعه، وسيأتي مزيد إيضاح إن شاء الله.
قوله: (إلَّا خاطئ) الخاطئ: المذنب، يقال: خَطِئَ يخطأ فهو خاطئ: إذا أذنب، وأخطأ يخطئ فهو مخطئ: إذا فعل ضد الصواب.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الاحتكار، وإثم المحتكر، ووجه الدلالة: التصريح بأن المحتكر خاطئ والخاطئ: هو العاصي الآثم، قال تعالى:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، فدل على أن الاحتكار معصية وذنب يجب الاستغفار منه.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحتكر الطَّعام)
(1)
.
فهذا نهي، والأصل فيه التحريم.
والحكمة من النهي عن الاحتكار: دفع الضرر عن عامة الناس؛ لأن الاحتكار يؤدي إلى الإضرار بهم والتضييق عليهم، وإيقاعهم في الحرج، وفيه سوء معاشرة للمسلمين.
• الوجه الخامس: اختلف العلماء هل الاحتكار عام في كل شيء أو أنَّه خاص بالطعام؟ على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الاحتكار محرم في كل شيء، سواء أكان قوتًا، أم إدامًا، أم لباسًا، أم غير ذلك من السلع التي يلحق الناس بحبسها ضرر، وهذا قول مالك، والثوري، وأبي يوسف من الحنفية، وهو ظاهر قول ابن حزم
(2)
، واختاره الصنعاني والشوكاني
(3)
، وهو قول علماء الاقتصاد، فإنهم يتفقون مع هذا القول الذي سبقهم إليه فقهاء المسلمين بمئات السنين.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 47)، والحاكم (2/ 11)، والبيهقي (7/ 542) وسنده صحيح.
(2)
"الهداية"(4/ 92)، "المنتقى"(5/ 15)، "المحلى"(9/ 64).
(3)
"سبل السلام"(5/ 76)، "نيل الأوطار"(5/ 250).
واستدلوا بحديث الباب. ووجه الاستدلال: أنَّه نص مطلق لم يقيد الاحتكار بشيء معين، فيتناول كل ما يحتكر؛ لأن المطلق يعمل به على إطلاقه، كما في الأصول.
والقول الثاني: أن الاحتكار خاص بالأقوات، سواء أكان قوت الآدميين، أم قوت البهائم، كالحنطة والشعير والتبن والبرسيم. وهذا قول الحنفية، والشَّافعية، وقد ألحق بعض الشَّافعية بالقوت كل ما يعين عليه كاللحم والفواكه
(1)
.
واستدلوا: 1 - بحديث أبي أمامة المتقدم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطَّعام"، قالوا: فلما خُصَّ الطَّعام بالنهي عن احتكاره - وهو شامل للقوتين: قوت الآدمي وقوت البهائم - دل على أن غيره يجوز.
2 -
أن غير الأقوات لا ضرر في احتكاره غالبًا، لعدم عموم الحاجة إليه، فكان احتكاره جائزًا.
والقول الثالث: أن الاحتكار خاص في قوت الآدمي دون غيره، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة
(2)
، وهو قول سعيد بن المسيب، كما سيأتي.
واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث أبي أمامة المتقدم: "نهى أن يحتكر الطَّعام"، قالوا: ومعلوم أن الطَّعام هو قوت الآدميين، وقد خُصَّ بالنهي فلا يتعداه إلى غيره.
2 -
ما جاء في تتمة حديث الباب: (فقيل لسعيد: فإنك تحتكر، قال سعيد: إن معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر)، قال أَبو داود: (كان سعيد بن المسيب يحتكر النوى والخَبَط والبَزْرِ
(3)
)
(4)
، فدل ذلك على أن الاحتكار المنهي عنه إنما هو في قوت الناس فقط.
(1)
"الهداية"(4/ 92)، "المهذب"(1/ 292)، "الاحتكار وآثاره" ص (24).
(2)
"المغني"(6/ 317).
(3)
النوى: عجم التمر، والخَبَط - بالتحريك -: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويخلط بدقيق أو غيره ويبل بالماء ويطعم الدواب، والبزر -بفتح الباء وكسرها والكسر أشهر -: كل حب يبذر للنبات.
(4)
"سنن أبي داود"(3448).
3 -
أن غير قوت الآدمي لا تعم الحاجة إليه، فأشبه الثياب والحيوانات.
والقول الأول هو الراجح، وهو أن الاحتكار يكون في كل شيء من أقوات الآدميين والبهائم وسائر السلع التي يحتاجها الناس. ووجه الترجيح: عموم الدليل الذي ينهى عن الاحتكار، ولأن القول بالعموم هو الذي يتفق مع العلة التي من أجلها نهى عن الاحتكار، فإن حاجة الناس قد لا تكون مقصورة على القوت، فقد تكون في الثياب كأيام الشتاء، أو في أدوية، أو نحو ذلك.
وأما حديث: "نهى أن يحتكر الطَّعام"، فلا يصح الاستدلال به على تخصيص الاحتكار بالطعام لأمرين:
الأول: أن ذكر الطَّعام من باب ذكر ما يقع فيه الاحتكار؛ لأن الطَّعام فرد من أفراده، وليس من باب تقييد المطلق.
الثاني: أن أحاديث الاحتكار منها ما هو مطلق، ومنها ما هو مقيد بالطعام، والقاعدة في الأصول أن ما كان من الأدلة على هذا الأسلوب يعمل فيه بالمطلق على إطلاقه، ولا يقيد بالمقيد، لعدم التعارض بينهما، لكون حكمهما واحدًا.
وأما التعليل بأن غير الأقوات لا ضرر فيه غالبًا فهو مردود، فإن حكمة النهي -كما تقدم- دفع الضرر عن عامة الناس فيما يحتاجون إليه من أقوات وغيِرها.
وأما ما ورد عن احتكار معمر وسعيد، فالظاهر كما قال الحافظ البيهقي وغيره أنَّه محمول على احتكارٍ لا ضرر فيه، فلا يكون محرمًا
(1)
، وإنما هو من قبيل الاحتكار للتوسعة على الناس وقت الحاجة، فإنه لا يجوز على سعيد بن المسيب في علمه وفضله أن يروي حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه، وهو على الصحابي أبعد إمكانًا، وعلى فرض التعارض وعدم القدرة على
(1)
"معالم السنن"(5/ 90)، "السنن الكبرى"(6/ 30).
التوفيق بين الحديث وبين فعل راويه فإن العبرة عند الأصوليين في باب التعارض بما روى لا بما رأى؛ لأن الصحابي قد يطرأ عليه النسيان، ويجتهد فيخطئ، فلا يُترك المعلوم للمظنون
(1)
.
• الوجه السادس: مذهب الجمهور على أن من حبس غلة مزرعته أو نتاج حيواناته أو إنتاج مصنعه لا يعد محتكرًا.
قالوا: لأن ذلك خالص حقه، لم يتعلق به حق العامة، فكما أن له ألا يزرع، فكذلك له ألا يبيع.
والقول الثاني: أنَّه يكون محتكرًا، وبه قال بعض الحنفية
(2)
، وهؤلاء نظروا إلى وجود الضرر في حبسه.
والذي يظهر - والله أعلم - أن المسألة منوطة بما يترتب على ذلك من الضرر والتضييق الذي يحدده ظرف الناس ووضعهم الاقتصادي، ويؤيد ذلك ما ذكره القاضي عياض من أن الأصل في الاحتكار مراعاة الضرر، فكل ما أضر بالمسلمين وجب أن يُنفى عنهم
(3)
.
وقد رأى بعض الباحثين أن القول بالجواز محمول على زراعة مساحات قليلة قد لا تؤثر على حاجة القائم عليها، كما في الأزمنة القديمة، أما إذا كانت المساحة كبيرة والإنتاج كثيرًا، كما في عصرنا هذا بحيث يتضرر الناس بحبس الإنتاج فإنه يكون من الاحتكار
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "التبصرة" للشيرازي ص (343)، "الإحكام" للآمدي (2/ 333)، "أحاديث الاحتكار" ص (63 - 64).
(2)
"بدائع الصنائع"(5/ 129).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(5/ 309).
(4)
"أحكام السوق في الإسلام" ص (346).
نهي البائع عن التصرية
815/ 34 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لا تُصَرُّوا الإِبِلَ والْغَنَمَ، فَمَن ابْتَاعَهَا بعدُ فَإِنَّهُ بخَيرِ النَّظَرَينِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْر، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَلمُسْلِمٍ: "فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثلاثةَ أَيَّام".
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ، عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ:"رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَام، لا سَمْرَاءَ"، قَال الْبُخَارِيُّ: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.
816/ 35 - وعَنْ ابْنِ مَسْعُود رضي الله عنه قَال: مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً، فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وزَادَ الإِسْمَاعِيليُّ: مِنْ تَمْرٍ.
* الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "النهي للبائع أن لا يحفِّل الإبل والبقر والغنم وكلَّ
(1)
محفلة" (2148) من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج
(2)
، قال أَبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث. وأخرجه مسلم (1524)(23) من طريق داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.
(1)
بنصب (كلَّ) عطفًا على المفعول، من عطف العام على الخاص، إشارة إلى العموم في الأنعام وغيرها. ["فتح الباري" (4/ 361)].
(2)
هو: عبد الرحمن بن هرمز.
وأخرجه -أيضًا - (1524)(24) من طريق سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر".
وأخرجه -أيضًا - (1524)(25) من طريق أبي عامر العقدي: حدَّثنا قرة، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام لا سمراء"، وعلقها البخاري فقال: (وقال بعضهم عن ابن سيرين صاعًا من طعام، وهو بالخيار ثلاثًا
…
)
(1)
.
وأما أثر ابن مسعود رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور (2149) بعد حديث أبي هريرة بينه من طريق معتمر، قال: سمعت أبي
(2)
يقول: حدَّثنا أَبو عثمان، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:(من اشترى شاة محفلة فردَّها، فليرد معها صاعًا من تمر).
وقول الحافظ: (وزاد الإسماعيلي: من تمر)، هذه اللفظة موجودة في سياق البخاري، كما تقدم، وليست من زيادة الإسماعيلي، وقد أخرج البخاري هذا الأثر مرة أخرى (2164) وليس فيه هذه اللفظة، فلعله رحمه الله استحضر هذا الموضع، وغاب عنه ذاك، فظن أنَّها من زيادة الإسماعيلي.
ولم يظهر لي غرض الحافظ من إيراد أثر ابن مسعود رضي الله عنه إلَّا أن يقال: إنه قصد به الرد على من اعتذروا عن العمل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنه لم يكن في مستوى غيره من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فلا يؤخذ بما رواه مخالفًا للقياس الجلي
(3)
-كما سيأتي- وهذا كلام قد آذى فيه قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، فإن هذا الحكم لم ينفرد به أَبو هريرة رضي الله عنه،
(1)
"فتح الباري"(4/ 361).
(2)
سليمان التيمي. وأَبو عثمان هو النهدي.
(3)
"المبسوط"(3/ 39)، "فتح الباري"(4/ 364).
فقد رواه غيره، كابن مسعود رضي الله عنه، مما يدل على أنهما جميعًا يستضيئان بنور صادر من مشكاة النبوة، ولعل الحافظ تبع البخاري في ذلك، وكلامه في "الفتح" قد يستفاد منه ما تقدم. والله تعالى أعلم.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (لا تُصَروا) بضم أوله وفتح ثانيه بوزن لا تُزكوا، يقال: صَرَّى الشاة يُصَرِّيهَا تصرية فهي مصراة، مثل: غذى الطفلة يغذيها فهي مغذاة، والتصرية معناها: الجمع، تقول: صرَّيت الماء في الحوض، وصريته بالتخفيف: إذا جمعته، والمراد هنا: حبس اللبن في ضروع الإبل والغنم حتَّى يجتمع.
وأجاز بعضهم فتح التاء وضم الصاد وتشديد الراء من الصَّرِّ بمعنى: الشد والربط، وظاهر كلام النَّسائي في ترجمته يشير إلى ذلك
(1)
.
قوله: (الإبل والغنم) الظاهر أن ذكر الإبل والغنم دون غيرهما خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصريه وتبيعه تدليسًا وغشًا؛ لأن البقر قليل في بلادهم، وغير الأنعام لا يقصد لبنها غالبًا، فلم يكونوا يصرون غير الإبل والغنم، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، وعلى هذا فالبقر داخل في الحكم، ولهذا ذكر البخاري البقر في التَّرجمة، مع أنَّها لم تذكر في الحديث.
قوله: (فمن ابتاعها) أي: اشتراها.
قوله: (بعد) ظرف مبني على الضم؛ لأن المضاف إليه محذوف، والتقدير: بعد التصرية.
قوله: (فهو بخير النظرين) أي: يختار أحد الرأيين.
قوله: (إن شاء أمسكها) أي: أبقاها في ملكه.
قوله: (وإن شاء ردها وصاعًا من تمر) بنصب (صاعًا) عطفًا على
(1)
"سنن النَّسائي"(7/ 253).
الضمير في ( .. ردها) بدليل رواية مسلم: "ورد معها صاعًا"، لكن لا بد من تأويل الفعل بفعل مناسب؛ أي: ردها وأعطى صاعًا من تمر؛ لأنه يصدق عليه أنَّه ردها، لكن ما ردَّ صاعًا وإنَّما أعطى.
قوله: (من تمر) سواء كان التمر قوتًا لذلك البلد أم لا. وخصه بالتمر؛ لأنه كان غالب قوتهم في ذلك الوقت، فاستمر حكم الشرع على ذلك، وقدره الشرع بمقدار صاع من تمر لا يزيد ولا ينقص، لقطع الخصام والنزاع لو ترك تقدير ذلك إليهما بادعاءات متعددة.
وهذا الصاع عوض عن اللبن في الضرع حال البيع، وإنَّما لم يجب مثل اللبن ولا قيمته بل وجب صاع في القليل والكثير ليكون ذلك حدًّا يرجع إليه، ويزول به التخاصم، وقد يكون في مكان لا تعرف فيه قيمة اللبن، وقد يتلف اللبن ويحصل التنازع في قلته وكثرته.
قوله: (لا سمراءَ) السمراء: هي الحنطة الشامية، وذكر العيني أنَّها أغلى ثمنًا من البر الحجازي
(1)
، ومعنى نفيها: أنَّه لا يلزم أن يعطي الحنطة؛ لأنها أغلى من التمر في الحجاز، وإنَّما يكفي الطَّعام الذي هو غالب قوت البلد، وهو التمر.
قوله: (والتمر أكثر) أي: إن الروايات قد اختلفت فيما يرد مع المصراة، والروايات التي تنص على التمر أكثر عددًا من الروايات التي لم تنص عليه، أو أبدلته بذكر الطَّعام.
قوله: (محفلة) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الفاء الموحدة، يقال: حَفَلَ اللبن في الضرع: اجتمع، وضرع حافل؛ أي: عظيم، واحتفل القوم: كثر جمعهم، ومنه سمي المحفل.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن تصرية اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند إرادة بيعها، وقد ورد التقييد بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
"عمدة القارئ"(9/ 366).
عند النَّسائي: "إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة
(1)
فلا يحفِّلها"
(2)
.
أما التصرية لا للبيع وإنَّما ليجتمع الحليب للولد أو لعياله أو لضيف، فأجازه قوم، ومنعه آخرون، فمن منعه علل ذلك بما فيه من إيذاء الحيوان، ومن أجازه عمل بالنص المذكور آنفًا فإنه يقتضي أن التحريم مختص بحالة البيع، فيجوز فيما عداها، وأجاب عن التأذي بأنه يسير لا يحصل منه ضرر مستمر، فيغتفر لأجل المصلحة المتعلقة به، كما يغتفر تأذي الدابة في الركوب والحمل، لكن إن طالت المدة حرم لتحقق الضرر.
والحكمة من تحريم التصرية ما فيها من التدليس والتغرير بالمشتري جيث يظن أن هذا اللبن عادة لها، فهو من الغش والكذب وأكل أموال الناس بالباطل.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على صحة بيع المصراة، وهذا مجمع عليه، وذلك لقوله:"إن رضيها أمسكها" لأن الباطل لا يقره الشرع، فلما أقر الشرع البيع دل على صحته.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على ثبوت الخيار لمن اشترى بهيمة مصراة بين إمساكها وردها، وذلك إذا علم بالتصرية، سواء علم قبل الحلب أو بعده، وإنَّما ذكر الحلب قيدأ في قوله:"بعد أن يحلبها"؛ لأن التصرية لا تعرف غالبًا إلَّا بعد الحلب، ولو علم قبل الحلب بطريق أخرى كشهادة عدل أو اعتراف البائع، خيّر المشتري بين الإمساك والرد ولو لم يحلبها. وخياره يمتد ثلاثة أيام منذ علم بالتصرية، وهذا مذهب الجمهور مستدلين برواية مسلم.
والقول الثاني: أن الرد بالتصرية فوري، لقوله:"فهو بخير النظرين" لأن الفاء تدل على التعقيب من غير تراخٍ، ولقوله:"وإن سخطها ردها" وقياسًا على سائر العيوب، وهذا قول لبعض الشَّافعية، ذكر النووي أنَّه هو الأصح عندهم
(3)
.
(1)
بفتح اللام ويجوز كسرها بعدها قاف ساكنة، الناقة القريبة العهد باليج.
(2)
"السنن"(7/ 252).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(9/ 422).
وأجابوا عن التقييد بثلاثة أيام بأنه محمول على ما إذا لم يعلم بالتصرية إلَّا في الثلاث، لكون الغالب أنَّها لا تعلم قبل مضي هذه المدة، لجواز نقصان اللبن باختلاف العلف ونحو ذلك، لكن لو علم بالتصرية قبل الثلاث فعليه أن يردها.
والقول الأول أرجح؛ لأن رواية مسلم: "له الخيار ثلاثة أيام" مقدمة على الإطلاق في قوله: كوإن سخطها ردهال، من باب حمل المطلق على المقيد، لاتحاد الحكم والسبب.
• الوجه السادس: ذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك والشَّافعي وأحمد إلى أن المشتري إذا رد المصراة على البائع رد معها صاعًا من تمر عوضًا عن اللبن الذي كان في ضرعها وقت البيع سواء كان قليلًا أو كثيرًا
(1)
، ولو تراضيا على غير التمر من طعام البلد جاز؛ لأن الحق لهما.
أما اللبن الحادث وهي عند المشتري فلا يرد عنه شيئًا للحديث الآتي: "الخراج بالضمان" فهي لما كانت في ضمان المشتري لو تلفت صار لبنها له.
والقول الثاني: أنَّه لا يرد شيئًا وللمشتري اللبن بدل علفها، ونسب الحافظ هذا القول لأكثر الحنفية
(2)
. واعتذروا عن الحديث بأعذار لا حاجة لشغل الأوقات والأوراق بها، ومنها: أن الحديث مخالف لقياس الأصول، وهو أن اللبن مثلي فيضمن بلبن مثله، والضمان يكون بقدر المثل، وهذا ضُمِنَ بصاع مطلقًا قلَّ اللبن أو كثر.
وهذا مردود فإن الحكم برد الصاع ثابت بالسنة، والسنة أصل، والقياس مردود إلى الكتاب والسنة، فالسنة أصل، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟! ثم إن الحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: إن الأصل يخالف نفسه؟! والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المدونة"(3/ 287)، "شرح صحيح مسلم" للنووي (10/ 422)، "المبسوط"(13/ 40)، "الإنصاف"(4/ 399).
(2)
"فتح الباري"(4/ 364).
النهي عن الغش
817/ 36 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالتْ أَصَابِعُهُ بلَلًا، فَقَال:"مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ "، قَال: أَصَابَتْهُ السمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَال:"أفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَي يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيسَ مِنِّي"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "الإيمان"، باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا"(164)(102) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا".
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (على صبرة) بضم الصاد وإسكان الباء هي: الكومة من الطَّعام، سميت بذلك لإفراغ بعضها على بعض، وجمعها صُبر، كغرفة وغرف.
قوله: (فنالت بللًا) أي: أدركت، والبلل: بفتح الموحدة واللام، الرطوبة والنداوة، وهذا البلل كان مستورًا بالطعام اليابس.
قوله: (ما هذا؟) استفهام إنكاري؛ أي: ما هذا البلل المنبئ غالبًا عن الغش.
قوله: (يا صاحب الطَّعام) يحتمل أنَّه ترك نداءه باسمه لعدم العلم به، أو أنَّه للتسجيل عليه بإضافته إلى ما غش به زيادة في زجره وتوبيخه
(1)
.
قوله: (أصابته السماء) أي: المطر، فسمَّاه باسم مكانه؛ لأنه نازل منها، وهذا من المجاز المرسل عند البلاغيين، وعلاقته المحلية.
قوله: (أفلا جعلته فوق) استفهام يراد به النصح والإرشاد؛ أي: لتسلم من الغش الذي هو من أقبح الأوصاف.
قوله: (كي يراه الناس) تعليل لما قبله.
قوله: (من غشَّ) هذه الرواية بدون ضمير، وفي الرواية الأخرى، كما تقدم:"من غشنا" واللفظ الأول أعم؛ لأن الثاني معناه: من غشنا معشر المسلمين.
والغش: ضد النصح، مأخوذ من الغشش، وهو المشرب الكدر، والمراد هنا: كتم عيب المبيع أو الثمن، والمراد بالعيب هنا: كل وصف يعلم من حال آخذه أنَّه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن الذي بذله.
قوله: (فليس مني) أي: ليس ممن اهتدى بهديي، واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي.
وفي الرواية الأخرى: "فليس منا" أي: ليس على هدينا ومن أهل طريقتنا؛ لأن الفاعل لذلك ارتكب محرمًا وترك واجبًا. وإلَّا فذلك لا يخرجه عن الإسلام عند أهل الحق، وإنَّما هذا للمبالغة في الررع عن الوقوع في ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاقبته: لست مني ولست منك، فالمراد أن فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان.
وجاء عن سفيان بن عيينة والإمام أحمد كراهة تأويله، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر
(2)
.
(1)
انظر: "دليل الفالحين"(4/ 433).
(2)
انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (514).
واعلم أن الإِمام مسلمًا رحمه الله ذكر هذا الحديث في كتاب "الإيمان، ليبين - والله أعلم - أن الغش سبب في نقص الإيمان الواجب، الذي يستحق به صاحبه الثواب المطلق بلا عقاب، ولا يعني هذا أنَّه يخرج من الإيمان، كما تقول الخوارج، بل الصواب أن الاسم المضمر في قوله: "منا" ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب، ومن أخل بشيء من ذلك لم يجب أن يكون من غيرهم مطلقًا، بل معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم في بعض الثواب، ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب،
كما يقول من استأجر قومًا ليعملوا عملًا، فعمل بعضهم بعض الوقت، فعند التوفية يصلح أن يقال: هذا ليس منا، فلا يستحق الأجر الكامل، وإن استحق بعضه
(1)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الغش في البيع والشراء، وأن الواجب على من يتعاطى البيع والشراء أن يتقي الله، وأن ينصح في المعاملة، وأن يحذر الخيانة والغش، فالغش مجمع على تحريمه شرعًا، ومذموم فاعله عقلًا.
وقد حرم الإسلام كتم العيب؛ لأن البائع قد يعرف بسلعته عيبًا ولا يقوم بأي وسيلة من وسائل الغش لإخفائه، ولكنه لا يبينه للمشتري، بل يترك الأمر في كشف العيب لاجتهاد المشتري، وهذا لا يجوز، ومثل ذلك لو كان الغش في الثمن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن البائع والمشتري:"فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"
(2)
.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يحل لامرئ مسلم أن يغيِّب ما بسلعته عن أخيه، إن علم بها تركها"
(3)
.
(1)
"الفتاوى"(19/ 294).
(2)
أخرجه البخاري (2110)، ومسلم (1973).
(3)
أخرجه أحمد (28/ 653، 654)، وابن ماجة (2246)، وحسنه الحافظ في فتح الباري" (4/ 311)، وعلقه البخاري (4/ 309 فتح) عن عقبة بلفظ: "لا يحل لامرئ يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبره".
* الوجه الرابع: النهي في الحديث مرتبط بالغش في البيع؛ لأن ذلك سبب الحديث، ولكنه جاء بلفظ العموم، واللفظ العام إذا ورد على سبب خاص، وجب العمل بعموم اللفظ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيكون الحديث دليلًا على تحريم الغش في البيع والشراء، وتحريم الغش في ذاتية البضاعة أو عناصرها أو كميتها أو وزنها أو مصدرها، ويدخل في ذلك غش العلامات التجارية، بأن يبيع نوعًا غير جيد على أنَّه جيد، والمقصود أن الغش أنواعه كثيرة، والشائع منها أن يكون المبيع أنواعًا فيه الطيب وفيه الرديء، كالتمر أو الفواكه أو الخضار ونحو ذلك، فيجعل الرديء أسفل والطيب فوق؛ لأن المشتري قد لا ينظر إلى الأسفل، أو لا يمكنه ذلك.
والضابط من سلامة الغش أن يكون المبيع ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، وأن يكون أخوك معك على بينة، ليس على غش ولا خيانة.
* الوجه الخامس: كمال شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حذرت من الغش واعتبرت من يزاوله ليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرص الإسلام على سلامة الكسب، وطيب المأكل، وذلك بطلب الرزق من وجوهه المشروعة، والبُعد عن المحرم من الغش والخداع والكذب، والله تعالى أعلم.
تحريم بيع العنب ممن يتخذه خمرًا
818/ 37 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بن بُرَيدَةَ، عَنْ أَبيهِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَبَسَ الْعِنبَ أَيَّامَ الْقطَافِ، حَتى يَبيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، فَقدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ"، رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ في "الأَوْسطِ" بإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط"(6/ 170، 171) من طريق عبد الكريم بن أبي عبد الكريم، عن الحسن بن مسلم، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف حتَّى يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمرًا
…
"الحديث.
قال الطبراني: (لا يروى عن بريدة إلَّا بهذا الإسناد). وهذا الحديث ضعيف جدًّا، بل قال أَبو حاتم:(حديث كذب باطل)
(1)
. وقال ابن حبان: (هذا الحديث منكر)
(2)
. وقال الذهبي في ترجمة الحسن بن مسلم: (أتى بخبر موضوع في الخمر)
(3)
. وساقه الحافظ ابن حجر رحمه الله في "اللسان" ولم يعقب عليه
(4)
.
وآفة الحديث هو عبد الكريم بن أبي عبد الكريم، والحسن بن مسلم، فكلاهما لم يعرفهما أَبو حاتم، وقال في كل منهما:(حديثه يدل على الكذب)
(5)
.
(1)
"العلل"(1/ 359).
(2)
"المجروحين"(1/ 286).
(3)
"الميزان"(1/ 522).
(4)
"لسان الميزان"(3/ 124).
(5)
"الجرح والتعديل"(3/ 36 - 37)، (6/ 62).
أما تحسين الحافظ لهذا الحديث فهو وهم فاحش من مثله رحمه الله، وقد سكت عنه في "التلخيص"
(1)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من حبس العنب) أي: أبقاه ومنع جنيه فلم يَقْطُفْه عند نضجه.
قوله: (أيام القطاف) بكسر القاف وفتحها، وهو وقت قطف الثمر من الشجر، يقال: قطف العنب ونحوه يقطفه قطفًا، من باب ضرب وقتل: قطعه.
قوله: (حتَّى يبيعه ممن يتخذه خمرًا) أي: لأجل أن يبيعه ممن يعصره خمرًا.
قوله: (فقد تقحم النار على بصيرة) أي: رمى بنفسه في النار على علم بالسبب الموجب لدخوله.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم تأخير قطف العنب عن وقت استوائه إلى أن يصير زبيبًا من أجل بيعه على من يتخذه خمرًا، وأن فاعل ذلك قد عمل السبب الذي يوجب له النار، والبيع باطل؛ لأنه عَقَدَ على عيني لمعصية الله فيها، فلم يصح البيع، كما لو آجر الأمة للزنا والغناء.
والحديث ضعيف جدًّا كما تقدم، لكن معناه صحيح، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ويدخل في ذلك نماذج كثيرة منها بيع السلاح لأهل الحرب، أو لقطّاع الطَّرِيق، أو زمن الفتنة.
ومنها تأجير المحلات للمصارف الربوية أو لمن يبيع فيها محرمًا، كالأشرطة الفاسدة، أو تاجيرها للحلاقة التي تشمل حلق اللحية، أو يؤجر منزله أو مستراحه من يجعل فيها آلات لهو، كالدشوش، والقنوات الفضائية التي تبث الخلاعة والمجون، أو يقيم فيها اجتماعات مذمومة ينتج عنها ترك الصلوات، أو فعل المحرمات.
(1)
(3/ 21).
والأمر في ذلك مبني على ما علمه يقينًا أو غلب على ظنه بالقرائن القوية، ولا خلاف بين العلماء في تحريم ما ذكر مع القصد والتعمد
(1)
.
فإن كان الأمر محتملًا، مثل أن يشتري الزبيب من لا تعلم حاله أو يستأجر المكان مَنْ ظاهره الصلاح فالبيع والتأجير جائزان، وقد أخرج النَّسائي بسنده عن مصعب بن سعد قال: كان لسعد كروم وأعناب كثيرة، وكان له فيها أمين، فحملت عنبًا كثيرًا، فكتب إليه: إني أخاف على الأعناب الضيعة، فإن رأيت أن أعصره عصرته، فكتب إليه سعد: إذا جاءك كتابي هذا فاعتزل ضيعتي، فوالله لا أئتمنك على شيء بعده أبدًا، فعزله عن ضيعته
(2)
.
وهذا - والله - من كمال الورع والتقوى، والحرص على الكسب الحلال، وعدم الاغترار بالدنيا ومتاعها، وهذا هو المتعين على كل مؤمن يتعاطى البيع والشراء، أو له ضيعة يبيع ثمرتها، أو مصنع يبيع إنتاجه، فرضي الله عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وعن جميع الصحابة أجمعين، ورحم الله امرءًا اتقى الله في بيعه وشرائه، والله المستعان.
(1)
"نيل الأوطار"(5/ 174).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (9/ 218)، وابن أبي شيبة (6/ 598)، والنَّسائي (8/ 328)، وصححه الألباني في "صحيح سنن النَّسائي"(3/ 1153).
ما جاء في أن الخراج بالضمان
819/ 38 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخرَاجُ بالضَّمَانِ"، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وضَعَّفَهُ الْبخَارِيُّ، وأَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وابْنُ حِبَّانَ، والْحَاكِمُ، وابْنُ الْقَطَّانِ.
* الكلام عليه علي من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أَبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا"(3508)، والتِّرمِذي (1285، 1286)، والنَّسائي (7/ 254)، وابن ماجة (2442)، وأحمد (40/ 272)، وابن حبان (11/ 299)، والحاكم (2/ 15) كلهم من طريق ابن أبي ذئب، عن مَخْلد بن خُفاف، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا. وقال التِّرمِذي:(هذا حديث حسن صحيح).
والحديث رجاله ثقات غير مخلد بن خُفاف بن إيماء الغفاري، فقد وثقه ابن وضاح، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(1)
. وقال البخاري: (فيه نظر)
(2)
. وقال الحافظ في "التقريب": (مقبول) أي: عند المتابعة. وعلى هذا فمثله يقبل حديثه في المتابعات.
لكن نقل التِّرمِذي في "علله"
(3)
أن البخاري قال: (هذا حديث منكر) وقال أَبو حاتم: (وليس هذا إسناد تقوم به حجة
…
غير أني أقول به، لأنه أصلح من آراء الرجال) وساق العقيلي طرق هذا الحديث، ثم قال:(وهذا الإسناد فيه ضعف).
(1)
(7/ 505).
(2)
"الضعفاء" للعقيلي (4/ 230).
(3)
انظر: "العلل الكبير"(1/ 513 - 514)، "الجرح والتعديل"(8/ 347)، "الضعفاء"(4/ 230).
وقد تابع مخلدًا هشام بن عروة، عن أبيه، أخرجه أَبو داود (3510)، وابن ماجة (2243)، وابن الجارود (626)، وابن حبان (11/ 298)، والحاكم (2/ 15) وقال:(صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي، وهذا فيه نظر، فإن مسلم بن خالد وهو الزَّنجي ضعيف، ضعفه ابن المديني، والبخاري، وغيرهما، بل ضعفه الذهبي نفسه
(1)
، وقال أَبو داود عقب الحديث:(هذا إسناد ليس بذاك)
(2)
.
وممن تابعه -أيضًا- خالد بن مهران، أخرجه الخطيب في "تاريخه"(8/ 297، 298) من طريق إبراهيم بن عبد الله الهروي، حدَّثنا أَبو الهيثم خالد بن مهران -وكان مرجئًا-، عن هشام .. ونقل الخطيب توثيق ابن معين لخالد بن مهران، وإبراهيم بن عبد الله لا بأس به.
ولعل الحديث بهذه المتابعات وغيرها يصل إلى درجة الحسن، ولا سيما أن أهل العلم تلقوا هذا الحديث بالقبول -كما يقول الطحاوي
(3)
- وعملوا به، ومقتضى النظر الفقهي يقوي معناه.
والحديث صححه -أيضًا- ابن القطان
(4)
، كما ذكر الحافظ هنا، ونقله عنه -أيضًا- في "التلخيص"
(5)
.
والحديث له سبب وهو أن رجلًا اشترى غلامًا، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الخراج) بفتح الخاء المعجمة، ما يخرج ويحصل من الفوائد والمنافع الحاصلة من العين المباعة أو المؤجرة، مثل ثمرة الشجر، ولبن الحيوان ونسله، والانتفاع بالدار أو الدابة أو السيارة، وقد جاء الحديث بلفظ:"الغلَّة بالضمان"
(6)
، وهذا يفسر لفظ "الخراج" بما تقدم من المعنى.
(1)
"العلل الكبير"(1/ 514)، "الميزان"(4/ 102، 103)، "تهذيب التهذيب"(10/ 115).
(2)
"السنن"(3/ 584)، "الإرواء"(5/ 159).
(3)
"شرح معاني الآثار"(4/ 22).
(4)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 494).
(5)
(3/ 25).
(6)
"مستدرك الحاكم"(2/ 15).
قوله: (بالضمان) الباء للسببية، وهي مع مجرورها متعلقان بمحذوف خبر للمبتدأ، والتقدير: الخراج مستحق بالضمان، وقيل: إنها للمقابلة
(1)
، وهذا أقرب؛ أي: الخراج مقابل الضمان، والضمان: الكفالة والالتزام، والمراد هنا: المؤونة، كالإنفاق والحفظ وتحمل التلف والهلاك، ونحو ذلك.
والمعنى: أن ما يحصل من فوائد ومنافع العين المباعة يكون للمشتري في مقابل ضمانه للعين المباعة، إذ لو تلفت العين كانت من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء، ومثل ذلك العين المؤجرة.
• الوجه الثالث: هذا الحديث مع إيجازه من جوامع الكلم، لاشتماله على معانٍ كثيرة ومسائل عديدة، وهو عند الفقهاء من القواعد الثابتة المستقلة، ولذا أورده العلماء ضمن القواعد الفقهية التي ينطوي تحتها فروع كثيرة، ولهم في ذلك تعبيرات متعددة.
فمن اشترى ماشية فحلبها، أو أرضًا فاستعملها، أو سيارة فركبها أو حمل عليها، ثم وجد بشيء من ذلك عيبًا فله أن يرد العين المباعة، ويأخذ الثمن، ولا شيء عليه فيما انتفع به، بل هو مقابل ضمانه المبيع؛ لأنه لو تلف في يده لكان من ضمانه.
وقد فرَّع الفقهاء على هذه القاعدة مسائل كثيرة، منها:
1 -
أن مؤنة ردِّ العين المنتفع بها في الإجارة على المؤجر؛ لأن العين المستأجرة مقبوضة لمنفعته بأخذ الأجر، وأما مؤنة رد العارية فهو على المستعير؛ لأن منفعتها له.
2 -
إذا احتاج ملك مشترك للتعمير، فعلى كل واحد من الشركاء أن يدفع النفقات بنسبة حصته في ذلك
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
ذكر ذلك الونشريسي المالكي في كتابه "المعيار المعرب"(4/ 346) أثناء كلامه على معاني: "الباء".
(2)
انظر في هذه القاعدة: "القواعد والضوابط الفقهية، للمعاملات المالية عند ابن تيمية" تأليف: عبد السلام الحصين (2/ 254)، "جمهرة القواعد الفقهية المالية" تأليف: علي الندوي (1/ 183).
حكم تصرف الفضولي
820/ 39 - عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَري بهِ أُضْحِيةً، أَوْ شَاة، فَاشْتَرَى شَاتَينِ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بدِينَارٍ، فَأَتَاهُ بشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بالْبَركَةِ في بَيعِهِ، فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسائيَّ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي ضِمْن حَدِيثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ.
821/ 40 - وَأَوْرَدَ لَهُ التِّرْمذِيُّ شَاهِدًا: مِنْ حَدِيثِ حكيمِ بْنِ حِزَامِ.
* الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عروة بن الجعد، ويقال: ابن أبي الجعد البارقي رحمه الله، قال ابن حبان: (بارق: جبل ينزله الأزد
…
) له أحاديث، استعمله عمر رضي الله عنه على قضاء الكوفة، وحديثه عند أهلها، وكان فيمن حضر فتوح الشام ونزلها، قال شبيب بن غرقدة: رأيت في دار عروة بن الجعد سبعين فرسًا
(1)
مربوطة، رغبة في رباط الخيل؛ لأنه هو راوي حديث: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة
(2)
"
(3)
.
• الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث عروة فقد أخرجه أَبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في المُضارب يخالف"
(4)
(3384)، والتِّرمِذي (1258)، وابن ماجة (2402)،
(1)
أخرجه البخاري (3643)، وأحمد (32/ 100).
(2)
أخرجه البخاري (3119)، ومسلم (1873).
(3)
"الثقات"(3/ 314)، "الاستيعاب"(8/ 84)، "الإصابة"(6/ 414).
(4)
الحديث لا يدل صريحًا على ما ترجم له أَبو داود رحمه الله؛ لأن القصة المذكورة فيه =
وأحمد (32/ 100) من طريق شبيب بن غرقدة أنَّه سمع الحيَّ يخبرون، عن عروة البارقي
…
وساق الحديث. وعند البيهقي (6/ 112): (عن شبيب بن غرقدة سمع قومه يحدثون عن عروة
…
).
وإسناده صحيح على شرط البخاري، وقوله:(سمع الحيَّ يخبرون) يعني: قبيلة عروة، وقد تكلم بعض العلماء في صحة إسناد هذا الحديث، وحاولوا تضعيفه بدعوى أن الحي مجهولون، ومن هؤلاء البيهقي، فقد حكم على هذا الإسناد بالانقطاع
(1)
، وتبعه آخرون. والصواب خلاف ذلك، فإن رواية الحديث عن أهل الحي يدل على تأكيد صحته؛ لأن الحي يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولذا قال الحافظ:(الصواب أنَّه متصل، في إسناده مبهم)
(2)
. وقال: (هذا يقتضي أن يكون سمعه من جماعة أقلُّهم ثلاثة
…
)
(3)
، وقال الألباني: (وهذا لا يضر؛ لأن المبهم جماعة من أهل الحي أو من قومه، كما في الرواية الأخرى، وهي للبيهقي، فهم عدد تنجبر به جهالتهم، وكأنه لذلك استساغ البخاري إخراجه في "صحيحه"
…
)
(4)
.
وقول الحافظ: (وقد أخرجه البخاري ضمن حديث، ولم يسق لفظه) هذا وهم منه، فإن البخاري روى الحديث، وساقه بلفظه من طريق شبيب بن غرقدة في كتاب "المناقب" (3642) والحافظ قد ساق هذا الحديث مرة أخرى في "البلوغ" في باب:(الشَّرِكة والوكالة) وقال هناك: (رواه البخاري في أثناء حديث) وسأسوق لفظه هناك، إن شاء الله تعالى.
وأما حديث حكيم بن حزام فقد أخرجه التِّرمِذي (1257) من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
وهذا سند ضعيف، قال التِّرمِذي:(حبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام) وهو ثقة، لكنه كثير الإرسال والتدليس.
= ليست من باب المضاربة. ["عون المعبود" (9/ 240)].
(1)
"السنن الصغير"(2/ 318).
(2)
"التلخيص"(3/ 5)، "فتح الباري"(6/ 635).
(3)
"فتح الباري"(6/ 634).
(4)
"الإرواء"(5/ 128).
• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز تصرف الفضولي إذا رأى المصلحة في جانب موكله، وإن لم يعين له ذلك.
والفضولي عند الفقهاء: من يتصرف في حق الغير بلا إذن شرعي، من بيع أو إجارة أو رهن أو هبة ونحو ذلك من العقود والتصرفات، وهذا المعنى الشرعي راجع للمعنى اللغوي، فإن الفضولي في اللغة وصف يستعمل في حق من يشتغل بما لا يعنيه، نسبة إلى الفضول جمع فضل، وهو الزِّيادة.
فإذا اشترى شيئًا لم يأذن فيه صاحبه، فإن الشراء صحيح، ويكون موقوفًا على إجازة صاحبه، فإن أمضى التصرف وأجازه صح، وإن لم يمضه لزمه هو؛ لأن صاحبه لم يأذن له فيه، فقد كان عروة رضي الله عنه فضوليًّا في شرائه الشاة الثانية ثم بيعها بعد ذلك، ولو كان بيعه وشراؤه باطلًا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وما استحلَّ لنفسه الدينار، بل لأَمَره بإعادته إلى صاحبه وَرَدِّ الشاة، فدل ذلك على أن عقده كان صحيحًا موقوفًا على الإجازة، وقد أجازه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالبركة في بيعه، وهذا عنوان الرضا.
وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه، وهو رواية عن الإِمام مالك، وعن الإِمام أحمد، اختارها الشيخ عبد الرحمن السعدي
(1)
، والشيخ عبد العزيز بن باز.
والقول الثاني: أن تصرف الفضولي لا يصح؛ لأن الموكِّل لم يرضَ بخروج نقوده من ملكه على غير الوجه الذي يرتضيه، وهذا قول الشَّافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة
(2)
. واستدلوا بحديث حكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك"
(3)
أي: ما ليس في ملكك وحيازتك، والفضولي يبيع ما ليس عنده، وهو بيع منهي عنه بهذا الحديث وأمثاله.
والقول الأول أرجح، فإن حديث الباب نص صريح في جواز ذلك؛
(1)
"المدونة"(2/ 155، 156)، "المغني"(6/ 295)، "المختارات الجلية" ص (86).
(2)
"المجموع"(9/ 259)، "الإنصاف"(4/ 283).
(3)
تقدم تخريجه في باب "من مسائل البيع".
لأن المخالفة إذا كان المقصود منها تحقيق النفع والمصلحة للموكل فينبغي أن تقبل، وأن يشكر المتصرف على ذلك، ولا يأبى مثل هذا إلَّا جاهل أو أحمق، والمسلم مرآة أخيه ينظر له وينصح له. وقد نقل الحافظ عن الشَّافعي أنَّه قال:(إن صح الحديث قلت به)
(1)
.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الربح ليس له حد معين؛ لأنه رزق من الله تعالى، وله تأثر بظروف التجارة، وهو خاضع لنظام العرض والطلب، فقد يشتري البائع السلعة بثمن رخيص، ثم ترتفع الأسعار فيربح كثيرًا، وقد يشتريها في الغلاء بثمن مرتفع فتنزل قيمتها.
ووجه الاستدلال من الحديث: أن عروة رضي الله عنه ربح في بيعه الضعف، فإنه اشترى شاتين بدينار، وباع إحداهما بدينار ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. لكن ينبغي للبائع ملاحظة الآداب الشرعية من الرفق بالناس، والتيسير عليهم، والرضا باليسير، والسماحة في البيع والشراء أخذًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"
(2)
.
• الوجه الخامس: استدل العلماء بهذا الحديث على أن شراء الأضحية ليس تعيينًا لها بحيث لا تبدل؛ لأن الشراء يراد لأمور كثيرة، وإنَّما تتعين باللفظ بأن يقول: هذه أضحية .. أو يذبحها بنية الأضحية وإن لم يتلفظ بذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
"التلخيص"(3/ 5)، "فتح الباري"(6/ 634).
(2)
أخرجه البخاري (2076) من حديث جابر رضي الله عنه، وقد أنكره أَبو حاتم، كما في "العلل"(1146).
من مسائل بيوع الغرر
822/ 42 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا في بُطُونِ الأَنْعَامِ حَتى تَضَعَ، وَعَنْ بَيعِ مَا في ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِراءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِق، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، والْبَزَّارُ، وَالدَّارَقُطْنيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيف.
823/ 43 - وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَشْتَرُوا السَّمَكَ في الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الصَّوَابَ وَقْفهُ.
• الكلام عليهما من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجهما:
حديث أبي سعيد رضي الله عنه أخرجه التِّرمِذي (1563)، وابن ماجة (2196)، وأحمد (17/ 470)، والدارقطني (3/ 44)، والبيهقي (5/ 338) من طريق جهضم بن عبد الله اليمامي، عن محمد بن إبراهيم الباهلي، عن محمد بن زيد العبدي، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد رضي الله عنه، به مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف جدًّا، ضعفه ابن حزم
(1)
، والبيهقي، والحافظ ابن حجر وغيرهم؛ لأن محمد بن يزيد العبدي مجهول كما في "التقريب"، وكذا محمد بن إبراهيم الباهلي
(2)
، وشهر بن حوشب متكلم فيه، فقد وثقه أحمد
(1)
"المحلى"(8/ 39).
(2)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1108، 1109).
وابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة، وقال النَّسائي وغيره:(ليس بالقوي)، وقال ابن عدي:(لا يحتج به، ولا يتدين بحديثه)
(1)
. وجهضم اليمامي: ثقة، إلَّا أن حديثه منكر فيما روى عن المجهولين، وهذا منها
(2)
.
ولكن مع ضعف سنده فإن متنه تعضده أحاديث أُخر صحيحة، ولهذا قال البيهقي:"وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي فهي داخلة في بيع الغرر الذي نُهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولعله يقصد بذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في باب "النهي عن بيع الغرر".
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فقد أخرجه أحمد (6/ 197)، والبيهقي (5/ 340) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، به مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف، يزيد بن أبي زياد وهو الهاشمي الكوفي ضعيف، والمسيب بن رافع لم يسمع من ابن مسعود. وقد روي مرفوعًا، وموقوفًا. قال البيهقي: (هكذا روي مرفوعًا، وفيه إرسال بين المسيِّب وابن مسعود، والصحيح ما رواه هُشَيم، عن يزيد موقوفًا على عبد الله
…
)، وممن رجح وقفه: الدارقطني
(3)
، والخطيب، وابن الجوزي، وغيرهم.
وقول الحافظ: (وأشار أحمد إلى وقفه) يعني به: قول عبد الله ابن الإِمام أحمد قال أبي: (حدَّثنا هُشَيم، عن يزيد، فلم يرفعه
…
)، وقد نقل ذلك الطبراني
(4)
، والخطيب
(5)
.
• الوجه الثاني: اشتمل الحديثان على سبعة أنواع من بيوع الغرر التي نهى عنها الإسلام لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، وما تفضي إليه من النزاع الذي يثمر العداوة والبغضاء بين المسلمين.
(1)
"تهذيب التهذيب"(4/ 354).
(2)
"تهذيب التهذيب"(2/ 103).
(3)
"العلل"(5/ 275).
(4)
"المعجم الكبير"(10/ 258).
(5)
"تاريخ بغداد"(5/ 369).
والحديثان وإن كان فيهما المقال المتقدم، لكن هذه البيوع منها ما ورد فيه أدلة أخرى صحيحة، ومنها ما هو داخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم -:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) رواه مسلم.
وبهذا يمكن أن نقول: بأن جميع ما ورد في الحديثين قد ثبت النهي عنه، إما صراحة بأدلة مستقلة، وإما ضمنًا لدخوله في عموم أحاديث النهي عن بيع الغرر، وهذه الأنواع هي:
الأول: شراء ما في بطون الأنعام حتَّى تضع، والمراد بذلك بيع الحمل في بطن أمه، وهذا هو بيع الملاقيح المنهي عنه، على تفسير أكثر العلماء.
وعلة النهي عنه ما فيه من الغرر من جهتين:
الأولى: الجهالة، فإنها لا تعلم صفته ولا حياته، ولا يدرى هل يخرج أو لا يخرج، وإذا خرج لا يدرى أيكون تامًّا أم ناقصًا، ذكرًا أو أنثى؟! وهذا كله يتفاضل بالقيمة.
الثانية: تعذر تسليمه في الحال. وأحد هذين الأمرين يفسد العقد، فإذا اجتمعا تأكد النهي وفساد العقد.
الثاني: بيع ما في ضروع الأنعام، وهو اللبن، وعلة النهي ما فيه من الغرر بسبب جهالة المقدار، إذ قد يرى امتلاء الضرع من السِّمَن فيظن أنَّه من اللبن فيحصل النزاع، كما أن فيه الجهالة بصفته، لأن الألبان تختلف في جودتها وخفتها وحلاوتها.
أما شراء اللبن وبيعه كيلًا أو وزنًا، بأن يتعامل المشتري مع صاحب أبقار على مقدار معين كل يوم مثل: مائة كيلو، فهذا جائز إذ لا غرر في ذلك من جهة المقدار؛ لأن البائع إذا لم يفِ بالمقدار المطلوب فإن المشتري يدفع من الثمن بمقدار ما أخذ.
الثالث: بيع العبد وهو آبق، والآبق: هو العبد الهارب من سيده، فلا يجوز بيع العبد الآبق ونحوه كالجمل الشارد، والمال الضائع.
وعلة المنع هي عدم القدرة على تسليمه، وظاهر الحديث أنَّه لا فرق بين
أن يُعلم مكانه أو يجهل، وفي المسألة خلاف بين الفقهاء، فمنهم من أجاز بيعه إذا علم مكانه وكان المشتري قادرًا على رده؛ لأن الحكم يثبت بعلته ويزول بزوالها، ومنهم من منع بيعه مطلقًا
(1)
.
الرابع: شراء المغانم حتَّى تقسم. والمغانم: جمع مغنم، وهو ما اسْتُولي عليه قهرًا من أموال الكفار المحاربين، فهذا لا يجوز بيعه. وعلة النهي: الجهالة؛ لأن نصيب الغانم مجهول المقدار، ثم إنه باع ما لا يملك.
الخامس: شراء الصدقات حتَّى تقبض، فهذا لا يجوز للجهالة بالمقدار، ولأنه باع ما لا يملك، كالذي قبله.
السادس: النهي عن ضربة الغائص، فلا يجوز بيعها، ومعناها: أن يقول الغواص في البحر للتاجر: أغوص غوصة فما أخرجه من اللآلي فهو لك بكذا.
وعلة النهي: هي الغرر بسبب الجهالة، فإنه قد يحصِّل شيئًا كثيرًا وقد يحصل شيئًا قليلًا، وقد لا يحصل شيئًا، وأيضًا لعدم ملك البائع للمبيع حين العقد.
السابع: شراء السمك في الماء، فلا يجوز بيع السمك وهو في الماء، وهذا يشمل بيعه قبل أن يُصطاد، وهذا لا يجوز باتفاق العلماء؛ لأنه قبل صيده مال مباح غير مملوك لأحد، فلا يكون محلًا للبيع.
ويشمل بيعه بعد أن يملك بالصيد أو غيره وهو لا يزال في الماء، كأن يحوزه في شبكة ونحوها، فهذا لا يجوز للجهل به، فإن السمك في الماء غير معروف المقدار، ومثل ذلك أن يقول: أصيد لك سمكة أو سمكتين بكذا، فلا يجوز للجهالة بالمقدار فقد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة، وأيضًا لعدم القدرة على الحصول عليه وتسليمه للمشتري.
وقد استثنى الفقهاء ما إذا كان السمك بماء مَحوزٍ كبركة يسهل أخذه
(1)
انظر: "المغني"(6/ 289).
ويعرف حجمه لصفاء الماء، فهذا يجوز لإمكان التسليم وانتفاء الجهالة بالمقدار.
ومثل ذلك بيع الطير في الهواء، فإنه لم يرد نص في هذه المسألة لكنها شبيهة ببيع السمك في الماء، فلا يجوز بيع الطير في الهواء - مثل الحمام - مطلقًا، سواء اعتاد الرجوع إلى مكانه أم لا، لما فيه من الغرر، ولأنه لا يوثق برجوعه، فقد يُرمى وقد يهلك، فهو غير مقدور على تسليمه، وهذا مذهب الحنابلة والشَّافعية والحنفية.
والقول الثاني: إن أَلِفَ الرجوع صح بيعه، وهو اختيار ابن عقيل الحنبلي وبعض الحنفية، فإن رجع وإلَّا للمشتري الفسخ
(1)
، وهذا هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(6/ 290)، "الإنصاف"(4/ 293).
من مسائل بيوع الغرر أيضًا
824/ 44 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتى تُطْعِمَ، وَلا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهرٍ، وَلا لَبَنٌ في ضَرْع، رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ في "الأَوْسَطِ"، وَالدَّارَقُطْنيُّ.
وَأَخْرَجهُ أَبُو دَاوُدَ في "الْمَرَاسِيل" لِعِكْرِمَةَ، وَهُوَ الرَّاجِح.
وأَخْرَجَهُ أَيضًا مَوْقُوفًا على ابنِ عباسٍ بإسنادٍ قَويٍّ، وَرَجَّحَهُ البيهقيُّ.
825/ 45 - وعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الْمَضَامِينِ، والْمَلاقِيحِ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَفي إسْنَادِهِ ضعْفٌ.
* الكلام عليهما من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط"(4/ 430) وفي "الكبير"(11/ 338)، وابن عدي في "الكامل"(5/ 65)، والدارقطني (3/ 14، 15)، والبيهقي (5/ 340) من طريق عمر بن فروخ، حدثني حبيب بن الزُّبَير، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، به مرفوعًا، وزاد ابن عدي والدارقطني والبيهقي:(أو سمنٍ في لبن).
وقد ذكر الطبراني أنَّه لم يروه عن حبيب بن الزُّبَير إلَّا عمر بن فروخ. وقال البيهقي: (تفرد برفعه عمر بن فروخ، وليس بالقوي)، فتعقبه ابن التركماني فقال: (عمر هذا يعرف بالقتاب
(1)
، ولم يتكلم فيه أحد بشيء من جرح فيما
(1)
القتاب: -بالباء-: صاحب الأقتاب وهي جمع قتب، وهي الإكاف الصغير على سنام البعير.
علمت غير البيهقي، وذكره البخاري في "تاريخه" وسكت عنه، ولم يتعرض ابن عدي إلى ضعفه، بل وثقه ابن معين وأَبو حاتم، ورضيه أَبو داود). وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"
(1)
. وقال الحافظ عن عمر هذا: (صدوق ربما وهم).
وقد أخرجه أَبو داود في "المراسيل"(171) من طريق ابن المبارك، عن عمر بن فروخ، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، ورواه ابن أبي شيبة (5/ 534)، ومن طريقه الدَّارَقُطني (3/ 15) من طريق عمر، عن حبيب بن الزُّبَير، عن عكرمة به. ولا يبعد أن يكون الوهم من عمر بن فروخ هذا، حيث روى الحديث عن عكرمة، عن ابن عبَّاس موصولًا، ورواه عن عكرمة مرسلًا، ورواه مرة عن حبيب بن الزُّبَير عن عكرمة، وأخرى عن عكرمة من غير واسطة.
وأخرجه -أيضًا - (175)، من طريق زهير بن معاوية، وابن أبي شيبة (6/ 433) من طريق أبي الأحوص، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس موقوفًا.
وأَبو إسحاق وهو السبيعي اختلط بأخرة، والراوي عنه أَبو الأحوص، وهو ثقة، وزهير بن معاوية وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط، لكن تابعه سفيان، كما أخرجه عبد الرزاق (8/ 75)، والدارقطني (3/ 15)، والبيهقي (5/ 345)، والثوري ممن سمع من أبي إسحاق قبل اختلاطه، كما صرح بذلك الحافظ في مقدمة "فتح الباري"
(2)
.
لكن تبقى رواية أبي إسحاق عن عكرمة في جميع هذه الطرق بالعنعنة وهو مدلس، كما وصفه بذلك النَّسائي والذهبي والعلائي وابن حبان وغيرهم.
فهذه ثلاثة أوجه لهذا الحديث، روي مسندًا، وروي مرسلًا، وروي موقوفًا، وقد رجح البيهقي الموقوف -كما ذكر الحافظ - وقال:(إنه هو المحفوظ).
وقد أخرج الإِمام أحمد الجزء الأول من هذا الحديث فقط مرفوعًا بلفظ: "لا يباع الثمر حتَّى يُطعِمَ"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين
(3)
.
(1)
(6/ 186).
(2)
"هدي الساري"(431).
(3)
"المسند"(4/ 113).
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البزار (1/ 507 مختصر زوائده) من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزُّهْريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا.
قال البزار: (لا نعلم أحدًا رواه هكذا إلَّا صالح، ولم يك بالحافظ)، وقال الحافظ في "التقريب":(ضعيف، يعتبر به) أي: يصلح للاعتبار والاستشهاد.
وقال في كتابه "الدراية": (فيه صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف، والمعروف عن سعيد بن المسيب موقوف، أخرجه مالك في "الموطأ"
(1)
عن الزُّهْريّ عنه)
(2)
.
• الوجه الثاني: في هذين الحديثين بعض من بيوع الغرر وقد تقدم سبعة منها، وهذه بقيتها:
فالثامن: النهي عن بيع الثمرة حتَّى تُطْعِم، بضم التاء وسكون الطاء وكسر العين؛ أي: حتَّى يبدو صلاحها وتصير طعامًا يطيب أكلها، يقال: أطعمت الشجرة: إذا أثمرت، وأطعمت الثمرة: إذا أدركت؛ أي: صارت ذات طعم وشيئًا يؤكل منها، ويجوز فتح العين (حتَّى تُطْعَمَ) أي: تؤكل، ولا تؤكل إلَّا إذا أدركت
(3)
.
فلا يجوز بيع الثمار حتَّى يدخلها الطَّعَمُ ويبتدئ فيها النضج، وهذا إذا بيعت بشرط تركها، وعلة النهي ما فيه من الغرر؛ لأنه لا يدرى هل يبقى الثمر إلى أن ينضج أم تصيبه آفة فيهلك؛ وسيأتي - إن شاء الله - بحث هذه المسألة في باب "بيع الأصول والثمار"، أما بيعها بشرط قطعها في الحال فيصح إذا كان الثمر يُنْتَفَعُ به.
التاسع: بيع الصوف على الظهر، فلا يجوز بيع الصوف ما دام على ظهر
(1)
"الموطأ"(2/ 654).
(2)
"الدراية"(2/ 149).
(3)
"النهاية"(3/ 125).
الدابة؛ لأنه مجهول، فيفضي إلى الغرر والخصومة والنزاع في موضع قصه وجزه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو قول الحنفية على ما في ظاهر الرواية، وهو قول الشَّافعية هاسحاق وابن المنذر
(1)
، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز، عملًا بهذا الحديث؛ لأن العلة ظاهرة في المنع.
والقول الثاني: جواز بيع الصوف على الظهر بشرط جزه في الحال. ووجه الجواز أنَّه معلوم مشاهد يمكن تسليمه في الحال، وهو قول مالك، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم
(2)
.
والقول الأول وجيه في نظري، لوجود الغرر الذي من شأنه أن يفضي إلى النزاع؛ لأن تحديد موضع الجز غير واضح، كما أنَّه قد يفضي إلى إيذاء الحيوان، فإن المشتري يريد أن يستأصل الصوف، فيؤذي الحيوان ولا يبقى عليه شيء، والبائع يريد أن يرفع الجزَّ قليلًا ليبقى على الحيوان شيء منه. ثم إنه لا حاجة إلى البيع على هذه الصفة؛ لأنه من الممكن بيع الصوف بعد جزه.
العاشر: بيع المضامين، وقد فسره أكثر العلماء بما في أصلاب الفحول، بمعنى أن يحمل البائعُ الفحلَ على ناقته فما أنتجته كان للمشتري بكذا. وفسره بعضهم بما في أرحام الإناث أو ما في بطون الحوامل، وعلة النهي أن المبيع مجهول الصفة، ومتعذر التسليم.
الحادي عشر: بيع الملاقيح، وقد فسره أكثر العلماء على أنَّه ما في أرحام الإناث، أو ما في بطون الحوامل، وفسره بعضهم بما في أصلاب الفحول، وهذا بيع كان متعارفًا عليه في الجاهلية.
قال أَبو عبيد: (الملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول)
(3)
وعلة النهي كما تقدم، والله أعلم.
(1)
"بدائع الصنائع"(5/ 148)، "المهذب"(1/ 273)، "الإنصاف"(4/ 301).
(2)
"الكافي"لابن عبد البر (2/ 680)، "زاد المعاد"(5/ 834)، "الإنصاف"(4/ 301).
(3)
"غريب الحديث"(1/ 128).
باب الخيار
الخيار: اسم مصدر من اختار يختار اختيارًا وخيارًا، ومعناه: طلب خير الأمرين أو الأمور، والمراد هنا: طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه. والخيار له أنواع مذكورة في كتب الفقه بتفاصيلها، وتختلف المذاهب في عددها، وأشهرها:
1 -
خيار المجلس.
2 -
خيار الغبن.
3 -
خيار الشرط.
وهذه الأنواع الثلاثة سيأتي الكلام عليها في أحاديث هذا الباب إن شاء الله.
4 -
خيار العيب، والإضافة فيه من إضافة الشيء إلى سببه؛ أي: الخيار الذي سببه العيب، وهو أن يكون لأحد المتعاقدين حق الفسخ بسبب عيب يجده فيما تملَّك، ولم يطلع عليه وقت العقد.
5 -
خيار الرؤية، والإضافة فيه من إضافة الشيء إلى سببه -أيضًا- أي: الخيار الذي سببه عدم الرؤية، وهو أن يكون للعاقد الذي عقد على شيء لم يره حق الفسخ إذا رآه.
6 -
خيار التدليس، والإضافة فيه من إضافة الشيء إلى سببه؛ أي: الخيار الذي سببه تدليس البائع على المشتري.
ومعناه: أن يكون للعاقد على شيء حق الفسخ إذا كان المبيع على صفة، فإن للمشتري خلافها.
وهذه الأنواع ليست محل اتفاق بين العلماء، بل الخلاف فيها ثابت في موضعه.
استحباب إقالة النادم في البيع
826/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أقَال مُسْلِمًا بيعته، أَقَالهُ اللهُ عَثْرَتَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَة، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ
(1)
.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أَبو داود في كتاب "البيوع"، باب "في فضل الإقالة"(3460)، وابن حبان (11/ 405)، والحاكم (2/ 45) من طريق يحيى بن معين، ثنا حفص بن غياث، ورواه ابن ماجة (2199) من طريق مالك بن سُعير، كلاهما عن الأعمَش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا، وزاد ابن ماجة وابن حبان:"يوم القيامة".
وهذا الحديث ما رواه عن الأعمَش إلَّا حفص بن غياث ومالك بن سعير، وما رواه عن حفص إلَّا يحيى بن معين، ذكر هذا البزار والدارقطني وابن حبان وغيرهم
(2)
، وهذا التفرد مظنة الخطأ.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من أقال
…
) الإقالة في اللغة تعني: الرفع والإزالة، ومن ذلك قولهم: أقال الله عثرته؛ أي: رفعه من سقوطه، ومن ذلك الإقالة في البيع؛ لأنها رفع للعقد، ونقض وإبطال.
(1)
هذا الحديث ورد في بعض طبعات "البلوغ"، وفي شرح المغربي، ثم الصنعاني قبل باب "الخيار"، وفي بعضها في باب "الخيار".
(2)
انظر: "مسند البزار"(15/ 374)، "العلل" للدارقطني (10/ 185)، وانظر:"الكامل" لابن عدي (2/ 368)، "تاريخ بغداد"(8/ 196 - 197).
والإقالة في اصطلاح الفقهاء: رفع العقد وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين
(1)
.
قوله: (مسلمًا) هذا خرج مخرج الغالب؛ لأن ثواب الإقالة ثابت في إقالة غير المسلم، وقد ورد عند البزار بلفظ:"من أقال نادمًا"
(2)
.
قوله: (عثرته) العثرة: الزلة والخطيئة، وهي اسم مرة، وقيل: للزلة عثرة؛ لأنها سقوط في الإثم.
• الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على فضل الإقالة في البيع أو غيره، وهي إحسان ومعروف في حق المقيل؛ لأن الإنسان قد يندم إذا باع ويندم إذا اشترى، فقد يندم المشتري إما لظهور الغبن في المبيع، أو لزوال حاجته إليه، أو لكونه لا يجد الثمن أو نحو ذلك، فإذا أقال البائعُ المشتريَ أو أقال المشتري البائعَ، فقد أحسن إلى أخيه، وحظي بهذه الدعوة المباركة، وهي أن الله تعالى يقيل عثرته في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
وأما في حق المستقيل فهي مباحة لا حرج فيها، وليست من السؤال المذموم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الفضل على وقوعها.
والأصل في الإقالة أن تكون باللفظ، مثل: أقلتك، فسخت البيع، وقبلت ذلك. وقد تكون بالفعل، كأن يتراد المتعاقدان المبيع والثمن.
• الوجه الرابع: اختلف العلماء في الإقالة هل هي فسخ أو بيع؛ على قولين:
الأول: أنَّها فسخ وإلغاء للعقد وليست بيعًا، إذ هي ليست ابتداء عقد، وهذا رواية عن الإِمام أحمد، اختارها الخرقي والقاضي والأكثرون، وهي أصح الروايتين. ووجه هذا القول أن الإقالة هي الرفع والإزالة، كما تقدم، وهذا عين الفسخ.
(1)
"معجم المصطلحات الاقتصادية" ص (72).
(2)
انظر: "التلخيص"(3/ 27).
الثاني: أنها بيع، وهو رواية عن أحمد، ومذهب الإمام مالك؛ لأن المبيع عاد إلى البائع الأول على الصفة التي خرج عليها منه، فكان بيعًا كالأول
(1)
.
وهذا الخلاف له فوائد كثيرة ذكرها ابن رجب في "ملحق القواعد"
(2)
، ومنها:
1 -
من حلف لا يبيع، فأقال: لم يحنث على القول الأول، ويحنث على القول الثاني بأنها بيع، كسائر البيوع.
2 -
على القول بأنها فسخ تجوز قبل القبض وبعده، وعلى الثاني لا تجوز قبل القبض، فيما يعتبر فيه القبض كالمكيل والموزون -مثلًا-؛ لأن بيعه على بائعه لا يجوز قبل قبضه، كما لا يجوز على غيره.
3 -
على القول بأنها فسخ تصح بعد النداء الثاني يوم الجمعة، وعلى أنها بيع لا تصح.
° الوجه الخامس: اختلف العلماء في حكم الإقالة بأقل أو أكثر من ثمن السلعة على قولين:
الأول: أنها لا تجوز إلّا بالثمن، وقد نقل عن أحمد ما يدل على كراهة الزيادة؛ لأن مقتضى الإقالة رد الأمر على ما كان عليه، ورجوع كل واحد منهما إلى ماله، فلم تجز بأكثر من الثمن، ولأنه يخشى شبهها بمسالة العينة؛ لأن البائع يرجع إليه عين ماله، ويثبت له على المشتري فضل دراهم.
والقول الثاني: جواز الإقالة بأقل أو أكثر من الثمن، وقد نقل عن الإمام أحمد ما يدل على جواز ذلك، مستدلًا بمسالة بيع العربون -المتقدمة- وذلك لأنه من جنس الإقالة بربح.
ورجح ذلك الحافظ ابن رجب في "القواعد" وقال: (إن محذور الربا هنا بعيد جدأ؛ لأنه لا يقصد أحد أن يدفع عشرة ثم يأخذ نقدًا خمسة -مثلًا-، لا سيما والدافع هنا هو الطالب لذلك الراغب فيه)
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(6/ 199).
(2)
"القواعد"(3/ 309).
(3)
"القواعد"(3/ 312).
ثبوت خيار المجلس للمتبايعين
827/ 2 - عَن ابْنِ عُمرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الاخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، ولَمْ يَتْرُكْ وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيعُ"، مُتَّفَق عَلَيهِ، وَاللفْظُ لِمُسْلِمٍ.
° الكلام عليه من وجوده:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "إذا خير أحدهما الآخر بعد البيع فقد وجب البيع"(1212)، ومسلم (1531)(44) من طرق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا تبايع الرجلان) أي: أوقعا العقد بينهما لا تساوما من غير عقد، وذكر الرجلين باعتبار الغالب، وإلا فالمرأتان كذلك.
قوله: (فكل واحد منهما بالخيار) أي: في إمضاء البيع أو فسخه، والمراد هنا: خيار المجلس، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (كل) أي: كل واحد منهما محكوم له بالخيار على صاحبه.
قوله: (ما لم يتفرقا)(ما) مصدرية ظرفية، والتقدير: فكل واحد منهما بالخيار مدة عدم تفرقهما، والمراد: تفرقهما بالأبدان من المجلس بدليل رواية الدارقطني والبيهقي الآتية: "حتى يتفرقا من مكانهما". ولأن راوي الحديث
وهو ابن عمر فسره بذلك، ففي رواية البخاري:(وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه).
والمراد بالمكان: مكان العقد.
قوله: (وكانا جميعًا) هذا توكيد لما قبله في المعنى؛ لأن المراد: وكانا جميعًا في مكان واحد، وهو حال من الضمير في قوله:"ما لم يتفرقا".
قوله: (أو يخير أحدهما الآخر) معناه: أن يقول أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فإذا اختار البيع وجب البيع، وإن اختار الفسخ انتهى الأمر، فينقطع خيارهما وإن لم يتفرقا. وقد نقل ابن المنذر هذا المعنى عن سفيان الثوري، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وإسحاق
(1)
.
ويحتمل أن معناها: أن يشترط أحدهما أو كلاهما الخيار مدة معلومة، فإن الخيار لا ينقضي بالتفرق، بل يبقى حتى تمضي المدة التي شُرطت، وهذا المعنى حكاه ابن عبد البر عن أبي ثور
(2)
، والمعنى الأول أصح، لما ورد في إحدى الروايات:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار"
(3)
.
قوله: (فتبايعا على ذلك) الإشارة ترجع على ما يفهم مما قبله؛ أي: تبايعا على إسقاط الخيار أو إثباته مدة معينة.
قوله: (فقد وجب البيع) أي: ثبت ولزم.
قوله: (وإن تفرقا) هذا تصريح بمفهوم الجملة السابقة: (ما لم يتفرقا) والمراد: تفرقا بابدانهما، بدليل رواية الدارقطني الآتية.
قوله: (بعد أن تبايعا) أي: عقدا عقد البيع.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشتري، وأن لكل منهما إمضاء البيع أو فسخه ما داما في مكان العقد، فإذا تفرقا انقضى الخيار وثبت البيع.
(1)
"التمهيد"(14/ 23).
(2)
المصدر السابق.
(3)
"صحيح البخاري"(2109).
والحكمة من مشروعية خيار المجلس إعطاء؛ المتعاقدين فرصة للتأمل والنظر، وحصول تمام الرضا الذي لا بد منه في العقود؛ لأن البيع قد يقع بغتة من غير تروٍّ ولا نظر، فأثبت الشارع خيار المجلس لذلك ما دام المتعاقدان في مكانهما.
ولم يرد في الحديث ضابط التفرق، فيكون مرجعه إلى العرف، فما عده الناس تفرقًا لزم به العقد حسب اختلاف المكان الذي حصل به التبايع، فلو كانا في السوق فيحصل التفرق بمفارقة أحدهما للآخر، وذلك بأن يمشي قليلًا، وإن كانا في محل أو نحوه فبخروج أحدهما، أو في سيارة بنزول أحدهما منها، فإن كان البيع عن طريق الهاتف بقي خيارهما من صدور القبول من المشتري إلى نهاية المكالمة بينهما ولو طالت، فإذا انتهت لزم العقد، تنزيلًا لانقطاع الكلام منزلة التفرق بالأبدان
(1)
.
° الوجه الرابع: القول بإثبات خيار المجلس، هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة وأرباب المذاهب، وبه قالت الظاهرية وابن حبيب، وابن عبد البر من المالكية
(2)
. مستدلين بحديث ابن عمر هذا وغيره مما ورد في هذا الباب.
وذهب أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحابهما إلى عدم ثبوت خيار المجلس وأن العقد متى تمَّ في مجلسه بصدور القبول امتنع الرجوع إلا بعيب أو نحوه؛ لأن صفة العقد الإلزام، ولا إلزام إذا أجزنا لأيّ منهما الرجوع
(3)
. وقد استدلوا بادلة لا علاقة لها بمحل النزاع، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، فقالوا: إن البيع عُقِدَ قبل التخيير، فيجب الوفاء به، وخيار المجلس يؤخر الوفاء به.
(1)
"خيار المجلس والعيب في الفقه الإسلامي" ص (101).
(2)
"التمهيد"(14/ 11)، "المحلى"(8/ 351).
(3)
"فتح القدير"(5/ 81)، "المدونة"(4/ 188).
وعلى فرض شمول هذه الأدلة لخيار المجلس فهي أعم مطلقًا، وأحاديث الخيار خاصة، والخاص يقضي على العام.
وقد اعتذروا عن العمل بالأحاديث بأعذار ضعيفة، ومنها قولهم: إن أحاديث الخيار منسوخة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"، ومنها قولهم: إن الحديث من رواية مالك، وقد عمل مالك نفسه بخلافه، فدل على أنه عارضه ما هو أقوى منه، ومنها: أن المراد بالتفرق: التفرق بالأقوال.
قال اين عبد البر المالكي: (قد أكثر المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج لمذهبهما في رد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره تشغيب لا يُحصل منه على شيء لازم لا مدفع له)
(1)
.
وقد عاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته الحديث مع روايته له في "موطئه" وثبوته عنده، حتى نُقل عن بعضهم الخشونة في الرد على مالك
(2)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن البائع والمشتري لو اتفقا على إسقاط الخيار بعد العقد وقبل التفرق وأنه لا خيار لهما لزم العقد وثبت البيع؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما، وكيفما اتفقا جار، فإن اشترط أحدهما الخيار مدة معلومة لم ينقض الخيار بالتفرق، بل لا بد من انقضاء المدة، فإذا انقضت ولم يحصل من أحدهما فسخ للبيع بطل الخيار ولزم العقد، وسيأتي -إن شاء الله- مزيد كلام على خيار الشرط، والله تعالى أعلم.
(1)
(التمهيد)(11/ 14).
(2)
هو: الإمام المدني الفقيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، المتوفى سنة (158): رحمه الله. راجع: ["سير أعلام النبلاء" (7/ 142، 143)] لتقف على المقولة المذكورة، ورأي الذهبي رحمه الله فيها.
نهي المتعاقدين عن ترك المجلس خشية الاستقالة
828/ 3 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال:"الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرّقَا، إلا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ"، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ، والدَّارَقُطْنيُّ، وابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.
وَفي روَايَة: "حَتى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهمَا".
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في خيار المتبايعين"(3456)، والترمذي (1247)، والنسائي (7/ 251، 252)، وأحمد (11/ 330، 331)، والدارقطني (3/ 150)، وابن الجارود (620) كلهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص -ضي الله عنهما -.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن)، والمراد بذلك قوله: "ولا يحل له
…
" إلخ؛ لأنه من رواية عمرو بن شعيب وحديثه من قبيل الحسن، كما تقدم مرارًا، وأما أول الحديث فهو صحيح لغيره؛ لأن له شواهد، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، كما تقدم.
وأما رواية: (حتى يتفرقا من مكانهما) فهي عند الدارقطني، والبيهقي (5/ 271)، ولعل غرض الحافظ من إيرادها أنها مفسرة للمراد من التفرق في
حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم: "ما لم يتفرقا" وأن المراد التفرق بالأبدان، لا بالأقوال، كما يقول نفاة خيار المجلس.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إلا أن تكون صفقة خيار) برفع (صفقة) على الفاعلية على أَنَّ (تكون) تامة، والمعنى: إلا أن توجد أو تحدث صفقة خيار. وبنصبها على أن (تكون) ناقصة، واسمها محذوف يفهم من السياق، والتقدير: إلا أن تكون البيعة صفقة خيار، أو إلا أن تكون الصفقة صفقة خيار.
والصفقة لغة: اسم المرة من الصفق، وهو الضرب باليد على يد أخرى، ثم استعمل اللفظ في عقد البيع؛ لأن العرب إذا وجب البيع ضرب أحد المتبايعين يده على يد صاحبه. والإضافة للبيان؛ لأن الصفقة قد تكون للبيع أو للعهد.
والمعنى: أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، إلا إذا قال أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فاختار الإمضاء، تم البيع وإن لم يتفرقا، وهذه هي صفقة الخيار.
قوله: (ولا يحل له أن يفارقه) أي: لا ينبغي لأحد المتعاقدين أن يفارق صاحبه ويقوم مسرعًا من مكان العقد، وهذا مقيد لما تقدم من قوله:(ما لم يتفرقا) فيكون المراد التفرق الذي لم يقصد به إسقاط حق صاحبه.
قوله: (خشية أن يستقيله) مفعول لأجله منصوب؛ أي: خشية أن يرجع صاحبه في بيعته معه ويفسخها، فالمراد بالإقالة هنا: فسخ النادم منهما للبيع، وليس المراد الاستقالة التي تقدمت، إذ لو كان هذا هو المراد لم تمنعه من المفارقة؛ لأنها لا تختص بمجلس العقد، بل تجوز بعده، فدل على أن المراد فسخ البيع.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على إثبات خيار المجلس للمتعاقدين ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان العقد، فإن تفرقا بطل الخيار ولزم البيع، وكذا لو قال أحدهما للآخر في مكان العقد بعد العقد: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فاختار إمضاء البيع انقطع خيارهما وإن لم يتفرقا.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على نهي المتعاقدين عن التفرق والهرب من مجلس العقد لأجل أن يلزم العقد، بل ينبغي التريث وعدم العجلة؛ لأن هروبه تحيل على إسقاط حق الغير الواجب، فإن أخاه قد يندم على البيع، وهو قد يندم أيضًا، فلا حاجة إلى العجلة، والمسلم أخو المسلم، لا ينبغي له أن يعجل بشيء قد يحرم أخاه من مصلحته، بل ينتظر حتى يقوم القيام المعتاد. وإذا هرب أحدهما فقد اختلف العلماء على ثلاثة أقوال:
الأول: يلزم العقد، وينقطع الخيار؛ لأنه فارقه باختياره، ولأنه متمكن من الفسخ بالقول، وهذا قول الحنابلة، وقول عند الشافعية، صححه النووي
(1)
.
والقول الثاني: أنه يبقى الخيار ولا ينقطع، معاملةً له بنقيض قصده.
والقول الثالث: التفصيل وهو أنه إن تمكن أن يتبعه ولم يتبعه بطل خيارهما؛ لأن تاخره عن اللحاق به رِضًى بالتفرق، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب، وبقي خيار الآخر
(2)
.
° الوجه الخامس: ورد عن نافع أنه قال: (وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه)، وفي لفظ:(فكان ابن عمر إذا بايع رجلًا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه)
(3)
، وقد حمله العلماء على أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يبلغه حديث النهي هذا، ولو بلغه لما خالفه، ذكر هذا ابن قدامة
(4)
، وبه جزم الحافظ في "التلخيص"
(5)
، ولا ريب أن السنة إذا صحت لم يجز أن تُعارض باجتهاد صحابي ولا غيره؛ لأن الصحابي قد يخفى عليه الحديث، وقد يجتهد، فإذا ثبتت السنة وجب الرد إليها، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(6/ 13)، "المجموع"(9/ 182).
(2)
"المجموع"(9/ 182)، "خيار المجلس والعيب" ص (86).
(3)
أخرجه البخاري (2107) واللفظ الأول له، ومسلم (1531)(45) والثاني له.
(4)
"المغني"(6/ 15).
(5)
(3/ 23).
حكم الخيار لمن يُخدع في البيع
829/ 4 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: ذَكَرَ رَجُلٌ لِلنبي صلى الله عليه وسلم أنهُ يُخْدَعُ في الْبُيُوعِ. فَقَال: "إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ"، مُتَّفَق عَلَيهِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "ما يكره من الخداع في البيع"(2117)، ومسلم (1533) من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وقد جاء في رواية مسلم: (فكان إذا بايع يقول: لا خيابة)، أي: يقولها بالياء المثناة بدل اللام، وبالذال المعجمة بدل اللام أيضًا، قال النووي:(والصواب الأول)
(1)
والظاهر أنه لا يفصح باللام للثغة في لسانه، وقد ورد عند أحمد: (وكانت في لسانه لُوثَة
…
).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ذكر رجل) اختلف في تعيينه، وقد جاء في رواية ابن الجارود من طريق ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: أن حَبَّان بن منقذ سَفَعَ في رأسه مأمومة، فثقلت لسانه، وكان يخدع في البيع، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ابتاع فهو بالخيار ثلاثًا
…
الحديث
(2)
.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(11/ 433).
(2)
"المنتقى"(567) وسنده حسن، حسنه النووي في "المجموع"(9/ 190)، وابن إسحاق صرح بالتحديث عند أحمد (10/ 282)، والدارقطني (3/ 54، 55)، والبيهقي (5/ 273). وانظر:"المستفاد من مبهمات المتن والإسناد"(2/ 773).
قوله: (يخدع) أي: يغرُّ ويغبن.
قوله: (لا خلابة) لا: نافية للجنس، وخلابة: اسمها مبني على الفتح. والخلابة: بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام: هي الخديعة. وخبر (لا) محذوف، والتقدير: لا خديعة في الدين؛ لأن الدين النصيحة، والمعنى: لا تحل لك خديعتي، أو لا تلزمني خديعتك. وقد لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع، فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع وأثمانها.
° الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: بإثبات خيار الغبن، وأن العاقد المغبون له حق الخيار حتى يستطيع رفع الغبن الواقع عليه، وهذا قول أحمد وبعض المالكية، بشرط أن يكون الغبن ثلث القيمة عند المالكية، وعند الحنابلة أن يكون فاحشًا يخرج عن العادة
(1)
، والمرجع في تحديده إلى عرف الناس، ولعلهم أخذوا هذا التقييد مما علم أنه لا يكاد يسلم أحد من مطلق الغبن في غالب الأحوال، ولأن القليل يُتسامح به في العادة.
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه لا يثبت الخيار لكل مغبون
(2)
، لعموم أدلة البيع ونفوذه، من غير تفرقة بين الغبن أو لا، إلا من كان مثل هذا الرجل في ضعف عقله، بشرط أن يقول هذه المقالة. وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه أنه كان يبتاع وكان في عقدته -يعني: في عقله- ضعف
…
الحديث
(3)
.
وقالوا: لا يستدل به على ثبوت الغبن لكل مغبون وإن كان صحيح العقل، ولا على ثبوت الخيار لمن كان ضعيف العقل إذا غبن، ولم يقل هذه المقالة.
وقد رجح النووي هذا القول، وقال: الأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت
(1)
"مواهب الجليل"(4/ 472)، "المغني"(6/ 36).
(2)
"البحر الرائق"(6/ 125)، "تفسير القرطبي"(5/ 152)، "المهذب"(1/ 287).
(3)
انظر: "العلل" للدارقطني (12/ 157) فقد رجح إرساله.
له الخيار، وإنما قال له قل:"لا خلابة"؛ أي: لا خديعة، ولا يلزم من هذا ثبوت الخيار
…
)
(1)
. كما رجحه الشوكاني
(2)
.
° الوجه الرابع: استدل بعض الفقهاء، ومنهم فقهاء الشافعية والحنفية بهذا الحديث على إثبات خيار الشرط
(3)
، وهو أن يشترط أحد المتعاقدين أو كلاهما لنفسه حق الفسخ مدة معلومة، كأن يقول المشتري -مثلًا-: اشتريت منك هذه السيارة بكذا على أني بالخيار ثلاثة أيام.
ووجه الاستدلال بالحديث؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لهذا الرجل الخيار ثلاثة أيام، كما تقدم في رواية ابن إسحاق عن نافع، عن ابن عمر، لكن قال النووي:(إن هذه الرواية ليست بثابتة، وإنها زيادة منكرة)
(4)
، وإن أقوى ما يحتج به على ثبوت خيار الشرط هو الإجماع، لكن هذا فيه نظر، فقد ذكر ابن رشد أن هذا قول الجمهور، وخالف فيه الثوري وابن شبرمة وطائفة من أهل الظاهر
(5)
. وقد يستدل له بعموم: "المسلمون على شروطهم"
(6)
.
ومدة الخيار عند أبي حنيفة والشافعي ثلاثة أيام ولا تزيد أخذًا بهذا النص، وقال أحمد ومالك: إذا كانت مدة معلومة جاز، ولو زادت على ثلاثة أيام، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(7)
، إلا أن مالكًا يقيد الزيادة بالحاجة، ووجه ذلك أن الخيار شرع للتروي ودفع الغبن، والحاجة قد تدعو إلى الزيادة على ثلاثة أيام، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح صحيح مسلم"(9/ 434).
(2)
"نيل الأوطار"(5/ 207).
(3)
"تكملة المجموع"(12/ 335)، "فتح القدير"(5/ 92).
(4)
"المجموع"(9/ 190).
(5)
"بداية المجتهد"(3/ 399)، "المحلى"(8/ 370).
(6)
سيأتي تخريجه في باب "الصلح".
(7)
"بداية المجتهد"(3/ 400)، "المغني"(6/ 38)، "الاختيارات" ص (125).
باب الربا
الربا لغة: اسم مقصور من ربا يربو: إذا زاد ونما وعلا، قال تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي: علت وارتفعت، وقال تعالى:{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي: أكثر عددًا. وهو يكتب بالألف؛ لأن ألفه أصلها واو، وتثنيته ربوان.
وشرعًا: الزيادة الحاصلة بمبادلة الربوي بجنسه، أو تأخير القبض فيما يلزم فيه التقابض من الربويات.
والربا نوعان: ربا البيع، وربا القرض، وربا البيع نوعان:
1 -
ربا الفضل؛ أي: الزيادة، وهو بيع شيء من الأموال الربوية بجنسه متفاضلًا، كأن يبيع صاعًا من البر بصاعين، أو يبيع خمسين غرامًا من ذهب بستين غرامًا، والغالب أنه لا يكون مثل هذا التعامل إلا للتفاوت الذي بين النوعين جودة أو رداءة ونحو ذلك.
2 -
ربا النسيئة؛ أي: التأخير، وهو بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه مما يساويه في العلة بدون تقابض، وهذا النوع هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية، كانوا إذا حل الدين قال طالبه للمدين: إما أن تَقضي وإما أن تُربي، فإن قضاه وإلا زاد في الدين ومدَّ في الأجل، ومعلوم أنه لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، وهذا النوع هو الذي جاء القرآن بتحريمه، وأما ربا الفضل فهو الذي بينته السنة، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما ربا القرض
(1)
، فهو القرض بفائدة، كأن يقرضه دراهم -مثلًا-
(1)
انظر: "مغني المحتاج"(2/ 21).
ويشترط النفعَ بإيفاءِ أكثرَ مما أقرضه، أو أحسن، أو أن ينتفع بسيارته أو داره أو نحو ذلك، فهذا هو الربا بعينه، وليس قرضًا في الحقيقة؛ لأن المقصود بالقرض الإحسان والإرفاق، وهذه معاوضة ظاهرة.
والربا محرّم بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 278، 279]. ففي الآية دليل على تحريم الربا، وفيها تهديد بأن من لم يترك الربا فقد أعلن الحرب مع الله ورسوله، وما أَذل المحاربَ لله ورسوله وأخذله وأعظم جرمه! ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غير الربا.
وأما الدليل من السنة فسيأتي في الباب، وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على تحريم الربا وأنه من الكبائر، وإن كانوا قد يختلفون في شيء من مسائله.
وأما الحكمة من تحريم الربا، فقد حرمه الإسلام لأغراض سامية ومقاصد عظيمة، ومنها:
1 -
أنه متضمن للظلم وأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه أَخْذُ فضل بلا مقابل، وهو بهذا -كما يقول ابن تيمية- أشد من الميسر الذي هو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلًا محققًا من محتاج، إذ هو لم يبع ولم يَتَجِرْ، وأما المقامر فقد يحصل له فضل وقد لا يحصل له.
2 -
أن المرابي متصف بالغلظة في طبعه والشح في إنفاقه والعزوف عن الصدقات والبعد عن فعل الخيرات، يدل على ذلك أنه لا تكاد توجد آية من آيات الربا إلا وهي مسبوقة أو متبوعة بآيات الحض على الصدقة والإنفاق.
3 -
تعطل المكاسب والتجارات والحرث والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها، إذ من يحصِّل درهمين بدرهم بإيداع ماله في مصرف ربوي كيف يتجشم مشقة كسب أو تجارة؟!.
4 -
انقطاع المعروف والإحسان في القرض، إذ لو حلَّ درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله، كما في القرض
(1)
.
وقد انتشر الربا في هذا العصر، وعمَّ التعامل به في كثير من المصارف وغيرها، وقد ورد بسند فيه ضعف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يأتي على الناس زمان يكون فيه الربا"، قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: "من لم يأكل منهم، ناله من غُباره"
(2)
.
وعنه -أيضًا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أَخَذَ منه، أَمِنَ الحلال أم من الحرام؟
(3)
.
وقد وقع مصداق ذلك في زماننا هذا، فإنك تجد الكثير من الناس لا يتحرى الحلال في مكسبه، بل همه جمع المال ولو بطريق الغش والكذب والتدليس، أو بعدم إتقان ما أُنيط به من عمل، وقد دخل الربا في الكثير من معاملات الناس، والله المستعان.
(1)
انظر: "الفتاوى"(20/ 341، 349)(32/ 235)، "إعلام الموقعين"(2/ 135).
(2)
أخرجه أبو داود (1331)، والنسائي (7/ 243)، وابن ماجه (2278)، وأحمد (16/ 258) من طريق سعيد بن أبي خيرة، قال: حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعًا، وهذا سند ضعيف، الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه، [انظر:"تهذيب التهذيب"(2/ 231)].
(3)
أخرجه البخاري (2059).
تحريم الربا وما جاء فيه من الوعيد
830/ 1 - عَنْ جَابر رضي الله عنه قَال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيهِ، وَقَال:"هُمْ سَوَاءٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
831/ 2 - وللْبُخَاريِّ نحوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي جُحَيفَةَ.
832/ 3 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"الرِّبا ثَلاثةٌ وَسَبْعُون بَابًا، أيسَرُهَا مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ الرّجُلُ أمّهُ، وإنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرّجُلِ الْمُسْلِمِ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا، وَالْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ وَصَحّحَهُ.
° الكلام عليها من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "لعن آكل الربا وموكله"(1598) من طريق هشيم، أخبرنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه، به مرفوعًا.
وأما حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، ومنها في كتاب "اللباس"، باب "مَنْ لَعَنَ المصوِّر"(5962) من طريق شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه أنه اشترى غلامًا حجامًا، فقال:(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن أكل الربا وموكله، والواشمة والمستوشمة، والمصور).
ولعل الحافظ أشار إلى حديث أبي جحيفة رضي الله عنه لبيان أن لَعْنَ آكل الربا وموكله قد جاء في "الصحيحين"، أما لعن الكاتب والشاهد فهذا مما انفرد به مسلم.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه ابن ماجه (2275) قال: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي أبو حفص، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن زُبيد، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الربا ثلاثة وسبعون بابا"، وقد اقتصر ابن ماجه على هذه الجملة فقط، وهذا مراد الحافظ بقوله:(رواه ابن ماجه مختصرًا)، قال البوصيري:(هذا إسناد صحيح)
(1)
، وصححه الألباني -أيضًا-
(2)
.
وأخرجه الحاكم (2/ 37)، وعنه البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 394) من طريق محمد بن غالب، حدثنا عمرو بن علي، به، وزاد: "أيسرها
…
" إلخ.
وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، والظاهر أن هذه الزيادة تفرد بها محمد بن غالب؛ لأنه وإن كان ثقة فقد وهم في أحاديث، كما قال الدارقطني، ومما يؤيد ذلك أربعة أمور:
1 -
أنه خالف ابن ماجه في متنه.
2 -
أن الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير"(9/ 374) من طريق سفيان، عن زُبيد، به، موقوفًا على ابن مسعود بلفظ:"الربا بضع وسبعون بابا"، فصح الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، بدون هذه الزيادة.
3 -
أن الحديث اختلف في متنه، فقد روي بلفظ:"سبعون بابا"، ومرة:"ثلاثة وسبعون"، ومرة:"خمسة وسبعون"، ومرة:"خمسة وثلاثون"
…
4 -
أن الأئمة استنكروا متنه، فقد قال البيهقي:(هذا إسناد صحيح، والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهمًا، وكأنه دخل لبعض رواته إسناد في إسناد).
وما أحسن قول ابن الجوزي بعد أن ذَكَرَ عددًا من الأحاديث في هذا
(1)
"مصباح الزجاجة"(2/ 198).
(2)
"صحيح سنن ابن ماجه"(2/ 27)، تخريج "الإيمان" لابن أبي شيبة ص (94).
الموضوع: (واعلم أن مما يردُّ صحة هذه الأحاديث أن المعاصي إنما يعلم مقاديرها بتأثيرها، والزنا يفسد الأنساب، ويصرف الميراث إلى غير مستحقه، ويؤثر من القبائح ما لا يؤثر أكل لقمة لا تتعدى ارتكاب نهي، فلا وجه لصحة هذا)
(1)
.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن أربى الربا
…
" إلخ، فقد صح من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"
(2)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (لعن رسول الله) أي: دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرحمة. وأصل اللعن من الله الطرد والإبعاد عن الرحمة، ومن الخلق: السب والدعاء.
قوله: (آكل الربا) أي: آخذ الربا وإن لم يأكل، وخص الأكل من بين سائر الانتفاعات؛ لأنه أعظم المنافع، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَال الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10].
قوله: (وموكله) بضم الميم وكسر الكاف، اسم فاعل، والمراد به: معطي الربا؛ لأنه ما حصل الربا إلا منه، فيكون داخلًا في الإثم.
قوله: (وكاتبه) أي: كاتب عقد الربا ووثيقته بين الآكل والموكل.
قوله: (وشاهديه) أي: حاضري توثيقه لإثبات وثيقته على آكله وموكله. وفي رواية أبي داود: "وشاهده" بالإفراد على إرادة الجنس، وإنما لُعِنَ هذان لإعانتهما على المحظور.
قوله: (هم سواء) أي: هم في الإثم سواء.
(1)
"الموضوعات"(2/ 248).
(2)
أخرجه أبو داود (4876) وأحمد (3/ 189، 190) وسنده صحيح، وله شواهد عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما رضي الله عنهما.
قوله: (ثلاثة وسبعون بابا) أي: شعبة.
قوله: (مثل أن ينكح) بكسر الكاف وفتحها، مضارع نكح، من باب ضرب ومنع، وهو يطلق على الوطء وعلى العقد، والظاهر أن المراد هنا الأول؛ أي: يواقعها، بدليل الروايات الأخرى.
قوله: (وإن أربى الربا) الربا: الزيادة والارتفاع -كما تقدم- فالمعنى: من أفحش الزيادة وأقبح الارتفاع وأشنعه.
قوله: (عرض الرجل المسلم) العرض: هو موضع الذم والمدح من الإنسان، فيدخل في ذلك الأمور التي بذكرها يرتفع أو يسقط، ومن جهتها يذم أو يحمد.
وقد جاء في بعض شواهد الحديث: "من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، وقد فسر العلماء الاستطالة بأن يتناول من عرض أخيه أكثر مما يستحقه على ما قيل له وأكثر مما رخص له فيه، وذلك بأن يتوسع في الذم ويستمر عليه، ولذا مثله بالربا وعده من عداده؛ لأنه إذا تناول أكثر مما يستحقه شابه مَنْ أخذ من المال أكثر من حقه، ثم فضله على جميع أفراده؛ لأنه أكبر مضرة، وأشد فسادًا، فإن العرض شرعًا وعقلًا أعز على النفس من المال
(1)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الربا، وأنه من كبائر الذنوب
(2)
، بل من أكبرها
(3)
؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المذكورين، واللعن لا يكون إلا على أمر محرم وكبيرة من الكبائر، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما اختلف العلماء في بعض التفاصيل، وفي الحديث تغليظ شديد في أكل الربا؛ لأنه إذا لُعِنَ الكاتب والشاهدان مع أنهما لا يصيبهما منه شيء فلأن يلعن المباشر له من آخذ ومعطٍ بالأولى، لكن قال العلماء: إن لَعْنَ الكاتب والشاهد مقيد بما إذا علما ذلك، فأما من كتب أو شهد وهو غير عالم فلا يدخل في الوعيد.
(1)
انظر: "فيض القدير" للمناوي (4/ 66).
(2)
"إعلام الموقعين"(4/ 43).
(3)
"إعلام الموقعين"(2/ 135).
° الوجه الرابع: هذا الوعيد ليس خاصًّا بالآكل، وإنما هو حاصل لكل من أخذ الربا، سواء أكل منه أو لبس أو اشترى سكنًا أو سيارة أو غير ذلك من وجوه الانتفاع.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وكل الربا، وكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"
(1)
.
° الوجه الخامس: تحريم كتابة عقود الربا بين المترابين والشهادة عليه، ويدخل في ذلك من يعمل بالبنوك الربوية ويكتب عقود الربا؛ لأن ذلك من إعانتها على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، فالله تعالى ينهى عن المعاصي وعن الإعانة عليها، ولا شك أن الكتابة والشهادة إعانة على الربا، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز:(ويظهر من هذا أن جميع أنواع المساعدات على الربا داخلة في ذلك، سواء كان كاتبًا أو شاهدًا أو محاسبًا أو خازنًا أو ما أشبه ذلك مما يعين على أموال الربا، وبهذا يظهر أن الوظيفة في البنوك [الربوية] داخلة في هذا؛ لأنها من نوع المعاونة لأهلها على أعمالهم الربوية، فيدخل في ذلك الحارس وعامل القهوة والفرَّاش وأشباه ذلك ممن عمله نوع من المعونة لهم وتسهيل أمورهم .. )
(2)
.
° الوجه السادس: الحديث دليل على أن الوقوع في عرض المسلم والاستطالة فيه من أكبر الكبائر؛ لأن الشارع جعلها من أربى الربا وأشده.
فعلى المسلم الحريص على صلاحه واستقامة أموره وسلامته من تبعات حقوق العباد أن يحذر أشد الحذر من الوقوع في عرض أخيه المسلم وأن
(1)
أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
(2)
من شرح "البلوغ" المسجل على الأشرطة، وانظر:"الفتاوى" له (19/ 150، 151، 374 - 379).
يحفظ لسانه مما تساهل فيه كثير من الناس في هذا الزمان، ومن استقام لسانه استقامت جوارحه وحسنت أعماله، ومن اعوج لسانه ظهر ذلك على سائر جوارحه، وساءت أعماله، والله الموفق، لا إله غيره، سبحانه وتعالى أعلم.
الأصناف الربوية وكيفية المبادلة فيها
833/ 4 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"لا تبيعوا الذهَبَ بِالذهَب إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، ولَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض، وَلا تَبِيعوا الْوَرِقَ بِالْوَرِق إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِز"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
834/ 5 - وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصامِتِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالْفِضةِ، وَالْبُرُّ بِالبُرّ، وَالشعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإذَا اخْتَلَفَتْ هذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعوا كيفَ شئتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَد"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
835/ 6 - وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الذهَبُ بالذهبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْل، وَالْفِضةُ بِالْفِضةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْل، فَمَنْ زادَ أَو استَزَادَ فَهوَ رِبًا"، رَوَاهُ مُسْلِم.
° الكلام عليها من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "بيع الفضة بالفضة"(2177)، ومسلم (1584) من طريق نافع، عن أبي سعيد رضي الله عنه، مرفوعًا.
وأما حديث عبادة رضي الله عنه، فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا"(1587)(81) من طريق أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن عبادة رضي الله عنه، مرفوعًا.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في الباب المذكور (1588)(84) من طريق أبي فضيل، عن أبيه، عن ابن أبي نعيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
وتقديم الحافظ لحديث أبي سعيد لكونه متفقًا عليه، ولما كان مقتصرًا على الذهب والفضة أردفه بحديث عبادة عند مسلم، وهو جامع للأصناف الربوية الستة، وأما إيراد حديث أبي هريرة فلأن فيه إشارة إلى أن التساوي المطلوب في بيع الربوي بجنسه إنما يكون بالمعيار الشرعي، كما سيأتي إن شاء الله.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قولي: (إلا مثلًا بمثل) هذا مستثنى من أعم الأحوال، والتقدير: لا تبيعوا الذهب بالذهب في حال من الأحوال إلا حال كونهما متماثلين؛ أي: متساويين، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بيان أن التساوي يكون بالوزن.
قوله: (ولا تشفوا) بضم المثناة الفوقية، فشين معجمة مكسورة، ففاء مشددة؛ أي: لا تفضلوا ولا تزيدوا بعضها على بعض، من أشف الرباعي، يقال: شف "الشيء يشِفُّ شفًا من باب "ضرب": إذا زاد، وقد يستعمل في النقص -أيضًا- فيكون من الأضداد، يقال: هذا يَشِف قليلًا؛ أي: ينقص، وأشففت هذا على هذا؛ أي: فضلت. وفي هذه الجملة "ولا تشفوا" تصريح بمفهوم الجملة السابقة من باب التأكيد.
قوله: (الورِق) بفتح الواو وكسر الراء هو الفضة مضروبة أو غير مضروبة، وتقدم ذلك في "الزكاة".
قوله: (غائبًا بناجز) الغائب: ما لم يكن موجودًا عند العقد، سواء كان مؤجلًا أم لا، والناجز: الحاضر، وفي هذا إشارة إلى التقابض.
قوله: (الذهب بالذهب) يجوز فيه الرفع على تقدير: بيعُ الذهب بالذهب، فحذف المضاف للعلم به وأقيم المضاف إليه مقامه، وأُعرب
بإعرابه، أو يباع الذهبُ بالذهب، ويجوز النصب؛ أي: بيعوا الذهبَ بالذهب، ولفظ الذهب عام يدخل فيه جميع أصنافه، من مضروب، ومنقوش، وجيد، ورديء، وصحيح، ومكسر، وحلي، وتبر، وخالص، ومغشوش.
قوله: (والبر بالبر) هو الحنطة والقمح، وهي ألفاظ مترادفة.
قوله: (والشعير بالشعير) بفتح أوله، وحكي جواز كسره.
قوله: (سواء بسواء) السواء: هو المثل والنظير؛ أي: مثلًا بمثل، وجُمِعَ مع ما قبله للتوكيد والمبالغة في الإيضاح.
قوله: (يدًا بيد) حال؛ أي: متقابضين في مكان التبايع قبل أن يتفرقا.
قوله: (فبيعوا كيف شئتم)؛ أي: من حيث الكمية متساويًا ومتفاضلًا، وهذا إطلاق مقيد بما بعده، وهو قوله:"إذا كان يدًا بيد".
قوله: (فمن زاد أو استزاد
…
)؛ أي: فمن أعطى زيادة على قدر المبيع الآخر من جنسه، أو طلب الزيادة فهذا الزائد ربا.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأموال الربوية ستة، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وقد اتفق العلماء على تحريم الربا في هذه الأصناف الستة، واختلفوا فيما عداها، وسيأتي إن شاء الله.
فإذا بيع الربوي بجنسه كبُرٍّ ببُرّ، أو تمر بتمر، أو ذهب بذهب، فلا يصح البيع إلا بشرطين:
الأول: التساوي في المقدار، فلا يصح أن يبيع صاع بر بصاعين منه، وهذا الشرط قد دل عليه قوله:"مثلًا بمثل سواء بسواء" والغالب أنه لا يفعل مثل ذلك إلا للتفاوت الذي بين النوعين جودة أو رداءة أو غير ذلك، كما تقدم أول الباب.
الثاني: التقابض قبل التفرق من مكان العقد، لقوله:"يدًا بيد"، فإذا اختل الشرط الأول صارت المعاملة من ربا الفضل، وإن اختل الثاني صارت المعاملة من ربا النسيئة، أو داخلة فيهما إن لم يتحقق الشرطان معًا.
وإذا بيع الربوي بغير جنسه مما يساويه في العلة -كالكيل مع الطعم، أو الثمنية- فلا بد لصحة البيع من شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، فإذا باع صاعين من الرز بصاع من البر صح البيع إذا تقابضا قبل التفرق، وكذا لو باع ريالات سعودية بدنانير، أو أي عملة بعملة أخرى صح البيع بشرط القبض، وقد دل على ذلك قوله:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد". فإن لم يتحقق هذا الشرط صارت المعاملة من ربا النسيئة.
فإن بيع الربوي بغير جنسه مما لا يساويه في العلة كبيع بر بذهب، أو شعير بفضة صح البيع مطلقًا بدون شرط التساوي والتقابض.
° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن التقابض في مجلس العقد شرط في جميع الأموال الربوية التي تتساوى في العلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر قوله: "يدًا بيد" مع اتحاد الأصناف ومع اختلافها، كما في حديث عبادة رضي الله عنه.
° الوجه الخامس: استدل الجمهور من أهل العلم بحديث عبادة رضي الله عنه على أن البر والشعير صنفان، لعطف أحدهما على الآخر
(1)
، وذهب مالك والليث والأوزاعي إلى أنهما صنف واحد
(2)
، وسبقهم إلى ذلك معمر بن عبد الله رضي الله عنه
(3)
، فأخرج مسلم عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه، ثم اشتر به شعيرًا، فذهب الغلام فاخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؛ انطلق فرده، ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل
…
الحديث، وسيأتي بتمامه، وما يترتب على هذا الخلاف إن شاء الله.
° الوجه السادس: اختلف العلماء في إلحاق غير هذه الأصناف الستة بها، على قولين:
القول الأول: أن الربا مقصور على الأصناف الستة لا يتعداها إلى
(1)
"المغني"(6/ 89).
(2)
"بداية المجتهد"(3/ 261).
(3)
هو راوي حديث الاحتكار، كما تقدم.
غيرها، وهذا قول طاوس وقتادة والظاهرية
(1)
وابن عقيل الحنبلي
(2)
، واختاره الصنعاني
(3)
، أما الظاهرية فقولهم مبني على إنكارهم القياس، وأما ابن عقيل فإنه وإن كان يرى القياس إلا أنه لم يقل به هنا؛ لأن علل القياسيين -على رأيه- ضعيفة، وإذا لم تظهر العلة امتنع القياس.
الثاني: أنه يلحق بها ما شاركها في العلة، وهو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، مستدلين بما سيأتي من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل
…
"، ولفظ (الطعام) أعم من الأصناف الأربعة المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة رضي الله عنه.
كما استدلوا بالمعنى، وذلك أن ما وافقها في العلة يجب أن يأخذ حكمها، مراعاة لمقصود الشارع في التحريم، فما دام أن العلة واضحة وموجودة في غير هذه الأصناف فليحكم بالإلحاق؛ لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين مختلفين، قالوا: وقد اقتصر الحديث على الأصناف الستة من باب الاكتفاء بالأشياء التي لا يستغني عنها الناس عادة.
ثم اختلف هؤلاء في علة التحريم على أقوال أرجحها: أن العلة في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية؛ أي: إنهما أثمان للأشياء، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقول للمالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم
(4)
.
ووجه ترجيح هذا القول أن التعليل بالثمنية فيه مناسبة لتحريم الربا فيهما؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان كذلك لصار كالسلع فلا يوجد ثمن تقوَّم به المبيعات.
(1)
"المحلى"(8/ 467، 468).
(2)
"مجموع الفتاوى"(29/ 470)، "إعلام الموقعين"(2/ 136).
(3)
"سبل السلام"(3/ 15).
(4)
"حاشية العدوي"(5/ 56)، "مجموع الفتاوى"(29/ 470)، "إعلام الموقعين"(2/ 137)، "الإنصاف"(5/ 11).
وعلى هذا فيجري الربا في كل ما اتخذه الناس عملة وراج رواج النقدين، مثل الأوراق النقدية الآن، وعلى هذا فلا يجوز بيع خمسة عشر ريالًا سعوديًّا ورقًا بستة عشر ريالًا سعوديًّا ورقًا، ويجوز بيع بعضها ببعض من غير جنسها إذا كان يدًا بيد، كما لو باع ورق النقد السعودي بليرة سورية أو لبنانية مثلًا؛ لأن العملات الورقية أجناس متعددة بتعدد جهات إصدارها، فالورق النقدي السعودي -مثلًا- جنس، والكويتي جنس، والمصري جنس، وهكذا، ويكون حكمها حكم الذهب والفضة في جواز بيع بعضها ببعض من غير جنسها مطلقًا إذا كان يدًا بيد.
وأما علة التحريم في الأصناف الأربعة، وهي البر والشعير والتمر والملح، فقد اختلف العلماء فيها على أربعة أقوال:
الأول: أن علة الربا فيها الكيل والجنس، فيجري الربا في كل ما يكال مع اتحاد الجنس، كالأرز، والذرة، والعدس، ونحوها، وإن لم يكن مطعومًا كالحناء والأشنان، وغيرهما، أما غير المكيل فلا ربا فيه، كالمعدودات، مثل: البيض والرمان ونحوهما، وهذا مذهب أبي حنيفة
(1)
، والمشهور من مذهب أحمد، وبه قال: النخعي والزهري وإسحاق
(2)
.
واستدلوا بحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنه الآتي- وفيه: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، فقال:"لا تفعلوا، ولكن مثلًا بمثل".
ووجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التفاضل في التمر ببيع الصاع بالصاعين، فدلَّ على أن العلة هي الكيل مع الجنس.
وأجيب عنه: بأنه لا يلزم من ذكر الصاع أن يكون هو العلة المؤثرة وحدها في الحكم، إذ لو كان الأمر كذلك لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكره ولم ينص على الأصناف الأربعة أو على الطعم، كما في حديث معمر رضي الله عنه الآتي.
(1)
"شرح فتح القدير"(7/ 4).
(2)
"الشرح الكبير"(12/ 10)، "الإنصاف"(5/ 11).
القول الثاني: أن العلة هي الطعم، فيجري الربا في كل طعام وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا، كالحبوب والفواكه والبقول واللحوم والبيض والسمك والسمن وغيرها، وهذا مذهب الشافعي
(1)
ورواية عن أحمد
(2)
.
واستدلوا بحديث معمر رضي الله عنه الآتي-: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل"، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وأجيب عن ذلك بأجوبة:
الأول: أن الحديث فيه "مثلًا بمثل"، فدل على أن العلة ليست هي الطعم وحده بل لا بد من المماثلة، وهي لا تتحقق إلا بالكيل أو الوزن.
الثاني: أنه يلزم على هذا الحديث عدم بيع البر بالشعير متفاضلًا؛ لأن كلًّا منهما طعام مع أن حديث عبادة المتقدم صريح بجواز ذلك
(3)
، لقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر البر والشعير:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم".
الثالث: لو كان الطعم وحده هو الوصف المقصود للشارع لاكتفى بذكر أحد هذه الأصناف الأربعة في حديث عبادة.
القول الثالث: أن العلة هي الاقتيات والادخار، أي: كون الطعام قوتًا يقتات به الإنسان غالبًا، ويدخره مدة من الزمن فلا يفسد، كالقمح والأرز والذرة ونحوها، وهذا مذهب مالك، واختاره ابن القيم
(4)
.
واستدلوا بحديث عبادة رضي الله عنه، ووجه الاستدلال: أن الأصناف المذكورة في حديث عبادة رضي الله عنه يجمعها وصف الاقتيات والادخار، وقد نبه الشارع بكل واحد منها على ما في معناه، فنبه بالبر والشعير على أصناف الحبوب المدخرة، كالأرز والدخن والذرة والفول والعدس ونحوها، ونبه بالتمر على
(1)
"المجموع"(9/ 395 - 397).
(2)
"الإنصاف"(5/ 12).
(3)
انظر: "المفهم"(4/ 481).
(4)
"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 47)، "إعلام الموقعين"(2/ 137).
أنواع الحلاوات المدخرة، كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على أنواع التوابل
(1)
المدخرة لإصلاح الطعام، مثل: الكمون وأنواع الأبزار
(2)
.
وأجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن التعليل بالادخار منتقض بالرطب، فإنه يجري فيه الربا وليس مدخرًا.
الثاني: أن الحديث فيه الملح، وهو ليس قوتًا، فإن قيل: إنه مما يصلح به القوت، لزم القول بجريان الربا في الماء والحطب وغيرهما مما يصلح به القوت، وكذا الإدام، وأنتم لا تقولون به.
القول الرابع: أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، فكل مطعوم مكيل أو موزون يجري فيه الربا، كالأرز والذرة والدهن واللبن واللحم ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالرمان والسفرجل والأُترج والبيض، ولا في غير مطعوم كالأشنان والحديد والنحاس، وهذا قول الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، رجَّحها ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، واستدلوا بما يلي:
1 -
أن الأصناف المذكورة في حديث عبادة صلى الله عليه وسلم مطعومة مكيلة، فيلحق بها كل ما كان كذلك.
2 -
حديث معمر: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل"، ومعلوم أن الطعم وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق بالمعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، لحديث:(إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين)، فهذا فيه اعتبار الكيل، وحديث معمر فيه اعتبار الطعم والكيل، فيكون النهي عن بيع الطعام بالطعام مقيدًا بما فيه معيار شرعي،
(1)
في "القاموس"(1/ 358): (التوابل: أبزار الطعام).
(2)
"بداية المجتهد"(3/ 251).
(3)
"المجموع"(9/ 397)، "الشرح الكبير"(12/ 12)، "المغني"(6/ 56 - 57)، "الفتاوى"(29/ 470)، "الفروع"(4/ 48).
وهو الكيل أو الوزن
(1)
. وهذا أظهر الأقوال، وبه تجتمع الأدلة.
° الوجه السابع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه دليل على أن التساوي المشروط في بيع الربوي بجنسه إنما يكون بمعياره الشرعي، وهو الكيل في المكيلات وهي الأنواع الأربعة، والوزن في الموزونات كما في الذهب والفضة، والفرق بين الكيل والوزن أن الكيل تقدير الشيء بالحجم، والوزن تقديره بالثقل والخفة، وقد جاء عند البيهقي حديث عبادة رضي الله عنه بلفظ: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلًا بكيل، والشعير بالشعير كيلًا بكيل
…
"
(2)
.
فمثلًا: البر لا يجوز بيعه ببر إلا كيلًا ليحصل التساوي، ولا يباع وزنًا؛ لأنه يختلف في الخفة والثقل، فإذا وضع في الميزان حصل في كفة الخفيف أكثر من كفة الثقيل، فيفوت التساوي.
وقد استثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما إذا كان الربوي لا يختلف وزنًا أو كيلًا كالأدهان والألبان فإنهما من المكيلات -على المذهب-؛ لأن كل مائع يجري فيه الربا فهو مكيل، لكن لو بيعت بمثلها وزنًا صح على ما اختاره الشيخ، وذكر عن أحمد ما يدل على ذلك
(3)
؛ لأن المثلية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلًا بمثل" متحققة هنا بالكيل أو الوزن لتساوي أجزائها.
أما إذا بيع الجنس بغير جنسه كبُر بشعير فلا يشترط المعيار الشرعي وهو الكيل، بل يجوز بيعه وزنًا؛ لأن التساوي ليس بشرط، وهكذا لو باع بزًا أو شعيرًا أو تمرًا بدراهم، جاز بيعها وزنًا لعدم شرط التساوي، والله تعالى أعلم.
(1)
"الشرح الكبير"(12/ 13).
(2)
"السنن الكبرى"(5/ 291).
(3)
"الاختيارات" ص (128).
تحريم التفاضل بين نوعي الجنس الواحد
836/ 7 - عَنْ أبي سَعِيدٍ، وأبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيب، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أكُلُّ تَمْرِ خَيبَرَ هَكَذَا؟ " فَقَال: لا وَالله يَا رَسُولَ اللهِ، أنَّا لَنَأخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَينِ والثَّلاثةِ، فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَفْعل، بع الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالذَرَاهِمِ جَنِيبًاإ، وَقَال في الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. مُتَّفَق عَلَيهِ.
وَلمُسْلِمٍ: "وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ".
° الكلام مع عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه"(2201، 2252)، ومسلم (1593)(95) من طريق عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: (ولمسلم: "وكذلك الميزان") ظاهر هذا أن مسلمًا تفرد بهذا اللفظ وليس كذلك، فهو عند البخاري -أيضًا- في كتاب "الاعتصام"(7350) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد المجيد، به.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (استعمل رجلًا) أي: بعثه وجعله عاملًا وأميرًا على خيبر بعد فتحها، وهو سواد بن غزية -بوزن عطية- وهو من بني عدي بن النجار من الأنصار رضي الله عنهم، وقد ورد في رواية سليمان بن بلال المذكورة: (بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر، فأمَّره عليها
…
).
قوله: (على خيبر) بلدة معروفة، تبعد عن المدينة شمالًا بـ (165) كيلًا.
قوله: (جنيب) بفتح الجيم، أي: طَيِّبٍ، قال الخطابي: هو أجود تمورهم، وقيل: هو الذي لا يخلط بغيره.
قوله: (بالصاعين والثلاثة) في بعض الروايات: (بالثلاث) بلا تاء، وكلاهما جائز؛ لأن الصاع يذكّر ويؤنّث، وفي رواية للبخاري:(إنا نشتري الصاع بالصاعين من الجمع)
(1)
.
قوله: (لا تفعل) أي: لا تبع التمر بتمر اخر متفاضلًا مهما اختلفت أنواعه. وفي رواية عند البخاري: "لا تفعلوا، ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا".
قوله: (بع الجمع) بفتح الجيم، هو التمر المجموع من أنواع متفرقة ليس مرغوبًا فيها. وفي حديث أبي سعيد: (كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخِلْطُ من التمر
…
" الحديث
(2)
.
قوله: (ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) أي: ثم اشتر بالدراهم جنيبًا.
قوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) أي: قال فيما يباع وزنًا إذا بيع بجنسه مثل ما قال في المكيل؛ أي: إنه لا يجوز بيعه متفاضلًا، فالمراد بالميزان: الموزون؛ لأن الميزان نفسه ليس من أموال الربا.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم التفاضل بين نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية، كالتمر والبر ونحوهما، فلا يجوز بيع صاع تمر بصاعين ولو كان أحدهما أجود من الآخر، بل لا بد فيه من التساوي والتماثل، لقوله -كما في رواية البخاري-: "ولكن مثلًا بمثلًا.
والظاهر أن الحكمة في هذا -والله أعلم- سَدُّ الباب، وحسم مادة الربا؛ لأنه لو فتح في مسألة التنوع لأفضى إلى الربا في كل شيء، ثم إن ضبط الجودة والرداءة قد يختلف.
(1)
"الصحيح"(5350).
(2)
أخرجه البخاري (2080)، ومسلم (1595).
والجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعًا، كالتمر جنس، وله أنواع كالسكري، والبرحي، والشقراء، والخِلَاصِ وغيرها. والبر جنس وله أنواع كاللقيمي، والمِعَية، والجريباء وغيرها مما هو معروف عند أهل التمور والحبوب، وهكذا ..
° الوجه الرابع: في الحديث بيان شيء من آداب المفتي، وهو أنه إذا سئل عن مسألة محرمة، فنهى عنها المستفتي أن يفتح له بدلًا عنها أبواب الحلال، ويرشده إلى الطرق المباحة التي تغني عنها؛ لأن المستفتي يريد مخرجًا مشروعًا مباحًا، بدليل أنه جاء يسأل، وما جاء يسأل إلا وفي قلبه شيء من التقوى دعاه إلى الحرص على أمر دينه وإبراء ذمته.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الطريق المباح الذي يسلم به من الربا، وهو أنه إذا أراد استبدال الرديء من الأموال الربوية كالتمر فإنه يبيعه بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا جيدًا، ومثل ذلك الحنطة الرديئة أو الذهب الرديء ونحوهما.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم التفاضل بين نوعي الجنس الواحد من الأشياء الربوية التي معيارها الوزن، لقوله:"وكذلك الميزان"، وذلك كالذهب والفضة وغيرهما مما يوزن ويجري فيه الربا، فلا يصح بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن، ليحصل التساوي المشروط.
وأما الاستدلال بهذه الجملة على أن كل موزون يجري فيه الربا -كما ذكر المجد ابن تيمية
(1)
- ولا يجوز فيه التفاضل كالحديد والرصاص واللحم وسائر الموزونات فهذا غير ناهض؛ لأن لفظة: "وكذلك الميزان" مجملة، فتحمل على الذهب والفضة، ويكون معنى الحديث: وكذلك الميزان عند بيع الذهب والفضة -كما تقدم- جمعًا بين هذا الحديث وحديث عبادة وغيره
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"نيل الأوطار"(5/ 221).
(2)
انظر: "المحلى"(8/ 481)، "المجموع"(9/ 393).
الجهل بالتساوي في الربويات كالعلم بالتفاضل
837/ 8 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ -لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا- بِالْكَيلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَمْرِ، رَوَاهُ مُسْلِم.
° الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "البيوع"، باب "تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بالتمر" (1530) من طريق ابن وهب: حدثني ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:
…
وذكر الحديث.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن بيع الصبرة من التمر -وهي الكومة- التي لا يعلم كيلها بتمر آخر علم كيله؛ لأن الصبرة يُجهل كيلها ومقدارها، فالتساوي غير معلوم، وذلك مظنة للزيادة، فيكون ربا؛ لأن بيع التمر بالتمر يشترط فيه التساوي والتماثل -كما تقدم- وهذا لا يتحقق إلا بمعرفة قدر كل من العوضين، فإذا جهل قدرهما أو قدر أحدهما كان ذلك بمنزلة العلم بزيادة أحدهما على الآخر، وهذا ربا، وهكذا الحكم في بقية الأنواع الربوية.
وهذا الحديث هو دليل القاعدة في هذا الباب، وهي أن الجهل بالتساوي فيما يشترط فيه التساوي كالعلم بالتفاضل
(1)
. وذلك أن الأحوال ثلاث:
(1)
"الفتاوى"(15/ 338)، (20/ 350)، (29/ 428، 450).
1 -
التساوي بين العوضين، فهذا هو الواجب.
2 -
التفاضل بين العوضين، فهذا محرم؛ لأنه ربا.
3 -
الجهل بالتساوي، وهذا -أيضًا- محرم؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، ولهذا جاء تحريم بيع المزابنة التي هي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه لهذا المعنى، وتقدم ذلك، وتَجَنُّبُ ذلك يكون بكيل المكيل، ووزن الموزون من كل واحد من البدلين. والله تعالى أعلم.
حكم بيع الطعام بالطعام
838/ 9 - عَنْ مَعْمَرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَال: إِني كُنتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الطَّعَامُ بِالطَّعَام مِثْلًا بِمِثْلٍ"، وَكَانَ طَعامُنَا يَوْمَئِذٍ الشعِيرَ، رَوَاهُ مُسْلِم.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "بيع الطعام مثلًا بمثل"(1592) من طريق أبي النضر، أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه، ثم اشتر به شعيرًا، فذهب الغلام فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرًا أخبره بذلك، فقال له معمر: لِمَ فعلت ذلك؟ انطلق فرده، ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
الحديث. قيل له: فإنه ليس بمثله. قال: إني أخاف أن يضارع.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الطعام بالطعام) بالرفع على تقدير مضاف؛ أي: بيعُ الطعامِ بالطعام، أو يباع الطعام بالطعام، ويجوز النصب كما تقدم.
قوله: (مثلًا بمثل) أي: يجب فيه التماثل ويحرم التفاضل.
قوله: (وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) أي: فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: "الشعير بالشعير". وهذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، غير أن القصة المتقدمة تفيد أن معمرًا كان يخشى أن هذا اللفظ النبوي ربما شمل بيع البر بالشعير وأنه لا بد فيهما من المماثلة.
قوله: (أن يضارع) أي: يشابه.
° الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن علة الربا في الأصناف الربوية الأربعة هي الطعم، لقوله:"الطعام بالطعام مثلًا بمثل"، وتقدم وجه الاستدلال، والجواب عنه، وظاهر الحديث أنه عام في كل مطعوم، وأنه لا يباع متفاضلًا ولو اختلف الجنس، لكن تقدم أن الطعام إذا كان من جنس واحد كالبر فإنه لا يباع إلا مثلًا بمثل، أما إذا كان من أجناس مختلفة كالبر والشعير فإنه لا يلزم التماثل -على أحد القولين-، أما التقابض فلا بد منه، لما تقدم في حديث عبادة رضي الله عنه.
° الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث مالك والأوزاعي -كما تقدم- على أن البر والشعير جنس واحد، لقوله:"ولا تأخذن إلا مثلًا بمثل".
والراجح قول الجمهور؛ لأن حديث عبادة رضي الله عنه نص صريح في أنهما صنفان، حيث عُطِفَ أحدهما على الآخر، وأما حديث معمر هذا فلا حجة فيه؛ لأنه لم يصرح بأنهما جنس واحد، وإنما خاف من المشابهة فتورع احتياطًا، أو يقال: إن ظاهره أنه اجتهاد منه
(1)
، وثمرة الخلاف: أنه على الأول يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا، وعلى الثاني: لا يجوز، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المفهم"(4/ 481).
حكم مبادلة الربوي بربوي ومعه غيره
839/ 10 - عَنْ فَضَالةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَال: اشتريتُ يَوْمَ خَيبَرَ قِلادَةً بِاثْنَي عَشَرَ دِينَارًا، فِيهَا ذَهَب وَخَرَز، فَفَصَّلْتُهَا، فَوَجَدْتُ فِيهَا أكثَرَ مِنْ أثنَي عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"لا تُبَاعُ حَتى تُفْصَّلَ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو فضالة -بفتح الفاء- بن عبيد بن نافذ الأنصاري العمري الأوسي، أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا، وشهد أُحدًا وما بعدها، وبايع تحت الشجرة، وشهد فتح الشام ومصر، ثم سكن الشام، وولي قضاء دمشق بعد أبي الدرداء رضي الله عنه بإشارة منه، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة ثلاث وخمسين، وحمل معاوية سريره رضي الله عنه
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "بيع القلادة فيها خرز وذهب"(1591)(90) من طريق حنش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد، قال:
…
وذكر الحديث.
وقد تعددت الروايات في ثمن القلادة وما صَاحَبَ ذهبها من خرز أو جوهر، حتى قال بعضهم: إنه حديث مضطرب. لكن هذا لا يؤثر؛ فإن
(1)
"الاستيعاب"(9/ 119)، "الإصابة"(8/ 97).
المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصَّل، أما جنس القلادة وقدر ثمنها فهذا لا يتعلق به ما يوجب الحكم بالاضطراب، ويؤخذ برواية الأحفظ، ويحكم على ما عداها بالشذوذ، ونظير ذلك ما تقدم في قصة جمل جابر رضي الله عنه وما ورد في مقدار ثمنه، وهذا كلام حسن، ذكره الحافظ
(1)
، وبه يجاب عن كل ما يشابه هذا الحديث.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (اشتريت يوم خيبر) أي: يوم غزوة خيبر، وذلك بعد انتهاء المعركة وتقسيم المغانم، كما ورد في إحدى الروايات عند مسلم.
قوله: (قلادة) بكسر القاف، ما يجعل في العنق من حلي وغيره.
قوله: (خرز) بفتح الخاء والراء، جمع خرزة، وهي حبات مثقوبة تصنع من أي نوع، وتنظم في سلك، ويتزين بها.
قوله: (ففصلتها) بتشديد الصاد، أي: ميزت خرزها من ذهبها، فجعلت الذهب وحده، والخرز وحده، وذلك بعد الشراء.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا يجوز بيع الذهب ومعه غيره بذهب إلا بعد نزع الذهب وتمييزه عن غيره ووزنه بمثله من الذهب، وهذا قول الشافعية، والحنابلة في قول
(2)
، وذلك لأن الذهب إذا كان معه غيره ولم يميز فإنه لا يعلم مقداره، فإن التساوي بين اثني عشر دينارًا من الذهب، وبين ما في القلادة من الذهب مجهول، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم، كما تقدم، فيكون هذا من عقود الربا، لما ورد في حديث فضالة:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن"، وفي رواية لمسلم من طريق حنش قال: (كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وَوَرِقٌ وجوهر، فأردت أن أشتريها، فسألت فضالة بن عبيد، فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلًا بمثل،
(1)
"التلخيص"(3/ 10).
(2)
"نهاية المحتاج"(3/ 441)، "المغني"(6/ 92).
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذنَّ إلا مثلًا بمثل").
وهكذا الحكم في بيع أيِّ ربوي بربوي ومعه غيره، كالفضة مع غيرها بفضة، وكذا سائر الأصناف الربوية، ولذا تقدم النهي عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر؛ لعدم معرفة التساوي على التحقيق.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز بيع الذهب المخلوط بغيره إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذي في القلادة ونحوها، لا مثله ولا دونه، وهذا قول الحنفية، وقريب منه رأي ابن تيمية
(1)
.
قالوا: لأنه لا حيلة على الربا حينئذ؛ لأنه حصل الذهب في مقابلة الذهب، والزائد من الذهب في مقابلة المصاحب له من خرز ونحوه، فيصير كعقدين.
وأجابوا عن حديث فضالة بأن الذهب الذي في القلادة أكثر من اثني عشر دينارًا؛ لما جاء في بعض الروايات عند مسلم: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا .. ) وهذا الاستدلال غير واضح في نظري.
والقول الثالث: جواز البيع بشرط أن يكون التابع الثلث فأقل، وهذا رأي المالكية
(2)
. ومثّلوا لذلك بالسيف المحلى بالذهب ونحوه، قالوا: لأنه إذا كان قيمة الذهب الثلث فأقل فهو مغلوب ومكثور للجنس المخالف، والأكثر ينزل في غالب الأحكام منزلة الكل.
وفيه قول رابع: وهو جواز بيعه بالذهب مطلقًا مثلًا بمثل أو أقل أو أكثر، ونسب لحماد بن أبي سليمان
(3)
، وهذا غلط مخالف لصريح الحديث،
ولعل قائله ما بلغه حديث القلادة.
والراجح هو القول الأول، وهو أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره
(1)
"حاشية ابن عابدين"(5/ 273، 326)، "الفتاوى"(29/ 453).
(2)
"الكافي"(2/ 672).
(3)
"المغني"(6/ 93).
بذهب، وكذا الفضة، حتى يفصل ذلك الغير ويميز، ووجه ذلك أن الحديث نص على علة المنع، وهي عدم الفصل حيث قال:(لا، حتى تفصل) وهذا يفيد عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر؛ لأن فصله هو الطريق إلى تساوي العوضين، وهو شرط كما تقدم.
° الوجه الخامس: هذه المسألة التي يدور حولها الحديث اشتهرت عند الفقهاء باسم مسألة: (مُدُّ عجوة) والمد: مكيال معروف، ومقداره ربع صاع كما تقدم في "الزكاة"، والعجوة: ضرب من أجود أنواع التمر بالمدينة النبوية.
وضابطها كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما صنف آخر من غير جنسه، مثل: لو باع صاع تمر ودرهم بصاع تمر ودرهم، أو باع صاعًا من التمر ودرهمًا بصاعين من التمر.
وقد ذكر الشيخ لهذه المسألة ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلًا ويضم إلى الأقل من غير الجنس حيلة، مثل أن يبيع ألفي دينار بألف دينار في منديل، أو صاع حنطة بصاع حنطة وغِرارة
(1)
أو في زنبيل فهذا محرم، والحيلة ظاهرة؛ لأنه أراد مبادلة الألفين بالألف وجعل المنديل ليكون هناك تغير في الجنس، وإلا فمن المعلوم أنه لا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى أحد العوضين شيئًا آخر.
الثاني: أن يكون المقصود بيع غير ربوي مع ربوي، وإنما دخل الربوي تبعًا وضمنًا كبيع شاة ذات لبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف، فالربوي هنا -وهو اللبن والصوف، بناءً على أن العلة هي الوزن- دخل تبعًا وليس بمقصود، فهذا يجوز على الصحيح في مذهب مالك وأحمد
(2)
، فكأنه باع شاة بشاة.
(1)
الغرارة: بالكسر شبه العِدْل، والجمع: غرائر.
(2)
"حاشية الدسوقي"(3/ 40، 41)، "المغني"(6/ 96).
الثالث: أن يكون كلاهما مقصودًا، مثل مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، فالمشهور من المذهب أنه لا يجوز نص عليه أحمد. وبه قال مالك، والشافعي، وآخرون
(1)
. واستدلوا بحديث الباب.
والقول الثاني: الجواز، وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
. واستدلوا بأن الأصل حمل العقود على الصحة، والحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة، فقد يكون شخص عنده تمر من السكري -مثلًا- بمقدار صاعين، وهذا عنده تمر من نوع آخر بمقدار صاع ومعه عشرة ريالات، فأراد بيعه، فلا باس، ويكون الصاع بمقابلة الصاع، والصاع الزائد بمقابلة الريالات، ولا حيلة على الربا في ذلك
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"حاشية الدسوقي"(3/ 29)، "المغني"(6/ 92)، "مغني المحتاج"(2/ 28).
(2)
"بدائع الصنائع"(6/ 191)"تصحيح الفروع"(4/ 160)، "الاختيارات" ص (128).
(3)
انظر: "الفتاوى"(29/ 463).
حكم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة
840/ 11 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَب رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الْحَيَوانِ بالْحَيَوانِ نسيئةً. رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصححَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْجَارُودِ.
841/ 12 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أنْ يُجَهِّزُ جَيشًا فَنَفِدَتِ الإبلُ، فَأمَرَهُ أنْ يَأخُذَ علَى قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ قَال: فَكُنْتُ آخُذُ البَعِيرَ بِالبَعِيرَينِ إلى إِبْلِ الصدَقَةِ. رَوَاهُ الحَاكِمُ، والْبَيهَقِي، ورِجَالُهُ ثِقَات.
° الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث سمرة رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، باب "في الحيوان بالحيوان نسيئة"(3356)، والترمذي (1237)، والنسائي (7/ 292)، وابن ماجه (2270)، وأحمد (33/ 320)، وابن الجارود (611) من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة، به.
وهذا إسناد ضعيف، فإن الحسن البصري مشهور بالتدليس، فلا يحتج بحديثه عن سمرة إلا ما صرح فيه بالسماع، وهنا قد روى بالعنعنة.
وأما سماعه من سمرة فهو موضع خلاف بين أهل العلم، مضى ذكره في باب "الغسل" وترجيح صحة سماعه منه في الجملة.
لكن للحديث شواهد، وإن كانت لا تخلو من مقال، لكنها باجتماعها وتعدد رواتها من الصحابة رضي الله عنهم يقوي بعضها بعضًا على رأي من يستدل بها.
وقد روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: (أما قوله: "إنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" فهذا غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
ومن شواهد الحديث ما رواه أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة .. "
(2)
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة"
(3)
.
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فقد أخرجه أبو داود في باب "الرخصة في الحيوان بالحيوان نسيئة"(3357)، وأحمد (11/ 164)، والحاكم (2/ 56، 57)، والبيهقي (5/ 287، 288) من طريق مسلم بن جبير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش
(4)
، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وهذا سياق الإسناد عند أبي داود، وكذا البيهقي، وفي "المسند" اختلاف بتقديم بعض الرجال على بعض.
وهذا حديث حسن، وفي إسناده ضعف، أبو سفيان قال عنه الذهبي:(لا يعرف)، وفي موضع آخر قال:(ثقة)
(5)
، وعمرو بن حريش قال عنه ابن القطان:(مجهول الحال)، واعتمده الحافظ في "التقريب". وفيه محمد بن إسحاق: صدوق حسن الحديث، إذا صرح بالتحديث. وفي إسناده اضطراب بزيادة بعض الرواة وتقديم بعضهم على بعض، وبه أعله ابن القطان
(6)
.
والحديث له شواهد كما سيأتي.
(1)
"السنن الكبرى"(5/ 289).
(2)
أخرجه الترمذي (1238)، وابن ماجه (2271)، وأحمد (22/ 234) وسنده ضعيف.
(3)
أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني"(4/ 60)، والطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(4/ 105) وإسناده حسن في الشواهد.
(4)
سقط (عمرو بن حريش) من مستدرك الحاكم.
(5)
"الميزان"(4/ 531)، "الكاشف"(2/ 430)، وانظر:"تاريخ عثمان الدارمي"(734).
(6)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 162).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (نسيئة) بإثبات الهمزة بعد الياء على وزن كريمة، والنسيئة والنسأ في اللغة واصطلاح الفقهاء يعني: التأخير والتأجيل، خلاف النقد والتعجيل، وبيع النسيئة: بيع الشيء مع تأخير بدله.
قوله: (فَنَفِدَتِ الإبل) بفتح النون وكسر الفاء، من باب "تعب"؛ أي: فنيت وانتهت فلم يفِ الموجود منها بالمطلوب.
قوله: (فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة) أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يبتاع أو يستلف إبلًا على أن يؤدى عوضها من إبل الصدقة عند تحصيلها من المزكين. والقلائص: جمع قلوص، وهي الناقة الشابة.
° الوجه الثالث: حديث سمرة دليل على أنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي:(مؤخرًا) بل لا بد من التقابض في مجلس العقد، وأما التفاضل فإنه يجوز كبيع شاة بشاتين، لإطلاق الحديث، حيث إنه لا يدل على تفاضل أو تماثل، ولحديث عبد الله بن عمرو الذي بعده. وهذا مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة
(1)
، واختاره الشوكاني
(2)
.
والقول الثاني: جواز بيع الحيوان بالحيوان مطلقًا، سواء كان من جنسه أم لا، متفاضلًا ونسيئة، وهذا قول الشافعية، وبعض المالكية، والصحيح من المذهب عن الحنابلة
(3)
، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو:(فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة).
وقد ذكر البخاري تعليقًا أن ابن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالرَّبَذَةِ، وذكر -أيضًا- أن رافع بن خديج اشترى بعيرًا
(1)
"تبيين الحقائق"(4/ 91)، "الإنصاف"(5/ 43).
(2)
"نيل الأوطار"(5/ 232).
(3)
"المجموع"(9/ 400)، "بلغة السالك"(2/ 306)، "المغني"(6/ 64)، "الإنصاف"(5/ 42).
ببعيرين، فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غدًا رهوًا
(1)
إن شاء الله.
وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان: البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين إلى أجل
(2)
.
وهذا القول هو الراجح؛ لقوة دليله، فإن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنها نص صريح في الموضوع، ثم هو مؤيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم، كما ذكر البخاري.
وأما حديث سمرة فعنه جوابان:
الأول: أنه حديث ضعيف كما تقدم، وقد مضى قول الشافعي رحمه الله.
الثاني: أنه على فرض صحته بشواهده -كما تقدم- فهو محمول على ما إذا كان البيع نسيئة من الطرفين
(3)
؛ لأن اللفظ يحتمل ذلك كما يحتمل النسيئة من طرف واحد، فلو قال: أبيعك ناقة سِنُّها كذا، أسلمها لك بعد شهرين بخمس من الغنم سِنُّها كذا، تسلمها لي بعد شهر لم يجز؛ لأن ذلك من بيع الدَّين بالدَّين -كما سيأتي-، أما إذا كان أحدهما حالا والآخر نسيئة، فلا حرج في ذلك، كما تقدم، والله أعلم.
وأما بيع اللحم بالحيوان، ففيه أربعة أقوال:
الأول: أنه إن كان اللحم من جنس الحيوان كلحم شاة بشاة فإنه لا يجوز؛ لأنه من باب الغرر والقمار؛ لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، لحديث سعيد بن المسيب رحمه الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان"
(4)
.
(1)
رَهْوًا -بفتح الراء وسكون الهاء-؛ أي: سهلًا، والمعنى: أنه يأتيه بالبعير الآخر سريعًا من غير مطل. ["فتح الباري" (4/ 420)].
(2)
انظر: "فتح الباري"(4/ 419).
(3)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 288).
(4)
أخرجه مالك (2/ 655)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 71)، والحاكم (2/ 35)، والبيهقي (5/ 296)، وقال:"هذا هو الصحيح -يعني مرسلًا- ورواه يزيد بن مروان الخلال عن مالك، عن الزهري، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغلط فيه"، وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 322): "لا أعلم هذا الحديث يتصل من =
وقد ذكر ابن قدامة
(1)
هذا الدليل، لكن الاستدلال به على ما ذُكر فيه نظر، فإنه عام فيما إذا كان الحيوان من جنس اللحم أو من غير جنسه
(2)
، فإن كان من غير جنسه كلحم إبل بشاة جاز، لعموم:"إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم"، ولحم الإبل جنس، والشاة جنس، وهذا قول مالك وأحمد
(3)
.
والقول الثاني: جواز بيع اللحم بالحيوان مطلقًا، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه
(4)
، وعللوا لذلك بأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه، أشبه بيع اللحم بالدراهم أو بلحم من غير جنسه.
والقول الثالث: أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقًا، وهذا قول الشافعي
(5)
، مستدلًّا بما روى ابن عباس رضي الله عنهما:(أن جزورًا نُحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءًا منها بشاة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا يصلح هذا)
(6)
، قال الشافعي:(لا أعلم لأبي بكر مخالفًا من الصحابة)
(7)
.
والقول الرابع: التفصيل وهو إن أريد بالحيوان اللحم فهذا لا يجوز؛ لأنه باع لحمًا بلحم من غير تماثل، وإن أريد به الانتفاع بركوب أو تأجير أو حرث أو غير ذلك فلا بأس، وكذا لو كان من غير جنسه، وهذا رأي ابن تيمية وابن القيم
(8)
.
= وجه ثابت"، وقال عن المرسل: "هذا أحسن إسناده"، وانظر: "إعلام الموقعين" (2/ 145)، والحديث حسنه الألباني في "الإرواء" (5/ 198).
(1)
"المغني"(6/ 90).
(2)
"الشرح الممتع"(8/ 403).
(3)
"الكافي"(2/ 650)، "المغني"(6/ 90).
(4)
"تبيين الحقائق"(4/ 91).
(5)
"نهاية المحتاج"(3/ 444).
(6)
أخرجه الشافعي (2/ 92)، والبيهقي (5/ 297) وإسناده ضعيف؛ لأن فيه أبا صالح مولى التوأمة وهو ضعيف، لكن له شواهد، انظر:"الإرواء"(5/ 197).
(7)
انظر: "مختصر المزني"[المطبوع في آخر كتاب "الأم"] ص (176).
(8)
"الإختيارات" ص (128)، "إعلام الموقعين"(2/ 146)، "الشرح الممتع"(8/ 404، 405).
وأما بيع اللحم باللحم فإن اللحم أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم البقر جنس، ولحم الضأن جنس .. وهكذا، ولا يجوز بيع اللحم بلحم من جنسه إلا بالتساوي، لئلا يدخله ربا الفضل، فلا يباع كيلو من لحم الضأن بكيلوين منه، ويجوز كيلو من البقر بكيلوين من لحم الضأن لاختلاف الجنس، واللحم موزون، فيكون ملحقًا بالأصناف الستة بجامع الطعم والوزن، والله تعالى أعلم.
حكم بيع العينة
842/ 13 - عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إِذَا تبَايَعْتُمْ بالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَركْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّط اللهُ عَلَيكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايةِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَفي إسْنَادِهِ مَقَالٌ.
وَلأَحْمَدَ نحوُهُ: مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وصَحّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، باب "في النهي عن العينة"(3462) من طريق أبي عبد الرحمن الخرساني، أن عطاء الخرساني حدثه أن نافعًا حدثه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
الحديث.
والحديث سكت عنه أبو داود، وذكر الحافظ -هنا- أن في إسناده مقالًا، وذلك لأن فيه إسحاق بن أَسِيد أبا عبد الرحمن الخرساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه، قال أبو حاتم:(شيخ ليس بالمشهور، ولا يشتغل به)
(1)
وقال أبو أحمد الحاكم: (مجهول)
(2)
ولما ترجمه الذهبي ذكر هذا الحديث من مناكيره
(3)
، وبه أعله الإشبيلي، وتبعه ابن القطان
(4)
.
(1)
"الجرح والتعديل"(2/ 213).
(2)
"تهذيب التهذيب"(1/ 198).
(3)
"الميزان"(1/ 184)(4/ 547).
(4)
"الأحكام الوسطى"(3/ 258)، "بيان الوهم والإيهام"(5/ 294).
وفيه -أيضًا- عطاء الخراساني، وفيه مقال، قال في "التقريب":(يهم كثيرًا، ويرسل، ويدلس).
وقد رواه أحمد (8/ 440)، والطبراني في "الكبير"(12/ 432) من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا -يعني ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم- تبايعوا بالعِين، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم".
وهذا الحديث رجاله ثقات -كما قال الحافظ- وصححه ابن القطان، وسكت الحافظ هنا عن تصحيحه له، لكن تعقبه في "التلخيص":(بأن الإسناد معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور)
(1)
. لكن قوله: (يحتمل أنه عطاء الخراساني) لم يتضح لي وجهه، فإن الذي في "المسند" و"معجم الطبراني" أنه عطاء بن أبي رباح -إن لم يكن خطأ- وهو لم يسمع من ابن عمر، وإنما رآه رؤية
(2)
، فيكون السند منقطعًا، أضعف إلى ذلك تفرد أبي بكر بن عياش دون علية أصحاب الأعمش، فهذا مما يؤثر على الإسناد.
والحديث له شواهد كثيرة، عقد لها البيهقي بابًا في "سننه" وذكرها وبيّن عللها، وقد صحح الحديث جمع من الأئمة منهم ابن القطان، كما ذكر الحافظ، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والألباني، وغيرهم
(3)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا تبايعتم بالعينة) أي: اشتغلتم بالمعاملات الربوية، وحرصتم على المال بحيث لا يمنع منه ما نهى الله عنه، بسبب ضعف الإيمان، وشدة
(1)
"التلخيص"(3/ 21).
(2)
"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (154).
(3)
"الفتاوى"(29/ 30)، "تهذيب السنن"(5/ 104)، "نيل الأوطار"(5/ 234)، "السلسلة الصحيحة" رقم (11).
الطمع. والعينة: بكسر العين، تطلق على السلف -كما قال الجوهري
(1)
-، وتطلق على شراء ما باع مؤجلًا باقل من ثمن البيع -كما قاله الفيروزآبادي
(2)
-، وتطلق على غير ذلك. قال الأزهري:(إن العينة اشتقاقها من العين، وهو النقد الحاضر يحصل له من فوره)
(3)
.
وعند الفقهاء: بيع سلعة بثمن مؤجل، ثم شراؤها بأقل منه نقدًا، وهذا تعريف الحنابلة، وهو المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، كعائشة رضي الله عنها، كما سيأتي، وهو الذي ذكر الفقهاء الخلاف في العينة على ضوئه.
وقال ابن عبد البر عن بيع العينة: (إنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، بينهما سلعة محللة)
(4)
. وهذا تعريف مختصر وشامل لجميع صور العينة التي منها ما تقدم، سميت بذلك لحصول العين - وهو النقد- فيها، والنقد هو المال الحاضر الذي يأخذه المشتري؛ لأنه يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه فورًا ليحصل على مقصوده، أو سميت بذلك لأنه يعود إلى البائع عين ماله.
قوله: (وأخذتم أذناب البقر) هذا كناية عن الاشتغال بالحرث.
قوله: (ورضيتم بالزرع) أي: اشتغلتم بالزرع ورضيتم به عن أمور الدين والجهاد في سبيل الله تعالى.
قوله: (وتركتم الجهاد) أي: المتعين فعله.
قوله: (سلّط الله عليكم ذلًّا) بضم الذال المعجمة وكسرها؛ أي: صَغارًا واستهانة وضعفًا، والذليل: هو الضعيف المهين.
قوله: (لا ينزعه) بكسر الزاي من باب "ضرب"؛ أي: لا يرفعه ولا يزيله عنكم.
(1)
"الصحاح"(6/ 2172).
(2)
"القاموس"(3/ 361 ترتيبه).
(3)
"تهذيب اللغة"(3/ 207).
(4)
"الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 672).
قوله: (حتى ترجعوا إلى دينكم) أي: حتى ترجعوا إلى الاهتمام بأمور الدين والقيام بها، وتتركوا هذه الخصال المذمومة التي صارت سببًا في حلول البلاء، وفي هذا زجر بليغ؛ لأنه نَزَّلَ الوقوع في هذه الأمور منزلة الخروج من الدين.
* الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على تحريم مسألة العينة، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزَّل الوقوع في هذه الأمور المذكورة ومنها بيع العينة منزلة الخروج من الدين، لقوله:"حتى ترجعوا إلى دينكم"، وجعلها سببًا لإنزال البلاء وتسليط الذل عليهم، فدل على تحريم مسألة العينة؛ لأن ما كان سببًا في نزول البلاء فهو محرم.
* الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم مسألة العينة، وهي أن يبيع -مثلًا- سيارة بمائة ألف مؤجلة إلى سنة، ثم يشتريها منه بثمانين حالّة، على قولين:
الأول: أنه يحرم بيع العينة، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم
(1)
، واستدلوا بهذا الحديث.
كما استدلوا بما ورد عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها ومعها أُمُّ ولدِ زيدِ بن أرقم الأنصاري وامرأةٌ أخرى، فأخبرت أمُّ ولدِ زيدِ بنِ أرقمَ عائشةَ رضي الله عنها أنها باعت غلامًا من زيد بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة:(بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب)، قالت: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل، قالت:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ
(1)
انظر: "بدائع الصنائع"(5/ 198)، "بداية المجتهد"(3/ 273)، "الفتاوى"(29/ 430)، "تهذيب مختصر السنن"(5/ 100)، "الإنصاف"(4/ 335).
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]
(1)
. والظاهر أن عائشة رضي الله عنها لا تقول مثل هذا الكلام باجتهاد منها؛ لأن هذا التغليظ لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
القول الثاني: جواز بيع العينة، وهذا مذهب الشافعية، وأبي يوسف من الحنفية، وابن حزم، وبعض الشافعية يرى الكراهة
(3)
.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} [البقرة: 275]، ووجه الدلالة: أن العينة بيع، فهي حلال بنص القرآن، ولم يأتي تفصيل تحريمها في كتاب ولا سنة.
كما استدلوا بحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما المتقدم، وفيه:"بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع جنيبًا، ويمكن أن يكون بائع الجنيب هو الذي اشترى منه الجمع، فيكون قد عادت إليه دراهمه التي هي عين ماله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل، ولم ينه عن الشراء من الذي باع عليه الجمع.
والقول الأول هو الراجح، لقوة أدلته، فإن النهي في حديث ابن عمر وحديث عائشة رضي الله عنها صريح في التحريم، ولأن العينة ذريعة إلى الربا، والربا حرام، والذريعة إلى الحرام حرام، فالعينة محرمة؛ لأن المتبايعين لم يعقدا على السلعة عقدًا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال، بل القصد دراهم بدراهم أكثر منها، وإدخال السلعة من باب التدليس، فليس فيها بيع ولا شراء حقيقة، وإنما هو قرض ربوي جاء بصورة البيع والشراء، فهو من الحيل التي يلجأ إليها المرابون.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 184، 185)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330) وقد أعلَّ هذا الحديث بجهالة امرأة أبي إسحاق، وهي العالية بنت أيفع بن شراحيل، وقد رد حديثها الشافعي والدارقطني وابن حزم. وقال آخرون: إنها معروفة، وذكرها ابن حبان في "الثقات"(5/ 289)، وقال في "الجوهر النقي":(العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها، وهما إمامان)، وقد جود ابن القيم حديثها في "إعلام الموقعين"(3/ 167)، وسبقه شيخه ابن تيمية، كما في "الفتاوى"(20/ 259، 260).
(2)
انظر: "نيل الأوطار"(5/ 233).
(3)
"المحلى"(9/ 686)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 273)، "نهاية المحتاج"(3/ 460).
أما الآية التي استدل بها القائلون بالجواز فهي عامة، وقد خُصص منها بيع العينة بالأحاديث الثابتة، كما خص منها بيع الغرر ونحوه، وأنتم تقولون بتحريمه. وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فهو مطلق قيدته الأحاديث التي تنهى عن العينة
(1)
.
فإن اشترى السلعة وباعها على آخَرَ غيرِ من اشتراها منه لم تكن من مسألة العينة، وإنما هي مسألة التورق، وهي أن يشتري من يحتاج المال سلعةً مؤجلة بأكثر من قيمتها، ثم يبيعها على أجنبي نقدًا، كأن يحتاج خالد إلى مال لغرضٍ ما، ولم يجد من يقرضه، فيشتري من عليٍّ (25) كيسًا من الرز -مثلًا- بخمسة آلاف ريال مؤجلة إلى سنة، ثم يبيعها على محمد بأربعة آلاف نقدًا ليسد حاجته، وبهذا يتبين أن الغرض من هذه المعاملة هو تحصيل الدراهم للحاجة إليها، وهذا محل النزاع، أما لو اشترى السلعة لقصد التجارة، أو لقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب واللبس ونحوها فهذا يجوز بالإجماع
(2)
.
والتورق في اللغة: مأخوذ من الوَرِقِ، والورِق له عدة معانٍ في اللغة، ومنها: الدراهم والمال بجميع أنواعه
(3)
، وسميت بهذا الاسم؛ لأن مشتري السلعة يبيعها بالورق، وهو الفضة.
وأكثر الفقهاء يذكرونها ضمن صور العينة، إلا فقهاء الحنابلة فإنهم يفردونها بالذكر، ولا يجعلونها من صور العينة
(4)
.
وقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها مكروهة، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، ورواية عن أحمد
(5)
؛ لأن فيها إعراضًا عن مبرة القرض التي حث عليها الإسلام.
(1)
راجع: رسالة "بيع العينة" تأليف: حمد بن عبد العزيز الخضيري.
(2)
"الفتاوى"(29/ 442، 446، 447).
(3)
"الصحاح"(4/ 1565)، "تهذيب اللغة"(9/ 289).
(4)
"الفروع"(4/ 171)، "رسالة بيع العينة" ص (76).
(5)
"حاشية ابن عابدين"(5/ 326)، "حاشية الدسوقي"(3/ 89)، "الإنصاف"(4/ 337).
والقول الثاني: أنها محرمة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
، ومال إليه ابن القيم
(2)
؛ لأن الغرض منها أخذ دراهم بدراهم، ودخلت السلعة بينهما تحليلًا.
والقول الثالث: أنها جائزة، وهو قول إياس بن معاوية، ومذهب الحنابلة، واختار ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز بن باز، وأجازها الشيخ محمد بن عثيمين بشروط
(3)
.
واستدلوا على الجواز بأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها، وكلاهما غرض صحيح.
والأظهر -والله أعلم- القول بجوازها، بشرط أن يكون صاحبها محتاجًا إلى دراهم ولا يجد من يقرضه، فإذا اشترى من زيد سلعة -وهي في ملكه وحوزته- إلى أجل كسيارة أو أكياس من الرز أو الهيل أو غير ذلك ثم قبضها وحازها، ثم باعها في سوق من يزيد أو على من شاء بثمن معجَّل ليتزوج أو ليقضي دينًا أو ليعمر سكنًا أو ما أشبه ذلك، فالصواب أنه لا حرج في ذلك، لأمور ثلاثة:
1 -
النصوص العامة في الشريعة التي تدل على أن الأصل في المعاملات الحل، إلا ما ورد الدليل بتحريمه، وليس في الأدلة ما يمنع هذه المعاملة.
2 -
عموم الأدلة على جواز المداينات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] والتورق نوع من المداينات الداخلة في عموم الآية.
3 -
وجود الحاجة إليها، فيكون في منعها تضييق على الناس، إذ ليس
(1)
"الفتاوى"(29/ 434، 447).
(2)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 108، 109).
(3)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 108)، "الإنصاف"(4/ 337)، "فتاوى ابن إبراهيم"(7/ 61)، "فتاوى ابن باز"(19/ 96، 99)، "رسائل فقهية" لابن عثيمين ص (107).
كل أحد يجد من يقرضه، فما بقي إلا أن يشتري ويبيع حتى يحقق مطلوبه ويقضي حاجته.
وهي ليست من مسألة العينة؛ لأن البيع فيها إلى أجل على شخص، والبيع بالنقد على شخص آخر، فليس فيها حيلة على الربا، ولا هي وسيلة إليه، فإن كان هناك تواطؤ بين الثلاثة على هذه المعاملة فإنها تحرم، كمسألة العينة
(1)
.
فإن أمكن المسلم الاستغناء عن هذه المعاملة، والاقتصاد في كل ما يحتاج إليه، فهذا أحسن وأحوط، خروجًا من خلاف العلماء، واحتياطًا للدين، وابتعادًا عن إشغال الذمة بما قد يشق تخليصها منه
(2)
.
ومما ينبغي أن يعلم أن المصارف اليوم توسعت في بيع التورق توسعًا أخرجه عن صورته المباحة عند من أباحه، وصورته: شراء سلعة من المصرف كحديد -مثلًا- دون القيام من مجلس العقد، بل في أوراق، ثم يقوم المشتري بتوكيل المصرف في بيعها، ثم في ساعات ينزل في حساب العميل السيولة المالية وهي بهذا حيلة ظاهرة على الربا، فبدل ما يدفع المصرف (100.000) بـ (120.000) مؤجلة، سيتعامل بهذه الصورة، وقد صدر قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحريم هذه الصورة بعينها، والمحاذير فيها متعددة، منها:
1 -
التحيل على الربا؛ لأن ما ذكر أشبه بالبيع والشراء الصوري.
2 -
أن فيها شبهًا بمسألة العينة، سواء كان الالتزام بالتوكيل صراحة أو بالعرف.
3 -
الإخلال بشروط القبض الشرعي
(3)
.
* الوجه الخامس: ذم الحرث والزرع في هذا الحديث محمول على ما
(1)
"فتاوى ابن باز"(19/ 103).
(2)
"فتاوى ابن باز"(19/ 103).
(3)
"مجلة الدعوة" عدد (2041) بتاريخ (6/ 4 / 1427 هـ) ص (18).
إذا شغل عن القيام بالواجبات كالجهاد ونحوه من الأمور المطلوبة، وقد بوّب البخاري رحمه الله فقال:(باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أُمِرَ به)، وبوَّب قبل ذلك فقال:(باب فضل الزرع والغرس إذا أُكِلَ منه)
(1)
، فأحاديث الذم محمولة على الاستكثار والاشتغال بالدنيا عن أمور الدين، وأحاديث الإباحة محمولة على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها.
* الوجه السادس: الحديث دليل على أن إقبال الناس على البيع والشراء والزراعة وإعراضهم عن الجهاد من أسباب الذل وطمع الأعداء، كما وقع من أزمان طويلة وقرون متعددة، وأعظم ذلك ما وقع في زماننا هذا.
والواجب على أهل الإسلام أن تعلو همتهم، وأن يشمروا إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دينه، وقهر أعدائه، وألا يشغلهم عنه شاغل، وما ضعف المسلمون وتسلط عليهم الأعداء إلا يوم تركوا الجهاد، وقد جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قَصْعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهَنَ"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"، وفي رواية:"وكراهيتكم القتال"
(2)
. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "فتح الباري"(5/ 3 - 4).
(2)
أخرجه أبو داود (4297)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 182)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 534)، من طريق أبي عبد السلام صالح بن رستم الهاشمي الدمشقي، عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا. وأبو عبد السلام، قال عنه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (4/ 403):(مجهول لا نعرفه)، وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 295):(روى عنه الثقات، فخفت الجهالة) على أنه لم يتفرد به، فقد تابعه أبو أسماء الرحبي، عن ثوبان .. أخرجه أحمد (37/ 82) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 287):(هذا سند جيد) لكن المحفوظ وقفه، كما في "العلل"(11/ 151) للدارقطني، وقد أخرجه أحمد -أيضًا- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (14/ 331).
حكم الهدية في مقابل الشفاعة
843/ 14 - عَنْ أَبِي أُمَامَة رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُوُ دَاوُدَ، وَفي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في الهدية لقضاء الحاجة"(3541) من طريق عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، مرفوعًا.
وأخرجه أحمد (36/ 588) من طريق ابن لهيعة: حدثنا عبيد الله بن أبي جعفر، به.
وهذا الإسناد فيه مقال، عبد الله بن لهيعة ضعيف سيء الحفظ، لكن تابعه عمر بن مالك، كما في رواية أبي داود، وعمر بن مالك قال عنه الحافظ في "التقريب":(لا بأس به، فقيه). وعبيد الله بن أبي جعفر ضعفه أحمد في رواية، وعنه أنه قال:(ليس به بأس)
(1)
، وقال أبو حاتم والنسائي وابن سعد:(ثقة)، واحتج به الشيخان.
والقاسم -وهو ابن عبد الرحمن الدمشقي- قال عنه في "التقريب": (صدوق يُغرب)، وقال الألباني: (فيه كلام يسير، لا ينزل به حديثه عن مرتبة
(1)
"الميزان"(3/ 373)، "هدي الساري" ص (423).
الحسن)
(1)
. لكن له أفراد
(2)
، وهذا الحديث منها، فإن مداره عليه فلم يتابعه عليه أحد.
والحديث حسّنه الألباني في "صحيح الجامع"
(3)
، و"صحيح سنن أبي داود"
(4)
، كما حسّن الحديث الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على "البلوغ"
(5)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من شفع) الشفاعة: مصدر شفعت في الأمر شفعًا وشفاعة فأنا شفيع وشافع: طالبت بوسيلة أو ذِمام، وأصل الشفع: جعل الشيء اثنين، فكأن الشفيع يضم صوته لصوت المشفوع له في قضاء حاجته.
والشفاعة اصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
قوله: (لأخيه) المراد: أخوه في الإسلام.
قوله: (فأهدى له هدية فقبلها) الهدية في اللغة: ما أُتحف به، وعند الفقهاء: ما بعثته لغيرك بقصد الإكرام أو التودد أو المكافأة. فالدافع للهدية إما المحبة أو الصداقة أو طلب حاجة. والفرق بينها وبين الهبة، أن الهدية ما يتقرب به المهدي إلى المُهدى إليه، وليس كذلك الهبة، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب "الهبة" إن شاء الله تعالى.
قوله: (فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا) أي: فقد دخل مدخلًا عظيمًا من مداخل الربا وانغمس في الحرام.
وتسميته ربا من باب الاستعارة للشبه بينهما، وذلك لأن الربا هو الزيادة لا في مقابل عوض، وهذا مثله، ولعل هذا غرض الحافظ من ذكر هذا الحديث في باب "الربا".
(1)
"معجم أسامي الرواة"(3/ 430).
(2)
انظر: "المجروحين"(2/ 214)، "تهذيب التهذيب"(8/ 290).
(3)
(6192).
(4)
(3025).
(5)
(2/ 508).
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يعتاض عن الشفاعة شيئًا، بل ينبغي أن تكون الشفاعة وقضاء حاجة الآخرين لله تعالى، من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب الإحسان، وهذا من أخلاق المسلمين الجميلة، ومن صفاتهم الحميدة، فمن وفّقه الله تعالى لقضاء حوائج إخوانه المسلمين فلا ينبغي له أن يقبل مكرمة مقابل ذلك ليخلص العمل لله تعالى، ويرجو ثوابه وجزاءه. قال تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، والمعنى: أن من سعى في أمر ترتّب عليه خير كان له نصيب من ذلك الخير عند الله تعالى.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة، قال:"اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما شاء"، وفي رواية:"ما أحبَّ"
(1)
.
وعلى هذا فمن شفع لأخيه أن يواسَى فقره، أو يعفى من ضريبة، أو يقضى دينه، أو شفع في أمور أخرى مما أباح الله، ثم أهدى له هذا المشفوع له، فلا ينبغي أن يقبل ذلك، يقول أبو الحارث: إن أبا عبد الله -يعني: الإمام أحمد- سئل عن الرجل يسأله الرجل حاجة فيسعى فيها، فيكافئه على ذلك بلطفه، ويهدي له، ترى له أن يقبلها؟ قال:(إذا كان شيء من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك)
(2)
. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الهدية في الشفاعة مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة -وهو مستحق لذلك-، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء
…
ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم فهذه -أيضًا- لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وقد رخص
(1)
أخرجه البخاري (6027)، ومسلم (2627).
(2)
"الآداب الشرعية"(1/ 298)
بعض المتأخرين من الفقهاء في ذلك، وجعل هذا من باب "الجعالة"
(1)
، وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة، فهو غلط
…
؛ لأن المصالح العامة يكون القيام بها فرضًا إما على الأعيان وإما على الكفاية
…
)
(2)
. وعلى هذا فالهدية للأمير أو العامل أو القاضي لا تجوز لهذا المعنى، ولأن له من رزق بيت المال ما يكفيه. وإذا شفع الإنسان لغيره في أمر من الأمور، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يشفع لغيره بتحصيل شيء واجب أو يدفع مظلمة فهذه شفاعة واجبة من القادر عليها، فيحرم أخذ شيء عليها. يقول الحافظ ابن رجب: (الهدية لمن يشفع له شفاعة عند سلطان ونحوه لا تجوز، ذكره القاضي، وأومأ إليه أحمد؛ لأنها كالأجرة، والشفاعة من المصالح العامة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها، وفيه حديث صريح في السنن
…
)
(3)
. وتقدم في كلام أبي الحارث أن الإمام أحمد يرى الكراهة، ولعل المراد: كراهة التحريم، ليتفق ذلك مع ما نقله عنه ابن رجب، والله أعلم.
ويرى ابن حزم الظاهري: (جواز قبول الهدية ممن نُصر في حق أو رفع عنه ظلم؛ لأنه من جملة شكر المنعم، وهدية بطيب نفس، ولا نعلم قرآنًا ولا سنة في المنع
…
)
(4)
. وهذا رأي الغزالي، إلا أن الغزالي يرى الجواز والقياس على الجعالة إذا كان العمل فيه سعي وتَعَبٌ، وإلا فيحرم أخذ الهدية؛ لأنه عوض عن الجاه.
وكلام ابن حزم له حظ من النظر؛ لعدم قوة الحديث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنها من باب ردِّ المعروف، وليس فيها أيُّ تواطؤ. ويمكن حمل كلام الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية على الهدية مقدمًا، أو جعلها كالأجرة. أما إذا كان الشافع أخلص في ذلك والمشفوع له أهدى إحسانًا منه، فما المانع من ذلك؟
(1)
انظر: "إحياء علوم الدين"(2/ 155)، "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 299).
(2)
"الفتاوى"(31/ 286، 287).
(3)
"القواعد"(3/ 101).
(4)
"المحلى"(9/ 158).
الثانية: أن يشفع لغيره في الحصول على أمر لا يستحقه من وظيفة أو عمل، فهذه شفاعة محرمة؛ لأن فيها تعديًا على حقوق الآخرين الذين يستحقون هذا العمل، كما أن فيه إضرارًا بالعمل نفسه حيث تولاه من لا يستحقه، كما أن فيها ظلمًا للشخص نفسه حيث تولى ما ليس له، وما أخذ على هذا النوع فهو حرام، بل هو الرشوة بعينها المحرمة باتفاق، كما سيأتي. ويدخل في هذا الشفاعة في حدود الله تعالى فهي محرمة، وما دفع لأجلها فهو رشوة.
الثالثة: أن تكون الشفاعة في أمر مباح ليس بواجب لكن فيه فائدة للمشفوع له، كما لو شفع له في نقل وظيفته من مكان لآخر، أو شفع له في إنجاز معاملته وليس في ذلك تعدٍّ على حق غيره، فإن بذل الشافع ذلك بلا مقابل وجعله من باب الإحسان فهذا أفضل، وإن أخذ عليه عوضًا فالظاهر جوازه، لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
…
من أدى إليكلم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه
(1)
فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
كذا في "المسند" بحذف النون، وهو مستقيم عربية، وفي بعض المصادر بإثبات النون.
(2)
أخرجه أبو داود (5109)، والنسائي (5/ 82)، وأحمد (9/ 266) وإسناده صحيح.
تحريم الرشوة
844/ 15 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في كراهية الرشوة"(3580)، والترمذي (1337) من طريق ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
وهذا الحديث قد أعاده الحافظ في كتاب "القضاء" من رواية أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم"، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا شاهدًا له.
ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث في باب "الربا" لإفادة أن المال المستفاد من الرشوة كالمال المستفاد من الربا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، كما لعن آكل الرشوة وموكلها.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الراشي) هذا اسم فاعل من رشا يرشو فهو راشٍ، والمراد به: دافع الرشوة. قال في "القاموس": (الرشوة -مثلثة-: الجُعل، جمعه: رُشًا ورِشًا، ورشاه: أعطاه إياها
…
)
(1)
، وقال ابن الأثير: (الرشوة:
(1)
"القاموس"(2/ 343 ترتيبه).
الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به الماء)
(1)
.
وعلى هذا فالرشوة مشتقة من الرشاء، وهو الحبل الذي يربط به الدلو ليصل إلى الماء في البئر، وهذا هو الأظهر؛ لأن وجه الشبه عليه أتم، من حيث إن إعطاء الراشي الرشوة ليصل إلى غرضه، يشبه ربط الدلو بالرشاء ليمتلئ بالماء.
وأما حقيقة الرشوة فهي: ما يدفع من مال ونحوه كمنفعة، ليتوصل به إلى ما لا يحل.
فالرشوة قد تكون مالًا، وهذا هو الغالب، وقد تكون منفعة يمكِّنه منها، أو يقضيها له.
قوله: (والمرتشي) هو اسم فاعل من ارتشى، وهو آخذ الرشوة، وهو لفظ عام؛ لأن (أل) الموصولة من صيغ العموم، فيشمل كل من أخذ الرشوة من حاكم أو قاضٍ أو وزير أو وكيل أو موظف وغيرهم.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الرشوة وأنها من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد توعد أكلة الرشوة والمتعاملين بها بالطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى.
والرشوة من أنواع السحت الذي ذم الله تعالى به اليهود، فقال:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، قال ابن مسعود رضي الله عنه وغير واحد من السلف: السحت: الرشوة. نقله ابن جرير وغيره
(2)
. وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، قال البغوي:(إن الآية شاملة لجميع وجوه الباطل، ومنها الرشوة)
(3)
.
والرشوة مجالاتها متعددة، فقد تكون الرشوة في الحكم بأن يحكم له
(1)
"النهاية"(2/ 226).
(2)
"تفسير الطبري"(10/ 318).
(3)
"تفسير البغوي"(1/ 159).
بما لا يستحق، أو يلقنه الحجة، أو يتهاون في تنفيذ الحكم، ونحو ذلك، وهذا سيأتي -إن شاء الله- في كتاب "القضاء".
وقد تكون الرشوة في غير الحكم، فتكون في الوظائف والمسابقات، وقد تكون في تنفيذ المشاريع، بأن يبذل أحد المنفذين رشوة للمسؤول فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أحق به وأنصح له، وقد تكون الرشوة في تحقيق جناية أو حادث فيتساهل المحقق من أجل الرشوة، وقد تقع الرشوة في التعليم فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، أو تقدم له أسئلة الاختبار أو يشار إلى مواضعها من المقررات، أو نحو ذلك فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه العلمي، ويتأخر من هو أحق منه.
* الوجه الرابع: جاء في "المسند" وغيره من طريق ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب، عن أبي زرعة، عن ثوبان رضي الله عنه قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش: يعني الذي يمشي بينهما"
(1)
.
وهذا الحديث بهذه الزيادة وهي لعن الرائش، وهو الوسيط بين الراشي والمرتشي ضعيف، لضعف ليث بن أبي سليم واضطرابه في رواية هذا الحديث، وشيخه أبو الخطاب قال عنه البزار وتبعه المنذري:(لا يعرف). وقال الذهبي: (مجهول). وأبو زرعة -وهو يحيى بن أبي عمرو السيباني- روايته عن ثوبان مرسلة، فتكون زيادة منكرة
(2)
.
والرائش ليس بركن أساسي في تعاطي الرشوة، لإمكان تحقيقها مباشرة بين الراشي والمرتشي بدونه، وإنما هو مجرد شريك، ولهذا -والله أعلم- لم يثبت لعنه مع الراشي والمرتشي، لكنه على خطر عظيم؛ لأن كل من أعان على باطل فهو آثم، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال:"هم سواء"، فإذا لُعِنَ هؤلاء على تعاطي الربا والمشاركة فيه، فالمشارك في تعاطي الرشوة على خطر عظيم.
(1)
"المسند"(37/ 85).
(2)
راجع "السلسلة الضعيفة"(3/ 381).
* الوجه الخامس: الحديث دليل على عناية الإسلام بالمجتمعات الإسلامية، وتطهيرها من أسباب الفساد وعوامل الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، فحرم الإسلام الرشوة وتوعّد عليها؛ لأن آثارها سيئة، ومفاسدها عظيمة، ومن ذلك:
1 -
أنها من كبائر الذنوب، وسبب لمنع إجابة الدعاء، وتعرّض لغضب الله، والطرد من رحمته.
2 -
تضييع حقوق العباد، والإعانة على الظلم والعدوان، وهدر كرامة الإنسان.
3 -
الرشوة ظلم للنفس؛ لأن الراشي يظلم نفسه ببذل المال لأخذ ما ليس له، والمرتشي يظلم نفسه بأكل المال بالباطل وظلم الآخرين.
4 -
الرشوة كسب خبيث، وأكل لأموال الناس بالباطل، ومنهج الإسلام في الأكل الحلال والكسب الطيب مما تواترت فيه النصوص.
5 -
إذا انتشرت الرشوة في المجتمع، شاعت فيه روح النفعية، لا روح الواجب، فتتعطل مصالح المسلمين وتتأخر أعمالهم، فلا يتم إنجازها إلا بالرشوة، لا بمقتضى الواجب والتكليف من ولاة الأمور، والله تعالى أعلم.
النهي عن بيع المزابنة
845/ 16 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ، أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كيلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيلًا، وَإِنْ كانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بكَيلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب "البيوع"، ومنها باب "بيع الزرع بالطعام كيلًا"(2205)، ومسلم (1542)(76) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقد جاء عند مسلم زيادة:"وعن كل ثمر بخرصه".
وقد تقدم ذكر المزابنة في باب "النهي عن بعض المعاملات" في حديث جابر وحديث أنس رضي الله عنهما، وفيهما تعداد بعض المعاملات المنهي عنها، ومنها المزابنة، ولعل الحافظ ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما في باب "الربا"؛ لأن فيه تفسير المزابنة وأن بيعها من صور (ربا الفضل)، كما سيتبين إن شاء الله.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن بيع المزابنة، وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه -كما تقدم-، كأن يبيع الثمر على رؤوس النخيل بتمر كيلًا، أو يبيع الزرع في سنبله بحنطة كيلًا، أو يبيع العنب بزبيب كيلًا، والعلة في النهي عن ذلك هي الجهل بالتساوي المشروط بمبادلة الربوي بجنسه، وهذا الجهل يفضي إلى الربا، كما تقدم من أن الجهل بالتساوي
كالعلم بالتفاضل، وإذا باع الثمر على رؤوس النخل بتمر جاف فقد خفي التساوي من وجهين:
1 -
كون البيع خرصًا.
2 -
كون أحدهما رَطْبًا والآخر جافًا، ويستثنى من ذلك مسألة (العرايا)، كما سيأتي إن شاء الله.
وعلى هذا فكل ربويين جهل تساويهما حرم بيع أحدهما بالآخر، فيحرم بيع الحب بدقيقه، كصاع من البر بصاع من دقيق البر، وهو الطحين، وذلك لعدم التساوي؛ لأن الحب إذا طحن تنتشر أجزاؤه، وأجاز بعض العلماء بيعه وزنًا؛ لأنه يمكن التساوي بالوزن.
فإن كان المبيعان ليسا من الأصناف الربوية فالعلة هي الغرر الناشئ عن عدم التحقق من قدر المبيع؛ لأنه بيع معلوم بمجهول، كما لو باع شيئًا من الخضار أو الفواكه وأحدهما معلوم القدر والآخر مجهول، والنهي في ذلك كله يقتضي الفساد.
* الوجه الثالث: هذا الحديث من أدلة الجمهور على أن الربا يجري في الأصناف الأربعة في حديث عبادة رضي الله عنه المتقدم- وما وافقها في العلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الزبيب بالعنب، وهو ليس من الأصناف المذكورة في حديث عبادة، بل إن قوله في رواية مسلم:"وعن كل ثمر بخرصه" عام فيما ذُكر في حديث عبادة وغيره، والله تعالى أعلم.
حكم مبادلة الرَّطْبِ باليابس من الربويات
846/ 17 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن اشْتِرَاءِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ. فَقَال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِي، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في التمر بالتمر"(3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (7/ 268، 269)، وابن ماجه (2264)، وأحمد (3/ 100)، وابن حبان (11/ 372)، والحاكم (2/ 38) من طريق مالك، عن عبد الله بن يزيد، أن زيدًا أبا عياش
(1)
أخبره، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسّلْت
(2)
. فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهاه عن ذلك، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل
…
وذكر الحديث.
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
ونقل الحافظ عن علي بن المديني: (أن أباه حدث به، عن مالك، عن داود بن الحصين، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن أبي عياش، قال: وسماع
(1)
هكذا في بعض المصادر المذكورة، وفي بعضها: أن ابن عياش وفي بعضها: زيد بن أبي عياش. انظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 365).
(2)
البيضاء: نوع من البُر أبيض اللون، وفيه رخاوة، يكون بمصر، والسلت: نوع غير البر وهو أدق حبًّا منه، وقيل: إن البيضاء هو الرطب من السلت، والأول أعرف، والثاني أليق بمعنى الحديث. ["معالم السنن للخطابي](5/ 32)].
أبي من مالك قديم، قال: فكان مالكًا كان علقه عن داود، ثم لقي شيخه فحدثه به مرة عن داود، ثم استقر رأيه على التحديث به عن شيخه)
(1)
.
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح، لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث، إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصًا في حديث أهل المدينة، ثم لمتابعة هؤلاء الأئمة في روايته عن عبد الله بن يزيد، والشيخان لم يخرجاه، لما خشياه من جهالة زيد بن أبي عياش). وقد صرح بجهالته ابن حزم
(2)
وعبد الحق الإشبيلي
(3)
، وهذا مردود لما يلي:
1 -
أن ابن حبان قد وثقه، وقال الدارقطني:(ثقة، ثبت)
(4)
.
2 -
أنه روى عنه ثقتان: عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس، وهما ممن احتج به مسلم.
3 -
أن أئمة هذا الشأن قد عرفوه، فهذا الإمام مسلم قد ذكره في كتاب "الكنى"
(5)
، وهذا الإمام مالك قد أخرج حديثه في "موطئه" مع شدة تحرّيه في الرجال ونقده وتتبّعه لآرائهم
(6)
.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يجوز بيع أحد نوعي الجنس بالآخر، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، واللحم الرَّطْبِ بالقديد؛ لأن أحدهما أزيد من الآخر قطعًا، فإن الرَّطْبَ إذا يبس نقص كثيرًا، فلا يحصل التساوي، ومثل ذلك إذا لم يستويا في النشاف بأن كان أحدهما أكثر رطوبة من الآخر، مثل أن يبيع خبزًا من البر بخبز من البر وأحدهما أنشف من الآخر، فلا يجوز لعدم التساوي المشترط في قوله صلى الله عليه وسلم:"مثلًا بمثل، سواءً بسواء".
(1)
"التلخيص"(3/ 10).
(2)
"المحلى"(8/ 462).
(3)
"الأحكام الوسطى"(3/ 257).
(4)
"تهذيب التهذيب"(3/ 365).
(5)
(1/ 636).
(6)
انظر: "مختصر سنن أبي داود" للمنذري (5/ 34).
وقوله صلى الله عليه وسلم هنا: "أينقص الرطب إذا يبس؟ "، هذا السؤال لا يقصد منه المعرفة؛ لأن مسألة نقصان الرطب إذا يبس جلية مستغنية عن الاستكشاف؛ لأن من المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس، لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله. وإنما قصد صلى الله عليه وسلم بذلك بيان مناط الحكم ووجه العلة بتحريم البيع، وهذا يحصل به اقتناع السائل بوقوفه على علة النهي.
وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على ما إذا كان الرطب مقطوعًا على الأرض، وقالوا: ليس هذا من المزابنة؛ لأنه لم يرد في تفسيرها كما تقدم، فإن كان التمر على رؤوس النخل فهو بيع المزابنة كما مضى، وقد يكون هذا غرض الحافظ من ذكر حديث سعد رضي الله عنه بعد حديث المزابنة، والله تعالى أعلم.
* الوجه الثالث: يستدل بهذا الحديث علماء الأصول على نوع من أنواع مسالك العلة، وهو إثبات العلة بالأدلة النقلية بطريق التنبيه والإيماء، وهو أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا لو لم يعلل الحكم بهذا الوصف لكان ذكره في الكلام لغوًا لا فائدة فيه، فيعلل الحكم به صيانة لكلام الشرع عن اللغو، وذلك أن السؤال عن نقصان الرطب باليبس لو لم يقدر التعليل به، وأنه سبب المنع من بيع الرطب بالتمر ما دام أن الرطب ينقص عند اليبس لكان السؤال عنه غير مفيد؛ لأنه أمر ظاهر، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
النهي عن بيع الدين بالدين
847/ 18 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ بَيعِ الكَالِيءِ بالْكَالِيءِ؛ يَعْنِي: الدَّينَ بالدَّينِ. رَوَاهُ إِسْحَاقُ، وَالْبَزَّارُ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البزار
(1)
(1/ 508 مختصر زوائده)، والدارقطني (3/ 72) من طريق موسى بن عُبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما -قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، وعن بيع المَجْرِ، وعن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع آجل بعاجل
…
" الحديث بتمامه، وفيه تفسير لهذه المذكورات في هذا الحديث، ومنها بيع الكالئ بالكالئ حيث فسِّر ببيع الدَّين بالدَّين، وبهذا يتبين أن التفسير ليس من الحافظ ابن حجر، وإنما هو في سياق الحديث.
قال البزار: (لا نعلم أحدًا رواه بهذا التمام إلا موسى، وهو ضعيف، وفي الصحيح طرف منه).
وأخرجه الدارقطني (3/ 71)، والحاكم (2/ 57)، والبيهقي (5/ 290) من طريق الخَصيب بن ناصح: نا الدراوردي، عن موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
إلا أن الدارقطني سمَّاه موسى بن عقبة في الموضعين المذكورين، وكذا
(1)
عزا الحافظ هذا الحديث -أيضًا- إلى إسحاق، وهو إسحاق بن راهويه في مسنده، وقد رجعت إلى "المطالب العالية"(1/ 399) لابن حجر، فلم أجده من مسند إسحاق، وإنما من مسند أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند أحمد بن منيع. فالله أعلم.
الحاكم، وغلَّطهما البيهقي، لكن الظاهر أن الوهم ليس من الدارقطني، بل من غيره، بدليل أنه جزم في "العلل" بأن موسى بن عبيدة تفرد به
(1)
، وقال الألباني:(أنا أظن أن الوهم من ابن ناصح، فهو الذي قال ذلك؛ لأن توهيمه أولى من توهيم حافظين مشهورين: الدارقطني، والحاكم، والله أعلم)
(2)
.
وموسى بن عبيدة وهو الرَّبذي ضعيف، نقل ابن عدي تضعيفه عن الإمام أحمد، فإنه قال:(منكر الحديث)، وقال:(لا تحل عندي الرواية عنه)، قال: فقيل لأحمد: إن شعبة روى عنه قال: ( .. لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه)
(3)
، وقال الذهبي:(ضعفوه، وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه)
(4)
، ونقل الحافظ عن الشافعي أنه قال:(أهل الحديث يوهنون هذا الحديث)، وعن الإمام أحمد قال:(ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دَين بدَين)
(5)
.
وعلى هذا فالحديث ضعيف، وقد ضعّفه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "نظرية العقد"
(6)
، وليس في المسألة إلا الإجماع، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية نفى الإجماع في ذلك.
* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يجوز بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع الدين بالدين، والكالئ بمعنى: المؤخر الذي لم يقبض في مجلس العقد، من كلأ الدين: أي تأخر.
وبيع الدَّين بالدَّين له صور، منها:
1 -
بيع الحيوان بالحيوان نسيئة من الطرفين، وتقدم ذلك.
2 -
بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه، مثال ذلك: أن يكون عند زيد لعمرو مائة صاع من البر قرضًا أو ثمنًا لمبيع مؤجل، فيقول زيد
(1)
"العلل"(13/ 193).
(2)
"الإرواء"(5/ 122).
(3)
"الكامل"(6/ 333).
(4)
"ديوان الضعفاء والمتروكين" ص (402).
(5)
"التلخيص"(3/ 29).
(6)
ص (235).
لعمرو: أعطيك عن البر ألف ريال ولكنها مؤجلة، فهذا لا يجوز؛ لأن العوضين -وهما البر والريالات- مما يجري فيه ربا النسيئة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"، وعلى هذا فلا بد من التقابض، فإذا كان أحد العوضين لا يجري فيه الربا، فقولان، مثال ذلك: أن يبيع عاصم على خالد ثلاجة بألف ريال إلى سنة، فلما حَلَّ الأجل أعطاه خالد مقابل الألف عشرة أثواب إلى سنة، فالأكثرون على أنها لا تصح؛ لعموم الحديث وما ذكر من الإجماع، وقال بجوازها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وآخرون. وقد نقل ابن القيم عن شيخه أنه نفى الإجماع في مسألة بيع الدَّين بالدَّين
(1)
.
فمن أجاز ذلك قال: إن هذه المعاملة لا تدخل في معنى الحديث، فإن الكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض -كما تقدم- وهنا ليس فيه بيع كالئ بكالئ، وإنما كانت ذمة المشتري مشغولة بشيء وهو الألف، فانتقلت إلى شاغل آخر وهي الأثواب، وهذا مثل ما لو كان لكل منهما عند الآخر وديعة فاشتراها بوديعته عند الآخر، والمقصود أنه نُهي عن بيع الدين بالدين؛ لئلا تبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت، وأما في هذه المسألة فقد حصل بهذا العقد براءة كل منهما
(2)
.
وهذا قول وجيه، لكن بشرط ألا يربح في هذه المعاملة، لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه، إضافة إلى ما تقدم وهو ألا يكون العوضان مما يجري فيهما ربا النسيئة، فإن تحقق هذان الشرطان جاز وإلا فلا.
ولعل الحكمة -والله أعلم- من النهي عن بيع الدين بالدين ما فيه من المضار الكثيرة، فإنه إذا باع دينًا بدين حصل بهذا التسامح والتساهل، فتكثر الديون في الذمم، وتعظم المشقة، ويعظم الحرج، فمن رحمة الله أن جاءت الشريعة بالنهي عن ذلك حتى لا يتساهل المعدمون بهذه البيوع التي تضرهم
(1)
"تفسير آيات أشكلت"(2/ 637)، "إعلام الموقعين"(3/ 173).
(2)
"نظرية العقد" ص (235).
وتشغل ذممهم بلا حاجة بينة، مع ما يصاحب ذلك من كثرة الخصومات، وانتشار العداوة والبغضاء.
فإن باع الدين بعين؛ أي: بثمن حالٍّ جاز، كما لو كان لخالد على محمد عشرة آلاف مؤجلة، فلما حلَّ الأجل قال محمد: ليس عندي ريالات، عندي دنانير كويتية -مثلًا- صح البيع إذا تقابضا في مجلس العقد -كما تقدم- بشرط أن يكون ذلك بسعر يومه، لئلا يربح فيما لم يدخل تحت ضمانه، فيأخذ من الدنانير ما يقابل عشرة آلاف ريال بدون زيادة.
ودليل ذلك حديث ابن عمر المتقدم، وفيه:"لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء" وهذا على القول بأنه بيع، أما على القول بأنه من جنس الاستيفاء
(1)
-وهو الأظهر- فإن الأمر واضح، فإن المشتري لم يملك شيئًا، وإنما سقط من ذمته عشرة آلاف ريال مقابل الدنانير التي دفعها.
3 -
ومن صور بيع الدَّين بالدَّين: دَين السلم إذا لم يقبض في المجلس، كما لو أسلم حنطة في الذمة بدراهم في الذمة مؤجلة. وشرط صحة السلم قبض الثمن في مجلس العقد، وتسمى مسألة "بيع الدين بالدين ابتداءً"، ووجه النهي: أنه بيع دين بدين، والمقصود من العقود القبض، وهذا عقد لم يحصل به مقصود أصلًا بل هو التزام بلا فائدة
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتاوى"(29/ 512).
(2)
"نظرية العقد" ص (235)، "مجموع الفتاوى"(29/ 472).
باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار
هذا الباب اشتمل على ثلاث مسائل تتعلق بأحاديث الباب:
الأولى: في بيع ثمر العرايا، والمراد به: بيع الرطب بالتمر.
الثانية: في بيع الأصول والمراد بها: الأشياء الثابتة كالعقار، والأراضي، وبساتين النخل وغيرها، والبحث هنا فيما إذا حصل بيع النخل بعد تأبيره؛ أي: تلقيحه، فهل تدخل الثمرة في البيع أو لا تدخل؟
الثالثة: في بيع الثمار؛ أي: في حكمه قبل بدو الصلاح.
وهذه المسائل أفردت بباب مستقل؛ لأنه ورد فيها أحاديث خاصة بأحكامها، وإلا فهي داخلة ضمن أحاديث البيوع من جهة شروط البيع وموانعه، والتي ذكر شيء منها أول البيوع.
حكم العرايا
848/ 1 - عَنْ زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيلًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: رَخَّصَ في الْعَرِيَّةِ يَأَخُذُهَا أَهْلُ الْبَيتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأَكُلُونَهَا رُطَبًا.
849/ 2 - وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليهما من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجهما:
حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "تفسير العرايا"(2192)، ومسلم (1539) (64) من طريق عبيد الله: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم، مرفوعًا.
ورواية مسلم (1539)(61) جاءت من طريق يحيى بن سعيد، أخبرني نافع، أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث أن زيد بن ثابت حدثه
…
ولعل غرض الحافظ من إيراد رواية مسلم أنها بينت حكمة الترخيص في العرايا، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في باب "بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة"(2190)، ومسلم (1541) من طريق
داود بن الحصين، عن أبي سفيان
(1)
(مولى ابن أبي أحمد)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
قال البخاري (2382) ومسلم: (يشك داود، قال: خمسة أو دون خمسة).
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (رخص) تقدم أن الترخيص في الأصل: هو السهولة والتيسير، وعند الأصوليين: التسهيل والتيسير في أمر ملزم به، إما بفعله، أو بتركه.
قوله: (في العرايا) هذا على حذف مضاف دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي بعده؛ أي: في بيع ثمر العرايا.
والعرايا: جمع عرية، وهي النخلة التي يهب صاحبها ثمرها لأحد المحتاجين، وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجدب، تتطوع بذلك على من لا ثمر له، سميت بذلك لانفرادها عن أخواتها، يقال: عَرَى النخلة، بفتح العين والراء، يعروها، إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لشخص يأكل ثمرها على سبيل الهدية، وتبقى الرقبة للمالك.
والمراد هنا: بيع رطب في رؤوس نخله بتمر كيلًا، وهذا التعريف قال به الإمام الشافعي وأحمد
(2)
وغيرهما، وهذا التفسير هو الذي يتمشى مع الأدلة الواردة في هذا الباب، وفي تفسيرها أقوال أخرى.
قوله: (أن تباع) في تأويل مصدر مجرور بـ (في)؛ أي: في بيعها، والجار والمجرور بدل مما قبله.
قوله: (بخرصها) الخرص هو الحزر والتقدير، وهو مصدر الفعل خَرَصَ يخرص، بضم الراء وكسرها، يقال: باعه خرصًا: أي تقديرًا من غير وزن ولا كيل.
(1)
انظر: "فتح الباري"(4/ 386).
(2)
"الأم"(3/ 65 - 66)، "المغني"(6/ 123).
والمراد هنا: تقدير ما على النخيل من الرطب تمرًا، بأن يقول الخارص: هذا الرطب إذا صار تمرًا فهو يقارب خمسين صاعًا، أو مائة وخمسة عشر كيلو -مثلًا- فيدفع المشتري التمر بهذا المقدار، ويعطيه البائع النخلة التي عليها الرطب، ولا بد من التقابض في مجلس العقد، فالتمر على رأس النخلة بتخليته، وعوضه من التمر بكيله وقبضه.
قوله: (كيلًا) تمييز، والمعنى: أنه رخص في بيع الرطب على رؤوس النخل خرصًا بقدر كيله من التمر؛ لأن التمر مكيل.
قوله: (بخرصها تمرًا) أي: بقدر ما فيها إذا صار الرطب تمرًا، وهذا بيان لكيفية الخرص، وتمرًا: تمييز؛ أي: من التمر.
قوله: (يأكلونها رطبًا) منصوب على الحال، والرطب: -بضم الراء وفتحها-، ما فيه رطوبة من جميع الثمار، من نخل وغيره كالعنب والتين وغيرهما، وهو ضد اليابس الجاف.
والرطب هنا: ما أدرك ونضج قبل أن يتتمَّر.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بيع الثمر على النخل، وهو الرطب بتمر مثله، وهذا هو بيع المزابنة المنهي عنه بالاتفاق، وهو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر كيلًا، كما تقدم. وقد نقل النووي الاتفاق على تحريمه وأنه ربا
(1)
ومأخذ التحريم من قوله: (رخص).
* الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز بيع العرايا، وهو بيع رُطَبٍ بتمر يابس، وهذا مذهب الجمهور، وهو مستثنى من بيع المزابنة المنهي عنه، وقد ورد في حديث جابر رضي الله عنه:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب، ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا"
(2)
.
لأنه إذا باع الرطب على رؤوس النخل بتمر جاف فقد خفي التساوي من وجهين:
(1)
"شرح صحيح مسلم"(10/ 445).
(2)
أخرجه البخاري (2189)، ومسلم (1536).
1 -
كون البيع خرصًا.
2 -
كون أحدهما رطبًا والآخر جافًا، وقد تقدم أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
وإباحة بيع العرايا دليل على يسر الإسلام وسماحته، وتلبية رغبات الناس فيما أباح الله لهم، فإن الأثمان قد تكون قليلة بأيدي الناس، فيأتي وقت الرطب والتفكه به، وليس عند كل واحد نقود يشتري بها رطبًا، وقد يكون عنده شيء من تمر العام الماضي، فرخص الشرع للناس أن يشتروا بهذا التمر الجاف ما يتفكهون به من الرطب، مع مراعاة التساوي في المقدارين: التمر والرطب، وذلك بتقدير الرطب تمرًا بالكيل أو الوزن
(1)
.
* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن هذه الرخصة لمن احتاج إلى أكل الرطب؛ لقوله في رواية مسلم: "يأكلونها رطبًا"، وعلى هذا فلا بد أن تؤكل العرية رطبًا، فإن لم يأخذها المشتري رطبًا تبينَّا عدم الحاجة، فيبطل العقد؛ لأن شراءها على هذه الصفة إنما جاء للحاجة إلى أكل الرطب، وقال الشافعي: لا يبطل؛ لأن العبرة بحال الشراء
(2)
.
* الوجه السادس: حديث زيد رضي الله عنه مطلق لم يحدد مقدارًا معينًا في بيع العرايا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه جاء التقييد بجواز العرايا فيما دون خمسة أوسق، وهذا لا خلاف فيه
(3)
؛ لأن الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة، فيجب حمل المطلق على المقيد.
والوسق: ستون صاعًا، فيكون الجواز بما دون ثلاثمائة صاع، وبالتقدير العصري (675) كيلو بناء على أن الصاع كيلوان وربع -كما تقدم تحريره في الزكاة- وما زاد على الخمسة فهو على الأصل، وهو التحريم، بلا خلاف
(4)
، وأما الخمسة ففيها قولان:
(1)
انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 328).
(2)
"المغني"(6/ 128).
(3)
"المغني"(6/ 161).
(4)
"تيسير العلام"(2/ 270).
الأول: أنها على الأصل وهو التحريم، وهو قول أحمد وابن المنذر، وقول للشافعي، فيؤخذ باليقين وهو ما دون الخمسة، ويترك المشكوك فيه، كما تقدم في رواية داود بن الحصين.
الثاني: جواز العرايا في خمسة أوسق، وهذا قول مالك، والشافعي في أحد قوليه، ورواية عن الإمام أحمد
(1)
، عملًا برواية الشك، ونظرًا إلى عموم الرخصة، فلا يضر الشك بالزيادة القليلة.
فإن قيل: يلزم أن تجيزوا ما زاد على الخمسة إذا كان يسيرًا، فالجواب: أن الخمسة ورد بها النص، أما ما زاد عليها فلم يرد به النص أصلًا، وعليه فلا يجوز ما زاد على الخمسة، كما تقدم.
* الوجه السابع: ظاهر الحديث أن العرايا خاصة بالتمر، فيقصر الجواز على النخل فقط دون غيرها من الثمار؛ لأن غير العرايا لا يساويها في كثرة الاقتيات وسهولة الخرص، وهذا قول الجمهور.
ويرى جمع من أهل العلم، منهم مالك في رواية عنه، والأوزاعي، ونسبه ابن قدامة إلى القاضي أبي يعلى
(2)
يرون التعميم في جميع الثمار، فإذا كان الإنسان عنده زبيب جاز أن يشتري به عنبًا يتفكه به؛ لأن الرطب فاكهة أهل المدينة، ولكل بلد فاكهة، والحكمة موجودة فيها، والرخصة عامة، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، قال صاحب "الإنصاف":(وهو الصواب عند من يعتاده)
(4)
.
والقول الثالث: أنه يجوز في العنب وحده، وهو قول الشافعي، ومالك في رواية عنه، لوجود التشابه بين الرطب والعنب
(5)
، واختاره النووي
(6)
.
(1)
"شرح النووي على صحيح مسلم"(10/ 446)، "المنتقى على الموطأ"(4/ 230)، "الإنصاف"(5/ 30).
(2)
"المغني"(6/ 129).
(3)
"الإنصاف"(5/ 33).
(4)
(5/ 32).
(5)
"المغني"(6/ 128).
(6)
"شرح صحيح مسلم"(10/ 447).
والأقرب القول بالجواز، لما تقدم، وهذا خاص بما يجري فيه الربا، أما ما لا يجري فيه الربا فلا بأس ببيع رطبه بيابسه.
* الوجه الثامن: اختلف العلماء في بيع الرطب على وجه الأرض بتمر كيلًا على قولين:
الأول: أن البيع صحيح، ونسبه النووي إلى الجمهور
(1)
، إلحاقًا له بما على رؤوس النخل، ولأن العلة هي الحصول على الرطب، فلا فرق بين أن يكون على الأرض أو على رؤوس النخل.
الثاني: المنع، واختاره ابن دقيق العيد
(2)
؛ لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب، ولأن المقصود الأكل على التدريج، وهذا لا يمكن فيما على وجه الأرض.
والظاهر قول الجمهور؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى شراء الرطب المقطوف حالًا، وإلحاق الرطب المقطوف بما على رؤوس النخل ليس بطريق القياس، وإنما بدخوله تحت عموم اللفظ.
* الوجه التاسع: الحديث دليل على أن غلبة الظن تقوم مقام اليقين إذا تعذر اليقين أو تعسر، فإذا تعذر معرفة قدر ما على رأس النخلة من التمر بالمعيار الشرعي، وهو الكيل أو الوزن، فإنه يكتفى بالخرص.
والعمل بالخرص ثابت، وليس هو ظنًّا وتخمينًا، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار من العارفين الثقات، وتقدم ذلك في "الزكاة".
* الوجه العاشر: لما كانت العرايا على خلاف الأصل، اشترط العلماء فيها شروطًا، بعضها مأخوذ من أحاديثها، وبعضها من عموم أحاديث الربا، وهذه الشروط:
1 -
حاجة المشتري إلى أكل الرطب.
(1)
المصدر السابق (10/ 446).
(2)
"شرح العمدة"(4/ 739).
2 -
ألا يكون عنده نقود يشتري بها رطبًا، وإنما عنده تمر جاف؛ لأن العرية أبيحت للحاجة، ولا حاجة مع وجود النقود.
3 -
أن يكون أقل من خمسة أوسق.
4 -
التقابض قبل التفرق، فالتمر بكيله، والنخلة بتخليتها؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبرت فيه شروطه، ومنها التقابض.
5 -
تقدير التمر بالكيل أو الوزن، أما بيع الرطب بالتمر جزافًا فلا يجوز لما يترتب عليه من كثرة الغرر، والأصل وجوب الكيل من الطرفين، ولكن ترك في أحدهما لتعذره، فيبقى في الآخر على الأصل.
* الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على القاعدة الشرعية: "ما حُرِّم تحريم الوسائل فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة"، وذلك أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز -كما تقدم- لئلا يكون وسيلة إلى ربا الفضل، وهو بيع التمر بالتمر، لكن أبيح ذلك للمصلحة الراجحة، وقد مضى بيانها، يقول ابن القيم:(قاعدة باب سدِّ الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة قدمت عليه)
(1)
.
ومن فروع هذه القاعدة: إباحة الصلوات ذوات الأسباب بعد الفجر والعصر مع أن الوقت وقت نهي، وإباحة النظر للخاطب والشاهد والطبيب من جملة النظر المحرم، وغير ذلك، والله أعلم.
(1)
"زاد المعاد"(5/ 148)، وانظر:"إعلام الموقعين"(2/ 140).
النهي عن بيع الثمار قبل ظهور صلاحها
850/ 3 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بيعِ الثِّمَارِ حَتى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفي رِوَايَةٍ: وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاحِهَا. قَال: حَتى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ.
851/ 4 - وَعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الثِّمَارِ حَتى تُزْهِيَ. قِيلَ: وَمَا زَهْوُهَا؟ قال: "تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
852/ 5 - وَعَنْ أَنَسِ بِنْ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
* الكلام عليها من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري في "البيوع"، باب "بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها"(2194)، ومسلم (1534) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا.
والرواية المذكورة هي للبخاري في كتاب "الزكاة"(1486)، ومسلم (1535)(52) والمسؤول هو ابن عمر رضي الله عنهما، بيّنه مسلم في روايته من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة ولفظه:(فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته).
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "الزكاة"، باب "من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه وقد وجب فيه العشر
…
" (1488)، ومسلم (1555) من طريق حميد، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، وتمامه: "أرأيتك إن منع الله الثمرة؟ بم تستحل مال أخيك؟ "
(1)
.
وفي سياق الحافظ للحديث وتخصيصه بالبخاري نظر، فإن الحديث عند البخاري في عدة مواضع، ليس منها هذا اللفظ.
وأما حديث أنس رضي الله عنه الثاني فقد أخرجه أبو داود في "البيوع"، بابٌ "في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها"(3371)، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217)، وأحمد (21/ 37)، وابن حبان (11/ 369)، والحاكم (2/ 19) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين، غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (حتى يبدو صلاحها) مضارع منصوب بـ (حتى)، وهو بفتح الواو، غير مهموز يقال: بدا يبدو، من غير همز، بمعنى: ظهر، وبدأ يبدأ -بالهمزة-: شرع في الشيء.
وبدو الصلاح جاء تفسيره في الرواية المذكورة، وفي حديث أنس الذي بعده، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
قوله: (نهى البائع والمبتاع) المبتاع: هو المشتري، وهذه الجملة تأكيد للمنع، وفيها إيذان بأن المنع وإن كان احتياطًا لحق الإنسان، فليس له أن يتركه مع ارتكاب النهي.
قوله: (حتى تذهب عاهته) أي: عاهة الثمر، وفي رواية الكُشْمِيهني:(عاهتها)، والعاهة: هي الآفة التي تصيب الثمر أو الزرع فتفسده أو تعيبه.
(1)
هذا التمام أُعِلَّ بالإدراج، وهو أنه من كلام أنس رضي الله عنه. انظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1129)، "الفصل" للخطيب (1/ 120 - 129).
قوله: (حتى تُزهي) بضم التاء من أزهى الرباعي، كأعطى يعطي؛ أي: تحمرَّ وتصفرَّ، والزهو: البسر الملوَّن، وأما زها يزهو فمعناه: ظهرت الثمرة، والظاهر أنهما بمعنى واحد لورود الروايات بهذا وهذا.
وقد ضُبطت اللفظة في بعض كتب الحديث، وبعض نسخ "البلوغ":(تُزهَى) بضم التاء وفتح الهاء على وزن المضارع المبني للمجهول، والظاهر أنه غير صحيح، وقد رأيت ضبطها:(تُزهِيَ) بكسر الهاء في عدة طبعات من "صحيح البخاري" ومنها طبعة الناصر (2/ 127)، وهي على قاعدة الفعل الرباعي: كأعطى يعطي، وهذا هو الأظهر حتى يثبت ما يدل على أنه من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول، ولم أقف على ما يدل أنه من الأفعال المبنية للمجهول، وقد ضبطه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بكسر الهاء.
قوله: (قيل: وما زهوها؟) لم يبين في هذه الروايات من السائل ومن المسؤول، لكن جاء في رواية أخرى في "الصحيحين" من طريق إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس وفيه: فقلنا لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمرّ وتصفرّ.
وجاء في رواية عند النسائي: قيل: يا رسول الله، وما تزهي؟ قال:"حتى تحمرّ"
(1)
. فأفاد ذلك أن التفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (تحمارَّ وتصفارَّ) بفتح التاء فيهما وسكون ثانيهما، آخرهما راء مشددة، من باب الافعيلال من الثلاثي الذي زيدت فيه الألف والتضعيف؛ لأن أصلهما: حمر وصفر، ومعنى ذلك أن يتغير لون الثمرة إلى الصفرة أو الحمرة، وهو لون غير خالص، وإنما فيه كمودة
(2)
، والكمودة تغير اللون وذهاب صفائه، وهذا عند ظهور أوائل الحمرة وأوائل الصفرة، وقد فرق بعض العلماء كالخطابي بين: تحمارَّ وتصفارّ، وتحمر وتصفر، وأن الأول كما تقدم، والثاني يطلق على اللون الخالص، والظاهر أنه لا فرق بينهما، كما قال بعض أهل اللغة؛ لأن الأحاديث وردت بهذا وهذا، كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه لما سئل عن الثمرة: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر.
(1)
"السنن"(7/ 264).
(2)
"أعلام الحديث" للخطابي (2/ 1081).
قوله: (حتى يسودَّ) بتشديد الدال المفتوحة؛ أي: يبدو صلاحه إذا اسودَّ بعد أن كان أخضر، وهذا في العنب المتلون، وأما غير المتلون، وهو العنب الأبيض، فبأن يتموه، ويتلين، ويؤكل غالبًا.
قوله: (حتى يشتد) بتشديد الدال المفتوحة -أيضًا-، واشتداد الحب: قوته وصلابته.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيع الثمار والحبوب حتى يبدو صلاحها، وذلك بأن تظهر الحمرة أو الصفرة في ثمر النخل، ويسوَدَّ العنب، ويشتد الحب، ونحو ذلك، والضابط لبدو الصلاح هو ما يستفاد من مجموع الأحاديث، وهو أن يجتمع في الثمرة وصفان:
1 -
صيرورة الثمرة إلى الصفة التي تطلب فيها عادة للأكل، ففي المتلون بانقلاب اللون، وفي غيره بأن يتموه ويتلين، وفي نحو القثاء والباذنجان بأن يكبر ويجنى مثله غالبًا للأكل، وفي الحبوب باشتدادها.
2 -
أن تؤمن العاهة على الثمار غالبًا، وهذا الوصف يستدل عليه بزهو بعض الثمرة، وبمعرفة أهل الخبرة بالثمار أن حصول الأمن من العاهة ببدو الصلاح.
وهذا النهي عند الجمهور يقتضي الفساد، فيكون بيعها غير صحيح.
وقد تعددت الروايات والألفاظ في هذا الباب، وكلها بمعنى واحد، تدل على منع بيعها حتى يبدو صلاحها وتَقِلُّ العاهة ويقل الخطر؛ لأن العاهة تؤمن غالبًا بعد بدو الصلاح، وقبله تسرع إليه لضعفه، ويستثنى من النهي عن بيعها قبل بدو صلاحها لو باعها بشرط القطع في الحال، فهذا يجوز بالإجماع، بشرط أن تكون الثمرة منتفعًا بها للعلف مثلًا، وكذا لو باعها مع أصلها، فهذا لا خلاف في جوازه.
ومفهوم الحديث جواز بيعها إذا بدا صلاحها مطلقًا بشرط القطع، أو بشرط الإبقاء، فإذا بيعت مطلقًا أو بشرط الإبقاء لزم البائع تبقيتها إلى وقت الجذاذ؛ لأن هذا هو العادة فيها.
* الوجه الرابع: الحكمة من النهي عن بيعها:
1 -
أنها قبل بدو صلاحها لا منفعة فيها للمشتري، فيكون المشتري بذل ماله فيما لا نفع فيه، ويكون البائع أكل مال أخيه بالباطل، ويكون المشتري وافق البائع على أمر محرم وأضاع ماله، وقد نهينا عن ذلك.
2 -
أنها قبل بدو صلاحها معرّضة لكثير من الآفات التي تنقص مقدارها، أو تقلل من جودتها، أو تتلفها، وهذا نوع من الغرر، وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي:"بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".
3 -
قطع أسباب التنازع والتخاصم بين المتعاقدين، وإزالة أسباب العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأن بيعها قبل صلاحها وسيلة لذلك.
* الوجه الخامس: لا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز بيع جنس من الثمار إذا بدا الصلاح في جنس آخر، فإذا بدا الصلاح في النخيل لم يجز بيع العنب؛ لأنه جنس آخر، كما أنه لا خلاف بين العلماء أن الشجرة الواحدة إذا بدا صلاحها جاز بيعها.
وإنما الخلاف في جواز بيع النوع الواحد والجنس الواحد إذا بدا الصلاح في بعض أشجاره.
وأظهر الأقوال في هذه المسألة أنه إذا بدا الصلاح في شجرة جاز بيع سائر أنواعها في البستان دون الأنواع الأخرى، فإذا بدا الصلاح في شجر العنب جاز بيعه كله، وإذا بدا الصلاح في التين جاز بيعه كذلك، وإذا بدا في النخل السكري أو النخلة الشقراء جاز بيعه، لكن لو بدأ في السكري لم يجز بيع غيره مما لم يبد صلاحه، وهذا قول عند الشافعية، وأظهر الروايتين عن أحمد
(1)
.
لأن اعتبار بدو الصلاح في جميع الأشجار يشق، ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي في النوع الواحد، وهذا فيه ما فيه، فوجب أن يتبع ما لم يبد
(1)
"المغني"(6/ 156)، "تكملة المجموع"(11/ 360 - 362).
صلاحه من نوعه ما بدا صلاحه، وقياسًا أيضًا على الشجرة الواحدة كما تقدم، ولأنه عرف بواسطة أهل الخبرة من الفلاحين أن الصلاح في النوع الواحد يتقارب زمنه عادة، ما لم تقع ظروف طارئة من عطش، أو شدة حر ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنه لا بد أن يبدو الصلاح في كل شجرة من شجر الثمرة المبيعة، وهذا قول في مذهب الحنابلة، لدخول ما لم يبد صلاحه تحت عموم النهي
(1)
.
والقول الثالث: إذا بدا الصلاح في الشجرة جاز بيع سائر أنواعها من الجنس الواحد، فإذا بدا الصلاح في السكري -مثلًا- جاز بيع جميع النخيل في البستان مهما تعددت أنواعه، وهذا هو المشهور في مذهب الشافعية، وقول عند الحنابلة، ومذهب المالكية؛ لأن أنواع الجنس الواحد يتلاحق طيبها عادة، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(6/ 156).
الأمر بوضع الجوائح
853/ 6 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخيكَ ثَمَرًا فأصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأَخُذَ مِنْهُ شَيئًا، بِمَ تَأَخُذُ مَال أَخِيكَ بِغَيرِ حَقٍّ؟ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "وضع الجوائج"(1554)(14) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
…
وذكر الحديث.
والرواية المذكورة عند مسلم (1554)(17) من طريق سفيان بن عيينة، عن حميد الأعرج، عن سليمان بن عتيق، عن جابر رضي الله عنه، به.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (جائحة) هي اسم فاعل من جاح الشيء: استأصله، قال أبو عبيد:(الجائحة: المصيبة تحُلُّ بالرجل في ماله، فتجتاحه كله)
(1)
. وعند الفقهاء: كل آفة لا صنع للآدمي فيها، فيدخل في ذلك المطر الشديد، والحر والبرد، والريح، والجراد، والغبار المفسد، ونحو ذلك من الآفات السماوية، ولا خلاف عند القائلين بوضع الجوائح في اعتبار الآفات السماوية جوائح.
(1)
"غريب الحديث"(3/ 431).
أما ما كان بفعل الآدمي فيطالب به الجاني، إلا أن العلماء اختلفوا في اعتبار الجيش الذي ينهب الثمار جائحة أم لا؟ والراجح اعتبار ذلك جائحة، وهو قول أكثر المالكية وأحد الوجهين عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
؛ لأن الجيوش هم خلق الله يسلطهم على من يشاء، كالجراد وسائر الآفات، ولأن العبرة بإمكان الضمان وعدمه، والجيوش في العادة يستحيل تضمينها.
وأما السرقة فلا تعتبر جائحة على الراجح من قولي أهل العلم
(2)
.
قوله: (بم تأخذ مال أخيك) هذا استفهام إنكاري، لقوله:"فلا يحل لك" وذلك لأنه إذا تلفت الثمرة لا يبقى للمشتري شيء في مقابل ما دفعه، وحذفت ألف (ما) الاستفهامية لدخول حرف الجر عليها، كقوله:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، وعلة الحذف كثرة الاستعمال، وما كثر استعماله التُمِسَ تخفيفه.
قوله: (أمر بوضع الجوائح) مادة (وضع) تدل على الخفض للشيء وحَطِّه، والمراد هنا حَطُّ البائع بعض الثمن عن المشتري إذا تلف بعض الثمرة بما لا يستطاع دفعه، أو حطه كله إذا تلفت كلها به.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على وضع الجائحة، بمعنى: أن الثمار المبيعة إذا تلفت بجائحة، كمطر أو بَرْد أو بَرَدٍ، فهي من مال البائع، لا من مال المشتري، وهذا قول المالكية والحنابلة، وهو قول الشافعي في القديم، وجماعة من السلف
(3)
، ووجه الاستدلال بحديث الباب من ثلاثة أوجه:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى حِلَّ أَخْذِ شيءٍ من مشتري الثمرة إذا أصابتها جائحة.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد حرمة أخذ مال المشتري بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.
(1)
"شرح الخرشي"(5/ 193)، "الشرح الكبير"(12/ 197)، "الفتاوى"(30/ 278).
(2)
"الجوائح وأحكامها" ص (35).
(3)
انظر: "بداية المجتهد"(3/ 357)، "المغني"(6/ 177)، "مغني المحتاج"(2/ 91 - 92).
3 -
أنه أمر أمرًا صريحًا بوضع الجوائح، والأمر يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على صرفه عن الوجوب، ولم يوجد شيء من ذلك.
ولا فرق عند القائلين بوضع الجوائح بين قليل الجائحة وكثيرها؛ لأن الأحاديث في وضع الجائحة عامة، فلا يجوز تقييدها بمجرد الرأي، إلا ما جرت العادة بتلف مثله، كالشيء اليسير الذي لا ينضبط كشجرة أو شجرتين -مثلًا- لأن مثل هذا لا يسمى جائحة لا لغة ولا شرعًا، أما ما ينضبط كالثلث أو الربع -مثلًا- فيوضع؛ لأنه يصدق عليه أنه جائحة في اصطلاح الفقهاء، وإن أشكل في هذا شيء يرجع إلى العرف.
لكن لو تأخر المشتري في جذاذ النخل -مثلًا- عن وقته المعتاد فأصابته جائحة بمطر -مثلًا- فهو من ضمانه، لا من ضمان البائع؛ لتفريطه بترك نقل الثمرة في وقت نقلها مع قدرته، وهذا قول القاضي
(1)
.
والقول الثاني: أنه لا توضع الجوائح، فالثمار المبيعة إذا تلفت تكون من ضمان المشتري، لا من ضمان البائع، لكن يستحب للبائع أن يضع عن المشتري، وهذا قول الحنفية، والشافعي في الجديد، وابن حزم، وبعض السلف
(2)
، واستدلوا بحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تُزْهِيَ، فقيل له: وما تزهي؟ قال: "حتى تحمرّ"، فقال:"أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " وتقدم.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لحفظ مال المسلم من التلف، ولو كان الأمر بوضع الجوائح للوجوب لما كان لهذا النهي معنى، فدل ذلك على عدم وجوب وضع الجوائح.
كما استدلوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دَينه، فأفلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
"المغني"(6/ 180)، "مجموع الفتاوى"(30/ 281).
(2)
انظر: "بدائع الصنائع"(5/ 247)، "مغني المحتاج"(2/ 91، 92)، "المحلى"(8/ 389).
"تصدقوا عليه
…
" الحديث
(1)
، وسيأتي -إن شاء الله- في باب "الحجر".
ووجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج الرجل من جميع ماله لأجل غرمائه، ولم يسقط عنه شيئًا لأجل الجائحة، فدل على عدم وجوب وضع الجوائح.
وأجابوا عن حديث الباب، وهو حديث جابر رضي الله عنه، بعدة أجوبة، ومنها: أن الأمر فيه محمول على الندب، بدليل حديث أنس رضي الله عنه كما تقدم، ومنها: أنه محمول على ما لم يقبض، أو لم يبدُ صلاحه، وغير ذلك من الأجوبة، وكلها غير ناهضة لا تناسب ظاهر الحديث
(2)
.
وعلى هذا فالراجح هو القول الأول، لقوة دليله وصراحته في هذه المسألة.
أما حديث أنس رضي الله عنه، فليس فيه دليل على عدم وضع الجوائح، وإنما هو دليل على النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ووضع الجوائح إنما هو بعد بدو الصلاح لا قبله، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة .. "، والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح، لا البيع المنهي عنه.
وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فهو حديث مجمل إذ ليس فيه أن الرجل أصيب بجائحة، وليس فيه أنه طلب وضع الجائحة، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم منع وضع الجائحة، فالحديث يطرقه احتمالات عديدة، فلعل هذا الرجل أصيب في هذه الثمار بانحطاط سعرها، أو لعلها جائحة خاصة كسرقة، وعلى أي حال فالاستدلال بهذا الحديث من باب رد المحكم والأخذ بالمتشابه، والله تعالى أعلم
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (1556).
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(30/ 273، 274).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(30/ 273)، "إعلام الموقعين"(2/ 339).
حكم ثمر النخل إذا بيع بعد التأبير
854/ 7 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَها، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "من باع نخلًا قد أُبِّرَتْ"(2204)، ومسلم (1543)(80) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من ابتاع نخلًا) أي: اشترى، والمراد: أصل النخل.
قوله: (بعد أن تؤبَّر) بضم التاء، وفتح الواو المهموزة، وتشديد الباء، مضارع أبَّر النخلة تأبيرًا، وأبَرَ النخل يأبُره -بالضم والكسر- أبْرًا وإبارًا وإبارة: إذا أصلحه، والتأبير: التلقيح، وذلك بأن يشق طلع النخلة ليوضع فيها شيء من طلع الفحل، وهو ذكر النخل.
قوله: (إلا أن يشترط المبتاع) المبتاع هو المشتري، بقرينة ذكر البائع؛ أي: إلا أن يشترط المشتري أن الثمرة له، ويوافق البائع على ذلك، ومفعول يشترط محذوف للتعميم؛ أي: إلا أن يشترط الثمرة أو بعضها.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من باع نخلًا قد أُبِّر فإن ثمرته تكون لبائعه، ولا تدخل في البيع، ومفهومه أن الثمرة التي لم تؤبر تدخل في
البيع وتكون للمشتري، وهذا من باب التخصيص بالصفة، وهذا قول الجمهور، ومنهم: الليث بن سعد، ومالك، والشافعي، وأحمد
(1)
.
والقول الثاني: أن الثمرة تكون للبائع مطلقًا قبل التأبير وبعده، وهذا مذهب الحنفية
(2)
، وليس لهم دليل إلا العمل بمنطوق الحديث، وإلغاء مفهوم الصفة على قاعدتهم.
والراجح هو القول الأول؛ لقوة دليله وصراحته في الدلالة على المراد، فإن الحديث برواياته قيد ملكية البائع للثمرة بالتأبير، مما يدل على أن ما لم يؤبر يخالفه في الحكم، وإلا لما كان للصفة المنصوص عليها فائدة.
والتأبير الذي جاء في السنة هو تأبير النخل، وأما غيره فهو مقيس عليه.
* الوجه الرابع: اختلف القائلون بحديث الباب في الصفة المعتد بها في التأبير، فمنهم من قال: إن الصفة المعتد بها هي فعل التأبير لا مجرد التشقق، وهذا قول عند المالكية، ورواية عن أحمد، نصرها شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
، مستدلين بقوله:(قد أبرت) والتأبير: هو التلقيح، ولا يكون إلا بفعل آدمي.
ومنهم من قال: إن الصفة المعتد بها هي تشقق الطلع ووقت الإبار وإن لم يلقح، وهذا قول عند المالكية، وقول الشافعي، والمشهور عند الحنابلة
(4)
، وحجتهم: أن العبرة بظهور الثمرة، فلا فرق بين أن تظهر بعلاج أو بغير علاج، وهي تتشقق وتكسب اللقاح بالرياح اللواقح.
والراجح هو الأول، وهو أنه لا بد من التلقيح، لأمرين:
1 -
أن هذا وصف نص عليه الحديث، فهو معتبر، ولا يجوز إلغاؤه.
2 -
أن التأبير فيه كلفة ومشقة إن قام به الفلاح بنفسه، وفيه نفقة إن
(1)
"المنتقى" للباجي (3/ 215)، "روضة الطالبين"(3/ 548)، "المغني"(6/ 133).
(2)
"بدائع الصنائع"(5/ 164).
(3)
"بداية المجتهد"(3/ 365)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(12/ 156)، "الإنصاف"(5/ 60).
(4)
المصادر السابقة، "تكملة المجموع"(11/ 239).
استأجر من يؤبر؛ لأن التأبير يحتاج إلى صعود النخلة، ويحتاج إلى إزالة الأشواك ليتمكن من تأبيرها، وهذا ليس بالأمر السهل، مما يؤدي إلى تعلق نفس البائع بهذه الثمرة.
* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن المشتري إذا اشترط الثمرة مع الأصل أن له ذلك، لقوله:"إلا أن يشترط المبتاع"، ولأن هذا استثناء تَبِعَ الأصل، سواء كانت الثمرة مؤبرة أم لا، كما أن البائع له أن يشترط الثمرة ولو قبل التأبير؛ لأن هذا استثناء لبعض ما وقع عليه العقد، وهو شيء معلوم فصحَّ، كما لو استثنى نخلة بعينها من المزرعة المبيعة، وهذا وإن كان فيه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، لكنه رخص فيه؛ لأنه تابع للأصل وليس مستقلًا، والقاعدة:"يصح تبعًا ما لا يصح استقلالًا".
* الوجه السادس: الراجح من قولي أهل العلم أن الثمرة إذا كانت للبائع بتأبيرها أو بكونه قد اشترطها على المشتري أن له إبقاءها على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ، وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن المرجع في النقل والتفريغ للمبيع إلى العرف والعادة، وقد جرت العادة أن تفريغ ما في النخل هو وقت الجذاذ؛ لأنه هو وقت الانتفاع بها، ويكون للبائع حق الاستطراق في الأرض المبيعة ما دامت ثمرته فيها
(1)
، ويستثنى من الإبقاء إلى الجذاذ ما جرت العادة بأخذه بسرًا أو ما بُسره خير من رطبه مثل البرحي، فإن كان كذلك فإنه يجدُّهُ حين استحكام حلاوة بسره، قاله الزركشي وغيره
(2)
.
وأما قول من قال: يجب على البائع قطعها في الحال، كما هو مذهب الحنفية فهو ضعيف؛ لأن إجبار البائع على قطعها ينافي المعنى الذي من أجله جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثمرة المؤبرة للبائع، وهو استفادته منها، فيكون حظه التعب والخسارة إذا أمر بقطعها
(3)
.
(1)
انظر: "المنتقى" للباجي (4/ 215)، "المغني"(6/ 155).
(2)
"الشرح الكبير مع الإنصاف"(12/ 158 - 160).
(3)
انظر: "الجوائح وأحكامها" ص (132).
* الوجه السابع: اختلف العلماء فيما إذا أبر بعض النخل وبعضه لم يؤبر فلمن تكون الثمرة، على قولين:
الأول: أن ما أُبر للبائع، وما لم يؤبر للمشتري، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، واستدلوا بهذا الحديث، فإن منطوقه أن ما أبر للبائع، ومفهومه أن ما لم يؤبر للمشتري، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
القول الثاني: أن الكل للبائع، وهذا قول الشافعي دفعًا للضرر؛ لأنه إذا لم يجعل الكل للبائع أدى إلى الإضرار باشتراك الأيدي في البستان، وقياسًا على ثمرة النخلة الواحدة، فإنه لا خلاف أن تأبير بعض النخلة يجعل جميعها للبائع
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"الشرح الكبير مع الإنصاف"(12/ 159).
أبواب السَّلَم والقرض والرهن
السَّلَم: بفتح السين واللام، هو السَّلَف وزنًا ومعنى، وهو في اللغة: الدفع والإعطاء والتسليم، فالسلم والسلف بمعنى واحد، إلا أن السلف أعم من السلم؛ لأن السلف قد يستعمل في القرض، فكلُّ سلمٍ سَلَفٌ، وليس كلُّ سلفٍ سلمًا.
والسلم شرعًا: عقد على موصوف في الذمة؛ أي: إنه عقد على شيء يمكن ضبطه بالوصف، وهو متعلق بالذمة لا بعين معينة. فقولنا:(على موصوف) يخرج العقد على معين، مثل: بعتك هذه السيارة. وقولنا: (في الذمة) يخرج الموصوف المعين، مثل: بعتك سيارتي التي صفتها كذا.
مثال السلم: كأن يقول زيد لعمرو: أسلفتك ألف ريال بمائة كيلو تمر سكري صفته كذا بعد أربعة أشهر -مثلًا-.
والقرض لغة: مصدر قَرَضَ الشيء يَقْرِضُهُ: إذا قطعه.
وشرعًا: دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به ويرد بدله.
والرهن: مصدر رهن يرهن رهنًا، ومعناه في اللغة: الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن؛ أي: راكد، ويطلق على الحبس، ومنه قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38].
وشرعًا: توثقة دَين أو عين مضمونة بعين أو دين أو منفعة.
فمثال دين بعين: كأن يقترض منه ألف ريال ويعطيه ساعة رهنًا.
ومثال دين بدين: كأن يقترض منه ألف ريال ويرهنه ألف ريال في ذمة زيد.
ومثال توثقة دين بمنفعة: كأن يقترض منه ألف ريال ويرهنه منفعة بيت أو سيارة.
ومثال توثقة عين بعين: كأن يستعير منه كتابًا ويعطيه ساعته رهنًا.
ومثال توثقة عين بدين: أن يقول لصاحب الكتاب: خذ ألف ريال لي عند زيد رهنًا.
فالرهن وثيقة يأخذها من له دين على إنسان يستوفي منها إذا تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، ويقال له: المرهون.
مشروعية السلم وبيان شروطه
855/ 1 - عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمَارِ السّنَةَ وَالسَّنَتَينِ، فَقَال:"مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وللبخاري: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيء".
856/ 2 - وَعَنْ عَبْدِ الرّحْمنِ بْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنهما، قَالا: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّام، فَنُسْلِفُهُمْ في الحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ -وَفي رِوَايَةٍ: وَالزَّيتِ- إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، قِيلَ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالا: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
* الكلام عليهما من وجوه:
* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو عبد الرحمن بن أبزى -بفتح الهمزة وسكون الزاي- الخزاعي رضي الله عنه، مولى نافع بن الحارث، وأحد صغار الصحابة، قال البخاري وجماعة:(له صحبة)، وقال الذهبي:(له صحبة، ورواية، وفقه، وعلم)، وقال أبو حاتم:(أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه). وكان نافع قد استنابه حين لقي عمر رضي الله عنه بعسفان، وكان عمر يستعمل نافع بن الحارث على مكة، فقال له: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ
لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع آخرين"
(1)
.
سكن الكوفة، وذكر ابن الأثير أن عليًّا رضي الله عنه استعمله على خراسان. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه، وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبد الله وسعيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي وغيرهم، وأما أبوه أبزى رضي الله عنه فإن له صحبة على القول الراجح
(2)
.
وأما عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه فقد سبقت ترجمته في أول "صفة الصلاة".
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البخاري في مواضع من كتاب "السلم"، ومنها: باب "السلم في كيل معلوم"(2239)، ومسلم (1604) من طريق عبد الله بن كثير، عن ابن المنهال، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهذا لفظ مسلم، وللبخاري من الطريق المذكور:"من أسلف في شيء" ولعل الحافظ ذكرها لأنها أعم مما قبلها، وهي قوله:"في تمر".
وأما حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب "السلم"، باب "السلم إلى أجل معلوم"(2254، 2255) من طريق سفيان، عن سليمان الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، قال: أرسلني أبو بردة وعبد الرحمن بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا:
…
وذكر الحديث، وفيه: والشعير والزيت ..
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة) أي: قدمها مهاجرًا، والمدينة عَلَم بالغلبة على المدينة النبوية.
(1)
أخرجه مسلم (817).
(2)
"الاستيعاب"(6/ 25)، "أسد الغابة"(3/ 422)، "السير"(3/ 201)، "الإصابة"(6/ 258)، "فتح الباري"(4/ 43).
قوله: (وهم يسلفون) جملة حالية لبيان أن السلف كان موجودًا في المدينة قديمًا.
قوله: (السنة والسنتين) منصوبان على نزع الخافض؛ أي: إلى السنة والسنتين، وليس نصبهما على الظرفية؛ لأن الظرف يتضمن معنى (في)، ولفظ (السنة) -هنا- لم يتضمن معنى (في).
قوله: (من أسلف في تمر) روي بالمثناة (تمر)، قال النووي: هكذا هو في أكثر الأصول، وروي بالمثلثة (ثمر) وهي أعم من الأولى، وقد ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري ومسلم بلفظ: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار
…
"
(1)
.
قوله: (في كيل معلوم) أي: إذا كان مما يكال كالقمح وسائر الحبوب وغيرها.
قوله: (ووزن معلوم) الواو بمعنى (أو) والمراد اعتبار الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، كالسمن، والقطن، أو التمر، كما قال الأثرم:(الناس ها هنا لا يعرفون الكيل في التمر)
(2)
.
قوله: (في شيء) هذه الرواية أعم مما قبلها؛ لأن الشيء يشمل الثمار وغيرها من كل شيء يمكن ضبط صفاته، فيدخل في ذلك ما تقدم من المكيل والموزون، وكذا الصناعات الحديثة التي يمكن ضبطها كالأواني المنزلية والأدوات المدرسية والملابس والفرش وغير ذلك مما يضبط ولا يختلف بواسطة المصانع.
قوله: (المغانم) جمع مغنم، وهي الأموال التي يأخذها المسلمون من الكفار قهرًا.
قوله: (أنباط) هم قوم من العرب دخلوا في العجم فاستعجموا فاختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، سموا بذلك لكثرة معرفتهم بإنباط الماء؛ أي: استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة.
(1)
البخاري (2253)، ومسلم (1604)(127).
(2)
"المغني"(6/ 400).
قوله: (وفي رواية: والزيت) أي: في رواية عند البخاري من طريق جرير، عن سليمان الشيباني أنه قال:"في الحنطة والشعير والزبيب"
(1)
. وكان الأولى أن يقول الحافظ في السياق: (
…
والزيت، وفي رواية: والزبيب)؛ لأن رواية الزيت هي الأصل، كما تقدم سياق إسنادها.
قوله: (قيل: أكان لهم زرع) لفظ البخاري: (قال: قلت: أكان لهم زرع) والقائل هو محمد بن أبي مجالد راوي الحديث عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز السلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل المدينة على هذه المعاملة، ولأنه نوع من البيوع؛ لأنه بيع إلى أجل، فهو داخل في عموم قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ} [البقرة: 275]. وقد دل القرآن على جواز السلم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] ووجه الدلالة من الآية: أن الآية أباحت الدين، والسلم نوع منه. قال ابن عباس رضي الله عنهما:(أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمَّى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية)
(2)
.
وقد أجمعت الأمة على جوازه، وهو على وفق القياس؛ لأن فيه مصلحة للبائع والمشتري، أما المشتري فلأنه ينتفع بشراء السلعة بأقل من ثمنها الحاضر؛ لأن المؤجل أرخص من الحال، وأما البائع فلأنه ينتفع بتعجيل الثمن، وليس فيه غرر، وليس هو من باب بيع ما ليس عندك المنهي عنه؛ لأن السلم لم يقع العقد فيه على شيء معين حتى نقول: إنه معدوم، وإنما وقع على شيء موصوف في الذمة لا بد من تسليمه إذا حلَّ الأجل، فالسلم متعلق بالذمم لا بالأعيان، كدار أو شجرة ونحوهما؛ لأن ذلك ربما يتلف قبل أوان
(1)
"صحيح البخاري"(2245).
(2)
أخرجه الشافعي (2/ 95)، والحاكم (2/ 286)، والبيهقي (6/ 18)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين)، وتعقبه الذهبي، وردَّ عليه الشيخ أحمد شاكر في تخريج أحاديث "تفسير الطبري"(6/ 45)، كما تعقب الحاكمَ الألبانيُّ بأن الحديث صحيح على شرط مسلم وحده، انظر:"الإرواء"(5/ 213).
التسليم، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه، بل يأخذ العين بدل دراهمه وينتهي الأمر.
ومما يدل على أن السلم متعلق بالذمة لا بالأعيان قوله: "قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك"، فهذا يدل على أن السلم ليس متعلقًا بعين معينة، ولهذا لم يكونوا يسألونهم: هل لهم زرع أو لا؟.
ثم إن الحاجة داعية إلى السلم؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات والصناعات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فيجوز لهم السلم ليرتفقوا، ويرتفق دافع مال السلم بالاسترخاص
(1)
.
° الوجه الخامس: عناية الإسلام بمصالح العباد وما يتعلق ببيعهم وشرائهم، حيث أقرهم على السلم، ثم بيّن لهم أحكامًا تبعدهم عن الغرر والمنازعات.
° الوجه السادس: يشترط في السلم ما يشترط في البيع؛ لأنه أحد أنواعه ويزيد السلم شروطًا قُصِدَ بها ضبطه وإبعاده عن الخصام والنزاع بسبب كونه مؤجلًا، وهذه الشروط دل عليها هذا الحديث، وهي ثلاثة:
الأول: إمكان ضبط صفات المسلم فيه -وهو الشيء المبيع- والمراد الصفات التي لها أثر في اختلاف الثمن، لترتفع الجهالة، وتُسدُّ الأبواب التي تفضي إلى المنازعات عند التسليم، وهذا يكون فيما يمكن ضبط صفاته، ومنه المكيل والموزون، كمائة صاع من البر أو التمر أو الشعير ونحوها من المكيلات، أو مائة كيلو من السمك أو اللحم أو القطن ونحوها من الموزونات.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم الكيل والوزن بالذكر لغلبتهما، وللتنبيه على غيرهما، والمقصود أن كل شيء يمكن ضبط صفاته يجوز السلم فيه، وكل شيء لا يمكن ضبط صفاته لا يجوز السلم فيه، وهو ما يختلف في الصغر والكبر
(1)
انظر: "إعلام الموقعين"(1/ 400).
كالبقول والجلود ونحوها إلا إن أمكن ضبطها بالوزن أو بالوصف. ولو أسلم في المكيل وزنًا كَبُرٍّ وتمر صح على الراجح؛ لأن الغرض معرفة قدره فبأي شيء قدَّره جاز، وعمل الناس من أزمنة بعيدة إلى يومنا هذا على بيع التمر وزنًا، ويلحق بالموزون والمكيل: المعدود، كالفواكه والبقول والأسطال والأباريق ونحو ذلك مما يمكن ضبطه بالصفات، والمذروع كالثياب والخيوط والحبال ونحوها، بجامع ارتفاع الجهالة بمعرفة المقدار، خلافًا لابن حزم حيث خص السلم بالمكيل والموزون فقط اقتصارًا على النص
(1)
.
الشرط الثاني: أن يكون مؤجلًا، ولا بد في الأجل أن يكون معلومًا، وهذا يدل عليه ظاهر الحديث؛ لأن عدم تحديد الأجل يفضي إلى الخصومة والنزاع والغرر؛ لأن صاحب الحق لا يدري متى يحصل له حقه، والمدين لا يدري متى يطالب؟.
ويتم العلم بالأجل بتقدير مدته بالأهلّة، مثل: أول شهر ربيع الأول، أو منتصف رجب، أو بعد سنة، أو بعد ستة أشهر، أو نحو ذلك. ولا خلاف بين العلماء أن السلم المؤجل لا بد فيه من ذكر أجل معلوم، إلا أن المالكية قالوا: إن الأيام المعلومة عند الناس كالمنصوصة، فيجوز التأجيل إلى وقت حصاد الزرع أو جذاذ النخل ونحو ذلك، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها صاحب الفائق، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
فإن كان السلم حالًّا، أوكان الأجل مجهولًا لم يصح، وهذا مذهب ابن عباس -كما تقدم- وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما والأسود بن يزيد النخعي، والحسن البصري، ذكر ذلك البخاري في "صحيحه"
(3)
، ونسب الشوكاني القول باشتراط الأجل إلى الجمهور
(4)
.
وقالت الشافعية: يجوز حالًّا؛ لأنه إذا جاز مؤجلًا مع الغرر فجوازه حالًّا أولى، فهم أجازوه بقياس الأَوْلَى.
(1)
"المحلى"(9/ 105).
(2)
"حاشية الخرشي"(6/ 77)، "مجموع الفتاوى"(29/ 52)، "الإنصاف"(5/ 99 - 100).
(3)
"فتح الباري"(4/ 434).
(4)
"نيل الأوطار"(5/ 225).
قالوا: وليس ذكر الأجل في الحديث لأجل اشتراطه، وإنما معناه: أنه إن كان السلم مؤجلًا فليكن الأجل معلومًا.
ورجح الشوكاني قول الشافعية لعدم ورود دليل يدل على اشتراطه، ولا يلزم التعبد بحكم شرعي إلا بدليل، والحديث ليس نصًّا في اشتراط الأجل، وإنما هو نص في اشتراط الأجل المعلوم، وبينهما فرق؛ لأنه على الثاني إن كان مؤجلًا فلا بد أن يكون الأجل معلومًا.
ومما يرجح قول الجمهور أن السلم شرع لأجل الإرفاق، وهو لا يظهر في السلم الحالِّ، وإنما في السلم المؤجل.
الشرط الثالث: تسليم رأس المال في مجلس العقد، فلو تفرقا قبله بطل العقد، وهذا مأخوذ من قوله:"فليسلف" والسلف في اللغة: هو الإعطاء، فيكون معنى "فليسلف": فليعط؛ لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه، وإلا يكون غير مسلي شيئًا. فالسلف: هو البيع الذي عُجِّلَ ثمنه وأُجِّلَ مثمنه، فاستنبطوا اشتراط قبض الثمن في المجلس من هذا الحديث، ولئلا يصير من باب بيع الدين بالدين، المنهي عنه، ولأنه إذا لم يقبض رأس المال في المجلس صار العقد عديم الفائدة للطرفين، لبقاء ذمة كل واحد من العاقدين مشغولة بغير فائدة
(1)
. وهذا الشرط مجمع عليه، إلا أن الإمام مالكًا يجيز التأجيل اليسير كيومين أو ثلاثة، وقد اختار ابن عبد البر المالكي مذهب الجمهور، فقال:(والذي به أقول: أنه لا يجوز فيه إلا تعجيل النقد، وإلا دخله الكالئ بالكالئ؛ أي: الدين بالدين)
(2)
.
° الوجه السابع: الحديث دليل على أنه لا يشترط كون المسلم فيه موجودًا حال العقد؛ لأنه ليس وقت وجوب التسليم، فيجوز أن يسلم في الرطب وقت الشتاء -مثلًا- مع أن الشتاء ليس فيه رطب.
ووجه الدلالة من الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر الوجود، ولو كان شرطًا
(1)
"نظرية العقد" لابن تيمية ص (235).
(2)
"الكافي"(2/ 691).
لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين؛ لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة
(1)
.
وأما ما كان منقطعًا عند حلول الأجل فإنه لا يجوز باتفاق، كما لو أسلمه في رطب يسلمه له في شهر شوال -مثلًا- وهو يأتي في وسط الشتاء؛ لأن الرطب لا يوجد في ذلك الشهر، إلا ما كان محفوظًا في البرادات.
° الوجه الثامن: الحديث الثاني دليل على أنه لا يشترط أن يكون البائع في السلم له زرع وحرث، بل يجوز السلم مع الفلاح ومع غير الفلاح في كل شيء يمكن ضبطه؛ لأن المسلم إليه يمكن أن يشتري المسلم فيه من السوق ويوفي الدين الذي عليه، وهذا يدل عليه قوله:"قلت: كان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك"، وقد بوّب البخاري عليه فقال:"باب السلم إلى من ليس عنده أصل" والمراد به: أصل الشيء المسلم فيه، فالزرع أصل للحب، والشجر أصل للثمر، وهكذا. والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "المغني"(6/ 407).
جزاء من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها
857/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ أَخَذَ أَمْوَال النَّاسِ يُريدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلافَهَا، أَتْلَفَهُ الله". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "الاستقراض"، باب "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها"(2387) من طريق سليمان بن بلال، عن ثور بن يزيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من أخذ أموال الناس) هذا عام في أخذ الأموال عن طريق القرض، أو البيع إلى أجل، أو الشركة، أو العارية، أو أي معاملة من وجوه المعاملات الأخرى.
قوله: (يريد أداءها) أي: عند أخذه لها كانت نيته الوفاء والأداء مما يرزقه الله تعالى.
قوله: (أدى الله عنه) تأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يعينه الله ويوسع رزقه، ويسوق له من المال ما يقضي به دَينه لحسن نيته، ويشمل أداءها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء الله، فإن فاته الأول في دار الدنيا لم يفته الثاني -إن شاء الله- في الدار الآخرة لحسن نيته.
قوله: (يريد إتلافها) أي: إنه عند أخذه لها لم تكن نيته الوفاء، بل يريد إتلاف ما أخذ على صاحبه، وهو يشمل ما إذا إدَّان وليس عنده نية الوفاء، أو أخذها بلا حاجة إليها وإنما يريد إتلافها على صاحبها.
قوله: (أتلفه الله) الضمير يعود على (من) في قوله: "ومن أخذها يريد اتلافها" وعبر بـ (أتلفه)؛ لأن إتلاف المال كإتلاف النفس.
وظاهر الحديث أن الإتلاف يقع له في الدنيا بإتلاف الشخص نفسه وإهلاكه، ويدخل فيه إتلاف ماله وجاهه وطيب عيشه وتضييق أموره وتعسير مطالبه، ولا مانع من تفسير الحديث بالمعنيين، والله أعلم.
° الوجه الثالث: في الحديث ترغيب في حسن النية عند الاستدانة من الناس، والترهيب من ضد ذلك، وأن من أخذ مال غيره بنية طيبة أوفى الله عنه وأعانه، ومن أخذها بنية فاسدة وخيانة أتلفه الله، قال العلماء:(وهذا وعيد شديد، يشمل من أخذ دينًا وتصدق به، وهو لا يجد وفاء؛ لأن الصدقة تطوع، ووفاء الدين واجب)
(1)
.
° الوجه الرابع: في الحديث بشارة عظيمة من يستدين ونيته الوفاء، وقد روى النسائي بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استدانت فقيل لها: يا أم المؤمنين، تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ دينًا وهو يريد أن يؤدي أعانه الله عز وجل"
(2)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له.
(1)
"بلوغ الأماني"(15/ 89).
(2)
أخرجه النسائي (7/ 315) قال الألباني: (وهو إسناد صحيح على شرط الشيخين إذا كان عبيد الله بن عبد الله سمعه من ميمونة، فإن المعروف أنه يروي عنها بواسطة عبد الله بن عباس). والحديث صحيح بمجموع طرقه عند ابن ماجه (1157)، وأحمد (44/ 399)، وابن حبان (11/ 420). انظر:"الصحيحة" للألباني (3/ 26).
° الوجه السادس: لا معارضة بين هذا الحديث وحديث: "نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه"
(1)
، وحديث:"ما فعل الديناران؟ "، قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال:"الآن بردت جلدته"
(2)
، فإن هذا مقيد بمن له مال يُقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازمًا على القضاء فإن حديث الباب يدل على أن الله يؤدي عنه، والله تعالى أعلم
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه في كتاب "الجنائز".
(2)
سيأتي -إن شاء الله- في أحاديث "الضمان".
(3)
انظر: "نيل الأوطار"(4/ 26).
حكم شراء السلعة بثمنٍ مؤجل
858/ 4 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فُلانًا قَدِمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيهِ فَأَخَذْتَ مِنْهُ ثَوْبَينِ بنَسيئَة إلَى مَيسَرَة، فَأَرْسَلَ إِلَيهِ، فَامْتَنَعَ. أَخْرَجَهُ الحاكمُ، وَالْبَيهَقِيُّ، ورجَالُهُ ثِقِاتٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب "البيوع"، باب "ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل"(1213)، والنسائي (7/ 294)، وأحمد (42/ 70)، والحاكم (2/ 23، 24)، والبيهقي (6/ 25) كلهم من طريق يزيد بن زريع، عن عُمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان قِطْريان غليظان، فكان إذا قعد فَعَرِقَ ثَقُلا عليه، فقدمَ بزٌّ من الشام لفلان اليهودي، فقلت: لو بعثت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة، فأرسل إليه، فقال: قد علمتُ ما يريد، إنما يريد أن يذهب بمالي أو بدراهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كذب، قد علم أني من أتقاهم لله، وآداهم للأمانة".
وأخرجه أحمد (42/ 70) من طريق شعبة، عن عمارة، به.
وقال الترمذي: (حديث حسن غريب صحيح)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه).
والحافظ قد عزى الحديث في "التلخيص"
(1)
إلى الترمذي والنسائي، فلا أدري لما اقتصر -هنا- على الحاكم والبيهقي؟!.
(1)
(3/ 37).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (قِطْريان) مثنى قطري بكسر القاف: ضرب من البرود فيه حمرة، وله أعلام، فيها بعض الخشونة، وقيل: هي حلل جياد تحمل من قرية في أعراض البحرين يقال لها: قَطَر، فكسروا القاف للنسبة وخففوا.
قوله: (فقدم بزٌّ) بفتح الباء والزاي المشددة نوع من الثياب الغليظة.
قوله: (إلى ميسرة) أي: مؤجلًا إلى وقت اليسر والسعة والغنى. ولعلها رضي الله عنها كانت متوقعة إلى أجل معلوم، وإلا فجهالة الأجل مفسدة للعقد.
قوله: (وآداهم) بمد الهمزة؛ أي: أحسنهم وفاءً، قال الجوهري:(أدّى دينه تأدية، أي: قضاه، والاسم الأداء، وهو آدى للأمانة منك، بمد الألف)
(1)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز بيع النسيئة وصحة تأجيل الثمن إلى ميسرة، وهذا في غير الربويات، كالسيارات والعقارات والأمتعة من الملابس ونحوها، أما الربويات فما بيع بجنسه كَبُرٍّ ببر أو ما بيع بغير جنسه لكنه يساويه في العلة كَبُرٍّ بشعير فلا بد من الحلول والتقابض، أما إذا بيع الربوي بربوي لا يساويه في العلة كبُر بذهب، أو تمر بريالات لم يشترط الحلول والتقابض، فيجوز التأجيل بالإجماع -كما تقدم
(2)
-، وقد بوّب البخاري بقوله:"باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة". قال الحافظ: (لعل المصنف تخيل أن أحدًا يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم يشتري بالنسيئة؛ لأنها دين، فأراد دفع ذلك التخيل)
(3)
.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام ممتحنون، ويحصل لهم ما يحصل لغيرهم حتى في المعاملة وشراء حوائجهم، وما ذلك إلا لأنهم بشر، يعتريهم ما يعتري غيرهم، وأن بعض الناس قد لا
(1)
"الصحاح"(6/ 2266).
(2)
انظر: شرح الحديث (791).
(3)
"فتح الباري"(4/ 302).
يحترمهم ولا يبالي بهم؛ لكفره وضلاله، فإن هذا اليهودي امتنع من البيع بثمن مؤجل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم من أوفى الناس وأكرم الناس، ولكن الحقد الذي ملأ قلبه جعله يعامل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة الجافية، ويقول هذه المقالة السيئة.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز معاملة الكفار والشراء منهم والبيع عليهم وغير ذلك من التصرفات، وأن هذا لا يعتبر من موالاتهم ولا الركون إليهم، وعن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعًا من حديد"
(1)
. قال الصنعاني: (وهو معلوم من الدين ضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقاموا بمكة ثلاث عشرة سنة يعاملون المشركين، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشرًا يعامل هو وأصحابه أهل الكتاب، وينزلون أسواقهم كسوق بني قينقاع وغيره)
(2)
.
° الوجه السادس: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وتحمُّله، وأنه لم يعاتب هذا اليهودي بل أعرض عنه امتثالًا لما أدبه ربه جل وعلا به في قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. وقد دلَّ ذلك على أن الناس أحرار في بيعهم وشرائهم ما داموا متقيدين بأحكام الشرع، وأنهم إذا اعتذروا عن البيع سواء كان معجلًا أو مؤجلًا فلا حرج، إلا إن وجد أسباب تقتضي إلزام من امتنع، مثل حالة الاحتكار وحاجة الناس إلى ما عند التجار فإنهم يلزمون بالبيع.
ومن الناس من يجد في نفسه شيئًا على بعض إخوانه ممن امتنع أن يبيع عليه إلى أجل، وهذا البائع قد لا يرى البيع عليه إما لأنه يتهمه بأنه مماطل، أو أنه يُعرف بذلك، أو لأسباب أخرى، فإذا امتنع من البيع عليه أمكن وجود ذلك عند غيره، ولا حاجة إلى المعاتبة، ففي فعله صلى الله عليه وسلم أسوة صالحة، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (2068)، ومسلم (1603).
(2)
"حاشية الصنعاني على شرح العمدة"(4/ 116).
حكم انتفاع المرتهن بالرهن
859/ 5 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ بنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ". رَوَاهُ الْبُخَارَيُّ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "الرهن"، بابٌ "الرهنُ مركوبٌ ومحلوب" (2512) من طريق عبد الله بن المبارك: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الظهر) المراد به: الحيوان المعدُّ للركوب من بعير وحصان وحمار وغيرها.
قوله: (يُركب، ويُشرب) مبني لما لم يُسَمَّ فاعله، وفي آخر الحديث:"وعلى الذي يركب ويشرب" بالبناء للفاعل، لكن لم يبين الفاعل هل هو الراهن -وهو مالك الشيء المرهون- أو المرتهن -وهو صاحب الدين- فمن أجرى الحديث على ظاهره قال: الفاعل: المرتهن، ومن أولَّه قال: الفاعل: الراهن، وهو المالك، وسيأتي.
قوله: (بنفقته) الباء هي باء المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، مثل: اشتريت الكتاب بعشرة، ومعنى في بنفقته" أي: مقابل نفقته، والنفقة: هي المؤنة من علف وسقي ورعاية ونحو ذلك.
قوله: (لبن الدَّرِّ) بفتح الدال المهملة وتشديد الراء، هو اللبن، أو الكثير منه، وهو من إضافة الشيء إلى نفسه، مثل: قَمْحِ بُرٍّ، وكقوله تعالى:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، والدر: مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: الدارة، والمراد: ذات الضرع واللبن، يقال: در الضرع: امتلأ لبنًا، ودر الضرع: سال باللبن.
قوله: (يشرب بنفقته) أي: يشرب لبن الحيوان المرهون كالبقرة أو الشاة -مثلًا- مقابل نفقته.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الرهن، وهو مجمع عليه في الجملة؛ لأنه من العقود الشرعية التي تحفظ به الحقوق، ويستحصل منها الدين إذا تعذر الحصول عليه من المدين.
ومن الأدلة على مشروعيته: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] والمعنى: وإن كنتم على سفر وهي حالة يعدم فيها الكاتب غالبًا فالوثيقة رهان، يقبضها من له الحق، ليستوثق بها، ومن الأدلة -أيضًا-: حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم قريبًا.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز رهن الحيوان؛ ويؤخذ من ذلك أن كل عين يجوز بيعها فإنه يجوز رهنها؛ لأن المقصود من الرهن -كما تقدم- توثقة الدين، بحيث إذا تعذر الاستيفاء من ذمة الراهن فإنه يستوفى من ثمن الرهن، وهذا يتحقق في كل عين يجوز بيعها.
° الوجه الخامس: اختلف العلماء في استحقاق المرتهن الانتفاع بالرهن في مقابل نفقته على أقوال ثلاثة:
الأول: أنه يجوز انتفاعه به إذا قام بنفقته، وهذا مختص بالمركوب والمحلوب من الحيوان، وعليه أن يتحرى العدل في الحلب والركوب، وهذا مذهب أحمد وإسحاق
(1)
، واستدلوا بهذا الحديث. لكن اعترض على استدلالهم بأن الحديث مجمل لم يبيِّن من الذي يركب ويشرب، هل هو
(1)
"المغني"(6/ 511).
الراهن أم المرتهن؟ وقد أجابوا عن هذا الاعتراض بأن سياق الحديث دل على أن الفاعل هو المرتهن؛ لأنه جعل الانتفاع بالرهن في مقابل النفقة، وذلك يختص بالمرتهن، وأما الراهن فينتفع بالرهن لكونه ملكه، وهو ينفق عليه بكل حال.
ثم إنه جاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد من طريق هُشيم، عن زكريا، عن الشعبي، عنه بلفظ:"إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشربه نفقته، ويَركب"
(1)
. فتكون هذه الرواية مفسرة لحديث الباب.
أما ما لا يحتاج إلى نفقة كالدار والمتاع والسيارة ونحوها فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن، قال ابن قدامة:(لا نعلم في هذا خلافًا؛ لأن الرهن ملك الراهن، فكذلك نماؤه ومنافعه، فليس لغيره أخذهما بغير إذنه)
(2)
.
فإن كان الحيوان لا يركب عادة كالبقر والغنم أو لا يصلح للركوب لكونه هزيلًا، أو ليس فيه لبن، فإن المرتهن ينفق على الحيوان، ويحسب ذلك على الراهن إذا لم يتبرع بذلك.
القول الثاني: أن المرتهن لا ينتفع بشيء من المرهون مطلقًا؛ لأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به، ولا الإنفاق، فلم يكن له ذلك كغير الرهن، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد
(3)
.
وقالوا: إن الحديث مخالف للقياس من وجهين:
(1)
"المسند"(12/ 23)، وأخرجه أيضًا الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 99)، والدارقطني (3/ 24) لكن قال البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 28):(ورواه هشيم وسفيان بن حبيب، عن زكريا -وزادا في متنه: (المرتهن) - وليس بمحفوظ).
(2)
"المغني"(6/ 509).
(3)
"بداية المجتهد"(4/ 59)، "المغني"(6/ 511).
1 -
التجويز لغير المالك بأن يركب ويشرب بغير إذن المالك، والأصل أنه لا يجوز لغير المالك إلا بإذنه، ومن هذا الأصل حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحلبن أحدكم ماشية امرئ بغير إذنه"
(1)
.
2 -
تضمينه ذلك الانتفاع بالنفقة لا بالقيمة، والأصل أن المنفعة تقابل بقيمة.
القول الثالث: أن المراد بالحديث إذا امتنع الراهن من الإنفاق على الحيوان المرهون، ففي هذه الحالة يباح للمرتهن الإنفاق على الحيوان حفظًا لحياته، وله في مقابل ذلك الانتفاع به، وهذا قول الأوزاعي والليث وأبي ثور
(2)
.
والراجح هو القول الأول لقوة دليله، ووضوح مأخذه.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحديث موافق للقياس لأمرين:
الأول: أن نفقة المرهون واجبة على الراهن، فإذا أنفق المرتهن عليه فقد أدى واجبًا عن غيره بغير إذنه فيما له حق فيه، فلو حُكِمَ على فعله بمثل ما حكم به على نظائره لاقتضى أن يرجع المنفق على من عليه الواجب، والركوب والشرب هو هذا الرجوع.
الثاني: أن الركوب والشرب منفعة رضي بها المنفق عوضًا عن النفقة، وهي صالحة لتكون بدلًا، فلو حكم عليه بمثل ما حكم به على نظائره من الأعواض الصالحة للبدلية التي رضي بها المستعاض عوضًا مثل رزق وكسوة المرضعات لاقتضى القياس جواز كونهما عوضًا عن النفقة
(3)
.
ولو فرضنا أن الحديث مخالف للأصول لم يقتض ذلك رده؛ لأنه إذا صح الحديث أصبح أصلًا بنفسه.
(1)
أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726).
(2)
"فتح الباري"(5/ 144).
(3)
"الفتاوى"(20/ 560، 561)"المعدول به عن القياس" ص (132).
وأما القول الثالث فهو تقييد للحديث بما لم يقيده به الشرع.
وهذا كله إذا لم يصطلح الراهن والمرتهن على شيء معين، فإن حصل اصطلاح على أن الراهن هو الذي ينفق على دابته المرهونة ويأخذ اللبن فلا بأس، فإن لم يحصل شيء من ذلك فالمعول على ما دل عليه الحديث، وأن المرتهن يركب بقدر النفقة، ويشرب بقدر النفقة، وهذا فيه مصلحة إراحة الراهن من تعب النفقة، وإراحة المرتهن من المطالبة بالدر، والله تعالى أعلم.
المرتهن لا يستحق الرهن بعجز الراهن عن الأداء
860/ 6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذي رَهَنَه، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيهِ فُرْمُهُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إلا أَن الْمَحْفُوظَ عنْدَ أَبي دَاوُدَ وَغَيرِهِ إِرْسَالُهُ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث روي موصولًا بذكر أبي هريرة رضي الله عنه، وروي مرسلًا، فجاء موصولًا من طرق كثيرة، ومنها: ما أخرجه الدارقطني في "السنن"(3/ 32)، وفي "العلل"(9/ 164)، والحاكم (2/ 51)، وعنه البيهقي (6/ 39) من طريق عبد الله بن عمران العابدي: ثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
قال الدارقطني: (زياد بن سعد من الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن متصل)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لخلاف فيه على أصحاب الزهري)، وقال البيهقي:(قد رواه غيره، عن سفيان عن زياد مرسلًا، وهو المحفوظ).
ورواه الدارقطني (3/ 33)، والحاكم (2/ 51 - 52) من طريق كُدير أبي يحيى، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
وللموصول طرق كثيرة كلها معلولة، ولو سلم بعضها من العلة لعُدَّ شاذًّا؛ لمخالفته الروايات الصحيحة الكثيرة التي ذكرت الحديث مرسلًا.
فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل"(175)، وعبد الرزاق (8/ 237)،
ومن طريقه الدارقطني (3/ 33)، وفي "العلل"(9/ 169)، والبيهقي (6/ 40) من طريق معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، بلفظ:"لا يَغْلَقُ الرهن"، وإسناد هذا المرسل صحيح. وله طرق أخرى عن الزهري.
وقد رجَّح جمع من الحفاظ إرساله، قال الحافظ:(صحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة، وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله)
(1)
.
ثم إن الحديث إنما هو بلفظ: "لا يغلق الرهن"، وأما قوله:"له غنمه وعليه غرمه"، فالصحيح أنه ليس من الحديث، وإنما هو مدرج من قول سعيد بن المسيب، لأمرين:
الأول: أن الحديث رواه جماعة كالإمام مالك
(2)
من طريق الزهري، ومن طريقه الخطيب
(3)
بدون هذه الزيادة.
الثاني: أنه جاء التصريح بانها من كلام سعيد في رواية الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" قال الزهري: قال ابن المسيب: (له غنمه، وعليه غرمه). ومثل ذلك في رواية يونس بن يزيد، عن الزهري.
قال البيهقي: (ورواه أبو عمرو الأوزاعي، ويونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن ابن المسيب مرسلًا، إلا أنهما جعلا قوله: "له غنمه، وعليه غرمه" من قول ابن المسيب، والله أعلم).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يغلق الرهن) بفتح الياء وسكون الغين المعجمة، ثم لام مفتوحة آخره قاف، مضارع غَلِقَ، يَغْلَق، غلوقًا، من باب "تَعِبَ" وأصل الغَلَق في اللغة: الانسداد والانغلاق، يقال: غَلِقَ الباب، وانغلق: إذا عَسُرَ، والغلق
(1)
انظر: "العلل" للدارقطني (9/ 164)، "التمهيد"(6/ 430)، "التلخيص"(3/ 42).
(2)
"الموطأ"(2/ 728)، وانظر:"المراسيل" لأبي داود ص (273 - 274)، "التمهيد"(6/ 426).
(3)
"تاريخ بغداد"(12/ 242).
في الرهن ضد الفكّ، فإذا فَكَّ الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه، ويقال: غَلِقَ الرهن: إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، بسبب عدم قدرته على أداء الدين، وكان هذا من فعل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهنُ الرهنَ واستحله، فأبطله الإسلام
(1)
.
فمعنى: (لا يغلق الرهن) أي: لا يستحقه المرتهن بمجرد حلول الأجل، فهو لا يزال في ملك الراهن وإن استمر محبوسًا بيد المرتهن حتى يَفُكَّهُ الراهن بقضاء الدين الذي عليه.
قوله: (من صاحبه) أي: الراهن.
قوله: (له غُنمه) بضم الغين المعجمة، وسكون النون؛ أي: للراهن زيادة الرهن وثمرته وكسبه مدة كونه مرهونًا، كان يكون حيوانًا أنسل، أو شجرًا أثمر، أو دارًا أُجِّرت، أو نحو ذلك.
قوله: (وعليه غُرمه) بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة؛ أي: وعلى الراهن ما يحصل على المرهون من نقص أو تلف أو نفقة أو غيرها، إذا تلف بدون تَعَدٍّ من المرتهن، كموت الحيوان أو نقصانه، أو انهدام الدار ونحو ذلك.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المرتهن لا يستحق الرهن إذا عَجَزَ الراهن عن أداء الدين؛ لأن الرهن ملك للراهن لا يزول ملكه عنه، وإنما هو وثيقة بيد المرتهن يتوثق ممن عليه الدين، فإذا حل الدين وجب على الراهن أداؤه وأخذ رهنه، فإن لم يتيسر ذلك أو امتنع باع الحاكم الرهن لتعينه طريقًا لأداء الواجب، وقضى دينه من ثمنه؛ لأنه حق تعين عليه، فقام الحاكم مقدمه فيه، ويُرد الباقي على صاحب الرهن.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن زيادة الرهن ونماءه ملك للراهن، وأن عليه نفقته، وليس على المرتهن شيء، وإن حصل له نقص أو تلف فهو من ملك الراهن، وليس على المرتهن شيء؛ لأنه أمين، فالتلف في يده كالتلف في يد المالك، إلا إن حصل منه تعد أو تفريط فإنه يضمن، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 170 - 173)، "النهاية"(3/ 379).
جواز القرض والزيادة في ردِّ البدل
861/ 7 - عَنْ أَبي رَافِع رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيهِ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقَال: لا أَجِدُ إلَّا خِيَارًا، قَال:"أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه"(1600) من طريق ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع رضي الله عنه.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (استسلف) أي: اقترض، والعرب تسمي القرض: سلفًا، وهو الدارج على ألسنة الناس، إلا أن السلف أعم من القرض؛ لأن السلف يطلق على السلم، كما تقدم.
قوله: (بكرًا) بفتح الباء: هو الصغير من الإبل، والأنثى بكرة.
قوله: (فقال: لا أجد إلا خيارًا) لفظ مسلم: (فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا)، والخيار: هو الجيد، يطلق على الواحد والجمع.
والرَّبَاعِيُّ من الإبل -بفتح الراء وتخفيف الموحدة-: هو الذكر منها إذا أتى عليه ست سنين ودخل في السابعة حين طلعت رباعيته، والأنثى رباعية بالتخفيف.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز القرض وإباحته إذا علم المقترض من نفسه الوفاء، وأنه ليس من المسألة المذمومة؛ لأنه ارتفاق بالشيء يرد بدله، ولأنه صلى الله عليه وسلم فعله، لكن ينبغي للمسلم ألا يقترض إلا عند الحاجة، لما جاء في نصوص الشريعة من تعظيم أمر الدين، وعلى الإنسان ألا يتساهل في الاقتراض لأمور يمكن الاستغناء عنها أو تأجيلها، كما عليه بعض الناس.
وأما القرض من جهة المقرض فهو مندوب إليه، ومن القُرَب التي حث عليها الإسلام، لما فيه من إعانة المسلم وقضاء حاجته وتفريج كربته.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز اقتراض الحيوان كالإبل وغيرها، وقد بوّب البخاري في كتاب "الاستقراض":"باب استقراض الإبل"
(1)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الوفاء بما هو أفضل من الشيء المقترض، وأن هذا من الزيادة المستحبة شرعًا، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وثنائه على حسن القضاء، ويدل على ذلك جواز قبول المقترض لهذه الزيادة؛ لأن بذلها دليل على جواز أخذها، وهذا من مكارم الأخلاق المحمودة شرعًا وعرفًا.
وعلى الصحيح من قولي أهل العلم فإن الحديث يعم الزيادة في الصفة بأن يرد المقترض أجود مما أخذ، كان يعطيه بعيرًا أجود من بعيره أو يعطيه بُرًّا أحسن من بُرِّهِ، ويعم الزيادة في المقدار بأن يرد المقترض أكثر مما أخذ، أو بأن يزيده هدية من مال آخر، كأن يقترض منه صاعًا فيرد له صاعين، أو مائة ريال فيعطيه مائة وعشرة، أو يعطيه مع المائة كتابًا -مثلًا- لأن الحديث نص عام، يتناول حسن القضاء في الصفة، كما يتناول حسن القضاء في المقدار، وخصوص السبب في هذا الحديث وهو القضاء بالأجود صفة لا
(1)
"فتح الباري"(6/ 56).
تخصص اللفظ العام، ولا تمنع من عمومه؛ لأنه تقرر في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومحل الجواز ألا تكون الزيادة مشروطة، وإلا فسد القرض ووجب فسخه -كما سيأتي إن شاء الله- ويرجع إلى المثل في ذوات الأمثال، وإلى القيمة في غيرها، والله تعالى أعلم.
حكم القرض إذا جرَّ منفعة
862/ 8 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا"، رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ.
863/ 9 - وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ: عَنْ فَضَالةَ بْنِ عُبَيدٍ. عِنْدَ الْبَيهَقِيِّ.
864/ 10 - وآخَرُ مَوْقُوفٌ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَّامٍ. عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.
° الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث"(1/ 500) من طريق سوار بن مصعب، عن عمارة الهمداني، عن علي رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا إسناد ساقط، سوار بن مصعب قال عنه ابن معين:(ليس بشيء)، وقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي وغيره:(متروك)، وقال أبو داود:(ليس بثقة)
(1)
.
وأما حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه، فقد أخرجه البيهقي (5/ 350) من طريق إدريس بن يحيى، عن عبد الله بن عياش، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق التُّجِيبي
(2)
، عن فضالة بن عبيد أنه قال:(كل قرض جرَّ منفعة فوجه من وجوه الربا).
(1)
"الميزان"(2/ 246).
(2)
بضم التاء وكسر الجيم. ["الأنساب" (1/ 448)].
وهذا إسناد متصل، رجاله ثقات، سوى عبد الله بن عياش، فقد قال فيه أبو حاتم:(ليس بالمتين، صدوق يكتب حديثه)، وقال أبو داود والنسائي:(ضعيف)، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يغلط). وإدريس بن يحيى وهو الخولاني المصري، قال فيه ابن أبي حاتم:(صدوق)، وكذا قال أبو زرعة، وقال ابن حبان:(مستقيم الحديث إذا كان دونه ثقة، وفوقه ثقات).
وأما حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "مناقب الأنصار"، باب: مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه " (3814) من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه قال: (أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: ألا تجيءُ فأطعمَك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيتٍ؟ ثم قال: إنك في أرضٍ
(1)
الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجل حق، فأهدي إليك حِمْلَ تبنٍ، أو حملَ شعير، أو حمل قَتٍّ، فإنه ربا).
وأخرجه مختصرًا في كتاب "الاعتصام" من "صحيحه"(7342).
° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن القرض إذا جرَّ منفعة للمقرض فهو محرم؛ لأنه ربًا، وقد حمله العلماء على اشتراط الزيادة في بدل القرض، سواء أكانت الزيادة في القدر أم في الصفة، كما تقدم؛ لأنها منفعة جرها القرض فتكون ربًا، وهذا ربا القرض، وهو من ربا الجاهلية، ومعناه: إقراض مال إلى أجل بشرط الزيادة، كأن يقرضه عشرة آلاف ريال على أن يرد له معها ألف ريال، وذلك لأن الغرض من القرض هو الإرفاق والقربة، فإذا شرط المقرض فيه الزيادة لنفسه خرج عن كونه قربة، فمنع صحته؛ لأنه يكون بذلك قرضًا للزيادة لا للإرفاق والقربة، ووجه كونه ربًا أن هذه الزيادة تشبه الربا؛ لأنها فضل لا يقابله عوض.
وعلى هذا فالحديث ليس على عمومه، وأن كل منفعة يجرها القرض فهي ربًا محرم، فيخرج من عمومه المنفعة غير المشروطة للمقرض، فإنها
(1)
أرض العراق.
تجوز، بل هي من حسن القضاء كما تقدم، كما يخرج من عمومه المنفعة المشروطة للمقترض، كاشتراط الوفاء بالأقل، أو اشتراط أجل معين لوفاء القرض على القول بالجواز، ويبقى هذا النص أو الإجماع في المنفعة المشروطة للمقرض.
والحديث وإن كان ضعيفًا جدًّا كما تقدم، فإن ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من موقوفات تشهد له، وتدل على أن معناه صحيح. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على مقتضاه، فقال:(أجمع العلماء على أن المسلف إذا شرط عُشْرَ السلف هدية أو زيادة، فأسلفه على ذلك أن أخذه الزيادة ربًا)
(1)
.
وقال ابن عبد البر: (كل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربًا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إذا كان بشرط)
(2)
.
ويدخل في الحديث اشتراط المقرض أيّ عمل يجر إليه نفعًا، كأن يسكنه المقترض داره مجانًا، أو يعيره سيارته، أو يعمل له كذا، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع.
أما الهدية للمقرض، فهي موضع خلاف بين أهل العلم، والأظهر أنه ليس للمقرض أن يقبل هدية من المقترض إلا إذا كان هناك عادة جارية بينهما بذلك قبل القرض، لقرابة أو صداقة بينهما، بحيث لا تكون الهدية بسبب القرض، فيجوز قبولها، والمنع من ذلك إذا لم تجرِ عادة من باب سد ذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، أو يتخذ ذريعة إلى تأخير الدَّين فيكون ربًا؛ لأنه يعود إليه ماله مع أخذ الفضل الذي استفاده، وقد حكم عبد الله بن سلام رضي الله عنه -كما تقدم- على الهدية أنها ربًا، قال الحافظ:(يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربًا إذا شرطه، نعم الورع تركه)
(3)
.
(1)
"الإجماع" ص (99).
(2)
"الكافي في فقه أهل المدينة"(2/ 728).
(3)
"فتح الباري"(1/ 131).
ويستثنى من ذلك ما إذا نوى المقرض احتساب ما أعطاه المقترض من دينه، أو نوى مكافأته عليه، فإنه يجوز، وقد أخرج البيهقي عن سالم بن أبي الجعد، قال:(كان لنا جار سمَّاك، عليه لرجل خمسون درهمًا، فكان يهدي إليه السمك، فأتى ابن عباس رضي الله عنهما فسأله عن ذلك. فقال: قاصِّه بما أهدى إليك)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"السنن الكبرى"(5/ 350)، قال في "الإرواء" (5/ 234):(إسناده صحيح).
باب التفليس والحجر
التفليس: مصدر فلَّس الحاكم الرجل تفليسًا: حكم بإفلاسه ومنعه من التصرف في ماله.
والمفلس: من عنده مال لا يفي بكل ما عليه من الدين.
والحجر لغة: بفتح الحاء مصدر، ومعناه: المنع والتضييق.
واصطلاحًا: منع الإنسان من التصرف في ماله. والحجر نوعان:
الأول: حجر لحظ المحجور عليه، وهو الحجر على الصغير والسفيه والمجنون في ماله، وذلك بإقامة ولي عليه يتصرف في ماله بالأحسن.
الثاني: حجر لحظ غيره، وهو المذكور -هنا-، وهو الحجر على المفلس لحق الغرماء، ولا يحجر عليه إلا بشروط ثلاثة:
1 -
أن يكون الدين الذي عليه حالًّا، فإن كان مؤجلًا لم يحجر عليه؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل حلوله.
2 -
أن يكون عنده مال لا يفي بكل ما عليه، فإن كان ماله يفي بكل ما عليه لم يحجر عليه، لعدم الحاجة إلى ذلك، وأُمِرَ بالوفاء إذا طلب غريمه.
3 -
أن يطلب الحجر غرماؤه أو بعضهم؛ لأن الحق لهم، والحجر بسؤال بعض الغرماء إنما هو على أحد القولين في المسألة.
وقد ذكر الحافظ في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بالمحجور عليه لحظ غيره، وذكر ما يتعلق بالبلوغ في حق المحجور عليه لحظه.
وجواز الحجر من محاسن الإسلام وعدالة أحكامه، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة، فإن الحجر على الصغير والسفيه والمجنون له فيه
مصلحة، من حفظ ماله من الضياع والتصرف فيه بما ينفع.
وأما الحجر على المفلس ففيه مصلحة له ولغيره، ذلك أن الرجل إذا افتقر بعد غنى وكثرت ديونه، اختلطت أموره، وأصيب بشيء من التقلب والاضطراب، فيتصرف تصرفات فيها شيء من الحيف والجور، وربما يوفي بعض غرمائه، ويترك بعضهم، وقد يستولي أقوياء غرمائه على موجوداته، وربما أخفى أمواله أو بعضها، إلى غير ذلك من التصرفات التي قد تضره أو تضر غيره، فجاء الإسلام بمشروعية الحجر وتفريق موجودات المفلس بين غرمائه، تفريقًا عادلًا.
حكم من وجد ماله عند مفلس
865/ 1 - عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالهُ بِعَينِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيرِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَالِكٌ: مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسلًا، بِلَفْظِ:"أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِض الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَينِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ".
وَوَصَلَهُ الْبَيهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ تبَعًا لأَبي دَاوُدَ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَهْ: مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ، قَال: أتينَا أَبَا هُرَيرَةَ في صَاحِبٍ لنَا قَدْ أفلَسَ، فَقَال: لأقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أفلَسَ أَو مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَينِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ هذِهِ الزِّيَادَةَ في ذِكْرِ الْمَوْتِ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، اسمه وكنيته واحد، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة النبوية، كان ثقة فقيهًا عالمًا، شيخًا، محدثًا، مشهودًا له بكثرة الرواية، وكان يقال له: راهب قريش، لكثرة صلاته، روى عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وأبي مسعود الأنصاري وعائشة
وأم سلمة وغيرهم رضي الله عنهم، وقد حدث عنه عمر بن عبد العزيز وأبناؤه، وابن شهاب الزهري، وغيرهم رحمهم الله، مات رحمه الله سنة الفقهاء سنة أربع وتسعين، على أحد الأقوال
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "الاستقراض"، باب "إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة، فهو أحق به"(2402)، ومسلم (1559) من طريق يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:
…
فذكره.
وأخرجه مالك (2/ 678) ومن طريقه أبو داود (3520) عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مرسلًا، به، وتابع مالكًا يونس، أخرجه أبو داود (3521) فذكر معنى حديث مالك، وزاد:"وإن قضى من ثمنها شيئًا، فهو أسوة الغرماء".
وأخرجه أبو داود (3522)، وابن الجارود (632)، والدارقطني (3/ 30)، والبيهقي (6/ 47) من طريق إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزُّبيدي، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، هكذا موصولًا، بنحوه، وزاد:"وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه اقتضى منه شيئًا أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء".
وقد ضعفه أبو داود، فقال:(حديث مالك أصح) وتبعه البيهقي، فقال:(لا يصح) يعني موصولًا، وقال الدارقطني:(إسماعيل بن عياش، مضطرب الحديث، ولا يثبت هذا عن الزهري مسندًا، وإنما هو مرسل). وقال ابن عبد الهادي: (رواه مالك وأبو داود هكذا مرسلًا، وقد أُسند من وجه غير قوي)
(2)
.
(1)
"تهذيب التهذيب"(12/ 34).
(2)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1162)، "العلل" للدارقطني (11/ 166)، "المحرر"(2/ 497).
وقد مال الحافظ في "التلخيص"
(1)
إلى تصحيح الحديث، وصححه -أيضًا- الألباني
(2)
. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (وصله أبو داود
…
ولم يضعفه، ولكن قال: حديث مالك أصح (يعني: المرسل) ولا يقتضي هذا تضعيف الموصول، إذ لا يلزم من نفي الأصحية نفي الصحة، بل ذلك أدل على إثبات الصحة من نفيها، وهذا الإسناد جيد
…
والمرسل المذكور يعضد الموصول ويقويه، والله أعلم)
(3)
ولكن يبدو لي أن كلام الأئمة الكبار أمثال الدارقطني مقدم على كلام من جاء بعدهم.
ولعل الحافظ ذكر هذه الرواية عند أبي داود ومالك؛ لأن فيها بعض الشروط في مسألة من وجد ماله عند مفلس، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- بيانه.
وأما الرواية الأخيرة فقد أخرجها أبو داود (3523)، وابن ماجه (2360)، والحاكم (2/ 50) من طريق ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر، عن عمر بن خَلْدة
(4)
قال:
…
وذكر الحديث.
وهذا سند ضعيف؛ لأن أبا المعتمر، وهو ابن عمر بن رافع المدني مجهول الحال، كما في "التقريب" وغيره، وتعقبه الألباني بأنه مجهول العين؛ لأنه لم يرو عنه أحد غير ابن أبي ذئب
(5)
.
وقد حكى المنذري عن أبي داود أنه قال بعد هذا الحديث: (من يأخذ بهذا؟ أبو المعتمر: من هو؟ لا يعرف)
(6)
.
وأما تصحيح الحاكم لهذا الحديث ففيه نظر، لما عرفت من حال
(1)
(3/ 45).
(2)
"الإرواء"(5/ 270).
(3)
"حاشية ابن باز على البلوغ"(2/ 520).
(4)
ضبطه في "التقريب" بفتح المعجمة، وسكون اللام.
(5)
"الإرواء"(5/ 272).
(6)
"مختصر السنن"(5/ 177).
أبي المعتمر، وكذا سكوت الذهبي عن تصحيح الحاكم مع أنه قال عنه:(لا يعرف)
(1)
.
ولعل غرض الحافظ من سياق هذه الرواية بيان أن الموت ملحق بالفلس في رجوع من وجد متاعه بعينه، كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (من أدرك ماله) هذا لفظ عام، يشمل من كان له مال عند آخر بقرض أو بيع أو وديعة أو غير ذلك، وترجمة البخاري على الحديث كما تقدم تفيد ذلك، وقد ورد في أحاديث أخرى التصريح بلفظ البيع، ومنها ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان بالإسناد المتقدم عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ:"إذا ابتاع الرجل سلعة، ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء"
(2)
، لكن هذا لا يقتضي تخصيص المسألة بالبيع؛ لأن الخاص الموافق للعام في الحكم لا يخصص العام، كما في الأصول.
قوله: (بعينه) أي: لم يتغير ولم يتبدل بزيادة أو نقص.
قوله: (عند رجل) في رواية أخرى: (عند رجل أو إنسان) وهذا قيد أغلبي، وإلا فالمرأة حكمها كذلك، ولعل تخصيص الرجل بالذكر؛ لأن أكثر من يتعامل بالمال هم الرجال.
قوله: (قد أفلس) أي: افتقر، قال ابن الأثير:(أفلس الرجل: إذا لم يبق له مال)
(3)
والمفلس في عرف الفقهاء: من دينه أكثر من ماله، وخَرْجُهُ أكثر من دخله، سمي مفلسًا: لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسًا، أو لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال، أو لأنه يُمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس؛ لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة
(4)
.
(1)
"الميزان"(4/ 575).
(2)
"صحيح ابن حبان"(11/ 414).
(3)
"النهاية"(3/ 470).
(4)
انظر: "فتح الباري"(5/ 62).
قوله: (فهو) الضمير يعود إلى (من).
قوله: (أحق به من غيره) أي: أحق بماله من غيره كائنًا من كان؛ لأنه وجد ماله بعينه فلا ينازعه فيه أحد، فإن ماله موجود، ومال غيره مفقود.
قوله: (أسوة الغرماء) أي: حظ البائع من هذا المتاع كحظ سائر الدائنين، لا مزية له فيه عليهم.
والغرماء: جمع غريم، والغريم: هو الخصم، وهو من الأضداد يقال: غريم: من عليه الدين، ولمن له الدين، والمراد هنا الثاني.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من وجد ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فله الرجوع فيه، وفسخ العقد إن كان بيعًا أو غيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ودلالة الحديث على هذا واضحة وقوية جدًّا، ولهذا قال الاصطخري من أصحاب الشافعي:(لو قضى القاضي بخلافه، نقضت حكمه)
(1)
.
وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي: البائع أسوة الغرماء
(2)
؛ لأن السلعة صارت بالبيع ملكًا للمشتري ومن ضمانه، قالوا: والحديث خبر واحد، مخالف للأصول.
وهذا اعتذار مردود، فإن الحديث مشهور، ورد من حديث ابن عمر وأبي هريرة وسمرة، وقضى به عثمان رضي الله عنهم، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال الشوكاني:(والاعتذار بأنه مخالف للأصول اعتذار فاسد، لما عرفناك من أن السنة الصحيحة هي من جملة الأصول، فلا يترك العمل بها إلا لما هو أنهض منها، ولم يرد في المقام ما هو كذلك)
(3)
.
(1)
انظر: "المهذب"(1/ 426).
(2)
"نيل الأوطار"(5/ 274).
(3)
المصدر السابق.
° الوجه الخامس: اشترط العلماء في هذه المسألة شروطًا أخذوها من مجموع أحاديث هذه المسألة، وهي ثلاثة:
1 -
أن تكون عين المتاع موجودة عند المشتري المفلس لم تتغير بذهاب صفة من صفاتها بما يزيل اسمها، كخياطة الثوب، وخبز الحب، وجَعْلِ الخشب بابًا، ومثله لو تلف بعض الثوب، أو تضررت السيارة، أو انهدمت الدار أو بعضها، ونحو ذلك، وهذا الشرط مأخوذ من قوله:"بعينه" فإن تغيرت صفات المتاع أو تلف بعضه فصاحبه أسوة الغرماء؛ أي: مثل الغرماء، وهم أصحاب الديون على هذا المفلس، فيأخذ كما يأخذون، ويحرم كما يحرمون، وهذا قول الجمهور.
2 -
ألا يتعلق بالمتاع حق من شفعة أو رهن، وأولى من ذلك ألّا يباع ولا يوهب ولا يوقف، ونحو ذلك، فلا رجوع للبائع على المشتري في شيء من ذلك، ما لم يكن تصرف المشتري حيلة لإبطال الرجوع، فالحِيَلُ باطلة، وهذا الشرط داخل في قوله:"بعينه" لأن المتاع بهذه التصرفات شبيه بالمتلف، حيث لم يجد متاعه بعينه.
3 -
أن يكون الثمن غير مقبوض من المشتري، فإن قبض البائع شيئًا من الثمن فلا رجوع له على المفلس بعين ماله، بل هو أسوة الغرماء، وقد دل على هذا الشرط رواية مالك وأبي داود في قوله:"ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا" ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضًا للصفقة على المشتري وإضرارًا به.
4 -
أن يكون المشتري حيًّا، فإن مات فلا رجوع للبائع بل هو أسوة الغرماء، لقوله في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن:"وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء"، ويمكن أن يستفاد هذا الشرط -أيضًا- من قوله:"عند رجل" فإن هذا ما وجد ماله عند رجل -وهو المشتري- وإنما وجده عند الورثة، ولأن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة، أشبه ما لو باعه، وهذا قول مالك وأحمد وإسحاق.
وقالت الشافعية: إن الموت كالإفلاس
(1)
، فللبائع الرجوع وأخذ عين ماله إذا مات المشتري، مستدلين برواية عمر بن خلدة.
والأول أرجح، لقوله في حديث أبي هريرة المتقدم:"وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء".
وأما رواية عمر بن خلدة التي فيها التسوية بين الإفلاس والموت وأنه يثبت الرجوع فيهما فقد أجيب عنه بجوابين:
1 -
أنه حديث ضعيف كما تقدم، فلا تقوم به حجة.
2 -
أنه غير معمول به إجماعًا؛ لأنه جَعَلَ المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه، ولا عدم قبض ثمنه، والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الأم"(4/ 413 - 414)، "المهذب"(1/ 432)، "نيل الأوطار"(5/ 275).
(2)
"المغني"(6/ 590).
تحريم مطل الواجد وما يباح في حقه
866/ 2 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَعَلَّقَهُ الْبُخارِيُّ، وَصَحّحَهُ ابنُ حِبّانَ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عمرو بن الشريد -بفتح الشين بوزن الطويل- بن سُويد، أبو الوليد الثقفي الطائفي، روى عن أبيه، وأبي رافع، وابن عباس، وآخرين رضي الله عنه، وروى عنه إبراهيم بن ميسرة، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، ويعلي بن عطاء، ومحمد بن ميمون بن مسيكة، وغيرهم، قال العجلي:(حجازي، تابعي، ثقة). وأما أبوه فهو الشريد بن سُويد الثقفي رضي الله عنه، قال ابن السكن:(له صحبة) حديثه في أهل الحجاز، سكن الطائف، وكان اسمه مالكًا، فسمي الشريد في قصة ذكرها عبد الرزاق في "مصنفه"، وقيل غير ذلك، وقال أبو نعيم:(شهد بيعة الرضوان)
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأقضية"، بابٌ "في الحبس في الدين وغيره"(3628)، والنسائي (7/ 316)، وابن ماجه (3627)، وأحمد (29/ 464، 465)، وابن حبان (11/ 486) من طريق وبْرِ بن أبي دُليلة، شيخ من أهل الطائف، عن محمد بن ميمون بن مُسيكة -وأثنى عليه خيرًا-، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، مرفوعًا.
(1)
"تاريخ الثقات" للعجلي ص (365)، "الإصابة"(5/ 71).
وقد علقه البخاري في كتاب "الاستقراض"، بابٌ "لصاحب الحق مقال"
(1)
.
والحديث حسنه الحافظ في "فتح الباري"
(2)
، ولعل تحسينه من أجل محمد بن ميمون، فإنه قد أثنى عليه وَبْرُ بن أبي دليلة، كما في سياق الإسناد، وقال الذهبي:(روى عنه وبرة بن أبي دليلة فقط، وقد قال أبو حاتم: روى عنه الطائفيون، وذكره ابن حبان في "الثقات")
(3)
، وقال الحافظ في "التقريب":(مقبول)، والحديث حسّنه الألباني -أيضًا-
(4)
.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (ليُّ الواجد) هو بفتح اللام، وتشديد الياء، مصدر لوى يلوي ليًا، وأصله: لويًا، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت الأولى بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء في الياء. ومعناه: التسويف والمطل بتأخير الأداء بلا عذر. والواجد: هو الغني القادر على الوفاء.
قوله: (يحل عرضه) بضم الياء من أحلَّ الرباعي؛ أي: يبيح لدائنه أن يصفه بكونه ظالمًا وأنه مماطل.
والعرض: بكسر العين، موضع المدح والذم من الإنسان.
قوله: (وعقوبته) أي: حبسه أو تأديبه حسب رأي الحاكم. قال سفيان: (عرضه: يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس)
(5)
.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مطل الغني القادر على أداء الدين وتأخيره الأداء بلا عذر ظلم لصاحب الحق، وأن هذا المطل والتسويف يبيح لصاحب الحق عرضه، بأن يقول عند القاضي أو من يزيل ظلامته: ظلمني ومنعني حقي ونحو ذلك، ولا يكون ذلك من الغيبة، قال تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] فكلُّ من ظُلِمَ فلا
(1)
انظر: "فتح الباري"(5/ 62).
(2)
المصدر السابق.
(3)
"الميزان"(3/ 598).
(4)
"الإرواء"(5/ 259).
(5)
علقه البخاري (5/ 62 فتح).
حرج عليه أن يشتكي ممن ظلمه. كما يبيح عقوبته من حبس أو تأديب أو بهما جميعًا على ما يراه القاضي، حتى يؤدي الحق الواجب عليه، إذا لم يؤد ما عليه إلا بذلك، وهذه إحدى حالات الغريم إذا حلَّ عليه الدين، وهي أن يكون موسرًا بجميع الدين، فيجب عليه المبادرة بوفائه، وتحرم عليه المماطلة، ويُلزم بالأداء إن لم يفعل.
° الوجه الخامس: دل الحديث بمفهومه على أن تأخير المعسر أداء ما عليه لا يحل عرضه ولا عقوبته، وإنما الواجب إنظاره، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة: 280] أي: وإن وُجِدَ صاحب عسرة لا يستطيع الوفاء فعليكم نظرة إلى ميسرة، وقد ورد أحاديث كثيرة في فضل إنظار المعسر، ومنها: ما رواه أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سرَّه أن ينجيه الله من كُرَبِ يوم القيامة فلينفِّس عن معسر أو يضع عنه"
(1)
وهذه هي الحالة الثانية من حالات الغريم: وهي أن يكون معسرًا، وبقيت حالة ثالثة: وهي أن يكون معسرًا ببعض الدين، فيحجر عليه إذا طلب ذلك الغرماء أو بعضهم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (1563).
قسم مال المفلس ومشروعية الصدقة عليه
867/ 3 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَينُهُ، فَأَفْلَسَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"تَصَدَّقُوا عَلَيهِ"، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلك وَفَاءَ دَينِهِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ:"خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيسَ لَكُمْ إلا ذلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "استحباب الوضع من الدين"(1556) من طريق ليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أصيب رجل) أي: ابتلي ونزل به حادثة.
قوله: (ابتاعها) أي: اشتراها.
قوله: (تصدقوا عليه) أي: لقضاء دينه، وليتبين لغرمائه أنه ليس عنده شيء، فتطيب قلوبهم بما أخذوا، ويسهل عليهم ترك الباقي.
قوله: (ولم يبلغ ذلك) في مسلم: (فلم يبلغ ذلك) والمعنى: أن ما جمع له من الصدقة لم يكف لوفاء دينه.
قوله: (لغرمائه) جمع غريم، والمراد هنا: من له الدين.
قوله: (وليس لكم إلا ذلك) أي: وليس لكم إلا ما وجدتم مما تصُدِّقَ به عليه، وليس لكم تعزيره أو عقوبته أو سجنه.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب مساعدة المدين وإعانته، وذلك بالصدقة عليه؛ لأن الدين من أهم الواجبات التي يسعى المسلم للتخلص منها، ومن تصدق على أخيه المدين فقد سعى في تخليص ذمته من المطالبة المستقبلة، أو من الإثم اللاحق بتأخير الأداء عند الإمكان إن كان وقع ذلك
(1)
.
ويجوز إعطاء المدين من الزكاة إذا كان عاجزًا عن وفاء دينه، لعموم قوله تعالى:{وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] أي: المدينين العاجزين عن الوفاء، ولعموم قوله هنا:"تصدقوا عليه" فإن الزكاة صدقة، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103].
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يجب على المدين المفلس أن يسلم إلى الغرماء جميع ماله، ما لم يقض دينهم، لقوله:"خذوا ما وجدتم" وقد أخذ بظاهر الحديث شريح ومالك والشافعي، فقالوا: تباع داره التي يسكنها، ويكتري بدلها، واختاره ابن المنذر، لعموم "خذوا ما وجدتم"، وهذا مما وجدوا، ولأنه عين مال المفلس، فوجب صرفه كسائر ماله.
وذهب أبو حنيفة وأحمد وإسحاق
(2)
إلى أنه لا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها؛ لأنها بثيابه وقوته أشبه، وأما قوله:"خذوا ما وجدتم" فالظاهر أنه ليس على عمومه، وإنما معناه: خذوا ما وجدتم مما تصدق به عليه؛ لأنه المذكور قبل ذلك.
وهذا القول هو الراجح، وهو أن المفلس لا تباع داره التي يسكنها ولا دابته أو سيارته التي يركبها، وكذا آلة صناعته وحرفته، كأدوات نجارة ونحوها، لحاجته إليها، كثيابه ومسكنه، ولوقيل: إنه ينظر إلى سعة الدار وقيمتها، وكذا قيمة السيارة، ويعتاض منهما بأقل من قيمتهما ما كان بعيدًا، ولا سيما في زماننا هذا، وقد نصَّ الفقهاء على ذلك
(3)
.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه ليس للغرماء أن ينالوا من
(1)
"المفهم"(4/ 427).
(2)
"المغني"(6/ 578).
(3)
المصدر السابق (6/ 579).
عِرْضِ المدين المفلس ولا أن يطلبوا من الحاكم سجنه، لقوله:"وليس لكم إلا ذلك" وهذا مذهب الجمهور، وحكي عن القاضي شريح سجنه حتى يقضي دينه، والصواب الأول.
° الوجه السادس: هذا الحديث من أدلة القائلين بعدم وضع الجوائح، وأن الثمار المبيعة إذا أجيحت فهي من ضمان المشتري.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج هذا الرجل من جميع ماله وأعطاه غرماءه، ولم يسقط عنه شيئًا من الدين لأجل الجائحة، فدل على عدم وجوب وضع الجائحة.
وأجيب عنه: بأن الحديث مجمل؛ لأنه لم يبين سبب كثرة ديون هذا الرجل، وليس فيه أنه أصيب بجائحة، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم منع وضع الجائحة، ولا يتم الاستدلال به إلا بإثبات هاتين المقدمتين، وقد تقدم ذلك.
° الوجه السابع: استدل أكثر العلماء بهذا الحديث على أن المفلس إذا قسم ماله وبقيت عليه بقية وله صنعة أن الحاكم لا يجبره على إيجار نفسه ليقضي دينه، وهذا قول مالك والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، كما استدلوا بعموم قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة: 280]، ولأن هذا تكسُّب للمال، فلم يجبره الحاكم عليه، كقبول الهبة والصدقة.
والقول الثاني: أن الحاكم يجبره على التكسب، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول إسحاق؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، فجاز إجباره عليها، كبيع ماله في وفاء الدين، وهذا القول هو الأظهر، لقوة مأخذه، وهو اختيار الموفَّق، وعبد الرحمن بن قدامة، وأما الآية فالظاهر أنه لا يدخل في عمومها؛ لأنها محمولة على من لا صنعة له
(1)
، وهذا فيه جمع بين الأدلة، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "الشرح الكبير مع الإنصاف"(13/ 339)، "المغني"(6/ 581)، "الممتع شرح المقنع"(3/ 320، 321).
مشروعية الحجر على المفلس
868/ 4 - عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالهُ، وَبَاعَهُ في دَينٍ كَانَ عَلَيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلًا، وَرُجِّحَ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وقد ورد تسميته عبد الرحمن في "المصنف" لعبد الرزاق وغيره، وكان لكعب بن مالك عبد الله وعبيد الله ومحمد ومعبد وعبد الرحمن، وكل واحد منهم قد روى عن أبيه كعب رضي الله عنه.
قال ابن سعد: (كان ثقة، وهو أكثر حديثًا من أخيه عبد الله، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك)
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث روي موصولًا، وروي مرسلًا، فقد أخرجه الدارقطني (4/ 230، 231)، والحاكم (2/ 58، 3/ 273) من طريق أبي إسحاق إبراهيم بن معاوية بن الفرات الخزاعي: حدثنا هشام بن يوسف -قاضي اليمن-، عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، به.
وقال الحاكم: ( .. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
(1)
"المصنف"(8/ 268)، "تهذيب التهذيب"(6/ 233).
وهذا خطأ فاحش، فإن إبراهيم بن معاوية ليس هو من رجال الصحيحين ولا السنن الأربعة، وقد تفرد به، قال الطبراني عقبه:(لم يروه موصولًا عن معمر إلا هشام، تفرد به إبراهيم). ثم إن الذهبي لما ذكر إبراهيم هذا قال عنه: (ضعفه زكريا الساجي
(1)
وغيره)
(2)
.
وقد أخرجه عبد الرزاق (8/ 268) ومن طريقه أبو داود في "المراسيل" رقم (161)، من طريق معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، مرسلًا.
وهذا المرسل إسناده صحيح، وقد صحح الإرسال جماعة من المحدثين، وهو الذي يفهم من صنيع البيهقي (6/ 48) وقال عبد الحق:(المرسل أصح)
(3)
، وقال ابن عبد الهادي:(المشهور في الحديث الإرسال)، وقال:(الصحيح أنه مرسل)
(4)
.
وترجيح الإرسال يؤكد ضعف إبراهيم بن معاوية، وأنه أخطأ على معمر في وصل الحديث، إن لم يكن الخطأ من هشام بن يوسف، خلافًا لعبد الرزاق عنه فإنه أرسله كما تقدم، وقد رواه سعيد بن منصور في "سننه" من طريق ابن المبارك: أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلًا، نقل ذلك ابن عبد الهادي في "التنقيح".
وقال ابن الطَّلَّاع: (هو حديث ثابت، وكان سنة تسع من الهجرة، وخَلَّصَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماله لغرمائه، وحصل لهم خمسةُ أسباعِ حقوقهم)
(5)
.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من قل ماله عن الديون التي عليه وسأل غرماؤه الحجر عليه، أن الحاكم يحجر عليه، ومعناه: أن يمنعه من
(1)
قال الذهبي عن زكريا بن يحيى الساجي: (الإمام الثبت الحافظ)، مات سنة (307 هـ) انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(14/ 197).
(2)
"الميزان"(1/ 66).
(3)
"الأحكام الوسطى"(2/ 287).
(4)
"التنقيح"(3/ 26)، "المحرر"(2/ 496).
(5)
الأقضية النبوية" لابن الطلاع ص (98).
التصرف في ماله الموجود، أو الحادث الذي يتجدد بعد الحجر كأرش جناية أو إرث أو هبة، ونحو ذلك، والغرض من هذا الحجر مصلحة الغريم، لئلا يتوسع في الدين، ومصلحة الغرماء لما فيه من حفظ أموالهم حتى لا تضيع حقوقهم، وإنما كان الحجر عن طريق الحاكم لأمرين:
الأول: أن الحجر يحتاج إلى اجتهادٍ في الحكم به.
الثاني: أن الحجر يحتاج إلى ولاية تشريعية تنفيذية، ولا يقوم بذلك إلا الحاكم، ومثله القاضي.
ثم يقسم الحاكم مال المفلس على الغرماء بقدر ديونهم الحالَّة، ويبيع ما ليس من جنس الدين، كمنزل، أو سيارة ونحو ذلك مما هو زائد عن حاجته، إلا إن رضي أحد الغرماء بأخذه عوضًا عن ماله أخذه إن كان بقدر دينه.
وقسمة مال المفلس على الغرماء لا تكون بالتساوي، وإنما على قدر ديونهم؛ لأن في ذلك تسوية بينهم ومراعاة لمقدار حقوقهم، كما قال ابن الطلَّاع في قصة معاذ رضي الله عنه:(إنه حصل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم).
وكيفية القسمة: أن تُنسب الموجود من مال المفلس إلى الدين، ويُعطى كل واحد من الغرماء من دينه بقدر تلك النسبة، فلو كان دينه عشرة آلاف ريال، والموجود من ماله ثمانية آلاف، فإن نسبة الثمانية إلى العشرة أربعة أخماس، فيأخذ كل واحد من الغرماء أربعة أخماس ماله من الدين، فمن له على المفلس خمسة آلاف أخذ أربعة، ومن له ثلاثة أخذ ألفين وأربعمائة، ومن له ألفان أخذ ألفًا وستمائة
…
وهكذا. والله تعالى أعلم.
من علامات البلوغ
869/ 5 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: عُرِضْتُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفِيي رِوَايَةٍ لِلْبَيهَقيِّ: فَلَمْ يُجِزْنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ. وَصَحَّحَهَا ابْنُ خُزَيمَةَ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب "بلوغ الصبيان وشهادتهم"(2664)، ومسلم (1868) من طريق عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، قال: حدثني ابن عمر رضي الله عنهما
…
وذكر الحديث
…
وزادا: قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فحدثته، فقال: إن هذا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عماله أن يفرضوا
(1)
من بلغ خمس عشرة. وزاد مسلم: (ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال).
وأما زيادة البيهقي (6/ 55) فقد أخرجها -أيضًا- ابن حبان (11/ 30، 31) كلاهما من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع، به. وقد نقل الحافظ هنا تصحيحها عن ابن خزيمة، وقال في "الفتح": (هي زيادة صحيحة لا مطعن فيها، لجلالة ابن جريج
…
وقد صرح
(1)
أي: يقدروا لهم رزقًا في ديوان الجند.
فيها بالتحديث، فانتفى ما يخشى من تدليسه)
(1)
، ونقل البيهقي عن ابن صاعد
(2)
أنه قال: (في هذا الحديث حرف غريب، وهو قوله: "ولم يرني بلغت").
ولعل غرض الحافظ من ذكر رواية البيهقي أن فيها بيان السبب الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز ابن عمر رضي الله عنهما في أُحد، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رآه قد بلغ، وأجازه في الخندق لقدرته الجسمية والطاقة على القتال
(3)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم) أي: قُدِّمْتُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لينظر إليَّ ويعرف حالي ومقدرتي على القتال.
قوله: (يوم أُحد) أي: في غزوة أُحد، وهي سنة ثلاث بلا خلاف.
قوله: (فلم يُجزني) بضم الياء، من أجاز الرباعي، بمعنى: أنفذ، والمعنى: لم يأذن لي في الخروج إلى القتال في أُحد، وقوله:"فأجازني" أي: أمضاني وأذن لي في غزوة الخندق لما بلغت خمس عشرة؛ لأنه جعل لي حكم الرجال المقاتلين.
قوله: (يوم الخندق) أي: في غزوة الخندق، سنة خمس على القول الراجح
(4)
، وعلى هذا يكون سِنُّ ابن عمر ست عشرة؛ لأن بين أُحد والخندق سنتين كاملتين، وقد أجاب ابن القيم عن هذا بجوابين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السِّن التي رآها فيها مطيقًا.
الثاني: لعله كان في أُحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامسة عشرة
(5)
.
(1)
"فتح الباري"(5/ 279).
(2)
قال الذهبي في "السير"(14/ 501) عن ابن صاعد: (عالم بالعلل والرجال)، ثم نقل عن الدارقطني أنه قال:(ثقة ثبت حافظ)، مات سنة (318 هـ).
(3)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 270).
(4)
"البداية والنهاية"(6/ 9).
(5)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 270).
° الوجه الثالث: استدل بحديث ابن عمر رضي الله عنهما من قال: إن الخمس عشرة سنة بلوغ، يلزم به الفرائض والحدود وغيرها من الأحكام، وهذا قول الشافعي وأحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول الأوزاعي
(1)
.
وعن أحمد رواية: أن الخمس عشرة بلوغ للذكر وحده دون الجارية. قال أصحاب هذا المذهب: إن العادة الفاشية والغالب أن الاحتلام والحيض يكونان في هذا السن، ولا يتأخر عنه إلا قليل، والعبرة بالعام والغالب لا بالقليل
(2)
.
والقول الثاني: أنه ليس للبلوغ من معين، لا خمس عشرة ولا غيرها، إلا بالاحتلام، وهذا قول داود الظاهري، ورواية عن الإمام أحمد، وقول للإمام مالك، وإليه مال ابن القيم وقوَّاه
(3)
. مستدلين بما تقدم من حديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم
…
".
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل غاية رفع التكليف: الاحتلام، وعلى هذا فإثبات التكليف بغير الاحتلام مخالفة للخبر.
وأجابوا عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما بأنه لا دلالة فيه على البلوغ، وإنما هو محمول على إرادة القدرة والطاقة على القتال، يؤيد ذلك حديث سمرة رضي الله عنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض غلمان الأنصار في كل عام، فيلحق من أدرك منهم. قال: فَعُرضت عامًا، فألحق غلامًا وردني، فقلت: يا رسول الله لقد ألحقته ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال: "فصارعه" فصارعته، فصرعته، فألحقني)
(4)
.
(1)
انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم"(13/ 15)، "شرح فتح القدير"(9/ 270)، "الإنصاف"(5/ 320).
(2)
"شرح معاني الآثار"(3/ 320).
(3)
"المغني"(6/ 597)، "تحفة المودود" ص (181).
(4)
أخرجه الحاكم (2/ 60)، والبيهقي (9/ 22) وغيرهما، وإسناده صحيح.
ثم إن حديث ابن عمر ليس بدليل واضح على أن البلوغ بخمس عشرة، لما تقدم من أن سِنَّ ابن عمر في الخندق يزيد على خمس عشرة، لوجود سنتين كاملتين بين أُحد والخندق، يقول ابن حزم:(ولا خلاف في أنه يقال في اللغة من بقي عليه من ستة عشر عامًا الشهر والشهران: هذا ابن خمسة عشر عامًا).
وهذا القول وجيه، فإنه لم يرد في اعتبار السن بلوغًا حديث، سوى حديث ابن عمر رضي الله عنهما من إجازته ورده، ومما يؤيد ذلك اضطراب أقوال العلماء واختلافها في السن الذي يحكم للصبي عنده بالبلوغ، فقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: سبع عشرة، أو ثمان عشرة، أو تسع عشرة، والله تعالى أعلم.
البلوغ بالإنبات
870/ 6 - عَنْ عَطِيّةَ الْقُرَظيِّ رضي الله عنه قَال: عُرضْنَا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلهُ، فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ، فَخُلِّيَ سَبِيلي. رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
° الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عطية القرظي -بضم القاف، وفتح الراء- نسبة إلى قريظة، وهم بطن من اليهود كانوا يسكنون المدينة النبوية، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فنكثوا عهدهم، وأظهروا العداوة لما رأوا اجتماع القبائل يوم الخندق، وانضموا إلى الأحزاب، وأوقعوا المسلمين في أشد المواقف حرجًا، فلما هزم الله الأحزاب أمكن الله نبيه منهم، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه بأن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت فإنه يسبى، ومن هؤلاء عطية القرظي، فخلي سبيله وأسلم، وصار من عداد الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن عبد البر:(لم أقف على اسم أبيه، وأكثر ما يجيء هكذا: عطية القرظي)، روى عنه جماعة، أشهرهم عبد الملك بن عمير -الكوفي الثقة الفقيه- فقد اشتهر حديثه عنه، وبه عرف
(1)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الحدود"، بابٌ "في الغلام يصيب الحد"
(1)
"الاستيعاب"(8/ 97)، "الإصابة"(7/ 15).
(4404، 4405)، والترمذي (1584)، والنسائي (6/ 155)، وابن ماجه (2541)، وأحمد (31/ 67)، وابن حبان (11/ 104)، والحاكم (2/ 123) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، أنه سمع عطية القرظي رضي الله عنه يقول:
…
فذكره.
وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، غير صحابيه، فإنهما لم يخرجا له. قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (يوم قريظة) أي: غزوة قريظة، وكانت بعد الانتهاء من غزوة الأحزاب يوم الخندق سنة خمس.
قوله: (من أنبت) الإنبات عند أهل اللغة: ظهور شعر العانة واستبانته، وهذا معناه عند الفقهاء، إلا إنهم يقيدون الشعر الثابت بكونه خشنًا، بحيث يحتاج في إزالته إلى الحلق أو ما يقوم مقامه، كما أنهم يقيدون ذلك بوقت يمكن فيه الاحتلام.
* الوجه الرابع: استدل بحديث عطية من قال: إن الإنبات من علامات البلوغ، والمراد به -كما تقدم- الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو قبل المرأة، وأما الزَّغَبُ الضعيف فلا اعتبار به؛ لأنه قد ينبت في حق الصغير، وهذا قول مالك، والشافعي في قول له، وأحمد في المشهور عنه، وابن حزم، وجماعة من السلف، وعند الشافعي أن الإنبات بلوغ في حق المشركين يميز به بين الذرية والمقاتلة، فَيُقتل من أنبت، ويترك من لم ينبت
(1)
.
ووجه الاستدلال من الحديث واضح، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكشفون عانة من شكّوا فيه من بني قريظة، أهو من المقاتلة، أم من الذراري؟ فإن وجدوا عانته قد نبتت قتلوه، ومن وجدوه لم ينبت تركوه؛ لأنه ليس بالغًا، فيكون من الذرية ويسْتَرَقُّ.
(1)
"الإحكام" لابن حزم (5/ 687)، "المغني"(6/ 597)، "المهذب"(1/ 435).
والقول الثاني: أن الإنبات ليس بلوغًا ولا من علامات البلوغ، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن مالك، ورواية عن أحمد؛ لأنه نبات شعر، فأشبه نبات شعر سائر البدن، فلا ينبغي أن يكون دليلًا على البلوغ، أسوة بباقي الشعر في جسم الإنسان
(1)
.
وأجاب الأولون بمنع هذا القياس، وذلك أن العادة جرت على أن نبات العانة يصاحب الاحتلام أو يقاربه، فيصح أن يكون علمًا على البلوغ.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث يدل صراحة على أن من أنبت من الكفار يقتل، ومن لم ينبت فلا يقتل، وأما دلالته على أن الإنبات دليل على البلوغ في حق المسلمين فليس بواضح، وإنما هو يدل على أن الإنبات من علامات البلوغ في حق الكفار؛ لأن الكفار لا يمكن الوقوف على احتلامهم؛ لأن أقوالهم غير مقبولة عندنا، لا سيما في الأمور التي يترتب عليها هلاكهم أو فرض الجزية عليهم، فيعدل إلى علامة لا يمكن إنكارها، وهي الإنبات، فأما في حق المسلمين فليس بدليل على البلوغ؛ لأن الله تعالى قال:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم"، وفي رواية:"حتى يبلغ"، ولم يذكر الإنبات، فإثبات البلوغ والتكليف بغير الاحتلام مخالفة للخبر، والمسلمون يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم لأنها محفوظة، وأوقات مواليدهم مؤرخة معلومة، ولا سيما في زماننا هذا، وأخبارهم في ذلك مقبولة
(2)
.
والذي أجمع عليه العلماء من علامات البلوغ هو الاحتلام، وهو إنزال المني يقظة أو منامًا، وهو علامة في حق الذكر والأنثى، وكذا الحيض في حق الأنثى، وما عداهما من العلامات، كالسن والإنبات وغيرهما، فهو موضع خلاف بين أهل العلم، والله أعلم.
(1)
انظر: "الإفصاح"(1/ 375)، "المغني"(6/ 597)، "تفسير القرطبي"(5/ 35 - 36)، "الإنصاف"(5/ 320).
(2)
انظر: "التعريف بعلامات بلوغ التكليف" ص (69)، "ضوابط البلوغ عند الفقهاء" ص (33).
حكم تصرف المرأة في مالها بلا إذن زوجها
871/ 7 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جدهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"لا يَجُوزُ لامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا".
وَفي لَفْظٍ: "لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمرٌ في مَالِهَا إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عصْمَتَهَا".
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلا التِّرْمِذِيّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأولى: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في عطية المرأة بغير إذن زوجها"(3547)، والنسائي (5/ 65، 66)، وابن ماجه (2388)، وأحمد (11/ 264، 265)، والحاكم (2/ 47) كلهم من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث.
والحديث سنده حسن، على الراجح من كلام أهل العلم في أحاديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، كما قرر ذلك الذهبي وغيره
(1)
، وقد رواه الإِمام أحمد مطولًا، ولبعض جُمَلِهِ شواهد يصح بها.
واللفظ الثاني لأبي داود (3546)، والنسائي (6/ 278)، وأحمد (11/ 632، 633) من طريق داود بن أبي هند وحبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، به.
(1)
"الموقظة" ص (32).
والغرض من ذكر هذه الرواية بيان أن المراد بقوله في الرواية الأولى: "لا يجوز لامرأة عطية
…
" أي: من مالها، فتكون مفسرة للرواية الأولى، وقول السندي في شرح الرواية الأولى: أي: من مال الزوج، وإلا فالعطية من مالها لا يحتاج إلى إذن عند الجمهور
(1)
، فيه نظر، ولعله غفل عن هذه الرواية المفسِّرة؛ لكونها في موضع آخر عند النسائي، كما تقدم.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (هذا حديث مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على أن للمرأة التصرف في مالها مطلقًا إذا كانت رشيدة، كحديث جابر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما في حث النبي صلى الله عليه وسلم النساء يوم العيد على الصدقة، فجعلن يتصدقن بأقراطهن وخواتيمهن .. الحديث. ولم يخبرهن بأن ذلك مقيد بإذن الزوج، وحديث ميمونة رضي الله عنها في إعتاق الجارية من غير إذن زوجها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وعمرو بن شعيب حديثه حسن إذا لم يخالف الثقات، أما إذا انفرد بما يخالفهم فلا يحتج به، فكيف بمثل هذا؟ والله الموفق)
(2)
.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المرأة محجورة عن التصرف في مالها إذا كانت ذات زوج، إلا فيما أذن فيه زوجها، وهذا صريح في الرواية الثانية لزيادة لفظ:"في مالها".
ولم يأخذ بهذا الحديث إلا طاوس، كما نقله عنه ابن حزم
(3)
، وهو قول المالكية إذا كان التصرف بأكثر من الثلث، وهو رواية عن الإِمام أحمد
(4)
.
وذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم: الحنفية، والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة، إلى أن للمرأة الرشيدة التصرف بمالها كله بالتبرع
(1)
"سنن النسائي"(5/ 66).
(2)
"حاشية ابن باز على البلوغ"(2/ 523).
(3)
"المحلى"(8/ 311).
(4)
"المغني (6/ 602).
والمعاوضة، ولا يشترط إذن الزوج
(1)
، واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوَالهُمْ} [النساء: 6] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا وعلم الرشد منهم، وهذا ظاهر في فَكِّ الحجر عنهم، وإطلاقهم في التصرف، والآية عامة في المذكور والإناث.
2 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما في موعظة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد وأنه قال: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن
…
"
(2)
وأنهن تصدقن، فقبل صدقتهن، ولم يسأل عن إذن أزواجهن لهن في الصدقة، فدل على أنه لا يشترط.
3 -
عن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما أنها أعتقت وليدة لها، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله، أني أعتقت وليدتي، قال:"أو فعلت؟ " قالت: نعم، قال:"أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك"
(3)
.
ووجه الاستدلال: أن ميمونة رضي الله عنهما أعتقت ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو الأولى، ولو كان لا ينفذ تصرفها في مالها إلا بإذن الزوج لأبطله النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الراجح -إن شاء الله- لقوة أدلته، ولقياس المرأة على الغلام بجامع الرشد، فكما أن الغلام إذا رشد وجب دفع ماله إليه، وجاز له التصرف فيه من غير إذن، فكذلك المرأة.
وأما حديث عمرو بن شعيب فأجيب عنه بجوابين:
1 -
أن مرويات عمرو بن شعيب من قبيل الحسن، لكن هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدمة الدالة على الجواز، فيكون شاذًّا، وقد
(1)
"المغني"(6/ 602).
(2)
أخرجه البخاري (978)، ومسلم (885).
(3)
أخرجه البخاري (2592)، ومسلم (999).
ذكر العلماء أن حديث عمرو بن شعيب من قبيل الحسن إذا لم يخالف الثقات، أما إذا انفرد بما يخالفهم فلا يحتج به
(1)
.
2 -
أن الحديث محمول على الأدب والاختيار، وحسن العشرة، وأن من ذلك أن تستشير المرأة زوجها وتستأذنه في التصرف في مالها ببيع أو شراء أو هبة ونحو ذلك، وهذا دليل على احترام المرأة زوجها، والثقة بعقله ورأيه ومشورته، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "سير أعلام النبلاء"(5/ 169، 175).
كما جاء في أن الإعسار لا يثبت إلا بشهادة ثلاثة
872/ 8 - عَنْ قَبيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِي رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلا لأَحَدِ ثلاثة: رَجُلٍ تَحَمّلَ حَمَالةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِك، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحةٌ اجْتَاحَتْ مَالهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتى يُصيبَ قِوَامًا مِنْ عَيشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأولى: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم الكلام عليه في آخر كتاب "الزكاة"، باب "قسمة الصدقات" رقم (645) وهو من الأحاديث التي كررها الحافظ في "البلوغ".
* الوجه الثاني: لعل الحافظ ذكر هذا الحديث في هذا الباب لبيان أن هذا الرجل الذي تحمل حمالة قد لزمه دين، فلا يكون له حكم المفلس في الحجر عليه، بل يترك حتى يسأل الناس فيقضي دينه، أو أن غرضه بيان أنه لا بد في ثبوت إفلاس المفلس من شهادة ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن فلانًا أصابته فاقة، وليكون ذلك مبيحًا له سؤال الناس.
وظاهر الحديث أنه لا بد من ثلاثة، وأن الإعسار لا يثبت بأقل من ذلك، وهذا قول ابن خزيمة، وبعض أصحاب الشافعي، وذكر ابن قدامة أنه نُقِلَ عن أحمد ما يدل عليه
(1)
.
(1)
"المغني"(14/ 128).
وذهب الجمهور إلى أنه يقبل في ذلك عدلان كسائر الشهادات، غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب.
والذي يظهر من لفظ الحديث أن شهادة الثلاثة لا تكون إلا فيمن أصابته فاقة بعد الغنى، أما من كان معروفًا بالفقر وعدم الغنى فلا تشترط شهادة الثلاثة لحِلِّ المسألة له.
والظاهر اعتبار العدد المذكور في حل المسألة وفي ثبوت الإعسار، بل قال ابن القيم: إذا كان يعتبر العدد في أخذ الزكاة وحِلِّ المسألة فاعتباره في دعوى الإعسار أولى وأحرى لتعلق حق العبد مسألة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الطرق الحكمية" ص (173).
باب الصلح
الصلح: اسم مصدر للفعل صالح، ومصدره المصالحةُ والصِلاحُ بالكسر، على وزن الفِعال والمفاعلة، ومعناه لغة: قطع المنازعة، وهو مأخوذ من صَلَحَ الشيء: إذا كمل، وهو خلاف الفساد، قال ابن فارس:(الصاد واللام والحاء أصل واحد، يدل على خلاف الفساد)
(1)
.
واصطلاحًا: عقد يرفع النزاع بالتراضي. كالإصلاح بين قبيلتين أو متخاصمين أو بين زوجين أو طالبين أو نحو ذلك.
وقد رغب الإِسلام في الصلح وحث عليه، لما فيه من حسم النزاع، وسلامة القلوب، وبراءة الذمم، فهو من أكبر العقود فائدة، ولهذا جاز الكذب فيه، كما دلت السنة على ذلك.
وقد أمر الله تعالى بالصلح وبيّن فضله وأهميته، فقال تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيرٌ} [النساء: 128]، وقال تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقال تعالى:{لَا خَيرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَينَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114].
وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، فمن الفعل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني عمرو بن عوف في قباء ليصلح بينهم، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه المتفق عليه.
ومن القول: حديث الباب، وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(3/ 303).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ ".
قالوا: بلى، قال:"إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"
(1)
.
وقد أجمع العلماء على مشروعية الصلح، وإن كان بينهم ثمة اختلاف في جواز بعض صوره.
(1)
أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) وقال:(هذا حديث حسن صحيح).
جواز الصلح ما لم يخالف الشريعة
873/ 1 - عَن عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"الصُّلْحُ جَائِزٌ بَينَ المُسْلِمِينَ، إلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالًا، وَأَحَل حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حلالًا، وَأَحَلَّ حَرَامًا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحّحَهُ. وَأَنْكَرُوا عَلَيهِ؛ لأَنَّ رَاويَهُ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ، وَكأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ.
874/ 2 - وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: مِنْ حَدِيثِ أَبيِ هُرَيرَةَ رضي الله عنه.
* الكلام عليهما من وجوه:
* الوجه الأولى: في ترجمة الراوي:
وهو عمرو بن عوف بن زيد المزني، أبو عبد الله، كان قديم الإِسلام، ويقال: إنه قدم مع النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول غزوة شهدها الأبواء، وقيل: إن أول مشاهده الخندق، وكان أحد البكائين الذين قال الله فيهم:{تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] كما ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير وغيرهما
(1)
. جاء عنه عدة أحاديث من رواية كثير بن عبد الله المزني، وهو ضعيف، كما سيأتي، ذكر ابن سعد وغيره أنه مات في آخر ولاية معاوية رضي الله عنهما
(2)
.
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي في "الأحكام"،
(1)
"تفسير ابن جرير"(14/ 421 - 423)، "تفسير ابن كثير"(4/ 138).
(2)
"الاستيعاب"(8/ 347)، "الإصابة"(7/ 132).
باب "ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس"(1352) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح). وقد أنكر العلماء على الترمذي تصحيحه لهذا الحديث، قال الذهبي في ترجمة "كثير بن عبد الله": (وأما الترمذي فروى من حديثه: "الصلح جائز بين المسلمين" وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي
(1)
)
(2)
. قال ابن كثير: (وقد نوقش الترمذي في تصحيحه هذا الحديث وما شاكله من الأحاديث الضعاف)
(3)
، وقال ابن عبد الهادي:(لم يُتَابَعِ الترمذي على تصحيحه. . .)
(4)
، وذلك لأن الحديث كما تقدم من رواية كثير بن عبد الله المزني، وهو ضعيف جدًّا، بل رُمي بالكذب.
قال ابن معين: (ليس بشيء)، وقال الشافعي وأبو داود:(ركن من أركان الكذب)، وقال الدارقطني وغيره:(متروك)، وقال النسائي:(ليس بثقة)، وقال عبد الله ابن الإِمام أحمد:(أمرني أبي أن أضرب على حديثه)، وقال ابن عدي:(كَثِيرٌ هذا عامة أحاديثه لا يتابع عليها)
(5)
.
وقول الحافظ: (كأنه اعتبره بكثرة طرقه) هذا اعتذار عن الترمذي لتصحيح الحديث، والحديث ليس له طرق أخرى، فالظاهر أن مراد الحافظ كثرة شواهده.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أشار إليه الحافظ، فقد أخرجه أبو داود (3594)، وأحمد (14/ 389)، وابن حبان (11/ 488)، والحاكم (2/ 49) من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين" زاد ابن حبان: "إلا صلحًا
(1)
ردَّ الشيخ أحمد شاكر على الذهبي، وقال: (هذا غلوٌّ منه
…
) إلخ كلامه، تجده في (2/ 362) من تعليقه على "جامع الترمذي".
(2)
"الميزان"(3/ 407).
(3)
"إرشاد الفقيه"(2/ 54).
(4)
"المحرر"(2/ 571).
(5)
انظر: "تهذيب التهذيب"(8/ 377).
أحل حرامًا، أو حرم حلالًا" وزاد أبو داود والحاكم في أوله:"المسلمون على شروطهم".
وهذا سند حسن، من أجل كثير بن زيد الأسلمي، فإنه مختلف فيه، وهو حسن الحديث، لا بأس به، قال ابن عدي:(كثير بن زيد الأسلمي لم أر بحديثه بأسًا، وأرجو أنه لا بأس به)
(1)
، وقال الألباني:(فمثله حسن الحديث -إن شاء الله تعالى- ما لم يتبين خطؤه، كيف وهو لم يتفرد به)
(2)
.
وباقي رجال الإسناد ثقات غير الوليد بن رباح فهو صدوق، ولعل الحافظ لم يورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه واعتبره شاهدًا مع أنه أصح من حديث عمرو بن عوف؛ لأنه أخصر، وحديث عمرو أتم.
وعلى هذا فلعل الترمذي صححه باعتبار شواهده، أو أن الترمذي يُقَوِّي أمر كثير بن عبد الله؛ لأن الحافظ قال: (كثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثرين، لكن البخاري
(3)
ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يُقَوُّوْنَ أمره)
(4)
.
قال ابن العربي: (قد روي من طرق عديدة ومقتضى القرآن وإجماع الأمة على لفظه ومعناه)
(5)
ولما ساق شيخ الإِسلام ابن تيمية هذا الحديث وبعض شواهده قال: (وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا، فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا
(6)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (الصلح جائز) أي: ليس بحكم لازم يقضى به وإن لم يرض الطرف الآخر، وظاهر العبارة العموم، فيشمل جميع أنواع الصلح الجائزة في الأموال والأنفس والأنكحة والحروب، ونحو ذلك مما سيأتي.
قوله: (بين المسلمين) خصهم لا لإخراج غيرهم، بل لدخولهم في ذلك دخولًا أوليًّا اهتمامًا بشأنهم، ولأنهم المنقادون لأحكام الشرع، فيكون مما
(1)
"الكامل"(6/ 69).
(2)
"الإرواء"(5/ 143).
(3)
انظر: "تهذيب التهذيب"(8/ 377).
(4)
"فتح الباري"(4/ 371).
(5)
"عارضة الأحوذي"(6/ 103).
(6)
"الفتاوى"(19/ 147).
خرج مخرج الغالب؛ لأن الصلح جائز بين الكفار، وبين المسلم والكافر إن كان فيه مصلحة للمسلم.
قوله: (إلا صلحًا حرم حلالًا) أي: تضمن تحريم ما أحله الله تعالى، وهذا تخصيص للعموم المتقدم، والصلح الذي يحرم حلالًا كمصالحة الزوجة زوجها على ألا يطلقها، أو لا يتزوج عليها.
قوله: (وأحل حرامًا) هكذا بالواو في الموضعين في نسخ "البلوغ" والذي في "السنن"(أو) والصلح الذي أحلَّ حرامًا كأن يصالح صاحب الحق الذي يجهل مقداره والمدين عالم به، فيصالحه على ما يجحف بصاحب الحق، أو يصالح امرأة على مال لِتقرَّ له بالزوجية، أو يصالح على إسقاط الحد عنه بدفع شيء من المال.
قوله: (والمسلمون على شروطهم) أي: ثابتون عليها لا يرجعون عنها بحكم إسلامهم، وفي تعديته بـ (على) ووصفهم بالإِسلام دلالة على علو مرتبتهم وأنهم لا يُخِلّونَ بشروطهم.
والشروط: مفرد شرط، والمراد هنا: إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة، كما في البيع، والإجارة، والنكاح، ونحو ذلك.
قوله: (إلا شرطًا حرم حلالًا) أي: تضمن تحريم ما أحله الله تعالى، كأن يُشترط ألا يطأ زوجته، أو يشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع، أو شرط على زوجته أن لا مهر لها، أو لا ينفق عليها، أو يقسم لها أكثر من ضرتها أو أقل، أو شرطت طلاق ضرتها، ونحو ذلك من الشروط المحرمة.
قوله: (وأحل حرامًا) كأن يتزوج المرأة بشرط تحليلها لزوجها، أو يُوجِرَهُ محلًا على أن يبيع محرمًا كالدخان وآلات اللهو والطرب، ونحوهما.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الصلح وأنه جائز إذا اعتُمد فيه رضا الله تعالى، ورضا الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، ولا يكون ذلك إلا بشرطين: العلم، والعدل؛ العلم بالوقائع، والمعرفة بالواجب، وقصد العدل بين المتصالحين.
* الوجه الخامس: يدخل في الصلح الجائز الصلح المتعلق بالأموال، وذلك في صلح الإقرار بأن يقر له بدين، أو عين، أو حق، فيصالحه عنه ببعضه أو غيره.
وصلح الإنكار: وهو أن يدعي شخص على آخر شيئًا، فينكره المدعى عليه، ثم يصالح عنه، قطعًا للخصومة والنزاع، بشرط أن يكون المدعي معتقدًا أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، أما إذا كان أحدهما عالمًا بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه، وما أخذه العالم بكذب نفسه حرام عليه؛ لأنه من أكل المال بالباطل، كما يدخل في الصلح الجائز، الصلح عن الحقوق المجهولة، كأن يكون بين شخصين معاملة طويلة جَهِلَا فيها ما على أحدهما للآخر، أو جهلا ما بينهما من الحقوق، فاصطلحا على شيء معين، وتمام ذلك أن يسامح أحدهما الآخر.
وكذلك الصلح عن الدين المؤجل ببعضه حالًا، فإنه يجوز على الراجح من قولي أهل العلم، وهو رواية عن الإِمام أحمد، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني
(1)
؛ لأن فيه مصلحة للدائن، وهي أنه تعجل قبض حقه، ومصلحة للمدين وهي براءة ذمته، وإسقاط بعض الدين عنه، وقد يحتاج صاحب الحق إلى حقه لعذر من الأعذار، ولا دليل على المنع، وليس هذا من الربا؛ لأن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابل الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابل سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابل سقوط بعض الأجل، فانتفع كل واحد منهما.
* الوجه السادس: أن الصلح إذا تضمن تحريم الحلال أو تحليل الحرام فإنه فاسد؛ لأنه صلح محرم، وكذا الصلح الجائر الذي فيه ظلم لأحد الطرفين؛ لأن الله تعالى قيد الصلح بالعدل، فقال سبحانه: {فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
(1)
"المغني"(7/ 21)، "الاختيارات" ص (134)"إعلام الموقعين"(3/ 371)، "السيل الجرار"(3/ 147).
بَينَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، ومن الناس من يصلح ولكنه يظلم ويجور، فيصلح بين ضعيف مظلوم وقادر ظالم بما يُرضي به القادر صاحب الجاه طمعًا في جاهه أو دنياه، فيجعل الحظ له، والإغماض والحيف على الضعيف، وقد يأتي بالعبارات والتحذيرات التي يقبل بها الضعيف الصلح مع الظالم، هذا ظلم وجور.
* الوجه السابع: الحديث دليل على أنه إذا شرط أحد المتعاقدين على الآخر ما له فيه مصلحة أن ذلك جائز، وهو لازم إذا وافق الآخر عليه واعترف به، كأن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، كسكنى الدار، أو المحل التجاري مدة معلومة، أو يستعمل السيارة أو يسافر عليها إلى مكان معين مدة معلومة، أو يشترط المشتري في المبيع وصفًا مقصودًا، يكون الدابة لبونًا، أو أن الثمن أو بعضه مؤجل، وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في كتاب "البيوع"، وقد تقدم شيء منه.
ومن ذلك شرط الزوجة على زوجها أن يكون معها أولادها من غيره، أو أن تبقى في بلدها، أو تسكن في دارها، ونحو ذلك، كما يدخل في ذلك شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم ما فيه نفع ومصلحة.
* الوجه الثامن: النهي عن الشروط التي تحل حرامًا، أو تحرم حلالًا، ولا يجوز الوفاء بها؛ لأنها شروط باطلة، لقوله على:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"
(1)
والمراد بكتاب الله: حكم الله وشرعه، والله تعالى أعلم.
(1)
تقدم تخريجه والكلام عليه برقم (791).
نهي الجار عن منع جاره من غَرْزِ خَشَبَةٍ في جداره
875/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبةً في جِدَارِهِ" ثمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ واللهِ لأرْمِيَنَّ بِهَا بَينَ كتَافِكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
* الكلام عليه عن وجوه:
* الوجه الأولى: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "المظالم"، باب "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"(2463)، ومسلم (1659) من طريق مالك، عن ابن لثهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا. وهذا لفظ البخاري.
وهذا الحديث ذكره الحافظ في باب "الصلح" على عادة الفقهاء في ذكر مسائل تتعلق بالجوار في آخر باب "الصلح" ومنها مسألة الجدار.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا يمنع) بالجزم على أن (لا) ناهية، ويروى بالرفع على أن (لا) نافية، ويكون خبرًا بمعنى النهي، وعند أحمد:"لا يمنعَنَّ" بنون التوكيد، وهي تؤيد رواية الجزم، وقد وقع ذلك في "عمدة الأحكام"
(1)
مع أن اللفظة ليست في "الصحيحين"!.
قوله: (جار جاره) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم:"لا يمنع أحدكم جاره".
(1)
"العمدة" حديث (297).
قوله: (خشبةً) أي: من خشب سقفه الذي يسقف به داره، وقد روي بالإفراد والتنوين، وروي بالجمع (خَشَبَهُ)، والمعنى واحد؛ لأن المراد بالمفرد الجنس؛ لأن المفرد يقوم مقام الجمع إذا أتى بلفظ النكرة عند أهل اللغة
(1)
.
قوله: (في جداره) الضمير يعود على الجار؛ أي: في جدار جاره، وقيل: يعود إلى المالك؛ أي: في جدار نفسه ولو تضرر به الجار لأجل الضوء مثلًا، والأول هو الصواب.
قوله: (ثم يقول أبو هريرة) جاء في رواية سفيان، عن الزهريّ، عند أبي داود:(فنكسوا رؤوسهم، فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم)
(2)
، وعند أحمد من هذا الطريق: (فلما حدثهم أبو هريرة طأطأوا رؤوسهم
…
)
(3)
، فهذا فيه بيان سبب هذه المقالة.
قوله: (عنها)(بها) الضميران يعودان إلى السنة المذكورة في كلامه، فيكون مرجع الضمير مذكورًا معنى لا لفظًا.
قوله: (معرضين) أي: غير مسارعين للعمل بها وتطبيقها، أو غير مقبلين على سماع هذه السنة.
قوله: (لأرمين بها بين أكتافكم) جمع كتف، بفتح الكاف وكسر التاء، وهو عظم عريض خلف المنكب، ويروى (أكنافكم) بالنون، جمع كَنَفٍ، بالفتح، وهو جانب الشيء، قال الخطابي:(معناه: إن لم تقبلوه فتتلقوه بأيديكم راضين، حملته على رقابكم كارهين، وهذا غاية الإيجاب والإلزام)
(4)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي الجار أن يمنع جاره من غرز خشبة في جداره، بل عليه أن يوافق على طلبه ذلك؛ لأن هذا من حسن
(1)
انظر: "التمهيد"(10/ 221)، "المفهم"(4/ 531).
(2)
"السنن"(3634).
(3)
"المسند"(12/ 222).
(4)
"أعلام الحديث"(2/ 1228).
الجوار، ومراعاة حق الجار، لئلا يحتاج إلى نفقات بناء جدار آخر يضع عليه خشبه، وهذا مقيد بما إذا لم يكن ضرر من وضع الخشب على الجدار، وكان في الجار حاجة إلى ذلك؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر.
ويقاس على وضع الخشب غيره من الانتفاعات التي يستفيد منها الجيران عند الحاجة إليها وليس فيها مضرة.
* الوجه الرابع: أجمع العلماء على أنه إذا وجد ضرر من وضع الخشب أن الجار لا يُلزم بالموافقة على وضعها إلا إذا أذن، كما أنهم أجمعوا على أنه ليس للجار أن يغرز خشبة في جدار جاره إن كان به غُنية عن ذلك.
وإنما اختلفوا فيما إذا لم يكن هناك ضرر وكان بصاحب الخشب حاجة إلى وضعها بحيث لا يمكنه التسقيف إلا بالوضع على جدار جاره، على قولين:
فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، إلى أنه لا يجوز وضع الخشب على حائط الجار إلا بإذنه، وإن لم يأذن فلا يجبر عليه، لكن يستحب له بذله، وخرَّجه أبو الخطاب وجهًا من الرواية الثانية عن الإِمام أحمد في المنع من وضع الخشب على جدار المسجد
(1)
، واستدلوا بأن الأصل المنع من حق الغير إلا برضاه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"
(2)
، وقوله:"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم .. "
(3)
، وحملوا النهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه على التنزيه لا على التحريم، جمعًا بينه وبين هذه الأدلة، كما تقدم.
وذهب الإِمام أحمد والشافعي في القديم، وإسحاق، وجماعة من أهل الحديث وابن حزم إلى أنه يجب على الجار أن يبذل حائطه لجاره مع الحاجة
(1)
"المهذب"(1/ 335)، "شرح الزرقاني على الموطأ"(4/ 33)، "الهداية"(1/ 161)، "المغني"(7/ 36).
(2)
سيأتي تخريجه قريبًا إن شاء الله.
(3)
أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. وسيأتي شرحه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه في آخر باب "الغصب" إن شاء الله تعالى.
وقلة الضرر، وأنه يجبر على ذلك إذا امتنع
(1)
، وهذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما سيأتي، واستدلوا بما يلي:
1 -
أن حديث الباب ورد بصيغة النهي، والنهي يقتضي التحريم، فإذا كان الامتناع محرمًا دل على أن البذل واجب.
2 -
أن أبا هريرة رضي الله عنه الذي روى الحديث استنكر عدم الأخذ به، وتوعد على ذلك، وهذا يدل على أنه فهم وجوب البذل وتحريم الامتناع، ولولا أنه فَهِمَ ذلك ما كان ليوجب عليهم غير واجب، وراوي الحديث أعرف بمعناه.
3 -
ما ورد أن الضحاك بن خليفة مسألة محمَّد بن مسلمة أن يسوق خليجًا
(2)
له فيجريه في أرض محمَّد بن مسلمة، فامتنع، فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع أخاك ما ينفعه؟ وهو لك نافع، تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرك، فقال محمَّد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يجريه، ففعل الضحاك
(3)
.
والذي يظهر -والله أعلم -هو القول الأول، وهو أنه ينبغي للجار أن يبذل جداره لجاره، ولا يمتنع ما دام أن جاره يستفيد من شيء ليس فيه ضرر عليه، لكن ينبغي أن يضاف إليه قيد الاستئذان؛ لأن استئذان الجار قبل وضع الخشب على جداره مما يبعث روح المحبة والتعاون بين الجيران، وَيسْتَلُّ الأحقاد والضغائن؛ لأن حديث الباب دليل واضح على نهي الجار عن الامتناع، ثم إن هذا من حسن الجوار ومراعاة الحقوق، ومما يديم الألفة والمودة بين الجيران، بخلاف ما إذا امتنع فتنشأ الأحقاد والضغائن وتحصل القطيعة، وهذه أمور لا يرضاها الإِسلام.
أما استدلال أصحاب القول الثاني، فعنه جوابان:
الأول: أنها عمومات، والقاعدة تقديم الخاص على العام، يقول
(1)
"المحلى"(8/ 242)، "تفسير القرطبي"(5/ 187)، "روضة الطالبين"(4/ 212).
(2)
الخليج: امتداد من الماء متوغل في اليابس ["المعجم الوسيط" ص (248)].
(3)
أخرجه مالك (2/ 746)، وصححه الحافظ في "فتح الباري"(5/ 111).
البيهقي: (لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها)
(1)
.
الثاني: أن النهي ينصرف إلى التمليك والاستملاك وليس الانتفاع كذلك، وكيف يكون الانتفاع منهيًا عنه والنبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فأوجب أحدهما ومنع الآخر؟!
(2)
.
وهذا الحديث يعمل به عندما كان الناس يحتاج بعضهم إلى بعض لتلاصق الجدران وتقارب البيوت، أما اليوم فقد تغيرت الحال في كثير من المدن والقرى، لكنه يبقى الاستدلال به في كل ما يحتاجه الجار من جاره من المنافع التي ينتفع بها الجار ولا ضرر في بذلها، وهي أمور تقع، ولأنهاية لها.
* الوجه الخامس: في الحديث دليل على فضل أبي هريرة رضي الله عنه حيث جهر بهذه السنة واستنكر على المخاطبين عدم الأخذ بها، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(5/ 111).
(2)
انظر: "أحكام الجوار في الفقه الإسلامي" ص (147).
النهي عن مال المسلم إلا بطيب نفس منه
876/ 4 - عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيٍّ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لامْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِم في "صَحِيحَيهِمَا".
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (39/ 18، 19)، وابن حبان (13/ 316)، والبزار (1373)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(7/ 251)، والبيهقي (9/ 358) من طرق عن سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، مرفوعًا.
والحديث إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن سعد، وهو ابن الصحابي أبي سعيد الخدري سعد بن مالك رضي الله عنه، وهو ثقة.
قال البزار: (لا نعلمه عن أبي حميد إلا بهذا الطريق، وإسناده حسن، وقد روي من وجوه عن غيره من الصحابة)، والقول بأن الراوي عن أبي حميد هو عبد الرحمن بن سعد قد جاء عند ابن حبان والطحاوي، وجاء كذلك عند البيهقي من رواية ابن وهب، عن سليمان بن بلال .. ثم قال:(ورواه أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان، فقال: عبد الرحمن بن سعيد)
(1)
وهو كذلك في "المسند"
(2)
، ورجح هذا الألباني، لاتفاق جمع من الثقات عليه، ثم قال:
(1)
"السنن الكبرى"(6/ 100).
(2)
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 288).
(هو عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، أبو محمَّد المدني، وهو ثقة. . .)
(1)
.
وقد جاء الحديث عند أحمد -أيضًا- بلفظ: ("لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه" وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم). وأما عزوه للحاكم فالظاهر أنه وهم من الحافظ، والله أعلم.
وإيراد هذا الحديث في باب الصلح لا تظهر مناسبته، إلا إن كان الحافظ قصد بيان أن النهي في الحديث الذي قبله محمول على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه
(2)
، والله أعلم.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم أخذ أموال الناس بغير حق مهما كانت قليلة، وقد جاء هذا المعنى في أحاديث كثيرة، ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع في عرفة: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا
…
".
ومنها: حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"
(3)
.
ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه
…
" الحديث
(4)
.
ومنها: حديث أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
…
إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه
…
"
(5)
.
(1)
"الإرواء"(5/ 280).
(2)
انظر: "فتح الباري"(5/ 110).
(3)
أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) وسيأتي في باب "الغصب".
(4)
أخرجه البخاري (2435)، ومسلم (1726).
(5)
أخرجه أحمد (34/ 299) في حديث طويل، وسنده ضعيف؛ لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، إلا أنه يُستشهد به، ويتقوى حديثه بالأحاديث المذكورة.
فهذه الأحاديث دلت على الأمور الآتية:
1 -
وجوب احترام الأموال كاحترام الدماء والأعراض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بينهما، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الدم والمال والعرض بما هو مستقر في نفوسهم، وهو حرمة اليوم، وهو يوم النحر، والشهر، وهو شهر ذي الحجة؛ لأنه من الأشهر الحرم، والبلد، وهو البلد الحرام.
2 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة مال المسلم في أعظم مجمع على الإطلاق حيث خطب بذلك في عرفة وفي مني يوم النحر.
3 -
في ذلك دليل على احترام الإِسلام للملكية الفردية وصيانتها من التعدي عليها، وذلك بما شرع من أحكام؛ كتحريم مال المسلم بغير إذنه، وتعظيم شأن الغصب والتعدي، وقطع يد السارق، ونحو ذلك، وهذا دليل قاطع على بطلان الاشتراكية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف الأموال إلى أربابها مما يدل على ملكيتهم لها واختصاصهم بها، وسيأتي لذلك زيادة في آخر باب "الغصب" إن شاء الله.
4 -
ذكر العصا أو اللبن، كما في بعض الأحاديث لتساهل الناس فيهما، فَنُبِّهَ بهما على ما هو أعظم وأولى منهما، والله تعالى أعلم.
باب الحوالة والضمان
(1)
الحوالة: بفتح الحاء، مأخوذة من التحول والانتقال؛ لأنها تحول الحق وتنقله من ذمة إلى ذمة.
وشرعًا: نقل دين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وهي مشروعة بالسنة والإجماع، أما السنة فحديث الباب، وأما الإجماع فقد حكاه النووي وابن قدامة وغيرهما
(2)
.
وفائدتها: تسهيل المعاملات بين الناس، ولا سيما إذا كان الغريم في بلد والمحال عليه في بلد آخر، ويسهل على المحال الاستيفاء منه، وفيها -أيضًا- حلٌّ للمشاكل التي قد تنشأ بين الناس بسبب ما بينهم من حقوق، وليست من باب بيع الدين بالدين؛ لجوازها بين الدينين المتساويين جنسًا وصفة، والتفرق قبل القبض، وإنما هي من جنس إيفاء الحق، فهي عقد إرفاق، ولذا أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الوفاء.
ولها ثلاثة شروط:
1 -
اتفاق الدينين جنسًا، كذهب بذهب؛ وصفة، كَبُرٍّ جيد ببر جيد، إلا إن رضي المحال بأخذ الرديء عن الجيد.
2 -
اتفاق الدينين حلولًا وتأجيلًا، إلا إذا سمح من عليه مؤجل أن يعجله.
3 -
رضا المحيل، وهو الذي عليه الحق، قال ابن قدامة: (لا خلاف
(1)
أي: والكفالة أيضًا، وهذا التقدير على قول من يرى أن الضمان غير الكفالة، ومن يرى أنهما واحد فلا داعي لهذا التقدير، وقد يكون هذا رأي الحافظ.
(2)
"المجموع"(10/ 337)، "المغني"(7/ 56).
في هذا)
(1)
.
والحوالة يتعلق بها ثلاثة أطراف:
1 -
المحال: وهو صاحب الحق، ويقال: المحتال.
2 -
المحيل: وهو من عليه حق، وله حق.
3 -
المحال عليه: وهو من عليه حق للمحيل.
والضمان: مصدر ضَمِنَ الشيء ضمانًا، فهو ضامن، وضمين، وهو مشتق من التضمن؛ لأن ذمة الضامن تتضمن الحق، أو من الضَمْن؛ لأن ذمة الضامن صارت في ذمة المضمون عنه.
وشرعًا: التزام المرء ما وجب أو يجب على غيره من حق.
فهو التزام إنسان يصح تبرعه ما وجب على غيره؛ كثمن مبيع، أو قرض، أو قيمة متلف مع بقائه على المضمون عنه، فلا يسقط عنه بالضمان، أو التزام ما قد يجب عنه مستقبلًا؛ كجُعْلٍ على عمل أو ثمن مبيع مستقبل، وعلى هذا فالضمان متعلق بالحقوق المالية، سواء أكان على حق حتى أم ميت؛ كما سيأتي.
والضمان جائز بالنسبة للمضمون عنه، بالكتاب والسنة والإجماع في الجملة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] أي: ولمن جاء بصواع الملك الذي فُقِدَ {حِمْلُ بَعِير} أي: ما يحمله من طعام {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أي: كفيل ضامن. ومن السنة: أحاديث الباب.
وأما بالنسبة للضامن فهو مستحب؛ لأنه من "الإحسان" والله تعالى يقول: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
والكفالة: مصدر كَفَلَ، بمعنى: التزم.
وشرعًا: التزام إحضار بدن المكفول.
(1)
"المغني"(7/ 60).
والكفالة صحيحة لقوله تعالى: {قَال لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] فالآية دليل على جواز الكفالة بإحضار البدن لقوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} .
والفرق بين الكفالة والضمان:
1 -
أن الضمان التزام الدين، وهي التزام بإحضار البدن.
2 -
لا يبرأ الضامن بموت المضمون عنه، ويبرأ الكفيل بموت المكفول.
3 -
يصح ضمان دين الميت، ولا تصح كفالة الميت.
4 -
يجوز مطالبة الضامن مع حضور المضمون عنه، ولا تجوز مطالبة الكفيل مع حضور المكفول.
مشروعية الحوالة وقبولها
877/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَد: "فَلْيَحْتَلْ".
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع منها: في كتاب "الحوالة"، باب "الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ "(2287)، ومسلم (1564) من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
وأخرجه أحمد (16/ 47، 48) من طريق سفيان، عن أبي الزناد
…
ولفظه: "مَطْلُ الغني ظلم، ومن أُحيل على مليء فليحتل".
ولعل الحافظ أورد رواية أحمد لأنها مفسرة لقوله: "فليتبع" كما سيأتي إن شاء الله.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مَطْل الغني) أصل المطل: المدُّ، تقول: مطلت الحديدة، أمطلها مطلًا: إذا مددتها لتطول، والمطل في الحق مأخوذ منه، وهو تطويل العِدَة التي يضربها الغريم للطالب
(1)
، فيكون المراد هنا: تأخير ما استُحق أداؤه بغير عذر.
(1)
"تهذيب اللغة"(13/ 362)، "معجم مقاييس اللغة"(5/ 331).
ومطل مصدر مضاف إلى فاعله، والمفعول محذوف، والتقدير: مَطْلُ الغنيِّ غَرِيمَهُ، والمراد بالغني: من عنده موجودات مالية يقدر بها على الوفاء.
قوله: (ظلم) أصل الظلم: أخذك ما ليس لك، ووضعك الشيء في غير موضعه، ويطلق على الجور ومنع الحق.
قوله: (وإذا أُتبع أحدكم) أتبع: بضم الهمزة، وسكون التاء المثناة، وكسر الباء الموحدة، مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، ومعناه: أحيل، ومناسبة الجملة لما قبلها أنه لما دل على أن مطل الغني ظلم عقَّبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء، لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، وروي بالفاء "فإذا أُتبع" فيكون ذلك كالتوطئة والعلة لقبول الحوالة؛ أي: إذا كان المطل ظلمًا، فليقبل من يحتال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم فلا يمطل.
قوله: (على مليء) بتسكين الياء المهموزة، مأخوذ من الملاءة بالهمز، يقال: مَلُؤَ الرجل، بضم اللام، من باب كرُم؛ أي: صار مليئًا. والمليء: هو الموسر غير المماطل، ويُروى (مليٍّ) بدون همز، والأول هو الأصل، كما ذكر الأزهري والخطابي وغيرهما، وقد جاءت نسخ "البلوغ" بهذا وهذا
(1)
.
قوله: (فليتبع) بفتح الياء، وسكون التاء، بمعنى: فليحتل، كما في رواية أحمد، ومعناها: فليقبل الحوالة ولا يمتنع.
* الوجه الثالث: في الحديث أدب من آداب المعاملة الحسنة بأمر المدين بحسن القضاء، وأمر الدائن بحسن الاقتضاء.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم مطل الغني غريمه، وأن من عليه حقًّا لغيره وطلبه فعليه أن يبادر إلى أدائه من غير أن يحوج صاحب الحق إلى طلب والحاح أو شكاية، ومن فعل ذلك مع قدرته على الوفاء فهو ظالم، والظلم ظلمات يوم القيامة على أهله، ويدخل في عموم الحديث كل من لزمه حق لغيره كالزوج لزوجته، والسيد في نفقة رقيقه، والحاكم لرعيته، ونحو ذلك.
* الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه لا يجب الوفاء ويحرم التأخير إلا
(1)
انظر: "الزاهر" ص (330)، "فتح الباري"(4/ 465).
إذا طلب صاحب الحق حقه، أو وجد ما يشعر برغبته في الاستيفاء، وهذا مأخوذ من لفظ المطل.
* الوجه السادس: أن التحريم خاص بالغني المتمكن من الأداء، أما الفقير أو العاجز لشيء من الموانع فهو معذور، وقد أوجب الله تعالى على صاحب الحق إنظاره إلى الميسرة، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة: 280] وهذا بطريق المفهوم من الحديث، ومن لا يقول به يجيب بأن العاجز لا يسمى: ماطلًا.
* الوجه السابع: في الحديث دليل على حسن الاقتضاء، وأن المدين إذا أحال صاحب الحق على قادر على الوفاء غير مماطل ولا ممانع فإنه يقبل الحوالة؛ لأن هذا من السماحة وحسن الاستيفاء، وفاعل ذلك يرجى له الخير في الدنيا والدين، لدخوله تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"
(1)
. وهذا مشاهد محسوس، والجزاء من جنس العمل، وجزاء التيسير التيسير.
وإذا قبل صاحب الحق الحوالة على المليء برئت ذمة المحيل، وتحول حق الغريم إلى من أحيل عليه، في قول عامة الفقهاء، وعن الإِمام أحمد رواية أنه لا يبرأ المحيل مطلقًا، فللمحتال الرجوع إن لم يحصل له الوفاء ممن أحيل عليه، واختار ذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي
(2)
.
* الوجه الثامن: دل الحديث بمفهومه على أن من أحيل على غير مليء فليس عليه أن يقبل الحوالة، لما فيه من الضرر عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقبول الحوالة على المليء.
* الوجه التاسع: اختلف العلماء هل الأمر بقبول الحوالة إذا كانت على مليء للوجوب أو للاستحباب؟ على قولين:
(1)
أخرجه البخاري (2076).
(2)
"المغني"(7/ 60)، "المختارات الجلية" ص (82، 83).
الأول: أن الأمر للاستحباب، وهذا قول الجمهور، ومنهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ لأن الحوالة معاوضة يشترط لها الرضا من المحيل والمحال، فلا يلزم قبولها بل يستحب؛ لأن حق المحال في ذمة المحيل، فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه.
الثاني: أن الأمر للوجوب، وهذا قول الإِمام أحمد وأهل الظاهر
(1)
؛ لأن الأمر في قوله: "فليتبع""فليحتل" أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فيتحتم على من أحيل بحقه على مليء أن يقبل الحوالة.
وهذا القول هو الأظهر؛ لقوة مأخذه، وصَرْفُ الأمر من الوجوب إلى الاستحباب لا بد له من دليل، قال الصنعاني:(ولا أدري ما الحامل على صرفه عن ظاهره)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المحلى"(8/ 108)، "المغني"(7/ 62).
(2)
"سبل السلام"(5/ 200).
جواز ضمان دين الميت وأنه لا يبرأ إلا بالأداء
878/ 2 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَال: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا، فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَنَّاهُ، ثُمَّ أتينَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيهِ؟ فَخَطَا خُطىً، ثُمَّ قَال:"أَعَلَيهِ دَينٌ؟ "، قُلْنَا: دِينَارَانِ. فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَينَاهُ، فَقَال أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقَّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟!، قَال: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيهِ. رَوَاهُ أحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (22/ 405، 406) من طريق زائدة بن قدامة، والحاكم (2/ 58) من طريق شريك بن عبد الله، كلاهما عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه، وتمامه: ثم قال بعد ذلك: "ما فعل الديناران؟ " فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الآن برَّدت عليه جلده" وهذا لفظ أحمد.
وإسناده حسن من أجل عبد الله بن محمَّد بن عقيل؛ لأن في حفظه ضعفًا يسيرًا، كما تقدم في أحاديث مضت.
ثم إنه لم ينفرد فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، باب "التشديد في الدين"(3343)، والنسائي (4/ 65، 66)، وابن حبان (7/ 334) من طريق عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه.
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين
(1)
، ويختلف لفظ الحديث عند هؤلاء عن لفظ أحمد، وهو الذي سبق هنا بتمامه.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وحنطناه) الحنوط: أخلاط من طيب تعد للأموات خاصة، يذر بين الأكفان، ويجعل في المغابن، وهي مجامع الوسخ، كطيِّ ركبتيه، وسُرّته، ونحو ذلك، وكذا في مواضع سجوده، وتقدم هذا في "الجنائز".
قوله: (فخطا خُطىً) بضم الخاء، على وزن هدى، جمع خطوة؛ أي: مشى عدة خطوات ليتقدم بعض الشيء ليصلي على الميت.
قوله: (فقلنا: ديناران) ورد في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (فقالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم" قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعليَّ دينه، فصلى عليه)
(2)
، وجمع بين الحديثين بأنهما كانا دينارين وشطرًا، فمن قال: ثلاثة، جبر الكسر، ومن قال: ديناران، ألغاه، أو كان أصلهما ثلاثة فوفى قبل موته دينارًا، وبقي عليه ديناران، قال الحافظ:(والأول أليق)
(3)
ويحتمل أنهما قصتان، ويرى الصنعاني أن فيه بعدًا
(4)
.
قوله: (فتحملهما أبو قتادة) أي: فضمن أبو قتادة الدينارين عن الميت لصاحب الدين.
قوله: (حقَّ الغريم وبرئ منهما الميت؟) جملة استفهامية، بدليل الجواب بقوله:(نعم) وهذه الجملة انفرد بها أحمد، كما تقدم، وحَقَّ: منصوب بفعل محذوف يستفاد من السياق ومن الروايات الأخرى، والتقدير: قد أوفى الله حَقَّ الغريم وبرئ الميت؟ أو قد التزمت حَقَّ الغريم أو أوفيت، ونحو ذلك، وذكر الشارح المغربي، وتبعه الصنعاني أنه منصوب على المصدرية مؤكد لمضمون قوله:(الديناران عليَّ)؛ أي: حَقَّ عليك الحق وثبت
(1)
"الإرواء"(5/ 249).
(2)
أخرجه البخاري (2289).
(3)
"فتح الباري"(4/ 468).
(4)
"سبل السلام"(3/ 70).
عليك وكنت غريمًا
(1)
. وقد ساق المجد ابن تيمية في "المنتقى" هذا الحديث بلفظ: وقد أوفى الله حَقَّ الغريم
…
" وعزاه إلى أحمد، ولم أجد هذه الجملة في "المسند"، والله أعلم.
قوله: (الآن برَّدت عليه جلده) أي: نجا من العذاب بسبب قضاء الدين
(2)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم خطر الدين، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتخلص منه متى تحققت الأسباب التي تعين على الوفاء وإبراء الذمة منه قبل أن يفجأه الأجل، وقد تقدم في أول كتاب "الجنائز" ما يدل على أن نفس المؤمن محبوسة ومرهونة بالدين مهما كان صلاحها واستقامتها حتى يقضى عنه.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب المبادرة بقضاء دين الميت لينتهي الميت من تبعات الدين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر عن الصلاة على من عليه دين.
وقد اختلف العلماء في الحكمة من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على من عليه دين في أول الأمر، فقيل: تأديبًا لأصحاب الديون ليسعوا في أدائها ويرغبوا عن الاستكثار منها، ولئلا يتأكَّلوا أموال الناس فتذهب، وقيل: إن صلاته تطهر للميت، وحق الآدمي لا تطهر منه فيتنافيان.
* الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز ضمان الحقوق المالية عن الميت؛ كالدين، وثمن المبيع، ونحوهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا قتادة رضي الله عنه على تحمل الدينارين عن الميت، وصلى عليه، فدل ذلك على صحة الضمان.
* الوجه السادس: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن من ضمن دينًا عن الميت فإنه يلزمه قضاؤه، وليس له أن يرجع في هذا الضمان، مستدلين بهذا الحديث، ووجه الاستدلال: أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى
(1)
"البدر التمام"(3/ 274).
(2)
"بلوغ الأماني"(15/ 101).
النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل حتى يوفي أبو قتادة الدين، لاحتمال أن يرجع أبو قتادة عن ضمانه، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى على مدين دينه باقٍ عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع. لكن يشكل على هذا الاستدلال بحديث جابر رضي الله عنه؛ ما ورد في حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال:(أرأيت إن قضيت عنه أتصلي عليه؟ قال: "إن قضيت عنه بالوفاء صليت عليه" قال: فذهب أبو قتادة فقضى عنه، فقال: "أوفيت ما عليه؟ " قال: نعم، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه)
(1)
. وظاهر هذا أنه قضى الدين قبل الصلاة، فإما أن تحمل القصة على التعدد، وهذا فيه بُعْد، أو يرجح حديث أبي قتادة على حديث جابر رضي الله عنه؛ لأن فيه عبد الله بن عقيل، وهو حسن الحديث فيما لم يخالف فيه، أما مع المخالفة فليس بحجة
(2)
، وهناك وجه ثالث في الجمع: وهو أن أبا قتادة بعد أن قال: (على دينه) ذهب إلى الغريم وضمن له ما على الميت وإن لم يدفعه بالفعل، وبهذا الضمان برئ الميت من الدين، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التأويل يؤيده سياق حديث جابر رضي الله عنه
(3)
.
وقد ترجم البخاري في كتاب "الكفالة" بقوله: "باب من تكفل عن ميت دينًا فليس له أن يرجع" ثم ساق حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه المتقدم ذكره
(4)
.
والقول الثاني: أنه يجوز للضامن أن يرجع على مال الميت إذا كان له مال ويأخذ ما ضمن من دينه؛ لأن الضامن حلَّ محل المدين في أداء دينه، وهذا قول مالك.
والقول الثالث: أنه لا يصح ضمان دين الميت إلا إن ترك وفاء لدينه، فإن لم يترك لم يصح الضمان، وقد نقل ابن بطال عن ابن المنذر أنه قال:
(1)
أخرجه الترمذي (1069)، والنسائي (4/ 65، 7/ 317)، وابن ماجه (2407)، وأحمد (37/ 328، 329) وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
(2)
"أحكام الجنائز" للألباني ص (17).
(3)
"بلوغ الأماني"(15/ 100).
(4)
"فتح الباري"(4/ 474).
(إن أبا حنيفة قد خالف هذا الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحح ضمان أبي قتادة رضي الله عنه وأقره، مع أن الميت لم يترك وفاءً، كما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه: "هل ترك شيئًا؟! قالوا: لا. . .)
(1)
.
* الوجه السابع: الحديث دليل على أن خلوص الميت من الدين وبراءة ذمته من تبعاته ودفع العذاب عنه إنما يكون بالقضاء عنه، لا بمجرد تحمل الدين وضمانه
(2)
، قوم قوله صلى الله عليه وسلم:"نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"
(3)
، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سارع إلى سؤال أبي قتادة في اليوم الثاني عن القضاء، ولما قال له أبو قتادة: إنما مات أمس، يريد أن الزمن قريب لم يتمكن فيه من قضائهما، مسألة من الغد، ولما أخبره بقضائهما، قال:"الآن بَرَّدت عليه جلده".
* الوجه الثامن: الحديث دليل على أنه ينبغي للإمام وسائر المسلمين أن يحضوا من تحمل حمالة عن ميت على الإسراع بالقضاء؛ لأن هذا من المعاونة على الخير والمسارعة إلى إبراء ذمة الميت، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح ابن بطال"(6/ 419، 426).
(2)
انظر: "شرح مشكل الآثار"(10/ 335).
(3)
تقدم تخريجه في أول "الجنائز".
جواز ضمان دين الميت المفلس من بيت المال
879/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ:"هَلْ تَرَكَ لِدَينِهِ مِنْ قَضَاء؟ " فَإنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيهِ، وإِلَّا قَال:"صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ"، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ الْفُتُوحَ قَال:"أَنَا أَوْلَى بالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيهِ دَينٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " .. فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً .. ".
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأولى: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" أولها في كتاب "الكفالة"، باب "الدين"(2298)، ومسلم (1619) من طرق، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وتمامه:"ومن ترك مالًا فلورثته".
وأخرجه البخاري في كتاب "الفرائض"، باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من ترك مالًا فلأهله"" (6731) من طريق يونس، عن ابن شهاب، به، ولفظه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته".
ولعل الحافظ أورد رواية البخاري هذه لأنها مُقَيِّدَةٌ لما أُطلق في الرواية قبلها، وأن قضاء دين الميت من بيت المال مخصوص بمن لم يترك وفاء
(1)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(12/ 10).
* الوجه الثاني: لعل الحافظ ساق هذا الحديث بعد حديث جابر رضي الله عنه لبيان أن الامتناع من الصلاة لمن كان عليه دين ولم يترك قضاء أنه منسوخ، وذلك أن الله تعالى لما فتح على المسلمين بلدان الكفار وصار في بيت المال من أموال الفيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه" وظاهر هذا وجوب القضاء، كما أن ظاهر السياق يشعر بأنه كان يقضيه من مال المصالح؛ لقول الراوي:(فلما فتح الله الفتوح) وبهذا جزم ابن بطال، وقيل: بل كان يقضيه من خالص ماله، قال ابن بطال:(وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين، فإن لم يفعله وقع القصاص منه في الآخرة، ولم يحبس الغريم عن الجنة بدين له مثله في بيت المال، إلا أن يكون الدين أكثر مما له في بيت المال. . .)
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح ابن بطال"(6/ 428).
حكم الكفالة في الحدود
880/ 4 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا كَفَالة فِي حَدٍّ". رَوَاهُ الْبَيهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 22)، والبيهقي (6/ 77) من طريق بقية، عن عمر الدمشقي: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكره.
وهذا سند ضعيف كما قال الحافظ، قال ابن عدي بعد سياق أحاديث من رواية عمر بن أبي عمر الكلاعي الحميدي الدمشقي، ومنها حديث الباب:(وهذه الأحاديث بهذه الأسانيد غير محفوظات، وعمر بن أبي عمر مجهول، ولا أعلم يروي عنه غير بقية، كما يروي عن سائر المجهولين).
وقال البيهقي: (إسناده ضعيف، تفرد به بقية، عن أبي محمَّد عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو من مشايخ بقية المجهولين، ورواياته منكرة، والله أعلم).
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا كفالة) الكفالة في اللغة: مصدر كفل، بمعنى: التزم، وشرعًا: التزام إحضار بدن المكفول.
وعلى هذا فالكفالة غير الضمان، فالكفالة تكون للأبدان، والضمان
يكون للأموال، كما تقدم، ومن الفقهاء من لا يفرق بين الكفالة والضمان، ويجعلهما بمعنى واحد، والظاهر أن الحافظ جرى على هذا، فإنه ذكر هذا الحديث في الكفالة مع أنه لم يذكر الكفالة ضمن الترجمة المتقدمة.
قوله: (في حدّ) الحد في اصطلاح الفقهاء: عقوبة بدنية مقدرة شرعًا لحق الله تعالى، كعقوبة الزنا، والسرقة، والشرب، والقذف. والحد في لسان الشرع أعم منه في اصطلاح الفقهاء، فإنه يطلق على هذه العقوبات تارة، وتارة يراد به نفس المعاصي، كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وتارة يراد به شرائع الله تعالى، كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، ولهذا مزيد تفصيل في أول "الحدود" إن شاء الله تعالى.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الكفالة بالنفس لا تصح في الحد مطلقًا، سواء كان حقًّا لله تعالى كحد الزنا، أو لآدمي كحد القذف والقصاص، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الكفالة في الحدود، ولم يفرق بين ما كان لله تعالى وما كان للعبد، ولأنه لا يجوز استيفاء الحد من الكفيل حال تعذر الاستيفاء من المكفول، ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق، كذلك لا تصح الكفالة فيمن عليه عقوبة مطلقة على ترك وأجب أو فعل محرم، لما تقدم.
والقول بأن الكفالة لا تصح في الحد هو أحد القولين في مذهب المالكية والحنابلة، وقول للشافعية.
والقول الثاني: أن الكفالة بالنفس تصح مطلقًا في حدود الله تعالى وحقوق الآدميين، وهذا قول في مذهب الشافعية؛ لأن الحد حق لازم، فأشبه المال، ولأن الحضور مستحق على الجاني، فتصح الكفالة بإحضاره.
والقول الثالث: التفصيل، وهو أن الكفالة بالنفس لا تصح في حدود الله تعالى، وتصح في حقوق الآدميين كحد القذف والقصاص، وهو مذهب الحنفية، وقول ثالث في مذهب الشافعية، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية،
وصاحب الفائق
(1)
؛ لأن هذا حق لآدمي فصحت الكفالة به، كسائر حقوق الآدميين، وذلك كما لو كان على المكفول دين؛ لأن الواجب فيهما هو حضور الأصيل، ولأن المضمون هو إحضار نفس من عليه القصاص أو حد القذف وهو ممكن بإحضار الكفيل، فتكون الكفالة به جائزة.
وهذا القول -في نظري -هو الأظهر، لقوة مأخذه، وأما حديث الباب ففيه المقال المتقدم، وأما قولهم: إنه لا يمكن الاستيفاء من الكفيل، فيجاب عنهْ بأن الواجب عليه هو إحضار المكفول وهو قادر عليه، فإن بذل الأسباب وعجز عنه فلا شيء عليه، وتتولى الجهات المعنية إحضاره إلى مجلس الحكم
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح فتح القدير"(6/ 295)، "الخرشي على مختصر خليل"(6/ 34)، "نهاية المحتاج"(4/ 446، 447)، "المغني"(6/ 98)، "الإنصاف"(5/ 210).
(2)
انظر: "نظرية الضمان الشخصي"(الكفالة)(1/ 201).
باب الشركة والوكالة
الشركة لغة: مصدر شَرِكْتُهُ في الأمر أَشْرِكُهُ من باب (تعب) شَرَكًا وشَرِكَةً -بفتح أوله وكسر ثانيه-، ويجوز كسر أوله وتسكين ثانيه: إذا صرت له شريكًا.
وشرعًا: الاجتماع في استحقاق أو تصرف.
فالأول: شركة الملك، وهي أن يشترك شخصان في ملك شيء حصلا عليه إما بشراء أو إرث أو وصية، ونحو ذلك.
والثاني: شركة العقود، وهي المراد بهذا الباب، وهي الاجتماع في التصرف.
والشركة لها أنواع مذكورة في كتب الفقه، وورد فيها بعض الأحاديث التي ذكرها الحافظ في هذا الباب.
وقد أجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها
(1)
.
وإباحة الشركة من محاسن الشريعة؛ لما فيها من التعاون والألفة والنصح، وكثرة العمل المثمر، ونحو ذلك؛ لأن من الناس من يملك المال، لكن ليس عنده المهارة الكافية لممارسة التجارة، فهو محتاج إلى من يقوم بذلك، كما أنه يوجد من لا يملك المال وعنده من المهارات والخبرات الشيء الكثير، فباجتماع أصحاب رؤوس الأموال وأهل القدرات والطاقات يستفيد المجتمع كله، وتسعد الأمة في بناء اقتصادها بناء سليمًا، يقوم على العمل وكسب الرزق بالطرق المشروعة.
(1)
"المغني"(7/ 109).
والوكالة لغة: بفتح الواو وكسرها، لغتان فصيحتان، ذكرهما ابن السكيت وغيره
(1)
، وهي اسم مصدر بمعنى التوكيل؛ أي: التفويض، تقول: وكَلْتُ هذا الأمر إلى فلان وكلًا ووكولًا: إذا فوضته إليه وجعلته نائبًا، ووكَّل يوكل توكيلًا ووكالة فهو وكيل.
وشرعًا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
وهي مباحة للموكِّل، مستحبة للوكيل إن توكل بقصد الإحسان إلى الموكل وإعانته في قضاء حاجته، أو ظن أنه إن تركه تولاه من لا يصلحه أو يضيعه، أو يكون الموكِّل له حق واجب عليه ولم يجد غيره.
وإباحتها من محاسن الإِسلام، فهي من المعاملات التي يتجلى فيها التعاون بين المسلمين، فإن الإنسان قد يتعذر عليه أو يشق قضاء حوائجه وتحصيل أموره بنفسه، فكان من التيسير عليه أن يباح له استنابة غيره في ذلك.
وقد دل على جوازها الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] وقال تعالى: {قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55] وقال تعالى: {وَقَال مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
ومن السنة الأحاديث الآتية في هذا الباب، وأما الإجماع فقد قال ابن قدامة:(أجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة)
(2)
.
(1)
"تهذيب الأسماء واللغات"(4/ 195).
(2)
"المغني"(7/ 197).
الحث على المشاركة مع النصح وعدم الخيانة
881/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَال اللهُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَينِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَينِهِمَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في الشركة"(3383)، والحاكم (2/ 52) من طريق محمَّد بن الزِّبْرِقان، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه، قال:
…
وذكر الحديث.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي. قال ابن كثير: (إسناده جيد)
(1)
. وهذا فيه نظر، فإن الحديث ضعيف؛ لأن فيه علتين:
الأولى: جهالة والد أبي حيان التيمي، وهو سعيد بن حيان، قال ابن القطان:(أبو حيان هو يحيى بن سعيد بن حيان أحد الثقات، ولكن أبوه لا تعرف له حال، ولا يعرف من روى عنه غير ابنه)
(2)
. وقد ذكره العجلي في "تاريخه" فقال: (ثقة)
(3)
، لكن هذا مردود، فإن العجلي معروف بالتساهل في التوثيق، ولهذا لم يجزم الحافظ بتوثيقه، وإنما قال في "التقريب":(وثقه العجلي)
(4)
فاكتفى بنقل كلامه، وذكره ابن حبان في "الثقات"
(5)
.
(1)
"إرشاد الفقيه"(2/ 61).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(4/ 490).
(3)
"تاريخ الثقات" ص (183).
(4)
انظر: "الإرواء"(5/ 288، 289).
(5)
(4/ 280).
العلة الثانية: أن الحديث اختلف في وصله إرساله، فقد رواه ابن الزبرقان موصولًا بذكر أبي هريرة رضي الله عنه فيه، كما تقدم، وابن الزبرقان وثقه ابن الديني، وقال أبو حاتم:(صالح الحديث صدوق) وقال عنه الحافظ في "التقريب": (صدوق يهم).
وخالفه جرير بن عبد الحميد الضبي، فقال: عن أبي حيان التيمي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
هكذا مرسلًا. أخرجه الدارقطني
(1)
وقال عن إرساله: (هو الصواب)
(2)
.
وجرير بن عبد الحميد، قال عنه الحافظ:(ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان في آخر عمره يهم من حفظه).
* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الشريكين ما داما على الصدق والأمانة فإن الله تعالى معهما بتوفيقه وتأييده وإعانته، وإنزال البركة في تجارتهما وعملهما، وهذه معية خاصة. فإذا خان أحدهما الآخر نزعت البركة ورفعت الإعانة والرعاية.
وليس هذا من باب التأويل، بل من باب بيان المعنى والحقيقة؛ لئلا يتوهم من لا بصيرة له خلاف الحق في معنى المعية.
وهذا فيه حض الشريكين على الصدق والأمانة ومحافظة كل منهما على حق صاحبه، وتحذيرهما من الخيانة والغش، ونصوص الشريعة وعموماتها كثيرة في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
(1)
"السنن"(3/ 35).
(2)
"العلل"(11/ 7).
ما جاء في أن الشركة معروفة قبل الإِسلام
882/ 2 - عَنْ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ الْنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبِعْثَةِ، فَجَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَال:"مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو السائب بن أبي السائب المخزومي، واسم أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو والد عبد الله بن السائب قارئ أهل مكة، ولولده عبد الله هذا صحبة كأبيه رضي الله عنهما.
كان السائب شريكًا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة -على أحد الأقوال- ثم أسلم وحسن إسلامه، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان من المعمرين، عاش إلى زمن معاوية رضي الله عنه
(1)
.
قال ابن عبد البر: (إن الحديث فيمن كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم مضطرب جدًّا، منهم من يجعل الشركة للسائب بن أبي السائب
(2)
، ومنهم من يجعلها لأبي السائب، ومنهم من يجعلها لقيس بن السائب
(3)
، ومنهم من يجعلها لعبد الله بن السائب، وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة).
وقد ذكر الرافعي أن اسمه: السائب بن يزيد، فتعقبه الحافظ بأن هذا وهم، وإنما هو السائب بن أبي السائب
(4)
.
(1)
انظر: "الاستيعاب"(4/ 111)، "الإصابة"(4/ 111).
(2)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (350).
(3)
انظر: "الإصابة"(8/ 187).
(4)
"التلخيص"(3/ 56).
* الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (24/ 261)، وأبو داود في كتاب "الأدب"، بابٌ "في كراهية المِراءِ"(4836)، وابن ماجه (2287) من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب رضي الله عنه.
ولفظ "البلوغ" هو لفظ أحمد (24/ 263)، والحاكم (2/ 61) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب، به، وفيه: كان لا يداري ولا يماري
…
الحديث بتمامه. والمداراة: هي المدافعة، وأصلها لا يدارئ بالهمز، أي: لا يدافع ذا الحق عن حقه، ولا يماري؛ أي: لا يجادل.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وصححه الذهبي، وصحح الحديث -أيضًا- الألباني
(1)
.
وذكر المزي أن المحفوظ: عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب
(2)
.
ثم إن لفظ الحديث يختلف عند أحمد عن أبي داود وابن ماجه، فهو عند أحمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم في السائب، كما في سياقه في "البلوغ"، وعند أبي داود وابن ماجه من قول أبي السائب في النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اضطراب في المتن، فالحديث فيه اضطراب في سنده ومتنه.
ومن الاضطراب في سنده -أيضًا- اختلاف أصحاب مجاهد، فإبراهيم بن مهاجر يقول: عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب، وهذا هو المحفوظ -على ما قاله المزي- وإبراهيم بن ميسرة يقول: عن مجاهد، عن السائب، قال ابن مهدي:(وهو أثبت هذه الأحاديث)
(3)
. وقال الأعمش: عن مجاهد، عن عبد الله بن السائب، وهذا لا إشكال فيه على قول الحافظ الآتي.
(1)
"صحيح سنن أبي داود"(3/ 917)، "صحيح سنن ابن ماجه"(2912).
(2)
"تهذيب الكمال"(27/ 229).
(3)
"تاريخ ابن أبي خثيمة"(504).
وقائد السائب مجهول، ولا يعرف اسمه، وقال الحافظ ابن حجر:(إن الظاهر أن قائد السائب هو عبد الله بن السائب، فقد روى عنه مجاهد، وروى عن أبيه، لكن صنيع المزي يقتضي أنه غيره، حيث فرق بينهما في ذكر شيوخ مجاهد، وهذا موضع يحتاج إلى تحرير، ولم أرَ من سبقني إلى التنبيه على ذلك، والله الموفق)
(1)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الشركة كانت موجودة في الجاهلية قبل الإِسلام، ثم قررها الإِسلام وأثبتها، وقد كان السائب بن أبي السائب شريكًا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإِسلام، وقيل: بل في أول الإِسلام على ما قيل من الاختلاف فيمن كان شريكًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ علي الخفيف: (وقد أقر الإِسلام هذا النوع من المعاملة والتجارة، لحاجة الناس إليها وتعارفهم إياها، فقد كانت الشركات -ولا تزال- ذات نشاط اقتصادي مرموق في الحياة والأعمال التجارية الهامة، وعليها تقوم أعظم الأعمال الصناعية وأهم المشاريع التجارية، حتى كان لها سلطان ونفوذ لا يفوقه إلا سلطان الحكومات ونفوذها، وذلك لما تقوم عليه الشركات من التضامن والتعاون بين أعضائها بما لهم من أموال وقوة ونظر وتدبير، لا يصل إلى مستواه ما للفرد من ذلك)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"تعجيل المنفعة" ص (351).
(2)
"الشركات في الفقه الإِسلامي" ص (21).
حكم شركة الأبدان
883/ 3 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَال: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ
…
الْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَغَيرُه.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في الشركة على غير رأس مال"(3388)، والنسائي (7/ 319)، وابن ماجه (2288) من طريق أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتمامه:(فلم أجئ أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين).
وهذا سند ضعيف؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، كما قال أبو حاتم والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي:(قلت للبخاري: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه، وقال: هو كثير الغلط)
(1)
، لكنه في حكم الموصول؛ لأن أبا عبيدة كان شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، كما تقدم أول "البيوع"
(2)
، وعليه فلا بأس أن يحتج به.
* الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على جواز شركة الأبدان
(3)
، وهي أبي يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبون من صنائعهم كالحدادة والخياطة والنجارة وأعمال البناء ونحو ذلك، أو يشتركون فيما يكتسبون من المباح، كالاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات.
(1)
"العلل الكبير"(1/ 310).
(2)
وتسمى: شركة الأعمال، وشركة الصنائع.
(3)
انظر: الكلام على الحديث (784).
والقول بجوازها هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، إلا أن الحنفية لا يقولون بجواز الاشتراك فيما يُكتسب من المباح، بل هي عندهم شركة فاسدة، ويكون لكل من الشركاء ما اكتسبه دون صاحبه؛ لأن الشركة تتضمن الوكالة، والتوكيل في أخذ المباح باطل؛ لأن أمر الموكل به غير صحيح، والوكيل يملكه بدون أمره، فلا يصلح نائبًا عنه
(1)
، والمالكية تشترط اتحاد الصنعة والمكان.
وقالت الشافعية والظاهرية بعدم جواز شركة الأبدان وأنها إن وقعت فهي باطلة؛ لأن معنى الشركة هو الاختلاط، وهو لا يتحقق إلا في الأموال، أما شركة الأبدان فهي قائمة على الجهد البدني، وعمل كل إنسان ملك له يختص به ولا يشاركه فيه غيره
(2)
.
وأجاب ابن حزم عن حديث الباب بأنه منقطع، وعلى فرض صحته فإن غنائم بدر كانت للرسول صلى الله عليه وسلم يدفعها إلى من شاء، لقوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وهذا يدل على بطلان الشركة في الغنائم.
وَرُدَّ هذا بأن غنائم بدر كانت لمن أخذها من قبل أن يُشَرِّكَ الله تعالى بينهم.
والقول بجواز شركة الأبدان هو الراجح، وليس ذلك لحديث الباب فإنه ضعيف، ولكن لأمور ثلاثة:
1 -
أن الأصل في العقود الجواز، ومنها الشركات، ما لم يقم دليل على المنع، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا أمر بالتزام الوفاء بالعقود التي يعقدها المسلم ما لم تخالف الشرع.
2 -
أن الناس ما زالوا يتعاملون بهذه الشركة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير أن ينكر ذلك أحد، فيكون هذا إجماعًا سكوتيًّا.
(1)
"البحر الرائق"(5/ 197)، "بداية المجتهد"(4/ 12)، "المغني"(7/ 111).
(2)
"المحلى"(8/ 542)، "مغني المحتاج"(2/ 212).
3 -
أن شركة الأبدان فيها منافع كثيرة للفرد والمجتمع، ولا محذور فيها شرعًا، ففيها ازدهار الاقتصاد، والسعي في طلب الرزق، والقول بمنعها فيه تعطيل لذلك كله، وبعض الناس قد يتقن مهنة ما، ولكنه لا يملك الجرأة التي تحمله على تقبل الأعمال بمفرده؛ لأنه يخاف المسؤولية، فإذا اشترك معه آخر قويت عزيمته، فيحصل بذلك التكاتف والتعاون في إنجاح الأعمال التي تعود على المجتمع بالنفع والخير
(1)
.
وأما القول بأن الشركة لا تتحقق إلا بالمال ففيه نظر؛ لأن مقصود الشركة هو تحصيل الربح على الاشتراك، وهو لا يقتصر على المال، بل يجوز بالعمل -أيضًا-كما في المضاربة، فيجوز بالتوكيل، وهو ما تقوم عليه شركة الأبدان، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "شركات الأشخاص" ص (178).
مشروعية الوكالة
884/ 4 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَال: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيبَرَ، فَأَتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "إذَا أتيتَ وَكِيلِي بِخَيبَرَ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا
…
". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ.
الكلام عليه من وجوده:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأقضية"، بابٌ "في الوكالة"(3632)، والدارقطني (4/ 154، 155)، والبيهقي (6/ 80) من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم: حدثنا عمي، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
…
وتمامه: "فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته" وهذا لفظ أبي داود، وعند الدارقطني:"خذ منه ثلاثين وسقًا".
والحديث حسنه الحافظ في "التلخيص"
(1)
مع أن في إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه.
ولما ذكره عبد الحق الأشبيلي في "أحكامه"
(2)
وسكت عنه تعقبه ابن القطان بقوله: (سكت عنه، وهو من رواية ابن إسحاق ولم يبين ذلك)
(3)
، ونقله عنه الزيلعي، وأقره
(4)
. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"
(5)
.
وقول الحافظ عن أبي داود إنه صححه لم أجده في "السنن"، إلا أن يكون قد استفاده من سكوته عنه، وقد عزاه ابن عبد الهادي في "المحرر" إلى
(1)
(3/ 58).
(2)
"الأحكام الوسطى"(3/ 275).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(4/ 491).
(4)
"نصب الراية"(4/ 94).
(5)
ص (360).
أبي داود وأبي بكر بن أبي عاصم، ولم يذكر تصحيح أبي داود.
وقد علق البخاري طرفًا منه في كتاب "فرض الخُمس"، بابٌ "ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازنُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم -برضاعه فيهم- فتحلل من المسلمين، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعِدُ الناس أن يعطيهم من الفيء والأنفال والخمس، وما أعطى الأنصار، وما أعطى جابر بن عبد الله من تمر خيبر"
(1)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وسقًا) بفتح الواو، وسكون السين المهملة، آخره قاف، والوسق: ستون صاعًا نبويًّا، وتقدم في "الزكاة".
قوله: (فإن ابتغى منك آية) أي: فإن طلب منك علامة تدل على صدقك.
قوله: (ترقوته) بفتح المثناة الفوقية، وسكون المهملة، ثم ضم القاف، مقدم الحلق في أعلى الصدر حيثما يَتَرقَّى فيه النفس، قاله في "القاموس"
(2)
، وقال في "المعجم الوسيط":(عظمة مشرفة بين ثُغْرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان، وجمعه تراقٍ)
(3)
.
*الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة الوكالة، وهذا أمر مجمع عليه كما تقدم أول الباب، والحديث صريح في جوازها حيث أفاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ لنفسه وكيلًا في خيبر يتولى تصريف أملاك الدولة هناك، وقد ورد أدلة أخرى تفيد ذلك بعمومها.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب اتخاذ أمارة بين الوكيل وموكله لا يطلع عليها غيرهما، ليعتمد الوكيل عليها في تنفيذ أوامر موكله، وهذا قد يُحتاج إليه في حالة تتعذر فيها الكتابة ونحوها، والعلامة أسهل من الكتابة، فقد لا يكون أحدهما ممن يحسنها، ولأن الخط يشتبه.
(1)
"فتح الباري"(6/ 236).
(2)
"القاموس"(2/ 379 ترتيبه).
(3)
"القاموس"(2/ 379 ترتيبه)، "المعجم الوسيط"(1/ 84).
* الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز العمل بالقرينة في مال الغير، لتدل على صدق المرسَل، والقرينة: هي كل أمر ظاهر يصاحب شيئًا خفيًّا فيدل عليه. فمن طلب مالًا من وكيل -مثلًا- وأظهر له القرينة، جاز دفعه إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته". ووجه الاستدلال: أنه لو لم يكن للقرينة والأمارة اعتبار ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بها
(1)
، وفي السنة أدلة أخرى على اعتبار القرائن والعمل بها، وكذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم قضايا في مسائل عديدة كان اعتمادهم فيها على القرائن والأمارات
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "حجية القرائن في الشريعة الإسلامية" ص (36، 88).
(2)
انظر: "الطرق الحكمية" ص (5)، والمصدر السابق ص (87 وما بعدها).
حكم تصرف الوكيل في مصلحة موكله
885/ 5 - عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقيِّ رضي الله عنه، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ، يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيَّةً
…
الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في أثنَاءِ حَدِيثٍ، وَقَدْ تَقدَّمَ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه في كتاب "البيوع"، "حكم تصرف الفضولي" رقم (820)، وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، وأخرجه البخاري في كتاب "المناقب"(3642) في أثناء حديث، من طريق سفيان بن عيينة: حدثنا شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحيَّ يتحدثون عن عروة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز تصرف الوكيل في حدود مقصود موكله، وبذل وسعه في تحصيل المنفعة للموكل، فإذا أوصى الموكل وكيله في شراء شيء معين بدينار -مثلًا- فاشترى الوكيل ضعفه بالدينار صح ذلك، وينبغي للموكل أن يقبل هذا التصرف، وأن يشكر وكيله ويدعو له؛ لأن مقصوده قد حصل، وزاده الوكيل خيرًا بلا محذور شرعي.
وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الوكيل إذا اشترى شيئًا لم يأذن فيه صاحبه فإن الشراء صحيح، ويكون موقوفًا على إجازة موكله، فإن أمضى
التصرف وأجازه صح، وإلا لزم الوكيل، وقد مضى الكلام على هذه المسألة.
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه ينبغي أن يُشكر الوكيل الناصح على تصرفه وأن يدعا له بما يناسب المقام، من باب مكافأته وتشجيعه وأمثاله على التصرف الذي ينفع الموكِّل. والله تعالى أعلم.
جواز الوكالة في قبض الزكاة من أربابها
886/ 6 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ
…
الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الكلام عليه من وجوده:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "الزكاة"، باب "قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60](1468)، ومسلم كذلك (983) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليَّ، ومثلها معها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عَمَّ الرجل صِنْوُ أبيه". وهذا لفظ مسلم؛ لأن لفظ البخاري: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة
…
" وليس فيه ذكر عمر رضي الله عنه، وسيذكر الحافظ طرفًا من هذا الحديث في "باب الوقف" وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على صحة الوكالة وجوازها في قبض الصدقة ممن هي عليه؛ لأن الراجح من قولي أهل العلم أن المراد بالصدقة هنا الزكاة الواجبة، وليست صدقة التطوع، كما قاله بعض أهل العلم، وذلك لأن صدقة التطوع لا يُبعث عليها السعاة لجمعها، وإنما تبعث السعاة لجباية صدقة الفرض.
ومن قال: إنها صدقة التطوع، قال: لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أن يمنعوا الزكاة الواجبة.
وأجيب عن ذلك: بأنهم ما منعوها جحدًا ولا عنادًا، إلا ابن جميل، فقد قيل: إنه كان منافقًا، ثم تاب بعد ذلك، وأما خالد رضي الله عنه فكان متأولًا بإجزاء حَبْسِ أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع الزكاة عنه ويزيد مثلها تطوعًا، جبرًا لما حصل، ومبالغة في الكرم وصلة القرابة، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا والعباس، ولم يعذر ابن جميل.
* الوجه الثالث: يدخل في عموم الحديث جواز الوكالة في العبادات المالية أو التي لها تعلق بالمال كالزكاة -كما تقدم- وزكاة الفطر والصدقات والمنذورات والكفارات. فكل هذه وغيرها يجوز التوكيل في قبضها وتفريقها على مستحقها، لما عُلم من أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله إلى الأمصار لقبض الصدقات وتفريقها.
أما العبادات البدنية المحضة كالوضوء والصلاة والصيام والاعتكاف ونحوها فلا تصح فيها الوكالة؛ لأنها تتعلق ببدن من هي عليه؛ لأن المقصود منها ابتلاء المكلف بعينه واختباره بإتعاب نفسه، وهذا لا يتحقق بالتوكيل فيها، إلا ركعتي الطواف فتصح فيهما الوكالة؛ لأنهما تبع للحج أو العمرة التي تجوز فيها الوكالة، ولو أفردهما بالتوكيل لم يصح ذلك.
وأما الصوم عن الميت كما لو نذر صومًا، أوكان عليه أيام من رمضان -على أحد القولين- فإنه يُفعل عنه أداءً لما وجب عليه، وليس ذلك من باب الوكالة؛ لأن الميت لم يستنب الولي، وإنما أمره الشرع بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه" كما تقدم في "الصيام".
وأما الحج والعمرة فتجوز الوكالة فيهما بإنابة من يؤديهما عن الإنسان، بشرط أن يكون ميتًا، أو عاجزًا عجزًا لا يرجى زواله، وتقدم هذا في "الحج".
وأما حقوق الآدميين فهي قسمان:
الأول: ما يتعلق بشخص الفاعل، فهذا لا تدخله النيابة، كالحدود والقصاص.
الثاني: ما يتعلق بالفعل نفسه، فهذا تدخله النيابة في الجملة، سواء كان من العقود كالبيع والشراء والإجارة والإبراء والنكاح ونحوها، أوكان من الفسوخ كالإقالة والخلع والطلاق ونحو ذلك.
والخلاصة أن كل أمر يجوز أن يباشر التصرف فيه غير صاحبه فإنه يجوز له أن يوكل فيه غيره، وكل أمر لا يجوز أن يباشره سوى الشخص نفسه فإنه لا يجوز له أن يوكل فيه، والله تعالى أعلم.
جواز الوكالة في نحر الهدي
887/ 7 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أنْ يَذْبَحَ الْبَاقيَ
…
الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث تقدم تخريجه في كتاب "الحج"(742) وقد ساقه الحافظ هناك، واختصر في أثنائه، ومن ذلك هذه الجملة، فإنه لم يذكرها هناك في سياقه للحديث.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز التوكيل في نحر الهدي، وكذا الأضاحي، وتفريق لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، لحديث علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجزار منها شيئًا، وقال:"نحن نعطيه من عندنا"
(1)
.
وسيأتي شرح حديث علي رضي الله عنه في باب "الأضاحي" وفيه فوائد تتعلق بهذا الباب، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317) والأجلَّة: جمع جلال، وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه وقاية له.
جواز الوكالة في الحدود إثباتًا واستيفاءً
888/ 8 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه في قِصَةِ الْعَسِيفِ، قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإنِ اعْتَرَفتْ فَارْجُمْهَا
…
" الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الكلام عليه منب وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "الوكالة"، باب "الوكالة في الحدود"(2314، 2315) وساقه مختصرًا، وهو لفظ الحافظ في "البلوغ" وساقه بتمامه في مواضع أخرى، وإنما اقتصر في الوكالة على القدر المحتاج إليه في الترجمة، وأخرجه مسلم (1697، 1698) كلاهما من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما. وله طرق وألفاظ، وسيأتي ذلك إن شاء الله في كتاب "الحدود" حيث ساقه الحافظ هناك بتمامه.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الوكالة في إثبات الحدود واستيفائها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن اعترفت فارجمها" دليل على أن الحد لم يثبت قبل التوكيل، وإنما كان التوكيل في إثباته أولًا ثم استيفائه ثانيًا، والله تعالى أعلم.
باب الإقرار
الإقرار لغة: مصدر أقر بالشيء، يقر إقرارًا: إذا اعترف به، فهو مقر.
وشرعًا: اعتراف الإنسان بما عليه للغير من حقوق.
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].
ومن السنة حديث الباب "قُلِ الحقَّ ولوكانَ مُرًا"، فإن الإقرار داخل في عموم قول الحق؛ لأنه يشمل قول الإنسان على نفسه وقوله على غيره، كما سيأتي، ولهذا ذكر الحافظ هذا الحديث في باب الإقرار تبعًا للرافعي
(1)
في "شرح الوجيز"
(2)
، إلا أنه ذكر الحديث بلفظ حديث علي رضي الله عنه الآتي في تخريج حديث الباب.
وقول الحافظ: (فيه الذي قبله وما أشبهه) أي: ورد في الإقرار الحديث الذي قبله، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف، وما أشبه هذا الحديث مما فيه إقرار الإنسان على نفسه كاقرار ماعز، والغامدية رضي الله عنهما على أنفسهما بالزنا، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في "الحدود".
وقد أجمع المسلمون على صحة الإقرار؛ لأنه إخبار بالحق على وجه لا تهمة فيه، ولا ريبة؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه في شيء يَضُرُّ بها.
والإقرار له ارتباط بكثير من العقود، وأهمها البيوع، ولهذا جعله بعض الفقهاء والمحدثين أثناء أبواب البيوع أو بعدها، وبعضهم يختم به كتاب
(1)
المتوفى سنة (623 هـ).
(2)
انظر: "فتح العزيز شرح الوجيز"، المطبوع مع "المجموع"(11/ 89).
الفقه؛ لأن من كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله دخل الجنة"
(1)
، وبعضهم يختم بكتاب العتق تفاؤلًا بأن يعتقه الله من النار.
(1)
تقدم تخريجه في أول "الجنائز".
وجوب قول الحق وإن كان مرًّا
889/ 1 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَال: قَال لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلِ الحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرًّا". صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ طَويلٍ.
الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن حبان (2/ 76) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، قال: حدثنا أبي، عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، قال: "يا أبا ذر إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما
…
" وساق الحديث بطوله، وفيه وصايا نبوية، وعدد الأنبياء، إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله
…
" إلى أن قال: قلت: يا رسول الله! زدني، قال: "قل الحق وإن كان مرًا
…
" الحديث.
وإبراهيم بن هشام تكلم فيه أئمة الجرح والتعديل، فقد وثقه ابن حبان، والطبراني، وقال فيه أبو زرعة:(كذاب) ومثله قال أبو حاتم
(1)
، واعتبره الذهبي من عداد المتروكين الذين مشَّاهم ابن حبان، فلم يصب
(2)
.
وهذا القدر الذي ساقه الحافظ هنا ورد عند الإمام أحمد (35/ 327) من طريق سلَّام أبي المنذر، عن محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: (أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين،
(1)
"الجرح والتعديل"(2/ 142)، "الميزان"(1/ 72)، "لسان الميزان"(1/ 381).
(2)
"الميزان"(4/ 378).
والدنوِّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى من دوني، ولا أنظر إلى من فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش).
وهذا الحديث فيه سلَّام أبو المنذر المقرئ المصري، وهو صدوق يهم، كما في "التقريب"، وقد توبع، تابعه الأسود بن شيبان، كما عند ابن حبان (2/ 194)، وهشام بن حسان، والحسن بن دينار، عند البيهقي (10/ 91) ثلاثتهم عن محمد بن واسع.
وقد اقتصر على القدر المذكور الشهاب القضاعي في "مسنده"(651)، والطبراني في "مكارم الأخلاق"(1)، من طريق إبراهيم بن هشام، به.
وهذا القدر له شاهد من حديث علي رضي الله عنه، رواه أبو عمرو بن السماك في "حديثه" -كما ذكر الألباني-: حدثنا جعفر بن محمد الزعفراني الرازي، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا حسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، قال: لما ضممت إليّ سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت في قائم سيف رسول الله رقعة فيها: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك". قال الألباني: هذا إسناد صحيح
(1)
، مع أن فيه حسين بن زيد ضعفه أبو حاتم وابن المدني، وله بعض مناكير عن جعفر، ذكرها ابن عدي
(2)
.
* الوجه الثاني: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على وجوب الإقرار بالحق، وأن الإنسان يخبر بجميع ما عليه لغيره من مال أو إتلاف، أو أي حق من الحقوق؛ لأن هذا من الصدق، وفيه إظهار الحق، وإبراء الذمة، ولا يثنيه عن إقراره ما قد يترتب عليه من تبعات مالية أو غيرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "وإن كان مرًّا"، وهذا من باب التشبيه؛ لأن الحق قد يصعب
(1)
انظر: "التلخيص"(3/ 59)، "الصحيحة" للألباني (4/ 542).
(2)
انظر: "الجرح والتعديل"(3/ 53)، "الكامل"(2/ 351)، "تهذيب التهذيب"(2/ 293).
إجراؤه على النفس خوفًا من عواقبه وتبعاته، كما يصعب عليها إساغة المرِّ لمرارته، والحديث شامل لما على المقر نفسه من الحقوق، وشامل لما على غيره من أداء الشهادة على إنسان، وإنكار المنكر إذا رآه أو سمعه، ونحو ذلك مما يتعلق بالآخرين.
والحديث فيه ما علمت، لكن مقتضى النصوص العامة، ومقاصد الشريعة تنص على هذا المعنى، ومن ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] قال ابن كثير: (وقوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كل أمر يضيق عليه)
(1)
. والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن كثير"(2/ 384).
باب العارية
العارية: بتخفيف الياء وتشديدها، مشتقة من العُري، وهو التجرد، سميت عارية: لتجردها عن العوض.
وشرعًا: دفع عين لمن ينتفع بها مجانًا ويردها.
فقولنا: (لمن ينتفع بها) يخرج البيع؛ لأنه تمليك، وقولنا:(مجانًا) يخرج الإجارة؛ لأنها تمليك المنفعة بمال. وقولنا: (ويردها) فيه إشارة إلى أن العارية إنما تكون حال حياة المعير، ويخرج بذلك الوصية بالمنفعة؛ لأنها تمليك بعد الوفاة.
ومن أمثلة العارية: أن يعيره دارًا يسكنها، أو سيارة يركبها، أو نخلة يأكل ثمرتها، أو منيحة يشرب لبنها، أو كتابًا يقرأ فيه، أو شيئًا من متاع البيت؛ كالقدر ونحوه، ينتفع به.
والعارية مباحة للمستعير، مستحبة للمعير؛ لأن فيها عونًا للمسلم، وقضاءً لحاجته، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وهي من الإحسان، والله يحب المحسنين.
وقد تكون العارية واجبة أحيانًا، وقد حكى ابن قدامة الوجوب؛ لقوله تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} ، ولحديث جابر رضي الله عنه الآتي، وقد قيد ابن تيمية ذلك بكون المعير غنيًّا، وذكر أنه أحد القولين في مذهب أحمد
(1)
.
(1)
"المغني"(7/ 340)، "الاختيارات" ص (158)، "الفتاوى"(28/ 98)، "عقد العارية" ص (51).
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما الكتاب فعموم قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7] فقد ذكر جمهور المفسرين أن المراد بـ (الماعون) ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض من الأواني أو الأمتعة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"كنا نَعُدُّ الماعون على عهد رسول صلى الله عليه وسلم، عارية الدلو والقدر"
(1)
.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: (أي: يمنعون إعطاء الشيء الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية، أو الهبة؛ كالإناء والدلو، والفأس، ونحو ذلك مما جرت العادة ببذله والسماح به
…
ففيه الحث على فعل المعروف، وبذل الأمور الخفيفة؛ كعارية الإناء والدلو والكتاب، ونحو ذلك؛ لأن الله ذم من لم يفعل ذلك
…
)
(2)
.
وأما الأدلة من السنة فهي أحاديث الباب، ومنها -أيضًا- حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها
…
" الحديث قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله"
(3)
.
وأما الإجماع فقد قال ابن قدامة: (أجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها)
(4)
.
وأما القياس فلأنه لما جازت هبة الأعيان كالثياب والأواني والكتب جاز هبة المنافع من هذه الأشياء وغيرها، ولهذا تصح الوصية بالأعيان والمنافع جميعًا، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه أبو داود (1657) وإسناده صحيح، كما قال ابن كثير في "الإرشاد"(2/ 66).
(2)
"تفسير ابن سعدي" ص (935).
(3)
أخرجه مسلم (988)(28).
(4)
"المغني"(7/ 340).
وجوب رد ما أُخذ من ملك الغير
890/ 1 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه، قال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (33/ 277)، وأبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في تضمين العارية"(3561)، والترمذي (1266)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 333)، وابن ماجه (2400) والحاكم (2/ 47) كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، زاد أبو داود والترمذي والحاكم:(قال قتادة: ثم إن الحسن نسي، فقال: هو أمينك لا ضمان عليه)
(1)
. وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
قال المنذري: (هذا يدل على أن الترمذي يصحح سماع الحسن من سمرة، وفيه خلاف تقدم)
(2)
.
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، على شرط البخاري، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي. قال ابن دقيق العيد: (وليس كما قال، وإنما هو على شرط الترمذي)
(3)
. والحديث أعل بتدليس الحسن البصري، وقد عنعنه،
(1)
انظر: "عون المعبود"(9/ 476)، "تحفة الأحوذي"(4/ 483).
(2)
"مختصر السنن"(5/ 198).
(3)
"الإلمام" ص (350)، وانظر:"تهذيب مختصر السنن" لابن القيم (5/ 197).
وفي سماعه من سمرة رضي الله عنه خلاف تقدم ذكره في باب "الغسل" من كتاب "الطهارة"، عند الحديث (115).
والحديث له شواهد تؤيد معناه، كحديث يعلى بن أمية الآتي، وفيه:"بل عارية مؤداة"، وحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم"
(1)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (على اليد ما أخذت) الجار والمجرور خبر مقدم، وعلى: للوجوب؛ أي: يجب على اليد، واليد: اسم لليد الجارحة، كالتي تأخذ العارية أو الوديعة ونحوهما، وكذا اليد المعنوية، والمراد بها المستولية على مال الغير بغير حق، كما لو استولى على أرض غيره أو نخله، أو نحو ذلك.
وفي الكلام لفظ منوي من باب دلالة الاقتضاء، وهو ما يتوقف فهم المراد منه على مقدر، والتقدير: على اليد ضمان ما أخذت، أو حفظ ما أخذت
(2)
، فمن قدر الضمان أوجبه على المستعير، ومن قدر الحفظ أوجبه، ولم يوجب الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر.
قوله: (ما أخذت) ما: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والعائد محذوف، والتقدير: ما أخذته، والموصول صيغة عموم؛ أي: ما أخذته من مال الغير بحق كالرهن والإجارة والإعارة والوديعة، وغيرها، أو بغير حق كالغصب، وذُكِرَ الحديث في باب العارية لشموله لها.
قوله: (حتى تؤديه) ي: إلى صاحبه أو من يقوم مقامه، فتؤديه من غير نقص عين ولا صفة، والإسناد إلى اليد للمبالغة؛ لأنها هي المتصرفة.
(1)
أخرجه أحمد (36/ 628)، وأبو داود (3565)، والترمذي (1265)، وابن ماجه (2007)، وحسنه الترمذي، وليس عنده "والمنحة مردودة"، وسيأتي -إن شاء الله- في باب "الوصايا".
(2)
انظر: "نيل الأوطار"(5/ 336).
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجب على الإنسان رَدُّ ما أخذته يده من مال غيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه، فالمرتهن والمستأجر والموح والمستعير كل منهم يرد ما أخذ متى انقضى الغرض من العين، إن كان قد أخذها لمصلحته، أو يردها إذا طلبها صاحبها إذا كان أخذها لحفظها كالوديعة.
وما أُخذ يلزم رد عينه إن كانت موجودة، ورد المثل أو البدل إذا كانت قد استهلكت أو تلفت.
وكذا الغاصب أو السارق أو من أخذ مال غيره بالدعاوى الباطلة أو اليمين الكاذبة يرد ما أخذه إلى أصحابه ولو غرم على رده أضعاف قيمته؛ لأنه هو الذي أدخل الضرر على نفسه.
ويقع كثير من الناس في أخطاء في موضوع العارية، أهمها ثلاثة:
الأول: عدم إعادة العين إلى صاحبها متى انتهى منها المستعير، بل يهملها ويتركها، وقد ينساها صاحبها، أو لا يدري من المستعير إذا طال الزمن!.
الثاني: الإساءة إلى العين وعدم ردها كما أُخذت، وهذا يقع كثيرًا في استعارة الكتب، وبعض الأمتعة.
الثالث: إعارة المستعير ما استعاره لغيره.
واعلم أن الراجح من قولي أهل العلم أنه لا يجوز للمستعير إعارة العارية لغيره بغير إذن مالكها، وهو قول الشافعية والحنابلة، قياسًا للمستعير على الضيف، بجامع عدم الملك، فكما أن الضيف الذي أبيح له الطعام لا يجوز له أن يبيحه لغيره، فكذلك المستعير لا يجوز له أن يعير غيره.
وأما من أجاز ذلك قياسًا على المستأجر الذي يملك أن يعير، لملكه المنفعة، فهذا قول مرجوح، لاعتماده على قياس غير صحيح؛ لأن الإعارة ليست تمليكًا للمنفعة كالإجارة، وإنما هي إباحة انتفاع، ومن أبيح له منفعة فإنه لا يملك نقل ما أبيح له لغيره
(1)
.
(1)
"المغني"(7/ 374)، "مغني المحتاج"(2/ 264).
فإن أذن المعير للمستعير بإعارة ما استعاره منه جاز ذلك باتفاق الفقهاء؛ لأن الحق في العارية لمالكها، فإذا أن للمستعير بالإعارة فقد رضي بذلك وتنازل عن حقه.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مؤنة رد العارية على المستعير إن احتاجت إلى ذلك؛ لأن وجوب ردها لا يتم إلا بالمؤنة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الإعارة مكرمة، فلو لم تجعل المؤنة على المستعير لامتنع الناس منها.
* الوجه الخامس: هذا الحديث يعتبر قاعدة شرعية جليلة من قواعد الضمان في التشريع الإسلامي، وهو أصل في باب العارية والغصب والإتلاف
(1)
، ولا يخفى ما في هذا الأصل وأمثاله من صيانة الأملاك وحفظ الحقوق، وإقامة العدل بين الناس، مما يؤكد تحريم أخذ أموال الآخرين بالباطل، وفي حالة التعدي عليها يتقرر الضمان، والله تعالى أعلم.
(1)
"حجة الله البالغة"(2/ 418)، "جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية"(1/ 203).
وجوب ردِّ الأمانات والعواري ونحوها
891/ 2 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِي.
الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب "البيوع"، باب "في الرجل يأخذ حقه من تحت يده"(3535)، والترمذي (1264)، والحاكم (2/ 53) من طريق طلق بن غنام، عن شريك وقيس، عن أبي حَصين
(1)
، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
وقال الترمذي: (حديث حسن غريب)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
وهذا فيه نظر، فإن شريكًا وهو ابن عبد الله القاضي إنما أخرج له مسلم في المتابعات لا في الأصول، كما قال الذهبي نفسه
(2)
، وهو سيء الحفظ، كما تقدم في أحاديث.
وحديثه هذا مقرون برواية قيس، وهو ابن الربيع
(3)
، وهو سيء الحفظ أيضًا
(4)
.
(1)
بفتح الحاء، واسمه عثمان بن عاصم بن حصين. "تهذيب التهذيب"(7/ 116).
(2)
"الميزان"(2/ 274).
(3)
كان كاتب شريك القاضي.
(4)
انظر: "المحلى"(8/ 182)، "بيان الوهم والإيهام"(3/ 534).
وقد أعلَّ الحديث أبو حاتم، فقال:(إنه حديث منكر، لم يروه غير طلق بن غنام)
(1)
، وتعقبه الألباني بقوله:(لا ندري ما وجهه؛ لأن طلقًا ثقة بلا خلاف، وثقه ابن سعد، والدارقطني، وابن شاهين وغيرهم. وقول ابن حزم فيه: (ضعيف)
(2)
مردود، لشذوذه، ولأنه جرح غير مفسَّر، ثم استدركت فقلت: لعل وجهه أن طلقًا لم يثبت عند أبي حاتم عدالته، فقد أورده ابنه في "الجرح والتعديل" وحكى عن أبيه أسماء شيوخه والرواة عنه، ثم لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذلك مما لا يضره، فقد ثبتت عدالته بتوثيق من وثقه، لا سيما وقد احتج به الإمام البخاري في "صحيحه")
(3)
.
لكن قد يقال: إن الثقة قد ينكر عليه بعض أحاديثه التي لا توجب ضعفه، ولا يلزم أن يكون كل ما رواه محفوظًا، لا سيما أن طلقًا ذكره ابن شاهين في "الثقات"، وقال:(قال عثمان بن أبي شيبة: "ثقة صدوق، لم يكن بالمتبحر في العلم")
(4)
.
والحديث له شواهد عن أنس وأبي أمامة وأُبي بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم، وكلها معلولة، لا تفيد في تقوية الحديث، فإن أبا حاتم أنكره كما تقدم، وقال الإمام أحمد (هذا حديث باطل، لا أعرفه من وجه يصح)
(5)
. وقال ابن الجوزي: (هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح)
(6)
.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أدِّ الأمانة) أي: أعطها ورُدَّها. والأمانة: ضد الخيانة، والمراد بها هنا: الشيء الذي يوجد عند الأمين، سواء أكان أمانة بقصد حفظه كالوديعة، أو كان أمانة ضمن عقد كالمال عند الوكيل أو عامل المضاربة أو الشريك ونحو ذلك، أو كان بدون عقد ولا قصد كما لو ألقت الريح في دار أحد مال جاره كثوب ونحوه.
(1)
"العلل"(1/ 375).
(2)
"المحلى"(8/ 182).
(3)
"السلسلة الصحيحة" رقم (424)، "الإرواء"(5/ 381، 382).
(4)
"تهذيب التهذيب"(5/ 30).
(5)
"التلخيص"(3/ 112).
(6)
"العلل المتناهية"(2/ 103).
والأمين: هو الذي في يده مال لغيره برضى المالك، كالمودَعَ والوكيل والشريك، أو برضى الشارع كولي الصغير أو اليتيم، أو برضى من له الولاية عليه كأمين الحاكم ونحو ذلك.
قوله: (إلى من ائتمنك) أي: إلى صاحبها الذي رضي بكونها عندك وجعلك أمينًا عليها.
قوله: (ولا تخن من خانك) الخيانة: مصدر خان يخون، وهو مأخوذ من مادة (خ ون) التي تدل على التنقُّص يقال: خنت فلانًا، وخنت أمانة فلان بمعنى: نقصان الوفاء
(1)
، والخيانة هنا: هي عدم الوفاء بالأمانة إما بالتفريط في حفظها، أو بجحدها وعدم أدائها، أو بالتصرف فيها بلا إذن صاحبها، أو بالنقص منها، فكل ذلك خيانة.
* الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أنه يجب على المؤتمن أن يرد الأمانة إلى صاحبها متى طلبها منه؛ لأنه قبض الأمانة على سبيل الحفظ والإحسان إلى صاحبها، فإذا طلبها وجب ردها إليه بأيسر الطرق وأسهلها، وليس له أن يؤذيه بردها أو يعوقه.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب حفظ الأمانة والعناية بها وعدم التعدي عليها أو التفريط بحفظها؛ لأن هذا من لوازم أدائها، فإن الأداء لا يتم إلا بحفظها، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقوله: {إِلَى أَهْلِهَا} فيه دليل على أن الأمانة لا تدفع ولا تؤدى لغير صاحبها الذي ائتمنك عليها، ووكيله بمنزلته، ومثل ذلك لو أعطاها ابنه الذي جرت عادته بأن يتولى مال أبيه ونحو ذلك، ولو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديًا لها.
والفرق بين التعدي والتفريط: أن التفريط ترك ما يجب من الحفظ، والتعدي فعل ما لا يجوز من التصرفات، فالتفريط أن يتساهل في حفظ الأمانة كان يضعها في غير حرز، والتعدي أن يستعملها أو يتصرف بها بلا إذن صاحبها كالقراءة في الكتاب، أو ركوب السيارة، ونحو ذلك.
(1)
"معجم مقاييس اللغة"(2/ 231).
* الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم الخيانة، وأن المؤمن الحق لا يقابل الخيانة بخيانة مثلها، فإذا خان صاحبُ الأمانة -مثلًا- مَنْ عنده الأمانة، فليس للمؤتمن أن يخون خيانة تغضب الله عليه ويلحقه عارها، بل ياع الخائن يبوء بإثمه، ويسلم هو من الإثم، وللمخون أن يطالب بحقه بالطرق الشرعية.
وقد عدَّ الإمام الذهبي وغيره الخيانة من كبائر الذنوب
(1)
مستدلًا بهذا الحديث، وحديث:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"
(2)
، والخيانة قبيحة في كل شيء، وبعضها شر من بعض، فقد تكون الخيانة في الأمانات والودائع والعين المستأجرة، وقد تكون في أهل الإنسان، وهي من علامات النفاق، ودليل على فساد الطوية، وإضمار الشر، فهي من أسوأ ما يبطن الإنسان، ومفاسدها عظيمة، ولذا نهى الله عنها فقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
* الوجه السادس: استدل العلماء بهذا الحديث على أن من له حق على إنسان وامتنع من أدائه فإنه ليس لصاحب الحق الأخذ من ماله بغير إذنه، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخيانة، وأخذ الإنسان قدر حقه من مال غيره بغير علمه خيانة فلا يجوز، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول للمالكية
(3)
.
والقول الثاني: أنه يجوز الأخذ من ماله بغير إذنه، وهذا قول الشافعية، وعليه الفتوى عند الحنفية، وهو المعتمد عند المالكية، ووجه مُخَرَّجٌ عند الحنابلة، واستدلوا بدليلين:
الأول: العمومات الدالة على جواز المعاملة بالمثل، كقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وأيُّ سيئة أو اعتداء أعظم من أخذ أموال الناس ثم المماطلة في دفعها أو إنكارها.
(1)
"الكبائر" ص (108)، "الزواجر"(363).
(2)
أخرجه البخاري (33)، ومسلم (107)(109).
(3)
"المغني"(14/ 340).
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"
(1)
وسيأتي -إن شاء الله- في باب "النفقات". ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهند الأخذ بغير إذن أبي سفيان، ولو كان الإذن شرطًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول الثالث: التفصيل وهو أنه إن كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى بينة جاز الأخذ، وذلك مثل النفقة، فتأخذ المرأة من مال زوجها بلا علمه لأجل أن تنفق على نفسها وأولادها إذا امتنع عن النفقة أصلًا أو تكميلًا؛ لقصة هند، ومثل ذلك حق الضيف، وقد ورد في مسألة الضيافة، حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: إنا نمر بأقوام لا يُقْرُوْنَنَا، فهل نأخذ من أموالهم؟ قال:"إذا مررتم بأقوام لم يقروكم ما ينبغي للضيف، فخذوا منهم بقدر قِراكم"
(2)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا، له أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه"
(3)
، فيأخذ ما يكفيه من طعام من نزل عليه ولم يضيفه فهذا يجوز، لما تقدم؛ ولأن السبب إذا ظهر لم ينسب الآخذ إلى الخيانة، بل يحال آخذه إلى السبب الظاهر.
وأما إن كان السبب خفيًّا، كأن يكون له دين على آخر من قرض أو ثمن مبيع أو نحو ذلك من الحقوق التي تخفى، فهذا لا يجوز له الأخذ من ماله بغير إذنه، لحديث الباب، ولئلا يعرض نفسه للتهمة، ولأن في المنع سدًا للباب، لئلا ينفتح باب الشر ويدعي الآخذ أن له حقًّا وهو مبطل. وهذا هو ظاهر المذهب عند الحنابلة، كما قال ابن رجب
(4)
، وهو اختيار ابن القيم، وابن سعدي
(5)
، وهذا أرجح الأقوال، وبه تجتمع الأدلة، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
(2)
أخرجه البخاري (2361)، ومسلم (1727).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 380) بسند صحيح.
(4)
"القواعد"(1/ 101)، "الروض المربع بحاشية العنقري"(3/ 353).
(5)
"إعلام الموقعين"(6/ 480)، "القواعد" لابن سعدي ص (97).
حكم ضمان العارية
892/ 3 - عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَال: قال لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتتْكَ رُسُلِي فَأعطِهِمْ ثَلَاثينَ دِرْعًا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعَارِيةٌ مَضْمُونَةٌ، أوْ عَارِيةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَال:"بَلْ عَارِيةٌ مُؤَدَّاةٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
893/ 4 - وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيةَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعًا يَوْمَ حُنَينٍ، فَقَال: أَغصْبٌ يَا مُحَمدُ؟ قَال: "بَلْ عَارِيةٌ مَضْمُونَةٌ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
894/ 5 - وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا ضَعِيفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما.
* الكلام عليها من وجوه:
* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو صفوان بن أمية بن خلف القرشي الجمحي، يكنى أبا وهب، وقيل: أبو أمية. كان صفوان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان من أفصح قريش لسانًا، وهو أحد المُطْعِمِينَ، وممن كان يملك مستودعات للأسلحة يخزنها لوقت الحاجة إليها، قتل أبوه يوم بدر كافرًا، وحضر هو وقعة حنين قبل أن يسلم، ثم أسلم وحسن إسلامه، وقد استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه لما خرج إلى حنين، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من المغانم فأكثر، فقال:(أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي) فأسلم، وعن المسيب، عن صفوان، قال: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني
حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ)
(1)
. مات صفوان بمكة سنة اثنتين وأربعين في أول خلافة معاوية رضي الله عنه على ما ذكره ابن عبد البر
(2)
.
وأما يعلى بن أمية فقد تقدمت ترجمته في كتاب "الحج"
(3)
.
* الوجه الثاني: في تخريجها:
أما حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (29/ 471، 472)، وأبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في تضمين العارية"(3566)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 331)، وابن حبان (11/ 22، 23) من طريق همام بن يحيى: حدثنا قتادة، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه مرفوعًا.
وهذا إسناد صحيح، قال ابن حزم:(حديث حسن، ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره، وأما ما سواه فليس يساوي الاشتغال به)
(4)
.
وأما حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في الباب المذكور (3562)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 332)، والحاكم (2/ 54) من طريق شريك، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أمية بن صفوان، عن أبيه مرفوعًا، وتمامه:(فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له، قال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب) هذا لفظ النسائي وأحمد.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأمور ثلاثة:
الأول: ضعف شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، كما تقدم.
الثاني: جهالة حال أمية بن صفوان، فإنه لم يوثقه أحد، ولم يرو عنه غير اثنين.
(1)
"صحيح مسلم"(2313).
(2)
"الاستيعاب"(5/ 128)، "الإصابة"(5/ 145).
(3)
حديث (752).
(4)
"المحلى"(9/ 173).
الثالث: الاضطراب في إسناده، فقد قال الترمذي:(سألت محمدًا -يعني: البخاري- عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث فيه اضطراب، ولا أعلم أن أحدًا روى هذا غير شريك، ولم يقوِّ هذا الحديث).
وقد جاء هذا الحديث من رواية شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية كما تقدم، وجاء من رواية يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، عن شريك، عن ابن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن أمية، به. بزيادة ابن أبي مليكة في الإسناد، أخرجه الطحاوي في "شرح المشكل"(12/ 291)، والطبراني في "الكبير"(7339).
ومن رواية قيس بن الربيع، عن ابن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن أمية به، أخرجه الدارقطني (3/ 40).
ومن رواية أبي الأحوص، عن ابن رفيع، عن عطاء بن أبي رباح، عن ناس من آل صفوان مرسلًا، أخرجه أبو داود (3564).
ومن رواية جرير، عن ابن رفيع، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان، أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 143) ومن طريقه أبو داود (3536) إلى غير ذلك من وجوه الاضطراب.
وقد أشار إلى هذا الاضطراب الطحاوي، ووصفه بأنه اضطراب شديد، وما كان هذا سبيله لا تقوم به حجه
(1)
.
لكن يشهد له حديث جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى حنين
…
فذكر الحديث، وفيه: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعًا، مائة درع، وما يصلحها من عدتها، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك"، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرًا.
أخرجه الحاكم (3/ 48، 49)، والبيهقي (6/ 89) من طريق ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه
(1)
"شرح مشكل الآثار"(11/ 296).
جابر رضي الله عنه، وقال الحاكم:(صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي، والصواب أنه حديث حسن؛ لأن فيه ابن إسحاق، وهو حسن الحديث إذا صرح بالتحديث
(1)
.
ولحديث صفوان شاهد آخر ضعيف، كما أشار إلى ذلك الحافظ، بل هو ضعيف جدًّا، وهو ما أخرجه الحاكم -أيضًا- (2/ 47) وعنه البيهقي (6/ 88) عن إسحاق بن عبد الواحد القرشي: ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا في غزوة حنين، فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة؟ قال: "عارية مؤداة"، وهذا سند ضعيف، علته إسحاق هذا، وقد نقل الذهبي عن أبي عليٍّ الحافظ أنه قال:(متروك الحديث)، وقال الخطيب:(لا بأس به)، فردَّه الذهبي بقوله:(قلت: بل هو واهٍ)
(2)
.
ثم إن متن هذا الحديث مخالف لما قبله في قوله: "عارية مؤداة" وفي الذي قبله: "عارية مضمونة" وبينهما فرق، كما سيأتي إن شاء الله.
قال البيهقي بعد سياق الأحاديث في هذا الباب: (وبعض هذه الأخبار وإن كان مرسلًا فإنه يقوى بشواهده مع ما تقدم من الموصول، والله أعلم).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:
قوله: (درعًا) بكسر الدال هو قميص من حلقات الحديد متشابكة، يلبس للوقاية من السلاح، يغطي البدن حتى نصف الساق، وقد يلبس المقاتل درعين، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد.
قوله: (أعارية مضمونة أو عارية مؤداة) العارية المضمونة: هي التي تضمن إن تلفت بمثلها أو بقيمتها. والعارية المؤداة: هي التي يجب أداؤها مع بقاء عينها، فإن تلفت لم تضمن.
قوله: (أغصب) الغصب: أخذ الشيء أو الاستيلاء عليه ظلمًا وقهرًا، وغَصْبٌ: بالرفع عند أبي داود والنسائي، وهي خبر لمبتدإ محذوف؛ أي: أهو
(1)
انظر: "الصحيحة"(631).
(2)
"الميزان"(1/ 194).
غصب أو أذلك غصب. وعند أحمد
(1)
بالنصب، فهي معمول لفعل محذوف؛ أي: أتأخذها غصبًا لا تردها عليَّ؟.
قوله: (يا محمد) لم يقل: يا رسول الله لأنه لم يكن إذ ذاك مسلمًا.
قوله: (عارية مضمونة) مضمونة: صفة يحتمل أنها كاشفة وموضحة لحقيقة العارية؛ أي: إن شأن العارية الضمان، فيدل على ضمانها مطلقًا، ويحتمل أنها صفة للتقييد فهي مُخَصِّصَةٌ؛ أي: أستعيرها منك متصفة بأنها مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان، وهذا هو الأظهر؛ لأن الصفة المقيِّدة تأسيس، والتأسيس أولى، ولأنها كثيرة في الكلام.
* الوجه الرابع: لا خلاف بين العلماء في أن العارية إذا تلفت عند المستعير إما بتعدٍّ منه في استعمالها ونحوه، أو بتفريط في حفظها فإنه يضمنها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، والمراد بذلك كل شيء له مثل وشبيه ومقارب، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم
(2)
، وهذا التفسير للمثلي ينطبق على أشياء كثيرة في زماننا هذا، كالكتب والأقمشة والأواني المنزلية ونحوها، بعد ظهور المطابع والمصانع؛ لأن تقدم الصناعة جعل كثيرًا من الأموال القيمية في الماضي أموالًا مثلية، فإن كانت العارية ليس لها مثل ولا شبيه ضمنها المستعير بقيمتها يوم تلفها؛ لأن يوم التلف يتحقق فيه فوات العارية.
فإن تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط فقد اختلف العلماء في ضمانها على أربعة أقوال:
القول الأول: أنها مضمونة مطلقًا، سواء شُرط عليه الضمان أم لا، وهذا قول ابن عباس وعطاء، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو قول الشافعي، وقول لمالك
(3)
، ونسبه الحافظ ابن حجر إلى الجمهور
(4)
،
(1)
"المسند"(24/ 13).
(2)
"الفتاوى"(30/ 313).
(3)
"المغني"(7/ 341)، "بداية المجتهد"(2/ 407).
(4)
"فتح الباري"(5/ 241).
واستدلوا بحديث سمرة المتقدم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ووجه الاستدلال: أن اليد مطالبة برد ما أخذته، ولا يتم ذلك في حال التلف إلا بالضمان.
القول الثاني: أن العارية غير مضمونة مطلقًا؛ لأن المستعير أمين، ولا معنى للائتمان إلا انتفاء الضمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المستعير غير المُغِلِّ ضمان
…
"
(1)
. وهذا قول أبي حنيفة، واختاره ابن القيم
(2)
.
والقول الثالث: إن كان تلف العارية بأمر ظاهر كالحريق والسيل وموت الحيوان وانقلاب السيارة فلا يضمن، وإن كان بأمر لا يُطلع عليه كدعوى سرقة الكتاب أو الحلي، أو ضياع القدر، ونحو ذلك فهذا يضمن، إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف، وهذا مذهب مالك
(3)
، وسر هذا التفريق أن العارية أمانة غير مضمونة، إلا أنه لا يقبل قول المستعير فيما يخالف التلف بأمر ظاهر.
والقول الرابع: أن العارية لا تضمن إلا بشرط التضمين، وذلك بطلب صاحبها من المستعير أن يضمنها إذا تلفت، أو بتبرع المستعير، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجح هذا القول الصنعاني، والشيخ عبد الرحمن السعدي
(4)
.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "عارية مضمونة" ووجه الاستدلال: أن وصفها بمضمونة للتقييد، والمعنى: أستعير منك عارية متصفة بأنها مضمونة لا عارية
(1)
أخرجه عبد الرزاق (8/ 178)، والدارقطني (3/ 41)، والبيهقي (6/ 91) من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عَبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، به. وإسناده ضعيف جدًّا؛ لأن ابن حبان ذكر في "المجروحين" (2/ 181): أن عبيدة بن حسان كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات. قال الدارقطني: (عمرو وعبيدة ضعيفان، وإنما يروى عن شريح القاضي غير مرفوع).
(2)
"الهداية"(3/ 220)، "إعلام الموقعين"(3/ 374)، "زاد المعاد"(3/ 482).
(3)
"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(3/ 391)، "الكافي "لابن عبد البر (2/ 808).
(4)
"الاختيارات" ص (231)، "الإنصاف"(6/ 113)، "سبل السلام"(5/ 222).
مطلقة عن الضمان، فهو دليل على ضمانها عند الشرط؛ لأن المستعير تعهد بذلك.
والراجح -والله أعلم- أن العارية غير مضمونة إذا لم يحصل تعدٍّ ولا تفريط كسائر الأمانات، إلا إذا حصل اشتراط لضمانها فالمسلمون على شروطهم؛ لأن أسباب الضمان إما تعد، دماما تقصير عن الواجب، وإما تصرف لم يؤذن له فيه، وهذا مفقود في العارية.
وأما حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" فليس فيه دليل على الضمان؛ لأن معناه: عليها رد ما قبضت لمالكه لا ضمانه؛ لأن الضمان شيء والأداء شيء آخر، ولأن اليد الأمينة أيضًا عليها ما أخذت حتى تؤدي وإلا ليست أمينة، ومعلوم أنه لا ضمان عليها.
وهذا يدخل تحت القاعدة الفقهية: (التلف في يد الأمين غير مضمون إذا لم يتعد أو يفرط، وفي يد الظالم مضمون مطلقًا) ويدخل في ذلك الوديع والوكيل والمرتهن والأجير والشريك والمضارب وناظر الوقف والملتقط وولي الصغير والمجنون والسفيه، فكل هؤلاء ومن أشبههم لا يضمنون ما تلف بأيديهم؛ لأن هذا هو معنى الائتمان.
وأما من بيده مال غيره بغير حق فهو ضامن مطلقًا، سواء أتلف بتعد أم تفريط أم لا؛ لأن يد الظالم يد عادية، فيدخل في هذا الغاصب والخائن في الأمانة، ومن عنده لقطة فسكت ولم يعرفها وما أشبه ذلك
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "القواعد والأصول الجامعة" ص (61).
باب الغصب
الغصب لغة: مصدر غَصَبَهُ يَغْصِبُهُ، من باب (ضرب)، ويقال: اغتصبه أيضًا، وغصبته منه، وغصبته عليه، ومعناه: أخذ الشيء قهرًا وظلمًا.
واصطلاحًا: الاستيلاء على حق غيره قهرًا بغير حق
(1)
.
وقولنا: (الاستيلاء) يفيد أن الغصب تصرف فعلي، يقال: استولى عليه: ظهر عليه، وتمكن منه وصار في يده.
وقولنا: (على حق غيره) هذا عام؛ أي: سواء أكان الحق مالًا كالدراهم والأمتعة ونحوها من العقارات أو المنقولات، أو اختصاصًا ككلب الصيد والسرجين -وهو السماد والزِّبل- فإنه ليس بمال، ولذا لا يباع على أحد الأقوال المتقدمة، ولكن صاحبه أخص به من غيره.
وقولنا: (قهرًا) المراد به المجاهرة والمغالبة، وهذا يخرج السرقة؛ لأن السرقة هي الأخذ خفية على وجه الاستسرار، بخلاف الغصب فإنه يقع بعلم المجني عليه، ولهذا لا قطع على غاصب بخلاف السارق، كما سأتي في موضعه.
وقولنا: (بغير حق) يخرج استيلاء الولي على مال الصغير، وعلى مال البالغ غير الرشيد أو المجنون، أو استيلاء الحاكم على مال المفلس، على ما هو مقرر في باب "الحجر".
والغصب محرم إجماعًا في الجملة وإن اختلفوا في فروع منه، والدليل على تحريمه الكتاب والسنة، أما الكتاب فعموم الآيات التي تنهى عن الظلم
(1)
"الدر النقي"(3/ 523).
والاعتداء على مال الغير، كقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] والغصب من جملة الباطل، وقوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42].
وأما السنة: فالأدلة كثيرة ومنها أحاديث الباب، ومن حيث النظر فإن في إباحة الغصب انتهاكًا لأموال المسلمين والتعدي عليها، وفي ذلك إشاعة الشر ونشر الفساد لما يترتب على التعدي من العداوة والبغضاء وحصول القتل وإزهاق النفوس كما يحصل بين الغاصب والمغصوب منه، والمال المأخوذ غصبًا محرم على غاصبه؛ لأن الغصب عدوان على ملك الغير، والعدوان لا يكون سببًا للتملك، ولهذا يجب على الغاصب رد المال المغصوب إلى صاحبه على التفصيل الآتي -إن شاء الله-، ولا يجوز له الانتفاع به مطلقًا.
إثم من ظلم شبرًا من الأرض
895/ 1 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيدٍ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرج البخاري في كتاب "المظالم"، باب "إثم من ظلم شيئًا من الأرض"(2452) من طريق طلحة بن عبد الله، أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل أخبره أن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال:
…
وذكر الحديث.
وأخرجه في كتاب"بدء الخلق"، باب "ما جاء في سبع أرضين"(3198)، ومسلم (1610)(139) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأخرجه -أيضًا- من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن سعيد بن زيد، بهذا اللفظ المذكور في "البلوغ".
وله طرق أخرى عند مسلم.
وللحديث قصة، وهي أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
…
ثم ساق الحديث. فقال مروان: لا أسألك
(1)
بينة بعد هذا. فقال: اللهم إن كانت
(1)
ذكر القرطبي في "المفهم"(4/ 535): أن فتح الكاف فيه إشكال، فراجعه.
كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. هذا لفظ مسلم.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من اقتطع) أي: أخذ، وقد جاء بهذا اللفظ في "الصحيحين"، وجاء عند البخاري بلفظ:"من ظلم"، واقتطع افتعل، من القطع، كأنه قطع هذا الشبر عن صاحبه، أو أخذ قطعة من ماله، وهذا فيه استعارة حيث شبه من أخذ ملك غيره وأوصله إلى ملك نفسه بمن اقتطع قطعة من شيء يجري فيه القطع الحقيقي.
قوله: (شبرًا) بكسر أوله وسكون ثانيه، جمعه أشبار، والشبر: ما بين رأسي الخنصر والإبهام من كف مفتوحة. وذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد، وعند البخاري:"شيئًا"
(1)
وهذا أعم. وفي رواية "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها
(2)
: "قيد شبر" وهي بكسر القاف؛ أي: قدر شبر.
قوله: (من الأرض) بيانية.
قوله: (طوقه الله
…
) أي: جعله طوقًا في عنقه، وفيه معنيان:
الأول: أنه يكلف يوم القيامة نقل ما ظلم منها إلى المحشر، ويكون كالطوق في عنقه، لا أنه طوق حقيقة، ويؤيده حديث يعلى بن مرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يُطَوَّقَهُ يوم القيامة، حتى يفصل بين الناس"
(3)
.
الثاني: أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقًا في عنقه، ويؤيد هذا المعنى حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ:
(1)
"صحيح البخاري"(2452).
(2)
"صحيح البخاري"(2453)، "صحيح مسلم"(1612).
(3)
أخرجه أحمد (29/ 99، 110)، وابن حبان (11/ 567، 568)، والطبراني (22/ 270). انظر:"الصحيحة" للألباني رقم (240).
"من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"
(1)
.
وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ، ثم قال:(ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا بحسب قوة المفسدة وضعفها)
(2)
.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الغصب؛ لأنه من الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين العباد محرمًا.
* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الغصب في القليل والكثير، لقوله:"شبرًا" ولقوله: "شيئًا".
* الوجه الخامس: تغليظ عقوبة الغصب، ولا سيما الأرض؛ لأن مدة الاستيلاء عليها تطول غالبًا، وقد ورد في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجل فيطوقه من سبع أرضين"
(3)
.
وقد ذكر القرطبي أن أخذ شيء من الأرض من أكبر الكبائر، وكأنه فَرَّعَ ذلك على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد، كما ذكر تعريف الكبيرة في أوائل شرحه على "مختصر صحيح مسلم"
(4)
.
* الوجه السادس: الحديث دليل على إمكان غصب الأرض، وهذا قول الجمهور، وغصبها يكون بالاستيلاء عليها على وجه يحول بينها وبين مالكها، والحديث نص في ذلك، ونُقل عن أبي حنيفة أنه لا يرى إمكان غصب الأرض
(5)
؛ لأن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعلٍ في العين، وهذا لا يتصور في العقار.
(1)
أخرجه البخاري (2454).
(2)
"فتح الباري"(5/ 104، 105).
(3)
أخرجه ابن أبي شبية (6/ 567)، وحسنه الحافظ في "فتح الباري"(5/ 105)، وانظر:"المسند"(28/ 494).
(4)
انظر: "المفهم"(1/ 284، 4/ 534)، "فتح الباري"(5/ 105).
(5)
انظر: "الهداية"(4/ 12)، "المحلى"(8/ 144).
وهذا تعليل في مقابلة النص فلا يقبل، وغصب كل شيء بحسبه، فالمنقول بنقله وأخذه، وغير المنقول كالأراضي والدور والبساتين بالاستيلاء عليه.
* الوجه السابع: الحديث دليل على أن من ملك أرضًا ملك باطنها إلى تُخُومها
(1)
، فلا يجوز لأحد أن يحفر تحتها نفقًا، أو يضع تمديدات ماء أو كهرباء ونحو ذلك إلا بإذنه، ويكون مالكًا لما فيها من أحجار مدفونة أو معادن، وله هواؤها، وله أن يحفر ما شاء ما لم يضر بجاره، فإن ضَرَّ بجاره لم يجز، لأن الضرر يزال، والله تعالى أعلم.
(1)
جمع تُخُم: وهو الحد الفاصل بين أرضين، والمعالم يهتدى بها في الطريق.
حكم من أتلف شيئًا لغيره
896/ 2 - عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَال:"كُلُوا"، وَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُول، وَحَبَسَ المَكْسُورَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَسَمَّى الضَّارِبَةَ عَائِشَةَ، وَزَادَ: فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بإنَاءٍ". وَصَحَحَهُ.
* الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "المظالم"، باب "إذا كَسَرَ قصعةً أو شيئًا لغيره"(2481) من طريق يحيى بن سعيد، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، ولفظه: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"طعام بطعام، وإناء بإناء". قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
وهذا الحديث لا تعلق له بالغصب، ومع هذا فكل من ألَّف في أحاديث الأحكام ذكره هنا؛ وحقه أن يذكر في باب "الضمان" أو "ضمان المتلفات"، ولعل ذكره هنا؛ لأن إتلاف مال الغير مباشرة أو بسبب على وجه العدوان نوع من أنواع الغصب.
* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان عند بعض نسائه) هي عائشة رضي الله عنها، كما تدل له رواية
الترمذي المذكورة، وكأنها أبهمت رضي الله عنها تفخيمًا لشأنها وأنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها
(1)
.
قوله: (فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين) وصفت المرسلة بأم المؤمنين إيذانًا بشفقتها وكسرها غيرتَها وهواها، حيث أهدت إلى بيت ضرتها بالقصعة، قاله الطيبي
(2)
.
ولم يبين في هذه الرواية من المرسلة؟ لكن ذكر ابن حزم رواية من طريق جرير بن حازم، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، أن المرسلة هي زينب بنت جحش رضي الله عنها
(3)
، وروى النسائي من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي المتوكل، عن أم سلمة أنها -يعني- أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فِهْرٌ، ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، وهو يقول:"كلوا، غارت أمُّكم" مرتين، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة. والحديث صححه الألباني
(4)
.
ورجح الحافظ ابن حجر أنها زينب؛ لمجيء الحديث من مخرجه، وهو حميد، عن أنس رضي الله عنه، وما في النسائي قصة أخرى
(5)
.
قوله: (مع خادم) الخادم لفظ يطلق على الذكر والأنثى، يقال: خدمه خدمة: قام بحاجته، فهو وهي خادم، قال في "المصباح المنير": (والخادمة بالهاء في المؤنث قليل
…
)
(6)
.
قوله: (بقصعة) بفتح القاف: إناء من خشب يؤكل فيه، وفي رواية أخرى عند البخاري:(بصحفة)
(7)
.
قوله: (فيها طعام) ورد في حديث أنس عند ابن حزم أن زينب بنت
(1)
"شرح الطيبي"(6/ 128).
(2)
المصدر السابق.
(3)
"المحلى"(8/ 141).
(4)
"الإرواء"(5/ 360).
(5)
"فتح الباري"(5/ 125).
(6)
ص (165).
(7)
"صحيح البخاري"(5225).
جحش أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة يومها جفنة من حيس
…
الحديث. والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدًا، ثم يُنْدَرُ منه نواه، وربما جعل فيه سويق.
قوله: (فضمها) أي: جمع بين أجزاء القصعة المكسورة وشدها حتى تماسكت.
قوله: (ودفع القصعة .. ) في البخاري: (وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة
…
).
قوله: (طعام بطعام) أي: وضع في القصعة الصحيحة طعامًا وأرسله فيها إلى من كسرت قصعتها، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تطييبًا لخاطرها، أو من باب المعونة والإصلاح.
* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من أتلف لغيره شيئًا أنه يضمنه، فإن كان مثليًّا ضمنه بمثله، وإن لم يكن مثليًّا ضمنه بقيمته، ولا يعدل إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل أو تعذر.
وقد تقدم أن المثلي كل شيء له مثل وشبيه ومقارب، سواء كان مكيلًا كالأرز والبر والشعير، أو موزونًا كاللحم، أو إناء، أو كتابًا، أو ثوبًا، أو نحو ذلك.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع القصعة الصحيحة للرسول عوضًا عن القصعة المكسورة، ومعلوم أن القصعة تعد من القيميات، ومع هذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها قصعة مثلها، مما يدل على أن القيمي يضمن بمثله من جنسه متى أمكن مع مراعاة التساوي في القيمة أو التقارب، حيث لا يوجد فرق يعتد به، ولأن الضمان بالشبيه والمقارب يجمع الأمرين: القيمة، وحصول مقصود صاحبه، وقد نُسب هذا القول إلى الشافعي، وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهو قول ابن حزم
(1)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"(10/ 211)، "الإنصاف"(6/ 193)، "الفتاوى"(20/ 563، 30/ 333)، "إعلام الموقعين"(1/ 322، 2/ 25)، "المحلى"(8/ 576).
* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن إرسال الطعام أو الشراب من زوجة لبيت زوجة أخرى فيه الزوج أنه جائز ولا يعتبر من الميل لزوجة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إرسال الطعام إلى بيت عائشة رضي الله عنها بل أقره، وأمر بأكله بعد أن جمعه.
* الوجه الخامس: الحديث دليل على وجود الغيرة الشديدة بين النساء حتى ذوات العلم والفضل والشرف الكبير، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل بينهن من الغيرة ما يستغرب ويستنكر، وهذا شيء جعله الله تعالى في جبلَّتهن، بحيث إن المرأة لا تملك نفسها عند حدوثه مهما كان علمها وفضلها، فكيف بمن دون ذلك؟!.
* الوجه السادس: الحديث دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وكريم معاملته لأزواجه، حيث لم يعاقب كاسرة القصعة بل اعتذر عنها بقوله:"غارت أمكم" لئلا يُحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر، كما تقدم.
وهذا فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة المرأة الغيور أو الغَيرى بما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثمرته الغيرة.
والغيرة: بفتح المعجمة، وسكون التحتانية بعده راء: مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما فيه الاختصاص، وأشد ما تكون الغيرة بين الزوجات، وبين الزوجين
(1)
.
* الوجه السابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للزوج التلطف في معاملة النساء، ومعالجة ما قد يحدث من إحدى زوجاته على الأخرى بما يطيب خاطرها ويزيل ما قد يسيء إلى العشرة، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(9/ 320).
حكم من زرع في أرض غيره
897/ 3 - عَنْ رَافعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيرِ إِذْنِهِمْ فَلَيسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائيَّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَيُقَالُ: إنَّ البُخَارِيَّ ضَعَّفَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
* الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أحمد (25/ 138)، وأبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في زرع الأرض بغير إذن صاحبها"(3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا الحديث حسنه الترمذي، وقال: (سألت محمد بن إسماعيل -يعني: البخاري- عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن
…
)
(1)
.
والظاهر أن تحسين الحديث إنما هو باعتبار شواهده، كما ذكر الألباني
(2)
. وأبو إسحاق: سمع منه شريك قبل الاختلاط
(3)
.
وأما قول الحافظ: (ويقال: إن البخاري ضعفه) فقد نقله الخطابي عن البخاري بصيغة الجزم
(4)
، وقال الترمذي في "العلل":(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث شريك الذي تفرد به عن أبي إسحاق)
(5)
فظاهر هذا أن البخاري أعله لكونه من أفراد شريك بن عبد الله القاضي، وهو كثير الخطأ، وهذا
(1)
"جامع الترمذي"(3/ 648).
(2)
"الإرواء"(3/ 351)، وانظر:"الحديث الحسن" للدريس (2/ 596 - 614).
(3)
"تهذيب التهذيب"(4/ 294).
(4)
"معالم السنن"(5/ 64).
(5)
(1/ 564).
محل نظر، فإن هذه العبارة قد تفيد تضعيف هذا الطريق، لا تضعيف الحديث إن ثبت تحسين البخاري، ولذا لم يجزم به الحافظ، بل ساقه بصيغة التمريض خلاف عادته، ومما يدل على النظر في هذا النقل، أن الترمذي نقل عن البخاري تحسينه، كما مضى، إلا إن كان تضعيف البخاري باعتبار طريق من طرق الحديث، وتحسينه باعتبار ما له من طرق وشواهد تقويه، كما قال أبو حاتم وغيره.
ثم إن شريكًا لم ينفرد به، فقد تابعه قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، به. أخرجه يحيى بن آدم
(1)
، والبيهقي
(2)
، وهو في درجة شريك، فإنه سيء الحفظ أيضًا -كما تقدم-، فأحدهما يقوي الآخر، إلا أن البيهقي أعلَّ الحديث بعلتين غير ضعف شريك:
الأولى: أن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس، ومما يدل على تدليسه أن ابن عدي روى الحديث من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء، به
(3)
، فزاد عبد العزيز بن رفيع.
العلة الثانية: الانقطاع؛ لأن عطاء بن أبي رباح لم يسمع من رافع بن خديج رضي الله عنه، فيما ذكر الشافعي وأبو زرعة وابن أبي حاتم
(4)
. وجزم أبو حاتم بأنه أدركه
(5)
.
والحديث جاء من طريق يحيى القطان، عن أبي جعفر الخطمي، عن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة، فرأى زرعًا في أرض ظُهير، فقال:"ما أحسن زرع ظهير! "، قالوا: ليس لظهير، قال:"أليس أرض ظهير؟ "، قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان، قال:"فخذوا زرعكم، وردوا عليه نفقته"، قال رافع: فأخذنا زرعنا، ورددنا إليه النفقة.
أخرجه أبو داود (3399)، والنسائي (7/ 40)، وهذا إسناد صحيح لا علة فيه
(6)
، قال ابن أبي حاتم: (قال أبي: هذا يقوي حديث شريك، عن أبي
(1)
"الخراج"(296).
(2)
"السنن الكبرى"(4/ 294).
(3)
"الكامل"(4/ 19).
(4)
"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (155)، "السنن" للبيهقي (6/ 136، 137).
(5)
"العلل" رقم (1427).
(6)
"الإرواء"(5/ 353).
إسحاق، عن عطاء، عن رافع)
(1)
.
والحديث بمجموع طرقه صحيح، خلا لفظة:"بغير إذنهم" فقد تفرد بها أبو إسحاق السبيعي، كما ذكر ذلك الإمام أحمد
(2)
. وحسن ابن القيم هذا الحديث، ورأى أن لفظة:"بغير إذنهم" صحيحة في النظر وإن لم تثبت في النقل، وقال:(فمثل هذا الحديث الحسن الذي له شاهد من السنة على مثله -وقد تأيد بالقياس الصحيح- من حجج الشريعة، وبالله التوفيق)
(3)
.
* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من غصب أرضًا ثم زرعها فإن الزرع يكون لصاحب الأرض، ويدفع للغاصب قيمة الزرع من بذر وحرث وسقي، ونحو ذلك، ولصاحب الأرض أن يبقي الزرع للغاصب بأجرة مثله إلى الحصاد مع أرش نقص الأرض، وهذا إذا كان الزرع قائمًا، أما إذا كان الأمر بعد الحصاد فليس لصاحب الأرض إلا الأجرة، وهذا مذهب الإمام أحمد، وقول كثير من أهل المدينة، وأبي عبيد، وابن حزم
(4)
.
وعلى هذا فلا يجبر الغاصب على قلع زرعه؛ لأنه إتلاف للمال وإضاعة له، وقد أمكن رد الأرض المغصوبة إلى مالكها من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أن الزرع للغاصب
(5)
، وعليه أجرة الأرض، وأن لصاحب الأرض قلعه قبل الحصاد، وأما بعد الحصاد فليس له إلا الأجرة، واستدلوا بالحديث الآتي:"ليس لعرق ظالم حق"، وسيأتي مزيد كلام عند هذا الحديث، إن شاء الله.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وهو حديث الباب، ومن حيث المعنى -أيضًا-، ودليلهم قال عنه الصنعاني:(وهو لأهل القول الأول أظهر في الاستدلال)، والله تعالى أعلم.
(1)
"العلل"(1/ 475، 476).
(2)
"مسائل أبي داود" ص (200).
(3)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 64).
(4)
"المحلى"(5/ 250)(8/ 144)، "بداية المجتهد"(4/ 148)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(15/ 134).
(5)
"المغني"(7/ 376)، "نيل الأوطار"(5/ 360).
حكم من غرس نخلًا في أرض غيره
898/ 4 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيرِ قَال: قَال رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ رَجُلَينِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أَرْضٍ، غَرَسَ أَحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلًا، والأرضُ للآخَرِ، فَقَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالأَرْضِ لِصَاحِبَها، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ، وَقَال:"لَيسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
899/ 5 - وآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ "السُّنَنِ" مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ زيدٍ، وَاخْتُلِفَ في وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي تَعْيِينِ صَحَابِيِّهِ.
* الكلام عليهما من وجوه:
* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الله، عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي المدني، الفقيه، أحد الفقهاء السبعة، مولده سنة عشرين، وقيل ثلاث وعشرين، قال الذهبي:(هذا قول قوي، وقيل غير ذلك)، حدث عن أبيه بشيء يسير لصغره، وروى عن أخيه عبد الله، وأمه أسماء، وخالد، وعائشة، ولازمها وتفقَّه بها، وعن سعيد بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم، وروى عنه أولاده: عبد الله، وعثمان، وهشام، وغيرهم، قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، فقيهًا، عاليًا، ثبتًا، مأمونًا، مات سنة أربع وتسعين على أحد الأقوال، رحمه الله
(1)
.
(1)
"الطبقات"(30/ 313)، "سير أعلام النبلاء"(4/ 421)، "تهذيب التهذيب"(7/ 163).
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، بابٌ "في إحياء الموات"(3074) من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه.
وهذا إسناد رجاله ثقات غير محمد بن إسحاق، وهو صدوق في ضبطه شيء، مع ما ذكروا من تدليسه، ولذا حسّن الحافظ حديثه هنا.
وأما الثاني فقد رواه أبو داود (3073)، والترمذي (1378)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 325) من طريق عبد الوهاب الثقفي، قال: أخبرنا أيوب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق". قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب).
وقد اختلف في هذا الحديث؛ فروي موصولًا عن عروة، عن سعيد بن زيد، كما ذكر الحافظ. قال البزار:(هذا الحديث قد رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلًا، ولا نحفظ أحدًا قال: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد إلا عبد الوهاب، عن أيوب)
(1)
.
وقد رواه الإمام مالك (2/ 743)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 325) عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، قال ابن عبد البر:(هذا الحديث مرسل عند جماعة الرواة عن مالك لا يختلفون في ذلك)
(2)
. وقال الدارقطني بعد أن ذكر وصله وإرساله: (والمرسل عن عروة أصح)
(3)
. وقال ابن عبد البر: (وهو أصح ما قيل فيه، إن شاء الله).
ولعل وجه ترجيح المرسل مخالفة عبد الوهاب الثقفي لرواية الجماعة الذين رووه مرسلًا، وما حصل من الاختلاف فيه على هشام بن عروة، كما فصله الدارقطني وابن عبد البر وغيرهما، قال ابن عبد البر بعد أن ذكر
(1)
"مسند البزار"(4/ 87).
(2)
"التمهيد"(22/ 280).
(3)
"العلل"(4/ 416).
الاختلاف: (هذا الاختلاف عن عروة يدل على أن الصحيح في إسناد هذا الحديث عنه الإرسال)، وعلى هذا فرواية عبد الوهاب شاذة، وقد قال الحافظ في "التقريب" عن عبد الوهاب:(ثقة، تغير قبل موته بثلاث سنين) وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق عن معمر، عن هشام بن عروة، قال: خاصم رجل إلى عمر بن عبد العزيز في أرض حازها، فقال عمر:(من أحيا من مَيْت الأرض شيئًا فهو له)، فقال له عروة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا شيئًا من ميت الأرض فهو له، وليس لعرق ظالم حق"
(1)
.
وقد اختلف في تعيين صحابي هذا الحديث، وسيأتي بيان ذلك في باب "إحياء الموات" حيث ذكر الحافظ هذا الحديث، وذكر هناك عدة أقوال في تعيين الصحابي.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) في إحدى روايات أبي داود أن عروة، قال:(وأكثر ظني أنه أبو سعيد) والصحابة رضي الله عنهم كلهم ثقات ذوو عدل، تقبل رواية الواحد منهم وإن كان مجهولًا؛ لأن جهالة من هذه صفته لا تضر.
قوله: (ليس لعرق ظالم حق) يجوز فيه وجهان:
الأول: تنوين عرق، ويكون قوله:"ظالم" نعتًا له، والمعنى: ليس لصاحب عرقٍ ظالمٍ حق، وسمي العرق: ظالمًا؛ لأنه لظالم، فيكون راجعًا لصاحب العرق، وهذا قول الأكثرين.
الثاني: بدون تنوين، على إضافة عرق إلى ما بعده، ويكون الظالم صاحب العرق، وسمي ظالمًا؛ لأنه تصرف في ملك الغير بلا حق.
والعرق الظالم: من غرس، أو زرع، أو بنى، أو حفر في أرض غيره بلا حق ولا شبهة.
(1)
انظر: "التمهيد"(22/ 280).
والعرق الظالم قد يكون ظاهرًا كالبناء والغرس، وقد يكون باطنًا وهو ما احتفره الرجل من الآبار، أو استخرجه من المعادن
(1)
.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من غرس نخلًا في أرض غيره فهو ظالم ولا حق له في ذلك، ويؤمر بقلع نخله وإخراجه، ومثل ذلك لو بنى في الأرض المغصوبة فإنه يلزمه إزالة البناء. وقد نقل ابن رشد الإجماع على ذلك، وقال الموفَّق:(لا نعلم فيه خلافًا)
(2)
.
قال ابن عبد البر عن هذا الحديث: (هو حديث متلقى بالقبول عند فقهاء الأمصار وغيرهم، وإن اختلفوا في بعض معانيه)
(3)
.
وإذا قلع النخل لزمه تسوية الحفر، وردّ الأرض إلى ما كانت عليه؛ لأنه ضرر حصل بفعله في ملك غيره، فلزمته إزالته، وعلى هذا ففيه فرق بين الغرس كما هنا والزرع كما في حديث رافع بن خديج الذي قبله، وهو أن الغرس يقلع، والزرع يبقى على التفصيل السابق.
وأما قول الأكثرين: إن الحكم في الزرع كالحكم في الغرس وهو أنه يقلع فهو قول مرجوح؛ لأن الغرس مدته تطول، ولا يعلم متى ينقلع من الأرض، فانتظاره يؤدي إلى ترك ردِّ الأصل بالكلية، بخلاف الزرع فإن مدته لا تطول، والقول بالتفريق عمل بالدليلين معًا، وهو أولى من إبطال أحدهما
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(5/ 19).
(2)
"بداية المجتهد"(4/ 147)، "المغني"(7/ 365).
(3)
"التمهيد"(22/ 184).
(4)
"المغني"(7/ 376).
تغليظ تحريم الدماء والأموال والأعراض
900/ 6 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْر بمِنًى: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ عَلَيكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا، في بَلَدِكُمْ هذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
• الكلام عليه من وجهين:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "العلم"، باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع"" (67)، ومسلم في كتاب "القسامة"، باب "تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال" (1679) من طريق عبد الله بن عون، عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، ذكر النبيَّ صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك بخطامه -أو بزمامه- قال: "أيُّ يوم هذا؟ " فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: "أليس هذا يوم النحر؟ " قلنا: بلى. قال: "فأيُّ شهر هذا؟ " فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس بذي الحجة؟ " قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه".
ولو أن الحافظ بدأ باب "الغصب" بهذا الحديث لكان أولى.
° الوجه الثاني: الحديث دليل على عظم شأن مال المسلم، ووجوب احترامه، والحذر من التعدي عليه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني في هذا الحديث من وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة مال المسلم في أعظم مجمع على الإطلاق حيث خطب بذلك في عرفة، كما في حديث جابر رضي الله عنه، ثم أعاده في منى يوم النحر، كما في هذا الحديث، وهذا دليل على العناية والاهتمام بهذا الأمر.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الأموال والأنفس والأعراض فدل على وجوب احترام الأموال وعدم التعدي عليها كوجوب احترام الدماء والأعراض.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه تحريم الدم والمال والعرض بما هو ظاهر عندهم ومستقر وثابت في نفوسهم، وهو تحريم البلد والشهر واليوم، وكانوا لا يرون استباحة هذا الأشياء وانتهاك حرمتها بحال، بخلاف الدماء والأموال والأعراض فإنهم كانوا في الجاهلية يستبيحونها، فشبه حرمة هذه بحرمة تلك لما تقدم من وجه الشبه.
وقد نهى الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل في أكثر من آية من كتابه الكريم، وهذا يشمل كل سبب محرم أو وسيلة محرمة لاكتساب المال تؤدي إلى التعدي على حقوق الآخرين، فيدخل في ذلك أكل الربا والغصب والتعدي على أملاك الآخرين من الأراضي أو البساتين وغيرها بمدِّ حدود أرضه إلى أرض جاره خلسة واغتصابًا، كما يدخل في ذلك السرقة والاختلاس والرشوة والغش وغير ذلك من صور أكل المال بالباطل.
وقد حمى الإسلام مال المسلم وصانه من التعدي، فحرم أخذه بغير إذنه وطيب نفسه، وأوجب الضمان على من أتلف شيئًا منه، كما توعد بالعقاب الأليم من أخذ شبرًا من أرض أخيه، وأوجب قطع يد السارق، وتعزير المختلس والمنتهب، والله تعالى أعلم.
باب الشفعة
الشفعة لغة: بضم المعجمة، وسكون الفاء، من الشفع، وهو الزوج قسيم الفرد، وتطلق على معانٍ منها: الضم والزيادة، فإذا ضممت فردًا إلى فرد فقد شفعته.
وشرعًا: انتزاع الشريك شِقْصَ شريكه ممن انتقل إليه ببيع ونحوه.
مثال ذلك: أن يشترك زيد وعمرو في أرض أو دار أو مزرعة لكل منهما نصيب معلوم مشاع كالنصف، فباع زيد حصته لخالد، فيجوز لعمرو أن ينتزع هذه الحصة من مشتريها، فيأخذها منه بما دفع من الثمن، طابت نفسه بذلك أم لا، وتكون الأرض أو الدار كلها لعمرو الذي لم يبع نصيبه.
وقولنا في التعريف: (انتزاع) هو أخذ الشيء بالقوة، وكأن الشفيع يأخذ نصيب شريكه بغير رضي المشتري؛ لأنه أحق به، وعلى هذا فالشفعة ليست سببًا اختياريًّا، بل تُعَدُّ من نزع الملك جبرًا عن صاحبه، وذلك من أجل المصلحة المترتبة على ذلك، كما سيأتي.
وقولنا: (شقص) بكسر السين: القطعة من الشيء.
وقولنا: (ببيع ونحوه) أي: سواء باع شريكه نصيبه على طرف ثالث، أو صالح به عن عقار آخر، أو صالح به عن جناية موجبة للمال، ونحو ذلك.
وقد ثبتت مشروعية الشفعة بالسنة والإجماع، أما السنة فأحاديث الباب.
وأما الإجماع فقد نقل الموفق عن ابن المنذر أنه قال: (أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط)
(1)
.
(1)
"المغني"(7/ 435).
وأما حكمة مشروعيتها: فإن موضوع الشفعة هو العقارات المشتركة كالأراضي والبساتين، والشركة في الغالب منشأ الضرر والمشاكل؛ لأن كثيرًا من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، فجاءت هذه الشريعة الكاملة بدفع هذا الضرر: بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجملة، لدفع ما قد يكون من ضرر يصيب الشريك بسبب مشاركته شخصًا قد لا تؤمن عواقبه، على وجه لا يتضرر به صاحبه؛ لأن المشتري إلى الآن لم يثبت له من أحكام الاشتراك ما يتضرر بفقده، ثم هو يصل إلى حقه من الثمن، وهذا يصل إلى استبداده بالمبيع وانفراده به، بالإضافة إلى ما يحصل عليه الشفيع بالشفعة من سعة مسكنه، أو زيادة في مزرعته، أو بقعته، تمكنه من استغلالها وإنماء غلاتها.
كما أن من حكمتها دفع ضرر مؤنة القسمة إذا طلبها الشريك؛ لأن للقسمة أضرارًا من نواحٍ شتى؛ كنقص الانتفاع بالشقص بسببها، وما يترتب على ذلك من إحداث مرافق لكل نصيب؛ كالسلَّم والبالوعة والطريق، وما يستلزم ذلك من نفقات.
وبهذا يعلم أن الشفعة ليست على خلاف القياس -كما قد يُظن، لكون الشقص أُخذ من المشتري قهرًا، والأصل أنه لا يخرج المال إلا بطيب نفس من صاحبه- لأن هذا الأصل مراد به منع الظلم والإضرار بصاحب المال، أما ما لا يتضمن ظلمًا ولا إضرارًا، وإنما يتضمن مصلحة فهو على أصول الشريعة، وهي توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة وإن لم يرضَ صاحب المال
(1)
.
(1)
انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 120).
مشروعية الشفعة، وما تثبت فيه
901/ 1 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بالشُّفْعَةِ في كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "الشُّفْعَةُ في كُل شِرْكٍ: في أَرْضٍ، أوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أنْ يَبيعَ حَتى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ". وَفي رِوَايَةِ الطحَاويِّ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفعَةِ في كُلِّ شَيءٍ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "الشفعة"، باب "الشفعة فيما لم يقسم"(2257) من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعًا.
وقول الحافظ: (واللفظ للبخاري) أي: لأن مسلمًا ما رواه بهذا اللفظ، وإنما رواه بمعناه، كما ذكر الحافظ نفسه في "التلخيص"
(1)
ولو اقتصر على عزوه للبخاري لكان أجود، كما فعل ابن عبد الهادي في "المحرر"
(2)
.
وقد رجح أبو حاتم أن قوله: (فإذا وقعت الحدود
…
) مدرج من كلام جابر رضي الله عنه
(3)
، ويدل على هذا الإدراج عدم إخراج مسلم لتلك الزيادة
(4)
.
قال الحافظ: (وفيه نظر؛ لأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه،
(1)
(3/ 64).
(2)
(2/ 586 - 587)، وانظر:"الإعلام"(7/ 412).
(3)
"العلل" رقم (1431).
(4)
انظر: "ضوء النهار"(3/ 1429).
حتى يثبت الإدراج بدليل، وقد نقل صالح بن أحمد عن أبيه أنه رجح رفعها)
(1)
.
وقد تبع الشوكانيُّ ابنَ حجر في نفي الإدراج، وأجاب عن عدم إخراج مسلم لتلك الزيادة، بأن بعض الأئمة قد يقتصر على ذكر بعض الحديث، لا سيما وقد أخرجها البخاري، قال: ثم إن معنى هذه الجملة التي ادعي أنها مدرجة، هو معنى:"في كل ما لم يقسم" ولا تفاوت إلا أن يكون دلالة أحدهما على هذا المعنى بالمنطوق والآخر بالمفهوم
(2)
.
وأخرجه مسلم (1608)(135) من طريق ابن جريج، أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:
…
وذكر الحديث، وتمامه:"فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه".
ولعل الحافظ ذكر رواية مسلم لأنها أفادت فائدتين:
الأولى: التفسير والتمثيل لما أجمل في قوله: "ما لم يقسم".
الثانية: أن فيها زيادة حكم سكتت عنه الرواية الأولى، كما سيأتي.
ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 126) فقال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا يوسف بن عدي، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا الحديث قال عنه الحافظ: (رجاله ثقات). وقال في "فتح الباري": (لا بأس برواته)
(3)
. ومعلوم أن كلا العبارتين لا تدل على تصحيح الحديث؛ لأن فيه عنعنة ابن جريج، وهو معروف بالتدليس عن الضعفاء والمتروكين، كما قال الدارقطني والذهبي وابن حجر وغيرهم. ثم إن الحديث قد جاء عند مسلم (1608)(134) من رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وإسحاق بن إبراهيم، حدثنا- وبعضهم قال: أخبرنا- ابن إدريس: حدثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، ليس عن عطاء، عن جابر. وقد تابع ابنَ إدريس إسماعيلُ بن علية، عن ابن جريج، به. رواه أبو داود
(1)
"فتح الباري"(4/ 437)، وانظر:"مسائل الإمام أحمد" رواية ابنه صالح (2/ 282) ولم أر فيه ما فهمه الحافظ، وانظر:"التمهيد"(7/ 45).
(2)
"نيل الأوطار"(5/ 373).
(3)
(4/ 436).
(3513)
، والنسائي (7/ 301)، وأحمد (22/ 295)
(1)
.
وذكر الحافظ رواية الطحاوي لإفادتها عموم الشفعة في كل شيء من العقار، والمنقول، ما تمكن قسمته وما لا تمكن، كما سيأتي إن شاء الله.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (قضى بالشفعة) أي: حكم وألزم بثبوت الشفعة.
قوله: (فإذا وقعت الحدود) الحدود: جمع حد، والمراد به هنا: ما تميز به الأملاك بعضها عن بعض، ومعنى (وقعت الحدود) أي: قُسِّمَ الملك المشترى، ووضعت الحواجز والعلامات لكل ملك على حدة، وعرف كلٌّ نصيبه.
قوله: (وصرفت الطرق) بضم الصاد، وكسر الراء وتشديدها، وتخفف، بمعنى: بينت مصارف الطرق وشوارعها، قال ابن مالك: معناه: خلصت وبانت. وهو مشتق من الصِّرْفِ بكسر المهملة، وهو الخالص من كل شيء
(2)
.
قوله: (فلا شفعة) أي: إذا كان بيع الشقص بعد تحديد نصيب كل شريك وتصريف الطرق فلا شفعة لمن كان شريكًا.
قوله: (في كل شرك) بكسر الشين، وإسكان الراء؛ أي: شيء مشترك بين اثنين فأكثر.
قوله: (أو ربع) بفتح، فسكون، هي الدار والمسكن. قال في "المصباح المنير": (الرَّبْعُ: محلة القوم ومنزلهم، وقد أطلق على القوم مجازًا
…
)
(3)
.
قوله: (أو حائط) أي: بستان ومزرعة، سمي حائطًا؛ لأنهم كانوا يجعلون حوله جدارًا في الغالب، والحائط: الجدار.
قوله: (لا يصلح) بضم اللام، مضارع صَلَح، من باب (قعد)، وفتح اللام في المضارع لغة، وفي رواية لمسلم:(لا يحل).
قوله: (أن يبيع) فاعل يبيع دل عليه السياق؛ أي: أن يبيع الخليط أو الشريك نصيبه أو شقصه.
(1)
انظر: "الضعيفة"(3/ 62).
(2)
انظر: "فتح الباري"(4/ 436).
(3)
ص (216).
قوله: (حتى يعرض على شريكه) أي: يُعلم شريكه بأنه يريد بيع نصيبه من العقار -مثلًا- حتى إذا كانت له رغبة فيه كان أحق به من الأجنبي.
قوله: (في كل شيء) صيغة عموم، يعني من عقار كأرض ودار ومزرعة، أو منقول ككتاب وحيوان، وغير ذلك مما تجري فيه الشركة.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الشفعة وثبوتها لكل شريك، وذلك في كل عقار مشترك بين اثنين فأكثر، قال الحافظ:(هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة)
(1)
. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (يؤخذ من هذا الحديث أحكام الشفعة كلها، وما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه)
(2)
.
وإذا كان الشركاء أكثر من واحد فالشفعة بينهم على قدر أملاكهم؛ لأن الشفعة حق يستفاد بسبب الملك، فكانت على قدر الأملاك، فإن ترك أحد الشركاء الشفعة لزم باقي الشركاء أخذ كل الشقص أو تركه؛ لأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك
(3)
. فأرض بين ثلاثة أشخاص، واحد له نصفها، والثاني: له ثلثها، والثالث: له سدسها، فباع رب النصف نصيبه، فلشريكيه الشفعة بقدر ملكهما، فتكون المسألة من ثلاثة: لصاحب الثلث سهمان، ولصاحب السدس واحد، ولو باع رب الثلث فالمسألة من ستة، والثلث يقسم على أربعة، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب السدس واحد، ولو باع رب السدس فالمسألة من خمسة لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث سهمان.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على ثبوت الشفعة في كل عقار مشترك لم تميز حدوده ولم تصرف طرقه، كالأراضي والدور والبساتين ونحو ذلك مما يكون مشاعًا بين اثنين فأكثر، وهذا منطوق الحديث، ومفهومه أنه إذا تم تقسيم الأنصبة المشتركة وحددت المعالم، بطل حق الشفعة لزوال ضرر الشراكة والاختلاط الذي من أجله ثبتت.
(1)
"فتح الباري"(4/ 436).
(2)
"بهجة قلوب الأبرار" ص (118).
(3)
"المغني"(7/ 500).
° الوجه الخامس: أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقار المشترك القابل للقسمة؛ كالدار الكبيرة والأرض والبستان ونحو ذلك، لقوله:(في كل ما لم يقسم).
واختلفوا في حكم الشفعة فيما لا يقبل القسمة؛ كالحانوت الصغير والدار الصغيرة، والبئر ونحو ذلك مما لا تمكن قسمته على قولين:
الأول: أن الشفعة تثبت فيما لا تمكن قسمته، وهو قول الحنفية، والظاهرية، والمشهور من مذهب مالك، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وهو قول هيئة كبار العلماء في المملكة
(1)
.
واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في كل شرك: أرض، أو ربع
…
". قالوا: هذا لفظ عام لم يقيد بما يقبل القسمة، فيبقى على عمومه إلا بدليل يخصصه بما يقبل القسمة.
2 -
قوله: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) فيدخل في ذلك ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، لعمومه وعدم الاستثناء.
3 -
أنه إذا أُثبتت الشفعة فيما تمكن قسمته، فما لا تمكن قسمته أولى بثبوت الشفعة؛ لأن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة، وما لا تمكن قسمته يكون ضرر المشاركة فيه أشد لتأبده.
القول الثاني: أن الشفعة لا تثبت فيما لا يقبل القسمة، وهو قول الشافعي في الجديد، ومالك في أحد القولين، وأحمد في أصح الروايتين عنه
(2)
.
واستدلوا بما ذكره أبو عبيد في "غريبه": (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا
(1)
"الكافي"(2/ 852)، "الاختيار"(2/ 42)، "المحلى"(9/ 82، 89)، "فتاوى ابن تيمية"(30/ 381)، "إعلام الموقعين"(2/ 120)، "الإنصاف"(6/ 257)، "الفتاوى السعدية"(436)، "فتاوى ابن باز"(19/ 405).
(2)
"بداية المجتهد"(4/ 21)، "روضة الطالبين"(5/ 70 - 71).
شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة، ولا رُكْحٍ، ولا رَهْوٍ)
(1)
. والمنقبة: الطريق الضيق يكون بين الدارين الذي لا يمكن أن يسلكه أحد. والرُّكْح -بضم الراء، وسكون الكاف-: ناحية البيت من ورائه. والرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر أو غيره.
فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ثبوت الشفعة في هذه المذكورات التي لا تمكن قسمتها، ويلحق بها ما في معناها مما لا يمكن الانتفاع به مع قسمته.
والراجح هو القول الأول، لقوة مأخذه، وهو عموم الأدلة في هذا الباب، ولدخول ذلك تحت المعنى الذي لأجله شرعت الشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فهو حديث ضعيف لا يعرف له إسناد، بحيث ينظر في رجاله، ومثل ذلك لا يقف في مقابلة الأحاديث الثابتة.
وعلى فرض صحته فلا حجة فيه؛ لأن الأشياء المذكورة ليست مملوكة لشخص معين لتصح الشفعة فيها، وإنما هي مرافق مشتركة بين البيوت، يُنتفع بها حسبما جرت به عادة السكان.
° الوجه السادس: استدل بعض العلماء بحديث الباب على أن الشفعة لا تثبت في المنقول؛ كالسيارات والكتب والحيوان وآلات الحراثة والسقي ونحو ذلك.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الشفعة على ما هو عقار وليس بمنقول بقرينة وقوع الحدود وتصريف الطرق، وهذا مما يختص بالعقار، قالوا: ولأن الضرر في المنقول ضرر يسير ثم هو عارض لا يتأبد، فهو كالمكيل والموزون، فيمكن التخلص منه بالقسمة أو البيع أو التأجير، بخلاف الضرر في العقار فهو ضرر كثير ويتأبد بتأبده.
وهذا قول الحنفية، والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة، وقول
(1)
"غريب الحديث"(2/ 539).
للمالكية، واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي
(1)
. لكن إن كان المنقول تابعًا للعقار وبيع معه ثبتت فيه الشفعة، سواء أكان متصلًا بالعقار كالشجر والنخل، أم كان غير متصل به ولكن من لوازمه كآلات الحراثة والسقي، ونحوهما للأراضي الزراعية.
والقول الثاني: أن الشفعة تثبت في المنقول ولا تختص بالعقار، فكل جُزْءٍ بِيعَ مشاعًا في سيارة، أو ثوب، أو آنية، ونحو ذلك من المنقولات، ففيه الشفعة، وهو قول الظاهرية، وجماعة من السلف، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد العزيز بن باز
(2)
. واستدلوا بعموم: (قضى بالشفعة في كل شيء) فإنه يتناول العقار والمنقول، ولأن حق الشفعة لم يثبت إلا لدفع الضرر، والضرر كما يوجد ويتوقع في العقار، كذلك يوجد ويتوقع في المنقول، بل قد يكون في المنقول أشد.
وهذا القول وجيه في نظري، لقوة مأخذه، وهو عموم الأدلة في هذا الباب مع المعنى الذي لأجله شرعت الشفعة، وهو دفع الضرر، والضرر في المنقول يحصل بسبب الشركة كغير المنقول، فقد يكون الشريك الأول في السيارة -مثلًا- ملائمًا في قرب مكانه، وكرم طبعه، بخلاف ما يتوقع من الشريك الثاني بعد بيعها؛ لبعد مكانه وما يتوقع من معاملته.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول، فعنه جوابان:
الأول: أن قوله: (فإذا وقعت الحدود
…
) لا يدل على أن الشفعة لا تكون إلا في العقار كالبناء والأرض والمزرعة، بل الحدود واقعة على كل ما يقبل القسمة من طعام وحيوان وسيارة وآلات حراثة وسقي ونحو ذلك، فأول الحديث فيه عموم، وآخره لا ينفي هذا العموم.
(1)
"تبيين الحقائق"(5/ 252)، "المهذب"(1/ 494)، "بداية المجتهد"(2/ 223)، "الإنصاف"(6/ 256)، "الإرشاد" ص (152).
(2)
"المحلى"(9/ 82)، "الفروع"(4/ 529)، "إعلام الموقعين"(2/ 121)، "الإنصاف"(6/ 257).
الثاني: أن آخر هذا الحديث الدال على الشفعة في العقار هو من باب ذكر بعض أفراد العام بحكم العام، وهذا لا يقتضي التخصيص، ولا يخرج أول الحديث عن دلالته على عموم الشفعة في المنقول.
° الوجه السابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للشريك إذا عزم على بيع نصيبه المشاع أن يخبر شريكه بذلك ليشتريه منه أو ليأذن له في بيعه على من يشاء، فإن باع ولم يؤذنه فإن الشريك أحق بالشقص من المشتري.
وليس لهذا الشريك أن يخفي البيع عن شريكه أو يقول إنه وهبه، أو يذكر ثمنًا كثيرًا حتى لا يشفع شريكه، فكل ذلك ونحوه لا يجوز؛ لأنه من الحيل لإسقاط الشفعة وإبطال حق المسلم.
وظاهر قوله: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
…
) أنه محرم عليه البيع حتى يعلم شريكه، وحمله بعض العلماء على الندب، وأن كراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه، قالوا: لأنه يصدق على المكروه أنه ليس بحلال، ويكون الحلال بمعنى المباح
(1)
.
° الوجه الثامن: دلت رواية مسلم: "فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به" على أن الشريك أحق بالشقص من المشتري إذا باعه شريكه ولم يعلمه، فإن أعلمه بالبيع فأذن فيه، فباع، ثم طلب الشفعة بعد البيع، فالأكثرون على أن له الشفعة، فتثبت مطالبته بها متى وجد البيع؛ لأن الشفعة إنما وجبت بعد البيع، وعن الإمام أحمد، وجماعة من السلف: أن الشفعة تسقط، لرواية مسلم، فإن مفهومها أنه إن باع الشقص وقد آذنه فلا حق له، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 50).
(2)
انظر: المصدر السابق، "المغني"(7/ 514)، "شرح الزركشي"(4/ 205).
حكم شفعة الجار
902/ 2 - عَنْ أَبي رَافِعٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ". أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ، وَفيهِ قِصَّةٌ.
903/ 3 - وعَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَارُ الدَّارِ أَحَق بِالدَّارِ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ حِبَان، وَلَهُ عِلَّة.
904/ 4 - وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا -وإنْ كَانَ غَائِبًا- إِذَا كَانَ طَرِيقُهُما وَاحِدًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ ثِقَات.
• الكلام عليها من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي رافع رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه"، أولها كتاب "الشفعة"، باب "عرض الشفعة على صاحبه قبل البيع"(2258) من طريق ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة، فوضع يده على إحدى منكبيَّ، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سعد ابتع مني بيتيَّ في دارك
(1)
، فقال سعد: والله ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنَّهما، فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، قال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
الظاهر أن المراد: بيتان داخل دار سعد.
يقول: "الجار أحق بسقبه" ما أعطيتكها بأربعة آلاف وأنا أُعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاها إياه.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه النسائي في "الكبرى"(10/ 364) وابن حبان (11/ 585) من طريق عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا.
وهذا حديث صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، وعيسى بن يونس قد روى عن سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط
(1)
، والحديث له علة، كما ذكر الحافظ، وهي أن عيسى بن يونس وَهِمَ
(2)
في هذا الحديث، فرواه عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، وغيره يرويه عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.
رواه أبو داود (3517)، والترمذي (1368)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 365)، وأحمد (33/ 312).
ولما روى الترمذي حديث أنس في "العلل"(1/ 568) قال: (سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح حديث الحسن، عن سمرة، وحديث قتادة، عن أنس غير محفوظ، ولم يُعرف أن أحدًا رواه عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس غير عيسى بن يونس).
وقال الحافظ: (هو معلول، وإنما المحفوظ عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة
…
)
(3)
.
ويرى آخرون كابن القطان أن عيسى بن يونس روى الحديث بالوجهين، وكلاهما صحيح، وأيدوا ذلك بأن أحمد بن جناب، وهو ثقة من شيوخ مسلم قد روى الحديث عن عيسى بن يونس على الوجهين، فهذا يدل على أن عيسى بن يونس قد حفظ ما رواه الجماعة عن سعيد، عن قتادة، وزاد عليهم
(1)
انظر: "الكواكب النيرات" ص (203).
(2)
الذي وهَّمه الدارقطني، انظر:"نصب الراية"(4/ 173).
(3)
"إتحاف المهرة"(2/ 207).
روايته عن سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه
(1)
.
لكنَّ المتقدمين من الأئمة الكبار أنكروا ذلك، كالإمام أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والبخاري والترمذي والبزار وأحمد بن جناب (شيخ عيسى) والدارقطني
(2)
.
والحديث فيه ضعف على كلا الوجهين، لعدم تصريح قتادة والحسن بالسماع، وكلاهما موصوف بالتدليس. والترمذي قال عن حديث سمرة:(حسن صحيح).
وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (22/ 155، 156)، وأبو داود (3518)، والترمذي (1369)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 365)، وابن ماجه (2494) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعًا.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب .. ) والحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين غير عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي فمن رجال مسلم. وقد طعن شعبة في عبد الملك العرزمي بسبب هذا الحديث، فقال:(سها عبد الملك في هذا الحديث، فإن روى حديثًا مثله طرحت حديثه).
وقد ضعف هذا الحديث الشافعي وابن معين وأحمد وغيرهم، ووجه تضعيفه تفرد عبد الملك بروايته، ولأنه معارض في الظاهر لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر رضي الله عنه:(الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فإن ظاهر قول عبد الملك: (إذا كان طريقهما واحدًا) إثبات الشفعة للجار إذا كان الطريق مشتركًا بينهما وإن وقعت الحدود، وهذا خلاف ما دل عليه حديث أبي سلمة.
ويرى جمع من المتأخرين، كابن الجوزي وابن عبد الهادي والزيلعي
(1)
"إتحاف المهرة"(2/ 207).
(2)
انظر: "مسائل أبي داود" ص (300)، "العلل" لابن أبي حاتم (1430)، "مسند البزار"(13/ 407)، "التاريخ" لابن أبي خثيمة (3/ 256)، "نصب الراية"(3/ 173).
وابن القيم
(1)
، أن الحديث صحيح لا مطعن فيه، قالوا: وعبد الملك العرزمي من الثقات الأثبات الحفاظ الذين لا مطمح للطعن فيهم، وقد احتج به مسلم في "صحيحه" وخرج له أحاديث، ولم يرو ما لم يخالف الثقات، بل روايته موافقة لحديث أبي رافع، وحديث سمرة.
قالوا: وأما طعن شعبة فإنه لا يقدح في عبد الملك ولا في صحة الحديث، لأمرين:
1 -
أن الترمذي قال: إن عبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة، من أجل هذا الحديث. وقال ابن عبد الهادي عن هذا الحديث: قد تكلم فيه شعبة وغيره بلا حجة، وهو حديث صحيح، ورواته أثبات
(2)
.
2 -
أنه لا معارضة بين الحديثين؛ لأن منطوق حديث أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه انتفاء الشفعة عند تمييز الحدود وتصريف الطرق، ومنطوق حديث عبد الملك إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق، ومفهومه انتفاء الشفعة عند تصريف الطرق، فيكون مفهومه موافقًا لمنطوق حديث أبي سلمة.
لكن قد يقال: إنه لا تعارض بين الذين وثقوا عبد الملك، وبين قول الذين ضعفوا هذا الحديث لوجود المخالفة فيه، فيحكم على حديثه هذا بالنكارة أو الشذوذ مع القول بقبول رواية عبد الملك فيما لم يخالف فيه
(3)
، يقول ابن حبان: (الغالب على من يحفظ ويحدث من حفظه أن يَهِمَ، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت، صحت عدالته، بأوهام يهم فيها،
…
بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروي الثبت من الروايات، وترك ما صحَّ أنه وهم فيها
…
)
(4)
.
(1)
انظر: "التنقيح"(4/ 174)، "نصب الراية"(4/ 174) حيث نقل كلام ابن عبد الهادي وأقرَّه، "تهذيب مختصر السنن"(5/ 166).
(2)
"المحرر"(2/ 587)، وانظر:"تنقيح التحقيق"(4/ 174 - 175).
(3)
انظر: "تهذيب التهذيب"(6/ 398).
(4)
"الثقات"(7/ 97، 98).
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (الجار أحق بصقبه) الصقب: بفتح الصاد والقاف: هو القرب والملاصقة، ويقال: بسَقَبه، بالسين، من سَقِب -بكسر القاف- سَقَبًا، من باب (تَعِبَ). قال ابن دريد: اللغتان فصيحتان.
والباء للسببية، والمعنى: أن الجار له حق زائد على ما هو لعامة المسلمين من النصح والبر والمعونة بسبب قربه وجواره، وقيل: إن المراد: أنه أحق بالشفعة
(1)
، وسبب هذا الاختلاف، أن الأحقية في هذا الحديث محتملة، ويلزم على هذا المعنى أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقًا، ثم المشارك في الطريق.
قوله: (جار الدار) أي: صاحب الدار المجاورة للدار التي يراد بيعها.
قوله: (أحق بالدار) أي: أولى بتملكها بقيمتها إذا عزم صاحبها على بيعها.
قوله: (الجار) أي: الملاصق.
قوله: (ينتظر بها) بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله، والضمير يعود على الشفعة، والمعنى أن حقه في الشفعة ثابت.
قوله: (وإن كان غائبًا) إن: وصلية لا تحتاج إلى جواب، والواو قبلها واو الحال.
° الوجه الثالث: اختلف العلماء في ثبوت الشفعة للجار، على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الشفعة تثبت للجار مطلقًا، سواء أكان له مع جاره مرافق مشتركة أم لا، فإذا بيعت قطعة أرض كان لمالك الأرض التي تلاصقها حَقُّ أخذها بالشفعة، وهذا قول الحنفية، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وجماعة
(2)
.
(1)
انظر: "معالم السنن"(5/ 169).
(2)
"الهداية مع تكملة فتح القدير"(9/ 369)، "المغني"(7/ 437).
واستدلوا بأحاديث الباب، حيث دلت على أن الجار أحق بالدار من غيره لقربه، فدل ذلك على استحقاق الجار للشفعة في عقار جاره بسبب الجوار.
قالوا: ولأن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار، والناس يتفاوتون في الجوار تفاوتًا فاحشًا، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود، والضرر من ذلك دائم متأبد، ولا يندفع إلا برضى الجار، إن شاء أقر الدخيل على جواره، وإن شاء انتزع الملك بثمنه، واستراح من المجاورة ومفسدتها.
القول الثاني: أن الشفعة لا تثبت للجار مطلقًا، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، والأوزاعي وإسحاق وابن المنذر، وجماعة من السلف
(1)
.
واستدلوا بحديث جابر المتقدم: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛ فلا شفعة)، ورواه البخاري بلفظ:(إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة).
ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على إثبات الشفعة في غير المقسوم، ونفيها بعد القسمة، لوقوع الحدود، وتصريف الطرق، والحدود بين الجارين واقعة، والطرق مصروفة، فتكون الشفعة منتفية.
قالوا: ولأن الشفعة تثبت للشريك نظرأ لوجود الضرر اللاحق بالشركة، أما إذا قسمت الأرض فلا شفعة لانتفاء الضرر، فإن حصل ضرر بسبب الجوار أمكن إزالته بالمرافعة إلى السلطان.
وأجابوا عن أدلة الأولين: بأن المراد بالجار: الشريك؛ لأنه يجاور شريكه ويساكنه في الدار المشتركة بينهما، جمعًا بين هذه الأدلة والأدلة التي تقدمت أول الباب.
(1)
"الكافي" لابن عبد البر (2/ 856)، "المهذب"(1/ 377)، "المغني"(7/ 436).
القول الثالث: أن الشفعة تثبت للجار إذا كان له مع جاره مرافق مشتركة من طريق واحد، أو حوش، أو مسيل، أو بئر مشتركة، أو نحو ذلك، ولا تثبت إذا لم يكن شيء من ذلك، وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي
(1)
.
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه: (الجار أحق بشفعة جاره
…
إذا كان طريقهما واحدًا) فدل الحديث على إثبات الشفعة للجار مع اتحاد الطريق.
كما استدلوا بحديث أبي رافع- المتقدم- في قصته مع سعد رضي الله عنه حيث عرض عليه شراء البيتين اللذين في دار سعد، والطريق كان واحدًا بلا ريب، مع أن حديث أبي رافع في غير الشفعة؛ لأن أبا رافع لم يبع، والشفعة إنما تكون بعد البيع بمثل الثمن، لكن قال الصنعاني:(إن الحديث وإن ذكره أبو رافع في البيع فهو يعم الشفعة بالجوار)
(2)
، ولهذا ذكره البخاري في كتاب "الشفعة"، وبَوَّبَ له بما تقدم.
قالوا: ولأن الاشتراك في المرافق كالاشتراك في الملك بسبب كثرة المخالطة، ووجود الضرر بين الشركاء، وقد يؤدي ذلك إلى حصول النزاع فيما بينهم، والشفعة شرعت لإزالة الضرر.
وهذا القول أرجح الأقوال؛ لأنه يجمع الأدلة كلها، ويحمل مطلقها على مقيدها، فإن حديث جابر رضي الله عنه:(إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) منطوقه انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حَدَّهُ، وحديث:(إذا كان طريقهما واحدًا .. ) منطوقه إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق وانتفاؤها عند تصريف الطريق.
وإذا كانت الشفعة لا تثبت للجار إلا بالاشتراك في المرافق التي تكون بين الجيران خاصة، فقد يكون الحكم داخلًا فيما لم يقسم، ويغلَّب
(1)
"الإنصاف"(6/ 255)، "إعلام الموقعين"(2/ 131)، "بهجة قلوب الأبرار" ص (119).
(2)
"سبل السلام"(5/ 246).
معنى الاشتراك، وتثبت فيه الشفعة لمعنى الشركة لا لمعنى الجوار.
وأما حمل أصحاب القول الثاني أحاديث الباب على أن المراد بالجار الشريك ففيه نظر، لوجود الفرق بينهما، فالملك في الشركة مختلط، وفي الجوار متميز، وأيضًا أحكام الشركة غير أحكام الجوار
(1)
، ثم إن آخر الحديث يأبى حمله على الشريك، فإنه قال في آخره:(إن كان طريقهما واحدًا) وفي حمله على الشريك إلغاء لهذا القيد، فإن الشركة تستحق الشفعة، سواء أكان الطريق واحدًا أم لا.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية انتظار بيع الجار عقاره حتى يحضر جاره الغائب؛ لأن هذا من حقوق الجار على جاره، ولأن في بيع العقار على شخص آخر تفويتًا لكثير من مصالح جاره، وإلحاق ضرر به قد لا يتمكن من تلافيه، وهذا قول أكثر أهل العلم.
وحكم المريض، والمحبوس، وسائر من لم يعلم البيع لعذر حكم الغائب، والله أعلم.
(1)
"إعلام الموقعين"(2/ 129).
وقت الشفعة
905/ 5 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَزَادَ:"وَلَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ". وَإسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب "الشفعة"، باب "طلب الشفعة"(2/ 835)، وابن عدي (6/ 177)، والبيهقي (6/ 108)، والبزار
(1)
من طريق محمد بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة كحل العقال" زاد البيهقي وابن عدي في أوله: "لا شفعة لغائب، ولا صغير، ولا شريك على شريك إذا سبقه بالشراء".
وهذا الحديث إسناده ضعيف جدًّا، بل هو إلى الوضع أقرب، قال ابن حبان:(لا أصل له). وقال أبو زرعة: (هذا حديث منكر)، وقال البيهقي:(ليس بثابت)، وقال الحافظ:(إسناده ضعيف جدًّا)
(2)
؛ لأن فيه محمد بن الحارث بن زياد البصري، وهو متروك، وشيخه محمد بن عبد الرحمن البيلماني ضعيف جدًّا، قال ابن عدي: (كل ما يرويه البيلماني فالبلاء فيه منه، وإذا روى
(1)
عزاه الحافظ للبزار هنا، وفي "التلخيص" ومن قبله ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(3/ 130)، وليس في "مسند البزار" المطبوع، فإن الأجزاء الأولى ليس فيها مسند ابن عمر، وطبع جزء من مسنده في الجزء الثاني عشر وليس فيه هذا الحديث، ويبدو أن المخطوط من مسنده مفقود، والله تعالى أعلم.
(2)
"العلل"(1/ 479)، "التلخيص"(3/ 65).
عنه محمد بن الحارث فجميعًا ضعيفان). وقال: (حدث عن أبيه نسخة كلها موضوعة، لا يجوز الاحتجاج به، ولا أذكره إلا على وجه التعجب)
(1)
.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الشفعة كَحَلِّ العِقال) الحَلُّ: بالفتح والتشديد، هو ضد الشَّدِّ، والعِقال: بكسر العين، هو الحبل الذي يعقل به البعير، وغالبًا ما يكون أُنشوطة: وهي عقدة يسهل انحلالها، إذا مدت بأحد طرفيها انفتحت، وحَلُّ عقال البعير: إطلاقه.
والحديث فيه تشبيه طلب الشفعة بحل العقال، بجامع الفوات في كل، والمعنى: أن الشفعة تفوت إذا لم يبادر إليها؛ كالبعير الشرود يحل عقاله
(2)
.
° الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن الشفعة تثبت على الفور بمجرد علم الشريك ببيع الشقص، وتبطل بالتأخير.
ووجه الاستدلال: أن الشفعة تفوت بترك المبادرة، كما يفوت البعير الشرود عند حل العقال إذا لم يبادر إليه، وهذا قول الحنفية، وهو الأظهر عند الشافعية، والصحيح من المذهب عند الحنابلة
(3)
.
قالوا: ولأن الشفعة خيار يثبت بنفسه لدفع الضرر عن المال، فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
والقول الثاني: أن الشفعة تثبت للشفيع على التراخي، وبه قالت المالكية، وهو قول للشافعية، ورواية عند الحنابلة
(4)
.
واستدلوا بحديث جابر المتقدم: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الشفعة للشريك، ولم يعلق هذا الإثبات بمدة.
(1)
"الكامل"(6/ 181).
(2)
"شرح سنن ابن ماجه"(2/ 95).
(3)
"الهداية"(4/ 37)، "المغني"(7/ 453)، "روضة الطالبين"(5/ 107).
(4)
"المغني"(7/ 454)، "الكافي" لابن عبد البر (2/ 860)، "نهاية المحتاج"(5/ 214).
قالوا: ولأن الشفعة حق من جملة الحقوق التي لا تسقط إلا بالرضا بإسقاطها بما يدل على الرضا من قول أو فعل.
ولأن إلجاء الشفيع إلى الفورية وعدم إعطائه الفرصة للنظر غير مناسب لما شرعت له الشفعة، وقد لا يكون عنده المال الكافي للشقص، فيحتاج إلى مهلة لجمعه أو تكميله.
والقول الثالث: أن للشفيع أن يؤخر الطلب ويحدد له مدة؛ لأجل النظر والتأمل والمشاورة، ويرجع تحديد ذلك إلى العرف.
وهذا قول للشافعية، واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي
(1)
، وهو أعدل الأقوال، لقوة مأخذه، ولا مضرة فيه على المشتري إذا حدد للشفيع مدة، والله تعالى أعلم.
(1)
"مغني المحتاج"(2/ 370)، "الفتاوى السعدية" ص (436)، "الاختيارات الجلية" ص (93).
باب القراض
القراض لفظ يطلقه أهل الحجاز على شركة المضاربة، وهو لغة: القطع، يقال: قرض قرضًا، أي: قطعه؛ لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله ليتجر فيها بجزء من الربح.
وأما لفظ المضاربة فهو لغة أهل العراق، وهي لغة: مفاعلة من ضَرَبَ في الأرض بمعنى: سار فيها وخرج تاجرًا أو غازيًا أو طالبًا الرزق، قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وأما القراض أو المضاربة في اصطلاح الفقهاء: فهي عقد على شركة بين اثنين فأكثر يقدم أحدهما مالًا، والآخر عملًا، والربح بينهما على ما شرطاه.
والمقارض -بالكسر-: رب المال، وبالفتح: العامل، والمضارب -بالكسر-: العامل، عكس الأول؛ لأنه هو الذي يضرب بالمال، قال بعض علماء اللغة: ليس لرب المال اسم من المضاربة بخلاف القراض
(1)
.
والمضاربة تشبه الإجارة؛ لأن العامل فيها يستحق حصته من الربح جزاء عمله في المال، وعفي فيها عن جهالة الأجرة.
وقد دل على جواز القراض الكتاب، والإجماع، أما الكتاب فعمومات الآيات الدالة على الحث على الابتغاء من فضل الله تعالى والسير في الأرض لطلب الرزق، وجواز التجارة إذا كانت عن تراض، كقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وقوله تعالى:
(1)
"القراض في الفقه الإسلامي" ص (5).
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وأما الإجماع فقد نقل ابن قدامة وغيره قول ابن المنذر: (أجمع العلماء على جواز المضاربة في الجملة)
(1)
.
وجواز المضاربة من محاسن الشريعة الإسلامية؛ لأن من الناس من يكون عنده المال وليس عنده خبرة أو قدرة لتنميته والتصرف فيه ولا سيما في زماننا هذا، ومن الناس من ليس عنده مال، وهو قادر على التصرف، فجوز الشرع هذا النوع من المعاملة ليستفيد الفقير من مال الغني، ويستفيد الغني من خبرة الفقير، فيحصل بذلك خير كثير وفوائد عظيمة، فتتسع الأرزاق، وتكثر أبواب الكسب وموارد الخير، ويستفاد من الطاقات والقدرات المعطلة، وفي المضاربة استثمار الأموال وزيادتها حتى لا تضيع أو تأكلها الصدقة، كما أن في تشريع المضاربة سدًّا منيعًا لأبواب كثيرة من أبواب الربا عن طريق تنمية الأموال في المصارف الربوية.
وقد كان القراض موجودًا في الجاهلية وأقره الإسلام، وقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بمال خديجة رضي الله عنها حيث سافر به إلى الشام فربح ربحًا عظيمًا
(2)
.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المندر ص (124)، "بداية المجتهد"(3/ 451)، "المغني"(7/ 133).
(2)
انظر: "صحيح السيرة النبوية" للطرهوني (1/ 164، 321).
ما روي أن القراض من العقود المباركة
906/ 1 - عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"ثَلاثٌ فِيهن الْبَرَكَةُ: الْبَيعُ إِلَى أَجَلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيتِ لَا لِلْبَيعِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
• الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو يحيى صهيب بن سنان بن مالك بن النَّمِر بن قاسط النَّمَرِي، صحابي جليل، من السابقين إلى الإسلام، كان أبوه من أشراف الجاهليين، ولاه كسرى على الأُبُلَّة (البصرة) فسبت الروم صهيبًا وهو غلام في إغارة لهم على ناحية أهله، فنشأ بينهم، فكان ألكن
(1)
، فاشتراه منهم أحد بني كلب وقدم به مكة، فابتاعه عبد الله بن جدعان التيمي، ثم أعتقه، وقيل: بل هرب إلى مكة، فحالف ابن جدعان، كان صهيب من المستضعفين، وممن عُذب في الله تعالى، هاجر إلى المدينة وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم في قباء، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، وقد ذكر ابن كثير في "تفسيره" عن ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وجماعة من السلف أن صهيبًا لما أسلم وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله، فقال: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ربح صهيب"، وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
(1)
اللُّكْنَة: عِيٌّ وثقل في اللسان وصعوبة الإفصاح بالعربية. ["المعجم الوسيط" ص (837)].
مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]
(1)
، روى عنه أولاده، وسعيد بن المسيب وآخرون، مات صهيب بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقد بلغ سبعين، أو ثلاثًا وسبعين رضي الله عنه
(2)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب "التجارات"، باب "الشركة والمضاربة"(2/ 768) من طريق نصر بن القاسم، عن عبد الرحمن (عبد الرحيم) بن داود، عن صالح بن صهيب، عن أبيه مرفوعًا.
وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ لأن فيه ثلاثة مجاهيل:
1 -
نصر بن القاسم، قال الذهبي:(من صغار التابعين، لا يكاد يعرف)
(3)
.
2 -
عبد الرحمن أو عبد الرحيم بن داود، قال العقيلي:(مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به) ثم ذكر حديثه هذا
(4)
.
3 -
صالح بن صهيب مجهول الحال، كما في "التقريب".
° الوجه الثالث: هذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفًا، لكن معناه صحيح، وقد اشتمل على ثلاث مسائل:
1 -
البيع إلى أجل، وهو إما أن يكون عن طريق السلم، أو عن طريق تقسيط قيمة المبيع على المشتري، والبركة في ذلك ما فيه من تسهيل المعاملة وإعانة المشتري على تسليم الثمن بلا إرهاق.
2 -
المقارضة، وهي المضاربة، فهي من العقود المباركة مع النصح والصدق لما فيها من انتفاع الناس بعضهم من بعض، فهذا منه المال، وهذا منه العمل، فاستفاد صاحب المال الذي قد لا يقدر على العمل بتنمية ماله، واستفاد العامل الذي لا عمل عنده، كما تقدم.
(1)
انظر: "فقه السيرة" بتعليق الألباني ص (166).
(2)
انظر: "طبقات ابن سعد"(3/ 226)، "الاستيعاب"(5/ 147)، "الإصابة"(5/ 160)، "تفسير ابن كثير"(1/ 360).
(3)
"الميزان"(4/ 253).
(4)
"الضعفاء"(3/ 80).
3 -
خلط البر والشعير طعامًا للبيت، ولعل وجه البركة فيه التوفير في النفقة؛ لأن الشعير رخيص، فإذا خلط بالبر حصل اقتصاد في إنفاق البر، وفيه تواضع في المأكل يضاد السرف والتمادي في التنعم، كما أن فيه مشاركة الطبقة الفقيرة في نوع طعامهم، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجود البركة في ذلك، وإنما هو من الأمور المباحة التي يرجع فيها إلى أعراف الناس وعوائدهم، فإن كان الخلط لأجل البيع لم يجز؛ لأنه قد يكون فيه غرر وغش للمشتري، والله تعالى أعلم.
جواز اشتراط رب المال على المضارب ما فيه مصلحة
907/ 2 - عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أعْطَاهُ مَالًا مُقَارَضَةً: ألا تَجْعَلَ مَالِي في كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَلَا تَحْمِلَهُ في بَحْرٍ، وَلَا تَنْزِلَ بِهِ في بَطْنِ مَسِيلٍ، فَإنْ فَعَلْتَ شَيئًا مِن ذلك فَقَدْ ضَمِنْتَ مَالِي. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَال مَالِكٌ في "المُوَطَّأ": عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أنَّهُ عَمِلَ في مَالٍ لِعُثْمَانَ عَلَى أَن الرِّبْحَ بَينَهُمَا. وَهُوَ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي، أبو شبل المدني، مولى الحُرَقَةِ، فَخِذٌ من جهينة، روى عن أبيه وعن ابن عمر وأنس وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه ابن جريج ومالك وعبيد الله بن عمر وابن إسحاق وآخرون، وهو من رجال مسلم، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء)، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق ربما وَهِمَ). وقد أنكروا عليه أحاديث، ومنها حديث:"إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، لكن مسلمًا أخرج له من حديث المشاهير دون الشواذ، مات سنة تسع وثلاثين ومائة رحمه الله
(1)
.
وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني، روى عن أبيه، وعن أبي هريرة
(1)
"تهذيب التهذيب"(8/ 166).
وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجلي:(تابعي ثقة)
(1)
.
وجده يعقوب روى عن عمر وحذيفة رضي الله عنهما، وعنه ابنه عبد الرحمن والوليد بن أبي الوليد، قال الترمذي:(هو من كبار التابعين، قد أدرك عمر بن الخطاب وروى عنه)، وقد أخرج له بهذا الإسناد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب)
(2)
.
وقال الحافظ في "التقريب": (مقبول)
(3)
.
° الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث رواه الدارقطني (3/ 63)، والبيهقي (6/ 111) من طريق حيوة وابن لهيعة، قالا: حدثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير، وعن غيره: أن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشترط
…
فذكره.
قال الحافظ: (إسناده قوي)
(4)
.
وأما أثر يعقوب الحرقي أنه عمل في مال لعثمان رضي الله عنه فقد أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 688) في كتاب "القراض"، ومن طريقه البيهقي (6/ 111) وهو موقوف صحيح، كما قال الحافظ، ومالك ممن روى عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، كما تقدم
(5)
، ولفظ "البلوغ" هو لفظ "الموطأ" برواية أبي مصعب الزهري
(6)
.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (في كبد رطبة) أي: لا تشتر به شيئًا من بهيمة الأنعام؛ لأن ما
(1)
"تهذيب التهذيب"(6/ 111).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 357) رقم (487).
(3)
انظر: "تهذيب التهذيب"(11/ 350).
(4)
"التلخيص"(3/ 67).
(5)
روى عنه في أحد عشر موضعًا من "الموطأ"(1/ 16).
(6)
(2/ 290).
كان ذا روح عرضة للهلاك، مع ما يحتاج إليه من المؤنة وزيادة الكلفة.
قوله: (ولا تحمله في بحر) أي: لا تنقله بواسطة السفن والمراكب البحرية؛ لئلا يتعرض للغرق.
قوله: (ولا تنزل به في بطن مسيل) أي: بطون الأودية ومجرى مياه الأمطار لما في ذلك من تغريق المال؛ لأنه يحمله السيل أو يفسده.
قوله: (على أن الربح بينهما) أي: مناصفة؛ لأنه أضاف الربح إليهما إضافة واحدة ولا مرجح فاقتضى التسوية، كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك، أو هذه الكتب بيني وبينك.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على ثبوت شركة المضاربة وأن الصحابة رضي الله عنهم قد تعاملوا بها من غير نكير، كما ورد عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام وغيرهم رضي الله عنهم، وهذا إجماع منهم على جوازها، وقطع ابن حزم أن القراض كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره، ولولا ذلك ما جاز
(1)
، ثم إن المعنى يؤيد ذلك فإن تنمية المال واستثماره مقصد شرعي، ولا ينمو المال إلا بالعمل والتجارة، وليس كل من يملك المال يحسن التجارة، ولا كل من يحسن التجارة يملك المال، فاحتيج إلى المضاربة من الجانبين، فشرعها الله تعالى تحقيقًا لذلك.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه يجوز لصاحب رأس المال أن يشترط على المضارب ما يراه صالحًا لحفظ المال وصيانته من الفساد، كأن يشترط ألا يسافر بالمال، أو ألا يتجر إلا في بلد بعينه، أو يشترط عليه نوعًا معينًا من السلع، أو يشترط ألا يضع ماله في تجارة يخشى تلفها أو تحتاج زيادة مؤنة كتجارة الماشية، فهذا شرط صحيح، وعلى العامل أن يلتزم بذلك، فإن خالف وفسد المال فإنه يضمن.
فإن شرط رب المال على العامل جزءًا من الربح مجهولًا أو مقطوعًا،
(1)
"مراتب الإجماع" ص (106).
أو ربح إحدى السفرتين أو نحو ذلك فسد الشرط بلا نزاع، ويصح العقد على الراجح
(1)
، مراعاة لاستقرار المعاملات.
° الوجه السادس: دل الحديث على أن رأس المال أمانة في يد المضارب، فلا يضمنه إن تلف؛ لأنه أمين، والأمين لا ضمان عليه، كما تقدم. إلا إن قصر في حفظه أو خالف شرط صاحب رأس المال.
وقد اتفق الفقهاء على أنه ليس للمضارب أن يتعامل في المحرمات كشراء الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والمسكرات والتعامل بالربا أو الآت اللهو والطرب باختلاف أنواعها.
° الوجه السابع: من الشروط التي لا بد منها لصحة المضاربة بيان مقدار الربح لكل من المالك والمضارب، ويكون توزيعه بينهما على ما شرطاه في عقد المضاربة، كأن يقول رب المال: لك الثلث أو الربع ونحو ذلك، فإن قالا: الربح بيننا، فهو نصفان بينهما، لما تقدم، وإذا علم نصيب أحدهما فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ. فإن لم يعين الربح فسدت المضاربة؛ لأن الربح مقصود أصلي، وجهالته توجب فساد العقد.
أما الخسارة فهي من رأس المال على المالك، وأما العامل فخسارته ضياع عمله وجهده، وليس عليه شيء منها، ولو شرط رب المال على العامل إشراك العامل في الخسارة بطل الشرط؛ لأن الخسارة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملك ربه، لا شيء للعامل فيه، فيكون نقصه من ماله دون غيره، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "بدائع الصنائع"(6/ 108)، "المغني"(7/ 142).
باب المساقاة
(1)
جمع المصنف بين المساقاة والإجارة وكذا المزارعة في باب واحد للتشابه بينهما من جهة اللزوم على قول الجمهور والتوقيت بمدة معينة، وقد تابع الحافظ في هذا ابن عبد الهادي في "المحرر" ولو جعل كلًّا منهما في باب مستقل، كما فعل المجد ابن تيمية في "المنتقى" وابن دقيق العيد في "الإلمام"، لكان أولى.
والمساقاة لغة: مصدر ساقى يساقي، بمعنى: الإشراب، وهي مأخوذة من أهم أعمالها، وهو السقي؛ لأن الحاجة إليه أكثر.
وشرعًا: دفع شجر لمن يسقيه ويعمل عليه بجزء معلوم من ثمره.
والمزارعة: مصدر زارع من الزرع، وهو طرح البذر والقيام عليه، وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها.
والإجارة: بكسر الهمزة مصدر أَجَرَهُ يأجُرُه أجرًا وإجارة. وشرعًا: عقد على منفعة عين أو عمل.
والمساقاة والمزارعة من عقود الشركات القائمة على العدل بين الشريكين، فإن صاحبي الشجر والأرض كصاحب النقود يدفعها للمضارب في التجارة، والمساقي والمزارع كالمضارب الذي يتجر بالمال، فكل منهما يعمل في المال بجزء من نمائه، والغنم بينهما، والغرم عليهما.
والمساقاة تختلف عن الإجارة؛ لأن صاحب الشجر في الإجارة تسلم له الأجرة، وأما المستأجر فقد يحصل له الثمر وقد لا يحصل، وعلى هذا
(1)
أي: والمزارعة والإجارة.
فليست المساقاة على خلاف القياس وأنها من باب الإجارة التي يشترط فيها العلم بالعمل والأجرة.
وجواز المساقاة والمزارعة من محاسن الشريعة الإسلامية وعنايتها بتيسير الأسباب لتنمية أموال الناس والاستفادة منها، والحاجة داعية إلى جوازهما؛ لأن من الناس من يكون عنده شجر ولا يحسن تعهده أو لا يتفرغ له، لا سيما عند إقبال الثمر ومواسم جمعه وزمن تسويقه، ومن الناس من يحسن تعهد الشجر وهو متفرغ لذلك ولا يملك الشجر، وبجواز هذه المعاملة يستفيد كل منهما من الآخر، ولو أن المالك اكترى لشجره لزمته الأجرة في الحال، وقد يتهاون العامل أو لا يحصل شيء من الثمار، فدعت الحاجة إلى تجويزهما.
جواز المساقاة بالجزء المعلوم
908/ 1 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفي رِوَايَةٍ لَهُمَا: فَسَألُوا أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَال لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا"، فَقَرُّوا بِهَا، حَتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ.
وَلمسلِمٍ: أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيبَرَ نَخْلَ خَيبَرَ وَأَرْضَهَا، عَلَى أنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ شَطْرُ ثَمَرِهَا.
• الكلام عليه من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "الحرث والمزارعة"، باب "إذا لم يشترط السنين في المزارعة"(2329)، ومسلم (1551) من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ورواه البخاري (2338)، ومسلم (1551)، من طريق ابن جريج، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نقركم بها على ذلك ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى تيماء وأريحاء.
ورواه مسلم (1551)(5) من طريق الليث، عن محمد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر
…
الحديث. وهو عند البخاري (2331، 2720) بنحوه.
° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عامل أهل خيبر) المعاملة: التعامل مع الغير، وهي عند فقهاء أهل العراق: المساقاة، قال النووي:(المزارعة: المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من زرعها)
(1)
.
وخيبر: بلدة زراعية شمال المدينة، كان يسكنها طائفة من اليهود، فتحت في المحرم، سنة سبع من الهجرة، كما نقله الحافظ ابن حجر عن ابن إسحاق، ونسبه ابن القيم إلى الجمهور
(2)
.
قوله: (بشطر ما يخرج منها) الشطر يطلق على معانٍ منها: النصف، وهو المراد هنا، وجمعه أشطر وشطور، والمعنى: أنه عاملهم بنصف ما يخرج من ثمرها وزرعها مقابل عملهم ونفقتهم، والنصف الآخر للمسلمين لكونهم أصحاب الأصل.
قوله: (من ثمر أو زرع)(من) بيانية لقوله: (ما يخرج منها)، والثمر: بالثاء المثلثة لفظ عام لثمر النخل والعنب وغيرهما.
قوله: (فَقَرّوا بها) بفتح القاف وتشديد الراء؛ أي: ثبتوا بها واستقروا.
قولي: (حتى أجلاهم عمر) أي: في خلافته رضي الله عنه.
قوله: (أن يعتملوها من أموالهم) أي: يقوموا بالعمل في خدمتها وتكون جميع نفقتها عليهم من أموالهم، يقال: اعتمل فلان: عمل لنفسه، وتصرف في العمل.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز المساقاة والمزارعة،
(1)
"تحرير ألفاظ التنبيه" ص (217).
(2)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 316)، "فتح الباري"(7/ 464).
فالمزارعة في الزرع، والمساقاة تتعلق بشجر موجود العنب والنخل والتين ونحو ذلك. قال الحافظ:(هذا الحديث هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك واستمرارهم على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر رضي الله عنه)
(1)
.
وذلك لأن المسلمين كانوا مشغولين بالجهاد وليس عندهم الفراغ حتى يقوموا على أرض خيبر وشجرها، واليهود فارغون لهذا، وهم أبصر بهذا العمل من المسلمين، فلهذا اقتضت المصلحة الشرعية بقاءهم في ذلك الوقت وإن كانوا أعداء، واستمروا على ذلك إلى أن أخرجهم عمر رضي الله عنه في خلافته بسبب أحداث أحدثوها
(2)
، وتنفيذًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا"
(3)
.
ولأن عمر رضي الله عنه تفرغ لهذا الشيء وطالت مدة خلافته، بخلاف الصدّيق رضي الله عنه فإن خلافته كانت قصيرة، وشغل بقتال أهل الردة.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز المساقاة في النخيل والعنب وجميع الشجر الذي من شانه أن يثمر بجزء معلوم من الثمرة يجعل للعامل، وهذا مذهب الإمام أحمد، قد ورد في بعض ألفاظ الحديث (بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر)، وفي رواية:(على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر)، وهذا يدل على أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار؛ لأن الحديث جاء بلفظ الثمرة، وهو عام في كل ثمر، ومن خصصه بثمر معين كالنخل، كما هو قول الظاهرية، أو النخل والعنب، كما هو قول الشافعي في الجديد، فهو قول مرجوح؛ لأنه تخصيص يحتاج إلى دليل.
والقول بجواز المساقاة هو قول الصحابة والتابعين، وهو مذهب
(1)
"فتح الباري"(5/ 13).
(2)
راجع كتاب "الشروط" من "صحيح البخاري"(5/ 327 "فتح").
(3)
أخرجه مسلم (1767)، وسيأتي شرحه في كتاب "الجهاد" إن شاء الله تعالى.
الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية.
وقال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة؛ لأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة، وهذا قول ضعيف مصادم للدليل من جهة، ومعتمد على قياس غير صحيح من جهة أخرى، فإن المساقاة عقد على عمل في المال ببعض نمائه، فهي كالمضاربة، فإن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه، وهو معدوم مجهول، ومن أباح المضاربة دون المساقاة فقد فرق بين متماثلين.
وهذا الحديث يدل على جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستان واحد، بأن يساقيه على الشجر ويزارعه على الأرض.
° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء مشاع معلوم كالثلث مما يخرج منها أو الربع ونحو ذلك، فإن شرط أحدهما ثمرة شجرة معينة لم يصح؛ لأنه قد لا يحمل غيرها، أو لا تحمل فيحصل الضرر والغرر، أو شرط آصعًا معلومة كمائة صاع لم يصح؛ لأنه قد لا تخرج إلا ذلك، فلا يكون للآخر شيء.
° الوجه السادس: ظاهر الحديث أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة عند الإطلاق، وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد
(1)
، لقوله صلى الله عليه وسلم:"نقركم بها ما شئنا"، ووجه الدلالة: أنه لو كان هذا العقد لازمًا لم يجز بغير تقدير مدة، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة.
فإن حددت المساقاة أو المزارعة بمدة فهي عقد لازم كالإجارة، فإن لم يحدد مدة فهما على تراضيهما، وللمالك أن يخرج العامل متى شاء، وللعامل أن يخرج متى شاء على وجه لا يضر بالآخر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"
(2)
.
(1)
"المغني"(7/ 542).
(2)
سيأتي تخريجه في باب "ما جاء في الحمى" إن شاء الله.
فإن كان الفسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه عند العقد، ويلزم العامل إتمام العمل؛ كالمضارب يلزمه بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح.
وإن كان الفسخ قبل ظهور الثمرة وقد جاء من قبل رب المال فعليه للعامل أجرة المثل؛ لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض.
وإن كان الفسخ من قبل العامل فلا شيء له؛ لأنه رضي بإسقاط حقه فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أن المساقاة والمزارعة من العقود اللازمة، وعلى هذا فلا بد من تحديد مدة معلومة، قالوا: لأنه عقد معاوضة فكان لازمًا كالإجارة، ولأنه لو كان جائزًا لجاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل، فيحصل له الضرر.
وأجابوا عن قصة خيبر بأجوبة غير ناهضة، كقولهم: باحتمال أن المدة كانت مذكورة ولم تنقل
(1)
.
والقول الأول أرجح، وهو أنه عقد جائز، إلا إن حدد مدة فهو عقد لازم، وهذا القول هو الذي تؤيده الأدلة، وفيه الجمع بين النصوص والقواعد الشرعية، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.
وأما قولهم بالقياس على الإجارة، فهو غير صحيح؛ لأن الإجارة بيع المنافع فكانت لازمة كبيع الأعيان، ولأن عوضها مقدر معلوم فأشبهت البيع، ثم إن هذا القياس منقوض بالمضاربة، وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة، فقياسها عليها أولى.
وأما قولهم: إنه يفضي إلى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة، فقد تقدم ما يدل على الجواب عنه.
° الوجه السابع: ظاهر قوله: (على أن يعتملوها من أموالهم) أنه لا
(1)
"فتح الباري"(5/ 327).
يشترط أن يكون البذر من رب الأرض، فيجوز كونه من العامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عملها من أموالهم
(1)
. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أن البذر على المسلمين، ولو كان شرطًا ما أخل بذكره، ولو فعله لنقل، ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعًا، فقد جاء في "صحيح البخاري" معلقًا:(وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا)
(2)
. وهذا القول رواية عن أحمد، وهو القول الصحيح -إن شاء الله-، والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يكون البذر من رب الأرض، والعمل من العامل، وهو قول الشافعية
(3)
؛ لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة، والله تعالى أعلم.
(1)
"زاد المعاد"(3/ 345).
(2)
"فتح الباري"(5/ 10).
(3)
"المغني"(7/ 562)، "مغني المحتاج"(2/ 342).
جواز كراء الأرض بالشيء المعلوم
909/ 2 - عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيسٍ قَال: سَألتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كَرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ فَقَال: لَا بَأسَ بِهِ، إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاولِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هذَا وَيَسْلَمُ هَذا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، ولَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إلا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ، فَأمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ مضمونٌ فَلَا بَأسَ بِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيهِ مِنْ إِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ.
910/ 3 - عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَحَّاكِ رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ. رواه مُسْلِمٌ.
• الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو حنظلة بن قيس بن عمرو بن حصين بن خلدة الزرقي المدني، نقل ابن سعد عن الواقدي أنه قال:(كان ثقة قليل الحديث)، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال:(رأى عمر وعثمان رضي الله عنهما)، وذكره ابن عبد البر في الصحابة، جانحًا لقول الواقدي: إنه ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى ابن سعد عن الزهري أنه قال: (ما رأيت من الأنصار أحزم ولا أجود رأيًا من حنظلة بن قيس) روى عن عمر وعثمان ورافع بن خديج وغيرهم، وروى عنه ربيعة
ويحيى بن سعيد والزهري وغيرهم
(1)
.
وأما ثابت فهو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي الأوسي، أبو زيد المدني رضي الله عنه، كان ممن بايع تحت الشجرة
(2)
، وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد. قال البخاري والترمذي: شهد بدرًا، وروى عنه عبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وأبو قلابة، توفي سنة خمس وأربعين على أحد الأقوال
(3)
.
° الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث حنظلة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب "البيوع"، باب "كراء الأرض بالذهب والورق"(1547)(116) من طريق الأوزاعي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري، قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض
…
الحديث.
وأما حديث ثابت رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم -أيضًا- بابٌ "في المزارعة والمؤاجرة"(1549)(119) من طريق عبد الله بن السائب، قال: دخلنا على عبد الله بن معقل فسألناه عن المزارعة، فقال: زعم ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة، وقال: لا بأس بها.
واعلم أن أحاديث المزارعة معظمها من رواية رافع بن خديج رضي الله عنه، وقد جاء بروايات كثيرة صارت سببًا لاختلاف العلماء، حتى فهم منها بعض العلماء أن المزارعة ممنوعة، لكن إذا ضم بعضها إلى بعض -كما قال الخطابي
(4)
وتبعه الحافظ- فإن المفصَّل منها يبين ما فيها من مجمل أو مطلق أو مختصر، وتتضح دلالتها على المراد.
ومن أهل العلم من حكم عليها بالاضطراب في متونها وأسانيدها، حتى قال الإمام أحمد لما سئل عنه:(عن رافع ألوان): (حديث رافع كثير الألوان)
(5)
. وقد
(1)
"الطبقات"(5/ 73)، "الاستيعاب"(3/ 98)، "تهذيب التهذيب"(3/ 55).
(2)
كما ثبت في "صحيح مسلم".
(3)
"الإصابة"(2/ 12).
(4)
"معالم السنن"(5/ 53، 55).
(5)
انظر: "مسائل أبي داود" ص (200)، "مختصر السنن" للمنذري (5/ 61).
أجاب عنه العلماء بعدة أجوبة، كما بسط ذلك العلامة ابن القيم
(1)
.
° الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (عن كراء الأرض) أي: تأجير الأرض للزراعة، تقول: أكريته الدار والأرض وغيرهما إكراء فاكتراها، بمعنى: آجرته فاستأجر.
قوله: (لا بأس به) أي: لا مانع، وأصل البأس: الشدة في الحرب، والحرب، والعذاب الشديد، والخوف، يقال: لا بأس عليه، ويقال: لا بأس به: لا مانع، ولا باس فيه: لا حرج
(2)
.
قوله: (الماذيانات) بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناة، ثم ألف ونون، ثم بعدها ألف -أيضًا-: هي مسايل الماء، وقيل: ما ينبت حول السواقي، وهي من كلام العجم الذي استعملته العرب
(3)
.
قوله: (وأقبال الجداول) بفتح الهمزة، والأقبال: الأوائل، والجداول: جمع جدول، وهو النهر الصغير، ويطلق عليها السواقي
(4)
.
قوله: (وأشياء من الزرع) أي: وقطعة أو جهة من الزرع تكون مختارة طيبة.
قوله: (ولم يكن للناس كراء إلا هذا) أي: ولم يكن لأهل المدينة طريقة لتأجير الأراضي الزراعية إلا هذه الطريقة المشتملة على الجهالة والغرر والمخاطرة.
قوله: (فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) أي: فأما كراء الأرض للزراعة بأجر معلوم مضمون من الذهب والفضة ونحوهما، فهذا جائز ولا بأس به، لعدم الجهالة والغرر.
قوله: (زعم ثابت) أي: قال، فالزعم هو القول.
قوله: (نهى عن المزارعة) أي: إعطاء الأرض بجزء مما يخرج منها على الطريقة التي كانت مستعملة عندهم، وهي القائمة على الجهالة والغرر
(1)
"تهذيب مختصر السنن"(5/ 58).
(2)
"المعجم الوسيط" ص (36).
(3)
"إكمال المعلم"(5/ 197 - 198)، "النهاية"(4/ 313).
(4)
"إكمال المعلم"(5/ 198).
والظلم لأحد الطرفين، دون المزارعة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.
قوله: (وأمر بالمؤاجرة) أي: كراء الأرض بشيء معلوم من الذهب أو الفضة يدفعه مستأجر الأرض لصاحبها.
° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز إجارة الأرض للزراعة، وهذا قول جمهور الفقهاء، بشرط أن تكون الأجرة معلومة، لكن اختلفوا في نوع الأجرة، فذهب الجمهور إلى جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة وسائر العروض، لقوله:(فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس) وفي رواية قال رافع: (وأما الورق فلم ينهنا)
(1)
.
وأما إجارتها بالطعام كالبر أو الشعير فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يؤجرها بطعام معلوم غير خارج منها، فهذا يجوز على قول الجمهور من الشافعية والحنفية والحنابلة، سواء أكان من جنس ما يخرج منها أم لا، واستدلوا بعموم قوله:(فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)، ولأن الطعام عوض معلوم مضمون لا يتخذ وسيلة إلى الربا، فجازت إجارتها به كالأثمان.
وذهب الإمام مالك وأصحابه إلى أنه لا يجوز إجارتها بالطعام وإن لم يكن خارجًا منها، واستدلوا بما روى رافع بن خديج، قال:(كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يَزْرَعها، أو يُزْرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك)
(2)
. ولعل هذا محمول على ما إذا كان الطعام خارجًا منها.
الحال الثانية: إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها، وهذا فيه قولان:
(1)
"صحيح البخاري"(2327)، "صحيح مسلم"(1547)(117).
(2)
أخرجه مسلم (1548).
الأول: المنع، وهذا قول مالك، ورواية عن أحمد ذكرها القاضي مذهبًا.
الثاني: الجواز، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها أبو الخطاب
(1)
، لعموم:(فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به).
الحالة الثالثة: إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها؛ كنصف أو ربع، كآجرتك هذه الأرض بربع ما تزرع فيها من بر ونحوه، فالجمهور على أنها لا تصح؛ لأن الأجرة مجهولة لكون ما تخرجه الأرض غير مرئي، ومجهول الصفة والقدر، فهو ليس بمعلوم ولا مضمون، وهذا فيه غرر يمكن تجنبه بكراء الأرض بأجر معلوم.
والقول الثاني: الجواز، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قول أكثر الأصحاب.
ورجح أبو الخطاب وابن قدامة قول الجمهور، وحمل ابن قدامة نص أحمد في الجواز على المزارعة بلفظ الإجارة، فيكون حكمها حكم المزارعة في جوازها ولزومها وسائر أحكامها
(2)
.
وهذا هو الصواب -إن شاء الله- فإن الجهالة موجودة في أجرة تكون مما يخرج من الأرض، مما يؤدي إلى النزاع.
° الوجه الخامس: الفرق بين المزارعة والإجارة: أن المزارعة من جنس الشركة، ويستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة؛ لأن كلّا منهما له جزء مشاع معلوم إن جاد الزرع كثر، وإن كان رديئًا قَلَّ.
وأما الإجارة فإن المؤجر على يقين من الغنم وهو الأجرة، والمستأجر على رجاء، وقد يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق فيكون المستأجر قد دفع ماله ولم ينتفع بشيء، ولهذا كان أحد القولين لمجوزي المزارعة أنها أحل من الإجارة وأولى بالجواز، فالمزارعة بجزء مشاع معلوم،
(1)
"المغني"(7/ 570).
(2)
"المغني"(7/ 572)، "تهذيب مختصر السنن"(5/ 60).
والمؤاجرة بشيء معلوم، شأنها في ذلك كسائر الإجارات.
والمزارعة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، فالصحيحة ما كانت واضحة وسليمة من الغرر، وهي أن تكون بجزء مشاع معلوم، كنصف الزرع أو ربعه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر.
والمزارعة الفاسدة: ما كان فيها غرر وظلم لأحد الطرفين، كاشتراط جانب معين من الزرع.
وأما المؤاجرة فإن كانت بشيء معلوم مضمون من نقود أو طعام أو عروض فهي جائزة، وهي التي أذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما كان فيه غرر وجهالة كأن يجعل لصاحب الأرض ما على الجداول والسواقي، أو جانبًا معينًا من الزرع فهذا هو الذي نُهي عنه، وهو الإجارة الفاسدة، وهو الذي كان معروفًا عندهم فنهوا عنه، وعليه يحمل الإطلاق في النهي عن كراء الأرض، كما في حديث جابر رضي الله عنه الثابت في "الصحيحين".
يقول الليث بن سعد: (وكان الذي نُهي من ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة)
(1)
. وقال ابن المنذر: (قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح الباري"(5/ 25).
(2)
"تهذيب السنن"(5/ 60).
حكم أجرة الحجام
911/ 5 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ قَال: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
912/ 5 - وعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليهما من وجوه:
° الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "ذكر الحجام"(2103) من طريق خالد -هو ابن عبد الله
(1)
-: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه:(وأعطى الذي حجمه) بحذف المفعول الثاني.
وأخرجه -أيضًا- في "الإجارة"(2279) من طريق يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، به، وفيه:(وأعطى الحجام أجره) بذكر المفعول الثاني.
وأما حديث رافع فقد أخرجه مسلم في كتاب "المساقاة"، باب "تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي"(1568)(41) من طريق يحيى بن أبي كثير، حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد: حدثني رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث".
(1)
هو خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، والثاني: هو خالد بن مهران الحذاء البصري.
° الوجه الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليل على جواز أخذ الأَجرة على الحجامة وأنه كسب مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجرته، ولو كان حرامًا لم يعطه، إذ لا يعطيه ما يحرم عليه، والقائل ذلك هو ابن عباس رضي الله عنهما، كأنه يريد الرد على من زعم أنه لا يحل إعطاء الحجام أجرته وأنه حرام.
هذا من جهة النص، وأما من جهة المعنى فلأن الناس في حاجة إليها، ولا يوجد من يتبرع بها، فجاز الاستئجار عليها كالرضاع.
° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز التداوي بالاحتجام، وقد ورد في "الصحيحين" عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكَلَّمَ مواليه، فخففوا عنه من ضريبته، وقال: "إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقُسط البحري
…
" الحديث
(1)
.
ومن فوائد الحجامة: علاج أمراض الرأس والصداع، وتخفيف آلام الروماتزم، وأوجاع الصدر، وكل أثر في البدن سببه كثرة الدم أو فساده أو هما معًا.
° الوجه الرابع: دلَّ حديث أبي رافع رضي الله عنه على أن كسب الحجام من المكاسب الرديئة التي يكون تركها أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف كسب الحجام بأنه خبيث، والمراد بالخبيث هنا: الرديء؛ لأن الخبيث يطلق على الحرام؛ كمهر البغي وثمن الكلب، ويطلق على الشيء الرديء والكسب الدنيء كقوله تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وقد ذكر المفسرون كابن كثير أن المراد بالخبيث في الآية: الرديء، كالحشف والشيص من التمر ونحو ذلك
(2)
.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين
(3)
مع إباحتهما
(4)
. وعلى هذا فأجرة الحجام ليست حرامًا، وإنما هي من المكاسب الرديئة التي ينبغي التنزه
(1)
أخرجه البخاري (2102)، ومسلم (1577).
(2)
"تفسير ابن كثير"(1/ 473).
(3)
أخرجه مسلم (565).
(4)
انظر: "المغني"(8/ 118، 119).
عنها لما ورد فيها من الأخبار، ولأن فيها دناءة
(1)
. وما ورد عن الأئمة وأهل العلم يحمل على هذا المعنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام:"أطعمه ناضحك ورقيقك"
(2)
. وهذا دليل على إباحته، إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله؛ لأن ما يحرم على الحر يحرم على الرقيق.
أما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد، وحلق الشعر، والختان، ونحو ذلك، فهذا جائز، وكسبه ليس خبيثًا بلا خلاف؛ لأن الحديث ورد في كسب الحجام بالحجامة، فيختص بالمحل الذي ورد فيه
(3)
.
° الوجه الخامس: الحديث دلبل على جواز استعمال الأجير من غير تسمية الأجرة، وعلى جواز إعطائه قدر أجرته أو أكثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارطه على أجرته، ولعل هذا محمول على أنهم كانوا يعلمون مقدارها، فيكون ذلك مما يُرجع فيه إلى العرف، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (5/ 74).
(2)
أخرجه أبو داود (3422)، والترمدي (1277)، وابن ماجه (2166)، وأحمد (39/ 96، 101)، وإسناده صحيح، وفيه كلام من جهة إرساله.
(3)
"المغني"(8/ 120).
إثم من منع العامل أجرته
913/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَال اللهُ عز وجل: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب "البيوع"، باب "إثم من باع حرًّا"(2227) من طريق يحيى بن سُليم، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، مرفوعًا.
وأخرجه -أيضًا- في "الإجارة"، باب "إثم من منع أجر الأجير"(2270) بالإسناد المذكور مع اختلاف شيخه.
وأما عزوه إلى مسلم فالظاهر أنَّه وهم من الحافظ، أو من النساخ، وقد عزاه المزي إلى البخاري وابن ماجة
(1)
، وعزاه الحافظ نفسه في "التلخيص" إلى البخاري
(2)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (قال الله عز وجل هذه إحدى صيغ الحديث القدسي، وهو ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، وهو منسوب إلى الله تعالى معنى لا لفظًا على أحد القولين، والقول
(1)
"تحفة الأشراف"(9/ 470).
(2)
"التلخيص"(3/ 69).
الثاني: أن الحديث القدسي كلام الله تعالى بلفظه ومعناه. وهو قول مرجوح
(1)
.
قوله: (ثلاثة أنا خصمهم) أي: ثلاثة أنفس، وهو مبتدأ، وجملة "أنا خصمهم" خبر، وذكر الثلاثة ليس للتخصيص؛ لأن الله تعالى خصم لجميع الظالمين، ولكن لما أراد التشديد على هؤلاء صرح بها. والخصم: مصدر خصمته أخصمه خصمًا، نُعت به للمبالغة كما يقال: رجل عدل، والخصومة: هي المنازعة والجدل، ومعنى (أنا خصمهم)، أي: إن الله تعالى يخصم هؤلاء يوم القيامة نيابة عمن ظلموا، يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، قال تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]. ولا خلاف بين المفسرين أن المراد بالخصم هنا: الملكان.
وقد يثنى ويجمع، فيقال: خصمان، كقوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، وقوله تعالى:{لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]. وفي حديث عائشة رضي الله عنها سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب
(2)
.
قوله: (أعطى بي) إما أن المعنى: حلف بي، أو أن مفعول أعطى محذوف، والتقدير: أعطى يمينه بي؛ أي: عاهد عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والدليل على هذا المفعول المحذوف قوله:(غدر) فهو يدل على تخصيصه بالعهد.
قوله: (ثم غدر) أي: نقض العهد ونكثه، وهو ضد الوفاء، والغدر: مصدر غدر يغدر غدرًا، وهو الإخلال بالشيء وتركه، يقول ابن فارس:(الغين والدال والراء أصل صحيح يدل على ترك الشيء)
(3)
.
قوله: (باع حرًّا) أي: باع إنسانًا على أنَّه عبد مع أنَّه في الواقع ليس رقيقًا، وإنَّما هو حرٌّ.
قوله: (فأكل ثمنه) خص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقصود وإلَّا فالمراد
(1)
انظر: رسالة "الأحاديث القدسية في دائرة الجرح والتعديل".
(2)
أخرجه البخاري (2705)، ومسلم (1557).
(3)
"معجم مقاييس اللغة"(4/ 413).
الحصول على الثمن، سواء اشترى به طعامًا، أو لباسًا، أو سيارة، أو غير ذلك.
قوله: (فاستوفى منه) أي: نحصل من الأجير على العمل الذي استأجره من أجله. وذكر الأكل والاستيفاء فيه مزيد من التوبيخ والتقريع والتهجين للأمر.
قوله: (ولم يعطه أجره) الأجر في اللغة: الجزاء على العمل، وفي اصطلاح الفقهاء: العوض الذي يُعطى مقابل منفعة، وتسمى الأجرة. وذكر الرجل في الحديث لا مفهوم له، وإنَّما جرى مجرى الغالب.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الغدر، وهو نقض العهد والإخلال بالشيء وتركه، وهو من أكبر الكبائر، وهو صفة ذميمة تدل على خسة النفس وحقارتها، ولا يتصف بها إلَّا ناقص الإيمان. والغادر شخص ممقوت لا يطمئن الناس إلى مخالطته ولا جيرته ولا معاملته، ويكفيه سخطًا وغضبًا أن الله تعالى يكون خصمه يوم القيامة.
• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن استرقاق الحر وبيعه وأكل ثمنه من أكبر الكبائر. قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن بيع الحر باطل)
(1)
. قال المهلب: (وإنَّما كان إثمه شديدًا؛ لأن المسلمين أكفاء في الحرية، فمن باع حرًّا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه)
(2)
.
• الوجه الخامس: الحديث دليل على تحريم أكل أجرة العامل وعدم إعطائها إياه بعد استيفاء العمل، وهذا من كبائر الذنوب، وهذا أمر مستقبح شرعًا وعقلًا، فإن العامل أخوك في الإسلام، وحقوق الإخوان على الإخوان كثيرة، فكيف إذا أدى لمستأجره عملًا يعود على ماله بالنماء وعلى تجارته أو صناعته بالازدهار والسعة؟!. وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود وأداء الأمانة إلى أهلها، وأجرة العامل داخلة في هذا العموم.
• الوجه السادس: الحديث دليل على عناية الإسلام بحقوق العمال
(1)
"الإجماع" ص (114).
(2)
"فتح الباري"(4/ 418).
وإيصالها إليهم كاملة غير منقوصة، حيث توعد من جحد أجرة العامل بعد استيفاء عمله بهذا الوعيد العظيم، فضمن الإسلام لهم حقوقهم وحماهم من تسويف صاحب العمل أو جشعه حينما يريد جحد الأجرة؛ لأن هذه الأجرة فيها حاجة العامل وحاجة أسرته ومن يَمُون. والله تعالى أعلم.
حكم أخذ الأجرة على الرقية وتعليم القرآن
914/ 7 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ". أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث علقه البخاري في كتاب "الإجارة"(4/ 452 "فتح") ووصله في كتاب "الطب"، باب "الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب"(5737) من طريق عبيد الله بن الأخنس أبي مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيه لديغ -أو سليم - فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل منكم من راق؟ إن في الماء رجلًا لديغًا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا، حتَّى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله".
• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن كما تؤخذ الأجرة على العلاج بالأدوية الأخرى، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وهذا الأخذ ليس على مجرد التلاوة، وإنَّما هو على المعالجة والمداواة؛ لأن القراءة والنفث على المريض من الأفعال المباحة، فيكون المأخوذ على المعالجة لا على مجرد التلاوة
(1)
.
(1)
"شرح السنة"(8/ 268).
• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا قول المالكية، والشَّافعية، وأحمد في رواية عنه، والمتأخرين من الحنفية، وابن حزم الظاهري
(1)
.
والقول الثاني: أنَّه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهذا قول متقدمي الحنفية، ورواية عن أحمد أخذ بها أكثر أصحابه، وكذا قالوا في تعليم العلم من تفسير وحديث وغيرهما، وكذا الإمامة والأذان
(2)
. واستدلوا بما يأتي:
أولًا: الأدلة التي تدل على أن الأجرة لا تؤخذ على تبليغ الإسلام والقرآن، كقوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، وقوله تعالى:{وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إلا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29].
ثانيًا: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: علمت ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوسًا، قلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته، فقلت: يا رسول الله أهدي إلي قوس ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله، قال: وإن كنت تحب أن تطوق طوقًا من نار فاقبلها"
(3)
.
كما استدلوا بأن التلاوة من الأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، وهذا العمل قربة لله تعالى، فلم يجز أخذ الأجرة عليه؛ لأن تعليم القرآن عبادة، والأجر فيه على الله تعالى.
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة غير ناهضة؛ كقولهم: إن المراد بالأجر المذكور في الحديث: الثواب الأخروي، ويرد هذا سياق الحديث بهما
(1)
"الكافي" لابن عبد البر (2/ 755)"مغني المحتاج"(2/ 344)، "المغني"(6/ 14)، "الهداية"(3/ 240).
(2)
"الهداية"(3/ 240)، "المغني"(6/ 139، 140).
(3)
أخرجه أَبو داود (3416)، وابن ماجة (2157)، والبيهقي (6/ 125) من طريق مغيرة بن زياد، عن عُبادة بن نُسَيّ، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
تقدم. وكقولهم: إنه منسوخ، وهذا مردود بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال
(1)
.
والقول الثالث: أنَّه يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن عند الحاجة دون الغنى، وهذا وجه في مذهب الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
.
وهذا قول وجيه فيه جمع بين الأدلة، ويؤيده قوله تعالى في ولي اليتيم:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]،
(3)
، ولأن المحتاج يمكنه أن ينوي عمله لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة وينفق على من يجب الإنفاق عليه، فيؤدي الواجب بهذه الأجرة، بخلاف الغني فإنه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه إلى أن يأخذ أجرة.
وأما حديث عبادة رضي الله عنه فهو حديث ضعيف؛ لأن في إسناده الأسود بن ثعلبة، وهو مجهول كما في "التقريب"، والمغيرة بن زياد الموصلي وثقه وكيع وابن معين والعجلي وغيرهم، وضعفه أحمد وأَبو زرعة، قال أحمد: مضطرب الحديث ومنكر الحديث، وقال في "التقريب":(صدوق له أوهام)، ومثل هذا الحديث لا يقاوم ما ورد من الأحاديث الصحيحة.
وعلى فرض صحته فهو محمول على أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه كان متبرعًا بالتعليم ناويًا للاحتساب فيه، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضيع أجره ويبطل حسنته بما يأخذ من هدية
(4)
.
وهذا الخلاف إنما هو في حكم أخذ الأجرة إذا كانت باشتراط، أما إذا أُعطي بدون اشتراط فالظاهر من كلام أصحاب المذاهب الأربعة وابن حزم الاتفاق على الجواز؛ لأن من أجاز باشتراط -كما تقدم - أجاز هنا من باب أولى، ومن منع باشتراط وهم متقدمو الحنفية فقد أجازوا الأخذ
(1)
"فتح الباري"(4/ 453).
(2)
"الفروع"(4/ 435)، و"الفتاوى"(30/ 192، 193، 205).
(3)
"الفتاوى"(30/ 205).
(4)
"شرح السنة"(8/ 268)، "شرح الطيبي"(6/ 159).
بدون اشتراط
(1)
.
أما أخذ الرِّزق من بيت المال - وهو الراتب - على تعليم القرآن وعلى الأذان والإقامة والإمامة وتعليم العلم فجوازه محل اتفاق بين أهل العلم
(2)
؛ لأن ما يؤخذ من بيت المال لهذه الأعمال ليس عوضًا وأجرة بل هو رزق للإعانة على الطاعة، وهو حق ثابت في بيت المال، وبيت المال معد للمصالح، إلَّا أن بعض الفقهاء كالشَّافعية والحنابلة يقيدون جواز أخذ الرزق بعدم وجود متطوع، حماية لبيت المال من أن يصرف بدون حاجة إلى صرفه. والله المستعان.
• الوجه الرايع: ظاهر هذا الحديث العموم، وأنه يجوز أخذ الأجرة على كتاب الله تعالى تعليمًا وعلاجًا وتلاوة، ولكن هذا العموم غير مراد، وقد خصه أهل العلم بالعلاج والتعليم، وأما أخذ الأجرة على مجرد التلاوة فهو غير داخل في هذا العموم، بل هو مستثنى منه بدليلين:
الأول: ما ورد من الأحاديث الدالة على النهي عن أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا القرآن، ولا تكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه"
(3)
.
الثاني: جاء في "الاختيارات" قول ابن تيمية: "الاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة، وإنَّما تنازعوا في الاستئجار على التعليم)
(4)
.
ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لا ثواب
(1)
"عمدة القاري"(12/ 97).
(2)
"الشرح الكبير"(2/ 70).
(3)
أخرجه أحمد (24/ 288)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 10)، والطبراني في "الأوسط"(2595)، وإسناده قوي كما قال الحافظ في "فتح الباري"(9/ 101)، وقال الألباني:(إسناده صحيح)، "السلسلة الصحيحة" رقم (260).
(4)
ص (152).
للقارئ ولا للميت، وهذا من البدع التي انتشرت في بعض بلاد المسلمين، والآخذ والمعطي آثمان، والقارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟!. والله تعالى أعلم.
وجوب المبادرة بإعطاء الأجير أجره
915/ 8 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أجْرَهُ قَبْلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجة في كتاب "الرهون"، باب "أجر الأجراء"(2443) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف جدًّا، آفته عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو متفق على ضعفه، ضعفه أحمد وأَبو زرعة وأَبو حاتم والنَّسائي والدارقطني وغيرهم
(1)
.
وقد خالفه من هو خير منه، عثمان بن عثمان الغطفاني، فرواه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا.
أخرجه ابن زنجويه في كتاب "الأموال"(2091) وهو مرسل حسن.
والحديث له شاهد من حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أخرجه الطحاوي في "شرح المشكل"(8/ 13)، وابن عدي (5/ 173)، والبيهقي (6/ 121) من طريق محمد بن عمار المؤذن، عن المقبري
(2)
، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، مرفوعًا. وفي سنده مقال، ورواه أَبو يعلى (6/ 136)، وابن عدي (5/ 173)، والبيهقي
(1)
"تهذيب التهذيب"(6/ 161).
(2)
كتبت في "الإرواء": (المغبري)، وصوا به:(المقبري).
(6/ 121) من طريق عبد الله بن جعفر، أخبرني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به. وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن جعفر.
وله شاهد -أيضًا- من حديث أبي الزُّبَير، عن جابر رضي الله عنه أخرجه الطبراني في "الصغير"(1/ 20، 21)، والخطيب في "تاريخه"(5/ 33) وفي سنده محمد بن زياد بن زِئار الكلبي، وشَرَقِي بن القُطامَى، وكلاهما ضعيف. قال الطبراني:(لم يروه عن أبي الزُّبَير إلَّا شرقي، تفرد به محمد بن زياد)
(1)
وهذا مراد الحافظ بقوله: (وفي الباب عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف) وهذه الجملة موجودة في معظم طبعات "البلوغ"، وفي النسخ التي عليها الشروح، ومحذوفة في بعضها، ولذا لم أعتمدها في الترقيم.
• الوجه الثاني: هذا الحديث وإن كان سنده ضعيفًا لكن معناه صحيح، ويؤيد معناه حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة
…
ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره"
(2)
.
وهو دليل على وجوب المبادرة بإعطاء الأجير أجرته فور انتهائه من عمله الذي استؤجر عليه، وعدم تأخيرها أو المماطلة في أدائها؛ لأنه لم يعمل إلَّا من أجل الحاجة إلى هذه الأجرة، ولأن نفسه تائقة إلى أخذ عوض عمله وجهده. وقوله في الحديث:"قبل أن يجف عرقه" كناية عن سرعة إعطائه حقه، وعدم تأخيره.
فإن كان بين الأجير والمستأجر اتفاق في تأخير الأجرة مدة معينة أو بعضها، أو يسمح العامل بتأخيرها مدة فلا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر: "نصب الراية"(4/ 129).
(2)
رواه البخاري (2227)، (2270).
وجوب معرفة قدر الأجرة
916/ 9 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ". رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَاقِ، وفيهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ الْبَيهَقيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه عبد الرزاق (8/ 235)(15023) من طريق إبراهيم النخعي، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري أو أحدهما رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكر الحديث
(1)
.
وهذا سند فيه انقطاع، فإن إبراهيم النخعي لم يسمع من أحد من الصحابة، كما قال ذلك ابن المديني وأَبو حاتم وغيرهما
(2)
.
ورواه البيهقي (6/ 120) موصولًا من طريق ابن المبارك، عن أبي حنيفة، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه.
وإسناده ضعيف؛ لضعف الإِمام أبي حنيفة، وقد تقدم الكلام عليه عند الحديث (801) من البيوع.
ورواه النَّسائي (7/ 31) موقوفًا من طريق ابن المبارك، عن شعبة، عن حمافى، عن إبراهيم، عن أبي سعيد بينه قال:(إذا استأجرت أجيرًا فأعلمه أجره).
(1)
وقع في "المصنَّف" المطبوع: "فليس له إجارة" واستظهر المعلق أن الصواب: "فليسمِّ" كما في الحديث الذي يليه.
(2)
"تهذيب التهذيب"(1/ 155).
وتابع شعبة على وقفه الثَّوري، فقال عبد الرزاق في "المصنف" (15024):) قلت للثوري: أسمعت حمادًا يحدث عن إبراهيم، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من استاجر أجيرًا فليسم له إجاره"، قال: نعم). وحدث به مرة أخرى فلم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنَّه قال: (الصحيح موقوف على أبي سعيد؛ لأن الثَّوري أحفظ)
(1)
.
• الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب معرفة قدر الأجرة، وهذا شرط من شروط صحة الإجارة المتفق عليها بين الفقهاء، قال الموفق:(لا نعلم في ذلك خلافًا)
(2)
. لأن الجهالة بالأجرة يفضي إلى النزاع والخصام بين المؤجر والمستأجر، ولأن الإجارة عقد معاوضة، فوجب أن يكون الأجر معلومًا كالثمن في المبيع.
وقد استدل الإِمام مالك وتبعه البيهقي على وجوب تسمية الأجرة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والإجارة نوع من البيع، والجهالة بالأجرة غرر
(3)
.
فإذا أجره الدار بألف ريال في الشهر، أو بعشرة أكياس من الرز، أو أجره الدار بدار أخرى يسكنها؛ صح ذلك كله؛ لأن العوض معلوم، ويجوز أن يكون عينًا، ويجوز أن يكون منفعة.
فإن أجره الدار بإصلاح ما انهدم منها لم يصح للجهالة، ولو قال: أجرتك الدار بعشرة آلاف في السنة وإصلاح ما انهدم منها من الأجرة صح؛ لأن الأجرة معلومة.
ويستثنى من شرط معرفة الأجرة ما تعارف عليه الناس من الأجرة، فإنه يجري مجرى التقدير؛ لأن شاهد الحال يقتضيه، والشارع أجرى الشرط
(1)
"العلل"(1/ 376) رقم (1118).
(2)
"المغني"(8/ 14).
(3)
"الموطأ"(2/ 706)، "السنن الكبرى"(6/ 120).
العرفي كاللفظي، ومثل هذا وإن كان فيه نوع جهالة لكنها يسيرة لا تفضي في الغالب إلى المنازعة، كأجرة سيارة أو ركوب سفينة إلى مكان معلوم، وكاستئجار الأجير بطعامه وشرابه المتعارف عليه.
وتجوز الإجارة بجزء شائع من الإنتاج - على الراجح من قولي أهل العلم - كأن يحصد الزرع بثلث ما يخرج منه، أو يَخْرُفَ النخل بربع ثمرته، أو يجني العنب بنصفه، أو يعصر كمية من الزيتون بربع الزيت المستخرج، ونحو ذلك؛ لأنه إذا شاهده فقد علمه بالرؤية، وهي أعلى طرق العلم، ومن علم شيئًا علم جزءه المشاع، فيكون أجرًا معلومًا، والله تعالى أعلم
(1)
.
(1)
انظر: "المغني"(8/ 72).
باب إحياء الموات
الموات: بفتح الميم والواو المخففة، مشتق من الموت، وهي عدم الحياة، والمراد به: الأرض التي لا حياة فيها من بناء أو زرع وغيرهما، ولا مالك لها من الآدميين.
وعند الفقهاء: الأرض التي لم يملكها أحد، ولا يتعلق بها منافع مشتركة.
وهذا التعريف يدل على أن الأرض الموات لها وصفان:
الأول: ألا يكون لها مالك، والمراد به المعصوم الذي لا يجوز قتله، وهو المسلم أو الذِّمِّيُّ المعاهد. فإن كان لها مالك معين بشراء أو عطية لم يجز إحياؤها، ومثله ما مُلك بالإحياء ثم دُثِرَ وعاد مواتًا فلا يملك.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف ملكًا لمالك غير منقطع، أنَّه لا يجوز إحياؤه وملكه لأحدٍ غير أربابه
(1)
.
الثاني: ألا يتعلق بها مصلحة عامة أو منافع مشتركة، كالطرق ومسايل المياه والمحتطبات والبقاع المرصدة لصلاة العيدين، والبقاع المرصدة لدفن الموتى ولو قبل الدفن، وكذا الغابات والمناطق السياحية وأماكن طرح القمامة، ونحو ذلك. فكل هذا لا يجوز إحياؤه؛ لأن في إحيائه مصلحة شخص واحد وتضرر مصالح العامة.
والإحياء: مصدر أحيا بمعنى: بث الحياة
…
، والمراد هنا: جعل الأرض الميتة منتفعًا بها بوجه من الوجوه الآتية في هذا الباب.
(1)
"التمهيد"(22/ 285).
شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بالموت، لعدم الانتفاع بالأرض الميتة إلَّا بعد إحيائها.
من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها
917/ 1 - عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيسَتْ لأحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" قَال عُرْوَةُ: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
918/ 2 - وعَنْ سَعِيدٍ بنِ زَيدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ". رَوَاهُ الثلَاثَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَال: رُويَ مُرْسلًا، وَهُوَ كمَا قَال، وَاخْتُلِفَ فِي صَحَابِيِّه، فَقِيلَ: جَابِرٌ، وَقيلَ: عَائِشَةُ، وَقيلَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمْروٍ، وَالرَّاجِحُ الأَوَّلُ.
• الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب "الحرث والمزارعة"، باب "من أحيا أرضًا مواتًا"(2335) من طريق محمد بن عبد الرحمن
(1)
، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق".
وليس عند البخاري لفظ: "بها" وإنَّما هي عند الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري
(2)
.
وقوله: (قال عروة .. ) هو موصول بالإسناد المذكور، لكن عروة، عن عمر مرسلًا؛ لأنه ولد في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
(1)
هو محمد بن عبد الرحمن أَبو الأسود، يتيم عروة.
(2)
"فتح الباري"(5/ 20).
أما حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه فقد تقدم تخريجه والكلام عليه في باب "الغصب" عند الحديث (899).
وقد اختلف في هذا الحديث فروي موصولًا عن عروة، عن سعيد بن زيد، وروي مرسلًا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رجحه الحفاظ، كالبزار، والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم، كما تقدم.
واختلف -أيضًا- في تعيين صحابي هذا الحديث، فقيل: عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، فمن أحيا من موات الأرض شيئًا فهو له، وليس لعرق ظالم حق".
أخرجه أَبو داود الطيالسي (3/ 55، 56)، ومن طريقه الدَّارَقُطني (3/ 217)، والبيهقي (6/ 142) من طريق زمعة، عن الزُّهْريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.
وإسناده ضعيف لضعف زمعة، قال أَبو حاتم:(هذا حديث منكر، إنما روي من غير حديث الزُّهْريّ، عن عروة مرسلًا)
(1)
.
وقيل: جابر رضي الله عنه، أخرجه التِّرمِذي (1379)، وأحمد (22/ 170)، وابن حبان (11/ 613) من طريق هشام بن عروة، عن وَهْب بن كيسان، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له".
وقال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وقال الألباني: (هو على شرط الشيخين، وعلقه البخاري في "صحيحه"
(2)
. وله طرق أخرى.
وقيل: صحابيه عبد الله بن عمرو، كما أخرجه الطبراني في "الأوسط"(605) من طريق مسلم بن خالد الزَّنجي
(3)
، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا.
قال الحافظ: (رجال إسناده ثقات)
(4)
. وهذا فيه نظر، فإن مسلمًا الزَّنجي
(1)
"العلل"(1422).
(2)
"الإرواء"(6/ 4)، "فتح الباري"(5/ 81).
(3)
بفتح المعجمة. انظر: "الأنساب" للسمعاني (3/ 170).
(4)
"الدراية"(2/ 244).
ضعيف كما تقدم عند الحديث (819)، بل الحافظ نفسه قال في "التقريب":(صدوق كثير الأوهام). ورجح الحافظ أن صحابي الحديث هو سعيد بن زيد.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (من عَمَرَ) هذا لفظ "البلوغ"، ولفظ البخاري:"من أعمر"، قال القاضي عياض: كذا وقع، والصواب:(عمر) ثلاثيًّا، قال تعالى:{وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9]، وقال غيره: قد سمع فيه الرباعي، يقال: أعمر الله بك منزلًا
(1)
. وهذا مفسِّر لحديث: "من أحيا".
قوله: (ليست لأحد) هذا يفسر اللفظ الثاني: (أرضًا ميتة)، فمعنى (ميتة): ليس فيها علامة ملك.
قوله: (فهو أحق بها) أي: من غيره، وحذف متعلق أفعل للعلم به.
قوله: (وقضى به عمر رضي الله عنه) أي: قضى بأن الإحياء ملك شرعي، وقد جاء في كتاب "الخراج" ليحى بن آدم سبب ذلك
(2)
.
قوله: (أرضًا ميتة) بسكون الياء، ويجوز تشديدها، وذكر أهل اللغة أن ميتة الأناسي بالتشديد، وميتة غير الأناسي بالتخفيف للتفريق بينهما، وكان التشديد في الأناسي؛ لأنه الأصل، والتخفيف في غير الأناسي؛ لأنه يكثر استعمالها، فكانت أولى به
(3)
. والأرض الميتة: هي الموات، فهي على أصل خلقتها، ليست ملكًا لأحد.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من أحيا أرضًا وعمرها فهو أحق بها من غيره ويملكها ملكًا شرعيًّا، لقوله:"فهي له" وليس في الحديث تحديد الإحياء بمساحة معينة، فمن أحيا أرضًا فهي له قلّت مساحتها أو كثرت.
• الوجه الرابع: دل الحديث على جواز الإحياء وأنه من أسباب الملك الشرعي، ولم تُبَيِّنْ صفة الإحياء وكيفيته مما يدل على أن المرجع فيه إلى
(1)
"فتح الباري"(5/ 20).
(2)
"الخراج" ص (89).
(3)
"المصباح المنير" ص (584).
العرف، فكل ما تعارف عليه أهل بلد فهو إحياء، وهو يحصل بأشياء، منها:
1 -
أن يبني حول الأرض حائطًا منيعًا، يبنيه بما جرت به عادة أهل البلد من طوب أو لبن أو حجر أو نحو ذلك، وسيأتي هذا - إن شاء الله - في حديث سمرة رضي الله عنه
2 -
سوق الماء وإجراؤه إلى الأرض الموات من عين أو نهر ونحوهما، أو حفر بئر بداخلها؛ لأن نفع الأرض بالماء أكثر من الحائط، لكن إن حفر بئرًا لم يملك إلَّا حريمها، وهو حماها، كما سيأتي إن شاء الله.
3 -
أن يمنع أو يزيل عنها ما لا يمكن زرعها معه، فإن كان المانع من زرعها كثرة الأحجار فإحياؤها بقلع أحجارها وتنقيتها، وإن كان أشجارًا فبأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها المانعة من الزرع والغرس.
وهذا بخلاف التحجير الذي هو منع الغير من إحياء الأرض الموات، بوضع علامة كأحجار أو تراب، أو يبني جدارًا قصيرًا، أو يضع شبكًا، أو لوحات، ونحو ذلك، فهذا ليس بإحياء، وإنَّما هو تحجير يفيد الاختصاص لا التملك، فيكون أحق بها من غيره، وورثته من بعده كذلك. فيعطى مهلة، فإن أحياها وإلَّا أعطيت إلى من يريد إحياءها.
• الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنَّه لا يشترط في إحياء الموات إذن الإِمام، وهذا مذهب جمهور العلماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بملكية الموات لمن أحياه ولم يذكر إذن الإِمام.
وقد استدلوا -أيضًا- بأن الأرض الموات ليست ملكًا لبيت المال، بل هي مال مباح، كالاحتشاش والاحتطاب، والمباح لمن سبقت يده إليه، وقد سبقت اليد إليه بالإحياء، فهو لمن أحياه
(1)
.
وذهب أَبو حنيفة إلى أنَّه يشترط إذن الإِمام، لأمرين:
(1)
انظر: "فتاوى الشيخ ابن إبراهيم"(8/ 197، 201).
الأول: أن الأرض الموات في سلطان الإِمام ويعتبر بولايته على البلدان واضع اليد عليها، فلا يُستولى على ما تحت يده إلَّا بإذنه.
الثاني: أن الإحياء من غير إذن الإِمام قد يدفع إلى التزاحم والنزاع، فلأجل الفصل بين الناس ولمنع النزاع بإزالة أسبابه يكون الإحياء بإذن الإِمام لتثبت الملكية بالإحياء
(1)
.
والذي يظهر رجحانه - والله أعلم - هو قول أبي حنيفة، وهو أنَّه لا بد من إذن الإِمام، لا سيما في زماننا هذا، لا من أجل ذات الأرض التي يراد إحياؤها، وإنَّما لوجود عارض، وهو ما يترتب على عدم الإذن من المفاسد من حصول النزاع، وتوارد الأيدي، وقد يكون الموات مملوكًا يجهل مالكه، وقد أفتى بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم، نظرًا للمصلحة، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"المبسوط"(23/ 181)، "الملكية ونظرية العقد" ص (126).
(2)
"الفتاوى"(8/ 207 - 218).
ما جاء في الحمى
919/ 3 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ رضي الله عنه، أَخْبَرَهُ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"لَا حِمَى إلَّا لله وَلِرَسُولِهِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
920/ 4 - وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرَرَ وَلَا ضِرَارَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وابْنُ مَاجَة.
921/ 5 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَهُوَ في "الْمُوَطَّإِ" مُرْسَلٌ.
• الكلام عليها من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "المساقاة"، باب "لا حمى إلَّا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم "(2370) من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما. وفي آخره: وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشَّرَفَ والرَّبَذَة.
وهو من كلام الزُّهْريّ، وهو مرسل أو معضل، كما قال الحافظ
(1)
. ورواه أَبو داود (3084) موصولًا بعد رواية المرسل عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع. وفيه عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش، قال عنه في "التقريب"(صدوق له أوهام) ولا يقبل تفرده عن ابن شهاب بمثل ذلك، فالظاهر أن هذه الرواية معلولة بالإرسال.
وقد ورد في "الإلمام" لابن دقيق العيد أن الحديث من المتفق عليه، وهذا وهم، ولعله من النساخ
(2)
.
(1)
"فتح الباري"(5/ 45).
(2)
ص (361) رقم (955).
وأما الحديث الثاني فقد أخرجه أحمد (5/ 55)، وابن ماجة في كتاب "الأحكام"، باب "إذا بنى في حقه ما يضر بجاره"(2341) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعًا، وهذا لفظ ابن ماجة. وزاد أحمد في آخره: "وللرجل أن يجعل خشبه في حائط جاره، والطريق الميتاءُ
(1)
سبعةُ أذرع".
وهذا سند ضعيف جدًّا، فيه جابر بن يزيد الجعفي كذبه ابن معين والجوزجاني وأَبو حنيفة وغيرهم، وقال الدَّارَقُطني:(متروك)، وقال البيهقي:(لا يحتج به)
(2)
.
لكنه لم يتفرد به فقد تابعه داود بن الحصين، عن عكرمة به، رواه الدَّارَقُطني (4/ 228) وداود بن الحصين احتج به الشيخان، وقد ضُعف في روايته عن عكرمة من قِبل حفظه، ورواه سماك بن حرب، عن عكرمة به، رواه ابن أبي شيبة
(3)
. وسماك كداود بن الحصين في روايته عن عكرمة خاصة، فهي مضطربة، وقد تغير بآخَرَةَ، فكان ربما يلقن.
والحديث له شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ومنها حديث عبادة بن الصامت، وأَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، وجابر بن عبد الله، وحديث أبي سعيد الآتي، قال النووي:(وله طرق يقوي بعضها بعضًا) قال ابن رجب: (وهو كما قال) وقد احتج به الإِمام مالك، وجزم بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي - وحسنه ابن الصلاح، والعلائي
(4)
.
وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد رواه الدَّارَقُطني (4/ 228)، والحاكم (2/ 57، 58) من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي
(1)
أي: الذي يأتيه الناس كثيرًا.
(2)
"تهذيب التهذيب"(2/ 41).
(3)
ذكره في "نصب الراية"(4/ 384، 385).
(4)
انظر: "الموطأ"(2/ 805)، "فيض القدير"(6/ 559)، "جامع العلوم والحكم" حديث (32).
عبد الرحمن: حدَّثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار"، زاد الحاكم:"من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه".
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم) وسكت عنه الذهبي.
وهذا وهم، لأن عثمان بن محمد لم يخرج له مسلم أصلًا، وهو متكلم فيه، وقد نقل الذهبي نفسه عن عبد الحق أنَّه قال:(الغالب على حديثه الوهم)
(1)
، وتابعه عبد الملك بن معاذ النصبي، عن الدراوردي، به. أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 159)، قال ابن القطان:(عبد الملك هذا لا تعرف له حال، ولا أعرف من ذكره)
(2)
.
ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 754) عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار".
وهذا هو الصواب، وهو أن الحديث مرسل، لأن الدراوردي وإن كان من رجال مسلم فإن فيه كلامًا يسيرًا من قبل حفظه، فلا تقبل مخالفته للإمام مالك. وسأذكر - إن شاء الله - غرض الحافظ من ذكر هذا الحديث في هذا الباب.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (لا حمى) الحمى: بكسر الحاء وفتح الميم المخففة بعدها ألف اسم مقصور، والحمى: المنع والدفع، قال أهل اللغة: حَمَى المكان من الناس يحميه حميًا وحماية، من باب رمى: منعه عنهم، ويقال: كلأ حِمى كرضى محميّ.
والحمى: أن يحمي الشخص أرضًا من الموات يمنع الناس رعي ما فيها
(1)
"الميزان"(3/ 53)، "الإرواء"(3/ 41).
(2)
"بيان الوهم والإيهام"(5/ 103).
من الكلأ ليختص بها دونهم، فإن كان الحمى للأموال العامة للأمة كخيل المجاهدين وإبل الصدقة وضوال الناس التي يقوم الإِمام بحفظها، وماشية الضعيف من الناس، فهذا هو الحمى الماذون فيه شرعًا، بشرطه الآتي.
قولي: (إلَّا لله ولرسوله) هذا أسلوب من أساليب القصر، طريقه الاستثناء بعد النفي، يفيد قصر الحمى على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا حمى إلَّا ما حُمي لخيل الناس وركابهم المرصدة لجهاد المشركين والحمل عليها في سبيل الله تعالى
(1)
.
وليس لأحد أن يحمي من مراعي الكلأ - التي الناس فيها سواء - حمى تستأثر برعيه ماشيته ودوابه.
وظاهر الحديث أنَّه ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلَّا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن معناه: إلَّا على مثل ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الأقرب، بدليل أن عمر رضي الله عنه حمى بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكذا عثمان رضي الله عنه.
قوله: (لا ضرر ولا ضرار) قيل: هما بمعنى واحد، والتكرار للتأكيد، والمشهور أن بينهما فرقًا، فقيل: هما مثل القتل والقتال، فالضرر معناه: أن يضر الرجل أخاه، والضرار: أن يضر كل واحد منهما صاحبه، فالضرر فعل الواحد، والضرار: فعل الاثنين، ويكون التقدير: لا ضرر بأحد، ولا ضرار مع أحد، وهذا قد يبعده ما ورد من جواز انتصار المظلوم ممن ظلمه، كقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41]، وقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]
(2)
. وقيل الضرر: ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار: ما تضر به صاحبك من غير أن تنتفع به، قال ابن عبد البر:(وهذا وجه حسن المعنى في الحديث، والله أعلم)
(3)
.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنَّه لا حمى إلَّا لله ولرسوله على وليس لأحد أن يحمي شيئًا من الأرض عن المسلمين فيمنعهم من رعي
(1)
"المغني" لابن باطيش (1/ 426).
(2)
"سبل السلام"(5/ 279).
(3)
"التمهيد"(20/ 158)، "جامع العلوم والحكم" حديث (32).
مواشيهم، وقد كانت هذه عادة جاهلية، فقد كان الشريف منهم إذا نزل أرضًا مخصبة استعوى كلبه على مكان عال، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق، وأضاف الحمى إلى الله ورسوله
(1)
.
ولم يحم النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا وإنَّما حمى للمسلمين، فقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَّاد - أحد رواته -: فقلت له - لعبد الله العمري -: لخيله؛ قال: لا، لخيل المسلمين
(2)
.
• الوجه الرابع: على الراجح من قولي أهل العلم أن ولي الأمر يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الحمى، فله أن يحمي ما يرى فيه مصلحة للمسلمين لإبلهم ودوابهم، وأموال الصدقة، وهذا هو الحمى الشرعي، وإذا رأى المصلحة في ترك ذلك تركه.
وهذا بشرط ألا يضر بالناس، فإن كان الحمى يضر بالناس لم يحم واشترك معهم، كأن يكون وقت جدب أو قحط أو قلة في العلف، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ولعل هذا هو غرض الحافظ من إيراد هذا الحديث في هذا الباب.
وقد حمى عمر رضي الله عنه الرَّبَذَةَ
(3)
، واستعمل عليها مولى له يدعى هُنَيًّا على الحمى، فقال: (يا هُنَيُّ اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل ربَّ الصُّريمة ورب الغُنيمة، وإياي ونَعَم ابن عوف ونَعَم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة وربَّ الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؛ فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب
(1)
انظر: "الأم" للشافعي (4/ 48).
(2)
أخرجه أحمد (10/ 476)، وأَبو عبيد في "الأموال"(298)، والبيهقي (6/ 146)، وفيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وقد تابعه عاصم بن عمر العمري عند ابن حبان (10/ 538).
(3)
مكان شرق المدينة بِمَيل نحو الجنوب. ["المغانم المطابة] ص (151 - 152)].
والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا)
(1)
.
فهذا عمر رضي الله عنه يقول: الولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا)، وهذا نص صريح في أن الإِمام لا يحمي لنفسه، ثم هو يوصي غلامه القائم على الحمى ألا يمنع الفقراء إذا جاءوا أن يستفيدوا من الحمى برعي مواشيهم ودوابهم، ولكن يمنع الأغنياء لأنهم لا ضرر عليهم في المنع، فإنه باستطاعتهم أن ينفقوا على مواشيهم ويعلفوها، ولم يرد بذلك منع الأغنياء البتة، وإنَّما أراد أنَّه إذا لم يَسَعِ المرعى إلَّا نعم أحد الفريقين فنعم المقلين أولى، والله المستعان".
• الوجه الخامس: حديث (لا ضرر ولا ضرار) اعتبره العلماء قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة، بل هي من أهم القواعد وأجلها شأنًا، لاندراج قواعد أخرى تحتها، ولإمكان تطبيقها في مختلف المجالات الفقهية، وهذا الحديث وإن كان في سنده ما تقدم لكن عمومات الشريعة من الكتاب والسنة قد جاءت ببيان ما دل عليه وتأييده، قال تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقال تعالى:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقال تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وقال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ غَيرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، وجاءت النصوص بالنهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم.
فيدخل في هذه القاعدة: التدليس والغش في المعاملات وكتم العيوب فيها، وبيع المسلم على بيع أخيه والشراء على شرائه، وهكذا جميع المعاملات كما يدخل في ذلك: مضارة الشريك لشريكه والجار لجاره والغريم لغريمه، وكذا إضرار الزوج بزوجته، والمضارة في الوصية، وفي الرضاع، ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدًّا، وما ذُكر تمثيل لا حصر
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح البخاري"(3059).
(2)
انظر: "الموافقات"(3/ 16)، "جامع العلوم والحكم" حديث (32)، "بهجة قلوب الأبرار" ص (45).
من أنواع الإحياء
922/ 6 - عَنْ سمُرةَ بْنِ جُنْدَب رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحَاطَ حَائِطًا عَلى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابنُ الْجَارُودِ.
• الكلام عليه من وجهين:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أَبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، بابٌ "في إحياء الموات"(3077)، وابن الجارود (1015) من طريق قَتَادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف، فيه الحسن البصري، وهو مدلس، ولم يصرح بالسماع من سمرة.
والحديث له شواهد تؤيد معناه، وهي ما تقدم أول الباب.
• الوجه الثاني: الحديث دليل على نوع من أنواع الإحياء وهو إحاطة الأرض الموات بحائط، فإذا أحاطها فقد ملكها ملكًا شرعيًّا، لقوله:"فهي له"، لكن لا بد من تقييد الأرض بأنه لا حق فيها لأحد، كما تقدم.
وظاهر الحديث أن الإحاطة كافية للتمليك، وهو قول الإِمام أحمد في أشهر الروايات عنه في صفة الإحياء، وهي أن التحويط إحياء لكل أرض، والرواية الثانية: تقدمت وهي أنَّه ليس للإحياء صفة معينة وإنَّما المرجع إلى العرف.
قال الفقهاء: ولا بد أن يكون الحائط منيعًا يمنع ما وراءه، ويكون مما
جرت العادة بمثله، ويختلف باختلاف البلدان
(1)
، وقد ذكر الشيخ عبد الله البسام: أن المعتبر في محاكم المملكة أنَّه إذا كان الجدار مترًا ونصف المتر فهو إحياء؛ لأنه يمنع، وما كان دون ذلك فهو تحجير وليس بإحياء
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المغني"(8/ 177).
(2)
"توضيح الأحكام"(4/ 227).
حريم البئر في الأرض الموات
923/ 7 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفلٍ رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجة في كتاب "الرهون"، باب "حريم البئر"(2/ 831) بإسنادين، والدارمي (2/ 186) كلاهما من طريق إسماعيل المكي، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه مرفوعًا.
وهذا إسناد ضعيف، له علتان:
الأولى: عنعنة الحسن وهو البصري، فإنه مدلس كما تقدم مرارًا.
الثانية: ضعف إسماعيل بن مسلم المكي، فقد قال عنه أحمد:"منكر الحديث"، وقال ابن معين:"ليس بشيء"، وقد تركه يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وقال ابن عدي: "أحاديثه غير محفوظة، إلَّا أنَّه ممن يكتب حديثه)
(1)
. لكنه لم ينفرد به، فقد تابعه أشعث، عن الحسن، عند الطبراني، كما ذكر الحافظ في "التلخيص"
(2)
فتزول العلة الثانية وتبقى الأولى. قال الألباني: "فهذا شاهد لا بأس به، فالحديث به حسن عندي، والله أعلم)
(3)
.
وله شاهد من حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أخرجه أحمد (16/ 259)،
(1)
"تهذيب التهذيب"(1/ 289).
(2)
(3/ 72).
(3)
"الصحيحة" رقم (251).
والبيهقي (6/ 155) من طريق عوف، عن رجل حدثه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها، كلها لأعطان الإبل والغنم. . .. "، ورواه البيهقي من طريق مسدد، عن هُشَيم، أخبرنا عوف، حدَّثنا محمد بن سيرين، به، وقد يكون هذا المبهم في الإسناد الأول هو محمد بن سيرين، وقد صوب الدَّارَقُطني روايته بالمبهم
(1)
.
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فله أربعون ذراعًا) إما أن المراد أربعون ذراعًا من الجوانب كلها، فيكون كل جانب عشرة أذرع، لا ينبغي لغيره أن يزاحمه في ذلك.
وقيل: له أربعون من كل جانب، ذكر هذا السندي
(2)
.
والمراد بذلك البئر التي تحفر في الأرض الموات للتمليك، فلا يملك إلَّا حريم البئر وهو حماها، وما عدا ذلك فهو والناس سواء
(3)
.
قوله: (عطنًا) العطن: بالتحريك هو موطن الإبل ومبركها حول الحوض، ومربض الغنم حول الماء.
• الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن حريم البئر إذا حفرها لسقي ماشيته أربعون ذراعًا، وما عدا ذلك يكون هو والناس فيه سواء. والمراد بحريمها: ما حولها من مرافقها وحقوقها، وهو ما يحتاج إليه لترقية الماء وسقي الماشية، ونحو ذلك من المصالح. قال ابن الأثير:(وسمي به لأنه يحرم منع صاحبه منه، أو لأنه يحرم على غيره التصرف فيه)
(4)
. وهذا قول الجمهور.
والقول الثاني: أن حريم البئر خمسة وعشرون ذراعًا إن كانت بئرًا جديدة، وخمسون ذراعًا إن كانت بئرًا قديمة أثرية، وهذا قول الإِمام أحمد، واختاره ابن قدامة، والشيخ عبد العزيز بن باز
(5)
.
(1)
"العلل"(10/ 46 - 47).
(2)
"شرح سنن ابن ماجة"(2/ 96).
(3)
"فتاوى ابن إبراهيم"(8/ 286).
(4)
"النهاية"(1/ 375).
(5)
"المغني"(8/ 179، 180).
واستدلوا بحديث سعيد بن المسيب، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادية خمسون ذراعًا"
(1)
.
وجعلت القديمة أكثر حرمًا؛ لأن ماءها يكون في الغالب أكثر، فحاجتها إلى الساحة أكثر.
والقول الثالث: أن ما ورد في الأحاديث ليس تحديدًا، وإنَّما حريم البئر ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها، وهذا قول القاضي وأبي الخطاب
(2)
.
فإن كانت البئر يراد بها إحياء الأرض بالزراعة فأكثر العلماء على أن حريمها ستمائة ذراع، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم:(له ما حواليه مقدار الزرع؛ لأنه جاء ليزرع، فما كان حواليه فلا يعترضه أحد)
(3)
.
وقد اختلف العلماء في التوفيق بين هذين الحديثين، فمن أهل العلم من قال بترجيح حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، وتضعيف حديث ابن مغفل رضي الله عنهما، وهذا رأي ابن قدامة
(4)
، وتبعه ابن باز.
ومنهم من جمع بينهما، وهو حمل حديث ابن مغفل على أن المراد بالحريم ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقي إبله لاجتماعها على الماء، وحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه على أن المراد ما يحتاج إليه البئر؛ لئلا تحصل المضرة عليها بقرب الإحياء منها، ولذلك اختلفت الحال في البئر الجديدة عن القديمة. وهذا رأي المغربي صاحب "البدر التمام"
(5)
، وتبعه عليه الصنعاني في "السبل".
أما إن كانت البئر محاطة من جميع جوانبها بأملاك الغير فهذه ليس لها حريم ولا مرافق، وإنما كل واحد يُنْتَفَعُ بما جرت به العادة، والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه الدَّارَقُطني (4/ 220) وقال: (الصحيح من الحديث أنَّه مرسل عن ابن المسيب، ومن أسنده فقد وهم)، وانظر:"العلل"(9/ 163)، وقد رواه مرسلًا أَبو داود في "المراسيل" ص (447)، ومراسيل سعيد جيدة عند أهل العلم.
(2)
"المغني"(8/ 179).
(3)
"الفتاوى"(8/ 274).
(4)
(8/ 180).
(5)
(3/ 340).
ما جاء في إقطاع الأراضي
924/ 8 - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أقطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالترْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَانَ.
925/ 9 - وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ، فَقَال:"أَعْطُوهُ حَيثُ بَلَغَ السَّوْطُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.
• الكلام عليهما من وجوه:
• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو علقمة بن وائل بن حُجر بن ربيعة الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وروى عنه أخوه عبد الجبار بن وائل، وابن أخيه سعيد بن عبد الجبار، وسماك بن حرب وغيرهم. قال ابن سعد:(كان ثقة قليل الحديث)، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقد نص البخاري في "تاريخه" على أنَّه سمع أباه، وقال التِّرمِذي:(علقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه)
(1)
، وحكى العسكري عن ابن معين أنَّه قال:(علقمة بن وائل، عن أبيه مرسل)، وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق إلَّا أنَّه لم يسمع من أبيه) وهذا فيه نظر، والصواب ما قاله البخاري والتِّرمِذي، فقد صرح بالتحديث عن أبيه في غير ما حديث عند مسلم وغيره، قال الذهبي:
(1)
"جامع التِّرمِذي"(4/ 46).
(روى له الجماعة سوى البخاري)
(1)
.
• الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث وائل بن حجر فقد أخرجه أَبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، بابٌ "في إقطاع الأرضين"(3058)، والتِّرمِذي (1381)، وابن حبان (16/ 182)، وأحمد (45/ 212) من طريق شعبة، عن سماك، قال: سمعت علقمة بن وائل يحدث عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا بحضرموت.
وهذا سند حسن من أجل سماك بن حرب فإنه متكلم فيه، بسبب ضعفه من قِبل حفظه، وخصوصًا في روايته عن عكرمة، فيكون حسن الحديث في غير روايته عن عكرمة.
وقد توبع، تابعه جامع بن مطر، عن علقمة بن وائل، كما عند أبي داود (3059)، وجامع بن مطر هو الحَبَطي، لا بأس به، كما قال أحمد وأَبو حاتم، ووثقه ابن معين وأَبو داود وابن حبان
(2)
، والحديث صححه التِّرمِذي.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه أَبو داود في الباب المذكور (3572)، وأحمد (10/ 485، 486) من طريق حمَّاد بن خالد، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر، وهو ضعيف، وبه أعله ابن القطان والحافظ
(3)
.
لكن له أصل في "الصحيحين" من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزُّبَير أرضًا
(4)
، وورد عند البخاري معلقًا بصيغة الجزم أنَّها من أموال بني النضير.
(1)
انظر: "صحيح مسلم" رقم (401)(1680)، "سنن النَّسائي"(2/ 194)، "التاريخ الكبير"(7/ 41)، "تهذيب التهذيب"(7/ 247)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 573).
(2)
"تهذيب التهذيب"(2/ 50).
(3)
"بيان الوهم والإيهام"(4/ 199، 200)، "التلخيص"(3/ 73).
(4)
"صحيح البخاري"(3151)(5224)، ومسلم (2182).
• الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (أقطعه أرضًا) أي: منحه وملكه أرضًا ينفرد بها، والإقطاع: ما يعطيه الإِمام لبعض الرعية من أراضي الموات، فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه، وذلك بأن يملكه إياه فيعمره، أو يجعل له غلته مدة.
قوله: (بحضرموت) بفتح الحاء وسكون الضاد، اسم لا ينصرف للعلمية والتركيب المزجي، اسم بلد باليمن.
قوله: (أقطع الزُّبَير) أي: الزُّبَير بن العوام القرشي، الصحابي الشجاع، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، تقدم له ذكر في باب "اللباس". وهذه الأرض التي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير، وكان ذلك في أول قدومه المدينة
(1)
.
قوله: (حُضْرَ فرسه) بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة، وهو شوط الفرس الذي ينتهي إليه عدوه، والمراد: أنَّه أقطعه مسافة قدرها عدو فرسه عدوة واحدة.
قوله: (حتَّى قام) أي: انتهى عدو الفرس ووقف.
قوله: (ثم رمى سوطه) أي: رمى الزُّبَير سوطه إلى الأرض، ولفظ أبي داود:(بسوطه) بإثبات الباء، فتكون زائدة.
قوله: (فقال: أعطوه حيث بلغ السوط) أي: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائه إلى المكان الذي رمى فيه السوط، فجعل مكان السوط حدًّا لآخر عدو الفرس.
قوله: (حيث بلغ السوط) هكذا في نسخ "البلوغ"، وفي أبي داود:(من حيث بلغ السوط) بإثبات (من)، وثبوتها مشكل؛ لأن ظاهرها أنَّها لابتداء الغاية، وهذا ليس بمراد، إلَّا إن كان المراد أعطوه من مكان السوط إلى هنا؛ أي: المكان الذي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم -أو من أنابه في إعطاء الزُّبَير، والله أعلم.
(1)
"فتح الباري"(9/ 323).
• الوجه الرابع: الحديث دليل على أنَّه يجوز للإمام أو نائبه إقطاع بعض الأراضي الموات لبعض الناس إذا كان في ذلك مصلحة، إذا كانوا يحتاجونها للسكن أو للحرث والزراعة ونحو ذلك.
والإقطاع خاص بالإمام أو نائبه ولا يكون لغيرهما ممن هو دونهما من آحاد الناس؛ لأن الإقطاع يرجع إلى اجتهاد الإِمام والمصلحة العامة.
• الوجه الخامس: ذكر الفقهاء أن لإقطاع الإِمام شرطين:
الأول: ألا يقطع أحدًا من الناس إلَّا ما يمكنه إحياؤه؛ لأن في إقطاع أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم، ولأن عمر رضي الله عنه استرجع من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من إقطاع العقيق الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
الثاني: ألا يقطع الإِمام ما لا يجوز إحياؤه، وهو ما قرب من عامر البلد وتعلق بمصالحه، كما تقدم أول الباب؛ لأن هذا في حكم المملوك لأهل العامر، ولأن في إقطاعه تضييقًا على الناس
(1)
؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما قطعت له الماء العِدَّ، انتزعه منه
(2)
.
• الوجه السادس: اختلف العلماء هل المُقْطَع يملك بمجرد الإقطاع أو لا بد من الإحياء، على قولين:
الأول: أن المقطع لا يملك بالإقطاع، فلا يجوز أن يبيع ما أُقطع، ولكنه يصير أحق به من غيره، كالمتحجر الشارع في الإحياء، وهذا مذهب الشَّافعي وأحمد
(3)
، وهو اختيار الشيخ محمد بن إبراهيم
(4)
.
(1)
"المغني"(8/ 164، 165).
(2)
أخرجه أَبو داود (3064)، والتِّرمِذي (1380)، وابن ماجة (2475)، وهو حديث حسن بطرقه، و"الماء العِدَّ" بكسر العين وتشديد الدال: هو الدائم الذي لا ينقطع، والعدُّ: المهيأ.
(3)
"المغني"(8/ 153)، "المهذب"(1/ 557).
(4)
"الفتاوى"(8/ 297).
فإن أحيا ما أُقطع ملكه، وإن لم يحي أعطي مدة فإن أحيا فيها وإلا انتزع منه، وأعطي غيره ممن يحييها وينتفع بها.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق، فلما كان عمر رضي الله عنه قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحيزه عن الناس، إنما أقطعك لتعمر، فخذ ما قدرت على عمارته، ورُدَّ الباقي
(1)
.
والقول الثاني: أن المقطع يملك بمجرد الإقطاع، فله التصرف بالبيع ونحوه، وهذا قول مالك
(2)
، واختيار الشيخ عبد العزيز بن باز. قال الشيخ عبد الله البسام:(وبهذا القول أفتت الهيئة القضائية في الديار السعودية)
(3)
.
وحتى على هذا القول فإن لولي الأمر أن يأخذ ما عجز عن إحيائه؛ لأن في ذلك مصلحة للمسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أَبو عبيد في "الأموال" ص (302)، والبيهقي (6/ 149).
(2)
"حاشية الدسوقي"(4/ 68).
(3)
"توضيح الأحكام"(4/ 233).
اشتراك الناس في الماء والكلأ والنار
926/ 10 - عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه قَال: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثةٍ: فِي الْكَلأ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثُقَات.
• الكلام عليه من وجوه:
• الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث رواه أحمد (38/ 174)، وأَبو داود في كتاب "البيوع"، بابٌ "في منع الماء"(3477) من طريق حَرِيز بن عثمان، عن أبي خِدَاش
(1)
، عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث
…
" الحديث، وهذا لفظ أبي داود، وعند أحمد: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار".
والحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات، حريز بن عثمان: هو الرحبي الحمصي، وأَبو خداش: هو حِبَّان بن زيد الشرعبي، وهو ثقة، من شيوخ حريز بن عثمان، قال أَبو داود (شيوخ حريز كلهم ثقات)
(2)
.
قال الألباني: (السند صحيح، ولا يضره أن صحابيه لم يسمَّ؛ لأن الصحابة كلهم عدول عند أهل السنة، لا سيما وفي رواية بعضهم أنَّه من المهاجرين)
(3)
.
(1)
انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (965).
(2)
"تهذيب التهذيب"(2/ 208).
(3)
"الإرواء"(6/ 8).
والحديث له شواهد، منها حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار"
(1)
.
وله شواهد أخرى كلها ضعيفة
(2)
، وقد ورد أحاديث في الماء بخصوصه بالنهي عن بيعه، ومنها حديث جابر صلى الله عليه وسلم، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء
(3)
. وتقدم شرحه في أول "البيوع".
• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم) لفظ أبي داود: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا
…
) أي: ثلاث غزوات، فيبدو أن كلمة (ثلاثًا) سقطت من "البلوغ".
قوله: (الناس شركاء) هذا وهم من الحافظ، فإن الحديث عند أحمد وأبي داود بلفظ:"المسلمون"، وإنَّما وقع بلفظ:"الناس" عند أبي عبيد وحده، من طريق يزيد بن هارون
(4)
، وهو بهذا اللفظ شاذ، لمخالفته للفظ الجماعة، فهو المحفوظ؛ لأن مخرج الحديث واحد، ورواية الجماعة أصح
(5)
. وقد أورده الحافظ في "التلخيص" بلفظ: "المسلمون" بعد أن عزاه لأحمد وأبي داود
(6)
.
قوله: (في ثلاث) هذا لفظ أبي داود، وفي بعض نسخ "البلوغ":"في ثلاثة".
قوله: (في الكلأ) بدل من (ثلاث) بإعادة الجار، والكلأ: بالفتح والهمز، هو العشب رطبًا كان أم يابسًا، بخلاف الحشيش فهو مختص باليابس، والمراد هنا: ما ينبت في الأرض الموات، ولا يختص به أحد.
قوله: (والماء) أي: ماء السماء والعيون والأنهار التي لا مالك لها.
(1)
أخرجه ابن ماجة (2473) وإسناده صحيح، كما قال الحافظ في "التلخيص"(3/ 75)، والبوصيري في "الزوائد"(2/ 266).
(2)
"الإرواء"(6/ 6).
(3)
أخرجه مسلم (1565).
(4)
"الأموال" ص (306).
(5)
"الإرواء"(6/ 8).
(6)
(3/ 75).
قوله: (والنار) أي: الحطب الذي يحتطبه الناس من الشجر المباح فيوقدونه، وكذا الحجارة التي توري النار ويقدح بها. وقيل: إن اللفظ على ظاهره، والمراد بالاشتراك في النار ألا يمنع الاستصباح منها والاستضاءة بضوئها إذا كان ذلك لا يضره.
• الوجه الثالث: الحديث دليل على عدم اختصاص أحد من المسلمين بأحد هذه الأشياء الثلاثة، وإنَّما هي مشتركة بين عامة الناس ينتفعون بها ويستفيدون منها، وهي:
1 -
الكلأ المباح الذي ينبت في الأرض الموات أو في الجبال التي لم يحرزها أحد، فلا يمنع أحد من ذلك. أما ما ينبت في أرض مملوكة فهو موضع خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: ليس له أن يمنع الناس عنه لعموم الحديث، وله أن يمنعهم من دخول أرضه؛ لأنها ملكه إذا كانوا يجدون الكلأ في غيرها، فإن لم يجدوا في كيرها وهم في حاجة إليه رخص لهم في دخول الأرض أو قطعه وأعطاهم إياه.
وقال آخرون: إنه يكون ملكًا لصاحب الأرض، ويجوز له بيعه ومنع الناس منه؛ لأنه تابع للأرض، وحملوا حديث الباب على الأرض غير المملوكة.
والقول الثالث: أنَّه إن نبت بنفسه فليس ملكًا له، وإن استنبته بأن حرث الأرض بحيث تكون قابلة للنبات إذا نزل المطر فهو له، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية
(1)
.
2 -
ماء السماء الذي يجتمع من الأمطار في غدير ونحوه، وكذا ماء العيون والأنهار العامة، فليس أحد أحق بها من أحد إلَّا لقرب أرضه فيكون أولى بها من غيره سقيًا وشربًا.
3 -
المصادر العامة للوقود من الشجر والحطب، أو النار ذاتها، فيجب
(1)
"الاختيارات" ص (121).
بذل الوقود للمحتاج، وكذا جذوة النار كالقبس - وهو الشعلة من النار -أو الاستدفاء بها.
أما ما كان من هذه الأشياء الثلاثة مملوكًا ملكًا فرديًّا ومحرزًا فإنه يكون لصاحبه، كما لو أحرز ماء في قربة أو في إناء أو نحو ذلك من الوسائل الحديثة، فإنه يكون ملكًا لمن أحرزه بالإجماع
(1)
. لكن لا يحق له بحال أن يمنع فضله المحتاج إليه، بل يجب أن يواسي به المحتاج من فقير أو ابن سبيل دون أن يأخذ منه مقابلًا أو عوضًا.
وقد ورد في حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق، فمنعه من ابن السبيل. . . " حديث
(2)
.
فهذا الحديث يدل على جواز ملكية بعض هذه الأشياء الثلاثة وهو الماء لقوله: "رجل كان له فضل ماء"، قال ابن بطَّال:"فيه دلالة على أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ صاحب البئر حاجته لم يجز له منع ابن السبيل"
(3)
.
ومثل ذلك الحطب فما دام في منابته فالناس فيه شركاء، لكن من احتطب شيئًا منه وحازه في سيارة ونحوها فقد ملكه، وله بيعه والتصرف فيه، والله تعالى أعلم.
انتهى الجزء السادس ويليه - بعون الله وتوفيقه - الجزء السابع، وأوله:"باب الوقف"
(1)
"نيل الأوطار"(5/ 342، 344).
(2)
أخرجه البخاري (2358)، ومسلم (108)، وسيأتي بتمامه مع شرحه في كتاب "الدعوى والبينات" إن شاء الله تعالى.
(3)
"شرح ابن بطَّال"(6/ 499).