المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الوقف الوقف لغة: الحبس والمنع، وهو مصدر وَقَفَ الشيء يَقِفُهُ - منحة العلام في شرح بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله بن صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

‌باب الوقف

الوقف لغة: الحبس والمنع، وهو مصدر وَقَفَ الشيء يَقِفُهُ وقفًا: إذا جعله على جهة معينة لا يُنْتَفَعُ به غيرها، ووَقَفَ، وحَبَّسَ، وأحبس، وسبَّل كلها بمعنى واحد. أما أوقف فهي لغة رديئة، ويقال للموقوف: وقف، من باب التسمية بالمصدر

(1)

.

واصطلاحًا: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة.

والتحبيس: مصدر حبَّس الشيء؛ أي: جعله محبوسًا لا يباع ولا يوهب

، وهو اسم جنس يشمل كل حبس كالوقف والرهن والحجر.

و (الأصل) أي: العين الموقوفة، وهو كل ما يُنْتَفَعُ به مع بقاء عينه؛ كالعقار والحيوان والأثاث والكتب، ونحو ذلك، أما ما لا يُنْتَفَعُ به إلَّا بذهاب عينه وتلفه فلا يصح وقفه بهذا المعنى، كطعام لأَكْلٍ، أو ماءٍ لشرب، ونحوهما، بل هو صدقة، وليس له موضوع الوقف ولا حكمه

(2)

.

و (تسبيل المنفعة) أي: منفعة العين الموقوفة، وهي ثمرتها وفائدتها، وذلك بإطلاق فوائد العين الموقوفة وريعها للجهة التي حُدِّد صرفها فيها.

والمراد بـ (تسبيل المنفعة) أن يكون على بِرٍّ أو قربة؛ لأن التسبيل يقتضي إخراج الأحباس الأخرى كالرهن؛ لأنها غير مسئلة، قال أهل اللغة: سَبَّل الشيء: أباحه وجعله في سبيل الله

(3)

.

والمقصود من الوقف التقرب إلى الله تعالى، ونفع البلاد والعباد؛

(1)

"تهذيب اللغة"(9/ 233)، "المصباح المنير" ص (699).

(2)

"الإفصاح"(2/ 52).

(3)

"المعجم الوسيط" ص (415).

ص: 5

كالمساجد وكتب العلم وإنشاء المستشفيات في البلاد المحتاجة، وتسبيل مياه الشرب بحفر الآبار ووضع البرادات، وتسبيل أجهزة تبريد الهواء، ودور الرعاية، وجمعيات تحفيظ القرآن، وغير ذلك من جهات البر التي يعينها الواقف، ويدخل في ذلك الوقف على القرابة كولده وأقاربه، ونحو ذلك.

وقد ثبتت مشروعية الوقف بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، والوقف داخل في الإنفاق، ويدل لذلك قصة أبي طلحة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية فإنه قال: (يا رسول الله؛ إن أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّهَا وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله

الحديث)

(1)

. فقد فهم أَبو طلحة رضي الله عنه العموم من هذه الآية، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:"بابٌ "إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة").

وأما السنة فقد ورد عدة أحاديث، منها أحاديث الباب. وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على مشروعية الوقف في الجملة، وقد نقل القرطبي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جواز الوقف، فقال:(إن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزُّبَير وجابرًا رضي الله عنهم كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة)

(2)

. وقال ابن حزم: (جملة صدقات الصحابة بالمدينة أشهر من الشمس، لا يجهلها أحد)

(3)

. وثبت أن عثمان رضي الله عنه سبَّل بئر رومة، وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين

(4)

.

والوقف من أفضل الصدقات التي حث الله عليها ووعد بالثواب

(1)

أخرجه البخاري (2769).

(2)

"تفسير القرطبي"(6/ 339).

(3)

"المحلى"(10/ 183).

(4)

علقه البخاري (5/ 29، 406 "فتح")، ووصله التِّرمِذي (3699)، والنَّسائي (6/ 236)، وقال التِّرمِذي:(هذا حديث حسن صحيح).

ص: 6

الجزيل؛ لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه البر والخير، والوقف إحسان إلى الموقوف عليه، إما لحاجتهم كالفقراء والأيتام والأرامل، أو لصلتهم كذوي الأرحام والقرابة، أو للحاجة إليهم كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين، ونحوهم، وفيه إحسان للواقف حيث يجري عليه ثواب وقفه بعد انقطاع أعماله ورحيله عن هذه الدار، ولهذا انفرد أهل الإسلام بالوقف واختصوا به.

ص: 7

‌ما يدوم من عمل الإنسان بعد موته

927/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"إِذَا مَاتَ الانْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيةٍ، أَوْ عِلْمِ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"، رَوَاهُ مُسْلِم.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الوصية"، باب (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته)(1631) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبإيه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلَّا من ثلاثة: إلَّا من صدقة جارية

" الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (انقطع عنه عمله) لزوال التكليف بالموت، ولخروجه من عالمه إلى عالم البرزخ، وهو ليس موضع عمل، وإذا انقطع العمل انقطع الثواب المرتب عليه.

قوله: (إلَّا من ثلاث) أي: ثلاث خصال، ولفظ مسلم:"إلَّا من ثلاثة" أي: ثلاثة أشياء، والمراد أن ثواب الثلاثة يدوم للإنسان بعد موته، وذلك لدوام أثره، فدام ثوابه.

قوله: (صدقةٍ جارية) بالجر بدل من ثلاث، والصدقة الجارية: هي المتصلة المستمر نفعها؛ كوقف العقارات أو الكتب أو المصاحف، ونحو ذلك.

ص: 8

وهذا القدر هو غرض المصنف من إيراد الحديث في باب "الوقف"؛ لأن العلماء فسروا الصدقة الجارية بالوقف.

قوله: (أو علم يُنْتَفَعُ به) هذا قيد يخرج به ما لا يُنْتَفَعُ فيه من العلم؛ كعلم النجوم من حيث أحكام السعادة وضدها، أو من ألف علمًا مفسدًا للدين وللأخلاق.

والمراد بالعلم الذي يُنْتَفَعُ به: العلم الذي علمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس عن طريق المحاضرات والمواعظ والفتاوى، والكتب التي ألَّفها في نفع المسلمين، وهي أعظم أثرًا لطول بقائها على مر الزمان.

قوله: (أو ولد صالح يدعو له) الظاهر أن المراد بالصلاح: الاستقامة، وفسَّره ابن علان: بالإسلام

(1)

.

والحديث يشمل ولد الصلب، وولد الابن وولد البنت، وهو شامل للذكر والأنثى، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} [النساء: 11] ووصفه بالصلاح ليكون دعاؤه مجابًا، فينتفع والده بدعائه، وحذف مفعول (يدعو) للتعميم؛ أي: يدعو له بالمغفرة، أو بما هو أعم منها، وفائدة تقييده بالولد مع أن دعاء غيره ينفعه: تحريض الولد على الدعاء.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الإنسان ينقطع عنه أجر عمله بعد وفاته؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا دار تزود وعمل، يتزود منها العباد من الخير أو الشر للدار الأخرى، وهي دار الجزاء والحساب، فمن مات انقطع عنه عمله، إلَّا من هذه الأشياء الثلاثة، فإنها تبقى ويجري ثوابها بعد الموت، وعن أبي قَتَادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير ما يَخْلُفُ الرجلَ من بعده ثلاثٌ: ولد صالح يدعو له، وصدقة بِرٍّ يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من

(1)

"دليل الفالحين"(3/ 434).

ص: 9

بعده،

(1)

. وذلك لأن هذه الأشياء من كسب الإنسان، وهي من آثار عمله، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَينَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس: 12] وقد ذكر المفسرون أن المراد بقوله: {مَا قَدَّمُوا} ما باشروه من الأعمال الحسنة أو السيئة قبل مماتهم. وقوله: {وَآثَارَهُمْ} أي: ما بقي بعدهم في الدنيا من آثارهم الطيبة؛ كالعلم النافع والصدقة الجارية والسنن الحسنة، أو الآثار السيئة كالعلم المفسد للدين والخلق، والسنن السيئة، والمظالم التي تستمر بعد موتهم، فإن هذه من آثارهم التي أحصيت عليهم، وهي مدونة في كتاب مقتدى به موضّح لكل شيء، وهو اللوح المحفوظ

(2)

.

وقيل: إن المراد بقوله: {وَآثَارَهُمْ} : خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، كما ورد ما يدل على ذلك من السنة.

وقد ذكر ابن كثير أنه لا منافاة بين القولين، وأن القول الثاني فيه تنبيه على القول الأول بطريق الأولى؛ لأنه إذا كانت خطاهم إلى الطاعة أو المعصية تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر من باب أولى، والله أعلم

(3)

.

• الوجه الرابع: ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته"

(4)

.

(1)

أخرجه "ابن ماجه (1/ 88)، وابن حبان (11/ 266)، وقال المنذري: (إسناده صحيح) وهذا فيه نظر، فإن في إسناده فليح بن سليمان، ولم يرد في رواية ابن ماجه، وزاده أبو الحسن القطان ص (35)، وساقه ابن حبان أول الكتاب (1/ 295) ولم يذكر فيه فُليحًا، وفليح أخرج له الشيخان، لكن قال عنه في "التقريب": (صدوق كثير الخطأ)، وقد ذكر الدارقطني في "العلل" (6/ 140) الاختلاف على زيد بن أبي أُنيسة في ذكر فليح، وصوب ذكره.

(2)

انظر: "تفسير ابن كثير"(6/ 553).

(3)

"تفسير ابن كثير"(1/ 556)، "تفسير ابن سعدي" ص (693).

(4)

أخرجه ابن ماجه (1/ 88)، وحسنه المنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 99)، وذكر=

ص: 10

وقد ذكر ابن علان أن ما في هذا الحديث يزاد على ما في حديث الباب؛ لأن مفهوم العدد غير حجة، أو يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع أولًا على ما في حديث مسلم، ثم أطلعه الله تعالى على الزائد فأخبر به

(1)

.

والظاهر أن ما جاء في هذا الحديث إنما هو تفسير لحديث الباب؛ لأن ما ذكر فيه من أنواع الصدقة الجارية، والله أعلم.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على صحة الوقف وعظيم ثوابه عند الله تعالى، حيث إنه يبقى نفعه ويدوم ثوابه؟ كوقف العقارات التي ينتفع بها، أو الكتب والمصاحف التي يستفاد منها وينتفع بها، فما دامت باقية ينتفع بها فأجرها جارٍ للعبد.

• الوجه السادس: الحديث دليل على فضل العلم والحث على الاستكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتأليف والإيضاح، وأن الأجر يجري عليه ما دام الانتفاع بعلمه، وكم من علماء هداة ماتوا من مئات السنين ولا زالت كتبهم ينتفع بها، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم، وهذا من فضل الله تعالى. وينبغي لطالب العلم أن يختار العلوم النافعة، مقدمًا الأنفع فالأنفع وما يُحتاج إليه.

• الوجه السابع: الحديث فيه حث للولد على الدعاء لأبيه وأمه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات، ولا فرق في ذلك بين ولد صلبه أو ولد ولده من ذكر أو أنثى.

• الوجه الثامن: الحديث دليل على أن الوالد ينتفع بصلاح ولده واستقامته؛ لأن من كان صالحًا لن يغفل في الغالب عن الدعاء لوالديه، وهو قَمِنٌ أن يستجاب دعاؤه، وهذا يدل على فضل الاستقامة وأثر صلاح الذرية، وأن الولد يحرص على سلوك طريقها لنفع نفسه ونفع والديه.

= أن ابن خزيمة رواه في "صحيحه"، وفيه مرزوق بن أبي الهذيل، قال عنه في "التقريب":(لين الحديث).

(1)

"دليل الفالحين"(3/ 433).

ص: 11

• الوجه التاسع: الحديث لا يدل على أن الميت لا ينتفع إلا بهذه الثلاثة، فإنه ينتفع بدعاء أقربائه بل بدعاء المسلمين عمومًا، وكذا ما يعمل عنه من البِرّ، وإنما ذكرت الثلاثة لأنها من عمله وأثره لا سيما الولد، وغير الثلاثة ليست من عمله، فإن دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإن دعا له غيره لم يكن ذلك من عمله لكنه ينتفع به، ومن ذلك الصلاة على الميت فإنها دعاء له، والله تعالى أعلم.

ص: 12

‌حكم الشروط في الوقف

928/ 3 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: أَصَابَ عُمَرُ رضي الله عنه أَرْضًا بِخَيبَرَ، فَأَتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، قَال:"إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَال: فتصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ؛ غَيرَ أنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، ولا يُورثُ، ولَا يُوهَبُ، قال: فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفي الْقُرْبَى، وَفي الرِّقَابِ، وَفي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَهَا أَنْ يَأكلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أو يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: تَصَدَّقْ بِأصْلِهِ: لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه" مطولًا ومختصرًا، وأولها في كتاب "الوكالة"(2313)، ثم في "الشروط في الوقف"(2737)، ومسلم (1632) من طريق ابن عون، قال: أنبأني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أصاب عمر رضي الله عنه أرضًا بخيبر

الحديث. وليس بين لفظ البخاري ولفظ مسلم كبير فرق.

وأخرجه البخاري في كتاب "الوصايا"، باب (وما للوصي أن يعمل في

ص: 13

مال اليتيم، وما يأكل منه بقدر عُمالته) (2764) من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقْ بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره

".

ولعل الحافظ ذكر هذه الرواية لأنها تدل على أن الشروط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منافا؛ لأنه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم به، فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من وقف ذلك على عمر رضي الله عنه لوقوعه منه امتثالًا للأمر الواقع منه صلى الله عليه وسلم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أصاب أرضًا بخيبر) أي: صادف في نصيبه من الغنيمة، وقد جاء عند النسائي من رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها)

(1)

. وفي رواية: (إني أصبت مالًا لم أصب مثله قط، كان لي مائة رأس، فاشتريت بها مائة سهم من خيبر من أهلها .. )

(2)

.

وهذه الأرض اسمها: (ثَمْغٌ) بفتح الثاء المثلثة، وسكون الميم. كما ورد في رواية البخاري المذكورة بلفظ:(أن عمر تصدق بمالٍ له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال له: (ثَمْغ) وكان نخلًا

). وعند النسائي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرض لي بثمغ، قال: "احبس أصلها، وسبّل ثمرتها").

قوله: (يستأمره فيها) أي: يستشيره بالتصدق فيها.

قوله: (قط) ظرف لما مضى من الزمان مبني على الضم؛ أي: قبل هذا الزمن أبدًا.

قوله: (هو أنفس عندي منه) أي: أعز وأجود، والنفيس: هو الجيد المغتبط به، يقال: نَفُسَ الشيء نفاسة، فهو نفيس، والضمير في (منه) يعود إلى قوله:(أرضًا) ولعل تذكيره باعتبار تأويله بالمال، وقد جاء عند البخاري:

(1)

"سنن النسائي"(6/ 232).

(2)

انظر: "فتح الباري"(5/ 400).

ص: 14

(فما تأمر به)، وعند مسلم:(فما تأمرني به؟) أي: فما الذي تأمرني به أن أفعل من أبواب البر والتقرب إلى الله تعالى.

قوله: (إن شئت حبست أصلها) بتشديد الباء الموحدة، ويُخفف؛ أي: وقفت أصلها، والحبس في اللغة: المنع، وحبسته بمعنى: وقفته، فهو حبيس، والتشديد للمبالغة، قال الأزهري:(حَبَّسْتُ الأرض: أكثر استعمالًا من وَقَفْتُهَا)

(1)

.

قوله: (وتصدقت بها) هذا على حذف مضاف؛ أي: بريعها وغلتها ومنفعتها من حبوب وثمار وغيرها. وفي رواية النسائي المذكورة "احبس أصلها وسَبِّل ثمرتها". وقيل: إن الصدقة راجعة إلى الأصل المُحَبَّسِ، فيكون هذا من ألفاظ الوقف غير الصريح، والأول أقرب، وبه جزم القرطبي بدليل السياق مع رواية النسائي، ولأنه على المعنى الأول يكون تأسيسًا وبيانًا لحكم الغلة، وعلى الثاني يكون تأكيدًا، والتأسيس خير من التأكيد

(2)

.

قوله: (غير أنه لا يباع أصلها) هذا ضمير الشأن؛ أي: والحال والشأن أنه لا يباع أصلها. وظاهر هذا السياق أن الشروط من كلام عمر رضي الله عنه، والرواية المذكورة تدل على أن الشروط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم وجه الجمع.

قوله: (فتصدق بها في الفقراء) هكذا لفظ "البلوغ" وفي مسلم (فتصدق عمر

) والفقراء: جمع فقير، وهو من لا يقدر على نصف كفايته وكفاية عائلته لا بماله ولا بكسبه. والمسكين: من يقدر على نصف كفايته دون كمالها، وهما من الأسماء التي قال العلماء فيها: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فذكر الفقراء هنا يدخل فيه المساكين.

قوله: (وفي القربى) أي: الأقارب، والمراد قرابة الواقف وهو عمر رضي الله عنه؛ لأنهم أحق بصدقة قريبهم، وهو على حذف مضاف؛ أي: وفي

(1)

"الزاهر" ص (360).

(2)

"المفهم"(4/ 599)، "حاشية الصنعاني على شرح العمدة"(4/ 134).

ص: 15

ذي القربى؛ كقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، وعند البخاري:(ولذي القربى).

قوله: (وفي الرقاب) جمع رقبة، وهي العنق، والمراد هنا: فك الإنسان من الرق أو الأسر، والمعنى: أن يُشترى من غلة الوقف رقابًا فَتُعْتَقَ، أو تؤدى ديون المكاتبين ليعتقوا.

قوله: (وفي سبيل الله) أي: الجهاد، وهو أعم من الغزاة، فيشمل شراء الأسلحة وأدوات الحرب وغير ذلك، ويحتمل أنه أراد بسبيل الله: كل ما أعان على إعلاء كلمة الله تعالى ونشرها، ونفع المسلمين، من الدعوة إلى الله تعالى بالقلم، واللسان، والسنان، وبناء المساجد والمدارس، وطبع الكتب وبناء المستشفيات، ورعاية الأيتام والمعوقين والأرامل، وغير ذلك من المرافق العامة والخاصة.

قوله: (وابن السبيل) السبيل: الطريق، والمراد بابن السبيل: المسافر الذي انقطع به السفر، سمي بذلك للزومه الطريق.

قوله: (والضيف) هو من نزل بقوم يريد القرى، وهو للمفرد والجمع، قال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات: 24]. وربما جمع على أضياف وضيوف وضيفان. وهؤلاء المذكورون هم الذين ورد ذكرهم في آية الزكاة، عدا ذوي القربى والضيف.

قوله: (لا جناح) أي: لا حرج ولا إثم، من قولهم:(جنحت السفينة) أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق: جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، كما في قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ} [البقرة: 235] في غير موضع. قاله الراغب

(1)

.

قوله: (على من وليها) أي: قام بحقها وإصلاحها وتحصيل ريعها وصرفه في جهاته، والمراد بذلك ناظر الوقف.

(1)

"المفردات في غريب القرآن " ص (100).

ص: 16

قوله: (أن يأكل منها) أي: يأخذ منها ما يحتاج إليه من طعام وكسوة ومركب، ونحو ذلك، فالمراد بالأكل: مطلق الأخذ.

قوله: (بالمعروف) هذا قيد لما قبله، والمراد به: ما جرى به العرف وأقره الشرع.

قوله: (أو يطعم صديقًا) هذا لفظ مسلم، وعند البخاري:(أو يُوكِلَ صديقه) والمراد: صديق ناظر الوقف والقائم عليه، لقوله:(صديقه) بالإضافة إلى ضمير من وليها، ويحتمل: صديق الواقف، لكن فيه بعد، كما قال القرطبي

(1)

.

قوله: (غير مُتَمَوِّلٍ مالًا) غير بالنصب: حال من فاعل (وليها) والتمول: بفتح التاء والميم وتشديد الواو مضمومة: اتخاذ المال أكثر من حاجته، ومراد عمر رضي الله عنه أن الناظر على وقفه لا يتملك منه شيئًا.

ولفظ "الصحيحين": (غير متمول فيه)، وفي رواية لهما:(غير متأثل مالًا) أي: متخذ أصل مال وجامعه، يقال: تأثلت المال: اتخذته أصلًا، وأثلة كل شيء: أصله. وأما لفظة: (غير متمول مالًا) فقد جاءت عند البخاري من طريق أيوب، عن نافع

(2)

. وليست في السياق المذكور.

• الوجه الثالث: هذا الحديث أصل عظيم في باب الوقف حيث دل على مشروعيته، واشتمل على أحكام كثيرة وفوائد غزيرة تتعلق بالوقف، ولهذا ترجم له البخاري في "صحيحه" عدة تراجم.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل الوقف وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر؛ لأن عمر رضي الله عنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لثقته بكمال نصحه، فأشار عليه بأحسن طرق الصدقات وهو الوقف.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه ينبغي أن يكون الوقف من أطيب المال وأحسنه طمعًا في ثواب الله تعالى، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى

(1)

"المفهم"(4/ 603).

(2)

"صحيح البخاري"(2777).

ص: 17

تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وحديث أبي طلحة في بيرحاء شهير في ذلك، وتقدمت الإشارة إليه.

• الوجه السادس: الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يستشير غيره من ذوي الفضل، وهم أهل الدين والعلم ولو في أمور القرب والطاعة

(1)

، وأن يأخذ برأيهم ويأتمر بأمرهم، ولا يعد هذا من إظهار العمل للرياء والسمعة؛ لما يترتب على المشاورة من المصالح العظيمة، ولا ينبغي للإنسان أن يستبدَّ مهما كان عليه من العلم والعقل، قال تعالى:{وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].

• الوجه السابع: أن الواجب على المستشار أن ينصح بما يراه الأفضل فالدين النصيحة، ويستفاد من ذلك أن على العلماء والقضاة وكُتّاب العدل ممن يتولون كتابات وثائق الناس وأوقافهم ووصاياهم أن يبينوا لهم ما يوافق الشرع وما يخالفه، ويشيروا عليهم بما فيه المصلحة.

• الوجه الثامن: في الحديث دليل على تفسير الوقف وبيان حقيقته، حيث قال:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، وهذا أحسن تعريف للوقف، فإنه تعريف جامع مانع، يؤدي المعنى المراد بأوضح عبارة، وتقدم شرحه أول الباب.

• الوجه التاسع: الحديث دليل على أن لفظ (التحبيس) صريح في الوقف، فلا يحتاج إلى أمر زائد من نية أو قرينة أو فعل، ومثله: وقَفْتُ، وسَبَّلتُ، أما لفظ: تصدقت فهو كناية تحتاج إلى ما يدل على الوقف، كأن يقول: هذا البيت أو هذه الدكاكين صدقة موقوفة أو محبَّسة أو مسبلة، أو صدقة لا تباع ولا تورث، ونحو ذلك.

• الوجه العاشر: أن الوقف خاص بالعين التي تبقى مع الانتفاع بها كالدور والمساجد والمكتبات، ونحو ذلك، أما ما يذهب بالانتفاع به كالطعام فهو صدقة، كما تقدم.

(1)

"المفهم"(4/ 599 - 600).

ص: 18

• الوجه الحادي عشر: الحديث دليل على أنه لا يجوز التصرف في الوقف ببيع ولا إرث ولا هبة، بل يظل باقيًا لازمًا يعمل به حسب شروط الواقف الموافقة للشرع.

• الوجه الثاني عشر: الحديث دليل على أن للواقف أن يشترط في وقفه شروطًا عادلة جائزة شرعًا، وهي شروط صحيحة معتد بها، وأنه لا مانع من أن يحدد المصارف التي يريد صرف ريع الوقف إليها إذا كانت موافقة للشرع.

• الوجه الثالث عشر: الحديث دليل على وجوب العمل بشرط الواقف ما لم يخالف الشرع؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط في وقفه شروطًا، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطها فائدة، ولأن الوقف متلقى من جهة الواقف، وهو لم يرض بإخراج الموقوف عن ملكه إلا بهذا الشرط، فيتبع فيه شرطه، ويرجع في مصارف الوقف وشروطه إلى شرط الواقف حيث وافق الشرع، فإذا عين في وقفه عمارة المساجد أو طبع الكتب أو إعانة المجاهدين أو طلبة العلم، أو قال: على أولادي ثم أولادهم، أو قال: الناظر فلان فإن مات ففلان، عمل بذلك، ولهذا قال بعض الفقهاء: نص الواقف كنص الشارع؛ أي: في الفهم والدلالة على المراد من تخصيص عامها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيدها، وأما جعلها كنص الشارع في وجوب العمل فهذا غير مراد قطعًا.

ثم إن لفظ الواقف ينبغي أن يحمل على عادته في خطابه، ولغته التي يتكلم بها، سواء وافق لغة العرب أو لغة الشرع أو لا، وهذا أمر ينبغي التنبه له، ويستفاد منه في حلِّ إشكالات كثيرة.

• الوجه الرابع عشر: أن المصرف الشرعي للوقف هم الفقراء ومن ذكر معهم من وجوه البر والإحسان العام أو الخاص، وأول من يدخل في ذلك قرابة الواقف، فإنهم أحق من الأجانب مع التساوي في الحاجة، ولا فرق بين ذَكَرهم وأنثاهم، على ما هو مبيَّن في كتب الفقه.

• الوجه الخامس عشر: فضيلة صلة الرحم وغيرهم من المحتاجين

ص: 19

والوقف عليهم، وهم أولى ببر الواقف وإحسانه من غيرهم ولا سيما مع فقرهم؛ لأن لهم حق القرابة وحق الحاجة، وعلى الناظر أن يهتم بهم، ويقدم الأقرب فالأقرب مع الاستواء في الحاجة، وإلا فيقدم المحتاج على غيره.

• الوجه السادس عشر: الحديث دليل على جواز أكل ناظر الوقف من الوقف بالمعروف، فيأكل قدر كفايته، وذلك مقابل عمله وحبسه نفسه على إصلاحه والقيام بصرف ريعه، وعليه أن يحذر المبالغة في الإنفاق أو التعدي على أموال الوقف، لا سيما إذا كانت أموالًا عظيمة كما في زماننا، فإن وقع في شيء من ذلك وصعب عليه الفطام فعليه أن يتقي الله تعالى ويدع الأمر إلى من هو أوثق منه.

• الوجه السابع عشر: الحديث دليل على جواز أكل الأغنياء من مال الوقف كناظر الوقف والضيف، لكن بشرط ألا يتخذ واحد منهما من مال الوقف ملكًا، فإن الضيف ليس له زيادة على ما يأكل، والناظر ليس له زيادة على ما ينفق.

• الوجه الثامن عشر: في الحديث فضيلة ومنقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث استشار النبي صلى الله عليه وسلم وقَبِلَ ما أشار به عليه، وبادر إلى تنفيذه، وتقرب إلى الله تعالى بأنفس أمواله وأطيبها.

• الوجه التاسع عشر: الحديث دليل على أن الوقف عقد لازم بمجرد القول أو ما يدل عليه، فلا يملك الواقف الرجوع فيه، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، ووافقهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة. ووجه الاستدلال من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه أن يحبس الأصل، والحبس هو المنع، والقول بأن الوقف عقد جائز ينافي التحبيس.

الثاني: أن عمر رضي الله عنه ذكر أحكام وقفه بقوله: "لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث" بل تقدم أن هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 20

وقال أبو حنيفة وزفر بن الهذيل إن الوقف عقد جائز، فللواقف أن يتصرف فيه كما يشاء، وإذا تصرف اعتبر راجعًا عن الوقف

(1)

، واستُدل لذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنه، قال: (لما نزلت سورة النساء وفرض فيها الفرائض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حَبْسَ عن فرائض الله عز وجل"

(2)

وأجابوا عن حديث الباب بما لا طائل تحته

(3)

.

والصواب القول الأول، وهو أن الوقف عقد لازم، لقوة دليله، ولأن لزوم الوقف فيه مصلحة للواقف بدوام نفعه واستمرار أثره، بخلاف الرجوع فلا مصلحة فيه، ولأن أوقاف الصحابة رضي الله عنهم اتصفت باللزوم، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه رجع عن وقفه، كما تقدم أول الباب.

وأما دليل أبي حنيفة فهو ضعيف لا يجوز الاحتجاج ولا معارضة الأحاديث الصحيحة به، وعلى فرض صحته فإن معناه: لا يُحبس عن وارث شيءٌ جعله الله له

(4)

، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. والوقف عقد لازم بصدوره من الواقف حال حياته وليس للوارث فيه شيء، ومما يدل على بطلانه أن وقف النبي صلى الله عليه وسلم ووقف عمر كان بعد خيبر سنة سبع، وآية المواريث نزلت سنة ثلاث بعد أُحد.

• الوجه العشرون: الحديث دليل على أنه يجوز للواقف أن يشترط جزءًا من ريع وقفه وأن يستفيد منه؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن إن كان هو ناظر الوقف أو غيره، فدل على صحة الشرط.

(1)

يكون الوقف لازمًا عند أبي حنيفة إذا دلَّ دليل خارجي على لزومه ككونه مسجدًا؛ لأنه حق خالص لله تعالى، أو حكم بلزومه حاكم، أو خرج مخرج الوصية بأن يجعله بعد موته. ["أحكام الوصايا والأوقاف" ص (264)].

(2)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 96)، والدارقطني (4/ 68)، والبيهقي (6/ 162) من طريق عبد الله بن لهيعة، ثنا عيسى بن لهيعة، عن عكرمة، قال: سمعت ابن عباس

الحديث. وهذا سند ضعيف، قال الدارقطني عقبه:(لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه، وهما ضعيفان) وحكم عليه ابن حزم في "المحلى"(10/ 178) بأنه حديث موضوع.

(3)

"شرح معاني الآثار"(4/ 95).

(4)

انظر: "النهاية"(1/ 329).

ص: 21

• الوجه الحادي والعشرون: اختلف العلماء في حكم بيع الوقف على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يجوز بيع الوقف بحال، وهذا قول مالك والشافعي

(1)

، واستدلوا بعموم هذا الحديث.

الثاني: أنه يجوز بيعه والرجوع فيه، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به، ورجع عن بيع الوقف

(2)

.

القول الثالث: أنه لا يجوز بيع الوقف ولا إبداله إلا إذا تعطلت منافعه بالكلية، ولم يمكن الانتفاع به ولا تعميره وإصلاحه؛ كدار انهدمت، أو أرض عادت مواتًا ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، أو ضاق بأهله ولم تمكن توسعته في موضعه، أو مَتْجرٍ قَلَّ العائد منه، ونحو ذلك.

وهذا قول الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

وتلميذه ابن القيم

(4)

. واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نُقِبَ بيت المال الذي في الكوفة: (أن انقل المسجد الذي بالتمَّارين، واجعل بيت المال في قبلته، فإنه لن يزال في المسجد مصلٍّ)

(5)

. وكان هذا بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم ولم يظهر خلافه فكان إجماعًا.

(1)

"الكافي"(2/ 1012)، "المهذب"(1/ 578).

(2)

"الهداية"(3/ 13)، "فتح الباري"(5/ 403).

(3)

"المغني"(8/ 221)، "الفتاوى"(30/ 404)(31/ 206، 212، 220، 252 - 253).

(4)

"بدائع الفوائد"(3/ 127 - 128).

(5)

أخرجه أحمد، كما في "الفتاوى"(30/ 405)، والطبراني في "الكبير"(9/ 216) من طريق المسعودي، عن القاسم، قال: (لما قدم عبد الله بن مسعود إلى بيت المال

الحديث)، وإسناده جيد إلى القاسم، والقاسم لم يسمع من جده عبد الله بن مسعود، بل روى عنه مرسلًا، كما ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب"(8/ 288)، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإمام أحمد احتج به، وساقه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 275) وعزاه للطبراني فقط. وقوله:(نقب) بفتح النون والقاف أي: تخرق، وبضم النون وكسر القاف بمعنى سُرق.

ص: 22

كما شبهه الإمام أحمد بالهدي الذي يَعْطَبُ قبل بلوغه مَحِلَّه، فإنه يذبح في الحال وتترك مراعاة المحل، لإفضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية.

وهذا أرجح الأقوال في المسألة؛ لأن بقاء العين الموقوفة بلا منفعة لا فائدة للواقف منه، وحرمان له من ثوابه، وإذا كان المقصود من الوقف الانتفاع على الدوام فإن ذلك يتم في عين أخرى.

بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى جواز بيع الوقف إذا كان بيعه أصلح وأنفع، كأن يكون إبداله بغيره أكثر ريعًا وأنفع للموقوف عليهم، وهذا رواية عن الإمام أحمد

(1)

.

وحيث قلنا بجواز بيعه فإن الناظر لا يستقل ببيعه، ولا سيما في الصورة الأخيرة، بل يرفع الأمر إلى قاضي البلد، ليبعث من ينظر في الأمر، ويقرر أن هذا الوقف تعطلت منافعه أو قلَّت، ثم يباع ويصرف ثمنه في غيره مما يكون وقفًا، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الفتاوى"(31/ 219، 229)، "الاختيارات" ص (182).

ص: 23

‌حكم وقف المنقول

929/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ. الْحَدِيثَ، وَفيهِ:"وَأمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ في سَبِيلِ اللهِ"، مُتَّفَق عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم تخريجه في كتاب "البيوع"، حيث إن الحافظ ساق طرفًا منه في باب (الوكالة) برقم (886) وقد رواه البخاري (1468)، ومسلم (983) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عَمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله

الحديث، وتقدم سياقه بتمامه.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا) أي: تنقصونه حقه حيث تنسبونه إلى البخل بالزكاة، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تفخيمًا لشأنه، وهو خالد بن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي، ابن أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أشراف قريش في الجاهلية وشجعانهم، شهد معهم الحروب إلى الحديبية، ثم أسلم سنة سبع أو ثمان. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة مؤتة والفتح والطائف، وقاتل أهل الردة وفارس والروم، وفَتَحَ دمشق.

ص: 24

مات سنة إحدى وعشرين في المدينة، وقيل: في حمص رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (احتبس) أي: حبس، وتقدم أن التحبيس من ألفاظ الوقف، فالمعنى: أنه وضع أدراعه وأعتاده حبيسة لا يُتصرف فيها.

قوله: (أدراعه) جمع درع، والدرع: قميص من حلقات من الحديد متشابكة يلبس للوقاية من السلاح، وتقدم ذلك في باب "ضمان العارية".

قوله: (وأعتاده) جمع عَتَد -بفتح العبن- والعتاد: آلات الحرب من سلاح ودواب وغير ذلك.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز وقف المنقولات التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها؛ كالأدراع والأسلحة، ومثل ذلك الأواني والكتب والحيوان والأجهزة الكهربائية ونحوها، وأن الوقف لا يختص بالعقار. قال إبراهيم النخعي:(كانوا يحبسون الفرس والسلاح في سبيل الله)

(2)

.

• الوجه الرابع: مشروعية الدفاع عن المظلوم، وهو واجب لقوله صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"

(3)

.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينبغي بيان حجة الدفاع لتقويته والطمأنينة إليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عن خالد بن الوليد لما قيل: إنه منع الزكاة، وذلك لأنه رضي الله عنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، إما من الزكاة فيكون قد أداها، وإما تطوعًا، والمتطوع بالمال لا يمتنع من الواجب فيه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستيعاب"(3/ 163)، (الإصابة" (3/ 70).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 251).

(3)

أخرجه البخاري (2443).

ص: 25

‌باب الهبة

في بعض نسخ "البلوغ" المطبوعة، ونُسخ الشرح:"باب الهبة والعمرى والرقبى"، وفي الأصول المخطوطة الاقتصار على الأول.

والهبة: بكسر الهاء وفتح الباء، أصلها من هبوب الريح؛ أي: مروره، وهي مصدر وهب يَهَبُ هِبَةً، ووَهْبًا، ووَهَبًا -بإسكان الهاء وفتحها- وأصلها: وهْبة، فحذفت الواو من المصدر تبعًا للمضارع والأمر، وعوض عنها تاء التأنيث وجوبًا مثل: وعد يعد عدة، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة.

ومعناها لغة: إيصال النفع إلى الغير بما ينفعه، سواء أكان مالًا أم غير مال.

واصطلاحًا: تمليك في الحياة بلا عوض.

والتمليك: جعل الغير مالكًا للشيء، وهذا يخرج العارية فليس لها أحكام الهبة؛ لأن العارية إباحة العين لا تمليكها؛ لأنه ينتفع بها ويردها.

وقولنا: (في الحياة) فيه بيان وقت الهبة وأنه حال الحياة، وهذا يخرج الوصية؛ لأن الوصية بعد الموت.

وقولنا: (بلا عوض) أي: بلا مقابل، وهذا يخرج البيع؛ لأنه تمليك بعوض معلوم.

وهذا التعريف خاص بالهبة المطلقة، وهي التي قُصِدَ بها التودد، أما هبة الثواب، وهي التي يقصد بها واهبها العوض والمكافأة عليها فستأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر جمهور الفقهاء أن الهبة والهدية والصدقة والعطية ذات معان متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بلا عوض، واسم العطية شامل لجميعها،

ص: 26

وكذا الهبة غير أن هناك تغايرًا بين الصدقة والهبة والهدية، فإن كان المقصود ثواب الآخرة فهو صدقة، وإن كان المقصود نفع المتبرع له فهو هبة

(1)

، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة

(2)

.

والهبة جائزة بالنص والإجماع، لما فيها من المصالح، كما سيأتي -إن شاء الله- إلا إذا اقترن بها محذور شرعي، كما لو جاءت على هيئة رشوة لقاضٍ أو موظف أو معلم، ونحو ذلك، فإنه يحرم دفعها وقبولها، ويجب ردها، ومن القواعد الفقهية المقررة:(ما حَرُمَ على الآخذ أخذه، حَرُمَ على المعطي إعطاؤه)

(3)

، ومن ذلك هبة بعض الأولاد دون بعض، كما سيأتي إن شاء الله.

* * *

(1)

"المغني"(8/ 241)، "المطلع" ص (291).

(2)

سيأتي -إن شاء الله- ما يدل على ذلك، وانظر: "فتح الباري (5/ 203 - 204).

(3)

انظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (3/ 140).

ص: 27

‌النهي عن تفضيل بعض الأولاد في الهبة

930/ 1 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَاهُ أتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هذَا غُلَامًا كانَ لِي، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هذَا؟ "، فَقَال: لَا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَارْجِعْهُ".

وَفي لَفْظٍ: فَانْطَلَقَ أَبِي إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتي. فَقَال: "أفَعَلْتَ هذَا بِوَلَدِكَ كلِّهِمْ؟ "، قَال: لَا، قَال:"اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَينَ أَوْلَادِكم"، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَال: "فَاشْهِدْ عَلَى هذَا غَيرِي"، ثُمَّ قَال:"أيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ في الْبِرِّ سوَاءً؟ " قَال: بَلَى، قَال:"فَلَا إِذَنْ".

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (الهبة للولد)(2586)، ومسلم (1623)(9) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه عن النعمان بن بشير، أن أباه

وذكر الحديث.

وأخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623)(13) من طريق حصين، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهد على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفعلت هذا بولدك كلهم؟ "

الحديث. واللفظ لمسلم.

ص: 28

وأخرجه مسلم (1623)(17) من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال:"أكلَّ بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ " قال: لا. قال: "فاشهد على هذا غيري

لحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن أباه) هو أبو النعمان، بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، شهد العقبة، ثم شهد بدرًا وما بعدها، ويقال: إنه أول أنصاري بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة، استشهد مع خالد بن الوليد بعين التمر قرب الكوفة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة

(1)

.

وأما ولده النعمان فقد تقدمت ترجمته في باب (صلاة الجمعة) عند الحديث (458).

قوله: (إني نَحَلْت) بفتح النون والمهملة؟ أي: أعطيت، يقال: نحلته أنْحَلُهُ نُحلًا بالضم: إذا أعطيته، والنِّحْلَةُ: بالكسر هي العطية، وعرَّفها علماء اللغة: بأنها العطية عن طيب نفس من غير عوض، وفرق الراغب بين الهبة والنحلة: بأن النحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة، وليس كل نحلة هبة، ولذا سُمي الصداق نحلة، إذ لا يجب في مقابلته أكثر من التمتع دون عوض مالي، وكذا عطية الرجل ابنه

(2)

.

قوله: (ابني هذا) هو النعمان، وقد تضافرت الروايات أنه كان صغيرًا، فقد جاء في "الصحيحين"

(3)

: (فأخذ بيدي وأنا غلام، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية مسلم المذكورة:(انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها؛

(1)

"الاستيعاب"(2/ 12)، "الإصابة"(1/ 262).

(2)

"المفردات" ص (485).

(3)

"صحيح البخاري"(2650)، "صحيح مسلم"(1623)(14).

ص: 29

لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل

(1)

.

قوله: (غلامًا) الغلام تارة يراد به الصبي الصغير الذي هو دون البلوغ، وتارة يراد به الرقيق، وهو المراد هنا، ويطلق -أيضًا- على الأجير والخادم.

قوله: (أكل ولدك نحلته) كلَّ: بالنصب مفعول لفعل محذوف يفسره المذكور، والمعنى: أأعطيت بقية أولادك كما أعطيت هذا؟ وهذا استفهام حقيقي للاستخبار، يطلب به الجواب، فلذا أجاب بشير بقوله: لا.

قوله: (فارجعه) بهمزة الوصل؛ لأنه أمر من الثلاثي (رجع)، والضمير يعود على الغلام، والمعنى: ارتجع الغلام؛ لأنه سيوقع في المحذور من القطيعة والعقوق والبغضاء.

قوله: (ليشهده على صدقتي) المراد بالصدقة: النحلة، وتقدم أنها بمعنى الهبة. وسبب هذا الإشهاد ما جاء في رواية البخاري عن النعمان قال:(سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله)، زاد مسلم من هذا الوجه: (فالتوى بها سنة؛ أي: مَطَلَها، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث)

(2)

. وقد دلت هذه الرواية على أن أم النعمان، وهي عمرة بنت رواحة هي التي طلبت من بشير بعض الموهبة لابنها النعمان، وكان له أولاد من غير عمرة.

قوله: (واعدلوا بين أولادكم) أي: بالتسوية بينهم في العطية والبر والإحسان.

قوله: (فأشهد على هذا غيري) هذا أمر من (أشهد) الرباعي، وهمزته همزة قطع، والظاهر أنه أمر تهديد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من المباشرة لهذه الشهادة معللًا بأنها جور، كما جاء في الروايات الأخرى:"لا تشهدني على جور"، "لا أشهد على جور" وسياق الحديث يدل على ذلك.

(1)

"فتح الباري"(5/ 212).

(2)

"صحيح البخاري"(2650)، "صحيح مسلم"(1623)(14).

ص: 30

قوله: (فلا إذن) أي: فلا تُفَاضِلْ بينهم في العطية. وقوله: (إذن) أي: إذا أردت أن يكونوا لك في البر سواء؛ لأنك إن فاضلت فلن يكونوا كذلك.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب العدل بين الأولاد في العطية وتحريم التفضيل بينهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير تصرفه هذا، وسماه جورًا، وأمر برده، وامتنع عن الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب.

وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق، وحكاه ابن حزم عن جمهور السلف، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز

(1)

.

القول الثاني: أن المساواة مستحبة وليست بواجبة، والتفضيل مكروه، وهذا مذهب الجمهور، فيجوز التفضيل، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحلها جادَّ عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: والله يا بُنية ما منَ الناس أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هو أخوك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله

) الحديث

(2)

.

كما استدلوا بحديث النعمان هذا، لقوله:"أشهد على هذا غيري" فإنها تقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح الإشهاد إلا على أمر جائز، ويكون امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشهادة على وجه التنزه.

وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة عشرة ذكرها الحافظ، وكلها غير ناهضة؛ كقولهم: إن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، فلذلك منعه

(1)

"المغني"(8/ 256)، "المحلى"(9/ 142).

(2)

أخرجه مالك (2/ 752)، والبيهقي (6/ 170 - 178)، قال في "الإرواء" (6/ 61):(سنده صحيح على شرط الشيخين) وقوله: (جادَّ عشرين وسقًا) الجاد: بمعنى المجدود؛ أي: المقطوع، والمعنى: أعطاها نخلًا يجد منه عشرون وسقًا، والغابة: موضع على بريد من المدينة في طريق الشام.

ص: 31

النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حجة فيه على منع التفضيل، حكاه ابن عبد البر عن مالك، وَرُدَّ هذا بأن طرق الحديث مصرحة بالبعضية، ومنها رواية مسلم، قال:"تصدق عليَّ أبي ببعض ماله".

ومنها: أن العطية المذكورة غير منجزة، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه بألا يفعل، فترك، حكاه الطبري، ورد هذا بأن قوله:"فارجعه" يشعر بالتنجيز

(1)

.

والقول الأول أرجح، لقوة مأخذه، فإن الحديث نص واضح في التحريم، فإنه قال:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" والأمر يقتضي الوجوب، ولأن تفضيل بعضهم على بعض ذريعة واضحة إلى حصول القطيعة والعقوق من المفضَّل عليهم لأبيهم، كما أنه سبب لعداوتهم لإخوانهم المفضَّلين، وهذا مشاهد عيانًا، وقد روى ابن أبي شيبة، عن إبراهيم النخعي أنه قال:(كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَلِ)

(2)

.

وأما استدلال أصحاب القول الثاني بقصة عائشة رضي الله عنها فلا يعارض فعل أبي بكر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعل صحابي عارض نصًّا، فلا يقبل كما في الأصول، ثم إنه يتطرق إليه احتمالات عديدة يسقط معها الاستدلال به، ومنها: أنه خصها لحاجتها وعجزها مع اختصاصها بالفضل وكونها أم المؤمنين، أو نحلها ونحل غيرها، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت، ولا بد من حمله على أحد هذه الوجوه؛ لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من حال أبي بكر رضي الله عنه اجتناب المكروهات

(3)

.

وأما الاستدلال برواية: "فأشهد على هذا غيري" فليس بقوي؛ لأن هذه الصيغة وإن كان ظاهرها الإذن، إلا أنها مشعرة بالتوبيخ والتنفير الشديد عن

(1)

"المحلى"(9/ 145)، "فتح الباري"(5/ 214).

(2)

"المصنَّف"(11/ 221).

(3)

"الشرح الكبير"(17/ 65).

ص: 32

ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من المباشرة لهذه الشهادة معللًا بأنها جور، فكيف يأذن لغيره بان يشهد على الجور والظلم، وبقية ألفاظ الحديث تفيد هذا، ثم إن بشيرًا لو فهم الإذن من هذه الصيغة لامتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب لإشهاد غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرُدَّ العطية.

• الوجه الرابع: ظاهر الحديث المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرًا في عطيته، ولأن المعنى موجود وهو حصول القطيعة والعقوق والبغضاء، وهذا قول في مذهب الحنابلة، وهو قول ابن حزم

(1)

.

وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى جواز التفضيل إذا وجد سبب يقتضيه، كأن يخص بعضهم لحاجة، أو زَمَانَةٍ، أو عمى، أو كثرة عيال، أو لاشتغال بطلب العلم، ويمنع بعض ولده لفسقه، أو لكونه يستعين بما يأخذ على معصية الله.

وقد اختار ابن قدامة وابن تيمية هذه الرواية، وقواها صاحب "الإنصاف"، واختارها الشيخ محمد بن إبراهيم

(2)

.

واحتجوا بما تقدم في قصة عائشة رضي الله عنها، ولأن بعض هؤلاء اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يخص بها كما لو اختص بالقرابة.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أنه لا يجوز التفضيل لأي سبب، لقوة دليل هذا القول، فإن وجد سبب للتفضيل فإنه يكون من باب النفقة على هذا العاجز لمرض أو كثرة عيال أو نحو ذلك، لوجوب الإنفاق عليه، فإن أراد زيادة أستاذن البقية.

• الوجه الخامس: اختلف العلماء في كيفية التسوية بين الأولاد في العطية على قولين:

(1)

"المحلى"(9/ 142). "المغني"(8/ 258).

(2)

"المغني"(8/ 258)، "الفتاوى"(31/ 295)،، الإنصاف" (7/ 139)، "فتاوى ابن إبراهيم" (9/ 213).

ص: 33

الأول: أن الذكر والأنثى سواء، فيُعطَى الأنثى مثل ما يُعطَى الذكر لا فرق بينهما، وهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن الإمام أحمد

(1)

، واستدلوا بظاهر الحديث وهو قوله:"سوِّ بينهم"، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما:"سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء"

(2)

.

القول الثاني: أن المساواة على قدر إرثهم، فيعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا قول الإمام أحمد في المشهور عنه، وإسحاق، وبعض الشافعية، وبعض المالكية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز

(3)

.

واحتجوا بأن ما أُعطي هذا الموهوب هو حظه من مال الواهب إذا مات، وهذا فيه اقتداء بقسمة الله تعالى؛ لأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيكون الإعطاء على هيئة الميراث هو العدل.

وهذا القول هو الراجح، لقوة دليله، ولأن الذكر أحوج من الأنثى، ذلك أنهما إذا تزوجا جميعًا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد كلها على الذكر، والأنثى لها ذلك، فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته.

قال ابن القيم: (عطية الأولاد المشروع أن تكون على قدر مواريثهم؛

(1)

"المبسوط"(12/ 56)، "المدونة"(3/ 1617)، "المهذب"(1/ 453)، "الإنصاف"(7/ 136).

(2)

أخرجه ابن عدي (3/ 380)، والبيهقي (6/ 177)، والخطيب في تاريخه (11/ 108) من طريق سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه الحافظ في "فتح الباري"(5/ 214) مع أن في إسناده سعيد بن يوسف الرحبي، وهو متفق على ضعفه، لكن يبدو أن الحافظ اعتمد في تحسينه على كون ابن حبان ذكره في "الثقات"، كما قال الألباني في "الإرواء"(6/ 67)، وقد ساق ابن عدي في "الكامل" الحديث واعتبره مما أنكر عليه، ثم إن يحيى بن أبي كثير مدلس، كما قال النسائي وجماعة، وقد روى عن عكرمة بالعنعنة.

(3)

"روضة الطالبين"(5/ 379)، "فتح الباري"(5/ 214)، "الاختيارات" ص (184)، "الإنصاف"(7/ 126)، "فتاوى ابن إبراهيم"(9/ 212)، "فتاوى ابن باز"(20/ 47).

ص: 34

لأن الله تعالى منع ما يؤدي إلى قطيعة الرحم، والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل، فيفضي ذلك إلى العداوة، ولأن الشرع أعلم بمصالحنا، فلو لم يكن الأصلح التفضيل بين الذكر والأنثى لما شرعه الله، ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى

)

(1)

.

وأما حديث النعمان فهو حكاية حال لا عموم لها، ولا نعلم حال أولاد بشير رضي الله عنه هل فيهم أنثى أو لا؟ ثم قد تحمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى، أو أن المراد بالتسوية في أصل العطاء؛ أي: يعطي الجميع، لا في صفة العطاء.

وأما حديث ابن عباس فهو حديث ضعيف لا يحتج به في مقابل الأحاديث الصحيحة، وأما تحسين الحافظ لإسناده فليس في محله، فإن سعيد بن يوسف الرحبي متفق على ضعفه، كما تقدم.

لكن لو أعطى بعضهم شيئًا يحتاجه، والثاني لا يحتاجه، مثل أن يحتاج بعض الأولاد إلى أدوات مدرسية، أو يحتاج إلى علاج، أو زواج، فلا بأس أن يخصه بما يحتاج إليه؛ لأن هذا من أجل الحاجة، فأشبه نفقة الطعام والشراب والكساء والمسكن

(2)

.

وأما انفراد أحد الأولاد بالبر والعطف على والديه فلا يعد سببًا لتخصيصه بالعطية من أجل بره؛ لأن المتميز بالبر لا يجوز أن يعطى عوضًا عن بره؛ لأن أجره على الله، ولأن تمييز البار بالعطية قد يؤدي إلى أن يُعجب ببره ويرى أن له فضلًا، وقد يَنْفِرُ الآخر ويستمر في عقوقه، ثم إن القلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء، فقد تتغير الأحوال ويصير البار عاقًا والعاق بارًا

(3)

.

وإن أعطى ولده من أجل عمله في تجارة أبيه أو زراعته أو صناعته فلا بأس، إذا كان الابن قد نوى الرجوع على أبيه ولم ينو التبرع؛ لأن هذا ليس

(1)

"بدائع الفوائد"(3/ 156).

(2)

انظر: "الاختيارات" ص (185).

(3)

انظر: "حقوق دعت إليها الفطرة" لابن عثيمين ص (17).

ص: 35

من باب التخصيص، وإنما هو من باب الإجارة مقابل عمله، وليس في هذا ظلم لبقية الأولاد؟ لأنهم لم يقوموا بمثل ما قام به مما كان له أثر في تجارة والدهم

(1)

.

• الوجه السادس: الأم كالأب في وجوب التسوية بين الأولاد في العطية

(2)

، وعدم جواز التفضيل، لأمرين:

الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، ولأن الأم أحد الوالدين.

الثاني: أن ما يحصل بتخصيص الأب بعض أولاده من الحسد والعداوة والعقوق يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها.

• الوجه السابع: اشتمل الحديث على فوائد كثيرة، منها:

1 -

مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال، لقوله في إحدى الروايات:"ألك ولد غيره" قال: نعم، قال:"أفكلهم أعطيت مثله؟! قال: لا، قال: "لا أشهد".

2 -

أن ما وقع من الأحكام على خلاف الشرع فإنه يبطل ولا يجوز تنفيذه.

3 -

وجوب المبادرة إلى قبول الحق من غير تأخير ولا حرج في النفس.

4 -

أنه ينبغي الرجوع في المعاملات ونحوها إلى العلماء.

5 -

مشروعية الاشهاد على الهبة والاحتياط في العقود بشهادة الأفضل والأكبر، والله أعلم.

(1)

"فتاوى ابن إبراهيم"(9/ 214 - 215)، "فتاوى ابن باز"(20/ 52 - 53).

(2)

انظر: "روضة الطالبين"(5/ 379)"الشرح الكبير"(17/ 67).

ص: 36

‌تحريم الرجوع في الهبة

931/ 2 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيئِهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

وَفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "لَيسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجعُ في قَيئِهِ".

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (هبة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها)(2589)، ومسلم (1622)(9) من طريق وهب، حدثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به مرفوعًا.

ورواه البخاري في باب (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته)(2622) من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لنا مثل السوء"

الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (العائد في هبته) أي: الراجع في الهبة التي أعطاها، وهذا هو المشبه.

قوله: (كالكلب يقيء) هذا هو المشبه به، والقيء: بفتح فسكون، مصدر قاء: إذا أخرج ما بداخله.

قوله: (ثم يعود في قيئه) أي: ما تقيأه، من إطلاق المصدر على اسم المفعول؛ أي: يعود يأكل في قيئه، وفي رواية لهما: "كالكلب يقيء ثم يعود

ص: 37

فيه فَيأكله"، وعند أبي داود والنسائي: "مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه"

(1)

.

والغرض من هذا التشبيه: تقبيح حال المشبه -وهو العائد في هبته- والتنفير منه، بتصويره للسامع بصورة قبيحة، وذلك بإلحاقه بمشبه به تستقذره النفس وتنفر منه.

قوله: (ليس لنا مثل السوء) أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة شابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحواله. قال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] والمثل: بمعنى الصفة.

والسوء: بفتح السين بمعنى السُّوأى، وبضم السين مقصورًا كطوبى؛ أي: الصفة القبيحة، فهو من إضافة الموصوف لصفته.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم العودة في الهبة؛ لأن هذا من لؤم الطبع والدناءة، إذ إن الرجوع دليل على تعلق قلب الواهب بما وهب، وأنه لم يُعْطِ ذلك من نفس سمحة.

ووجه الدلالة: أنه عُرِفَ من الشرع أن مثل هذا الأسلوب يراد به الزجر الشديد والتنفير من الفعل. قال ابن دقيق العيد: (وقد ورد التشديد في التشبيه من وجهين:

أحدهما: تشبيه الراجع بالكلب.

الثاني: تشبيه الرجوع فيه بالقيء)

(2)

.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم الرجوع في الهبة على قولين:

الأول: تحريم الرجوع في الهبة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، لهذا الحديث، كما تقدم، واستثنوا هبة الوالد لولده جمعًا بين هذا الحديث وحديث النعمان المتقدم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

(1)

"سنن أبي داود"(3540)،، سنن النسائي" (6/ 266).

(2)

"إحكام الأحكام"(4/ 137).

ص: 38

قال البخاري: (بابٌ لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته)، قال الحافظ:(هكذا بتَّ في الحكم في هذه المسألة، لقوة الدليل عنده فيها)

(1)

، وقال:(لا فرق في الحكم بين الهدية والهبة، وأما الصدقة فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض).

كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده"، وسيأتي تخريجه والكلام عليه بعد هذا الحديث.

والقول الثاني: جواز الرجوع في الهبة إذا كانت لأجنبي، ولا يجوز إذا كانت لذي رحم، أو اقترن بها ما يمنع الرجوع كأن يعوضه عنها، أو تزيد زيادة متصلة كالسِّمَنِ، أو يموت أحد المتعاقدين ونحو ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة

(2)

.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الواهب أحق بهبته ما لم يُثَبْ منها"، ومعنى (ما لم يثب): ما لم يعوض، قالوا: فأثبت للواهب الأحقية، ومعناها الرجوع.

وأما ذو الرحم فلا يجوز الرجوع في هبته؛ لأن هذا من صلته، ففرقوا بين الأجنبي والرحم، بأن هبة القريب صلة، والصلة لا يجوز قطعها، وهبة الأجنبي تبرع، له أن يمضيه أو لا يمضيه.

وأجابوا عن حديث الباب بأن المراد به التغليظ في الكراهة وليس التحريم؛ لأن الكلب غير متعبد، فالأكل من قيئه ليس حرامًا عليه، فيكون التشبيه وقع في أمر مكروه في الطبيعة لتئبت به الكراهة في الشريعة

(3)

.

وكذا أجابوا عن حديث: "لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية

" بأن المراد به التغليظ في الكراهية؛ كقوله: "لا تحل الصدقة لغني" فإنه لا يستلزم التحريم، وإنما معناه: لا تحل له من حيث تحل لغيره من دون الحاجة.

(1)

"فتح الباري"(5/ 235).

(2)

"تكملة فتح القدير"(9/ 39).

(3)

"شرح معاني الآثار"(4/ 77 - 78).

ص: 39

والصواب القول الأول، فإن الرجوع مع كونه مصادمًا للسنة فهو فاسد؛ لأن الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في ملكه وجاز له التصرف فيها، فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه، وهذا باطل عقلًا وشرعًا

(1)

.

وأما حمل أصحاب القول الثاني حديث الباب على الكراهة، فهو مردود من وجهين:

الأول: أنه تأويل مستبعد يرده سياق الحديث.

الثاني: أن عُرْفَ الشرع في مثل هذا الأسلوب يراد به المبالغة في الزجر الشديد، كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب، ونقر الغراب، والتفات الثعلب ونحو ذلك، ويؤيد التحريم حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم الآتي.

وأما حديثهم فهو ضعيف، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- ولو ثبت لكان محمولًا على من وهب ليتعوض من هبته ويثاب عليها فلم يفعل المتهب، فللواهب الرجوع، كما سيأتي

(2)

.

• الوجه الخامس: تحريم الرجوع في الهبة محمول عند الجمهور على الهبة التي تم قبضها من المتهب، كما قال النووي وغيره

(3)

، قالوا: فالقيء في الحديث بمنزلة إقباض الهبة؛ لأن القيء يخرجه من بطنه، والهبة يخرجها الواهب من يد المتهب، فإذا عاد الواهب بعد الإقباض صار بمنزلة الكلب يعود في قيئه.

أما إذا كانت الهبة لم تقبض فإنها غير لازمة -على القول الراجح في أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض- فيجوز الرجوع فيها

(4)

.

(1)

"إعلام الموقعين"(2/ 315).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 71)، "فتح الباري"(5/ 235).

(4)

انظر: "الإنصاف"(7/ 123).

ص: 40

وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية تحريم الرجوع ولو لم تقبض الهبة، لما في ذلك من إخلاف الوعد

(1)

، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاختيارات" ص (331)، "جامع العلوم والحكم" حديث (48)، "الفروع"(6/ 415)، "الإنصاف"(11/ 152).

(2)

أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59)، وسيأتي شرحه في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ص: 41

‌جواز رجوع الوالد في هبته لولده

932/ 3 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إلا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبّانَ، وَالْحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (8/ 427 - 428)، وأبو داود في كتاب "البيوع"، باب (الرجوع في الهبة)(3539)، والترمذي (2377)، وابن حبان (11/ 524)، والحاكم (2/ 46) كلهم من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعًا.

وزادوا جميعًا إلا ابن ماجه: "ومثل الذي يعطي العطية، ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل، حتى إذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه".

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) والحديث رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عمرو بن شعيب، فقد روى له أصحاب السنن، وهو صدوق

(1)

.

• الوجه الثاني: في الحديث دليل على جواز رجوع الوالد في هبته لولده صغيرًا كان أم كبيرًا، ولأن الوالد له أن يتملك من مال ولده ما شاء، فلأن يسترد منه ما وهب له من باب أولى، وقد استدل الفقهاء على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (12/ 441).

ص: 42

"أنت ومالك لأبيك"

(1)

. وهذا الرجوع يكون في حالتين:

الأولى: إذا فضَّل بعض أولاده على بعض في الهبة، فيرجع في هبته لتلافي ما حصل من التفضيل وما يترتب عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبشير:"أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فارجع" وتقدم ذلك، وهذا الرجوع واجب عليه، وهو أحد الطرق الثلاث للتعديل بين الأولاد إذا وقع التفضيل، فالطريق الأول: أخذ الهبة من أصلها إن لم يكن أعطى البقية شيئًا، والطريق الثاني: زيادة المفضول ليساوي الفاضل، أو إعطاؤه إن لم يكن أعطاه، والطريق الثالث: أخذ الزيادة من المفضَّل ليساوي البقية.

الحالة الثانية: أن يكون الرجوع في الهبة في غير حالة التفضيل، فهذا يجوز، لكن بشرط ألا يؤدي إلى تفضيل بعض الأولاد على بعض، فلو أعطى كل واحد من أولاده عشرة آلاف ريال -مثلًا- ثم رجع على واحد منهم وأخذها منه، فالأصل جواز الرجوع، لكن في هذه الصورة لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى التفضيل.

• الوجه الثالث: ذكر الفقهاء رحمهم الله أن رجوع الوالد في هبته لولده مشروط بما يلي:

1 -

أن تكون الهبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو إرث أو غير ذلك من أنواع التصرف فلا رجوع للأب؛ لأنه إبطال لحق غيره.

2 -

أن لا يتعلق بها حق للغير، كما لو رهنها الولد، أو أفلس وحُجِرَ عليه، فإن زال الرهن وفُكَّ الحجر فله الرجوع.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2291)، والطحاوي في "شرح المشكل"(4/ 277)، وصححه البوصيري، كما في "مصباح الزجاجة"(2/ 202)، والحديث له طرق وشواهد لا تخلو من مقال، بعضها في "العلل" لابن أبي حاتم (1399)، وانظر:"الإرواء"(3/ 323).

ص: 43

3 -

ألا يتعلق بها رغبة الغير للولد، مثل أن يهب ولده مائة ألف ريال، فيرغب الناس فيه فيزوجوه، أو يعطوه دينًا، فهذا فيه أقوال لعل أرجحها التفصيل، وهو أن يرجع بقدر الزائد، ولا يرجع بقدر الدين أو الرغبة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

4 -

ألا يسقط الأب حقه في الرجوع، كما لو قال وهبتك هذا المنزل أو هذه السيارة ولن أرجع فيها، لعموم:"المسلمون على شروطهم"

(1)

.

5 -

ألا تزيد العين زيادة متصلة كالسِّمَنِ، وتعلم الصنعة، فإن زادت فقولان

(2)

.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم رجوع الأم في عطية أولادها على قولين:

الأول: أن لها الرجوع، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية، لكن قيدوه بكون الأب حيًّا، وهو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة مطلقًا، واستدلوا بأن الأم أحد الأبوين، فتكون داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، وقوله:"سووا بين أولادكم"، وقد تقدم أن الرجوع في العطية قد يكون من طرق التسوية.

القول الثاني: ليس لها الرجوع، وهو رواية عند المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بأن هناك فرقًا بين الأم والأب، فإن الأب له أن يتملك من مال ولده ما شاء -كما تقدم- وله ولاية على ولده، ويحوز جميع المال في الميراث، والأم ليست كذلك

(3)

.

والقول الأول وجيه؛ لقوة دليله، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المنتقى" للباجي (6/ 117)، "روضة الطالبين"(5/ 380)، "المغني"(8/ 264)، "الاختيارات"ص (186)، والحديث تقدم تخريجه في باب "الخيار" من كتاب "البيوع".

(2)

"المغني"(8/ 264 - 266).

(3)

انظر: "المنتفى"(6/ 177)، "روضة الطالبين"(5/ 379)، "المغني"(8/ 262 - 263)، "نيل الأوطار"(6/ 13 - 14).

ص: 44

‌مشروعية قبول الهدية

933/ 4 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، ويثِيبُ عَلَيهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

934/ 5 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: وَهَبَ رَجُلٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ناقَةً، فَأَثابَهُ عَلَيْهَا، فَقَال:"رَضِيتَ؟ " قَال: لا، فَزَادَهُ، فَقَال:"رَضِيتَ؟ قال: لَا، فَزَادَهُ، فَقَال: "رَضِيتَ؟ " قَال: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحّحَهُ ابنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (المكافأة في الهبة)(2585) من طريق عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

قال البخاري: (لم يذكر وكيع ومحاضر "عن هشام عن أبيه عن عائشة") وهذا فيه إشارة -كما قال الحافظ- إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام، ومثل هذا قال أبو داود والترمذي والبزار.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه أحمد (4/ 424)، وابن حبان (14/ 296) من طريق يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وتمامه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت ألا أتَّهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي ". وهذا إسناد صحيح، لكنه أُعل بالإرسال، فقد ذكر الدارقطني في "العلل"(33/ 11) هذا الإسناد الموصول، ثم ذكر أن سليمان بن حرب وأبا الربيع والقواريري رووه عن حماد، عن عمرو، عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، قال:(وهو الأصح)،

ص: 45

ورواه عبد الرزاق (16521) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، فذكره مرسلًا -أيضًا- ورواه ابن أبي شيبة (12/ 201) من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس كذلك. ورواه البزار (11/ 32) من طريق ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أهدى رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة، فعوضه منها بعض العوض فتسخط، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول:"إن رجالًا من العرب يهدي أحدهم الهدية، فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه، فيظل يتسخط فيه عليَّ، وايم الله لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل من العرب هدية إلا من قرضي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي"

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (كان يقبل) صيغة المضارع بعد الفعل (كان) تدل على كثرة التكرار والمداومة على الفعل، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، وتقدم هذا في "الطهارة".

قوله: (الهدية) بفتح الهاء وكسر الدال بعدها ياء مشددة ثم تاء التأنيث. قال في "القاموس": (الهدية كغنية: ما أُتحف به)

(3)

. يقال: أهديت له وإليه، والتهادي: أن يهدي بعضهم إلى بعض، والجمع هدايا

(4)

.

وفي الاصطلاح الفقهي: دفع عين إلى شخص بقصد الإكرام أو التودد أو المكافأة.

وكلمة (عين) تشمل المال والمتاع وغير ذلك، وتخرج المنفعة فليست بهدية على اصطلاح الفقهاء.

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 310).

(2)

أخرجه أبو داود (3537)، والترمذي (3946)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1684).

(3)

"القاموس"(4/ 494 ترتيبه).

(4)

"اللسان"(15/ 357).

ص: 46

وقولنا: (بقصد الإكرام) فيه بيان الحامل على الهدية، وهذا يخرج الرشوة، فإنه لا يقصد بها شيء من ذلك، وإنما يراد بها الإعانة على أمر لا يحل.

وقد جرت عادة الفقهاء بذكر مباحث الهدية في باب "الهبة"؛ لأن الهدية نوع من الهبة، كما تقدم أول الباب.

قوله: (ويثيب عليها) أي: يعطي المهدي بدلها، والمراد بالثواب المجازاة والمكافأة، وأقله ما يساوي قيمة الهدية.

قوله: (لقد هممت ألا أتَّهب

) بتشديد التاء افتعال من الهبة؛ أي: ألا أقبل الهبة إلا من هؤلاء لقلة طمعهم. قال ابن الأثير: (لأنهم أصحاب مدن وقرى، وهم أعرف بمكارم الأخلاق، ولأن في أخلاق البادية جفاءً، وذهابًا عن المروءة، وطلبًا للزيادة)

(1)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية قبول الهدية وعدم ردها إلا لعذر شرعي؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن في قبول الهدية فوائد كثيرة، من امتثال السنة، وإرضاء المهدي، والنظر إلى هديته بعين الإكبار والتقدير، وفي رد الهدية مخالفة السنة، وكسر قلب المهدي، وإساءة إليه، والله تعالى يقول:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]. وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو دُعيت إلى ذراع أو كُراع لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلت"

(2)

. وعنه -أيضًا رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم)

(3)

.

• الوجه الرابع: لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية قبول الهدية، وإنما الخلاف في وجوب قبولها، على قولين:

(1)

"النهاية"(5/ 231).

(2)

أخرجه البخاري (2568).

(3)

أخرجه البخاري (2576).

ص: 47

الأول: أن قبولها غير واجب بل مستحب، وهذا مذهب الجمهور، من الحنفية والمالكية والشافعية، ورواية في مذهب الإمام أحمد، هي مقتضى قول أصحابه

(1)

.

واستدلوا بما ورد في الأحاديث من قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية مما يدل على مشروعيته واستحبابه، ففيه السنة الفعلية، وهي لا تقتضي الوجوب.

القول الثاني: أن قبول الهدية واجب إذا كانت من غير مسألة ولا إشراف نفس، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو قول ابن حزم الظاهري

(2)

.

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين"

(3)

.

2 -

حديث عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال:"خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك"

(4)

.

3 -

حديث ابن عمر الآتي: "

ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه".

والقول بالوجوب قوي جدًّا -في نظري- لأمور ثلاثة:

1 -

لقوة أدلته.

2 -

ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول الهدية يؤيد ذلك ويقويه.

3 -

ما يترتب على ردها من المفاسد والمساوئ؛ لأن في ردِّ الهدية

(1)

"بدائع الصنائع"(6/ 117)، "التمهيد"(21/ 18)، "روضة الطالبين"(5/ 365)، "الإنصاف"(7/ 165).

(2)

"المحلى"(9/ 152)، "الإنصاف"(7/ 164).

(3)

أخرجه أحمد (6/ 389)، والبخاري في "الأدب المفرد"(157)، وابن أبي شيبة (6/ 555) وغيرهم، وإسناده جيد، فيه محمد بن سابق متكلم فيه، وأقل أحواله أن يكون حديثه من قبيل الحسن، قال الذهبي:(هو ثقة عندي) وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق).

(4)

أخرجه البخاري (1473)، ومسلم (1045)، وتقدم في آخر "الزكاة".

ص: 48

بدون عذر إساءة إلى المهدي من كسر قلبه واحتقار هديته، وكونه تذهب به الظنون في سبب ردها، ولو قيل: بأن قبول الهدية مستحب استحبابًا مؤكدًا جمعًا بين الأدلة لما كان ذلك بعيدًا.

• الوجه الخامس: ظاهر حديث الباب استحباب الإثابة على الهدية، وذهب بعض المالكية إلى وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي، وكان مثله ممن يطلب الثواب كالفقير للغني والمأمور للأمير، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الاستدلال من الحديث:

1 -

مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على إثابته للمهدي.

2 -

أن الذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يُعطى أكثر مما أهدى، فلا أقل أن يعوض بنظير هديته، وهذا يفيد الوجوب.

والأول أظهر، فإن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواظبة؛ لأنه قد يقال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من مكارم الأخلاق، لا لوجوبه.

ومن الفقهاء من جعل الناس في الهدايا على ثلاث طبقات:

1 -

هدية الرجل إلى من هو دونه؛ كهدية المعلم لتلميذه، أو هدية الكبير للصغير، أو هدية الشيخ للطالب، فهذا إكرام وتحبب وصلة، ولا تقتضي الثواب والمكافأة بالمثل.

2 -

هدية النظير لنظيره؛ كهدية الطالب لزميله والصديق لصديقه، وهذه لا تقتضي الثواب -أيضًا-؛ لأن الغالب فيها معنى التودد والتقرب.

3 -

هدية الأدنى إلى الأعلى؛ كهدية الفقير للغني، وهذه تقتضي الثواب والمكافأة عليها بالمثل؛ لأن المعطي يقصد بهديته الرِّفْدَ والثواب

(1)

.

فإن لم يستطع المهدي إليه أن يكافئ على الهدية فَلْيَدْعُ له بما يناسب المقام؛ لأن الدعاء نوع من المكافأة، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه، قال:

(1)

انظر: "معالم السنن"(5/ 187).

ص: 49

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه"

(1)

.

وظاهر قوله: "فادعوا له" أنه يدعوفي وجهه أو عند تقديم الهدية، ولأن هذا أبلغ في مكافأته، ويجوز أن يدعو له بظهر الغيب.

• الوجه السادس: الحديث دليل على أنه لا حرج على من أثيب على هديته وأُعطي عليها مكافأة أن يقبل هذه المكافأة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يثيب على الهدية، والإثابة دليل على جواز قبولها.

• الوجه السابع: ذكر العلماء بعض الموانع من قبول الهدية، وهي مأخوذة من عمومات الشريعة، ومنها ما يلي:

1 -

أن تكون الهدية محرمة لذاتها، كما لو أهدى له آلة لهو أو أهدى كتابًا فاسدًا أو أشرطة فاسدة، أو نحو ذلك، لعموم قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

2 -

أن تكون الهدية حقًّا للغير، كالمغصوب والمسروق ونحوهما، فإن كان المهدي إليه يعلم ذلك حرم عليه قبولها، لما فيه من الإقرار على التعدي على أموال الناس.

3 -

أن يترتب على قبولها محذور شرعي؛ كالهدية للقاضي، أو الموظف، إذا كان يترتب على قبولها إحقاق باطل، أو إبطال حق، ومثله هدية الطالب للمدرس باعتباره مدرسًا.

4 -

ومن موانع قبول الهدية: أن يحصل عند المهدي له أمر عارض يمنع من قبولها، كما رد النبي صلى الله عليه وسلم هدية الصعب بن جثامة رضي الله عنه لما أهدى الحمار

(1)

أخرجه أبو داود (5109)، والنسائي (5/ 82)، والبخاري في "الأدب المفرد"(216)، وأحمد (9/ 266)، والحاكم (1/ 412) وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، وسيأتي شرحه في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ص: 50

الوحشي، وقال:"أما إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرُمٌ"

(1)

، وذلك لأنه لا يجوز للمحرم أن يصيد في نسكه، مع أن الصيد مباح في الأصل. قال ابن بطال:(وفيه أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًّا، فدلَّ هذا أن المهدي إذا كان معروفًا بكسب الحرام أو بالغصب أو الظلم، فإنه لا يجوز قبول هديته)

(2)

. ولعل مراده إذا كان كل ماله حرامًا، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من المرأة اليهودية لما أهدت له الشاة

(3)

.

وكذا لو علم المهدي له أن المهدي قصد بهديته أن يحصل على أكثر منها، وإن لم يُعْطَ أكثر منها فإنه يتسخط، فللمهدى له أن يتوقف في قبول هذه الهدية.

وفائدة معرفة هذه الموانع بيانها للمهدي، لأجل أن يقتنع ولا يحزن إذا ردت هديته وبُيِّنَ له سبب الرد، مع أنه ينبغي لمن رَدَّ الهدية لسبب شرعي ألا يبخل على المهدي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الحق، وألا يحمله تقديم الهدية إليه على أن يسكت أو يداهن إذا كان المهدي وقع في أمر محظور؛ لأن في الإنكار إبراء الذمة واستفادة المهدي، لئلا يقع فيما وقع فيه مرة أخرى، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (2573)، ومسلم (1193). وتقدم في "الحج".

(2)

"شرح ابن بطال"(7/ 90).

(3)

أخرجه البخاري (2617)، ومسلم (2190).

ص: 51

‌ما جاء في العمرى والرُّقْبَى

935/ 6 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَلمُسْلِمٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيكُمْ أَمْوَالكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِي لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيتًا وَلعَقِبِهِ".

وَفي لَفْظٍ: "إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هيَ لَكَ وَلعَقِبِكَ، فَأمَّا إِذَا قَال: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجعُ إِلَى صَاحِبِهَا".

وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائيِّ:"لا تُرْقِبُوا، وَلا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيئًا، أَوْ أُعْمِرَ شَيئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ".

الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (ما قيل في العُمرى والرُّقبى)(2625)، ومسلم (1625)(25) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

ورواية مسلم (1625)(26) جاءت من طريق أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

والرواية الثانية له (1625)(23) من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه. وزاد:(قال معمر: وكان الزهري يفتي به).

ورواه أبو داود (3556) والنسائي (6/ 273) من طريق سفيان، عن ابن

ص: 52

جريج، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُرقبوا"

الحديث.

والظاهر -والله أعلم- أن الحافظ قصد بهذه الروايات بعد اللفظ الأول الذي هو بمثابة القاعدة، بيان أن الرواية الأولى مطلقة، والثانية مقيِّدة لهذا الإطلاق، والرواية الثالثة فيها النهي عن العمرى والرقبى.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (العمرى) بضم العين وسكون الميم، وحكي ضمها، وحكي فتح العين وسكون الميم، مأخوذ من العمر.

واصطلاحًا: أن يعطي الإنسان غيره دارًا -مثلًا- ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدة عمرك. فالعمرى نوع من الهبة؛ لأنها توهب مدة عمر الموهوب له.

قوله: (أمسكوا أموالكم ولا تفسدوها) هذا الأمر والنهي يراد به الإرشاد إلى الأصلح في حفظ أموالهم؛ لأن الإعمار يمنع المالك من التصرف فيما يملِّك رقبته آمادًا طويلة، لا سيما مع التأبيد.

ولا يصح حمله على التحريم لصحة الأحاديث المصرحة بالجواز، ولأن العمرى من أبواب البر والمعروف.

قوله: (فإنه من أعْمَر عمرى) أي: قال لغيره -مثلًا-: أعمرتك هذه الدار، وهذا مطلق، لكنه مقيد بالرواية التي بعدها التي ذكر فيها العَقِبُ، لا سيما والراوي واحد، والقضية واحدة، فيحمل المطلق على المقيد، كما هو مقرر في الأصول.

قوله: (ولعقبه) بفتح العين وسكون القاف: ذرية الإنسان ونسله وورثته الذين يأتون من بعده.

قوله: (إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أمضى جوازها على صفة الدوام، كما تقدم.

قوله: (لا تُرقبوا) بضم التاء من أرقب الرباعي، يقال: أرقبه الدار:

ص: 53

جعلها له رقبى. والرقبى: بضم الراء مأخوذة من المراقبة. قال ابن الأثير: (هو أن يقول الرجل للرجل: قد وهبت لك هذه الدار، فإن مِتَّ قبلي رجعتْ إليّ، وإن مِتُّ قبلك فهي لك، فكل منهما يرقب موت صاحبه .. )

(1)

.

وهي نوع من الهبة -أيضًا- يعلق الرجوع فيها بموت الموهوب له، فالواهب يترقب وفاته، وهذا مأخذ اشتقاقها.

وهذا النهي في قوله: "لا ترقبوا ولا تعمروا" يراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة يملكها الموهوب له هبة تامة، ولا تعود إلى الواهب أبدًا، فإذا علموا ذلك صاروا على بصيرة من أمرهم، فمن شاء أعمر، ومن شاء ترك، ولا يراد به التحريم، لصحة الأحاديث المصرحة بالجواز، كما تقدم.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية العمرى والرقبى، وأنها مُملِّكة لمن وهبت له، لقوله:"العمرى لمن وهبت له"، وهما نوعان من الهبة كانوا يتعاطونهما في الجاهلية، فكان الرجل يعطي الرجل الدار أو غيرها، ويقول: أعمرتك إياها، فكانوا يرقبون موت الموهوب له ليرجعوا في هبتهم، وقد يترتب على ذلك نزاع وعداوة، فجاء الشرع وأقر الهبة، وأبطل الرجوع.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من أُعْمِر عمرى فإنها تكون له مدة حياته ولذريته من بعده، ولا تعود إلى الواهب بحال، سواء كانت العمرى مؤبدة، كأن يقول: هذا الدار لك ولعقبك من بعدك، ونحوه مما يشعر بالتأبيد، أو كانت مطلقة، كأن يقول: أعمرتكها، لقوله: في رواية أبي الزبير، عن جابر:"فإنه من أَعْمر عمرى فهي للذي أُعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه" فهذه الرواية مطلقة عن التأبيد لكنها مقيدة بالرواية التي بعدها: (إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك

)، وعلى هذا فلا ترجع إلى الواهب.

• الوجه الخامس: اختلف العلماء فيما إذا شرط الواهب الرجوع في

(1)

"النهاية"(2/ 249).

ص: 54

هبته، كأن يقول: هذه الدار لك ما عشت فإذا مت رجعت إلي أو إلى ورثتي ونحو ذلك، على قولين:

الأول: لزوم الهبة وصحة الشرط، فإذا مات المُعْمَرُ رجعت إلى المُعْمِرِ، وهذا قول مالك وداود، وجماعة من الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسبه ابن حجر إلى أكثر العلماء

(1)

.

واستدلوا برواية معمر، عن الزهري: (

فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها)، كما استدلوا بعموم:"المسلمون على شروطهم".

والقول الثاني: إلغاء الشرط ولزوم الهبة وتأبيدها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو الأصج عند أكثر الشافعية، وقول أبي حنيفة

(2)

، واختاره الشوكاني

(3)

.

واستدلوا بأن الرجوع يشبه الرجوع في الهبة الذي ورد النهي عنه -كما تقدم- بل ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى جائزة لمن أُعمرها، والرقبى جائزة لمن أُرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه"

(4)

.

فالخلاصة أن العمرى لها ثلاث حالات:

الأولى: أن يصرح المُعْمِرُ -بكسر الميم- بأنها للمعمَر -بفتحها- ولورثته، بأن يقول: هي لك ولعقبك، فهذه هبة محققة لا رجوع فيها، فيأخذها الوارث بعد موته.

الثانية: أن يقتصر على أنها للمعمر مدة حياته، ويطلق فلا يتعرض لما بعد الموت، بأن يقول: أعمرتكها، وهذه كالتي قبلها.

(1)

"الاختيارات" ص (184)، "فتح الباري"(5/ 239).

(2)

"المغني"(8/ 285).

(3)

"نيل الأوطار"(6/ 18).

(4)

أخرجه النسائي (6/ 269 - 270)، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي"(2/ 789).

ص: 55

الثالثة: أن يعمر ويشترط الرجوع، بأن يقول: هي لك ما عشت، فهذه فيها الخلاف.

• الوجه السادس: إذا قال: سكنى هذا الدار لك، أو منحتك غلة هذا البستان، أو خدمة هذا العبد، فهي عارية، له الرجوع فيها متى شاء في حياته وبعد موته؛ لأنها من هبة المنافع، وهبة المنافع إنما تُستوفى شيئًا فشيئًا بمضي الزمان، فلا تلزم إلا في قدر ما قبض منها، والله تعالى أعلم.

ص: 56

‌نهي المتصدق عن شراء صدقته

936/ 7 - عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُه، فَظنَنْتُ أنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ. فَسَألتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَال:"لا تَبْتَعْهُ، وإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ" الْحَدِيثَ. مُتَّفَق عَلَيه.

الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته)(2623)، ومسلم (1625) من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: حملت على فرس في سبيل الله

الحديث. وفي آخره: "فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" وهذا لفظ مسلم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (حملت على فرس) أي: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، وليس المراد أنه وقف؛ إذ لو كان كذلك لما جاز له أن يبيعه، ثم إن قوله:"العائد في هبته " يدل على أنه تمليك وليس تحبيسًا.

قوله: (على فرس) لفظ مسلم: (على فرس عتيق) والعتيق: هو النفيس الجواد السابق.

قوله: (في سبيل الله) أي: في الجهاد، وليس المراد الوقف؛ لما تقدم.

قوله: (فأضاعه صاحبه) أي: لم يحسن القيام عليه، بل قصر في خدمته ومؤنته.

ص: 57

قوله: (فظننت أنه بائعه برُخص) بضم الراء وتسكين الخاء المعجمة؛ أي: بثمن قليل زهيد دون قيمته، وإنما ظن عمر رضي الله عنه ذلك؛ لأنه هو الذي كان أعطاه إياه، فظن أنه سيسامحه في بعض الثمن، وحينئذ يكون ذلك رجوعًا في عين ما تصدق به في سبيل الله، ولهذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائه، وسماه عَوْدًا في الصدقة.

قوله: (لا تبتعه) أي: لا تشتره، ولفظ الشراء هو لفظ البخاري.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على منع المتصدق من شراء صدقته، ووجه المنع أمران:

الأول: أن الصدقة قد خرجت من المال لله تعالى، فلا ينبغي أن تتبعها نفس المتصدق ولا أن تتعلق بها.

الثاني: أن المُتَصَدَّقَ عليه قد يحابيه ويسامحه في بعض الثمن، فيكون راجعًا ببعض صدقته.

ويلحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات، وهذا الحديث محمول على صدقة التطوع، بخلاف الزكاة المفروضة، فإنه لا يتصور الرجوع فيها حتى يكون الشراء مشبهًا للرجوع في الهبة، بخلاف صدقة التطوع فإنه يتصور الرجوع فيها، فكره ما يشبه الرجوع، وهو الشراء

(1)

.

• الوجه الرابع: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن النهي عن شراء الصدقة محمول على كراهة التنزيه، قالوا: لأنه إذا اشتراها فقد ملكها ملكًا جديدًا بطريق آخر، إلا أنه لا يليق به أن يرجع في شيء أخرجه لله تعالى، فكان مكروهًا من هذا الوجه.

وقال القرطبي وأهل الظاهر وجماعة: إن النهي للتحريم؛ لأنه ظاهر الحديث، ولأن هذا هو مقتضى التشبيه بالكلب، كما تقدم في الرجوع في الهبة

(2)

.

(1)

"الإعلام، لابن الملقن (7/ 448)، "نيل الأوطار" (4/ 197).

(2)

"الاستذكار"(9/ 328)، "المفهم"(4/ 579 - 580)، "فتح الباري"(5/ 236 - 237).

ص: 58

فعلى القول الأول لا يُفسخ البيع، لكن الأولى التنزه عن ذلك، وعلى القول الثاني يفسخ البيع؛ لأن النهي يقتضي الفساد.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من حُمل على دابة بأن أُعطيها ليغزو عليها فإنها تكون ملكًا له إذا رجع من الغزو، كما يملك النفقة التي أُعطيها، إلا أن تكون الدابة عارية أو حبيسًا.

ووجه الاستدلال من الحديث: أن الرجل أراد بيع الفرس بعد الرجوع من الغزو، فهذا يدل على أنه ملكه، ولولا ذلك ما باعه

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(13/ 42 - 43).

ص: 59

‌ما جاء في استحباب الهدية وأثرها

937/ 8 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "تَهَادُوا تَحَابُّوا"، رَوَاهُ الْبُخَاريُّ في "الأَدَبِ الْمُفْرَدِ"، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

938/ 9 - وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَهَادُوا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السّخِيمَةَ"، رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(594)، وأبو يعلى (6148)، وابن عدي (4/ 104)، والبيهقي (6/ 169) من طرق عن ضمام بن إسماعيل، قال: سمعت موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وهذا سند حسن، كما قال الحافظ هنا، وفي "التلخيص"

(1)

. ضمام بن إسماعيل وشيخه موسى بن وردان فيهما كلام يسير، قال الحافظ في "التقريب" عن كل واحد منهما:(صدوق، ربما أخطأ).

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البزار "مختصر زوائده"(2/ 533)، والطبراني في "الأوسط"(2/ 316) من طريق محمد بن معمر، حدثنا حميد بن حماد بن أبي خُوار، حدثنا عائذ بن شريح، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، به مرفوعًا.

(1)

(3/ 80).

ص: 60

قال الطبراني: (لم يروه عن أنس إلا عائذٌ). وإسناده ضعيف كما قال الحافظ، حميد بن حماد قال عنه الحافظ في "التقريب":(لين الحديث)، وعائذ بن شريح ضعيف، ضعفه أبو حاتم

(1)

.

وقد ورد في الباب أحاديث أخرى لا يخلو واحد منها من مقال، وبعضها يشتد ضعفه، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا؛ فإن الهدية تذهب وَغَرَ الصدور"

(2)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (تهادوا) بضم الدال، أمر من التهادي؛ أي: تبادلوا الهدايا بينكم، والتهادي: أن يهدي بعضهم إلى بعض، كما تقدم.

قوله: (تحابوا) بضم الباء الموحدة مع التشديد؛ أي: تحصل بينكم المحبة والمودة والأُلفة، والمضارع مجزوم بحذف النون، لوقوعه في جواب الفعل الطلبي، وهو الأمر.

قوله: (في الأدب المفرد) هو كتاب عظيم القدر، جليل الشأن، ألفه الإمام البخاري في الآداب والأخلاق، قال الحافظ ابن حجر:(يشتمل على حديث زائد عما في الصحيح، وفيه قليل من الآثار الموقوفة، وهو كثير الفائدة)، وقد شرحه الشيخ فضل الله الجيلاني (م 1399 هـ) وهو مطبوع في مجلدين.

قوله: (تَسُلُّ) بفتح التاء وضم السين، من باب (نصر) أي: تنزع وتخرج برفق وخفية. قال ابن فارس: (السين واللام أصل واحد، وهو مدُّ الشيء في

(1)

"الجرح والتعديل"(7/ 16).

(2)

أخرجه الترمذي (2130)، وأحمد (15/ 141) وسنده ضعيف، فيه أبو معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي، وهو ضعيف من قبل حفظه، كما قال الترمذي، وقوله:(وَغَرَ) بالغين المفتوحة وسكونها، ويقال: وَحَرَ بالحاء المهملة، الغل والحرارة، وقيل: تجرُّع الغيظ والحقد.

ص: 61

رفق وخفاء، ثم يُحمل عليه)

(1)

. وقال ابن الأثير: (يقال: سلَّ البعير وغيره في جوف الليل: إذا انتزعه من بين الإبل)

(2)

.

قوله: (السَّخِيمة) بفتح السين وكسر الخاء: هي الضغينة والحقد؛ أي: العداوة الثابتة في القلب.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب التهادي بين الناس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالهدية وحث عليها وبين فائدتها وغايتها، ومن ذلك:

1 -

أن الهدية تجلب المحبة، وتوثق عرى المودة؛ لأن النفس مجبولة على حب من أحسن إليها.

2 -

أن الهدية فيها إدخال السرور على النفس، بما يحصل من فرح المهدي إليه بالهدية، وقد يوافق ذلك حاجته إليها، فتكون أكمل موقعًا في النفس، وفيها سرور المهدي بقبول هديته ووقوعها عند المهدي إليه الموقع الملائم.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الهدية قد تكون أفضل من الصدقة؛ كالإهداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته محبة له، ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في الله

(3)

.

3 -

أن الهدية تذهب الحقد والعداوة بين المتعاديين، وتجعل بدله السرور والمودة في نفس المهدي إليه.

يقول ابن العربي: إنما أذهبت الهدية الغيظ لوجوه منها:

1 -

أن القلب مشحون بمحبة المال والمنافع، فإذا وصل إليه شيء منها فرح بها وذهب من غمه بمقدار ما دخل عليه من سرور.

3 -

أن الرجل إذا كان يجد للآخر شيئًا فرآه قد سمح له بماله دلَّه ذلك على إيثاره له على نفسه، فيميل إليه به.

4 -

أنه يستدل به على أنه على ذِكْرٍ منه في المعروف

(4)

.

(1)

"معجم مقاييس اللغة"(3/ 59).

(2)

"النهاية"(2/ 392).

(3)

"الفتاوى"(31/ 269).

(4)

"عارضة الأحوذي"(8/ 293).

ص: 62

وقد جاءت هذه المعاني في أحاديث كثيرة -كما تقدم- وتكلم لها الحكماء، ونطق بها الشعراء

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "بهجة المجالس" لابن عبد البر (1/ 280)، "ربيع الأبرار"(4/ 357) للزمخشري.

ص: 63

‌الحث على التهادي بين الجيران ولو بالقليل

939/ 10 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ"، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الهبة وفضلها والتحريض عليها"(2566)، ومسلم (1030) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يا نساء المسلمات) منادى منصوب بالفتحة، وهو مضاف، والمسلمات مضاف إليه، من إضافة الموصوف إلى صفته؛ كمسجد الجامع

(1)

، ومنه قوله تعالى:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109]، وقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]. والقول بجواز إضافة الموصوف إلى صفته هو رأي الكوفيين والفراء، ومنع من ذلك البصريون، وأوَّلوا ما ورد من ذلك على حذف مضاف إليه غير الموجود، ويكون الموجود صفة له، والتقدير: يا نساءَ الأنفسِ المسلماتِ، أو يا نساء الطوائف المسلمات، ونحو ذلك مما فيه تكلف لا داعي له. والصواب الأول.

ويروى برفعهما على النداء والنعت؛ أي: يا أيها النساءُ المسلماتُ، ويجوز رفع الأول ونصب الثاني على المحل، مثل: يا زيدُ العاقلَ.

(1)

انظر: "إكمال المُعْلِم" للقاضي عياض (3/ 561).

ص: 64

قوله: (لا تحقرن) بالحاء المهملة ساكنة وكسر القاف، من باب (ضرب) يقال: حقُر الشيء -بالضم- حقارة: هان قدره فلا يُعبأ به فهو حقير

(1)

.

قوله: (جارة) مؤنث الجار، والمراد بجارتها: من تجاورها في بيت آخر من بيوت جيرانها، ويطلق على الضرة جارة تطهيرًا لها من الضرر.

قوله: (لجارتها) الظاهر أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف يفهم من السياق، تقديره: لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها، وهذا النهي موجه للمهدية، بألا تستحقر ما تهديه بحيث يؤدي ذلك إلى ترك الإهداء، وموجه للمهداة إليها، فلا تستحقر ما يهدى إليها، ولو كان حقيرًا.

قوله: (ولو فِرْسِنَ شاة) لو: للتقليل، وفرسن: خبر لكان المحذوفة مع اسمها، والفرسن: بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون، هو ظلف الشاة، وهو عُظيم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازًا.

وذكره من باب المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله، وليس المراد حقيقة الفرسن؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه.

* الوجه الثالث: دل الحديث على استحباب التهادي بين الجيران؛ لأن الجيران قد يقع بينهم شيء من الأذى والوحشة بسبب الصبيان أو حالات الجوار، والإهداء من أسباب الألفة والتقارب وإزالة الوحشة كما تقدم.

قال ابن عبد البر: (في هذا الحديث الحض على الصلة والهدية بقليل الشيء وكثيره، وفي ذلك دليل على بر الجار وحفظه؛ لأن من نُدبتَ إلى أن تهدي إليه وتصله فقد مُنعتَ من أذاه وأمرت ببره)

(2)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية قبول الهدية ولو قلّت لما في قبول القليل من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، والهدية إذا كانت يسيرة أدلُّ على المودة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف.

(1)

"المصباح" ص (143).

(2)

"التمهيد"(4/ 295).

ص: 65

ولا ينبغي للمهدى إليه أن يستقل الهدية، فإن العدم أقل من ذلك، وقد يكون استقلالها سببًا في قطعها، وإذا تواصل القليل صار كثيرًا، ويكفي أن صاحب الهدية قد ذكرك وصرت على باله فأهدى إليك.

ثم إن قبول الهدية ولو قَلَّتْ فيه دليل على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: "لو أُهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت"

(1)

. كما أن فيه دليلًا على قناعة الإنسان وعدم احتقاره الشيء القليل الذي يأتي من غيره، وفيه دليل -أيضًا- على رفع الكلفة بين الناس؛ لأن القليل قد يثقل كاهل المهدي، ولا يتيسر له الكثير في كل وقت.

* الوجه الخامس: أنه لا ينبغي للمسلم أن يمتنع عن الإهداء بسبب استصغار ما في يده، وهذه الصفة تظهر عند النساء بكثرة، فعلى المسلم أن يعود أهله على الإهداء ولو كان قليلًا.

* الوجه السادس: إذا كانت المرأة هي المسؤولة في البيت وهي صاحبة المال فلا إشكال في نوع أو قدر الهدية التي تقدمها للجيران؛ لأن المال مالها، فإن كان فوقها أحد من أب أو زوج فإنها لا تهدي إلا ما جرت العادة بإهدائه؛ كقليل الطعام أو الفاكهة أو التمر ونحو ذلك، ولا يحتاج ذلك إلى استئذان، إلا أن يمنعها من ذلك، أو تعلم منه الشح فلا يجوز إلا بإذنه.

* الوجه السابع: الحديث دليل على جواز المبالغة في الكلام إذا ناسب مقتضى الحال، ووجه ذلك أنه لم تجر العادة بإهداء فرسن الشاة -كما تقدم- ولكنه ذكر على سبيل المبالغة في الحث على إهداء الشيء اليسير وقبوله وعدم رده، والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 66

‌حكم هبة الثواب

940/ 11 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيهَا"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحّحَهُ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه الحاكم (2/ 52) - وعنه البيهقي (6/ 180 - 181) - قال: حدثنا أبو أحمد إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي بالكوفة، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرَزَة، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما، به مرفوعًا.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، إلا أن نَكِلَ الحمل فيه على شيخنا).

ويقصد بشيخه: إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي، ولم يتعقبه الذهبي بشيء بل سكت عنه، كما في النسخة المطبوعة مع "المستدرك"، لكن قال المناوي:(وقفت على نسخة من "تلخيص المستدرك" للذهبي بخطه، فرأيته كتب على الهامش بخطه ما صورته: (موضوع). فلينظر بعدُ ما بين الحكم بالصحة والحكم بالوضع من البون)

(1)

والذهبي لما ترجم لإسحاق بن محمد، قال:(روى عنه الحاكم واتهمه)

(2)

. ولما ساق الحافظ في "اللسان"

(1)

"فيض القدير"(6/ 310).

(2)

"الميزان"(1/ 199).

ص: 67

حديثه ومقولة الحاكم: (إلا أن نكل الحمل فيه على شيخنا) تعقبه بقوله: (قلت: الحمل فيه عليه بلا ريب، وهذا الكلام معروف من قول عمر غير مرفوع)

(1)

.

وقد روى الحديث الدارقطني في "السنن"(3/ 43) من طريق علي بن سهل بن المغيرة، حدثنا عبيد الله، به، وقال: الصواب عن ابن عمر، عن عمر، موقوفًا، وكذا قال في "العلل"

(2)

.

والخطأ في هذا الحديث إنما هو من عبيد الله بن موسى، كما نص على ذلك البيهقي في "المعرفة" حيث قال: (وغلط فيه عبيد الله بن موسى، فرواه عن حنظلة، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

والصحيح رواية عبد الله بن وهب، عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، موقوفًا)

(3)

، وتابع ابنَ وهبٍ مَكِيُّ بن إبراهيم، رواه الطحاوي في "شرح المعاني"(4/ 81)، وعليه فتكون رواية الرفع شاذة لمخالفتها رواية الثقتين: مكي بن إبراهيم، وعبد الله بن وهب، وعبيد الله بن موسى ثقة -كما في "التقريب"- إلا أنه وهم في رفع الحديث.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": (روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، قوله، وهذا أصح)

(4)

.

وأخرج مالك عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طَريف المُرّي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:(من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يُرضَ منها)

(5)

.

(1)

"لسان الميزان"(2/ 77).

(2)

(2/ 57 - 58)

(3)

"معرفة السنن والآثار"(9/ 68 - 69)، "السنن الكبرى"(6/ 181).

(4)

(1/ 271).

(5)

"الموطأ"(2/ 754)، قال في "الإرواء" (6/ 56):(هذا سند صحيح على شرط مسلم).

ص: 68

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من وهب هبة يريد بها العوض فإنه لا بد من العوض أو ترد الهبة إليه، ويسمى هذا النوع من الهبة: هبة الثواب، وهي العطية التي يبتغي بها الواهب الثواب -أي: العوض- من الموهوب له.

فإن أُعطي عنها ما يرضيه وإلا فله الرجوع فيها، بخلاف الهبة المطلقة وهي التي لمحض الثواب الأخروي مع قصد توثيق عرى المحبة، فلا رجوع فيها بعد قبضها، كما تقدم.

ومعرفة أن الهبة للثواب يدرك بالقرائن والعرف والعادة، فإن من أهدى إلى الأمراء أو الأغنياء ونحوهم فإنما يريد العوض والرِّفْد، لا يريد بذلك مجرد المحبة والتقرب، كما تقدم.

وهذا النوع من الهبة له حكم البيع؛ لأنه تمليك بعوض بلفظ الهبة، فيأخذ أحكام البيع.

وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فأثابه عليها حتى رضي، فقد لاحظ النبي صلى الله عليه وسلم مقصد الواهب، وهو أنه يريد العوض فأعطاه حتى أرضاه، وهذا من كرم الأخلاق، وهو أولى من رد الهدية إذا كان مَنْ قَبِلَهَا يستطيع العوض، وفيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقبل الهدية ويثيب عليها، كما تقدم.

فإن كان المهدي جَشِعًا لا يرضيه إلا شيء يضر المهدي إليه، أوكان المهدي إليه لا يستطيع العوض لفقره، فلا بأس أن يرد الهدية.

والقول برجوع الواهب إذا لم يعوض عن هبته هو قول النخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وابن جرير الطبري، استدلالًا بأثر عمر رضي الله عنه وغيره

(1)

. واستثنوا هبة ذي الرحم فلا رجوع فيها مطلقًا.

وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه والشافعي وأبو ثور إلى أنه لا

(1)

انظر: "التحقيق" لابن الجوزي (8/ 159).

ص: 69

رجوع في الهبة مطلقًا ولو لم يثب منها، مستدلين بالأحاديث المتقدمة في النهي عن الرجوع في الهبة، إلا إن اشترط في الهبة ثوابًا معلومًا صح، قالوا: وحديث الباب ضعيف مرفوعًا، قال ابن الجوزي بعد سياق الأحاديث:(ليس فيها ما يصح)، وما ورد عن عمر رضي الله عنه روي عن ابنه وابن عباس خلافه، قالوا: ولو صحت هذه الأحاديث لكانت مخصصة لعموم حديث الرجوع في الهبة، إلا أنها لم تثبت، وهو ما قرره ابن الجوزي وابن حجر وغيرهما من فقهاء المحدثين

(1)

.

وقد تلخص من الأحاديث في هذا الباب وغيره أن الهبة التي يرجع فيها هي:

1 -

هبة الوالد لولده.

2 -

من وهب بشرط الثواب، وذلك إذا وهب على جهة المعاوضة لفظًا أو عرفًا.

3 -

الهبة التي لم تقبض.

4 -

ويضاف إليها: الهبة التي ردها الميراث إلى الواهب

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(8/ 277 - 278)، "المجموع"(15/ 383).

(2)

"مجموع الفتاوى"(31/ 283)، "فتح الباري"(5/ 237).

ص: 70

‌جواز أخذ الشيء اليسير وأنه ليس بلقطة

941/ 1 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتَمْرَةٍ في الطَّرِيق فَقَال: "لَوْلا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "اللقطة"، باب (إذا وجد تمرة في الطريق)(2431)، ومسلم (1071) من طريق سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن طلحة بن مصرف، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا بأس بالتقاط الشيء اليسير القليل الذي لا تتبعه همة أوساط الناس؛ كالحبل والعصا وما يبقى بعد حصاد الزرع أو جذاذ التمر مما هو يسير وصاحبه معرض عنه ولا يطلبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل عدم أكله التمر بخشية أن يكون من الصدقة؛ لأن الصدقة محرمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله من بني هاشم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس"

(1)

. فدل ذلك على أن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس أن يأكلها.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على ورع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يأكل هذه التمرة مع أنها مباحة له؛ لأنها من حيث الملك لقطة يسيرة، ومن حيث الصدقة لم تتحقق، ولكن ورعه كفه عما فيه شبهة وإن قلَّت. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة

(1)

أخرجه مسلم، وتقدم ذلك في "الزكاة".

ص: 71

على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها"

(1)

.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة؟ قال: "إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه"

(2)

.

وقد جمع الحافظ بينه وبين حديث الباب بالحمل على التعدد وأنه لما أكل التمرة كما في حديث عمرو بن شعيب وأقلقه ذلك صار بعد هذا إذا وجد مثلها تركه احتياطًا، أو يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع، وفي حال تركه كان في خاصة نفسه

(3)

.

وقال المهلب: إنما تركها تورعًا وليس بواجب؛ لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم

(4)

.

* الوجه الرابع: قد يرد على الحديث سؤال وهو: لماذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم التمرة في الطريق؟ وأجيب عنه بجوابين:

1 -

أنه يحتمل أنه أخذها، إذ ليس في الحديث ما ينفي ذلك.

2 -

أنه تركها عمدًا لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة

(5)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم فهو مع جلالة قدره وعلو مرتبته لا يترفع عن أن يجد قليلًا حقيرًا فيأخذه ويأكله؛ لأنه من نعم الله تعالى، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (2432).

(2)

أخرجه أحمد (11/ 329 - 420) وحسن إسناده الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(2/ 99) وذكره الحافظ في "الفتح"(4/ 294) وسكت عنه.

(3)

انظر: "فتح الباري"(4/ 294).

(4)

المصدر السابق.

(5)

"فتح الباري"(5/ 86).

ص: 72

‌باب اللقطة

اللقطة: بضم اللام وفتح القاف والطاء من لقط الشيء: إذا رفعه من الأرض.

والمراد بها: المال يوجد في الطريق ونحوه ولا يعرف له صاحب.

وقولنا: (ولا يعرف له صاحب) هذا شرط اللقطة، فإن كان المال يعرف صاحبه فليس بلقطة ويجب رده إليه.

واللقطة باعتبار الشيء الملقوط هل يملك أو لا، وهل يعرَّف أو لا؟ ثلاثة أقسام:

1 -

ما تقل قيمته ولا تتبعه همة أوساط الناس إذا فقد، مثل: الرغيف والحبل والسوط وبعض الأقلام الرخيصة.

2 -

الحيوان الممتنع بنفسه من صغار السباع كالذئب والثعلب وولد الأسد ونحوها، مثل: الإبل، وسائر الطيور، والظباء.

3 -

ما عدا هذين القسمين، ويدخل فيه ما يهتم فيه الناس؛ كالدراهم والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع؛ كالغنم، والفصلان، والعجاجيل، وسيأتي حكم كل قسم.

وقد اختلف العلماء في الالتقاط هل هو أفضل أو الترك؟ على أربعة أقوال:

القول الأول: أن الالتقاط أفضل من الترك، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقول لمالك، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة، إذا كانت اللقطة بمضيعة وأمن نفسه عليها

(1)

.

(1)

"الهداية" لأبي الخطاب (1/ 202)، "التمهيد"(3/ 108)، "شرح مسلم" للنووي (11/ 265).

ص: 73

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه: وسأله عن ضالة الغنم؟ فقال: (لك أو لأخيك، أو للذئب، اجمعها إليك حتى يأتي باغيها)

(1)

.

2 -

أن الواجب على المسلم حفظ مال أخيه.

3 -

أن مؤنة اللقطة خفيفة ولا تحتاج إلى غذاء يخشى المسؤولية فيها.

والقول الثاني: أن الترك أفضل، وهذا قول مالك وأحمد، وهو مروي عن ابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهمم - وجماعة من السلف؛ لأن فيه تعريضَ نفسه لأكل الحرام، وقد يُضَيِّعُ الواجب من حفظها وتعريفها

(2)

.

والقول الثالث: أنه مخير بين أخذها وتركها، وقد ذكر ابن عبد البر أنه مذهب أصحاب مالك، لظاهر حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الآتي

(3)

.

والقول الرابع: أنه يجب الالتقاط، وهو قول للشافعي، بدليل ما ورد في حرمة مال المسلم وأنها كحرمة دمه

(4)

.

والذي يظهر -والله أعلم- التفصيل، وهو أن من أمِنَ على نفسه من الخيانة ووثق بأنه سيحفظها ويعرفها سنة فالأولى الالتقاط؛ لأن في ذلك حفظ مال الغير وعدم تعريضه لأن يأخذه من لا يقوم بحقه، وأما من عرف من نفسه التدني إلى الخيانة والعجز عن تعريفها فالأولى في حقه الترك بل يجب؛ لأنه يعرض نفسه للوقوع في الحرام، ويحرم صاحبها منها، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أحمد (11/ 492) وسنده حسن.

(2)

"بداية المجتهد"(4/ 113)، "المغني"(8/ 291).

(3)

"التمهيد"(3/ 109).

(4)

"المهذب"(1/ 560)، "المغني"(8/ 291).

ص: 74

‌أحكام اللقطة

942/ 2 - عَنْ زَيدِ بْنِ خَالدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَال: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا"، قَال: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَال: "هِيَ لَكَ أَوْ لأَخيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ"، قَال: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَال: "مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتى يَلْقَاهَا رَبُّها"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

943/ 3 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الأول فقد أخرجه البخاري في تسعة مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "العلم"، باب (الغضب في الموعظة والتعليم)(91)، ومسلم (1722) من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني مرفوعًا.

وهو من الأحاديث الأصول في هذا الباب، حيث اشتمل على مسائل كثيرة، وورد بألفاظ متعددة، ولذا أخرجه البخاري في خمسة مواضع من كتاب "اللقطة".

وأما حديثه الثاني فقد أخرجه مسلم في "اللقطة"(1725) من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد رضي الله عنه مرفوعًا.

ص: 75

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (جاء رجل) في رواية للبخاري: (جاء أعرابي) ولم يقم برهان على تعيين الرجل، ولا يترتب على معرفته حكم شرعي.

قوله: (عن اللقطة) أي: سأله عن حكمها شرعًا وليس عن معناها؛ لأنه سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (اعرف عِفاصها) في رواية: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق، فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها") والعِفاص: بكسر العين، هو الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدًا كان أو خرقة أو غير ذلك.

قوله: (ووكاءها) الوكاء: بكسر الواو ممدودًا، هو الخيط الذي يُشد به رأس الكيس والجراب والقربة، ونحو ذلك من العلامات.

والمراد من معرفة ذلك ليعلم صدق واصفها من كذبه، ولئلا تختلط بماله وتشتبه.

قوله: (ثم عرِّفها سنة) بالتشديد وكسر الراء، أمر من التعريف؛ أي: اذكرها للناس، وذلك في الموضع الذي وجدها فيه، وكذا في المجامع العامة كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، والتعبير بـ (ثم) يدل على المبالغة في شدة التثبت في معرفة العفاص والوكاء؛ لأنها تفيد التراخي والمهلة.

قوله: (فإن جاء صاحبها) جواب الشرط محذوف؛ أي: فوصفها فادفعها إليه، دل على ذلك رواية "الصحيحين":"فإن جاء ربها فأدها إليه"

(1)

.

قوله: (وإلا فشأنك بها) الشأن هو الحال والأمر؛ أي: تصرف بها، وهو بالنصب مفعول لفعل مقدر؛ أي: الزم شأنك بها، وبالرفع: مبتدأ خبره ما بعده؛ أي: شأنك متعلق بها.

قوله: (فضالة الغنم) مبتدأ حذف خبره؛ أي: ما حكمها؟ وهو من باب

(1)

"صحيح البخاري"(2436)، "صحيح مسلم"(1722)(2).

ص: 76

إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: فالغنم الضالة، قال الأزهري وغيره:(لا يقع اسم الضالة إلا على الحيوان، يقال: ضل الإنسان والبعير وغيرهما من الحيوان، وأما الأمتعة وما سوى الحيوان فيقال لها: لقطة، ولا يقال لها ضالة)

(1)

.

قوله: (قال: "هي لك أو لأخيك أو للذئب") أو: للتقسيم والتنويع، والمراد بـ (أخيك) أخوة الدين، وهو رجل آخر يراها فيأخذها، ويدخل في ذلك صاحبها.

والمراد بالذئب: جنس ما يأكل الشاة من السباع، والمعنى: أن الشاة ضعيفة معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك أو يأكلها الذئب إذا تركت.

قوله: (ما لك ولها) استفهام إنكاري؛ أي: ما لك ولأخذها، والحال أنها مستقلة بأسباب تمنعها من الهلاك، ويدل على ذلك رواية: (فغضب حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه، ثم قال: "ما لك ولها

"

(2)

)، ولعل وجه الغضب إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإما لأن السائل قصر فهمه، فلم يراع المعنى الذي أشار إليه ولم ينتبه له، فقاس الشيء على غير نظيره

(3)

.

قوله: (معها سِقاؤها) بكسر السين، هو جوفها الذي يحمل كثيرًا من الطعام والشراب.

قوله: (وحِذاؤها) بكسر الحاء هو خفها، سمي بذلك لمتانته وصلابته بحيث تقوى به على قطع الأرض والسير في المسافة البعيدة. وهذا فيه تشبيه، فإنه شبه الإبل بمن كان معه حذاء وسقاء في السفر، بجامع القدرة على قطع المسافات البعيدة.

(1)

"الزاهر" ص (366).

(2)

"صحيح البخاري"(91)، "صحيح مسلم"(1722)(2).

(3)

"أعلام الحديث"(1/ 204)، "فتح الباري"(1/ 187).

ص: 77

وهذا فيه إشارة إلى أنه لا حاجة إلى التقاطها؛ لاستغنائها عن الحفظ بما ركَّب الله تعالى في طباعها من القدرة على ورود الماء ورعي الشجر والامتناع من السباع المفترسة.

قوله: (حتى يلقاها ربها) أي: صاحبها الذي ضاعت منه، ولا يطلق الرب على غير الله تعالى إلا مقيدًا، فيقال: رب الدار، ورب الدابة.

قوله: (من آوى ضالة) أي: ضمها إلى ماله وخلطها معه، قال تعالى:{آوَى إِلَيهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] أي: ضمه إلى نفسه، يقال: آواه، وأواه.

والضالة: يراد بها ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز التقاطه للتملك، بل إنها تلتقط حفظًا لها، فيكون معناه: من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها أبدًا ولا يتملكها، فهذا نص مطلق في التعريف يبقى على إطلاقه؛ لأنه في الضالة، وأما التعريف سنة فهو في اللقطة.

أو يراد بالضالة: اللقطة، ولا يحمل على الإبل ونحوها، مما لا يجوز التقاطه، لقوله:"ما لك ولها"؛ لأنه قال هنا: (ما لم يعرفها).

قوله: (فهو ضال) الضال: هو المخطئ المجانب للصواب؛ أي: هو مائل عن الحق آثم؛ لأنه أخذ ما لا يجوز له أخذه، فيده يد غاصب.

قوله: (ما لم يعرفها) هذا قيد يبين أنه ضال إذا أخذها ليتملكها، فإن أخذها ليعرفها فليس كذلك، لقوله في حديث زيد:"اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة".

* الوجه الثالث: الحديث دليل على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أجاب السائل بمعرفة العفاص والوكاء، وقال في الشاة:"هي لك أو لأخيك أو للذئب"، ولو كان الترك أفضل لأمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في ضالة الإبل.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن واجد اللقطة عليه أن يعرف جميع صفاتها من الوعاء والخيط الذي ربطت به ونحو ذلك مما يحتاج إلى معرفته؛ لأجل أن يميزها عن ماله إن عاش، ويعرفها ورثته إن مات، ويعرف

ص: 78

بذلك صدق مدعيها من كذبه، ويستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان

(1)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على وجوب المحافظة على اللقطة والعناية بها كسائر الأمانات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بمعرفة العفاص، والوكاء، وهذا من تمام حفظها وأدائها إلى ربها، ومن مقاصد ذلك حفظها؛ لئلا يحصل تساهل في دفعها لغير صاحبها.

* الوجه السادس: وجوب تعريف اللقطة سنة كاملة في مجامع الناس وفي مكان وجودها؛ لأنه مكان بحث صاحبها عنها، ولا يكفي أن يعرفها سرًّا بينه وبين بعض الناس، بل عليه أن يعرفها تعريفًا ظاهرًا.

وإن وجدها في البادية عرفها في المدن والقرى القريبة من البادية التي وجدها فيها، وإن وجدها في الطرق السريعة بين المدن، فإن كانت يسيرة فحكمها حكم الأموال التي لا يرجى وجود أصحابها كالعواري والودائع والغصوب، ونحوها، فيتصدق بها عن صاحبها مضمونة، ولا يجوز لمن هي في يده الأكل منها وإن كان محتاجًا، وقد ذكر ابن رجب عن القاضي تخريجًا بجواز الأكل إذا كان فقيرًا على الروايتين في جواز شراء الوكيل من نفسه، وفيه وجاهة

(2)

، فإن كانت لقطة خطيرة أمكن تعريفها بواسطة وسائل الإعلام من صحافة أو غيرها، والله أعلم.

ولا يلزم الاستيعاب بحيث يعرفها في الليل والنهار، ولا استيعاب الأيام، بل على المعتاد، فيعرف في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، وهكذا

ويبلغ الجهات المسؤولة كدوائر الشرطة، ويعلن عنها في الوسائل المعاصرة من الصحف والإذاعة وغيرهما، وهذا إذا كانت لقطة خطيرة، ولا يجب تعريفها بعد السنة.

فإن ضاعت اللقطة أو تلفت في مدة التعريف فليس عليه شيء؛ لأن يده

(1)

"الإعلام" ابن الملقن (7/ 519).

(2)

انظر: "القواعد" لابن رجب (2/ 41)، "فرائد الفوائد" لابن عثيمين ص (73 - 74).

ص: 79

يد أمانة في أثناء حول التعريف، والأمين لا ضمان عليه، وإن ضاعت بعد حول التعريف فعليه الغرامة؛ لأنها صارت دينًا عليه؛ لكونها دخلت في ملكه وتلفت من ماله، والقول الثاني: أنه لا يضمن

(1)

.

* الوجه السابع: الحديث دليل على أنه إذا جاء رب اللقطة وأخبر الملتقط بعلامتها دفعها إليه، وهذه فائدة معرفة العفاص والوكاء، كما تقدم، ولا يحتاج في ذلك إلى بينة من شهود أو يمين؛ لأن وصفها هو بينتها، هذا هو ظاهر الحديث، وهذا هو الراجح من قولي أهل العلم؛ لأنه لو كانت إقامة البينة شرطًا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى، فإنه يستحقها بالبينة على كل حال، ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والمقام مقام بيان.

وقد جاء في إحدى الروايات: (فإن جاء ربها فأدها إليه)

(2)

. ولم يذكر بينة، إلا ما يفهم من قوله:"اعرف وكاءها وعفاصها" وقد جاء في حديث أُبي بن كعب: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها"

(3)

. وهذا فيه دليل على جواز حَلِّ وكائها لمعرفة العدد، وقد أخذ بهذا بعض أهل العلم، فقال: لا بد من معرفة المدعي جميع الأوصاف، وهي الوكاء والوعاء والعدد.

وقال آخرون: لا يشترط ذكر العدد؛ لأنه لم يرد في حديث زيد بن خالد، والأول أقرب؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ

(4)

، ولا سيما إذا كانت اللقطة من المعدودات؛ كالدراهم ونحوها.

ولا يعارض هذا حديث "البينة على المدعي"؛ لأن البينة ليست مقصورة على الشهود، بل هي عامة لكل ما يتبين به الحق، ومنها وصف العفاص والوكاء، فإن وصفها اثنان أقرع بينهما، فمن قَرَعَ كانت له.

(1)

"أعلام الحديث"(1/ 203)، "المغني"(8/ 313).

(2)

"صحيح البخاري"(2436).

(3)

"صحيح البخاري"(2426)، "صحيح مسلم"(1723).

(4)

انظر: "المفهم"(5/ 182 - 183).

ص: 80

* الوجه الثامن: الحديث دليل على أنه إذا لم يجد صاحبها في مدة العام فإنه يتصرف فيها، سواء كان غنيًّا أم فقيرًا، لقوله:"فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها"، فإن جاء صاحبها بعد ذلك، فالجمهور على وجوب ردها إليه إن كانت موجودة، أو عوضها مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة، قال الموفق:(لا أعلم في هذا خلافًا)

(1)

. وتدل على ذلك رواية: "فإن لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه"

(2)

.. والمراد: أنه لا ينقطع حق صاحبها بالكلية، وخالفت الظاهرية في ذلك، وسيأتي -إن شاء الله- دليلهم عند حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

والمراد بكونها وديعة: أنه يجب ردها، لا أنها وديعة حقيقية يجب أن تبقى عينها كسائر الودائع؛ لأن المأذون في إنفاقه لا تبقى عينه، ومن القواعد الفقهية:(إذا تعذر معرفة من له الحق جعل كالمعدوم)، فاللقطة إذا تعذر معرفة صاحبها بعد التعريف المعتبر شرعًا، فهي لواجدها.

* الوجه التاسع: الحديث دليل على جواز التقاط ضالة الغنم وجواز أكلها، لقوله:"هي لك أو لأخيك، أو للذئب"، قال ابن عبد البر:(أجمعوا على أن آخذ ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها)

(3)

.

فإن جاء صاحبها لزمته غرامتها عند الجمهور؛ لأنهم أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها، فدل على أنها باقية على ملك صاحبها.

وقال مالك: لا يضمن، واحتج بالتسوية بين الملتقط والذئب، والذئب لا غرامة عليه، فكذلك الملتقط، ولم يوافق مالكًا أحد من العلماء على قوله.

قال ابن عبد البر: (الوجه تضمين آكلها إن شاء الله). اهـ

(4)

. وذلك لأن (اللام) ليست للتمليك؛ لأن الذئب لا يملك، وإنما يملكها الملتقط على شرط

(1)

"المغني"(8/ 313).

(2)

"صحيح البخاري"(2428)، "صحيح مسلم"(1722)(5) واللفظ له.

(3)

"التمهيد"(3/ 108).

(4)

"التمهيد"(3/ 126).

ص: 81

ضمانها، هذا هو الظاهر. وله أن يفعل الأصلح من بيعها وحفظ ثمنها، أو أكلها وضمانها، أو إبقائها عنده مضمونة.

* الوجه العاشر: الحديث دليل على أنه لا يجوز التقاط ضالة الإبل؛ لأن لها من طبيعتها وتركيب الله إياها ما يحفظها ويمنعها، لكن إن وجدت في مهلكة ردت بقصد الإنقاذ لا الالتقاط، ويقاس على الإبل ما يمتنع من صغار السباع لكبر جثته كالخيل والبقر، أو يمتنع بطيرانه كالطيور المملوكة، أو بِعَدْوهِ كالغزلان، والله تعالى أعلم.

ص: 82

‌مشروعية الإشهاد على اللقطة

944/ 4 - عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَي عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوكَاءَهَا، ثُمّ لَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ، إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عياض بن حمار -بكسر الحاء المهملة باسم الحيوان المشهور- بن أبي حمار بن ناجية التميمي المجاشعي رضي الله عنه، كان صديقًا للرسول صلى الله عليه وسلم قديمًا، وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة قبل أن يسلم، فلم يقبل منه

(1)

، سكن البصرة، روى عنه مطرف بن عبد الله بن الشخير، وأخوه يزيد بن عبد الله، والحسن البصري، وغيرهم

(2)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (29/ 27)، وأبو داود في كتاب "اللقطة"(1709)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 436)، وابن ماجه (2505)، وابن حبان (11/ 256)، وابن الجارود (671) كلهم من طريق خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن مطرف، عن عياض بن حمار مرفوعًا.

(1)

انظر: "مسند الإمام أحمد"(29/ 29 - 30).

(2)

"الاستيعاب"(9/ 67)، "الإصابة"(7/ 185).

ص: 83

وهذا الحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير صحابيه فمن رجال مسلم، وصححه ابن عبد الهادي

(1)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (فليشهد ذوي عدل) رواية النسائي: "ذا عدل أو ذوي عدل" بالشك، وهذا أمر من الإشهاد على أنه أخذها ليحفظها على صاحبها، وهو أمر إيجاب. وقيل: أمر تأديب واستحباب، لما سيأتي.

والعدل: كل من رضيه الناس واطمأنوا إلى قوله وخبره، قال تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]

(2)

وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب "الشهادات" إن شاء الله تعالى.

قوله: (ثم لا يكتم) أي: لا يخفي اللقطة، وذلك بأن يجحدها ولا يعرفها.

قوله: (ولا يغيب) بضم الياء وفتح الغين المعجمة وتشديد التحتية؛ أي: لا يجعل اللقطة غائبة بأن يرسلها إلى مكان آخر. وقد جاء لفظ ابن حبان (ولا يغير) بدل (ولا يغيب).

قوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) أي: وإلا يحضر صاحب اللقطة بعد حول التعريف تكن للملتقط ينتفع بها، كما تقدم.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الإشهاد عند وجود اللقطة لمن أراد أخذها، والحكمة من ذلك:

1 -

صيانة نفسه من الطمع فيها.

2 -

لأنه لا يأمن من تسويل الشيطان وانبعاث الرغبة في هذه اللقطة، فيدعوه ذلك إلى الخيانة بعد الأمانة فيجحدها.

3 -

حفظها من ورثته إذا مات؛ لأنه لا يؤمن من حدوث المنية به، فيدعيها ورثته، ويحوزونها في تركته، أو يستولي عليها غرماؤه إن أفلس، وقد

(1)

"التنقيح"(3/ 108).

(2)

انظر: "الاختيارات" ص (356).

ص: 84

استحب بعض العلماء كتابتها، كما تقدم

(1)

.

ويكون الإشهاد على وجدانها، لا على صفاتها، لئلا تشيع أوصافها، فيدعيها غير صاحبها.

* الوجه الخامس: اختلف العلماء في حكم الإشهاد على اللقطة على قولين:

الأول: أن الإشهاد مستحب، وهذا قول مالك، وهو المذهب عند الحنابلة، وأحد قولي الشافعي

(2)

، واستدلوا بأن الإشهاد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة، فيحمل في هذا الحديث على الندب، إذ لو كان واجبًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لا سيما وقد سئل عن حكم اللقطة كما في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، فلم يكن ليخل بذكر الواجب فيها، فيتعين حمل الأمر على الاستحباب، ولأنه أخْذُ أمانة فلم يفتقر إلى الإشهاد.

والقول الثاني: أن الإشهاد واجب، وهو قول في المذهب عند الحنابلة، اختاره جمع منهم، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، واختاره الصنعاني

(3)

، والشيخ عبد العزيز بن باز. مستدلين بهذا الحديث، فإن قوله:"فليشهد" أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولا ينافي ذلك عدم ذكره في الأحاديث الأخرى؛ لأنها زيادة صحيحة، فيجب العمل بها، قالوا: ولأنه إذا لم يشهد، كان الظاهر أنه أخذها لنفسه.

والذي يظهر -والله أعلم- هو القول بوجوب الإشهاد لصحة الحديث بذلك، ولما فيه من المصالح، كما تقدم.

* الوجه السادس: الحديث دليل على أن الملتقط مطالب بمعرفة

(1)

"معالم السنن"(2/ 269). "مجموع فتاوى ابن تيمية"(33/ 34).

(2)

"الشرح الكبير"(16/ 250).

(3)

"شرح معاني الآثار"(4/ 136)، "روضة الطالبين"(5/ 391)، "المهذب"(1/ 561)، "سبل السلام"(3/ 146).

ص: 85

العفاص، والوكاء، كما تقدم، ومنهيٌّ عن كتم اللقطة وإخفائها، أو إخفاء شيء من صفاتها ليضل صاحبها إذا وصفها، كما أنه منهي أن يغيب أو يغير شيئًا منها، فإن فعل فهو ظالم في أمانته.

* الوجه السابع: استدل ابن حزم الظاهري بقوله: "فهو مال الله يؤتيه من يشاء" على أن اللقطة بعد الحول تصير ملكًا للملتقط، ولا يضمنها لو جاء صاحبها بعد ذلك

(1)

.

وأجاب الجمهور بأن هذا النص المطلق مقيد بما تقدم من إيجاب الضمان في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، ويكون المراد بقوله:(يؤتيه من يشاء) إباحة الانتفاع باللقطة بعد مرور حول التعريف.

* الوجه الثامن: استدل العلماء بهذا الحديث على أن جحد الملتقط اللقطة معتبر، وأن القول قوله في هلاكها وفي قدرها وفي نقصها، ووجه الاستدلال: أن الشرع نهاه عن كتم بعض صفاتها وذلك لأنه أمين، والأمين يقبل قوله فيما أؤتمن عليه مع يمينه، والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(8/ 266 - 270).

ص: 86

‌حكم لقطة الحاج

945/ 5 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيمِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، ابن أخي طلحة بن عبيد الله، كان من مسلمة الفتح، وقيل: أسلم في الحديبية، وأول مشاهده عمرة القضاء، روى عنه أولاده عثمان ومعاذ وهند، والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب وغيرهم. قتل مع ابن الزبير رضي الله عنه في مكة في يوم واحد سنة ثلاث وسبعين رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه مسلم في كتاب "اللقطة" بابٌ (في لقطة الحاج)(1724) من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، مرفوعًا.

وأخرجه أبو داود (1719) بزيادة: قال ابن وهب: يعني: يتركها حتى يجدها صاحبها.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم لقطة الحاج، وهي المال الذي يضيع من أحد الحجاج. ومن أهل العلم من خص لقطة الحاج بالحرم،

(1)

"الاستيعاب"(6/ 59)، "الإصابة"(6/ 300).

ص: 87

ومنهم من قال: إن الحديث مطلق في مكة أو غيرها كالمشاعر، قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(وتقييده بالحرم محل نظر، والأولى إطلاقه كما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم).

وعلى هذا فهناك فرق بين لقطة مكة الواردة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" وبين لقطة الحاج الواردة في هذا الحديث، وهو أن لقطة الحاج تكون في أيام الحج وفي أمكنة تجمع الحجاج وازدحامهم، سواء في مكة أو غيرها؛ كعرفات وطرق الحجاج القريبة من الحرم والمشاعر، أما لقطة مكة فهي عامة في جميع السنة، ومختصة بمكة دون غيرها.

ولعل وجه النهي عن لقطة الحاج أن ملتقطها ييأس من وجود صاحبها، وصاحبها ييأس من وجودها، لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة، فربما دَاخَلَ الملتقطُ الطمعَ في تملكها من أول وهلة، فلا يعرفها، فنهى الشارع عن ذلك.

* الوجه الرابع: اختلف العلماء في لقطة مكة على قولين:

القول الأول: أن لقطة مكة تختلف عن غيرها، فهي لا تحل إلا لمن يريد أن يحفظها لصاحبها وأن يعرفها أبدًا من غير توقيت بسنة، وهذا قول الشافعية في الصحيح من المذهب، وأحمد في رواية عنه، وبعض المالكية؛ كالباجي وابن العربي وابن رشد والقرطبي

(1)

، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم

(2)

.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في مكة كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" أي: لا تحل إلا لمن يريد أن يعرفها فقط، فأما من أراد أن يعرفها ثم يمتلكها فلا، إذ لو كانت تملك بعد التعريف لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلًا

(3)

.

(1)

"المهذب"(1/ 436)، "المنتقى"(6/ 138)، "بداية المجتهد"(4/ 114)، "المغني"(8/ 305)، "المفهم"(3/ 472).

(2)

"الاختيارات": ص (169)، "زاد المعاد"(3/ 453 - 454).

(3)

"زاد المعاد"(3/ 453)، "فتح الباري"(5/ 88).

ص: 88

وأيدوا قولهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج، قالوا: فلقطة الحاج لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة، وذلك لإمكان إيصالها إلى أربابها؛ لأنه إن كان من أهل مكة فظاهر، وإن كان غريبًا لا يقيم بها فإنه لا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها، ولا سيما في زماننا هذا مع تيسر سبل النقل، فقد يأتي صاحبها وقد يوصي غيره من أهل بلده، فإذا عَرَّفَها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها

(1)

.

القول الثاني: أن لقطة مكة كغيرها في التعريف والتملك، فإذا عرفها سنة تملكها، وهذا مروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول المالكية في المشهور، والحنابلة في المعتمد من المذهب، والشافعية في وجه، والحنفية، واستدلوا بحديث زيد بن خالد المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم اللقطة، ولم يفرق بين لقطة الحرم وغيرها.

وأجابوا عن حديث ابن عباس "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد" بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نصَّ على التعريف؛ لئلا يتوهم أن تعريفها مختص بأيام المواسم، وإنما هو حول كامل، أو لئلا يتوهم أنها لا تحتاج إلى تعريف، بسبب أن ما وجد فيها فالغالب أنه للغرباء، وقد تفرقوا، فلا فائدة في التعريف، فيسقط كما سقط فيما يباح التقاطه بلا تعريف، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كغيرها من البلاد في وجوب التعريف، أو أن المراد المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج يرجع إلى بلده، وقد لا يعود إلا بعد أعوام، أو لا يعود أبدًا، فاحتاج الملتقط إلى المبالغة في التعريف

(2)

.

والقول الأول هو الراجح؛ لقوة أدلته وسلامتها من الإعتراض، وأما القول الثاني فهو ضعيف، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" نص صريح في ضمن خصائص مكة ومزاياها على سائر البلاد، ومن ذلك حرمة تملك لقطتها.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال"(6/ 558).

(2)

"المعلم بفوائد مسلم"(2/ 76)، "شرح فتح القدير"(5/ 357).

ص: 89

والحكمة في ذلك -والله أعلم- زيادة الأمن على الأموال بمكة، فإن الناس لا يلتقطون اللقطة إذا علموا أنهم لا يملكونها بالتعريف، فإذا تركوها عاد صاحبها فوجدها

(1)

.

أما استدلالهم بعموم حديث زيد بن خالد فليس بمسلَّم؛ لأنه نص عام مخصَّص بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال أبو عبيد: (ولو كان هذا هكذا -أي: على عمومه- لما كانت مكة مخصوصة بشيء دون البلاد؛ لأن الأرض كلها لا تحل لقطتها إلا بعد الإنشاد)

(2)

.

وأما أجوبتهم عن حديث ابن عباس فهي -كما يقول النووي-: تأويلات ضعيفة

(3)

. ووجه ذلك أن الحديث جاء لبيان ما اختصت به مكة من الفضائل؛ كتحريم صيدها وشجرها، فإذا سُوِّيت لقطتها بغيرها صار ذكر اللقطة في الحديث خاليًا من الفائدة

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام"(3/ 136).

(2)

"غريب الحديث"(2/ 134).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 136).

(4)

انظر: "شرح الأُبِّي على صحيح مسلم"(3/ 450 - 451).

ص: 90

‌حكم لقطة المعاهد

946/ 6 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إلا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو كريمة المقدام بن معدي كرب الكندي، في نسبه وكنيته خلاف، وهو أحد الوافدين الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كندة، يعد في أهل الشام وحديثه فيهم.

روى عنه ابنه يحيى، وحفيده صالح بن يحيى، وعبد الرحمن بن أبي عوف، وسليمان بن عامر، وخالد بن معدان، والشعبي، وغيرهم.

مات بالشام سنة سبع وثمانين، وله إحدى وتسعون سنة رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

أخرجه أبو داود في كتاب "الأطعمة"، باب (النهي عن أكل السباع)(3804) من طريق مروان بن رؤبة التغلبي، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب، مرفوعًا. وتمامه:"وأيما رجل ضاف قومًا فلم يُقْرُوه، فإن له أن يُعْقِبَهم بمثل قِراه".

والحديث رجاله ثقات، غير مروان بن رؤبة، فإنه لم يوثقه إلا ابن

(1)

"الاستيعاب"(10/ 268)، "الإصابة (9/ 274).

ص: 91

حبان

(1)

. ورمز له الحافظ في "التقريب" بـ (مقبول) أي: في المتابعات، وقد تابعه حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام، به، أخرجه أبو داود (4604) وأحمد (28/ 410 - 411).

وحريز وهو ابن عثمان الرحبي ثقة ثبت، ومن رجال البخاري، فالسند صحيح، والحديث صححه الألباني في "المشكاة"

(2)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (ألا لا يحل) ألا: أداة استفتاح وتنبيه، وهي من صيغ التوكيد عند البلاغيين.

قوله: (ذو ناب) الناب: هو السن الذي خلف الرباعية، وهو للسبع بمنزلة المخلب للطير الجارح، وهو على حذف مضاف؛ أي: لا يحل أكل ذي ناب.

قوله: (من السباع) من: بيانية؛ لأن الناب يكون للسباع وغيرها، والسباع: جمع سبع، بفتح السين وضم الباء، وهو ما يفترس الحيوان ويأكله قهرًا وقسرًا، ويعدو على الناس؛ كالذئب والأسد والنمر ونحوها.

قوله: (ولا الحمار الأهلي) نسبة إلى الأهل؛ لكونه مستأنسًا مع الناس، أليفًا لهم، بخلاف الحمار الوحشي الذي هو نوع من الصيد.

قوله: (من مال معاهد) المعاهد: هو الذي أُعطي عهدًا للبقاء في دار الإسلام، بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام. ووجه تخصيصه: زيادة الاهتمام؛ لأنه قد يتوهم حِلُّ لقطته بسبب كفره.

قوله: (فله أن يُعْقِبَهُمْ) بضم الياء من الإعقاب أي: أن يتبعهم، والمعنى: فله أن يأخذ منهم عوضًا عما حرموه من القِرَى.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن اللقطة من مال المعاهد؛

(1)

"الثقات"(5/ 425).

(2)

(1/ 158) وانظر: "الصحيحة"(6)(87).

ص: 92

كاللقطة من مال المسلم؛ لأنه معصوم فلا تؤخذ لقطته، بل تعرَّف كغيرها؛ لأن له عهدًا وذمة، فلا يجوز التعدي على ماله بحكم كفره، إلا أن يستغني عنها بأن تكون حقيرة مرغوبًا عنها؛ كالسوط والرغيف ونحو ذلك مما لا تتبعه همة أوساط الناس، وكذا ما تركه صاحبه رغبة عنه، فهذا مباح أخذه، ويملك بمجرد التقاطه.

ولقطة المعاهد ليس فيها أمارة تدل عليها غالبًا، ولكن وجودها في حيٍّ أهلُه أو غالبهم أهلُ ذمة قرينة قوية على أنها لقطة معاهد.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على عدالة الإسلام وعنايته بأموال المعاهدين؛ لأن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا ما داموا ملتزمين بأحكام الإسلام، والله تعالى أعلم.

ص: 93

‌باب الفرائض

لو عبَّر بكتاب الفرائض، كما فعل ابن عبد الهادي وغيره لكان أحسن؛ لأنه مستقل عما قبله من البيوع وتوابعه.

والفرائض: جمع فريضة، وهي في الأصل اسم مصدر من فرض وافترض، والفرض في اللغة له معان منها: التقدير، والفرائض: التقديرات؛ لأنه يجعل فيها لكل شخص قدرًا معلومًا من مال الميت

(1)

. ومنها: القطع، يقال: فرضت لفلان كذا من المال؛ أي: قطعت له شيئًا منه، وخصت المواريث باسم الفرائض. من قوله تعالى:{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] أي: مقطوعًا به، والمفروض ما تحتم فعله.

واصطلاحًا: فقه المواريث، وما يضم إلى ذلك من حسابها.

والمقصود بعلم الفرائض هو فقهها وفهمها، أما حسابها فوسيلة محضة تسلك عند الحاجة إليها.

وموضوعه: التركات.

وفائدته: إيصال نصيب كل وارث إليه.

وحكمه: فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الفرض عن الباقين؛ لأنه وسيلة إيصال الحقوق الواجبة إلى مستحقيها.

وقد فرض الله تعالى المواريث بحكمته وعلمه، وقسمها بين أهلها أحسن قَسْمٍ وأعدله، بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، ورحمته الشاملة، وعلمه الواسع، وبيَّن ذلك أتم بيان، فجاءت آيات المواريث وأحاديثها شاملة لكل ما

(1)

"الدر النقي"(3/ 574).

ص: 94

يمكن وقوعه من المواريث، لكن منها ما هو صريح ظاهر، ومنها ما يحتاج إلى تأمل وتدبر

(1)

.

وقد اشتهرت الأخبار بالحث على تعلم الفرائض وتعليمها الناس، وهي أحاديث ضعيفة، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة تعلموا الفرائض، وعلموها، فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي"

(2)

.

وهذا الحديث معناه صحيح، تشهد له عمومات الأدلة كآيات المواريث وأحاديثها، والنصوص الدالة على فضل طلب العلم، ويؤيده الواقع، فينبغي لطالب العلم العناية بالفرائض، والحرص على تعلمها وإتقانها، لأمرين:

الأول: أنه يروى أنه ينزع في آخر الزمان، والواقع شاهد بذلك.

الثاني: شدة الحاجة إليه، وأن الناس بحاجة إلى من يقسم بينهم مواريثهم.

(1)

"جامع العلوم والحكم" ص (377 - 378)، مقدمة "تسهيل الفرائض" للشيخ: محمد العثيمين.

(2)

أخرجه ابن ماجه (2719)، والدارقطني (4/ 67)، والبيهقي (6/ 209) من طريق حفص بن عمر بن أبي العطاف، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، قال البيهقي:(تفرد به حفص بن عمر، وليس بالقوي)، وقال ابن الملقن:(قلت: بل واهٍ، فقد رماه يحيى النيسابوري بالكذب، وقال البخاري: منكر الحديث) وقال الحافظ في "التلخيص"(3/ 92): (متروك). [انظر: "الإرواء" (6/ 104)].

ص: 95

‌تقديم أصحاب الفروض على العصبات

947/ 1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في أكثر من موضع من كتاب "الفرائض"، وأولها باب (ميراث الولد من أبيه وأمه)(6732)، ومسلم (1656) من طريق وهيب، حدثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا.

وأخرجه مسلم -أيضًا- من طريق معمر، عن ابن طاوس، بلفظ:"اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ألحقوا الفرائض) بفتح الهمزة وكسر الحاء؛ أي: أوصلوا، والمراد بالفرائض هنا: الأنصباء المذكورة في كتاب الله تعالى.

قوله: (بأهلها) أي: بالمستحقين لها، كما ذكر الله تعالى في كتابه.

قوله: (فما بقي) أي: فما فضل بينهم من المال بعد إيصال ذوي الفروض فروضهم.

قوله: (فهو لأولى رجل) أولى: مأخوذ من الولي -بإسكان اللام- وهو القرب؛ أي: أقرب رجل نسبًا من الميت، وهذا تفسير جماعة من الأئمة؛

ص: 96

كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه

(1)

، وأقرب الرجال من الميت على الإطلاق أبناؤه، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أبوه، ثم جده وإن علا، ثم إخوته وبنو إخوته، ثم أعمامه وبنو أعمامه، والتقييد بالرجل خرج مخرج الغالب وإلا فالمعتقة عصبة.

قوله: (ذكر) هذا اللفظ ثبت في "الصحيحين"، ولم يرد عند أبي داود

(2)

، فإن قيل: ما فائدة وصف الرجل بالذكورة وهو لا يكون إلا ذكرًا، فالجواب: أن العلماء ذكروا لذلك عدة أجوبة، منها:

1 -

لبيان أن المراد بالرجل الذكر؛ لأن الرجل أصالة هو الرجل البالغ من بني آدم، وهذا ليس مرادًا هنا، وإنما المراد بيان سبب الاستحقاق، وهو الذكورية ليشمل الصغير، بخلاف ما عليه أهل الجاهلية من أنهم لا يورثون إلا الرجال البالغين، يقولون: لا يرث إلا من يركب الفرس، ويحمل الكلَّ، وينكأ العدو.

2 -

وقيل: لأن الرجل قد يطلق في نصوص الشرع ويراد به الشخص؛ كقوله: "من وجد ماله عند رجل قد أفلس" مع أن الحكم شامل للرجل والمرأة، فيكون تقييده بالذكر -هنا- ينفي هذا الاحتمال، ويخلصه للذكر دون الأنثى وهو المقصود، فإن قيل: هلا اقتصر على قوله: "ذكر" لحصول هذا المعنى مع الاختصار، أجيب عنه: بأن الاقتصار عليه يفوت إفادة إطلاق الرجل بمعنى الذكر.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب إعطاء ذوي الفروض فروضهم المنصوص عليها في كتاب الله تعالى وهي ستة: (نصف، وربع، وثمن، وثلث، وثلثان، وسدس) وأنهم مقدمون على العصبات، إذ لو ابتدئ بالعصبة لاستغرقوا جميع المال وسقط أصحاب الفروض؛ لأن العاصب يرث بلا تقدير، فإذا مات عن زوجة وابن، فللزوجة الثمن والباقي للابن.

(1)

"جامع العلوم والحكم" حديث (43).

(2)

انظر: "السنن"(2898).

ص: 97

* الوجه الرابع: الحديث دليل على ميراث العصبة، وهم جمع عاصب، وهو من يرث بلا تقدير، والمراد هنا: العصبة من الفروع الذكور كالأبناء وأبنائهم وإن نزلوا، والأصول الذكور كالأب وأبيه وإن علا، والحواشي وهم فروع الأصول كالإخوة والأعمام وأبنائهم وإن نزلوا.

فإن كان مع العاصب صاحب فرض أخذ الباقي بعده كما تقدم، وإن استغرقت الفروض التركة سقط؛ كهالك عن زوج وشقيقتين وابن أخ شقيق، فللزوج النصف ثلاثة، وللشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى سبعة، ويسقط ابن الأخ؛ لأن الفروض استغرقت التركة، وإن انفرد العاصب أخذ جميع المال؛ كهالك عن عم شقيق.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على وجوب تقديم الأقرب فالأقرب من العصبة بحيث لا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، لقوله:"فلأولى رجل ذكر"؛ كهالك عن أم وابن وابن أخ شقيق، فلا شيء لابن الأخ؛ لأن الابن أقرب منه، فيقدم الأقرب جهة كالابن مع الأب، فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة، فيقدم الابن علي ابن الابن، والعم على ابن العم، فإن كانوا في منزلة واحدة وتميز أحدهم بقوة القرابة، ولا يتصور ذلك إلا في فروع الأصول؛ كالإخوة والأعمام مطلقًا وبنيهم، قدم الأقوى، وهو الذي يدلي بالأبوين -وهو الشقيق- على الذي لأب.

وموضوع ترتيب العصبة وجهات التعصيب محله كتب الفرائض.

* الوجه السادس: استدل العلماء بهذا الحديث على مسائل العول، وذلك أن أصحاب الفروض إذا كثروا وتزاحمت فروضهم ولم يحجب بعضهم بعضًا أنه يعوَّل لهم، فينقص من نصيب كل وارث بقدر نسبة ما عالت به المسألة إلى أصلها بعد العول.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعطاء ذوي الفروض فروضهم ولا يتحقق ذلك إذا كثرت الفروض وزادت على أصل المسألة إلا بالعول، وهذه قاعدة عامة في كل من اشتركوا في استحقاق شيء ولا يمكن أن يعطى كل

ص: 98

واحد منهم حقه كاملًا، وليس لواحد منهم مزية تقديم، فإنهم ينقصون على قدر استحقاقهم، كما في الديون إذا كانت موجودات الغريم لا تفي بجميع ما عليه من الديون، وهكذا في الهبات والوصايا والأوقاف وغير ذلك

(1)

.

* الوجه السابع: استدل العلماء بهذا الحديث على القول بالرد على الورثة عدا الزوجين إذا تعذر وجود العصبات، وبقي بعد الفروض بقية، فإنه يرد على الورثة بنسبة فروضهم؛ لأن من حكمة الفروض وتقديرها: أن تبقى البقية للعاصب، فإذا لم يوجد رُدَّ على المستحقين لعدم التزاحم. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "بهجة قلوب الأبرار" ص (128).

ص: 99

‌لا توارث بين مسلم وكافر

948/ 2 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيدٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الفرائض"، باب (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له)(6764)، ومسلم (1614) من طريق ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، مرفوعًا.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا توارث بين المسلم والكافر، فإذا كان الميت مسلمًا والوارث كافرًا أو بالعكس لم يحصل بينهما توارث، وذلك لأن رابطة الدين والعقيدة أقوى من رابطة النسب والنكاح والولاء، فإذا فقدت انقطعت الصلة بين المتوارثين شرعًا، ولهذا قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسلام عن ابنه الكافر:{إِنَّهُ لَيسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، وقد ذكر العلماء أن اختلاف الدين أحد موانع الإرث ولو وجد سبب الإرث من قرابة أو غيرها.

* الوجه الثالث: أجمع العلماء على أن الكافر لا يرث من قريبه المسلم إذا مات، واختلفوا في توريث المسلم من قريبه الكافر، فالجمهور على أنه لا توارث؛ لعموم هذا الحديث.

ص: 100

وروي عن معاذ بن جبل وسعيد بن المسيب توريثه

(1)

، واحتجا بحديث "الإسلام يعلو ولا يعلى" وفي لفظ:"الإسلام يزيد ولا ينقص"

(2)

.

والصواب الأول؛ لأن هذا الحديث ليس فيه دليل على المدعى؛ لأنه ورد في عموم فضل الإسلام، ولم يتعرض للميراث، وحديث الباب نص واضح في هذه المسألة، ولعله لم يبلغ معاذًا وسعيدًا، والله أعلم.

* الوجه الرابع: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه لا توارث بين المسلم والكافر ولو بالولاء؛ لعموم حديث الباب، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ورواية عن أحمد.

وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى استثناء التوارث بالولاء من هذا الحديث، وأنه لا يمنعه اختلاف الدين، فيرث المولى ممن له عليه ولاية وإن كان مخالفًا له في الدين، ودليل ذلك حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته"

(3)

.

والصواب قول الجمهور، وأنه لا يستثنى شيء؛ لعموم الحديث، وليس هناك دليل صحيح على استثناء هذه الصورة، فيبقى الحديث على عمومه.

وأما حديث جابر فهو ضعيف، وعلى فرض صحته فمعناه: أن ما بيد العبد إذا مات يكون لسيده، كما في حال الحياة، لا أن المراد به الإرث من العتيق؛ لأنه سماه عبدًا، والعبد لا ملك له وما بيده لسيده، ثم إنه إذا كان لا

(1)

"فتح الباري"(12/ 50).

(2)

هذا الحديث رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ومنها حديث عائذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل، وأسانيده لا تخلو من مقال، وقد ذكرها الألباني في "الإرواء" (5/ 106 - 109) ثم قال:(وجملة القول إن الحديث حسن مرفوعًا بمجموع طريق عائذ ومعاذ، وصحيح موقوفًا، والله أعلم).

(3)

أخرجه الدارقطني (4/ 75)، والحاكم (4/ 345) والبيهقي (6/ 218) من طريق محمد بن عمرو اليافعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به، وهذا سند ضعيف، اليافعي قال عنه في "التقريب":(صدوق له أوهام)، وأبو الزبير وصفه النسائي بالتدليس، وقد عنعنه، ورجح الدارقطني في "العلل"(13/ 351) وقفه.

ص: 101

توارث بين المسلم والكافر بالنسب فالولاء من باب أولى؛ لأن ميراث النسب أقوى، وإذا منع الأقوى فالأضعف من باب أولى.

وبقي مسألة ثانية استثناها الحنابلة

(1)

، وهي إذا أسلم الكافر قبل قسمة التركة فيرث من قريبه المسلم ترغيبًا له في الإسلام.

والصواب قول الجمهور، وهو أنه لا يرث؛ لعموم هذا الحديث، ولأن الملك انتقل بالموت إلى المسلمين، فلم يشاركهم من أسلم بعد ذلك، كما لو اقتسموا، ولأن المانع من الإرث متحقق حال وجود الموت فلم يرث. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(9/ 160).

ص: 102

‌ما جاء في أن الأخوات مع البنات عصبة

949/ 3 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه في بِنْتٍ، وَبِنْتِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَضَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"للابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابْنَةِ الابْنِ السُّدْسُ -تَكْمِلَةَ الثُّلُثَينِ- وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الفرائض"، باب (ميراث ابنة ابن مع ابنة)(6736) من طريق شعبة، حدثنا أبو قيس: سمعت هُذيل بن شرحبيل قال: سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود. فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن البنت لها النصف إذا كانت واحدة ولم يوجد معها معصب وهو أخوها، ولا مشارك وهي أختها، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أعطى البنت مع أختها الباقي، ولم يعطها النصف، فدل على شرطية عدمه، وأنه تعالى أعطاها إذا كانت واحدة النصف،

ص: 103

فدل على شرطية عدم المشارك

(1)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن بنت الابن لها مع البنت السدس تكملة الثلثين إذا لم يوجد معها معصب، وهو أخوها، أو ابن عمها الذي في درجتها، لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَينِ} [النساء: 11] فإذا وجد المعصب لم ترث بالفرض، فلا تأخذ السدس، فاشترط عدمه، وأن توجد معها بنت واحدة، ووجه ذلك: أن إناث الفروع لا يتجاوز فرضهن الثلثين، كما قال تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وبنت الابن بمنزلة البنت، فصارت مع البنت الواحدة بمنزلة بنتين، والبنتان تستحقان الثلثين، فإذا أخذت البنت النصف لم يبق من الثلثين إلا السدس، فيكون لبنت الابن، سواء أكانت واحدة أم أكثر؛ لأن الفرض لا يزيد بزيادتهن، لما ذُكر.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأخوات الشقيقات أو لأب مع البنات عصبات، ووجه ذلك: أن الأخوات لا يرثن مع ذكر الفرع الوارث كالابن، فإذا كان الفرع الوارث أنثى واحدة أو أكثر أخذن فرضهن، والباقي للأخوات تعصيبًا، ويسمى التعصيب مع الغير.

ووجه الاستدلال: أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يفرض للأخت مع وجود البنت، بل أعطاها الباقي تعصيبًا.

ودل على ذلك -أيضًا- حديث الأسود بن يزيد قال: أتانا معاذ بن جبل باليمن معلمًا وأميرًا، فسألناه عن رجل توفي وترك ابنته وأخته، فأعطى الابنة النصف، والأخت النصف

(2)

.

قال ابن بطال: (أجمعوا على أن الأخوات عصبة للبنات، فيرثن ما فضل عن البنات

)

(3)

. فإن وجد مع الأخوات معصب وهو الأخ الشقيق أو الأب ورثن معه بالتعصيب، ويسمى التعصيب بالغير، والله تعالى أعلم.

(1)

"تقريب الفرائض" ص (23).

(2)

أخرجه البخاري (6734).

(3)

"شرح صحيح البخاري"(8/ 355).

ص: 104

‌لا توارث بين أهل ملتين

950/ 4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَينِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، إلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ أُسَامَةَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (11/ 245)، وأبو داود في كتاب "الفرائض"، باب (هل يرث المسلم الكافر؟)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 125)، وابن ماجه (2731) من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا.

وكلهم زادوا لفظة: (شتى) إلا ابن ماجه والنسائي في إحدى روايته، وهذا حديث حسن، لما علم من أن الراجح في سلسلة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنها من قبيل الحسن، وقد صححه ابن الملقن

(1)

.

وأخرجه الحاكم (2/ 240) من حديث أسامة رضي الله عنه من طريق علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة رضي الله عنه بلفظ:"لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا"، ثم قرأ:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)} [الأنفال: 73].

وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي،

(1)

"خلاصة البدر المنير"(2/ 135).

ص: 105

لكن حصل اختلاف في سياق الإسناد عند الذهبي في "التلخيص" حيث ساقه من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، وهذا يحتاج إلى تحرير.

ورواه النسائي في "الكبرى"(6/ 125) من طريق هُشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين، به، بلفظ:"لا يتوارث أهل ملتين".

وهذا معلول، قال الدارقطني:(هذا اللفظ في حديث أسامة غير محفوظ)

(1)

، وقال أحمد:(لم يسمع هشيم من الزهري حديث علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين")، وقال الذهبي في هشيم:(كان مدلسًا، وهو لين في الزهري)

(2)

.

وفيه -أيضًا- مخالفة هشيم أصحاب الزهري في لفظه وسنده على ما تقدم في الحديث.

ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث بعد حديث أسامة المتقدم لأنه أعم منه، ولو أن الحافظ جعلهما متواليين ولم يفصل بينهما بحديث ابن مسعود رضي الله عنه في ميراث البنت وبنت الابن والأخت لكان أحسن، وقد قلد في ذلك ابن عبد الهادي في "المحرر"، بينما جعلهما ابن دقيق العيد متواليين.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا توارث بين أهل ملتين كافرتين، فاليهودي لا يرث قريبه النصراني أو المجوسي، وكذا العكس لاختلاف الدين بينهما، فهما كالمسلم مع الكافر، وهذا قول الإمام أحمد وقول عند المالكية، نصره الموفق ابن قدامة

(3)

.

القول الثاني: أن الكفار يتوارثون فيما بينهم دون النظر إلى اختلافهم في الديانة، وهذا مذهب الجمهور من الشافعية والحنفية ورواية عن الإمام أحمد

(4)

.

واستدلوا بما يلي:

(1)

"التلخيص"(3/ 97).

(2)

"الميزان"(4/ 306).

(3)

"المغني"(9/ 157)، "حاشية الدسوقي"(4/ 432 - 433).

(4)

"المغني"(9/ 157)، "المهذب"(2/ 25)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 489).

ص: 106

1 -

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وهذا عام في جميعهم، لا يستثنى منه إلا ما دل عليه دليل.

2 -

أن الله تعالى ذكر توريث القرابة في القرآن ذكرًا عامًّا، فلا يُترك إلا فيما استثناه الشرع، وما لم يستثنه يبقى على العموم.

وحملوا حديث الباب على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام وبالأخرى الكفر، ليكون مساويًا لحديث أسامة المتقدم:"لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".

وسبب الخلاف: هل الكفر ملة واحدة أو ملل شتى؟ فمن قال: إن الكفر ملة واحدة قال: بالتوارث بين الكفار، ومن قال: إن الكفر ملل شتى، قال: لا يرث أهل كل ملة من الملة الأخرى لاختلاف الدين.

ويروى عن مالك وبعض السلف ورواية عن أحمد أن الكفر ثلاث ملل، فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، وبقية الكفر ملة واحدة؛ كالمجوسية والصابئة وغيرهم ممن لا كتاب لهم.

والقول الأول هو الراجح، لأمرين:

الأول: أن حديث الباب نص في نفي التوارث بين أهل ملتين.

الثاني: أن كل ملة لا موالاة بينها وبين الملة الأخرى ولا اتفاق في الدين بينهما، فلم يرث بعضهم بعضًا كالمسلمين مع الكفار، وأما عمومات القرآن في توريث القرابة فهي مخصصة بمثل حديث الباب، فلم تبق على عمومها.

* الوجه الثالث: دل الحديث بمفهومه على أن أهل الملة الواحدة يرث بعضهم بعضًا، وهذا لا خلاف فيه. والله تعالى أعلم.

ص: 107

‌ميراث الجد

951/ 5 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: إِنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ، فَمَا ليَ مِنْ مِيرَاثِهِ؟ فَقَال:"لَكَ السُّدُسُ"، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَال:"لَكَ سُدُسٌ آخَرُ"، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَال:"إِنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (33/ 81 - 82)، وأبو داود في كتاب "الفرائض"، باب (ما جاء في ميراث الجد)(2896)، والترمذي (2099)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 110) من طريق قتادة، حدثنا الحسن، عن عمران رضي الله عنه، به.

وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). وهذا هو المثبت في "جامع الترمذي" وفي "تحفة الأشراف"(8/ 175 - 176)، ونقل ابن دقيق العيد تحسينه فقط، وزاد:(لأنه لا يصح سماع الحسن عن عمران، وقد خولف في هذا)

(1)

، والحافظ عزا الحديث إلى الأربعة، والظاهر أنه وهم، فإن الحديث ليس عند ابن ماجه.

وقد اختلف أهل العلم في سماع الحسن من عمران بن حصين رضي الله عنه، فذهب أحمد وأبو حاتم وابن المديني والبيهقي

(2)

وآخرون إلى أنه لم يسمع منه مطلقًا، وعلى هذا فالحديث ضعيف لانقطاعه.

(1)

"الإلمام" رقم (1048).

(2)

انظر: "الجرح والتعديل"(1/ 2 / 41)، "المراسيل" لابن أبي حاتم ص (38)، "العلل" =

ص: 108

وقال البزار والحاكم

(1)

إنه سمع منه مطلقًا، ورجحه الشيخ عبد العزيز بن باز، وفيه قول ثالث: أنه سمع منه بعض الأحاديث، وينبغي أن يعلم أن الحسن البصري مع جلالة قدره كثير الإرسال والتدليس، فمثله لا يقبل حديثه إلا إذا صرح بالتحديث، وهذا هو المشهور عند أهل العلم.

وقد ورد في الباب حديث يونس بن عبيد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد، فقام معقل بن يسار المزني، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا؟ قال: "السدس"، قال: مع من؟ قال: "لا أدري"، قال:"لا دريت، فما تغني إذن؟! "

(2)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الجد يرث بالفرض ويرث بالتعصيب، والمراد به: من ليس بينه وبين الميت أنثى؛ كأبي الأب وهو يرث السدس إذا كان للميت ذكر وارث من الفروع، ولم يوجد أب أو جد أقرب منه؛ كأبي أبي الأب مع وجود أبي الأب، ودليل الشرط الأول قوله تعالى:{وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ومعلوم أن الجد أب فيأخذ ميراثه.

وأما دليل الشرط الثاني: فهو الإجماع

(3)

، ولأن الجد يدلي بالأب فلا يرث مع وجوده؛ لأن قاعدة الفرائض أن كل وارث من الأصول يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأب يحجب الجد؛ لأنه من جنسه، والأم تحجب الجدة كذلك، ولا يحجب الأب الجدة لأنه ليس من جنسها.

= لابن المديني ص (51)، "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 70، 80)، "تهذيب التهذيب"(2/ 231).

(1)

انظر: "مستدرك الحاكم"(1/ 29)، "نصب الراية"(1/ 90).

(2)

أخرجه أبو داود (2897)، وأحمد (33/ 424)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2/ 561)، مع أن الحسن البصري لم يسمع من عمر رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 291) ومن طريقه ابن ماجه (22/ 27)، وأخرجه أحمد (33/ 423) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عمرو بن ميمون بنحوه، وقد حسن إسناده المعلق على المسند.

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 91).

ص: 109

ومثال إرثه بالفرض فقط: أن يموت شخص عن جده وابنه، فللجد السدس، وللابن الباقي.

ويرث الجد بالتعصيب فقط إذا لم يكن للميت فرع وارث؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] ففرض للأم ولم يفرض للأب، فدل على أنه يرث في هذه الحال بالتعصيب فقط. والجد بمنزلة الأب؛ كهالك عن أمه وجده، فللأم الثلث، وللجد الباقي.

ويرث بالفرض والتعصيب إذا كان للميت فرع وارث أنثى لا ذكر معها، لقوله تعالى:{وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]، ولحديث الباب فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجد السدس فرضًا، وأعطاه السدس الآخر تعصيبًا، لذا قال:"إن السدس الآخر طُعمة" بضم الطاء؛ أي: رزق لك وزيادة على الحق المقدر بسبب عدم كثرة أصحاب الفروض، وليس بفرض إذ لو كثروا لم يبق هذا السدس الآخر لك، وصورة المسألة: أن الميت ترك بنتين وهذا السائل، وهو الجد، فلهما الثلثان، فبقي الثلث يأخذ سدسًا منه بالفرض والسدس الآخر بالتعصيب، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ثم دعاه ودفع إليه السدس الآخر؛ لئلا يتوهم أنه فريضة كالسدس الأول، فيظن أن فرضه الثلث، ولذا سَمَّى السدس الأخير طُعمةً دون الأول؛ لأنه فرض، والفرض لا يتغير بخلاف التعصيب.

ومثال ذلك -أيضًا-: أن يموت شخص عن بنته وجده، فللبنت النصف، وللجد السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا. والله تعالى أعلم.

ص: 110

‌ميراث الجدة

952/ 6 - وعَنِ ابْنِ بُرَيدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ، وَقَوّاهُ ابْنُ عَدِيٍّ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "الفرائض"، بابٌ (في الجدة)(2895)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 111)، وابن الجارود (960)، وابن عدي في "الكامل"(4/ 330) كلهم من طريق أبي المنيب عبيد الله العتَكي، عن ابن بريدة، عن أبيه، مرفوعًا.

وهذا سند فيه أبو المنيب عبيد الله العتكي مختلف فيه، قال البخاري:(عنده مناكير) ووثقه ابن معين، وأبو داود، والنسائي، وفي موضع آخر قال:(ضعيف) وقال ابن عدي: (ولأبي المنيب هذا أحاديث غير ما ذكرت، وهو عندي لا بأس به)

(1)

.

والحديث ضعفه الألباني فقال: (هذا سند ضعيف من أجل عبيد الله، وهو ابن عبد الله، قال الحافظ: "صدوق يخطئ")

(2)

، وقد خالف هذا في موضع آخر فإنه لما نقل كلام ابن عدي المتقدم، قال عقبه: (قلت: وهذا هو الذي يتلخص من خلافهم فيه، أنه حسن الحديث إذا لم يخالف، صحيح الحديث إذا وافق الثقات

)

(3)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 25).

(2)

"الإرواء"(6/ 121).

(3)

"السلسلة الصحيحة"(6/ 958).

ص: 111

والحديث له شواهد، كلها معلولة، وجاء في معناه مراسيل، بعضها صحيح

(1)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الجدة ترث السدس بشرط ألا يوجد معها أم؛ إذ لا ميراث للجدة مع وجود الأم، بناءً على القاعدة المتقدمة، والمراد بالجدة التي ترث هي أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وإن علون بمحض الإناث، وأما الجدة التي تدلي بذكر بينه وبين الميت أنثى؛ كأم أبي الأم، فإنها لا ترث؛ لأنها من ذوي الأرحام.

وميراث الجدة السدس، سواء أكانت واحدة أم أكثر، فلا يزيد الفرض بزيادتهن.

فإن تعددت الجدات وتساوين في القرب فالسدس بينهن بالسوية؛ كهالك عن أم أم، وأم أب، وعم.

وإن كان بعضهن أقرب من بعض سقطت البعيدة؛ كهالك عن أم أم أم، وأم أب، وعم، فالسدس لأم الأب فقط؛ لأنها أقرب، والباقي للعم. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الإرواء"(6/ 127)، "شرح كتاب: منهاج السالكين" للشيخ: أحمد الزومان "كتاب المواريث".

ص: 112

‌ميراث ذوي الأرحام

953/ 7 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْخَالُ وَارثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ، وَحَسّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ.

954/ 8 - وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَال: كَتَبَ مَعِي عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيدَةَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "الله وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو أمامة أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاري الأوسي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه رآه ولم يسمع منه، وقال ابن عبد البر: يُعدُّ في كبار التابعين، حدث عن أبيه

(1)

وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه ابناه: محمد وسهل، والزهري، وحكيم بن حكيم بن عباد وغيرهم، مات سنة مائة، وله نيّف وتسعون سنة

(2)

.

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث المقدام فقد أخرجه أحمد (28/ 413 - 414)، وأبو داود (2899)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 116)، وابن ماجه (2738)، وابن حبان

(1)

ستأتي ترجمته في آخر "العتق" إن شاء الله تعالى.

(2)

"الاستيعاب"(11/ 130)، "سير أعلام النبلاء"(3/ 517)، "الإصابة"(11/ 25).

ص: 113

(13/ 397) كلهم من طريق شعبة، عن بُديل -يعني: ابن ميسرة- عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام، قال:

وذكر الحديث.

وأخرجه أبو داود (2900)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 116)، وابن ماجه (2634)، والحاكم (4/ 344) من طريق حماد بن زيد، عن بديل بن ميسرة، به.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) وتعقبه الذهبي في "التلخيص" فقال: (علي بن أبي طلحة، قال أحمد:"له منكرات"

(1)

ولم يخرج له البخاري).

وقد أخرج له مسلم وهو صدوق، وراشد بن سعد لم يخرج له الشيخان، وأبو عامر الهوزني: اسمه عبد الله بن لُحَيّ لم يخرج له الشيخان كذلك.

والحديث حسنه أبو زرعة الرازي، كما نقله عنه ابن أبي حاتم في "العلل"

(2)

.

وفي سنده اختلاف مما جعل البيهقي يعله بالاضطراب، وذلك أن شعبة وحماد بن زيد ذكرا أبا عامر الهوزني بين راشد بن سعد وبين المقدام، كما مضى، وخالفهم معاوية بن صالح فرواه عن راشد بن سعد عن المقدام، فلم يذكر أبا عامر، أخرجه أحمد (28/ 431 - 432)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 115)، قال الدارقطني:(الأول أشبه بالصواب)، ومعاوية بن صالح هو ابن حُدير، قال عنه في "التقريب":(صدوق له أوهام).

وقال الطحاوي: (ليس ينكر على راشد بن سعد أن يكون سمع المقدام بن معدي كرب؛ لأنه سمع ممن كان في أيامه من أصحاب

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 298).

(2)

"العلل"(1640، 1636).

ص: 114

رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سمع من معاوية بن أبي سفيان، وأهل الحديث قد يختلفون في أسانيد الحديث، فيزيد بعضهم فيها على بعض الرجل ومن هو أكثر منه في العدد، فوجب أن يحمل أمر معاوية بن صالح في ذلك على مثل ما حملوه عليه فيه)

(1)

، وعلى هذا يكون راشد بن سعد رواه مرة بواسطة عامر الهوزني، ومرة بلا واسطة

(2)

، لكن كلام الدارقطني هو الصواب، إذ لا مقارنة بين شعبة وحماد بن زيد وبين أبي معاوية.

وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (1/ 321)، والترمذي (2103)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 114)، وابن ماجه (2737)، وابن حبان (13/ 400 - 401) كلهم من طرق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، قال: كتب عمر

الحديث.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن)

(3)

، وفيه عبد الرحمن بن الحارث: صدوق له أوهام، كما في "التقريب"، وحكيم بن حكيم: صدوق، كما في "التقريب" أيضًا، والحديث له شواهد، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له"

(4)

.

* الوجه الثالث: في شرح الألفاظ:

قوله: (من لا وارث له) أي: من أهل الفروض والعصبات.

قوله: (إلى أبي عبيدة) وهو عامر بن عبد الله بن الجراح، غلبت كنيته

(1)

"شرح مشكل الآثار"(7/ 174).

(2)

انظر: "الجوهر النقي"(6/ 214).

(3)

نقل الألباني في "الإرواء"(6/ 137) أن الترمذي قال: (هذا حديث حسن صحيح)

وهذا مثبت في الطبعة التي أكملها يوسف الحوت، وأشار بشار عواد في طبعته (3/ 607) إلى أن هذا موجود في بعض النسخ، وحكم عليه بأنه خطأ وأن الصواب تحسينه فقط، قلت: وهذا هو الذي ذكره المزي في "تحفة الأشراف"(8/ 4)، وذكره الحافظ- هنا- في "البلوغ".

(4)

أخرجه الترمذي (2104)، ورجح الدارقطني والبيهقي (6/ 215) وقفه على عائشة رضي الله عنها، انظر:"العلل"(14/ 335)، "التلخيص"(3/ 93).

ص: 115

على اسمه، أحد السابقين الأولين، وذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا وما بعدها، شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة

(1)

، وسماه أمين الأمة

(2)

، ومناقبه شهيرة جمة، وقد عزم أبو بكر رضي الله عنه على توليته الخلافة، وأشار به يوم السقيفة، لكمال أهليته عند أبي بكر رضي الله عنه، مات سنة ثماني عشرة، وعمره ثمان وخمسون سنة رضي الله عنه

(3)

.

قوله: (مولى من لا مولى له) أي: ولي من لا ولي له، ووارث من لا وارث له، وفي لفظ:(وأنا وارث من لا وارث له، أرثه وأعقل عنه)، والمراد بذلك: وضع ماله في بيت مال المسلمين.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على توريث ذوي الأرحام، وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا تعصيب؛ كالخال والخالة، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد بنات الابن، وأبي الأم وغيرهم.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخال وارثًا عند عدم الوارث بفرض أو تعصيب، والخال من ذوي الأرحام، فيلحق به غيره منهم.

والقول بتوريثهم مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، والوجه الثاني في مذهب الشافعية إذا لم ينتظم بيت المال، وهو المفتى به عند متأخريهم ومتأخري المالكية بهذا الشرط

(4)

، ونصره ابن القيم

(5)

.

(1)

رواه الترمذي (3747) والنسائي في "الكبرى"(7/ 328)، وأحمد في "المسند" (3/ 209) وفي "فضائل الصحابة" (1/ 229) وانظر:"العلل" للدارقطني (4/ 417 - 418).

(2)

أخرجه البخاري (3744)، ومسلم (2419)، وسيأتي آخر الباب.

(3)

"الاستيعاب"(5/ 292)، "سير أعلام النبلاء"(1/ 5)، "الإصابة"(5/ 285).

(4)

"المغني"(9/ 82)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 504)، "المهذب"(2/ 32)، "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 416).

(5)

"تهذيب مختصر السنن"(4/ 170).

ص: 116

واستدلوا -أيضًا- بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] أي: أحق بالتوارث في حكم الله تعالى وشرعه، ولفظ:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} عام يشمل جميع الأقارب، سواء كانوا أصحاب فروض أو عصبات أو غيرهم.

والقول الثاني: أنهم لا يرثون، ويُجعل مال الميت في بيت المال، وهذا قول زيد بن ثابت، وهو مذهب المالكية والشافعية

(1)

.

واستدلوا بحديث أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" وسيأتي إن شاء الله في باب "الوصايا".

ووجه الاستدلال: أنه لو كان ذو الرحم -بالمعنى المتقدم- ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثًا

(2)

.

وأجابوا عن أحاديث الباب بأجوبة غير ناهضة؛ كقولهم: إن هذه الأحاديث في أسانيدها مقال فلا تقوم بها حجة، وما تقدم في تخريجها يكفي جوابًا عن ذلك، وكقولهم: إن المراد بالحديث السلب، بمعنى أن من ليس له إلا خال فلا وارث له؛ كقولهم: الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع طعام من لا طعام له، وهذا تأويل فاسد لأمور ثلاثة:

1 -

أن قوله: (يرثه) يبطل هذا التأويل.

2 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه وارثًا.

3 -

أن المخاطبين بهذا اللفظ فهموا منه الميراث دون غيره، ولهذا كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه.

وعلى هذا فالقول الأول أرجح لأمرين:

(1)

"المغني"(9/ 82)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 504)، "المهذب"(2/ 32)، "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 416).

(2)

"تفسير ابن كثير"(4/ 43).

ص: 117

الأول: لقوة أدلته، فإن منها ما هو عام يحتج بعمومه كالآية الكريمة، ومنها ما هو خاص وظاهر في محل النزاع كأحاديث الباب.

الثاني: أنه إذا بقي الأمر دائرًا بين أن يكون المال الذي خلفه الميت لبيت المال لمنافع البعيدين عن ذلك الميت، وبين كونه يرجع إلى أقاربه المدلين إلى الميت بالورثة المجمع عليهم تعين الثاني؛ لأن صرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره؛ لأن ذوي الأرحام شاركوا عموم المسلمين في الإسلام، وزادوا عليهم بالقرابة، فيكونون أحق بمال قريبهم

(1)

.

وأما استدلال أصحاب القول الثاني بحديث: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" فليس بصحيح؛ لأن الحديث سيق في إبطال الوصية للوارث؛ لأنه قد أُعطي حقه من الميراث، وهذا لا ينافي توريث ذوي الأرحام الذين ثبت إرثهم بأدلة أخرى، فهم داخلون فيمن أعطاه الله حقه.

* الوجه الخامس: شرط إرث ذوي الأرحام ألا يوجد وارث يقدم عليهم، وهو صاحب الفرض أو التعصيب، فإن وجد لم يرث ذوو الأرحام؛ لأن أصحاب الفروض منصوص على فروضهم، والعاصب يستحق ما فضل عن الفرض، ولأن صاحب الفرض والعاصب أقرب إلى الميت من ذوي الأرحام فكان أولى بميراثه.

فإذا خلف الميت عصبة أو ذا فرض من أقاربه يُرَدُّ عليه، أخذ المال كله، ولا شيء لذوي الأرحام؛ كهالك عن أخيه لأمه وعمته، فالمال للأخ لأم فرضًا وردًا، ولا شيء للعمة.

وإن كان صاحب الفرض لا يرد عليه وهو الزوج والزوجة لم يمنع ذلك ميراث ذوي الأرحام، فيعطى الزوج أو الزوجة نصيبه، والباقي لذي الرحم؛ كهالك عن زوج وبنت بنت، فللزوج النصف، وبنت البنت النصف.

(1)

"تفسير ابن سعدي" ص (170)، "التحقيقات المرضية" ص (264).

ص: 118

الوجه السادس: يورث كل واحد من ذوي الأرحام بالتنزيل، فينزل كل وارث منهم منزلة من أدلى به، ثم يقسم المال بين المدلى بهم، فما صار لكل واحد أخذه المدلي، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والأقيس الأصح عند الشافعية، وعند المالكية.

فإذا مات عن بنت بنته، وابن أخته الشقيقة، وبنت أخيه لأب، فنعتبر الميت كأنه مات عن بنت وأخت شقيقة وأخ لأب، فلبنت البنت النصف نصيب أمها التي أدلت بها، وابن الأخت له النصف -أيضًا- نصيب أمه، ولا شيء لبنت الأخ لأب؛ لأن الشقيقة عصبة مع البنت، كما تقدم، فتأخذ الباقي، وهي بمنزلة الأخ الشقيق، فتحجب الأخ لأب، وكذا فرعه. والله تعالى أعلم.

ص: 119

‌ميراث الحمل

955/ 9 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه الترمذي في أبواب "الجنائز"، باب (ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهلَّ)(1032)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 117)، وابن ماجه (1508)(2750)، وابن حبان (13/ 392) من طرق عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهلَّ".

وهذا لفظ الترمذي، وقد رواه إسماعيل بن مسلم المكي، عن أبي الزبير، كما عند الترمذي، وهذا سند ضعيف، من أجل إسماعيل بن مسلم، فقد ضعفه ابن معين والبخاري وابن المديني وأبو زرعة وغيرهم.

ورواه المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، كما عند النسائي، وهو صدوق، كما في "التقريب".

ورواه الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، كما عند ابن ماجه، وهذا سند ضعيف -أيضًا- فيه الربيع، وهو متروك.

ورواه سفيان الثوري، عن أبي الزبير، كما عند ابن حبان، وهذا السند رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة أبي الزبير.

ص: 120

وقد صحح الحاكم (4/ 348 - 349) هذا الحديث من طريق سفيان على شرط الشيخين، ووهَّمه الحافظ، فقال:(لأن أبا الزبير ليس من شرط البخاري وقد عنعن، فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظًا عن سفيان الثوري)

(1)

.

وقد ذكر الترمذي اضطراب الناس في هذا الحديث حيث روي مرفوعًا وموقوفًا، ورجح أن الموقوف عن جابر رضي الله عنه أصح من المرفوع، وقد رجح الموقوف -أيضًا- الدارقطني

(2)

، ورجحه -أيضًا- النسائي، فإنه لما ساقه موقوفًا بعد المرفوع قال: (وهذا أولى بالصواب من حديث المغيرة بن مسلم

).

وقال الحافظ: (ضعفه النووي في "شرح المهذب" والصواب أنه صحيح الإسناد، لكن المرجح عند الحفاظ وقفه، وعلى طريقة الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك؛ لأن الحكم للرفع لزيادته)

(3)

.

وقد رواه موقوفًا الدارمي (2/ 283)، وابن أبي شيبة (3/ 319)(11/ 382) من طريق أشعث بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر موقوفًا.

وأخرجه الدارمي (2/ 283)، والبيهقي (4/ 8) من طريقين عن محمَّد بن إسحاق، عن عطاء، عن جابر موقوفًا أيضًا.

وأما اللفظ المذكور في "البلوغ" فليس من حديث جابر رضي الله عنه، وإنما هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الذي رواه أبو داود (2920) من طريق محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا.

وهذا سند رجاله ثقات إلا ابن إسحاق، فإنه مدلس وقد عنعنه.

وللحديث شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الدارمي (2/ 283)، وابن عدي (4/ 13 - 14) من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن ابن

(1)

"التلخيص"(2/ 121).

(2)

"العلل"(13/ 381).

(3)

"فتح الباري"(11/ 489).

ص: 121

عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه".

قال الألباني: (وهذا سند لا بأس به في الشواهد، فإن شريكًا وهو ابن عبد الله القاضي ثقة إلا أنه سيء الحفظ، ومثله إسحاق وهو السبيعي، فإنه كان اختلط)

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا استهل المولود) الاستهلال: رفع الصوت، واستهل المولود: رفع صوته بالبكاء عند ولادته

(2)

.

وقد جاء تفسير الاستهل الذي حديث جابر والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الصبي حتى يستهل صارخًا، واستهلاله: أن يصيح أو يَعْطِسَ أو يبكي"

(3)

.

أما ما ذكره الصنعاني في "سبل السلام" من أن تفسير الاستهلال ورد في حديث ضعيف، فهو حدثنا ابن عمر مرفوعًا:"استهلال الصبي العطاس" وهو حديث ضعيف

(4)

، وهو غير حديث جابر والمسور رضي الله عنهما، وقوله:(صارخًا) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حال مؤكدة.

وهذا كناية عن ولادته حيًّا وإن لم يستهلَّ، بل وجدت منه أمارة تدل على حياته؛ كالتنفس والرضاع، ونحو ذلك.

قوله: (ورث) ضبطه شارح سنن أبي داود بضم الواو وتشديد الراء

(1)

"الصحيحة" رقم (153).

(2)

"المصباح المنير" ص (639).

(3)

أخرجه ابن ماجه (2751)، والطبراني في "الأوسط"(5/ 303)، من طريق مروان بن محمَّد، ثنا سليمان بن بلال، حدثني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة به، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (152)، مع أنه قد تفرد به مروان بن محمَّد عن سليمان، وأغلب ما ينفرد به ابن ماجه وما يرويه الطبراني في "الأوسط" غرائب.

(4)

أخرجه البزار (1/ 554 مختصر زوائده) وسنده ضعيف، فيه محمَّد بن عبد الرحمن البيلماني، قال البزار عقبه:(محمَّد بن عبد الرحمن له مناكير، وهو ضعيف عند أهل العلم).

ص: 122

مكسورة؛ أي: جعل وارثًا

(1)

، وضبطه بعضهم بفتح الواو وكسر الراء؛ أي: ورث من قريبه الذي مات

(2)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على ميراث العمل، بشرط أن يولد حيًّا، وذلك بأن يستهل عند ولادته بصراخ أو بكاء أو عطاس أو نحو ذلك مما يدل على تحقق حياته.

أما الحركة اليسيرة أو الاضطراب أو التنفس اليسير الذي لا يدل على الحياة المستقرة فلا عبرة به. ومتى شُك في وجود الحياة المستقرة لم يرث؛ لأن الأصل عدمها.

وشرط الفقهاء -أيضًا- تحقق وجوده في الرحم حين موت مورثه ولو نطفة، وذكروا لذلك ضوابط يعرف بها، ويمكن الاستفادة من التحاليل الطبية والأشعة في عصرنا هذا إذا اقتنع بها القاضي، ووجه هذا الشرط أن الميراث خلافة عن الميت، والمعدوم لا يتصور أن يكون خليفة عن أحد، وأُولى درجات الخلافة الوجود، واشترطت حياته عند انفصاله فقط؛ لأن حالته عند موت المورث مجهولة لا يمكن معرفة حقيقتها، فإذا انفصل حيًّا في المدة المحدودة كان ذلك دليلًا على وجوده يومئذ.

* الوجه الرابع: إذا مات الميت عن ورثة فيهم حمل، فإن رضوا بتأجيل قسمة التركة حتى يوضع العمل فهذا أولى لتكون القسمة مرة واحدة، وإن طلبوا أو طلب بعضهم القسمة قبل الوضع فلهم ذلك، وفي صفة القسمة تفاصيل محلها كتب الفرافض، والله تعالى أعلم.

(1)

"عون المعبود"(8/ 134).

(2)

"توضيح الأحكام"(4/ 294).

ص: 123

‌حكم توريث القاتل

956/ 10 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيءٌ"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ، وَالصَّوَابُ وَقفُهُ عَلَى عُمَر.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه النسائي في "الكبرى"(6/ 120)، والدارقطني (4/ 97) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج ويحيى بن سعيد، وذَكَرَ آخر، ثلاثتهم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وذكر الحديث.

وهذا السياق للنسائي، وجاء عند الدارقطني بعد يحيى بن سعيد المثنى بن الصبَّاح، ولعله المراد برواية النسائي.

وهذا سند ضعيف؛ لأن رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين ضعيفة، وهذا منها، ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه أبو داود (4564) من طريق محمَّد بن راشد، ثنا سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب به، ولفظه:"ليس للقاتل شيء، فإن لم يكن له وارث يرثه أقرب الناس إِليه، ولا يرث القاتل شيئًا".

قال ابن عبد البر: (هذا حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز

ص: 124

والعراق، مستفيض عندهم، يستغني بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكاد أن يكون الإسناد في مثله لشهرته تكلفًا)

(1)

.

ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 867) ومن طريقه النسائي في "الكبرى"(6/ 120 - 121)، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، أن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لقاتل شيء".

قال النسائي عقبه: (وهو الصواب، وحديث إسماعيل خطأ) وهذه الجملة ليست موجودة في "سنن النسائي" المطبوع، وإنما نقلها عنه المزي في "تحفة الأشراف"

(2)

.

وقد أخرج الإِمام أحمد (1/ 423) عن أبي المنذر أسد بن عمرو، أُراه عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قتل رجل ابنه عمدًا، فرفع إلى عمر بن الخطاب، فجعل عليه مائة من الإبل، ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين ثنية، وقال:(لا يرث القاتل، ولو أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل والد بولده" لقتلتك).

وهذا سند فيه ضعف، لضعف أسد بن عمرو، ولتردده في أنه عن الحجاج، والحجاج هو ابن أرطاة، صدوق كثير الخطأ والتدليس، وقد عنعنه، لكنه قد توبع، تابعه ابن لهيعة وغيره

(3)

.

وقول الحافظ: (والصواب وقفه على عمر) جاء في أكثر نسخ "البلوغ" على عمرو، ولعل المثبت هنا هو الصحيح

(4)

، والله أعلم.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن القاتل لا يرث شيئًا من مال مورثه، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم، لهذا الحديث ولقاعدة: "من

(1)

"التمهيد"(23/ 437).

(2)

(6/ 341).

(3)

انظر: "المسند"(1/ 292)، "العلل" للدارقطني (2/ 207).

(4)

رجعت إلى مخطوطة لـ (البلوغ) فرغ ناسخها منها في ئاني عشر من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، أي قبل وفاة الحافظ ابن حجر بأربع سنوات. فوجدت فيها ما أثبته. وكذا في طبعة سمير الزهيري.

ص: 125

تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه"، وذلك أن الإنسان ظلوم جهول، قد يطغى عليه حب المال مع ضعف الإيمان فيستبطئ حياة مورثه، فتسول له نفسه الإقدام على قتله والقضاء عليه؛ ليستأثر بهذه الثروة، ويستبد بهذا المال، فعامله الشارع بنقيض قصده، فحرمه من الميراث.

ومع إجماع أهل العلم على أن القتل مانع من الإرث، إلا أنهم اختلفوا في صفة القتل الذي يمنع من الإرث على أقوال أربعة:

الأول: مذهب الحنابلة أن القتل المانع من الإرث، هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقود أو دية أو كفارة؛ كقتل العمد وشبهه والخطأ وما جرى مجرى الخطأ؛ كالقتل بالسبب؛ كحفر البئر، أو وضع حجر في الطريق، والقتل من الصبي والمجنون والنائم.

وأما القتل الذي لا يضمن بشيء مما ذكر فلا يمنع الإرث؛ كالقتل قصاصًا، أو حدًّا، أو دفاعًا عن النفس، أو قتل العادلِ الباغيَ، ونحو ذلك؛ لأن المنع من الإرث تابع للضمان، فإذا لم يكن القتل مضمونًا على القاتل بشيء، لم يمنع

(1)

.

القول الثاني: مذهب الشافعية أن القاتل لا يرث من قتيله بحال من الأحوال، فلا يستثنى عندهم شيء، وهو رواية عن أحمد، لعموم حديث الباب، ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يكون القتل ذريعة إلى استعجال الميراث، فوجب أن يحرم بكل حال، لحسم الباب

(2)

.

القول الثالث: مذهب الحنفية أن القتل المانع هو ما أوجب قصاصًا أو كفارة، وهو العمد وشبهه، والخطأ وما جرى مجراه؛ كانقلاب نائم على شخص، أو سقوطه عليه من سطح، بخلاف القتل بسبب كما لو حفر بئرًا، أو وضع حجرًا في الطريق، فقتل مورثه، وكذا القتل قصاصًا ونحوه، أوكان القاتل صبيًّا أو مجنونًا، فهذه الأنواع لا تمنع الإرث؛ لأنها لا توجب قصاصًا

(1)

"المغني"(9/ 152).

(2)

"المغني"(9/ 152)، "المهذب"(2/ 25 - 26).

ص: 126

ولا كفارة، وهما الأساس في القتل المانع من الإرث عندهم

(1)

.

القول الرابع: مذهب المالكية أنه إن كان القتل عمدًا عدوانًا فإن القاتل لا يرث من مال مورثه ولا من ديته، وإن كان القتل خطأ فإنه يرث من مال مورثه ولا يرث من ديته، ووجه كونه ورث من المال؛ لأنه لم يتعجله بالقتل، ووجه كونه لم يرث من الدية لأنها واجبة عليه، ولا معنى لكونه يرث شيئًا وجب عليه

(2)

. وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وهو أحد الاحتمالين عند الحنابلة، واختاره القرطبي، وابن المنذر، وابن القيم، وابن عثيمين، وهذا قول وجيه، لا سيما فيما يقع من حوادث السيارات، فيرث القاتل من مال المقتول، ولا يرث من الدية التي يأخذها ورثة المقتول من عاقلة ذلك القاتل

(3)

.

ويؤيد هذا القول أمور ثلاثة:

1 -

ما قاله القرطبي من أن ميراث من ورَّثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يُستثنى منه شيء إلا بسنَّة أو إجماع، وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث.

2 -

أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ومنع القاتل من الميراث منوط بسبب وهو العمد الذي يُدرك بالقرائن، فيغلب على الظن أنه قتل مورثه استعجالًا لإرثه منه، فإذا انتفى هذا السبب كما في حالة الخطأ لم يحكم بالمنع.

3 -

أن القاتل بالتسبب لم يكن قاتلًا حقيقة؛ لأنه لم يباشر القتل.

وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فلم يثبت ثبوتًا يطمئن إليه القلب في

(1)

"حاشية ابن عابدين"(5/ 489).

(2)

"الشرح الكبير بحاشية الدسوقي"(4/ 432).

(3)

"المهذب"(2/ 25)، "المغني"(9/ 152)، "تفسير القرطبي"(5/ 59)، "إعلام الموقعين"(4/ 336)، "الإنصاف"(7/ 368)، "حاشية الدسوقي"(4/ 486)، "حاشية ابن عابدين"(6/ 820)، "الشرح الممتع"(11/ 319).

ص: 127

تخصيص عموم آيات المواريث، ولو ثبت فهو محمول على ما إذا كان القاتل متهمًا بقصد قتل موَرِّثه ليرثه، فيكون من باب العام المراد به الخصوص، بناءً على ما تقتضيه قواعد الشريعة، ثم إن هذا الحديث لم يبق على عمومه عند أكثر المحتجين به، حيث أخرجوا من عمومه ما لو قتله حدًّا، أو لبغي، أو صيالة فلا يمنع الإرث، وكذا القتل الحاصل بتأديب أو دواء أو نحوه فإنه لا يمنع الإرث إذا كان مأذونًا فيه، ولم يحصل تعد ولا تفريط

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المبسوط"(30/ 47)، "تفسير القرطبي"(5/ 59)، "مجلة البحوث الإِسلامية"(65) ص (261).

ص: 128

‌الإرث بالولاء

957/ 11 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ أَو الْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْمَدِيني، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "الفرائض"، بابٌ (في الولاء)(2917)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 113 - 114)، وابن ماجه (2732) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال عمر بن الخطاب

وذكر الحديث.

وهذا السياق للنسائي، ورواه أبو داود وابن ماجه مطولًا، ولفظه: (قال: تزوج ربابُ بن حذيفة بن سعيد بن سهم أمَّ وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة، فتوفيت أمهم، فورثها بنوها رباعًا وولاءَ مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص إلى الشام فماتوا في طاعون عَمَواس

(1)

، فورثهم عمرو، وكان عصبتهم، فلما رجع عمرو بن العاص، جاء بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر، فقال عمر: أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: "

فذكر الحديث" وزاد: فقال: فقضى لنا به، وكتب لنا به كتابًا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وآخر، حتى إذا استخلف عبد الملك بن مروان توفي مولى لنا، فترك ألفي دينار، فبلغني أن ذلك القضاء

(1)

انظر: "معجم البلدان"(4/ 157).

ص: 129

قد غُيِّر، فخاصموا إلى هشام بن إسماعيل، فرفعنا إلى عبد الملك، فأتينا بكتاب عمر، فقال: إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يُشك فيه، وما كنت أرى أن أمر أهل المدينة بلغ هذا، أن يشكُّوا في هذا القضاء، فقضى لنا فيه، فلم نزل فيه بعد).

وهذا السياق لابن ماجه، وهو أتم من سياق أبي داود، فلذا ذكرته.

وهذا الحديث سنده حسن، ونقل ابن عبد الهادي في "المحرر"

(1)

أن ابن المديني رواه، وقال:(هو من صحيح ما روي عن عمرو)، وقال ابن عبد البر:(هذا حديث صحيح حسن غريب)

(2)

، وقد حسنه الألباني في "الصحيحة"

(3)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما أحرز الوالد أو الولد) أي: ما جمعه وحصله، أو ما استحقه من الأموال والحقوق.

قوله: (فهو لعصبته) أي: لعصبة ذلك الرجل المُحْرِزِ، والعصبة: جمع عاصب: وهو من يرث المال بلا تقدير، وعصبة الرجل: قرابته لأبيه.

قوله: (من كان) أي: ذلك العاصب قَرُبَ أو بَعُدَ.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على ميراث العصبة، وهو أن ما جمعه الوالد أو الولد من مال؛ فإنه يكون لعصبته، وهم قرابته من المذكور، وهم العصبة بالنفس.

* الوجه الرابع: استدل العلماء بهذا الحديث على الإرث بالولاء، فيرث المعتق الذي باشر العتق من عتيقه، ثم عصبته المتعصبون بأنفسهم الأقرب فالأقرب، ولا فرق بين أن يكون العتق منجزًا، أو معلقًا بصفة، تطوعًا

(1)

(2/ 615).

(2)

"التمهيد"(3/ 62).

(3)

(5/ 248).

ص: 130

أو واجبًا؛ كنذر أو كفارة أو غير ذلك، فإذا مات العتيق ولا وارث له بنسب ولا نكاح فماله لمعتقه، فإن كان له صاحب فرض لا يستغرق المال، فالباقي لمعتقه، فإن لم يكن المُعْتِق حيًّا ورث العتيقَ أقربُ عصبة المعتق بالنفس، وترتيبهم كترتيب عصبات النسب على ما هو مقرر في كتب الفرائض.

وجمهور العلماء على أن الولاء يورث به من جانب واحد، وهو جانب المعتق؛ لأنه صاحب الإنعام بالعتق، فاختص الإرث به، ولا يرث العتيق من معتقه، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: إن العتيق يرث من معتقه عند عدم الورثة، وذكر أنه قال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(28/ 277)، "الاختيارات" ص (195).

ص: 131

‌من أحكام الولاء

958/ 12 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مُحَمّدِ بنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الْبَيهَقِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه الشافعي (2/ 59 "ترتيب مسنده")، ومن طريقه الحاكم (4/ 231)، والبيهقي (10/ 292) عن محمَّد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

قال الحاكم: (صحيح الإسناد)، ورده الذهبي مشنعًا عليه بقوله:(قلت: بالدَّبُّوس)

(1)

!.

وعلة الحديث محمَّد بن الحسن وهو الشيباني، ويعقوب بن إبراهيم وهو أبو يوسف القاضي، وهما صاحبا أبي حنيفة، وهما وإن كانا فقيهين كبيرين في مذهب الحنفية إلا أنهما ليسا من الأثبات في الرواية، فقد ضعفهما غير واحد من الأئمة، وذكرهما الذهبي في "الضعفاء" فقال عن محمَّد بن الحسن:(ضعفه النسائي وغيره)، وقال عن يعقوب: (قال البخاري: تركوه، وقال

(1)

الدَّبُّوس: بوزن تَنُّور: واحد الدبابيس، للمقامع من حديد وغيره، انظر:"تاج العروس"(16/ 49)، "مختصر استدراك الذهبي" لابن الملقن (6/ 3084).

ص: 132

الفلاس: كان أبو يوسف صادقًا كثير الغلط)

(1)

.

والحديث أعله البيهقي، فقال:(قال أبو بكر النيسابوري: هذا الحديث خطأ؛ لأن الثقات لم يرووه هكذا، وإنما رواه الحسن مرسلًا)

(2)

. ثم ساقه البيهقي بإسناده عن الحسن البصري، وإسناده إلى الحسن صحيح

(3)

.

ورواه ابن حبان (11/ 325 - 326) عن أبي يعلى الموصلي، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن دينار، به.

وفي هذا الإسناد زاد بشر بن الوليد عبيد الله بن عمر

(4)

، وبشر بن الوليد متكلم فيه، فقد أثنى عليه الإِمام أحمد، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(5)

، وقال صالح جَزَرَة:(هو صدوق، ولكنه لا يعقل، كان قد خَرِفَ)، وقال الآجُرِّي: سألت أبا داود أبشر بن الوليد ثقة؟ قال: (لا). قال البيهقي عن الإسناد الأول: (كذا رواه -يعني الشافعي- عن محمَّد بن الحسن، عن أبي يوسف، وكأنه رواه محمَّد بن الحسن للشافعي من حفظه فزلَّ عن ذكر عبيد الله بن عمر في إسناده

) وقال: (هذا اللفظ بهذا الإسناد غير محفوظ، ورواه الجماعة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته)

(6)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الولاء) الولاء: بفتح الواو مع المد، لغة: السلطة والنصرة، ويطلق على القرابة، فيقال: بينهما ولاء؛ أي: قرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة، وهو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق.

(1)

"الضعفاء" ص (346، 445).

(2)

"السنن الكبرى"(10/ 292).

(3)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 123).

(4)

انظر: "فتح الباري"(12/ 44).

(5)

"الجرح والتعديل"(2/ 369)، "الثقات"(8/ 143)، "لسان الميزان"(2/ 316).

(6)

تقدم تخريجه في أول "البيوع" برقم (797).

ص: 133

قوله: (لحمة كلحمة النسب) اللحمة: بضم اللام وسكون الحاء، ويجوز فتح اللام، هي القرابة والعلاقة، والمعنى: أن الولاء ارتباط وعلقة بين المعتق وعتيقه كعلقة وارتباط النسب.

قوله: (لا يباع ولا يوهب) أي: لا يجوز التنازل عنه بثمن ولا بغير ثمن لشخص آخر؛ لأن هذه العصوبة أمر معنوي كالنسب الذي لا يتأتى انتقاله من شخص إلى شخص آخر، فلو قال: يا فلان بعتك قرابتي من أخي أو وهبتك إياها ما صار أخًا لهذا الشخص، فكذا ولاء العتق.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن بيع الولاء وعن هبته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شبهه بالنَّسَبِ، والنَّسَب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض، ووجه التشبيه: أن السيد لما أعتق عبده أَخرجه من حيِّز المملوكية التي ساوى بها البهائم إلى حيز المالكية التي امتاز بها عن سائر ما عداه من الحيوانات والجمادات، فأشبه بذلك الولادة التي هي سبب لإخراج المولود من العدم إلى الوجود وإلى التخلص لعبادة الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"العذب الفائض"(1/ 19).

ص: 134

‌ما جاء في أن زيد بن ثابت أعلم الصحابة بالفرائض

959/ 13 - عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أفرَضُكُمْ زَيدُ بْنُ ثَابِتٍ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، والْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالارْسَالِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في ترجمة الراوي:

وهو أبو قلابة -بكسر القاف وتخفيف اللام- عبد الله بن زيد الجرمي البصري رحمه الله، تابعي جليل، ثقة فاضل، كثير الإرسال، من رجال الستة، مات بالشام هاربًا من القضاء سنة أربع أو ست أو سبع ومائة

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرج الترمذي (3791)، والنسائي في "الكبرى"(7/ 363)، وابن ماجه (154)، وابن حبان (16/ 74)، والحاكم (3/ 422) كلهم من طريق عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام، معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".

(1)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 468)، "تهذيب التهذيب"(5/ 197).

ص: 135

وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم:(هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، وصححه -أيضًا- الحافظ

(1)

.

وتابع عبد الوهاب سفيان الثوري، عن خالد الحذاء به، أخرجه أحمد (20/ 252) وغيره.

وتابعه -أيضًا- وهيب، حدثنا خالد الحذاء به، أخرجه أحمد (21/ 405 - 406)، والنسائي في "الكبرى"(7/ 345).

وهؤلاء الثلاثة رووا الحديث عن خالد الحذاء موصولًا بهذا التمام، ولهم رابع وهو عمر بن حبيب القاضي، أخرجه الخطيب في "الفصل للوصل"(2/ 681) وهو ضعيف.

وبهذا السياق للحديث يتبين أن الحافظ اختصره، وساق منه ما له تعلق بالفرائض.

وقد أُعل هذا الحديث بالإرسال، أعله الدارقطني والبيهقي والخطيب وغيرهم

(2)

. قال البيهقي بعد ذكر رواية عبد الوهاب الموصولة: (ورواه بشر بن المفضل، وإسماعيل بن علية، ومحمد بن أبي عدي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، إلا قوله في أبي عبيدة، فإنهم وصلوه في آخره

(3)

، فجعلوه عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هؤلاء الرواة ثقات أثبات، والله أعلم (

(4)

.

هذا هو الصواب، وهو أن الموصول هو آخره فقط، وهو الذي رواه البخاري ومسلم من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(7/ 93).

(2)

"التلخيص"(4/ 79).

(3)

انظر: دراسة حديث "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" لمشهور بن حسن ص (19).

(4)

"السنن الكبرى"(6/ 210).

(5)

"صحيح البخاري"(3744)، "صحيح مسلم"(2419).

ص: 136

قال الحافظ عن حديث الباب: (إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال، والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري، والله أعلم)

(1)

.

ومعنى هذا أن أبا قلابة سرد ما ورد من مناقب للصحابة المذكورين وأرسله على سياقة واحدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واقتصر في الموضوع المتصل على ذكر أبي عبيدة، فوهم بعض الرواة فوصلوا الجميع، وعدوه من المرفوع المتصل.

وما قرره الحافظ هو الصواب؛ لأمور ثلاثة:

1 -

أن هذا القول يوافق ما عليه المحققون كالدارقطني والحاكم وأبي نعيم والبيهقي والخطيب وابن عبد البر وابن تيمية وابن عبد الهادي وغيرهم.

2 -

أن الشيخين رويا الحديث من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بالاقتصار على ذكر أبي عبيدة وحده، وإعراضهما عما عدا ذلك يدل على عدم وصله.

3 -

أن ابن عبد الهادي نقل كلامًا لشيخ الإِسلام ابن تيمية يقول فيه: (هو حديث ضعيف، وقال: لا أعلم أن زيدًا تكلم في الفرائض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر

)

(2)

، وهذا مما يشعر بضعف وصل هذا الحديث.

وللحديث شواهد، ولكنها لا تخلو من مقال:

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أفرضكم) أي: أفرض الصحابة المخاطبين، والمراد أفرض أمتي، ومعناه: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أعلم هذه الأمة بأحكام الفرائض.

(1)

"فتح الباري"(7/ 93).

(2)

دراسة حديث "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" ص (138)، وانظر:"الفتاوى"(31/ 342).

ص: 137

قوله: (زيد بن ثابت) تقدمت ترجمته في باب "سجود السهو وغيره" حديث (342).

* الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث الفرضيون على فضل زيد بن ثابت رضي الله عنه وأنه أعلم هذه الأمة بالفرائض، ولهذا أثنى عليه الأئمة في هذا الفن وتابعوه، إلا في مسائل معدودة خالفه فيها أهل العلم من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، لظهور الدليل على خلاف قوله، منها قوله: إن الجد لا يسقط الإخوة الأشقاء أو لأب، والراجح خلاف ذلك، وهو أنهم يسقطون به كما يسقطون بالأب، ولا يلزم من كونه رضي الله عنه أفرض هذه الأمة أن يكون معه الصواب في كل شيء، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تقدمه في هذا العلم وأنه أعلم هذه الأمة، وليس المراد أنه معصوم وأنه لا يخطئ

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "سير أعلام النبلاء"(2/ 432).

ص: 138

‌باب الوصايا

الوصايا: جمع وصية كهدايا وهدية، وهي لغة: من وصى -بالتخفيف- يصي إذا اتصل، تقول العرب: وصى النبات إذا اتصل، وأرض واصية متصلة النبات

(1)

.

قال الأزهري: (الوصية مأخوذة من وصيت الشيء أصيه: إذا وصلته، وسميت الوصية وصية؛ لأن الميت لما أوصى بها وصل ما كان فيه من أمر حياته بما بعده من أمر مماته

)

(2)

.

ويقال: وصَّى وأوصى، وا لاسم: الوصية والوَصَاة.

واصطلاحًا: الأمر بالتصرف بعد الموت، أو التبرع بالمال بعده.

فالأول: كأن يوصي إلى إنسان بتزويج بناته، أو تفريق ثلثه، أو غسله بعد موته، أو الصلاة عليه، ونحو ذلك.

والثاني: وهو المراد بهذا الباب، هو التبرع بالمال بعد الموت، وقولنا:(بعد الموت) احتراز من الهبة، فإنها تبرع بالمال، ولكن في الحياة، كما تقدم.

والأصل في الوصية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} [النساء: 11] ومن السنة أحاديث الباب، وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية

(3)

.

وقد شرعت الوصية لأمور جليلة، ومقاصد شريفة تجمع بين مصالح

(1)

"اللسان"(15/ 395).

(2)

"الزاهر" ص (372).

(3)

"المغني"(8/ 39).

ص: 139

العباد في الدنيا ورجاء الثواب والدرجات العلى في الآخرة، ففي الوصية يصل الموصي رحمه وأقرباءه الذين لا يرثون، ويدخل السعة على المحتاجين، ويخفف عن اليتامى والمساكين إذا التزم بوصيته العدل وتجنب الإضرار بها.

وفي الوصية مصلحة للموصي حيث جعل الشرع له جزاءً من ماله يبقى ثوابه له بعد وفاته، وبهذا يتدارك ما فاته من أعمال البر والإحسان في حياته، وسيأتي بهذا المعنى حديث معاذ رضي الله عنه وما في معناه في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.

ص: 140

‌الحث على المبادرة بالوصية

960/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيلَتَينِ إلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"، مُتَّفَق عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في باب (الوصايا)(2738)، ومسلم (1627) من طرق عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا.

وقد جاء في إحدى الروايات عند مسلم، قال عبد الله بن عمر:(ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي).

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما حقُّ) ما: نافية، بمعنى (ليس). وحق: اسمها، والخبر قوله:(يبيت)، كما سيأتي.

والمعنى: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه، وقال الشافعي:(ما المعروف في الأخلاق إلا هذا، لا من وجه الفرض)

(1)

، وقال السندي:(أي: ما اللائق به)

(2)

.

قوله: (امرئ) أي: رجل، والتعبير به خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأة مثله.

(1)

"الأم"(4/ 92).

(2)

"حاشيته على سنن النسائي"(6/ 239).

ص: 141

قوله: (مسلم) هذا الوصف خرج مخرج الغالب -أيضًا- فلا مفهوم له؛ لأن وصية الكافر جائزة، وكأنهم أجروا الوصية مُجرى العتق، وإلا فالكافر، لا عمل له بعد الموت، أو أن هذا الوصف ذكر للحث والتهييج لتقع المبادرة بامتثال ذلك؛ أي: من شأن المسلم أن يسارع إلى ذلك.

قوله: (شيء) هذا لفظ يطلق على الكثير والقليل من المال الموصى به؛ أي: له شيء من مال أو دين أو أمانة أو حق فرط فيه، ونحو ذلك.

قوله: (يريد أن يوصي فيه) صفة لشيء.

قوله: (يبيت) هذا مضارع على تقدير أن المصدرية؛ أي: أن يبيت؛ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] دل على ذلك رواية النسائي: (أن يبيت)

(1)

، وعند أحمد:(حق على كل مسلم ألا يبيت ليلتين)، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر (ما)، والتقدير: ما حق امرئ مسلم بيتوتة ليلتين إلا وهو بهذه الصفة، وقال العيني: إن الخبر ما بعد إلا، والواو للحال

(2)

، وذكر الصنعاني أن الخبر ما بعد إلا، والواو زائدة.

قوله: (ليلتين) هذه رواية الصحيحين، وعند مسلم والنسائي وأحمد (يبيت ثلاث ليالٍ)، ولأبي عوانة

(3)

، والبيهقي (ليلة أو ليلتين)، والظاهر من هذه الروايات أنها للتقريب لا للتحديد، بمعنى لا يمضي ليلة زمان وإن كان قليلًا إلا ووصيته مكتوبة، وكأن الثلاث غاية التأخير، فأُعطي الإنسان هذه المدة لحاجته إلى تذكر ماضيه والتفكير في أمره، والله أعلم.

قوله: (إلا ووصيته) هذا حال مستثنى من أعم الأحوال؛ أي: ليس حقه البيتوتة في حال من الأحوال إلا في حال كون الوصية مكتوبة عنده.

قوله: (مكتوبة) أي: سواء كتبها بخطه أو بخط غيره.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تأكيد الوصية والحث عليها، وقد

(1)

"سنن النسائي"(6/ 239).

(2)

"عمدة القارئ"(11/ 258).

(3)

"مسند أبي عوانة"(3/ 473).

ص: 142

أجمع المسلمون على الأمر بها، وإنما الخلاف في وجوبها، كما سيأتي -إن شاء الله-، وظاهر الحديث أن الوصية لا تشرع لمن ليس له شيء يوصي فيه ولا به.

* الوجه الرابع: مشروعية المبادرة إلى الوصية بيانًا لها، وامتثالًا لأمر الشرع، واستعدادًا للموت أن يشغله شاغل، وهذا فيه حث على التهيؤ للموت والاستعداد له.

* الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه لا يشترط في الوصية أن تكون من المريض، بل القوي المعافى يوصي بما يحتاج إليه، وهو في حال صحته، ولا يحتاج في المرض إلى تجديد الوصية بشيء أصلًا، لكن لو فرغ من وصيته، ثم تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه، ولا ينبغي له أن يتلف الوصية الأولى قبل كتابة الثانية إذا كان يريد إلغاء الأولى، لئلا يفجأه الموت بعد إتلاف الأولى وقبل كتابة الثانية! فيفوته الأمر، ويصير ماله كله للورثة.

* الوجه السادس: لا فرق في صحة الوصية بين الرجل والمرأة؛ لما علمت من أن قوله: (امرئ) خرج مخرج الغالب، سواء أكانت المرأة متزوجة أم غير متزوجة، أذن زوجها أم لا، وكذا لو كانت بكرًا ولم يأذن أبوها؛ لأن الوصية يقصد بها تحصيل قربة أخروية عند انقضاء العمر في قدر مأذون فيه شرعًا.

* الوجه السابع: الحديث دليل على أن الكتابة المعروفة تكفي لإثبات الوصية والعمل بها، ولا يُحتاج في ذلك إلى إشهاد؛ لأنه لم يذكر في الحديث، والخط إذا عرف فهو بينة ووثيقة قوية، وعلى ذلك العمل قديمًا وحديثًا، جاء في "الاختيارات":(تنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإِمام أحمد)

(1)

.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية: لا بد من الإشهاد على

(1)

ص (190)، وانظر:"الفتاوى"(31/ 325 - 326)، "المغني"(8/ 470).

ص: 143

الخط، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} [المائدة: 106] فدلت الآية على اعتبار الشهادة في الوصية، بل على شهادة اثنين، ويكون معنى الحديث: مكتوبة بشرطها، وهو الإشهاد.

وأجاب الأولون بأنه لا يلزم من ذكر الإشهاد في الآية أنها لا تصح الوصية إلا به، قال الصنعاني:(والتحقيق أن المعتبر معرفة الخط، فإذا عُرف خط الموصي عُمل به)

(1)

.

وهذا هو الأظهر -إن شاء الله وهو أنه إذا وجدت وصية إنسان بخطه الثابت المعروف بإقرار ورثته أو بينة تعرف خطه صحت وصيته وعمل بها بلا إشهاد، وقد أفتى بذلك الإِمام أحمد

(2)

. لثبوت الحديث في الكتابة دون ذكر الإشهاد، ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن لكتابة وصيته فائدة، لكن إن أشهد فهو أحسن؛ لأنه أحفظ للوصية وأحوط بما فيها.

* الوجه الثامن: الحديث دليل على أن الأشياء المهمة تضبط بالكتابة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ؛ لأنه يخون غالبًا.

* الوجه التاسع: اختلف العلماء في الوصية هل هي واجبة أو لا؟ فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أنها مندوبة، بل نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا من كانت عليه حقوق بغير بينة، من وديعة أو أمانة، أو غيرها، فيوصي بذلك، واعتبر القائلين بالوجوب طائفة شاذة لا يعدون خلافًا

(3)

.

وقد استدل ابن عبد البر للجمهور بأنه لو لم يوصِ لوجبت قسمة تركته بين ورثته بالإجماع، ولو كانت واجبة لأُخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية.

(1)

"سبل السلام"(5/ 348).

(2)

"مسائل الإِمام أحمد برواية إسحاق بن هانئ"(2/ 44)، وانظر:"الطرق الحكمية" ص (216).

(3)

"التمهيد"(8/ 384)(14/ 292).

ص: 144

وذهب داود وابن حزم وجماعة آخرون إلى أن الوصية واجبة، قال ابن حزم: (الوصية فرض على كل من ترك مالًا

)

(1)

، واستدلوا بدليلين:

الأول: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] قالوا: إن معنى (كتب) فرض، و (حقًّا) أي: فرضًا ثابتًا، وإذا كانت ذلك حقًّا ثابتًا على كل متق لله تعالى خائف من عقابه، فواجب على الناس كلهم أن يكونوا من المتقين.

الثاني: حديث الباب، قالوا: فهو يدل على الوجوب، ومعناه: ليس من حق المسلم أن يبيت ليلتين إلا وقد أوصى، بدليل رواية الدارقطني:(لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)

(2)

.

والقول الأول أظهر، وهو أن الوصية لا تجب إلا على من عليه دين أو عنده وديعة ونحو ذلك؛ لأن الله تعالى أوجب أداء الأمانات ولا يتم ذلك إلا بالوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وأما الآية فلا دلالة فيها على وجوب الوصية، وإنما هي منسوخة بآيات المواريث، أو أنها خاصة بالأقارب غير الوارثين من الوالدين وغيرهما، كما سيأتي إن شاء الله.

وأما حديث الباب فلا دلالة فيه على الوجوب، إذ ليس في ألفاظه ما يفيد ذلك، كما تقدم، بل فيه ما يفيد عدم الوجوب، وهو قوله: "يريد أن يوصي، فجعل ذلك متعلقًا بإرادته، ولو كان واجبًا لم يكن كذلك.

وأما رواية (لا يحل) فإنها تحتمل أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي

(1)

"المحلى"(9/ 312).

(2)

"أطراف الغرائب"(1/ 544) للدارقطني، وقد علقها البخاري (5/ 358 "فتح ")، وساقه الحافظ في "تغليق التعليق"(3/ 416) بسند الدارقطني، وقد تفرد به عمران بن أبان الواسطي، عن محمَّد بن مسلم الطائفي، قال ابن عدي:(له غرائب عن محمَّد بن مسلم، ولا أعلم به بأسًا)، وقد حكم عليها المنذري بالشذوذ ["مختصر السنن"](4/ 143)، "الإعلام" لابن الملقن" (8/ 10)].

ص: 145

الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح.

هذا وينبغي أن يعلم أن الوصية تجري فيها الأحكام الخمسة، فتجب -كما تقدم- على من عليه حقٌّ دينٌ أو وديعة أو أمانة لا يُعلم بها، أو عليه واجبات شغلت الذمة كزكاة وحج وكفارة ولقطة ونحو ذلك، كما تجب للأقارب غير الوارثين -على أحد القولين -كما سيأتي.

وتستحب لمن ترك خيرًا بالثلث فأقل، وتحرم إذا قصد الإضرار بالورثة أو ببعضهم، كما لو أوصى بأكثر من الثلث أو أوصى لوارث بشيء؛ كأن يوصي لزوجته -مثلًا- مع أنها سترثه، وتكره إذا كان ماله قليلًا وورثته محتاجون، وتباح إذا كان الرجل غنيًّا وورثته محتاجون، أو كان ماله قليلًا وورثته غير محتاجين، والله تعالى أعلم.

ص: 146

‌باب مقدار ما يوصي به

961/ 2 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إلا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أفَأَتَصَدَّقُ بِثُلْثَي مَالِي؟ قَال:"لَا"، قُلْتُ: أَفَأتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَال: "لا"، قُلْتُ: أَفَأتصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَال: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كثير، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثتَكَ أَغْنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"، مُتَّفَق عَلَيه.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع في "صحيحه"، مطولًا ومختصرًا، أولها في كتاب "الإيمان"(56)، وفي "الجنائز"، باب (رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة)(1295)، ومسلم (1628) من طريق الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، به.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قلت: يا رسول الله) كان ذلك في مكة في حجة الوداع، لما جاء في "الصحيحين":(جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة) زاد الزهري في رواية للبخاري: (في حجة الوداع من وجع اشتد بي) وقيل: إن ذلك في فتح مكة، كما في رواية ابن عيينة، عن الزهري، عند الترمذي:(قال: مرضت عام الفتح مرضًا أشفقت منه على الموت)

(1)

، قال الحافظ: (اتفق أصحاب الزهري على

(1)

"جامع الترمذي"(2116).

ص: 147

أن ذلك كان في حجة الوداع، إلا ابن عيينة فقال: في فتح مكة، واتُّفِقَ على أنه وهم فيه، قال: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع مرتين، مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلًا، وفي الثانية كانت له ابنة فقط)

(1)

.

قوله: (أنا ذو مال) أي: صاحب مال، وهذه اللفظة تطلق في العرف على من عنده مال كثير، وفي رواية لمسلم:"إن لي مالًا كثيرًا".

قوله: (ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة) أي: لا يرثني من الولد إلا ابنة واحدة، وإلا فقد كان له عصبة، وقيل معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض، ولعل هذا قبل أن يولد له ذكرر، فقد ذكر الواقدي أنه ولد لسعد بعد ذلك أربعة بنين، وقيل: أكثر من عشرة، ومن البنات ثنتا عشرة بنتًا؛ لأن سعدًا رضي الله عنه مات سنة (55 هـ)، ومن أولاده مصعب وعامر ومحمد وإبراهيم.

قوله: (أفأتصدق) الصدقة: هي العطية التي يبتغى بها الثواب عند الله تعالى، وهذا استفهام استخبار يقصد به الاستفتاء، وقد ورد في رواية البخاري:(قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟) وهذا يفيد أنه أراد الصدقة بعد الموت، فتحمل رواية:(أفأتصدق) التي تفيد سؤاله عن تنجيز ذلك في الحال على هذا، وذلك لأن حمل الأولى على الثانية ممكن، بخلاف حمل الثانية على الأولى، والله أعلم.

قوله: (بشطره) الشطر: هو النصف، وقد تقدم في "المساقاة".

قوله: (الثلث والثلث كثير) الثلث الأول بالرفع فاعل لفعل مقدر؛ أي: يكفيك الثلث، أو مبتدأ حذف خبره؛ أي: الثلث كافٍ، وبالنصب مفعول لمقدر؛ أي: عَيِّنِ الثلثَ، وأما الثلث الثاني: فهو مبتدأ لا غير، وخبره ما بعده.

ووُصِفَ الثلث بالكثرة بالنسبة إلى ما دونه كالربع والخمس، وفائدة وصفه بالكثرة احتمالان:

(1)

"فتح الباري"(363 - 364).

ص: 148

الأول: بيان أن الأفضل الاقتصار عليه في الوصية بلا زيادة، وهذا هو المتبادر من السياق، وقد فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فقال:(لو غضَّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير")

(1)

.

الثاني: بيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل؛ أي: كثير أجره، ويكون من الوصف بحال المتعلق.

قوله: (إنك أن تذر) جملة مستأنفة للتعليل، ومعنى (تذر): تترك، وهذا مضارع لا ماضي له من لفظه، وهو ترك، وكذا المصدر، ويجوز في قوله:"أن تذر" وجهان:

الأول: فتح الهمزة على أنها مصدرية، والمضارع بعدها منصوب، وهي وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ، خبره (خير) أي: إنك تَرْكُكَ ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء.

الثاني: كسر الهمزة على أنها شرطية، والمضارع بعدها مجزوم، وجواب الشرط (خير) على تقدير:(فهو خير)؛ لأن حذف الفاء في مثل هذا جائز؛ كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46].

قوله: (ورثتك) جمع مفرده وارث، والوارث: من ينتقل إليه مال الميت بتمليك الله تعالى إياه.

وجاء لفظ الورثة ولم يقل: (أن تدع بنتك) مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذ لم يتحقق هل هو البنت أو غيرها مستقبلًا، فإن سعدًا رضي الله عنه إنما قال ذلك ظنًّا منه أنه يموت في هذا المرض وتبقى هي بعد موته، ومن الجائز أن تموت قبله، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة، وهو قوله:"ورثتك" ولم يخص بنتًا ولا غيرها.

قوله: (عالة) أي: فقراء، وهو جمع عائل وهو الفقير، يقال: عال يعيل

(1)

أخرجه البخاري (2743)، ومسلم (1629).

ص: 149

إذا افتقر، قال تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، وقال الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يَعِيلُ

قوله: (يتكففون الناس) أي: يسألون الناس بأكفهم، أو يسألون ما في أكف الناس، يقال: تكفف الناس واستكف: إذا بسط كفه للسؤال.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب عيادة المريض، وتتأكد لمن له حق من قريب أو صديق أو جار وغيرهم، دل على هذا بعض الروايات التي سبق ذكرها، وسيأتي الكلام على عيادة المريض في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على إباحة جمع المال إذا كان من طرق شرعية؛ لأن صيغة (ذو مال) لا تستعمل في العرف إلا في المال الكثير، ومنه ذو علم، وذو شجاعة، ونحوهما.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على استحباب الوصية وأن تكون بثلث المال فأقل ولو كان مال الموصي كثيرًا، فإن كان المال قليلًا والورثة فقراء فالأفضل ألا يوصي بشيء، لقوله:"إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".

* الوجه السادس: الحديث دليل على منع الوصية بأكثر من الثلث لمن له ورثة، وعلى هذا استقر الإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسعد إلا بالثلث، فدل على أن الثلث هو النهاية، ولأن ما زاد على الثلث داخل بالمضارة، قال تعالى:{بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ غَيرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] أي: غير موقعٍ الضررَ على الورثة بما أوصى به أو تحمله من دين.

أما من لم يكن له وارث ففي مقدار وصيته خلاف بين أهل العلم، والمفهوم من حديث سعد رضي الله عنه جواز الوصية بجميع المال؛ لأنه أفاد أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة، فإذا لم يوجد ورثة زال المانع، ولعله يأتي زيادة بيان -إن شاء الله- في شرح حديث أبي أمامة رضي الله عنه،

ص: 150

والجمهور من أهل العلم على أنه إن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث وأجازها الورثة نفذت، وقالت الظاهرية: لا أثر لإجازة الورثة ما زاد على الثلث، ورجحه الصنعاني؛ لأن إجازة الورثة وردت في الوصية للوارث -كما سيأتي- لا فيما زاد على الثلث، أما من أجاز فقد أخذ ذلك من عموم (إنك أن تذر

).

* الوجه السابع: الحديث دليل على أن إبقاء المال للورثة مع حاجتهم إليه أفضل من التصدق به على البعداء؛ لأن الورثة أولى ببر مورثهم من غيرهم.

* الوجه الثامن: اختلف العلماء هل المستحب في الوصية الثلث أو ما دونه، على قولين:

الأول: أن المستحب ما دون الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم:"والثلث كثير" وقول

ابن عباس- المتقدم-: (لو غضَّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"الثلث، والثلث كثير")، وهذا مذهب الشافعي وإسحاق وأحمد

(1)

.

الثاني: أن المستحب الثلث، لحديث معاذ الآتي:"إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة في حسناتكم" ولعل هذا مقيد بمن كان غنيًّا، وهو قول القاضي وأبي الخطاب من الحنابلة

(2)

، قال النووي:(قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كانت الورثة أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعًا، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص من الثلث)

(3)

.

والقول الأول أرجح؛ لأن حديث سعد رضي الله عنه يؤيد ذلك من وجهين:

الأول: أنه قال: (والثلث كثير).

الثاني: أنه قال: (أن تذر ورثتك أغنياء).

وأما حديث: "إن الله تصدق عليكم

" فالظاهر أنه ورد في الإذن

(1)

"المهذب"(1/ 587)، "المغني"(8/ 393).

(2)

"المغني"(8/ 393).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 86).

ص: 151

بالثلث، وليس نصًّا في أفضلية الثلث، وحديث سعد رضي الله عنه يفهم منه أن الأقل من الثلث هو الأفضل، كما فهم ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.

* الوجه التاسع: هذا الحديث مقيد لمطلق القرآن في مقدار الوصية، فإن الوصية في قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ} جاءت مطلقة غير مقيدة بقدر معين، وظاهره يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره، فجاءت السنة، ومنها حديث سعد رضي الله عنه فدلت على أن المراد بالآية الوصية ببعض المال لا بجميعه، فَقُيِّدَ أقصى الوصية بالثلث، ويؤيد هذا قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَينٍ غَيرَ مُضَارٍّ} فإن نفي المضارة في الوصية يقتضي الوقوف بها عند قدر معين

(1)

.

ولعلَّ اشتراط عدم المضارة في هذه الآية المتعلقة بإرث قرابة الإخوة من الأم دون الآية الأولى المتعلقة بإرث الأصول والفروع؛ لأن الغالب أن الميت لا يقصد الإضرار بأصوله وفروعه

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الوصايا والأوقاف" ص (122).

(2)

"التفسير وأصوله" لابن عثيمين (2/ 43).

ص: 152

‌استحباب الصدقة عن الميت

962/ 3 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا أتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا أجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال:"نعم"، مُتَّفَق عَلَيهِ. واللَّفْظُ لِمُسْلِم.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في "الجنائز"، باب (موت الفجاءة البغتة)(1388)، وفي "الوصايا"(2760)، ومسلم (1004) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن رجلًا) هو سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي سيد الخزرج رضي الله عنه، وأمه عمرة بنت مسعود الأنصارية من بني النجار، وقد أورد البخاري في "الوصايا" بعد هذا الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال:"اقضه عنها" قال الحافظ: (وكأنه رمز إلى أن المبهم في حديث عائشة هو سعد بن عبادة)

(1)

.

قوله: (افتلتت نفسها) بضم الهمزة وسكون الفاء وضم التاء المثناة ثم لام مكسورة، مبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: أُخذت فلتة، ومعناه: ماتت بغتة وفجأة.

(1)

"فتح الباري"(5/ 389).

ص: 153

قوله: (نفسها) بالضم مرفوع على الفاعلية، وبالنصب مفعول ثانٍ، بمعنى سُلبت، والأول محذوف، وذكر العيني جواز نصبه على أنه تمييز

(1)

، ولم يتضح لي هذا؛ لأن التمييز لا بد أن يكون نكرة، وهذه معرفة بالإضافة إلى الضمير.

قوله: (نعم) جاء في رواية البخاري في "الوصايا": (قال: نعم تصدق عنها).

* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الصدقة عن الميت ولو لم يوص بذلك، لا سيما إذا عرف أنه لو تكلم أو حصلت له مهلة لأوصى بالصدقة، وأولى الأموات بالصدقة هما الوالدان؛ لأن هذا من برهما بعد موتهما.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الميت ينتفع بالصدقة عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "تصدق عنها" ولو لم يصلها ثواب الصدقة لما كان في الأمر بالتصدق فائدة.

وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم" قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء"

(2)

.

وقد أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بالدعاء والصدقة وأداء الواجبات التي تدخلها النيابة كالحج وقضاء الدين، ووقع الخلاف في إهداء ثواب قراءة القرآن وبعض الأذكار، أو ثواب الطواف ونحو ذلك.

فمن أهل العلم من قال: إن جميع القُرَب تُهدى للأموات، ويصل ثوابها إليهم، من الدعاء، والصدقة، وقضاء الدَّين، والحج، وإهداء ثواب تلاوة القرآن، والطواف، وغير ذلك، ودليله القياس على ما ثبت في الشرع

(3)

.

(1)

"عمدة القارئ"(7/ 145).

(2)

أخرجه أبو داود (1681)، والنسائي (6/ 254)، وابن ماجه (3682)، وأحمد (123/ 37 - 124)، والحاكم (1/ 414)، وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين)، والحديث فيه انقطاع، انظر:"نفح العبير"(2/ 21).

(3)

انظر: "المغني"(3/ 519)، "مجموع الفتاوى"(24/ 306 - 315)، "الروح" ص (159) وما بعدها، وقارنه بـ "تهذيب مختصر السنن"(3/ 279).

ص: 154

والقول الثاني: أنه لا يُهدى للأموات إلا ما دل الدليل عَلى جواز إهدائه؛ لأن وصول الثواب إلى الأموات من الأمور التوقيفية التي لا مجال للرأي فيها، وإنما يعمل فيها بما يقتضيه الدليل، لعموم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"

(1)

.

وقد ورد الدليل بانتفاع الميت بالدعاء إذا تحققت فيه شروط القبول، والصدقة، وقضاء الصوم عمن مات، والحج، وقضاء الدَّين.

أما إهداء ثواب الصلاة، أو قراءة القرآن، أو بعض الأذكار، أو إهداء ثواب الطواف ونحو ذلك فالأولى تركه؛ لأن العبادات توقيفية، لا يشرع منها إلا ما دل الدليل على شرعيته، وفي الأعمال الواردة في الشرع مما ذكر ما يكفي ويُغني عمّا لم يرد، فالأولى الاقتصار عليه

(2)

، والله أعلم.

(1)

رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

(2)

انظر: "فتاوى ابن باز"(13/ 249 - 251)، (24/ 418 - 420).

ص: 155

‌حكم الوصية للوارث

963/ 4 - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِليِّ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيّةَ لِوَارِثٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَحسَّنَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَوّاهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.

964/ 5 - وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، وَزَادَ في آخرِهِ:"إلا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ"، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي أُمامة رضي الله عنه فقد رواه أحمد (36/ 628)، وأبو داود في كتاب "الوصايا"، باب (ما جاء في الوصية للوارث)(2870)(3565)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713)، وابن الجارود (949) كلهم من طريق إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أُمامة رضي الله عنه، مرفوعًا.

وبعضهم أخرجه مطولًا، وبعضهم مختصرًا، وإسناده حسن من أجل إسماعيل بن عياش، فقد قال عنه الحافظ:(صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم)، وهذا من روايته عن أهل بلده؛ لأن شيخه شرحبيل بن مسلم شامي، قال ابن كثير:(هذا من أصح أحاديث إسماعيل بن عياش؛ لأن شيخه في هذا شامي، وهو حجة إذا روى عن الشاميين)

(1)

.

(1)

"إرشاد الفقيه"(2/ 58، 138).

ص: 156

وهذه الجملة التي ذكرها الحافظ صحيحة بمجموع طرقها وشواهدها، وهو حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول، وقد رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم يزيدون على العشرة، وقد جمع طرق هذه الأحاديث أو بعضها الزيلعي وابن حجر والألباني

(1)

.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه الدارقطني (4/ 98، 152) من طريق عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة".

وهذا سند ضعيف، عطاء هو الخرساني، كما جاء مصرحًا به عند أبي داود في "المراسيل"

(2)

وهو صدوق، يروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مع أنه لم يدركه، كما نص على ذلك أبو داود وأحمد، بل قال ابن معين: لا أعلمه لقي أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وأخرجه الدارقطني -أيضًا- ومن طريقه البيهقي (6/ 263) من طريق يونس بن راشد، عن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، فزاد في الإسناد عكرمة، قال الحافظ:(والمعروف المرسل)

(4)

.

وقد رواه الدارقطني (4/ 98) من طريق محمَّد بن مسلم، عن طاوس، عن أبيه، عنه مرفوعًا بدون هذه الزيادة، وحسن الحافظ إسناده

(5)

.

وبهذا يتبين أن الحافظ وهم في تحسين الحديث هنا، فإنه أعله في "التلخيص" بهذه الزيادة، والحسن إنما هو الحديث بدون الزيادة، كما فعل في "التلخيص".

(1)

انظر: "نصب الراية"(4/ 403 - 405)، "التلخيص"(3/ 106 - 107)، "الإرواء"(6/ 87 - 98)، وانظر:"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 205)، "فتح الباري"(5/ 372).

(2)

(341).

(3)

"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (157).

(4)

"التلخيص"(3/ 107).

(5)

"التلخيص"(3/ 106).

ص: 157

والحديث بهذه الزيادة منكر؛ لأنه ورد عن ابن عباس بإسناد حسن بدونها، كما أنه ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بدون الزيادة

(1)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على منع الوصية للوارث، قليلة كانت أم كثيرة؛ لأن الله تعالى قسم الفرائض، ثم قال سبحانه:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14] والوصية للوارث من تعدي حدود الله تعالى؛ لأنها تقتضي زيادة بعض الورثة عما حدَّ الله له وأعطاه إياه.

ثم إن الوصية للوارث يترتب عليها مفاسد عظيمة، فإنها سبب في الشقاق والنزاع، وقطع الرحم، وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة، فينبغي للموصي أن يحذر هذا المسلك، وألا يوصي لأحد الورثة بشيء مهما كان الأمر؛ لئلا يكون سببًا فيما يحصل بين الورثة مما تقدم.

والمعتبر في كون من وُصِّي له وارثًا أو غير وارث إنما هو عند موت الموصي، لا وقت إنشاء الوصية، قال الموفق:(لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت)

(2)

، وذلك لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث والموصى له، فلو أوصى لوارث كأخيه، ثم حُجب بابن تجدد صحت الوصية؛ لأنه صار عند الموت غير وارث، ولو أوصى لأخيه مع وجود ابنه، ثم مات ابنه بطلت الوصية إن لم تُجِزْ باقي الورثة -على أحد القولين- لأنه صار حال الموت وارثًا.

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن الوصية للوارث لا تجوز مطلقًا وإن أجازها الورثة، وهذا رواية عن أحمد، وقول الظاهرية، والمزني

(3)

.

(1)

"الإرواء"(6/ 97).

(2)

"المغني"(8/ 407).

(3)

"المغني"(8/ 396)، "المحلى"(9/ 316).

ص: 158

ووجه الاستدلال: أن الله تعالى منع الوصية للوارث، وما منعه الله فليس للورثة أن يجيزوه إلا أن يبذلوه هبة من عند أنفسهم، وكأن هؤلاء لم يأخذوا بزيادة (إلا أن يشاء الورثة) لنكارتها.

والقول الثاني: جواز الوصية للوارث إذا أجازها الورثة، وهذا مذهب الجمهور، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية

(1)

، فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت، وإن أجازها بعضهم دون بعض جازت في حصة المجيز، وبطلت في حق من لم يجز، واستدلوا بدليل وتعليل:

أما الدليل فزيادة (إلا أن يشاء الورثة) على القول بصحتها.

وأما التعليل فأولًا: أن الورثة لو تنازلوا عن هذا المقدار لغير الورثة لجاز لهم، فمن باب أولى أن يجوز لبعض الورثة.

ثانيًا: أن في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى مفاسد وأضرار، كما تقدم.

* الوجه الرابع: الحديث بهذه الزيادة دليل على أن الورثة إذا أجازوا الوصية للوارث نفذت؛ لأن الحق لهم فإذا رضوا بإسقاطه سقط.

والمراد بهم: الورثة المرشدون، وهو أن يكون الوارث بالغًا عاقلًا عالمًا بالموصى به، فلا عبرة بإجازة صغير ومجنون ومريض مرض الموت، ووارث لم يعلم بما أوصى به الموصي.

والمعتبر في وقت الإجازة هو ما بعد موت الموصي، ولا عبرة بإجازتهم حال حياة الموصي؛ لأن الإجازة قبل الموت حق لم يملكوه، بخلاف ما بعد فلأنها حق لهم حينئذ.

فلو أجازوا الوصية للوارث حال حياة الموصي، ثم ردوها بعد وفاته صح الرد وبطلت الوصية.

(1)

"المغني"(8/ 396)، "المدونة"(4/ 365)، "الاختيارات" ص (190)، "مغني المحتاج"(3/ 43).

ص: 159

وألحق بعض العلماء مرض موت المورِّث، فاعتبروا الإجازة فيه صحيحة، وهذا مذهب مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم

(1)

، وذلك لأن الإجازة صدرت في وقت تعلق فيه حق الوارث بمال الموصي.

° الوجه الخامس: ظاهر قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ظاهرها وجوب الوصية للوالدين والأقربين مع أن فيهم الورثة، فيعارض هذا الظاهر ما تقدم تقريره من أنه لا وصية لوارث.

والجواب: أن للعلماء في إزالة هذا الإشكال مسلكين:

الأول: أن هذه الآية منسوخة، والناسخ لها آية المواريث، وحديث الباب فيه بيان لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب نفي الوصية للوارث بالفاء على إعطاء كل ذي حق حقه.

الثاني: أن الآية محكمة غير منسوخة، وليست مخالفة لآيات المواريث ولا لحديث الباب؛ لأن ظاهر الآية العموم فيمن يرث من الوالدين والأقربين ومن لم يرث، فخص من عمومها من برث بآية الفرائض وبحديث الباب، فهذا لا وصية له، وبقي عمومها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين على حاله في وجوب الوصية لهم أو في استحبابها على القولين، وهذا القول فيه جمع بين الأدلة، ومتى أمكن الجمع تعين المصير إليه، بخلاف النسخ، فإن فيه تعطيلًا لأحد النصين

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(8/ 405)، "بدائع الفوائد"(1/ 4).

(2)

"أحكام الوصايا في الفقه الإسلامي" ص (253).

ص: 160

‌بيان فضل الله تعالى بشرعية الوصية

965/ 6 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَال: قَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً في حَسَنَاتِكُمْ"، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ.

966/ 7 - وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.

967/ 8 - وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ، وَكُلُّهَا ضَعِيفَة، لكِنْ قَدْ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعض، وَالله أَعْلَمُ.

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو الدرداء عويمر بن عامر بن قيس الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، مشهور بكنيته، وفي اسمه واسم أبيه خلاف، أسلم عام بدر، وحسن إسلامه، وشهد أُحدًا، وأبلى فيها، وكان من العلماء الحكماء الفضلاء، قال ابن عبد البر:(له حكم مأثورة مشهورة)

(1)

، ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عثمان رضي الله عنه، ومات فيها سنة اثنتين وثلاثين

(2)

.

° الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث معاذ رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (4/ 150) من طريق إسماعيل بن عياش، حدثنا عتبة بن حميد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، عن

(1)

انظر: "حلية الأولياء"(1/ 208).

(2)

"الاستيعاب"(9/ 55)، "الإصابة"(7/ 182 - 183).

ص: 161

معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا، وزاد:(ليجعلها لكم زكاة في أعمالكم).

وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه إسماعيل بن عياش، وفي روايته عن غير الشاميين ضعف، وقد رواه عن شيخه عتبة بن حميد الضبي البصري، وهو ضعيف أيضًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

.

وأما حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (45/ 477)، والبزار (1382) من طريق أبي بكر، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا به، دون قوله:(زيادة في أعمالكم).

وهذا سند ضعيف -أيضًا- لضعف أبي بكر، وهو ابن عبد الله بن أبي مريم، ضعفه الإمام أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وابن حبان، وقال أبو داود:(سُرق له حُلي فأنكر عقله).

قال الهيثمي: (فيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط)

(2)

.

وضمرة بن حبيب -وهو الزُّبيدي- لم يلق أبا الدرداء رضي الله عنه، ولذا فقد نص الذهبي على الانقطاع

(3)

، قال الألباني: يعني بالانقطاع ما بين ضمرة وأبي الدرداء، فإن بين وفاتهما نحو مائة سنة

(4)

.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه ابن ماجه (2709)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 385)، والبيهقي (6/ 269) من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف -أيضًا- لأن طلحة بن عمرو -وهو الحضرمي- ضعفه غير واحد، قال البزار:(لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وليس بالقوي)، وقال أحمد والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، ضعيف.

(1)

(7/ 272).

(2)

"مجمع الزوائد"(4/ 212).

(3)

انظر: "تعليق الذهبي على المستدرك"(4/ 315 - 316).

(4)

"الضعيفة"(1/ 493).

ص: 162

فهذه الأحاديث الثلاثة كلها ضعيفة، كما قال الحافظ، لكن باجتماعها قد يقوى بعضها ببعض، وبهذا أخذ الألباني

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الله تعالى ورحمته بعباده حيث يسر لهم سبل الخير، وشرع لهم ما به زيادة أجرهم وتكثير حسناتهم، ومن ذلك أن الله تفضل عليهم بثلث أموالهم تكون في أعمال البر التي تنفع الأفراد والمجتمعات، فيصل أقرباءه الذين لا يرثون، ويسد خلة المحتاجين، ويساعد اليتامى والمساكين، ويخفف عن الضعفة والبائسين، وهذا يدل على أن الوصية قربة يتقرب بها الموصي إلى الله تعالى في آخر حياته لتزداد حسناته ويتدارك ما فاته في الدنيا من أعمال البر والإحسان بشرط أن يجتنب الإضرار في وصيته، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(الإضرار في الوصية من الكبائر)

(2)

.

° الوجه الرابع: ظاهر الحديث مشروعية الصدقة بثلث المال، سواء أكان مال الموصي قليلًا أم كثيرًا، وسواء أكانت الوصية لوارث أم لغير وارث، وهذا الإطلاق مقيد بما سلف من الأحاديث الدالة على أن الوصية للوارث غير صحيحة، ولا تنفذ إلا إن أجازها الورثة على أحد القولين.

والحديث لا يدل على أفضلية الثلث -كما تقدم- بدليل (الثلث والثلث كثير) فتكون الوصية بما دون الثلث أفضل، كما مضى. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإرواء"(6/ 79).

(2)

رواه النسائي في "الكبرى"(10/ 60) موقوفًا، ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 889) مرفوعًا، والراجح وقفه انظر:"تفسير ابن كثير"(3/ 380، 468) ط: دار عالم الكتب.

ص: 163

‌باب الوديعة

الوديعة لغة: مأخوذة من ودعْتُ الشيء: إذا تركته، قال ابن فارس:(الواو والدال والعين أصل واحد يدل على الترك والتخلية)

(1)

.

ومن ذلك الوديعة لأنها الشيء يُترك عند الأمين، يقال: أودعت زيدًا مالًا أو كتابًا، واستودعته إياه: إذا دفعته إليه، ليكون عنده، فأنا مُودِع ومُستودِع، وزيد مودَع ومستودَع، والمال أيضًا مودَع ومستودَع؛ أي: وديعة.

والوديعة اصطلاحًا: اسم للمال المُعطى لمن يحفظه بلا عوض.

والإيداع: توكيل في حفظ المال تبرعًا من الحافظ.

وعلى هذا فالشرط في الوديعة أن تكون على سبيل التبرع، وخرج بذلك الأجير على حفظ المال.

وقبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه أنه ثقة قادر على حفظها؛ لأنها من باب إعانة المسلم، والتبرع بحفظ ماله في وقت تشتد حاجته إليه، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(2)

.

(1)

"معجم مقاييس اللغة"(6/ 96).

(2)

أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 164

‌حكم ضمان الوديعة

968/ 1 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَيسَ عَلَيهِ ضَمَانٌ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

وَبَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ تَقَدَّمَ في آخِرِ الزَّكَاةِ.

وَبَابُ قَسْمِ الفيءِ والغنيمةِ يأْتي عَقِبَ الجهادِ إِن شاءَ الله تعالى.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه ابن ماجه (2/ 802) من طريق أيوب بن سويد، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف كما قال الحافظ، لضعف المثنى بن الصباح، قال عنه الحافظ في "التقريب":(ضعيف اختلط بأخرة، وكان عابدًا)، وذكره الذهبي في "الضعفاء" وقال:(ضعَّفه ابن معين، وقال النسائي: متروك).

وأيوب بن سويد هو الرملي، قال عنه في "التقريب":(صدوق يخطئ)، وقد تابع المثنى ابن لهيعة، فيما ذكره البيهقي (6/ 289)، وتابعه محمد بن عبد الرحمن الحجبي عند الدارقطني (3/ 41) وعند البيهقي (6/ 289) من طريق يزيد بن عبد الملك النوفلي عنه، بلفظ: (لا ضمان على

ص: 165

مؤتمن) وإسناده ضعيف كما قال البيهقي؛ لأن الحجبي ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ويزيد بن عبد الملك ضعيف، لكن هذه الطرق -ولا سيما الثاني والثالث- عن عمرو بن شعيب قد يشد بعضها بعضًا، وتدل على أن عمرًا قد حدث بهذا الحديث، لا سيما وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما أخرجه البيهقي (6/ 289 - 290) من طريق النضر بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمنه وديعة سرقت من بين ماله، قال في "الإرواء":(إسناده صحيح)

(1)

، قال البيهقي:(يحتمل أنه كان فرط فيها، فضمنها إياه بالتفريط).

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المودَع لا ضمان عليه إذا تلفت الوديعة بغير تعدٍّ ولا تفريط، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال كما تقدم، إلا أن عمومات الشريعة تؤيده؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"

(2)

. وإذا كان المودَع أمينًا فلا ضمان عليه؛ لأنه إنما يحفظ الوديعة لمالكها، فتكون يده كيده، ولأنه قبض العين بإذن مالكها، لا على وجه التملك، ولا الوثيقة، فلا يضمنها، إذ لا موجب للضمان، ولأن الأصل في حفظ الوديعة أنه معروف وإحسان من المودَع، فلو ضمن من غير تعد أو تقصير لزهد الناس في قبول الودائع، فتتعطل مصالح المسلمين لاحتياجهم إليها.

فإن تعدى المودَع أو فرط في حفظ الوديعة فإنه يضمن، قال الموفق:(بغير خلاف نعلمه)

(3)

، فمثال التفريط: أن يحفظ الوديعة في أقل من

(1)

(5/ 386).

(2)

تقدم الكلام عليه في باب "العارية".

(3)

"المغني"(9/ 257 - 258).

ص: 166

حرزها، كأن يحفظ الدراهم في السيارة، أو يضع الكتاب في العراء فيصيبه المطر.

ومثال التعدي: أن يستعمل الوديعة كالسيارة أو الدابة، أو يقرأ في الكتاب، بدون إذن صاحبها، أو يتصرف في الوديعة بإجارة أو إعارة ونحو ذلك، فإنه يضمن إذا كان بغير إذن المودِع؛ لأنه ينقلب بهذا التصرف غاصبًا، ويخرج عن كونه أمينًا، واستثنى فقهاء الشافعية والحنابلة ما إذا استعمل الوديعة لمصلحة المالك، كأن يركب الدابة لعلفها أو سقيها، وهي لا تنقاد إلا بالركوب، فلا ضمان عليه في ذلك؛ لأنه مأذون فيه عرفًا، فضلًا عن كونه محسنًا فيه، وما على المحسنين من سبيل

(1)

.

والفرق بين التفريط والتعدي: أن التفريط ترك ما يجب، والتعدي فعل ما لا يجوز.

أما إذا استقرض الوديعة فلا خلاف بين الفقهاء أنها تكون مضمونة في ذمته على كل حال، وإنما اختلفوا في حكم استقراضها بدون إذن صاحبها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(وأما الاقتراض من مال المودِع فإن علم المودَع علمًا اطمأن إليه قلبه أن صاحب المال راضٍ عنه في ذلك فلا بأس في ذلك، وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده، ومتى وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض)

(2)

.

وقول المصنف: (وباب قسم الصدقات تقدم في آخر الزكاة)، (وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقب الجهاد إن شاء الله تعالى) ذكر المصنف هذا؛ لأن عادة فقهاء الشافعية جَعْلُ هذين البابين قُبيل كتاب "النكاح" في كتبهم، ومن هؤلاء النووي في كتابه "منهاج الطالبين" والمصنف خالفهم مشيرًا إلى أن

(1)

انظر: "روضة الطالبين"(6/ 334)، "شرح منتهى الإرادات"(4/ 243).

(2)

"الفتاوى"(30/ 394).

ص: 167

الأليق جَعْلُ باب "قسم الصدقات" في آخر "الزكاة"، وقد تقدم ذكره هناك، وباب "قسم الفيء والغنيمة" عقب "الجهاد"؛ لأنه من توابعه، وقد ذكره في آخر "الجهاد". والله تعالى أعلم.

ص: 168

‌كتاب النكاح

النكاح في اللغة: الضم والجمع، تقول العرب: تناكحت الأشجار: إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.

وسمي العقد نكاحًا؛ لأن كل واحد من الزوجين ينضم إلى الآخر ويقترن به

(1)

.

والنكاح حقيقة في العقد، حقيقة في الوطء؛ لأن المعنى الذي يدور عليه النكاح في لغة العرب هو الضم والجمع، والضم في النكاح قد يكون بالعقد، وقد يكون بالوطء.

ويتعين لفظ النكاح للوطء إذا قيل: نكح زوجته، وللعقد إذا قيل: نكح بنت فلان

(2)

.

وأما في الاصطلاح: فهو عقد يحل به استمتاع كل من الزوجين بالآخر وائتناسه به، طلبًا للنسل على الوجه المشروع.

وأما حكمة تشريعه فإن في الزواج مصالح عظيمة ومقاصد جليلة اجتماعية ونفسية ودينية، ففيه استمتاع كل من الزوجين بالآخر بما يجب له من حقوق وعشرة، وفيه تحصيل النسل وتكثير الأمة الذي هو أحد مصادر قوتها وعزتها وهيبتها بين الأمم، وفيه حفظ المرأة والإنفاق عليها حيث إن الزوج يهيئ لها أسباب الحياة الطيبة، وفيه إحكام الصلة بين الأسر والقبائل، وفيه تحصين الفرج وغض البصر، وحماية الرجل والمرأة من الانزلاق في مهاوي الرذيلة، وحفظ المجتمع من الشر وتحلل الأخلاق.

(1)

انظر: "مغني المحتاج"(3/ 123)، "أنيس الفقهاء" ص (154).

(2)

انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" ص (249).

ص: 169

‌الترغيب في النكاح

969/ 1 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال لنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّ‌

‌بَابِ

، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ للْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وجَاءٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه" أولها في كتاب "الصيام"، باب (الصوم لمن خاف على نفسه العزبة)(1905)، ومسلم (1400) من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا.

وأخرجه البخاري (5065)(5066) ومسلم (1400) بألفاظ أخرى بهذا الإسناد وغيره، وفي بعضها قصة عثمان مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يا معشر) المعشر: هم الطائفة الذين يشملهم وصف من الأوصاف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والطلاب معشر، وهكذا، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويجمع على معاشر.

قوله: (الشباب) جمع شاب، وأصله الحركة والنشاط؛ لأن الإنسان أول عمره أكثر حركة ونشاطًا منه في آخره، وهو يجمع على شباب وشُبان وشَبَبَة.

ويطلق لفظ الشباب على من بلغ إلى أن يكمل ثلاثين سنة، وقيل: إلى

ص: 170

اثنتين وثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين

(1)

.

وخص الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب بالخطاب؛ لأن الشباب مظنة ثوران الشهوة الداعية إلى الجماع، بخلاف الكهول والشيوخ، لكن إن وجد ذلك في غيرهم شمله الخطاب؛ لأن الحكم يدور مع علته.

قوله: (من استطاع منكم الباءة) أصل الباءة المنزل؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلًا، وفيها أربع لغات: الباءةُ بالمد والهاء، وهي الفصيحة المشهورة، والبأةُ بلا مد، والباءُ بالمد بلا هاء، والباهةُ بهائين بلا مد.

وقد اختلف في معناها على قولين يرجعان إلى معنى واحد:

الأول: أن المراد بها الجماع؛ أي: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنة النكاح من المهر والسكن فليتزوج.

الثاني: أن المراد مؤنة النكاح من المهر والنفقة

(2)

، وهذا هو الأظهر، لأمور ثلاثة:

1 -

أن الخطاب إنما جاء للقادرين على الجماع وهم الشباب، ولا يقال: من استطاع منكم الجماع وهم قادرون عليه في الغالب.

2 -

أنه قال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة.

3 -

أنه ورد عند النسائي بلفظ: (من كان منكم ذا طول فليتزوج)

(3)

.

ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم، بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤنة النكاح

(4)

، فقد ورد عند الإسماعيلي من طريق أبي عوانة، عن الأعمش (من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج).

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(9/ 182)، الإعلام" لابن الملقن (8/ 109)، "المعجم الوجيز" ص (333).

(2)

"شرح النووي"(9/ 183)، "فتح الباري"(9/ 108).

(3)

"سنن النسائي"(4/ 171).

(4)

انظر: "الإعلام"(8/ 110).

ص: 171

قوله: (فإنه) الضمير عائد على التزوج، وهو مصدر الفعل السابق؛ كقوله تعالى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: العدل، والجملة تعليلية.

قوله: (أغض للبصر) أي: أدعى إلى غض بصر المتزوج عن الأجنبية، وغض البصر: هو كفه عما لا يحل.

قوله: (وأحصن للفرج) أي: أدعى إلى إحصان الفرج، وهو منعه من الوقوع في المحظور.

وأفعل التفضيل قيل: إنه على بابه، فالتقوى سبب لغض البصر وإحصان الفرج، ولكن الزواج أغض وأحصن، ورَدَّ هذا العيني وقال:(هذا تصرف من ليس له يد في العربية)

(1)

.

وقيل: ليس على بابه بل استعمل لغير التفضيل؛ كأنه لا يوجد ما يغض البصر ويحصن الفرج إلا التزوج.

والأول أظهر؛ لأن الأصل في صيغة (أفعل) هو التفضيل، ولا يعدل عنه إلا إذا تعذر الحمل عليه، وهنا لا يتعذر؛ لأن الخطاب مع المؤمنين، بل خُلَّصُهُمْ وهم شباب الصحابة رضي الله عنهم وعندهم من فيلتقوى ما ليس عند غيرهم.

قوله: (ومن لم يستطع) المفعول مقدر؛ أي: ومن لم يستطع الباءة، وقد ورد ذلك في الترمذي بلفظ: (فمن لم يستطع منكم الباءة

)

(2)

.

قوله: (فعليه بالصوم) الضمير عائد إلى لفظ: (من استطاع) لأنه لم يتعين المخاطب من الشباب، فصار كالغائب، وهذا له نظائر في القرآن، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ} [البقرة: 178] وتقول لرجلين: من قام منكما الآن فله جائزة، فهذه الهاء لمن قام من الحاضرين، وهكذا الفاء في هذا الحديث فهي للواحد من المخاطبين.

(1)

"عمدة القاري"(9/ 31).

(2)

"جامع الترمذي"(1081).

ص: 172

وعبر بالصوم دون الجوع لتحصيل العبادة، وهي مطلوبة بذاتها، وفيه إشارة إلى أن المطلوب من الصوم في الأصل كسر الشهوة.

قوله: (فإنه له) الضمير الأول عائد على الصوم، والثاني على الصائم المقصود من السياق.

قوله: (وجاء) أي: كسر لشهوته، والوجاء: بكسر الواو والمد: هو رض عروق الخصيتين بحجر ونحوه، وهما باقيتان لتضعف الفحولة، وأصل الوجاء الغمز، ومنه: وجأه في عنقه، إذا غمزه دافعًا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به.

والعلاقة بين الوجاء والصوم المشابهة في أن كلًّا منهما يضعف الشهوة ويدفع شر المني؛ لأن البيضتين تصلحان المني، فتهيج الشهوة، والصوم مضعف لشهوة الجماع بسبب قلة الطعام والشراب، وفيه سر عظيم، فإن تقليل الطعام والشراب بلا صوم لا يفيد.

° الوجه الثالث: في الحديث حث للشباب القادر على مؤنة الزواج أن يتزوج لما في الزواج من المصالح العظيمة، كما تقدم، وقد وردت أحاديث أخرى في الحث عليه والترغيب فيه، يأتي بعضها.

° الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم الزواج عندما تتوفر دواعيه وتنتفي موانعه على قولين:

الأول: أن الزواج واجب، وهذا قول داود بن علي وأصحابه، وأبو عوانة الإسفراييني من الشافعية، وابن حزم، وأحمد في رواية عنه، حكاه أبو بكر عبد العزيز

(1)

.

واستدلوا بالأدلة الآمرة بالنكاح؛ كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" قال ابن دقيق العيد: (إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب).

(1)

"المغني"(9/ 340)، "المحلى"(9/ 440).

ص: 173

القول الثاني: أن الزواج مندوب، وهذا قول الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، والرواية الثانية عن أحمد

(1)

، لكنهم يقولون: إن كان توقانه إلى الزواج شديدًا بحيث يخشى على نفسه الوقوع في الزنا وجب عليه الزواج متى قدر على تكاليفه.

واستدلوا على الاستحباب بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6] ووجه الاستدلال: أن هذه الآية صريحة في مدح من حفظ فرجه من الزنا بملك يمينه باستغنائه عن الزواج، فلو كان حكم الزواج الوجوب لما مُدح من تركه؛ لأن تارك الواجب لا يمدح بل يذم.

كما استدلوا بحديث الباب، ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الصوم مقام الزواج، والصوم في هذه الحالة ليس بواجب، فدل على أن الزواج غير واجب؛ لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب، وهذا الاستدلال فيه نظر

(2)

.

والذي يظهر -والله أعلم- وجوب النكاح مطلقًا بشرطين: أن يكون ذا شهوة، وأن يكون قادرًا على مؤنة النكاح، استنادًا لحديث الباب، ولأن درء المحرم واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما أحسن قول القرطبي:(المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العُزوبة بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، لا يُختلف في وجوب التزويج عليه)

(3)

.

° الوجه الخامس: في الحديث بيان حكمة عظيمة من حكم النكاح، وهي حفظ كل من الزوجين وصيانته عن الوقوع في المحظور، وذلك إنما يتم بالزواج، وهذا من مصالحه العظيمة.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الإنسان لا يتكلف للزواج بغير الممكن كالاستدانة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الصيام، وقد ذكر شيخ الإسلام

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 7)، "شرح فتح القدير"(3/ 187)، "المغني"(9/ 340)، "مغني المحتاج"(3/ 127).

(2)

"المُعلم" للمازري (2/ 85).

(3)

"المفهم"(4/ 82).

ص: 174

ابن تيمية أن في المسألة نزاعًا في مذهب أحمد وغيره، وقد قال الله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] فظاهر الآية أنه لا ينبغي للفقير أن يستقرض للزواج، بل عليه أن يتعفف، وهو حَرِيٌّ بأن يغنيه الله من فضله، والتعفف المذكور هو الذي جاء في قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]

(1)

.

° الوجه السابع: ذكر الخطابي أن في الحديث دليلًا على جواز التعالج لقطع الباءة، وهي شهوة الجماع، بالأدوية ونحوها

(2)

، ولكن ينبغي أن يحمل هذا على ما يخفف الشهوة ويسكنها، قياسًا على الصيام، لا على ما يقطعها، فإن هذا ممنوع شرعًا؛ لأمرين:

1 -

أنه قد يقدر على مؤونة الزواج وتتيسر له أسبابه، والله تعالى وعد من يستعفف أن يغنيه من فضله؛ لأنه جعل الإغناء غاية للاستعفاف.

2 -

أن العلماء أجمعوا على منع الجَبِّ والخِصَاءِ، فيلحق بهما كل ما يقطع الشهوة من الأدوية. والجب: هو استئصال المذاكير، والخصاء: سلُّ الخصيتين ونزعهما.

° الوجه الثامن: استدل القرافي بهذا الحديث على أن التشريك في العبادة لا يضر

(3)

، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العاجز عن مؤنة النكاح التائق إليه أمره بالصوم، وهو عبادة؛ كغض البصر، وحفظ الفرج، وهذا عبادة، ولو كان هذا قادحًا ما أمره بالصوم وهو عبادة من العبادات، ومثل ذلك من صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض، ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك، وهذا بخلاف الرياء، فإن الرياء تشريك مع الله تعالى في طاعته، فهذا معصية وصاحبه آثم، وعبادته على خطر عظيم، لكن يقال: إن كان المُشَرَّكُ عبادة

(1)

"الفتاوى"(32/ 6)، "أضواء البيان"(6/ 219).

(2)

"معالم السنن"(3/ 3).

(3)

"الفروق"(3/ 22).

ص: 175

كالمُشَرَّكِ فيه، فإنه لا يضر، فإنه يحصل بالصوم تحصين الفرج وغض البصر، وأما تشريك المباح، كما لو دخل في الصلاة لترك خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر، يحتمل القياس على ما ذكر، ويحتمل عدم صحة القياس، نعم إن دخل في الصلاة لترك الخوض في الباطل أو الغيبة وسماعها كان مقصدًا صحيحًا

(1)

.

° الوجه التاسع: استدل بعض المالكية بهذا الحديث على تحريم الاستمناء، وهو العادة السرية، ووجه الاستدلال: أنه لو كان مباحًا لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسهل وأهون، ولأن فيه لذة.

والاستمناء حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(ولا عبرة بقول من أباحه لتسكين الشهوة، فإن ضرر الاستمناء عظيم، فالحق أنه محرم لا يجوز ارتكابه لا لتسكين الشهوة ولا لغرض آخر، والله أعلم)

(2)

.

وقد استدَلَّ -أيضًا- من قال بتحريمه بقول تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 5 - 7]، والعادي هو المتجاوز للحد، وهذا يدل على التحريم، كما استدل بقوله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، والاستعفاف: طلب العفّة بحفظ الفرج من جميع أنواع الشهوة التي لا تباح

(3)

، وهذا أمر يراد به الوجوب.

وقد ذكر بعض الباحثين أن الاستمناء له أضرار عظيمة، فهو يضعف البصر، ويُنهك القوى، ويُجهد الأعصاب، ويُضعف عضو التناسل، ويحدث فيه ارتخاءً قد يؤثر على العلاقة بين الزوجين، ويجعل فاعله سريع الإنزال، بحيث يُنْزل بمجرد احتكاك شيء بذكره أقل احتكاك، ومن مضار هذه العادة

(1)

"سبل السلام"(3/ 175).

(2)

"الفتاوى"(10/ 573 - 575).

(3)

انظر: "الأم" للشافعي (5/ 101 - 102، 156).

ص: 176

السيئة أن المدمن عليها قد لا يتخلى عنها ولو بعد الزواج

(1)

.

والقول الثاني: أن الاستمناء مكروه، ولا إثم فيه، ولا عقوبة على فاعله، وهذا قول الظاهرية، وقد روي عن بعض السلف إباحته

(2)

؛ لأنه لم يرد نص صريح في تحريمه، وقد ذكر ابن حزم وجه كراهته، وهو أنه ليس من مكارم الأخلاق، ولا من الفضائل، ويبدو أن القائلين بإباحته لم يروا أن الأدلة المذكورة كافية في تحريمه، لكونها غير صريحة، وكذا ما ذكر عن أضراره، وقد نصر الشوكاني هذا القول، وألَّف فيه رسالة مستقلة.

واستثنى الفقهاء من خاف الوقوع في الزنا أو عَمَلِ قوم لوط فقالوا: يباح له الاستمناء؛ لأن ذلك حال ضرورة وحاجة، بشرط ألا يكون قادرًا على النكاح ولو نكاح أمَة

(3)

، ونقل ابن رجب عن ابن عقيل الحنبلي أنه يرى تحريم الاستمناء بكل حال، وحكاه رواية

(4)

، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"الاستمناء باليد حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وكذلك يعزر من فعله، وفي القول الآخر: هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره، ونُقِلَ عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا فلا يُعصم منه إلا به، ومثل أن يخاف إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره، وأما بدون الضرورة، فما علمت أحدًا رخص فيه، والله أعلم". اهـ.

(5)

.

(1)

انظر: رسالة: "الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء" للحسيني الإدريسي، ورسالة:"الانتصار على العادة السرية" أعدها: رامي بن خالد الخضر.

(2)

انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (7/ 390 - 392)، "المحلى"(11/ 392).

(3)

انظر: "شرح المنتهى" للبهوتي (6/ 229).

(4)

"الذيل على طبقات الحنابلة"(1/ 159).

(5)

"الفتاوى"(10/ 573 - 575)(34/ 229)، وانظر:"بدائع الفوائد"(4/ 1471).

ص: 177

‌ما جاء في أن الزواج سنة النبي صلى الله عليه وسلم

-

970/ 2 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيهِ، وَقَال:"لكِنِّي أَنَا أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (الترغيب في النكاح)(5063) من طريق محمد بن جعفر، أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل، أنه سمع أنس بن مالك

، وأخرجه مسلم (1401) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وهذا السياق للبخاري، ولمسلم بنحوه مختصرًا، ولفظ "البلوغ" هو آخر لفظ الحديث عند مسلم، وبهذا يتبين أن الحافظ اختصر الحديث.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الزواج والترغيب فيه لمصالحه العظيمة، وأن تركه من أجل الانقطاع للعبادة ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سنته، بل الزواج من سنن المرسلين المطلوبة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا

ص: 178

مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] والعدول عنه تعففًا خروج عن هديهم، وميل عن الصراط المستقيم.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن تعاليم الشريعة قائمة على التيسير على المكلفين، وأن الانهماك في العبادة وأخذ النفس بالمشقة ليس من الدين في شيء، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"

(1)

.

فمنهج الإسلام عدم التشدد في العبادة وتكليف النفس ما لا تطيق من الطاعات، ومن فعل ذلك غلبه الدين، وآخر الأمر العجز والانقطاع، والإنسان إذا أخذ بالقصد دام عمله، وتمكن من أداء الحقوق كلها، حَقِّ الله تعالى، وحَقِّ النفس، وحَقِّ الأهل، وحَقِّ الأصحاب، برفق وسهولة، وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنة، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"

(2)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على قاعدة عظيمة مفيدة، وهي أن موافقة السنة خير من كثرة العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن رغب عن سنتي فليس مني" وهؤلاء أرادوا أن يعملوا أكثر من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أن هذا مخالف للسنة، فالخير كل الخير في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صومه وصلاته وعاداته.

ومن الأمثلة لهذه القاعدة: الإطالة في ركعتي الفجر، أو صلاة أكثر من ركعتين بعد طلوع الفجر، أو الإطالة في ركعتي الطواف، أو الجلوس عند مقام إبراهيم عليه السلام بعد ركعتي الطواف للدعاء، ونحو ذلك مما فيه مخالفة للسنة. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (39).

(2)

أخرجه البخاري (6464).

ص: 179

‌استحباب اختيار الزوجة الودود الولود

971/ 3 - وَعَنْهُ قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ:"تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الولُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأَنْبيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

972/ 4 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ -أيضًا- مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَار.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث أنس رضي الله عنه أخرجه أحمد (20/ 191 - 192)، وابن حبان (9/ 338) من طريق خلف بن خليفة، حدثني حفص بن عمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا الحديث لا بأس برجاله، خلف بن خليفة من رجال مسلم

(1)

، وهو صدوق قد اختلط بأخرة، قال عبد الله بن أحمد قال أبي:(قد رأيت خلف بن خليفة قد قال له إنسان: يا أبا أحمد، حدثك محارب بن دثار؟ قال أبي: فلم أفهم كلامه، كان قد كبر فتركته)

(2)

، وقال أحمد:(رأيت خلف بن خليفة وهو مفلوج سنة سبع وثمانين ومائة، وقد حُمل، وكان لا يفهم، فمن كتب عنه قديمًا فسماعه صحيح) وقال الأثرم عن أحمد: ("أتيته فلم أفهم عنه"، قلت:

(1)

ذكر الحاكم في "المدخل إلى الصحيح"(4/ 136) أن مسلمًا أخرج له في الشواهد.

(2)

"المسند"(21/ 191).

ص: 180

في أي سنة مات؟ قال: "أظنه في سنة ثمانين أو آخر سنة تسع وسبعين")

(1)

.

وحفص بن عمر هو ابن أخي أنس بن مالك، صدوق، كما في "التقريب".

والحديث له شواهد منها الحديث الذي بعده، وهو حديث معقل بن يسار، فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب (النهي عن تزويج من لم يلد من النساء)

(2)

(2050)، والنسائي (6/ 65 - 66)، وابن حبان (9/ 363 - 364) من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا مستلم بن سعيد ابن أخت منصور بن زاذان، عن منصور بن زاذان، عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، هانها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال:"لا"، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" وهذا السياق لأبي داود، والحديث إسناده قوي، رجاله ثقات، رجال الصحيح، غير مستلم بن سعيد، فقد روى له أصحاب السنن، وهو صدوق، وثقه أحمد، وقال ابن معين:(صويلح)، وقال النسائي:(ليس به بأس)

(3)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يأمرنا بالباءة) تقدم الكلام عليها، والمراد هنا: النكاح بدلالة السياق.

قوله: (عن التبتل) أصل التبتل: الانقطاع، والمراد هنا: الانقطاع عن الزواج وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.

قوله: (الودود) بفتح الواو، صيغة مبالغة على وزن فعول، هي التي تتحبب إلى زوجها، وهي المحبوبة لكثرة ما هي عليه من خصال الخير والبر وحسن الخلق.

قوله: (الولود) هي كثيرة الأولاد والإنجاب، ويعرف ذلك عادة في

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 130).

(2)

انظر: "عون المعبود"(6/ 45).

(3)

تهذيب التهذيب (10/ 95).

ص: 181

البكر بحال أمها وقريباتها؛ لأن الغالب سراية طباع الأقارب بعضهم إلى بعض.

وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الوصفين؛ لأن الولود إذا لم تكن ودودًا لم يُرغب في الزواج بها، والودود إذا لم تكن ولودًا لم يحصل المطلوب، وهو تكثير الأمة بكثرة التوالد.

قوله: (إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة) أي: مفاخر بسببكم الأنبياء يوم القيامة، لكثرة أتباعي.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على الترغيب في الزواج لما فيه من المصالح العظيمة، ومنها إيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وحصول الذرية من البنين وأولادهم الذين هم قرة العين، قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].

° الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن التبتل وترك الزواج للقادر عليه انقطاعًا للعبادة وانشغالًا بطلب العلم ونحو ذلك، وهذا النهي يقتضي التحريم، ولهذا قال الصحابي:(وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا) وذلك لأن الانقطاع عن الزواج مخالفة لسنن المرسلين، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وفيه تعطيل لإرادة الله الكونية من عمارة هذا الكون، فإن هذا الكون لن يُعمر إلا بحفظ الجنس البشري، ولا وسيلة لذلك إلا التناسل عن طريق الزواج، ولأن ترك الزواج من أجل العبادة أو طلب العلم رهبانية مبتدعة، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالزواج والنهي عن الرهبانية في حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"

(1)

.

(1)

رواه البيهقي (7/ 78)، وساقه الحافظ في "فتح الباري"(9/ 111) وسكت عنه، وحسنه الألباني بشواهده ["الصحيحة" (4/ 385)].

ص: 182

° الوجه الخامس: الحديث دليل على استحباب نكاح المرأة الودود الولود؛ لأن وُدَّ المرأة لزوجها دليل على صحة مزاجها وقوة طبيعتها، كما أن وُدَّهَا مانع من أن يطمح بصرها إلى غيره، وباعث لها على تجملها لزوجها وعنايتها به، وفي هذا تحصين فرج زوجها ونظره، وفي هذا من المصالح ما لا يُحصر.

وبالجملة فإن تَوادَّ الزوجين به تتم المصلحة المنزلية، وكثرة النسل بها تتم المصلحة الدنيوية والدينية

(1)

.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن العمل على تحديد النسل المسمى تضليلًا تنظيم النسل، ليس من هدي الإسلام ولا من تعاليمه، بل هو كيد للإسلام وأهله بتقليل عدد المسلمين وإضعاف كيانهم، ليقوى عدوهم على السيطرة على بلادهم واستعمار أهلها، والتمتع بثروات البلاد الإسلامية وخيراتها، كما أن في الأخذ بهذه النظرية ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى.

والمراد بذلك ما يمنع الحمل منعًا مستمرًا بحيث يقل النسل، وهذا خلاف مقصود الشارع من تكثير الأمة.

وأما منعه منعًا مؤقتًا كأن تكون الأم كثيرة الحمل والحمل يتعبها، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك، فهذا جائز إذا أَذن به الزوج ولم يكن به ضرر عليها، ودليل ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعزلون عن نسائهم، وسيأتي لذلك مزيد بيان -إن شاء الله- عند الكلام على أحاديث العزل في باب "عشرة النساء" والله تعالى أعلم.

(1)

"حجة الله البالغة"(2/ 123).

ص: 183

‌الصفات التي من أجلها تنكح المرأة

973/ 5 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مَعَ بَقِيّةِ السّبْعَةِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (الأكفاء في الدين)(5090)، ومسلم (1466)، وأبو داود (2047)، والنسائي (6816)، وابن ماجه (1858)، وأحمد (15/ 319) كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

ويحيى بن سعيد هو القطان، وسعيد هو ابن أبي سعيد كيسان المقبري.

وقد وهم الحافظ في عزو الحديث إلى السبعة، فإن منهم الترمذي -كما هو اصطلاحه في المقدمة- وهو لم يرو الحديث، ولهذا لم يذكره المزي مع من أخرج الحديث

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (تنكح المرأة) بضم التاء مبني لما لم يُسمَّ فاعله؛ أي: يُرغب في الزواج بها، والمرأة: نائب الفاعل.

(1)

"تحفة الإشراف"(10/ 302).

ص: 184

قوله: (لأربع) أي: لأربع خصال أو صفات، واللام للتعليل، والمعنى: أن الناس يراعون هذه الخصال في المرأة، ويرغبون فيها لأجلها، ولم يرد الأمر بمراعاتها

(1)

.

قوله: (ولحسبها) بفتح الحاء والسين؛ أي: لشرفها، والحسب في الأصل: هو الفعل الجميل للرجل وآبائه وأجداده من الكرم والنجدة، والشجاعة والمروءة، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم، فمن كانت صفاته أكثر قُدم على غيره، وقيل: المراد بالحسب هنا: أفعالها الحسنة الجميلة، لكن قد يشكل على هذا التفسير ما رواه الترمذي عند تفسير قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحسب: المال، والكرم، والتقوى"

(2)

. فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الحسب بالمال، والجواب: أن الحسب لا يفسر في حديث الباب بالمال؛ لأنه قد عُطف عليه، والعطف يقتضي المغايرة، لكن إذا ذكر الحسب منفردًا فلا مانع من تفسيره بالمال، وإن ذكر مع المال فسر بما تقدم.

قوله: (فاظفر بذات الدين) أي: فاحرص على الزواج بالمرأة ذات الدين؛ لأنك تكسب بزواجها منافع الدنيا والآخرة.

قوله: (تربت يداك) بكسر الراء؛ أي: لصقتا بالتراب، وهو كناية عن الفقر، وهي جملة خبرية لفظًا، إنشائية معنى، معناها: الدعاء، لكن هذا مما يجري على اللسان، ولا يُراد به الدعاء، بل يراد بها الحث والتحريض على الفعل، وهي كقولهم: لا أبَ لك، ولا أُمَّ لك، ولا أَرْضَ لك، ونحو ذلك، يقال: تَرِبَ الرجل: إذا افتقر، وأترب: إذا استغنى، قال الشاعر:

لولا توقُّعُ معترٍّ فأُرْضِيَهُ

ما كنت أُوثرُ إِتْرابًا على تَرَبِ

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الذي يدعو الرجل إلى

(1)

"حاشية السندي على ابن ماجه"(1/ 572).

(2)

"جامع الترمذي"(3271)، ورواه ابن ماجه (4219)، وأحمد (33/ 294)، وصححه الترمذي، وفيه نظر، والحديث له شواهد.

ص: 185

الزواج بالمرأة هو مالها أو شرفها أو جمالها، وآخر ذلك الدين، وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الواقع في زماننا هذا، فالبحث عندهم عن الجمال، ومنهم من يحرص على المال كأن تكون معلمة مثلًا.

° الوجه الرابع: الحرص على الزواج بالمرأة ذات الدين، فإن هذا له تأثير كبير على الزوج نفسه، وعلى أولاده، وعلى بيته، والإنسان إنما يجلس إلى من ينفعه في دينه، فكيف بزوجته شريكة حياته؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"

(1)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على إباحة الزواج بالمرأة لأيِّ من المقاصد المذكورة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساق هذا الحديث مساق الإخبار عما في الواقع وحال الناس، وليس المراد الأمر بذلك، ومن تزوج امرأة طمعًا في مالها -وهو أقوى الدواعي- وتجرد القصد عن غير المال من الأسباب الموجبة للائتلاف، فَأَخْلِقْ بالعقد أن ينحل، وبالألفة أن تزول، ولا سيما إذا غلب الطمع، وقل الوفاء، وبالغ الرجل في تسلطه على مال زوجته.

وإذا تزوجها رغبة في جمالها، فذاك أدوم ألفة من المال؛ لأن الجمال صفة لازمة، والمال صفة زائلة، فإن سلم الجمال من الإدلال المفضي للملل، دامت الألفة وحسنت العشرة، وإلا فهو إلى الزوال أقرب.

° الوجه السادس: كيفية العمل بهذا الحديث: أن من أراد أن يتزوج بامرأة فإنه يبدأ بالسؤال عن الصفات التي يُرغب فيها؛ كالجمال مثلًا، فإذا تحققت له، يسأل عن الدين، فإن تحقق أقدم وإلا أحجم، فيكون الدين هو مدار القبول أو الرد.

وأما إذا سأل عن الدين أولًا، ثم سأل عن الصفات الأخرى ولم تتحقق، فيكون رد المرأة مع أنها ذات دين.

° الوجه السابع: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن للزوج

(1)

أخرجه مسلم (1467).

ص: 186

الاستمتاع بمال الزوجة، وهذا فيه نظر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه" والحديث فيه ضعف، لكن تشهد له عمومات صحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع في عرفة: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم

" الحديث

(1)

. ولا ينحصر قصد نكاح المرأة لأجل مالها في استمتاع الزوج به، بل قد يكون قصده أن تستغني بمالها عن كثرة مطالبة الزوج بما تحتاج إليه النساء من الكماليات، ولا سيما في زماننا هذا.

° الوجه الثامن: في الحديث دليل على الحث على مصاحبة أهل الدين والصلاح والاستقامة؛ لأن من صاحبهم استفاد من أخلاقهم وطباعهم وعلمهم، وأمن المفسدة من جهتهم.

° الوجه التاسع: كما ينبغي للزوج اختيار المرأة الصالحة ينبغي لولي المرأة أن يختار لها الزوج الصالح الكريم الخلق ذا الدين والمروءة، فلا يزوجها من ضَعُفَ دَينُهُ وساء خُلُقُهُ، قال رجل للحسن البصري: قد خطب ابنتي جماعة، فمن أزوجها؟ قال:(ممن يتقي الله، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها)

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجهما في باب (الصلح) عند الحديث (875).

(2)

"تكملة المنهل العذب المورود"(3/ 168).

ص: 187

‌ما يدعى به للمتزوج

974/ 6 - وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَفَّأ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّجَ قَال: "بَارَك اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيكَ، وَجَمَعَ بَينَكُمَا في خَيرٍ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (14/ 517 - 518)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (ما يقال للمتزوج)(2130)، والترمذي (1091)، والنسائي في "الكبرى"(9/ 107)، وابن ماجه (1905)، وابن حبان (9/ 359) كلهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم (2/ 183):(هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (رفَّأ إنسانًا) بفتح الراء وتشديد الفاء مع الهمز وعدمه، ولها معنيان:

الأول: إذا أراد أن يدعو له إذا تزوج بالرفاء، قال له: بارك الله لك وبارك عليك.

(1)

انظر: "آداب الزفاف" ص (103).

ص: 188

الثاني: إذا هنأه ودعا له بالتوفيق وحسن العشرة والذرية الطيبة.

وأصل الرِّفاء -بكسر الراء والمد-: الالتئام والاتفاق وجمع الشمل، ومنه رفأ الثوب: إذا أصلحه، وبين القوم رفاء أي: التحام واتفاق

(1)

.

ويجوز أن يكون من الهدوء والسكون، تقول: رفوته: إذا سَكَّنْتَ ما به من روع

(2)

.

قوله: (بارك الله لك) هذه جملة خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء، وكذا ما بعدها. ولعل الجمع بين (لك) و (عليك) أن البركة لما كانت نافعة تعدت باللام، ولما كانت نازلة من السماء تعدت بـ (على) وجاء الحديث بالوجهين للتأكيد والتفنن

(3)

.

قوله: (وجمع بينكما) أي: بينك وبين زوجك، وهذا يفهم من السياق.

قوله: (في خير) لفظ شامل لكل أنواع الخير من الطاعة وحسن المعاشرة والذرية الصالحة.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بأن يبارك الله تعالى له، وأن يبارك عليه، وأن يجمع بينه وبين زوجه في خير. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج بقوله:"بارك الله لك"

(4)

.

والدعاء للمتزوج من محاسن الشريعة الإسلامية، وذلك بأن يُهنأ المسلم بما حصل له من الخير وأن يدعى له بما يناسب الحال من البركة ودوام النعمة وشكرها.

ولا يجوز العدول عن هذا الدعاء إلى ما اعتاده بعض الناس من قولهم: بالرِّفاء والبنين

(5)

. فإن هذا من عمل الجاهلية، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد

(1)

"المصباح المنير" ص (234)، "حاشية السندي على ابن ماجه"(1/ 589).

(2)

"غريب الحديث"(1/ 207).

(3)

"تكملة المنهل العذب المورود"(4/ 13)، "الفتوحات الربانية"(6/ 77).

(4)

سيأتي هذا الحديث في باب (الوليمة) إن شاء الله تعالى.

(5)

قال الزمخشري: (إن الباء متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى؛ أي: أعرستما أو اصطحبتما)"الفائق"(2/ 70)، وانظر:"مجمع الأمثال" للميداني (1/ 175).

ص: 189

ورد عن الحسن أن عقيل بن أبي طالب تزوج امرأة من جُشم، فدخل عليه القوم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تفعلوا ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، قالوا: فما نقول يا أبا يزيد؟ قال: قولوا: بارك الله لكم، وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر

(1)

. وفي رواية لأحمد: لا تقولوا ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك، وقال:"قولوا: بارك الله فيك، وبارك لك فيها"، ولعل الحكمة -والله أعلم- في النهي عن استعمال هذه الجملة، ثلاثة أمور:

1 -

لقصد مخالفة ما كان عليه أهل الجاهلية.

2 -

لما فيه من الدعاء له بالبنين دون ذكر البنات، وفي هذا موافقة للعرب في جاهليتهم حيث كانوا يكرهون البنات، قال الله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} [النحل: 58].

3 -

أنه ليس فيه ذكر اسم الله تعالى ولا حمده ولا ثناء عليه، وهذه أمور مطلوبة.

واعلم أن لفظ الرفاء لا محذور فيه، فإن الصحابي عبر به، وهو أعلم بنصوص الشريعة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المحذور الدعاء للمتزوج بالبنين

(2)

.

وانظر إلى ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا اللفظ الوجيز البليغ، وهو دعاء جامع شامل لمصالح الدنيا والآخرة، فإن حصول البركة لهما وعليهما والجمع بينهما بخير ينتظم سعادة الزوجين وصلاحهما وصلاح ذريتهما. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه النسائي مختصرًا (6/ 128)، وأحمد (3/ 261)، وابن ماجه (1906)، وهو حديث قوي بطرقه، كما قال الألباني: في "آداب الزفاف" ص (104).

(2)

"تصحيح الدعاء" ص (528).

ص: 190

‌مشروعية الخطبة عند عقد النكاح

975/ 7 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ في الْحَاجَةِ: "إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَستَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، وَيَقْرَأُ ثَلاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (6/ 262 - 263) من طريق شعبة، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (في خطبة النكاح)(2118) من طريق إسرائيل، والنسائي (3/ 104 - 105)، والحاكم (2/ 182 - 183) من طريق شعبة -أيضًا- كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة في النكاح وغيره: الحمد لله

هذا لفظ أبي داود، وقد جاء في إسناد أبي داود من طريق إسرائيل عن أبي عبيدة وأبي الأحوص به. فجمع بينهما.

وأخرجه الترمذي (1105)، والنسائي (2/ 238 - 239) من طريق الأعمش، وابن ماجه (1892) من طريق يونس بن إسحاق، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة؛ إن الحمد لله نستعينه

الحديث.

ص: 191

قال الترمذي: (حديث عبد الله حديث حسن، رواه الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا الحديثين صحيح، لأن إسرائيل جمعهما فقال: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

وللحديث طريق ثالثة أخرجها أبو داود (1097)(2119) من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

وسنده ضعيف، لجهالة أبي عياض، وكذا شيخ قتادة عبد ربه بن أبي يزيد.

وروى الحديث أبو داود (2118)، وأحمد (7/ 188) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، ورواه عبد الرزاق (6/ 187) عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق به نحوه موقوفًا، وتابعهما أبو الأحوص سلام بن سليم به موقوفًا، كما ذكر الدارقطني في "العلل"(5/ 312) وبهذا تبين أن هذا الحديث مداره على أبي إسحاق السبيعي، واختلف عليه رفعًا ووقفًا

(2)

، وقد حسن الترمذي رواية أبي الأحوص، وأما رواية أبي عبيدة، فقد أُعلت بالانقطاع، لكونه لم يسمع من أبيه، والظاهر أنها في حكم الموصول؛ لأنه كان شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، وعنده في ذلك من العلم ما ليس عند غيره، ما لم يوجد سبب يقتضي الرد

(3)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظة:

قوله: (التشهد في الحاجة) هذه رواية، والرواية الثانية -كما تقدم-

(1)

"جامع الترمذي"(2/ 399) وانظر: "العلل" للدارقطني (5/ 309) فقد أطال في ذكر الاختلاف على أبي إسحاق، وذكر نحوًا من كلام الترمذي.

(2)

انظر: "مرويات أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه" ص (326).

(3)

انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص (256)، "فتاوى ابن تيمية"(6/ 404)، "تهذيب مختصر السنن"(6/ 350)، "شرح العلل" لابن رجب (1/ 298)، "فتح الباري" له -أيضًا- "تهذيب التهذيب"(5/ 66)، "مرويات أبي عبيدة عن أبيه" ص (85 وما بعدها).

ص: 192

(علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطبة الحاجة في النكاح وغيره)، وظاهر السياق أن قوله:(في النكاح وغيره) الوارد في لفظ أبي داود من طريق سفيان، عن أبي إسحاق، أنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه، لكن خالفه شعبة، فجعلها من قول أبي إسحاق حيث قال:(قلت لأبي إسحاق: هذه في خُطبة النكاح أو في غيرها؟ قال: في كل حاجة)

(1)

. والخُطبة هنا: بضم الخاء، من خطب يخطُب، من باب نصر ينصر، إذا تكلم بكلام يشتمل على الحمد والثناء وغيرهما، وأما الخِطبة: بالكسر، فهي أن يَخْطِبَ الرجل المرأة، ولهذا قالوا: تستحب الخُطبة عند الخِطبة، وهما يجتمعان في الماضي والمضارع، ويختلفان في المصدر

(2)

، وتقدم هذا في "البيوع".

قوله: (إن الحمد لله) هذا لفظ الترمذي وغيره، ولفظ أبي داود وغيره:(الحمد لله)، والتعبير بالجملة الاسمية أبلغ من الفعلية؛ لدلالتها على الثبوت والدوام، والفعلية تدل على التجدد والحدوث، وقد جمع بينهما، كما في رواية الطحاوي

(3)

فقال: (إن الحمد لله، نحمده) أي: إنه حمد يتجدد كلما تجددت النعم، والحمد: هو الاعتراف للمحمود بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه، وتقدم ذلك.

قوله: (ونستعينه) أي: نطلب منه العون، وهو المساعدة على أداء حمده وعلى سائر الأمور الدينية والدنيوية.

قوله: (ونستغفره) أي: نطلب منه مغفرة ما يحصل من التقصير في أداء حمده، وسائر ما يجب علينا فعله له، فهو أهل للمغفرة، وحذف المعمول يؤذن بالعموم.

قوله: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي: نعتصم بالله تعالى ونلتجئ إليه، وشرور أنفسنا: هي الأخلاق الدنيئة، وإنما استعاذ من شرور الأنفس؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ميالة إلى الهوى والأغراض الفاسدة.

(1)

انظر: "المفهم"(4/ 107)، "مختار الصحاح" ص (180).

(2)

"مسند الطيالسي"(1/ 264 - 265).

(3)

"شرح مشكل الآثار"(1/ 6).

ص: 193

قوله: (ومن سيئات أعمالنا) استعاذة من المعاصي ومن عقوباتها، ومن وقاه الله شر نفسه وسيئات عمله فقد أفلح.

قوله: (من يهده الله فلا مضل له) هكذا بإثبات الضمير (يهده) وفي بعض نسخ أبي داود (من يهد الله) بدونه، والمعنى: من يدله ويوفقه الله تعالى ويرشده.

قوله: (فلا مضل له) أي: فلا يقدر أحد على إضلاله وصرفه عن طريق الحق والرشاد.

قوله: (ومن يضلل فلا هادي له) هكذا بدون الضمير، وفي الإتيان به في جانب الهداية وتركه في جانب الضلالة نكتة تشير إلى عناية الله تعالى بعبده.

قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله) جاءت الأفعال الأربعة بالنون؛ لأمرين:

الأول: أن الاستعانة والاستغفار والاستعاذة تقبل النيابة فيجوز أن يستغفر الرجل لغيره، ويستعين الله له، ويستعيذ بالله له، وهذا التوجيه تشكل عليه رواية:(نحمده) لأن الحمد لا يتحمله أحد عن أحد، ولا يقبل النيابة، ومع هذا جاء بالنون، لكن أكثر الروايات خلت من هذه الجملة كما تقدم.

الثاني: أن المذكورات طلب وإنشاء، فيستحب للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين.

أما الشهادة فقد جاءت بلفظ الإفراد (وأشهد أن لا إله إلا الله) لأمرين:

1 -

أن الشهادة لا تقبل النيابة بحال.

2 -

أن الشهادة إخبار عما في القلب مما يطابق اللسان، والإنسان إنما يخبر عن نفسه، لعلمه بحاله، بخلاف إخباره عن غيره، فإنه يخبر عن قوله ونطقه، ولا يخبر عن عقد قلبه

(1)

.

(1)

نقل ابن القيم في "تهذيب مختصر السنن"(3/ 54) هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 194

قوله: (ويقرأ ثلاث آيات) جاء بيانها في تتمة الحديث، ولكن الحافظ حذفها اختصارًا، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. وقد جاء في بعض الروايات (أما بعد، ثم يذكر حاجته) والمراد هنا: أن يقول الولي من أب أو غيره: زوجتك ابنتي، ويقول الخاطب: قبلت، أو نحو ذلك.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية تقديم هذه الخطبة على عقد النكاح، وذلك بأن يبدأ العاقد بقراءة هذه الخطبة، ثم بعدها يصدر الإيجاب من الولي، والقبول من الزوج.

وكان أهل الجاهلية يخطبون قبل العقد بذكر مفاخر قومهم ونحو ذلك، يتوسلون بذلك إلى ذكر المقصود والتنويه به، وفي ذلك مصلحة، فإن الخطبة مبناها على التشهير، والنكاح يراد إشهاره وإظهاره ليتميز عن السفاح، وأيضًا الخطبة لا تستعمل إلا في الأمور المهمة، ومن ذلك النكاح، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم أصل الخطبة، وغير وصفها وصيغتها

(1)

.

وهذه الخطبة سنة عند الجمهور وليست بواجبة، لما ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الآتي أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج الرجل بما معه من القرآن، ولم تذكر الخطبة في شيء من طرق الحديث، فلو قال: زوجتك، وقال: قبلت، كفى.

ونقل الحافظ ابن حجر عن الظاهرية أنها شرط في العقد، ووافقهم من

(1)

انظر: "حجة الله البالغة"(2/ 127 - 128).

ص: 195

الشافعية أبو عوانة، فترجم في "مسنده":(باب بيان تثبيت وجوب الخطبة عند التزويج، وما يجب أن يُخطب به)

(1)

.

° الوجه الرابع: هذه الخطبة ليست خاصة بعقد النكاح، وإنما هي عامة كما تقدم في بعض الروايات، ولهذا فقد ذكر النسائي هذا الحديث في كتاب "الجمعة"، باب (كيفية الخطبة)

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا استحبت، وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عمومًا وخصوصًا من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك، وموعظة الناس، ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية)، ثم ذكر أن شيوخ زمانه وغيرهم كانوا يفتتحون بغيرها، ثم قال:(إن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح، فينما هي خطبة لكل حاجة، في مخاطبة العباد بعضهم بعضًا، والنكاح من جملة ذلك، فإن مراعاة السنة الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العادات والعبادات هو كمال الصراط المستقيم، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيًا عنه، فإنه منقوص مرجوح، إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"مسند أبي عوانة"(3/ 43 - 44).

(2)

"سنن النسائي"(3/ 104).

(3)

"الفتاوى"(18/ 287 - 288).

ص: 196

‌مشروعية نظر الخاطب إلى المخطوبة

976/ 8 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأةَ، فَإنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

977/ 9 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ.

978/ 10 - وَعنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيث مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.

979/ 11 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: "أَنَظَرْتَ إِلَيهَا؟ "، قَال: لَا، قَال:"اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيهَا".

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو محمد بن مسلمة بن سلمة الأنصاري الأوسي، أسلم في المدينة قديمًا على يد مصعب بن عمير، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة، وشهد بدرًا وأُحدًا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولّى الناس، وشهد بقية المشاهد ما عدا تبوك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، وكان رضي الله عنه ممن اعتزل، ولم يشهد الجمل ولا صفين. قال ابن عبد البر:(كان من فضلاء الصحابة). مات في المدينة سنة ست وأربعين، وهو ابن سبع وسبعين سنة رضي الله عنه

(1)

.

(1)

"الاستيعاب"(10/ 44)، "السير"(2/ 369)، "الإصابة"(9/ 131).

ص: 197

° الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه أحمد (22/ 440)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في الرجل ينظر إلى المرأة، وهو يريد تزويجها)(2082)، والحاكم (2/ 165) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ، عن جابر رضي الله عنه، وتمام الحديث: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها.

والحديث حسنه الحافظ ابن حجر

(1)

، وهو من رواية محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه، لكنه صرح بالتحديث في رواية أخرى عند أحمد (23/ 155) وقد اختلف على ابن إسحاق في تسمية الراوي عن جابر رضي الله عنه، فسماه عبد الواحد بن زياد عنه: واقد بن عبد الرحمن بن سعد، وهذا مجهول، كما قال ابن القطان

(2)

، ورواه عن ابن إسحاق عمر بن علي المقدَّمي، وسماه مرةً واقد بن عبد الرحمن، كما في رواية البزار على ما ذكر ابن القطان، ومرةً واقد بن عمرو بن سعد، كما عند الحاكم (2/ 165)، وهذا ثقة من رجال مسلم، وتابعه على ذلك إبراهيم بن سعد الزهري عند أحمد (23/ 155)، وأحمد بن خالد الوهبي عند الطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 14)، والبيهقي (7/ 84)، وبهذا تكون رواية عبد الواحد، عن ابن إسحاق في تسمية الراوي واقد بن عبد الرحمن شاذة؛ لأنه خالف الجماعة الذين رووا الحديث عن ابن إسحاق وقالوا: واقد بن عمرو.

وأما حديث المغيرة رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي (1087)، والنسائي (6/ 69 - 70)، وابن ماجه (1865)(1866)، وأحمد (30/ 66) من طريق عاصم بن سليمان الأحول، عن بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، هذا لفظ الترمذي، وقال الترمذي:(حديث حسن).

(1)

"فتح الباري"(9/ 181).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 429).

ص: 198

وأما حديث محمد بن مسلمة فقد أخرجه ابن ماجه (1864) من طريق حفص بن غياث، وأحمد (25/ 410 - 411) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن حجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة، عن عمه سهل بن أبي حثمة قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد امرأة ببصره، فقلت له: تنظر إليها وأنت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خِطبةً لامرأة فلا بأس أن ينظر إليها".

ومحمد بن سليمان بن أبي حثمة مجهول، لم يرو عنه غير اثنين، ولم يوثقه إلا ابن حبان

(1)

، وحجاج بن أرطاة مدلس وقد عنعنه.

وأخرجه ابن حبان (9/ 349 - 350) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن حجاج، عن سهل بن محمد بن أبي حثمة، عن عمه سليمان بن أبي حثمة قال: رأيت محمد بن مسلمة

فذكره. وهذه الرواية خطأ؛ لأن أبا معاوية قلب إسناده ولم يضبطه، كما قال الدارقطني في "العلل"(14/ 13).

وحديث محمد بن مسلمة -هذا- في سنده اختلاف، ومداره على الحجاج بن أرطاة، قال الطبراني في "الكبير"(19/ 226)(قد اختلف الرواة عن الحجاج بن أرطاة في هذا الحديث، والصواب عندي -والله أعلم- ما رواه حفص بن غياث ويزيد بن هارون عن الحجاج، عن محمد بن سليمان، عن عمه سهل، عن محمد بن مسلمة)

(2)

.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم (1424) من طريق سفيان، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وتمامه:"فإن في أعين الأنصار شيئًا".

ولعل الحافظ قدم حديث جابر رضي الله عنه مع أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أصح؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه تشريع عام وخطاب لكل فرد، أما الأحاديث

(1)

"الثقات"(5/ 375).

(2)

انظر: "العلل" للدارقطني (14/ 13).

ص: 199

الأخرى، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهي قضايا أعيان، والخطاب فيها لأفراد من الصحابة رضي الله عنهم، وقد علم في الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاطب واحدًا من الصحابة بشيء فهو عام لجميع المكلفين إلا إن قام دليل على التخصيص، ثم إن حديث جابر رضي الله عنه فيه فائدة وهي موضع نظر الخاطب.

وفي الباب -أيضًا- حديث أبي حميد أو حميدة، وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة، وإن كانت لا تعلم"

(1)

.

° الوجه الثالث: هذه الأحاديث فيها دليل على مشروعية نظر الخاطب إلى مخطوبته، وهو مذهب الجمهور من أهل العلم، بل نقل بعضهم الاتفاق، وكأنه لم يلتفت إلى خلاف من خالف لضعفه، فإن الأحاديث صريحة في ذلك وكثيرة، وقد عمل بها الراوي كما في حديث جابر رضي الله عنه، وقد روي عن مالك وغيره القول بعدم جواز نظر الرجل إلى مخطوبته، وهي رواية مرجوحة ذكرها ابن عبد البر، وذكرت عنه رواية بالجواز، وهي التي عليها كتب المالكية

(2)

؛ وذلك لأن النكاح عقد يقتضي التمليك، فكان للعاقد النظر إلى المعقود عليه، ولأن النظر أحرى إلى استقامة الأحوال ودوام العشرة، وهذه الحكمة جاء ذكرها في حديث المغيرة، وهي قوله:"فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"؛ أي: تكون بينكما المحبة والاتفاق، يقال: أَدَم الله بينهما، يأدِمُ أدْمًا، بالسكون؛ أي: ألَّف ووفق

(3)

.

فإذا تزوجها بعد معرفة لم يكن هناك ندامة في الغالب؛ لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على الألفة والموافقة، وبالجملة ففوائد الرؤية كثيرة، ومنها:

1 -

متابعة السنة.

2 -

دوام المودة بين الزوجين.

(1)

رواه أحمد (39/ 15) وإسناده صحيح.

(2)

"الكافي"(2/ 519).

(3)

"النهاية"(1/ 32).

ص: 200

3 -

اجتناب كل واحد من الزوجين العيوب التي يكرهها الآخر.

4 -

إتمام الزواج على بينة، وعدم لوم الآخرين.

وإباحة النظر إلى المخطوبة جاء على وفق القاعدة الشرعية: (ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة) وتقدم ذكرها في "البيوع"

(1)

.

° الوجه الرابع: الأمر في قوله: "فليفعل" للإباحة عند الجمهور، لقوله:"فلا بأس أن ينظر إليها"، ولأن الأصل في النظر إلى المرأة الحظر، والأمر بعد الحظر للإباحة، وحمله النووي على الاستحباب، لقوله:"فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، ونسب ذلك إلى الجمهور

(2)

. ومثل هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية، والقول بالاستحباب قوي جدًّا في نظري؛ لأنه أمر، وأقل أحواله الاستحباب، ولما يترتب على النظر من المصالح العظيمة.

° الوجه الخامس: لا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى الوجه، وإنما الخلاف فيما زاد على ذلك، وسبب هذا أنه لم يرد دليل في تعيين المواضع التي يراها الخاطب، إلا أن الأدلة ذكرت الغرض من الرؤية، وهو الاطمئنان على أوصاف المرأة مما يكون له أثر في تقوية العقد وتأكيده، والقول المختار أنه ينظر إلى ما يدعوه ويرغبه في نكاحها؛ كالوجه والكفين والمظهر العام للجسم كالرقبة والقدمين والساعدين؛ لأنه نظر أبيح للحاجة فيقتصر عليها، وقد دل على ذلك فعل الراوي حيث قال:(حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها) وفي حديث جابر: (له أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها)، ولأن مثل هذا النظر أبيح للمَحْرَمِ غيرِ الزوج، فإن نظره ليس نظر متعة وتلذذ، وإنما لأجل الحاجة ورفع الحرج.

° الوجه السادس: اختلفت هذه الأحاديث في وقت رؤية المخطوبة؛ ففي بعضها أن الرؤية تكون قبل الخطبة، كما في حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر

(1)

انظر: شرح الحديث رقم (848 - 849).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 221).

ص: 201

إليها"، وفي بعضها أن الرؤية تكون بعد الخطبة، كما في حديث جابر رضي الله عنه: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر

الحديث"، ومثل ذلك حديث أبي حميد أو حميدة، ونظرًا لتعدد الأدلة اختلف العلماء في وقت رؤية المخطوبة؛ هل يكون قبل خطبتها أو بعده.

والأظهر -والله أعلم- هو العمل بالأحاديث كلها، على اختلاف الحال، فإن أمكن أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته قبل التقدم إلى خطبتها وبعد العزم على الزواج فلا بأس، وهذا أمر نادر الوقوع، ولا سيما في زماننا هذا، وإلا فإن الرؤية تكون بعد الخطبة، وطريق ذلك أن يذهب الخاطب إلى منزل مخطوبته، ويجلس معها بحضور أبيها أو أخيها أو غيرهما من محارمها، ويرى منها ما يدعوه إلى نكاحها، كما أنها هي تراه، وأما ما يفعله بعض الناس من مجرد رؤيتها في مكان وهي لا تراه، فهذا وإن كان فيه مصلحة، لكن مقاصد الرؤية لا تتحقق بهذا الفعل، حيث إن الخاطب لا يرى إلا طولها، ثم هي تحرم من رؤيته.

° الوجه السابع؛ مع ثبوت هذا الحكم الشرعي، وصحة الأحاديث الواردة فيه، وما يترتب على تطبيقه من المصالح العظيمة، إلا أنه يوجد من بعض الأولياء من أعرض عن هذا الحكم، وصاروا لا يسمحون للخاطب بالنظر إلى مخطوبته من باب الورع، وهذا ليس بورع، إذ لا ورع في مخالفة الشرع، أو من باب مخالفته لأعرافهم وتقاليدهم، والأعراف والتقاليد لا عبرة بها مع مجيء النصوص الشرعية. وفي مقابل هؤلاء أولياء متساهلون لا يغارون على حرماتهم وبناتهم، بل يسمحون لهن بمخالطة من خطبهن والتعرف عليهن، ولا ريب أن هذا من البدع المحدثة في الدين التي جرّت على الناس المصائب والبلايا، وهو تصرف مصادم لنصوص الشريعة القاضية بتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية.

° الوجه الثامن: هذا النظر مقيد بضوابط بعضها من عمومات الشريعة، وبعضها من أحاديث الباب، وأهمها ما يلي:

ص: 202

1 -

أن يكون الرجل عازمًا على الزواج؛ لأن النظر إنما أبيح في حق من عزم عليه، وإلا فهو محرم في الأصل.

2 -

أن يغلب على ظنه إجابته، فإن لم يكن كذلك لم يجز له النظر، وهذا من باب الاحتياط، وهو مبني على أن النظر قبل الخطبة، والغالب أنه لا يُمَكَّنُ من النظر إلا بعد الموافقة عليه، كما تقدم.

3 -

ألا يكون النظر نظر تلذذ وشهوة؛ لأن هذا خاص بالزوج، والخاطب أجنبي، فلا يجوز له ذلك، لحديث أبي حميد:"إذا كان إنما ينظر إليها لخِطبة"، لكن إن عرضت له الشهوة فلا بأس؛ لأنه لا يمكن دفعها، ويرى آخرون أن هذا الضابط لا ضرورة له؛ لأن تأثير النظر في نفس الناظر لا يملكه المرء.

4 -

أن يكون النظر بقدر الحاجة؛ لأنه محرم في الأصل، لكن له أن ينظر حتى يتم المراد ويحصل المقصود من معرفة الأوصاف التي يريد معرفتها؛ لأن الغرض غالبًا لا يحصل بأول نظرة، وقد جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الآتي في قصة الواهبة (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر فيها وصوَّبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه).

5 -

لا تجوز الخلوة بها ولا السفر بحجة التعرف عليها، ففي ذلك الفساد العريض.

6 -

لا يجوز له مصافحتها ولا مس أي عضو من بدنها؛ لأنها أجنبية منه.

7 -

هل يشترط علمها برؤية الخاطب لها؟ قولان: أرجحهما أنه لا يشترط، وقد نسبه الحافظ إلى الجمهور، لحديث أبي حميد:"إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر لخطبة، وإن كانت لا تعلم"، ولأن جابرًا رضي الله عنه قال:(فتخبأت لها)، ولأنها إذا علمت قد تتزين له بما يغره.

والذي يظهر لي -والله أعلم- التفصيل، وهو أنه إن غلب على الظن أن

ص: 203

الخاطب سيوافق على الزواج، فلا بأس بعلمها، وإن كان يغلب على الظن عدم ذلك؛ لوجود قرائن فالأوْلى ألا تعلم، لئلا تتأثر نفسيًّا.

8 -

أن يستر الخاطب ما رآه من المرأة ولا يذيعه إذا عدل عن الزواج بها، فربما أعجب غيره ما ساءه منها.

وأما التعرف عليها بواسطة الصورة فالذي يظهر المنع، لما يلي:

1 -

أن هذا مبني على القول بجواز التصوير في مثل هذه الحال.

2 -

أن الصورة لا تغني عن النظر إليها.

3 -

أن فن التصوير قد يبرز محاسنها أو يخفي عيوبها بما يَغُرُّ الخاطب.

4 -

أنه قد يُتلاعب بهذه الصورة، فيطلع عليها من لا يعنيه الأمر.

وكذا المحادثة عبر الهاتف فالأحوط تركها، لا سيما إذا كانت بدون علم أهل الزوجة؛ كأبيها وأمها وإخوانها، فإنها تجلب الشهوة، ويترتب عليها أمور قد لا تحمد عقباها، لكن إن حادثها وقت رؤيتها -كما تقدم- فلا بأس لمعرفة عذوبة صوتها وطريقة حديثها، ومعرفة خلو لسانها من العيوب.

° الوجه التاسع: أما نظر المرأة إلى الخاطب فهذا لم يرد فيه دليل إلا عموم: "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، وقد قال به جمع من أهل العلم؛ لأنه إذا ثبت النظر للرجل فهو ثابت للمرأة من باب أولى؛ لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها، ولأن العقد بالنسبة لها أصعب من الرجل، فإن الرجل يتخلص منها بالطلاق، وهي لا تستطيع التخلص إلا في حالات خاصة، ونصوص الشريعة غالبًا ما يخاطب بها الرجل مع أنها عامة في حق الجميع، والشارع لم يوجه المرأة إلى النظر للخاطب؛ لأن الرجال ظاهرون بارزون، يمكن المرأة أن ترى خطيبها بسهولة ويسر، وإذا وقع النظر على الصفة التي تقدمت رأت المرأة خطيبها بكل وضوح، كما يراها هو. والله تعالى أعلم.

ص: 204

‌النهي عن خطبة المسلم على خطبة أخيه

980/ 12 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَخْطُبُ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (لا يخطب على خطبة أخيه حتى يَنْكِحَ أو يَدَعْ)(5142)، ومسلم (1412) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب) هذا لفظ البخاري.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يخطب) بضم الطاء، مضارع خطب، من باب (قتل) خِطْبَةً بكسر الخاء، و (لا) ناهية، والمضارع بعدها مجزوم، أو نافية والمضارع بعدها مرفوع، والنفي أبلغ في المنع من النهي. والنهي للتحريم إلا بدليل يصرفه عنه، ونقل النووي الإجماع على ذلك، لكنه لا يترتب عليه فساد العقد، كما سيأتي إن شاء الله

(1)

.

وقال الخطابي، وأبو حفص العكبري من الحنابلة: إنه نهي تأديب وكراهة، وليس بنهي تحريم يبطل العقد

(2)

.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 208).

(2)

"معالم السنن"(3/ 24)، "المغني"(9/ 570).

ص: 205

والخِطبة: بكسر الخاء هي طلب المرأة للزواج، إما منها أو من وليها، وهي خطيبة ومخطوبة.

قوله: (بعضكم) هكذا في بعض نسخ "البلوغ" وفي بعضها (أحدكم) ولفظ البخاري (ولا يخطب الرجل) والمراد بالبعض: بعض المسلمين؛ لأن الخطاب معهم، وهل له مفهوم، فتجوز الخطبة على خطبة غير المسلم، أو أنه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، ولا تجوز خطبة المسلم على خطبة غير المسلم؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله.

قوله: (أو يأذن له) أي: يأذن الخاطب الأول للثاني.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه، وذلك بأن يتقدم بطلب زواج امرأة بعد أن تقدم إليها غيره، وتكون المرأة وأهلها في وقت المشاورة ودراسة حال هذا الخاطب؛ ليتم القبول أو الرد.

ووجه النهي: أن هذا التصرف من أسباب العداوة والبغضاء، ولأنه ظلم للخاطب الأول، وتعدٍّ عليه، فإنه قد سبق إلى ذلك، كما أنه يؤدي إلى أن المرء يزكي نفسه ويذم غيره، وتزكية النفس مذمومة، وقد ورد في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر"

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على استثناء حالتين تجوز فيهما الخطبة على الخطبة:

الأولى: أن يترك الخاطب الأول الخطبة ويعدل عنها، فيجوز لغيره أن يخطبها؛ لأنه بتركه للخطبة لم يصبح له حق يرعاه الشارع، ومَنْعُ غيره من الخطبة على خطبته السابقة إضرار بالمخطوبة، وقاعدة الشريعة أنه: لا ضرر ولا ضرار.

(1)

أخرجه مسلم (1414).

ص: 206

الثانية: إذا أذن الخاطب الأول لغيره في الخطبة؛ لأن هذا يدل على تنازله عن حماية الشارع التي تقررت لصالحه.

وذكر الفقهاء حالة ثالثة تجوز فيها الخطبة على الخطبة، وهي ما إذا جهل الخاطب الثاني بالخطبة السابقة، أو علمها وجهل بقبولها؛ لأنه جهل بواقع الحال، والجهل بوقائع الأحوال يصلح عذرًا عامًّا في الشريعة؛ لأن صاحبه حَسَنُ النية

(1)

.

° الوجه الخامس: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الخطبة إذا وقعت على خطبة وتزوجها بذلك صح العقد ولا يلزم فسخه

(2)

، لكن الخاطب الثاني آثم، وإنما كان العقد صحيحًا؛ لأن النهي في الحديث مسلط على الخطبة لا على العقد، فإن العقد استوفى شروطه وأركانه، والمخالفة في الوسيلة، وهي غير لازمة، فقد يجري العقد من غير خطبة، ويمكن أن تكون خطبة على خطبة ولا يكون عقد، ويبقى النهي قائمًا ولو لم يجر عقد.

° الوجه السادس: مفهوم قوله: "لا يخطب بعضكم على خطبة أخيه" أن للمسلم أن يخطب على خطبة غير المسلم كالكتابي من يهودي أو نصراني؛ لأن المقصود بالأخ: هو الأخ المسلم، وقال آخرون: لا تجوز خطبة المسلم على غير المسلم، والحديث خرج مخرج الغالب؛ لأن خطبة المسلم لغير المسلمة، وخِطْبَةُ المسلم على خِطبة غير المسلم من الأمور النادرة، ثم إن المعنى الذي من أجله ورد النهي موجود وهو إثارة العداوة والبغضاء، بل قد يؤدي ذلك إلى فتنة بين المسلمين وغير المسلمين.

وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للصالح أن يخطب على خطبة الفاسق، مستدلين بأن عموم النهي في أحاديث الباب لم يفرق بين أن يكون الخاطب الأول فاسقًا أو صالحًا، ولأن الفسق لا يخرج الخاطب عن الإسلام.

(1)

انظر: "خطبة النساء في الشريعة الإسلامية" ص (34).

(2)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (9/ 208).

ص: 207

والقول الثاني: أنه يجوز للصالح أن يخطب على خطبة الفاسق، وهذا قول أكثر المالكية، والأوزاعي، وابن حزم

(1)

، على أساس أن الدين النصيحة، وأن الصالح أولى بالمخطوبة من الفاسق.

والقول الأول أرجح، لقوة دليله، وأما القول الثاني فهو اجتهاد مصادم للنص الصحيح فيمنع، إذ لا اجتهاد مع النص، ولأن المخطوبة ووليها هم أصحاب الشأن في قبول الخاطب الفاسق أو رفضه، لكن إن كانت المخطوبة عفيفة والخاطب الثاني عفيفًا وكان الخاطب الأول فاسقًا فقد يكون قول المالكية متجهًا، إذا نُظر إلى أن المسألة من باب الكفاءة، فتكون خطبة الفاسق كلا خطبة، ويمكن أن يبقى الحديث على عمومه، ويكون التحقق من الكفاءة راجعًا إلى المرأة ووليها، فإذا رضيا بخطبة الفاسق لم تجز الخطبة على خطبته

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار"(16/ 13)، "المحلى"(10/ 34 - 35).

(2)

"خطبة النساء في الشريعة الإسلامية" ص (36)، "الأحكام المترتبة على الفسق"(1/ 288).

ص: 208

‌بِمَ ينعقد النكاح

؟

981/ 13 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ رضي الله عنهما، قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمّ طَأْطَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأةُ أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَال:"فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ "، فَقَال: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَال:"اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُر هَلْ تَجِدُ شَيئًا؟ " لا فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَال: لَا واللهِ، يا رسولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيئًا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ" فَذَهَبَ، ثُمّ رَجَعَ فَقَال: لَا واللهِ يا رسول الله، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، ولَكِنْ هَذا إِزَارِي -قَال سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءُ- فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ مِنهُ شَيْءٌ" فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتى إذا طَال مَجْلسُهُ قَامَ. فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَال:"مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرآنِ؟ "، قَال: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَة كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَال:"تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَال:"اذْهَبْ، فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "انْطَلِقْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ".

وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "أمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ".

982/ 14 - ولأبي دَاوُدَ عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: "مَا تَحْفَظُ؟ "، قَال: سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَال:"قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً".

ص: 209

* الكلام علي من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث سهل رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في ثلاثة عشر موضعًا من "صحيحه" مختصرًا ومطولًا، أولها في كتاب "الوكالة"(2310)، ثم في كتاب "فضائل القرآن"، ثم في كتاب "النكاح" وغيرها، وهذا اللفظ جاء في كتاب "فضائل القرآن"، باب (القراءة عن ظهر قلب)(5030)، وعند مسلم (1425)(76) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن القاريِّ، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا.

وقول الحافظ إن هذا اللفظ لمسلم فيه نظر، فإن لفظ البخاري مثله.

والرواية الثانية لمسلم (1425)(77) من طريق حسين بن علي، عن زائدة، عن أبي حازم، به.

ولعل الحافظ ذكرها لأنها مفسرة لما أُجمل قبلها من الروايات، فإنها نص على أن الصداق هو تعليمها شيئًا من القرآن، ولأن فيها التزويج الذي هو أصرح ألفاظ العقد.

والرواية الثالثة للبخاري (5121) من طريق أبي غسان محمد بن مطرف، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أملكناكها بما معك من القرآن"، وأما لفظ "البلوغ"(أمكناكها) فهو عند البخاري برواية أبي ذر الهروي

(1)

، وبقية روايات الصحيح بلفظ (أملكناكها)، وقد أشار إليها الحافظ أثناء الشرح، وقال:(أخلق بها أن تكون تصحيفًا من ملكناكها)

(2)

.

وهذا حديث جليل عظيم، اشتمل على فوائد كثيرة تتعلق بأحكام القرآن، وأحكام النكاح وغيرها، وسأقتصر في هذا الشرح على أهمِّ ما يتعلق بالنكاح.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (2112) من طريق عِسْل، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد:"وهي امرأتك".

(1)

انظر: طبعة الناصر (7/ 13).

(2)

"فتح الباري"(9/ 214).

ص: 210

وهذا سند ضعيف، ضعفه الحافظ في "التلخيص"، فيه عِسْل، وهو أبو قرة التميمي، وتحديد سورة البقرة والتي تليها تفرد بها عِسْلٌ هذا، فهي زيادة منكرة؛ لأنها منافية للرواية الصحيحة، كما تقدم، ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث لبيان ضعفه، لكنه سكت عليه هنا.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (جاءت امرأة) لم يأت في شيء من روايات الحديث على تعددها اسم هذه المرأة، وقد جاء في "صحيح البخاري" قول عائشة رضي الله عنها: (كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم

)

(1)

. قال الحافظ: (هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة

)

(2)

.

قوله: (أهب لك نفسي) على حذف مضاف؛ أي: أمر نفسي، أو شأن نفسي فأتزوج على غير عوض، وإنما قدر المضاف؛ لأن الحر لا تملك رقبته.

قوله: (فَصَعَّدَ النظر فيها) بفتح الصاد، وتشديد العين المهملة، رفع بصره؛ أي: نظر إلى أعلاها وتأملها.

قولي: (وصَوَّبَهُ) بفتح الصاد، وتشديد الواو؛ أي: خفض نظره إلى أسفلها وتأملها، والتشديد في هذين الفعلين إما للمبالغة في التأمل، وإما للتكرير، وبه جزم القرطبي

(3)

.

قوله: (طأطأ رأسه) أي: خفضه، وصمت صلى الله عليه وسلم حياءً من مواجهتها بالرد، أو انتظارًا للوحي، أو تفكرًا في جواب يناسب المقام

(4)

.

قوله: (انظر ولو خاتمًا من حديد) لو: للتقليل، وخاتمًا: خبر لكان المحذوفة مع اسمها، وهذا الحذف كثير، والتقدير: ولو كان الموجود خاتمًا، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:"بلِّغوا عني ولو آية"

(5)

.

(1)

"صحيح البخاري"(4188).

(2)

"فتح الباري"(8/ 525).

(3)

"المفهم"(4/ 128).

(4)

"فتح الباري"(9/ 206 - 207).

(5)

رواه البخاري (3461).

ص: 211

قوله: (إزاري) الإزار: ما يشد على الوسط من السرة فما دونها لستر العورة.

قوله: (قال سهل: ما له رداء) الرداء: ما يوضع على الكتف، وهذه الجملة معترضة؛ لأن قوله:(فلها نصفه) من كلام الرجل صاحب القصة، والتقدير: ولكن هذا إزاري فلها نصفه، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أبي غسان محمد بن مطرف:(ولكن هذا إزاري ولها نصفه)، قال سهل: ماله رداء

(1)

.

قوله: (إن لبسته لم يكن عليها منه شيء

) أي: إن نصف الإزار لا فائدة فيه؛ لأنه لا ينتفع إلا بجملته، ولو شقه بينها وبينه لم يسترها نصفه، ولم يستره نصفه.

قوله: (عن ظهر قلبك) أي: تحفظهن، يقال: قرأ القرآن عن ظهر قلب؛ أي: من حفظه.

قوله: (ملكتكها) اختلفت الروايات في هذه اللفظة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نقله القاضي عياض عن الدارقطني أن الصواب رواية:(زوجتكها)؛ لأن رواتها أكثر وأحفظ.

قوله: (بما معك من القرآن) اختلف في هذه الباء، فقيل: إنها للمقابلة في العقود، وهي الداخلة على الأعواض؛ كزوجتك بكذا، وبعت كذا بكذا.

وقيل: إنها للسببية؛ أي: بسبب ما معك من القرآن، والأول أقرب؛ لأنه يلزم على الثاني أنه ملكه إياها بحفظه القرآن إكرامًا للقرآن، فتصير بمعنى الموهوبة، ويؤيد الأول رواية مسلم:"فَعَلِّمْهَا من القرآن" كما تقدم.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز عرض المرأة الراغبة في الزواج نفسها على الرجل الصالح الذي ترجى السعادة بزواجه وصحبته، وقد

(1)

"صحيح البخاري"(5121).

ص: 212

بوب البخاري على هذا الحديث بقوله: (باب جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح) قال ابن المنير: (من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه، وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه، فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه)

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز النظر إلى المرأة قبل التزويج لمن رغب في الزواج بها، لقوله:(فصعد النظر إليها وصوبه) وتقدم بحث ذلك.

° الوجه الخامس: جواز هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ونكاحها له من غير صداق، وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [لأحزاب: 50]، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الصداق، إما مسمى وإما مهر المثل.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب الصداق في النكاح وأنه لا بد منه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فهل عندك من شيء تصدقها إياه" كما في بعض الروايات، وعلى أن الأَوْلى أن يذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، فإنها لو طلقت قبل الدخول ثبت لها نصف الصداق، كما قال تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، ولو عقد لها بغير صداق صح النكاح لقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، فدلت الآية على جواز العقد على المرأة ولو لم يفرض لها مهرًا، ويجب لها مهر المثل بالدخول.

° الوجه السابع: استدل بهذا الحديث من قال بجواز كشف المرأة

(1)

"فتح الباري"(9/ 175).

ص: 213

وجهها، ووجه الاستدلال: أن هذه المرأة لو لم تكن كاشفة وجهها لما صعد الرسول صلى الله عليه وسلم النظر فيها وصوبه، ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها ما كان للمبالغة في تأملها فائدة.

والجواب: أن هذا الحديث ليس فيه دليل لمن قال بجواز كشف المرأة وجهها؛ لأمرين:

الأول: ليس في الحديث ما يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، وقول الراوي:(فصعد فيها النظر وصوبه) لا يلزم منه كشف الوجه، بل إن أعلاها مستور كما أن أسفلها مستور، وقد صعد النظر إلى أعلاها وصوبه إلى أسفلها.

الثاني: يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز حيث قال:(ولعل هذا كان قبل الحجاب، ولهذا لم يأمرها بالتستر عن الحاضرين، ويجب حمله على هذا).

أو أنه بعد الحجاب لكنها متلفعة، وهذا قاله ابن العربي، واستبعده الحافظ؛ لأن سياق الحديث يرده

(1)

.

° الوجه الثامن: استدل العلماء بهذا الحديث على أن خطبة النكاح ليست بواجبة؛ لأنه لم يرد لها ذكر في شيء من طرق الحديث، كما تقدم.

° الوجه التاسع: استدل الجمهور من أهل العلم بهذا الحديث على أن النكاح لا يختص بلفظ الإنكاح والتزويج فحسب، بل ينعقد بكل لفظ يدل عليه، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وقول في مذهب أحمد

(2)

، وذلك في قوله:"اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن"، فإذا انعقد بلفظ التمليك ثبت انعقاده بأيّ لفظ يدل على ذلك.

ولأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، فألفاظ

(1)

"فتح الباري"(9/ 210).

(2)

"بداية المجتهد"(3/ 13)، "المغني"(9/ 460)، "شرح فتح القدير"(3/ 193).

ص: 214

البيع والشراء والإجارة والهبة والنكاح ليست ألفاظًا تعبدية لا يجوز تجاوزها إلى غيرها، وإنما المرجع فيها إلى ما تعارف عليه الناس على اختلاف لغاتهم.

قالوا: إن اختلاف الرواة في نقل اللفظ يفيد شيئين:

1 -

إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين جميعًا: (ملكتكها، أنكحتكها).

2 -

أو أنه قال أحدهما، ولكن الراوي عبر بهذا وهذا.

لكن يشكل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذه الألفاظ، وإنما تكلم بلفظ واحد، والباقي من تعبير الرواة بالمعنى، والظاهر أن الثابت لفظ (زوجتكها) على وفق قول الخاطب: زوجنيها؛ لأنه قلما يختلف لفظ المتعاقدين.

° الوجه العاشر: استدل بهذا الحديث من قال: بجواز جعل تعليم القرآن مهرًا في النكاح، وهو قول الشافعية، ورواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه، وبه قال ابن حزم

(1)

. وذلك من قوله: "زوجناكها بما معك من القرآن" والراجح أن الباء هنا للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، ويدل لذلك رواية مسلم "انطلق فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن" كما تقدم.

والقول الثاني: أنه لا يجوز جعل تعليم القرآن مهرًا في النكاح، وهذا قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة

(2)

، واستدلوا بقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، ووجه الاستدلال: أن الله تعالى شرط أن يكون المهر مالًا، فما لا يكون مالًا لا يكون مهرًا، فلا تصح تسميته

(3)

، ولأن تعليم القرآن لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله، فلم يصح أن يكون صداقًا؛ كالصلاة والصيام وغيرهما.

(1)

"المهذب"(2/ 72)، "المغني"(8/ 8)، "المحلى"(9/ 494).

(2)

"المغني"(8/ 8)، "بدائع الصنائع"(2/ 277)، "حاشية الدسوقي"(2/ 209).

(3)

"بدائع الصنائع"(2/ 377).

ص: 215

والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يصح جعل تعليم القرآن صداقًا إذا كان المال متيسرًا على الزوج، فإن لم يتيسر المال صح جعله صداقًا، وهذا هو الذي يدل عليه حديث الباب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جعل تعليم القرآن صداقًا لهذا الرجل إلا حينما تعذر عليه المال، ولم يجد شيئًا، واختار هذا الشيخ عبد العزيز بن باز

(1)

.

° الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على جواز الخطبة إذا تيقن أن الخاطب الأول قد أعرض ولم يبق له رغبة في الزواج، وليس في الحديث ما يدل على أن المرأة تقدم عليها خطبة لأحد، لكن الصحابي لو فهم أن للنبي صلى الله عليه وسلم رغبة فيها لم يطلبها، فكذلك من فُهم أن له رغبة في الزواج من امرأة لا يصلح لغيره أن يزاحمه حتى يُظهر عدم رغبته بها بالتصريح، أو ما في حكمه.

° الوجه الثاني عشر: في الحديث دليل على جواز تزويج المعسر، وقد بوب البخاري عليه بذلك، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فالتمس فلم يجد شيئًا، ومع ذلك زوجه، فإذا رضيت المرأة بالمعسر زوجًا لها، فلا مانع، وهذا هو مقتضى قوله تعالى:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكلح الذي يريد العفاف"

(2)

.

وروى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (التمسوا الغنى في

(1)

انظر: "الأحكام الخاصة بالقرآن"(2/ 1493).

(2)

أخرجه الترمذي (1655)، والنسائي (6/ 15، 61)، وابن ماجه (2518)، وأحمد (12/ 378 - 379) من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا، وسنده حسن؛ لأن فيه محمد بن عجلان، وقد روى له البخاري تعليقًا، ومسلم في الشواهد، وهو صدوق، وفي روايته عن سعيد المقبري كلام، أظنه تقدم.

ص: 216

النكاح، يقول الله تعالى:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}

(1)

وفي "تفسير البغوي" عن عمر رضي الله عنه بنحوه، قال ابن كثير بعد سياق ما تقدم:(والمعهود من كرم الله ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية له ولها)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير ابن جرير"(18/ 98).

(2)

"تفسير البغوي"(3/ 342)، "تفسير ابن كثير"(6/ 55).

ص: 217

‌وجوب إعلان النكاح

983/ 15 - عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيرِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "أعْلِنُوا النِّكَاحَ"، رَوَاهُ أحْمَدُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، الأسدي، أبو الحارث المدني، قال ابن حبان:(كان عالمًا فاضلًا)، وقال الحافظ:(ثقة عابد)، روى عن أبيه، وعن أنس، وعن خاله أبي بكر بن عبد الرحمن، وغيرهم، وروى عنه أخوه عمر، وابن أخيه مصعب بن ثابت، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وغيرهم، أخرج له الجماعة، وله أحاديث يسيرة، توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل: أربع وعشرين ومائة

(1)

رحمه الله تعالى.

أما والده عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فقد تقدمت ترجمته في آخر كتاب "الحج"، حديث (778).

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (26/ 53)، والحاكم (2/ 183) من طريق ابن وهب، قال: حدثني عبد الله بن الأسود، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه رضي الله عنه، به مرفوعًا.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، والحديث رجاله ثقات، غير عبد الله بن الأسود، فقد انفرد بالرواية

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 64).

ص: 218

عنه ابن وهب، كما قال أبو حاتم، وقال:(شيخ)، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

.

وقال الألباني: (سنده حسن، رجاله ثقات معروفون، غير ابن الأسود، فقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصححه الحاكم، وكذا ابن دقيق العيد بإيراده إياه في "الإلمام" وقد اشترط في المقدمة أن لا يورد فيه إلا ما كان صحيحًا)

(2)

.

والحديث له شواهد، منها: حديث محمد بن حاطب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحلال والحرام الدُّفُّ والصوت في النكاح"

(3)

، والمراد بالصوت: الغناء المباح، كما سيأتي

(4)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب إعلان النكاح وإشهاره، وذلك إظهارًا للسرور، وفرقًا بينه وبين نكاح السر، فيتبين أن فلانًا تزوج فلانة، وأنه صاهر بني فلان، ومن وسائل إظهار النكاح: الإشهاد عليه عند العقد، وتشييع الزوج وقت الدخول بالذهاب معه، كما هي عادة الناس قديمًا وحديثًا، والضرب بالدف، ونحو ذلك.

وقد ورد أن من طرق الإعلان الشرعي أن يضرب عند الزواج بالدُّف، وأن توضع وليمة للعرس، قال البخاري:(باب ضرب الدف في النكاح والوليمة) ثم ساق من طريق خالد بن ذكوان، قال: (قالت الرُّبيِّع بنت معوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر،

(1)

انظر: "الجرح والتعديل"(5/ 2)، "الثقات"(7/ 15)، ومعنى (شيخ): ليس بحجة، وهذه اللفظة تقلل من قدر الموصوف بها، وتنزله عن مراتب الكبار الذين إذا انفردوا بالرواية قبلت وعمل بها. ["الشرح والتعليل لألفاظ الجرح والتعديل" ص (68)].

(2)

"آداب الزفاف" ص (112).

(3)

أخرجه الترمذي (1088)، والنسائي (6/ 127)، وابن ماجه (1896)، وأحمد (24/ 189)، وحسنه الترمذي والألباني.

(4)

"تحفة الأحوذي"(4/ 209).

ص: 219

إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال:"دعي هذه، وقولي: بالذي كنت تقولين")

(1)

.

قال المهلب: (في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف، وبالغناء المباح)

(2)

.

والدُّف: بضم الدال، آلة مستديرة كالغربال ليس لها جَلاجل

(3)

، يشد الجلد من أحد طرفيها، فإن شد من الوجهين فهو طبل.

وضرب الدف في الزواج لا بد له من ضوابط، لئلا يُساء استعماله، فتكون مفسدته أعظم من مصلحته، ومن ذلك ما يلي:

1 -

أن الضرب بالدف خاص بالنساء دون الرجال، قال الحافظ ابن حجر:(الأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال، لعموم النهي عن التشبه بهن)

(4)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلما كان الغناء والضرب بالدُّفِّ والكَفِّ من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثًا، ويسمون الرجال المغنين مخانيث، وهذا مشهور في كلامهم)

(5)

. وقال الحافظ ابن رجب: (وإنما يباح الدف إذا لم يكن فيه جلجل ونحوه مما يصوت، عند أكثر العلماء، نص عليه الإمام أحمد وغيره من العلماء، كما كانت دفوف العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رَخَّصَ في هذا الدف طائفة من متأخري أصحابنا مطلقًا في العرس وغيره، للنساء دون الرجال)

(6)

.

2 -

أن يكون الضرب خفيفًا لا إزعاج فيه، لا على من حضر الزواج

(1)

"صحيح البخاري"(5147).

(2)

"فتح الباري"(9/ 203).

(3)

الغربال بالكسر أداة تشبه الدف، مستديرة، ذات ثقوب، ينقى بها الحب من الشوائب، والجلاجل: بالفتح: الأجراس، وهي قطع نحاس مدور، تجعل في إطار الدف. ["المعجم الوسيط" ص (648)، "معجم لغة الفقهاء" ص (164)].

(4)

"فتح الباري"(9/ 226).

(5)

"الفتاوى"(11/ 565 - 566).

(6)

"نزهة الأسماع في مسألة السماع" للحافظ ابن رجب ضمن رسائله المطبوعة (2/ 454).

ص: 220

ولا على الجيران، أما استعمال مكبرات الصوت وإسماع الرجال، وإيذاء الناس، وحرمانهم من نومهم وراحتهم، فلا شك في تحريمه، لعموم الأدلة الدالة على تحريم إيذاء المسلمين.

3 -

ألا يكون مع الضرب بالدف غناء بقصائد تشتمل على المجون والخلاعة، على هيئة ألحان المغنين، فإن اشتمل على قصائد الحِكَمِ والمواعظ والترحيب، فلا بأس.

يقول الحافظ ابن رجب: (وإنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل، وغناؤهم بإنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم، وما أشبه ذلك، فمن قاس على ذلك سماع أشعار الغزل، مع الدفوف المصلصلة، فقد أخطأ غاية الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل)

(1)

.

وقال الحافظ ابن حجر: (الأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتًا وكيفية، تقليلًا لمخالفة الأصل)

(2)

.

4 -

ألا يطول الوقت إلى ساعة متأخرة من الليل، لما يترتب عليه من مفاسد عظيمة، من السهر والنوم عن صلاة الفجر، وإمضاء ساعات الليل الفاضلة في اللهو، ونحو ذلك، وعلى هذا فما يحصل في أكثر حفلات الزواج في عصرنا هذا من أمور اللهو والطرب، والتوسع في ذلك باستعمال مكبرات الصوت، وقضاء الليل في أكل وشرب وغناء، لا شك في حرمته، لمخالفته الأحكام الشرعية، وما يترتب عليه من المفاسد، والله المستعان.

(1)

"نزهة الأسماع"(1/ 448).

(2)

"فتح الباري"(2/ 443).

ص: 221

‌اشتراط الولي في النكاح

984/ 16 - عَنْ أبي بُرْدَةَ بنِ أَبي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَليٍّ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِيني وَالتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ. وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ.

985/ 17 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَليُّ مَنْ لَا وَليَّ لَهُ"، أخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَ، وصَحّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبّانَ، وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليهما من تخريجهما:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي موسى رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح" بابٌ (في الولي)(2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وأحمد (32/ 280) من طريق يونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا موصولًا بذكر أبي موسى.

وقد وهم الحافظ في عزو الحديث للأربعة، فإن النسائي لم يخرجه في "سننه".

وروي مرسلًا من طريق شعبة، قال: سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق، أسمعت أبا بردة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"؟ فقال: (نعم) أخرجه الترمذي (1102).

ولعل الحافظ قال: (وأُعِلَّ بالإرسال) ولم يقل: وهو مرسل، للخلاف في وصله وإرساله، وتقوية الوصل.

ص: 222

ويبدو أن الحافظ ذكر التابعي أبا بردة، ولم يقتصر على الصحابي أبي موسى رضي الله عنه كعادته؛ للاختلاف في وصل الحديث وإرساله، وأبو بردة هو عامر بن عبد الله بن قيس، وأبوه عبد الله هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد تقدمت ترجمة أبي بردة في كتاب "الجمعة"، حديث (464)، وترجمة أبيه في "مواقيت الصلاة"، حديث (153).

والراجح رواية الوصل لما يلي:

1 -

أن الذين ذكروه موصولًا أكثر عددًا، فقد رواه موصولًا شريك بن عبد الله، وأبو عوانة، ويونس بن أبي إسحاق، وإسرائيل بن يونس، كل هؤلاء عند الترمذي، وزهير بن معاوية، عند ابن حبان (9/ 388) وغيره، وقيس بن الربيع، عند الحاكم (2/ 170) فكل هؤلاء رووه عن إسحاق، وسماعهم إياه من لفظه.

وأما رواية من أرسله، وهما: شعبة وسفيان، فهما وإن كانا من جبال الحفظ والتثبت إلا أنهما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد، كما تقدم في رواية الترمذي، ولا يخفى رجحان ما أُخذ من لفظ المحدث في مجالس متعددة، على ما أخذ عنه عرضًا في مجلس واحد.

2 -

أن في الذين ذكروه موصولًا إسرائيل بن يونس، وإسرائيل يكاد يكون أثبت الناس في أبي إسحاق السبيعي، فقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل:(كان يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الحمد)

(1)

.

ونقل الحافظ في "تهذيبه"، عن إسرائيل أنه قال: كنت أحفظ أحاديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن.

3 -

أن يونس وابنيه: إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولًا، ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيرهم.

(1)

"العلل الكبير" للترمذي (1/ 428)"العلل" للدارقطني (7/ 211)، "المستدرك"(2/ 170).

ص: 223

4 -

أن الذين ذكروا أبا موسى معهم زيادة ثقة، وهي مقبولة عند أكثر أهل العلم، وقد نقل ابن كثير عن البخاري أنه قال:(الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة).

5 -

أن جماعة من الأئمة صححوا هذا الحديث، منهم البخاري كما ذكر البيهقي

(1)

، والدارقطني

(2)

، وعلي ابن المديني، ومحمد بن يحيى الذهلي، كما نقل ذلك الحاكم

(3)

، والبيهقي

(4)

، وابن كثير

(5)

.

6 -

أن الحديث له شواهد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن شواهده: حديث عائشة رضي الله عنهما الذي بعده، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" وسيأتي تخريجه إن شاء الله.

وأما الحديث الثاني في هذا الباب، وهو حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح" بابٌ (في الولي)(2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، وأبو عوانة (3/ 18)، وابن حبان (9/ 384)، والحاكم (2/ 168) كلهم من طريق ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

وقال الترمذي: (وهو عندي حسن)، وقال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين)، وهذا فيه نظر، فإن سليمان بن موسى لم يخرج له البخاري، وأخرج له مسلم في المقدمة، وهو مع جلالته في الفقه، فقد قال عنه الذهبي:(وُثِّق، وقال البخاري: عنده مناكير)

(6)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق، فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل)، لكنه ثقة في حديثه عن الزهري، كما نقله الحافظ عن ابن معين

(7)

.

(1)

"السنن الكبرى"(7/ 107).

(2)

"العلل"(7/ 211).

(3)

"الإرشاد"(2/ 145).

(4)

"المستدرك"(2/ 170).

(5)

"السنن الكبرى"(7/ 107).

(6)

"المغني في الضعفاء"(1/ 445).

(7)

"تهذيب التهذيب"(4/ 198).

ص: 224

وقد طعن الحنفية ومنهم الطحاوي

(1)

في هذا الحديث بأنه من رواية سليمان بن موسى، عن الزهري، ولما سئل الزهري عن هذا الحديث، قال: لا أعرفه، والذي روى هذا القدح هو إسماعيل بن علية القاضي، عن ابن جريج الراوي عن سليمان، فإنه قال: لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه

(2)

.

وأجيب عن ذلك بجوابين:

الأول: لا نسلم بأن ابن جريج قال: إن الزهري نسيه، قال الإمام أحمد:(إن ابن جريج له كتب مدونة، ليس هذا في كتبه)

(3)

، وكذا ابن معين ضعف مقولة ابن جريج، وابن علية الذي روى ذلك ضعيف في روايته عن ابن جريج.

الثاني: سلمنا أن الزهري نسيه، فلا يلزم أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه؛ لأنه ثقة في حديث الزهري، كما تقدم، ولأن النسيان لم يعصم منه إنسان.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لا نكاح إلا بولي) هذا النفي إما أن يراد به نفي الذات، أو نفي الكمال، أو نفي الصحة، والأول ممتنع؛ لأنه قد يوجد نكاح بلا ولي، والثاني غير مراد هنا، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الذي بعده، فإنه حكم بالبطلان على النكاح بلا ولي، فتعين أن يكون لنفي الصحة؛ أي: لا نكاح صحيح أو معتبر شرعًا إلا بولي.

قوله: (أيما امرأة) هذه صيغة عموم معناها سلب الولاية عن عموم النساء، سواء كانت بكرًا أم ثيبًا.

قوله: (نكحت) بفتح النون؛ أي: تولت عقد زواجها بنفسها.

(1)

"شرح معاني الآثار"(3/ 8).

(2)

"المسند"(40/ 243).

(3)

"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 105).

ص: 225

قوله: (فنكاحها) المراد به العقد لا الوطء؛ لأن الكلام في صحة النكاح وبطلانه.

قوله: (باطل) عند أبي داود والترمذي وغيرهما تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات للتأكيد، والمعنى: فزواجها غير صحيح.

قوله: (فإن دخل بها) أي: الذي نكحته بغير إذن وليها، والمراد بالدخول: الوطء.

قوله: (فإن اشتجروا) وفي لفظ: (تشاجروا)، والضمير عائد على الأولياء، بدلالة ذكر الولي وسياق الحديث.

والاشتجار: الخصومة، ولها معنيان:

الأول: تنازعوا في شأن تزويجها حتى أدى ذلك إلى المنع من العقد على المرأة، وهذا هو المراد هنا، لقوله:"فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".

الثاني: أن الأولياء يختلفون فيما بينهم فيمن يعقد عليها، وهذا غير مراد هنا، فإذا تشاجروا في السبق ومراتبهم سواء فالعقد لمن سبق إليه منهم إذا كان ذلك نظرًا منه للمصلحة.

قوله: (فالسلطان) هو الملك أو الوالي، ويقوم مقامه القضاة؛ لأنهم نوابه في مثل هذه المسائل، وقد جاء في "المسند" بعد سياق هذا الحديث قول عبد الله ابن الإمام أحمد: قال أبي: (السلطان: القاضي؛ لأن إليه أمر الفروج والأحكام)

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النكاح لا يصح إلا بولي؛ لأن الأصل في النفي نفي الصحة لا نفي الكمال، كما تقدم.

والمراد بالولي: القريب الذي يتولى عقد النكاح على المرأة، والأب هو الأَوْلى بتزويج المرأة، ويأتي بعده الجد عند فقده على الراجح، ثم بقية

(1)

"المسند"(40/ 243).

ص: 226

العصبة الذكور على خلاف في ترتيبهم يعلم من مراجعة كتب الفقه.

وعلى هذا فالولي شرط لصحة النكاح، وهذا قول الجمهور من السلف والخلف، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد

(1)

.

واستدلوا -أيضًا- بقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَينَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، ووجه الاستدلال: أن الله تعالى نهى عن عضل النساء اللاتي طُلِّقن وأتممن عدتهن عن العودة إلى أزواجهن إذا جاء الزوج خاطبًا، ورضيت المرأة بالعودة إليه، والمخاطب هم الأولياء، ولو كان للمرأة تزويج نفسها بدون وليها لم يكن لنهي الأولياء عن العضل فائدة.

والقول الثاني: عدم اشتراط الولي، بل هو مندوب إليه، وهذا قول أبي حنيفة، وجماعة

(2)

.

واستدلوا بالنص والقياس، أما النص فقوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، وقوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} [البقرة: 230]، فأضاف النكاح إليهن، وهذه الإضافة تفيد جواز صدوره من المرأة.

وأما القياس فإنهم قاسوا النكاح على البيع، فالمرأة الرشيدة البالغة تتصرف في مالها بالبيع والشراء دون ولاية، فكذا النكاح لها أن تعقد على نفسها بدون ولي.

والصواب قول الجمهور وأنه لا بد في النكاح من ولي يتولى العقد، لقوة أدلتهم، ومما يؤيد ذلك:

1 -

صيانة المرأة عما يشعر بوقاحتها وميلها إلى الرجال.

2 -

أن الرجال أقدر من النساء على البحث عن أحوال الخاطب، فإن

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 20)، "المغني"(9/ 344)، "مغني المحتاج"(3/ 147).

(2)

"بدائع الصنائع"(2/ 241 - 247).

ص: 227

المرأة قاصرة النظر في التحري للزوج الكفء الصالح، وقد لا توفق إلى اختيار الرجل المناسب.

3 -

أن اشتراط الولي فيه مزيد إعلان النكاح.

4 -

أن ارتباط المرأة بالرجل الذي تختاره ليس شأنًا خاصًّا بها دون سواها، فالزواج يربط بين الأسر، والآباء والأخوة يهمهم شأن الأسرة التي يرتبطون بها.

أما الآيات التي استدل بها أصحاب القول الثاني، فلا دليل فيها على عدم اشتراط الولي، وإنما تدل على أن المرأة الحرة البالغة طرف مباشر في عقد النكاح، لا بد من أخذ رأيها وموافقتها، لا أنها تستبد بالعقد وتنفرد به.

وأما القياس فهو فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة نص، ثم إنه لا مماثلة بين الأصل والفرع، فإن النكاح يختلف عن البيع، فعقد النكاح عقد له خطره وعواقبه، بخلاف البيع في بساطته وخفة أمره.

ومع أن أبا حنيفة لا يرى أن الولي شرط في النكاح كما يراه الجمهور؛ إلا أنه أعطى الولي حق إيقاف العقد وإبطاله إذا لم يكن الزوج كُفْأ

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المرأة تستحق المهر بالدخول بها ووطئها، لقوله:"فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها"، وإذا كان جميع المهر يتقرر بالدخول في النكاح الباطل، فهو من باب أولى يتقرر في النكاح الصحيح.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن المرأة التي ليس لها ولى فإن وليها السلطان، ويقوم مقامه القاضي، كما تقدم.

فالقاضي يتولى عقد النكاح في المسائل الآتية:

الأولى: إذا كانت المرأة لا ولي لها من قرابتها مطلقًا.

الثانية: إذا عَضَلَ الأقرب من الأولياء كالأب، بمعنى أنه منع المرأة من

(1)

"شرح فتح القدير"(3/ 258)، "أحكام الزواج" للأشقر ص (140).

ص: 228

الزواج، فإن الولاية تنتقل إلى السلطان على قول الشافعي وأحمد في رواية عنه

(1)

، وذهب أبو حنيفة في المشهور عنه وأحمد في المنصوص عنه إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط كونه كفأ

(2)

.

الثالثة: أن يمتنع جميع الأولياء عن تزويجها ويعضلونها، فتنتقل الولاية إلى السلطان قولًا واحدًا.

ويوجد في المجتمع وعند بعض القبائل صور سيئة من العضل ومنع النساء من الزواج؛ لأغراض فاسدة وتصرفات قبيحة، ومنها: أن يريد الولي بقاء المرأة للخدمة، أو تقوم برعي إبله وغنمه، أو يلزمها بمن لا تريد الزواج منه؛ كابن أخيه أو نحوه من القرابة، أو لأجل أن يستفيد من مرتبها؛ كأن تكون معلمة، أو يتشدد في الصفات المطلوبة في الزوج، وهذا كله من الظلم والإساءة إلى المرأة، والتشبه بأهل الجاهلية، والوقوع فيما نهى الله عنه في قوله سبحانه:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19].

الرابعة: إذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة زوجها السلطان، ولا يزوجها الأبعد على قول الشافعي، وقال أحمد وأبو حنيفة: يزوجها الأبعد من الأولياء، لقوله صلى الله عليه وسلم:"السلطان ولي من لا ولي له"، وهذه لها ولي، فلا يكون السلطان وليًّا لها.

وقد اختلف الفقهاء في ضابط الغيبة التي تنتقل فيها الولاية إلى الأبعد بناء على ما في زمانهم من صعوبة الاتصالات، فبعضهم حدها بالزمن، وبعضهم حدها بالمسافة، أما اليوم فقد تغير الحال وأصبح الاتصال بمن هو في أقصى الدنيا أمرًا ميسورًا.

والصواب أن ضابط الغيبة ما يفوت فيها مصلحة المخطوبة، فإن لم يكن فيه تفويت مصلحة فلا بأس بالانتظار، وكذا لو كانت الغيبة قصيرة ويمكن الاتصال عليه بالهاتف، فيوكل من يقوم مقدمه في عقد النكاح.

(1)

"المغني"(9/ 382).

(2)

"المغني"(9/ 382)، "أحكام الزواج" ص (148).

ص: 229

وإذا كانت المرأة في بلد لا سلطان فيه للمسلمين، وليس لها ولي، كما لو كانت في ديار الكفر كأمريكا أو بريطانيا أو روسيا ونحوها، فإن كان يوجد مؤسسات إسلامية فإنها تقوم بتزويجها، وإن لم يوجد جعلت أمرها إلى رجل عدل من المسلمين، وعقد لها

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الزواج" ص (149).

ص: 230

‌وجوب استئذان البكر، واستئمار الثيب في النكاح

986/ 18 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:"لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتى تُسْتَأذَنَ"، قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ إِذْنُهَا؟ قَال:"أنْ تَسْكُتَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

987/ 19 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قال: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإذْنُهَا سُكُوتُهَا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ: "لَيسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (لا يُنْكِحُ الأبُ وغيره البكرَ والثيبَ إلا برضاهما)(5136)، ومسلم (1419) من طريق هشام، عن يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت)(1421) من طريق عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأما الرواية المذكورة فقد رواها عبد الرزاق (1099) ومن طريقه أبو

ص: 231

داود (2100)، والنسائي (6/ 84)، والدارقطني (3/ 239) عن معمر، ورواه ابن حبان (9/ 399) والدارقطني (3/ 239) من طريق ابن المبارك، عن معمر، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستشار، وصمتها إقرارها".

والحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، لكن أعله أبو حاتم والدارقطني بأن معمرًا وهم فيه، فرواه عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير، وإنما سمعه ابن كيسان من عبد الله بن الفضل، اتفق على ذلك ابن إسحاق، وسعيد بن سلمة، عن صالح

(1)

؛ ولهذا قال الدارقطني: (إن الذي قبله أصح في الإسناد والمتن) (

(2)

.

ولعل الحافظ أورد رواية أبي داود والنسائي لصراحتها في مسألة الثيب، ولذكر اليتيمة فيها.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لا تُنكح) بضم التاء؛ أي: لا تُزوج، وقد جاء النهي بصورة النفي؛ لأنه أبلغ.

قوله: (الأيِّم) بفتح الهمزة، وتشديد الياء المثناة التحتية، بعدها ميم، هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق وانقضت عدتها، وهذا المعنى هو المراد هنا لمقابلتها بالبكر.

وتطلق الأيم على كل امرأة لا زوج لها، بكرًا كانت أم ثيبًا، وعلى كل رجل لا زوجة له بكرًا كان أم سبق له زواج، قال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، والأَيمَةُ في اللغة: العزوبة، يقال: رجل أيّم، وامرأة أيّم وأيِّمة

(3)

.

(1)

انظر: "علل ابن أبي حاتم" تحقيق فريق من الباحثين (4/ 53).

(2)

"العلل"(1249)، "سنن الدارقطني"(3/ 238 - 239).

(3)

"شرح الفصيح" المنسوب للزمخشري (1/ 289).

ص: 232

قوله: (تُسْتَأْمَرُ) بضم التاء المثناة الفوقية، مبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: حتى يطلب منها أن تأمر وليها بالعقد على من ترغب الزواج به، وأصل الاستئمار: طلب الأمر، وهذا لا بد أن يكون بالقول.

قوله: (البكر) بكسر الباء الموحدة، العذراء التي لم تَزُلْ بكارتها، فلم يسبق لها زواج ولا وطء، والمراد بها: البنت البالغة التي تدرك أمور النكاح، وتعرف صفات الزوج الصالح من غيره؛ لأن الشرع جعل لإذنها اعتبارًا، وليس المراد بالبكر من يشمل الصغيرة، قال ابن دقيق العيد:(إن الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة، فلا تكون داخلة تحت الإرادة، ويختص الحديث بالبوالغ)

(1)

.

قوله: (تستأذن) بالضم؛ أي: يطلب الإذن منها ليعقد لها وليها النكاح على من ترغب الزواج به، وبين الاستئذان والاستئمار فرق، فإن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمَرة، ولهذا احتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، ولو صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، فهو صريح في القول، ولذا جعل في جانب الثيب، أما الإذن فهو دائر بين القول والسكوت، ولذا جعل في جانب البكر؛ لأنها قد تستحي أن تفصح عن رغبتها.

قوله: (قالوا: وكيف إذنها) إنما سألوا عن الإذن دون الأمر، لتردد الإذن بين القول والسكوت، بخلاف الأمر فإنه صريح في القول، وجعل السكوت إذنًا في حق البكر؛ لأنها قد تستحي أن تفصح، وهذا في جيل مضى؛ لما عليه النساء من الحياء، أما الآن فتغير الأمر، وأصبح للبنات رأي في زواجهن بكل صراحة وفصاحة.

قوله: (الثيب) هي التي زالت بكارتها بوطء، وهذه اللفظة مفسرة للفظ الأيم.

قوله: (أحق بنفسها من وليها) صيغة التفضيل تدل على المشاركة،

(1)

"إحكام الأحكام"(4/ 198).

ص: 233

فالمعنى: أن لها في نفسها في النكاح حقًّا، ولوليها حقًّا، وحقها أوكد من حقه، فلو أراد تزويجها كُفْأ وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت الزواج من كفؤ فامتنع الولي أُجبر، فإن أصر زوجها القاضي.

قوله: (تُستأمر) أي: تستأذن، بدليل قوله:"وإذنها سكوتها"، وإبقاء اللفظ على ظاهره مشكل؛ لأن الاستئمار الذي هو استدعاء أمرها بالقول الصريح خاص بالثيب -كما تقدم- ولذا قال القرطبي:(إن حديث أبي هريرة أتقن مساقًا من حديث ابن عباس)

(1)

.

قوله: (ليس للولي مع الثيب أمر) أي: إذا رفضت الزواج ولم ترض بمن يريده الولي، لما تقدم من اعتبار رضاها.

قوله: (اليتيمة) هي الصغيرة التي لا أب لها، والمراد هنا: البكر البالغة؛ لأنها قبل البلوغ لا معنى لإذنها ولا لإبائها، سماها يتيمة باعتبار ما كان؛ كقوله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالهُمْ} [النساء: 2] وفائدة التسمية: مراعاة حقها، والشفقة عليها في تحري الكفاءة، والصلاح، ولأن اليتيم مظنة الشفقة والرحمة.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا بد من رضا المرأة بمن يريد وليها أن يزوجها به.

أما الثيب فلا بد من صريح موافقتها على الزواج بأن تتكلم؛ لأن نطقها وتصريحها ممكن؛ لأنها تزوجت وعرفت صفة الزواج. وأما البكر فإنها تُستأذن ويكفي في إذنها أن تسكت، فإذا سكتت فهو علامة الرضا، والاكتفاء بالسكوت فيه مراعاة لتمام صيانتها، ولإبقاء حالة الاستحياء والانقباض عليها، فروعي في هذا المحل ما يليق بها

(2)

. إلا إذا اقترن السكوت بما يدل على عدم الموافقة، فإنه لا يعتبر إذنًا، ويعمل بالقرائن في مثل ذلك.

(1)

"المفهم"(4/ 117).

(2)

"المفهم"(4/ 118).

ص: 234

ويعتبر في الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، فيذكر لها نسبه، وعمله، ونحو ذلك مما فيه مصلحة، لتكون على بصيرة من أمرها.

° الوجه الرابع - اتفق العلماء - إلا من شذ منهم - على منع الولي من إكراه المرأة الثيب البالغة العاقلة على الزواج.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الثيب البالغة لا تُنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة) ويقول: (البالغ الثيب لا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين)

(1)

.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها"، وبقوله:"ليس للولي مع الثيب أمر"، وعن الخنساء بنت خِذَام الأنصارية، أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها

(2)

.

كما استدلوا من المعقول بأن الثيب البالغة رشيدة عالمة بالمقصود من النكاح مختبرة له، فلم يجز إجبارها عليه كالرجل

(3)

. وعلى هذا فإذا زوجها وليها بدون رضاها بطل العقد، لما تقدم، فإن أجازت العقد فيما بعد، فهل يلزم تجديده بعد رضاها؟ على قولين.

° الوجه الخامس: اختلف العلماء في إجبار البكر البالغة العاقلة على الزواج على قولين:

الأول: أنه يجوز لوليها أن يزوجها بغير إذنها، وهذا قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد

(4)

، واستدلوا بحديث ابن عباس المذكور، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النساء قسمين، ولما أثبت لأحدهما الحق، دل على نفيه عن الآخر، وهو البكر، فيكون وليها أحق منها، وإلا فلا فائدة من التفرقة، ولا يقال: الفائدة من التفرقة في صفة الإذن؛ لأننا نقول: ظاهر الحديث أن الذي فُرِّقَ فيه حق

(1)

"الفتاوى"(32/ 29 - 39).

(2)

أخرجه البخاري (5138).

(3)

"أحكام الزواج" ص (143).

(4)

"بداية المجتهد"(3/ 15)، "مغني المحتاج"(3/ 149).

ص: 235

الولي، وعلى هذا فالإذن في حقها على سبيل الاستحباب

(1)

.

القول الثاني: أنها لا تزوج إلا برضاها، وليس لوليها إجبارها، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ورواية عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، وصاحب "الفائق"، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن سعدي، وابن باز

(2)

.

واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويج البكر بدون إذنها، ولو لم يكن إذنها معتبرًا لما جعله غاية لإنكاحها.

كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي: أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.

كما استدلوا من المعقول بأن تزويج الفتاة مع كراهيتها مخالف للأصول والعقول، فإذا كان وليها لا يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام ولا شراب ولا لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها منه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟!

(3)

.

وقد تتابع العلماء على النص على بطلان العقود التي تتم بالإكراه؛ كالبيع والشراء والإجارة، والقول بجواز إنكاح المرأة بغير رضاها مخالف للقاعدة العامة التي قررتها الشريعة، وأخذ بها أهل العلم

(4)

.

وهذا القول هو الراجح، لقوة دليله، ولأن التفريق بين الثيب فلا تجبر،

(1)

انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي، (5/ 80).

(2)

"الهداية"(1/ 196)، "المغني"(9/ 399)، "الفتاوى"(32/ 40، 52)، "مختصر تهذيب السنن"(3/ 40 - 42)، "المختارات الجلية" ص (103)، "فتاوى ابن باز"(20/ 409 - 415).

(3)

"الفتاوى"(32/ 25).

(4)

"أحكام الزواج" ص (146).

ص: 236

والبكر فتجبر تفريق بين متماثلين، وهذا أمر يأباه القياس، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فالاستدلال به عن طريق المفهوم، وحديث أبي هريرة منطوق، فيقدم عليه، ولا فرق في ذلك بين الأب وغيره، فلا يجبرها أبوها على الزواج من شخص لا تريده، وحديث الباب عام؛ لقوله:"لا تنكح البكر حتى تستأذن"، وفي رواية لمسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها"

(1)

، وهذا - على تقدير صحته

(2)

- نص صريح في هذا الحكم.

لكن لو رغبت المرأة في غير الكفء، فإن لوليها الحق في منع زواجها منه، وهذه ثمرة الولاية في النكاح، وعلى الأسرة في موضوع زواج ابنتهم أن يتشاوروا فيما بينهم، وفي هذا خير كثير.

° الوجه السادس: الحديث دليل على اشتراط الولي في النكاح، كما هو قول الجمهور، لمجيء صيغة التفضيل الدالة على المشاركة والمفاضلة، والولي قد شارك المرأة في حقيَّةٍ ما، فدل على أن له مدخلًا، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح مسلم"(1421)(68).

(2)

ذكر أبو داود أنها ليست بمحفوظة. انظر: "سنن أبي داود"(2099)، "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 115)، "التلخيص"(3/ 184).

ص: 237

‌ما جاء في أن المرأة ليس لها ولاية في النكاح

988/ 20 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأةُ المرأةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَها"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَات.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه (1882)، والدارقطني (3/ 227)، والبيهقي (7/ 110) من طريق جميل بن الحسن العتكي، حدثنا محمد بن مروان العقيلي، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا الحديث لا بأس برجاله، غير جميل بن الحسن الأزدي العتكي، قال عنه ابن أبي حاتم:(أدركناه ولم نكتب عنه)

(1)

، واتهمه عبدان الأهوازي، وبه أعله الذهبي

(2)

، ومحمد بن مروان قال عنه الحافظ في "التقريب"(صدوق له أوهام).

ورواه الدارقطني (3/ 228) من طريق مسلم بن أبي مسلم الجرمي، حدثنا مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان، به.

قال الألباني: (هذا سند رجاله ثقات، غير الجرمي هذا، وهو شيخ)

(3)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(2/ 520)، "تهذيب التهذيب"(2/ 97).

(2)

"تنقيح التحقيق "بحاشية "التحقيق"(8/ 287).

(3)

"الإرواء"(62/ 248).

ص: 238

وتمام الحديث: "فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، وقد أعلت هذه الجملة بأنها من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، فقد رواه الدارقطني (3/ 228)، والبيهقي (7/ 110) من طريق عبد السلام بن حرب، عن هشام، إلا أنه قال:(قال أبو هريرة: كنا نعد التي تنكح نفسها هي الزانية) فجعل آخره موقوفًا، قال البيهقي:(وعبد السلام قد ميَّز المسند من الموقوف، فيشبه أن يكون قد حفظه، والله أعلم).

ورواه البيهقي (7/ 110) من طريق الأوزاعي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:(لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)، فجعل الحديث كله موقوفًا، وكذا قال ابن عيينة، عن هشام بن حسان، فجعله موقوفًا أيضًا، ورواه موقوفًا عبد الرزاق، عن هشام (6/ 200)، والدارقطني (3/ 227) من طريق حفص بن غياث، والنضر بن شميل، ثلاثتهم عن هشام، عن محمد بن سيرين، ولعل الراجح هو الوقف

(1)

.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في النكاح، فلا تزوج نفسها ولا تزوج غيرها من النساء، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره، ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، فإن فعلت شيئًا من ذلك لم يصح النكاح، وذلك لأن ولاية النكاح يعتبر فيها الكمال، والرجال أقدر على البحث عن أحوال الخاطب من النساء، والمرأة ناقصة قاصرة، تثبت الولاية عليها، لقصورها عن النظر لنفسها فغيرها أولى.

ومنع المرأة من الولاية فيه حفظ لها وصيانة لكرامتها، لا سيما وقد طبعت على الحياء الذي يمنعها من مثل ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (10/ 21)"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 296).

ص: 239

‌النهي عن نكاح الشغار

989/ 31 - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّغَارِ، والشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيسَ بَينَهُمَا صَدَاقٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَاتَّفَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أن تَفْسِيرَ الشِّغَارِ مِنْ كلَامِ نَافِعٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (الشغار)(5112)، ومسلم (1415) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه البخاري (6960)، ومسلم (1415)(58) من طريق عبيد الله، قال: حدثني نافع، عن عبد الله رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: يَنكِحُ ابنةَ الرجل، ويُنكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل، وينكحه أخته بغير صداق. وهذا لفظ البخاري، وفيه التصريح بأن تفسير الشغار من كلام نافع.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الشغار) بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الغين المعجمة أيضًا، مصدر شاغر يشاغر شغارًا، وهو مفاعلة ولا يكون إلا بين اثنين غالبًا، وهو لغة: الخلو، يقال: بلد شاغر، إذا خلا من السلطان، وأمر شاغر: إذا خلا من مدبره؛ كان النكاح سمي بذلك لشغوره عن الصداق؛ أي: خلوه، ويقال معناه: الرفع، يقال: شغر الكلب؛ أي: رفع رجله ليبول. قال ثعلب: وكأن

ص: 240

كل واحد منهما يقول: لا ترفع رجل ابنتي ما لم أرفع رجل ابنتك، قال ابن الملقن: وهذا أقربها

(1)

.

وقال الخطابي: (سمي بذلك لأنهما رفعا المهر بينهما، وإذا رفع المهر ارتفع العقد، فارتفع النكاح والمهر معًا)

(2)

.

وأما شرعًا: فهو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما، أو بينهما مهر لأجل الحيلة، أو يقال: اختصارًا: إنكاح البضع بالبضع.

قوله: (ابنته) ذكر البنت لا مفهوم له، بل هو مثال، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، زاد ابن نمير: والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك، وأزوجك أختي

(3)

، قال النووي:(أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام؛ كالبنات في هذا)

(4)

.

وقد اختلف العلماء في تفسير الشغار، قال الشافعي:(لا أدري تفسير الشغار في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من ابن عمر أو من نافع أو من مالك)

(5)

. وقال الخطيب: (تفسير الشغار ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول مالك، وُصِلَ بالمتن المرفوع

)

(6)

. ورواية الصحيحين المذكورة تدل على أنه من تفسير نافع، ولعل مالكًا تلقاه من نافع، كما قال الحافظ

(7)

.

قوله: (وليس بينهما صداق) فيه إشعار بعلة النهي عن نكاح الشغار، وهي خلوه من الصداق، وإن كان يحتمل أن يكون ذكر ذلك لملازمته لجهة الفساد

(8)

.

(1)

انظر: "الاستذكار"(16/ 201)، "الإعلام"(8/ 190).

(2)

"معالم السنن"(3/ 20).

(3)

أخرجه مسلم (1416).

(4)

"شرح النووي"(9/ 212).

(5)

"الأم"(5/ 82).

(6)

"الفصل للوصل المدرج في النقل"(1/ 385).

(7)

"التلخيص"(3/ 176).

(8)

"الإعلام"(8/ 193)، "إحكام الأحكام"(4/ 192).

ص: 241

° الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن نكاح الشغار، وهذا النهي يقتضي التحريم بإجماع أهل العلم، وأما بطلان العقد؛ ففيه قولان:

الأول: أن النكاح غير صحيح؛ لأن النهي يقتضي الفساد، وهذا قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، كما حكاه الترمذي

(1)

، وحكاه ابن رشد عن مالك

(2)

.

القول الثاني: أن النكاح صحيح، ويفرض للمرأة مهر المثل، وهذا قول أبي حنيفة، وطائفة منهم: الليث، وأبو ثور، والطبري، ورواية عن أحمد مخرجة

(3)

؛ لعموم أدلة شرعية النكاح؛ كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، ولأن الفساد من قبل المهر لا يوجب فساد العقد، كما لو تزوجها على خمر أو نحوه مما لا يصح جعله صداقًا.

ويجيبون عن الأحاديث بأن النهي للكراهة، وتارة يقولون: بأن النهي يراد به ألا يُستحل الفرج بدون مهر، وهذا جواب ضعيف، فليس هذا من مواضع الكراهة، وقد حكم ببطلانه عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، كما قال أحمد

(4)

، وكذا معاوية رضي الله عنه، كما سيأتي، وعلى هذا فالصواب القول الأول.

° الوجه الرابع: اختلف العلماء في علة النهي عن نكاح الشغار على قولين:

الأول: أن العلة هي خلو بضع كل من المرأتين من الصداق، وهؤلاء أخذوا بتفسير الشغار المنصوص عليه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

الثاني: أن العلة ليست الخلو من الصداق، وإنما هي اشتراط كل منهما على الآخر أن يزوجه موليته، وهذا قول الإمام أحمد في رواية عنه، اختارها

(1)

"جامع الترمذي"(3/ 423)، "المغني"(10/ 42)، "مغني المحتاج"(3/ 142).

(2)

"بداية المجتهد"(3/ 109).

(3)

"مختصر الطحاوي" ص (181)، "الإنصاف"(8/ 159).

(4)

"المغني"(10/ 42).

ص: 242

الخرقي

(1)

، وأيدها الشيخ عبد العزيز بن باز، وقال:(إن تفسير الشغار المذكور في حديث ابن عمر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تقوم به حجة)

(2)

، واستدلوا بما يلي:

1 -

ما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه تفسير الشغار؛ قالوا: وظاهره أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكونه جاء موصولًا بالحديث، بخلاف التفسير الآخر فهو من كلام نافع بدليل ما تقدم، وليس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه جملة:(وليس بينهما صداق) بل هو مطلق، لكن قد يشكل على هذا أنه قد اختلف على عبيد الله بن عمر في هذا التفسير فذكرها ابن نمير في روايته عنه -كما تقدم- ولم يذكرها أبو أسامة حماد بن أسامة، وعبدة بن سليمان، وروايتهما عند مسلم، كما لم يذكرها يحيى بن سعيد عن عبيد الله، وروايته عند ابن ماجه

(3)

، وجاء في رواية النسائي من طريق إسحاق الأزرق عنه، بلفظ:(قال عبيد الله: والشغار كان الرجل يزوج ابنته على أن يزوجه أخته)

(4)

.

2 -

أن قول الرجل للرجل زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي، شرط ليس في كتاب الله تعالى، (ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل).

3 -

أن هذا الشرط يتضمن ظلم المرأة وإيذاءها، وكأنها سلعة تباع وتشترى، فيمسكها وليها في بيته حتى يجد رغبته.

4 -

أن هذا النوع من النكاح سبب للنزاع المتواصل، والخصومات الكثيرة، حتى إنه إذا ساءت الحال بين هذا وزوجته، ساءت حال الآخر وزوجته.

5 -

فهم الصحابة رضي الله عنهم لذلك وعملهم به، فقد روى أبو داود، وأحمد عن معاوية، أن العباس بن عبد الله بن عباس، أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية بن أبي سفيان -وهو خليفة- إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: (هذا

(1)

"المغني"(10/ 42).

(2)

"الفتاوى"(10/ 279).

(3)

"السنن"(1884).

(4)

"السنن"(6/ 112).

ص: 243

الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

فهما قد سميا مهرًا، ومع هذا سماه معاوية شغارًا، وفهم من النهي بطلان العقد، فهو موافق لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وموافق للمعنى والمقصود من النهي.

وقد كان نكاح الشغار من أنكحة الجاهلية، وبقي موجودًا بعد الإسلام، ولذا جاء النهي عنه، وهو موجود في زماننا هذا، ويسمى نكاح البدل، ومن أهم أسبابه: أن بعض الناس قد يكون عنده مولية من بنت أو أخت ونحوهما، وله رغبة في الزواج، لكنه لا يجد من يقبله، فيجعل هذه المولية وسيلة لتحصيل غرضه، أو غرض ولده، فنهى الإسلام عن ذلك لما فيه من ظلم المرأة، واعتبارها وسيلة لتحقيق المقاصد، مع ما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، كما تقدم.

فإذا وقع مثل ذلك، فقيل: العمل على حديث معاوية رضي الله عنه، فيلزم تجديد العقد، وقيل: الفسخ قبل الدخول لا بعده، وقيل: يحكم لكل من المرأتين بمهر المثل، والأَوْلى في ذلك رفع المسألة إلى القاضي وعليه أن يجتهد فيها. والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن"(2075)، "المسند"(28/ 70) وهذا الحديث سنده حسن.

ص: 244

‌تخيير البكر إذا زُوجت وهي كارهة

990/ 32 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن جَارِيةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ: أن أَبَاهَا زَوّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَهْ، وَأُعِلَّ بِالإرْسَالِ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (4/ 275)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها)(2096)، وابن ماجه (1875) من طريق حسين بن محمد المروذي، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، هكذا موصولًا.

وروي مرسلًا، أخرجه أبو داود (2097)، ومن طريقه البيهقي (7/ 217) عن محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث، ولم يذكر ابن عباس.

وقد رجح إرساله أبو داود في "سننه"، وأبو حاتم، كما في "العلل" لابنه

(1)

، وقال عن وصله: (إنه خطأ، إنما هو كما رواه الثقات عن أيوب، عن عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم

مرسلًا)، وممن رجح إرساله -أيضًا- الدارقطني

(2)

، والبيهقي

(3)

، وقال عن وصله:(إنه خطأ).

وقد صحح وصله ابن القطان، فقال: (هو صحيح، ولا يضر أن يرسله

(1)

(1255).

(2)

"السنن"(3/ 235).

(3)

"معرفة السنن والآثار"(10/ 47).

ص: 245

بعض الرواة إذا أسنده من هو ثقة)

(1)

.

وقال ابن القيم: (وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء وجميع أهل الأصول هذا حديث صحيح

)

(2)

. وقال الحافظ ابن حجر: (الطعن في الحديث لا معنى له، فإن طرقه يَقْوَى بعضها ببعض)

(3)

.

لكن يُشكل على كلام ابن القيم أن البيهقي حكم على وصله بأنه خطأ، وقد مرَّ في هذا الشرح أن حكم الأئمة الكبار مقدم على حكم غيرهم، فيكون المعتمد - هنا - قول من رجحوا الإرسال، ولوقيل: إنه مرسل جيد، لكان أصح.

° الوجه الثاني: دل الحديث على ما دلت عليه الأحاديث المتقدمة من أن البكر البالغة لا يجوز إجبارها على النكاح، لا من أبيها ولا من غيره من الأولياء، بل لا بد من استئذانها، وأخذ رأيها وموافقتها، فإن وافقت فذاك، وإلا لم تكره، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح البكر حتى تُستأذن"، وقوله:"البكر يستأذنها أبوها". قال الطيبي: (قيدها بالبكارة في قوله: "جارية بكرًا" دون الصغر لاعتبار كراهيتها، ولو كانت صغيرة لما اعتبر كراهيتها، فإن قوله: "وهي كارهة" حال لبيان هيئة المفعول عند التزويج)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(2/ 250).

(2)

"تهذيب مختصر السنن"(3/ 40).

(3)

"فتح الباري"(9/ 196).

(4)

"شرح الطيبي"(6/ 252).

ص: 246

‌حكم المرأة إذا زوجها وليَّان

991/ 23 - عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"أيُّمَا امْرَأةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلأوَّلِ مِنْهُما"، رَوَاهُ أَحْمَدُ والأَرْبَعَةُ، وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، واسم أبيه يسار، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، كان سيد أهل زمانه علمًا، وعملًا، رأى جماعة من الصحابة، وسمع منهم، وأرسل عن كثيرين، منهم من لم يدركه، ومنهم من رآه رؤية ولم يسمع منه، قال الذهبي:(وهو مدلس، ولا يحتج بقوله: (عن) فيمن لم يدركه، وقد يدلس عمن لقيه، ويسقط من بينه وبينه، والله أعلم، ولكنه حافظ، علامة من بحور العلم، فقيه النفس، كبير الشأن، عديم النظير، مليح التذكير، بليغ الموعظة، رأس في أنواع الخير

). مات سنة عشر ومائة رحمه الله

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (33/ 276)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (إذا أنكح الوليان)(2088)، والترمذي (1110)، والنسائي (7/ 314) من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وذكر الحديث، وتمامه:"وأيُّ رجل باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما".

قال الترمذي (حديث حسن)، وهذا الحديث من رواية الحسن البصري،

(1)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 563)، "تذكرة الحفاظ"(1/ 71 - 72)، "التدليس في الحديث" ص (291).

ص: 247

عن سمرة، وهو مدلس، ولم يصرح بسماعه من سمرة، قال الحافظ:(صحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة، فإن رجاله ثقات)

(1)

.

قال الألباني: (بل صحته متوقفة على تصريح الحسن بالتحديث، فمانه كان يدلس، كما ذكره الحافظ نفسه في ترجمته من "التقريب"، فلا يكفي والحالة هذه ثبوت سماعه من سمرة في الجملة، بل لا بد من ثبوت خصوص سماعه في هذا الحديث، كما هو ظاهر)

(2)

.

وقد تقدم الخلاف في سماعه منه في باب "الغسل".

فقد قيل: إنه سمع منه، وقيل: لم يسمع منه شيئًا، وإنما هو كتاب، وقيل: إنه سمع منه حديث العقيقة فقط، وهذا ثابت، وأما غيره فهو محل نظر، وهذا هو الأقرب.

وعزو الحافظِ الحديثَ لابن ماجه فيه نظر، فإن ابن ماجه لم يرو الحديث بتمامه، وإنما روى الزيادة الخاصة بالبيع دون الجملة الأولى التي هي موضع الشاهد لكتاب النكاح.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المرأة إذا زوجها وليان، بأن زوجها أحد أوليائها لرجل، وزوجها ولي آخر من أوليائها لرجل آخر، فإنها تكون زوجة للرجل الأول، لاستيفائه الشروط، ويكون نكاح الثاني باطلًا؛ لأنها بالزواج الأول صارت في عصمة زوج، فلم يصح أن يُعقد عليها نكاح آخر، ولا خلاف في ذلك، سواء أدخل بها الثاني أم لا؟ فإن دخل بها الثاني عالمًا فهو زنىً بالإجماع، وكذا إن دخل بها جاهلًا، لكنه لا حدَّ عليه، للجهل

(3)

.

والحديث محمول على أن الوليين في درجة واحدة؛ كأخوين مثلًا، وعقدا في وقتين مختلفين، أما إذا عقدا في وقت واحد، أو جهل الأول منها، بطلا معًا، قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(ومهما قيل في سماع الحسن من سمرة، فالحديث جيد من حيث المعنى، ومطابق للأصول والقواعد الشرعية).

وهكذا يقال في بقية العقود؛ كالبيع والإجارة ونحوهما. والله تعالى أعلم.

(1)

"التلخيص"(3/ 188).

(2)

"الإرواء"(6/ 255).

(3)

"المغني"(9/ 429)، "سبل السلام"(9/ 52).

ص: 248

‌حكم نكاح العبد بغير إذن مواليه

992/ 34 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوّجَ بِغَيرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحّحَهُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (22/ 122)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في نكاح العبد بغير إذن مواليه)(2078)، والترمذي (1111)(1112) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

وقد حسنه الترمذي في الموضع الأول، وهو الذي ذكر الحافظ في "التلخيص"، وصححه في الموضع الثاني، كما ذكر الحافظ هنا، والصواب الأول، فإنه في سنده عبد الله بن عقيل، وفيه خلاف معروف، وقد تقدم أن الراجح فيه أنه في نفسه صدوق، فحديثه في مرتبة الحسن إذا لم يخالف، وكان أحمد وابن راهويه يحتجان به، كما ذكر الدارقطني والذهبي وغيرهما.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه ليس للعبد أن يتزوج بغير إذن مواليه -جمع مولى، وهو مالكه-، فإن فعل فالنكاح باطل، وذلك للحكم عليه بأنه عاهر، والعاهر: الزاني، والزنا باطل، وإنما بطل نكاح العبد بغير إذن مواليه؛ لأن رقبته ومنفعته مملوكتان لسيده، وهو إذا اشتغل بحق الزوجة لم يتفرغ لخدمة سيده، مع ما في ذلك من الالتزام بالأمور المالية كالإنفاق على الزوجة، ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 249

‌النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها

993/ 25 - عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُجْمَعُ بَينَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَينَ الْمَرْأَةِ وَخَالتِهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (لا تنكح المرأة على عمتها)(5109)، ومسلم (1408) من طريق الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقد ذكر الحافظ أن هذا الحديث رواه من الصحابة ثلاثة عشر نفسًا، ثم ذكرهم

(1)

.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها، وهذا النهي يقتضي التحريم وبطلان العقد بإجماع أهل العلم، قال ابن المنذر:(أجمعوا على ألا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى)

(2)

. وذلك لأن الجمع بين الزوجات يورث بينهن العداوة والبغضاء غالبًا؛ لما جبلت عليه المرأة من الغيرة، ولا سيما مع ضرتها، فنهى الشرع أن يكون التعدد بين القريبات؛ خشية أن تكون القطيعة بين الأقارب، وقد جاء في رواية عند ابن حبان والطبراني التصريح بهذا التعليل، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة على العمة والخالة، قال: "إنكم إذا فعلتم ذلك

(1)

"فتح الباري"(9/ 161).

(2)

"الإجماع" ص (95).

ص: 250

قطعتم أرحامكم"

(1)

.

ولا فرق في ذلك بين العمة والخالة حقيقة أو مجازًا؛ كعمات آبائها أو خالاتهم، وعمات أمهاتها أو خالاتهن، وإن علت درجتهن، من نسب كان ذلك أو من رضاع، فكل شخصين لا يجوز لأحدهما أن يتزوج الآخر لو كان أحدهما ذكرًا وآخر أنثى لأجل القرابة، لا يجوز الجمع بينهما، لما تقدم

(2)

.

° الوجه الثالث: هذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي: ما سوى المذكور من المحرمات، فإن ظاهر الآية يقتضي إباحة هذا الجمع، لكن حديث الباب خصص عموم الآية. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"صحيح ابن حبان"(11/ 427)، "المعجم الكبير"(11/ 337)، وسنده حسن، وهذا لفظ الطبراني، ولفظ ابن حبان:"إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن".

(2)

"المغني"(9/ 523).

ص: 251

‌نهي المحرم أن يتزوج أو يزوج غيره

994/ 26 - عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: "وَلَا يَخْطُبُ"، وَزَادَ ابْنُ حِبّانَ:"وَلَا يُخْطَبُ عَلَيهِ".

995/ 27 - وعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، قَال: تَزَوّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

996/ 28 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَيمُونَةَ نَفْسِهَا، أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ.

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث عثمان رضي الله عنه فقد تقدم تخريجه في كتاب "الحج"، رقم (733).

وأما رواية ابن حبان المذكورة (9/ 4124) فهي من طريق فليح بن سليمان، عن عبد الجبار بن نُبيه بن وهب، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطُب، ولا يُخطب عليه".

والحديث صحيح، رجاله ثقات، رجال الصحيح، غير عبد الجبار بن نُبيه، فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

، وفي فليح بن سليمان كلام من جهة

(1)

(7/ 135).

ص: 252

حفظه، قال الحافظ:(صدوق كثير الخطأ)

(1)

، ولعل الحافظ ذكر زيادة ابن حبان لما فيها من الفائدة، كما سيأتي، بغض النظر عما في سندها.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (نكاح المحرم)(5114)، ومسلم (1410) من طريق عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنه أخبره

وذكر الحديث.

وأخرجه البخاري في آخر كتاب "الحج"(1837) من طريق الأوزاعي، حدثني عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهذا الحديث وإن كان إسناده صحيحًا، لكن متنه غير محفوظ، كما سيأتي إن شاء الله.

وأما حديث ميمونة رضي الله عنها فقد أخرجه مسلم في "النكاح"(1411) من طريق يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس.

وقد ذكر الحافظ هذين الحديثين معًا لما بينهما من التعارض في الظاهر، فإن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث مشكل على حديث عثمان رضي الله عنه، ومعارض في الظاهر لحديث ميمونة رضي الله عنها.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المحرم منهي أن (يَنكح) بفتح الياء؛ أي: يتزوج، أو (يُنكح) بضم الياء؛ أي: يعقد النكاح لغيره، أو (يخطُب) بضم الطاء، من الخِطبة -بكسر الخاء- أي: يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها، أو (يُخطب عليه) بضم الياء؛ أي: يتقدم أحد للخِطبة منه، وقد جاء الحديث بلفظ النفي، وهو بمعنى النهي، فيقتضي فساد العقد.

والحكمة من هذا النهي إبعاد المُحْرِمِ عن الترفُّهِ وشهوات الدنيا، ولأن الخطبة وسيلة إلى عقد النكاح، والنكاح وسيلة إلى الجماع المُحَرَّمِ حال

(1)

انظر: "هدي الساري" ص (435).

ص: 253

الإحرام، وهذا شاهد لمسألة سد الذرائع الموصلة إلى المُحَرَّمِ، وتقدم ذلك في "الحج".

وقد ذكر ابن القيم الأدلة على وجوب سد الذرائع الموصلة إلى المُحَرَّمِ من تسعة وتسعين وجهًا، وذكر منها هذه المسألة

(1)

.

° الوجه الثالث: أخذ الجمهور من أهل العلم بحديث ميمونة رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وهذا موافق لحديث عثمان رضي الله عنه في النهي عن نكاح المُحْرِمِ، ولا ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ويفعله، فإن فعله فهو من خصائصه، أو من الأدلة على أن النهي ليس للتحريم، لكن لما جاءت الروايات الأخرى في أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال دل على أن هذا هو الصواب، ولهذا عمل به الصحابة رضي الله عنهم. يقول ابن عبد البر: (ما أعلم أحدًا من الصحابة روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو مُحْرِمٌ إلا ابن عباس

(2)

رضي الله عنهما، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته، والقلب إلى رواية الجماعة أميل؛ لأن الواحد أقرب إلى الغلط، وأكثر أحوال حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن يجعل متعارضًا مع رواية من ذكرنا، فإذا كان كذلك سقط الاحتجاج بجميعها، ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها، فوجدنا عثمان رضي الله عنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح المُحْرِمِ، فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها؛ لأنه يستحيل أن ينهى عن شيء ويفعله، مع عمل الخلفاء الراشدين لها

)

(3)

.

ومما يؤيد ذلك:

1 -

أن ميمونة صاحبة القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره، ومن قواعد الترجيح في الأصول أن خبر صاحب الواقعة مقدم على خبر غيره؛ لأنه أعرف بالحال.

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 147).

(2)

رد عليه ابن حجر برواية عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، وفيهما ضعف. "فتح الباري"(9/ 166).

(3)

"التمهيد"(3/ 153).

ص: 254

2 -

أن يزيد بن الأصم

(1)

روى عنها ذلك، وقال:(وكانت خالتي وخالة ابن عباس).

3 -

ما رواه أبو رافع رضي الله عنه -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما)

(2)

. فأبو رافع كان هو الرسول بينهما، وهو المباشر للعقد، فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره.

4 -

أن ابن عباس كان صغيرًا وقت التحمل في هذه القصة، وقد لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف عليها

(3)

، ولهذا قال سعيد بن المسيب رحمه الله:(وَهِمَ ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم)

(4)

وقد ساقه الإمام أحمد محتجًا به

(5)

.

ويرى ابن حبان أن معنى قول ابن عباس: إنه تزوجها وهو محرم؛ أي: داخل في الحرم، لا أنه كان محرما؛ كما يقال: أَنْجَدَ إذا دخل نجدًا، وأَظْلَمَ إذا دخل في الظلمة، وأَحْرَمَ إذا دخل الحرم وإن لم يكن محرمًا

(6)

.

قال الصنعاني: (وهو تأويل بعيد، لا تساعد عليه ألفاظ الحديث)

(7)

، وكذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز. والله تعالى أعلم.

(1)

تابعي، وثقه العجلي، وأبو زرعة، والنسائي، مات سنة (103).

(2)

أخرجه الترمذي (841)، وأحمد (45/ 173 - 174) وحسنه الترمذي، وقد اختلف في وصله وإرساله، فانظر:"العلل" للدارقطني (7/ 13)"تنقيح التحقيق"(3/ 475).

(3)

انظر: "شرح العمدة" كتاب "الحج" لابن تيمية (2/ 194).

(4)

رواه أبو داود (1845) ومن طريقه البيهقي (7/ 212) وفي سنده مجهول.

(5)

بسط شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب عن حديث ابن عباس في "شرح العمدة" كتاب "الحج"(2/ 192 - 207)، وانظر:"زاد المعاد"(5/ 112).

(6)

"صحيح ابن حبان"(9/ 446 - 447).

(7)

"سبل السلام"(6/ 58).

ص: 255

‌حكم الشروط في النكاح

997/ 29 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ يُوَفَّى بِهِ، ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الشروط"(2721)، ثم في كتاب "النكاح"، باب (الشروط في النكاح)(5151)، ومسلم (1418) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليَزَنِي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا، واللفظ لمسلم.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن أولى الشروط بالوفاء، ما استحل به الرجل فرج المرأة، وهذا يفيد العناية بالشروط في باب النكاح، والحرص على أدائها، وعدم جحد شيء منها أو التساهل فيها، ومعلوم أن المسلمين على شروطهم في البيوع، والمساقاة، والإجارات، ونحو ذلك، لكن أحق هذه العقود وأولاها بالوفاء هو النكاح؛ لأن عوض هذه الشروط هو استحلال الفروج.

فإن اشترطت المرأة على زوجها شرطًا، لها فيه غرض صحيح، وهو لا يخالف شرع الله تعالى، والتزم به الزوج وجب عليه الوفاء به، كما لو شرطت زيادة في مهرها، أو شرطت ألا يخرجها من دارها أو بلدها، أو تكون عند أهلها، أو معها أولادها، أو تكون وحدها ليس معها ضرة في بيتها، ونحو ذلك.

ص: 256

وقد ذكر الفقهاء أن الشروط الصحيحة في هذا الباب قسمان:

الأول: شرط يتضمنه العقد ويقتضيه، ومثل هذا لا حاجة إلى اشتراطه، فذكره في العقد لا يؤثر، وإهماله لا يسقطه، مثل اشتراط تسليم المرأة لزوجها وتمكينه من الاستمتاع بها، وكاشتراط النفقة والسكنى على الزوج، ونحو ذلك.

الثاني: ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه مصلحة ولا يخالف شرع الله تعالى، ومثل هذا شرط صحيح لازم، فإن وفَّى به الزوج، وإلا فلها الفسخ، وتقدمت أمثلته.

والمعتبر من الشروط ما كان حال العقد ووقته؛ كزوجتك ابنتي بشرط كذا، أو اتفقا عليه قبل العقد، فإن الأصح من قولي أهل العلم أنه كالشرط المقارن للعقد، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال:(إنه ظاهر المذهب، ومنصوص الإمام رحمه الله، وقول قدماء أصحابه ومحققي المتأخرين؛ لأن الأمر بالوفاء بالشروط والعقود والعهود يتناول ذلك تناولًا واحدًا)

(1)

.

فإن كان الشرط بعد العقد ولزومه، فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه لا يلزم، وقال ابن رجب: (ويتوجه صحة الشرط فيه، بناءً على صحة الاستثناء منفصلًا بنيةٍ بعد اليمين

)

(2)

.

وأما الشروط الفاسدة فلا عبرة بها، كما لو شرط ألا مهر لها، أو لا ينفق عليها، أو شرط عليها عدم الوطء، أو اشترطت أن يفضلها على بعض ضرائرها، أو شرط عليها عدم زيارة أبويها، أو أحد أقاربها، أو شرطت طلاق ضرتها.

وللفقهاء تفاصيل كثيرة في موضوع الشروط، وما يصح معه العقد وما لا يصح.

ومن الشروط اللازمة إذا شرطت ألا يتزوج عليها، فهذا يلزمه الوفاء به على قول الجمهور، فإن لم يفعل فلها فسخ النكاح؛ لأنها لا تحرم ما أحل الله له

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(32/ 108 - 166).

(2)

انظر: "الإنصاف"(8/ 154).

(3)

"المغني"(9/ 483 - 485).

ص: 257

‌النهي عن نكاح المتعة

998/ 30 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَال: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ في الْمُتْعَةِ، ثَلَاثةَ أيَّامٍ، ثُمَّ نَهى عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

999/ 31 - وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (نكاح المتعة)(1405)(18) من طريق أبي عميس، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال:

فذكره.

أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرًا)(5115)، وفي كتاب "الصيد والذبائح"(5523)، ومسلم (1407) من طريق الزهري، عن الحسن بن محمد بن علي وأخيه عبد الله، عن أبيهما، عن علي رضي الله عنه مرفوعًا.

واللفظ المذكور مختصر من رواية البخاري في كتاب "الصيد والذبائح"، وتمامه:(ولحوم حمر الإنسية)، وهو أحد روايات مسلم بلفظ: (عن نكاح المتعة

).

وجاء في بعض نسخ "البلوغ" ومنها طبعة حامد الفقي، والطبعة التي عليها شرح الصنعاني، زيادة حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، أخرجه السبعة إلا أبا داود.

ص: 258

وحديث الربيع بن سبرة، عن أبيه، أخرجه مسلم، وسيأتي ذكره

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (رخَّص) أي: أباح.

قوله: (عام أوطاس) أي: سنة غزوة أوطاس: بفتح الهمزة، وهو وادٍ في ديار هوازن من أودية الطائف، قرب حنين، ولا يعرف الآن بهذا الاسم، وقد ذكر الشيخ عبد الله البسام رحمه الله أن بعض الثقات المطلعين من سكان تلك المنطقة أخبروه بأن أوطاس هي المسماة الآن (البُهيتة) الواقعة بين السيل الكبير ونخلة اليمانية، وهي تبعد عن مكة شرقًا بنحو ستين كيلًا

(2)

.

وكانت غزوة أوطاس بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان، حيث فرَّ المنهزمون من هوازن وحلفائها بعد غزوة حنين وعسكروا في أوطاس، فأرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه، وهو عم أبي موسى الأشعري، فقاتلهم حتى قتل، وتولى القيادة بعده أبو موسى الأشعري، فقاتلهم حتى بددهم وشردهم، والقصة في "الصحيحين".

قوله: (في المتعة) بضم الميم وكسرها، والمتعة: الانتفاع والتلذذ والمراد هنا: نكاح المرأة مدة مؤقتة على مال معين، فإذا انقضى الأجل وقعت الفرقة بدون طلاق، سمي بذلك؛ لانتفاع المرأة بما يعطيها الرجل، وانتفاعه بها لقضاء شهوته، دون قصد التوالد وسائر أغراض النكاح.

قوله: (ثلاثة أيام) الذي في "صحيح مسلم": (ثلاثًا)، والمعنى: أن الترخيص استمر ثلاثة أيام، وليس في الحديث ما يدل على أنهم تمتعوا من النساء في أوطاس، وإنما الذي وقع في هذا الحديث أن الرخصة في المتعة وقعت عام أوطاس، وعام أوطاس هو عام فتح مكة.

(1)

رجعت إلى مخطوطة لـ"بلوغ المرام" - سبق أن ذكرتها - كتبت عام (448 هـ) أي قبل وفاة الحافظ ابن حجر بأربع سنوات، وليس فيها هذان الحديثان، وكذا طبعة طارق بن عوض الله، وطبعة سمير الزهيري.

(2)

"توضيح الأحكام"(4/ 387).

ص: 259

قوله: (عام خيبر) أي: سنة فتح خيبر، وذلك في آخر المحرم سنة سبع، كما نقله الحافظ عن ابن إسحاق، ونسبه ابن القيم إلى الجمهور

(1)

، وتقدم ذكر ذلك في باب "المساقاة"، من كتاب "البيوع".

والمبطل في نكاح المتعة هو التصريح بذكر الأجل في العقد، فإن نواه بقلبه ولم يصرح به، فإنه لا يبطل النكاح، وهذا هو الزواج بنية الطلاق، والجمهور من أهل العلم على جوازه، إلَّا الأوزاعي، فإنه قال: إنه نكاح متعة، ورجح ابن قدامة القول بجوازه

(2)

، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، إلَّا أنَّه عبر بالكراهة في بعض المواضع

(4)

، وممن انتصر للمنع فضيلة شيخنا الدكتور: صالح المنصور رحمه الله في رسالة له.

• الوجه الثالث: الأحاديث دليل على تحريم نكاح المتعة، وفساد العقد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والنهي عند الإطلاق يقتضي التحريم والفساد، قال ابن دقيق العيد:(وفقهاء الأمصار كلهم على المنع)

(5)

.

والحكمة من تحريم نكاح المتعة:

1 -

أن من مقاصد النكاح الاجتماع والألفة، وإعداد أسرة صالحة لبناء مجتمع سليم، وليس في المتعة شيء من ذلك؛ لأن المراد منها قضاء الشهوة فحسب.

2 -

أن المتعة فيها معنى الإجارة لكونها إلى أجل، والرجل لو قال: استأجرتك مدة للوطء لم يجز إجماعًا، فكذا نكاح المتعة فإنه استئجار للفرج، حيث تكون المرأة كالسلعة تنقل من يد إلى يد أخرى.

3 -

أنَّه لا يؤمن في نكاح المتعة من اختلاط الأنساب.

(1)

"زاد المعاد"(3/ 316).

(2)

"المغني"(10/ 48).

(3)

"الفتاوى"(32/ 146).

(4)

"الفتاوى الكبرى"(4/ 72 - 73).

(5)

"إحكام الأحكام"(4/ 195).

ص: 260

4 -

أن تحريم نكاح المتعة من باب سد الذرائع، لئلا يكون وسيلة إلى الزنا، كما ذكر ابن القيم

(1)

.

ولا ينبغي أن يلتفت إلى من أباحها، وهم الرافضة، مستدلين بأحاديث إباحتها مع أنَّها منسوخة، أو بأدلة أخرى غير ناهضة؛ كقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]

(2)

قالوا: إن التعبير بالاستمتاع، ولفظ الأجور يدل على أن المراد نكاح المتعة، وهذا استدلال باطل من وجوه ثلاثة:

1 -

أن لفظ الأجور جاء في الصداق، قال تعالى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25].

2 -

أن الأدلة قاطعة بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة، وهي أصرح بكثير من هذا الفهم.

3 -

لو سلمنا جدلًا أن الآية في نكاح المتعة، فإنها منسوخة

(3)

.

والرافضة متناقضون، فإن تحريم المتعة من رواية علي رضي الله عنه كما مرَّ، وهو إمامهم بل ومعبودهم

(4)

، يباحتها مروية عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، وقد جعلها كالميتة؛ أي: للضرورة، ويحتمل أنَّه لما رأى توسع الناس وتسارعهم إلى الأخذ بفتياه رجع عنها، إلَّا أن ابن عبد البر حكم بضعف الآثار التي ورد فيها رجوع ابن عبَّاس

(5)

. وما دام أن النهي والتحريم المؤبد قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا كلام لأحد كائنًا من كان.

• الوجه الرابع: كان نكاح المتعة مباحًا في أول الإسلام

(6)

، ثم حرم تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، كما في حديث الربيع بن سَبْرة الجهني، أن أباه

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 168).

(2)

"الإعلام" لابن الملقن (8/ 168).

(3)

"أضواء البيان"(1/ 384).

(4)

انظر: "الشيعة وأهل البيت" ص (127).

(5)

"الاستذكار"(16/ 399).

(6)

"الإعلام"(8/ 199).

ص: 261

حدثه أنَّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: "يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة

"

(1)

.

• الوجه الخامس: ظاهر الحديثين يدل على أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العُزبة حال السفر، ولم تُحَلَّ قط حال الحضر والرفاهية، ففي حديث جابر وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما قالا:(كنا في جيش، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه قد أُذِن لكم أن تستمتعوا، فاستمتعوا")

(2)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]

(3)

.

عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عبَّاس يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة ونحوه؟ فقال ابن عبَّاس: نعم

(4)

.

قال الحافظ ابن حجر: (هذه أخبار يقوي بعضها بعضًا، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العُزبة في حال السفر، وهو يوافق حديث ابن مسعود رضي الله عنه

)

(5)

.

• الوجه السادس: اتفق أهل العلم قاطبة على تحريم المتعة، ولكن

اختلفوا في الوقت الذي حُرِّمت فيه تبعًا لاختلاف الأحاديث، ففي حديث علي رضي الله عنه أن النهي عام خيبر سنة سبع، وفي حديث سلمة رضي الله عنه أنَّه عام أوطاس في شوال سنة ثمان، وفي حديث سبرة رضي الله عنه المتقدم أنَّه عام الفتح في رمضان سنة ثمان، والجواب من وجهين:

(1)

أخرجه مسلم (1406)(21).

(2)

رواه البخاري (5117 - 5118).

(3)

رواه البخاري (5075)، ومسلم (1404).

(4)

رواه البخاري (5116).

(5)

"فتح الباري"(9/ 172)، "التلخيص"(3/ 177).

ص: 262

الأول: أن الاختلاف في وقت التحريم مع الاتفاق على التحريم لا يؤثر في صحته، ما دام أن أهل العلم اتفقوا على التحريم.

الثاني: أن حديث سلمة وحديث سبرة ليس بينهما اختلاف كبير، فالراوي أطلق على عام الفتح عام أوطاس؛ لأن عام أوطاس هو عام الفتح، فالفتح في رمضان، وأوطاس في شوال في سنة ثمان، كما تقدم، وإلا كيف يقول عام الفتح:(إلى يوم القيامة) ثم تباح بعد شهر واحد في أوطاس؛ وحديث سلمة ليس فيه أنهم تمتعوا في أوطاس، وإنما فيه أن الرخصة في المتعة وقعت عام أوطاس، كما تقدم.

وأما حديث علي رضي الله عنه في أن التحريم عام خيبر سنة سبع، وحديث سبرة في أن التحريم عام الفتح، فللعلماء في الجمع بينهما مسلكان:

الأول: أن التحريم كان عام خيبر، لحديث علي رضي الله عنه، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس؛ لحاجة كانت بهم إليها، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، فيكون التحريم والإباحة وقعا مرتين، ولا يمنع إباحة الشيء عند الحاجة إليه، ونسخه عند الاستغناء عنه، وهذا رأي النووي

(1)

، واختاره الشنقيطي

(2)

، وذلك لأن حديث علي رضي الله عنه صريح في تحريم المتعة يوم خيبر، وحديث سبرة صريح في أن التحريم وقع يوم الفتح، ولذا جاء فيه:(إلى يوم القيامة)، إشارة إلى أنَّه تحريم مؤبد لن يكون بعده إباحة، والحق أن أحاديث تحريمها عام خيبر لا تخلو من احتمال.

الثاني: أن التحريم لم يقع إلَّا مرة واحدة وهو يوم الفتح، وقبله كانت مباحة، ولم يقع تحريم عام خيبر، والحامل لهؤلاء ثبوت الرخصة في المتعة بعد زمن خيبر، وأما حديث علي رضي الله عنه فهو لم يُرِدْ أن تحريم المتعة وقع مع تحريم الحُمُرِ يوم خيبر، وإنما قرنهما جميعًا ردًّا على ابن عبَّاس رضي الله عنهما الذي

(1)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 193).

(2)

"أضواء البيان"(1/ 386).

ص: 263

يجيز المتعة للضرورة، ويبيح لحوم الحمر الأهلية، وتحريم الحمر كان يوم خيبر بلا شك.

لكن يشكل على هذا رواية "الصحيحين" من حديث علي رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر، ولحوم الحمر الإنسية)

(1)

، فظاهره أن الظرف للنهي عن المتعة، على أن السهيلي وجماعة كابن القيم يرون أن نكاح المتعة لم يحرم عام خيبر، ولم يحرم إلَّا مرة واحدة، وأنه لم يقع في عام خيبر متعة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، وأجاب ابن حجر بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام، فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن، ثم إن الحديث ليس فيه أنهم تمتعوا عام خيبر وإنما فيه مجرد النهي

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

البخاري (5523)، ومسلم (1407).

(2)

انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (6/ 557)، "زاد المعاد"(3/ 459)، (5/ 111)، "فتح الباري"(9/ 170).

ص: 264

‌تحريم نكاح التحليل

1000/ 32 - عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ. رواه أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحّحَهُ.

1001/ 33 - وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد رواه أحمد (7/ 314 - 315)، والنَّسائي (6/ 149)، والتِّرمِذي في أَبواب "النكاح"، باب (ما جاء في المحلل والمحلل له)(1120) من طريق سفيان الثَّوري، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا.

قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وقال الحافظ:(صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري)

(1)

.

وأما حديث علي رضي الله عنه فقد رواه أَبو داود (2076)، والتِّرمِذي (1119)، وابن ماجة (1935) من طريق مجالد، عن الشعبي، عن الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له).

وهذا سند ضعيف، فيه الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، ضعفه جمع من أئمة الحديث، وأكثرهم كذبه، وفيه -أيضًا- مجالد بن سعيد، قال عنه الحافظ في "التقريب": اليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره).

(1)

"التلخيص"(3/ 194).

ص: 265

لكن توبع، تابعه إسماعيل بن أبي خالد، وحصين بن عبد الرحمن عند أبي داود (2076)(2077)، وابن عون عند ابن ماجة (1935)، وقَتَادة عند البيهقي (7/ 257) وفي بعضها اختلاف، فيبقى إعلاله بالحارث الأعور، لكن يشهد له ما قبله.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لعن) اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، والمعنى: أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على المحلل والمحلل له في لك.

قوله: (المُحَلِّل) بوزن اسم الفاعل، هو الذي يتزوج المرأة المطلقة ثلاثًا لتحل لزوجها الأول بوطئه.

قوله: (والمُحَلَّل له) بوزن اسم المفعول، هو المُطَلِّق أولًا، وذلك أن المرأة المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها حتَّى ينكحها زوجًا غيره، ويطأها -كما سيأتي- فإذا طلق رجل امرأته ثلاثًا، وتزوجها آخر بقصد التحليل؛ أي: بقصد أن يطأها ثم يطلقها، فيتزوجها الأول، فهذا الذي يسمى المحلل والمحلل له.

وإنَّما لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لهتك المروءة، وقلة الحَمِيَّةِ، والدلالة على خسة النفس وسقوطها، أما بالنسبة للمحلَّل له فظاهر، وأما بالنسبة للمحلِّل، فلأنه يُعِيرُ نفسه بالوطء لغرض الغير؛ لأنه إنما يطؤها ليعرضها ويجهزها للمحلل له.

ويظهر لي أن سبب اللعن هو التحليل المقصود به إحلالها للزوج الأول.

• الوجه الثالث: الحديثان دليل على تحريم نكاح التحليل؛ لأن اللعن لا يكون إلَّا على فعل محرم، والنهي يقتضي التحريم والبطلان، وهذا الفعل يعد من كبائر الذنوب، ذكر هذا الذهبي وابن القيم، وغيرهما

(1)

. ومما يدل على تحريم نكاح التحليل، قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا

(1)

"الكبائر" ص (103)، "إعلام الموقعين"(4/ 402).

ص: 266

بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، ووجه الاستدلال: أن نكاح التحليل شبيه بالمسافحة وهو الزنا، حيث لم يقصد به الإحصان، وهو النكاح بعقد صحيح، بل الجماع مرة واحدة، ثم الطلاق

(1)

.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إنكاح المحلل حرام باطل، لا يفيد الحل)

(2)

. فلا يحصل به الإباحة للزوج الأول لفساده، فإن قيل: سماه الرسول صلى الله عليه وسلم محللًا، ولو لم يحصل به الحل لم يكن محللًا ولا محللًا له؛ فالجواب: أنَّه سماه محللًا؛ لأنه قصد التحليل في موضع لا يحصل فيه الحل، لا أنَّه مثبت للحل في الواقع، ولو كان محللًا في الحقيقة والآخر محللًا له لم يكونا ملعونين

(3)

. ويؤيد ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نعد هذا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحًا)

(4)

.

ومما يدل على فساده أنَّه لو فرض أن هذا المُحَلِّلَ أراد أن يقيم معها بعد ذلك فلا بد من عقد جديد؛ لأن ما مضى عقد فاسد لا يباح به المقام معها، وهو قول الجمهور

(5)

؛ لأن النهي يقتضي التحريم والفساد، ولو صح العقد لما كان لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى.

ومثل هذا لو شرط عليه قبل العقد أن يُحِلَّها لمطلقها ثلاثًا، ثم نوى عند العقد غير ما شرط عليه وأنه نكاح رغبة صح نكاحه، وبطل الشرط، وقيل: يبطل النكاح، لاشتماله على شرط مفسد للعقد، وهذا هو الراجح.

(1)

"التفسير وأصوله"(2/ 121).

(2)

"إقامة الدليل على بطلان التحليل"[ضمن الفتاوى الكبرى](3/ 100).

(3)

"المغني"(10/ 54).

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط"(7/ 137)، والحاكم (2/ 199)، والبيهقي (7/ 208)، من طريق محمد بن مطرِّف، عن عمر بن نافع، عن أبيه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجلًا سال ابن عمر رضي الله عنهما

وذكر الحديث وفيه قصة، وقال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين)، وسكت عنه الذهبي، وهذا فيه نظر، فإن المستفاد من ترجمة عمر بن نافع في "تهذيب الكمال"(21/ 512) أنَّه ليس لمحمد بن مطرف رواية عن عمر بن نافع في "الصحيحين".

(5)

"الفتاوى الكبرى"(13/ 101).

ص: 267

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذم المحلل، ووصفه بالتيس المستعار، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"هو المحلل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"

(1)

.

وسمي بالتيس المستعار؛ لأنه جيء به للضِّراب، إذ ليس هو زوجًا قاصدًا ما يقصده غيره من الأزواج، وإنما سيجامعها مرة، ثم يفارقها، وعلى هذا فليس هو الزوج المذكور في القرآن، ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن.

• الوجه الرابع: يبطل النكاح سواء شرط التحليل في العقد؛ كأن يقول: إذا أحللتها فلا نكاح، وهذا بالإجماع، أو نواه الزوج الثاني بلا شرط يذكر في العقد، على الراجح من قولي أهل العلم، فالمؤثر في نكاح التحليل

(1)

رواه ابن ماجة (1936)، والدارقطني (3/ 231)، والحاكم (2/ 198)، والبيهقي (7/ 208) من طرق، عن اللَّيث، عن أبي مصعب مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر، قال البوصيري في "الزوائد" (2/ 102):(هذا إسناد مختلف فيه، من أجل أبي مصعب)، قال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 367):(يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، والصواب ترك ما انفرد به)، مع أنَّه أورده في "الثقات"(5/ 452)، وقد وثقه ابن معين، وقال عثمان الدارمي:(صدوق)، وكذا قال الذهبي في "الميزان"(4/ 117)، وقال ابن عدي:(أرجو أنَّه لا بأس به)، وعلى هذا فهو حسن الحديث، قال الألباني في "الإرواء" (6/ 310):(والمتقرر فيه أنَّه حسن الحديث)، وقد حسنه عبد الحق في "أحكامه"(3/ 156)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته المتقدمة، وقد أعل بعلة أخرى وهي أن اللَّيث لم يسمع من مشرح بن هاعان، لكن قال الحاكم:(وقد ذكر أَبو صالح كاتب اللَّيث، عن ليث سماعه من مشرح بن هاعان)، ثم ساقه بسنده إليه، وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وقال ابن القيم:(رجاله كلهم موثقون، لم يجرح واحد منهم)"إغاثة اللهفان"(1/ 270)، ويَرِدُ على هذا أن أبا زرعة كما في "العلل"(1232) أعله بان يحيى بن بكير -وهو ثبت في اللَّيث- رواه عن اللَّيث، عن سليمان بن عبد الرحمن مرسلًا، ونقل عن يحيى أن اللَّيث لم يسمع ولم يرو عن مشرح شيئًا، وعليه فما أسنده الحاكم عن أبي صالح فيه نظر؛ لكلام يحيى وترجيح أبي زرعة، وقد أعل الحديث -أيضًا- البخاري كما في "العلل الكبير"(1/ 438).

ص: 268

الذي ورد النهي عنه إما شرطه في العقد أو نية الزوج الثاني، هذا هو الصحيح في هذه المسألة لعموم النص، ولأنه نكاح إلى مدة، أو فيه شرط يمنع بقاءه فأشبه نكاح المتعة، بل نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه، ثم ذكرها

(1)

.

وأما من قصره على ما إذا شُرط في العقد، وأما إذا نُوي فغير داخل تحت النهي

(2)

؛ لأنه خلا عن شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال، ولأن العقد إنما يبطل بما شُرط لا بما قُصد. فهذا مردود لأمور ثلاثة:

1 -

لأنه تخصيص للنص بلا مخصص.

2 -

ولأن الزوج الثاني نيته التحليل، وقاصد التحليل والمتواطئ عليه لا يخرج عن مسمى المحلل.

3 -

ولأن القصد في العقود معتبر، والأعمال بالنيات.

• الوجه الخامس: التأثير في نكاح التحليل عائد على نية الزوج الثاني، فإنه إذا نوى التحليل كان محللًا فيستحق اللعنة، ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل؛ لأنها لم تحل له، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك العقد شيئًا؛ لأنه ليس إليهما إمساك ولا فراق، فلم تؤثر نيتهما

(3)

، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة أنَّها كانت تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، ولم يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنَّما جعل المانع عدم وطء الثاني، كما سيأتي.

وقال طائفة من سلف الأمة إذا همَّ أحد الثلاثة -الزوج الأول، أو المرأة، أو الزوج الثاني- بالتحليل؛ فسد العقد، قاله الحسن البصري وإبراهيم

(1)

"الإغاثة"(1/ 277)، "المغني"(10/ 51).

(2)

"المغني"(10/ 49).

(3)

"المغني"(10/ 53).

ص: 269

النخعي وقَتَادة وآخرون، قال أحمد:(كان الحسن وإبراهيم والتابعون يشددون في ذلك)

(1)

. والظاهر ما تقدم، وهو أن المدار على الزوج الثاني؛ لأنه هو المحلل، ولأن بيده عقدة النكاح، ولولاه لم يوجد تحليل، لكن المرأة والزوج الأول يتناولهما النهي من حيث الإثم والذم إذا توافقا مع الثاني؛ لأن ذلك من باب تقرير المنكر والرضا به، أما بناء الأحكام فهو خاص بالزوج المحلل. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(10/ 53).

ص: 270

‌تحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني

1002/ 34 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْكِحُ الزَّاني الْمَجْلُودُ إلَّا مِثْلَهُ"، رَوَاهُ أحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أحمد (14/ 52)، وأَبو داود في كتاب "النكاح"، باب (في قوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً} (2052)، والحاكم (2/ 166، 193) من طريق عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا.

وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وسكت عنه الذهبي

(1)

، والحديث من رواية عمرو بن شعيب، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات، رجال الشيخين.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الزاني المجلود) هذا وصف خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا، بخلاف من يُتهم فلا يؤثر ذلك، وقوله:(المجلود) أي: الذي ظهر أمره حتَّى جُلد.

قوله: (إلَّا مثله) أي: الزانية المجلودة عادة؛ إذ المناسبة سبب الألفة عادة

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنَّه يحرم على الرجل أن يتزوج

(1)

انظر: "الصحيحة"(5/ 572).

(2)

انظر: "حاشية السندي على المسند"(5/ 499).

ص: 271

بمن ظهر منها الزنا، ويحرم على المرأة أن تُزوج بمن ظهر منه الزنا.

وهذا - والله أعلم - لأن الزانية تضر زوجها وتنغص عليه حياته، ويكون في غمٍّ وهمٍّ، وقد تلحق به ولدًا من غيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني، إذ لا يمكنه منعها من ذلك، فإن كيد النساء عظيم)

(1)

.

والقول بتحريم نكاح الزانية ونكاح الزاني هو قول قَتَادة، والإمام أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والصنعاني

(2)

، والشيخ عبد العزيز بن باز. يقول ابن تيمية:(فأما نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وفيه آثار عن السلف، وإن كان الفقهاء قد تنازعوا فيه، وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه)

(3)

.

واستدلوا -أيضًا- بقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، والنفي فيها محمول على النهي، وهي في عقد النكاح، كما هو قول جمهور المفسرين؛ بناءً على أسباب النزول، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].

وذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم أَبو حنيفة، والشَّافعي إلى جواز نكاح الزاني والزانية، وأجازه مالك مع الكراهة

(4)

. واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وأجابوا عن قوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً} بأن المراد بالآية الوطء، وليس العقد، والحامل لهم على ذلك أن الله تعالى ذكر المشرك والمشركة، والمشرك لا يجوز له أن يتزوج المؤمنة ولو كانت زانية، وكذلك المشركة.

قالوا: والآية على ظاهرها، فهي إخبار أريد به تقبيح حال الزاني والزانية، والتصريح بخبث الزناة والزواني، وأن الزاني لا يليق به أن ينكح

(1)

"تفسير سورة النور" ص (37).

(2)

"سبل السلام"(6/ 68).

(3)

"تفسير سورة النور" ص (48).

(4)

"بداية المجتهد"(3/ 73)، "المغني"(9/ 562)، "أضواء البيان"(6/ 72).

ص: 272

العفيفة، وإنَّما زانية مثله أو مشركة، وكذلك الزانية، والآية لم تتعرض للعقد، وعلى هذا يجوز عقد العفيف على الزانية، والعقد بالعفيفة على الزاني، والإشارة في قوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ} إلى الزنا.

والقول بالتحريم قوي، فإن دلالة الآية واضحة، ولا سيما آخرها {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فإن الراجح في مرجع اسم الإشارة أنَّه يعود على النكاح المذكور؛ أي: إن نكاح الزواني حرم على المؤمنين، وحمله على العقد تؤيده أسباب النزول، وهذه الآية مما أشكل على المفسرين؛ لأن حمل النكاح فيها على التزويج لا يلائم ذكر المشرك والمشركة، وحمل النكاح على الوطء لا يلائم أسباب النزول الدالة على أن المراد العقد، ولذا حصل الخلاف في معناها، والظاهر إن شاء الله أنَّه لا إشكال؛ لأن سبب النزول يحدد المراد، ويعين على فهم الآية، كما يقول ابن تيمية، ويكون المراد بها العقد، كما هو قول جمهور المفسرين، وليس المقصود من الآية بيان من يجوز أن ينكحه الزاني ومن لا يجوز، حتَّى يقال: يلزم عليه جواز نكاح المسلم للمشركة والعكس، وإنما المقصود التنفير من الزنا وأهله، وأن المؤمن لا يجوز له أن يقترن بالزانية، كما تدل عليه أسباب النزول، وكذا العكس

(1)

.

وأما آية: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فهي عامة دخلها التخصيص، وقد تقدم لنا أنَّها مخصصة بحديث "لا تنكح المرأة على عمتها" فكذا في هذه الصورة، فإن تابت الزانية أو تاب الزاني جاز نكاحهما بإجماع أهل العلم، والتوبة تحصل بالاستغفار والندم والإقلاع عن الذنب؛ كالتوبة من سائر الذنوب، هذا هو الصواب في ذلك، أما القول بأن توبتها أن تُراود على نفسها فإن أبت فقد تابت، وإن طاوعته فهي لم تتب، فهو قول ضعيف لا يُعَوَّلُ عليه، لظهور فساده

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير سورة النور" للدكتور: ناصر الحميد ص (102).

(2)

"المغني"(9/ 564).

ص: 273

‌ما جاء في أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها حتَّى تنكح غيره

1003/ 35 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: طَلَّقَ رَجُل امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوْجُهَا الأوّلُ أنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَال:"لَا، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ مِنْ عُسَيلَتِهَا مَا ذَاقَ الأوَّلُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق" باب (من جَوَّزَ الطلاق الثلاث)(5261)، ومسلم (1433)(115) من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (طلق رجل امرأته ثلاثًا) ظاهر الحديث أنَّها مجموعة بلفظ واحد، إلَّا إن كان الحديث مختصرًا من قصة رفاعة القرظي، فالمراد طلقها الطلقة الأخيرة من الطلقات الثلاث، فقد ورد في "صحيح مسلم" في قصة رفاعة:(فطلقها آخر ثلاث تطليقات) والراوي للحديثين عائشة رضي الله عنها، فيكون المراد بالرجل في حديث الباب رفاعة القرظي، والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزَّبِير، لكن يشكل على ذلك قولها:(قبل أن يدخل بها) وعبد الرحمن بن الزُّبَير، دخل بها، وذكر الحافظ أن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته مثل ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد.

ص: 274

قوله: (قبل أن يدخل بها) ليس المراد بالدخول مجرد الخلوة، بل المراد الوطء، بدليل آخر الحديث.

قوله: (فقال: لا) أي: لا يتزوجها الأول.

قوله: (من عسيلتها) بضم العين وفتح السين، تصغير عَسَلَة، وهي كناية عن الجماع، ففيه تشبيه لذة الجماع بذوق العسل. وأنث لفظ عسيلة؛ إما لأن المراد اللذة؛ أي: حتَّى يذوق من لذتها، أو لأن العسل مؤنث، أو لأنه يذكر ويؤنث.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلَّا بعد أن تتزوج غيره، ويطأها الزوج الثاني، فيكون المراد بقوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} [البقرة: 23] الوطء، دل على ذلك السنة، كما في هذا الحديث وغيره. قال ابن المنذر:(أجمعوا على أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا أنَّها لا تحل له إلَّا بعد زوج، على ما جاء به حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد سعيد بن المسيب فقال: إن تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد به إحلالًا، فلا بأس أن يتزوجها الأول)

(1)

.

ولعل سعيد بن المسيب لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن، قال الجصاص:(ولم نعلم أحدًا تابعه عليه، فهو شاذ)

(2)

، وعلى هذا فمجرد العقد لا يبيحها للأول.

وقد أبدى بعض العلماء الحكمة من تحريمها عليه حتَّى تنكح زوجًا غيره، وذلك ليرتدع الرجل عن التسرع في الطلاق؛ لأن العودة إليها بعد نكاح زوج آخر مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، خصوصًا إذا كان الزوج الثاني عدوًا للأول أو مناظرًا له

(3)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا

(1)

"الإجماع" ص (102).

(2)

"أحكام القرآن"(2/ 89).

(3)

"صفوة الآثار والمفاهيم"(3/ 105).

ص: 275

حصل الجماع من الزوج الثاني، والمراد: أن يكون وطئها منتشرًا بحيث يحصل جماع تام يذوق به كل واحد منهم عسيلة الثاني، وشرط ذلك أن يكون الثاني قصد بنكاحها الرغبة ودوام العشرة، ولم يرد به تحليلها للأول، فإن كان كذلك لم تحل له، كما تقدم.

كما يشترط أن يكون النكاح صحيحًا، قال الوزير ابن هبيرة:(اتفقوا على أنَّه إنما يقع الحل بالوطء في النكاح الصحيح)

(1)

. فإن كان غير صحيح؛ كشغار أو بلا ولي لم يحصل به تحليل؛ لأن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ} والنكاح الفاسد وجوده وعدمه سواء، والشرع لا يعلق على النكاح الفاسد أو الباطل حكمًا شرعيًّا.

وفي الآية شرط ثالث، وهو أن يترجح عندهما التمكن من إقامة حدود الله تعالى، وذلك بإعطاء كل واحد منهما حقوق صاحبه مع حسن العشرة، ولا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات، قال تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} [البقرة: 230].

• الوجه الخامس: اختلف العلماء في المراد بالعسيلة في الحديث على قولين:

الأول: أن المراد به المجامعة، وهو تغييب الحشفة من الرجل في قُبلها، وإن لم ينزل؛ لأن المقصود ذوق العسيلة، وهو حاصل بالجماع ولو لم ينزل، وهذا قول الجمهور.

والثاني: أن المراد: نزول المني، وأن التحليل لا يكون إلَّا بذلك، وهذا قول الحسن البصري، وكأنه رأى أن ذوق العسيلة لا يحصل إلَّا بالإنزال. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإفصاح"(2/ 159).

ص: 276

‌باب الكفاءة والخيار

هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله للأحاديث المتعلقة بموضوع الكفاءة بين الزوجين، والأحاديث المتعلقة بموضوع الخيار في إمضاء النكاح أو فسخه عند وجود سببه؛ كالأمة تعتق تحت العبد، فإن لها الخيار في إمضاء النكاح أو فسخه، وكأن يسلم وتحته أكثر من أربع، أو تحته أختان، ونحو ذلك.

وأما الكفاءة: فهي بالفتح والمد والهمزة، ومعناها: المماثلة والمساواة، والكفء في اللغة: النظير والمثيل والمساوي، وكل شيء ساوى شيئًا فهو مكافئ

(1)

، ومنه قوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، أي: لم يكن له أحد مساويًا في جميع صفاته.

والمراد هنا: الكفاءة في النكاح، ومعناها: أن يكون الرجل مساويًا للمرأة ونظيرها، وذلك في خصال محددة؛ كالدين، والنسب، والحرية، والصنعة، ونحو ذلك مما يذكره الفقهاء في هذا الباب.

وهذه الخصال ليست موضع إجماع بين أهل العلم، ولهذا فإن أصحاب كل مذهب يذكرون الخصال التي أداهم اجتهادهم إلى اعتبارها، ولم أر من عرف الكفاءة تعريفًا جامعًا إلَّا الخطيب الشربيني الشَّافعي، فإنه قال:(الكفاءة شرعًا: أمر يوجب عدمه عارًا)

(2)

.

وقد نصَّ أهل العلم على أن الكفاءة معتبرة في جانب الرجال للنساء، وليست معتبرة في جانب النساء للرجال، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي،

(1)

"النهاية"(4/ 180)، "المطلع" ص (215)، "المصباح المنير" ص (537).

(2)

"مغني المحتاج"(3/ 165)، "أحكام الزواج" ص (196).

ص: 277

ولأن المرأة هي التي تستنكف لا الرجل؛ لأنها المستفرشة، فأما الزوج فهو المستفرِش، فلا تلحقه الأنفة من قبلها، ولأن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه، فلم تعتبر الكفاءة في الأم

(1)

.

(1)

"بدائع الصنائع"(2/ 320)، "المغني"(9/ 397).

ص: 278

‌ما جاء في اعتبار الكفاءة في النكاح بالنسب

1004/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكفَاءُ بَعضٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكفَاءُ بَعْضٍ، إلَّا حَائِكًا أوْ حَجَّامًا"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَفي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم.

1005/ 2 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البيهقي (7/ 134) من طريق الحاكم، عن شجاع بن الوليد، حدَّثنا إخواننا، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، به مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه من لم يُسمَّ، قال البيهقي:(هذا منقطع بين شجاع وبين ابن جريج، حيث لم يُسَمِّ شجاعٌ بعضَ أصحابه).

وفيه -أيضًا- ابن جريج، وهو مدلس، وقد عنعنه، قال ابن أبي حاتم: قال أبي: (هذا كذب لا أصل له)

(1)

. وقال ابن عبد البر: (لا يصح عن ابن جريج)

(2)

.

(1)

"العلل"(1236)، وانظر:"إرشاد الفقيه"(2/ 149) فقد نقل ابن كثير كلام أبي حاتم.

(2)

"التمهيد"(19/ 165).

ص: 279

والحديث لم أجده في "مستدرك الحاكم" إلَّا أن يكون في غيره، فالله أعلم.

وأخرجه البيهقي (7/ 135) من طريق عمران بن أبي الفضل، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، نحوه، قال أَبو حاتم:(هذا حديث منكر)

(1)

.

وقال البيهقي عن هذا الإسناد: (وهو ضعيف بِمَرَّة)، وقال ابن حبان عن عمران بن أبي الفضل:(كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، على قلة روايته، لا يحل كتابة حديثه إلَّا على جهة التعجب)، ثم ساق حديثه هذا، فيكون قد حكم عليه بالوضع

(2)

.

وقال ابن عبد البر عنه: (حديث منكر موضوع)

(3)

.

وأما حديث معاذ رضي الله عنه فقد أخرجه البزار في "مسنده"(7/ 121) من طريق سليمان بن أبي الجون، حدَّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضها كفاء لبعض، والموالي بعضها كفاء لبعض".

وهذا سند ضعيف، قال عبد الحق:(خالد بن معدان لم يسمع من معاذ)، نقله عنه ابن القطان، وأقره، ثم قال:(وسليمان بن أبي الجون لم أجد له ذكرًا)

(4)

.

قال الألباني: (وجملة القول أن طرق الحديث أكثرها شديد الضعف، فلا يطمئن القلب لتقويتها بها، لا سيما وقد حكم عليه بعض الحفاظ بوضعه؛ كابن عبد البر وغيره، وأما ضعفه فهو في حكم المتفق عليه، والقلب إلى وضعه أميل، لبعد معناه عن كثير من النصوص الثابتة

)

(5)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أكفاء) بسكون الكاف وفتح الفاء مخففة، جمع كفء، والكفء:

(1)

"العلل"(1275).

(2)

"المجروحين"(2/ 105).

(3)

"التمهيد"(19/ 165).

(4)

"الأحكام الوسطى"(3/ 126)، "بيان الوهم والإيهام"(3/ 62 - 63).

(5)

"الإرواء"(6/ 270).

ص: 280

المثيل والمساوي، كما تقدم، والمعنى: أن العرب يتماثلون ويتساوون فيما بينهم، فيتزوج بعضهم من بعض.

قوله: (والموالي) جمع مولى، والمولى يطلق عدة إطلاقات، لكن المراد هنا: العتيق الذي سبق أن مسه الرق ثم عتق.

قوله: (بعضهم أكفاء بعض) أي: يتزوج بعضهم من بعض، فالمولى كفء للمولاة.

قوله: (إلَّا حائكًا) اسم فاعل من حاك الرجل الثوب، فهو حائك؛ أي: نسجه، والحياكة: نسيج الثياب، والجمع: حاكة وحَوَكة.

قوله: (أو حجامًا) هو محترف الحجامة، والمعنى: أن الحائك والحجام ليس بكفء للعربية وإن كان عربيًّا.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على اعتبار الكفاءة بالنسب، وأن العرب كلهم سواء في الكفاءة، وأن الموالي بعضهم لبعض أكفاء، وليسوا أكفاء للعرب، ويستثنى من ذلك ما إذا احترف العربي حرفة الحياكة أو الحجامة، فإن نسبه يسقط ولا يكون كفوًا للعربية.

والقول باعتبار الكفاءة في النسب مذهب الجمهور، كما ذكر الحافظ.

وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث غير صحيح، لما تقدم من أنَّه حديث باطل لا أصل له، ومما يدل على ذلك ما بعده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تتزوج بأسامة بن زيد مع أنَّه قد مسه الرق، وأمر بتزويج أبي هند مع أنَّه حجام، فهذا يدل على أن حديث الباب لا يصح، وأنه معارض بما هو أصح منه، ولعل هذا هو السر في إيراد الحافظ له في هذا الباب، ثم ذكر الحديثين بعده، لبيان عدم صحته، لكونهما يدلان على عدم اعتبار الكفاءة في النسب، ولهذا قال:(لم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(9/ 132).

ص: 281

‌ما جاء في أن النسب غير معتبر في الكفاءة

1006/ 3 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيسٍ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لَهَا: "انْكِحِي أُسَامَةَ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية رضي الله عنه، لها صحبة ورواية، وكانت من المهاجرات الأُول، وذات عقل، وجمال، وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر رضي الله عنه، فخطبوا خطبتهم المأثورة، روى عنها عروة والقاسم وأَبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي، وكل هؤلاء فقهاء، وقد كانت تحت أبي عمرو بن حفص القرشي المخزومي، فطلقها، فتزوجت أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه

(1)

، كما سيأتي في سياق الحديث. قال ابن عبد البر:(وفي طلاقها، ونكاحها بعدُ سنن كثيرة مستعملة)

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب (المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها)(1480) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب، فارسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لكِ علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له،

(1)

تقدمت ترجمته في كتاب "الحج" حديث (760).

(2)

"الاستيعاب"(13/ 129)، "الإصابة"(13/ 85).

ص: 282

فقال: "ليس لكِ عليه نفقة"، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال:"تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده، فإذا حللتِ فآذنيني"، قالت: فلما حللت، ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أَبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد"، فكرهته، ثم قال:"انكحي أسامة" فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت به.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الكفاءة في النسب غير معتبرة، وأنه يجوز زواج القرشية بالمولى الذي قد مسه الرق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد، مع أنَّه ليس كفؤًا لها؛ لأنها قرشية، وهو من الموالي، وأن تصرف نظرها عن معاوية وأبي جهم، مع أنهما من قومها ومن عشيرتها ومن قريش، فدل ذلك على أن الكفاءة في النسب غير معتبرة، وتقدم في كتاب "الحج" حديث ضباعة بنت الزُّبَير وكونها تحت المقداد بن الأسود، فهي هاشمية أرفع منه نسبًا، لكونه من حلفاء قريش، وليس بقرشي، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

وقد حكى ابن أبي موسى هذا القول رواية عن الإِمام أحمد

(2)

، قال الشيخ محمد بن عثيمين:(وهو الصواب)

(3)

، ودليل ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].

(1)

"الإنصاف"(8/ 108).

(2)

"الإرشاد" ص (268).

(3)

تعليقه على "الروض المربع"(517).

ص: 283

‌ما جاء في أن المهنة غير معتبرة في الكفاءة

1007/ 4 - عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: قَال: "يا بَني بَيَاضَةَ، أنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إلَيهِ"، وَكَانَ حَجَّامًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أَبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في الأكفاء)(2102)، والحاكم (2/ 164) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ

(1)

، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه"، قال:"وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة" هذا لفظ أبي داود، ولفظ الحاكم هو لفظ:"البلوغ".

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، قال الألباني عن تصحيح الحاكم:(فيه نظر، فإن محمد بن عمرو إنما أخرج له مسلم متابعة، وهو حسن الحديث)

(2)

.

والحديث حسنه الحافظ في "التلخيص"

(3)

، وقال هنا:(سنده جيد)

(4)

.

(1)

اليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس ومؤخره. "القاموس".

(2)

"الصحيحة" رقم (760).

(3)

(3/ 164).

(4)

الجيد: ما ترقى فيه الحديث من الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحيح. ["معجم مصطلحات الحديث" ص (49)].

ص: 284

وفي إسناد الحديث اختلاف لا يضر أشار إليه الحافظ في "الإصابة"

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يا بني بياضة) هم بطن من بطون الخزرج، إحدى قبيلتي الأنصار، وأصلهم من الأزد من قحطان.

قوله: (أنكحوا) بفتح الهمزة من أنكح الرباعي؛ أي: زوجوه بناتكم.

قوله: (أبا هند) هو مولى فروة بن عمرو البياضي، مختلف في اسمه، قيل: عبد الله، وقيل غير ذلك

(2)

، كان حجامًا، حجم النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي داود، تخلف عن غزوة بدر، وشهد ما بعدها.

قوله: (وانكحوا إليه) بهمزة الوصل أمر من نكح الثلاثي؛ أي: اخطبوا إليه بناته ولا تخرجوه منكم بسبب مهنة الحجامة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الكفاءة في النسب وفي المهنة غير معتبرة في النكاح، وأن الحاجم يكون كفؤًا لقرابته غير الحجامين، ومثل هذا لو كان جزارًا أو خرازًا أو دباغًا، أو نحو ذلك من المهن التي يزدريها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتزويج أبي هند مع أنَّه مولى، وفي الوقت نفسه كانت مهنته الحجامة، وقد كانت من المهن الحقيرة في زمانهم، وهذا يدل على بطلان الحديث الأول.

قال الخطابي: (في هذا الحديث حجة لمالك ولمن ذهب مذهبه في أن الكفاءة بالدين وحده، دون غيره

)

(3)

. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (ومعلوم أن الحجامة، والدباغة، والحياكة، والحدادة فيها مصالح عظيمة للمسلمين، فالذي يقوم بها جدير بأن يشكر لا بأن يهمل، فإهماله وعدم تزويجه معناه التنفير عن هذه المهن النافعة للناس، فكما أنَّه غَلَظ في الحكم هو غلط في المعنى

).

(1)

(12/ 80 - 81).

(2)

"الإصابة"(12/ 80).

(3)

"معالم السنن"(3/ 44).

ص: 285

والصواب في هذه المسألة ما قاله الإِمام مالك، وهو رواية عن الإِمام أحمد، واختار ذلك ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم

(1)

والشوكاني، والشيخ عبد العزيز بن باز، وهو أن المعتبر في الكفاءة هو الدين، بمعنى الصلاح والتقى، وليس النسب، وكل مسلم يعتبر كفؤًا للمسلمة إلَّا إذا كان فاسقًا؛ لأن الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يجني على المرأة، فلا يكون كفؤًا للعفيفة، ولكن لمن كان مثله.

أما ما عدا ذلك فليس عندنا من الأدلة ما يدل على اعتباره، والدليل علي ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]، فدلت الآية على أن البشر في ميزان الإسلام وحكمه جنس واحد، لا يفضل بعضهم بعضًا إلَّا بالتقوى، وأن المسلمين في حكم الله تعالى وشرعه إخوة، وأن الأنساب والأحساب والألوان لا تجعل لأحد فضلًا على غيره، وقد أشار البخاري إلى نصرة هذا القول، حيث قال:(باب الأكفاء في الدين) ثم ساق الأدلة على ذلك.

ولما ساق ابن عبد البر جملة من الآثار الدالة على الحرص على الزواج بالمرأة الصالحة، قال:(هذه الآثار تدل على أن الكفاءة في الدين أولى ما اعتبر واعتمد عليه، وبالله التوفيق)

(2)

.

ومما له صلة بموضوع الكفاءة، ما يتعلق بمسألة القبيلي والخضيري في بعض الجهات، ويراد بالقبيلي: من له أصل، وهو من ينتسب إلى قبيلة معينة، والخضيري: من ليس كذلك، فيمنعون زواج أحدهما بالآخر، مع أن الأصل فيها الجواز، لقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لكن لو أدى ذلك إلى حصول مشاكل ونزاع، فينبغي تجنب ذلك إخمادًا لنار الفتنة، ودرءًا للشر، وقطعًا لدابر الفوضى، وحماية للأعراض والأبدان

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بداية المجتهد) (3/ 31)، "الإنصاف" (8/ 108)، "التمهيد" (19/ 168)، "زاد المعاد" (5/ 159).

(2)

"التمهيد"(19/ 168).

(3)

انظر: "الزواج في الشريعة الإسلامية" ص (47).

ص: 286

‌تخيير الأمة إذا عتقت تحت عبد

1008/ 5 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: خُيِّرَتْ بريرَةُ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، في حَدِيثٍ طَويلٍ.

وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا، أن زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: كَانَ حُرًّا. والأوّلُ أَثْبَتُ.

1009/ 6 - وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أنَّهُ كَانَ عَبْدًا.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

هذا الحديث تقدم ذكره في "البيوع"، وأن البخاري أخرجه في أربعة وعشرين موضعًا من "صحيحه"، ومنها: في كتاب "النكاح"، باب (الحرة تحت العبد)(5097)، وأخرجه مسلم في "العتق"(1504)(14) من طريق مالك بن أَنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّها قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحم، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والْبُرْمَةُ على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وأُدْم من أدم البيت، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: "هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" هذا لفظ مسلم، وفي رواية لمسلم من طريق سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "

وكان زوجها عبدًا) (1504)(11)، وفي لفظ آخر:(13)(وكان زوج بريرة عبدًا).

ص: 287

وفي رواية لمسلم -أيضًا- من طريق شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة رضي الله عنها أنَّها أرادت أن تشتري بريرة

وساق الحديث إلى أن قال: فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حرًّا. قال شعبة: ثم سألته عن زوجها، فقال: لا أدري.

وجاء عند البخاري (6754) أنَّه من قول الأسود بن يزيد الراوي عن عائشة رضي الله عنها، قال البخاري:(قول الأسود منقطع، وقول ابن عبَّاس: رأيته عبدًا، أصح)، قال إبراهيم بن أبي طالب أحد حفاظ الحديث، وهو من أقران مسلم، فيما أخرجه البيهقي عنه:(خالف الأسودُ الناسَ في زوج بريرة) وعلى هذا فرواية الأسود شاذة، والشاذ مردود، أما ما ورد. عن عبد الرحمن بن القاسم فقد تردد فيه، فلا يقوى على معارضة ما اتّفِقَ عليه

(1)

.

وبهذا يتبين أن قول الحافظ: وفي رواية عنها: (كان حرًّا) وهم منه، فإنه من كلام عبد الرحمن بن القاسم لا من كلام عائشة رضي الله عنها، إلَّا إن كان الحافظ يريد رواية التِّرمِذي (1155)، وابن ماجة (1/ 670) من طريق الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان زوج بريرة حرًّا، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وهذه الرواية تمسك بها من قال: إن الأمة تُخير إذا عتقت ولو كانت تحت حر، كما سيأتي.

وأما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب (خيار الأمة تحت العبد)(5258) من طريق عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال:(رأيته عبدًا، يعني زوج بريرة) وفي لفظ (5282): (كان زوج بريرة عبدًا أسود، يقال له: مغيث، عبدًا لبني فلان؛ كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة).

وحديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة حديث عظيم كثير الفوائد، استنبط منه الحافظ ابن حجر قريبًا من مائة وعشرين فائدة، وذكر أن بعض العلماء أفرده

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (15/ 78 - 81).

ص: 288

بمصنف مستقل، وقد مضى جملة من فوائده في "البيوع"، وسنقتصر - إن شاء الله - في هذا الموضع على أهم ما يتعلق بالنكاح.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (خيرت بريرة) مبني لما لم يُسَمَّ فاعله، والذي خيَّرها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في بعض الرويات:(فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهي رواية أبي داود.

وبريرة هي بنت صفوان، مولاة عائشة رضي الله عنها، اشترتها فأعتقتها، وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها قبل أن تشتريها، وقصتها في ذلك في "الصحيحين"، وزوجها هو مغيث مولى أبي أحمد بن جحش الأسدي، وقد عاشت بريرة إلى زمن معاوية رضي الله عنه، وتقدم ذكرها في "البيوع".

قوله: (حين عتقت) عتق من باب ضرب، يعتق عتقًا، وهو زوال الرق، والأمة عتيق، بلا هاء، وربما قالوا: عتيقة

(1)

.

قوله: (والأول أثبت) أي: إنه كان عبدًا، لما يلي:

1 -

أن رواته أكثر، فقد رواه عن عائشة رضي الله عنها القاسم وعروة، وتابعهما غيرهما.

2 -

أن الراوي عن عائشة رضي الله عنها أنَّه كان عبدًا هو القاسم وعروة، وعائشة عمة القاسم، وخالة عروة، فروايتهما عنها أولى من رواية أجنبي يسمع من وراء حجاب؛ لأن آل المرء أعرف بحديثه.

3 -

أن غير عائشة رضي الله عنها روى أنَّه كان عبدًا؛ كابن عبَّاس بطريق الجزم، فلم يبق شك في رجحان عبوديته.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على ثبوت الخيار للأمة بعد عتقها إذا كان زوجها عبدًا، فمإن شاءت تبقى معه، وإن شاءت أن تفارقه، وهذا أمر مجمع عليه، كما نقله النووي وغيره

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" ص (392).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(10/ 296).

ص: 289

• الوجه الرابع: الحديث دليل على اعتبار الحرية في الكفاءة بين الزوجين وأنه شرط، فلا يكون العبد كفؤًا للحرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خير بريرة حين عتقت تحت عبد، وإذا ثبت الخيار في الاستدامة، ففي الابتداء أولى، ولأن العبد منقوص بالرق ممنوع من التصرف، مشغول عن امرأته بحقوق سيده، لا ينفق نفقة الموسرين.

والكفاءة في الحرية ليست شرطًا لصحة النكاح، وإنَّما هي شرط للزومه، فيتوقف ذلك على رضا المرأة والأولياء، بدليل هذه القصة، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فقد ورد عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له: مغيث؛ كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس:"يا عبَّاس ألا تعجب من حب مُغيثٍ بريرةَ، ومن بغض بريرة مغيثًا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو راجعتيه"، فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع"، قالت: لا حاجة لي فيه

(1)

. فدل ذلك على صحة النكاح لو وافقت على البقاء مع زوجها.

• الوجه الخامس: الجمهور من أهل العلم على أن الأمة إذا عتقت تحت حر فليس لها الخيار، لمفهوم قوله في الحديث:(وكان عبدًا) فإن هذا يدل على أن الحر ليس كذلك؛ لأنه لو لم يكن لذلك تأثير لم يكن لذكر هذا الوصف فائدة، فهو وصف مناسب يصح تعليل الحكم به.

ولأن الأصل في النكاح اللزوم والدوام، ولا طريق إلى فسخه إلَّا بالشرع، وقد ثبت في العبد، فيبقى الحر على الأصل، ولأنه لا ضرر عليها ولا عار وهي حرة في المقام تحت حر؛ لأن المكافأة موجودة، وإنما يكون ذلك إذا كانت تحت عبد، كما تقدم.

وخالف في ذلك الحنفية، وسفيان الثَّوري، فقالوا: إن من عتقت فلها الخيار مطلقًا، سواء أكانت تحت عبد أم حر

(2)

، مستدلين برواية:(وكان حرًّا)، وهذا قول مرجوح؛ لأن هذه الرواية شاذة، كما تقدم.

(1)

أخرجه البخاري (5283).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 407).

ص: 290

• الوجه السادس: إذا اختارت الأمةُ بعد عتقها نَفْسَهَا لم يكن للزوج عليها رجعة إلَّا بعقد جديد برضاها، ولا يزال خيارها باقيًا ما لم يطأها، فإذا وطئها سقط خيارها، وذلك لما ورد في إحدى الروايات:"إن قَرَبَكِ فلا خيار لك"

(1)

، وروى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أفتى بذلك، كما روى عن حفصة أنَّها أفتت بذلك

(2)

. قال ابن عبد البر: (لا أعلم لهما مخالفًا من الصحابة)

(3)

، وقال به جمع من التابعين، منهم الفقهاء السبعة

(4)

.

• الوجه السابع: استدل الجمهور بحديث الباب على أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها، ووجه الاستدلال: أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة، ونجَّزت عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، ولو كان بيعها طلاقها لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد بقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} [النساء: 24]، المَسْبِيَّاتُ فقط، وخالف في هذا جماعة من السلف، والله تعالى أعلم

(5)

.

(1)

أخرجه أَبو داود (2236) وفي إسناده محمد بن إسحاق.

(2)

انظر: "الموطأ"(2/ 562 - 563)، "فتح الباري"(9/ 413).

(3)

انظر: "الاستذكار"(17/ 151)، "فتح الباري"(9/ 404).

(4)

انظر: "السنن"(27/ 168)، "المغني"(10/ 71).

(5)

انظر: "تفسير ابن كثير"(2/ 224 - 225).

ص: 291

‌حكم من أسلم وتحته أختان

1010/ 7 - عَنِ الضَّحّاكِ بنِ فَيرُوزَ الدَّيلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، والدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيهَقِيُّ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو الضحاك بن فيروز الديلمي، روى عن أبيه، وروى عنه عروة بن غزية، وكثير الصنعاني، وأَبو وَهْب الجيشاني، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن أبي حاتم ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلًا، قال البخاري:(الضحاك بن فيروز، عن أبيه، وعنه أَبو وَهْب الجيشاني، لا يعرف سماع بعضهم من بعض)، وجزم بجهالته ابن القطان

(1)

.

وأما والده فهو فيروز الديلمي، ويقال له: الحميري، لنزوله بحمير، يكنى أبا الضحاك، وقيل: أبا عبد الله، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى اليمن، فأعان على قتل الأسود العنسي الذي كان تنبأ باليمن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأتاه خبره وهو مريض مرضه الذي مات منه. مات فيروز باليمن في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: في خلافة معاوية رضي الله عنه، سنة ثلاث وخمسين

(2)

.

(1)

"التاريخ الكبير"(4/ 333)، "الجرح والتعديل"(4/ 461)، "الثقات"(4/ 387)، "بيان الوهم والإيهام"(3/ 495)، "تهذيب التهذيب"(4/ 394).

(2)

"الاستيعاب"(9/ 122)، "الإصابة"(8/ 106).

ص: 292

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (29/ 577)، وأَبو داود (2243) في كتاب "النكاح" باب "فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان"، والتِّرمِذي (1129)(1130)، وابن ماجه (1951)، وابن حبان (9/ 462)، والدارقطني (3/ 273)، والبيهقي (7/ 184) من طريق أبي وَهْب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، به.

والحديث حسنه التِّرمِذي، وحسنه -أيضًا- الحافظ في "تخريجه لأحاديث مختصر ابن الحاجب"

(1)

، كما حسنه الألباني

(2)

.

وفي سنده الضحاك بن فيروز وأَبو وَهْب الجيشاني، وقد روى عنهما جمع، ولم يوثقهما إلَّا ابن حبان

(3)

، وقال في كتابه "مشاهير علماء الأمصار" عن الضحاك:(من الأثبات في الروايات)، وقال في أبي وَهْب:(من جلة المصريين ممن صحب الضحاك)

(4)

، وقال البخاري في "تاريخه" بعد سياقه هذا الحديث:(في إسناده نظر)

(5)

. وقال في ترجمة الضحاك: (الضحاك بن فيروز عن أبيه، وعنه أَبو وَهْب لا يعرف سماع بعضهم من بعض)

(6)

وقال في موضع آخر: (سمع الضحاك من فيروز)

(7)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من أسلم وعنده زوجتان وهما أختان أنَّه يلزمه مفارقة إحداهما، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم إلَّا أنَّه قد انعقد الإجماع على ذلك، فقد نقل ابن رشد الاتفاق على أنَّه لا يجمع بين الأختين في عقد نكاح؛ لقوله تعالى في ذكر المحرمات:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]

(8)

. قال ابن كثير عند هذه الآية:

(1)

انظر: "موافقة الخُبر الخَبر"(12/ 201).

(2)

"صحيح موارد الظمآن"(1/ 512).

(3)

"الثقات"(4/ 387)(6/ 291).

(4)

"مشاهير علماء الأمصار" ص (147)(220).

(5)

"التاريخ الكبير"(3/ 249).

(6)

"التاريخ الكبير"(4/ 333).

(7)

"التاريخ الكبير"(3/ 249).

(8)

"بداية المجتهد"(3/ 75).

ص: 293

(أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنَّه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح)

(1)

. وهكذا الحكم في المرأة وعمتها أو خالتها، فيلزمه مفارقة إحداهما؛ لأن المعنى في الجميع واحد. وقال الشوكاني:(فإذا أسلم كافر وعنده أختان أُجبر على تطليق إحداهما، وفي ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم عن المتقدمة منهما من المتأخرة دليل على أنَّه يحكم لعقود الكفار بالصحة وإن لم توافق الإسلام، فإذا أسلموا أجرينا عليهم في الأنكحة أحكام المسلمين.)

(2)

والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير ابن كثير"(2/ 221).

(2)

"نيل الأوطار"(6/ 181).

ص: 294

‌حكم من أسلم وتحته أكثر من أربع

1011/ 8 - عَنْ سَالِمِ عَنْ أَبِيهِ أن غَيلانَ بنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنْ يَتَخَيّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا". رواهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (8/ 220، 251)، والتِّرمِذي (1128)، وابن حبان (9/ 463)، والحاكم (2/ 192) من طريق معمر، عن الزُّهْريّ، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة

فذكره.

وهذا الحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، لكن أعله الحفاظ بأن معمرًا أخطأ فيه، فوصل إسناده؛ لأنه حدث به في العراق من حفظه، وقد رواه عبد الرزاق (12621) عن معمر، عن الزُّهْريّ، أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة

هكذا مرسلًا، وكذا رواه مالك في "الموطأ"(2/ 586).

وقد رجح هذا المرسل جمع من الأئمة، وحكموا على معمر بالوهم فيه، ومنهم البخاري، فإنه قال عن وصله:(إنه غير محفوظ)، وكذا الإِمام مسلم، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة:(المرسل أصح). ومنهم أَبو داود كما في "المراسيل"

(1)

، ونقل الأثرم عن الإِمام أحمد أنَّه قال: (هذا

(1)

"المراسيل" ص (315 - 317).

ص: 295

الحديث ليس بصحيح)، وكذا الدَّارَقُطني، وقال ابن عبد البر:(الأحاديث المروية في هذا الباب كلها معلولة، وليست أسانيدها بالقوية)

(1)

.

وقد ذهب البخاري إلى أن الحديث عن الزُّهْريّ، عن محمد بن سويد الثقفي، أن غيلان بن سلمة أسلم

، نقل التِّرمِذي عنه ذلك في "جامعه"(2/ 422)، وفي "العلل"(1/ 446)، وكذا رجحه أَبو حاتم في "العلل"(1/ 401).

قال البخاري: وإنما حديث الزُّهْريّ، عن سالم، عن أبيه، أن رجلًا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر:(لتراجعن نساءك، أو لأرجمن قبرك، كما رُجم قبر أبي رِغَال)

(2)

.

وهذا الحديث أخرجه أحمد (8/ 251) وغيره، قال الحافظ:(في إسناده مقال)، وعلى هذا فيكون معمر قد أخطأ عندما جعل إسناد هذا الحديث الذي فيه كلام عمر للحديث الذي فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر هذا الإِمام مسلم في "التمييز"، كما نقله عنه الحافظ في "الإصابة"

(3)

، وكذا قال الطحاوي

(4)

.

ونقل الحافظ عن البزار أنَّه قال: (جَوَّدَهُ معمر بالبصرة، وأفسده باليمن؛ فأرسله)، وقال ابن عدي في "الكامل" (1/ 179):(هذا الحديث إنما يرويه معمر، عن الزُّهْريّ، وهو مما أخطأ فيه معمر بالبصرة .. ).

وقد رجح الموصول ابن القطان ومن تبعه، وأطال ابن القطان في مناقشة علل هذا الحديث، وذكر الاختلاف فيه على الزُّهْريّ، ثم قال:(والمتحصل من هذا هو أن حديث الزُّهْريّ عن سالم، عن أبيه، من رواية معمر في قصة غيلان صحيح، ولم يعتلَّ عليه من ضعفه بأكثر من الاختلاف على الزُّهْريّ، فاعلم ذلك)

(5)

.

وأيدوا ذلك بأن الحديث جاء من طريق آخر مثل رواية عمر، وهو طريق

(1)

"العلل" للدارقطني (13/ 123)، التمهيد (12/ 58)، "التلخيص"(3/ 193).

(2)

انظر خبر أبي رغال في "سنن أبي داود"(3088)، "دلائل النبوة" للبيهقي (6/ 297).

(3)

(8/ 66).

(4)

"شرح المعاني"(3/ 253).

(5)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 495 - 500).

ص: 296

سيف بن عبد الله، عن سَرَّار بن مجشِّر، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر

أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1710)، والدارقطني (3/ 272)، والبيهقي (7/ 183)، وذكر الدَّارَقُطني في "العلل"(13/ 124) أن سيف بن عبيد الله قد تفرد به عن سَرَّار.

والذي يظهر هو ما قاله الأئمة الكبار الجهابذة، إذ لا يمكن أن يكون للحديث إسناد صحيح، ثم يجمع هؤلاء الأئمة على رده، وللحديث شاهد من حديث قيس بن الحارث رضي الله عنه رواه أَبو داود (2241)، وابن ماجة (1952)، وله طرق

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن غيلان بن سلمة) هو من ثقيف، بل أحد وجوهها، كان شاعرًا، وقد وفد على كسرى، وله معه قصة وحوار، فأعجب بعقله، وبنى له حصنًا في الطائف، ثم جاء الإسلام فأسلم غيلان بعد فتح مكة، وأسلم معه أولاده، وكان عنده عشر نسوة، وتوفي في خلافة عمر رضي الله عنه

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أنَّه ليس للمسلم أن يتزوج بأكثر من أربع، قال تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، والواو للتخيير؛ أي: اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، بدليل قوله تعالى في آخرها:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، وقد ذكر البخاري في "صحيحه" عن علي بن الحسين رحمه الله أنَّه قال:(يعني: مثنى أو ثلاث أو رباع)

(3)

.

وقد انعقد الإجماع على ذلك، كما حكاه ابن كثير وغيره، إلَّا ما حكي عن طائفة من الرافضة أنَّه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع، وقال بعضهم: بلا حصر

(4)

، وهذا قول فاسد لا يعول عليه، ولا حجة لأحد لا في

(1)

انظر: "الإرواء"(6/ 295).

(2)

"الإصابة"(8/ 63).

(3)

"فتح الباري"(9/ 139)، وانظر:"الاعتصام" للشاطبي (2/ 473 - 475).

(4)

"تفسير ابن كثير"(2/ 182).

ص: 297

الآية الكريمة، ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم في كونه تزوج بأكثر من أربع، فإن هذا من خصائصه، بدليل أنَّه أمر من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على الأربع، ولو لم يكن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ما أمر من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على ذلك، وما ذكره البخاري يعتبر من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة؛ لكونه من تفسير علي بن الحسين، المعروف بزين العابدين، وهو من أئمتهم الذي يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(9/ 139).

ص: 298

‌حكم الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر

1012/ 9 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: رَدّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زينَبَ عَلَى أَبي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيع، بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَّاحِ الأوَّلِ، ولَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةُ إلّا النَّسَائِيَّ، وَصَحّحَهُ أَحْمدُ وَالْحَاكِمُ.

1013/ 10 - وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَينَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أَجْوَدُ إِسْنَادًا، وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ.

1014/ 11 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجَتْ، فَجَاءَ زَوْجُها فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلامي، فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَوْجِهَا الآخِرِ، وَرَدَّها إلى زوجِهَا الأَوَّلِ. رَوَاهُ أحْمَدُ وَأَبو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَة. وَصَحَّحَه ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقد رواه أحمد (3/ 369)، (4/ 195)، وأَبو داود في كتاب "النكاح"، باب (إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها؛)(2240)، والتِّرمِذي (1143)، وابن ماجة (2559)، والحاكم (2/ 200) من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، به.

ص: 299

والحديث في سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث في رواية التِّرمِذي، وإحدى روايات أحمد (4/ 195).

لكن داود بن الحصين تُكُلِّم في روايته عن عكرمة، فقد قال علي ابن المديني:(ما روى عن عكرمة فمنكر)، وقال أَبو داود:(أحاديثه عن عكرمة مناكير، وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة)، وقال الحافظ في "التقريب":(ثقة إلَّا في عكرمة).

والحديث صححه الإِمام أحمد كما سيأتي، وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وقال التِّرمِذي:(ليس بإسناده بأس)، وقال ابن كثير:(هذا إسناد جيد قوي)

(1)

، ومال إلى تقويته الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ اقتداءً بمن صححه من الأئمة

(2)

، ولعل من صححه نظر إلى شواهده، ومنها ما رواه ابن سعد في "الطبقات"(6/ 340) عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال:(قدم أَبو العاص بن الربيع من الشام وقد أسلمت امرأته زينب مع أبيها وهاجرت، ثم أسلم بعد ذلك، وما فُرق بينهما)، وإسناده صحيح إلى الشعبي، ورواه سعيد بن منصور في "سننه"(2107) من طريق داود بن أبي هند، ورواه ابن أبي شيبة (14/ 176) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع حيث أسلم بعد إسلام زينب، فردَّها عليه بالنكاح الأول. وهذا إسناد صحيح إلى الشعبي أيضًا.

وجاء في "مصنف عبد الرزاق"(7/ 171) من طريق معمر، عن عكرمة بن خالد، أن عكرمة بن أبي جهل فرَّ يوم الفتح، فكتبت إليه امرأته فردته، فأسلم، وكانت قد أسلمت قبل ذلك، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحهما، وهذا مرسل صحيح الإسناد.

وأما حديث عمرو بن شعيب فقد أخرجه أحمد (11/ 529)، والتِّرمِذي (1142)، وابن ماجة (2010) من طريق حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به.

(1)

"الإرشاد"(2/ 168).

(2)

"فتح الباري"(9/ 424).

ص: 300

قال التِّرمِذي: (هذا حديث في إسناده مقال)، وذلك لأن الحديث من رواية الحجاج بن أرطاة، ومداره عليه، وهو مدلس قبيح التدليس، يدلس عن المجروحين، ثم إنه لم يسمعه من عمرو بن شعيب، وإنَّما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو ضعيف

(1)

، قال عبد الله بن أحمد:(قال أبي في حديث حجاج: "ردَّ زينب ابنته" قال: هذا حديث ضعيف، أو قال: واهٍ، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنَّما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي: لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث الصحيح الذي روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول)

(2)

.

وقال البخاري: (حديث ابن عبَّاس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده)

(3)

، لكن هذا لا يعني صحة حديث ابن عبَّاس، فإن البخاري لم يحكم بصحته، وإنما قال:(أصح) وهذا يعني أنَّه أقل ضعفًا من حديث عمرو بن شعيب، فالضعف متفاوت، فهو أصح الضعيفين عنده، وهذا يوجد في كلام المتقدمين

(4)

، وقال الدَّارَقُطني:(هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عبَّاس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول)

(5)

.

وقول الحافظ: (قال التِّرمِذي: حديث ابن عبَّاس أجود إسنادًا

إلخ)، الذي في "جامع التِّرمِذي" أن قائل ذلك يزيد بن هارون أحد من روى الحديث عن حجاج، نقله عنه التِّرمِذي، وليس من مقولة التِّرمِذي نفسه.

وأما الحديث الثالث، وهو حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، فقد رواه أحمد (3/ 490)، وأَبو داود (2238) في كتاب "النكاح" باب (إذا أسلم أحد الزوجين)، والتِّرمِذي (1144)، وابن ماجة (1285)، وابن حبان (9/ 467)، والحاكم

(1)

انظر: "الجرح والتعديل"(3/ 156)، "المراسيل" لابن أبي حاتم ص (48).

(2)

"المسند"(11/ 530).

(3)

"العلل الكبير" للترمذي (1/ 452).

(4)

انظر: "تهذيب مختصر السنن"(3/ 122)، "العلل الكبير"(1/ 451 - 461).

(5)

"السنن"(3/ 253 - 254).

ص: 301

(2/ 200) من طريق سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، به.

وقد اختلفت نسخ التِّرمِذي في الحكم على هذا الحديث، ففي بعضها:(هذا حديث صحيح) وفي بعضها: (هذا حديث حسن)، وهو الذي ذكره المزي

(1)

. وقال الحاكم: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه). وهذا فيه نظر، فإن الحديث مداره على سماك بن حرب، وروايته عن عكرمة مضطربة، كما قال ابن المديني، ويعقوب بن سفيان، وجماعة، وقال النَّسائي:(إذا انفرد سماك بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بِأَخَرَة، فكان ربما يلقن).

ونظرًا لتعارض هذين الحديثين - حديث ابن عبَّاس الأول وحديث عمرو بن شعيب - فقد حصل الخلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إن العمل على حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، والجمهور قالوا: إن العمل على حديث عمرو بن شعيب، كما سيأتي.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (ابنته زينب) هي كبرى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: أكبر أولاده، ولدت وللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة، وماتت سنة ثمان، وغسلتها أم عطية رضي الله عنها، تقدم ذكرها في "الصلاة"

(3)

، وفي "الجنائز"

(4)

.

قوله: (أبي العاص بن الربيع) هذا زوج زينب، وهو ابن خالتها، واسمه: لقيط بن الربيع بن عبد العزى، وقيل: القاسم بن الربيع، القرشي العبشمي بينه، قال ابن إسحاق:(كان من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة)، تزوج زينب قبل البعثة بيسير، ثم هاجرت وتركته على شركه، وقد أسلم في المحرم سنة سبع

(5)

، وقيل: قبل الفتح سنة ثمان

(6)

وهاجر، فرد

(1)

"تحفة الإشراف"(5/ 138 - 139).

(2)

انظر: "سير أعلام النبلاء"(5/ 248).

(3)

انظر: الحديث (226).

(4)

انظر: الحديث (545).

(5)

"الطبقات"(8/ 33).

(6)

"البداية والنهاية"(5/ 269).

ص: 302

النبي صلى الله عليه وسلم زينب عليه، توفي أَبو العاص سنة ثنتي عشرة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (بعد ست سنين) هذه رواية التِّرمِذي في "جامعه"، وهي أرجح الروايات في المدة بين هجرة زينب هاسلام زوجها؛ لأنها هاجرت سنة اثنتين من الهجرة، وهو أسلم عام الفتح سنة ثمان، وعلى هذا فالمراد بالست: ما بين هجرتها وإسلام زوجها؛ لأنها هاجرت بعد بدر، وهو أسلم سنة ثمان، وإلَّا فهي قد أسلمت من أول البعثة، فيكون بين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة

(2)

.

وعند ابن ماجة وإحدى روايات أحمد (5/ 322 - 323)، ورواية التِّرمِذي في "العلل":(بعد سنتين)، وكلاهما عند أبي داود، قال ابن كثير:(وهو صحيح)، وجمع بينهما أن الست على ما تقدم، وأما السنتان فالمراد بهما ما بين نزول قوله تعالى:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وبين قدوم العاص بن أبي الربيع مسلمًا، فإن بينهما سنتين وأشهرًا؛ لأنه أسلم سنة ثمان، كما ذكر ابن كثير، والآية نزلت في ذي القعدة سنة ست، قال ابن كثير: (فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التي أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها

)

(3)

. فيكون إسلامه قد تأخر عن وقت تحريم المسلمات على الكفار بسنتين

(4)

.

قوله: (بالنكاح الأول) أي: بالعقد الأول الذي كان في مكة قبل البعثة.

قوله: (ولم يحدث نكاحًا) أي: ولم يعقد له عقدًا جديدًا.

قوله: (فجاء زوجها) أي: الأول.

قوله: (من زوجها الآخِر) بكسر الخاء أي: الأخير.

(1)

انظر: "الاستيعاب"(12/ 24)، "سير أعلام النبلاء"(1/ 330)، "الإصابة"(11/ 231).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 136)، "فتح الباري"(9/ 423).

(3)

"البداية والنهاية"(2/ 221)(5/ 269).

(4)

"البداية والنهاية"(6/ 242)، "تفسير ابن كثير"(8/ 119).

ص: 303

• الوجه الثالث: حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما الأول فيه دليل على أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها الذي دخل بها، ثم انتظرته ولم تتزوج فإنها تحل له بعد إسلامه؛ استصحابًا للعقد الأول قبل البعثة، ولا تحتاج إلى عقد جديد، ولو كان ذلك بعد انقضاء العدة؛ إذ ليس في نصِّ الحديث ما يفيد اعتبارها، وعلى هذا فالمرأة بعد انقضاء عدتها لا ينفسخ نكاحها، بل هي بالخيار إن شاءت تزوجت، وإن شاءت انتظرت زوجها حتَّى يسلم، ثم ترجع إليه، لكن لا ينبغي أن يُفهم من هذا بقاء المعاشرة الزوجية، بل يحرم الوطء ودواعيه منذ إسلامها حتَّى يسلم زوجها فورًا أو أثناء أو بعدها.

وهذا قول جماعة من السلف، منهم الحسن، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنهم، ومجاهد، وآخرون

(1)

، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، ونصره ابن القيم

(3)

، واختاره ابن كثير، فقال:(هذا القول فيه قوة، وله حظ من جهة الفقه، والله أعلم)، وأيده بحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتَّى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه

)

(4)

. قال ابن كثير: (هذا يقتضي أنَّه وإن هاجر بعد انقضاء مدة الاستبراء والعدة أنَّها ترد إلى زوجها الأول ما لم تنكح زوجًا غيره، كما هو الظاهر من قصة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما ذهب إليه من ذهب من العلماء، والله أعلم)

(5)

.

واختار هذا القول الصنعاني -أيضًا- ومن بعده الشوكاني

(6)

؛ لأن حديث الباب دليل واضح في أن العدة ليس لها اعتبار في رد زينب رضي الله عنها على

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(7/ 173)، "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 92).

(2)

"الفتاوى"(32/ 337)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 342).

(3)

"زاد المعاد"(5/ 137)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 317 - 345).

(4)

أخرجه البخاري (5286)، انظر:"فتح الباري"(8/ 667)، (9/ 418).

(5)

"البداية والنهاية"(5/ 271 - 272).

(6)

"سبل السلام"(3/ 226)، "نيل الأوطار"(6/ 185).

ص: 304

زوجها أبي العاص، كما أنَّه دليل واضح على أنَّه ردها إليه بالعقد الأول، ولم يحدث عقدًا جديدًا، قالوا: وحديث ابن عبَّاس وإن كان فيه ضعف، لكن ضعفه أقل من ضعف حديث عمرو بن شعيب.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنَّه متى أسلم أحد الزوجين وتخلف الآخر حتَّى انقضت عدة المرأة المدخول بها انفسخ النكاح

(1)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، وقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [الممتحنة: 10]، كما استدلوا بحديث عمرو بن شعيب. قالوا: ولأن المرأة تنقطع علاقتها بزوجها بتمام العدة.

وأجابوا عن قصة أبي العاص مع امرأته بعدة أجوبة، منها: أنَّها قبل نزول تحريم المسلمات على الكفار، فتكون منسوخة بما جاء بعدها، أو أنَّها كانت حاملًا واستمر حملها حتَّى أسلم زوجها، أو أنَّها ردت إليه بنكاح جديد، كما في حديث عمرو بن شعيب

(2)

.

والراجح هو القول الأول، لقوة دليله؛ فإن حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما ليس فيه ما يدل على اعتبار العدة، ومما يؤيد ذلك أنَّه ثبت بالتواتر إسلام كثيرين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يسلم أحد الزوجين، ويتأخر إسلام الآخر، فلا يسلم إلَّا بعد انقضاء العدة، ومع هذا لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن انقضاء العدة، ولم ينقل أنَّه جدد العقد لأحد، مما يدل على بقاء النكاح، وأما مراعاة العدة وهو أنَّه إذا أسلم في أثنائها ردت إليه، وإن أسلم بعد انقضائها انفسخ النكاح، فلا دليل عليه من نص ولا إجماع، ثم لو كان الإسلام بمجرده فرقة لم تكن فرقة رجعية، بل بائنة، ولا أثر للعدة في بقاء النكاح، وإنَّما أثرها في منع نكاحها للغير، ولو كان الإسلام أنجز الفرقة لم يكن أحق بها في العدة.

(1)

"التمهيد"(12/ 25)، "مغني المحتاج"(3/ 191)، "المغني"(10/ 10)، "الشرح الكبير"(2/ 267).

(2)

راجع "تهذيب مختصر السنن"(3/ 151) حيث ذكر ابن القيم تسعة وجوه لتأويل هذا الحديث.

ص: 305

ومما يؤيد هذا -أيضًا- أنَّه ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه خيَّر امرأة من أهل الحيرة أسلمت ولم يسلم زوجها

(1)

.

ومما يؤيد ذلك أنَّه بإسلامها لم يكن كفؤًا لها، وإذا انتفت الكفاءة أعطيت الزوجة الخيار كقصة بريرة المتقدمة، ولا يرد ذلك قوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ؛ لأن معناها: أن المؤمنة المهاجرة لا ترجع إلى كفار مكة المحاربين، ولا تحل لكافر محارب، ولا يحل لها كافر محارب، وليس في ذلك ما يدل على أن عقد النكاح قد انقطع بين المرأة وزوجها الكافر المحارب، وإنَّما أباحت لها النكاح، فلما جاءت قصة زينب فأثبتت استمرار العقد القديم، دلَّ على أن إباحة نكاح المهاجرة التي لها زوج في أرض الشرك كان على سبيل الرخصة، وإليه يشير قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}

(2)

.

يقول ابن تيمية: "والقول بتعجيل الفرقة خلاف المعلوم بالتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقول بالتوقف على انقضاء العدة -أيضًا- كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ذلك في من أسلم على عهده من النساء والرجال مع كثرة ذلك؛ لأنه لا مناسبة بين العدة وبين استحقاقها بإسلام أحدهما

"

(3)

.

وقال في تضعيف القول بأن الفرقة تقع بمجرد الإسلام: (إن في هذا تنفيرًا عن الإسلام، فإن المرأة إذا علمت، أو الزوج أنَّه بمجرد الإسلام يزول النكاح ويفارق من يحب، ولم يبق له عليها سبيل إلَّا برضاها ورضا وليها ومهر جديد، نفر عن الدخول في الإسلام، بخلاف ما إذا علم كل منهُما أنَّه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراق بينهما إلَّا أن يختار هو المفارقة كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبته ما هو أدعى إلى الدخول فيه)

(4)

.

(1)

"مصنف عبد الرزاق"(6/ 84). وهذا الأثر معلول.

(2)

انظر: "إسلام أحد الزوجين ومدى تأثيره على عقد النكاح" ص (96). مع مراجعة كتاب: "أثر إسلام أحد الزوجين في النكاح".

(3)

"الفتاوى"(32/ 338).

(4)

"أحكام أهل الذمة"(1/ 344).

ص: 306

• الوجه الرابع: استدل العلماء بحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما الثاني على أنَّه إذا أسلم الزوج، وعلمت امرأته بإسلامه فهي على عقد نكاحه، وإن تزوجت باعتبار أن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الأول، فهو زواج باطل، فتنزع من زوجها الآخِر، وتعاد لزوجها الأول؛ لأن زواجها الأول لا يزال قائمًا، ورجح الصنعاني أن زوجها الأول أسلم وهي في العدة؛ إذ لو كان إسلامه بعد إنقضاء عدتها فنكاح الثاني صحيح

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "سبل السلام"(3/ 228).

ص: 307

‌العيوب في النكاح

1015/ 12 - عَنْ زَيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، قال: تَزَوّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَالِيَةَ مِنْ بَنِي كِفَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيهِ وَوَضَعَتْ ثِيَابَهَا، رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْبَسِي ثِيَابَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ"، وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ. رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَفي إسْنَادِهِ جَمِيلُ بْنُ زيدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَاخْتُلِفَ عَليهِ في شَيخِهِ اخْتِلافًا كثِيرًا.

1016/ 13 - وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَال: أَيَّمَا رَجُلٍ تَزَوّجَ امْرَأةً فَدَخَلَ بِهَا فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ، أَوْ مَجْنُونةً، أَوْ مَجْذُومَةً، فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بن مَنْصورٍ وَمَالِكٌ وَابْنُ أَبي شَيبَةَ. وَرِجَالُهُ ثِقَات.

1017/ 14 - وَرَوَى سَعِيدُ أَيضًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه نَحْوَهُ، وَزَادَ: وَبِهَا قَرْنٌ، فَزَوْجُهَا بِالْخِيَارِ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا.

وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَيضًا قَال: قَضَى عُمَرُ رضي الله عنه في الْعِنِّينِ أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

الأول: زيد بن كعب: وهو زيد بن كعب، أو كعب بن زيد الأنصاري، مذكور في "الاستيعاب" و"أسد الغابة" و"الإصابة" وغيرها، وهو الراوي لقصة الغفارية، أما كونه ابن كعب بن عجرة، وأنه روى هذه القصة عن أبيه كعب بن

ص: 308

عجرة، فهذا مما انفرد به الحاكم، كما سيأتي، والذين ترجموا لكعب بن عجرة لم يذكروا له هذه الرواية، قال أَبو حاتم: (هو زيد بن كعب، ومنهم من يقول: كعب بن زيد، واحد، لا يقول: ابن عجرة

)

(1)

.

الثاني: أَبو محمد، سعيد بن المسيب بن حَزْن القرشي المدني، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، أَبوه وجده صحابيان، ولد في المدينة لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه؛ أي: سنة خمس عشرة، ونشأ بالمدينة، وعصره هو عصر التابعين، جمع سعيد بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، قال رحمه الله:(ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة) يعني: لمحافظته على الصف الأول، قال ابن المديني:(لا أعلم في التابعين أوسع علمًا من سعيد بن المسيب)، وقال الحافظ في "التقريب":(اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل)، وقد كان له عنابة شديدة بمرويات عمر وآرائه، وكل ما صدر عنه، حتَّى قيل له:"راوية عمر"، مات بالمدينة سنة أربع وتسعين رحمه الله

(2)

.

• الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث كعب بن عجرة فقد رواه الحاكم (4/ 34) من طريق يحيى بن يوسف الرقي، عن أبي معاوية الضرير، عن جميل بن زيد الطائي، عن زيد بن كعب بن عجرة، عن أبيه، قال:

فذكره.

ورواه سعيد بن منصور (829) عن أبي معاوية، والطحاوي في "شرح المشكل"(2/ 106) من طريق عبد الملك بن مروان، كلاهما (سعيد وعبد الملك) عن أبي معاوية به، ولم يذكرا:(عن أبيه).

وأخرجه الطحاوي (2/ 107) من طريق حفص بن غياث، ومحمد بن

(1)

انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1274)، "الجرح والتعديل"(7/ 161)، "الاستيعاب"(9/ 237، 247)، "أسد الغابة"(4/ 478، 481)، "الإصابة"(8/ 293، 294).

(2)

"طبقات ابن سعد"(5/ 119 - 143). "تهذيب التهذيب"(4/ 74)، "تبصير المنتبه"(4/ 1287)، "سعيد بن المسيب سيد التابعين" للدكتور: وهبة الزحيلي.

ص: 309

أبي حفص، كلاهما عن جميل بن زيد، عن زيد بن كعب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة من بني غفار

الحديث. وهذه متابعة لأبي معاوية علي عدم ذكر (ابن عجرة عن أبيه) وهذا كله من الاختلاف عليه.

وأخرجه أحمد (25/ 417) من طريق القاسم بن مالك المزني أبي جعفر، قال: أخبرني جميل بن زيد، قال: صحبت شيخًا من الأنصار، ذكر أنه كانت له صحبة، يقال له: كعب بن زيد أو زيد بن كعب

فذكره.

وهذا سند ضعيف جدًّا، مداره علي جميل بن زيد، وجميل بن زيد ضعيف، واختلف عليه في شيخه اختلافًا كثيرًا، قال ابن معين:(ليس بثقة)، وقال ابن حبان:(واهي الحديث)، وقال أبو حاتم وأبو القاسم البغوي:(ضعيف الحديث)، وقال البخاري:(لم يصح حديثه)، ونقل البخاري في "تاريخه" عن أبي بكر بن عياش، عن جميل بن زيد، قال: هذه أحاديث ابن عمر، ما سمعت من ابن عمر شيئًا، إنما قالوا: اكتب أحاديث ابن عمر، فقدمت المدينة فكتبتها

(1)

.

وقال ابن عدي: (جميل بن زيد يعرف بهذا الحديث، واضطرب الرواة عنه بهذا الحديث حسب ما ذكره البخاري، وتلوَّن فيه علي ألوان، واختلف عليه من روي عنه

)

(2)

.

ومن وجوه اضطرابه: ما أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 223)، والطحاوي في "شرح المشكل"(2/ 102)، من طريق عباد بن العوام، عنه، عن كعب بن زيد الأنصاري.

وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 223) من طريق محمد بن فضيل، عنه، عن عبد الله بن كعب، قال: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم

وأخرجه الطحاوي (2/ 108) من طريق محمد بن عمر العطار، والبيهقي (7/ 256) من طريق أبي يحيي، كلاهما عنه، عن سعد بن زيد الأنصاري

(1)

"التاريخ الكبير"(2/ 215)، "الجرح والتعديل"(2/ 517)، "تهذيب التهذيب"(2/ 98)، "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 257).

(2)

"الكامل"(2/ 172)، "تهذيب التهذيب"(2/ 98).

ص: 310

وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 223)، وأبو يعلى (5299)، والطحاوي (2/ 104)، وابن عدي (2/ 171)، والبيهقي (7/ 213 - 257، 214)، من طرق عن جميل بن زيد، قال: سمعت ابن عمر يقول: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم

قال الألباني: (وجملة القول أن الحديث ضعيف جدًّا، لوهاءِ جميل بن زيد، وتفرده به، واضطرابه)

(1)

، ثم إن معناه فيه نظر، فإنه ليس من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لها في الحال: الحقي بأهلك، فإن هذا لا يقوله آحاد الناس، فكيف بالمصطفي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عنه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}

(2)

[القلم: 4]؟!

وأما حديث سعيد بن المسيب، فقد رواه سعيد بن منصور (1/ 212) باب (من يتزوج امرأة مجذومة)، ومالك في "الموطأ"(2/ 526)، وابن أبي شيبة (4/ 175) كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه به.

وهذا الأثر رجاله ثقات كما قال الحافظ، لكن لا يلزم من هذا صحته، ولهذا لم يصرح بصحة السند، وقد ضعفه جماعة من أهل العلم بأن سعيدًا لم يسمع من عمر رضي الله عنه، كما قال ابن معين وأبو حاتم، فيكون منقطعًا، ولعل الحافظ ذكر التابعي، وهو سعيد، ليفهم القارئ الانقطاع في السند.

قال الإمام مالك: (لم يسمع سعيد من عمر، ولكنه أكبَّ على المسألة في شأنه وأمره، حتى كأنه رآه)، ويؤيد ذلك ما ذكره بكير بن الأشج، قال: سُئل سعيد بن المسيب هل أدركت عمر بن الخطاب؟ فقال: لا، وقيل لابنه يحيي: يصح سماع سعيد من عمر؟ قال: لا، إلا رؤيةً، رآه علي المنبر ينعي النعمان بن مقرِّن

(3)

. وقال أبو حاتم: (لا يصح لسعيد سماع من عمر، إلا

(1)

"الإرواء"(6/ 326 - 328).

(2)

ذكر هذا المعني الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

(3)

"طبقات ابن سعد"(5/ 120)، "تهذيب التهذيب"(4/ 76).

ص: 311

رؤيته علي المنبر ينعي النعمان بن مقرن)، وقال:(سعيد بن المسيب عن عمر مرسل يدخل في المسند علي المجاز)

(1)

.

وجاء في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم أن أبا طالب قال: قلت لأحمد: سعيد بن المسيب؛ فقال: ومن كان مثل سعيد بن المسيب؟! ثقة من أهل الخير، قلت: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأي عمر وسمع منه: إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟!

(2)

، لكن هذا لا يفيد ثبوت السماع مطلقًا.

وذكر الذهبي أنه سمع من عمر شيئًا وهو يخطب

(3)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن سعيدًا سمع من عمر بعض الروايات؛ لأنه كان عمره ثمان سنوات، وكان ذكيًّا، فلا عجب أن يتذكر شخصية عمر وبعض أقواله علي المنبر، وقد عني بقضايا عمر رضي الله عنه حتى أصبح مرجعًا فيها، ومعلوم أن الانقطاع مظنة الضعف، لكنه هنا مندفع، فتكون رواية سعيد حجة؛ للعلم بالواسطة، ولتقدم الطبقة، وللاهتمام بأحاديث عمر رضي الله عنه، قال ابن عبد البر:(ورواية سعيد بن المسيب عن عمر .. تجري مجري المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم؛ لأنه قد رآه، وقد صحح بعض العلماء سماعه منه، وولد سعيد بن المسيب لسنتين مضتا من خلافة عمر، وقال سعيد: ما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضية ولا أبو بكر ولا عمر إلا وأنا أحفظها)

(4)

. وقال ابن القيم: (وأئمة الإسلام وجمهورهم يحتجون بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن عمر رضي الله عنه، وكان عبد الله بن عمر يرسل إلي سعيد يسأله عن قضايا عمر فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره ولا من بعدهم ممن له في الإسلام قول معتبر في رواية سعيد بن المسيب عن عمر، ولا عبرة بغيرهم)

(5)

.

(1)

"المراسيل" ص (71، 73).

(2)

(4/ 61).

(3)

"تذكرة الحافظ"(1/ 54)، وانظر:"طبقات ابن سعد"(5/ 120).

(4)

"التمهيد"(6/ 303)(12/ 116).

(5)

"زاد المعاد"(5/ 183).

ص: 312

وأما أثر علي رضي الله عنه، فقد أخرجه سعيد بن منصور (1/ 213)، والبيهقي (7/ 215) من طريق الشعبي، عن علي رضي الله عنه، نحوه، بالزيادة المذكورة.

وهذا الأثر ضعيف، لانقطاعه؛ لأن الشعبي لم يسمع من علي رضي الله عنه إلا حرفًا لم يسمع غيره، كما قاله الدارقطني

(1)

. وكأنه عني بذلك ما رواه البخاري "في صحيحه" من طريق الشعبي، عن علي رضي الله عنه في رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وأما أثر سعيد عن عمر رضي الله عنه في العنين فقد أخرجه عبد الرزاق (6/ 253)، وابن أبي شيبة (4/ 207)، والدارقطني (4/ 496)، والبيهقي (7/ 226) وفيه ما تقدم، وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:(يؤجل العنين سنة، فإن جامع وإلا فرق بينهما) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 206) بإسناد صحيح علي شرط مسلم، كما قال الألباني

(3)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (من بني غفار) بكسر الغين المعجمة، قبيلة من قبائل عدنان، ومنازلهم قرب مكة.

قوله: (كشحها) بفتح الكاف، هو ما بين الخاصرة والضلوع.

قوله: (بياضًا) أي: برصًا.

قوله: (الحقي بأهلك) هذه الصيغة من كنايات الطلاق الظاهرة إذا اقترنت بنية.

قوله: (أَيما رجل) هذا لا مفهوم له، فالمرأة إذا وجدت الرجل معيبًا فلها الفسخ.

قوله: (تزوج امرأة) أي: عقد عليها.

(1)

"العلل"(4/ 97).

(2)

"فتح الباري"(12/ 68)، وانظر:"تهذيب التهذيب"(5/ 60).

(3)

"الإرواء"(6/ 324).

ص: 313

قوله: (فدخل بها) الدخول بالزوجة وطؤها، ويطلق علي الخلوة، لكن المراد هنا الأول، بدليل قوله:"بمسيسه إياها" مع قوله: "فإن مسها

".

قوله: (برصاء) البَرَصُ: بفتح الباء والراء مصدر برص -بكسر الراء- وهو بياض يقع في ظهر الجلد، ويذهب دمويته

(1)

.

قوله: (أو مجنونة) الجنون: زوال العقل وذهابه لآفة، ومظهره جريان التصرفات القولية والفعلية علي غير نهج العقلاء.

قوله: (أو مجذومة) الجذام بضم الجيم، علة يحمر منها العضو، ثم يسود، ثم يتقطع ويتناثر، ويتصور ذلك في كل عضو، لكنه في الوجه أغلب

(2)

.

قوله: (بمسيسه) المسيس: بفتح فكسر، المراد به هنا الجماع، قال تعالي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، والمعنى: أن ما بها من الجنون والجذام والبرص لا يوجب استباحة بضعها دون عوض.

قوله: (وهو له) الضمير الأول يعود علي الصداق، والثاني علي الزوج.

قوله: (على من غره) أي: أوهمه أن المرأة لا عيب فيها فاتضح أنها معيبة، فالغَارُّ: هو من علم بالعيب وكتمه من زوجة عاقلة، أو ولي، أو وكيل.

قوله: (أو بها قَرْنٌ) مصدر قرنت المرأة بكسر الراء تقرن قرنًا بالفتح، إذا كان في فرجها قَرْنٌ، بسكون الراء، وهو عظم أو لحم سميك ينبت في الفرج يمنع من ولوج الذكر

(3)

.

قوله: (العنين) هو العاجز عن الإيلاج لمرض أصابه أو لضعف خلقته أو كبر سنه، والعنة بالضم: العجز عن الجماع، وهي مصدر عُنَّ الرجل عُنة

(4)

.

(1)

"الصحاح"(3/ 1029)، "الدر النقي"(3/ 634).

(2)

"الدر النقي"(3/ 632).

(3)

"المطلع" ص (323).

(4)

"المصباح المنير" ص (433).

ص: 314

* الوجه الرابع: هذا الحديث وما بعده من الآثار تتعلق بالعيوب في النكاح التي يثبت فيها الخيار، والعيوب: جمع عيب، وهو نقص بدني أو عقلي في أحد الزوجين يمنع من تحصيل مقاصد الزواج والتمتع بالحياة الزوجية

(1)

، والعيوب التي ذكرها الفقهاء منها ما هو خاص بالرجل، وأهمها ثلاثة: الجَبُّ والخِصَاءُ والعُنَّةُ. ومنها ما هو خاص بالمرأة، وهما اثنان: القَرَنُ والرَّتَقُ. ومنها ما هو مشترك، وأهمها ثلاثة: الجذام والجنون والبرص. ولم يرد في الباب أحاديث صحيحة، وإنما الاعتماد علي هذه الآثار وما شابهها مما ورد عن الصحابة رضي الله عنه على ما في بعضها من مقال، مع ما يضاف إلي ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا"، وقوله: "الدين النصيحة

"، فليس لأحد أن يغش الزوج أو الزوجة، وليس للزوج أن يكتم عيوبه، ولا للمرأة أن تكتم عيوبها.

ومما يدل علي أهمية العيوب في النكاح أن فقهاء الشافعية والمالكية اعتبروا السلامة من العيوب أحد خصال الكفاءة، وعللوا لما ذهبوا إليه بأن النفس تعاف صحبة من به عيب، ويختل بهذه العيوب مقصود النكاح، حتى إن ابن رشد وضع قاعدة تدل علي قول من يذهب هذا المذهب، فقال:(كل من يقول برد النكاح من العيوب، يجعل الصحة من الكفاءة)

(2)

.

فالدليل علي هذه المسألة هو الأثر، ويضاف إليه النظر، فإن الأصل في عقد النكاح السلامة من العيوب كغيره من العقود، فكأن عدم العيب مشروط في العقد؛ ولأن السلامة من العيوب كالمشروط عرفًا؛ لأن الإطلاق في العقود ينصرف إلى السلامة.

* الوجه الخامس: ذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم المالكية والشافعية والحنابلة إلي ثبوت فسخ النكاح إذا وجد عيب في أحد الزوجين، على تفاصيل عندهم في تعيين العيوب التي يفسخ بها النكاح، مستدلين بما

(1)

"الفرقة بين الزوجين" ص (120).

(2)

"مغني المحتاج"(3/ 165)، "بداية المجتهد"(3/ 32)، "أحكام الزواج" ص (234).

ص: 315

ورد في الباب من آثار، ولأن المرأة أحد الزوجين، فجاز أن ترد بعيب يمنع المقصود من النكاح.

وقال الحنفية: إن الزوج لا حق له في الفسخ لعيب في المرأة استغناءً بما له من الطلاق، وسترًا على المرأة، وتجنبًا للتشهير بها، وليس للزوجة حق الفسخ في العيوب المنفرة.

وللزوجة حق الفسخ بالعيوب المانعة من الوطء، وهي الجب والعنة والخِصاء؛ لأنها تخل بالمقصود الأول من الزواج، وهو التناسل، وزاد محمد بن الحسن والطحاوي العيوب التي لا يمكن المقام معها إلا بضرر، مثل الجذام والبرص والجنون

(1)

.

وقال داود وابن حزم ومن وافقهما لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة

(2)

، ولا خيار لأحد من الزوجين، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وأما المرأة فليس لها إلا البقاء أو الخلع، لعدم الدليل الشرعي على ثبوت هذا الحق لأحدهما، ولا حجة فيما يروي من آراء الصحابة؛ لأن قول الصحابي ليس بحجة، وخاصة فيما هو مجال للرأي، وقد أيد الشوكاني رأيهم

(3)

.

* الوجه السادس: اختلف العلماء في العيوب التي يفسخ بها النكاح، فمنهم من خصها بعيوب معينة؛ كعيوب الفرج والجذام والجنون والبرص؛ لأن ذلك هو المروي عن الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم من عَمَّمَ.

وأظهر الأقوال في ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم، حيث قال: (والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا قط، ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغبن به

)، فيدخل في ذلك العمي والخرس وانقطاع اليدين أو الرجلين أو إحداهما والبخر فإن هذه من أعظم

(1)

"بدائع الصنائع"(2/ 327).

(2)

"المحلى"(10/ 58).

(3)

"نيل الأوطار"(6/ 178).

ص: 316

المنفرات المنافية لمقاصد الزواج. وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

، واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي

(2)

.

والحق أن موضوع العيوب من الأهمية بمكان، والواجب على القضاة أن يعتنوا به وأن ينصفوا الرجال والنساء في ذلك، وعليه أن يجتهد فلا يفسخ النكاح إلا بما يصلح أن يكون عيبًا، وعليه أيضًا ألا يتقيد بعيوب معدودة لا يفسخ إلا بها، فقد يكون هناك عيوب لم يذكرها الأولون مساوية لما ذُكر أو أعظم منها.

* الوجه السابع: الحديث دليل على أن من وجد في زوجته عيبًا بعد الدخول بها، فإن لها المهر الذي أعطاها كاملًا، سواء حصل وطء أو خلوة على أحد القولين في ذلك، لما روى مالك، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المرأة إذا تزوجها الرجل أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، وهذا موقوف صحيح على ما تقدم

(3)

، ومثله ورد عن علي رضي الله عنه

(4)

.

وذهب ابن عباس وابن حزم وجماعة إلى أن لها نصف الصداق، فقد ورد عن ابن عباس أنه كان يقول:(إذا دخلت عليه امرأته ثم طلقها، فزعم أنه لم يمسها قال: عليه نصف الصداق)

(5)

. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، والمراد بالمس: الجماع، أما إذا كان الفسخ قبل الدخول فلا مهر لها، سواء أكان الفسخ منه أو منها؛ لأنه إن كان منها فقد جاءت الفرقة من قبلها، وإن كان منه فإنما فسخ لعيبها الذي دلسته عليه بالإخفاء.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 183)، "الفتاوى"(32/ 161).

(2)

"المختارات الجلية" ص (105).

(3)

"الموطأ"(2/ 528)، وأخرجه سعيد بن منصور (1/ 201).

(4)

رواه سعيد بن منصور (1/ 201)، والبيهقي (7/ 255) بإسناد صحيح.

(5)

أخرجه سعيد (1/ 204)، وفي سنده ليث ابن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط، إلا أن له شاهدًا عند البيهقي (7/ 254) من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس نحوه، ورواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس فيها مقال، لكن تصلح لتقوية طريق ليث بن أبي سليم ["أحكام النكاح" ص (141)].

ص: 317

* الوجه الثامن: يثبت حق الفرقة بين الزوجين إذا وُجِدَ عيب على التراخي عند الحنفية والحنابلة، فلا يسقط بالسكوت؛ لجواز أن يكون من باب التريث ورجاء الشفاء، وإنما يسقط بما يدل على الرضا به صراحة أو دلالة، بأن تقول: رضيت، أو أسقطت حقي، أو توافق على عقد الزواج من نفسها إلا العُنة عند الحنابلة، فلا يسقط بها حق الفرقة بالتمكين؛ لجواز أن يكون من باب التريث ورجاء الشفاء، وقالت الشافعية والمالكية: إن ثبوت حق الفرقة فوري إذا وجد عيب، فإذا سكت عنه صاحبه حتى مضي وقت يمكنه فيه رفع الأمر للقاضي، ولم يرفعه عُدَّ راضيًا به.

والرأي الأول قوي، لقوة مأخذه

(1)

، ولوقيل: إن الأمر يرجع فيه إلي اجتهاد القاضي، ما كان بعيدًا ليختار أحد القولين حسب المصلحة.

* الوجه التاسع: اختلف العلماء فيما إذا غُرَّ الزوج بالعيب وحصل الفسخ بعد الدخول، فهل له رجوع بالمهر، وعلى من يرجع؟ على قولين:

الأول: أنه يرجع بالمهر على من غرَّه من ولي أو وكيل؛ لأنه غُرْمٌ لحِقَ الزوج بسبب هذا الغارّ، وهذا قول مالك وأصحاب الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد

(2)

، واستدلوا بقول عمر رضي الله عنه:(وهو له على من غره منها)، بشرط أن يكون الولي أو الوكيل عالمًا بالعيب، فإن كان جاهلًا فلا غرم عليه؛ لأن قوله:(على من غَرَّه) يدل على أن الولي أو غيره حصل منه الغرر، ولا غرر إلا مع العلم.

والقول الثاني: أنه لا رجوع للزوج على أحد؛ لأنه قد لزمه المهر بمسيسه إياها، فهو كالمبيع المعيب إذا أكله ثم علم عيبه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، ورواية عن أحمد، لكنه رجع عنها كما ذكر ابن قدامة

(3)

، ومن بعده الزركشي

(4)

، ولهذا اقتصر أكثر فقهاء الحنابلة على الرواية الأولى

(5)

.

(1)

"الفرقة بين الزوجين" ص (124).

(2)

"المغني"(10/ 64).

(3)

"المغني"(10/ 64).

(4)

(5/ 250).

(5)

"الكافي"(2/ 687)، "المبدع"(7/ 111).

ص: 318

واختار هذا القول الشوكاني بناءً منه على أن قول عمر رضي الله عنه لا يصلح للاستدلال به لأنه قول صحابي، وتضمين الغير بلا دليل لا يحل

(1)

، والقول بالرجوع فيه وجاهة أخذًا بقول عمر رضي الله عنه، ولأن فيه منعًا للتغرير؛ لأن الغار من ولي أو غيره إذا علم برجوع الزوج عليه قد يرتدع عن تغريره.

* الوجه العاشر: الحديث دليل على أن العُنة عيب يفسخ بها النكاح بعد تحققها، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، لكن يؤجل سنة من حين رفعته للحاكم، ما لم يكن هناك مانع من مرض أو إحرام، لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن وطئ فقد تبين أنه ليس بعنين، وإلا خيرت بين المقام معه وبين فراقه، لقضاء عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، كما استدلوا بقوله تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ومن الإمساك بالمعروف: الجماع، ويمكن أن يستفاد من الطب الحديث في مسألة العنة.

* الوجه الحادي عشر: من العيوب في النكاح العقم، وهو عدم الولادة، والأظهر من قولي أهل العلم أنه عيب يثبت به الخيار للمرأة إذا بان الزوج عقيمًا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن إبراهيم، وذلك لأن تحصيل الولد من أهم مقاصد النكاح

(2)

.

أما إذا كانت الزوجة عقيمة، فقد قيل: إنه ليس بعيب؛ لأن الزوج له أن يتزوج بأخرى ويبقيها معه، لمودته إياها، بل نقل القرطبي الإجماع على أن العقيمة التي لا تلد لا تُرد

(3)

، وهو ظاهر اختيار الشيخ ابن إبراهيم، ولم يتعرض شيخ الإسلام لعقم الزوجة، ولعله يرى أن الرجل إذا كان متشوفًا للولد فإنه يستطيع أن يتزوج بأخرى، بخلاف المرأة فإن ذلك لا يمكن في حقها، فلذا أثبت لها خيار الفسخ إذا كان زوجها عقيمًا.

(1)

"نيل الأوطار"(6/ 178).

(2)

"الاختيارات" ص (222)، "زاد المعاد"(5/ 181 - 182)، "فتاوى ابن إبراهيم"(10/ 165).

(3)

"تفسير القرطبي"(3/ 94).

ص: 319

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث رجلًا على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فلما قدم على عمر ذكر له ذلك، فقال: هل أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلمها، ثم خيرها

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (6/ 162)، وسعيد (2/ 55) ورجاله ثقات.

ص: 320

‌باب عشرة النساء

العشرة: بكسر العين، اسم مصدر من عاشر معاشرة وعشرة، والعشير: القريب والصديق، وعشير المرأة: زوجها؛ لأنه يعاشرها وتعاشره، والمعنى: عِشْرةُ الرجالِ الأزواجِ النساءَ؛ أي: الزوجات، فهو من إضافة المصدر إلي مفعوله. والمراد بها هنا: ما يكون بين الزوجين من الألفة والاجتماع والمعاملة.

وقد أوجب الله تعالى على كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] أي: بما يقره الشرع والعرف من إحسان الصحبة، وكف الأذي، وأن يعاملها باللين لا بالظلم والعنف والشدة والجهل والهجر بدون ذنب، وأن يراعي خلقتها وفطرتها، ويعفها ويلبي نداء الغريزة، ولا يكلفها من الأمور ما لا تطيقه، وأن يؤدي حقها ويشاركها في سرورها وحزنها، وينفق عليها بالمعروف، ولا يبخل عليها بما تطلب، ويؤانسها في المنزل، فلا يدعها وحدها، ويعلمها إن جهلت، ويحلم إن غضبت، ويحترم أهلها وقرابتها، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] فبينت الآية أن الحقوق بين الزوجين متبادلة، فكما أن على المرأة حقًّا لزوجها، فإن لها أيضًا عليه حقًّا، إلا أن حق الرجل عليها أعظم وأعلى؛ لأن عليه الرعاية والكفاية والحماية، كما قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. فعليها أن تطيع زوجها في غير معصية، وأن تجيب مطالبه وتحقق رغباته، وأن تحفظه في نفسه وماله، وتقوم بتربية أولاده، وتحترم أهله وأقرباءه.

والواجب على المؤمن أن يتقي الله في النساء؛ لأنهن عوان عند

ص: 321

الأزواج؛ أي: أسيرات، والغالب عليهن الضعف، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوانٌ عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك"

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود (3334)، والترمذي (1163)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 264)، وابن ماجه (1851) من طريق سليمان بن عمرو بن الأحوص، قال: حدثني أبي

، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، مع أن سليمان بن عمرو مجهول، كما قال ابن القطان (4/ 287)، ولم يوثقه إلا ابن حبان (4/ 314)، لكن الحديث له شاهد عند أحمد (34/ 299) من طريق علي بن زيد، عن أبي حُرَّة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه، وعلي بن زيد وهو ابن جدعان ضعيف، لكن لا بأس به في الشواهد، وقد وردت الجملة الأولى من الحديث عند البخاري (5185 - 5186)، ومسلم (1470)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -كما سيأتي- وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم (1218) في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع بنحوه، وليس فيه:"فإِنهُنَّ عَوَانٌ عِندَكُم".

ص: 322

‌تحريم إتيان الزوجة في الدبر

1018/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأةً في دُبُرِهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لكِنْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ.

1019/ 2 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَي رَجُلٍ أَتي رَجُلًا أَو امْرَأةً في دُبُرِهَا"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأُعِلّ بِالْوَقْفِ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في جامع النكاح)(2162)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 200)، وابن ماجه (1923)، وأحمد (15/ 457) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلَّد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا، وهذا لفظ النسائي، ولفظ أبي داود:"من أتى امرأته".

وهذا الحديث رجاله ثقات، إلا الحارث بن مخلد، فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

، وقال البزار:(ليس بمشهور)، وقال ابن القطان:(روي عنه سهيل وبسر بن سعيد، ولم تعرف حاله)

(2)

.

وظاهر كلام الحافظ أن الإرسال علة لهذه الرواية، ولم أر أحدًا أعله

(1)

(2/ 136).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 456).

ص: 323

بذلك، فقد ذكره الحافظ ابن القطان وابن حجر ولم يعله أحد منهما بذلك، ولعل الحافظ قصد الرواية الأخرى للحديث، كما ذكر ابن القطان والحافظ نفسه والشوكاني وغيرهم، فقد رواه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 201)، وابن ماجه (639) من طريق وكيع، عن حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهُجيمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها فقد كفر".

قال البخاري: (لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة رضي الله عنه)

(1)

، وهذا انقطاع أطلق عليه إرسال، وقد ذكر الحافظ في "نكته على ابن الصلاح" أن من العلماء من يطلق على المنقطع اسم المرسل، فيعرفون المرسل بأنه ما سقط منه رجل

(2)

. وقد مرَّ له نظير، وهو آخر حديث في باب "الفرائض".

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه الترمذي (1165)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 197)، وابن حبان (9/ 517) من طريق أبي خالد الأحمر، عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب)، والحديث لا بأس برجاله، وأبو خالد الأحمر -واسمه سليمان بن حيان- فيه كلام، وهو ثقة احتج به الشيخان، لكنه يخطئ لسوء حفظه، وقد تكلم عليه الحافظ في مقدمة "فتح الباري"

(3)

، ولخص حاله كعادته في "التقريب" فقال:(صدوق يخطئ)، فلعل حديثه لا ينزل عن درجة الحسن.

ورواه وكيع، عن الضحاك، به موقوفًا، أخرجه النسائي (8/ 197)، قال الحافظ في "التلخيص":(هو أصح عندهم من المرفوع)

(4)

. وقد ذكر الصنعاني أن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأن ما جاء في هذا الحديث هو من الوعيد

(1)

"التاريخ الكبير"(3/ 17).

(2)

"النكت على ابن الصلاح"(1/ 543 - 573).

(3)

انظر: "هدي الساري" ص (407).

(4)

(3/ 206).

ص: 324

الذي ليس للرأي فيه مجال

(1)

.

وقد رويت أحاديث الباب عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي طرقها كلها كلام، وقد نقل الحافظ ابن حجر عن جمع منهم البخاري والذهلي والنسائي والبزار والنيسابوري أنه لا يثبت فيه حديث، ثم قال:(لكن طرقها كثيرة، فمجموعها صالح للاحتجاج به)

(2)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (ملعون) هذا يفيد أنه من الكبائر، ومعناه: مطرود من رحمة الله عز وجل يوم القيامة، بعيد عنها إلا أن يدركه الله بعفوه.

قوله: (من أتى امرأة) هذا لفظ النسائي، ولفظ أحمد وأبي داود (امرأته) وهذا هو المراد هنا، والإتيان كناية عن الجماع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله .. "، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله: (لا ينظر الله) أي: نظر محبة ورحمة ولطف، وهذا المعني ليس بتأويل، إنما التأويل لو قيل: لا ينظر الله؛ أي: لا يرحمه الله، أما على هذا المعنى فقد أثبتنا النظر، وقصرناه على نوع، فقلنا: نظر رحمة .. وهذه العبارة تثبت أصل النظر.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن؛ لأن اللعن لا يكون إلا على فعل محرم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى،

وقال: من وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقب على ذلك عقوبة تزجرهما، فإن عُلم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما)

(3)

.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي

(1)

"سبل السلام"(6/ 103).

(2)

"فتح الباري"(8/ 191).

(3)

"الفتاوي"(32/ 266).

ص: 325

اللوطية الصغرى

(1)

. يعني: الرجل يأتي امرأته في دبرها.

* الوجه الرابع: دل القرآن والسنة والنظر على تحريم إتيان المرأة في دبرها، أما القرآن فقوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] والمراد بالمأُتَى المأمور به: القبل، بدليلين:

الأول: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّي شِئْتُمْ} [البقرة: 223] والحرث: مكان الولد، والقبل هو مكان الحرث؛ أي: بذر الولد بالنطفة، والدبر ليس محلًّا لذلك.

الثاني: قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] والمراد بـ {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الولد، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل، فإن قيل: إن قوله تعالى: (أَنَّى شِئْتُمْ} دليل على إباحة زوجته في دبرها؛ لأن المعنى: من أي مكان شئتم، فالجواب: أن هذا لا يصح لأمرين:

1 -

أن سبب النزول يرد ذلك، كما سيأتي -إن شاء الله- في حديث جابر رضي الله عنه قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فدل ذلك على أن جابرًا رضي الله عنه يرى أن معنى الآية: فأتوهن في القبل على أي حال شئتم ولو كان من ورائها، وتفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما في المصطلح.

2 -

أن هذه الآية إن كانت عامة في الإتيان في أي مكان، فقد جاء تخصيصها بما ورد في السنة من تحريم إتيان النساء في أدبارهن؛ كحديث الباب.

أما دلالة السنة على تحريم هذا الفعل، فحديث أبي هريرة وابن

(1)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(8/ 195 - 196)، وأحمد (11/ 309) وسنده حسن، لكن الراجح وقفه على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فقد قال البخاري في "التاريخ الصغير" (2/ 273):(المرفوع لا يصح)، وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 385) عن الموقوف:(هذا أصح)، والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 252)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 46).

ص: 326

عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الأحاديث، وقد ذكر القرطبي أنها بلغت أربعة عشر حديثًا. وذكر أكثرها الحافظ ابن كثير

(1)

. وتكلم الحافظ ابن حجر في "التلخيص" عن عللها

(2)

.

وأما النظر؛ فأمران:

1 -

أن الله تعالى حرم الفرج في وقت الحيض لأجل القذر العارض له، والدبر أولى بالتحريم للقذر اللازم والنجاسة الدائمة.

2 -

إجماع أهل العلم على أن الرتقاء التي لا يوصل إلي وطئها معيبة، ترد بهذا العيب -كما تقدم-، ولو كان الدبر موضعًا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج؛ لوجود العوض عنه، وهو الدبر.

* الوجه الخامس: لا قيمة لنقل الخلاف في مثل هذه المسألة؛ لوضوح الحكم بدليله، وضعف أدلة المخالف، لئلا يكون نقل الخلاف سلمًا لمن تسول له نفسه أن يفعل هذا الفعل القبيح، لكن ينبغي ذكره لبيان لضعفه، أو عدم صحته، أو لئلا يُغتر به.

وما نسب لابن عمر رضي الله عنهما من القول بإباحته فهو غير صحيح؛ لما ورد في "سنن النسائي" عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: أُكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتي بأن تؤتي النساء في أدبارهن، قال نافع: لقد كذبوا عليَّ، ولكن سأخبرك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يومًا

(3)

، وأنا عنده، حتى بلغ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال يا نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا -معشر قريش- نُجَبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة، ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله سبحانه:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}

(4)

.

(1)

"تفسير ابن كثير"(1/ 384).

(2)

"التخليص"(3/ 204).

(3)

أي: أمسكت المصحف، وهو يقرأ عن ظهر قلب. انظر:["فتح الباري" (8/ 189)].

(4)

"السنن الكبرى"(8/ 189)، قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 384):(هذا إسناد صحيح).

ص: 327

فهذا دليل صريح في نفي ما نسب إلى ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا هو اللائق بمقامه رضي الله عنه والموافق لقول الصحابة رضي الله عنهم.

وكذا ما نسب للإمام مالك، فقد قال رحمه الله لابن هبيرة وعلي بن زيد لما أخبراه أن أناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كذبوا عليَّ، كذبوا علي، كذبوا علي، ثم قال: ألستم قومًا عربًا؟! ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت؟ قال ابن القيم: (وأما الدبر فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه

وقال: ومن هنا نشأ الغلط على من نُقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقًا إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع (من) بـ (في) ولم يظن بينهما فرقًا، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه)

(1)

.

قال القرطبي: (إن هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} لا حجة فيها على المدعَى؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة شهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًّا، بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار

ثم قال: ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، وقد حُذرنا من زلة العالم)

(2)

.

* الوجه السادس: تحريم إتيان الرجل، وأن ذلك من كبائر الذنوب، وهي معصية قوم لوط، وهي معصية شنيعة لم يسبقهم إليها أحد، ولهذا صارت عقوبة فاعلها القتل مطلقًا، سواء أكان بكرًا أم ثيبًا على رأي أكثر أهل العلم، بل نقل فيه الإجماع، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان ذلك في كتاب "الحدود". والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(4/ 257، 261).

(2)

"تفسير القرطبي"(4/ 95).

ص: 328

‌الحث على حسن معاملة الزوجة

1020/ 3 - عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤذِي جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَلِمُسْلِمٍ: "فَإِنْ استَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُها طَلاقُهَا".

* الكلام عليه عن وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث عبارة عن حديثين -كما ذكر الحافظ في "الفتح"- فالأول: إلى قوله: "فلا يؤذي جاره"، والثاني: من قوله: "واستوصوا

" إلخ، أخرجهما البخاري في كتاب "النكاح"، باب (الوصاة بالنساء)(5185 - 5186)، ومسلم (1468)(62) من طريق حسين الجعفي، عن زائدة، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا لفظ البخاري، وأما مسلم فلم يذكر الجزء الأول من الحديث، وإنما ذكر بدله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرًا فليتكلم بخير أو ليسكت، واستوصوا بالنساء

" الحديث.

قال الحافظ: (والذي يظهر أنها أحاديث كانت عند حسين الجعفي، عن

ص: 329

زائدة بهذا الإسناد، فربما جمع، وربما أفرد، وربما استوعب، وربما اقتصر)

(1)

.

وأما رواية مسلم (61) فهي من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع، لن يستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت

" الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي: من كان يؤمن بالله الإيمان الكامل المنجي من عذاب الله تعالى، والموصل إلى رضوانه، فيكون كمال الإيمان متوقفًا على أفعال، منها عدم أذية الجار، ويحتمل أن المراد: المبالغة في الحث على عدم أذية الجار؛ لأن المتصف بالإيمان هو الذي ينقاد لأحكام الشرع.

واقتصر على الإيمان بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد؛ أي: من آمن بالله الذي خلقه، وآمن بأنه مجازيه بعمله، فلا يفعل هذه الخصلة.

قوله: (فلا يؤذي جاره) أي: لا يصدر منه أذي لجاره، بل يدفع عنه أذاه، ويحذر ما يضره، والحديث شامل للأذى القولي والفعلي، وقوله:(يؤذي) كذا بإثبات الياء في "صحيح البخاري" وهو محمول على أن (لا) نافية. أي: فهو لا يؤذي جاره

(2)

.

قوله: (واستوصوا) أي: ليوص بعضكم بعضًا بالنساء خيرًا، وقيل المعنى: أوصيكم بهن خيرًا فاقبلوا وصيتي فيهن، وقيل المعنى: اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن بخير

(3)

.

قوله: (فإنهن خلقن من ضلع) بكسر الضاد، وفتح اللام، ويجوز تسكينها، وهو عظم قفص الصدر، والمراد بذلك خَلْقُ أُمِّنا حواء من ضلع آدم عليه السلام، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] فالنفس الواحدة: آدم، وزوجها: حواء، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(9/ 253).

(2)

"دليل الفالحين"(2/ 139).

(3)

"شرح الطيبي"(6/ 306).

(4)

"تفسير ابن كثير"(2/ 176).

ص: 330

قوله: (وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) الغرض من هذه الجملة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فلا ينكر اعوجاجها، أو أنها لا تقبل التقويم، كما أن الضلع لا يقبله.

قوله: (فإن ذهبت تقيمه كسرته) أي: فإن أردت أن تعدله وترده إلي الاستقامة كسرته وأفسدت تركيبه، لعدم قابليته لذلك، والضمير يعود على الضلع.

قوله: (وإن تركته لم يزل أعوج) أي: وإن تركته ولم تأخذ في إقامته لم يفارق طبيعته، بل يبقى على اعوجاجه؛ لأنه وصفه وشأنه، وكذا المرأة إن أردت الانتفاع بها وصبرت على سوء حالها وضعف معقولها، ونحو ذلك من عِوَجِها دام الأمر، واستمرت العشرة، وإن أردت إقامتها على الجادة وعدم اعوجاجها لم تحصل على ما تريد، بل يؤدي ذلك إلى الشقاق والفراق، وهو كسرها.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أذى الجار، وأن إيذاءه خلل في الإيمان، سواء أكان إيذاء بالقول أم بالفعل؛ لأن الأذي بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريمًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "من لا يأمن جاره بوائقه"

(1)

. قال الحافظ: (فيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان)

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"

(3)

والبوائق: الشرور.

وسيأتي -إن شاء الله- أحاديث في حقوق الجار في كتاب "الجامع" آخر "البلوغ".

(1)

أخرجه البخاري (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.

(2)

"فتح الباري"(10/ 444).

(3)

رواه البخاري (6016)، ومسلم (46) واللفظ له.

ص: 331

* الوجه الرابع: الحديث دليل على عناية الإسلام بشأن المرأة حيث جاءت الوصية بالنساء خيرًا، وتكررت في هذا الحديث وفي مناسبات متعددة، كررها النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدًا على ضرورتها، وبيانًا لفائدتها، وذلك لضعف النساء واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن، وفي عناية الإسلام بالمرأة ورعايتها محافظةٌ على بناء الأسرة وسلامة المجتمع.

* الوجه الخامس: في الحديث توجيه نبوي ودرس تربوي لمعاملة النساء بالتسامح والصبر، وذلك يتم بالمعاشرة الطيبة، والتحمل لما قد يحصل منها ما دام ذلك لا يخل بالدين والشرف والعفاف، وغض النظر عن كثير من اعوجاجها؛ لأن الرجال أقدر على الاحتمال والصبر منهن.

وعلى الزوج أن يجتهد في إصلاحها وتوجيهها حتى تستقيم الحال، وتدوم العشرة، وتبقى المودة والمحبة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"فاستوصوا بالنساء خيرًا" فيه إشعار بأنه ينبغي تقويمها وتوجيهها برفق بحيث لا يبالغ الرجل في ذلك فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه.

أما من يحاسب على كل شيء، ويجحد الحسنات، ويظهر السيئات، فهذا ليس من خلق المؤمن، وليس من العشرة المطلوبة شرعًا، وغالبًا ما تجد هذا المصنف من الناس في عذاب ونكد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر"

(1)

، وقوله:(لا يفرك) بفتح الياء وإسكان الفاء وفتح الراء، يقال: فَرِكَ -بكسر الراء- يَفْرَكُ -بفتحها- فرِكًا وفرَكًا إذا أبغض، والمعنى: لا يبغض المرأة بغضًا تامًّا يحمله على فراقها؛ لأنه إن وجد فيها خلقًا يكره وجد فيها خلقًا مرضيًّا، بأن تكون شَرِسَةَ الخُلُقِ، لكنها ديّنة أو جميلة أو رفيقة به ونحو ذلك

(2)

.

وكثير من الأزواج يريدون الكمال في زوجاتهم، وهذا شيء غير ممكن، وبذلك يقعون في النكد، ويُحرمون من الاستمتاع والمتعة بهن، وربما أدى ذلك إلى الطلاق. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (1470).

(2)

"شرح النووي"(10/ 311 - 312).

ص: 332

‌نهي من طالت غيبته أن يطرق أهله ليلًا

1021/ 4 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزاةٍ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَال:"أَمْهِلُوا حَتَّى تدخلوا لَيلًا - يَعْنِي عِشَاءً - لِكَي تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"، مُتَّفقٌ عَلَيهِ.

وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "إِذَا أَطَال أَحَدُكُمْ الْغَيبَةَ فلَا يَطْرُق أَهْلَهُ لَيلًا".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (تزويج الثيبات)(5079)، ومسلم (715)(57) من طريق سيار

(1)

، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها، قال: قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، فتعجلت على بعير لي قَطوف، فلحقني راكب من خلفي، فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راءٍ من الإبل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما يعجلك" قلت: كنت حديث عهد بعرس، قال:"أبكرًا أم ثيبًا"؟ قلت: ثيبًا، قال:"فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك" قال: فلما ذهبنا لندخل

الحديث.

وأخرجه البخاري -أيضًا- في باب (لا يطرق أهله ليلًا إذا أطال الغيبة

) (5244) من طريق عاصم بن سليمان، عن الشعبي، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أطال أحدكم

" الحديث.

ولعل الحافظ ذكر رواية البخاري لأمرين:

(1)

هو أبو الحكم العنزي.

ص: 333

الأول: أن فيها تقييد النهي بطول الغيبة.

الثاني: ليعرف طالب العلم الجمع بين قوله: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا) وبين قوله: (فلا يطرق أهله ليلًا).

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في غزاة) بفتح الغين المعجمة؛ أي: غزوة، والمراد بها: غزوة تبوك.

قوله: (ذهبنا لندخل) أي: نهارًا.

قوله: (أمهلوا) بفتح الهمزة، أمر من الإمهال، وهو التريث والانتظار.

قوله: (حتى تدخلوا ليلًا) هذا لا يعارض قوله: (فلا يطرق أهله ليلًا) لأن المراد بالليل هنا: أوله، وهو وقت العشاء، كما جاء مفسرًا في سياق الحديث، وأما الليل المنهي عن الدخول فيه على الأهل فهو ما كان بعد ذلك مما تكون فيه المرأة قد نامت غالبًا، وقيل: إن الأول لمن عُلم خبر مجيئه والعلم بوصوله؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم انتظروا خارج المدينة لأجل يبلغ قدومهم إلي المدينة، وتتأهب النساء وغيرهن، وحديث النهي عن الطروق لمن قدم بغتة.

قوله: (لكي تمتشط

) هذا تعليل وبيان لحكمة الأمر بالإمهال والانتظار، وقد جاء في حديث النهي عن الطروق التنبيه على علة أخرى، وهي أنه لا يطرقهم يتخونهم، ويطلب عثراتهم

(1)

.

ومعنى (تمتشط) تسرح شعرها بالمشط وترتبه، يقال: مشطت المرأة شعرها بالمشط: سرحته.

و (الشعثة) بفتح الشين وكسر العين، هي التي انتشر شعرها وتفرق.

قوله: (وتستحد) بفتح التاء، وإسكان السين؛ أي: تزيل الشعر

(1)

"المفهم"(3/ 767).

ص: 334

المرغوب في إزالته بالموسى، وهي الحديدة، أو بأي مزيل كان، وإنما عبر بالاستحداد؛ لأنه الغالب في إزالة الشعر.

قوله: (المغيبة) بضم الميم، هي التي غاب عنها زوجها، ويقال: أغابت المرأة فهي مُغيبة، وأشهدت: إذا حضر زوجها، فهي: مُشهد بغير هاء

(1)

.

قوله: (فإذا أطال أحدكم الغيبة) فيه تقييد النهي بطول الغيبة، فيفهم منه أن من يخرج لحاجته نهارًا ويرجع ليلًا لا يتأتى له ما يُحْذر من الذي يطيل الغيبة، لكن جاء في رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا

(2)

، فظاهر هذا التعميم في طويل السفر وقصيره، ويمكن الجمع بأن من تتوقع زوجته إتيانه مدة غيبته لقصرها فلا بأس بالطروق ليلًا وإلا فهو كالطويل

(3)

.

قوله: (فلا يطرق أهله ليلًا) بفتح الياء وضم الراء مضارع طرق، من باب (قتل)، والطروق: المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل: طارق، وعلى هذا فذكر الليل من باب التبيين والتوكيد.

والقول الثاني: أن أصل الطروق الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق؛ لأن المارة تدفعها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقًا؛ لأنه يحتاج غالبًا إلى دق الباب.

والقول الثالث: أن أصل الطروق السكون، ومنه أطرق رأسه، ولما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي بالليل طارقًا.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المسافر الذي طالت غيبته عن زوجته أن يقدم على أهله ليلًا إذا لم يعلموا بقدومه، وما ذلك إلا خشية أن يقع نظره على ما يكره، من عدم تزين امرأته وتنظفها، فيؤدي ذلك إلى نفرته منها، وهو مشتاق إليها راغب فيها.

(1)

"المفهم"(4/ 219).

(2)

أخرجه البخاري (1801)، ومسلم (3/ 1527 - 1528).

(3)

"دليل الفالحين"(3/ 483).

ص: 335

وذلك أن المرأة قد لا يكون تنظفها وتزينها في غيبة زوجها كتنظفها وتزينها في حضوره، فتكره أن يفاجئها زوجها على حالة لا ترضاها.

أما من أعلم أهله بقدومه في وقت كذا برسالة أو هاتف أو خبر، فإن النهي لا يتناوله، لزوال المحذور، قال ابن أبي جمرة:(فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه)

(1)

.

* الوجه الرابع: ما جاء في هذا الحديث من التوجيه النبوي هو من محاسن الشريعة وكمالها، حيث راعت هذه الأمور الدقيقة بين الزوجين، فلا خير إلا جاءت به، وأرشدت إليه، ولا شر إلا نبهت عليه، وحذرت منه.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينبغي للمرأة أن تتزين لزوجها وأن تظهر أمامه بالمظهر اللائق: في حسن الملبس، وطيب الرائحة، وحسن العشرة؛ لأن ذلك سبب لجلب المودة بين الزوجين ودوام المحبة والوئام. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "بهجة النفوس" لابن أبي جمرة (4/ 86)، "فتح الباري"(9/ 340).

ص: 336

‌تحريم إفشاء الرجل سرَّ زوجته

1022/ 5 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وتُفْضِي إِلَيهِ، ثُمّ يَنْشُرُ سرَّهَا"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (تحريم إفشاء سر المرأة)(1437) من طريق عمر بن حمزة العمري، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته

" الحديث.

وعمر بن حمزة وإن احتج به مسلم، فقد تكلم فيه العلماء، فقد ضعفه الإمام أحمد وقال:(أحاديثه أحاديث مناكير)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، ونقل ابن عدي بسنده عن عثمان بن سعيد قال:(قلت ليحيى بن معين: ما حال عمر بن حمزة الذي روي عن سالم؟ قال: ضعيف)

(1)

، وأورد الذهبي حديثه هذا في ما أُنكر عليه

(2)

، وقد ترجم له البخاري في "تاريخه" وسكت عنه، وعلق له في "صحيحه" بصيغة الجزم في موضعين

(3)

، واحتج به مسلم.

وقد ذكر ابن حبان عمر بن حمزة في "الثقات"

(4)

وقال: (كان ممن

(1)

"الكامل"(5/ 19).

(2)

"الميزان"(2/ 192).

(3)

انظر: "التاريخ الكبير"(6/ 148)، "فتح الباري"(2/ 494)(2/ 192).

(4)

(7/ 168).

ص: 337

يخطئ)، وقال الحافظ في "تهذيبه"(أخرج الحاكم أحاديثه في "المستدرك"، وقال: أحاديثه مستقيمة)

(1)

.

والحديث له شواهد تؤيده وإن كانت لا تخلو من مقال، لكنها باجتماعها يقوي بعضها بعضًا، ومن ذلك حديث أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال:"لعل رجلًا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها" فَأَرَمَّ القوم، فقلت: إي والله يا رسول الله إنهن ليقلن، وإنهم ليفعلون، قال:"فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون"

(2)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن شر الناس

) في بعض نسخ "البلوغ": (إن أشر الناس)، والذي في "صحيح مسلم":(إن من أشر الناس) بإثبات (من) وهي تدل على أنه من أشر الناس، لا أنه أشرهم، ولعل (من) سقطت، أو أن المصنف كتبه من حفظه.

و (أشر) أفعل تفضيل، وقد ذكر النحويون أنه بحذف الهمزة لا بإثباتها، فيقال: شر منه وخير منه، قال تعالى:{مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75] وقال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ أَمَلًّا} [الكهف: 46] وحذف الهمزة لكثرة الاستعمال، لكن إثباتها في هذا الحديث دليل على جواز اللغتين، والحذف أكثر.

قوله: (الرجل يفضي إلى امرأته) أصل الإفضاء في اللغة: المخالطة، وأفضى الرجل إلى امرأته: جامعها، أو خلا بها جامع أو لا، لكن الظاهر أن

(1)

(7/ 437).

(2)

أخرجه أحمد (45/ 564 - 565)، وفيه شهر بن حوشب متكلم فيه، وحفص السراج روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 198)، ومما يشهد له عموم أحاديث حفظ الأمانة، والنهي عن إفشاء السر وكل ما يسبب الوحشة والنفرة بين الزوجين.

ص: 338

المراد هنا الجماع، وخص الرجل بالذكر؛ لأن الغالب وقوع ذلك الأمر من الرجال، و (أل) في الرجل لتعريف الجنس؛ لأنه لا يقصد به معين، فهو في حكم النكرة، ولذا وصف بالجملة المصدرة بالمضارع، ومثله قوله تعالى:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] وقول الشاعر:

ولقد أَمرُّ على اللئيم يسبني

فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني

قوله: (ثم ينشر سرها) أي: ما جرى بينه وبينها حال المخالطة والوقاع.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم إفشاء الرجل سر زوجته وما يقع بينه وبينها من أمور الجماع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، وكذا المرأة منهية عن ذلك، لاستواء الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل عليه الدليل، ولأن علة النهي موجودة، وحديث أسماء المتقدم يؤيد ذلك، والدليل على تحريم ذلك من وجهين:

الأول: وصف فاعله بأنه أسوأ الناس منزلة عند الله تعالى في الدار الآخرة.

الثاني: وصفه بأنه شيطان وشيطانة، مع ما يدل عليه من الوقاحة وسوء الأدب، والعاقل يصرف وقته في طاعة الله، وحديثه في فائدة، ويحذر اللغو الذي قد يؤاخذ عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

* الوجه الرابع: في هذا النهي دلالات أبرزها ما يلي:

1 -

تربية الزوجين على حفظ أسرارهما، ومحافظة كل منهما على ما قد يقع عليه من مستور الآخر.

2 -

حفظ اللسان من اللغو والكلام الذي لا فائدة فيه.

3 -

عناية الإسلام بالبيوت وتحصينها من أسباب الفشل والانهيار.

4 -

الحض على حسن العشرة بين الزوجين، والبعد عن كل ما قد يسبب سوء العشرة.

ص: 339

* الوجه الخامس: ذكر أهل العلم أنه إذا دعت الحاجة إلي ذكر الجماع أو ترتب عليه فائدة؛ كأن يحتاج الزوجان إلى ذكر ما يكون بينهما عند الحاكم، فإن ذلك يجوز بقدر الضرورة، ومن أدلة ذلك حديث عائشة رضي الله عنهما في قصة امرأة رفاعة لما تزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي وادعت ضعفه في الجماع، وفيه: قال عبد الرحمن: (كذبتْ، والله يا رسول الله. إني لأنفضها نفض الأديم

) الحديث

(1)

، ومنها حديث أنس رضي الله عنه في قصة أبي طلحة مع زوجه أم سُليم، وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعرستم الليلة"؟ قال: نعم، قال:"اللهم بارك لهما في ليلتهما" فولدت غلامًا ..

(2)

، ومنها حديث عائشة رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يُكْسِلُ، هل عليهما الغسل، وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل"

(3)

.. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (5825)، ومسلم (1433).

(2)

أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144).

(3)

أخرجه مسلم (350) وتقدم في "الغسل" من كتاب "الطهارة"، ومعني (يُكسل): يضعف عن الإنزال.

ص: 340

‌من حقوق الزوجة على زوجها

1023/ 6 - عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوَيةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيهِ؟ قَال:"تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكتَسَيتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إلا في الْبَيتِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وابْنُ مَاجَهْ وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ والْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (33/ 217)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في حقوق المرأة على زوجها)(2142)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 269)، وابن ماجه (1850)، وابن حبان (9/ 482)، والحاكم (2/ 187 - 188) كلهم من طريق أبي قزعة الباهلي، عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال:

وذكر الحديث.

وهذا حديث رجاله ثقات، وقد صححه ابن حبان والحاكم، وسكت عنه الذهبي، وحسنه الألباني

(1)

. ولعل ذلك من أجل حكيم بن معاوية، فقد قال عنه الحافظ:(صدوق). وقد تقدمت ترجمته وترجمة والده معاوية في كتاب "الزكاة" عند الحديث (605).

وقد علق البخاري في "صحيحه" بعضه بصيغة التمريض، في كتاب

(1)

"آداب الزفاف" ص (280).

ص: 341

"النكاح"، باب (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن) فقال: (ويذكر عن معاوية بن حيدة رفعه: "غير ألا تهجر إلا في البيت"

(1)

.

وهذا الحديث سيذكره الحافظ مرة أخرى في باب "النفقات"، مع اختلاف يسير في ألفاظه عما هنا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما حق زوج أحدنط) أي: زوجة أحدنا، والأكثر حذف التاء، وهو الذي جاء في القرآن وأكثر الأحاديث، قال تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] وجاء إثباتها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل رجل منهم زوجتان، يري مخ سوقهما من وراء اللحم

" الحديث

(2)

. وأما في الفرائض فيقال: زوج وزوجة؛ للتفريق بينهما في الميراث.

قوله: (ولا تقبح) بضم التاء وفتح القاف وتشديد الباء؛ أي: لا تشتم وتسب؛ كأن تقول: قبح الله وجهك، ولا تَعِبْ حديثها، ومنه في حديث أم زرع:(فعنده أقول فلا أُقبَّحُ)

(3)

؛ أي: فلا يقبح قولي عليّ ويرده، بل يقبل مني.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجب على الزوج أن يطعم زوجته من طعامه ويكسوها من كسوته، وكل هذا مقيد بالسعة والمعروف، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"

(4)

. وسيأتي الكلام على نفقة الزوجة في باب "النفقات" إن شاء الله تعالى.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على نهي الزوج أن يضرب زوجه في وجهها؛ لأن الوجه مجمع المحاسن، وهو لطيف، فيظهر فيه أثر الضرب، وربما شأنه، ولأنه مجمع الحواس كالعين والأذن، وربما آذاها الضرب، وقد

(1)

"فتح الباري"(9/ 300).

(2)

أخرجه البخاري (3245)، ومسلم (2834).

(3)

أخرجه مسلم (2448).

(4)

أخرجه مسلم، وسيأتي في كتاب "النفقات".

ص: 342

ورد عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه)

(1)

. وهذا يدل على أن النهي عام في الآدمي من الزوجة والولد والتلميذ وغيرهم، وكذا الحيوان مثل الحمير والخيل والبغال والغنم، وغيرها، وهو في الآدمي أشد، لما تقدم، وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الحدود" إن شاء الله تعالى.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز ضرب الزوجة؛ لأن الشرع ما نهي عن الضرب، وإنما خص النهي بضرب الوجه، فإذا وجد ما يوجب تأديب الزوجة بالضرب فله أن يضربها، بشرط أن يكون ضربًا خفيفًا، وأن يتجنب الوجه وكل ما يخشى عليه الضرر؛ لأن المقصود من الضرب الإصلاح والتأديب، لا الإتلاف والتشويه، قال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقد دلت الآية الكريمة على التدرج في معالجة الزوجة، وأن الضرب هو آخر مراحل العلاج.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على جواز هجر الزوج زوجته بالقدر الذي يراه مناسبًا لتأديبها، وشرط ذلك ألا يكون خارج البيت بحيث يتركها وحدها، لما يترتب عليه من الوحشة والمفاسد التي لا تحمد عقباها، بل يكون هجرها في البيت، فلا يكلمها، أو يغلظ لها في القول، أو يهجرها في المضجع، بحيث ينام معها على فراش واحد، ولا يجامعها، قال تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} . وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره القرطبي وابن كثير

(2)

.

وليس له مدة معينة، أما الهجر في الكلام فهو مقيد بثلاثة أيام فما دونها، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، وقعد في مشرُبة له

)

(3)

أخرجه البخاري في باب قوله تعالى: {الرِّجَالُ

(1)

أخرجه مسلم (2116).

(2)

"تفسير القرطبي"(5/ 171)، "تفسير ابن كثير"(2/ 257).

(3)

المشربة: بضم الراء وفتحها، هي الغرفة العالية. ["فتح الباري" (5/ 116)].

ص: 343

قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} إلي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]

(1)

قال الحافظ: (بسياق الآية تظهر مطابقة الترجمة؛ لأن المراد منها قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} فهو الذي يطابق قوله: (آلى من نسائه شهرًا) لأن مقتضاه أنه هجرهن)، وهذا يدل على جواز الهجر في غير البيت.

وقد اختلف العلماء في الجمع بين هذا الحديث وحديث الباب، فمن أهل العلم من قدم حديث أنس رضي الله عنه على حديث الباب، فأجاز الهجر في غير البيت، وهذا رأي البخاري، فإنه لما ذكر حديث معاوية بن حيدة معلقًا في باب (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن) قال:(الأول أصح) أي: الهجر في غير البيوت أصح إسنادًا.

وقال آخرون: إن الحصر المذكور في حديث الباب غير معمول به، بل يجوز الهجر في غير البيوت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا رأي ابن المنير، كما نقله عنه الحافظ.

وقيل: إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال

(2)

، وقيل: إن كان عنده امرأة واحدة هجرها في البيت، وإن كان عنده أكثر من واحدة هجرهن خارج البيت؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا رأي الشيخ عبد العزيز بن باز.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه لا ينبغي للزوج تقبيح زوجته، وذلك باستعمال الألفاظ السيئة التي تسبب سوء العشرة والنفرة بين الزوجين، مثل: قبحك الله، أو قاتلك الله، أو لعنك الله، وما أشبه ذلك من السب، بل عليه أن يخاطبها المخاطبة الطيبة التي تدعو إلي رقتها عليه وطاعتها له وميلها. لكن من الملاحظ أن سيرة كثير من الناس مع النساء سيرة قبيحة ومعاملة سيئة إلا من عصم الله، وهذا سببه ضعف الإيمان، وقلة العلم والبصيرة والفقه في الدين، كما ساءت سيرة كثير من الزوجات لذلك، فإذا قوي الإيمان وتنور القلب بالعلم أدي كل منهما ما عليه للآخر من حقوق ودامت العشرة الطيبة والمعاملة الحسنة. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(5201).

(2)

انظر: "فتح الباري"(9/ 301).

ص: 344

‌جواز إتيان الزوجة على أي صفة إذا كان في القُبُل

1024/ 7 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذَا أَتَي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا في قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، مُتَّفَق عَلَيه، وَاللَّفْظُ لمُسْلِمٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "التفسير"، باب (قوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (4528)، ومسلم (1435)(117) من طريق سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:

وذكر الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا أتى الرجل امرأته) أي: واقعها وجامعها.

قوله: (من دبرها) أي: من جهة الدبر.

قوله: (في قبلها) أي: في فرجها.

قوله: (كان الولد أحول) أي: جاء الولد الذي يثمره هذا الوطء أحول، والحول: بالفتح، ميلان في بياض العين وسوادها.

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ} أي: زوجاتكم.

قوله تعالى: {حَرْثٌ لَكُمْ} أصل الحرث: محل الإنبات، والمراد به في المرأة: موضع النسل، وهو الفرج. وموضع الحرث معروف في الأنثى بالفطرة التي فطر الله خلقه عليها، حتى الحيوانات العجماوات والوحوش المفترسة لا

ص: 345

تعرف غير هذا السبيل، ولذلك استمرت الخليقة الحيوانية وتكاثرت في الأرض.

قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي: واقعوا زوجاتكم في موضع الحرث، وهو الفرج.

قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: من أين شئتم، والمراد من أي جهة شئتم إذا كان ذلك في القُبل، وقد دل على ذلك سبب النزول.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز إتيان المرأة من أي جهة ما دام أن الجماع في القبل، فله أن يواقعها مقبلة ومدبرة ومستلقية وعلىجنب، وعلى أي جهة، وقد بين هذا الحديث أن معنى قوله تعالى:{أَنَّى شِئْتُمْ} أي: فأتوهن في القبل على أي حالة شئتم، وليس معناها: من أي مكان شئتم، بحيث يستدل بها على إباحة وطء الزوجة في دبرها؛ لأن سبب النزول عَيَّنَ المراد، وقد تقدم الكلام على تحريم وطء المرأة في الدبر.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على بطلان عقيدة اليهود وفِرْيتهم حيث زعموا أن الرجل إذا واقع امرأته من ورائها في فرجها جاء الولد أحول، فقد دل الحديث على أن الرجل له أن يجامع زوجته على أي هيئة إذا كان ذلك في القبل، وأن هذا ليس له أثر على صورة الولد وخَلْقه. والله تعالى أعلم.

ص: 346

‌ما يستحب أن يقوله عند الجماع

1025/ 8 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأتِيَ أَهْلَهُ قَال: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمّ جَنِّبْنَا الشَّيطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَينَهُما وَلَدٌ في ذلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيطَانُ أَبدًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه"، ومنها في كتاب "النكاح"، باب (ما يقول الرجل إذا أتى أهله)(5165)، ومسلم (1434) من طريق منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:

فذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم.

وفي هذا الإسناد اجتمع ثلاثة من التابعين، وهم منصور بن المعتمر، وسالم بن أبي الجعد، وكريب، وهذا من لطائف الإسناد عند العلماء

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لو أن أحدكم) هذا لفظ البخاري في كتاب "الوضوء"

(2)

وغيره، ولفظ مسلم:"لو أن أحدهم" وهو عند البخاري أيضًا، ومرجع الضمير يفسره سياق الكلام؛ كقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]. و (أن) بفتح

(1)

"فتح الباري"(1/ 242).

(2)

رقم (141).

ص: 347

الهمزة بتقدير فعل بعد (لو) لاختصاصها به؛ أي: لو ثبت أن أحدكم، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} [الحجرات: 5].

قوله: (أهله) أي: زوجته.

قوله: (بسم الله) الجار والمجرور متعلق بمحذوف يقدر متأخرًا؛ أي: بسم الله أتحصن.

قوله: (ما رزقتنا) ما اسم موصول، فيدخل في ذلك الجماع؛ لأن الرزق ما ينتفع به البدن، والجماع منه، لما فيه من الفائدة للبدن، ويدخل فيه الولد بغرض حصوله؛ لأنه من الرزق.

قوله: (لم يضره الشيطان) هكذا في البلوغ، والذي في "صحيح مسلم"(لم يضره شيطان) والفعل (يضر) بفتح الراء مشددة؛ لأنه مضعف، والفتح أخف الحركات، ويجوز الضم، فتحرك اللام بحركة العين للإتباع.

وحذف المعمول في قوله: (لم يضره) لإفادة العموم، وظاهر ذلك أن الشيطان لا يضره في دينه ولا بدنه، وسيأتي ما فيه.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب التسمية والدعاء المذكور عند إرادة الجماع، وأن الإنسان يحرص على ذلك حتى يكون عادة له، عملًا بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم وحرصًا على أن يكون الولد محفوظًا مصونًا من الشيطان، وناشئًا على الطريقة المستقيمة ببركة هذا الدعاء العظيم، مع ما فيه من الاعتصام بذكر الله تعالى ودعائه من الشيطان.

* الوجه الرابع: اختلف العلماء في المراد بالضرر المنفي في قوله: (لم يضره الشيطان أبدًا)، والحديث ظاهره العموم في أنواع الضرر الديني والبدني، لكن ذكر القاضي عياض أنه لم يحمله أحد على هذا العموم

(1)

، وكأن سبب ذلك ما ثبت في "الصحيح" أن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثني، وهذا الطعن نوع من الضرر.

(1)

"إكمال المعلم"(4/ 610).

ص: 348

فمن أهل العلم من خصه بالضرر في البدن أو العقل دون الضرر في الدين، وهذا اختيار ابن دقيق العيد؛ لأنه وإن كان التخصيص على خلاف الأصل؛ لأن الأصل حمل اللفظ على عمومه، لكنه لو حمل على عمومه لاقتضى أن ما يقدر في هذا الجماع من الولد سيكون معصومًا من المعاصي كلها، وقد لا يتحقق ذلك، ولا بد من وقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل حمله بعضهم على ما هو أخص من ذلك، وهو أن المراد به أن الشيطان لا ينخسه عند ولادته، كما ينخس غيره.

وقيل: معناه: إن الشيطان لا يسلط عليه تسلطًا يخرجه به عن الإسلام والفطرة، وقد يمسه الشيطان لكنه سرعان ما يثوب إلي رشده، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201] وإلي هذا يميل الشيخ ابن باز.

وقيل: إن الشارع جعل لكل شيء أسبابًا وموانع، فإذا وجدت الأسباب وانتفت الموانع، وجد ما رتب على السبب، وإن لم توجد الأسباب، أو وجدت ولكن حصل معها شيء من الموانع لم يقع، فهنا قد يسمي المجامع ويدعو، ولكن توجد موانع تقتضي إبطال السبب أو ضعفه فلا يتحقق المطلوب، وهذا اختيار الشيخ عبد الله البسام

(1)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الشيطان ملازم لابن آدم في كل حال من أحواله، وأنه يتابع أعماله ليجد الفرصة في إغوائه وإضلاله ما استطاع، وهو يجري من ابن آدم مجري الدم، فهو على خيشومه إذا نام، وعلى قلبه إذا استيقظ، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خَنَسَ، والمُوفَّق هو الذي لا يدع للشيطان فرصة، وذلك باستحضار ذكر الله تعالى، والاستعاذة به من شر الشيطان، أعاذنا الله الكريم منه.

(1)

"تيسير العلام"(3/ 43).

ص: 349

‌نهي المرأة عن الامتناع من فراش زوجها

1026/ 9 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتُهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَبمُسْلِمٍ: "كَانَ الَّذِي في السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها)(5193)، ومسلم (1436) من طرق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وأخرجه مسلم (1436)(121) من طريق يزيد يعني: ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها". وفي رواية لهما: "لعنتها الملائكة حتى ترجع".

وسأذكر -إن شاء الله- غرض الحافظ من إيراد رواية مسلم، ثم الجمع بين هذه الروايات.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إلى فراشه) الظاهر أن هذا كناية عن الجماع، ويؤيده حديث:

ص: 350

"الولد للفراش"

(1)

أي: لمن يطأ في الفراش، والكناية عما يستحيا منه كثير في الكتاب والسنة، قال تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}

(2)

[البقرة: 187].

قوله: (لعنتها الملائكة) يحتمل أن المراد بالملائكة: الحفظة، ويحتمل أنهم غيرهم، واستظهر العيني أنهم غيرهم

(3)

، ذلك أن للملائكة أعمالًا يقومون بها دلت عليها النصوص، فلا يبعد أن يكون هناك ملائكة موكلون بأمور، هذا منها، وقد وقع عند البخاري في "بدء الوحي"، وعند مسلم

(4)

: "فبات غضبان عليها" وهذه الجملة تفيد أن وقوع اللعن المرتب على ثبوت معصيتها مقيد بغضب الزوج، بخلاف ما إذا لم يغضب؛ لأنه قد يكون عَذَرَها أو ترك حقه من ذلك، فتكون هذه الجملة قيدًا لما أطلق في رواية البخاري في كتاب "النكاح".

قوله: (حتى تصبح) في رواية "الصحيحين" كما تقدم: "حتى ترجع" قال الحافظ: وهي أكثر فائدة. والأولي "حتى تصبح" محمولة على الغالب؛ لأن قوله: "حتى تصبح" ظاهره اختصاص اللعن بما إذا وقع الامتناع منها ليلًا دون النهار، وليس هذا بقيد، وإنما ذكر ذلك لأن مظنة هذا الطلب يكون ليلًا في الغالب، وكأن السر تأكيد ذلك في الليل وقوة الباعث إليه، وإلا فهو عام في الليل والنهار، بل قد يكون النهار آكد في النهي؛ لحديث:"إذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله؛ فإن ذلك يَرُدُّ ما في نفسه"

(5)

ومعلوم أن ذلك خوف الفتنة، ويؤيد ذلك رواية مسلم:"حتى يرضى عنها" فإنها مطلقة تتناول الليل والنهار، وبهذا تظهر الفائدة من إيراد المصنف رواية مسلم، فتكون إجابته واجبة ليلًا ونهارًا، ويبقى اللعن مستمرًا حتى ترجع أو يرضى عنها.

وعلى هذا فالروايات ثلاث: "حتى تصبح" متفق عليها، "حتى يرضى" عند مسلم، "حتى ترجع" متفق عليها، والجمع بينها من وجهين:

(1)

سيأتي الكلام عليه في آخر باب "العدة" إن شاء الله تعالى.

(2)

"بهجة النفوس"(3/ 229).

(3)

"بهجة النفوس"(3/ 229)، "عمدة القاري"(16/ 358).

(4)

"صحيح البخاري"(3237)"صحيح مسلم"(1436)(122).

(5)

أخرجه مسلم (1403).

ص: 351

الأول: ما تقدم من أن رواية "حتى ترجع" أكثر فائدة، ورواية "حتى تصبح" محمولة على الغالب.

الثاني: أن رواية "حتى تصبح" محمولة على ما إذا لم يحصل رضا ولا رجوع، فاللعن ينتهي بطلوع الفجر، وأما روايتا:"حتى يرضى""حتى ترجع" فمحمولة على ما إذا حصل ذلك فإن اللعن يتوقف.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب طاعة الزوجة لزوجها إذا طلبها إلى فراشه، وتحريم امتناعها من ذلك لغير عذر شرعي، وليس الحيض بعذر في الامتناع؛ لأن له حقًّا في الاستمتاع بها فوق الإزار.

ووجه الدلالة: لعن الملائكة لها، إذ لا يلعنون أحدًا إلا عن أمر الله، واللعن لا يكون إلا عقوبة، ولا عقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم.

وإنما وقع ترهيب المرأة وتهديدها إذا لم تلبِّ رغبة زوجها؛ لأن ذلك يؤدي إلى أضرار ومفاسد عظيمة، منها تعريض الزوج للوقوع في الحرام، ناهيك عن الأمراض الجسمية، وكذلك التوتر النفسي الذي ينتج عن الغضب.

وهذا مقيد عند أهل العلم بما إذا أدى حقها من النفقة والكسوة والسكن، أما إذا منعها حقها أو ظلمها وتعدي عليها فإنه لا يلزمها السمع ولا الطاعة.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على رعاية الله تعالى لعبده، ولعن من عصاه في قضاء شهوته، فعلي العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه وأمره بها، ويقوم بذكره وشكره، ويحسن عبادته، وإلا فما أقبح الجفا من العبد الحقير للملك الكبير.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على قبول دعاء الملائكة للآدميين من خير أو شر، ولولا أن دعاءهم مقبول ما خوَّف النبي صلى الله عليه وسلم به المرأة الممتنعة من فراش زوجها، وقد دل القرآن على ذلك، قال تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5].

* الوجه السادس: استدل بهذا الحديث من قال: بجواز لعن المعين المتصف بشيء من المعاصي، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز لعن الكفار جملة، كما لا خلاف في جواز لعن أصحاب المعاصي جملة كشُرَّاب الخمر،

ص: 352

وأكلة الربا، ومن تشبه بالرجال من النساء، ومن النساء بالرجال، كما حكي ذلك القرطبي

(1)

.

وإنما الخلاف في لعن العاصي المعين، وقد قال ابن العربي: إنه يجوز لعنه اتفاقًا

(2)

، وهذا فيه نظر، فإن الخلاف ثابت، كما قال القرطبي.

فمن أهل العلم من أجاز لعن العاصي المعين، وهو اختيار النووي

(3)

، واستدلوا بهذا الحديث كما تقدم، وكذا حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه حمار قد وُسِمَ في وجهه، فقال:"لعن الله الذي وسمه"

(4)

.

وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لعن المعين؛ لأن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وما ندري بما يختم لهذا الفاسق أو الكافر المعين، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

.

والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن لعن الصحابي الذي أُتي به وقد شرب الخمر

(6)

.

وهذا هو الأظهر -إن شاء الله- لقوة مأخذه، ولإمكان التوبة وغيرها من مسقطات العقوبة.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فالمراد به لعن جنس فاعل ذلك، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على بعض الكفار بعد أُحُدٍ باللعنة والطرد من رحمة الله وعيَّنهم، نزل قوله تعالى:{لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عمران: 128].

أما حديث الباب فلا دليل فيه لأمرين:

الأول: أن التكليف بيننا وبين الملائكة مختلف، فليس لنا أن نتأسَّي بهم إلا بدليل.

الثاني: أن هذا اللعن ليس بالخصوص، بل هو بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من دعاها زوجها، لكن قد يشكل على هذا لفظ الحديث:(لعنتها)، والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير القرطبي"(2/ 188).

(2)

"أحكام القرآن"(1/ 50).

(3)

"الأذكار" ص (315).

(4)

أخرجه مسلم (2117).

(5)

"رفع الملام" ص (22).

(6)

"فتح الباري"(12/ 75).

ص: 353

‌تحريم وصل الشعر

1027/ 10 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "اللباس"، باب (الموصولة)(5940)، ومسلم (2124) من طريق عبيد الله بن عبد الله العمري، قال: حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعن الواصلة) تقدم أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ومن الخلق السب والدعاء، وهذه جملة خبرية لفظًا، إنشائية معنى.

والواصلة: هي المرأة التي تصل شعرها بشعر غيرها، سواء فعلته لنفسها أو لغيرها، قال أبو عبيد:(هذا في الشَّعَر)

(1)

، وقال أبو داود:(وتفسير الواصلة: التي تصل الشعر بشعر النساء)

(2)

، وقال الهروي:(وأما الواصلة والمستوصلة فإنه في الشَّعَر، وذلك بأن تصله بشعر آخر)، وقال ابن منظور:(الواصلة من النساء التي تصل شعرها بشعر غيرها، والمستوصلة: الطالبة لذلك)

(3)

.

قوله: (والمستوصلة) هي التي تطلب فعل ذلك بها.

(1)

"غريب الحديث"(1/ 166).

(2)

"السنن"(4/ 78).

(3)

"اللسان"(11/ 227).

ص: 354

قوله: (والواشمة) هي فاعلة الوشم، وهو أن تغرز إبرة ونحوها في بدن المستوشمة حتى يسيل الدم، ثم تحشوه بالكحل أو النيل أو النورة أو غير ذلك حتى يخضر الموضع الموشوم أو يزرقَّ.

وهو يكون في الوجه واليدين، وأكثر ما يكون في الشفة، ويتفنن المستوشم في استعمال الوشم، فبعضهم ينقش على يده قلبًا، أو اسم محبوبه، ونحو ذلك.

قوله: (والمستوشمة) هي التي تطلب فعل الوشم فيها.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الوصل، وأنه لا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر آخر بقصد التزين، وذلك لأن لعن الواصلة والمستوصلة دليل على تحريم هذا الفعل، وأنه من كبائر الذنوب، وفيه تشبه باليهود، وفيه تدليس وغش؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه الزور، وقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه قال:(قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، فأخرج كَبَّةً من شعر، قال: ما كنت أرى أحدًا يفعل هذا غير نساء اليهود، إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور، يعني: الواصلة بالشعر)

(1)

. والكبة: بفتح الكاف الخصلة من الشعر.

أما وصل الشعر بشيء آخر غير الشعر كالحرير أو الصوف أو الخيوط الملونة ونحو ذلك مما لا يشبه الشعر، فمن أهل العلم من منعه، ونُسب هذا إلى الجمهور، وهو رواية عن الإمام أحمد

(2)

، واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل برأسها شيئًا

(3)

.

قالوا: فهذا حديث عام في النهي عن الوصل مطلقًا، وتخصيصه بأن المراد به وصل الشعر بشعر يحتاج إلى دليل.

وقال آخرون وهم الليث بن سعد وبعض الحنفية وابن قدامة بجواز وصل

(1)

أخرجه البخاري (5938)، ومسلم (2127).

(2)

"الآداب الشرعية"(3/ 339).

(3)

أخرجه مسلم (2126).

ص: 355

الشعر بصوف أو خرق وغير ذلك مما لا يشبه الشعر الأصلي

(1)

؛ لأن هذا ليس بوصل، ولا في مقصود الوصل، وليس فيه تدليس ولا تغيير لخلق الله تعالي، وإنما هو للتجميل والتحسين، وقد ورد عن سعيد بن جبير أنه قال: لا بأس بالقرامل

(2)

. ونقل أبو داود بعد إيراده هذا الأثر أن أحمد كان يقول: القرامل ليس به بأس.

والقرامل: جمع قَرْمَلٍ -بفتح القاف وسكون الراء- نبات طويل الفروع لين، والمراد هنا: خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل بها المرأة شعرها

(3)

.

قال الخطابي: (رخص أهل العلم في القرامل؛ لأن الغرور لا يقع بها؛ لأن من نظر إليها لم يشك في أن ذلك مستعار"

(4)

.

وهذا القول هو الأظهر -إن شاء الله- وهو أن الممنوع وصل الشعر بشعر آخر، أما وصله بالخيوط الملونة، ونحوها مما هو معروف عند النساء ولا سيما البنات الصغار، لئلا ينتشر ويتفرق فهذا لا بأس به؛ لأنه لا يصدق عليه أنه وصل، ولأن من يراها يعرف أنها ليست بشعر قطعًا.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فهو محمول على وصل الشعر بشعر؛ لأن الوصل إذا أطلق انصرف إلى ذلك، بدليل كلام أهل اللغة والشرع، كما تقدم.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الوشم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمة، واللعن لا يكون إلا على أمر محرم، بل إنه من كبائر الذنوب، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات

(1)

"حاشية ابن عابدين"(5/ 339)، "المغني"(1/ 94)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(14/ 651).

(2)

أخرجه أبو داود (4171)، وصححه الحافظ في "فتح الباري"(10/ 388) وفيه شريك بن عبد الله القاضي، ولعله مما حدث به قبل القضاء، أو كونه أثر تابعي فيتسامح فيه.

(3)

"عون المعبود"(11/ 228).

(4)

"معالم السنن"(6/ 89).

ص: 356

خلق الله

الحديث)

(1)

وفيه إشارة إلى أن المعنى الذي لأجله حرم الوشم هو تغيير خلق الله تعالى، وهي صفة لازمة لا تنفك عمن يضع الوشم على جزء من بدنه، بالإضافة إلى ما هو باقٍ في الجسم عن طريق الوخز بالإبر، وكذلك إيلام الحي، وتعذيب بدن الإنسان بلا حاجة ولا ضرورة، والوشم المحرم هو ما فعله الإنسان باختياره، أما لو تداوي -مثلًا- فحصل له وشم من أثر العلاج، أو حصل لجسمه احتكاك بشيء فدخل السواد تحت الجسم أو نحو ذلك؛ فهذا لا يدخل في النهي، وقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه (والواشمة إلا من داء)

(2)

، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه (والمستوشمة من غير داء)

(3)

.

ويلزم إزالة الوشم بالعلاج، وإن لم يكن إلا بالجرح، فإن خاف منه التلف، أو فوات عضو، أو حدوث شيء فاحش في عضو ظاهر لم تجب إزالته، وتكفي التوبة في هذه الحالة، وإن لم يخف شيئًا من ذلك ونحوه لزمه إزالته، ويعصي بتأخيره

(4)

.

* الوجه الخامس: ذكر الحافظ هذا الحديث في باب (عشرة النساء)، كما فعل ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي، ولعله أراد بذلك بيان أن الإسلام عندما أباح للمرأة التزين لزوجها وأن هذا من العشرة المطلوبة، نهي عن بعض الزينة -إن صح التعبير- كوصل الشعر والوشم وغيرهما. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (4886)، ومسلم (2125).

(2)

"المسند"(7/ 57 - 58)، "سنن النسائي"(8/ 147).

(3)

أخرجه أبو داود (4170)، قال الحافظ: سنده حسن. "فتح الباري"(10/ 376).

(4)

"فتح الباري"(10/ 372)، "شرح صحيح مسلم" للنووي (14/ 353).

ص: 357

‌جواز الغِيلَةِ والنهي عن العزل

1028/ 11 - عَنْ جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رضي الله عنهما قَالتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أناسٍ، وَهُوَ يَقُولُ:"لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أَنْهي عَنِ الغِيلةِ فَنَظَرْتُ في الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغيلُونَ أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ ذَلكَ أَوْلَادَهُمْ شَيئًا"، ثُمَّ سَألوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفيُّ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي جذامة بنت وهب رضي الله عنهما، وقيل: بنت جندل الأسدية، والأول أرجح، أخت عكاشة بن محصن لأمه، وكما اختلف في اسم أبيها فقد اختلف في ضبط اسمها، هل هو بالدال المهملة أو بالذال المعجمة، فذكر مسلم عند حديثها هذا أن الصحيح أنها بالدال المهملة، قال النووي:(وهكذا قال جمهور العلماء)، وذكر الدارقطني -أيضًا- أنها بالدال المهملة، وأن من ذكرها بالذال المعجمة فقد صحَّف

(1)

، وقال العسكري: وحكي بالذال المعجمة عن جماعة

(2)

. وقد انقلب الأمر على الصنعاني فاعتبر ضبطها بالدال المهملة تصحيفًا مخالفًا في ذلك أصله، وهو "البدر التمام"

(3)

.

أسلمت جذامة قديمًا في مكة، وبايعت، وهاجرت إلى المدينة مع أهلها رجالًا ونساء، وغلقت أبوابهم في مكة، روت عنها عائشة رضي الله عنها

(4)

.

(1)

"المؤتلف والمختلف"(2/ 899).

(2)

"تهذيب التهذيب"(12/ 434).

(3)

"البدر التمام"(3/ 575)، "سبل السلام"(4/ 250).

(4)

"الاستيعاب"(12/ 235)، "الإصابة"(12/ 170 - 171).

ص: 358

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل)(1442)(141) من طريق سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت:

ذكرت الحديث.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لقد هممت) قال أهل اللغة: هممتُ بالشيء همًا، من باب (قتل): إذا أردته ولم تفعله.

قوله: (عن الغيلة) بكسر الغين المعجمة، فمثناة تحتية، هي مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع، أو هي أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال: أغال الرجل ولده، إغالة: إذا جامع أمه وهي ترضعه، وأغالت المرأة ولدها: أرضعته وهي حامل، فهي مُغِيل ومُغْيِل، والولد مُغَال ومُغْيَل، فكل منهما يقال له: غِيلة في اللغة، وهذا اللفظ كيفما دار فهو يرجع إلي الضرر والهلاك، ومنه قول العرب: غالني أمر كذا؛ أي: أضرَّ بي، فعلي المعنى الأول يقال: إن الماء -يعني: المني- يغيل اللبن؛ أي: يفسده، وأما الثاني: فهو بيِّن؛ لأن لبن الحامل داء وعلة في جوف الصبي، ومراده صلى الله عليه وسلم المعنى الأول، وأما الثاني فضرره معلوم للعرب وغيرهم

(1)

.

قوله: (الروم) جيل عظيم من الناس بلغوا في زمانهم الغاية في الكثرة والقوة، وهم نسبة إلى رمولوس، باني روما، ولما زحفت الفتوحات الإسلامية استولت على غالب بلادهم.

قوله: (وفارس) أمة عظيمة كثيرة وشديدة في ما وراء النهر من بلاد العرب.

قوله: (فإذا هم يُغيلون) بضم الياء؛ لأنه من أغال الرباعي، كما تقدم.

(1)

"المفهم"(4/ 174).

ص: 359

قوله: (عن العزل) هو أن ينزع الرجل ذكره من الفرج حتى لا ينزل فيه، لئلا يحصل الحمل، والذي حرك الصحابة للسؤال عن العزل أنهم خافوا أن يكون محرمًا؛ لأنه قطع للنسل.

قوله: (هو الوأد الخفي) بفتح الواو، ثم همزة ساكنة، هو دفن البنت وهي حية، يقال: وَأَدَ الرجل ابنته يئدها: دَفَنَها حية، فهي موؤدة، قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8]. وكانت العرب تفعله في الجاهلية خشية الإملاق، وربما فعلوه خشية العار، وسميت موؤدة؛ لأنها تُثقل بالتراب، وهذا من التشبيه، والمعنى: أن العزل شبيه بالوأد؛ لأنه بالعزل قطع طريق الولادة، كما يُقتل المولود بالوأد، لكن لما كان صاحب العزل لم يباشر وأدًا وقتلًا حقيقة سمي بالوأد الخفي؛ لأن العزل نية وقصد، والوأد قصد وفعل، وهذا وجه تسميته خفيًّا.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يجوز للرجل أن يطأ زوجته المرضع أو الحامل، وأنه لا ضرر على الطفل في ذلك.

وقد همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن ذلك؛ لكونه مستكرهًا عند العرب؛ لأنهم أكثروا من انتقاد ذلك والتحدث بضرره، حتى إنهم قالوا: إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل؛ لأنه نظر إلى فارس والروم وإذا هم يُغيلون، فيجامعون نساءهم وهن يرضعن، مع قوة أجسامهم وكثرة عددهم، مما يدل على أن ذلك لم يضر أولادهم، فسوَّى بينهم وبين العرب في هذا المعنى، وهذه تجربة، والتجربة هي سلم العلوم الطبيعية.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم تفعل ذلك؟ "، فقال: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان ذلك ضارًا ضرَّ فارس والروم" وفي رواية: "إن كان ذلك فلا، ما ضَارَ ذلك فارس ولا الروم"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (1443).

ص: 360

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز الاستدلال بما فعله الكفار في الأمور العادية والطبيعية، وأنه لا بأس أن يستفاد من تجارب الأمم الكافرة في معرفة ما ينفع الناس وما يضرهم من الدواء، أو في تجنب أشياء ضارة، فإذا عرف أنهم فعلوا ذلك ولم يضر فلا بأس باستعماله، وكذا ما جاء عنهم من الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نستفيد منهم، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يعد من قام بها متشبهًا بهم.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على تحريم العزل، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العزل هو الوأد الخفي، والوأد عادة جاهلية، حرمها الإسلام، فيكون العزل حرامًا أيضًا، وهذا قول ابن حزم

(1)

، وجماعة، وسيأتي مزيد كلام في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى.

* * *

(1)

"المحلى"(10/ 70).

ص: 361

‌ما جاء في جواز العزل

1029/ 12 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَال: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي جَارِيةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأنا أكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تَحَدَّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَال:"كَذَبَتِ يَهُودُ، لَو أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، واللفظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَالطحَاويُّ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1030/ 13 - وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَلَوْ كَانَ شَيئًا يُنْهَى عَنْهُ لنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ.

° الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (17/ 389)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (ما جاء في العزل)(2171)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 222)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 31) وفي "شرح مشكل الآثار"(5/ 170) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا

وذكر الحديث.

وهذا الحديث -كما قال الحافظ- رجاله ثقات، إلا رفاعة، ويقال: أبو رفاعة، ويقال: أبو مطيع بن عون الأنصاري، فإنه لم يرو عنه إلا محمد بن

ص: 362

ثوبان، وهو لم يرو إلا عن أبي سعيد، ولم يذكره ابن حبان في "الثقات"، ولذا قال الحافظ في "التقريب":(مقبول) أي: عند المتابعة، وإلا فلين الحديث. وقد توبع، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 221 - 222)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 32)، وفي "شرح مشكل الآثار"(5/ 172) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أُمامة بن سهل، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

وهذا إسناد حسن لولا أن فيه عنعنة ابن إسحاق.

وأخرجه البزار (1032)"مختصر زوائده"، والطحاوي (3/ 31 - 32) و (5/ 172) من طريق موسى بن وردان، عن أبي سعيد رضي الله عنه، وإسناده حسن.

وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (العزل)(5207)، ومسلم (1440) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، قال:(كنا نعزل والقرآن ينزل)، قال مسلم: زاد إسحاق -وهو الراوي عن سفيان-: (قال سفيان: لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).

وأخرجه مسلم (1440)(138) من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال:(كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا).

ولعل الحافظ أورد رواية مسلم لبيان أن العزل مما علم به النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليه، كما سيأتي.

وقد وهم الحافظ هنا، فعزا الحديث بتمامه للبخاري ومسلم، وقد تبين من سياق الحديث أن المتفق عليه إلى قوله:(والقرآن ينزل)، وأما الزيادة فهي من سفيان بن عيينة، ثم إنه وهم في عزوها للشيخين، وإنما هي عند مسلم فقط من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، كما تقدم. قال في "فتح الباري": (هذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطًا، وأوهم كلام صاحب العمدة ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث، فأدرجها، وليس الأمر كذلك، فإني تتبعته من المسانيد، فوجدت أكثر رواته عن

ص: 363

سفيان لا يذكرون هذه الزيادة) فالحافظ وقع فيما انتقد فيه صاحب "العمدة" من إدراجه الزيادة في أصل الحديث، إلا أن يكون قد ألَّف البلوغ قبل "الفتح" والله المستعان.

° الوجه الثاني: قوله: (وإن اليهود تحدث أن العزل الموؤدة الصغرى، قال: "كذبت يهود") ظاهر هذا أنه يعارض ما تقدم في حديث جذامة: ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك الوأد الخفي "وقد جمع بينهما بأوجه، لعل من أحسنها ما ذكره العلامة ابن القيم من أن اليهود ظنت أن العزل لا يتصور معه حمل أصلًا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن العزل لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقة، وإنما سَمَّاه وأدًا باعتبار النية والقصد، كما تقدم

(1)

، قال الشوكاني:(وهذا الجمع قوي)

(2)

.

° الوجه الثالث: استدل الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة بهذين الحديثين على جواز العزل، ووجه الاستدلال: أن قوله في حديث جابر رضي الله عنه: (والقرآن ينزل) يفيد إباحة العزل، فإنه لو كان العزل حرامًا ولم يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن بالنهي عنه، وهذا فائدة قول الصحابي رضي الله عنه:(والقرآن ينزل) ولهذا قال سفيان: (ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) قال الأصوليون: إن ما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به فإنه لا ينسب إلى سنته، لكنه حجة لإقرار الله تعالى له.

بل إن رواية مسلم التي ذكر الحافظ تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أنهم يعزلون ولم يصدر منه نهي، فيدل إقرارهم عليه على جوازه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل.

وقد روي عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم رخصوا في العزل، ولم يروا به بأسًا، منهم سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وابن

(1)

"تهذيب مختصر السنين"(3/ 85).

(2)

"نيل الأوطار"(6/ 223).

ص: 364

عباس، وغيرهم

(1)

.

واشترط الجمهور أن يكون العزل عن الحرة بإذنها، مستدلين بحديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها

(2)

، ولأن لها حقًّا في الولد، ولأن الجماع من حقها؛ إذ الجماع مع العزل، فيه حرمان الزوجة من كمال اللذة ومشاركتها الزوج في التمتع والتلذذ حال الجماع.

وأجابوا عن حديث جُذامة الدال على النهي عن العزل بأن الأحاديث الدالة على الجواز جاءت على خلافه، وهي أحاديث صحيحة صريحة، ومنها حديث جابر رضي الله عنه برواياته، ثم إن عددًا من الصحابة رضي الله عنهم رخصوا فيه، وهم أعلم منا بفهم النصوص ومقاصد الشريعة، وحديث جذامة ليس صريحًا في المنع، كما سيأتي.

وذهب ابن حزم وجماعة إلى تحريم العزل، لحديث جذامة المتقدم، وأجاب عن أحاديث الجواز بأنها على البراءة الأصلية، وهي الإباحة، وحديث جذامة ناقل عنها، فمن ادعى أنه أبيح بعد ما منع فعليه البيان.

وبهذا يتبين أن سبب الخلاف في حكم العزل هو مجيء أحاديث دالة على الجواز، وأحاديث ظاهرها المنع.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الاعتماد على أحاديث الجواز أولى؛ لأن حديث جذامة ليس صريحًا في المنع، فإن العزل ليس وأدًا حقيقة، وإنما سماه وأدًا لقصد العازل ونيته، بخلاف الوأد فإنه اجتمع فيه القصد ومباشرة القتل، ولو كان العزل قتلًا حقيقة لكان من كبائر الذنوب، وعلى هذا فالأظهر أنه سمي بالوأد الخفي للتنفير منه، وليس للتحريم، أو أن هذا كان في أول الأمر، ثم نسخ بما يدل على الإباحة، كما في حديث أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما.

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 230 - 231)، "تهذيب مختصر السنن"(3/ 85)، "زاد المعاد"(5/ 142).

(2)

أخرجه ابن ماجه (1928)، وأحمد (1/ 339) من حديث عبد الله بن لهيعة، وسنده ضعيف، لضعف ابن لهيعة.

ص: 365

وعلى هذا فيجوز العزل واستعمال ما ينظم الحمل من حبوب وغيرها إذا دعت المصلحة إلى ذلك؛ ككون المرأة مريضة، أو يضرها تتابع الحمل، أو أنها ترضع طفلها ويخاف من الضرر عليه في رضاعته وترعرعه ونشأته -مع أن المرضع قد لا تحمل- ونحو ذلك من الأعذار الفردية؛ لأن هذه أسباب عارضة، فيكون الجواز هنا ببقاء هذا السبب، بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وألا يكون فيها عدوان على حمل قائم.

أما إن كان العزل أو استعمال ما يمنع الحمل خشية الإملاق أو الخوف من كثرة السكان أو رفض مسؤولية الأولاد وفساد التربية ونحو ذلك من الأسباب الواهية التي يذكرها أنصار تحديد النسل أو تنظيمه، فهذا لا يجوز شرعًا، وهو من دسائس أعداء الإسلام على الأمة الإسلامية؛ لتقليل عدد المسلمين وإضعافهم، حتى تكون لهم القدرة على استعمار بلاد المسلمين، واستعباد أهلها، ونهب ثرواتها في الوقت الذي هي محتاجة فيه إلى التكاثر للقدرة على النضال في سبيل نشر دينها، ونصرة عقيدتها، ومقاومة أعدائها، كما أن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى.

والرسول صلى الله عليه وسلم حث على إنجاب الأولاد وتكثير النسل، فقال:"تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة"

(1)

، ومعلوم أن حفظ النسل هو إحدى الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها، وإن كثرة النسل نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على عباده؛ وهو مما يقوي الأمة الإسلامية اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، ويزيدها قوة ومنعة، فالاستجابة لدعوة أعدائنا معناها القضاء على تكاثر المسلمين وأسباب قوتهم. وفق الله المسلمين لما فيه قوتهم وعزتهم، ونَصَرَهم على أعدائهم. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه، وهو ثالث أحاديث كتاب "النكاح".

ص: 366

‌جواز طواف الرجل على نسائه بغسل واحد

1031/ 14 - عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. أَخْرَجَاهُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه"، ومنها: في كتاب "النكاح"، باب (من طاف على نسائه في غسل واحد)(5215) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة".

ورواه مسلم (309) من طريق مسكين بن بكير، عن شعبة، عن هشام بن يزيد، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، وهو لفظ البلوغ.

قال ابن رجب: (لم يَرْضَ البخاري هذا الحديث من أجل مسكين بن بكير، فإنه ليس بذاك)

(1)

.

وقد ذكر الحافظ في "مقدمته" أن البخاري روى لمسكين بن بكير حديثًا واحدًا في كتاب "التفسير" من "صحيحه" رواه عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن مروان الأصفر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ثم أردفه بمتابعة روح بن عبادة، عن شعبة

(2)

، وقد تكلم الأئمة في مسكين بن بكير فقال الأثرم:(سمعت أحمد يحسن أمره)، وقال في موضع آخر عن أحمد: (حدث عن شعبة بأحاديث لم

(1)

"فتح الباري"(1/ 301).

(2)

"هدي الساري" ص (443)، "فتح الباري"(8/ 206 - 207).

ص: 367

يروها أحد) وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: (لا بأس به، ولكن في حديثه خطأ) وقال ابن معين: (لا بأس به) ومثل هذا قال أبو حاتم: وزاد: كان صالح الحديث، يحفظ الحديث

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ).

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على ما منح الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من القوة في الجماع، وهذا من آيات الله تعالى الدالة على قدرته، وقد جاء في بعض ألفاظ البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، قال: قلت لأنس: أو كان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أُعطي قوة ثلاثين) وقال سعيد، عن قتادة أن أنسًا حدثهم: تسعُ نسوة

(2)

.

ولا تعارض بين روايتي (إحدى عشرة) و (تسع) فمن قال: إنهن تسع نظر إلى الزوجات اللاتي اجتمعن عنده، فإنه لم يجتمع عنده أكثر من تسع، ومات عنهن، ومن قال: إحدى عشرة، أدخل مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وريحانة بنت زيد النضرية، من سبي بني قريظة، وأطلق عليهن لفظ (نسائه) تغليبًا. قال ابن القيم: (لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع، وكان يقسم منهن لثمان

)

(3)

.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز الاكتفاء بغسل واحد من كان عنده أكثر من امرأة بعد الفراغ من جماعهن جميعًا، وأنه لا يلزم أن يغتسل من جماعه لكل امرأة واحدة.

لكن تقدم في باب "الغسل" حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءًا" زاد الحاكم: "فإنه أنشط للعَوْد"

(4)

. فهذا يدل على أن السنة أن يتوضأ بين كل وطئين، مع غسل مذاكيره وما حولها، وإذا أمر بذلك في العود إلى وطء

(1)

"تهذيب التهذيب"(10/ 109).

(2)

أخرجه البخاري (268).

(3)

"زاد المعاد"(1/ 113 - 114)، "فتح الباري"(1/ 378).

(4)

أخرجه مسلم (803)، والحاكم (1/ 152).

ص: 368

الزوجة نفسها فإنه في وطء زوجة أخرى من باب أولى، بل قد يكون متعينًا؛ لئلا تتقذره الزوجة الأخرى بعد وطء الأولى.

وقد ورد الاغتسال للمعاودة في حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة، فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلًا، فقلت: يا رسول الله، لو اغتسلت غسلًا واحدًا؟ فقال:"هذا أطهر وأطيب"

(1)

.

فإن قيل: كيف اطلع أبو رافع على هذا الغسل مع أن شأنه الخفاء؟ فالجواب: أنه كان خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، يأتي له بالماء، وقد ذكره ابن القيم ضمن موالي النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

° الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إن القسم بين الزوجات ليس واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقسم من قبل نفسه تطييبًا لنفوس زوجاته، ولكمال خلقه، وليتأسى به غيره.

ووجه الاستدلال: أن كونه صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة ينافي وجوب القسم عليه. وسيأتي البحث في هذا في باب "القسم" إن شاء الله تعالى.

(1)

أخرجه أبو داود (219)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 207)، وابن ماجه (590)، وأحمد (39/ 288)، وهو حديث ضعيف، في إسناده بعض من لا يعرف حاله -كما يقول ابن رجب- وهو مخالف لحديث أنس المذكور هنا، ولذا قال أبو داود عقب حديث أبي رافع:(حديث أنس أصح من هذا)، وعلى هذا فلا تعارض، لكون حديث أنس أصح، وقد حسنه الألباني، ونقل عن الحافظ أنه قوَّاه. ["صحيح سنن أبي داود" (1/ 43)، "آداب الزفاف" ص (36)]. وهذا فيه نظر، فإن مخالفته تكفي في ردِّه، فكيف إذا كان فيه من لا يعرف حاله؟! وقال آخرون: لا تعارض بين الحديثين؛ لأن تركه صلى الله عليه وسلم الغسل بين الجماعين بيانًا للجواز، وتخفيفًا عن الأمة، وفعله لكونه أطيب. ["المنهل العذب المورود" (2/ 284)].

(2)

"زاد المعاد"(1/ 114)، "المنهل العذب المورود"(2/ 284).

ص: 369

‌باب الصداق

الصداق لغة: بفتح الصاد، والدال، ويجوز كسر الصاد، والفتح أشهر، ويجوز فتح الصاد وضم الدال، فيقال: صَدُقة، وقد جاء في القرآن جمعه على لفظه في قوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].

واصطلاحًا: ما تعطاه المرأة من المال، أو ما يقوم مقامه عوضًا عن عقد النكاح عليها، وسمي الصداق صداقًا؛ لأنه يشعر بصدق رغبة الزوج في الزوجة.

وللصداق عدة أسماء: فهو نِحْلة، كما تقدم، وفريضة، وأجر -كما سيأتي- وطَوْلٌ، كما قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، ويسمى مهرًا، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي

(1)

، ويسمى جهازًا بفتح الجيم وكسرها، كما في معاجم اللغة، إلى غير ذلك من أسمائه.

وهو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فآيات كثيرة، قال تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، والنحلة: العطية غير المبخوسة، وقال تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، ومن السنة ما سيأتي في أحاديث الباب.

وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على وجوب الصداق على اختلاف مذاهبهم؛ لأن النصوص الآمرة به قطعية الثبوت قطعية الدلالة، قال ابن عبد البر: (أجمع علماء المسلمين أنه لا يجوز له وطء في نكاح بغير صداق

(1)

تقدم تخريجه، وهو رابع أحاديث كتاب "البيوع".

ص: 370

مُسمَّى دينًا أو نقدًا)

(1)

.

وأما الحكمة من مشروعية الصداق، فإن الإسلام جعل المهر حقًّا على الرجل لزوجته، لا يستبيح فرجها إلا بكلمة الله، وبأداء هذا الحق.

وقد جعل الله تعالى هذا العطاء آية من آيات المحبة، وعنوانًا لتوثيق عرى الرحمة والمودة، إن الصداق فيه إشعار بتكريم الإسلام للمرأة وإعزازها وإسعادها، فهي بذلك تشعر بمكانتها في المجتمع، وتحس بأنها مطلوبة مرغوب فيها، وأن هناك من يبذل الكثير من ماله رمزًا لحاجته إليها، ورغبته فيها، كما أن الصداق إشعار بعزم الرجل على تحمل الأعباء، وأداء الحقوق.

ولا يعني الصداق أن المرأة سلعة تباع، كما قد يتصور بعض الناس، فيغالي في المهر، ويشترط حوله شروطًا، بل هو رمز لتكريم المرأة وإعزازها من جهة، وتلبية لنداء فطرتها وأنوثتها القائمة على حب الزينة والتجمل والرغبة في المتاع من جهة أخرى.

ومما ينبغي أن يعلم أن الصداق حق للمرأة وحدها، وليس لغيرها حق فيه، فلها أن تتصرف به بكل أنواع التصرفات الجائزة شرعًا، بخلاف ما يفعله بعض الأولياء من السطو على مهر المرأة، وصرفه في التظاهر والتفاخر والولائم، بل إن من الفتيات من لا يعلمن بمقدار مهورهن، ولا كيف صُرف وفيما أُنفق، والله تعالى يقول:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].

(1)

"الاستذكار"(16/ 67).

ص: 371

‌صحة جعل العتق صداق

1032/ 1 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (من جعل عتق الأمة صداقها)(5086)، ومسلم (2/ 1045) من طريق شعيب بن الحبحاب، عن أنس رضي الله عنه.

وهذا الحديث ورد من طرق، بعضها مطول، وبعضها مختصر.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أعتق صفية) أي: حررها من الرق؛ لأنها من السبي يوم خيبر، وصفية هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب، سيد بني النضير، وأمها من بني قريظة، كانت تحت سلَّام بن مِشْكم القرظي، ففارقها ثم تزوجها كنانة بن الربيع النضيري، فقتل عنها يوم خيبر، فوقعت في السبي لدحية بن خليفة الكلبي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطيت دحية ابنة سيد النضير وقريظة، لا تصلح إلا لك، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى دحية بدلها، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، واصطفاها لنفسه، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وهذا كله ثابت في "الصحيحين"، وكانت حليمة عاقلة من خيرة النساء عبادة وزهدًا، وبرًّا وصدقة، توفيت في رمضان سنة خمسين رضي الله عنها

(1)

.

(1)

"الاستيعاب"(13/ 62)، "الإصابة"(13/ 14).

ص: 372

قوله: (وجعل عتقها صداقها) أي: إن العتق حلَّ محل الصداق، وإن لم يكن صداقًا؛ كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه يجوز للرجل أن يعتق الأمة المملوكة ويتزوجها، ويجعل عتقها صداقها، قال ابن حزم: (من أعتق أمته على أن يتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لا صداق لها غيره، فهو صداق صحيح، ونكاح صحيح، وسنة فاضلة

)

(1)

.

° الوجه الرابع: استدل العلماء بهذا الحديث على أنه يستحب أن يعتق الرجل أمته ويتزوجها، ولا سيما إذا كانت حسنة الأخلاق، حسنة الصورة، تعفه وتغنيه عن غيرها، وقد أشعر بذلك صنيع الإمام مسلم رحمه الله، فإنه روى بعد هذا الحديث حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يعتق جاريته، ثم يتزوجها له أجران"

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(9/ 501).

(2)

"صحيح البخاري"(97)، "صحيح مسلم"(2/ 1045).

ص: 373

‌مقدار صداق النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه

1033/ 2 - عَنْ أَبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمنِ، أَنَّهُ قَال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زوج النبي صلى الله عليه وسلم كمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزوَاجِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشًّا، قَالتْ: أتدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَال: قُلْتُ: لَا، قَالتْ: نِصْفُ أُوقِيّةً، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمِ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَزوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني، اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ولد سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، وولي القضاء في المدينة لسعيد بن العاص في خلافة معاوية رضي الله عنه، وكان صبيح الوجه؛ كان وجهه دينار، وهو من أئمة الفقهاء وشيوخهم، حدث عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة كثير الحديث، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين رحمه الله

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم من لا يجحف به)(1426) من طريق محمد بن إبراهيم، عن

(1)

"تهذيب التهذيب"(12/ 127 - 128).

ص: 374

أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أوقية) بضم الهمزة وتشديد الياء، ومقدارها في الحجاز: أربعون درهمًا، والدرهم: تقدم في "الزكاة" أنه يزن عند المتقدمين إحدى وخمسين حبة شعير، وزنها: جرامان وثلاثة من عشرة من الجرام، فيكون مجموعها = 1150 جرام × 1.5، وهو سعر جرام الفضة يوم السبت 4/ 2 / 1427 هـ - 1725 ريال، فيكون سعر الدرهم = 3.45 ريال.

قوله: (ونشًّا) النش: بفتح النون وتشديد الشين، نصف أوقية كما في الحديث؛ أي: عشرين درهمًا.

قوله: (فتلك خمسمائة) أي: فجميع مقدار هذا الصداق خمسمائة درهم، وهي حاصل ضرب اثني عشر ونصف في أربعين.

قوله: (فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه) هذا باعتبار الأكثر منهن رضي الله عنهن، وإلا فخديجة وجويرية بخلاف ذلك، وصفية كان عتقها صداقها، كما تقدم، وأم حبيبة أصدقها عنه النجاشي أربعة آلاف، وهذا ليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه، لما في ذلك من المصالح العظيمة للزوجين وللمجتمع بأسره، وتخفيف الصداق من المأمور به شرعًا، وما أوصل إلى المأمور به فهو مأمور به، قال الإمام الشافعي:(والقصد في المهر أحب إلينا، وأَستحبُّ ألا يزيد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم به نساءه وبناته، وذلك خمسمائة درهم)

(1)

.

وهذا المقدار بالنسبة للزمان الأول، أما الآن فقد تغير الحال، وكثر

(1)

"الأم" للشافعي (5/ 163).

ص: 375

المال، لكن يبقى الأصل وهو الحث على تخفيف الصداق، وتيسير سبل الزواج، لما تقدم، والناس يتفاوتون في الفقر والغنى، ولا بد من مراعاة حالة الزوج المالية، فلا يطالب إلا بما يقدر عليه، ومطالبته بما فوق ذلك إما أن يؤدي إلى الاستدانة وتحمل همِّ الدين، أو التوصل إلى ذلك بسؤال الناس، أو يعدل عن الزواج.

وليس للصداق قدر محدد، لكن متى تعدى الناس حدود الشرع ودخلوا في معنى الإسراف فهذا هو المحذور، وخلاف المأمور به.

ومشكلة غلاء المهور من المشاكل الاجتماعية التي ظهرت أخيرًا وصارت عقبة كَأَدَاءَ في طريق الزواج، وذلك بسبب كثرة اليسار وامتلاء الجيوب بالمال، ومجيء المدنية الحديثة بأمور جديدة لم تكن معروفة من قبل، يضاف إلى ذلك تقليد الناس بعضهم بعضًا، وإسناد الأمور إلى النساء وسماع آرائهن وتنفيذ مطالبهن. فترتب على ذلك تعثر سبل الزواج وإيقاف سنة الله تعالى في الحياة، وذلك ببقاء كثير من الرجال أيامى والنساء عوانس، وحصل من جراء ذلك الفساد الأخلاقي في الجنسين، إذ لا بد من البديل لتصريف الغريزة، ثم حدوث الآثار النفسية في صدور الشباب من الجنسين بسبب الكبت وارتطام أفكارهم بخيبة الأمل

(1)

.

فالحاجة داعية إلى تخفيف الصداق، وتيسير أمور الزواج، والقضاء على الإسراف وتجاوز الحد في ولائم الزواج وتوابع ذلك، ويكون هذا على منابر المساجد، وفي مجالس العلم، وبرامج التوعية التي تُبث في أجهزة الإعلام، ولا بد للناس من قدوة، ولن يفيد الكلام ما لم يتحول إلى واقع عملي، بحيث يبدأ بهذا المنهج قادة الناس من العلماء والأمراء والوجهاء والأعيان. والله الموفِّق.

(1)

انظر: "الزواج والمهور" ص (57 - 58).

ص: 376

‌وجوب الصداق

1034/ 3 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: لَمَّا تَزَوّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ عليها السلام -قَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهَا شَيئًا"، قَال: مَا عِنْدِي شَيءٌ، قَال:"فَأَينَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئًا)(2125)، والنسائي (6/ 130) من طريق عَبْدةَ، ثنا سعيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنها قال: لما تزوج عليّ فاطمة

وذكر الحديث.

وهذا الحديث رجاله ثقات، وقد صححه الحاكم، كما ذكر الحافظ هنا، ولم أجده في "المستدرك"، وصححه ابن عبد الهادي

(1)

، ولم يعزه للحاكم، وللحديث طرق أخرى عند أبي داود والنسائي وغيرهما.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لما تزوج على فاطمة) هي بنت خاتم النبيين، وإمام المتقين؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها خديجة بنت خويلد، ولدت في الإسلام، وقيل: قبل البعثة بخمس سنوات، وقريش تبني الكعبة، تزوجها على رضي الله عنه في السنة الثانية بعد غزوة بدر، فولدت له ثلاثة أبناء، وثلاث بنات، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"فاطمةُ بَضْعَةٌ مني، فمن أغضبها أغضبني"

(2)

، توفيت في المدينة في رمضان

(1)

"المحرر"(2/ 648).

(2)

أخرجه البخاري (3767).

ص: 377

سنة إحدى عشرة، وقيل: بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم بسبعة أشهر، وهو الصحيح، وقد نقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على أن فاطمة رضي الله عنها كانت أول من مات من أهل بيته صلى الله عليه وسلم بعده، حتى من أزواجه

(1)

، ولها أربع وعشرون سنة

(2)

رضي الله عنها.

قوله: عليهما السلام لعل هذا من الناسخ؛ لأن هذه الصيغة مختصة بالأنبياء دون غيرهم، والصحابي يقال فيه: رضي الله عنه، ولعل هذه الصيغة جاءت عن طريق الرافضة، وقد نقل النووي عن أبي محمد الجويني أن لفظة: عليه السلام هي معنى الصلاة، فلا يفرد بها غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام

(3)

.

قوله: (أعطها شيئًا) الشيء: هو كل موجود، فيتناول -هنا- كل ما يسمى شيئًا من المال قلَّ أو كَثُر.

قوله: (درعك الحُطَمية) الدرع: قميص من حلق الحديد يليس في الحرب للوقاية من السلاح، وتقدم له ذكر في "البيوع"، والحطمية: بضم الحاء المهملة وفتح الطاء، نسبة إلى قبيلة حُطَمَةَ بن محارب، بطن من عبد القيس، كانوا يصنعون الدروع، وقد ذكر الحافظ: أنه أصاب هذه الدرع من غنائم بدر

(4)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب الصداق، وأنه شيء لا بد منه في الزواج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يعطي زوجته صداقًا، والأصل في الأمر أنه للوجوب، ولما لم يجد شيئًا لم يقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، وإنما سأله عن درعه، ليصدقها إياها مع أن الدرع من مال قُنيته التي يحتاجها، ولم يرد في هذا الحديث هل أعطاها درعه المذكورة أو غيرها، وقد ذكر صاحب "البدر التمام " نقلًا عن "البحر الزخار" أقوالًا في مهر فاطمة رضي الله عنها، لكنها غير مسندة

(5)

.

(1)

"فتح الباري"(8/ 136).

(2)

"الإصابة"(12/ 71).

(3)

"الأذكار" ص (208).

(4)

"الإصابة"(12/ 72).

(5)

"البدر التمام"(4/ 10).

ص: 378

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه لا يلزم أن يكون الصداق نقدًا من الأثمان، وإنما يصح أن يكون عروضًا أو متاعًا، وكل شيء يتمول.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على استحباب تخفيف الصداق، لقوله:"أعطها شيئًا" والشيء لفظ عام يتناول القليل والكثير، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يتعلق بأقل الصداق وأكثره، وكلام العلماء في ذلك. والله تعالى أعلم.

ص: 379

‌حكم هدايا الزوج للمرأة وأوليائها

1035/ 4 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ، أَو حِبَاءٍ، أَو عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكرِمَ الرَّجُلُ عَلَيهِ ابْنَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أحمد (11/ 313) عن عبد الرزاق، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في الرجل يدخل بامرأة قبل أن ينقدها شيئًا)(2129) من طريق محمد بن بكر البُرْسَاني، والنسائي (6/ 125) من طريق حجاج بن محمد، وابن ماجه (1955) من طريق أبي خالد سليمان بن حيان، أربعتهم عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

والحديث سنده حسن، على الراجح في أحاديث عمرو بن شعيب، وابن جريج مدلس وقد عنعنه، وقد جاء التصريح بالتحديث عند النسائي (6/ 120)، والطحاوي في "شرح المشكل"(11/ 324) فزال بذلك ما يخُشى من تدليسه، لكن يشكل على هذا ما نقله الترمذي في "العلل" (1/ 325) عن البخاري أنه قال:(ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب) وكذا قال البيهقي كما في "السنن الكبرى"(6/ 8)، وعبد الرزاق والبرساني وأبو خالد لم يذكروا السماع، وأما حجاج فاختلف عليه، وابن جريج يدلس عن الهلكى والضعفاء.

ص: 380

والحديث رواه عبد الرزاق (6/ 257) فقال: سمعت المثنى يحدث أنه سمع عمرو بن شعيب يحدث أنه سمع بهذا الحديث.

والمثنى وهو ابن الصباح وإن كان ضعيفًا، لكنه يعضد رواية غيره، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أحمد (41/ 394)، والبيهقي (7/ 248)، وفيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه.

وأخرج عبد الرزاق (6/ 257) عن الثوري، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره بمعناه، هكذا مرسلًا.

وهذه الروايات يقوي بعضها بعضًا، وتدل بمجموعها على أن للحديث أصلًا

(1)

، وقد أفتى بمقتضى هذا الحديث الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، كما أخرجه عبد الرزاق أيضًا.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نكحت) بفتح النون تزوجت، ويجوز الضم بمعنى: عُقد عليها.

قوله: (أو حباءٍ) بكسر الحاء المهملة، فموحدة، فهمزة ممدودة: العطية للغير، أو للزوجة زائدًا على مهرها.

قوله: (أو عِدَةٍ) بكسر العين: ما وعد به الزوج وإن لم يحضره، وعند ابن ماجه (أو هبة) بدل (أو عدة).

قوله: (قبل عصمة النكاح) أي: قبل عقد النكاح، والعصمة: ما يُعتصم به من عقد أو سبب.

قولي: (فهو لها) اللام للاختصاص؛ أي: فهو مختص بها دون غيرها؛ لأنه وهب لها قبل العقد.

قوله: (وما كان بعد عصمة النكاح فهو من أعطيه) بضم الهمزة مبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: فهو ملك من أعطاه الزوج إياه، ولا فرق بين الأب وغيره.

قوله: (وأحقُّ ما أُكرم الرجل عليه) أحق: مبتدأ، وأكرم: بضم الهمزة مبني

(1)

انظر: "تنبيه القارئ" للدويش ص (60).

ص: 381

لما لم يُسَمَّ فاعله، والرجل: نائب فاعل، وعلى: للتعليل؛ أي: ما أكرم الرجل لأجله، وهذه الجملة مستأنفة تقتضي الحض على إكرام الولي تطييبًا لنفسه.

قوله: (ابنته) خبر المبتدأ (أحق).

قوله: (أو أخته) ظاهر العطف أن الحكم لا يختص بالأب، بل كل والٍ كذلك، والمعنى: أن أولى ما يُعطاه الرجل شيء يعطاه لكونه أبًا للزوجة أو أخًا لها.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المرأة تستحق ما يذكر قبل عقد النكاح من صداق أو حباء -وهو العطاء- أو عدة، ولو سمي باسم غيرها من أقاربها، وذلك لأنه لم يقدم إلا لأجل النكاح المنتظر.

أما ما يقدم بعد عقد النكاح وتمام الزواج لغير الزوجة من أقاربها كأبيها وأخيها، فهو من أعطيه؛ لأنه هدية، والعقد قد تمَّ، ولم يبق شيء يُحَابَى لأجله، وإكرام أصهار الرجل أمر معروف ومرغوب فيه.

وهذا قول الإمام مالك وعمر بن عبد العزيز -كما تقدم- والثوري.

ولهم دليل وهو هذا الحديث، ولهم تعليل وهو ما ذكره ابن رشد من أن مالكًا فرق بين الحالين؛ لأنه اتهم الولي إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون الذي اشترطه لنفسه نقصانًا من صداق مثلها، ولم يتهمه إذا كان بعد انقضاء النكاح والاتفاق على الصداق، لزوال المحذور

(1)

.

والقول الثاني: أن الشرط لازم من ذكر من أب أو أخ، والصداق صحيح، وهو قول أبي حنيفة، ولعله يأخذ بعموم الأدلة الدالة على أن المسلمين على شروطهم.

والقول الثالث: أن المهر فاسد، ولها صداق المثل، لا فرق بين أن يكون اشتراط الحِباء للأب أو لغيره، وهذا قول الشافعي؛ لأنه نقص من صداقها، لأجل هذا الشرط الفاسد.

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 52).

ص: 382

والقول الرابع: أنه إن شرطه الأب جاز، وإن شرطه غيره كالأخ أو العم بطل الشرط، وجميع المسمى لها، وهذا قول أحمد وقول للشافعي

(1)

. وذلك لعموم الأدلة على أن الإنسان وماله لأبيه.

والعمل بظاهر الحديث هو الراجح، لكن قد يستثنى الأب، بدليل العمومات الدالة على أن يد الأب مبسوطة في مال ولده، فتكون هذه العمومات غير مانعة من العمل بظاهر الحديث، وفيه جمع بين الأدلة.

والظاهر من قوله: (أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء

) أن موضوع الحديث ما إذا تزوجت امرأة وشُرط عليه في صداقها حباءٌ يُحَابَى به الأب أو غيره من الأولياء

(2)

.

° الوجه الرابع: مشروعية صلة أقارب الزوجة وإكرامهم والإحسان إليهم، وأن هذا من مكارم الأخلاق التي ندب إليها الإسلام، لكن إن امتنعوا من التزويج إلا بذلك حرم عليهم

(3)

.

° الوجه الخامس: إذا قدم للزوجة شيء من الهدايا قبل إجراء عقد الزواج ثم حصل عدول عن الزواج، فإن كان العدول من جانب المهدي وهو الزوج فليس له حق في استرداد هداياه، لئلا يجتمع على المُهْدَى إليه ألم العدول عن الزواج وألم الاسترداد.

وإن كان العدول عن الزواج من جانب المُهدى إليه وهي الزوجة وأولياؤها وجب رد الهدية بعينها إن كانت قائمة، وقيمتها إن هلكت أو استهلكت؛ إذ ليس من العدالة أن يجمع على المهدي العدول مع الغرم المالي؛ لأن السبب الذي من أجله حصل الإهداء لم يتم.

وهذا التفصيل هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، وهو اختيار ابن تيمية وبعض فقهاء الشافعية والمالكية

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(10/ 120).

(2)

انظر: "معالم السنن"(3/ 216).

(3)

"نيل الأوطار"(6/ 197).

(4)

"الاختيارات" ص (138)، "آثار عقد الزواج" ص (48 - 50).

ص: 383

‌من تزوج امرأة ثم مات عنها قبل أن يفرض لها

1036/ 5 - عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَها صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتى مَاتَ، فَقَال ابْنُ مَسْعُود: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نسائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ. فَقَال: قَضى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنتِ وَاشِقٍ -امْرَأَةٍ مِنَّا- مِثْلَ مَا قَضَيتَ، فَفَرحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسّنَهُ جَمَاعَةٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، تابعي جليل، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث عن الصحابة؛ كعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكان فقيه العراق، اشتهر بحديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحبته، وكان يشبهه في هديه وسمته وفضله، وهو عم الأسود بن يزيد النخعي، وخال إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي، مات سنة إحدى وستين على أحد الأقوال

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (30/ 411)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (فيمن تزوج ولم يسمّ صداقًا حتى مات)(2115)، والترمذي (1145)،

(1)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 53)، "تهذيب التهذيب"(7/ 244).

ص: 384

والنسائي (6/ 121)، وابن ماجه (1891) كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

قال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، ونقل الحافظ في "التلخيص" تصحيحه عن ابن مهدي، وقال البيهقي:(إسناده صحيح)

(1)

، وقال ابن عبد الهادي:(صححه غير واحد من الأئمة)

(2)

، وقال ابن حزم:(لا مغمز فيه لصحة إسناده)

(3)

.

وقد أعل بالاضطراب، للاختلاف في ذكر الصحابي الذي شهد لابن مسعود رضي الله عنه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق هذا القضاء، وممن ضعفه بذلك الإمام الشافعي، كما نقل ذلك البيهقي

(4)

، فقد روي عن معقل بن سنان، ومرةً عن معقل بن يسار، ومرة عن بعض أشجع بلا تسمية.

قال الشافعي: (إن كان ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وإن كثروا، ولا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له، وإن كان لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لأحد أن يُثبت عنه ما لم يثبت، ولم أحفظه بعد من وجهٍ يثبت مثله

)

(5)

. وقد نقل الترمذي مقالة الشافعي هذه، ثم قال:(وروي عن الشافعي أنه رجع بمصر بعدُ عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق) ونقل الحاكم عن شيخه أبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ أنه لما نُقل له قول الشافعي: (إن صح حديث بروع قلت به) قال: (لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس أصحابه وقلت: فقد صح الحديث فقل به)

(6)

. وقد وهم الصنعاني تبعًا لأصله، فنسب المقالة للحاكم نفسه

(7)

.

وقد أجاب العلماء عن هذا بأنه غير قادح؛ لأنه متردد بين صحابي

(1)

"السنن"(7/ 245).

(2)

"المحرر"(2/ 649).

(3)

"التلخيص"(3/ 216).

(4)

"السنن"(7/ 244).

(5)

"الأم"(6/ 175 - 176).

(6)

"المستدرك"(2/ 180).

(7)

"البدر التمام"(4/ 14)، "سبل السلام"(3/ 264).

ص: 385

وآخر، وقوله:(عن بعض أشجع) لا يضر، لأنه قد فسر ذلك البعض بمعقل، وتبين أن ذلك البعض صحابي، وللبيهقي كلام متين حول هذا الحديث تحسن مراجعته

(1)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (ولم يفرض لها) أي: لم يعين ولم يسمِّ لها مهرًا.

قوله: (ولم يدخل بها) أي: لم يجامعها، ولم يخل بها.

قوله: (فقال ابن مسعود) ظاهره أنه أجاب في الحال، وفي رواية أبي داود والنسائي:(فاختلفوا إليه فيها شهرًا)، وعند أحمد:(فسئل عنها شهرًا)، وفي رواية (ما سئلت عن شيء منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ عليّ من هذه، فأتوا غيري، قال: فاختلفوا إليه شهرًا

)

(2)

.

قوله: (مثل صداق نسائها) أي: نساء أقاربها كأختها وعمتها، وينظر إلى من هي مثلها في دينها وعقلها وجمالها، وكل ما يؤثر على تقدير الصداق؛ لأن هذه الأوصاف تؤثر على تقدير العوض.

قوله: (لا وكس) بفتح فسكون؛ أي: لا نقص.

قوله: (ولا شطط) بفتحتين؛ أي: ولا زيادة، وأصل الشطط: الجور والظلم، وجملة (لا وكس ولا شطط) مؤكدة لما قبلها.

قوله: (وعليها العدة) على: للوجوب، والمراد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر، و (أل) للعهد العلمي.

قوله: (ولها الميراث) اللام: للملك، فترث بمجرد العقد وإن لم يحصل وطء ولا خلوة.

وقد جاء عند أبي داود زيادة: (فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان).

(1)

"السنن الكبرى"(7/ 246)، وانظر:"العلل" للدارقطني (14/ 47).

(2)

"السنن الكبرى"(7/ 245).

ص: 386

قوله: (فقام معقل بن سنان) معقل: بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف، ابن سنان: بكسر السين، الأشجعي، له صحبة ورواية، كان من كبار أهل الحرة، أُسر فذبح صبرًا يوم الحرة رضي الله عنه سنة ثلاث وستين، وله نيف وسبعون سنة

(1)

.

قوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع) قال في "القاموس": (بَرْوَعٌ كجدول، ولا يكسر، بنت واشق، صحابية)

(2)

فهي بفتح الباء عند أهل اللغة، وأما المحدثون فيكسرون الباء

(3)

، قال الجوهري:(أصحاب الحديث يقولونه بكسر الباء، والصواب الفتح .. )

(4)

وهي بروع بنت واشق الرُّؤاسية الكلابية أو الأشجعية، زوج هلال بن مرة الأشجعي، مات عنها ولم يفرض لها صداقًا

(5)

.

قوله: (ففرح بها) أي: بالقضية أو بالفتيا من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكون اجتهاده موافقًا لحكمه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للنسائي (فما رؤي عبد الله فَرِحَ فرحة يومئذ إلا بإسلامه)

(6)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المرأة تستحق كامل المهر بموت زوجها، وإن لم يسم لها شيئًا ولا دخل بها، ولعل هذا -والله أعلم- فيه جبر لخاطرها بما حصل من العقد دون الدخول بسبب الموت، وهو مصيبة بالنسبة لها، لما كانت ترجو من الخير وراء هذا الزواج، بخلاف الطلاق الذي ليس فيه شيء من ذلك.

وهذا الحكم وهو استحقاقها الصداق، هو أحد الأحكام الثلاثة التي اشتمل عليها الحديث.

(1)

"السير"(2/ 576)، "الإصابة"(9/ 256).

(2)

(1/ 252).

(3)

"المغني في ضبط الأسماء" ص (36).

(4)

"الصحاح"(3/ 1184).

(5)

"الاستيعاب"(12/ 224)، "الإصابة"(12/ 156).

(6)

"سنن النسائي"(6/ 123).

ص: 387

والحكم الثاني: أن عليها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذا مجمع عليه، لعموم الأدلة، مثل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهي عامة في المدخول بها وغير المدخول بها، بخلاف المطلقة قبل الدخول، فليس عليها عدة؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].

والحكم الثالث: أن لها الميراث من زوجها الذي عقد عليها ثم مات؛ لأنها زوجة، والأرث يجب بمجرد العقد؛ إذ هو سببه، وليس الوطء، قال تعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12]، وهذا مجمع عليه أيضًا، والخلاف في الحكم الأول، كما سيأتي إن شاء الله.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينظر في تقدير هذا الصداق إلى مهر قراباتها ممن يماثلها في كل صفة يختلف المهر لأجلها، من مال وجمال وعقل وأدب وسِنٍّ وبكارة أو ثيوبة.

° الوجه السادس: لا خلاف بين أهل العلم في أن المرأة إذا سُمي لها الصداق في العقد ثم مات الزوج أن المرأة تستحقه كاملًا، وإنما الخلاف فيما إذا مات عنها ولم يفرض لها صداقًا على قولين:

الأول: أنها تستحق الصداق كاملًا، وذلك بأن يفرض لها مثل صداق نسائها، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وقول للشافعي، رجحه النووي

(1)

، مستدلين بهذا الحديث المؤيد بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه ليس لها إلا الميراث، ولا تستحق مهرًا ولا متعة، وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، وهو مذهب مالك، وقول للشافعي

(2)

، قياسًا للموت على الطلاق، فإن الطلاق قبل الدخول والخلوة

(1)

"تعليل المختار"(3/ 102)، "المغني"(10/ 197)، "روضة الطالبين"(7/ 281 - 282).

(2)

"بداية المجتهد"(3/ 50).

ص: 388

وقبل تسمية المهر لا شيء فيه لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]، فأوجب الله تعالى المتعة للمطلقة قبل المسيس وهو الجماع، والمراد بها: أن يعطيها الزوج على حسب قدرته ما تتمتع به من كسوة أو غيرها، فدل على أنه لا يفرض لها صداقًا، والمتعة خاصة بالمطلقة بنص القرآن، فلا متعة للمتوفى عنها.

قالوا: والمهر عوض عن الوطء، ولم يقع من الزوج، فلا تستحق المرأة العوض، قياسًا على ثمن المبيع.

وأجابوا عن الحديث: بالاضطراب كما تقدم، وبهذا يتبين أن سبب الخلاف هو القول بصحة الحديث أو ضعفه.

والراجح هو القول الأول، فإن اجتهاد ابن مسعود رضي الله عنه في هذه المسألة اجتهاد موافق للدليل، فهو نص في محل النزاع، وما قالوه لا يقاوم هذا الدليل، وأما دعوى الاضطراب، فهي مردودة، كما تقدم.

وأما قولهم: إن المتعة لم ترد إلا للمطلقة، فلا دلالة فيه؛ لأن الكتاب والسنة نفيا مهر المطلقة قبل المسيس والفرض، لا مَهْرَ من مات زوجها عنها، وأحكام الموت غير أحكام الطلاق، فإن العقد لا يفسخ بالموت، وإنما ينتهي به؛ لانتهاء أمده، وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه، ومنها المهر، أما الطلاق فهو قطع للزواج قبل تمامه، فلا يتقرر به شيء.

وأما ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم فلعله لم يبلغهم الحديث، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه وهو من فقهاء الصحابة لم يطلع على هذا الحديث، ولم يعلم به فاجتهد، ثم أخبره معقل بن سنان بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما القياس فهو فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة نص ثبتت صحته.

° الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه يصح النكاح بدون تسمية الصداق، لقوله:(ولم يفرض لها)، وقد دل على هذا قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ

ص: 389

وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم

(1)

.

فإن طلقها قبل الدخول وجبت المتعة لها، وذلك بأن يعطيها شيئًا من المال بالمعروف، على الغني بقدر طاقته، وعلى الفقير بقدر طاقته، كما تقدم في نص الآية، وهذا من الإحسان لما فيه من جبر قلب الزوجة.

° الوجه الثامن: الحديث دليل على جواز الاجتهاد في الحوادث من الأحكام فيما لم يوجد فيه نص، مع إمكان أن يكون فيه نص وتوقيف، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه اجتهد في هذه المسألة، مع أن معقل بن سنان سمع الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولم يسمعه ابن مسعود.

° الوجه التاسع: الفرح بصواب الاجتهاد إذا تبين الصواب؛ لأن في ذلك إظهارًا للحق وعملًا به. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(32/ 62).

ص: 390

‌ما جاء في قلة المهر وجوازه بغير النقد

1037/ 6 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ أَعْطَى في صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَويقًا، أَوْ تَمْرًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ.

1038/ 7 - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبيعَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَينِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَخُولِفَ في ذَلِكَ.

1039/ 8 - وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَال: زَوّجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ طَرَف مِنَ الْحَدِيثِ الطَّويلِ الْمُتَقَدِّمِ فيَ أَوَائِلِ النكَّاحِ.

1040/ 9 - وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وفي سَنَدِهِ مَقَالٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو محمد، عبد الله بن عامر بن ربيعة، العنزي، وعنزة حي من اليمن، ولد عبد الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سِنُّهُ يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمس أو ست سنين، وقد روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعن أبيه عامر بن ربيعة وغيرهم رضي الله عنهم، قال ابن سعد:(كان ثقة، قليل الحديث)، وقال العجلي:(مدني تابعي ثقة، من كبار التابعين)، قال ابن حبان:(أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتهم وهو غلام، روايته عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد

ص: 391

جعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مجلس شوراه، في عشرة؛ هم فقهاء المدينة انذاك، وتوفي سنة خمس وثمانين رحمه الله

(1)

.

وأما والده عامر بن ربيعة رضي الله عنه فقد تقدمت ترجمته في باب (شروط الصلاة) عند الحديث (213).

° الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب (قلة المهر)(2110) من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا موسى بن مسلم بن رومان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا

" الحديث.

وهذا الحديث فيه موسى بن مسلم، ويقال: صالح بن مسلم بن رومان، قال أبو حاتم:(مجهول)، ونقل ابن التركماني عن ابن القطان أنه قال: إلا يعرف)

(2)

، وفيه -أيضًا- أبو الزبير، وهو مدلس، وقد عنعنه، وقد صرح بالسماع في روايات أخرى.

قال أبو داود عقبه: (رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن صالح بن رومان، عن أبي الزبير، عن جابر موقوفًا).

وقد رجح الحافظ في "التلخيص"

(3)

رواية الوقف، وأشار إلى ضعف موسى بن مسلم، فكان عليه أن يشير إلى ضعفه هنا على عادته، ولا يكتفي بالإشارة إلى ترجيح أبي داود وقفه.

وأما حديث عبد الله بن عامر، فقد أخرجه الترمذي في أبواب "النكاح"، باب (ما جاء في مهور النساء)(1113)، وابن ماجه (1888)، وأحمد (24/ 445) من طريق عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال

(1)

"الطبقات"(5/ 9)، "الثقات"(3/ 219)، "تاريخ الثقات" ص (263)، "تهذيب التهذيب"(5/ 238).

(2)

"الجوهر النقي"(7/ 238).

(3)

"التلخيص"(3/ 215).

ص: 392

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسكِ ومالكِ بنعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه.

قال الترمذي: (حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح)، وقد

خولف الترمذي في هذا التصحيح، فضعفه أهل العلم؛ لأن عاصم بن عبيد الله ضعيف سيء الحفظ، وقد أجمع الأئمة المتقدمون كمالك وابن معين والبخاري على تضعيفه.

وقد أنكر الحديث على عاصم جماعة من الأئمة، منهم أبو حاتم الرازي، فقال ابنه: سألت أبي عن عاصم بن عبيد الله؟ فقال: (منكر الحديث، يقال: إنه ليس له حديث يعتمد عليه، قلت: ما أنكروا عليه؟ قال: روى عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه أن رجلًا تزوج امرأة على نعلين، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منكر)

(1)

.

ولما ترجم له الذهبي في "الميزان" عدَّ حديثه هذا مما أنكر عليه

(2)

. ثم إن الحديث في متنه نكارة، وذلك في قوله:(ومالكِ)، فإن مال الزوجة ليس للزوج عليه سبيل، وإنما مالها لها، ولو صح سندًا لكان شاذًّا، لمخالفته الأحاديث الصحيحة الدالة على أن المرأة الرشيدة تتصرف في مالها بما يوافق الشرع، وليس لأحد ولاية عليها، وقد تقدم هذا في باب (الحجر) من كتاب "البيوع".

وأما حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، فقد أخرجه الطبراني في "الكبير"(6/ 156 - 157) والحاكم (2/ 178)، من طريق عبد الله بن مصعب الزبيري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه وزادا:(فَصُّهُ من فضة).

وهذا حديث ضعيف، في إسناده عبد الله بن مصعب، ضعفه ابن معين، ثم هو قد خالف الثقات الذين رووا الحديث عن أبي حازم، كما تقدم سياقه أول كتاب "النكاح"، وفيه قوله: ("انظر ولو خاتمًا من حديد"، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتم من حديد

الحديث)، وليس

(1)

"العلل"(1/ 424).

(2)

"ميزان الاعتدال"(2/ 353 - 354).

ص: 393

فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج الرجل بخاتم من حديد، وإنما أذن له في جعل الصداق خاتمًا من حديد، ويكون معنى قوله في هذه الرواية:(زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا) أي: أراد أن يزوجه.

وأما أثر علي رضي الله عنه، فقد أخرجه الدارقطني (3/ 245) من طريق داود الأودي، عن الشعبي قال: قال علي رضي الله عنه

فذكره.

وهذا سند ضعيف؛ لأن داود الأودي متكلم فيه، فقد ضعفه أبو حاتم، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، وبه أعله ابن الجوزي

(1)

، وأُعل -أيضًا- بأن في إسناده انقطاعًا، فقد تقدم في "العيوب في النكاح" أن الشعبي لم يسمع من علي رضي الله عنه إلا حرفًا واحدًا، كما قال الدارقطني، والحاكم.

ثم هو معارض بما تقدم من الأحاديث الدالة على أن كل ما جاز أن يكون ثمنًا، صح أن يكون صداقًا، بدون التحديد في أكثر من عشرة دراهم.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (في صداق امرأة) في أبي داود: (في صداق امرأة ملء كفيه .. ) كما تقدم.

قوله: (سويقًا) بفتح السين، هو طعام يتخذ من دقيق القمح أو الذرة أو الشعير أو غيرها.

قوله: (فقد استحل) الضمير المرفوع يرجع إلى (من)، والمفعول محذوف؛ أي: فقد جعلها حلالًا بهذا الصداق.

° الوجه الرابع: في هذه الأحاديث دليل على جواز كون الصداق طعامًا أو متاعًا، وأنه لا يلزم أن يكون نقدًا من ذهب أو فضة، أو ما يقوم مقامهما من النقد، بل كل ما جاز أن يكون ثمنًا جاز أن يكون صداقًا، فلو أصدقها ثيابًا أو سيارة أو أرضًا أو مزرعة أو منزلًا أو نحو ذلك صح.

(1)

"التحقيق"(9/ 101).

ص: 394

وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة لكنها جاءت موافقة للأصول، وما وافق الأصول صح أن يستشهد به وإن كان ضعيفًا، مع أنه يؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ثابت بن قيس مع امرأته لما خالعها، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ "، فهذا يدل على أن الصداق حديقة وليس نقدًا، وسيأتي -إن شاء الله- هذا الحديث في باب (الخلع).

° الوجه الخامس: لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا حدَّ لأكثر الصداق، نقل ذلك ابن عبد البر

(1)

، وابن رشد

(2)

؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على تحديده بِحَدٍّ أعلى، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] إذ ليس المقصود من إيتاء القنطار بيان الحد الأعلى للصداق، وإنما هو كناية عن الكثرة، ولو كان ذلك مسوقًا لبيان الحد الأعلى لنهى عن الزيادة عليه، وعلى هذا فليس في الآية دليل على جواز المغالاة في الصداق؛ لأنه تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، ولو فرضت دلالتها لكان غاية ما تدل عليه جواز دفع القادر الصداق الكثير المنوه عنه بالآية بالقنطار، لا تكليف العاجز ما لا يقدر عليه

(3)

.

وأما أقل الصداق فقد اختلف فيه العلماء على قولين:

الأول: أن أقل الصداق غير مقدر بمقدار معلوم، بل يصح الصداق بكل ما يسمى مالًا أو ما يقوَّم بمال، فإن عُقد بما لا يتمول ولا يقابل بما يتمول كالنواة والحصاة، فسدت التسمية ووجب مهر المثل، وهذا قول الشافعية والحنابلة، واستدلوا بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] ووجه الاستدلال: أن لفظ الأموال مطلق، فيتناول القليل والكثير.

وأما السنة فأحاديث الباب، وما جاء في معناها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "التمس

(1)

"الاستذكار"(16/ 65).

(2)

"بداية المجتهد"(3/ 38).

(3)

"تفسير القرطبي"(5/ 100)، "الفتاوى"(32/ 195).

ص: 395

ولو خاتمًا من حديد"، فإنه يدل على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال.

والقول الثاني: أن لأَقَلِّ المهر حدًّا لا يجوز أن يقل عنه، وهو قول المالكية والحنفية، ثم اختلفوا في أقله، فقال أبو حنيفة: أقله عشرة دراهم، أو ما قيمته عشرة دراهم، مستدلين بأثر علي رضي الله عنه، وقياسًا على نصاب السرقة، إظهارًا لمكانته؛ فيقدر بما له أهمية.

وقال مالك: ربع دينار أو ثلاثة دراهم، قياسًا على نصاب السرقة، كما تقدم

(1)

.

والراجح أن أقل الصداق غير مقدر؛ لأن هذا القول هو الذي يجمع الأحاديث كلها، وأما القول الثاني فهو مرجوح، وليس عليه دليل غير القياس على نصاب السرقة. والله تعالى أعلم.

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 41)، "بدائع الصنائع"(2/ 275)، "المهذب"(2/ 55)، "المغني"(10/ 99).

ص: 396

‌استحباب تيسير الصداق

1041/ 10 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ الصَّدَاقِ أَيسَرُهُ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب (فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقًا حتى مات)(2117)، والحاكم (2/ 181 - 182) من طريق أبي الأصبغ الجزري عبد العزيز بن يحيى، أخبرنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، خالد بن أبي يزيد، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل:"أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم. وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانًا؟ "، قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، ولم يفرض لها صداقًا، ولم يعطها شيئًا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقًا، ولم أعطها شيئًا، وإني أشهدكم أني أعطيتها صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمًا فباعته بمائة ألف، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره"، هذا لفظ الحاكم، وقال:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي.

وهذا فيه نظر، فإن خالد بن أبي يزيد لم يخرج له البخاري في "صحيحه"، وإنما روى له في "الأدب المفرد"، وهو ثقة، أخرج له مسلم في "صحيحه"، وعبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وهم، ولم يرو له البخاري،

ص: 397

ولا مسلم، والحديث صححه الألباني

(1)

.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن أفضل الصداق وأعظمه بركة على الزوجين، هو ما كان أيسر وأسهل على الزوج، بحيث لا يجد مشقة في إعداده، وهذا يدل على استحباب تيسير الصداق وتخفيفه، فعلى الزوج أن يقدم ما تيسر من المهر، وعلى الزوجة وأوليائها أن يقبلوا ما يقدم إليهم، وقد دل بمفهومه على أن غير الأيسر على خلاف ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (السنة: تخفيف الصداق، وألا يزيد على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته

ويكره للرجل أن يصدق المرأة صداقًا يضر به إن نقده، ويعجز عن وفائه إن كان دينًا

وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حَمَّلَ نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه

)

(2)

.

وقد جاء من طريق محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء -وعند أحمد سمعه من أبي العجفاء- قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: (ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرُمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية

الحديث)

(3)

.

وهو يدل على ضعف ما ورد من اعتراض المرأة على عمر رضي الله عنه لما نهى عن المغالاة، واعترضت عليه المرأة بآية {وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، فرجع عن ذلك

(4)

.

وعن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يُمْنِ

(1)

"الإرواء"(6/ 344).

(2)

"الفتاوى"(32/ 192 - 194)

(3)

أخرجه أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 117)، وأحمد (1/ 382) وهو حديث صحيح.

(4)

القصة رواها سعيد بن منصور (1/ 166)، وعبد الرزاق (6/ 180) ولها طرق كلها ضعيفة.

ص: 398

المرأة أن تتيسر خِطبتها، وأن يتيسر صداقها، وأن يتيسر رحمها"، قال عروة: يعني للولادة، قال عروة: وأنا أقول من عندي، من أول شؤمها أن يكثر صداقها

(1)

.

وتيسير الصداق فيه مصالح عظيمة منها:

1 -

العمل بالسنة، وامتثال ما أرشدت إليه.

2 -

تيسير سبل الزواج، وفي هذا من الفوائد للشباب والفتيات والمجتمع بأسره ما هو معلوم.

3 -

أن تخفيف الصداق من أسباب المحبة ودوام المودة، وأن الإنسان إذا تزوج بمهر يسير لم يكره زوجته، بخلاف التي تكلفه مبالغ كثيرة.

4 -

أن تخفيف الصداق يسهل على الزوج مفارقة زوجته إذا ساءت العشرة، ولم يحصل توافق بينهما، كما يسهل مسألة الخلع، إذا وجد ما يدعو إليه، فإنه إذا كان المهر قليلًا أمكن المرأة وأوليائها بذل العوض، بخلاف ما إذا كان كثيرًا، والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه أحمد (41/ 27 - 153، 28 - 154)، وابن حبان (9/ 405)، والبيهقي (7/ 235) واللفظ له، والحديث حسنه الألباني في "الإرواء"(6/ 350).

ص: 399

‌مشروعية تمتيع المطلقة بما يتيسر

1042/ 11 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ الْجَوْنِ تَعَوّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيهِ -تَعْني: لَمَّا تَزَوّجَهَا- فَقَال: "لَقَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ" فَطَلَّقَهَا، وَأَمَرَ أُسَامَةَ فَمَتَّعَهَا بِثَلَاثةِ أَثْوَابٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ.

1043/ 12 - وَأَصْلُ الْقِصّةِ في الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبي أُسَيدٍ السَّاعِدِيِّ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو أُسيد، بضم الهمزة وفتح السين، مالك بن ربيعة بن البَدْن بن ساعدة الخزرجي الساعدي، مشهور بكنيته، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني ساعدة يوم الفتح، مات بالمدينة سنة ستين، قال ابن عبد البر:(وهو آخر البدريين موتًا)، وقيل سنة ثلاثين، قال ابن عبد البر:(هذا خلاف متباين جدًّا)، وهو ابن ثمان وسبعين رضي الله عنه

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجهما.

حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه ابن ماجه (2037) من طريق عبيد بن القاسم، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أن عمرة بنت

(1)

"الاستيعاب"(9/ 310)، "الإصابة"(9/ 47 - 48).

ص: 400

الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه، فقال:"لقد عُذْتِ بِمَعَاذٍ"، فطلقها، وأمر أسامة أو أنسًا فمتعها بثلاثة أثواب رازقية.

وهذا حديث باطل؛ لأن فيه عبيد بن القاسم، ضعفه البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، وهو كذاب يضع الحديث، قال ابن معين:(كان كذابًا خبيثًا)، وقال ابن حبان:(كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات، روى عن هشام بن عروة بنسخة موضوعة، لا يحل كتابة حديثه، إلا على جهة التعجب)

(1)

.

وأصل الحديث في صحيح البخاري (5255) من طريق حمزة بن أبي أُسيد، عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اجلسوا ها هنا"، ودخل، وقد أُتي بالجونية، فأُنزلت في بيتٍ في نخلٍ في بيتِ أميمةَ بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها

(2)

حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هبي نفسك لي"، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسُّوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال:"قد عذت بِمَعاذ"، ثم خرج علينا فقال:"يا أبا أُسيد، اكسها رازقيين، وألحقها بأهلها".

والمقصود من هذا السياق بيان أن التمتيع ورد في رواية ابن ماجه، وما عداه فهو ثابت في "صحيح البخاري".

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (عمرة بنت الجون) بفتح الجيم وسكون الواو فنون، وقد سماها في رواية ابن ماجه عمرة، مع أنه اختلف في اسمها ونسبها على عدة أقوال، ذكرها الحافظ في "فتح الباري"

(3)

، ولا يتعلق بذلك حكم شرعي، والظاهر من رواية البخاري المذكورة أنها أميمة بنت النعمان بن شراحيل، وما ورد غير ذلك فهو من قبل الرواة وتصرفاتهم.

(1)

"المجروحين"(2/ 165 - 166)، "مصباح الزجاجة"(2/ 127).

(2)

الداية: بالياء التحتانية: الظئر المرضع، وهي معربة. "فتح الباري"(9/ 358).

(3)

(9/ 357 - 358).

ص: 401

قوله: (تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: قالت: أعوذ بالله منك، كما تقدم في رواية البخاري، وقد جاء في بعض الروايات أنها خُدعت بذلك، وأن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت، فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهن: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك

وأردن بذلك ألا تبقى عنده

(1)

.

لكن ظاهر سياق الحديث عند البخاري يقتضي أنها قالت ذلك، لأجل أنها عدت نفسها أعلى وأرفع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تره كفوًا لها، ويحتمل أنها قالت ذلك لأنها لم تعرف قصد النبي صلى الله عليه وسلم لما مدَّ يده إليها، ففي البخاري: (فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك

الحديث)

(2)

.

قوله: (لقد عُذت بمعاذ) بضم العين؛ أي: استجرت بمجير يجيرك ويعصمك مما لا ترغبين، والتنوين للتعظيم؛ أي: تعوذت بعظيم هو أهل لأن يُتعوذ به، وهو الله تعالى، والمَعاذ: بفتح الميم، هو ما يستعاذ به

(3)

.

قوله: (فطلقها) في حديث عائشة عند البخاري: (فقال لها: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك)

(4)

، وهذا كناية عن الطلاق مع القصد.

قوله: (وأمر أسامة) في رواية البخاري: (فأمر أبا أُسيد)، وذلك لأن أبا أسيد هو الذي أحضرها للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في بعض الروايات.

قوله: (فمتعها بثلاثة أثواب) من التمتيع؛ أي: أعطاها المتعة، بضم الميم، وهي متعة الطلاق، والمراد بها: ما يعطيه الزوج من طلقها، لجبر خاطرها المنكسر بألم الفراق، وقد جاء وصف الثياب بأنها رازقية، والرازقية: ثياب من كتان بيض طوال، وقيل: يكون في داخل بياضها زرقة

(5)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على مشروعية تمتيع الزوجة المطلقة

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 359).

(2)

"صحيح البخاري"(5637).

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 359).

(4)

"صحيح البخاري"(5254).

(5)

"فتح الباري"(9/ 359).

ص: 402

بما تيسر، وهو أن يعطيها ما تتمتع به من كسوة أو نفقة أو غير ذلك، حسبما يقتضيه العرف وحال الزوج؛ جبرًا لقلبها من فجيعة الطلاق، وتخفيفًا لآلامها، ومواساة لها وتكريمًا، فهو من أنواع الإحسان إليها، وقد جاء تمتيع المطلقة في قوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)} [الأحزاب: 28]، وليس للمتعة قدر معين، لقوله تعالى:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، والموسع: الغني، والمقتر: الفقير، فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح، وإن اختلفا اجتهد الحاكم على ضوء هذه الآية الكريمة.

وقد اختلف العلماء في حكم المتعة على ثلاثة أقوال:

الأول: وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، وسواء فرض لها صداق أم لم يفرض.

وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مروي عن علي رضي الله عنه، وسعيد بن جبير، ورجحه ابن جرير، والحافظ ابن حجر، والشنقيطي

(1)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} [البقرة: 241]، ولفظ المطلقات عام، وأكد ذلك بقوله:{حَقًّا} ؛ أي: أحقه حقًّا، وأكده بمؤكد ثان وهو قوله:{عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، وفي الأخرى:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالينَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)} ، وقد كن مفروضًا لهن ومدخولًا بهن، وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة، إلا بدليل على تخصيصه به.

والقول الثاني: أن المتعة مستحبة لكل مطلقة على ما تقدم، وهذا قول

(1)

"تفسير الطبري"(5/ 264)، "المغني"(10/ 140)، "الاختيارات" ص (237)، "فتح الباري"(9/ 496)، "أضواء البيان"(1/ 281 - 282).

ص: 403

مالك، وجماعة من السلف

(1)

، واستدلوا بقوله تعالى:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، قالوا: ولو كانت المتعة واجبة لما خُصَّ بها المحسنون والمتقون، بل كانت حقًّا على كل أحد، ولو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب، وقوله:{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، تأكيد للوجوب، وقولهم: لو كانت واجبة لكانت محدودة، مردود بأن نفقة الأزواج والأقارب واجبة، مع أنها غير مقدرة

(2)

.

والقول الثالث: أن المتعة تجب من طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر، وأما إذا طلقت بعد الدخول فلا متعة لها، فإن كانت مُفَوِّضَةً -وهي التي لم يُسَمَّ لها صداقًا

(3)

- فلها مهر مثلها، وإن كان قد فرض لها وجب لها نصفه، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، والحسن وعطاء والشعبي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في رواية عنه

(4)

، ودليل ذلك قوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]، وقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فخص الأولى بالمتعة، والثانية بنصف المهر، ولو كان ثمَّ واجب آخر من متعةٍ غير نصف المهر، لبينه الله تعالى، لا سيما وقد قرن هذه الآية بما قبلها الدالة على اختصاص المتعة بتلك الحالة، وأجابوا عن آية:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، بأنها خصصت بآية:{لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ} . وأجيب عن ذلك بأنه لا تخصيص، بل ذكر المتعة في حق من طلقت قبل الدخول وقبل الفرض، من باب ذكر بعض أفراد العام بحكم العام، وهو لا يقتضي التخصيص

(5)

.

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 183)، "المغني"(10/ 139).

(2)

"الأضواء"(1/ 282).

(3)

انظر: "المُطْلِع" ص (327).

(4)

"بداية المجتهد"(3/ 183)، "المغني"(10/ 139)، "حاشية ابن عابدين"(3/ 111).

(5)

"تفسير ابن كثير"(1/ 439).

ص: 404

والذي يظهر -والله أعلم- أن المتعة واجبة في حق من طلقت قبل الدخول وقبل فرض الصداق، لقوة الأدلة على ذلك، ولأن في المتعة تعويضًا لها عما فاتها من المهر، وجبرًا لمصيبتها، وإحسانًا إليها، فلا يجمع عليها بين فوات المال وفوات النكاح.

أما من طلقت قبل الدخول، وبعد فرض الصداق، فمتعتها مستحبة؛ لأنه لما امتنع الوجوب لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، تعين حمل الأدلة الدالة على عموم المتعة على الندب جمعًا بين دلالة الآيات، وكذا من طلقت بعد الدخول تستحب متعتها؛ لأنه ثبت المهر بالدخول، واستحبت المتعة بالطلاق، وقد تقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى الوجوب مطلقًا، وقيد ذلك الشيخ محمد بن عثيمين بطول المدة كأن يكون طلقها قبل سنة أو قريبًا من ذلك، أما إذا طلقها في الحال، والمهر لم يفارق يدها، فلا معنى للمتعة

(1)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دلالة بينة على كرم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم إحسانه، ومحبته للعفو، حيث عفا عن هذه المرأة وألحقها بأهلها، وإلا فالأصل ألا تُجاب إلى ذلك؛ لأن الحق ليس بيدها، فقد تم النكاح عليها، والطلاق بيد الزوج؛ لأن الأصل أن من تعوذ في شيء واجب عليه أو لازم له، فإنه لا يعفى عنه ولا يعاذ، فلو تعوذ بالله أن يقام عليه القصاص، أو حد من الحدود لم يجب إلى ذلك. أما إذا كان في حق لم يجب عليه ولا يلزمه فلا بأس أن يجاب إلى ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "آثار عقد الزواج" ص (214)، "الشرح الممتع"(12/ 308).

ص: 405

‌باب الوليمة

أصل الوليمة: تمام الشيء واجتماعه، يقال: أولم الرجل: إذا اجتمع عقله وخلقه، ثم نقلت لطعام العرس؛ لاجتماع الرجل والمرأة، أو لاجتماع النساء فيها، أو لاجتماع أنواع الأطعمة.

والمراد بالوليمة هنا: طعام العرس خاصة، وقد حكى ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة أن الوليمة اسم لطعام العرس خاصة لا تقع على غيره

(1)

.

وقال بعض الفقهاء: الوليمة تقع على كل طعامٍ لسرور حادث؛ كقدوم غائب، وطعام العقيقة، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر.

قال ابن مفلح الحنبلي: (وقول أهل اللغة أَوْلى؛ لأنهم أهل اللسان، وأعرف بموضوعات اللغة)

(2)

. وعلى هذا فالأشهر إطلاق الوليمة على وليمة العرس، فإن أطلقت على غيرها فلا بد من التقييد، فيقال: وليمة الختان، وليمة القدوم من سفر، ونحو ذلك من الولائم المعروفة عند العرب.

والوليمة مشروعة في حق الزوج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بن عوف -كما في حديث الباب- ولم يأمر بها أصهاره، ولأن النعمة في حق الزوج أكبر من النعمة في حق الزوجة، فإنه هو الطالب لها غالبًا.

وفي الوليمة إعلان النكاح باجتماع الناس، كما أن فيها صلة الأقارب والأرحام والجيران، وإطعام الفقراء، وفيها -أيضًا- إدخال السرور على الزوجة وأوليائها وأقاربها.

(1)

"التمهيد"(10/ 182).

(2)

"المطلع" ص (328).

ص: 406

وقد عقد الحافظ هذا الباب، وساق فيه الأحاديث التي ثبتت في حكم الوليمة ومقدارها ووقتها، وحكم إجابتها، كما ساق أحاديث دالة على جملة من آداب الأكل والشرب، والله المستعان.

ص: 407

‌مشروعية وليمة الزواج

1044/ 1 - عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرّحْمنِ بنِ عَوْفٍ أثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال: "مَا هذَا؟ "، قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَزَوّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبِ، قَال:"فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في أكثر من عشرة مواضع من "صحيحه"، منها في كتاب "النكاح"، باب (كيف يدعى للمتزوج)(5155)، ومسلم (1427) من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا.

وقول الحافظ: (واللفظ لمسلم) لا معنى له؛ لأن لفظهما واحد، إلا أن الفاء في قوله:(فبارك الله لك) ليست عند البخاري في هذا الموضع.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عبد الرحمن بن عوف) هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري. من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر رضي الله عنه الخلافة فيهم، كان من السابقين إلى الإسلام، وأحد الشجعان الأجواد العقلاء، مات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه، وتقدم له ذكر في رابع أحاديث باب (اللباس) من كتاب "الصلاة".

قوله: (أثر صفرة) بضم الصاد وإسكان الفاء؛ أي: صفرة الخلوق،

ص: 408

وهو طيب يصنع من زعفران وغيره، وفي رواية:(عليه صفرة) وفي رواية للبخاري: (رَدْعٌ من زعفران) والردع: براء ودال وعين مهملات، هو أثر الطيب.

قوله: (ما هذا) ظاهره أنه سؤال استنكار؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل، وفي رواية قال:(مَهْيم) أي: ما شأنك أو ما الخبر؟

قوله: (على وزن نواة من ذهب) النواة: اسم لمعيار الذهب عندهم، وليس المراد بها نواة التمر -كما قيل- لأنه لا يتحرر الوزن فيه لاختلاف نوى التمر في المقدار، قالوا: إنه يزن خمسة دراهم، وتقدم مقدار الدرهم، والدرهم = 2 و 1/ 3 جرام، فيكون الصداق 5 × 2 و 1/ 3 = 11 و 2/ 3 جرام من الذهب.

قوله: (أولم) فعل أمر، من أولَم يولم، والمعنى: اصنع الوليمة.

قوله: (ولو بشاة) لو: هنا حرف تقليل، لا عمل لها ولا جواب، نحو: تصدقوا ولو بتمرة، فتفيد أن الوليمة تجوز بدون الشاة، كما تفيد أن الأَوْلى الزيادة على الشاة؛ لأنه جعل ذلك قليلًا

(1)

.

والشاة: هي الواحدة من الغنم للذكر والأنثى، ضأنًا كانت أم معزًا.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية تفقد الوالي والقائد لأصحابه، وسؤاله عن أحوالهم وأعمالهم التي تعنيه وتعنيهم، لقوله:(ما هذا)؟

° الوجه الرابع: كراهة التطيب بالزعفران، وكل ما يظهر أثره من الطيب للرجال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سأل عبد الرحمن عن أثر هذا الطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل

(2)

.

ولعل وجه النهي أنه من طيب النساء، وكن أكثر استعمالًا له منهم، وأجيب عن فعل عبد الرحمن هذا بأجوبة، لعل من أظهرها أنه عَلِقَ به من

(1)

"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(5/ 327).

(2)

أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101).

ص: 409

امرأته بدون قصد، ورجح هذا القاضي عياض، وكذا النووي، ونسبه للمحققين، ويستفاد من ذلك أن الرجل إذا عَلِقَ به شيء من طيب امرأته من زعفران أو غيره، أنه لا حرج فيه، لعموم القصة؛ لأن عبد الرحمن بن عوف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تزوج، ولم ينكر عليه أثر الصفرة، ويكون حديث النهي محمولًا على القصد، ومن أهل العلم من أجاز التزعفر للمتزوج فقط، وجعله مستثنى من عموم النهي الوارد في الحديث المتقدم

(1)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على استحباب تخفيف الصداق، فهذا عبد الرحمن بن عوف لم يصدق زوجته إلا وزن خمسة دراهم من ذهب، مع أنه كان من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بالبركة، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:(كيف يدعى للمتزوج؟) وقد مضى الكلام على ذلك عند سادس أحاديث كتاب "النكاح"، والحمد لله.

° الوجه السابع: في الحديث دليل على مشروعية وليمة الزواج، وأنها من الزوج، لقوله:(أولم)، وأما عملها من جانب أهل الزوجة فليس عليه دليل فيما أعلم.

° الوجه الثامن: لا خلاف بين أهل العلم في استحباب وليمة الزواج، لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وحث عليها، وإنما اختلفوا في وجوبها على قولين:

الأول: أنها مستحبة، وهذا قول الجمهور، قالوا: لأنه طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة؛ كطعام القدوم من السفر ونحوه.

ولأنه لم يرد نص صريح في إيجابها، وحديث عبد الرحمن هذا ليس صريحًا، فإنه أمر بالشاة وهي غير واجبة اتفاقًا، فيكون قوله:(أو لم) للاستحباب.

الثاني: أنها واجبة، وهذا مذهب الظاهرية، وقول في مذهب الشافعية،

(1)

"إكمال المعلم"(4/ 585)، "شرح النووي"(9/ 228)، "فتح الباري"(9/ 236).

ص: 410

وذكر صاحب "الإنصاف" عن الإمام أحمد أنه قال: (تجب ولو بشاة)، للأمر، قاله ابن عقيل

(1)

، واستدلوا بما يأتي:

1 -

حديث أنس رضي الله عنه هذا حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها عبد الرحمن بن عوف، والأمر للوجوب، بل إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاستدراك بعد انقضاء الدخول.

2 -

حديث بريدة رضي الله عنه قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا بد للعرس -وفي رواية: للعروس- من وليمة"

(2)

.

والقول بالوجوب قوي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن، ولم يدعها صلى الله عليه وسلم بأي شيء تيسر، فالأحوط ألا يدعها القادر امتثالًا للأمر، وتأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتحصيلًا لفوائدها العظيمة، كما تقدم أول الباب.

وقولهم: إنها غير مقدرة، لا يلزم منه عدم الوجوب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أو لم باللحم، وأولم بالخبز، وأمر بالشاة، مما يفيد أن الأمر فيه سعة.

° الوجه التاسع: نقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا حدَّ للقدر المجزئ من الوليمة

(3)

، بل بأي شيء أولم من الطعام حصلت الوليمة، وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بالأَقِطِ والسمن والتمر

(4)

، وأولم على زينب بخبز ولحم

(5)

.

والظاهر -والله أعلم- أن مقدار الوليمة مرجعه إلى العرف؛ لأنها من باب النفقة، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، وعلى هذا فلا حدَّ لها، وهي تختلف باختلاف حال الزوج يسارًا وإعسارًا، بشرط ألا تخرج إلى حد الإسراف والمباهاة وما عليه الناس اليوم، فتكون بالشاتين والثلاث إن كان

(1)

انظر: "المحلى"(9/ 450)، "المهذب"(2/ 82)، "الإنصاف"(8/ 317).

(2)

أخرجه أحمد (38/ 142 - 143)، قال الحافظ في "الفتح" (9/ 230):(سنده لا بأس به)، فيه عبد الكريم بن سَليط، لم يرو عنه غير اثنين، وذكره ابن حبان في "الثقات"(7/ 131)، وقال الحافظ:(مقبول).

(3)

"إكمال المعلم"(4/ 588).

(4)

أخرجه البخاري (5085)، ومسلم (2/ 1044) وسيأتي إن شاء الله.

(5)

رواه البخاري (5163)(5171)، ومسلم (1428).

ص: 411

موسرًا وهذا أكمل، وإلا يُكتفى بما تيسر من طعام وشراب، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أولم على صفية وليس فيها لحم.

° الوجه العاشر: اختلف العلماء في وقت الوليمة، وأكثر الروايات أنها بعد دخول الزوج بزوجته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بها عبد الرحمن بعد الدخول، وقال أنس رضي الله عنه: أصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب فدعا القوم فأصابوا من الطعام

(1)

.

والقول الثاني: أن الوليمة تكون عند العقد.

والقول الثالث: عند الدخول.

والأظهر أن وقتها موسع من عقد النكاح إلى الدخول؛ لصحة الأخبار في هذا وهذا، ولأن هذه الأيام أيام فرح وسرور، ثم إن العرف والعادة لهما علاقة بهذا، قال ابن حجر:(واستحب بعض المالكية أن تكون عند البناء ويقع الدخول عقبها، وعليه عمل الناس اليوم)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (5166).

(2)

"فتح الباري"(9/ 230).

ص: 412

‌حكم إجابة الوليمة

1045/ 2 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ".

1046/ 3 - وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "شَرُّ الطَّعامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصى اللهَ وَرَسُولَهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (حق إجابة الوليمة والدعوة)(5173)، ومسلم (1429)(96) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما موفوعًا.

وأما رواية مسلم (1429)(100) فهي من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة)(1432)(110) من طريق سفيان، قال: سمعت زياد بن سعد قال: سمعت ثابتًا لأعرج يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

فذكر الحديث هكذا مرفوعًا.

ورواه البخاري (5177)، ومسلم -أيضًا- (1432)(107) موقوفًا من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه

ص: 413

كان يقول: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله)

(1)

. وهذا أوله موقوف، لكن آخره من قبيل المرفوع حكمًا؛ لأن حكم الصحابي على شيء بأنه معصية لله ورسوله لا يكون إلا بنص من الشرع، ولا يجزم الصحابي بذلك إلا وعنده علم به.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عرسًا كان أو نحوه) أي: سواء كانت الدعوة لطعام العرس أو ما أشبهه كطعام العقيقة ونحوها، والعرس: بضم العين وسكون الراء أو ضمها: الزواج، وهو يذكر ويؤنث، والجمع في المذكر: أعراس، مثل قفل وأقفال، وفي المؤنث: عُرْسات، والعرس أيضًا طعام الزِّفاف، وهو مذكر؛ لأنه اسم للطعام، والعرس: وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث ما داما في إعراسهما، فيقال: رجل عروس، وامرأة عروس

(2)

. قال أنس رضي الله عنه: (أصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب

)

(3)

.

قوله: (شر الطعام) الشر: ضد الخير، وشر -هنا - أفعل تفضيل حذفت همزته لكثرة الاستعمال، ومثله (خير)، وتقدم هذا في "عشرة النساء".

وفي رواية لمسلم: (بئس الطعام) وليس المراد بذلك ذم الطعام في ذاته وحاله، وإنما ذم الفعل الذي هو دعاء الأغنياء وترك الفقراء فإلى فعل ذلك توجه الذم لا إلى الطعام.

وطعام الوليمة طعام مخصوص بقصد مذموم، يقل معه الأجر، على كثرة ما فيه من الإنفاق، وذلك أنه إنما يصنع ليدعى له الأغنياء دون المساكين؛ لما في دعاء المساكين من ابتذال المنزل والفرش والمكان، فكان ذلك مما يجعله شر الطعام؛ لأن خير الطعام وأكثره أجرًا ما يدعى إليه المساكين لحاجتهم

إليه، ولما في الصدقة عليهم من سد خلتهم وإشباع جوعتهم.

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (9/ 116).

(2)

انظر: "المصباح المنير" ص (401).

(3)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 414

قوله: (طعام الوليمة) أي: وليمة العرس، كما تقدم من أن اللفظ خاص بها.

قوله: (يمنعها من يأتيها) مبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: يكف عنها من لو دعي إليها لسارع إلى الإجابة، والمراد بهم الفقراء والمساكين.

وهذه الجملة مستأنفة لبيان وجه شرية طعام الوليمة، فكأنه قال: لأنه يمنع من يأتيها، وهم الفقراء والمساكين، كما سيأتي في الرواية الأخرى الموقوفة.

قوله: (ويدعى إليها من يأباها) والمراد بهم الأغنياء، كما تقدم في الرواية، فهذا وما قبله تعليل لما تقدم، وإخبار وتحذير عما يقع من الناس على مر العصور، ولا سيما في زماننا هذا من مراعاة الأغنياء والوجهاء وترك المساكين والفقراء، بل محاولة إبعادهم ومنعهم من الدخول احتقارًا لهم، كما تقدم.

قوله: (ومن لم يجب الدعوة) أي: من غير عذر، وهذا القيد مستفاد من عمومات الشريعة، وهو أن أوامر الشريعة مطلوبة ما لم يكن عذر، و (أل) في (الدعوة) للعهد الذكري؛ أي: الوليمة المذكورة أولًا، ويحتمل أنها للجنس، فيكون اللفظ عامًّا في جميع الدعوات، كما سيأتي.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن إجابة الدعوة مطلوبة من المسلم، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتأخر عنها، سواء أكانت وليمة عرس أم غيرها من الولائم الأخرى، لما في إجابة الدعوة من جبر خاطر أخيك المسلم، ولما في الولائم من التآلف والتعارف، والتحاب بين الإخوان والجيران والأقارب، فالولائم تجمع الناس بالتحدث والتعارف والنصائح والتواصي بالحق، وهذه ولائم أهل العلم والإيمان.

° الوجه الرابع: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس، بل بعض العلماء كابن عبد البر والقاضي عياض نقل الإجماع على ذلك، قال ابن عبد البر: (لا أعلم خلافًا في وجوب إتيان الوليمة لمن

ص: 415

دعي إليها إذا لم يكن فيها منكر ولهو)

(1)

.

ودعوى الاتفاق فيها نظر، وإنما الوجوب هو قول الجمهور، واستدلوا بهذه الأحاديث، وذلك من وجهين:

الأول: صيغة الأمر الذي تجرد عن القرائن، ومقتضاه الوجوب.

الثاني: أنه حكم بالعصيان على من لم يجب الدعوة، ولا يحكم بالعصيان إلا على ترك واجب.

وذهب جماعة من الشافعية والحنابلة إلى أن الإجابة مستحبة، وليست بواجبة، وذكر صاحب "الإنصاف"

(2)

أنه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم أقف عليه في "الفتاوى" ولا في "الاختيارات" وإنما حكى في "الفتاوى" الوجوب فقط

(3)

. وصرح صاحب "الهداية" من الحنفية بأنها سنة

(4)

؛ لأن الأكل من الوليمة تمليك مال، فلم يجب كغيره، قالوا: ولأن الأصل في الوليمة أنها مندوبة، فيكون الحضور مندوبًا.

وقال بعض الشافعية والحنابلة إجابتها فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين؛ لأن القصد إظهار النكاح، وذلك يحصل بحضور البعض، فكأنهم قصروا حكمتها على إعلان النكاح

(5)

.

والراجح هو القول الأول، لقوة أدلته، فإنها أحاديث صحيحة وصريحة في الوجوب، قال الشوكاني: (والظاهر الوجوب، للأوامر الواردة بالإجابة من غير صارف لها عن الوجوب، ولجعل الذي لم يُجِبْ عاصيًا

)

(6)

.

° الوجه الخامس: أما دعوة غير العرس كالعقيقة والقدوم من السفر ونحو ذلك، ففي حكم إجابتها قولان:

الأول: أن الإجابة مستحبة، وقد عزا ابن حجر هذا القول إلى

(1)

"التمهيد"(10/ 170)، "إكمال المعلم"(4/ 589)، "المغني"(10/ 193).

(2)

(8/ 318).

(3)

(32/ 206).

(4)

(4/ 80).

(5)

"مغني المحتاج"(3/ 245).

(6)

"نيل الأوطار"(6/ 202).

ص: 416

الجمهور

(1)

. وبالغ السرخسي من الحنفية فنقل الإجماع على ذلك، وهو غير مسلم، كما سيأتي.

واستدلوا بما يلي:

1 -

ما رواه أحمد بسنده عن الحسن، قال: دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان، فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال:(إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ندعى له)

(2)

.

2 -

حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب"

(3)

. قالوا: فلما خص الوجوب بوليمة العرس دل على أن غيرها لا يجب.

3 -

ويمكن أن يستدل لذلك -أيضًا- بحديث أنس رضي الله عنه أن جارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيًّا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه، فقال: وهذه، لعائشة، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه، قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه، قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله

(4)

.

القول الثاني: أن الإجابة واجبة، وأن الولائم حكمها واحد، وهو الوجوب، عرسًا كان أم غيره، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وبعض التابعين، وأهل الظاهر، وبعض الشافعية

(5)

، واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث ابن عمر رضي الله عنهما -كما في رواية مسلم؛ فإن قوله: (فليجب عرسًا كان أو غيره) نص مطلق.

(1)

"فتح الباري"(9/ 244).

(2)

"المسند"(29/ 436) وهو معلول كما سيأتي.

(3)

رواه مسلم (1429)(98).

(4)

رواه مسلم (2037).

(5)

"المحلى"(9/ 455 - 451)، "فتح الباري"(9/ 247)، "المغني"(3/ 245).

ص: 417

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله، ورسوله" إذا قلنا: إن (أل) للاستغراق، وهذا هو الظاهر.

3 -

قال نافع: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها"، قال: كان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم

(1)

. وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما فهم أن (أل) في الدعوة للعموم، لذا كان يأتي الدعوة للعرس وغيره.

4 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"

(2)

. وفي رواية لمسلم: "حق المسلم على المسلم ست، وفيه: وإذا دعاك فأجبه".

وهذا القول هو الراجح، لقوة أدلته، وعمل راويها بها، قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(من خص وجوب الإجابة بوليمة العرس فليس معه دليل فيما يظهر؛ لأن الولائم هي طعام السرور، فيعم العرس وغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجب الدعوة" ولم يقل: دعوة العرس).

وأما أدلة القائلين بالاستحباب فإنها لا تقاوم أدلة القول بالوجوب من جهة صحتها وقوة دلالتها، فإن حديث عثمان بن أبي العاص فيه مقال: لأنه من رواية الحسن البصري عنه، وسماعه منه مختلف فيه

(3)

.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فلا دليل فيه؛ لأن تخصيص وليمة العرس من باب ذكر الخاص بحكم العام، وهذا لا يقتضي التخصيص.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد يكون امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم لكون الفارسي لم يوافق على شرطه، وهو حضور عائشة رضي الله عنهما، فلما وافقه حضر.

(1)

أخرجه البخاري (5179)، ومسلم (1429)(103).

(2)

أخرجه البخاري (1240)، ومسلم (2162)، وسيأتي شرحه في "كتاب الجامع" إن شاء الله تعالى.

(3)

انظر: "المسند"(26/ 207).

ص: 418

° الوجه السادس: ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذا المقام شروطًا لوجوب إجابة الدعوة، وهي مأخوذة من عمومات الشريعة ومن قضايا وقعت للصحابة رضي الله عنهم، ومن أهم هذه الشروط:

الشرط الأول: أن يكون الداعي مسلمًا، فإن كان كافرًا ودعاك إلى وليمة زواج -مثلًا- لم تجب إجابته، بل تجوز لانتفاء طلب المودة معه، ولأنه يُستقذر طعامه لاحتمال نجاسته، وفساد تصرفه، فإن كانت الدعوة تتعلق بشعائرهم الدينية كالأعياد حرمت إجابته؛ لأن معناها الرضا بشعائرهم وما هم عليه من الكفر والضلال، ولهذا تحرم تهنئتهم.

الثاني: أن يكون الداعي مسلمًا مستقيمًا، فإن كان مجاهرًا بالمعصية وفي هجره وترك إجابته مصلحة لم تجب دعوته، فإن لم يكن في هجره مصلحة، فإنه لا يهجر؛ لأن الأصل تحريم الهجر، لكن إن تحققت المصلحة شرع إما وجوبًا وإما ندبًا.

الثالث: أن يعين الداعي المدعو ويخصه بالدعوة، سواء أكان ذلك عن طريق الكلام المباشر أو عن طريق الهاتف إذا خصه بالدعوة، أو برسول أرسله إليه، ونحو ذلك مما يدل على أنه قصد دعوته وحضوره، بحيث يتأذى لعدم حضوره ويفقده من بين الحاضرين، فإن كانت الدعوة عامة، وهي دعوة الجَفَلَى، لم تجب الإجابة بل تجوز، كما لو قال: ادع من لقيت أو يعطيه مجموعة بطاقات يفرقها ونحو ذلك مما لا يدل على قصد شخص بعينه، لم تجب الإجابة

(1)

؛ لأن صاحب الطعام لم يعينه ولا عرفه، بل كل واحد غير منصوص عليه، فلا ينكسر قلب الداعي لتخلفه، ولا يسأل عنه لو تخلف، اللهم إلا إن كان قريبًا أو زميلًا ويعرف أنه لو تخلف صار قطيعة أو إخلالًا بحق الزمالة والصداقة، أو كان يعلم أن صاحب الدعوة يُسَرُّ بحضوره، فينبغي له أن يجيب. أما قول بعض الفقهاء إنه إذا عمم الدعوة لم تستحب الإجابة

(2)

،

(1)

انظر: "القول المفيد عن كتاب التوحيد"(3/ 113)، "الشرح الممتع"(12/ 331).

(2)

انظر: "المغني"(10/ 194).

ص: 419

فهذا فيه نظر، والصواب الجواز وعدم الوجوب، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب رضي الله عنها: "ادع لي رجالًا سماهم، وادع لي من لقيت

" الحديث

(1)

.

الشرط الرابع: ألا يكون في الدعوة منكر كلهو وطرب واختلاط وتدخين وخمر، ونحو ذلك من المنكرات، لكن هذا مقيد بما إذا لم يستطع تغيير المنكر، فإنه يحرم حضوره، لعموم قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وعموم قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليه الخمر

" الحديث

(2)

. وعن أبي مسعود -عقبة بن عمرو- أن رجلًا صنع له طعامًا فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسروا الصورة، ثم دخل

(3)

، قال الإمام الأوزاعي:(لا ندخل بيتًا فيه طبل ولا مِعزاف)

(4)

.

فإن كان قادرًا على تغييره بسلطته أو مكانته العلمية في المجتمع فإنه يحضر، ويغير المنكر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه"

(5)

، وهذا هو الواجب على المسلم أن يكون عنده همة عالية وغيرة وقوة، فلا يحقر نفسه عند رؤية المنكر حتى ينفع الله به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 377) وسنده ضعيف، لكنه يرقى إلى درجة الحسن لغيره بطرقه وشواهده. انظر:"فتح الباري"(9/ 250).

(3)

أخرجه البيهقي (7/ 268) وسنده صحيح، كما قال الحافظ في "فتح الباري"(9/ 249).

(4)

عزاه الألباني في "آداب الزفاف" ص (94) لأبي الحسن الحربي في "الفوائد المنتقاة"(4/ 3 / 1) بسند صحيح عنه.

(5)

أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 420

خير

"

(1)

.

الشرط الخامس: ألا يكون للمدعو عذر من مرض أو سفر أو مطر أو تمريض مريض أو خوف على نفسه أو أهل أو مال، ونحو ذلك؛ لأن جميع واجبات الشرع تسقط بالعذر، بناء على قاعدة:(لا واجب مع العجز) المأخوذة من الأدلة الشرعية.

ومن العذر -كما قال العلماء- أن يعتذر المدعو للداعي فيقبل عذره، فهذا يسقط الوجوب

(2)

.

الشرط السادس: أن تكون الدعوة في المرة الأولى، فإن دعا للوليمة نفسها مرة ثانية لم تجب إجابته، وسيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله تعالى- عند حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

إلى غير ذلك من الشروط، وقد أوصلها ابن العراقي في شرح "التقريب" إلى سبعة عشر شرطًا، وبعضها فيه نظر

(3)

، والله أعلم.

(1)

تقدم تخريجه عند شرح أول حديث في "البيوع".

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(8/ 246).

(3)

انظر: "طرح التثريب"(7/ 71).

ص: 421

‌حكم إجابة الصائم، والأكلِ من الوليمة

1047/ 4 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيضًا.

1048/ 5 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوَهُ وَقَال: "فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ".

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلم في كتاب "النكاح"، باب (الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة)(1431) من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وكذا حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في الباب المذكور (1430) من طريق سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طَعِمَ، وإن شاء ترك".

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الصوم ليس بعذر في عدم إجابة الدعوة وأن من دعي وهو صائم لزمه أن يجيب كما يلزم المفطر، ويحصل المقصود بحضوره وإن لم يأكل، فإن أذن له صاحب الدعوة سقط عنه الحضور.

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله: (فليصلِّ) فمن أهل العلم من حمله على ظاهره، وفسره بالصلاة المعروفة، والمعنى: أنه يحضر ويشتغل بالصلاة؛ ليحصل فضلها، وينال بركتها أهل الطعام ومن حضر الدعوة.

ص: 422

قال الجمهور: المراد بها الدعاء؛ أي: فليدع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة والتوفيق للداعي، وهذا هو الصواب، وأما القول بأنها الصلاة ذات الركوع والسجود فهو ضعيف، ولا وجه للصلاة هنا، وقد ورد تفسير الصلاة بالدعاء من بعض رواته، وهو هشام بن حسان، عند البيهقي

(1)

، وجاء عند أبي داود بلفظ:(فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليدعُ)

(2)

، وجاء عند أحمد من طريق هشام بن حسان بلفظ:(فليصلِّ وليدعُ لهم)

(3)

، قال الألباني:(ولعل قوله: "وليدعُ" خطأ من بعض النساخ أو الرواة، وأصله: أي: ليدع لهم)

(4)

، وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر أنه لم يجد في شيء من الروايات أن هذه الجملة من الحديث المرفوع، فلعلها مدرجة في الحديث من تفسير هشام بن حسان

(5)

.

وتفسير الصلاة بالدعاء وارد في نصوص الشرع، كما في قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103].

° الوجه الثالث: إذا أجاب الصائم الدعوة فإن كان صومه واجبًا كنذر أو قضاء حرم عليه الإفطار إجماعًا، ويسن الإخبار بصومه ليعلم عذره؛ لئلا يظن صاحب الدعوة كراهة طعامه، أو نحو ذلك، ولا يُعَدُّ ذلك من باب الرياء، بل هو من باب حسن المعاشرة وتأليف القلوب وحسن الاعتذار عند سببه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إني صائم"

(6)

.

فإذا حضر دعا لصاحب الدعوة بالأدعية المناسبة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر عندكم الصائمون، وكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة"

(7)

. أو غير ذلك مما يناسب المقام.

(1)

"السنن الكبرى"(8/ 263).

(2)

"السنن"(3737).

(3)

"المسند"(13/ 172 - 173).

(4)

"الإرواء"(7/ 14).

(5)

"المسند"(14/ 170).

(6)

أخرجه مسلم (1150) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7)

أخرجه أحمد (19/ 397 - 398) بإسناد صحيح.

ص: 423

وإن كان صومه نفلًا جاز له الفطر؛ لأن الخروج من صوم التطوع لعذر جائز، كما مرَّ في كتاب "الصيام"، وإذا كان في إفطاره وأكله من طعام أخيه الذي دعاه جبر لخاطره وإدخال السرور على قلبه كان الأكل أَوْلى، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام، قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعاكم أخوكم، وتكلف لكم"، ثم قال له:"أفطر، وصم مكانه يومًا إن شئت"

(1)

.

° الوجه الرابع: استدل العلماء، وهم: الحنابلة والشافعية في أصح الوجهين عندهم، بحديث جابر رضي الله عنه على أن الواجب هو حضور الدعوة، أما الأكل فليس بواجب ولو كان المدعو مفطرًا؛ لأن الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد على تركه هو الحضور، أما الأكل فلم يرد ما يدل على وجوبه، بل ورد ما يدل على التخيير، لكن الأكل أَوْلى؛ لأنه أكمل في الإجابة، وأبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه، إلا إن كان له عذر؛ كأن يكون قد أكل قبل حضوره، أو يكون الطعام لا يناسبه، وله طعام خاص، أو لغير ذلك من الأسباب التي تمنع الأكل، لكن إن تيسر جلوسه معهم وأكله ولو قليلًا من النوع الذي يشتهيه؛ كالفاكهة -مثلًا- فهو أفضل وأكمل.

وذهب الظاهرية، وبعض الشافعية، ورجحه النووي

(2)

، إلى وجوب الأكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وإن كان مفطرًا فليطعم"، ولأن المقصود من الحضور الأكل، فكان واجبًا.

والراجح الأول وهو أن الأكل غير واجب؛ لأن الحديث صريح في تخيير المدعو بين الأكل وتركه، ويحمل الأمر في قوله:(فليطعم) على الاستحباب

(3)

، وقولهم: إن المقصود الأكل فيه نظر، فإن المقصود هو

(1)

أخرجه البيهقي (4/ 279) وإسناده حسن، كما قال الحافظ في "فتح الباري"(4/ 210)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(7/ 11 - 12).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(7/ 276).

(3)

"طرح التثريب"(7/ 80).

ص: 424

الإجابة والحضور، وامتثال أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك وجب الحضور على الصائم الذي لا يأكل

(1)

. والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

"المغني"(10/ 197 - 198).

ص: 425

‌حكم إجابة الدعوة بعد اليوم الأول

1049/ 6 - عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الْوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

1050/ 7 - ولَهُ شَاهِدٌ عَنْ أنسٍ رضي الله عنه عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.

* الكلام عليهما من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي في أبواب "النكاح"، باب (ما جاء في الوليمة)(1097) من طريق زياد بن عبد الله، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وذكر الحديث، وتمامه:"ومن سمَّع سَمَّعَ الله به".

قال الترمذي: (حديث ابن مسعود لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث زياد بن عبد الله [بن الطُفيل]، وزياد بن عبد الله كثير الغرائب والمناكير، وسمعت محمد بن إسماعيل يذكر عن محمد بن عقبة، قال: قال وكيع: زياد بن عبد الله مع شَرَفِهِ يكذب في الحديث)، قال الحافظ في "التقريب":(صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، ولم يثبت أن وكيعًا كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة).

وقوله: (ولم يثبت أن وكيعًا كذبه) لعله يريد بذلك ما جاء في "التاريخ الكبير"

(1)

للبخاري عن وكيع أنه قال: (هو أشرف من أن يكذب)، قال

(1)

(3/ 360).

ص: 426

الحافظ: (وهو الصواب، ولعله سَقَطَ من نسخة الترمذي لا، وكان فيه: مع شرفه لا يكذب في الحديث، فتتفق مع الروايات، والله أعلم)

(1)

، ثم رأيتها ثابتة في "طرح التثريب"

(2)

، وهذا التوجيه من الحافظ فيه نظر.

وقوله: (له في البخاري موضع واحد) هو في كتاب "الجهاد" من حديث أنس رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر

الحديث

(3)

.

وفي الحديث علة أخرى وهي أن عطاء بن السائب مختلط، وسماع زياد منه بعد اختلاطه

(4)

.

وقول الحافظ: (ورجاله رجال الصحيح) هذا كالرد على الترمذي في استغرابه الحديث، وفيه تساهل، فإن ظاهر هذه العبارة أن الحديث جيد إذا كان رجاله رجال الصحيح مع أن الحديث سنده ضعيف كما مر، والحافظ نفسه قد أعلَّه في "فتح الباري"

(5)

، كذلك في سكوته عن الشاهد عند ابن ماجه تساهل، ومخالف لمنهجه في بيان الضعف، فإنه ضعيف جدًّا كما سيأتي

(6)

.

وللحديث شواهد منها ما رواه ابن ماجه (1915) من طريق عبد الملك بن حسين أبي مالك النخعي، عن منصور، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة".

وهذا إسناد ضعيف جدًّا، آفته أبو مالك هذا، فإنه متروك كما قال الحافظ في "التقريب"، قال البيهقي:(وروي ذلك عن أبي هريرة مرفوعًا، وليس بشيء)

(7)

.

ورواه البيهقي

(8)

من طريق بكر بن خنيس، عن الأعمش، عن أبي

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 324).

(2)

(7/ 72).

(3)

صحيح البخاري (2805).

(4)

انظر: "تهذيب التهذيب"(7/ 183).

(5)

(9/ 243).

(6)

انظر: "حاشية ابن باز على البلوغ"(2/ 602).

(7)

"السنن الكبرى"(7/ 261).

(8)

(7/ 260 - 261).

ص: 427

سفيان، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة رضي الله عنها أمر بالنَّطع فَبُسِطَ، ثم ألقى عليه تمرًا وسويقًا، فدعا الناس، فأكلوا، وقال:

، فذكر الحديث بمثل حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم. وقال:(وليس هذا بقوي، بكر بن خنيس تكلموا فيه)، وقال الدارقطني:(متروك) وفي موضع آخر: (ضعيف)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق له أغلاط، أفرط فيه ابن حبان).

وبالجملة فحديث الباب ضعيف، وما ورد عن أبي هريرة وأنس كذلك؛ لشدة ضعفها، ولا يرتقي بها الحديث إلى درجة الحسن، قال الشيخ عبد العزيز بن باز (والنفس تميل إلى أن الحديث ليس بصحيح، وأن هذه الأسانيد الضعيفة لا تقويه ولا تجعله في قسم المقبول).

وقول الحافظ: (وله شاهد عن أنيس عند ابن ماجه) غير صحيح، صوابه: وله شاهد عن أنس عند البيهقي، أو له شاهد عن أبي هريرة عند ابن ماجه.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على شرعية الضيافة في وليمة العرس يومين، ففي أول يوم تكون واجبة لقوله:"حق"، والحق: هو الثابت اللازم، وفي اليوم الثاني: سنة؛ أي: طريقة متبعة، وفي اليوم الثالث: رياء وسمعة، فيكون فعلها حرامًا، والإجابة إليها كذلك.

وهذا على قول من أخذ بهذا الحديث وما في معناه، ورأى أن هذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو من مقال، فإن مجموعها يدل على أن للحديث أصلًا، وهذا رأي الحافظ ابن حجر

(2)

، وتبعه الشوكاني

(3)

، وأخذ بهذا فقهاء الشافعية والحنابلة، فقالوا: إن هذه الأحاديث توجب التوقف عن اليوم الثالث، وأن الأَوْلى والأفضل ألا يزيد على يومين، لئلا يقع الداعي فيما ورد فيه الذم.

وذهب الإمام البخاري إلى جواز الوليمة سبعة أيام مستدلًا بإطلاق الأمر بإجابة الداعي، وذلك غير مقيد، فترجم في "صحيحه" بقوله: (باب حقِّ إجابة

(1)

"سؤالات البرقاني للدارقطني" رقم (58)، "السنن"(2/ 121).

(2)

"فتح الباري"(9/ 243).

(3)

"نيل الأوطار"(6/ 206).

ص: 428

الوليمة والدعوة، ومن أو لم سبعة أيام ونحوه، ولم يوقِّت النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ولا يومين)

(1)

. وبهذا قالت المالكية، قال القاضي عياض:(واستحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا)

(2)

.

وقد روى ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين، قالت: (لما تزوج أبي سيرين دعا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أيام

)

(3)

وعند عبد الرزاق: (ثمانية أيام)

(4)

. ولعل هذا محمول على ما سيأتي من أنه فرقهم على سبعة أيام أو ثمانية.

وذهب جماعة من الفقهاء كبعض المالكية وبعض الشافعية، واختاره الصنعاني وابن باز وابن عثيمين، إلى جواز الوليمة في اليوم الثالث إذا كان ثمَّ حاجة؛ كأن يكون المدعوون كثيرين، أو يكون الوقت غير مناسب لجمعهم في يوم واحد، إما لضيق المكان، أو لأسباب أخرى، فيفرقهم على ثلاثة أيام أو أربعة، أو يكون للداعي أقارب لم يحضروا إلا في اليوم الثالث، ونحو ذلك من الأعذار

(5)

.

وهذا القول هو أرجح الأقوال، وبه تجتمع الأدلة؛ لأنه إذا وجد عذر من هذه الأعذار لم يكن فيه إسراف ولا مباهاة، والغالب في زماننا هذا أنه لا حاجة إلى الوليمة مرة ثانية، والأحوط هو الاكتفاء بأول يوم؛ للبعد عن الإسراف الذي غلب على الناس في جميع شؤون حياتهم، والله المستعان.

لكن ينبغي لمن أجاب أن يقتصر على الإجابة الأولى، لئلا يكون في تكرار حضوره دناءة، إلا إن كان هناك سبب خاص تنتفي معه الدناءة فلا بأس؛ كأن يكون قريبًا، أو يُسَرُّ صاحب الدعوة بحضوره. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المتواري" لابن المنيِّر ص (287)، "مناسبات تراجم البخاري" لابن جماعة ص (99)، "فتح الباري"(9/ 240).

(2)

"إكمال المعلم"(4/ 588).

(3)

"المصنف"(4/ 313).

(4)

"المصنف"(10/ 448).

(5)

"جواهر الإكليل"(1/ 325)، "نهاية المحتاج"(6/ 373)، "سبل السلام"(3/ 278)، "الشرح الممتع"(12/ 333).

ص: 429

‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة الزواج

1051/ 8 - عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيبَةَ رضي الله عنها قَالتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسِائِهِ بِمُدَّينِ مِنْ شَعِيرٍ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1052/ 9 - وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال: أقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَينَ خَيبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلَى وَليمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَّا أَنْ أَمَرَ بِالأنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيهَا التَّمرُ والأَقِطُ والسَّمْنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم حُجير -بضم الحاء- صقية بنت شيبة بن عثمان من بني عبد الدار بن قصي، اختلف في صحبتها، فجزم ابن سعد وابن حبان وغيرهما بأنها تابعية، وصنيع البخاري في "صحيحه" يقتضي أنها ثبتت لها الصحبة، وقد ذكرها في الصحابة ابن عبد البر وابن حجر، وقال:(وأبعد من قال: لا رؤية لها، فقد ثبت حديثها في "صحيح البخاري" تعليقًا) وعلى ضوء هذا الخلاف يكون الحكم على هذا الحديث، كما سيأتي

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث صفية فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (من أولم بأقل من شاة) (5172) فقال: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان،

(1)

"الثقات"(3/ 197)، "الاستيعاب"(13/ 66)، "الإصابة"(13/ 18).

ص: 430

عن منصور بن صفية

(1)

، عن أمه صفية بنت شيبة به مرفوعًا.

وقد روى هذا الحديث عن سفيان الثوري جماعة، منهم من وصله فذكر عائشة رضي الله عنها، ومنهم من أرسله فلم يذكرها، فرواه جمع من الثقات أمثال الفريابي -محمد بن يوسف- عند البخاري -كما تقدم- وابن مهدي عند النسائي في "الكبرى"(6/ 207)، ووكيع عند ابن أبي شيبة (4/ 313) ثلاثتهم عن سفيان، عن منصور، عن أمه صفية، لم يذكروا عائشة في الإسناد. ورواه أبو أحمد الزبيري عند أحمد (41/ 323) ويحيى بن يمان عند النسائي (6/ 207) وابن أبي زائدة عند أبي يعلى (4686)، ومؤمَّل بن إسماعيل عند الدارقطني في "العلل"(308/ 15) أربعتهم عن سفيان، عن منصور، عن أمه صفية، عن عائشة رضي الله عنها.

وكل هؤلاء الذين وصلوه ضعفاء كما في "التقريب" إلا أبا أحمد الزبيري فهو ثقة، إلا في روايته عن سفيان ففيها كلام، ولذا قال الإمام أحمد:(كان كثير الخطأ في حديثه عن سفيان)

(2)

.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها)(5085) من طريق إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثًا

الحديث.

وأخرجه مسلم (2/ 1044) من طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس بنحوه.

والحديث له طرق أخرى في "الصحيحين" وغيرهما.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (على بعض نسائه) لم تبين هذه الرواية من المراد ببعض نسائه،

(1)

هي أمه، واسم أبيه عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث. ["فتح الباري" (9/ 239)].

(2)

"تهذيب التهذيب"(9/ 227).

ص: 431

قال الحافظ: (لم أقف على تعيين اسمها صريحًا وأقرب ما يفسر به أم سلمة) ثم ذكر ما يؤيد ذلك.

قوله: (بمدين) تثنية مد، وهو ما يملأ كفي الرجل المعتدل.

وهذه رواية كل من روى الحديث عن الثوري، كما تقدم، إلا عبد الرحمن بن مهدي فقد وقع في روايته (بصاعين من شعير) أخرجه النسائي كما تقدم، وهو وإن كان أحفظ من روى الحديث عن الثوري، لكن العدد الكثير أولى بالضبط من الواحد

(1)

.

قوله: (بين خيبر والمدينة) أي: في مكان يقال له: الصهباء، يقع إلى الجنوب من خيبر على مسافة اثني عشر ميلًا.

قوله: (يُبنى عليه يصفية) مبني لما لم يُسم فاعله، والبناء هو الزِّفاف، قال ابن الأثير:(الابتناء والبناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة، ليدخل بها فيها، فيقال: بنى الرجل على أهله)

(2)

.

قوله: (الأنطاع) واحدها نِطْعٌ بكسر النون وفتحها، ومع كل واحدٍ سكون الطاء وفتحها، وهو البساط المتخذ من الجلود المدبوغة

(3)

.

قوله: (الأقط) بفتح الهمزة، اللبن المطبوخ حتى تبخر ماؤه وغلظ، ثم عمل منه أقراص صغيرة بقدر أصابع اليد الأربعة، وإذا خلط التمر مع السمن والأقط سمي حيسًا، وقد جاء كذلك في بعض الروايات.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على مشروعية وليمة الزواج، وعلى تأكدها لما فيها من المصالح العظيمة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مع أنه في حالة سفر وتخفف من الزاد، ولم يمنعه ذلك من الإعداد والاجتماع لها، وفي وليمة الزواج شكر الله تعالى، وإعلان النكاح، وإطعام الفقراء والمساكين، والتودد والتحبب إلى الأغنياء من الأقارب والجيران والأصدقاء.

(1)

"فتح الباري"(9/ 240).

(2)

"النهاية"(1581).

(3)

"المصباح المنير" ص (611).

ص: 432

° الوجه الخامس: فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف في وليمة الزواج بل كان يضع ما يتيسر، فتارة بخبز ولحم كما في وليمة عرسه صلى الله عليه وسلم بزينب رضي الله عنها، قال أنس رضي الله عنه: (ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب

)

(1)

، ولعل هذا باعتبار ما علمه أنس، أو لما وقع من البركة في وليمتها حيث أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا من الشاة الواحدة، وإلا فقد أولم على ميمونة بأكثر من ذلك.

وتارة أولم بطعام من الشعير، وتارة بالسمن والتمر والأقط، والمقصود بهذا التوسعة على الأمة، وهذا يدل على أن الوليمة تكون بالمعروف، فالغني يولم بقدر غناه بدون إسراف ولا مباهاة، والفقير على حسب قدرته، والمتوسط كذلك.

ومما ينبغي التنبيه عليه والحذر منه ما وقع فيه كثير من الناس في هذا الزمان من الإسراف في وليمة العرس، وإنفاق الأموال في استئجار قصور الأفراح أو الفنادق، ثم كثرة الأطعمة وتنوعها، وما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة من تأخير أكل الطعام والسهر إلى ساعة متأخرة من الليل، مع ما قد يحصل في الفنادق من اختلاط الرجال بالنساء من عمال الفنادق وغيرهم، ثم امتهان ما تبقى من الأطعمة برميه في أماكن القمامة، وهذه منكرات عظيمة، وفي هذا كفر بالنعم، ويخشى منه زوالها مع العقوبة العاجلة، نسأل الله السلامة.

والواجب في هذا الاختصار ما أمكن، واختصار عدد المدعوين، واختصار الطعام نوعًا وقدرًا، والحذر من السهر، ولا سيما في ليالي الصيف، فإن أمكن إقامتها في المنزل وإلا فيستأجر إحدى المستراحات بأجرة مناسبة، فهذا أبعد عن الإسراف والتكلف.

(1)

"صحيح البخاري"(5171)، "صحيح مسلم"(1428)(91)، وتقدم.

ص: 433

‌حكم ما إذا اجتمع داعيان

1053/ 10 - عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُما بَابًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأطعمة"، باب (إذا اجتمع داعيان أيهما أحق)(3756) من طريق أبي خالد الدالاني، عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا أقربهما جوارًا، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق".

وظاهر سياق الحافظ له أنه موقوف وأنه من كلام الصحابي مع أنه في أبي داود مرفوع، كما تقدم في سياقه، فإما أن يكون الحافظ نسي عند كتابته إياه فلم يذكر رفعه، وإما أن يكون غلطًا من النساخ.

وهذا سند ضعيف كما قال الحافظ، فيه أبو خالد الدالاني مشهور بكنيته، واسمه يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، وهو متكلم فيه، قال ابن معين:(ليس به بأس)، وكذا قال أحمد والنسائي، وقال أبو حاتم:(صدوق ثقة)، وقال ابن سعد:(منكر الحديث)، وضعفه -أيضًا- ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ كثيرًا، وكان يدلس)، ولكن إذا كان الأئمة الكبار قد عدلوه فإن هذا لا يقاوم برأي ابن سعد وابن حبان، ولا يبلغان مرتبة

ص: 434

من عَدَّله، ثم إن الحديث له شاهد -في موضوع الإهداء- عند البخاري (6020) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابا".

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه إذا دعا الإنسان رجلان من جيرانه ولم يمكن الجمع بينهما، فإن سبق أحدهما الآخر أجاب الذي سبق ولو كان بعيدًا؛ لأن له فضل السبق بالدعوة، ولأن إجابته وجبت حين دعاه، فلم يَزُل الوجوب بدعاء الثاني، وإن لم يسبق أحدهما الآخر أجاب أقربهما بابا؛ لأن أقربهما بابا أقربهما جوارًا، فإن استويا في القرب أجاب أكثرهما علمًا ودينًا وصلاحًا، فإن استويا في ذلك أقرع، فمن قَرَعَ أجابه؛ لأن القرعة تعين المستحق عند استواء الحقوق.

وظاهر الحديث أن القرب معتبر بالأبواب، لا بالجدران، فلو كان أحدهما أقرب بابا من الآخر فهو أوْلى. والله تعالى أعلم.

ص: 435

‌ما جاء في الأكل متكئًا

1054/ 11 - عَنْ أَبِي جُحَيفَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا آكُلُ مُتَّكِئًا"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأطعمة"، باب (الأكل متكئًا)(5398) من طريق مسعر، عن علي بن الأقمر

(1)

، سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أكل متكئًا".

وفي رواية له من طريق منصور، عن علي بن الأقمر به، بلفظ:(كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: "لا آكل وأنا متكئ").

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقى الأكل وهو متكئ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس ممن يكثر الأكل ويقبل عليه برغبة، لما في الإكثار من الأكل من الثقل وعدم النشاط، وما يترتب عليه من المضار الكثيرة، لا سيما إذا كان دائمًا، أما إذا شبع في بعض الأحيان فلا بأس بذلك

(2)

.

والمتكئ هو المعتمد على أحد جنبيه بمتكأ من وسادة أو غيرها، كما يطلق على وضع إحدى اليدين على الأرض والاتكاء عليها، ولعل حكمة النهي عن الاتكاء بهذه الصفة ما ذكره أهل الطب من أنه إذا أكل متكئًا فإنه لا ينحدر أكله في مجاري الطعام سهلًا؛ لأنه قد يضغط على المعدة ولا يستحكم فتحها

(1)

ثقة عند الجميع، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث ["فتح الباري" (9/ 541)].

(2)

"غذاء الألباب"(2/ 111).

ص: 436

للغذاء، وأيضًا فإنها تميل ولا تبقى منتصبة، فلا يصل إليها الغذاء بسهولة، وهذا لا يخلو من مضرة

(1)

.

فالأَوْلى والأفضل أن يكون معتدلًا في جلوسه لا مائلًا؛ حتى ينحدر الطعام والشراب انحدارًا سهلًا.

وذكر الخطابي أن المتكئ في هذا الحديث هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، وكل من استوى قاعدًا على وطاء فهو متكئ. والمعنى على هذا أني إذا أكلت لم أقعد على الأوطئة والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة، ويتوسع في الألوان، ولكني آكل عُلْقَةً، وآخذ من الطعام بُلغة، فيكون قعودي له مستوفزًا

(2)

.

وتفسير الخطابي للاتكاء وأنه التربع على وطاء والاستواء عليه، تبعه عليه جماعة ومنهم ابن الأثير

(3)

، وهذا التفسير محل نظر، فقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يعرف في كتب اللغة تفسير الاتكاء بهذا المعنى

(4)

، وقد يدل على ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه وفيه:(وكان متكئًا فجلس).

والمسألة تحتاج إلى مزيد عناية وبحث في كتب أهل اللغة، لمعرفة إطلاق الاتكاء على التربع، فيكون كلام الخطابي متجهًا، وإلا فالمعول على المشهور وهو التفسير الأول، وقد جزم ابن الجوزي بأن الاتكاء هو الميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك

(5)

.

وقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز إلى أن التربع ليس داخلًا في معنى الاتكاء، واستظهر هذا الشيخ محمد بن عثيمين

(6)

.

ولم يأت في الأكل حال الاتكاء نهي صريح، ولهذا لم يجزم البخاري

(1)

"النهاية"(1/ 193)، "زاد المعاد"(4/ 221).

(2)

"معالم السنن"(5/ 301).

(3)

"النهاية"(1/ 193).

(4)

"شرح المناوي على الشمايل" ص (227).

(5)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 439).

(6)

"الشرح الممتع"(12/ 377).

ص: 437

بحكمه، كما في ترجمته عند التخريج، لكن الأفضل ترك الاتكاء تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذهب جماعة من أهل العلم إلى كراهة الأكل متكئًا.

وقد ذكر العلماء أن صفة الجلوس المستحب أن يجثو على ركبتيه وظهور قدميه، أو أن ينصب اليمنى ويجلس على اليسرى

(1)

، ولم يذكروا لذلك دليلًا، وثبت في حديث أنس رضي الله عنه قال:(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعيًا يأكل تمرًا)

(2)

، والإقعاء: أن يجلس على أليتيه وينصب ساقيه.

وذكر ابن القيم أن أنفع الهيئات حالة الأكل وأفضلها أن تكون أعضاء البدن في وصفها الطبعي الذي خلقها الله سبحانه عليه، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبًا الانتصاب الطبعي، وأردأ الجلسات حالة الاتكاء لما تقدم

(3)

.

فإن وجد عذر للأكل متكئًا كالمريض -مثلًا- فلا بأس. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 542).

(2)

رواه مسلم (2044).

(3)

"زاد المعاد"(4/ 221).

ص: 438

‌من آداب الأكل

1055/ 12 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ قَال: قَال لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد القرشي المخزومي، واسم أبيه عبد الله، وهو من السابقين إلى الإسلام، ولد عمر قبل الهجرة بسنتين على الصحيح، وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم والمُربَّى في حجره صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار الصحابة رضي الله عنهم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في "الصحيحين" وغيرهما عن أبيه، وروى عنه ابنه محمد، وسعيد بن المسيب، ووهب بن كيسان، وغيرهم، ولي البحرين، زمن علي رضي الله عنه، ومات بالمدينة سنة ثلاث وثمانين رضي الله عنه

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "الأطعمة"، باب (التسمية على الطعام والأكل باليمين)(5376)، ومسلم (2022) من طريق سفيان، قال: الوليد بن كثير أخبرني: أنه سمع وهب بن كيسان، أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول:(كنت غلامًا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" فما زالت تلك طِعْمتي بعد) وهذا السياق للبخاري.

(1)

"الاستيعاب"(8/ 274)، "الإصابة"(7/ 77)، "فتح الباري"(9/ 521).

ص: 439

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (كنت غلامًا) الغلام هو الابن الصغير من الولادة إلى البلوغ، وقد يطلق على ما بعد البلوغ مجازًا باعتبار ما كان عليه، وقد تقدم ذلك في "الطهارة".

قوله: (في حجر النبي صلى الله عليه وسلم) بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم، والحجر: يطلق على الحضن وعلى الثوب، فيجوز فيه الفتح والكسر، فإن أريد به الحضانة -كما هنا - فهو بالفتح لا غير، وإن أريد به المنع من التصرف فهو بالفتح للمصدر، وبالكسر للاسم

(1)

.

قوله: (تطيش) بفتح التاء، بوزن تطير، ومعناه: تتحرك فتميل إلى نواحي القصعة ولا تستقر على موضع واحد، وفي بعض الروايات:(فجعلت آكل من نواحي الصحفة)

(2)

وهو يفسر المراد.

قوله: (طِعْمتي بعدُ) بكسر الطاء؛ أي: صفة أكلي، والمعنى: أني لزمت ذلك وصار عادة لي، ويجوز الضم.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على وجوب التسمية قبل الأكل على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة بالتسمية مع أنه غلام صغير، والأصل في الأمر الوجوب، ولم يأت ما يصرفه عن ذلك، وقد نقل النووي الإجماع على استحباب التسمية

(3)

، فتعقبه الحافظ ابن حجر بأن هناك من ذهب إلى الوجوب؛ لأنه ورد الأمر بالأكل باليمين، وهو محمول على الوجوب، فكذا هنا؛ لأن صيغة الأمر بالجميع واحدة

(4)

.

وقد ذكر ابن مفلح في "الآداب الشرعية"

(5)

قولًا بوجوبها، وذكر وجوبها ابن أبي موسى في كتابه "الإرشاد"

(6)

. وقال بفرضيتها ابن حزم

(7)

.

(1)

"مشارق الأنوار"(1/ 181).

(2)

"صحيح البخاري"(5377).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 20).

(4)

"فتح الباري"(9/ 522).

(5)

(3/ 178).

(6)

ص (538).

(7)

"المحلى"(7/ 424).

ص: 440

وأصرح ما ورد في صفة التسمية ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أولَه وآخرَه"

(1)

.

وظاهر الحديث أنه يقتصر على قوله: (بسم الله) لكن لو زاد (الرحمن الرحيم) فلا بأس، بل قد ذكر النووي أن هذا هو الأفضل

(2)

، ومثله نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، لكن تعقب الحافظ ابن حجر هذا القول بأنه لم يَرَ دليلًا على ذلك

(4)

.

وقد اختلف أهل العلم فيما إذا كانوا جماعة وسمى واحد منهم هل يكفي عن الباقين؟ نص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله بعض فقهاء الشافعية كرد السلام وتشميت العاطس

(5)

، وعللوا لذلك أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليه، ولأن المقصود يحصل بواحد، ومال ابن القيم إلى أنه لا يكفي تسمية بعض الآكلين، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنه لو سمى لكفاكم"

(6)

- ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه قد سموا، فلما جاء هذا الأعرابي فأكل ولم يسمِّ شاركه الشيطان، فأكل الطعام بلقمتين، ولو سمى لكفى الجميع

(7)

.

وهذا هو الراجح، ومما يؤيده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للغلام:"سم الله" ولو كانت فرض كفاية لاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بتسميته، على أنه قد يقال: إن المراد بذلك التعليم، لكن ظواهر الأدلة تؤيد هذا القول.

(1)

رواه أبو داود (3767)، والترمذي (1859) وقال:(حديث حسن صحيح)، ولعل هذا بالنظر إلى شواهده، كما حققه الألباني في "الإرواء"(7/ 24).

(2)

"الأذكار" ص (207).

(3)

"الفروع"(5/ 300).

(4)

"فتح الباري"(9/ 521).

(5)

انظر: "الأذكار" ص (374).

(6)

رواه الترمذي (8159)، وقال:(هذا حديث حسن صحيح).

(7)

"زاد المعاد"(2/ 398).

ص: 441

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على وجوب الأكل باليد اليمنى على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة أن يأكل بيمينه مع أنه غلام صغير، والأصل في الأمر الوجوب، ولم يأت ما يصرفه عن ذلك، وسيأتي مزيد بيان عند شرح حديث جابر رضي الله عنه.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب أكل الإنسان مما يليه إذا كان يأكل معه أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة أن يأكل مما يليه، مع أنه غلام صغير، والأصل في الأمر الوجوب، ولم يأت ما يصرفه عن ذلك، ولأن أكل الإنسان مما يلي غيره فيه تعدٍّ على ما ليس بحوزته، مع ما فيه من تقذر النفس مما خاضت فيه الأيدي، ولأن فيه إظهار الحرص والنهم وسوء الأدب مع غيره.

وقد حمل العلماء هذا الحديث على ما إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، فإن كان أنواعًا كالفاكهة وأنواع التمر ونحو ذلك، فلا بأس أن يأخذ مما لا يليه، وإن استأذن فهو أحسن؛ لأنه من كمال الأدب

(1)

.

ويستثنى من هذا ما إذا علم الآكل رضا من يشاركه، فإن تبين له رضاه فلا بأس في أكله مما يليه، لما ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن خياطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس رضي الله عنه:(فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدُّبَّاء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أُحب الدُّبَّاء من يومئذ)

(2)

. وقد ترجم البخاري على هذا الحديث بقوله: (باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية)

(3)

، وكأن هذا فيه إشارة إلى الجمع بين حديث أنس وحديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما، والحديث قد دلَّ على أن أنسًا رضي الله عنه قد أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم.

والدُّباء: بضم الدال المشددة نوع من القَرَعِ، وهو اليقطين

(4)

.

(1)

"الشرح الممتع"(12/ 361).

(2)

أخرجه البخاري (5379)، مسلم (2041).

(3)

"فتح الباري"(9/ 524).

(4)

"زاد المعاد"(4/ 403).

ص: 442

° الوجه السابع: في الحديث دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في تربية الأطفال وتأديب من حوله منهم على الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، التي جاء بها الإسلام لينشأوا عليها، ومن الخطأ البين ما يظنه بعض الناس من أن الطفل الصغير لا يقبل التوجيه، فقد أجمع المربون على أن تكوين العادة في الصغر أيسر بكثير من تكوينها في الكبر، وما اعتاده في صغره يصعب عليه مفارقته في كبره. والله تعالى أعلم.

ص: 443

‌ما جاء في الأمر بالأكل من جوانب القصعة

1056/ 13 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ. فَقَال: "كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا"، رَوَاهُ الأرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأطعمة"، باب (ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة)(3772)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 264)، وأحمد (5/ 267) من طريق شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول:

فذكره.

وهذا لفظ النسائي، ولفظ أبي داود:"إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها، فإن البركة تنزل من أعلاها".

ورواه الترمذي (1806) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن عطاء به.

ورواه ابن ماجه (3277) من طريق محمد بن فضيل، حدثنا عطاء به.

ورواه أحمد (4/ 255 - 256)، والحاكم (4/ 116) من طريق سفيان الثوري، عن عطاء به.

وهذا الحديث إسناده صحيح، وقد طرأ على عطاء بن السائب اختلاط، لكن شعبة سمع منه قبل الاختلاط، قال الإمام أحمد:(من سمع منه قبل الاختلاط فجيِّد، ومن سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء)، وممن سمع منه

ص: 444

قبل الاختلاط سفيان وشعبة، وممن سمع منه بعد الاختلاط جرير بن عبد الحميد

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بقصعة) بفتح القاف، إناء من خشب يوضع فيه الطعام، وتقدم لها ذكر في باب "الغصب".

قوله: (من ثريد) هو فعيل بمعنى مفعول، تقول: ثردت الخبز ثردًا من باب (قتل) وهو أن تفته ثم تبلَّه بمرق، والاسم الثُّردة، بالضم.

قوله: (ولا تأكلوا من وسطها) بفتح السين، والسكون فيه جائز، والوسط: بالتحريك ما بين طرفي الشيء وهو منه، وقد تقدم بحثه في "الجنائز" وأنه يقال: جلست وسْط القوم، بالتسكين؛ لأنه ظرف بمعنى بين، ويقال: لا تأكل من وَسَطِ الطعام، بالفتح، لما تقدم.

قوله: (فإن البركة تنزل في وسطها) أي: فإن بركة الله تعالى وخيره على هذا الطعام تكون في وسط القصعة وتصل من وسطها إلى جوانبها.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على استحباب الأكل من جوانب القصعة وكراهة الأكل من وسطها، هذه هي السنة، وهو الأدب الشرعي الذي ندب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل من وسطها، وقال:"إن البركة تنزل وسطها"، ومن هذه البركة: أن يكون الطعام قليلًا فيكفي لكثيرين، ومنها: استمراء الطعام، ومنها: أنه إذا بقي منه بقية فإنها تكون نظيفة لم تمسها يد، فيستفيد منها من يأتي بعد الآكلين، أما البدء من الوسط فإنه يفسد الطعام ويقذره، فيلقى ولو كان كثيرًا.

وهذا النهي في الحديث محمول على التنزيه عند الجمهور؛ لأنه أدب

(1)

"العلل" للإمام أحمد (3/ 29)، "تهذيب التهذيب"(7/ 183)، "الكواكب النيرات" ص (319).

ص: 445

وإرشاد، ونص الشافعي على التحريم، فإنه قال:(فإن أكل ما يلي غيره أو من رأس الطعام أَثِمَ بالفعل الذي فعله إذا كان عالمًا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

وهذا القول قوي، يتمشى مع قاعدة الأصوليين في أن الأمر يراد به الوجوب إلا بدليل يصرفه عن غيره، وأن النهي يراد به التحريم إلا بدليل يصرفه عن غيره.

لكن استثنى العلماء ما إذا كان الطعام أنواعًا، فقالوا: لا بأس بالأكل من أعلى الصحفة، ومثل ذلك لو كان فوق الطعام لحم -مثلًا- جاز الأكل منه. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الرسالة" للشافعي ص (349، 353)، "دليل الفالحين"(3/ 236).

ص: 446

‌ما جاء في كراهية ذم الطعام

1057/ 14 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهى شَيئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الأطعمة"، باب (ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا)(5459)، ومسلم (2064) من طريق الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وهذا لفظ مسلم، وفي رواية لمسلم من طريق الأعمش، عن أبي يحيى، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن لم يشتهه سكت".

° الوجه الثاني: الحديث دليل على كمال خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ومع غيرهم في مأكله حيث كان لا يعيب الطعام، بل كان إذا اشتهاه أكل، وإن لم يشتهه تركه وسكت، وهذا يدل على عدم عنايته صلى الله عليه وسلم بالأكل، وأنه إنما كان يأكل ما يقيم أَوَدَهُ، ولا يهتم بما وراء ذلك من تحسين الطعام وكونه على الوجه المطلوب.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الضب: "إني أعافه" فليس هذا من عيب الطعام، وإنما هو من باب الإخبار عن طبعه.

وهذا الأدب متروك لدى كثير من الناس، فترى الواحد منهم لا يفتأ من عيب الطعام ويتشدد في كونه على المطلوب، ولا يتغاضى عن أبي تقصير، فهذا مالح، وذاك حامض، وهذا رقيق، وذاك غليظ، وهذا كثير، وذاك قليل، وفي هذا مجانبة للهدي النبوي الذي هو الكمال في خلق الرجل مع أهله،

ص: 447

وأنه ينبغي له أن يتحمل من أهله ما قد يحصل من النقص أو التقصير، فإن من يعيب الطعام إما أن يعيبه من جهة الخِلقة، وكُلٌ خَلْقُ الله تعالى، أو يعيبه من جهة الصنعة، وهذا فيه كسر قلب الصانع بعد ما بذل جهده في إعداده وتقديمه، ثم قد يكون هذا الطعام الذي لا يشتهيه هو يشتهيه غيره، فسكوته عن عيبه من حسن الأدب مع الطعام ومع من أعدَّ الطعام ومع المشاركين له فيه.

ومسألة عيب الطعام غير مسألة تنبيه الطباخ أو تنبيه زوجته إلى ما ينبغي مراعاته إذا حصل في وقت آخر غير وقت تقديم الطعام، بأن الطعام يحتاج إلى زيادة كذا، أو نقص كذا، ونحو ذلك مما هو مطلوب، ولا يدخل في باب الذم، وإنما هو من باب التوجيه والإرشاد، والله تعالى أعلم.

ص: 448

‌النهي عن الأكل بالشمال

1058/ 15 - عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه عن وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الأشربة"، باب (آداب الطعام والشراب وأحكامهما)(2019) من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على تحريم الأكل بالشمال، وكذا الشرب؛ لما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله"

(1)

. وفي هذا أبلغ التنفير وأشد التحذير من الأكل والشرب بالشمال، إذ كيف يليق بالمسلم أن يتشبه بأعدى عدو له وهو الشيطان، الذي قال الله عنه:{إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].

° الوجه الثالث: وجوب الأكل والشرب باليمين، والنهي عن الأكل أو الشرب بالشمال ورد فيه أحاديث كثيرة، وهي تدل دلالة قوية على تحريم هذا الفعل، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأكل والشرب باليمين مندوب؛ لأن النهي فيه من باب الأدب والإرشاد، ولأنه من باب تكريم اليمين وتشريفها

(1)

رواه مسلم (2020)، وسيأتي شرحه في باب (الأدب) من كتاب "الجامع" في آخر الكتاب. إن شاء الله تعالى.

ص: 449

على الشمال

(1)

.

وذهب جماعة من أهل العلم منهم ابن عبد البر، وابن حزم، وابن أبي موسى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم إلى وجوب الأكل والشرب باليمين، وتحريم الأكل والشرب بالشمال، قال ابن القيم:(وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد) ولما ذكر ابن علَّان الاستحباب قال: (وقيل: وجوبًا؛ لما في غيره من الشَّرَهِ ولحوق الضرر بالغير، وانتصر له السُّبكي، وعليه نص الشافعي في "الرسالة" ومواضع من "الأم" .. )

(2)

وهذا قول قوي؛ لأن الأدلة الواردة في هذا الباب صحيحة وصريحة في الدلالة على المراد، وذلك كما يلي:

أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال الشمال في الأكل والشرب، وبيَّن أنه من عمل الشيطان، وعليه فمن أكل أو شرب بشماله فقد تشبه بالشيطان.

ثانيًا: صيغ الأمر الواردة في هذا الباب مع صيغ النهي، ولا صارف لها عن ظاهرها الذي هو الوجوب والتحريم.

ثالثًا: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال:"كل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال:"لا استطعت، ما منعه إلا الكِبْرُ" قال: فما رفعها إلى فيه

(3)

.

فهذا الذي امتنع من الأكل بيمينه وأصر على الأكل بشماله كبرًا وعنادًا، دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن له عذر، وقد أجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم حتى شُلَّت يمينه، فلم يرفعها لفيه بعد ذلك اليوم، وهذا دليل واضح على أن

(1)

"المفهم"(5/ 295).

(2)

"الرسالة" ص (349، 353)، "الكافي" لابن عبد البر (2/ 1138)، "المحلى"(7/ 424)، "الإرشاد" ص (538)، "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 364)، "زاد المعاد"(2/ 397)، "الآداب الشرعية"(3/ 168)، "فتح الباري"(9/ 522)، "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية"(5/ 181 - 182).

(3)

رواه مسلم (2021).

ص: 450

هذا قد ترك واجبًا، وارتكب محرمًا، فاستحق أن يُدعى عليه لمخالفته الحكم الشرعي، وعدم قبوله ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب "الأدب" من كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ومما يؤسف عليه أن الأكل بالشمال والشرب بالشمال من العادات التي انتشرت بين المسلمين، وهذا من الجهل بالسنة، أو قلة المبالاة وضعف العناية بآداب الشريعة، فينبغي الإنكار على من فعل ذلك، كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم، والأكل باليمين أيسر وأحسن وأخف، لكن طاعة الشيطان وتزيينه والميل إلى ما يخالف الشرع تحسِّن هذه العادة وتزينها عند كثير من الناس.

وإذا كانت اليد اليمنى فيها طعام فليس هذا بعذر للشرب بالشمال، كما يفعله بعض الناس؛ لأنه بإمكانه إمساك الإناء بمعاونة اليد اليسرى، على أنه في زماننا هذا وجدت هذه الكؤوس من البلاستيك فيمكن إمساكها باليمين ولو حصل لها شيء من التأثر؛ لأنها سترمى في الغالب ولا تستعمل مرة ثانية

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الشرح الممتع"(12/ 362).

ص: 451

‌النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه

1059/ 16 - عَنْ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا شَرِبَ أحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ" مُتَّفَقٌ عَلَيه.

1060/ 17 - وَلأبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوَهُ، وَزَادَ:"أوَ يُنْفَخَ فِيهِ" وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي قتادة رضي الله عنه فقد رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الوضوء"، باب (النهي عن الاستنجاء باليمين)(153)، ومسلم (267) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمسَّ ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه" وهذا الحديث تقدم سياقه بتمامه في باب (قضاء الحاجة) من كتاب "الطهارة" رقم (95)، وأعاده الحافظ هنا مقتصرًا على القدر المطلوب دون ما يتعلق بالطهارة.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود في كتاب "الأشربة"، بابٌ (في النفخ في الشراب والتنفس فيه)(3728)، والترمذي (1889) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفسَ في الإناء أو يُنفخَ فيه) قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).

° الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن التنفس في الإناء الذي

ص: 452

يشرب منه، وإنما السنة التنفس خارج الإناء، وذلك بأن يُبِينَ القدح ويبعده عن فيه ويتنفس خارجه، وذلك أن التنفس في الإناء فيه ثلاثة محاذير:

1 -

أن التنفس في الإناء يقذر الشراب على من بعده؛ لأنه لا يأمن أن يسقط فيه شيء من الفم أو الأنف.

2 -

أن النفس ربما حمل أمراضًا يتلوث بها الإناء وما فيه.

3 -

أنه يخشى عليه من الشَّرَقِ؛ لأن الماء نازل، والنفس صاعد، فإذا التقيا فقد يَشْرَقُ الإنسان، ويتساقط اللعاب في الإناء، وكل هذا منافٍ للأدب.

والسنة أن الإنسان إذا شرب فلا يشرب في نَفَسٍ واحد، بل يشرب في نَفَسين أو ثلاثة، مع فصل القدح عن فيه؛ لأن هذا أخف على المعدة، وأنفع لريّه، وأحسن في الأدب، وأبعد عن فعل أرباب الشَّرَهِ، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: "إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ" قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا)

(1)

.

ومعنى (يتنفس في الشراب) أي: يتنفس في شربه ثلاثًا، وفي رواية:(في الإناء) وليس معناها أنه يتنفس في الإناء -كما قيل- لبيان الجواز، أو لأنه صلى الله عليه وسلم يكن يُتقذر منه شيء، والصواب الأول، بدليل بقية الحديث

(2)

. وعلى هذا فلفظ: (الشراب) ليس المراد به الشيء المشروب، وإنما المراد به المصدر الذي هو الشرب؛ أي: يتنفس في شربه ثلاثًا، وهذا حسن معنى، فصيح لغة، فإنه يقال: شَرِبَ شُرْبًا وشَرَابًا بمعنى واحد، وذُكِرَ الإناء في الرواية الثانية؛ لأنه آلة الشرب.

وقوله: (أروى) من الريّ؛ أي: أكثر ريًّا.

و (أبرأ) أي: أبرأ من ألم العطش، وأسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب بنفس واحد.

(1)

رواه مسلم (2028).

(2)

"المفهم"(5/ 289)، "زاد المعاد"(4/ 235).

ص: 453

و (أمرأ) أي: أجمل سياغًا، وأخف على المعدة، يقال: استمرأت الطعام أو الشراب: إذا استحسنته واستطبته.

° الوجه الثالث: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليل على النهي عن النفخ في إناء الطعام أو الشراب، وذلك حماية للطعام أو الشراب من مخالطة أنفاس النافخ التي يحصل بسببها تغير، ولا سيما إذا كان النافخ متغير الفم برائحة مأكول -مثلًا- أو لبعد عهده بالسواك، أو لصعود نفسه ببخار المعدة، وبالجملة فالشراب لا يسلم من أنفاس النافخ.

وهذا النهي عن النفخ محمول- على رأي الجمهور- على ما إذا أكل أو شرب مع غيره، أما لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر منه شيئًا فلا بأس، ورجح الحافظ التعميم؛ لأنه لا يؤمن أن يبقى من طعامه أو شرابه بقية أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك، وتبعه على ذلك شارح "جامع الترمذي" محمد المباركفوري، وقال:(هذا هو المتعين عندي، والله تعالى أعلم)

(1)

.

والنفخ إنما يكون لأحد معنيين، فإن كان من حرارة الشراب، فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فليمطه بأصبعه إن كان ما وراءه أحد يشرب منه، وإلا أماطه بعود ونحوه، ولا حاجة به إلى النفخ، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاةُ أراها في الإناء، فقال:"أهرقها"، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال:"فَأَبِنِ القدح إذن عن فيك"

(2)

.

هذا وسيذكر الحافظ في باب (الأدب) من كتاب "الجامع" أحاديث أخرى تتعلق بآداب الأكل والشرب، ولو جمعها في موضع واحد لكان أولى. والله تعالى أعلم.

(1)

"تحفة الأحوذي"(6/ 12).

(2)

رواه الترمذي (1887) وقال: (هذا حديث حسن صحيح).

ص: 454

‌باب القسم

القسم: بفتح فسكون، مصدر قسم، من باب (ضرب)، وهو بمعنى القسمة؛ أي: العطاء، يقال: قسم القسام المال بين الشركاء: فرَّقه بينهم وعين أنصباءهم.

والمراد هنا: القسم بين الزوجات، وهو إعطاء المرأة حقها في البيتوتة عندها للصحبة والمؤانسة.

والأصل في وجوب القسم الكتاب والسنة والنظر، أما الكتاب فعموم قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] والمعنى: صاحبوهن وعاملوهن بما يقره العرف والشرع، وليس من المعروف أن يقسم لهذه ليلتين ولهذه ليلة واحدة، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] والقسم بين الزوجات بالسوية من العدل الذي أمر الله تعالى به.

وأما السنة فأحاديث الباب، وأما النظر فهو أن كلًّا منهما زوجة، وقد تساوتا في الحق على هذا الرجل، فيجب أن تتساويا في القسم؛ كالأولاد يجب العدل بينهم في العطية

(1)

.

وهذا الباب مختص بمن عنده أكثر من زوجة، ولهذا أفرده العلماء عن باب (عشرة النساء) وربما جمع بينهما، والأحاديث الواردة في القسم منها ما هو من السنة القولية، ومنها ما هو من السنة الفعلية، وهي معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجاته وعدله بينهن، وما أحوج من عَدَّد في الزواج إلى معرفة أحكام القسم والعدل بين الزوجات، ليبرئ ذمته من حقوق العباد المبنية على الشح وعدم

(1)

"الشرح الممتع"(12/ 417).

ص: 455

المسامحة، كما أن من النساء من تسئ العشرة إذا تزوج عليها وتطالبه بأكثر مما أوجبه الشرع لها، والعدل كل العدل التزام ما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يُعطى كلُّ ذي حقٍّ حقه، وتدوم العشرة.

ص: 456

‌مشروعية القسم بين الزوجات

1061/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ:"اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَلكِنْ رَجّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب (القسم بين النساء)(2134)، والترمذي (114)، والنسائي (7/ 64)، وابن ماجه (1971)، وابن حبان (10/ 5)، والحاكم (2/ 187) من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد

(1)

، عن عائشة رضي الله عنها.

وهذا الحديث إسناده صحيح، ورجاله ثقات، لكن قد اختلف في وصله وإرساله، فقد روي موصولًا بذكر عائشة رضي الله عنها من طريق حماد بن سلمة كما مرَّ، وروي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم

هكذا مرسلًا

(2)

.

وقد صحح الحديث ابن حبان والحاكم، وسكت عنه الذهبي.

وقد ذكر ابن كثير هذا الحديث من طريق حماد بن سلمة، وقال:

(1)

هو رضيع عائشة رضي الله عنها، روى عن عائشة، وروى عنه أبو قلابة. ["تهذيب التهذيب" (6/ 73)].

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(9/ 289).

ص: 457

(إسناده صحيح، ورجاله ثقات)

(1)

.

ورجح أبو زرعة والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم والدارقطني وغيرهم رواية الإرسال

(2)

؛ لأن حماد بن زيد ثقة ثبت فقيه، كما في "التقريب"، وحماد بن سلمة ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة، وقد تابع حماد بن زيد على إرساله إسماعيل بن علية، عن أيوب، أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 386)، وابن جرير (9/ 286)، ورواه ابن جرير -أيضًا- من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عن أبي قلابة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم

قال أبو زرعة: (لا أعلم أحدًا تابع حماد بن سلمة على وصله)

(3)

.

ويشهد للقسم الأول من الحديث: حديث عائشة الآتي بعد أربعة أحاديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم

) رواه أحمد وأبو داود وسنده حسن.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كان يقسم بين نسائه) أي: زوجاته، فيعطي كل واحدة نوبتها.

قوله: (فيعدل) أي: يسوي بينهن في القسمة، وتقدم قول عائشة رضي الله عنها:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم).

قوله: (اللهم هذا) اسم الإشارة عائد على العدل المفهوم من واقع المتحدث عنه بقولها: (فيعدل)؛ كقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].

قوله: (فيما أملك) أي: فيما أقدر عليه.

قوله: (فلا تلمني) أي: لا تؤاخذني ولا تعاتبني.

(1)

"تفسير ابن كثير"(2/ 382)(6/ 438).

(2)

"العلل" للدارقطني (13/ 279)، "الدراية"(2/ 66)، "التلخيص"(3/ 159)، "نصب الراية"(3/ 215).

(3)

"العلل"(1279).

ص: 458

قوله: (فيما تملك ولا أملك) قال أبو داود: (يعني: القلب)، وقال الترمذي:(إنما يعني به الحب والمودة، كذا فسره بعض أهل العلم). قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَينَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قال ابن عباس: في الحب والجماع

(1)

. والمعنى: أن محبة القلب لا يمكن تفريقها بين النساء على السواء، فقد يكون لها أسباب من تحبب الزوجة إلى زوجها ومن لينها وعنايتها وشبابها، وغير ذلك.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل بينهم فيما يملك، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم، لكن هذا أمر ثابت بأدلة أخرى، سيأتي شيء منها إن شاء الله، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فيكون الحديث دليلًا على مشروعية قسم الرجل بين زوجاته، ووجوب العدل في القسم بينهن، وعدم الميل إلى إحداهن، وأن هذا طريق العشرة بالمعروف والتآلف بين القلوب، والسلامة من المشاكل التي تنشأ من التفضيل.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على عدم وجوب التسوية بين النساء في المحبة؛ لأنها لا تملك، وقد كانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه، وأُخذ من هذا أنه لا يجب التسوية بينهن في الوطء؛ لأنه موقوف على المحبة والميل، وهي بيد مقلب القلوب، وهذا مذهب الجمهور

(2)

.

والقول الثاني: التفصيل، وهو أنه إن ترك الجماع لعدم الداعي إليه من المحبة والانتشار فهو معذور، وإن وجد الداعي إليه لكنه إلى الضرة أقرب فليس بمعذور، وعليه أن يعدل

(3)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على تحريم الميل إلى إحدى الزوجتين إذا كان ذلك فيما يمكن الزوج؛ كالمبيت والطعام والكسوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذر إلى ربه فيما لا يملك، فدل على أن ما يملكه الزوج يطالب

(1)

"تفسير الطبري"(9/ 256).

(2)

"المغني"(10/ 245).

(3)

"زاد المعاد"(5/ 151).

ص: 459

فيه بالعدل لقدرته عليه، فيدل على تحريم الميل، قال تعالى:{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيلِ} [النساء: 129] أي: إذا ملتم بعض الميل فيما لا تملكون من المحبة القلبية فلا تميلوا كل الميل فيما تملكون من العدل؛ كالقسم بينهن في المبيت والنفقة {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] أي: تتركوا التي ملتم عنها كالمعلقة التي لا هي مزوجة ولا مطلقة في قلقها وعدم استقرارها

(1)

، والمقصود من ذلك أن العدل مطلوب من الزوج فيما هو داخل تحت قدرته كالقسم والنفقة، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] أما الميل القلبي إلى واحدة دون الأخرى فلا حرج فيه؛ لأن الحب أمر اضطراري، لا اختياري يتصرف فيه الإنسان باختياره.

° الوجه السادس: اختلف العلماء في وجوب القسم على النبي صلى الله عليه وسلم على قولين:

الأول: وجوب القسم عليه، وهو قول الجمهور، واستدلوا بحديث الباب حيث كان صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويعتذر عما لا يستطيع العدل فيه مما لا يملكه، وعندي أن الحديث ليس صريحًا في الوجوب، مع ما فيه من المقال المتقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون قسم تطييبًا لقلوبهن، ثم اعتذر إلى ربه بما قال: قال الحافظ: (إن معظم الأخبار تدل على أن القسم كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

القول الثائي: أنه لا يجب عليه القسم، ولكنه كان يقسم من قبل نفسه لكمال خلقه، وحسن عشرته، ولتطييب نفوس زوجاته، وليتأسى به غيره، واستدل هؤلاء بما يلي:

1 -

ظاهر قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوي إِلَيكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكَ} [الأحزاب: 51] فقد ذكر المفسرون أن المراد بهذه الآية التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك القسم؛ أي: إن أمر القسم بين

(1)

انظر: "تفسير الطبري"(9/ 284).

(2)

"فتح الباري"(9/ 312).

ص: 460

أزواجه إليه، إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم، وأن معنى الآية: لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت. وقد جاء هذا المعنى عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس ومجاهد والحسن، وقد أخرج هذه الآثار ابن جرير، وذكره ابن الجوزي، ونسبه لأكثر العلماء

(1)

، وقال الشوكاني: (هذا قول جمهور المفسرين في معنى هذه الآية، وهو الذي دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره

)

(2)

.

وقيل: إن معنى الآية: التوسعة عليه في هبة المرأة نفسها؛ أي: لك أن تقبل هبة من تشاء، وتترك هبة من تشاء، والأول أظهر؛ لأنه لم يرد للواهبات ذكر بلفظ الجمع يرجع إليه الضمير في قوله:{مِنْهُنَّ} فالظاهر أن المراد به الزوجات المتقدم ذكرهن في الآية قبلها. قال القرطبي: (هذا أصح ما قيل في الآية)

(3)

.

واختار ابن جرير أن الآية عامة في هذا وهذا، قال ابن كثير:(وهذا الذي اختار ابن جرير حسن جيد قوي، وفيه جمع بين الأحاديث)

(4)

.

2 -

حديث أنس رضي الله عنه المتقدم في "العشرة" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد.

ووجه الاستدلال: أن كونه يدور على نسائه في الساعة الواحدة ينافي وجوب القسم عليه.

3 -

ما ورد عن معاذة بنت عبد الله العدوية، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذلك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدًا

(5)

.

(1)

"تفسير الطبري"(22/ 20)، "زاد المسير"(6/ 405).

(2)

"فتح القدير"(4/ 293).

(3)

"تفسير القرطبي"(14/ 214).

(4)

"تفسير ابن كثير"(6/ 437).

(5)

رواه البخاري (4789).

ص: 461

4 -

قالوا: ولأن في وجوب القسم عليه شغلًا عن لوازم الرسالة

(1)

.

والأدلة كما ترى ليست بصريحة في واحد من القولين، وعلى أي حال فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين زوجاته وعدل، وهو الأسوة والقدوة لأمته، وإذا كان غير واجب عليه فهو واجب على غيره، لإقامة العدل الذي أمر الله تعالى به، ولما فيه من المصالح العظيمة. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "غاية السول" لابن الملقن ص (207).

ص: 462

‌وجوب العدل بين الزوجات فيما يُقدر عليه

1062/ 2 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (13/ 320)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، باب (القسم بين النساء)(2133)، والترمذي (1141)، والنسائي (7/ 63)، وابن ماجه (1969) من طريق همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقد أعل هذا الحديث بأن همام بن يحيى تفرد برفعه، قال البزار:(لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة، ولا طريقًا عنه إلا هذه الطريق، يعني طريق همام)

(1)

.

ورواه الترمذي في "العلل الكبير"(1/ 449) من طريق سعيد، عن قتادة قال: كان يقال: إذا كان عند الرجل امرأتان .. فذكر نحو حديث همام، وذكره الترمذي في "جامعه"(3/ 447) معلقًا عن هشام الدستوائي، عن قتادة بمثله، وهشام ثقة ثبت كما في "التقريب".

والظاهر أن رَفْعَ همامٍ له لا يضر؛ فإنه كما قال الترمذي: (ثقة حافظ)، فلا يضر تفرده ولا مخالفته لغيره، فقد حفظ زيادة يجب قبولها.

(1)

"نصب الراية"(3/ 214).

ص: 463

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (فمال إلى إحداهما) أي: فلم يعدل بينهما، بل مال إلى إحداهما دون الأخرى.

قوله: (شِقُّه) بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف؛ أي: جانبه ونصفه.

قوله: (مائل) أي: مفلوج، والفالج: مرض يحدث في أحد شقي البدن يبطل حركته وإحساسه، وربما كان في الشقين، ويحدث بغتة.

وعند الترمذي وغيره: "وشقه ساقط" والمعنى -والله أعلم- أن أهل العرصات يوم القيامة يرونه كذلك، فيكون هذا زيادة في التعذيب، نسأل الله الحافية

(1)

.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب التسوية بين الزوجات فيما يقدر عليه الزوج، وتحريم الميل مع إحداهن، لما ثبت من الوعيد لمن تعمد الجور والظلم، وأن ذلك من أسباب العقوبة الظاهرة يوم القيامة، نسأل الله السلامة.

ومعلوم أن الوعيد لا يكون إلا على فعل محرم أو ترك واجب، والميل محرم، فيكون العدل واجبًا.

قال الموفق: (لا نعلم بين أهل العلم في وجوب التسوية بين الزوجات خلافًا)

(2)

.

° الوجه ابرابع: في الحديث دليل على وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة؛ لأن ذلك أبلغ في العدل وأبعد عن الميل، وهذا قول الحنفية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

.

ووجه الاستدلال: أن الميل هنا مطلق، فيشمل الميل في كل شيء، سواء أكان في النفقة أم الكسوة أم المسكن، وغير ذلك مما هو داخل في

(1)

"تحفة الأحوذي"(4/ 295).

(2)

"المغني"(10/ 235).

(3)

"بدائع الصنائع"(2/ 332)، "الفتاوى"(32/ 270).

ص: 464

مقدور الزوج، وتجنب الميل يستلزم التسوية حتى لا يكون مائلًا إلى إحداهما.

والقول الثاني: أنه لا يجب على الزوج التسوية بين زوجاته في النفقة والكسوة إذا قام بالواجب لكل واحدة منهن، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية؛ لأن التسوية بينهن في النفقة تشق، إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: الأولى أن يسوي بينهن؛ لأن ذلك أبلغ في العدل

(1)

.

والصواب في هذا أن الزوج مطالب بالعدل بين زوجاته في كل شيء يقدر عليه، وفي هذا من المصالح ما لا يخفى، فإن في العدل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي العدل حسن العشرة وسلامة الصدور وراحة الزوج، وعدم العدل يوغر الصدور بين الزوجات، ويجعل الحياة الزوجية في نكدٍ.

قال ابن تيمية: (وأما العدل في النفقة فهو السنة أيضًا، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعدل بين أزواجه في النفقة

وتنازعوا في العدل في النفقة هل هو واجب، أو مستحب؟ ووجوبه أقوى وأشبه بالكتاب والسنة)

(2)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن العدل في النفقة معناه: أن ينفق على كل واحدة من زوجاته بقدر حاجتها وحاجة أولادها بالمعروف، إن كان عندها أولاد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع:"ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وهذا هو العدل، لكن لو اشترى لواحدة شيئًا ينقص بيتها وهو موجود عند الأخرى كالغسالة أو الثلاجة ونحوهما، ولم يمكن إصلاحها لم يلزمه أن يشتري للأخرى مثلها؛ لما في ذلك من المشقة، ولما يترتب عليه من الإسراف، وقد ورد عن الإمام أحمد ما يدل على ذلك

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإنصاف"(8/ 364)، "الشرح الكبير بحاشية الدسوقي"(2/ 339)، "نهاية المحتاج"(6/ 380).

(2)

"الفتاوى"(32/ 270).

(3)

"المغني"(10/ 242).

ص: 465

‌مقدار الإقامة عند الزوجة الجديدة

1063/ 3 - وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَال: مِنَ السُّنَّة إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أقَام عِنْدَهَا سَبْعًا، ثمَّ قَسَمَ، وإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيَبَ أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (إذا تزوج البكر على الثيب)(5214)، ومسلم (1461) من طريق أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه به.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من السنة) هذا اللفظ يقتضي أن الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو في حكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وجعله بعضهم موقوفًا، وهذا ليس بشيء، ومستندهم أن اسم السنّة متردد بين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة غيره، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

"

(1)

. ولكن احتمال سنة النبي صلى الله عليه وسلم أظهر لأمرين:

1 -

أن إسناد ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو المتبادر إلى الفهم، فكان الحمل عليه أولى.

2 -

أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل، وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته،

(1)

رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (440)، وأحمد (28/ 367) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. انظر:"جامع العلوم والحكم"، لابن رجب حديث (28).

ص: 466

والصحابي يقصد بهذا اللفظ نقل الشريعة، فكان إسناد ذلك إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع، والله أعلم

(1)

.

ولذا قال أبو قلابة راويه عن أنس -على ما في البخاري-: (لو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعناه: أن هذه اللفظة وهي قوله: (من السنة) صريحة في رفعه، فلو شئت أن أقولها بناء على الرواية بالمعنى لقلتها، ولو قلتها لكنت صادقًا، إلا أن المحافظة على قول أنس أولى، وقد روى هذا الحديث عن أنس جماعة، وقالوا فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

. لكن فيه فرق بين (من السنة كذا) وبين رفعه؛ لأن قوله: إنه رفعه، نص في رفعه، وقوله:(من السنة) يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهادي محتمل.

قوله: (البكر والثيب) تقدم معناهما عند الحديث (987).

قوله: (سبعًا) أي: سبع ليال؛ لأن عماد القسم هو الليل، ويدخل فيها الأيام، وقد ورد في رواية:(سبعة أيام) وقاعدة تأنيث العدد وتذكيره إنما هي إذا ذكر المعدود، أما عند حذفه فيجوز الأمران مطلقًا، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وتقدم -في الصيام- حديث:"من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال" أي: ستة أيام

(3)

.

قوله: (ثم قسم) أي: دار على نسائه ليلة ليلة، أو أكثر حسب الاتفاق.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على إيثار الزوجة الجديدة على الأولى، فإن كانت بكرًا أقام عندها سبعًا، وإن كانت ثيبًا أقام عندها ثلاثًا؛ لأن هذا حق لها بسبب الزفاف، وهذا من المعروف الذي أمر الله تعالى به في قوله سبحانه:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وما دل عليه الحديث من أن للبكر

(1)

"النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (2/ 525).

(2)

"سنن الدارمي"(2/ 144)، "سنن الدارقطني"(3/ 283)، "السنن الكبرى"(7/ 301).

(3)

انظر: "تفسير البحر المحيط"(2/ 233).

ص: 467

سبع ليال، وللثيب ثلاث ليال، هو مذهب الجمهور

(1)

.

وهذه التفرقة بين البكر والثيب؛ لأن البكر بحاجة إلى من يؤنسها ويزيل وحشتها وخجلها لكونها حديثة عهد بالزواج، بخلاف الثيب فهي أقل حاجة من ذلك، ولأن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب، فأعطاه الشارع هذه المدة حتى تطيب نفسه ويشبع رغبته

(2)

.

والقول الثاني: للحنفية، وهو أنه لا فضل للجديدة في القسم

(3)

، فإن أقام عندها قضاه للباقيات، لوجوب العدل بين الزوجات، وهذا قد فضلها بمدة فوجب قضاؤها، كما لو أقام عند الثيب سبعًا، ولأن سبب وجوب التسوية اجتماعهما في نكاحه، وقد تحقق ذلك بنفس العقد، والقديمة أولى بالتفضيل؛ لأن الوحشة في جانبها أكثر حيث أدخل عليها غيرها.

والقول الثالث: أن للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وبه قال سعيد بن المسيب والأوزاعي وجماعة

(4)

، لحديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"البكر إذا نكحها رجل وله نساء، لها ثلاث ليال، وللثيب ليلتان"

(5)

.

والصواب هو القول الأول، لقوة دليله وما تبعه من تعليل، وأما تعليل الحنفية فهو في مقابلة نص فلا يلتفت إليه، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو ضعيف جدًّا، كما قال الحافظ

(6)

؛ لأن في سنده محمد بن عمر الواقدي، قال عنه في "التقريب":(متروك مع سعة علمه).

° الوجه الرابع: الحديث عام في أن الثلاث للثيب، لكن خُصَّ منه ما إذا أرادت أن يكمل لها السبع، فإذا أجابها سقط حقها من الثلاث، وقضى السبع لغيرها، بدليل الحديث الذي بعد هذا.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الزوج لا يستأنف القسم إلا

(1)

"المغني"(10/ 256).

(2)

"الشرح الممتع"(12/ 428).

(3)

"الهداية"(1/ 222).

(4)

"المغني"(10/ 256).

(5)

رواه الدارقطني (3/ 284) وسنده ضعيف.

(6)

"فتح الباري"(9/ 315).

ص: 468

بعد تمام السبع للبكر والثلاث للثيب، ولا يقضي هذه المدة للباقيات؛ لأن قوله:(للبكر .. ) يدل على أن الإقامة حق للمرأة إن شاءت طلبته، وإن شاءت تركته.

° الوجه السادس: المراد بإيثار المقام عند الزوجة الجديدة ما كان متعارفًا عليه، أما المبيت فلا خلاف في دخوله في الإقامة، وأما النهار فالإنسان مطالب بوظائفه الدينية والدنيوية، وما زاد على هذا فهي أحق به من غيرها، والعرف له أثر في مثل هذه الأمور، ومَنْ عمله في الليل وراحته في النهار؛ كالحراس وبعض الجنود ونحوهم، فهذا تكون إقامته بالنهار، ويكون الليل في حقه كالنهار في حق غيره.

وقد نص أهل العلم على أنه لا يجوز للزوج أن يدخل ليلًا على الضرة في زمن من لها النوبة إلا لضرورة، وأما دخوله في النهار فيجوز للحاجة؛ كدفع نفقة أو عيادة أو إيقاظ أولاد أو تعليمهم، أو نحو ذلك، فيلا فإن الأصل أن النهار تبع الليل، ودخوله في النهار على غير صاحبة النوبة خلاف العدل المأمور به شرعًا

(1)

، وسيأتي لهذا مزيد إيضاح إن شاء الله.

° الوجه السابع: ظاهر الحديث وجوب موالاة السبع والثلاث؛ لأن الحكمة في مشروعية هذه المدة لا تتحقق إلا بالموالاة ولا سيما في حق البكر، ولو فرق وجب الاستئناف ما لم يتخذ ذلك حيلة. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المغني"(10/ 244).

ص: 469

‌تخيير الثيب في الإقامة عندها بين الثلاث والسبع

1064/ 4 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوّجَهَا أقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَال:"إنَّهُ لَيسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إنْ شِئْتِ سَبّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبّعْتُ لِنِسَائِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه مسلم في كتاب "الرضاع"، باب (قدر ما تستحق البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف)(1462)(41) من طريق يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن محمد بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن أم سلمة رضي الله عنها، به.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنه) هذا ضمير الأمر والشأن.

قوله: (ليس بك) أي: لا يتعلق بك، ولا يقع بك.

قوله: (على أهلك هوان) المراد بأهلها: زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل واحد من الزوجين أهل لصاحبه، والهوان: النقص والاحتقار، والمعنى: لا يلحقك عندي هوان ولا يضيع من حقك شيء، بل تأخذينه كاملًا، ثم بين صلى الله عليه وسلم حقها وأنها مخيرة، وقيل: إن الباء في قوله: (بأهلك) للسببية، والمراد بأهلها: قبيلتها، والمعنى: لا يلحق أهلك بسببك هوان

(1)

.

(1)

"شرح الطيبي"(6/ 303).

ص: 470

قوله: (إن شئت سبعت لك) أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يبقى عندها سبع ليال، وإذا بقي عندها سبع ليال قضى ذلك لكل امرأة من نسائه.

وفي رواية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة فدخل عليها، فأراد أن يخرج أخذت بثوبه، فقال:"إن شئت زدتك وحاسبتك به، للبكر سبع، وللثيب ثلاث" وهذه الرواية تفيد سبب الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك لما أخذت بثوبه تستزيده من المقام عندها، فتلطف للرد عليها بهذا الكلام الحسن، وبيَّن لها الحكم في ذلك.

وقد جاء في رواية عند مسلم -أيضًا-: "إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت، ثم دُرْتُ" قلت: ثلِّثْ.

والثلاث فيها مزية بعدم القضاء، وفي السبع مزية لها بتواليها، وكمال الإنس فيها، فاختارت الثلاث لكونها لا تُقضى، وليقرب عوده إليها، فإنه يطوف عليهن ليلة ليلة ثم يأتيها.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على استحباب ملاطفة الأهل وبيان ما يجب لهم وما لا يجب، والتخيير فيما هو لهم، حتى لا يقع في النفوس شيء، فمن كان عنده أكثر من زوجة، بين لهن أحكام العشرة وأحكام القسم، حتى تعرف المرأة حكم الله تعالى في ذلك، ولا تتهم زوجها بأنه ظلمها وهو بريء من ذلك.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الزوج يخير الزوجة الجديدة بعد الثلاث إذا كانت ثيبًا، فإن شاءت كمل عندها سبعًا، ثم أقام عند كل واحدة من نسائه سبعًا، وسقط حقها من الثلاث؛ لأنها لما طلبت الزيادة لغى حقها من الإيثار، وهو ثلاث ليال.

وإن شاءت اكتفت بالثلاث ولا يقضي، بل يدور على نسائه كل واحدة ليلتها فقط، ذلك لأن الحق لها كما تقدم في قوله:"للبكر سبع، وللثيب ثلاث" فإذا خيرها واختارت السبع سقط حقها من الثلاث.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وملاطفته لأزواجه بالكلام الجميل، فإنه صلى الله عليه وسلم مهَّد لما سيقول لها من حكم الشرع بهذا التمهيد الحسن، وهو قوله:"ليس بك هوان على أهلك". والله تعالى أعلم.

ص: 471

‌جواز هبة المرأة يومها لضرتها

1065/ 5 - عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها، وكيف يقسم ذلك)(5212)، ومسلم (1463) من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها به، وهذا لفظ البخاري.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن سودة

) هي سودة بنت زمعة بن قيس بن لؤي العامرية، كانت تحت السكران بن عمرو بن لؤي العامري، ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أسلمت هي وزوجها، وخرجا إلى الحبشة مهاجرين في الهجرة الثانية، ثم قدما مكة، فمات بها زوجها رضي الله عنه، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة رضي الله عنها ودخل عليها في مكة وهاجرت معه، وطالت حياتها معه، وكان قد عُقد له على عائشة رضي الله عنها إلا أنه لم يدخل بها إلا في المدينة، فهي بعد عائشة في العقد وقبلها في الدخول اتفاقًا، ولهذا جاء في "صحيح مسلم" قول عائشة رضي الله عنها:(وكانت أول امرأة تزوجها بعدي)

(1)

، ومعناه: عقد عليها بعد أن عقد على عائشة، توفيت بالمدينة سنة أربع وخمسين، وقيل: خمس وخمسين رضي الله عنها

(2)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1463)(48).

(2)

"الطبقات"(8/ 52)، "الاستيعاب"(13/ 53)، "الإصابة"(12/ 323).

ص: 472

قوله: (وهبت يومها لعائشة) أي: تنازلت عن نوبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون هذه النوبة لعائشة رضي الله عنها مع نوبتها الثابتة لها، ولم يبين في هذه الرواية سبب هذه الهبة، لكن جاء في رواية عند البخاري من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:(وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

. وفي رواية لمسلم: (لما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة

). وعند أبي داود من حديث عائشة الآتي: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم

وفيه: ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنَّت وفَرِقَتْ أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، يومي لعائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أُراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128])

(2)

.

وهذا فيه بيان سبب الهبة وأنها رضي الله عنها خافت لما كبر سنها أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة على أن تبقى معه، وتبقى مع نسائه يوم القيامة، كما جاء في رواية ابن سعد

(3)

.

لكن اعتبار قصة سودة هي سبب نزول الآية فيه نظر، فإنه مخالف لحديث عائشة رضي الله عنها الآتي الذي يفيد العموم، ثم إن الحديث من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة -كما سيأتي- وقد تفرد بذلك من بين أصحاب هشام

(4)

.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم وهبة نوبتها لضرتها إذا رضي الزوج بذلك؛ لأن له حقًّا في الزوجة، وليس لها أن تسقط حقه منها إلا برضاه، وهذا أمر مجمع عليه

(5)

؛ لأن سودة رضي الله عنها وهبت قسمها لعائشة رضي الله عنها، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يقسم لعائشة يومين، يومها، ويوم سودة الذي وهبته لها، واختارت سودةُ عائشةَ رضي الله عنها لأنها

(1)

"صحيح البخاري"(2593).

(2)

"سنن أبي داود"(2135).

(3)

"الطبقات"(8/ 54).

(4)

"نيل الأوطار"(6/ 246 - 247).

(5)

انظر: "المحرر في أسباب النزول"(1/ 449).

ص: 473

أحب نسائه إليه، فأرادت أن تهبه لمن يحب عليه الصلاة والسلام، وهذا من فقهها وشفقتها على الرسول صلى الله عليه وسلم، أما كونه من فقهها فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو طلقها لم تبق من أمهات المؤمنين، ولم تكن زوجة له في الآخرة، كما تقدمت الإشارة إليه في رواية ابن سعد، وأما كونه شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأنها وهبته لأحب نسائه إليه

(1)

.

وإذا كانت ليلة الواهبة تلي ليلة الموهوبة والى الزوج بينهما، وإن كانت لا تليها لم يجز الموالاة بينهما إلا برضى الباقيات، فتبقى ليلة الواهبة للموهوبة في موضعها؛ لأن في تقديمها تأخيرًا لحق غيرها، وتغييرًا لليلتها بغير رضاها، فلم يجز، وهذا هو الراجح

(2)

.

وإذا رجعت الواهبة في هبتها جاز، وقسم لها زوجها قسمًا مستقبلًا، ولا يقضي ما مضى؛ لأنها بمنزلة الهبة المقبوضة، وإنما جاز لها الرجوع في المستقبل مع أنها هبة؛ لأن الهبة هنا لم تقبض، فإن الأيام تتجدد يومًا بعد يوم، فلها أن ترجع فيما يستقبل.

ويرى ابن القيم أن المسألة إذا كانت صلحًا فإنه لا تملك الرجوع، وذلك بأن تقول له: أنا أتفق معك على هبة يومي لفلانة وتبقيني في حبالك، فوافق على هذا الصلح؛ لأن الله تعالى سماه صلحًا، فقال سبحانه:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَينَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] فيلزم كما يلزم الصلح، وإلا لم يكن فيه فائدة، ثم إن عودتها بما وهبت قد يكون من أسباب المعاداة بين الزوجات، والشريعة منزهة عن ذلك.

وما قاله ابن القيم وجيه في نظري، فإن الهبة تلزم ولو لم تقبض على القول الراجح الذي سلف في باب (الهبة)؛ لأن الرجوع فيها من باب إخلاف الوعد، وهو محرم شرعًا؛ لأنه من علامات النفاق، ولو أخبر الزوج الواهبة

(1)

انظر: "الشرح الممتع"(12/ 435 - 436).

(2)

"المغني"(10/ 250).

ص: 474

حال الهبة أنه لا رجوع لها لكان وجيهًا؛ لأن هذا قد يخفى على النساء

(1)

.

° الوجه الرابع: يجوز للمرأة أن تهب قسمها للزوج، فيتصرف فيه كما يشاء، وله أن يجعله لمن شاء من زوجاته؛ لأنه لا ضرر على الباقيات في ذلك، إن شاء جعله للجميع، وإن شاء خص به واحدة منهن، وكونه للجميع أقرب إلى العدل وأبعد عن الميل، فإذا كن أربعًا ووهبت الرابعة يومها لزوجها قسم لثلاث، وكذا لو خيرهن بين كون قسم الواهبة للجميع وبين القرعة فمن قرعت صارت ليلة الواهبة لها

(2)

.

وقد استدل العلماء على جواز مصالحة المرأة لزوجها إذا خافت منه أن يطلقها بما تراضيا عليه من إسقاط قسم أو نفقة أو غير ذلك؛ بقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَينَهُمَا صُلْحًا} . وقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} قالت: (الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حِلٍّ، فنزلت هذه الآية في ذلك)

(3)

.

ومعنى: {نُشُوزًا} أي: ترفعًا عند أداء حقوقها.

ومعنى: {أَوْ إِعْرَاضًا} أي: صدودًا عنها فلا يقوم بحقوقها، وهو معنى قولها:(ليس بمستكثر منها) أي: في المحبة والمعاشرة والملازمة. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(10/ 251)، (5/ 152 - 153).

(2)

"المغني"(10/ 436)، "الشرح الممتع"(12/ 436).

(3)

"صحيح البخاري"(4601)، "صحيح مسلم"(3021).

ص: 475

‌جواز الدخول على غير صاحبة النوبة إذا كان يعامل نساءه كذلك

1066/ 6 - عَنْ عُرْوَةَ رضي الله عنه قَال: قَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا ابْنَ أُخْتي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُفَضِّل بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِن مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَينَا جَمِيعًا فَيَدْنُوَ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيرِ مَسِيسٍ، حَتى يَبْلُغَ الَّتي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتُ عِنْدَهَا، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

1067/ 7 - ولمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دارَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ. الْحَدِيثَ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما الحديث الأول: فقد أخرجه أحمد (41/ 283)، وأبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ (في القسم بين النساء)(2135)، والحاكم (2/ 186) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قالت عائشة رضي الله عنها:

فذكرت الحديث. وفي تمامه: (ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفَرِقَتْ أن يفارقها رسول الله

) الحديث، وتقدمت هذه الزيادة قريبًا.

وهذا لفظ أبي داود، ولفظ أحمد:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا امرأة امرأة، فيدنو ويلمس من غير مسيس، حتى يُفضي إلى التي هو يومها فيبيت عندها).

ص: 476

وهذا الحديث سنده حسن، عبد الرحمن بن أبي الزناد متكلم فيه، فقد ضعفه جماعة؛ كابن معين وأحمد والنسائي، ووثقه آخرون كالترمذي والعجلي، وصحح الترمذي له أحاديث

(1)

، وهذا الحديث من روايته عن هشام، وهو ثبت في هشام، قال ابن معين: أثبت الناس في هشام بن عروة: عبد الرحمن بن أبي الزناد، لكنه خالف الثقات من أصحاب هشام بن عروة في ذكره قصة سودة سببًا لنزول آية:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} وقد سبق ذكر هذا.

وأما الحديث الثاني: فقد أخرجه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب (وجوب الكفارة على من حَرَّمَ امرأته ولم ينو الطلاق)(1474)(21) من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، فكان إذا صلى العصر

الحديث بتمامه، وهو حديث طويل.

ورواه البخاري (5268) من طريق علي بن مُسْهِرٍ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، ولفظ الكتاب هو لفظ مسلم.

ولعل الحافظ ذَهَلَ عن كونه عند البخاري، وإلا فعلى منهجه كان حقه أن يقول: متفق عليه، واللفظ لمسلم، وذَكَرَ هذه الرواية؛ لأن فيها تحديد الوقت، فهي مفسرة لما قبلها.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (يا ابن أختي) تريد عروة بن الزبير، وأمه أسماء أخت عائشة رضي الله عنها، ولهذا ذكر الحافظ اسم التابعي ليتضح المراد من قولها:(يا ابن أختي).

قولها: (من مكثه عندنا) أي: جلوسه عند زوجاته في منازلهن.

قولها: (وكان قلَّ يومٌ) بالرفع فاعل (قلَّ) لأن هذا فعل جامد يرفع

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 55).

ص: 477

فاعلًا، فإن اتصلت به (ما) فهي إما مصدرية، والمصدر المؤول فاعل، أو كافة، ولا فاعل له، نحو: قَلَّمَا يتخلف الطالب المجد.

قولها: (يطوف علينا) أي: يدور علينا في بيوتنا.

قولها: (من غير مسيس) المراد بالمسيس: الجماع، والمعنى: أنه يدنو من كل زوجة من زوجاته فيقبلها أو يلمسها دون أن يجامعها، وقد دل على هذا المعنى رواية أحمد المتقدمة:(فيدنو ويلمس من غير مسيس).

قوله: (إذا صلى العصر) وقع في رواية حماد بن سلمة، عن هشام (الفجر) أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره"، وحكم الحافظ عليها بانها شاذ"

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الزوج يحرص على العدل بين زوجاته وألا يفضل بعضهن على، بعض لا في المبيت ولا في غيره، وتقدم الكلام في هذا.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على حسن عشرته صلى الله عليه وسلم وعنايته بأزواجه، فقد كان يدور عليهن كل عصر يتفقد أحوالهن وينظر في مطالبهن، ونحو ذلك، مما يدل على حسن العشرة، لا سيما أنه لو لم يأتيهن كل يوم لطالت عليهن غيبته لتعددهن.

وقد جاء في حديث أنس رضي الله عنه أنهن كن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها

(2)

. وهذا يدل على حسن عشرتهن ومحبتهن للخير، فإن الاجتماع به صلى الله عليه وسلم فيه الاستفادة من نصائحه وتوجيهاته، ولعله كان بتوجيه منه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذا مما يؤلف القلوب، ويزيل الوحشة، فإن اجتماعهن عند صاحبة الليلة يكسبهن تعارفًا وتواصلًا وتآلفًا.

° الوجه الخامس: لم يرد ما يدل على تخصيص هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه دليل على أنه يجوز للرجل أن يدخل على المرأة في غير نوبتها إذا كان يعامل

(1)

"فتح الباري"(9/ 379).

(2)

رواه مسلم (1462).

ص: 478

جميع زوجاته كذلك، وله إذا دخل عليهن أن يقبل أو يلمس أو يداعب بدون جماع؛ لأن الجماع حق لصاحبة النوبة، وهذا من حسن العشرة ومن العدل بين الزوجات.

والمشهور من المذهب أنه ليس للزوج أن يدخل في ليلة المرأة إلى بيت ضرتها إلا لحاجة داعية، كما تقدم

(1)

. وذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي أن الصواب في هذا الرجوع إلى عادة الوقت وعرف الناس، وإذا كان دخوله على الأخرى ليلًا أو نهارًا لا يعده الناس جورًا ولا ظلمًا، فالرجوع إلى العادة أصل كبير في كثير من الأمور، خصوصًا في المسائل التي لا دليل عليها، وهذه من هذا الباب

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإنصاف"(8/ 367).

(2)

"الفتاوى السعدية" ص (504).

ص: 479

‌مشروعية القسم في حال المرض

1068/ 8 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "أَينَ أَنَا غَدًا؟ " يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيتِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "النكاح"، بابٌ (إذا استأذن الرجل نساءه في أن يُمَرَّضَ في بيت بعضهن فأذنَّ له)(5217)، ومسلم (2443) من طريق هشام بن عروة، أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه

وتمامه: فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة:(فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نَحْرِي وسَحْرِي، وخالط ريقه ريقي) وهذا لفظ البخاري.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: "أين أنا غدًا" الذي في البخاري: "أين أنا غدًا؛ أين أنا غدًا"؟. وعند مسلم: "أين أنا اليوم؛ أين أنا غدًا"؟

قوله: (يريد يوم عائشة) في مسلم: (استبطاءً ليوم عائشة). قال الطيبي: (كان الاستفهام استئذانًا منهن لأن يأذنَّ له أن يكون عند عائشة، يدل له قوله: "فَأذِنَّ له")

(1)

.

(1)

"شرح الطيبي"(1/ 301).

ص: 480

قوله: (فأذن له أزواجه) أي: بعد أن استأذنهن، كما في رواية أبي داود الآتية، وعند ابن سعد من طريق الزهري: استأذن نساءه أن يكون في بيت عائشة، ويقال: إنما قالت ذلك لهن فاطمة، فقالت: إنه يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختلاف

(1)

، ولا منافاة بينهما؛ لأنه يمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن واستأذنت له فاطمة رضي الله عنها.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن المريض يقسم بين نسائه، وأن المرض ليس عذرًا في ترك القسم؛ لأن الغرض منه المبيت والعشرة وليس الجماع فقط، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مرض وأشتد مرضه ومع ذلك كان يقسم حتى إنه كان ينسى صاحبة النوبة، ويقول:"أين أنا غدًا؛ أين أنا غدًا" كما تقدم في رواية البخاري، ومعلوم أن المرض يشغل الإنسان، ويضعف الذاكرة، ثم استأذن أزواجه أن يكون عند عائشة فأذنَّ له، وقد جاء عند أبي داود وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها:"إني قد اشتكيت، وإني لا أستطيع أن أدور بينكن، فائذنَّ لي فلأكنْ عند عائشة"

(2)

.

فإذا ثقل المريض وعجز عن الطواف على نسائه فظاهر ترجمة البخاري أن الرجل يستأذن نساءه في أن يُمَرَّضَ في بيت إحداهن، فإن أذن وإلا أقرع بينهن، فمن قَرَعَتْ استقر عندها؛ لأن القرعة من باب العدل، وبها تطيب النفوس؛ لأن اختيار واحدة منهن قد يثير شيئًا في أنفس الباقيات، وهذا كله من كمال الشريعة، ومن حسن العشرة التي شرع الله جل وعلا. والله تعالى أعلم.

(1)

"الطبقات"(2/ 231 - 232)، قال الحافظ في "فتح الباري" (8/ 141):(إسناده صحيح) وهذا من مراسيل الزهري، ثم إنه لم يجزم بذلك بل قال: (ويقال:

).

(2)

"السنن"(2637)، "المسند"(43/ 34) وسنده حسن.

ص: 481

‌القرعة بين النساء عند السفر بإحداهن

1069/ 9 - وَعَنْهَا قَالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَينَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. مُتَّفَّقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع كثيرة، وأولها في كتاب "الهبة"، باب (هبة المرأة لغير زوجها)(2593)، وفي كتاب "التفسير"، باب {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} (4750)، ومسلم (2770) من طريق الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم

فذكرته، وهو جزء من حديثها الطويل في حادثة الإفك.

وأخرجه البخاري (5211) من طريق ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة .. الحديث.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الرجل إذا أراد السفر بإحدى نسائه أنه يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة سافر بها، ولأن السفر ببعضهن من غير قرعة فيه تفضيل وميل، وهذا لا يجوز.

أما بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن قال: بوجوب القسم عليه فالأمر واضح، ومن قال: إن القسم ليس واجبًا عليه، قال: إن هذه القرعة من مكارم أخلاقه، ولطف شمائله، وحسن معاملته.

ص: 482

والقول بوجوب القرعة هو قول أكثر العلماء، ومنهم الشافعية والحنابلة، وأحد الأقوال عن مالك، وذهب مالك في رواية عنه إلى أن له السفر بمن شاء منهن بلا قرعة؛ لأنها قد تكون أنفع له في سفره والأخرى أنفع له في بيته وماله

(1)

.

والصواب هو القول الأول، لقوة دليله، وهو أن الزوج إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة تعين تقديمها، ولو أراد السفر بغيرها لم يجز، وإن وهبت حقها لغيرها جاز إذا رضي الزوج؛ لأن الحق لها، فصحت هبتها له، كما لو وهبت ليلتها في الحضر، ولا يجوز بغير رضا الزوج، كما تقدم في هبة الليلة.

وإن رضين بخروج إحداهن معه بلا قرعة فلا بأس؛ لأن الحق لهن، إلا أن لا يرضى الزوج، ويريد غير من اتفقن عليها، فيصار إلى القرعة، وكذا لو كان كثير الأسفار، وأراد أن يجعل لكل واحدة سَفْرَةً فإنه يجوز؛ لأن هذا حق متميز لا خفاء فيه.

والقرعة غير موجبة، بمعنى أنه لو أقرع بينهن وخرجت القرعة لواحدة منهن لم يجب عليه السفر بها، بل له تركها والسفر وحده.

وإذا سافر بإحدى نسائه لم يلزمه القضاء للحاضرات بعد قدومه، بل يبدأ قسمًا جديدًا، وقد نقل القاضي عياض الإجماع على ذلك

(2)

؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي للباقيات بعد قدومه، ولأن هذه التي سافر بها وإن حظيت بصحبة الزوج، فقد تعبت لمشقة السفر، ولا يحصل لها من الراحة مثل ما يحصل في الحضر، فلو قضى للحاضرات لكان قد مال على المسافرة كل الميل

(3)

.

° الوجه الثالث: هذا الحديث من أدلة القائلين بمشروعية القرعة لتمييز

(1)

"إكمال المُعْلِم"(8/ 267)، "حاشية الدسوقي"(2/ 343).

(2)

"إكمال المُعْلِم"(6/ 287).

(3)

"المغني"(10/ 253).

ص: 483

الحقوق

(1)

، والقرعة: بضم العين وإسكان الراء: استهام يتعين به نصيب الإنسان

(2)

، ولها طرق كثيرة، والقول بمشروعيتها هو قول الجمهور من أهل العلم، لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ لَدَيهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 139 - 141] أي: فقارع فكان من المغلوبين، والاستدلال بهاتين الآيتين مبني على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه

(3)

.

وثبتت مشروعية القرعة في السنة في أحاديث كثيرة، وقد بوب البخاري في كتاب "الشهادات"، باب (القرعة في المشكلات) وساق في الباب عدة أحاديث إضافة إلى الآيتين السابقتين

(4)

. ومنها حديث الباب، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"

(5)

.

وفعلها الصحابة رضي الله عنهم فقد قال البخاري في "صحيحه": (ويذكر أن أقومًا اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد)

(6)

، وسيأتي للقرعة ذكر في باب "الدعاوى والبينات" ثم في "العتق" إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

(1)

تكلم ابن القيم عن القرعة في "الطرق الحكمية" ص (294).

(2)

"معجم لغة الفقهاء" ص (361).

(3)

"فتح الباري"(5/ 294).

(4)

"فتح الباري"(5/ 292).

(5)

أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).

(6)

"فتح الباري"(2/ 96).

ص: 484

‌النهي عن المبالغة في ضرب الزوجة

1070/ 10 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب القرشي الأسدي رضي الله عنه، أمه أخت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أشراف قريش، وكان يسكن المدينة، وليس له في البخاري سوى حديث واحد، وهو هذا الحديث، مات سنة خمس وثلاثين رضي الله عنه

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في كتاب "النكاح"، باب (ما يكره من ضرب النساء)(5204) من طريق سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

وذكر الحديث، وتمامه:"ثم يجامعها آخر اليوم".

ورواه مسلم (2855) من طريق ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها

وفيه: ثم ذكر النساء، فوعظ فيهن، ثم قال: "إلام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة -وفي رواية: جلد العبد- ولعله يجامعها من آخر يومه

" الحديث.

وعلى هذا فالحديث متفق عليه، إلا أنه عند البخاري بصيغة النهي أو النفي.

(1)

"الاستيعاب"(8/ 203)، "الإصابة"(8/ 89).

ص: 485

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يجلد) بصيغة النهي، فالدال ساكنة للجزم، ويجوز الرفع على النفي، وقد جاء مضبوطًا بهما في النسخ المعتمدة

(1)

، والجلد: مصدر جلد من باب (ضرب)، وهو الضرب بالسوط، واشتقاقه من جلد الحيوان: وهو غشاء جسمه.

قوله: (جلد العبد) مصدر منصوب مبين للنوع؛ أي: مثل جلد العبد، وفي رواية للبخاري:"ضرب الفحل أو العبد"، وفي رواية عند مسلم:"جلد الأمة".

قوله: (ثم يجامعها آخر اليوم) الغرض من هذه الجملة التنفير عن ضرب المرأة، فإن العاقل يبعد منه أن يجمع بين هذا وذاك؛ لأن المجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس والرغبة في المعاشرة، والمجلود غالبًا ينفر ممن جلده.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الزوج منهي أن يضرب زوجته ضربًا شديدًا كضرب الحيوانات والمماليك؛ لأن زوجته هي سكنه وأم أولاده فلا يليق أن يضربها، بل عليه أن يحسن إليها ويلطف بها ويبتعد عن ضربها مهما أمكن؛ لأن الله تعالى جعل الضرب آخر مراحل علاج النشوز، فقال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، ولأن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله

)

(2)

، قال النووي:(فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحًا للأدب فتركه أفضل)

(3)

.

وقال المناوي: (فيه جواز ضرب النساء والخدم للتأديب، إذ لو لم يكن

(1)

انظر: "صحيح البخاري" طبعة الناصر (7/ 32).

(2)

رواه مسلم (2328).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(15/ 92).

ص: 486

مباحًا لم تَمْدَحْ بالتنزيه عنه، لكن التنزه عنه حيث أمكن أفضل، لا سيما لأهل المروءة والكمال

)

(1)

.

ودل حديث الباب بمفهومه على جواز ضرب المرأة إلا أنه لا يبلغ به ضرب الحيوانات والمماليك، وقد دل على ذلك القرآن، وقد تقدم الكلام على هذا في باب (عشرة النساء)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح الشمائل"(2/ 196).

ص: 487

‌باب الخُلع

الخُلْعُ: بضم الخاء، من الخَلْعِ بفتحها، وهو النزع والإزالة، وهو مأخوذ من خلع الثوب، وهو نزعه وإزالته، يقال: خلع ثوبه خَلعًا بالفتح، وخلع امرأته خُلعًا بالضم، وضُمَّ المصدر تفرقة بين الحسي والمعنوي

(1)

.

وشرعًا: فراق الزوجة على عوض منها أو من غيرها.

والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، والخطاب في الآية لذوي السلطان من ولاة الأمور، أو الأقارب، ومعنى:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي: دفعته فداء عن البقاء مع زوجها.

وأما السّنة فأحاديث الباب.

والحكمة من مشروعيته: أنه من رحمة الله بعباده؛ لأن فيه تخليص الزوجة من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها وعقد جديد، فإذا كانت الحال غير مستقيمة وكرهت المرأة زوجها لِخَلْقِهِ أو لخُلُقه أو دينه أو كبره أو ضعفه ونحو ذلك وخشيت ألا تؤدي حق الله تعالى في طاعته، جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه، وقد سَمَّى الله تعالى الخلع افتداء؛ لأن المرأة تفتدي نفسها من أسر زوجها، كما يفتدي الأسير نفسه بما يبذله، والله تعالى جعل الفداء للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا أبغض المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا كرهت الرجل.

(1)

"فتح الباري"(9/ 395).

ص: 488

والخلع له ألفاظ معينة، مثل لفظ الخلع أو الفداء أو الفسخ وما أشبه ذلك، فإن وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق.

والقول الثاني: أنه ليس للخلع ألفاظ معينة، بل كل ما دل على الفراق بعوض فهو خلع حتى ولو وقع بلفظ الطلاق، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

ص: 489

‌أحكام الخُلْع

1071/ 1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأةَ ثَابِتِ بْنِ قَيسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابتُ بْنُ قَيسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيهِ في خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ في الإِسْلَامِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَرُدِّينَ عَلَيهِ حَدِيقَتَهُ"؟ فَقَالتْ: نَعَمْ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وفي روَايَةٍ لَهُ: وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا.

1072/ 3 - وَلأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِي، وَحَسّنَهُ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عِدَّتَهَا حَيضَةً.

1073/ 3 - وَفي روَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيبِ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالتْ: لَوْلَا مَخَافَةُ اللهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ في وَجْهِهِ.

1074/ 4 - وَلأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبي حَثْمَةَ: وَكَانَ ذلِكَ أَوّلَ خُلْعٍ في الإِسْلَامِ.

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما الأول: فقد رواه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب (الخلع وكيف الطلاق فيه)(5275) حدثنا أزهر بن جميل، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 490

ورواه -أيضًا- (5276) من طريق خالد -وهو ابن عبد الله الطحان- عن خالد الحذاء، عن عكرمة، أن أخت عبد الله بن أُبي

بهذا، وقال: أتردين حديقته، قالت: نعم، فردتها، وأمره يطلقها.

وأما حديثه الثاني: فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب (الخلع)(2229)، والترمذي (1185) من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب).

وهذا الحديث رجاله ثقات، غير عمرو بن مسلم وهو الجَنَدِي -بالفتح- اليماني، فإنه متكلم فيه، والأشهر تضعيفه، فقد ضعفه أحمد وابن معين في رواية، والنسائي، وقال ابن حزم:(ليس بشيء)، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

. ووضعه الذهبي ضمن كتابه "من تُكُلِّم فيه وهو مُوَثَّق" وقال: (صدوق، ضعفه أحمد)

(2)

، وقال الحافظ:(صدوق له أوهام).

ثم إنه قد اختلف في إسناد هذا الحديث فروي موصولًا كما تقدم، ورواه عبد الرزاق (6/ 506) ومن طريقه الدارقطني (3/ 256)(4/ 46)، والحاكم (2/ 206) عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة مرسلًا. وقد ذكر أبو داود هذا المرسل عقب الموصول، وكأنه يعله به، وهذا هو الظاهر؛ لأنه قد اختلف على معمر في هذا الحديث بين عبد الرزاق وهشام، فوصله هشام، وأرسله عبد الرزاق، وقد قال الإمام أحمد:(إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق)

(3)

. وقال ابن معين: (كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف)

(4)

. وقال يعقوب بن شيبة: (عبد الرزاق متثبت في معمر جيد الإتقان)

(5)

. وقول الترمذي بعد الموصول -كما تقدم - (حسن غريب) فيه إشارة إلى ذلك.

(1)

"الثقات"(7/ 229)، "المحلى"(10/ 239)، "تهذيب التهذيب"(8/ 92).

(2)

ص (147).

(3)

"شرح العلل"(2/ 516).

(4)

"تاريخ الدوري"(2/ 564).

(5)

"شرح العلل"(2/ 516)، وانظر: رسالة الشيخ تركي الغميز "الأحاديث التي أشار أبو داود في سننه إلى تعارض الوصل والإرسال فيها" ص (256).

ص: 491

وأما حديث عمرو بن شعيب: فقد رواه ابن ماجه (2057) من طريق الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وإسناده ضعيف؛ لأن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو صدوق مدلس، وقد عنعنه، وبه أعله البوصيري

(1)

.

وأما حديث سهل بن أبي حثمة: فقد رواه أحمد (26/ 17 - 18) من طريق الحجاج، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة، عن عمه سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس

وساق الحديث إلى أن قال: فكان ذلك أول خلع في الإسلام.

وهذا الحديث سنده ضعيف؛ لأن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو صدوق مدلس كما تقدم، ومحمد بن سليمان بن أبي حثمة لم يذكروا في الرواة عنه غير اثنين، وهما ابن إسحاق والحجاج، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(مقبول).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (أن امرأة ثابت) هكذا أُبهم في هذه الرواية اسم امرأة ثابت، وجاء عند البخاري عن عكرمة مرسلًا أن اسمها جميلة، وهي بنت أُبي، أخت عبد الله بن أُبي بن سلول، ونقله الحافظ في "الإصابة" عن جماعة

(3)

، وفي بعض الطرق -كما عند أبي داود وغيره

(4)

- أنها حبيبة بنت سهل، وفي بعضها كما عند النسائي (6/ 186 - 187) وابن ماجه مريم المغالية، وقد قيل في الجواب عن ذلك باحتمال أنهما واقعتان: في إحداهما جميلة، وفي الأخرى حبيبة، لاختلاف السياق، ولأن في بعض الطرق أصدقها حديقة، وفي بعضها حديقتين، وأما تسميتها مريم فيمكن رده للأول؛ لأن جميلة من آل عبد الله بن أُبي، وهم من بني مَغالة، نسبة إلى امرأة من الخزرج، فيكون الوهم وقع في اسمها، والذي يظهر أن التعدد فيه نظر، وعليه فلا بد من الترجيح حسب القوة.

(1)

"مصباح الزجاجة"(2/ 134).

(2)

"الثقات"(5/ 375)، "تهذيب التهذيب"(9/ 177).

(3)

"الإصابة"(12/ 175).

(4)

"السنن"(2228).

ص: 492

وهذا الخلاف لا يترتب عليه حكم، ولكن ذكرته لوروده في بعض الروايات كما مرَّ.

وثابت بن قيس هو ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي، خطيب الأنصار، أول مشاهده أُحد، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في قصة شهيرة ثابتة في "الصحيحين"، قتل يوم اليمامة شهيدًا سنة ثنتي عشرة، رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (ما أعيب عليه) هكذا في "البلوغ" بالياء من العيب، وهو لفظ النسائي (6/ 169)، قال الحافظ:(وهو أليق بالمراد)

(2)

، والعيب هو الرداءة أو النقص التي يخلو منها الخَلْقُ السليم أو الصُّنْعُ السليم. والذي في البخاري:(ما أَعْتُبُ عليه) بضم التاء المثناة من فوق، ويجوز كسرها، من العتاب، وهو اللوم على تصرف مكروه.

قوله: (في خلق) بضم أوله وثانيه، وهو صفة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بغير تكلف.

والمعنى: لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان في دينه، ولكني أكرهه طبعًا، وقد ورد في رواية ابن ماجه:(لا أطيقه بغضًا).

قوله: (ولكن أكره الكفر في الإسلام) لها معنيان:

الأول: أنها خشيت أن يحملها بغضها له على إظهار الكفر، ليفسخ نكاحها منه، لما ورد في رواية:(إلا أني أخاف الكفر).

الثاني: أن المراد بالكفر كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، فأطلقت على النشوز وبغض الزوج وغيرهما الكفر مبالغة؛ لأن هذه التصرفات تنافي خلق الإسلام؛ أي: فأخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي مقتضى الدين، وهذا المعنى أظهر، لقولها:(أكره) ولقولها: (في الإسلام).

(1)

"الاستيعاب"(2/ 75)، "الإصابة"(2/ 14)، "تفسير ابن كثير"(7/ 346)،، فتح الباري" (6/ 620).

(2)

"فتح الباري"(9/ 399).

ص: 493

قوله: (أتردين عليه حديقته) استفهام حقيقي يطلب به الجواب، والحديقة: البستان من النخيل كان عليه حائط أم لا، وقد جاء في رواية عند البزار من حديث عمر رضي الله عنه:(وكان تزوجها على حديقة نخل)

(1)

وعند أبي داود: (فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذهما وفارقها" ففعل)

(2)

.

قوله: (اقبل الحديقة وطلقها) هذا أمر إيجاب، قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فالمراد أنه يجب على الزوج أحد الأمرين، فإذا تعذر الإمساك بمعروف لطلبها الفراق تعين عليه التسريح بإحسان. وقال الحافظ: هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، والأول أظهر لما تقدم، واختاره الصنعاني

(3)

، والشوكاني

(4)

، والشيخ عبد العزيز بن باز. والحافظ لم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، ولعله يرى أن الأصل بقاء الزوجية وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مرشد وناصح لا يُلزم أحدًا بما لا يلزمه. وسياق الحديث يؤيد الوجوب.

قوله: (تطليقة) أي: طلقة واحدة بائنة، وليس طلاقًا رجعيًّا؛ لأنه لو لم يكن بائنًا لم يحصل به المقصود، فإنه بإمكانه أن يأخذ المال، ثم يرجع.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية الخلع إذا وجدت أسبابه ودواعيه، وقد أجمع العلماء على ذلك، إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي، فإنه لم يجزه، ولذا قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئًا، لقوله تعالى:{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئًا} [النساء: 20] فأُورد عليه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فادعى نسخها بآية النساء

(5)

. ولعله لم يبلغه الحديث، هالا فهو قول شاذ خارج عن الإجماع، قال القرطبي:(هذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء)

(6)

.

(1)

"مسند البزار"(1/ 422).

(2)

"السنن"(2228).

(3)

"سبل السلام"(3/ 299).

(4)

"نيل الأوطار"(6/ 279).

(5)

"فتح الباري"(9/ 395).

(6)

"تفسير القرطبي"(3/ 139).

ص: 494

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن المرأة إذا كرهت الرجل وخافت ألا تقوم بحقوقه أن لها طلب الخلع، قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] أي: فيما دفعته فداء عن البقاء مع الزوج، فإن كانت الحال مستقيمة فالخلع مكروه أو محرم، لما يلي:

1 -

قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} فإن نَفْيَ الجناح وهو الإثم يدل على أن الخلع مع استقامة الحال يكون عليهما فيه جناح، ثم غلظ الوعيد، فقال سبحانه:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187].

2 -

حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأسٍ فحرام عليها رائحة الجنة"

(1)

. وهو ظاهر في التحريم، للوعيد الشديد.

3 -

أن الخلع في مثل هذه الحال إضرار بالزوجين، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة، وهدم لبيت الزوجية، وتشتيت للأسرة إن كان لها أولاد.

وعند الجمهور أن الخلع يقع مع استقامة الحال، قال الوزير ابن هبيرة:(اتفقوا على أنه يصح الخلع مع استقامة الحال بين الزوجين)

(2)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وإذا جاز أخذ العوض وقع الخلع، وأجابوا عن الآية المتقدمة بأنها جرت على حكم الغالب

(3)

.

والقول الثاني: أن الخلع في حال استقامة الحال محرم ولا يقع، فإن

(1)

رواه أبو داود (2226)، والترمذي (1187)، وابن ماجه (2055)، وأحمد (37/ 62، 112) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا. قال الترمذي:(حديث حسن)، انظر:"عون المعبود"(6/ 308)، "الإرواء"(7/ 100).

(2)

"الإفصاح"(2/ 144).

(3)

"أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 194)، "فتح الباري"(9/ 397).

ص: 495

أوقعه بلفظ الخلع وما أشبهه لم يقع، وإن أوقعه بلفظ الطلاق فهو طلاق، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض الحنابلة

(1)

، واستدلوا بالآية الكريمة، وحديث ثوبان المتقدم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدًا لصاحبه فهذا الخلع محدث في الإسلام)

(2)

.

° الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن مجرد وجود الشقاق من قِبَلِ المرأة كاف في جواز الخلع، وأنه يجوز للرجل أخذ العوض منها إذا كرهت البقاء معه.

والقول الثاني: أنه لا بد أن يقع الشقاق منهما جميعًا، لقوله تعالى:{إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] ونسب ابن رشد هذا القول إلى داود الظاهري.

والقول الأول هو الصواب؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صريح فيما ذكر، وأما الآية فإن المراد فيها أن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج من حسن المعاشرة والطاعة، كان ذلك مقتضيًا لبغض الزوج لها، فنسبت المخافة إليهما لذلك.

ومما يؤيد عدم اعتبار الشقاق من الجانبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتًا عن كراهته لها عند إعلانها بالكراهة له، ثم إن القول بالجواز إذا وقع الشقاق من قبل المرأة هو اللائق بيسر الإسلام، فإن القول الثاني، فيه حرج على المرأة إذا كرهت الزوج ولم تستطع البقاء معه، ولم يحصل من جانبه شيء.

(1)

"الإنصاف"(8/ 383)، "الشرح الممتع"(12/ 460).

(2)

"الفتاوى"(32/ 282)، "المغني"(10/ 272).

ص: 496

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الخلع لا بد أن يكون على عوض، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته"، ولقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، وإذا خالعها على غير عوض فأين الفداء؟.

وفي أخذ الزوج الفدية عدل وإنصاف؛ لأن الزوج هو الذي أعطاها المهر وبذل تكاليف الزواج وأنفق عليها، ثم هي بعد ذلك تطلب الفراق، فكان من الإنصاف أن ترد عليه ما أخذت منه؛ لأن ما فعلت منافٍ لشكر نعمة الزوج وإحسانه، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وهو المذهب عند الحنابلة

(1)

.

والقول الثاني: يصح الخلع على غير عوض، وهو رواية في المذهب الحنبلي، اختارها الخرقي، وابن عقيل، وشيخ الإسلام ابن تيمية. وبه قال مالك

(2)

، وذلك لأن الخلع قطع للنكاح، فَصَحَّ من غير عوض كالطلاق، ولأن المقصود من الخلع -وهو تخليص الزوجة نفسها- قد حصل، فصحَّ الخلع كما لو كان بعوض، ولأن العوض حق للزوج، فإذا أسقطه باختياره فلا حرج؛ كغيره من الحقوق، وأجابوا عن الآية بأنها محمولة على الغالب، وهو أن الزوج لا يفارق زوجته إلا بعوض.

° الوجه السابع: ظاهر الحديث أن الزوج يأخذ من زوجته ما أعطاها من الصداق بدون زيادة، لقوله:"أتردين عليه حديقته" وقد اختلف العلماء في أخذ الزيادة على ما أعطاها على أقوال ثلاثة:

الأول: أنه يجوز أخذ الزيادة، وهذا مذهب الجمهور

(3)

.

واستدلوا بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وهذا عام في القليل والكثير؛ لأن (ما) موصولة، وهي من صيغ العموم، قال مجاهد: (إذا خلعها

(1)

انظر: "بدائع الصنائع"(3/ 147)، "مغني المحتاج"(3/ 267)، "المغني"(10/ 288).

(2)

"التذكرة" ص (250)، "المغني"(10/ 287)، "الاختيارات" ص (253).

(3)

"شرح ابن بطال"(7/ 422)، "تفسير ابن كثير"(1/ 404).

ص: 497

جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، ثم تلا:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

. ونقل البخاري عن عثمان رضي الله عنه معلقًا (أنه أجاز الخلع دون عِقَاصِ رأسها) وعِقَاصُ الرأس: بكسر المهملة وتخفيف القاف، وآخره صاد مهملة: جمع عَقْصَةٍ، وهو ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه. ومعناه: أنه أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع من قليل أو كثير، ولا يترك لها سوى عقاص رأسها

(2)

.

2 -

أن عوض الخلع كسائر الأعواض في المعاملات، فالقدر فيه راجع إلى الرضا، فإذا دفعت المرأة زيادة فلا مانع من أخذها.

القول الثاني: أنه لا يجوز الخلع بأكثر مما أعطاها، وهذا قول عطاء والزهري وجماعة

(3)

، وهو رواية عن الإمام أحمد

(4)

، وعلى هذا القول لا بد أن يرد الزيادة -على ما قاله بعض الحنابلة- إن كان أخذها، واستدلوا بهذا الحديث، وفيه عند ابن ماجه من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:(فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ حديقته ولا يزداد)

(5)

، وحملوا الآية على معنى: فيما افتدت به من الذي أعطاها، لتقدم قوله:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيتُمُوهُنَّ شَيئًا} [البقرة: 229] فردوا آخر الآية على أولها، أو يقال: الآية عامة، ولكنها خصصت بالسنة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعدم الزيادة

(6)

.

والقول الثالث: أن أخذ الزيادة مكروه ويصح الخلع، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وبه قال بعض السلف

(7)

. ولعل هؤلاء يأخذون بأحاديث

(1)

"فتح الباري"(9/ 397) قال الحافظ: (سنده صحيح).

(2)

"فتح الباري"(9/ 396 - 397).

(3)

"المغني"(10/ 269).

(4)

"الإنصاف"(8/ 398).

(5)

"سنن ابن ماجه"(2056) وإسناده صحيح، إلا أنه أُعل بأن الصواب إرساله، وله شواهد كلها مرسلة، لكن يعضد بعضها بعضًا، كما قال الحافظ. [انظر:"الإرواء"(7/ 103 - 104)].

(6)

"نيل الأوطار"(6/ 282).

(7)

"المغني"(10/ 270)، "الإنصاف"(8/ 398).

ص: 498

الجواز، ويقولون: إن أخذ الزيادة ليس من المروءة، قال ميمون بن مهران:(من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان)، وعن سعيد بن المسيب قال:(ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها لِيدعْ لها شيئًا)

(1)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن المرأة إن بذلت له الزيادة ابتداء جاز له أخذها مع الكراهة؛ لأنه ينافي المروءة، وأما إذا طلب الزيادة فالظاهر أنه يُمنع لأمرين:

الأول: أن الزيادة ليس لها حد.

الثاني: أن إباحة الزيادة تغري الأزواج بالعَضْلِ؛ لأن الزوج قد يحقد على المرأة لكونها طلبت منه الخلع لبغضها له، فإذا ترتب على طلب الزيادة عدم الخلع؛ لعدم قدرتها عليه، فإن القاضي يلزمه بالخلع، ويعطيه المهر الذي دفعه بدون زيادة.

° الوجه الثامن: اختلف العلماء هل الخلع فسخ أو طلاق؟ وسبب الخلاف هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع فرقة الفسخ أو لا يخرجها؟.

فالقول الأول: أن الخلع يقع به طلقة بائنة؛ لأنه لو كان للزوج رجعة عليها في العدة لم يكن لدفع العوض معنى، فصار طلاقًا بائنًا، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والحنفية، والشافعية في المعتمد، والحنابلة في إحدى الروايتين، والمذهب خلافها

(2)

، واختاره ابن باز في شرح "البلوغ" ونقله عنه ابن بسام في "نيل المآرب"

(3)

وأنه قال عن قول ابن تيمية: إنه فسخ: (إنه من الأقوال المرجوحة) وقال: (إن حديث "وطلقها" صريح بأنه يحتسب من الطلاق وليس مجرد فسخ) وعلق الشيخ محمد العثيمين ترجيح القول بأنه

(1)

رواه عبد الرزاق (6/ 503) بسند صحيح. [انظر: "فتح الباري" (9/ 402)].

(2)

انظر: "الاستذكار"(17/ 184)، "بدائع الصنائع"(3/ 144، 151)، "بداية المجتهد"(3/ 135)، "مغني المحتاج"(3/ 268)، "المغني"(10/ 274).

(3)

(3/ 358).

ص: 499

طلاق على صحة لفظة: "وطلقها تطليقة"

(1)

، وممن رجح هذا القول الشيخ محمد بن إبراهيم

(2)

، والشنقيطي

(3)

.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" فالطلاق المأمور به من قبله صلى الله عليه وسلم هو عوض المال، إذ لا يملك الزوج من الفراق غير الطلاق، فالعوض مدفوع له عما يملكه، ولو كان لا يقع به طلاق ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالطلاق. كما استدلوا بأن المرأة بذلت العوض للفرقة، والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ، فوجب أن يكون الخلع طلاقًا.

القول الثاني: أن الخلع فسخ، لا طلاق، بشرط ألا ينوي به الطلاق ولا يوقعه بصريحه، وهذا قول الشافعي في القديم، والحنابلة في أشهر الروايتين، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(4)

، قال ابن كثير

(5)

: (وهو ظاهر الآية الكريمة)، واختاره الصنعاني

(6)

، والشوكاني

(7)

، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وهو ظاهر اختيار ابن عثيمين

(8)

.

واستدلوا بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] فذكر تطليقتين والخلع، ثم ذكر تطليقة بعدهما، ولو كان الخلع طلاقًا لكان المذكور أربعًا، وهذا خلاف الإجماع، وهذا ما فهم ابن عباس رضي الله عنهما من الآيات، فقد أخرج عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص أنه سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه أينكحها؟ قال ابن عباس: نعم،

(1)

"الشرح الممتع"(12/ 470).

(2)

"فتاوى ابن إبراهيم"(10/ 309).

(3)

"أضواء البيان"(1/ 274).

(4)

"روضة الطالبين"(7/ 375)، "الإنصاف"(8/ 392)، "الفتاوى"(32/ 289)، "تهذيب مختصر السنن"(3/ 144).

(5)

"تفسير ابن كثير"(1/ 405).

(6)

"المصنف"(6/ 196).

(7)

"نيل الأوطار"(6/ 281).

(8)

"الشرح الممتع"(12/ 470).

ص: 500

ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك

(1)

.

2 -

رواية أبي داود والترمذي المتقدمة: (أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة).

ووجه الدلالة: أن الاعتداد بحيضة دليل على أنه فسخ؛ لأن هذا غير معتبر في الطلاق؛ إذ لو كان طلاقًا لم يكتف بحيضة للعدة، قال الخطابي:(هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق)

(2)

.

3 -

ما جاء في رواية البخاري: (فردت عليه، وأمره ففارقها) وفي رواية أبي داود والترمذي: (خذهما ففارقها)، وجاء في حديث حبيبة بنت سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس:"خذ منها" فأخذ منها، وجلست في بيت أهلها. وليس فيه ذكر الطلاق

(3)

.

هذه أدلة الفريقين، وقد أجاب كل فريق عن أدلة الآخر، فمن قال: إن

الخلع طلاق أجاب عن أدلة القائلين بأنه فسخ بما يلي:

الأول: أما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فعنه جوابان:

1 -

جواب بالمنع، وهو أنه معارض بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالى:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فقد أخرج الطبري بسنده عن إسماعيل بن سُميع، عن أبي رزين، قال: قاُل رجل: يا رسول الله الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(4)

.

قال الحافظ: والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس -بسند صحيح- قال: (إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسك فيحسن صحبتها، أو

(1)

"المصنف"(6/ 487)، وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 112)، وسعيد بن منصور (1/ 340)، وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 316)، "التمهيد"(23/ 377 - 378).

(2)

"معالم السنن"(3/ 144).

(3)

أخرجه أبو داود (2227)، والنسائي (6/ 169)، ومالك (2/ 564)، وسنده صحيح.

(4)

"تفسير الطبري"(4/ 545).

ص: 501

يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئًا)

(1)

.

وعلى هذا ففراق الخلع المذكور لم يُرد منه إلا بيان مشروعية الخلع عند وجود سببه، وتكون الآية قد تضمنت حكم الافتداء على أنه شيء يلحق جميع أنواع الطلاق، لا أنه شيء غير الطلاق؛ لأنه ذُكر بعد الطلقة الثالثة، وقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} إنما كرره ليرتب عليه ما يلزم بعد الثالثة الذي هو: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيرَهُ} .

2 -

الجواب الثاني: بالتسليم، وهو أنه لو قلنا: إن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} لم يلزم منه عدم عدِّ الخلع طلاقًا؛ لأن الله تعالى ذكر الخلع في معرض منع الرجوع فيما يعطيه الزوج زوجته، فاستثنى منه صورة جائزة، ولا يلزم من ذلك عدم اعتبارها طلاقًا، كما هو ظاهر سياق الآية.

الثاني: أما الاستدلال برواية العدة بحيضة، فلا ملازمة بين الفسخ والاعتداد بحيضة، ومما يوضح ذلك أن الإمام أحمد يقول -في أشهر الروايتين عنه-: إن الخلع فسخ لا طلاق، ويقول -في أشهر الروايتين عنه-: إن عدة المختلعة ثلاثة قروء كالمطلقة، فظهر عدم الملازمة عنده.

الثالث: أما ألفاظ المفارقة الواردة في بعض الروايات فالمراد بها الطلاق في مقابلة العوض، بدليل التصريح في الرواية الأخرى بذكر التطليقة، والروايات يفسر بعضها بعضًا.

أما القائلون بأن الخلع فسخ لا طلاق، فأجابوا عن لفظة:(وطلقها تطليقة) بأنه لا يحتج بها، لقول البخاري بعدها:(لا يُتابع فيه عن ابن عباس) أي: لا يتابع أزهر بن جميل على ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث؛ لأنه خالف الثقات، وهو يُغرب -كما في التقريب- ولأن الحديث مروي عن ابن عباس من طريقين بدون ذكر الطلاق، كما ذكر البخاري في "صحيحه" بعد

(1)

"تفسير الطبري"(4/ 542)، "فتح الباري"(9/ 396).

ص: 502

ذلك. ثم إن ابن عباس من القائلين بأن الخلع فسخ، لما روى طاوس، عن ابن عباس أنه قال:(الخلع تفريق، وليس بطلاق)

(1)

. فيبعد أن يذهب ابن عباس إلى خلاف ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(كل شيء أجازه المال فليس بطلاق)

(2)

.

وقد أجاب القائلون بأنه طلاق بأن كلمة البخاري لا تسقط الاحتجاج بالحديث؛ لأن مراده أن أزهر بن جميل لا يتابعه غيره في ذكر ابن عباس في هذا الحديث بل أرسله غيره، ومراده بذلك طريق خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، ولهذا عَقَّبَهُ برواية خالد الطحان، عن خالد، عن عكرمة مرسلًا، ثم برواية إبراهيم بن طهمان، عن خالد، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"وطَلِّقْها"، وعن أيوب موصولًا وفيه:(وأمره ففارقها)

(3)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الخلع فسخ وليس بطلاق؛ لقوة أدلة القائلين به، فإن رواية (وطلقها) مرسلة، وقد رواه البخاري بلفظ:(وأمره ففارقها)، والله تعالى جعل الافتداء غير الطلاق، وذلك عام سواء أكان بلفظه أم بلفظ آخر، لأن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ.

وثمرة الخلاف أنا إذا قلنا: إن الخلع طلاق فخالعها مرة حسبت عليه طلقة، فينقص بها عدد طلاقه، وإن خالعها ثلاثًا طلقت ثلاثًا، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره.

أما على القول بأنه فسخ فإنها لا تحرم عليه ولو خالعها مرارًا بمعنى أنها لا تبين منه بينونة كبرى، بل له أن يتزوجها بعقد ومهر جديدين بشرط الرضا.

وترجيح واحد من القولين مرجعه إلى اجتهاد القاضي الذي سيحكم بالخلع، وإن كان رأي الجمهور على أنه يصح الخلع من غير قضاء القاضي؛ لأنه عقد معاوضة كالبيع والنكاح، فلا يفتقر إلى القاضي، وكما يجوز الطلاق

(1)

رواه ابن أبي شيبة (5/ 112)، وانظر:"التمهيد"(23/ 377)، "فتح الباري"(9/ 403).

(2)

"المصنف"(6/ 487).

(3)

انظر: "فتح الباري"(9/ 401).

ص: 503

دون القاضي فكذا الخلع، لكن القول بأنه يحكم به القاضي وجيه، ولا سيما في زماننا هذا من باب الاحتياط في الحقوق والاجتهاد فيما يحتاج إلى اجتهاد.

° الوجه التاسع: في الحديث دليل على جواز الخلع زمن الحيض أو في الطهر الذي واقعها فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل زوجة ثابت عن حالها، ولأن حكمة المنع من الطلاق حال الحيض الإضرار بالزوجة بتطويل العدة عليها، فإذا رضيت بذلك فقد أسقطت حقها، وهذا كله تفريع على أن الخلع طلاق، وأما على أنه فسخ فالأمر واضح.

° الوجه العاشر: على القول بأن الأمر في قوله: "اقبل الحديقة وطلقها" للوجوب يستفاد منه جواز إلزام الزوج بالموافقة على الخلع إذا امتنع، وذلك في حالة تضررها بالبقاء معه، أوكان لخلل في عفته، وهذه المسألة يرجع فيها إلى اجتهاد القاضي ونظره، ولهذا نقل ابن مفلح أن بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء ألزموا بالخلع

(1)

.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (القول بوجوب الخلع أظهر عند الحاجة إليه، فإذا تمنع الزوج، ولم تمكن الموافقة بينهما والالتئام فالواجب تخليص أحدهما من الآخر، فإن كان الزوج يظن رجوعها إليه وانقيادها وأبي الخلع فإن القاضي لا يلزمه، وقد نقل ابن مفلح اختلاف كلام شيخ الإسلام في وجوبه، ولعله منزل على حسب الأحوال).

° الوجه الحادي عشر: اختلف العلماء في عدة المختلعة على قولين:

الأول: أنها كعدة المطلقة، ثلاث حيض إن كانت من ذوات الحيض وإلا فثلاثة أشهر، وإن كانت حاملًا فبوضع الحمل، وهذا قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، قال الترمذي:(وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم)

(2)

. واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، وفيه: (وطلقها

(1)

"الفروع"(5/ 343).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 364).

ص: 504

تطليقة) قالوا: فإذا كان الخلع طلاقًا فالعدة عدة مطلقة، قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

الثاني: أنها لا تعتد وإنما تستبرئ بحيضة، فإذا حاضت واحدة انتهت عدتها، وهذا قول عثمان رضي الله عنه، فقد قضى به، كما أخرجه النسائي وابن ماجه

(1)

. وبه قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -كما أخرجه أبو داود

(2)

. وهو قول ابن عباس وإسحاق بن راهويه وأحمد في رواية عنه، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم

(3)

. واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز.

واستدل هؤلاء برواية أبي داود والترمذي المذكورة: (أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة).

وهذا القول هو الراجح؛ لقوة دليله؛ فإنه صريح في المراد، وليس مع من قال: تعتد كالمطلقة إلا لفظة: (وطلقها) ولم يرد أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض، ثم إن المختلعة تشبه الجارية المشتراة بجامع العوض في كل.

وأما قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ

} فلا يقتضي أن المختلعة تعتد بثلاث، ولو قلنا إن الخلع طلاق؛ لأن الله تعالى قال في آخرها:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]. وقد تقدم أن المختلعة لا رجعة له عليها، لكن يرد على هذا أن المطلقة ثلاثًا لا رجعة عليها ومع ذلك تعتد كالمطلقة، وهنا جوابان:

الأول: بالتسليم، فيقال: إن المطلقة ثلاثًا لا يجب عليها ثلاثة قروء، بل تستبرئ بحيضة، والآية تشملها بعمومها المذكور في صدرها. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن كان من العلماء من قال بالاستبراء فهذا له وجه قوي)

(4)

.

وقد ذكر صاحب "الاختيارات"

(5)

: أنه نُقِلَ عن ابن اللبان الفرضي -وهو

(1)

"السنن"(6/ 186)، "سنن ابن ماجه"(2058) وسنده صحيح لشواهده.

(2)

"السنن"(2230) وسنده صحيح.

(3)

"زاد المعاد"(5/ 677).

(4)

"الفتاوى"(32/ 342).

(5)

ص (282).

ص: 505

من فقهاء الشافعية- القول بذلك

(1)

.

الثاني: بإيجاد الفرق، وهو أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن المطلقة ثلاثًا يلزمها ثلاثة قروء، بينما المختلعة فيها خلاف حتى عن الصحابة رضي الله عنهم، وعلى هذا فلا إشكال. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 673)، وابن اللبان هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن اللبان الفرضي الفقيه، له ترجمة في "طبقات الشافعية الكبرى"(4/ 154 - 155).

ص: 506

‌كتاب الطلاق

الطلاق لغة: التخلية والإرسال والترك، يقال: طَلَقَتِ الناقةُ -بفتح اللام- إذا سرحت حيث شاءت، وطلقت المرأة تطلق طلاقًا فهي طالق وطالقة: إذا خليت من وثاق النكاح

(1)

.

وجاء في "شرح الفصيح" أنه يقال: (طَلُقَتْ -بضم اللام- وهذا إن جعلت الفعل لها، فإن جعلته للزوج، قلت: طُلِّقَتْ تطليقًا، وإن شئت طلاقًا)

(2)

.

والطلاق شرعًا: فراق الزوجة بحلِّ قيد النكاح أو بعضه بلفظ مخصوص.

وقد ثبت تشريع الطلاق بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقد شرع الله الطلاق وبين أحكامه في آيات كثيرة، قال تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ

} [البقرة: 228]، وقال تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].

وهذا كله من رحمة الله تعالى بعباده وتفضله عليهم وإحسانه بهم؛ لأن الطلاق عند الحاجة إليه من نعم الله تعالى، كما سيأتي.

(1)

انظر: "شرح غريب المهذب" لابن بطال (2/ 98)، "الدر النقي"(3/ 371).

(2)

"شرح الفصيح" المنسوب للزمخشري (1/ 305).

ص: 507

وأما السنة: فأحاديث الباب.

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الطلاق.

والحكمة من مشروعيته: إزالة الضرر والمفسدة إذا تعذر الإصلاح بين الزوجين وفسدت الحياة الزوجية؛ لأن البقاء على هذا الوجه إضرار بالزوج بإلزامه الإنفاق والسكن، وحبس للزوجة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة، فأجازه الإسلام بعد أن ندب إلى الصبر وتحمل ما قد يحصل من الزوجة، ولا يُلجأ إليه إلَّا بعد استنفاد جميع وسائل العلاج.

وقد ذكر العلماء أن أحكام التكليف الخمسة تأتي عليه، فيكون مباحًا إذا احتاج الزوج إليه لكراهة المرأة ونحو ذلك، ولم يستطع الصبر، مع أن الله تعالى رغب في الصبر في قوله سبحانه:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

ويكون مستحبًا إذا احتاجت الزوجة إليه لكراهة الرجل ونحوها، ويكون حرامًا إذا كان لغير العدة؛ كالطلاق في زمن الحيض، أو كان أكثر من واحدة، ويكون واجبًا إذا آلى الزوج من زوجته ومضت المدة ولم يرجع، ويكون مكروهًا فيما عدا ذلك؛ كحال استقامة الزوجين

(1)

.

قال الوزير ابن هبيرة: (أجمعوا على أن الطلاق في حال استقامة الحياة الزوجية مكروه، إلا أبا حنيفة قال: هو حرام مع استقامة الحال)

(2)

.

(1)

"التفسير وأصوله"(2/ 156)، "الشرح الممتع"(13/ 7).

(2)

"الإفصاح"(2/ 147).

ص: 508

‌ما جاء في كراهة الطلاق

1075/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَجّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالهُ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"،‌

‌ باب

(في كراهة الطلاق)(2178) من طريق محمد بن خالد الواهبي، عن معرف بن واصل، عن محارب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

ورواه ابن ماجه (2018) من طريق محمد بن خالد الوهبي، عن عبيد الله بن الوليد، عن محارب، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

وهذا هو إسناد أبي داود مع إبدال معرف بن واصل بعبيد الله بن الوليد، فإما أنه وهم من بعض الرواة، أو أن لمحمد بن خالد فيه شيخين، وعلى كل فإسناد ابن ماجه ضعيف جدًّا؛ لأن عبيد الله بن الوليد ضعيف جدًّا، وخاصة في حديثه عن محارب، قال عنه الحاكم:(روى عن محارب أحاديث موضوعة)

(1)

، وعلى هذا فلا يُقَوِّي رواية أبي داود الموصولة.

ورواه الحاكم (2/ 196) من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 50).

ص: 509

أحمد بن يونس، ثنا معرف بن واصل، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق".

وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وقال الذهبي:(صحيح على شرط مسلم).

وهذا فيه نظر، لأمرين:

الأول: محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة مختلف فيه

(1)

، وقد ذكره الذهبي نفسه في كتابه "الضعفاء" وقال:(كذبه عبد الله بن أحمد، ووثقه صالح جَزَرة)

(2)

، فكيف يصحح حديثه هنا؟!

الثاني: الاختلاف عليه، فقد رواه أبو داود -كما سيأتي- عن أحمد بن يونس مرسلًا، ويبدو -كما يقول الألباني- أن الذهبي لم ينتبه لهذه المخالفة

(3)

.

فقد روي هذا الحديث مرسلًا، رواه أبو داود (2177) من طريق أحمد بن يونس، عن معرف بن واصل، عن محارب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سند رجاله ثقات إلا أنه مرسل؛ لأن محارب بن دثار تابعي.

ورواه ابن أبي شيبة (5/ 253) من طريق وكيع بن الجراح، والبيهقي (7/ 322) عن يحيى بن بكير، كلاهما عن معرف بن واصل، عن محارب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

وأحمد ويحيى ووكيع أرجح من محمَّد بن خالد الوهبي، بل وكيع وحده أرجح من محمَّد، وعليه فالمرسل أرجح، وقد رجح الإرسال أبو حاتم كما في "العلل"(1/ 431)، والدارقطني كما في "العلل"(13/ 225)، والبيهقي كما في "السنن الكبرى"، وكذا الخطابي والمنذري

(4)

.

(1)

انظر: "الميزان"(3/ 642).

(2)

"المغني في الضعفاء"(2/ 347).

(3)

"الإرواء"(7/ 107).

(4)

"التلخيص"(3/ 232)، "معالم السنن"(3/ 92).

ص: 510

* الوجه الثاني: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أن الطلاق غير محبوب لله تعالى، لما فيه من المفاسد والأضرار في حق الزوجين والأولاد، وهذا يدل على أنه ينبغي للزوج تجنب الطلاق ما أمكن.

ووصف الطلاق بالحل لا ينفي عنه الكراهة، بل إن صيغة الحديث ظاهرة في أن الطلاق مكروه لولا أن الله تعالى شرعه لمصلحة وحكمة تفوق كونه مكروهًا. وقد ذكر ابن الملقن أن الكراهة محمولة على الطلاق بدون سبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن عمر رضي الله عنهما طلاقه، كما سيأتي

(1)

.

والطلاق عند الحاجة إليه نعمة كبيرة وفضل عظيم، إذ يحصل به الخلاص من العشرة المُرَّة، وفراق من لا خير في البقاء معه، إما لسوء الأخلاق، أو لضعف الدين، أو لغير ذلك مما يسبب قلق الحياة ونكد الاجتماع.

وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى في آية الإيلاء: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 226 - 227] على أن الطلاق غير محبوب لله تعالى؛ لأن الله تعالى قدم الفيئة، وهي رجوع المولي إلى زوجته بالجماع، قدمها على الطلاق، وختمها باسمين من أسمائه دالين على المغفرة والرحمة، إشارة إلى أنها أحب إلى الله تعالى من الطلاق الذي ختمه باسمين فيهما معنى التهديد، وهما السميع العلم

(2)

.

والإِسلام قد شرع الطلاق في حدود معينة، وجعل له ضوابط محددة، واعتبره آخر مراحل العلاج، لو وقف الناس عندها لوقع موقعه، فكان علاجًا مأمون العاقبة، لا يورث ندمًا، ولا يعقب إثمًا

(3)

. لكن من الملاحظ كثرة الطلاق، ولا سيما عند الشباب، نتيجة التسرع وعدم التعقل والنظر في عواقب الأمور، فتراهم يطلقون لأمر تافه، ويعظم الأمر إذا طلق امرأة يحبها، أو له منها أولاد يحتاجون إلى رعايتها.

(1)

"الإعلام"(8/ 341).

(2)

"التفسير وأصوله"(2/ 175)، "الشرح الممتع"(13/ 8).

(3)

"الفرقة بين الزوجين" ص (23).

ص: 511

والإِسلام حينما شرع الطلاق ضيق مجاريه وقتًا وعددًا، فلا يشرع إلا في طهر لم يجامع امرأته فيه، أو في حال العمل، أما في الحيض والنفاس والطهر الذي جامعها فيه؛ فهذا قد نهى الإِسلام عن الطلاق فيه، ثم إنه لا يطلق إلا واحدة، ثم إذا طلقها فإن الله تعالى نهاه أن يخرجها من بيتها، ونهاها أن تخرج، قال تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] أي: بخصلة قبيحة من زنًى أو غيره، ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن بقاءها في بيت الزوج أقرب للميل إليها، وأيسر لإرجاعها، وأصون لها

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"التفسير وأصوله"(2/ 157 - 158).

ص: 512

‌حكم الطلاق في الحيض

1076/ 2 - عَنْ ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهيَ حَائِضٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ، فَقَال:"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمْ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَفي روَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا".

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: "وَحُسِبَتْ عَلَيهِ تَطْلِيقَةٌ".

وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِم قَال ابْنُ عُمَرَ: (أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَو اثْنَتَينِ، فَإِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ثُمَّ أُمْسِكَهَا حَتى تَحِيضَ حَيضَةً أُخْرَى، ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ عَصَيتَ رَبّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ).

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: (فَرَدَّهَا عَلَيّ وَلَمْ يَرَهَا شَيئًا)، وَقَال:"إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة، وأحمد، وغيرهم، بألفاظ متقاربة، من طرق مختلفة، بعضهم يسوقه مختصرًا، وبعضهم يسوقه مطولًا.

ص: 513

فقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، أولها في كتاب "التفسير"(4908)، ثم في أول كتاب "الطلاق"(5251)، وأخرجه مسلم (1471)(1) من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ورواه مسلم (1471)(5) من طريق محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سالم، عن ابن عمر أنه طلق أمرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". وذكر (الحمل) تفرد به محمَّد بن عبد الرحمن من بين الرواة عن سالم، فيظهر أنها غير محفوظة

(1)

.

ورواه البخاري (5253) من طريق أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال:(حسبت عليَّ تطليقة).

ورواه مسلم (1471)(3) من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، باللفظ الأول، وفيه: (فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض، يقول: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها، ثم يمهلها حتى تحيض

الحديث).

أما الرواية الأخيرة فهي عند مسلم (1471)(14) من طريق حجاج بن محمَّد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن -مولى عَزَّةَ- يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع ذلك، كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليراجعها"، فردها، وقال:"إذا طهرت فليطلق أو ليمسك"، ورواه -أيضًا- من طريق أبي عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن ابن عمر نحو هذه القصة.

وأما قوله: (فلم يرها شيئًا) فهي ليست عند مسلم، كما تبين من السياق، وإنما هي عند أبي داود (2185) من طريق عبد الرزاق، وأحمد (9/ 370) من طريق روح بن عبادة، كلاهما عن ابن جريج به.

(1)

"موسوعة أحكام الطهارة"(7/ 478).

ص: 514

وقد حكم الأئمة على هذه الزيادة بأنها منكرة

(1)

لأمرين:

الأول: أن مدارها على ابن جريج عن أبي الزبير، وقد خالف أبو الزبير جميع من رووا الحديث عن ابن عمر، ولم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئًا، ومن هؤلاء نافع مولى ابن عمر، وسالم ابن عمر، وسعيد بن جبير، ويونس بن جبير، وأنس بن سيرين، ولو أن أبا الزبير خالف نافعًا وحده، أو سالمًا وحده لم يقبل منه، فكيف وقد خالف اثنى عشر حافظًا، كلهم لم يذكروا هذه الزيادة

(2)

؟ قال أبو داود: (الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير). وقال الشافعي: (نافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل التثبيت في الحديث)

(3)

. وقال ابن عبد البر: (أبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟)

(4)

. وقال الذهبي: (أبو الزبير صدوق مشهور، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة، تكلم فيه شعبة)

(5)

.

الأمر الثاني: أنه قد اختلف على ابن جريج في ذكر هذه الزيادة، فلم ترد في رواية مسلم من طريق حجاج بن محمَّد وأبي عاصم -كما تقدم- وإنما جاءت في رواية أبي داود من طريق عبد الرزاق، ورواية أحمد من طريق روح بن عبادة -كما تقدم أيضًا- ولا شك أن روايته الموافقة لرواية الجماعة في عدم ذكرها أولى أن تكون هي المحفوظة.

واعلم أن حديث ابن عمر هذا حديث جليل، ورد بألفاظ متعددة، وطرق مختلفة، وفيه مسائل كثيرة من مسائل الطلاق وغيره، وهو جدير بأن يفرد في مصنف مستقل، قال ابن العربي: (هذا الحديث أصل في الطلاق

(1)

انظر: "سنن أبي داود"(2185)، "التمهيد"(15/ 65)، "معالم السنن"(3/ 96).

(2)

انظر: "موسوعة أحكام الطهارة"(7/ 473).

(3)

"اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم"(10/ 262).

(4)

"التمهيد"(65/ 15).

(5)

"المغني"(2/ 373)، "تهذيب التهذيب"(9/ 390).

ص: 515

وتضمن أصولًا كثيرة، وتضمن أحكامًا متعددة)

(1)

، ولذا ترى الحافظ أورد عددًا من رواياته؛ لما فيها من الفوائد الزائدة على المتن الذي ساقه أولًا.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الطلاق مباح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر طلاق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من أصله، وإنما أنكره لأنه طلق في حال الحيض، ولهذا أذن له أن يطلق في الطهر الذي لم يجامع فيه.

* الوجه الثالث: سؤال عمر رضي الله عنه يدل بظاهره على أنه لم يسبق نهي عن الطلاق حال الحيض، والغضبُ كما في الرواية الأخرى يدل بظاهره على أن الحكم معلوم، والجواب:

1 -

يحتمل أن ابن عمر رضي الله عنهما فهم النهي من قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لكن أشكل عليه ماذا يصنع؟

2 -

أو أنه فعل قبل التثبت والمشاورة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ عزم على الطلاق

(2)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم الطلاق حال الحيض،

وفاعله عاصٍ لله عز وجل إذا كان عالمًا بالنهي عنه، ووجه الدلالة من وجهين:

الأول: ما ورد في رواية سالم بن عبد الله (تغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

، ولا يتغيظ صلى الله عليه وسلم إلا على أمر محرم، بل يدل على أن الأمر ظاهر، وكان الواجب على ابن عمر التثبت قبل إيقاعه.

الثاني: أمره صلى الله عليه وسلم بإمساكها بعد المراجعة ثم تطليقها في الطهر، وهل هو محرم لحق الله تعالى فلا يباح وإن سألته إياه، أو يباح بسؤالها؟ قولان، والأول هو ظاهر الكتاب والسنة.

وقد نقل ابن المنذر وابن قدامة والنووي وغيرهم الإجماع على تحريم الطلاق حال الحيض

(4)

.

(1)

"العارضة"(5/ 123).

(2)

انظر: "إحكام الأحكام"(4/ 223).

(3)

أخرجه البخاري (4908)، ومسلم (147)(4).

(4)

"الإجماع" ص (79)، "شرح صحيح مسلم"(9/ 315)، "المغني"(10/ 234).

ص: 516

وهذا التحريم خاص بالمدخول بها، أما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضًا وطاهرًا؛ لأن الله تعالى قال:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وهذه لا عدة لها

(1)

، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة إلا ما نقل في رواية عن المالكية من المنع من الطلاق في الحيض ولو لغير المدخول بها

(2)

.

كما يستثنى من ذلك الطلاق حال العمل لو حصل لها فيه حيض -على القول بأن الحامل تحيض-؛ لأن عدتها وضع العمل، ويستثنى مسألة ثالثة تقدمت -في الخلع- وهي ما إذا كان الطلاق على عوض.

* الوجه الخامس: نُهي عن الطلاق حال الحيض لئلا تطول العدة على المرأة؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا تعتد به في أقرائها، فتكون في تلك المدة كالمعلقة، لا معتدة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج. وقيل: لكون الحيضة حال نفرة وزهد في الوطء، فلعله يندم في زمان الطهر عند توقان النفس إلى الجماع، ولا مانع من اعتبار المعنيين.

* الوجه السادس: الطلاق في حال الحيض من الطلاق البدعي الذي ليس عليه أمر الشارع، ومن الطلاق البدعي -كما يفهم من الحديث- أن يطلق ذات الحيض في طهر جامعها فيه، وهذا الطلاق البدعي في الزمن، وأما الطلاق البدعي في العدد فهو طلاق الثلاث، كما سيأتي إن شاء الله.

ويقابل الطلاق البدعي الطلاق السني، وهو الموافق للطريقة التي سنها الله تعالى في إيقاع الطلاق، وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، كما دل عليه الحديث، أو يطلقها وهي حامل كما تقدم في رواية مسلم -على القول بثبوتها- وهو إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه فقد استقبلت العدة من الحيضة التي تلي هذا الطهر، فيكون طلقها لعدتها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: مستقبلات عدتهن، وهو الوقت الذي تستقبل به العدة، أما إذا طلقها حائضًا

(1)

"زاد المعاد"(5/ 220).

(2)

"المنتقى"(4/ 97).

ص: 517

فإنها لا تعتد بتلك الحيضة بل تنتظر فراغها وانقضاء الطهر الذي يليها، ثم تشرع في العدة كما تقدم، وأما إذا طلقها حاملًا فالأمر واضح؛ لأن عدتها بوضع الحمل.

* الوجه السابع: اختلف العلماء في وقوع الطلاق حال الحيض على قولين:

القول الأول: أنه يقع، فينقص به عدد التطليقات، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، وهو اختيار البخاري، والبيهقي، والنووي، والشيخ محمَّد بن إبراهيم، والألباني، وابن باز، إلا أنه رجع عنه أخيرًا

(1)

.

واستدلوا بما يلي:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها"، وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ليراجعها" فردها. قالوا: فالأمر بالمراجعة دليل على وقوع الطلاق؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وهذا من أقوى أدلتهم. واللفظ إذا جاء عن الشارع وكان له حقيقة شرعية فإنها مقدمة على الحقيقة اللغوية والعرفية.

الثاني: قول ابن عمر رضي الله عنهما: (وحسبت عليَّ تطليقة) فإن الظاهر من سياق القصة أن الذي حسبها تطليقة هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي.

الثالث: أن مذهب ابن عمر رضي الله عنهما -هو الاعتداد بالطلاق في الحيض، وهو صاحب القصة، وأعلم الناس بها، وهو من أشد الصحابة اتباعًا للسنة وتحرجًا من مخالفتها، وهذا ثابت في "الصحيحين" من طريق قتادة قال: سمعت يونس بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: (طلقت امرأتي وهي حائض

وفيه: فقلت لابن عمر: احتسبت بها؟ قال: ما يمنعه، أرأيت إن عَجَزَ واستحمق؟) هذا لفظ مسلم، وهو عند البخاري، لكن ليس فيه:(ما يمنعه)،

(1)

"بدائع الصنائع"(3/ 96)، "المنتقى" للباجي (4/ 98)، "شرح صحيح مسلم"(9/ 315)، "المغني"(10/ 327)، "الاختيارات الجلية" لابن بسام (3/ 373)، "إرواء الغليل"(7/ 124 - 138)، "فتاوى ابن باز"(21/ 280)، "مسائل الإِمام ابن باز" للمانع ص (191، 192).

ص: 518

وإنما فيه: (أرأيت إن عجز واستحمق)

(1)

، قال الخطابي:(وقوله: أرأيت إن عجز واستحمق؟ يريد: أرأيتَ إن عَجَزَ واسْتَحْمَقَ أيُسقط عجزه وحُمقه حكم الطلاق؟ وهذا من المحذوفِ الجوابِ المدلول عليه بالفحوى)

(2)

.

ورواه مسلم من طريق أنس بن سيرين، قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلقها وهي حائض، وفيه: قلت: فاعتددتَ بتلك الطلقة التي طلقتَ وهي حائض؟ قال: (ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت).

ورواه مسلم من طريق محمَّد بن سيرين، عن يونس بن جبير، أنه سأل ابن عمر

الحديث، وفيه: قلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض أتعتد بتلك الطلقة؟ فقال: (فمه؟ أو إن عجز واستحمق)

(3)

.

وقوله: (فمه) استفهام معناه: التقرير، أي: فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، أي: وهل يكون إلا ذلك، فأبدل من الألف هاء

(4)

. والمعنى: أنها تحسب، ولا يمنع من احتسابها عجزه وحماقته، والمراد أنه عجز عن الصبر عن الطلاق حتى تطهر، فأوقعه في الحيض، واستحمق؛ أي: فَعَل فِعْل الأحمق بمخالفة المشروع، ويحتمل أن تكون الهاء أصلية، وهي كلمة تقال للزجر؛ أي: كُفَّ عن هذا الكلام، فإنه لا شك في وقوع الطلاق.

وترجيح رواية صاحب القصة له نظير، وهو ما تقدم في كتاب "النكاح" من اختلاف ابن عباس وميمونة رضي الله عنهم في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها، هل هو مُحْرِمٌ أو حلال؟ فقُدِّم قول ميمونة؛ لكونها صاحبت القصة، فكذا هنا.

وروى مسلم من طريق الزهريّ، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وفيه: قال ابن عمر: (فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها)

(5)

، وروى مسلم

(1)

أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471)(10).

(2)

"أعلام الحديث" للخطابي (3/ 2031).

(3)

"صحيح البخاري"(5252)، "صحيح مسلم"(1471)(9).

(4)

انظر: "إكمال المعلم"(5/ 15).

(5)

"صحيح مسلم"(1471)(4).

ص: 519

-أيضًا- من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: (طلقت امرأتي

فذكر الحديث، وفي آخره: قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت تلك التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها)

(1)

. ونافع وسالم هما أحفظ وأثبت من روى عن ابن عمر، وهما ينقلان أن ابن عمر اعتد بتلك التطليقة، وهذا واضح في أن الذي حسبها هو ابن عمر، ويبعد أن يكون هذا من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأمور ثلاثة:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المفتي لابن عمر في كل مسألة تتعلق بهذه القصة، فهو الآمر له بالمراجعة، المرخص له في الطلاق، المبين له متى يطلق؟

2 -

أنه يبعد أن ابن عمر يحسبها تطليقة بدون استفتاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو على خوف مما وقع منه، بعد أن تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم من صنيعه، مع ما عرف عنه من شدة اتباعه وتمسكه بالسنة.

3 -

أنه ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عدها واحدة.

فقد روى الدارقطني من طريق الشعبي قال: طلق ابن عمر امرأته واحدة، وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة والتي طلق أول مرة

(2)

. وهذا مرسل يقويه ما سبق من الروايات.

وقد روى ابن وهب في "مسنده"

(3)

، وأبو داود الطيالسي، والدارقطني من طريق يزيد بن هارون (ثلاثتهم: ابن وهب، والطيالسي، ويزيد بن هارون) عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى

(1)

"صحيح مسلم"(1471)(2).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 11)، "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 326) وسنده حسن إلى الشعبي، قال الألباني:(هو ثاني إسناد صحيح فيه التصريح برفع الاعتداد بطلاق الحائض إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولى مضت في بعض الطرق عن نافع)، "الإرواء"(7/ 131).

(3)

"فتح الباري"(9/ 353).

ص: 520

عمر النبي صلى الله عليه وسلم فجعلها واحدة

(1)

. وفي لفظ: (هي واحدة، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

(2)

. وهذا فيه التصريح برفع الاعتداد بطلاق الحائض إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد تابع ابنَ أبي ذئب ابنُ جريج عند الدارقطني

(3)

، كلاهما عن نافع به، وهذه المتابعة مع متابعة سالم المتقدمة إذا ضمت إلى ما تقدم في رواية البخاري (وحسبت عليَّ تطليقة) مع فتوى ابن عمر وما ورد عن الشعبي كما مضى، قويت رواية ابن أبي ذئب، ودل على أن هذا اللفظ محفوظ وليس بشاذ، ولذا قال ابن حجر عن رواية ابن أبي ذئب وابن جريج، عن نافع:(هذا نص في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه)

(4)

.

القول الثاني: أن الطلاق حال الحيض لا يقع، ولا ينقص به عدد الطلاق، وهو قول طاوس والظاهرية، وقول لابن عقيل من الحنابلة، واختاره ونصره شيخ الإِسلام ابن تيمية، وكذا تلميذه ابن القيم، والصنعاني، والشوكاني

(5)

. وهو الذي استقر عليه رأي ابن باز

(6)

.

(1)

"مسند الطيالسي"(1/ 68)، "سنن الدارقطني"(4/ 9)، "فتح الباري"(9/ 353).

(2)

انظر: "نظام الطلاق في الإِسلام" للشيخ: أحمد شاكر ص (30).

(3)

"سنن الدارقطني"(4/ 10).

(4)

"فتح الباري"(9/ 353).

(5)

"المحلى"(10/ 163)، "الفتاوى"(33/ 98 - 101)، "زاد المعاد"(5/ 221)، "مختصر تهذيب السنن"(3/ 95 - 111)، "فتح الباري"(9/ 351)، "سبل السلام"(6/ 205)، "نيل الأوطار"(6/ 354).

(6)

الصنعاني حصل له تردد في هذه المسألة كما في "سبل السلام"، وكذا الشيخ عبد العزيز بن باز، فقد كان في أول الأمر يفتي بوقوع الطلاق حال الحيض. انظر:"الفتاوى"(21/ 280)، ومما استدل به رحمه الله على الوقوع حديث الباب، ولأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل المستفتين في الطلاق هل طلقوا في الحيض أم لا؟ ولو كان طلاقهم في الحيض لا يقع لاستفصلهم، وقد بين جامع "الفتاوى"(21/ 280) أن الشيخ رجع عن هذا القول، وجاء في المؤلفات التي ألفت في سيرة الشيخ بعد وفاته ما يدل على ذلك، فقد جاء في كتاب "الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز" ص (343): (أما إذا كانت المطلقة حائضًا أو نفساء

فإنه لا يقع عليها الطلاق في أصح قولي العلماء، إلا أن يحكم بوقوعه قاض شرعي، فإن حكم بوقوعه وقع

) وانظر -أيضًا-: "جوانب من سيرة الإِمام عبد العزيز بن باز" ص (289).

ص: 521

واستدلوا بما تقدم من رواية أبي داود والنسائي من طريق أبي الزبير، أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله:(فردها عليَّ ولم يرها شيئًا) قالوا: فهذا نص صريح في عدم الاعتداد بتلك الطلقة.

كما استدلوا بأدلة عامة ليست صريحة في محل النزاع، وإنما هي أشبه بالمرجحات، وقد ذكرها ابن القيم وغيره

(1)

، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" قالوا: فهذا نص يدل على بطلان كل ما خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والمطلِّق في الحيض قد طلق طلاقًا ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودًا غير مقبول، وهذا فيه نظر، فإنه لا يلزم أن يكون كل عمل من قول أو فعل خالف فيه المكلفُ المشروعَ أنه باطل، بل هناك من التصرفات ما تصح من فاعلها ولو خالف فيها المشروع؛ لأن التحريم والصحة ليسا متلازمين، والنهي قد يقتضي الفساد، وقد لا يقتضيه، بأن يقوم دليل على الصحة، كما في النهي عن بيع المُصَرَّاة

(2)

، ويمكن مراجعة شرح ابن رجب للحديث المذكور في "جامع العلوم" فقد أجاد وأفاد

(3)

.

وأجابوا عن أدلة القائلين بالوقوع بأن قوله: "فليراجعها" معناه: إمساكها على حالها الأول؛ لأن الطلاق لم يقع في وقته المأذون فيه شرعًا، فهو ملغى والنكاح بحاله، فهم لم يحملوا الرجعة على معناها الاصطلاحي عند الفقهاء؛ لأن معناها أعم من ذلك، بدليل قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] والمراد بذلك العقد على امرأته التي طلقها آخر طلقة بعد أن تنكح زوجًا غيره، وتقدم رد ذلك، وأما الاستدلال بلفظ:(وحسبت عليه تطليقة) فليس فيه دليل؛ لأنه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول بوقوع الطلاق حال الحيض قول قوي -في نظري- لأمرين:

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 223)، رسالة:"الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض" للدكتور: سليمان العيسى ص (91).

(2)

انظر: شرح الحديث (815) من كتاب "البيوع".

(3)

وانظر أيضًا: "القواعد" لابن رجب (1/ 51 - 63).

ص: 522

الأول: أن حديث ابن عمر رواه جلة من الحفاظ الإثبات، وقد اتفقت ألفاظهم جميعًا -عدا أبي الزبير المكي- على وقوع الطلقة واحتسابها، ووقوع المراجعة، وقد تقدم أن نافعًا وسالمًا يرون أن الطلقة التي وقعت لابن عمر حسبت عليه، وهما من أجلِّ وأثبت من روى عن ابن عمر، وقولهما ثابت في "صحيح مسلم" كما تقدم بيان ذلك.

الثاني: أن أدلة الجمهور على المراد دلالتها قوية صريحة لا تقبل التأويل، بخلاف رواية عدم الاعتداد بالطلقة (فردها علي ولم يرها شيئًا) فهي على فرض ثبوتها تحتاج مع الأدلة المتقدمة إلى أحد مسلكين: إما الترجيح أو الجمع، فإن قلنا بالترجيح فلا ريب أن الأحاديث الدالة على وقوع الطلاق في الحيض أكثر عددًا وأقوى إسنادًا، وقد تقدمت، وإن قلنا بالجمع فإن رواية أبي الزبير قابلة للتأويل، فقد قال الشافعي إن معناها: أنه لم يرها شيئًا صوابًا غير خطأ، يؤمر صاحبه ألا يقيم عليه، ولذا أمره بالمراجعة

(1)

.

وقال ابن عبد البر عن قوله: (ولم يرها شيئًا): (لو صح لكان معناه عندي -والله أعلم- ولم يرها على استقامة؛ أي: ولم يرها شيئًا مستقيمًا؛ لأنه لم يكن طلاقه لها على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أولى المعاني بهذه اللفظة إن صحت)

(2)

.

وهذا بناء على ثبوت هذه اللفظة، وقد تقدم الكلام على تفرد أبي الزبير بها، وأنها منكرة.

وبهذا يتبين أن القول بالوقوع قول قوي، لا يمكن دفعه لكثرة رواياته، هذا من الناحية العلمية، وأما من الناحية العملية التطبيقية فنقول كما قال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: إن حَكَمَ بعدم وقوع الطلاق في الحيض قاضٍ شرعي أُخذ به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية، والله أعلم.

(1)

"اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم"(10/ 262).

(2)

"التمهيد"(15/ 66).

ص: 523

* الوجه الثامن: اختلف العلماء في حكم المراجعة من الطلاق في الحيض على قولين:

الأول: أن المراجعة واجبة، فمن طلق زوجته وهي حائض وجب عليه أن يراجعها، وهذا مذهب مالك، وقول في مذهب أبي حنيفة، ذكر ابن عابدين أنه الأصح، وهو رواية عن الإِمام أحمد

(1)

، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر بمراجعة زوجته، والأصل في الأمر أنه للوجوب، ولأن الطلاق لما كان محرمًا حال الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، ولأن المراجعة تتضمن رفع المعصية التي وقع فيها المطلق حال الحيض.

الثاني: أن المراجعة مستحبة، وهو قول في مذهب الحنفية، وقول الشافعي، والمشهور في مذهب الحنابلة

(2)

. واستدلوا بأن ابتداء النكاح ليس بواجب، فاستدامته بالرجعة كذلك، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب.

والراجح القول الأول، لقوة دليله، وأما دليل القول الثاني فيجاب عنه بأن الطلاق لما كان محرمًا في الحيض كانت استدامة النكاح فيه واجبة، وعلى هذا القول فإن امتنع الرجل من الرجعة أدبه الحاكم، فإن أصر على الامتناع ارتجع الحاكم عنه.

* الوجه التاسع: الحكمة من الأمر برجعتها وإعادتها إلى عصمته:

1 -

ليقع الطلاق الذي أراده الله في زمن الإباحة، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه.

2 -

وقيل: عقوبة على طلاقها زمن الحيض، فعوقب بنقيض قصده، وأمره بارتجاعها عكس مقصوده.

3 -

وقيل: ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله، وهو تطويل العدة

(3)

.

(1)

"المدونة"(2/ 70)، "حاشية ابن عابدين"(3/ 246)، "المغني"(10/ 328).

(2)

"بدائع الصنائع"(3/ 94)"روضة الطالبين"(8/ 4)، "المغني"(10/ 328).

(3)

انظر: "تهذيب مختصر السنن"(3/ 99).

ص: 524

* الوجه العاشر: استدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها" على أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وليها، ولا تحتاج إلى تجديد عقد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها، وأطلق له ذلك، فلم يشترط شيئًا آخر

(1)

.

* الوجه الحادي عشر: دل الحديث على أنه إذا طلق في الحيض ثم راجعها أنه ينتظر إلى الطهر الثاني، لقوله: "ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق

" ودلت الروايات الأخرى المذكورة على أن له أن يطلق في الطهر الأول بعد الحيضة التي طلقها فيها وراجعها، ولا يلزمه أن ينتظر إلى الطهر الثاني، وقد اختلف العلماء في حكم الانتظار للطهر الثاني على قولين:

الأول: أنه يلزمه الانتظار للطهر الثاني، ولا يجوز أن يطلق في الطهر الأول، وهذا مذهب أبي حنيفة في ظاهر الرواية عنه، وهو قول مالك، والأصح في مذهب الشافعي، والمشهور في مذهب الحنابلة

(2)

، واستدلوا: بما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم أذن له أن يطلق بعد أن تطهر من تلك الحيضة، ثم تحيض ثم تطهر.

والقول الثاني: أن الانتظار للطهر الثاني مندوب وليس بواجب، فيجوز له أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها، وهذا رواية عن أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد

(3)

، واستدلوا بالروايات التي مفادها جواز الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع الطلاق فيها، كما في رواية مسلم المتقدمة:"إذا طهرت فليطلقها أو ليمسك"، وقوله:"ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا".

وهذا القول هو الأظهر إعمالًا للحديثين، فيكون الأمر بالانتظار للطهر

(1)

"معالم السنن"(3/ 93).

(2)

"حاشية ابن عابدين"(3/ 346)، "المدونة"(2/ 70)، "روضة الطالبين"(8/ 4)، "الإنصاف"(8/ 451).

(3)

المصادر السابقة.

ص: 525

الثاني أمر إرشاد وندب، والصارف له الحديث الأول، ولا ريب أن التأخير للطهر الثاني ملائم للمقاصد الشرعية من وجهين:

1 -

أنه لو طلق عقب تلك الحيضة لكان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولَمِّ شَعَثِ النكاحِ، ولهذا ورد في بعض الروايات أمره بأن يمسَّها

(1)

.

2 -

ليطول مقامه معها، فلعله يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها؛ فيمسكها؛ لأن الحيض وقت رغبة عن المرأة

(2)

.

* الوجه الثاني عشر: اختلف العلماء في وقت الطلاق إذا طهرت من الحيض هل هو بعد انقطاع دم الحيض أو لا بد من اغتسالها، على أقوال ثلاثة، وسبب الخلاف معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم ليطلقها طاهرًا":

الأول: أن المراد بالطهر انقطاع الدم، وهذا قول الشافعي، والمشهور من مذهب أحمد

(3)

؛ لأن انقطاع دم الحيض دليل على الطهر ولو لم تغتسل فهي في حكم الطاهرات، بدليل وجوب الصلاة في ذمتها، وصحة صومها، وعلى هذا القول فيجوز طلاقها بانقطاع الدم مباشرة ولو لم تغتسل.

الثاني: أن المراد بالطهر التطهر بالغُسل، وهذا قول المالكية، وقول في مذهب أحمد

(4)

.

واستدلوا بما رواه النسائي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله أنه طلق امرأته

وفيه: "فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها

" وهذا مفسر لقوله: "فإذا طهرت" فيجب حمله عليه

(5)

.

القول الثالث: أنها إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم،

(1)

انظر: "طرح التثريب"(7/ 90).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"المغني"(10/ 336)، "روضة الطالبين"(8/ 9).

(4)

"المدونة"(2/ 70)، "الكافي"لابن قدامة (3/ 195).

(5)

"فتح الباري"(9/ 350).

ص: 526

وإن طهرت لدون أكثره فلا بد من الغسل أو التيمم عند عدم الماء، وهذا قول أبي حنيفة، وأقل مدة الحيض عنده ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وعللوا لذلك بأنها إذا طهرت لأكثر الحيض حكم عليها بانقطاعه، بخلاف إذا طهرت لدون أكثره فإنا لا نحكم بانقطاعه حتى تغتسل أو تتيمم

(1)

.

والقول الثاني هو الأظهر، لقوة دليله.

* الوجه الثالث عشر: في الحديث دليل على تحريم الطلاق في طهر جامعها فيه، لقوله:"وإن شاء طلق قبل أن يمسَّ" أي: قبل أن يجامعها، وقد جاء التصريح به في إحدى روايات مسلم:"فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، ووجه التحريم أنه قد يحصل من هذا الجماع حمل فيندم الزوجان أو أحدهما، ولو علما بالحمل لأحسنا العشرة، وحصل الاجتماع بعد الفرقة والنفرة.

ويستثنى من تحريم الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه ما إذا ظهر حملها، فإن ظهر حملها لم يحرم طلاقها، لقوله -كما في رواية مسلم-:"ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا"؛ لأنه إذا ظهر حملها يكون قد أقدم على الطلاق على بصيرة فلا يندم، ولأن زمن الحمل زمن الرغبة في الوطء، وفي المرأة لمكان ولده منها، فإقدامه على الطلاق في هذا الحال يدل على احتياجه لذلك، وكل هذا مفرَّعٌ على القول بثبوت لفظة (أو حاملًا) وقد تقدم ما فيها.

وقد اختلف العلماء في حكم رجعتها إذا طلقها في طهر جامعها فيه، وهو شبيه بالخلاف في حكم مراجعتها في طلاق الحيض. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "بدائع الصنائع"(1/ 40)، "المغني"(10/ 336).

ص: 527

‌حكم طلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه

1077/ 3 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَسَنَتَينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَال عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَينَاهُ عَلَيهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيهمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب (طلاق الثلاث)(1472) من طريق معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ورواه مسلم من طريق ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر، فقال ابن عباس: نعم.

ورواه مسلم -أيضًا- من طريق أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هَنَاتِكَ

(1)

، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع

(2)

الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.

(1)

أي: أخبارك وأمورك المستغربة، وأبو الصهباء هو صهيب البكري البصري، ويقال: المدني، مولى ابن عباس ["تهذيب التهذيب" (4/ 386)].

(2)

تتايع: هو بياء مثناة من تحت، بين الألف والعين، هذه رواية الجمهور، وضبطه =

ص: 528

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (وسنتين من خلافة عمر) في رواية مسلم المذكورة: (وثلاثًا من إمارة عمر).

قوله: (طلاق الثلاث واحدة) هذا فيه احتمالان، فإما أن المراد قول الرجل: أنتِ طالق ثلاثًا، أو قوله: أنتِ طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، وهذا متفق عليه، أما لفظ: أنت طالق ثلاثًا، فهو محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يعد طلقة واحدة، وأن ذكر العدد لا قيمة له؛ لأن قوله:(ثلاثًا) لغو من الكلام، كما يقال سبح ثلاثًا، واستغفر ثلاثًا، لا يصدق عليه هذا العدد إلا إذا قال: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. بدليل حديث:"من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر"، فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يحصل له الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذا ما ورد في الذكر بعد الصلاة ثلاثًا وثلاثين، وعلى هذا فلفظة: طالق ثلاثًا تعني طلقة واحدة، ولا تتحقق طلقة ثانية إلا بنطق آخر مثل سابقه، ومن أهل العلم من اعتبر الجميع من باب واحد

(1)

.

قوله: (أناة) بفتح الهمزة، وهي التأني وترك العجلة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عبد القيس:"إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة"

(2)

، قال في "القاموس":(الأناة: كقناة: الحلم والوقار)

(3)

، والمراد هنا: أن الناس استعجلوا في أمر لهم فيه مهلة وبقية استمتاع؛ لانتظار المراجعة.

قوله: (فلو أمضيناه عليهم) أي: أمضينا طلاق الثلاث ثلاثًا بدل ما كان يقع واحدة، ردعًا لهم عن إيقاع الثلاث.

= بعضهم: بالباء الموحدة، وهما بمعنى، قاله النووي.

(1)

انظر: "إعلام الموقعين"(3/ 44)، "نظام الطلاق" ص (41)، "أبغض الحلال" ص (122).

(2)

أخرجه مسلم (26)(18).

(3)

(1/ 192).

ص: 529

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن المطلق زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله عنه وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه كان إذا جمع الثلاث بأن قال: هي طالق، طالق، طالق، جعلت واحدة، واستمر الأمر على ذلك حتى مضى سنتان أو ثلاث من خلافة عمر رضي الله عنه، فجعل الطلاق الثلاث ثلاثًا، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على كثرة، ولم ينكروا ذلك مع كثرتهم وعلمهم وورعهم

(1)

.

* الوجه الرابع: هذا الحديث من أدلة القائلين بأن مُوقع الثلاث بكلمة واحدة أو بكلمات لم يتخللها رجعة لا يقع عليه إلا طلقة واحدة، وسيأتي ذكرهم، وهو نص صريح لا يقبل التأويل في أن الطلاق الثلاث يقع واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين أو ثلاث -على اختلاف الروايات- من خلافة عمر رضي الله عنه، ودليل على أنه حكم باقٍ لم ينسخ.

* الوجه الخامس: استدل الجمهور القائلون بوقوع الطلاق الثلاث ثلاثًا بأدلة ستأتي، ومنها فعل عمر رضي الله عنه، وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتباعهم، وقد ورد عنه آثار، رجالها ثقات، وأسانيدها قوية، من طرق مختلفة تثبت هذا القول عنه

(2)

، إذ ليس الاستدلال على ذلك من حديث ابن عباس؛ لأن الجمهور يضعفون حديث ابن عباس -كما سيأتي-، وهذا الإلزام من عمر رضي الله عنه ليس تغييرًا للحكم الظاهر من القرآن، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطلاق لا يلحق الطلاق، وأن الطلقة الأولى ليس للمطلق بعدها إلا الرجعة أو الفراق، وكذا الثانية بعد رجعة أو زواج، وإنما جعل هذا تعزيرًا عارضًا، وعقوبة تفعل عند الحاجة؛ لأن عمر رضي الله عنه ومعه الصحابة رضي الله عنهم أرادوا بذلك منع الناس من الاسترسال في الطلاق، ومن التعجل إلى بن الفراق، وهذا اجتهاد من اجتهاد الأئمة، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا يستقر تشريعًا

(1)

انظر: "سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث" لابن عبد الهادي ص (35).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(6/ 393 - 396)، "مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 62)، "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 334).

ص: 530

لازمًا لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة

(1)

.

وقد وجه الجمهور القائلون بوقوع طلاق الثلاث ثلاثًا إلى حديث ابن عباس عدة مطاعن، منها ما يتعلق بسنده، ومنها ما يتعلق بمتنه، وهذه المطاعن ذكرها الشراح أمثال النووي وابن حجر

(2)

، وأنا أذكر أهمها، ثم ما قيل في الجواب عنها.

أما من جهة السند: فهو الحكم بشذوذه، وتفرد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، قالوا: وانفراد الراوي بالحديث وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، فيكون شاذًّا ومنكرًا إذا لم يُرو معناه من وجه يصح

(3)

.

قال الإِمام أحمد: (هو شاذ، مطَّرح) وسأله إسحاق بن منصور عن هذا الحديث؟ فقال: كل أصحاب ابن عباس رووا خلاف ما قال طاوس، روى سعيد بن جبير، ومجاهد، ونافع عن ابن عباس خلاف ذلك. . . قلت لأحمد: فيه متعلَّق؟ قال: لا، لم يروه إلا طاوس

(4)

. وقال البيهقيّ: (هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري، وأظنه إنما تركه لمخالفته لسائر الروايات عن ابن عباس

) ثم ساق جملة منها تفيد أن ابن عباس كان يفتي بوقوع الطلاق الثلاث

(5)

.

وقال الجوزجاني -وهو ثقة حافظ-: (هو حديث شاذ، قال: وقد عُنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلًا)

(6)

.

أما من جهة المتن: فقد أجيب عنه بأجوبة، منها:

1 -

أن الإِمام أحمد قال عنه: (إنه شاذ مُطَّرحٌ) ومعناه: أن العمل ليس

(1)

"الفتاوى"(33/ 93 - 97 - 98)، "إعلام الموقعين"(3/ 35 - 36)، "نظام الطلاق في الإِسلام" ص (67).

(2)

انظر: "شرح صحيح مسلم"(9/ 326)، "فتح الباري"(9/ 363).

(3)

"شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 352)، "سير الحاث" ص (28).

(4)

"مسائل إسحاق بن منصور"(4/ 1770 - 1774)، وانظر:"المغني"(10/ 334).

(5)

"السنن الكبرى"(7/ 337).

(6)

"سير الحاث" ص (28).

ص: 531

عليه

(1)

. وقال ابن عبد البر عن هذه الرواية: (لم يعرج عليها أحد متفقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والمغرب والمشرق والشام

)

(2)

، وذكر ابن رجب إجماع الأمة على ترك العمل بها

(3)

.

2 -

أنه يطرقه احتمالات عديدة، منها: أن يكون المراد بهذا الحديث أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوقعون طلقة واحدة، ثم صاروا يتجرؤون ويطلقون ثلاثًا، ومنها: أنه وارد في تكرير اللفظ؛ لأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافة عمر كانت نياتهم صحيحة، وقلوبهم سليمة، فيقصدون بالتكرار التأكيد لا العدد، ولما فسدت نياتهم صارت إرادة التأكيد منهم غير مقبولة، فجعل عمر رضي الله عنه اللفظ على ظاهره، وأمضاه عليهم.

3 -

أن الحديث محمول على غير المدخول بها، بدليل رواية أبي داود من طريق أيوب، عن غير واحد، عن طاوس، أن رجلًا يقال له: أبوالصهباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة

، قال ابن عباس: بلى

(4)

.

قالوا: ووجه التفريق بين ما قبل الدخول وما بعده؛ أنه إذا كان التتابع قبل الدخول بانت بالأولى، فتصادفها الطلقة التي بعدها وهي أجنبية، فلا تقع عليها، بخلاف ما بعد الدخول فإنها لا تبين بالأولى.

4 -

أن هذا الحديث منسوخ، وذلك أن ابن عباس قد أفتى بوقوع الثلاث

(5)

، فيشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا نسخ هذا الحديث، كما نقله البيهقي عن الشافعي

(6)

.

هذا بعض مما وُجِّه إلى الحديث، وقد ذكر الحافظ هذه الاعتراضات،

(1)

"شرح العلل" لابن رجب (1/ 16، 410).

(2)

"الاستذكار"(17/ 15).

(3)

انظر: "سير الحاث" ص (29).

(4)

"سنن أبي داود"(2199)، وهذه الرواية معلولة، كما سيأتي.

(5)

"المغني"(10/ 334)، "سير الحاث" ص (29).

(6)

"السنن الكبرى"(7/ 338).

ص: 532

وقال: (قد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني، والله المستعان)

(1)

.

قال المعتبرون الثلاث واحدة: إن الحديث ثابت، والاستدلال به مستقيم بشقيه، وهو اعتبار الثلاث واحدة، ثم إمضاؤها في عهد عمر رضي الله عنه، قال الشيخ أحمد شاكر: (إن الذي كان في زمن أبي بكر وأول خلافة عمر، هو الحكم الأصلي الموافق للكتاب والسنة، وأن الذي عمله عمر بموافقة الصحابة ليس تغييرًا للحكم الثابت، وإنما هو إلزام المتعجل بما التزم على سبيل العقوبة، والتعزيز في ظروف وملابسات استدعت ذلك في نظرهم ورأيهم

)

(2)

.

قالوا: وكل ما وجه إلى الحديث من مطاعن، فإنه يمكن الجواب عنها كما يلي:

أما القول بشذوذ الحديث وتفرد طاوس بروايته، فإذا مردود بأن طاوسًا ثقة، والتفرد من الثقات الأثبات غير قادح في الرواية" فإن هناك أحاديث تفرد بها من هو دون طاوس ولم يردها أحد من الأئمة، فإذا حديث عمر رضي الله عنه: "إنما الأعمال بالنيات" حديث فرد، وقد أجمع العلماء على قبوله والعمل بمقتضاه، وقد قال الإِمام مسلم: اللزهري نحو من تسعين حديثًا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد)

(3)

.

2 -

أما القول بأن العمل ليس عليه، فهذا فيه نظر، فإنه قد روي عن بعض الصحابة أنهم عملوا بما دل عليه، فقد أفتى بمدلوله الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم، بل قال ابن القيم:(كل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة، فتوى أو إقرارًا أو سكوتًا)

(4)

.

3 -

أما قولهم: إن المراد به أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوقعون

(1)

انظر: "فتح الباري"(9/ 363 - 365)، "نظام الطلاق في الإسلام" ص (74).

(2)

"نظام الطلاق" ص (80).

(3)

"صحيح مسلم"(1647)(5).

(4)

"إعلام الموقعين"(3/ 46).

ص: 533

طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات

فهذا مردود؛ لأن من لم يطلق إلا واحدة لا يقع عليه إلا واحدة في كل زمان ومكان؛ في زمن عمر وما قبله وما بعده، وأما قولهم: إنه محمول على من أراد التأكيد وهذا في الزمن الأول

فهذا تأويل لا يعتد به، لأمرين:

الأول: أن نية التأكيد بالتكرار لا فرق فيها بين عهد عمر وغيره إلى يوم القيامة، فمتى نوى بالتكرار التأكيد أو الإفهام لم يتعدد الطلاق بتعدده قولًا واحدًا، لا في زمن عمر ولا قبله ولا بعده.

الثاني: أنه لو كان المعنى ما ذكر هؤلاء لم يستقم قول عمر: (أرى الناس قد استعجلوا) ولقال: أرى الناس قد تغيروا وفسدت نياتهم، فلا نقبل منهم دعوى التوكيد.

على أنه ثبت في "الصحيحين" أن عويمرًا العجلاني لما لاعن زوجته طلقها ثلاثًا بفم واحد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن إيقاع الثلاث المتعاقبة كان موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

4 -

أما حمل الحديث على غير المدخول بها استنادًا إلى رواية أبي داود، فهذا مردود؛ لأن رواية أبي داود ضعيفة؛ لأنها عن أيوب السختياني، عن غير واحد، وهذا صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، وعلى فرض ثبوتها

(2)

، فإن ذكر غير المدخول بها من باب ذكر بعض أفراد العام بحكم العام، وهذا لا يقتضي التخصيص، وأيضًا فإن كلام ابن عباس هذا وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم له، كما في علم الأصول

(3)

.

5 -

وأما قولهم: بأن الحديث منسوخ، فهو مردود -أيضًا- فإن ابن

(1)

رسالة الشيخ محمَّد بن عثيمين في "طلاق الثلاث"[مخطوطة].

(2)

انظر: "سير الحاث"(30).

(3)

انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 285).

ص: 534

عباس رضي الله عنهما قد أفتى بوفاق هذا الحديث، وإن كان المشهور عنه أن طلاق الثلاث ثلاث، لكن هذا لا يبطل دلالة الحديث، فإن العبرة بما رواه الصحابي لا بما رآه

(1)

، ثم كيف ينسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أحد وفتواه، بل كيف يبقى المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أول عهد عمر يعملون بشيء قد أبطل الله حكمه ونسخه؟!

ثم إن دعوى النسخ تتوقف صحتها على قبول ثبوت معارض مقاوم متأخر، فأين هذا؟!

(2)

.

وللمازري في "المُعْلِمِ" كلام جيد في رد دعوى النسخ، تحسن مراجعته

(3)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في اعتبار الثلاث واحدة حديث معلول، ردَّه كبار الأئمة؛ لتفرد طاوس، ومخالفته لفتوى ابن عباس رضي الله عنهما في أن الثلاث تحسب ثلاثًا، هذا من الناحية العلمية، أما من جهة التطبيق على الوقائع فالمسألة مرجعها إلى اجتهاد القاضي، والله تعالى أعلم.

(1)

هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فهي عند الأصوليين -عدا الحنفية- على هذا التقرير، أما عند المحدثين فإنهم يرون أن مخالفة الراوي لما روى علة، ومنهجهم فيها كمنهجهم في سائر العلل، فكل مخالفة لها نظر مستقل.

(2)

"زاد المعاد"(5/ 265 - 266)، "رسالة الشيخ محمَّد العثيمين رحمه الله".

(3)

"المعلم"(2/ 127).

ص: 535

‌حكم جمع الثلاث بكلمة واحدة

1078/ 4 - عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبيدٍ رضي الله عنه قَال: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَال:"أَيُلْعَبُ بكِتَاب اللهِ تَعَالى، وَأَنَا بَينَ أَظْهُرِكُمْ"؟ حَتى قَامَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ ألا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في ترجمة الراوي:

وهو محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأشهلي الأنصاري، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في صحبته، فذكر البخاري ما يدل على أن له صحبة، وقال أبو حاتم: لا يعرف له صحبة، وذكره مسلم في التابعين، قال الحافظ: (محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية

)، وقد ترجم له أحمد في "مسنده" وذكر ما يدل على أن له صحبة، قال ابن عبد البر:(قول البخاري أولى، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يشهد له، وهو أولى بأن يذكر في الصحابة من محمود بن الربيع، فإنه أسنُّ منه). توفي سنة سبع وتسعين، ويقال: سنة ست

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه النسائي متفردًا به من بين أصحاب الكتب الستة، في كتاب

(1)

"التاريخ الكبير"(7/ 402)، "الجرح والتعديل"(8/ 289 - 290)، "الاستيعاب"(10/ 50)، "السير"(3/ 485)، "الإصابة"(9/ 138)، "فتح الباري"(9/ 362).

ص: 536

"الطلاق"، باب (الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ)(6/ 142 - 143) من طريق مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت محمود بن لبيد قال:

فذكر الحديث. قال النسائي: (لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير مخرمة)

(1)

.

وهذا الحديث رجاله موثقون، قال عنه ابن كثير:(إسناده جيد قوي)، لكنه أعل بعلتين:

الأولى: أنه مرسل؛ لأنه لا يثبت لمحمود بن لبيد سماع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

الثانية: أنه منقطع، فإن مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج لم يسمع من أبيه شيئًا لصغر سنه، وإنما روى عنه وجادة، وهو كتاب أبيه، كما قاله عدد من الأئمة؛ كأحمد وابن معين وابن حبان وغيرهم، قال الدارقطني:(قال حماد بن خالد: سألت مخرمة، أسمعت من أبيك شيئًا؟ قال: لا).

وأجيب عن العلة الأولى بأنه ورد ما يدل على ثبوت صحبة محمود بن لبيد، فقد روى أحمد بسنده عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلم منها، قال:"اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم" للسُّبْحَةِ بعد المغرب

(2)

.

وهذا يفيد صحة سماعه من النبي، وهو صحابي صغير، وجُلُّ روايته عن الصحابة، كما قال الحافظ، فالظاهر أن هذا من مراسيله، وغاية ما في الأمر أن يكون حديثه -إذا لم يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم من مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة حجة. وعلى هذا فيكون حديثه حجة عند عامة أهل العلم.

وأما العلة الثانية فأجيب عنها بجوابين:

الأول: أن جماعة من الأئمة أثبتوا سماع مخرمة من أبيه؛ كابن المديني، فإنه قال:(سمع من أبيه قليلًا)، وأثنى عليه الإِمام مالك، فقال: كان رجلًا صالحًا، ورَوَى عنه أنه كان يحلف أنه سمع من أبيه. ومخرمة

(1)

"السنن الكبرى"(5/ 252).

(2)

رواه أحمد (39/ 35) وسنده حسن.

ص: 537

ثقة

(1)

، قال ابن القيم:(ويكفي أن مالكًا أخذ كتابه، فنظر فيه، واحتج به في "موطئه"، وكان يقول: حدثني مخرمة، وكان رجلًا صالحًا)

(2)

.

والمثبت -في مثل هذه الحال- مقدم على النافي.

الثاني: سلمنا أنه لم يسمع من أبيه وإنما روى عنه وجادة، ومثل هذا لا يضر، ولا يضعف روايته؛ لأنه كان عنده كتاب أبيه، وهذه وجادة تشبه السماع أو تكون أقوى منه، وقد أخرج مسلم بعض روايته عن أبيه، وهذه أمارة صحتها

(3)

. قال ابن القيم: (إن كتاب أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطًا، فلا فرق في مقام الحجة بالحديث بين ما حدثه به أو رواه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف. . .)

(4)

. قال الألباني: (هو أعرف بحديث أبيه من غيره)

(5)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على النهي عن جمع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة بأن يقول: هي طالق طالق طالق، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لذلك، وقال:"أيلعب بكتاب الله" أي: أيستهزأ بكتاب الله تعالى ويستخف بتطبيق أحكامه وأنا حي بينكم؟! وهذا يدل على أن الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعملون بما أمر الله به فيطلقون طلقة واحدة يستقبلون بها عدة النساء، وإن كان وقع تطليق الثلاث من أشخاص لكنها محتملة، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن هذا الرجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا.

والمراد بكتاب الله: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ومعناه: أن الطلاق الشرعي يكون مرة بعد مرة على التفريُق، دون الجمع والإرسال مرة واحدة، وأن الزوج له بعد المرة الثانية أن يمضي الطلاق، أو يراجع.

(1)

"تهذيب الكمال"(27/ 324 - 328).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 243).

(3)

"نظام الطلاق في الإسلام" ص (37).

(4)

"زاد المعاد"(5/ 242).

(5)

"الإرواء"(5/ 200).

ص: 538

قال الجصاص: (إن الله تعالى لم يبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليه العدة إلا مقرونًا بذكر الرجعة، منها قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}

(1)

[البقرة: 231] وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: (إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما تعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتفٍ في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزًا)

(2)

، وقال:(فإن طلقها ثلاثًا أو طلقها الثانية أو الثالثة في ذلك الطهر فإذا حرام، وفاعله مبتدع عند أكثر العلماء)

(3)

.

والحكمة من شرعية تفريق الطلاق إيجاد الفرصة للزوج في مراجعة زوجته بعد الطلقة الأولى أو الثانية، وهذا ما دل عليه قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] والمعنى: لا تعلم أيها الزوج لعل الله تعالى يوجد بعد الرغبة عن المرأة شأنًا آخر، وهو الرغبة فيها، فينقلب الزوج بعد الطلاق من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة إمضاء الطلاق إلى الندم عليه.

والقول بتحريم جمع الطلاق الثلاث هو مذهب المالكية، والحنفية، وإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها أكثر أصحابه، وهو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم

(4)

. وهؤلاء فريقان: منهم من قال: يقع ثلاثًا، ومنهم من قال: يقع واحدة

(5)

.

القول الثاني: أن الطلاق الثلاث ليس بمحرم، وإنما هو ترك للأفضل، وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وصفها ابن تيمية بأنها قديمة، وقد

(1)

"أحكام القرآن"(2/ 75).

(2)

"الفتاوى"(33/ 79 - 80).

(3)

"الفتاوى"(33/ 67).

(4)

"بدائع الصنائع"(3/ 94 - 95)، "المنتقى"(4/ 3)، "الإنصاف مع الشرح الكبير"(22/ 179)، "الفتاوى"(33/ 67)، "زاد المعاد"(5/ 241).

(5)

"الفتاوى"(33/ 8).

ص: 539

اختارها الخرقي

(1)

، واستدلوا بما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما من أن عمر رضي الله عنه أمضى الطلاق الثلاث وجعله ثلاثًا، ولو كان محرمًا لم يمضه؛ لأن ذلك من باب المضادة لله تعالى؛ لأن الله تعالى إذا حرم شيئًا وجب اجتنابه.

كما استدلوا بوقوع طلاق الثلاث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث سهل رضي الله عنه في قصة الملاعن الذي طلق زوجته ثلاثًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وكذا في حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا، وفي حديث ركانة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، إنه طلقها ثلاثًا، وهذه الأحاديث الثلاثة ستأتي إن شاء الله.

وأجابوا عن حديث محمود بن لبيد بأنه مرسل، وبأنه منقطع، فلا تقوم به حجة، وتقدم الجواب عن ذلك.

والراجح هو القول الأول، لقوة دليله، ولأنه مروي عن جماعة من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم

(2)

. قال ابن قدامة: (ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم

).

وأما حديث سهل في قصة الملاعن، فعنه جوابان:

الأول: أن هذا الطلاق وقع في غير محله؛ لأن الفرقة لم تقع به وإنما وقعت بمجرد لعانهما؛ لأنه باللعان تقع الفرقة المؤبدة، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح برضاع أو غيره.

الثاني: أن راوي الحديث وهو سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (فلما فرغا من تلاعنهما، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهذا يدل على أنه أوقع الطلاق قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم له.

وأما حديث فاطمة بنت قيس فليس نصًّا في الموضوع؛ لأنه قد جاء في

(1)

"المهذب"(2/ 101)، "المغني"(10/ 330)، "الفتاوى"(33/ 8).

(2)

"المغني"(10/ 331)، "سير الحاث" ص (80).

ص: 540

بعض روايات مسلم: (فطلقني آخر ثلاث تطليقات) وهذا يدل على أنها غير مجموعة، وإنما كانت الطلقة الثالثة، ويؤيد هذا رواية:(فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها).

وأما حديث ركانة فهو حديث ضعيف، وفيه اضطراب، فقد ورد في بعض ألفاظه:(أنه طلقها ثلاثًا)، وفي بعضها:(واحدة)، وفي بعضها:(البتة)، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه.

ص: 541

‌ما يقع بالطلاق الثلاث

1079/ 5 - عَنِ ابْنِ عَبّاس رضي الله عنهما قَال: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أمَّ رُكَانَةَ، فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رَاجعِ امْرَأَتَكَ"، فَقَال: إِني طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَال:"قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

1080/ 6 - وَفي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: طلَقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلاثًا، فَحَزِنَ عَلَيهَا، فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنَّها وَاحِدَةٌ" وَفي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفيه مَقَالٌ.

1081/ 7 - وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأتهُ سُهَيمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَال: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بهَا إلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجها:

أما حديث ابن عباس الأول: فقد أخرجه عبد الرزاق (6/ 395) ومن طريقه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب (نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث)(2196) من طريق ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: طلق عبدُ يزيدَ أبو ركانةَ وإخوتِه أُمَّ ركانة، ونكح امرأة من مزينة

وذكر الحديث إلى أن قال: ثم قال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوتِه" فقال: (إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله) قال: "قد علمتُ، راجعها" وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].

ص: 542

وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه من لم يُسمَّ، وهم: بعض بني رافع، وقد استجاز الحافظ ابن العراقي أن يكون هذا المجهول هو الفضل بن عبيد الله بن رافع

(1)

، وتبعه الحافظ ابن حجر، وذكر الحافظ ابن رجب أنه محمَّد بن عبيد الله بن أبي رافع، ويؤيد ذلك ما ورد عند الحاكم (2/ 291) من طريق ابن جريج، عن محمَّد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: (طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة

الحديث)

(2)

، ومحمد بن عبيد الله ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل: إنه متروك

(3)

.

وقد ترجم له الذهبي، وذكر له عدة مناكير من روايته عن أبيه، عن جده، وقال: قال يحيى بن معين: (ليس حديثه بشيء)، وقال أبو حاتم:(منكر الحديث جدًّا)، وقال الذهبي:(واهٍ)

(4)

.

قال ابن حزم عن الحديث: (هذا لا يصح؛ لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع، ولا حجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله وحده، وسائرهم مجهولون)

(5)

.

ثم إن الحديث فيه خطأ نبه عليه الذهبي في "التلخيص" وهو أن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب لم يدرك الإِسلام

(6)

.

وأما حديثه الثاني: فقد رواه أحمد (4/ 215)، وأبو يعلى (3/ 64 - 65)، والبيهقي (7/ 339) من طرق، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (طلق

(1)

"المستفاد من مبهمات المتن والإسناد"(66).

(2)

انظر: "بذل المجهود"(10/ 287).

(3)

"سير الحاث" ص (30)، وانظر:"تهذيب التهذيب"(9/ 286).

(4)

"الميزان"(3/ 634).

(5)

"المحلى"(11/ 462)، وانظر:"تهذيب مختصر السنن"(3/ 121).

(6)

"المستدرك"(2/ 491).

ص: 543

ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا، قال: فقال: "في مجلس واحد؟ " قال: نعم، قال:"فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت" قال: فَرَجَعَهَا.

وهذا إسناد ضعيف -أيضًا- أُعل بثلاث علل:

الأولى: أنه من رواية داود بن الحصين، عن عكرمة، وقد ضعف الأئمة روايته عن عكرمة؛ لأن فيها نكارة، قال ابن المديني:(ما روى عن عكرمة فمنكر)، وقال أبو داود:(أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير)، وقال الذهبي:(ثقة مشهور، له غرائب تستنكر)، وقال الحافظ في "التقريب":(ثقة إلا في عكرمة)

(1)

.

الثانية: أن الحديث مخالف للمشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يفتي بخلافه، قال البيهقي:(هذا إسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك)

(2)

.

الثالثة: أن الحديث مخالف لما رواه أهل بيت ركانة من أن طلاقها كان واحدة وليس ثلاثًا، كما سيأتي، ولذا قال ابن عبد البر: (هذا حديث منكر خطأ، وإنما طلق ركانة زوجته البتة، لا ثلاثًا، كذلك رواه الثقات أهل بيت ركانة، العالمون به،

وحديث الشافعي أنه طلقها البتة أصح؛ لأنهم أهل بيته، وهو أعلم بهم، ورواية الشافعي لحديث ركانة، عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها، لثقة ناقليها)

(3)

.

وقد ذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية إلى تقوية الحديث، فقال:(هذا إسناد جيد، وله شاهد آخر رواه أبو داود. . .)

(4)

، وذكر هو وابن القيم أن الأئمة

(1)

"من تُكُلِّمَ فيه وهو موثق" ص (76)، "تهذيب التهذيب"(3/ 157).

(2)

"السنن الكبرى"(7/ 399).

(3)

"الاستذكار"(17/ 21، 27)، وقارنه بـ "الاستذكار" ضمن "موسوعة شروح الموطأ"(14/ 493).

(4)

"الفتاوى"(33/ 85).

ص: 544

احتجوا بهذا السند

(1)

-داود بن الحصين، عن عكرمة- بعينه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في رد النبي صلى الله عليه وسلم زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول

(2)

.

وتبعهما على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز

(3)

.

وذكروا أن ما يخشى من تدليس ابن إسحاق قد زال بالتحديث، كما تقدم، وهذا فيه نظر لما يلي:

1 -

أن الحديث معلول بعدة علل غير تدليس ابن إسحاق، كما مضى.

2 -

أن حديث ابن عباس في قصة زينب مع زوجها ليس متفقًا على الاحتجاج به، كما تقدم في موضعه، وعلى هذا فالتنظير ليس مستقيمًا.

3 -

أن التنظير بأسانيد أخذ بها الأئمة ليس مطردًا؛ لأن لهم في كل حديث نظرًا خاصًّا ولو كان الإسناد واحدًا، فقد يخرج البخاري أو مسلم أحاديث بسندٍ ما، ويعرضا عن أحاديث بالسند نفسه إذا لاحت لهم علة من العلل تقتضي رد الحديث، أو قرائن تدل على أن الحديث فيه غرابة أو نكارة

(4)

.

وقول الحافظ: (وفي سندهما ابن إسحاق، وفيه مقال) أي: في سند أبي داود وسند أحمد، وهذا وهم منه، فإن ابن إسحاق في سند أحمد، وليس في

(1)

"زاد المعاد"(5/ 264)، "إغاثة اللهفان"(2/ 287).

(2)

تقدم تخريجه في باب "الكفاءة والخيار".

(3)

"حاشية البلوغ"(2/ 617).

(4)

انظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح" للحافظ ابن حجر (1/ 314 - 315)، ومن أمثلة ذلك أن الإِمام مسلمًا رحمه الله قد أخرج في "صحيحه" أحاديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، ومنها حديثه عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الجرس مزامير الشيطان"[صحيح مسلم (2114)] لكنه أعرض عن حديثه عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" لنكارة متنه؛ لأنه انفرد بأحاديث لا يتابع عليها، وبهذا يتبين أن مسلمًا أخرج في "صحيحه" المشاهير من حديثه دون الشواذ، كما قاله الخليلي في "الإرشاد"(1/ 218)، وعليه فلا يكون على شرطه من أحاديثه إلا المنتقى دون غيره، انظر:"النكت على مقدمة ابن الصلاح" للزركشي (1/ 364).

ص: 545

سند أبي داود، كما تقدم في سياق الإسنادين، هذا أمر، والأمر الثاني: أن ابن إسحاق ليس هو علة الحديث؛ لأنه قد صرح بالتحديث، كما تقدم، والظاهر أن الحافظ يشير بذلك إلى تدليسه.

وابن إسحاق: هو محمَّد بن إسحاق بن يسار، صاحب "السيرة النبوية" رواها عنه ابن هشام، مات سنة (151 هـ)، وقد اختلفت فيه كلمة المحدثين، فقد وثقه غير واحد، ووهاه آخرون، وهو مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، يقول الذهبي بعد استعراض الأقوال فيه:(فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتج به أئمة، فالله أعلم)

(1)

. وقال الحافظ: (حديثه في درجة الحسن، إلا أنه لا يحتج به إذا خولف)

(2)

.

وأما الحديث الثالث: فقد رواه أبو داود (2208)، والترمذي (1177)، وابن ماجه (2051) من طرق عن جرير بن حازم، عن الزبير بن سعد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده

(3)

، أنه طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما أردت؟ " قال: واحدة، قال:"آلله" قال: آلله، قال:"هو على ما أردت".

وهذا سند ضعيف مسلسل بعلل:

1 -

فيه الزبير بن سعد، ضعفه ابن المديني وابن معين في رواية، والنسائي وأبو داود، وقال الحافظ:(لين الحديث).

2 -

فيه عبد الله بن علي بن يزيد، ذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

، وذكره العقيلي في "الضعفاء"

(5)

، وقال:(لا يتابع على حديثه، مضطرب الإسناد) ثم ساق له هذا الحديث.

3 -

وفيه علي بن يزيد بن ركانة، ذكره ابن حبان في "الثقات"

(6)

، وذكره

(1)

"الميزان"(3/ 468 - 475).

(2)

"فتح الباري"(4/ 32).

(3)

الظاهر أن مراده الجد الأعلى وهو ركانة. "بذل المجهود"(10/ 318).

(4)

(7/ 15).

(5)

(2/ 282).

(6)

(5/ 165).

ص: 546

العقيلي في "الضعفاء"

(1)

، وساق له هذا الحديث، ثم نقل عن البخاري أنه قال: لم يصح حديثه.

4 -

الاضطراب في سنده ومتنه، قال الترمذي:(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب، ويروى عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا)

(2)

، وأما الاضطراب في سنده فقد اختلف على الزبير بن سعد في سنده اختلافًا كثيرًا، ذكره الألباني

(3)

.

وقد صحح الحديث ابن عبد البر، كما في "تفسير القرطبي"

(4)

، وكذا ابن كثير فقد حسنه في "الإرشاد"

(5)

.

وقد جاء له متابع فيما أخرجه أبو داود (2206) من طريق الشافعي، حدثني عمي محمَّد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة

الحديث، وفيه: فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان.

ورواه -أيضًا- (2207) من طريق الشافعي قال: حدثني عمي محمَّد بن علي، عن ابن السائب، عن نافع بن عجير، عن ركانة

(6)

بن عبد يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث.

وهذا الإسناد كالذي قبله ضعيف؛ لأن مداره على نافع بن عجير، وقد ذكره بعضهم في الصحابة، كما في "الإصابة"

(7)

، واختلف فيه ابن حبان فمرة

(1)

(3/ 254).

(2)

"جامع الترمذي"(1177)، "العلل الكبير"(1/ 461)، "مختصر سنن أبي داود" للمنذري (3/ 134).

(3)

"الإرواء"(7/ 141).

(4)

(3/ 132).

(5)

(2/ 197).

(6)

الفرق بين هذا السند وما قبله: أن الأول ليس عن طريق الرواية عن ركانة، وإنما عن طريق الإخبار، وهذا السند عن طريق الرواية؛ لأنه عن نافع، عن ركانة. ["بذل المجهود" (10/ 317)].

(7)

انظر: "الإصابة"(10/ 132).

ص: 547

أورده في أسماء الصحابة

(1)

، وأخرى ذكره في عداد التابعين

(2)

، وقال عنه:(شيخ)، وهذا هو الراجح، ثم هو مجهول، ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في "التاريخ الكبير"

(3)

، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"

(4)

ولم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلًا، ولو كان معروفًا لذكروا فيه شيئًا.

ولذا قال ابن القيم: (مجهول، لا يعرف حاله البتة، ولا يدرى من هو؟)

(5)

.

قال أبو داود عقب هذه الطرق الثلاث: (وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة

(6)

طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته، وأعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع، عن عكرمة، عن ابن عباس)

(7)

.

ولعل الحافظ يشير بقوله: (وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه) إلى مقولة أبي داود هذه.

وقد روى الدارقطني في "سننه"(4/ 33) هذا الحديث من طريق أبي داود، وقال عقبه:(قال أبو داود: وهذا حديث صحيح)، ومثل هذا قال المنذري في "مختصر السنن"

(8)

، مع أن هذه العبارة ليست في "سنن أبي داود" التي بأيدينا، فيحتمل أنها في نسخ أخرى؛ لأن "السنن" لها نسخ متعددة، وروايات مختلفة

(9)

، ويرى بعض الشراح أن هذه العبارة تدل على أن حديث عبد الله بن علي صحيح، وحديث ابن عباس ليس بصحيح، وهذا الاحتمال

(1)

"الثقات"(3/ 413).

(2)

"الثقات"(5/ 469).

(3)

(8/ 84).

(4)

(8/ 454).

(5)

"زاد المعاد"(5/ 263).

(6)

الذي في حديث ابن جريج: أبو ركانة لا ركانة، وقد استظهر صاحب " بذل المجهود" أن الصحيح "أبا ركانة".

(7)

"السنن"(3/ 263 - 264).

(8)

(3/ 134).

(9)

ذكر ابن القيم في "مختصر السنن"(3/ 134)، ثم الألباني في "الإرواء" (7/ 143) أن قول المحدث:(هذا الحديث أصح من هذا) إنما يعني ترجيحًا في الجملة، وذلك أنه إن كان المرجح عليه صحيحًا كان ذلك نصًّا على صحة الراجح، وإن كان ضعيفًا لم يكن نصًّا على الصحة

ص: 548

هو الذي مشى عليه الدارقطني، والاحتمال الأول أخذ به ابن القيم

(1)

.

والذي يتلخص من الكلام على هذا الحديث أنه حديث ضعيف بجميع طرقه، لما في بعض أسانيده من الجهالة، وما في متنه من اختلاف الألفاظ، مع أن القصة واحدة على ما يظهر، وهو كما قال البخاري: حديث مضطرب، تارة قيل فيه: ثلاثًا، وتارة قيل فيه: البتة، ثم هو معارض بحديث ابن عباس المتقدم، وهو أصح منه إسنادًا، وأوضح منه متنًا.

وقد ضعف الحديث -أيضًا- الإِمام أحمد، قال ابن قدامة:(أما حديث ركانة فإن أحمد ضعف إسناده، فلذلك تركه)

(2)

، وقال الخطابي:(وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذه الأحاديث كلها)

(3)

. ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: (حديث ركانة ليس بشيء)

(4)

، وضعفه -أيضًا- العقيلي، كما تقدم، والترمذي وآخرون.

والاستدلال بهذا الحديث معتمد على رواية أنه طلقها ثلاثًا، وعلى رواية أنه طلقها البتة، فبالأولى أخذ المانعون من إيقاع الثلاث، وبالثانية أخذ الجمهور، لكن من الملاحظ أن من رام الاستدلال برواية من روايات الحديث عمل على تقويتها وتضعيف ما يعارضها، أما على ما قاله الإمامان أحمد والبخاري فإنه لا يحتج لا برواية (ثلاثًا) ولا برواية (البتة)، بل تتساقط الروايتان، ويرجع إلى غيرهما

(5)

، وعلى هذا فللعلماء في هذا الحديث مسلكان:

الأول: رفض الاحتجاج بجميع رواياته، وكأن هذا مسلك المحدثين.

الثاني: العمل على تقوية بعضها والاحتجاج بها، وكأن هذا مسلك الفقهاء.

(1)

"تهذيب مختصر السنن"(3/ 134)، "عون المعبود"(4/ 213 - 214).

(2)

"المغني"(10/ 366).

(3)

"معالم السنن"(3/ 122).

(4)

"العلل المتناهية"(2/ 150).

(5)

انظر: "شرح الزرقاني على الموطأ"(3/ 168).

ص: 549

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (طلق أبو ركانة) بضم الراء، وتخفيف الكاف، هو ركانة بن عبد يزيد المطلبي، من مسلمة الفتح، نزل المدينة، ومات في أول خلافة معاوية

(1)

.

وقد تقدم في إحدى روايات أبي داود (طلق عبدُ يزيدَ أبو ركانة وإخوتِهِ أمَّ ركانة) وهذا يدل على أن المطلِّق هو أبو ركانة، لكن في رواية أبي داود المذكورة في "البلوغ": (أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة

) وهكذا جاء في "المسند"، كما تقدم، خلافًا لما جاء في أكثر نسخ "البلوغ"، ولم يقل في هذا اللفظ: أم ركانة، وعلى هذا فيحتمل أن الوهم وقع في إحدى روايتي أبي داود من بعض الرواة

(2)

، وأن الصواب طلق ركانة امرأته، وقد ذكر الذهبي أن المعروف أن صاحب القصة ركانة، وليس أبا ركانة

(3)

.

قوله: (أم ركانة) في رواية أبي داود المذكورة: (امرأته سهيمة) وهي: سهيمة بنت عمير المزنية، قال في "الإصابة":(هي امرأة ركانة بن عبد يزيد المطلبي)

(4)

.

قوله: (راجع امرأتك) أمر من الرجعة، وهي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد، وأمره بالرجعة مع أنه قال:(طلقتها ثلاثًا) دليل على أن الثلاث واحدة، كما سيأتي.

قوله: (البتة) بهمزة وصل؛ أي: قال: أنت طالق البتة، وهو من البت بمعنى: القطع، قال في "المصباح المنير":(بَتَّ الرجل طلاق امرأته فهي مبتوتة، والأصل مبتوت طلاقها)

(5)

؛ أي: كأنه قال: طلقتك طلاقًا قطع النكاح ولم يبق معه حق الرجعة، والمطلق بهذا اللفظ قد يريد الثلاث، وقد يريد الواحدة، وقد عدَّ الفقهاء لفظ:(البتة) في كنايات الطلاق الظاهرة

(6)

،

(1)

"الإصابة"(3/ 286).

(2)

"عون المعبود"(14/ 214).

(3)

"تلخيص المستدرك"(2/ 491).

(4)

"الإصابة"(12/ 321).

(5)

ص (35).

(6)

"المغني"(10/ 367).

ص: 550

والكناية: كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ومما يدل على أنه قد يراد بها الواحدة رواية أبي داود المتقدمة: (

فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان).

* الوجه الثالث: استدل جماعة من أهل العلم برواية أبي داود وأحمد على أن طلاق الثلاث يقع واحدة، وأن للمطلق الرجعة، لقوله:"راجع امرأتك"، فقال:(إني طلقتها ثلاثًا)، فقال:"قد علمت، راجعها"، وفي لفظ لأحمد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها واحدة".

قال الحافظ: (هذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات)

(1)

.

قالوا: فحديث ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع، عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أبي داود، وحديث داود بن الحصين، عن عكرمة، عند أحمد موافقان لحديث طاوس وأبي الصهباء وأبي الجوزاء عن ابن عباس أن طلاق الثلاث واحدة، وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس، وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة.

والقائلون بأن الثلاث واحدة هم جماعة من الصحابة والتابعين، وبعض أرباب المذاهب، فمن الصحابة رضي الله عنهم: أبو بكر وعمر في أول خلافته، وابن عباس في رواية عنه، ومن التابعين: عطاء وطاوس، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وبه قال بعض هيئة كبار العلماء، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز

(2)

.

وأجاب الجمهور القائلون بوقوع الثلاث عن هذا الحديث بثلاثة أجوبة:

1 -

أنه حديث معلول كما تقدم، فلا تقوم به حجة، ولو صح لكان نصًّا في محل النزاع.

(1)

"فتح الباري"(9/ 262).

(2)

"إغائة اللهفان"(1/ 289)، "أبحاث هيئة كبار العلماء"(1/ 552).

ص: 551

2 -

على فرض صحته فليس فيه دلالة على أن الطلاق الثلاث كان بلفظ واحد؛ لأن كونها في مجلس واحد لا يلزم منه أنها بلفظ واحد، والتعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كانت كذلك لقال: بلفظ واحد، وترك ذكر المجلس، إذ لا داعي لترك الأخص والتعبير بالأعم بلا موجب

(1)

.

3 -

أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما تقدم في روايته عن طريق آل بيت ركانة، فيمكن أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث، فقال: طلقها ثلاثًا، والبتة يصلح أن يراد بها واحدة، كما تقدم.

* الوجه الرابع: استدل الجمهور من أهل العلم على أن طلاق الثلاث يقع ثلاثًا برواية أبي داود الأخيرة: (أن ركانة طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما أردت؟ "، قال: واحدة، قال:"والله ما أردت إلا واحدة؟ "، قال: والله ما أردت إلا واحدة، قال:"فهو ما أردت".

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف المطلق بأنه لم يرد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لوقع ما أراد، ولو لم يفترق الحال لم يستحلفه

(2)

.

قالوا: وهذا الحديث قال عنه أبو داود: هذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، كما تقدم.

وقالوا -أيضًا-: إن هذا الحديث بروايته المتقدمة له متابع من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح الحديث، وتقدم سياق هذا المتابع. كما استدلوا بقضاء عمر رضي الله عنه، كما تقدم في حديث ابن عباس، واستدلوا بحديث فاطمة بنت قيس، وحديث سهل في قصة المتلاعنين، وقد مضى ذكرهما والجواب عنهما في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما ثالث أحاديث كتاب "الطلاق".

(1)

"أضواء البيان"(1/ 207).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 459).

ص: 552

وقد أخذ بهذا القول الأكثرية من هيئة كبار العلماء

(1)

.

وأما حديث ركانة فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة:

1 -

أنه حديث ضعيف، كما تقدم؛ لأن مداره على نافع بن عجير، وقد مضى ما فيه.

2 -

أن قول أبي داود عنه إنه أصح من حديث ابن جريج (أنه طلقها ثلاثًا)، سببه أن أبا داود روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول -كما تقدم- ولم يرو حديث أحمد من طريق داود بن الحصين، عن عكرمة:(أنه طلقها ثلاثًا)، فلهذا رجح حديث (البتة) على حديث ابن جريج، ولم يتعرض لحديث داود بن الحصين الذي هو أحسن حالًا منه، وهذا على رأي ابن تيمية وابن القيم في تصحيح حديث داود بن الحصين، عن عكرمة، كما تقدم.

3 -

أن عبارة أبي داود ليست نصًّا في أن الحديث صحيح عنده، كما تقدم.

أما القائلون بأن طلاق الثلاث بلفظ واحد أو بكلمات متعاقبة لا يقع إلا طلقة واحدة؛ فمستندهم حديث ابن عباس رضي الله عنهما في أن الطلاق الثلاث كان واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم ما فيه.

قالوا: وأما ما فعله عمر رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة رضي الله عنهم لما رأى أن الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث، وتتابعوا فيه، وأنهم لا ينتهون إلا بعقوبة تردعهم عنه، فرأى إلزامهم بما قالوا عقوبة لهم، فإن هذا من باب التعزير العارض الذي يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة

(2)

، ولا يستقر تشريعًا لازمًا لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة، فإذا قُدِّرَ أن

(1)

"أبحاث هيئة كبار العلماء"(1/ 541).

(2)

انظر: كلام ابن رجب في أن قضاء عمر رضي الله عنه قسمان: قسم جَمَعَ عليه الصحابة رضي الله عنهم، ومنها هذه المسألة، وقسم لم يجمع عليه الصحابة

وهذا في "جامع العلوم والحكم" شرح حديث (28)، وفي "سير الحاث" ص (35).

ص: 553

الناس تهافتوا على طلاق الثلاث كان الإلزام به أولى، وإذا كان فاعلوه قليلين كان عدم الإلزام به هو الحق.

قالوا: وبهذا تجتمع الأدلة، ويحصل التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه الراشدين.

وأما الاستدلال بحديث ركانة فلا متمسك فيه لأحد من الفريقين، لما تقدم من ضعفه واضطرابه، وعليه فيطرح، ويؤخذ الاستدلال من أدلة أخرى، وقد أفاض ابن القيم في أدلة هذا القول، فراجع "إغاثة اللهفان"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

(1/ 283).

ص: 554

‌حكم طلاق الهازل

1082/ 8 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدُّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ"، رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ إلا النَّسَائِيَّ، وَصَحّحَهُ الحاكِمُ.

1083/ 9 - وَفي رِوَايَةٍ لابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ: "الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ".

1084/ 10 - وَلِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه رَفَعَهُ: "لَا يَجْوزُ اللَّعِبُ في ثَلَاثٍ: الطَّلَاقِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْعَتَاقِ، فَمَنْ قَالهُنَّ فَقَدْ وَجَبْنَ"، وَسَنَدُهُ ضَعيفٌ.

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب (الطلاق على الهازل)(2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، والحاكم (2/ 198) من طريق عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب) ونقله المنذري في "مختصر السنن"

(1)

وأقره، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، وعبد الرحمن بن حبيب من

(1)

(3/ 119).

ص: 555

ثقات المدنيين، ولم يخرجاه) وتعقبه الذهبي، فقال:(فيه لين).

والظاهر أن السند ضعيف؛ لأن فيه عبد الرحمن بن حبيب بن أردك المدني، قال النسائي:(منكر الحديث)، ووثقه ابن حبان والحاكم

(1)

، ومن المعلوم أنهما من المتساهلين في التوثيق، كيف وقد خالفهما النسائي؟! ثم إن تفرد عبد الرحمن بن حبيب بهذا الحديث عن عطاء مما يزيد السند نكارة، لأن مثله لا يقبل تفرده.

ورواه ابن عدي في "الكامل"(6/ 5) من طريق غالب، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث ليس فيهن لعب، من تكلم بشيء منهن لاعبًا فقد وجبن عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح".

وهذا سند ضعيف جدًّا؛ لأن فيه غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري، قال عنه أبو حاتم والنسائي والدارقطني:(متروك)، وقال ابن معين:(ليس بثقة)، وذكر ابن عدي له أحاديث، ومنها حديث الباب، ثم قال:(والغالب غير ما ذكرت، وله أحاديث منكرة المتن مما لم أذكره)، ثم إن السند فيه انقطاع؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

.

ولعل الحافظ ذكره لأن فيه زيادة (العَتاق).

وأما حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقد رواه الحارث بن أبي أسامة، كما في "بغية الباحث"(1/ 555 - 556) من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف له علتان:

الأولى: ضعف عبد الله بن لهيعة.

الثانية: الانقطاع بين عبيد الله بن أبي جعفر وعبادة بن الصامت، فإنه لم يثبت أنه سمع من الصحابة؛ لأن عبيد الله ولد سنة ستين، ووفاة عبادة بن

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 144).

(2)

"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (34 - 36).

ص: 556

الصامت سنة أربع وثلاثين

(1)

.

وبهذا يتبين أن حديث أبي هريرة حديث ضعيف، وكذا ما له من شواهد كحديث عبادة، وكذا حديث أبي ذر عند عبد الرزاق (6/ 135) من طريق إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروك.

وقد أخرج ابن أبي شيبة (5/ 106)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 425)، وابن جرير (5/ 13) من طرق عن الحسن، قال: (كان الرجل في الجاهلية يطلق، ثم يراجع يقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من طلق، أو حرر، أو أنكح، فقال: إني كنت لاعبًا فهو جازم".

قال الألباني: (هذا مرسل صحيح الإسناد إلى الحسن وهو البصري)

(2)

.

وقد نقل ابن كثير في "تفسيره" عن جماعة من السلف أنهم فسروا الآية بذلك.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ثلاث) هذا ليس على سبيل الحصر بدليل ذكر العتق في رواية ابن عدي، فتكون أربعًا، وثلاث: مبتدأ على حذف مضاف؛ أي: ثلاث خصال أو ثلاث مسائل، والجملة بعده خبر.

قوله: (وهزلهن جد) الهزل: بفتح الهاء وسكون الزاي، ضد الجد، يقال: هزل في الأمر: إذا لم يجدَّ فيه، ومعناه: أن يقول أو يفعل شيئًا على سبيل اللعب والمزاح ولا يريد حقيقته. والجد: بالكسر ضده.

قوله: (والرجعة) بكسر الراء وفتحها: عودة المطلق إلى امرأته المطلقة.

* الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذه الأحاديث على أن الطلاق وما ذكر معه لا هزل فيه، وأن الواجب على المتكلم التحفظ في كلامه، وألا يتكلم إلا عن قصد ونية، لا عن لعب وهزل؛ لأن كلام الهازل معتبر، والطلاق والنكاح

(1)

انظر: "سير أعلام النبلاء"(6/ 8)، "التلخيص"(3/ 236)، "الإرواء"(6/ 226).

(2)

"الإرواء"(6/ 227).

ص: 557

والرجعة والعتق كلها أمور عظيمة يترتب عليها أحكام تتعلق بالآخرين، فإذا قال: زَوَّجْتُكَ، وقال الآخر: قبلت، وتحققت الشروط وانتفت الموانع لزم النكاح ولو قال: إني هازل، وهكذا لو قال: هي طالق، أو أنت مطلقة، وقع ولو قال: إنه هازل، وهكذا الرجعة والعتق، وهذا قول الجمهور من أهل العلم. قال ابن القيم:(وهو المحفوظ عن الصحابة والتابعين)

(1)

، وذلك لأن الهازل قاصد للفظ، مريد له، عالم بمعناه وما يترتب عليه، غير مريد لحكمه ولا ملتزم له، وترتيب الأحكام على الأسباب إنما هو للشارع لا للعاقد، فإذا تكلم المكلف بالسبب لزمه حكمه وترتب عليه أثره شاء أم أبي؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، ثم إن مؤاخذة الهازل بما يقول: في غاية المناسبة لردعه عن الهزل في أحكام الشرع، ولئلا يدعي من يطلق أنه هازل غير جاد

(2)

.

قال ابن المنذر: (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء)

(3)

. وقال الخطابي: (اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه يؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبًا أو هازلًا، أو لم أنو به طلاقًا، أو ما شابه ذلك من الأمور، واحتج بعض العلماء في ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وقال: لو أُطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام، ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول: كنت في قولي هازلًا إلا قال، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله عز وجل، وذلك غير جائز، فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه، ولم يقبل منه أن يدعي خلافه، وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له، والله تعالى أعلم)

(4)

.

والقول الثاني: أن طلاق الهازل لا يقع، وهو قول في مذهب الإِمام مالك وأحمد، ونسبه الشوكاني إلى جماعة من الأئمة، ولهم دليل وتعليل، أما

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 136).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 204)، "إعلام الموقعين"(3/ 136).

(3)

"المغني"(10/ 373).

(4)

"معالم السنن"(3/ 119).

ص: 558

الدليل فقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} [البقرة: 227] فدل على اعتبار العزم، والهازل لا عزم منه.

وأما التعليل: فلأن الهازل لم يرد الطلاق ولا نوى معناه، فكيف يترتب عليه مقتضاه؟

قالوا: وأحاديث الباب فيها ما تقدم، فهي غير كافية في مثل هذه المسائل العظيمة، فإن مثل هذا المقام يحتاج فيه إلى قواطع الأدلة، كما لا يخفى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الشرح الكبير مع الإنصاف"(22/ 216)، "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" ص (61)"نيل الأوطار"(7/ 264).

ص: 559

‌ما جاء في أن الطلاق لا يقع بحديث النفس

1085/ 11 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى تَجَاوَزَ عَنْ أُمّتي مَا حَدَّثَتْ بهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تكلَّمْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب (الطلاق في الإغلاق والكره

) (5269)، ومسلم (127) من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. وزاد البخاري:(وقال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (تجاوز) أي: عفا وصفح وسامح.

قوله: (ما حدثت به أنفسَها) بالنصب على المفعولية، ويجوز الرفع على الفاعلية.

قوله: (ما لم تعمل) أي: بذلك الخاطر.

قوله: (أو تكلَّم) أي: به، فحيئذ تؤاخذ بالكلام أو العمل.

الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من همَّ بالطلاق أو عزم عليه ولم يتكلم ولم يعمل، أنه لا يقع له طلاق، وذلك لأن الخواطر النفسية والهواجس ليست من عمل الإنسان وإرادته، وإنما هي أمور تخطر على القلب بدون قصد، ومن رحمة الله تعالى وإحسانه أن العبد إذا لم يتكلم ولم يعمل

ص: 560

فما يقع في نفسه معفو عنه؛ كأن يقع في نفسه أنه يطلق، أو يقع في نفسه أنه يعتق، فلا شيء عليه في ذلك، وهذا قول الجمهور.

قال الترمذي بعد حديث الباب: (والعمل على هذا عند أهل العلم، أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيء حتى يتكلم به (

(1)

.

وذهب ابن سيرين والزهري ومالك في رواية عنه إلى أنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق، وقواه ابن العربي

(2)

، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، وبأن من كفر في نفسه فقد كَفَر، وبأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأنه ينفعه إيمانه وتقواه وخشيته لله ونحو ذلك.

والصواب الأول؛ لأن الطلاق ليس من أعمال القلب، وإنما هو من أعمال اللسان، إذ لا بد من النطق به، أو ما يقوم مقامه من كتابة أو إشارة، وحديث "إنما الأعمال بالنيات"، حجة عليهم لا لهم؛ لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها، وهنا لم يوجد العمل بنص الحديث، وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان؛ لأن الكفر من أعمال القلوب، يحل محل الإيمان عند فقده، وأما مؤاخذة المصر على المعصية فهذا إنما هوفيمن عمل المعصية ثم أصر عليها، وهذا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، أما من عزم على المعصية ولم يعملها فهو بين أمرين إما ألا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل

(3)

، لقوله صلى الله عليه وسلم:" .. وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة"

(4)

، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة"

(5)

.

(1)

"جامع الترمذي"(2/ 476).

(2)

"عارضة الأحوذي"(5/ 156)، "فتح الباري"(9/ 394).

(3)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 203 - 204).

(4)

أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (129).

ص: 561

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته ولو لم يتكلم؛ لأنه عزم بقلبه، وعمل بكتابته، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي في المنصوص عنه، إلا أن مالكًا وأحمد شرطا الإشهاد على الطلاق المكتوب.

ووجه ذلك أن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق وتدل على المقصود، فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها ما نواه وقع كاللفظ، ولأن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب ونطقه

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(10/ 503)، "الطرق الحكمية" ص (217)، "فتح الباري"(9/ 394).

ص: 562

‌بيان من لا يقع طلاقه

1086/ 12 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى وَضَعَ عَنْ أمتِي الْخَطَأ، وَالنسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكمُ، وَقَال أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَثْبُتُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب "الطلاق"، باب (طلاق المكره والناسي)(2045)، والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 145)، والبيهقي (7/ 356 - 357) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.

وهذا إسناد ضعيف، علته الانقطاع بين عطاء وابن عباس، قال البوصيري في "الزوائد":(إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع، بدليل زيادة عبيد بن عمير في الطريق الثاني، وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم، فإنه كان يدلس).

وقال البيهقي: (رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير).

والطريق الثاني التي فيها عبيد بن عمير هي التي أخرجها الحاكم (2/ 198) كما ذكر الحافظ، وكذا ابن حبان (16/ 202)، والدارقطني (4/ 170 - 171)، وابن حزم في "الإحكام"(5/ 149)، والبيهقي (7/ 356) من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا: حدثنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.

ص: 563

قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين)، وهذا فيه نظر، فإن بشر بن بكر من رجال البخاري، وليس من رجال مسلم

(1)

. وقال البيهقي: (جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات)، ولما أخرج العقيلي الطريق الأولى قال:(ويروى من غير هذا الوجه بإسناد جيد) ولعله يشير بذلك إلى الطريق الثانية.

والحديث حسنه النووي في "الأربعين"، وأقره الحافظ في "التلخيص"

(2)

.

وصححه الشيخ أحمد شاكر، والألباني

(3)

.

وجزم الإمام أحمد بضعفه، فقال ابنه عبد الله: (سألت أبي عنه فأنكره جدًّا، وقال: ليس يروى هذا إلا عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم "

(4)

. وكذا جزم بضعفه أبو حاتم، كما ذكر الحافظ، فقال ابنه:(قال أبي: لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء، إنما سمع من رجل لم يسمه، أتوهم أنه عبد الله بن عامر، أو إسماعيل بن مسلم، ولا يصح هذا الحديث، ولا يثبت إسناده)

(5)

.

والحديث له طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد -أيضًا- عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، منهم أبو ذر، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وثوبان، وفي أسانيدها مقال

(6)

.

وهو من حيث المعنى له شواهد تؤيده، ومنها ما في "صحيح مسلم" عن سعيد بن جبير أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزل قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله تعالى: (قد فعلت)

(7)

. وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنها لما نزلت قال:(نعم)

(8)

. وليس واحد منها مصرحًا برفعه، لكن لا يضر، فإنه لا يقال من قبل الرأي، فيكون

(1)

انظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 388)

(2)

(1/ 301).

(3)

"الإحكام" لا بن حزم (5/ 149)، "الإرواء"(1/ 123).

(4)

"العلل"(1/ 561).

(5)

"العلل"(1/ 431).

(6)

انظر: "نصب الراية"(2/ 64 - 66)، "جامع العلوم والحكم" حديث (39).

(7)

أخرجه مسلم (126).

(8)

أخرجه مسلم (125).

ص: 564

في حكم المرفوع

(1)

. وقال تعالى: {وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، فإذا أذن الله بالكفر وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به كان غيره من فروع الشريعة من باب أولى.

واعلم أن الحديث قد اشتهر على الألسنة ولدى الفقهاء في كتبهم بلفظ (رُفع) وهذا لم يرد في دواوين السنة، وإنما جاء في "الكامل" لابن عدي بسند ضعيف (رفع الله عن هذه الأمة)

(2)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن الله تعالى وضع) أي: أسقط، وفي رواية ابن حبان وغيره:(إن الله تجاوز) وهذه تفسر المعنى وتبين المراد، ومعنى (تجاوز) عفا وصفح وسامح.

قوله: (الخطأ) هذا على حذف مضاف يستدعيه السياق؛ أي: إثم الخطأ، بدليل رواية ابن حبان.

والخطأ: يطلق على ضد الصواب؛ كقوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] وعلى ما هو ضد العمد؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ} [النساء: 92] وهذا المعنى هو المراد بهذا الحديث.

والخطأ: ما يصدر من المكلف من قول أو فعل من غير قصد.

قوله: (والنسيان) هو ضد الذكر والحفظ، واصطلاحًا: معنى يعتري الإنسان بدون اختياره فيوجب الغفلة عن الحفظ، أو هو باختصار: الذهول عن شيء معلوم.

قوله: (وما استكرهوا عليه) أي: وما قُهروا عليه؛ أي: على فعله أو

(1)

"جامع العلوم والحكم" ص (39)، "الإرواء"(1/ 124).

(2)

"التأصيل" لبكر أبو زيد ص (148).

ص: 565

قوله. والإكراه: حمل الإنسان على أمر لا يريده بتخويف يستطيع المكرِه تنفيذه، ويصير المكرَه خائفًا به.

°الوجه الثالث: يستدل الأصوليون بهذا الحديث على أن الخطأ والنسيان والإكراه من موانع التكليف، وهذا في حق الله تعالى؛ لأنه مبني على العفو والمسامحة، فمتى فعل المكلف محرمًا جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا، فلا شيء عليه، ومتى ترك الواجب جاهلًا فلا قضاء عليه إذا كان قد فات وقته، وإنما يقضي ما كان في وقته، وكذا لو ترك واجبًا ناسيًا فلا شيء عليه حال نسيانه، وعليه القضاء إذا ذكره، وكذا المكره.

أما ما يتعلق بحقوق المخلوقين فلا يعتبر فيها الخطأ والنسيان والإكراه موجبًا للعفو، وعدم المؤاخذة؛ لأن حقوق العباد مبناها على المشاحة والمقاضاة، فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه

(1)

. ومن ذلك لو أكره على قتل إنسان بغير حق لم يجز له الإقدام على قتله مهما كانت العواقب والوسائل.

قال القرطبي: (أجمع أهل العلم على أن من أُكره على قتل غيره لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة)

(2)

.

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الخطأ في الطلاق معفو عنه، فلو أراد أن يقول لزوجته: أنت طاهر، فسبق لسانه فقال: أنت طالق، لم تطلق؛ لأن الطلاق يعتبر لوقوعه إرادة لفظه ومعناه، وهذا إذا وجد قرينة تدل على صدق دعواه؛ كأن تقول: أعطني المصحف لكي أقرأ، فقال: أنت طالق، فهنا دلت القرينة على أنه أراد: أنت طاهر.

فإن كانت القرينة على عكس ما يدعي، بأن قالت له: طلقني، فقال:

(1)

"رفع الحرج" ص (22)، "الأصول من علم الأصول" ص (22).

(2)

"تفسير القرطبي"(10/ 183).

ص: 566

أنت طالق، ثم قال: أردت: أنت طاهر، لم يقبل منه حكمًا، ويقع الطلاق؛ لأن القرينة تدل على عكس ما يدعيه.

فإن لم يكن هناك قرينة تؤيد ما ادعى ولا ظاهر اللفظ، فالأصل أن هذا اللفظ الذي صدر منه يراد به المعنى، فيحمل على ما يبدو من ظاهر الكلام.

وهذا رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والمذهب أنه لا يقبل منه حكمًا

(1)

؛ لأنه خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه أعلم بنيته.

° الوجه الخامس: استدل بالحديث جمهور العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة على أن طلاق المكره لا يقع، وهو مروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم، واختاره ابن حزم

(2)

.

قالوا: لأن المكره لم يكن قاصدًا وقوع الطلاق، إنما قصد دفع الأذى والضرر عن نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات".

كما استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"

(3)

.

والإغلاق هو الإكراه -كما قال ابن الأثير وغيره- لأن المستكره مغلق عليه أمره ومضيق عليه في تصرفه، كما يُغْلَقُ الباب على الإنسان

(4)

.

وشرط الجمهور للإكراه ثلاثة شروط:

(1)

أي: عند المحاكمة لدى القاضي لو رفعته إليه، فإن الحاكم يحكم بما ظهر له من اللفظ الذي نطق به، لا بما قال: إنه نواه، فإن لم ترافعه إلى القاضي فإن العبرة بما نوى، فَيُدَيَّنُ في ذلك ويرجع إلى دينه وأمانته؛ لأن هذا أمر لا يطلع عليه إلا الله تعالى. ["الفتاوى السعدية" ص (513)].

(2)

"المحلى"(8/ 332)، "المغني، (10/ 350)، "حاشية الدسوقي" (2/ 134 - 367 - 370).

(3)

رواه أبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، وأحمد (43/ 378)، وحسنه الألباني بمجموع طرقه."الإرواء"(7/ 113).

(4)

"النهاية"(3/ 379)، "الفائق"(3/ 72)، "أساس البلاغة" ص (327).

ص: 567

1 -

أن يكون المكرِه قادرًا على إيقاع ما هَدَد به.

2 -

أن يغلب على ظن المكرَه إيقاع ما هُدِدَ به.

3 -

أن يكون الإكراه مما يتضرر به في نفسه؛ كالقتل والضرب الشديد، أو في ولده بتعذيبه، أو في ماله بأخذه.

القول الثاني: أن طلاق المكره يقع، وهذا قول الحنفية

(1)

، وحجتهم أن المكره عندما ينطق بلفظ الطلاق ينطق به وهو مختار له وقاصد إياه، كل ما في الأمر أنه غير راضٍ عن هذا التصرف وما يترتب عليه من آثار شرعية.

والراجح هو قول الجمهور، وهو أنه لا يقع طلاق المكره، لقوة دليله، قال ابن القيم:(من تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه؛ كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ)

(2)

.

وأما قول الحنفية: إن اختياره حاصل، فهذا فيه نظر؛ لأنه اختيار فاسد أو ضعيف، ولم يوجد منه الاختيار التام الصحيح الذي تبنى عليه الأحكام.

واستثنى الفقهاء الإكراه بحق، فهذا يقع طلاقه، وهو المولي إذا مضى عليه أربعة أشهر وأبى أن يفيء فأجبره الحاكم على الطلاق، فيقع طلاقه؛ لأنه إكراه بحق. والله تعالى أعلم.

(1)

"المبسوط"(24/ 57، 63).

(2)

"إعلام الموقعين"(3/ 107).

ص: 568

‌حكم تحريم الزوجة

1087/ 13 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: إِذَا حَرّمَ امْرَأتهُ لَيسَ بشَيءٍ. وَقَال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلمسْلِمٍ: إِذَا حَرّمَ الرَّجُلُ امْرَأتهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (5266)، ومسلم (1473) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن يعلي بن حكيم، عن سعيد بن جبير، أنه أخبره، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول:

فذكره باللفظ الأول للبخاري، وباللفظ الثاني لمسلم، وتمامه:(وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}).

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الرجل إذا حرم زوجته، بأن قال: أنتِ عليَّ حرام، أو محرمة ونحو ذلك، فإنه لا يكون طلاقًا، وإنما فيه كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وهو قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، وروي عن أبي بكر وعمر، وقال به عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن المسيب وآخرون

(1)

.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 74)، "المغني"(10/ 396)، "إعلام الموقعين"(1/ 216)(3/ 81)، "الإنصاف"(8/ 486 - 487).

ص: 569

وحجة هؤلاء: ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فذكر تحلة الأيمان -ومعناها: تحليلها بالكفارة- عقب تحريم الحلال، و (ما) في الآية من صيغ العموم.

ويدل على ذلك رواية مسلم التي ذكر الحافظ؛ لأنها مفسرة لرواية البخاري، ولعل هذا غرض الحافظ من ذكرها.

ويكون معنى قوله: (ليس بشيء) أي: لا يكون تحريمًا وليس بطلاق، لا أنه لا حكم له أصلًا، كما قال ذلك جماعة من السلف، وهو قول الظاهرية

(1)

؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على أن التلفظ بذلك يمين يكفرها المتكلم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] يشير بذلك إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2].

وقد وقع الخلاف في هذه الآية، هل المراد بها تحريم العسل الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم عند زوجته زينب رضي الله عنها، فإن في آخره:(ولن أعود له، وقد حلفت)، أو تحريم الجارية؟ فعلى القول بأن المراد: تحريم الجارية -وهو الراجح

(2)

- يتم الاستدلال بالآية، وقد روى النسائي والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة رضي الله عنهما حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} إلى آخر الآية

(3)

.

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(6/ 402)، "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 74)، "الاستذكار"(17/ 45)، "المحلى"(10/ 124).

(2)

انظر: "المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 1027 - 1038).

(3)

"سنن النسائي"(7/ 71)، "المستدرك" (2/ 493) قال الحاكم:(صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وقد صححه الحافظ في "فتح الباري" (9/ 371) وقال:(هذا أصح طرق هذا السبب)، وللحديث طرق أخرى عن ابن عمر وعائشة وغيرهما، وبعض هذه الطرق أسانيدها صحيحة، ولما ذكرها الحافظ في "فتح الباري" (8/ 657) قال:(وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا).

ص: 570

وهذا على القول بأنه لا فرق بين تحريم الأمة وتحريم الزوجة، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه استدل بآية التحريم، أما على القول بالفرق وأن تحريم الأمة لا يحرمها ولا يكون طلاقًا، وفيه كفارة يمين، كما تدل عليه الآية الكريمة، وتحريم الزوجة فيه كفارة الظهار المنصوص عليها في آية سورة المجادلة، فتكون آية التحريم دلت على حكم تحريم الأمة، وآية المجادلة دلت على حكم تحريم الزوجة، وعلى هذا فلا دليل في الآية؛ لأنها في الأمة.

القول الثاني: أن تحريم الرجل امرأته لغو باطل لا يترتب عليه شيء -كما تقدم-، قال ابن القيم:(وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وجماعة من السلف) ثم ذكرهم

(1)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، واختار هذا الصنعاني

(2)

.

القول الثالث: أن لفظ: أنتِ علي حرام، ونحوها، يرجع فيه إلى نية المتكلم من طلاق أو ظهار أو يمين، فإن لم ينو شيئًا فهو يمين، وهذا قول لأبي حنيفة، ورواية عن أحمد

(3)

. واستدلوا بأن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة، بل هو محتمل للطلاق والظهار واليمين، فإذا صرفه إلى أحدها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له، وصَرَفَهُ إليه بنية، فَيُصرف إلى ما أراده ولا يُتجاوز به ولا يُقصر عنه.

والقول الرابع: أنه ظهار فيه كفارة الظهار، ولو نوى طلاقًا أو يمينًا، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو قول إسحاق، وجماعة من التابعين، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشنقيطي

(4)

.

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 78).

(2)

"سبل السلام"(6/ 222).

(3)

"الهداية"(2/ 18)، "المغني"(11/ 61)، "الشرح الممتع"(15/ 153).

(4)

"الشرح الكبير"(22/ 267)، "المحرر"(2/ 55)، "مجموع الفتاوى"(22/ 295)(33/ 74)، "زاد المعاد"(5/ 313)، "فتاوى ابن إبراهيم"(11/ 78)، "أضواء البيان"(6/ 576).

ص: 571

واستدلوا بأن اللفظ موضوع للتحريم، والعبد ليس له التحريم والتحليل، وإنما إليه إنشاء الأسباب التي يرتب عليها ذلك، فإذا حرم ما أحل الله له، فقد أتى القول المنكر والزور، فيكون كقوله: أنتِ علي كظهر أمي، بل هذا أولى أن يكون ظهارًا؛ لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه دل على التحريم باللزوم، فإذا صرح بتحريمها فقد صرح بموجب التشبيه في لفظ الظهار، فهو أولى أن يكون ظهارًا

(1)

.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه تلميذه ابن القيم أن هذا اللفظ يكون ظهارًا ولو نوى به الطلاق، وذلك إذا قال: أنت علي حرام أو محرمة؛ لأنه إذا أوقعه هكذا يكون قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، إلا إذا حلف به، بأن علقه على شيء؛ كأن يقول: هي حرام عليه إن كلَّم فلانًا، أو دخل دار فلان، فهذا حكمه حكم اليمين؛ لأنه أراد منع نفسه، ولأنه يصير بهذه الصفة يمينًا من الأيمان، كما لو قال: إن كلمتُ فلانًا فلله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم، ونحو ذلك، وهذا اختيار الشيخ محمد بن إبراهيم

(2)

، والشيخ عبد العزيز بن باز.

قال الشنقيطي: (وقد دلت آية الظهار على أن أقيس الأقوال وأقربها لظاهر القرآن قول من قال: إن تحريم الزوجة ظهار تلزم فيه كفارة الظهار، وليس بطلاق؛ لأن قوله: أنت علي كظهر أمي معناه: أنت علي حرام

، وأقرب الأقوال بعد هذا لظاهر القرآن القول بكفارة اليمين والاستغفار)

(3)

.

وفي المسألة أقوال أخرى، ذكر ابن القيم منها خمسة عشر قولًا

(4)

. وأبلغها القرطبي المفسر إلى ثمانية عشر قولًا

(5)

. قال الحافظ: وزاد غيره عليها

(6)

.

قال القرطبي: (سبب الاختلاف في هذا الباب: أنه ليس في كتاب الله

(1)

"زاد المعاد"(5/ 300).

(2)

"الفتاوى"(11/ 78).

(3)

"أضواء البيان"(6/ 576).

(4)

"إعلام الموقعين"(3/ 78).

(5)

"الجامع لأحكام القرآن"(18/ 180).

(6)

"فتح الباري"(9/ 372).

ص: 572

ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يُعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك

)

(1)

.

والأظهر -والله أعلم- هو القول الأول، وهو أن من قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، أنه تلزمه كفارة يمين، إلا إن قصد بهذا اللفظ إيقاع الطلاق، فإنه يقع، لأن هذا اللفظ من كنايات الطلاق، والطلاق يقع بالكناية مع النية، والله تعالى أعلم

(2)

.

(1)

"الجامع لأحكام القرآن"(18/ 183).

(2)

راجع: رسالة "حكم تحريم المسلم الحلال على نفسه" للدكتور: خالد بن علي المشيقح.

ص: 573

‌من كنايات الطلاق

1088/ 14 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا قَالتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَال:"لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأهْلِكِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب (من طَلَّقَ، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟)(5254) من طريق الأوزاعي، قال: سألت الزهري أيُّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استعاذت منه؟ قال: أخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون

الحديث.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الرجل إذا قال لأهله: الحقي بأهلك، فإنه يكون طلاقًا؛ لأنه لم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم زاد على هذه الجملة، فتكون من كنايات الطلاق؛ لأنها تحتمل الطلاق وغيره، ولا بد فيها من النية.

أما إذا قال الرجل لزوجته: الحقي بأهلك ولم يرد الطلاق، فإنه لا يكون طلاقًا، لما ثبت في "الصحيحين" من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتزل أهله، قال: الحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر

(1)

.

والاستدلال بالحديث على ذلك إنما يتم إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد

(1)

"صحيح البخاري"(4418)، "صحيح مسلم"(2769)، وانظر:"زاد المعاد"(3/ 583).

ص: 574

على ابنة الجون وتزوجها، وحديث عائشة هذا كالصريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان عقد عليها، فإنها قالت:(لما أُدخلت عليه) فهذا دخول الزوج بأهله، ويؤكده قولها:(ودنا منها).

وقالت الظاهرية: إن هذا اللفظ ليس من ألفاظ الطلاق، فلا يقع به طلاق، نواه أو لم ينوه، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد عقد على ابنة الجون، بدليل ما تقدم في باب (الصداق) من حديث أبي أُسيد الساعدي، وفيه: (فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هبي لي نفسك"، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة

الحديث) فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن تزوجها بعد، وإنما جاء ليخطبها. وفي حديث سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم كلمها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال:"قد أعذتك مني"، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا، فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك

وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد عقد عليها.

والذي يظهر من قصة الجونية أنها قصة واحدة دارت على عائشة وأبي أُسيد وسهل بن سعد رضي الله عنهم وألفاظهم فيها متقاربة، ويبقى التعارض بين قول عائشة:(فلما دخل عليها ودنا منها) وبين ما في حديث سهل بن سعد: (جاء ليخطبك) فإما أن يكون أحد اللفظين وهمًا، أو أن الدخول لا يراد به دخول الرجل على امرأته بل الدخول العام، وهذا محتمل

(1)

.

وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها

(2)

.

والمقصود أن لفظ: "الحقي بأهلك" ليس من صريح الطلاق، وإنما هو من كناياته التي لا بد فيها من النية؛ لأن الطلاق ليس له لفظ مخصوص، فإن الله تعالى ذكر الطلاق ولم يعين له لفظًا، فعلم أنه ردَّ الناس إلى ما يتعارفونه طلاقًا، فكل لفظ أفاد معنى الطلاق في عرف الناس وقع به الطلاق مع النية، كما هو في المعاملات وغيرها

(3)

.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 320).

(2)

"الاستيعاب"(12/ 104).

(3)

"زاد المعاد"(5/ 320).

ص: 575

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وجوده وكرمه، فإن هذه المرأة لما استعاذت منه صلى الله عليه وسلم وقالت: أعوذ بالله منك، تفضل عليها وتركها دون أن يشتد في طلبها أو يسيء إليها، وفيه -أيضًا- شدة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ حيث نفَّد رغبتها، وعلل ذلك بقوله:"لقد عذت بعظيم".

ومن الناس من إذا ساءت العشرة بينه وبين زوجته وأظهرت عدم رغبتها فيه اشتد عليه الأمر وابتغى لها كل شر، فآذاها وآذى أهلها، ولم يقبل صلحًا ولا فداء انتقامًا لبغضها وكراهتها له، وهذا مما لا يليق بالمسلم، فإن الواجب عليه أن يكون سمحًا كريمًا، وإذا لم يُقَدَّرْ بينه وبين زوجته محبة ووئام فالطلاق مشروع، والخلع مباح، وليس له أن يحبسها ويضيق عليها على وجه يتضرر هو به كما تتضرر هي، وعلى القاضي أن يكون له موقف جاد في مثل هذه الأمور، ومتى اتضح له إمكان إصلاح الحال بينهما أصلح بينهما، إما بأن يتكرم الزوج بالطلاق، أو يقبل الفداء، أما تعطيل المرأة فليس فيه مصلحة للزوج ولا لها، إلا إذا كان يرجى استقامة الحال بينهما؛ كأن يتضح للقاضي أن المرأة قد خُدعت وأنها ستفيق وترجع إلى صوابها، فلا بأس بالانتظار مدة يسيرة يُظن فيها استقامة الأمر وصلاح الحال، ولا حاجة إلى العجلة، لكن تركها المدة الطويلة من أجل إرضاء الزوج والنزول عند رغبته وإقراره على عناده وتشدده، فهذا ليس بلائق؛ لأن مثل هذه التصرفات مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها تتجلي حكمة القضاء وقوته. والله تعالى أعلم.

ص: 576

‌ما جاء في أنه لا طلاق إلَّا بعد نكاح

1089/ 15 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا طَلَاقَ إلا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إلا بَعْدَ مِلْك"، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ.

1090/ 16 - وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَن، لكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيضًا.

1091/ 17 - وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ لابْنِ آدَمَ فِيما لا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فيما لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أنهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ.

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه الحاكم (2/ 204) من طريق أبي بكر الحنفي، ثنا ابن أبي ذئب، ثنا عطاء، حدثني جابر رضي الله عنه به مرفوعًا.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي، إلا أنه قال:(وشاهده أشهر منه) يريد حديث عمرو بن شعيب الآتي.

وهذا الحديث أُعل بالانقطاع بين ابن أبي ذئب وعطاء، فقد رواه الطيالسي (3/ 261) - ومن طريقه البيهقي (7/ 319) - عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني من سمع عطاء، عن جابر رضي الله عنه به.

ص: 577

وهذا سند ضعيف، لجهالة الراوي عن عطاء.

وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، وعن أبيه أنهما قالا:(إن جميع أسانيد هذا الحديث وَهْم عندنا، والصحيح ما روى الثوري، عن ابن المنكدر، عن من سمع طاوسًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

وهذا المرسل رواه عبد الرزاق (6/ 417 - 418)، وابن أبي شيبة (5/ 16).

وقد عزا الحافظ حديث جابر رضي الله عنه إلى أبي يعلى هنا، وكذا في "فتح الباري"

(2)

، كما عزاه إليه ابن عبد الهادي في "المحرر"

(3)

، ولم أجده في مسنده، ولا عزاه إليه من اشتغلوا بالتخريج، ثم رأيت الحديث في "المطالب العالية"

(4)

لابن حجر، ولم يعزه لمسند أبي يعلى.

وأما حديث المسور بن مخرمة فقد رواه ابن ماجه (2048) من طريق علي بن الحسين بن واقد، ثنا هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل مِلْك".

والحديث حسنه البوصيري؛ لأن علي بن الحسين وشيخه هشام بن سعد مختلف فيهما

(5)

.

لكنه معلول -أيضًا

(6)

- فقد اختلف فيه على الزهري، فرواه علي بن الحسين كما تقدم، ورواه حماد بن خالد، عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنهما قالت:(لا طلاق إلا بعد نكاح). أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 16) والطحاوي في "شرح المشكل"(2/ 132)، والبيهقي (7/ 321) وقال الدارقطني في "العلل" (15/ 35):(والصحيح عن هشام بن سعد ما قاله حماد بن خالد، والله أعلم) يريد الموقوف، وقال البيهقي:(كذا أتى به موقوفًا).

(1)

"العلل"(1220)(1222)، (1312)، وانظر:"العلل" للدارقطني (3/ 74 - 75).

(2)

(9/ 385).

(3)

(2/ 675).

(4)

(8/ 444).

(5)

"الزوائد"(2/ 132).

(6)

"التلخيص"(3/ 238).

ص: 578

وروي عن بشر بن السري، عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، رواه البيهقي (7/ 321)

(1)

.

وأما حديث عمرو بن شعيب فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب (الطلاق قبل النكاح)(2190)(2191)(2192)، والترمذي (1181) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا. وهذا لفظ الترمذي، قال الترمذي:(حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب).

وقال -أيضًا-: (سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقلت: أيُّ حديث في هذا الباب أصح في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحديث هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة)

(2)

.

ونقل الحافظ في "التلخيص" عن البيهقي أنه قال في "الخلافيات" قال البخاري: (أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب وحديث عائشة)

(3)

.

والحديث رواه ابن ماجه (2047) بلفظ: (لا طلاق فيما لا يملك) ولعل الحافظ لم يعزه إليه لكونه روى الحديث مختصرًا مقتصرًا على ما يتعلق بالطلاق.

قال الشوكاني: (ولا يخفى عليك أن مثل هذه الروايات التي سقناها في الباب من طريق أولئك الجماعة من الصحابة مما لا يشك منصف أنها صالحة بمجموعها للاحتجاج

)

(4)

.

وقد بوَّب البخاري في "صحيحه"(لا طلاق قبل نكاح) ولم يورد حديثًا تحت هذه الترجمة، وإنما علَّق عن علي وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم

(5)

.

° الوجه الثاني: في هذه الأحاديث دليل على أنه لا طلاق إلا بعد

(1)

انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1271)، "العلل" للدارقطني (15/ 35).

(2)

"العلل"(1/ 465).

(3)

"التلخيص"(3/ 238).

(4)

"نيل الأوطار"(6/ 271).

(5)

"فتح الباري"(9/ 381).

ص: 579

الملك بعقد النكاح على الزوجة، وأن الزوج إذا طلق المرأة قبل النكاح فلا طلاق له.

وظاهر الحديث العموم، وأنه لا فرق بين الطلاق المنجز والمعلق، أما المنجز فبالإجماع لا يقع فيه الطلاق، كما لو قال: فلانة طالق، فلا يقع عليها الطلاق، وهي ليست زوجة له، أو يقول: عبدُ فلان حر، وهو ليس عبدًا له. وأما الطلاق المعلق؛ كقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، فالجمهور أنه لا يقع، وقد ترجم البخاري في "صحيحه" فقال:(باب، لا طلاق قبل نكاح) ثم ذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49] ونقل عن ابن عباس أنه قال: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ثم ذكر البخاري أنه قول علي رضي الله عنه، وسرد اسم ثلاثة وعشرين من التابعين أنهم قالوا بعدم الوقوع

(1)

.

ولأن المطلِّق قبل النكاح مطلق امرأةً أجنبية؛ لأنها حين أنشأ الطلاق أجنبية منه، والمتجدد هو نكاحها، فهو كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت وهي زوجته، لم تطلق إجماعًا.

وفائدة ذلك معرفة أنه لا يقع طلاق على هذه المرأة بعد عقد النكاح عليها، وأما قبل العقد فكل أحد يعلم بعدم الوقوع قبل عقد النكاح.

والقول الثاني: أن الطلاق قبل النكاح يقع مطلقًا، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.

والقول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن خص امرأة أو أسرة معينة أو بلدًا وقع الطلاق، كما لو قال: كل امرأة أتزوجها من بني فلان، أو من بلد كذا فهي طالق، وإن عمَّ فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق لم يقع شيء، وهذا قول مالك وأصحابه.

(1)

"فتح الباري"(9/ 381).

ص: 580

قال ابن رشد: (وسبب الخلاف: هل من شروط وقوع الطلاق وجود الملك متقدمًا بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه؟ فمن قال: هو من شرطه، قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية، ومن قال: ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط، قال: يقع بالأجنبية، وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلًا إلى نكاح الحلال

، وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق)

(1)

.

والراجح هو القول الأول، ولا دليل على الشرطية المذكورة، كما أنه لا فرق بين التخصيص والتعميم؛ لأن هذا التفصيل لا دليل عليه ولا وجه له؛ لأن ظاهر الحديث العموم، فالصواب إجراؤه على ظاهره.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن من نذر شيئًا معينًا لا يملكه فليس عليه شيء؛ كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بشاة فلان أو نخلة فلان، والمقصود أنه يتصرف في ملك غيره بلا إذنه.

فإن التزم في ذمته شيئًا كعتق أو صدقة وهو في تلك الحال لا يملكه ولا قيمته، فإذا شفي مريضه صح نذره وثبت ذلك في ذمته، وسيأتي البحث في هذه المسألة في كتاب "الأيمان والنذور". إن شاء الله تعالى.

(1)

"بداية المجتهد"(3/ 159).

ص: 581

‌حكم طلاق غير المكلف

1092/ 18 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "رُفعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتى يَسْتَيقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتى يَعْقِلَ، أَوْ يُفِيقَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (41/ 224)(42/ 51)، وأبو داود في كتاب "الحدود"، بابٌ (في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا)(4398)، والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041)، والحاكم (2/ 59) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها.

قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) وسكت عنه الذهبي، والحديث رجاله كلهم ثقات، وحماد بن أبي سليمان وإن كان فيه كلام من قبل حفظه فهو يسير، وقد روى له مسلم مقرونًا بغيره، دمابراهيم هو ابن يزيد النخعي، والأسود: هو ابن يزيد النخعي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول)

(1)

.

والحديث له شواهد، فقد رواه سبعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكر الحافظ ألفاظها ومخارجها وطرقها، ثم قال: (وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض

)

(2)

.

(1)

"الفتاوى"(11/ 191).

(2)

"فتح الباري"(12/ 121).

ص: 582

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (رفع القلم) أي: إنه ليس يجري أصالة، لا أنه رفع بعد أن وضع، والمراد برفع القلم: عدم المؤاخذة على ما يقع من الصغير والنائم والمجنون من المخالفات، ورفع القلم كناية عن عدم التكليف؛ لأن التكليف يلزم منه الكتابة، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وهذا هو المشهور. وقيل: إن المراد حقيقة القلم الذي ورد فيه حديث: "أول ما خلق الله القلم"

(1)

.

وأما قلم الثواب بالنسبة للصغير فهو غير مرفوع بدليل صحة إسلامه، كما في قصة الصبي اليهودي الذي أسلم

(2)

، وبدليل ثوابه على الطاعات من الصلاة وغيرها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع

"، وقوله: "نعم ولكِ أجر" لما قالت له: ألهذا حج؟

(3)

.

قوله: (عن ثلاثة) أي: ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة أنفس، ليشمل الذكور والإناث كالصبي والصبية. ووقع عند النسائي وإحدى روايتي أحمد:"عن ثلاث" بدون تاء.

قوله: (عن النائم حتى يستيقظ) الظاهر أن المغيا محذوف، وبه ينتظم الكلام، وتقديره: رفع القلم عن النائم فلا يزال مرتفعًا حتى يستيقظ، ورفع القلم عن الصغير فلا يزال مرتفعًا حتى يكبر

وهكذا؛ لأن ما بعد حتى غايات مستقبلة، وما قبلها فعل ماض، والفعل الماضي لا يجوز أن تكون غايته مستقبلة، فلا تقول: سرت أمس حتى تطلع الشمس غدًا

(4)

.

والنائم: هو المغطى على عقله، ومثله المغمى عليه، والمجنون: ذاهب العقل، كما سيأتي.

(1)

رواه أبو داود (4700)، والترمذي (2155)(3319)، وأحمد (37/ 378) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(2)

رواه البخاري (1356).

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 83).

(4)

"إبراز الحِكَم من حديث رفع القلم" ص (45).

ص: 583

والسكران: هو المغلوب على عقله.

وقيل: النوم: أمر طبيعي يحدث للإنسان لا يتعارض مع سلامة العقل وقيامِهِ في النائم، مع تعذر استعماله حالة النوم

(1)

.

قوله: (وعن الصغير حتى يكبر) ورد عند أحمد: "وعن الصبي حتى يحتلم"، وفي أخرى:"وعن الصبي حتى يعقل"، وفي حديث علي رضي الله عنه:"وعن الغلام حتى يبلغ"، وفي رواية:"وعن الطفل حتى يحتلم"

(2)

، وهذه ألفاظ مترادفة يراد بها ما قبل البلوغ الذي يحصل بالاحتلام؛ لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا.

وقد ذكر السبكي الشافعي في شرحه لهذا الحديث أن رواية: "حتى يحتلم" هي أولى الروايات وأصحها سندًا وأكثرها بيانًا؛ لأنها نص في الاحتلام الذي هو أوضح من الغايات الأخرى؛ لقوة دلالته على البلوغ

(3)

.

ويرى السندي في "حاشيته على سنن النسائي" أن رواية: "حتى يبلغ" أوضح؛ لأن الصغير قد يبلغ بغير الاحتلام

(4)

.

وعندي أن كلام السبكي أرجح؛ لأن البلوغ بالاحتلام مجمع عليه، بخلاف غيره كالإنبات وبلوغ السن، فهو موضع خلاف.

قوله: (وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق) هذا لفظ النسائي وابن ماجه، وعند أبي داود وأحمد ولفظ آخر لابن ماجه:"وعن المبتلى حتى يبرأ"، وفي لفظ لأحمد:"وعن المعتوه حتى يعقل" وهذه الألفاظ متقاربة أو متوافقة، ولا تدل على أن المرفوع عنهم القلم أكثر من ثلاثة، والمجنون والمعتوه واحد هنا، وإن كان المعتوه أقل من المجنون؛ لأن المعتوه مصاب بضعف عقلي، والمجنون لا عقل له، لكن هنا المراد بهما واحد.

والمبتلى وإن كان من حيث الوضع أعم من المجنون، لكن المراد به هنا

(1)

"الدر النقي"(3/ 551)، "عوارض الأهلية" ص (233).

(2)

انظر: "التعريف بعلامات بلوغ التكليف" ص (12).

(3)

"إبراز الحكم" ص (65).

(4)

"حاشية السندي"(6/ 156).

ص: 584

المجنون؛ لدلالة بقية الروايات عليه، وللإجماع على أن المبتلى بغير الجنون لا يرتفع عنه قلم التكليف، وإطلاق المبتلى على المجنون إطلاق ممكن، فإنه لا بلوى أعظم من ذهاب العقل إلا ذهاب الدين، نسأل الله السلامة والعافية.

والمجنون: فاقد العقل خلقة أو لآفة، ومظهره جريان تصرفاته القولية والفعلية على غير نهج العقلاء. تقول العرب: جُنَّ الرجل -مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله- يُجَنُّ جنونًا، وأجنَّه الله -رباعيًّا- فهو مجنون، ولا تقل: مُجَنٌّ، وإن كان هو قياس اسم المفعول من الرباعي.

قوله: (حتى يعقل أو يفيق) هذا لفظ النسائي وابن ماجه، كما تقدم. وقوله:"أو يُفيق" بضم الياء، من أفاق المجنون إفاقة: رجع إليه عقله، وهذا اللفظ يفيد أن الحديث شامل للمجنون بنوعيه: المطبق: بضم الميم وكسر الباء، وهو الدائم، وغير المطبق: أي غير الدائم، وهو الجنون المتقطع؛ لأن مقتضى قوله:"حتى يفيق" تعليق رفع القلم بحصول الجنون، وزوال رفعه بالإفاقة، والإفاقة علة التكليف، والمعلول يتكرر بتكرر علته: فكلما أفاق كلف.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الصغر والنوم والجنون من أسباب فقد الأهلية، وهي صلاحية الشخص لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وعلى هذا فهؤلاء غير مكلفين بالأوامر والنواهي، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده وإحسانه إليهم، فإن هؤلاء ليسوا من أهل التصرف؛ لأن الصغير لم يكتمل العقل حتى يتصرف تصرفًا مستقيمًا، والمجنون لا عقل له، والنائم قد غُطي على عقله فهو لا يعي ما يقول:

والمراد أن هؤلاء لا يتوجه إليهم خطاب التكليف، فالصغير لا يكلف بالأمر والنهي تكليفًا مساويًا لتكليف البالغ، لكنه يؤمر بالعبادات كالصلاة بعد التمييز؛ ليعتادها وينشأ على محبتها والحرص عليها، ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها.

وكذا المجنون فإنه لا يكلف بالأمر والنهي؛ لأنه لا قصد له ولا إرادة،

ص: 585

ولكنه يمنع مما يكون فيه تَعدّ على غيره أو إفساد، شأنه في ذلك شأن البهيمة الضارية، ولو فعل المأمورَ به كالصلاة لم يصح الفعل؛ لعدم قصد الامتثال منه.

وكذا النائم فهو معدوم الأهلية، والمراد أهلية الأداء، لا أهلية الوجوب؛ لأن أهلية الأداء مبناها على التمييز، وهو معدوم بالنوم، ولهذا لا يعتد بأقوال النائم التي يعتبر فيها الاختيار؛ كالبيع والشراء والطلاق والعتاق وغير ذلك.

وأما أهلية الوجوب فهي ثابتة في حقه، والوجوب قائم في ذمته، إلا أن النوم أدى إلى تأخير الأداء في حق النائم إلى أن يستيقظ، فإن استيقظ قبل فوات وقت الأداء كان فعله للواجب أداء، وإلا فهو قضاء، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها"

(1)

.

وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على النائم الذي ليس عنده من يوقظه ولا يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به، أما شخص عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به كالساعة وغيرها، ولم يفعل فهذا ليس بمعذور

(2)

.

ويمكن أن يستدل لذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم لما قفلوا من غزوة خيبر سار ليله حتى إذا أدركه الكَرَى عرَّس، وقال لبلال:"اكلأ لنا الليل"

(3)

، وفي حديث أبي قتادة" احفظوا لنا صلاتنا"

(4)

.

° الوجه الرابع: ذكر المصنف هذا الحديث في كتاب "الطلاق" للاستدلال على أن طلاق الصغير والمجنون والنائم لا يقع، أما الصبي فإن كان لا يعقل فلا طلاق له إجماعًا، وإن كان يعقل وهو المميز لم يقع طلاقه على الراجح من قولي أهل العلم، لقرب عهده باللهو واللعب وبُعده عن

(1)

رواه البخاري (597)، ومسلم (684)

(2)

"فتاوى ابن عثيمين"(12/ 23).

(3)

أخرجه مسلم (680).

(4)

أخرجه مسلم (681)، وتقدم الكلام عليه في باب "الأذان" برقم (186).

ص: 586

صواب الرأي في الأمور الخطيرة التي لا يكون صواب الرأي فيها إلا بكمال العقل، وهذه المسألة ليست بذات أهمية؛ لأن الناس عادة لا يزوجون الصغار.

وكذا المجنون لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يعتد بعبارته، وقد صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قال:(ليس لمجنون ولا لسكران طلاق)

(1)

.

وكذا النائم لا يقع طلاقه، كما تقدم.

° الوجه الخامس: اختلف العلماء في وقوع طلاق السكران، وهذا الخلاف إنما هو فيمن زال عقله بسبب غير مباح، وهو السكر الحاصل بطريق محذور؛ كشرب المسكر باختياره وإرادته، ففي المسألة قولان:

الأول: أن طلاقه يقع، وهذا قول الجمهور من الشافعية والحنفية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد هي المذهب

(2)

، وحجتهم أن السكران تناول المسكر بمحض إرادته واختياره، وهو مدرك أن هذا يؤدي إلى زوال العقل، وقد ترتب على هذا الزوال بعض التصرفات، ومنها الطلاق، لذا يقتضي أن يجعل عقله كأنه موجود، ليثبت صحة تصرفه، زجرًا له وعقابًا على معصيته للباري عز وجل.

القول الثاني: أن طلاق السكران لا يقع، وهذا مروي عن عثمان رضي الله عنه، وهو قول عطاء وطاوس وعمر بن عبد العزيز

(3)

، وهو قول بعض الحنفية، واختاره المزني وغيره من الشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصره ابن القيم

(4)

، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 30)، والبيهقي (7/ 359)، من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال الألباني في "الإرواء" (7/ 112): (هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين"، وعلقه البخاري "9/ 388 فتح".

(2)

"المغني"(10/ 346)، "المهذب"(2/ 99).

(3)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(83/ 6 - 84)، "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 39)، "المحلى"(10/ 210)، "فتح الباري"(9/ 391).

(4)

"المهذب"(2/ 99)، "الفتاوى"(33/ 102)، "زاد المعاد"(5/ 210).

(5)

"الفتاوى"(11/ 11 - 12).

ص: 587

قالوا: لأن السكران في غفلة، وغفلته فوق غفلة النائم؛ لأن النائم يمكن أن ينتبه إذا نبه، والسكران لا ينتبه، وبما أن طلاق النائم لا يقع، فكذا طلاق السكران لا يقع بل هو أولى.

وهذا القول هو الأظهر -إن شاء الله- لزوال التكليف، ولأن الله تعالى نهى عن قربان الصلاة حال السكر، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء: 43]{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] والسكران لا يعلم ما يقول، ومن كان كذلك كيف يكون مكلفًا وهو غير فاهم ما يقول؟!

أما قولهم: يقع عقوبة، فهذا فيه نظر من وجهين:

1 -

أن عقوبة السكران مقدرة في الشرع وهي الجلد، فلا يعاقب بغيره ما لم يرد به الشرع.

2 -

أن العقوبة ينبغي ألا تتجاوز من ارتكب الجرم، والعقوبة هنا تتجاوزه إلى زوجته وأولاده.

أما من زال عقله بمباح كمن أعطي بنجًا لعملية جراحية أو شرب مسكرًا مكرهًا، أو نحو ذلك مما لا يدخل تحت الرضا والاختيار، فإنه لا يقع طلاقه إجماعًا

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المبدع"(7/ 251).

ص: 588

‌باب الرجعة

الرجعة: بالفتح بمعنى الرجوع، وهو العود إلى ما فارقه، أما الرجعة بعد الطلاق فبالفتح والكسر، والفتح أفصح، قال ابن فارس:(والرَّجعة: مراجعة الرجل أهله، وقد تكسر)

(1)

.

وشرعًا: إعادةُ مطلقةٍ غير بائنٍ إلى عصمة النكاح بغير عقد.

وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

أما من الكتاب فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، والمراد بقوله:{أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي: بإرجاعهن إلى عصمتهم، وقوله:{فِي ذَلِكَ} أي: في زمن التربص، وهو العدة، وقوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] والمراد ببلوغ أجلهن: منتهى عدتهن، وقوله:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: أبقوهن بمراجعتهن بما يقره الشرع والعرف، والباء للمصاحبة، {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي: اتركوهن بلا مراجعة، دون أن يَسُبَّهَا أو يُقَبِّحَهَا.

ومن السنة: ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه حينما أخبره بأن عبد الله بن عمر طلق زوجته حائضًا: "مره فليراجعها".

وأما الإجماع فقد نقل غير واحد اتفاق أهل العلم على ذلك، قال ابن المنذر:(أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث والعبد دون الاثنتين أن لهما الرجعة في العدة)

(2)

.

(1)

"مجمل اللغة"(2/ 42).

(2)

"الإجماع" لابن المنذر ص (99 - 100)، "المغني"(10/ 547).

ص: 589

وأما الحكمة من مشروعيتها: فإن إباحة مراجعة الرجل زوجته من نعم الله تعالى على عباده، وذلك محافظة على كيان الأسرة من التمزق، ورحمة بالزوج، فقد يشعر بفراغ ووحشة لفراق زوجته، وقد يناله بسبب ذلك من القلق والحيرة ما لا صبر له عليه، ويتبين له أن ما طلق لأجله لم يكن يقتضي مفارقتها، لا سيما مع وجود الولد، والمقصود أن المصلحة المترتبة على الرجعة كما تعود على الزوج تعود إلى المرأة والأولاد.

وقد دل قوله تعالى: إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] على أن شرط الرجعة إرادة الإصلاح، وهو حسن العشرة والقيام بحقوق الزوجية، فإن أراد برجعتها تطويل العدة عليها أو تطليقها فهي مراجعة باطلة.

ص: 590

‌حكم الإشهاد على الرجعة

1093/ 1 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنهما أنهُ سُئِلَ عَنِ الرّجُلِ يُطَلِّقُ ثُم يُرَاجِعُ وَلَا يُشْهِدُ؟ فَقَال: أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

1094/ 2 - وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنهُ لَمّا طَلَّقَ امْرَأتهُ قَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: "مُرهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عمران رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب (الرجل يراجع ولا يشهد)(2186) من طريق جعفر بن سليمان الضُّبعي، عن يزيد الرِّشْك، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال:(طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد).

وبهذا يتبين أن الحافظ قد أخلَّ بلفظ هذا الحديث، فإنه ترك قوله:(طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة)، وقد صحح الحافظ هذا الحديث، وقال ابن عبد الهادي:(رواته ثقات مخرج لهم في الصحيح) وجعفر الضُّبعي وإن كان من رجال مسلم إلا أنه متكلم فيه، فقد قال فيه البخاري (يخالف في بعض حديثه) وقال الذهبي (هو صدوق في نفسه، وينفرد بأحاديث عُدَّت مما يُنكر، واختلف في الاحتجاج بها) وساق له أحاديث، ومنها حديث

ص: 591

الباب

(1)

. وقال الحافظ في "التقريب"(صدوق).

ورواه البيهقي (7/ 373) من طريق قتادة ويونس، عن الحسن وأيوب، عن ابن سيرين، أن عمران بن حصين رضي الله عنه سئل عن رجل طلق امرأته ولم يشهد، وراجع ولم يشهد، قال عمران:(طلق في غير عدة، وراجع في غير سنة، فليشهد الآن).

وإسناده منقطع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من عمران، كما قال الدارقطني

(2)

. راجعته، وليستغفر الله) وإسناده كالذي قبله.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد تقدم تخريجه في أول كتاب "الطلاق"، ولعل المؤلف أعاده هنا لدلالته على مشروعية الرجعة، وعلى أنه لا يشترط فيها الإشهاد، كما سيأتي.

° الوجه الثاني: استدل بحديث عمران رضي الله عنه من قال بوجوب الإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق، وقد دل الحديث على ما دلت عليه آية سورة الطلاق:{وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] بعد ذكر الطلاق والرجعة، والقول بوجوب الإشهاد هو قول الشافعي في القديم، وابن حزم، ونقله ابن كثير عن عطاء

(3)

.

قالوا: وظاهر الأمر في الآية وجوب الإشهاد؛ لتقدم ذكر الطلاق والرجعة، قال ابن كثير:(وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: على الرجعة إذا عزمتم عليها)، ثم ساق أثر عمران بن حصين رضي الله عنه

(4)

.

(1)

"الميزان"(1/ 409 - 410).

(2)

"تحفة التحصيل" ص (578).

(3)

"المحلى"(9/ 251)، "تفسير ابن كثير"(8/ 171).

(4)

"تفسير كثير"(8/ 171).

ص: 592

القول الثاني: أنه لا يجب الإشهاد في الطلاق، ويجب في الرجعة؛ لأن الطلاق ورد في غير آية وفي غير حديث غير مقيد بالإشهاد، وأما الرجعة فكما تقدم، وهذا رواية عن أحمد، وأحد قولي الشافعي

(1)

.

والقول الثالث: أن الإشهاد مستحب فيهما ولا يجب، وهو رواية عن أحمد، وظاهر كلام الشافعي

(2)

، وقول مالك

(3)

، وأبي حنيفة، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه أمره بالرجعة ولم يذكر الإشهاد، ولأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول، فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج.

وأما الآية فالأمر فيها للاستحباب والإرشاد؛ كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، قالوا: وذلك لأن الأمر بالإشهاد راجع إلى أقرب مذكور قبله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، وعلى هذا فليس الإشهاد شرطًا في صحة الطلاق؛ لعدم رجوعه إليه، ولا في صحة الرجعة؛ لأنه ليس شرطًا في صحة ما صاحبها من المفارقة بالمعروف باتفاق، فيكون الأمر في الآية للإرشاد

(4)

.

وهذا هو الأرجح، لكن إن ظهرت المصلحة في الإشهاد؛ لكثرة تدليس الناس وزيادة جرأتهم على الدعاوى الباطلة فالقول بالوجوب قوي.

وقد ذكر ابن رشد أن سبب الخلاف في مسألة الإشهاد معارضة القياس للظاهر؛ لأن قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا} يقتضي الوجوب، وتشبيه حق الرجعة بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أنه لا يجب الإشهاد، فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب

(5)

.

وقد ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية القول بأن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق، ورجح أن الأمر عائد إلى الرجعة، وأن الإشهاد عليها مأمور به باتفاق، إما أمر استحباب أو أمر إيجاب، وظاهر كلامه اختيار الوجوب

(6)

.

(1)

"المغني"(10/ 559).

(2)

"الأم"(6/ 623).

(3)

"بداية المجتهد"(3/ 163).

(4)

"الفرقة بين الزوجين" ص (106).

(5)

"البداية"(3/ 163).

(6)

"الفتاوى"(33/ 33 - 34).

ص: 593

° الوجه الثالث: استدل بهذا الأثر من قال: إن الرجعة لا تكون إلا بالقول؛ كراجعت وارتجعت وأمسكت وأعدت ونحو ذلك مما يؤدي المقصود، وحصول الرجعة بالقول محل اتفاق

(1)

.

ووجه الاستدلال: أنه ذكر الإشهاد على الرجعة، ولا إشهاد إلا على القول.

وقد وقع الخلاف في حصول الرجعة بالفعل، وهو الوطء، على قولين:

الأول: أن الرجعة لا تحصل إلا بالقول، ولا تحصل بالفعل، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد، وظاهر كلام الخرقي

(2)

، وهو قول ابن حزم

(3)

؛ لأن إعادة الزوجة بعد الطلاق إنشاء للزواج من وجه، فلا بد فيها من القول، ولأن غير القول فِعْلٌ مِنْ قادرٍ على القول، فلم تحصل به الرجعة؛ كالإشارة من الناطق.

القول الثاني: أن الرجعة تحصل بالوطء، وهو رواية عن أحمد، وقول مالك، وأبي حنيفة، ولكنهم اختلفوا في اشتراط نية الرجعة، فقيل: لا تحصل الرجعة بالفعل إلا مع النية، وهو أن يجامعها بنية المراجعة، وهو رواية عن أحمد، ومذهب مالك

(4)

؛ لأن الفعل عند مالك ينزل منزلة القول مع النية، ولعموم:"إنما الأعمال بالنيات"، ولأن هذه مدة تنتهي إلى بينونة، فترتفع بالوطء؛ كمدة الإيلاء.

وعن أحمد تحصل الرجعة بالوطء، سواء نوى به الرجعة أم لا، اختارها ابن حامد، والقاضي، وهو قول جماعة من السلف، وأصحاب الرأي

(5)

.

والظاهر أن الرجعة تحصل بالوطء مع نية المراجعة، لقوة مأخذه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: (وهو أعدل الأقوال الثلاثة في مذهب

(1)

"المغني"(10/ 560).

(2)

"الأم"(6/ 621)، "المغني"(10/ 559).

(3)

"المحلى"(10/ 251).

(4)

"المدونة الكبرى"(2/ 224).

(5)

"المغني"(10/ 559).

ص: 594

أحمد)

(1)

، وأما القول بأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول فلا يخلو من ضعف؛ لأن قوله تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] عام، فكل ما يدل على الإمساك فإنه يحصل به الإمساك.

وعلى ما تقدم فإن قلنا: إن الوطء مباح حصلت به الرجعة، كما ينقطع به التوكيل في طلاقها، وإن قلنا: هو محرم لم تحصل به الرجعة؛ لأنه فعل محرم، فلا يكون سببًا للحل؛ كوطء المحلّل، لكن لا حدَّ عليه بلا خلاف؛ لأنه وطئ زوجته التي يلحقها طلاقه

(2)

.

أما تقبيلها، أولمسها لشهوة فالمنصوص عن أحمد أنه ليس برجعة، وهو أحد القولين في المسألة، وقال الموفَّق:(إنه هو الصحيح؛ لأنه أمر لا يتعلق به إيجاب عدة ولا مهر)

(3)

، ولأن الرجعية زوجة في جميع الأحكام، يجوز أن تتزين له وينظر إليها ويخلو بها، إلا أنه لا قسم لها، وكذا الخلوة لا تحصل بها الرجعة على أحد القولين؛ لأنها ليست استمتاعًا.

° الوجه الرابع: أجمع العلماء -كما تقدم- على أن الزوج يملك رجعة زوجته إذا طلقها بالشروط الآتية:

1 -

أن يطلق دون ما يملك من العدد، بأن يطلق حر دون ثلاث، وعبد دون اثنتين، فإن اكتمل العدد فهي بينونة كبرى ليس فيها رجعة؛ لأنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.

2 -

أن يكون الطلاق بلا عوض، فإن كان بعوض فلا رجعة؛ لأن العوض قُصد به أن تفتدي المرأة نفسها من الزوج، ولا يحصل ذلك مع ثبوت الرجعة.

3 -

أن يكون الطلاق بعد الدخول؛ لأن المدخول بها لها عدة تمكن مراجعتها فيها، أما غير المدخول بها فلا تمكن رجعتها؛ لأنه لا عدة عليها،

(1)

"الفتاوى"(10/ 381).

(2)

انظر: "المغني"(10/ 554).

(3)

"المغني"(10/ 560).

ص: 595

قال الموفَّق: (أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة، ولا يستحق مطلقها رجعتها)

(1)

.

4 -

أن تكون الرجعة قبل نهاية العدة، لقوله تعالى:{أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أي: في زمن التربص، وهو العدة، فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة ولم يراجعها لم تحل له إلا بنكاح جديد، فإن طهرت ولم تغتسل فهل له رجعتها؛ قولان

(2)

. والله تعالى أعلم.

انتهى الجزء السابع، ويليه- بعون الله وتوفيقه- الجزء الثامن، وأوله:"باب الإيلاء والظهار والكفارة"

(1)

"المغني"(10/ 547).

(2)

"المغني"(10/ 556).

ص: 596