المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإيلاء والظهار والكفارة الإيلاء في اللغة: مصدر آلى يؤلي إيلاء: - منحة العلام في شرح بلوغ المرام - جـ ٨

[عبد الله بن صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

‌باب الإيلاء والظهار والكفارة

الإيلاء في اللغة: مصدر آلى يؤلي إيلاء: إذا حلف، وعليه جاء حديث أنس رضي الله عنه أنه قال:(آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا)

(1)

أي: حلف.

والأليَّة بالتشديد بوزن العطية: اليمين، وجمعها ألا يا، بوزن عطايا، قال الشاعر:

قليل الألايا حافظٌ ليمينه

وإن سبقت منه الأَليَّةُ برَّتِ

وشرعًا: حلف الزوج على ترك جماع زوجته.

والأصل في أحكامه من القرآن: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} [البقرة: 226].

وهو محرم في مدة تزيد على أربعة أشهر أو مؤبدة، لما فيه من الإضرار بالزوجة والتعدي على حقها.

فإن كان في مدة أقل من أربعة أشهر فهو جائز إذا كان للمصلحة، كتأديب الزوجة ونحوه، لما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه.

فإن هجر زوجته مدة تزيد على أربعة أشهر ولم يحلف فليس بإيلاء، لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أي: يحلفون، فخصَّ الإيلاء بالحلف. وله شروط مذكورة في كتب الفقه.

والظهار سيأتي تعريفه.

والمراد بالكفارة: كفارة الظهار، كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

تقدم تخريجه في باب "عشرة النساء".

ص: 5

‌من آلى ألا يدخل على امرأته

1095/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَات.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الترمذي في أبواب "الطلاق واللعان"، باب "ما جاء في الإيلاء"(1201)، وابن ماجه (2072) من طريق مَسْلَمَةَ بن علقمة، أنبأنا داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

وذكرت الحديث.

وهذا الحديث رجاله ثقات غير مسلمة بن علقمة، فقد تكلم العلماء في حفظه، وفي روايته عن داود، قال الإمام أحمد:(ضعيف الحديث، حدث عن داود بن أبي هند أحاديث مناكير)

(1)

، وقد ذكر الذهبي هذا الحديث من مناكيره

(2)

. ووثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم

(3)

.

وقد رجح الترمذي والبيهقي وجماعة إرسال الحديث على وصله، فقال الترمذي: (حديث مسلمة بن علقمة، عن داود، رواه علي بن مسهر وغيره: عن داود، عن الشعبي، أن النبي صلى الله عليه وسلم:

مرسلًا، وليس فيه: عن مسروق، عن عائشة، وهذا أصح من حديث مسلمة بن علقمة).

(1)

"العلل"(2/ 523).

(2)

"الميزان"(4/ 109).

(3)

"تهذيب التهذيب"(10/ 132).

ص: 6

ووجه ذلك أن الذي وصله متكلم فيه ولا سيما في روايته عن داود، وهذا منها، وعلي بن مسهر أضبط وأوثق من مَسْلَمْةَ.

وإيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا محفوظ، كما ثبت في "الصحيح"، وأما ما في هذا الحديث فقد فسره العلماء بامتناعه من مارية، أو امتناعه من العسل، كما سيأتي

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (آلى) أي: حلف، فالمراد به المعنى اللغوي لا الاصطلاحي.

قوله: (من نسائه) أي: ألا يدخل على زوجاته رضي الله عنهن، وقد دلت الروايات الأخرى أنه آلى شهرًا، قال الحافظ:(أي: حلف لا يدخل عليهن شهرًا، وليس المراد به الإيلاء المتعارف عليه عند الفقهاء)

(2)

.

قوله: (وحرم) أي: حلف ألا يطأ مارية، أو ألا يشرب العسل.

قوله: (فجعل الحرام حلالًا) أي: رجع إلى شرب العسل بعد ما كان حرمه على نفسه، وفي حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنه أصاب جاريته

(3)

.

قوله: (وجعل لليمين كفارة) أي: وكفر عن يمينه.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الرجل إذا حرم جاريته أو حرم شيئًا من الطعام أنه يكفي فيه كفارة يمين، ومثل هذا لو قال: والله لا آكل هذا الطعام، أو لا أطأ زوجتي فلانة، أو نحو ذلك، ولا أثر لهذا التحريم على العين المحرمة، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] فدلت الآية على أن الكفارة تحل اليمين بعد عقدها، وأن الله تعالى لم يجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يحرم ما أحل الله، فكيف يجعل لغيره التحريم؟.

(1)

انظر: "تحفة الأحوذي"(4/ 383).

(2)

"فتح الباري"(1/ 488).

(3)

رواه ابن جرير (28/ 102).

ص: 7

وهذا الحديث تابع فيه الحافظ ابن حجر ابن عبد الهادي في "المحرر" فذكره في باب (الإيلاء) مع أن الإيلاء الذي عقد له الباب محرم شرعًا يأثم به من علم بحاله، فلا تجوز نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الدخول على نسائه شهرًا من هذا القبيل، وإنما المراد به الإيلاء اللغوي الذي هو الحلف مطلقًا. وقد أدخل البخاري حديث أنس: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه

) تحت باب قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ .... } .

° الوجه الرابع: ثبت في حديث أنس رضي الله عنه كما تقدم- أنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، وقد اختلفت الروايات في سبب إيلائه صلى الله عليه وسلم من نسائه، وفي الشيء الذي حرمه، على أقوال، أشهرها قولان:

الأول: أنه تحريم العسل، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها.

الثاني: أنه تحريم الجارية، لما ورد في "سنن النسائي" عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وهذا هو الأظهر، ويؤيده أمران:

1 -

أن تحريم الجارية مما يبتغى بمثله مرضاة الضرات.

2 -

أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيها أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه.

وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها

(1)

.

وقيل: إن سبب إيلائه أنه فَرَّقَ هدية له بين نسائه، فلم ترض زينب بنصيبها، فزادها، فلم ترض، فقالت عائشة: لقد أقمأتْ

(2)

وجهكَ حين ردتْ

(1)

انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (7/ 340)، "تفسير القاسمي"(7/ 133)، "فتح الباري"(9/ 289)، "المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 1027).

(2)

قَمُؤَ الرجل قماءة: صغر وذلَّ في الأعين.

ص: 8

عليكَ الهدية، فقال:"أنتن أهون علي من أن تقمئنني، والله لا أدخل عليكن شهرًا"

(1)

.

وقيل: إنه بسبب طلبهن النفقة، كما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه

(2)

.

ويرى الحافظ ابن حجر أن الأليق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم سعة صدره وكثرة صفحه أن يكون مجموع هذه الأشياء سببًا لاعتزالهن

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 190).

(2)

"صحيح مسلم"(1478).

(3)

"فتح الباري"(9/ 290).

ص: 9

‌من أحكام الإيلاء

1096/ 2 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وُقفَ الْمُولي حَتى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعَ عَلَيهِ الطَّلَاقُ حَتى يُطلِّقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1097/ 3 - وَعَنْ سُلَيمَانَ بْنِ يَسَارٍ رحمه الله قَال: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولي. رَوَاهُ الشَّافِعي.

1098/ 4 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: كَانَ إِيلَاءُ الْجَاهِلِيّةِ السَّنَةَ وَالسّنَتَينِ. فَوَقَّتَ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيس بِإِيلَاءٍ. أَخْرَجَهُ الْبَيهَقِي.

* الكلام مع عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو أيوب سليمان بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عطاء بن يسار، كان سليمان من فقهاء المدينة، بل هو أحد الفقهاء السبعة الذين نقلوا فقه الصحابة رضي الله عنهم، كان ثقة، عالمًا، رفيعًا، كثير الحديث، وكان من المجتهدين في العبادة، وأحسن الناس وجهًا، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة وغيرهم رضي الله عنهم، مات سنة سبع ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين

(1)

رحمه الله.

° الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب

(1)

"الطبقات"(5/ 174)، "السير"(4/ 444).

ص: 10

"قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ

} (5291) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:(إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع الطلاق حتى يطلق).

قال البخاري عقبه: (ويُذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

وأما حديث سليمان بن يسار فقد رواه الشافعي في "المسند"(2/ 294 ترتيبه) قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. ورواه سعيد بن منصور (2/ 32)، وابن أبي شيبة (5/ 132)، والدارقطني (4/ 61 - 62) بهذا الإسناد. وهذا إسناد صحيح. رجاله رجال الشيخين

(1)

.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البيهقي (7/ 381) من طريق الحارث بن عبيد أبي قدامة، حدثني عامر الأحول، حدثني عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهذا الحديث فيه الحارث بن عبيد أخرج له مسلم، وضعفه أحمد وأبو حاتم والنسائي (1).

وعامر الأحول قال عنه أحمد: (ليس بشيء)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال أبو حاتم:(ثقة، لا بأس به)، وقال ابن معين:(ليس به بأس)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ).

ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 136) قال: حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن عامر به. قال الحافظ:(إسناده صحيح)

(3)

.

° الوجه الثالث: اتفق العلماء على أن من حلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر فهو مولٍ، وأنه يمهل مدة أربعة أشهر منذ حلف ألا يطأ، لقوله

(1)

انظر: "الاستذكار"(17/ 87).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 67).

(3)

انظر: "الدراية"(2/ 74).

ص: 11

تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} [البقرة: 226] فجعل الله تعالى للزوج تربص أربعة أشهر، والتربص: الانتظار من حين الحلف، فإذا مضت الأربعة ألزم بأحد أمرين: الطلاق، أو الجماع من القادر عليه، فإن كان مسافرًا أو مريضًا أو مسجونًا، فإنه يكفي أن يفيء بلسانه أو بقلبه، وعلى هذا فلا يكفي تقبيلها؛ لأن ذلك لا يزول به ضرر المرأة، قال تعالى:{فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 228]. ومعنى {فَاءُوا} : رجعوا إليهن بالجماع، وقد قدم الله تعالى الفيئة على الطلاق، وختمها بِاسْمين من أسمائه دالين على المغفرة والرحمة؛ إشارة إلى أنها أحب إلى الله تعالى من الطلاق الذي ختم بِاسْمين فيهما معنى التهديد، وهما السميع والعليم

(1)

.

وفي الآية إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء، كما في أثر ابن عباس رضي الله عنه.

وقد وردت آثار كثيرة عن السلف ومنها؛ أثر سليمان بن يسار، كلها تدل على أنهم يوقفون المولي، بمعنى أن يطالب إما بالفيء، أو بالطلاق، وحديث ابن عمر في هذا الباب جاء كالتفسير للآية الكريمة.

فإن حلف أقل من أربعة أشهر كشهرين أو شهر، فليس بإيلاء، وهو جائز إذا كان للمصلحة؛ كتأديب الزوجة، قال ابن عباس:(فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء)، ويؤيد ذلك ما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا فاعتزلهن.

فإن حلف أربعة أشهر فكذلك على قول الجمهور؛ لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك، أو مع انقضائه، وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة يتناولها الإيلاء، وهو ما كان أكثر من أربعة أشهر، فيمهل أربعة أشهر.

° الوجه الرابع: في حديث ابن عمر رضي الله عنهما دليل على أن الزوجة لا تطلق

(1)

"التفسير وأصوله" لابن عثيمين (2/ 175).

ص: 12

بمضي المدة، وإنما يؤمر الزوج بالفيئة أو الطلاق، لقوله:(ولا يقع عليه الطلاق، حتى يطلق)، ولأن الله تعالى قال:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} وهذا صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج

(1)

.

ولو كان الطلاق يقع بعد مضي الأربعة لم يكن الزوج مخيرًا بعد انتهائها، ولأن الله تعالى أضاف عزم الطلاق إلى الزوج، وليس مضي المدة من فعله. والله تعالى أعلم.

(1)

"تفسير ابن كثير"(1/ 395).

ص: 13

‌من أحكام الظهار

1099/ 5 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمّ وَقَعَ عَلَيهَا، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَيهَا قَبْلَ أَنْ أُكُفِّرَ، قَال:"فَلَا تَقْرَبْهَا حَتى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ الله". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالهُ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، وزَادَ فيهِ:"كفِّرْ وَلَا تَعُدْ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الطلاق"، بابٌ "في الظهار"(2225)، والترمذي (1199)، والنسائي (6/ 167)، من طريق الفضل بن موسى، وابن ماجه (2065) من طريق غندر، كلاهما عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وخالفهما عبد الرزاق فرواه في "المصنف"(6/ 430) عن معمر، عن الحكم، عن عكرمة مرسلًا.

قال الترمذي عن الموصول: (حديث حسن غريب صحيح)، وحسن الحافظ إسناده

(1)

، ولعل ذلك من أجل الحكم بن أبان، فقد وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم، وقال أبو زرعة:(صالح)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق عابد، وله أوهام).

(1)

"فتح الباري"(9/ 357).

(2)

"تهذيب التهذيب"(2/ 364).

ص: 14

وقد اختلف على الحكم بن أبان في وصل هذا الحديث وإرساله، فروي موصولًا بذكر ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة (2221)(2222)، وإسماعيل بن علية (2223)، والمعتمر بن سليمان (2225)، ورواه النسائي (6/ 167) من طريق عبد الرزاق، عن معمر -في أصح الوجهين عنه - أربعتهم عن الحكم بن أبان، عن عكرمة أن رجلًا ظاهر من امرأته .. هكذا مرسلًا.

وقد رجح الحفاظ كأبي حاتم والنسائي إرساله، وهو ظاهر صنيع أبي داود، ووجه ذلك أن الإرسال هو رواية الجماعة الثقات الأثبات عن الحكم، ولم يخالفهم أحد يعتد بخلافه وقد تابع الحكم على إرساله عمرو بن دينار فرواه عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم .. علقه ابن أبي حاتم في "العلل"(1309) كما تابعه شيخ لخالد الحذَّاء. رواه أبو داود (2224)

(1)

.

ورواه البزار من طريق خصيف، عن عطاء، عن ابن عباس بالزيادة المذكورة

(2)

.

وهذا سند ضعيف، فيه خصيف، وهو ابن عبد الرحمن الجزري، قال عنه الحافظ:(صدوق سيء الحفظ، خلط بأخَرَةَ).

لكن يشهد لحديث ابن عباس ما بعده.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن رجلًا ظاهر من امرأته) الظهار في اللغة: مشتق من الظهر، وخصوا الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه إذا قال: أنت علي كظهر أمي، أراد أنت في ركوب النكاح حرام عليَّ كركوب أمي للنكاح.

(1)

انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1294)(1307)، رسالة:"الأحاديث التي أشار أبو داود في "سننه" إلى تعارض الوصل والإرسال فيها" للشيخ: تركي الغميز ص (249).

(2)

"التلخيص"(3/ 249).

ص: 15

وشرعًا: تشبيه زوجته أو بَعْضِها في التحريم بمن تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا أو ببعضها.

وقولنا: (أو بعضها) أي: كَيَدِها أو ظهرها أو بطنها، فهذا ظهار؛ لأن التحريم لا يتبعض.

وقولنا: (بمن تحرم عليه

) أي: بنسب كأمه وأخته، أو برضاع كأخته منه، أو بمصاهرة كأم زوجته.

ومفهومه أن المحرَّمة إلى أمد كأخت زوجته وعمتها لا يكون التشبيه بها ظهارًا؛ لأنها غير محرمة على التأبيد.

والقول الثاني: أنه ظهار؛ لأنه شبهها بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم

(1)

، والأول أقرب

(2)

.

قوله: (حتى تفعل ما أمرك الله) أي: كفارة الظهار المنصوص عليها في القرآن، وهذا يشعر بأن الآيات قد نزلت من قبل، كما سيأتي.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم الظهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره فيه بالكفارة، وقد أجمع أهل العلم على ذلك؛ لأنه منكر من القول وزور، حيث شبه أحل الأشياء منه بأعظمها تحريمًا، وقد دل على تحريمه القرآن، قال تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} [المجادلة: 2] وقد ذكر المفسرون أن آيات الظهار التي في أول سورة المجادلة نزلت في أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه لما ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها

(3)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن من ظاهر من زوجته فشبهها بظهر أمه في التحريم ثم أراد أن يجامعها فعليه أن يكفر عن ظهاره قبل

(1)

"المغني"(11/ 58).

(2)

"الشرح الممتع"(13/ 238).

(3)

انظر: "المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 957).

ص: 16

الجماع؛ لقوله: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله"، وقد دل على هذا القرآن في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].

وظاهر الحديث وجوب تقديم الكفارة على المماسة، وهي الجماع، سواء كفَّر بالعتق أو الصيام أو الإطعام، مع أن آية الظهار لم تشترط ذلك في الإطعام، كما سيأتي إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

ص: 17

‌كفارة الظهار

1100/ 6 - عَنْ سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ رضي الله عنه قال: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتي، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لي شَيْءٌ منها لَيلَةً، فَوَقعْتُ عَلَيها، فَقَال لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"حَرِّرْ رَقَبَةً" فَقُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إلا رَقَبَتي، قَال:"فَصُمْ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ" قُلْتُ: وهَلْ أَصَبتُ الذي أَصَبْتُ إلا مِنَ الصِّيَام؟ قَال: "أطْعِمْ فَرَقًا مِنْ تَمْرٍ بَينَ ستِّينَ مِسْكينًا" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسائيَّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سلمة بن صخر البَياضي -بفتح الباء- الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، له حِلْفٌ في بني بياضة، فقيل له: البياضي، ذكر ابن سعد أنه أحد البكائين الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم يوم تبوك، فقال:"لا أجد ما أحملكم عليه"، {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]، قال البغوي:(لا أعلم لسلمة بن صخر حديثًا مسندًا غير هذا الحديث)، روى عنه سليمان بن يسار، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وقيل: إن سليمان بن يسار لم يسمع منه، كما سيأتي

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (26/ 347)، وأبو داود في كتاب "الطلاق"، باب "في الظهار"(2213)، والترمذي (1198، 3299)، وابن ماجه

(1)

"الاستيعاب"(4/ 232)، "الإصابة"(4/ 232)، "معجم الصحابة"(3/ 119).

ص: 18

(2062)

، وابن خزيمة (2378)، وابن الجارود (744) من طريق محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر، به.

وهذا سند ضعيف فيه علتان:

الأولى: عنعنة محمَّد بن إسحاق، وهو مدلس.

الثانية: الانقطاع؛ لأن سليمان بن يسار لم يسمع من سلمة بن صخر، وقد نقل الترمذي في "جامعه" في الموضع الثاني المذكور عن البخاري أنه قال:(سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر).

والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، ولم يلتفت الحاكم إلى ما أُعل به، فقال:(صحيح على شرط مسلم)، وسكت عنه الذهبي، مع أن مسلمًا روى لمحمد بن إسحاق متابعة.

ورواه الترمذي (1200)، والحاكم (2/ 254)، والبيهقي (7/ 390) من طريق أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن سلمة بن صخر، به.

وهو منقطع -أيضًا- بين أبي سلمة وابن ثوبان وبين سلمة بن صخر.

ورواه مرسلًا أبو داود (2217)، وابن الجارود (745) من طريق بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، أن رجلًا من بني زريق يقال له: سلمة بن صخر

فذكر الحديث مختصرًا.

قال الألباني: (هذا مرسل صحيح الإسناد، وهو يؤيد قول البخاري: إن سليمان بن يسار لم يسمع من سلمة بن صخر، والله أعلم)

(1)

.

وحديث ابن عباس المتقدم يشهد لهذا الحديث، ولعله بطرقه وشواهده يكون صحيحًا.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب كفارة الظهار على من ظاهر من زوجته، وقد دل على ذلك القرآن، كما تقدم.

(1)

"الإرواء"(7/ 178).

ص: 19

وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن آيات الظهار نزلت في أوس بن الصامت وزوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، ثم قال:(هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه الآية، فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كان سبب النزول، ولكن أُمر بما أنزل الله في هذه السورة من العتق أو الصيام أو الإطعام)

(1)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على وجوب الترتيب بين خصال كفارة الظهار، وهي عتق رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 3، 4].

* الوجه الخامس: ظاهر الآية أنه لا يشترط الإيمان في الرقبة التي يراد إعتاقها في كفارة الظهار؛ لأن الرقبة جاءت مطلقة عن التقييد، فلا يحمل هذا المطلق على المقيد في آية سورة النساء؛ لاختلاف السبب؛ لأنه هنا ظهار، وفي آية النساء قتل، وهذا قول الحنفية، ورواية عن أحمد

(2)

.

والفول الثاني: اشتراط الإيمان حملًا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]؛ لأن الحكم واحد وهو تحرير رقبة، وهذا رواية عن أحمد، وقول مالك والشافعي

(3)

.

والقول الأول وجيه؛ لأن الكفارة عقوبة شرعت لعلة، ولكل حكم علته المناسبة له، قد تظهر وقد تخفى، وقد يكون شدد في كفارة القتل لشدة أمره، بخلاف الظهار، والقيد في هذا الحكم تشديد كما لا يخفى، فالأخذ بظاهر الآية في آية الظهار قوي، لكن إعتاق المؤمنة أحوط وأبرأ للذمة، فإن الرقبة إذا أعتقت وهي كافرة لا يؤمن أن يلحق بالكفار؛ لأنه صار حرًّا، وقد يؤيد

(1)

"تفسير ابن كثير"(8/ 62)، وانظر:"المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 957).

(2)

"المبسوط"(7/ 2)، "المغني"(11/ 81).

(3)

"المهذب"(2/ 147)، "بداية المجتهد"(3/ 208 - 209).

ص: 20

ذلك ما في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: كانت لي جارية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عليَّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال:"من أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعتقها فإنها مؤمنة"

(1)

.

* الوجه السادس: شرط الصيام أن يكون شهرين متتابعين لا يفطر فيهما إلا لعذر، كأن يتخلله رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام التشريق، أو تخلله فطر لجنون أو مرض مخوف، أو لعذر يحيى الفطر كسفر ونحو ذلك، فلا ينقطع التتابع؛ لأنه فطر بسبب لا يتعلق باختياره، فإن أحل بالتتابع لغير عذر استأنف الصيام.

وقد دلت الآية على أن الصيام يكون قبل المماسة، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي: يَمَسَّ أحدهما الآخر بالجماع، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره فلو مَسَّ أثناء الشهرين استأنف الصيام إذا كان ذلك نهارًا بالإجماع، وأما المس في الليل ففيه قولان، فمن قال: يقطع التتابع أخذ بعموم الآية: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فأمر بصيام الشهرين خاليين من الوطء

(2)

.

والقول الثاني: أنه إذا أصابها ليلًا أثم؛ لوطئه قبل إتمام الصوم، ولا ينقطع التتابع، وهو قول الشافعي، وابن المنذر، ورواه الأثرم عن أحمد، وهو قول الموفق ابن قدامة؛ لأن وطء الليل لا يبطل الصوم، فلا يوجب الاستئناف، كوطء غيرها؛ ولأن التتابع في الصيام معناه: إتباع صوم يومٍ للذي قبله من غير فارق، وهذا متحقق وإن وطئ ليلًا

(3)

، وهذا هو الأقرب؛ لقوة مأخذه.

وأما ما دون الجماع كالقبلة والمعانقة والاستمتاع بما دون الفرج ففيه قولان:

(1)

أخرجه مسلم (537). وتقدم في كتاب "الصلاة".

(2)

"تفسير ابن كثير"(8/ 65).

(3)

"المغني"(11/ 91).

ص: 21

الأول: أنه يحرم، وهو قول الزهري والأوزاعي، وهو قول مالك، وأصحاب الرأي، وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أحمد؛ لأن ما حرَّم الوطء من القول حرَّم دواعيه، كالطلاق والإحرام.

القول الثاني: أنه يباح، وهو قول الحسن والثوري وعطاء وآخرين، وبه قال الشافعي، ورواية عن أحمد، فإنه قال:(أرجو ألا يكون به بأس)؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} والتماس كناية عن الجماع، كما تقدم، ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فالحيض يحرم فيه الوطء، ويباح ما دونه، والصيام يحرم فيه الوطء، وتباح فيه المباشرة

(1)

، وهذا القول هو الأظهر.

* الوجه السابع: دل الحديث على وجوب إطعام ستين مسكينًا إذا لم يستطع الصيام لكبر أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} والآية كالحديث نص في العدد، فلا يجزئ أقل من ستين، إلا إن تعذر ذلك، فإنه يكرر الكفارة على الموجودين بقدر ستين مسكينًا.

ويجزئ في الإطعام كل ما كان قوتًا للبلد كالرز ونحوه؛ لأن الله تعالى أوجب الإطعام ولم يخصصه بنوع معين، فيرجع فيه إلى ما جرى به عرف البلد.

ومقدار الإطعام مدٌّ من البر، وهو ربع الصالح، وهو ما يعادل خمسمائة وستين جرامًا، على أن الصالح كيلوان ومائتان وأربعون جرامًا، لقوله:"أطعم فرقًا من تمر ستين مسكينًا"، والفرق: بفتح الفاء والراء، مكيال يسع خمسة عشر صاعًا، وفي بعض نسخ "البلوغ":(عرقًا) بفتح العين والراء المهملتين، وقد روى أبو داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: (العرق: زنبيل

(1)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 309 - 310)، "الاستذكار"(17/ 123 - 124)، "المغني"(11/ 67)، "روضة الطالبين"(8/ 296).

ص: 22

يأخذ خمسة عشر صاعًا)، وذكر ابن الرفعة من الشافعية أن العرق ستون مدًّا، خمسة عشر صاعًا

(1)

.

وإن غدى المساكين أو عشاهم أجزأه على إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية

(2)

، وهو الأظهر -إن شاء الله- لمطابقته لظاهر الآية، فإن الله تعالى قال:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وهذا قد أطعم.

* الوجه الثامن: دلت الآية الكريمة على وجوب تقديم الكفارة بالعتق والصيام على المماسة، ولا خلاف في ذلك، أما وجوب تقديمها في الإطعام فلم يذكر في الآية، ولذا اختلف أهل العلم في ذلك، فالأكثرون على وجوب تقديم الإطعام على المماسة وأنه لا يجوز وطؤها قبل التكفير، واستدلوا بحديث ابن عباس المتقدم:"فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله".

والقول الثاني: جواز المسيس قبل الإطعام، وهو قول أبي ثور، وعن أحمد ما يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى لم يمنع المسيس قبل الإطعام، كما في العتق والصيام.

والقول الأول أحوط؛ لأن الإطعام أمره يسير، وترك النص على المسيس قبل الإطعام لا يمنع قياسه على المنصوص عليه الذي هو في معناه

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإيضاح والتبيان" ص (7).

(2)

"الإنصاف"(9/ 233).

(3)

"المغني"(11/ 66 - 67).

ص: 23

‌باب اللعان

اللعان في اللغة: مصدر لاعن يلاعن لعانًا وملاعنة: إذا تبادل اللعن مع غيره.

وشرعًا: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين، مقرونة بلعنة أو غضب.

فقولنا: (شَهَادات) أي: إنها شهادات أربع، كشهود الزنا، مؤكدات بالأيمان، بحيث يقول كل من الزوجين: أشهد بالله.

وقولنا: (مَقرونة بلعنٍ) أي: إن شهادة الزوج بعد الرابعة مقرونة باللعن، قائمة مقام حد القذف في حقه على تقدير كذبه، لما فيها من اللعنة عليه إن كان من الكاذبين.

وقولنا: (أو غضب) أي: إن شهادة المرأة بعد الرابعة مقرونة بالغضب، قائمة مقام حد الزنا في حقها على تقدير أنه صادق؛ لأنها تضمنت غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا.

وبهذا يتبين أن اللعن من جانب واحد وهو الزوج، والغضب من جانب الزوجة، فيكون قولهم:(باب اللعان) من باب تغليب أحد الوصفين على الآخر، واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية؛ لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ به في الآية.

وسبب اللعان: رَمْيُ الزوج زوجته بالزنا، سواء بشخص معين أو بغير معين، كقوله: يا زانية، فإذا حصل ذلك منه فله ثلاث حالات:

الأولى: وهي أن يقيم بيِّنة شرعية، وهي أربعة شهود على صحة دعواه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن

ص: 24

سَحْمَاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حدٌّ في ظهرك

"

(1)

الحديث. فإذا أقام البينة أقيم على المرأة حد الزنا.

الثانية: ألا يكون بينة، ولكن تقر هي بذلك، فيقام عليها حد الزنا.

الثالثة: ألا يكون بينة ولا إقرار، فيقام عليه حد القذف، لعموم آية القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً

} الآية [النور: 4]، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم، إلا أن يُسقط حد القذف باللعان.

وعلى هذا فالأزواج داخلون في عموم آية القذف، ولكن الله تعالى جعل لهم فرجًا ومخرجًا، فأنزل آيات اللعان، فماذا قذف زوجته ولم يستطع إقامة البينة فله أن يلاعن؛ لأنه يبعد غاية البعد أن يقذف الرجل زوجته بما لم يكن؛ لأن عليه في ذلك عارًا كما عليها، فجعل الله تعالى للزوج حكمًا خاصًّا ومخرجًا ثالثًا غير البينة والحد، حيث إنه لا يستطيع إحضار أربعة شهود.

ولا خلاف بين أهل العلم في ثبوت اللعان بالكتاب، كما في آيات سورة النور، وبالسنة الصحيحة، كما في "الصحيحين" ومنها ما في هذا الباب، وبالإجماع على ذلك.

وقد تكلم المفسرون في سبب نزول آيات اللعان، وأنها نزلت في عويمر العجلاني لما قذف زوجته بشريك بن سحماء. وفي سبب النزول عدة أقوال، وهذا أظهرها، وسيأتي مزيد لهذا في باب "القذف" إن شاء الله تعالى

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (4747).

(2)

انظر: "المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 719).

ص: 25

‌مشروعية اللعان وصفته

1101/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: سَأَل فُلَانٌ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأتهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كيفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّم تَكَلَّمَ بَأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذلَكَ، فَلَمْ يُجبْهُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ذلِكَ أتاهُ، فَقَال: إِنَّ الَّذِي سَأَلتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتلِيتُ بِهِ، فَأَنزَلَ اللهُ الآياتِ في سُورةِ النُّورِ، فَتَلَاهُنَّ عَلَيهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، قَال: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيهَا، ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالتْ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالئهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب "اللعان"(1493)(4) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب أيفرق بينهما؟ قال: فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة، فقلت: للغلام استأذن لي، قال: إنه قائل، فسمع صوتي، قال: ابنُ جبير؟ قلت: نعم، قال: ادخل، فوالله ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة، فدخلت، فهذا هو مفترش بَرْذَعَةً متوسد وسادة حشوها ليف، قلت: أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان، قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة

وذكر بقية الحديث.

ص: 26

والحافظ قد حذف أول الحديث واختصر في أثناء سياقه، ولعله خشي أن يطول.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في إمرة مصعب) أي: مصعب بن الزبير، كما في رواية عند مسلم، وقد كان أميرًا على العراق من سنة ثمان وستين، وبقي فيها إلى أن قتل سنة إحدى وسبعين

(1)

.

قوله: (إنه قائل) من القيلولة، وهي النوم نصف النهار.

قوله: (برذعة) بفتح الباء، وهي تقال بالدال وبالذال، وهي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه، كالسرج للفرس

(2)

.

قوله: (فلان بن فلان) كناية عن شخص معين، ويكنى بذلك كراهية التصريح باسمه، والظاهر أن المراد عويمر العجلاني، كما جاء مصرحًا به في بعض الروايات

(3)

، وهذا التصريح لا حرج فيه؛ لأنه شيء حصل، ومضى فيه حكم الله، وقد يكون في التسمية فوائد، وأهمها البحث عنه ومراجعة ترجمته.

قوله: (على فاحشة) أصل الفاحشة: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وتطلق الفاحشة على الزنا، وهو المراد هنا، قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

قوله: (فلم يجبه) جاء في حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني، لما أرسل عاصم بن عدي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها) فهذا يفيد أن هذه الكراهة لقبح هذه المسألة، ولهذا قال عاصم: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، ولعل هذه الكراهة إما لقبح النازلة والفاحشة، أو لما كان من نهيه عن كثرة السؤال أو لغير ذلك

(4)

.

(1)

انظر: "البداية والنهاية"(12/ 135)، "الأعلام"(8/ 149).

(2)

انظر: "المصباح المنير" ص (43).

(3)

انظر: "المحرر في أسباب نزول القرآن"(2/ 719).

(4)

"إكمال المعلم"(5/ 78).

ص: 27

قوله: (قد ابتليت) النبلاء هو المحنة تنزل بالمرء، والمعنى: امتحنت بهذا الأمر.

قوله: (فأنزل الله الآيات

) في "صحيح مسلم"{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6].

قوله: (عذاب الدنيا) أي: حد القذف وهو ثمانون جلدة، (أهون من عذاب الآخرة) كما في قوله تعالى:{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].

قوله: (ثم ثَنَّى بالمرأة) من التثنية، وهو فعل الشيء ثانيًا، أي: بعد فِعْلِ شيء قبله، والمعنى: أشهد أولًا الرجل، وأشهد ثانيًا المرأة.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية اللعان إذا وجد ما يقتضيه، وهو أن يقذف الرجل زوجته بالزنا ولا يقيم البينة على ذلك، كما تقدم.

وقد دلت السنة على أن اللعان بين الزوجين يكون في المسجد، كما يكون بحضرة الإِمام أو القاضي وبمجمع من الناس، كما في حديث سهل بن سعد في "الصحيحين"، وكل هذا مقصود به التغليظ.

وإذا تم اللعان سقط حد القذف عن الرجل، وسقط حد الزنا عن الزوجة، وحرمت عليه تحريمًا مؤبدًا، كما سيأتي.

واللعان خاص بقذف الزوجة، أما قذف غيرها فيجري فيه حد القذف.

* الوجه الرابع: أن صفة اللعان كما ذكر الله تعالى في القرآن، وذلك بأن يحضر الزوجان عند الحاكم أو نائبه، فيقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي، ويُعَيِّنُها باسمها أو وصفها أو الإشارة إليها، ويقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليَّ إن كنتُ من الكاذبين، وتقول الزوجة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: وأن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين.

وإنما خصت المرأة بالغضب -وهو أعظم من اللعنة- لأنها أقرب إلى

ص: 28

الكذب في هذه القضية من زوجها، فإنها تعلم علم اليقين بحقيقة الحال، بخلاف الرجل فقد تقوم عنده شبهة قوية فيلاعن من أجلها ولا يكون جازمًا في حقيقة الأمر، فالزوج إن كان كاذبًا لم يصل ذنبه إلى أكثر من حد القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه يبدأ بالزوج في اللعان، وهذا هو الذي دل عليه القرآن، وهو الموافق للقياس، فإن الزوج هو المدعي؛ ولأن لعان الزوج بينة الإثبات، فإنه هو القاذف فيدرأ الحد عن نفسه، ولعانها بينة الإنكار فلم يجز تقديمها.

* الوجه السادس: استحباب وعظ كل واحد من الزوجين قبل البدء في اللعان؛ لعله يرجع إن كان كاذبًا، فيرجع الزوج عن قوله، أو ترجع هي عن إنكارها.

* الوجه السابع: استدل العلماء بقوله: (فلم يجبه) على استحباب الإعراض عن الأسئلة التي لم تقع، وإنما يتصور وقوعها تصورًا، لا سيما إذا كانت في أمور مستكرهة، أو في أمور لا حاجة إليها.

وقد روى الدارمي في مقدمة "سننه" عن جماعة من سلف هذه الأمة، منهم: عمر وابنه وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهم، أنهم كانوا يكرهون السؤال عن شيء لم يقع، ولم يكونوا يجيبون السائل

(1)

.

قال ابن حمدان الحنبلي: (إذا سأل عامِّيٌّ عن مسألة لم تقع لم تجب إجابته، لكن تستحب، وقيل: يكره؛ لأن بعض السلف كان لا يتكلم فيما لم يقع، ثم قال: إن كان غرض السائل معرفة الحكم لاحتمال أن يقع له أولمن سأل عنه: فلا بأس، وكذا إن كان ممن ينفعه في ذلك، ويقدر وقوع ذلك، ويُفَرِّعُ عليه)

(2)

. وقال الحافظ ابن حجر: (وقد استمر جماعة من السلف على

(1)

"سنن الدارمي"(1/ 47 - 48).

(2)

"صفة الفتوى" ص (30).

ص: 29

كراهة السؤال عما لم يقع، لكن عمل الأكثر على خلافه، فلا يحصى ما فرَّعه الفقهاء من المسائل قبل وقوعها)

(1)

.

* الوجه الثامن: في الحديث دليل على أنه إذا تم اللعان فرق الحاكم أو القاضي بين الزوجين تفريقًا مؤبدًا؛ لأن اللعان يوقع بين الزوجين من التقاطع والتباغض ما يوجب ألا يجتمعا بعدهما.

وظاهر قوله: (ثم فرق بينهما) أن الفرقة لا تقع باللعان، بل لا بد من تفريق الحاكم، وسيأتي مزيد كلام في هذه المسألة عند حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(9/ 462).

ص: 30

‌حكم صداق الملاعنة

1102/ 2 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ -أَيضًا- رضي الله عنهما أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال لِلْمُتَلَاعِنَينِ: "حِسَابُكُما عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيهَا"، قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالي. فَقَال:"إِنْ كنْتَ صَدَقْتَ عَلَيهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب "المتعة للتي لم يُفرض لها"(5350)، ومسلم (1493)(5) من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا الحديث هو إحدى روايات الحديث السابق.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الرجل الملاعن لا يستحق شيئًا من الصداق الذي أصدقه للمرأة؛ لأنه إن كان صادقًا فيما رماها به من الزنا فالصداق بما استحل من فرجها، وإن كان كاذبًا فلا شيء له؛ لأنه استحل فرجها، وزاد على ذلك أنه ظلمها بالكذب عليها، فكيف يجمع عليها الظلم في عِرْضِهَا ومطالبتها بمالي قبضته منه قبضًا صحيحًا، وقد نقل النووي الإجماع على ذلك

(1)

.

* الوجه الثالث: استدل الشافعية والحنابلة بقوله: (لا سبيل لك عليها)

(1)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 380).

ص: 31

على أن الملاعنة لا تحل للملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان، وقالت الحنفية: تحل له لزوال المانع، وهو قول سعيد بن المسيب، وقال ابن جبير: ترد إليه ما دامت في العدة

(1)

.

* الوجه الرابع: اختلف العلماء في قوله: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب" هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين قبل اللعان أو بعده؟ فيه قولان:

الأول: أن هذا بعد فراغهما من اللعان، ويؤخذ منه عرض التربة على المذنب ولو بطريق الإجمال، وأنه لا يلزم من كذبه التربة من ذلك، وهذا اختيار القاضي عياض.

الثاني: أنه قبل بداية اللعان، من باب تخويفهما وتحذيرهما؛ لأنه لا بد أن يكون أحدهما كاذبًا في الواقع ونفس الأمر، وأن يكون الآخر صادقًا في الواقع ونفس الأمر، وهذا نقله عياض عن الداودي، ثم قال:(والأول أظهر وأولى بمساق الكلام)، لكن قال الحافظ ابن حجر: (إن حديث ابن عمر محتمل للأمرين، وإنما الذي يؤيد كلام الداودي حديث ابن عباس، وفيه: فدعاهما حين نزلت آية الملاعن، فقال:"الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "، فقال هلال: والله إني لصادق

الحديث. ويحتمل التعدد)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المغني"(11/ 149).

(2)

"فتح الباري"(9/ 458).

ص: 32

‌لعان الحامل

1103/ 3 - عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه أَن النبي صلى الله عليه وسلم قَال: "أَبْصِرُوهَا، فَإنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا، فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في "اللعان"(1496) من طريق هشام، عن محمَّد، قال: سألت أنس بن مالك -وأنا أرى أن عنده منه علمًا- فقال: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإِسلام، قال: فَلَاعَنَهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبْصِرُوها فإن جاءت به أبيض سَبِطًا قَضِيءَ العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل جَعْدًا حَمْشَ الساقين، فهو لشريك بن سحماء، قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين).

هذا سياق الحديث عند مسلم، وبهذا تبين أن الحافظ تصرف في لفظه، فاختصره، وحذف منه بعض الأوصاف، ثم إنه وهم في عزوه للبخاري، وإنما هو عند مسلم فقط، وكذا عزاه ابن دقيق العيد في "الإلمام"، والمزي في "التحفة"

(1)

، وابن عبد الهادي في "المحرر" إلى مسلم فقط، والبخاري قد روى قصة هلال بن أمية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (4747).

(1)

(1/ 372).

ص: 33

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (هلال بن أمية) هو هلال بن أمية بن قيس الأنصاري الواقفي، شهد بدرًا وما بعدها، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك

(1)

.

قوله: (بشريك بن سحماء) بفتح الشين المعجمة والسين المهملة، هو شريك بن عبدة بن مُغيث بن الجد بن العجلان البلوي، وسحماء أمه، قيل لها: سحماء؛ لأنها كانت سوداء، وفيه قول شاذ، وهو أنه قيل له: شريك بن سحماء؛ لأنه كان مشاركًا لرجل يقال له: ابن سحماء، وعلى هذا فشريك صفة لا اسم

(2)

.

قوله: (وكان أخا البراء بن مالك لأمه) البراء بن مالك هو الأخ الشقيق لأنس بن مالك رضي الله عنهما، وأمهما أم سليم رضي الله عنهما ولم تكن سحماء، ولا تسمى سحماء، ولعل شريكًا كان أخا البراء لأمه من الرضاعة، ثم إنه لم ينقل أن أم سليم تزوجت عبدة بن مغيث قط

(3)

.

قوله: (فإن جاءت به) الضمير المجرور يعود إلى الولد الذي كان حملًا عند اللعان؛ أي: إن ولدت أبيض سبطًا

قوله: (سَبطًا) بفتح السين وكسر الباء، ويجوز إسكانها، هو من يكون شعره مسترسلًا.

قوله: (قضيء العينين) بفتح القاف وكسر الضاد، ثم همز، على وزن فعيل، ومعناه: فاسد العينين بكثرة دمع أو حمرة أو غير ذلك.

قوله: (فهو لزوجها) لفظ مسلم: "فهو لهلال بن أمية"، وهو زوج المرأة الملاعنة.

قوله: (أكحل) بفتح الهمزة وسكون الكاف، هو الذي تكون عيناه كأن فيهما كحلًا من غير اكتحال.

(1)

"الإصابة"(10/ 252).

(2)

"الإصابة"(5/ 74).

(3)

"فتح الباري"(9/ 446)، "الإصابة"(5/ 74).

ص: 34

قوله: (جعدًا) بفتح الجيم وإسكان العين، من يكون شعره غير مسترسل.

قوله: (حمش الساقين) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم بعدها شين معجمة؛ أي: دقيق الساقين، والحموشة: الدقة.

قوله: (فهو للذي رماها به) أي: قذفها واتهمها به؛ أي: فهو للزاني، وفي "صحيح مسلم":"فهو لشريك بن سحماء".

* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز ملاعنة الحامل قبل وضع حملها، وأنه لا يؤخر إلى أن تضع، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم.

وذهبت الحنفية في رواية، وأحمد في رواية، إلى أنه لا بد أن يؤخر نفي الولد إلى ما بعد الوضع، فينتفي منه، فإن نفاه قبل الوضع لم ينتف عنه؛ لأن العمل غير مستيقن؛ لجواز أن يكون ريحًا أو غيرها، فلا يكون للعان حينئذٍ معنى

(1)

.

والقول الأول هو الراجح؛ لأن حديث الباب نص في الموضوع؛ ولأن الحمل تمكن معرفته بأمارات ولا سيما في زماننا هذا؛ ولأن الشريعة علقت أحكامًا على العمل، كإيجاب النفقة.

وإذا لاعن الرجل زوجته وهي حامل انتفى الولد بمجرد اللعان وإن لم ينفه صراحة، وهذا رواية عن أحمد، وهو قول الظاهرية

(2)

، واستدلوا بأنه لم يقع في اللعان عند النبي صلى الله عليه وسلم نفي للولد، ولم يرد له ذكر في حديث هلال ولا عويمر؛ ولأن اللعان من الزوج مشتمل على نفي الولد.

والقول الثاني: أنه لا بد أن ينفيه صراحة، كأن يقول: أشهد بالله لقد زنت، وهذا ليس بولدي، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد

(1)

"المغني"(11/ 161).

(2)

انظر: "المحلى"(10/ 114)، "المغني"(11/ 161).

ص: 35

ولده، واستدلوا بما جاء في حديث سهل:(وكانت حاملًا فأنكر حملها، وكان ابنها يدعى إليها).

قال الأولون: إن هذا لا يدل على اشتراط نفي الولد في اللعان؛ لأن هذا أمر فعله الرجل من تلقاء نفسه

(1)

.

فإذا انتفى من الولد ألحقه القاضي بأمه، وانقطع نسبه عن الأب مطلقًا، إلا إن أكذب نفسه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:(أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة)

(2)

. قال البخاري: (بابٌ يلحق الولد بالملاعنة) قال الحافظ: (أي: إذا انتفى الزوج منه قبل الوضع أو بعده)

(3)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على جواز ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة.

* الوجه الخامس: في الحديث إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الحكم بالقافة، وأن للشبه مدخلًا في معرفة النسب، وإلحاق الولد بمنزلة الشبه، وإنما لم يلحق الولد بالملاعن لو قدِّر أن الشبه له؛ لمعارضة اللعان الذي هو أقوى من الشبه له؛ لأن لعان الزوج يفيده سقوط النسب الفاسد عنه؛ لأن تضرره بدخول النسب الفاسد عليه أعظم من تضرره بحد القذف، وحاجته إلى نفيه عنه أشد من حاجته إلى دفع الحد. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(8/ 448).

(2)

أخرجه البخاري (5315)، ومسلم (1494).

(3)

"فتح الباري"(9/ 460).

ص: 36

‌استحباب تخويف الملاعن عند الخامسة

1104/ 4 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا أنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْد الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَال:"إِنَّها مُوْجِبَةٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريج:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الطلاق"، بابٌ "في اللعان"(2255)، والنسائي (6/ 175) من طريق سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا

فذكره.

وهذا الحديث إسناده لا بأس به، كما قال ابن عبد الهادي

(1)

، عاصم بن كليب قال عنه أحمد:(لا بأس به)، وقال أبو حاتم:(صالح)، ووثقه ابن معين والنسائي

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق).

ووالده كليب بن شهاب وثقه أبو زرعة وابن سعد، وضعفه أبو داود والنسائي، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، وقال الحافظ:(صدوق).

وبهذا يتبين أن عبارة ابن عبد الهادي أولى من عبارة الحافظ، لما في بعض رواته من كلام، ويبقى موضوع تفرد كليب بن شهاب عن بقية أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، لا سيما وأن كليبًا ليس بالمشهور.

(1)

"المحرر"(2/ 688).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 49).

(3)

"الثقات"(9/ 446)، "تهذيب التهذيب"(8/ 400).

ص: 37

الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه يشرع للحاكم أو القاضي المبالغة في المنع من الحلف والنطق بالشهادة الخامسة، وذلك بأن يأمر من يضع يده عند النطق بالخامسة على فم الرجل لعله أن ينزجر ويمتنع، فإذا شهد أربع شهادات، وَقَفَهُ القاضي وقال له: اتق الله، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكل شيء أهون من لعنة الله.

ومعنى "إنها موجبة": أي: إن الشهادة الخامسة بها يتم لعان الرجل، فيستحق لعنة الله إن كان من الكاذبين، وهذا من المنع بالفعل، بعد تقدم المنع بالقول، وهو الوعظ قبل بداية اللعان، كما تقدم.

وظاهر الحديث أن هذا في حق الرجل، ولم يرد للمرأة ذكر، وقد جاء في حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية:(ثم قامت فشهدت، فلما كانت الخامسة وقفوها، وقالوا: "إنها موجبة") فظاهر هذا أنه لا يوضع على فم المرأة وإنما يكتفى بوعظها، واستحب الفقهاء من الحنابلة والشافعية وغيرهم أن تقوم امرأة فتضع يدها على فم الملاعنة

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(11/ 177).

ص: 38

‌فرقة اللعان

1105/ 5 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه في قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَينِ -قَال: "فَلَمّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَال: كَذَبْتُ عَلَيهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب "اللعان، ومن طلق بعد اللعان"(5308)، ومسلم (1492)(1) من طريق مالك، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

وساق الحديث بطوله، وفي آخره: فلما فرغا من تلاعنهما

وذكر تمام الحديث.

* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث بعض فقهاء الشافعية، وهو عثمان البَتِّيّ على أن الفرقة لا تقع بين المتلاعنين إلا بطلاق الرجل، لقوله:(فطلقها ثلاثًا)، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان لما نفذ طلاقه. قال الجصاص:(إنه قول تفرد به ولا نعلم أحدًا قال به غيره)

(1)

.

والقول الثاني: للإمام مالك، ورواية عن أحمد، وهو قول أهل الظاهر، أن الفرقة تقع بلعان الزوجين، ولا يُحتاج إلى تفريق الحاكم، وبه قال جماعة

(1)

"أحكام القرآن"(5/ 150)، "فتح الباري"(9/ 447).

ص: 39

من السلف

(1)

؛ لأنه ورد في السنة ما يدل على ذلك، ففي حديث سهل:(فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا)

(2)

.

والقول الثالث: لأبي حنيفة، وأحمد في رواية: أن الفرقة لا تحصل إلا باللعان وتفريق الحاكم، لما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(ثم فرق بينهما)، وكذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا يدل على أن الفرقة لم تحصل قبل تفريق النبي صلى الله عليه وسلم، كما استدلوا بقوله:(كذبت عليها إن أمسكتها) لأن فيه إخبارًا منه بأنه ممسك لها بعد اللعان على ما كان عليه من النكاح، ولو وقعت الفرقة بتمام اللعان لما صح قوله:(كذبت عليها إن أمسكتها) وهو غير ممسك لها

(3)

.

والقول الرابع: للشافعية: وهو أن الفرقة تثبت بلعان الزوج وحده ولو لم تلتعن المرأة؛ لأنها فرقة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق، قال الجصاص ومن بعده الموفَّق:(ولا نعلم أحدًا وافق الشافعي على هذا القول)

(4)

.

وأظهر الأقوال أنه إذا تم اللعان ثبتت الفرقة بين الزوجين، ولا يفتقر هذا إلى تفريق الحاكم، لما تقدم؛ ولأن الزوج لما شهد عليها بالزنا أربع مرات فالظاهر أنهما لا يأتلفان، فلم يكن في بقاء النكاح فائدة، فينفسخ كما ينفسخ بالارتداد؛ ولأنه لو كان التفريق إلى القاضي لساغ تركه برضا الزوجين كالتفريق بالعيب، ولم يقل بهذا أحد.

وأما القول بأنه لا بد من الطلاق، فهو قول غير صحيح؛ لأن حديث سهل لا دلالة فيه على ذلك؛ لأن عويمرًا إنما طلق امرأته بعد اللعان؛ لأنه ظن أن اللعان لا يحرمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق، ثم إن تطليقه مؤكد

(1)

انظر: "المحلى"(10/ 142، 144)، "المغني"(11/ 144).

(2)

رواه أبو داود (2250)، والبيهقي (7/ 410)، وصححه الألباني في "الإرواء"(7/ 185).

(3)

"أحكام القرآن" للجصاص (5/ 150 - 151).

(4)

"المغني"(11/ 145)، "أحكام القرآن"(5/ 152).

ص: 40

للفرقة الواقعة باللعان، وهي بالتأبيد أشد منه، فلا حاجة إلى إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه.

وقول ابن عباس وابن عمر: (ثم فرق بينهما) ليس صريحًا، فإنه كما يحتمل إنشاء الفرقة يحتمل إعلامهما بها أو تنفيذها حسًّا بينهما

(1)

.

وأما القول بأن الفرقة تحصل بلعان الزوج وحده، فهو قول غير صحيح أيضًا؛ لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج وحده لصار معنى هذا أن المرأة تلاعن وهي أجنبية منه

(2)

.

وثمرة الخلاف أنه على القول بأنه لا بد من تفريق الحاكم تظل الزوجية قائمة، ويقع طلاق الزوج على الزوجة، ويجري بينهما التوارث بسبب الزوجية إذا مات أحدهما قبل تفريق الحاكم، وعلى أنه لا يحتاج إلى تفريق الحاكم لا يكون شيء من ذلك

(3)

.

* الوجه الثالث: جمهور العلماء على أن فرقة اللعان مؤبدة، فلا يحل للزوج أن يعود إلى امرأته بحال، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبيل لك عليها"، ولما تقدم من ارتفاع الثقة بينهما.

والقول الثاني: أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن؛ لأن فرقة اللعان عندهما طلاق، وهو رواية عن أحمد اعتبرها الموفق رواية شاذة.

وقال سعيد بن المسيب: إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب

(4)

.

والصحيح قول الجمهور. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفرقة بين الزوجين" ص (181).

(2)

"أحكام القرآن"(5/ 152).

(3)

"المغني"(11/ 174).

(4)

"المغني"(11/ 149).

ص: 41

‌حكم نكاح الزانية

1106/ 6 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَن رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبيِّ فَقَال: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قال:"غَرِّبْهَا"، قال: أَخَافُ أنْ تَتْبعَهَا نَفْسِي. قَال: "فَاسْتَمْتِعْ بِهَا"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظٍ قَال: "طَلِّقْهَا" قَال: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَال:"فَأَمْسِكْهَا".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب "النهي عن تزويج من لم يلد من النساء"

(1)

(2049)، والنسائي (6/ 67، 169) من طريق الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:

فذكره.

وهذا الحديث رجاله ثقات، قال النووي:(حديث صحيح مشهور)

(2)

، وقال ابن كثير:(هذا إسناد جيد)

(3)

. لكن اختلف في إسناده، فقد رواه الشافعي (2/ 273 - 278 ترتيب مسنده) قال: أخبرنا سفيان، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

(1)

هذه الترجمة ليس فيها مناسبة ظاهرة لهذا الحديث إلا أن يقال: إن الزنا إذا كان لا يثبت به النسب فالأولاد منه في حكم العدم، فكان الأمر بتزويج الولود أمرًا بتزويج المحصنات منهن لا الخبيثات [راجع:"بذل المجهود"(10/ 13)].

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات"(4/ 130).

(3)

"تفسير ابن كثير"(6/ 10).

ص: 42

يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "فطلقها"، قال: إني أحبها، قال:"فأمسكها إذن"، هكذا رواه مرسلًا.

ورواه النسائي (6/ 67 - 68) من طريق حماد بن سلمة وغيره، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس. عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه، قالا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني عندي امرأة هي من أحب الناس إليَّ، وهي لا تمنع يد لامس، قال:"طلقها"، قال: لا أصبر عنها، قال:"استمتع بها".

وبهذا يتبين أن الحديث روي موصولًا من طريق عبد الكريم، وهو ابن أبي المخارق، وروي مرسلًا، وهو من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة وغيره، عن هارون بن رئاب، وقد قال الحافظ في "التقريب" عن عبد الكريم:(ضعيف)، وعن هارون:(ثقة عابد). ولذا رجح النسائي الإرسال، فقال:(هذا حديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه، وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم).

وقد نقل ابن الجوزي عن الإِمام أحمد أنه قال: (هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل)

(1)

، ولعل ابن الجوزي تمسك بهذا فأورد الحديث في كتابه "الموضوعات"

(2)

، ورجح هذا الشيخ عبد العزيز بن باز.

والحق أن هذا الحديث منكر المتن؛ لأن النسائي -مع تشدده- لم يحكم عليه بالوضع، ولا أعلم أحدًا سبق ابن الجوزي إلى الحكم عليه بالوضع، خاصة وأن العلماء قد اختلفوا في توجيه معناه كما سيأتي.

(1)

هذه العبارة يطلقها الإِمام أحمد على معانٍ منها: ما ليس له أصل صحيح، لا أنه يريد ليس له إسناد، انظر:"مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص (272).

(2)

(2/ 272)، "التلخيص"(3/ 225).

ص: 43

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا ترد يد لامس) اختلف في معناه على ثلاثة أقوال:

الأول: أن المراد أنها مطاوعة لمن أرادها للفاحشة، وهذا كناية عن الفجور، وهذا قول أبي عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والنووي

(1)

، وهذا المعنى نصره الشوكاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الرجل عن مراده، فينزل منزلة العموم، والعرب تكني بمثل هذه العبارة عن الزنا وعدم الثقة

(2)

، وضعفه آخرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقره على أن يكون ديوثًا وأن يكون زوج امرأة تتعاطى الفجور.

الثاني: أن المراد أنها مسرفة في ماله، وهذا كناية عن بذلها الطعام، قال ابن قتيبة:(إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلًا)، وهذا قول أحمد، والأصمعي، قال ابن الأثير:(وهذا أشبه)

(3)

.

لكن ضعف هذا بأنه لو كان هو المراد لقال: لا ترد يد ملتمس، ثم إن التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن، وإن كان بمال الزوج فكذلك، ولا يوجب هذا أمره بطلاقها

(4)

.

الثالث: أن المراد أنها سهلة الأخلاق ليس عندها نفور وحشمة عن محادثة الرجال الأجانب ومصافحتهم، لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء قد يتسامحن في محادثة الرجال أو مصافحتهم، ويوجد هذا في كثير من القبائل، وهذا معنى رجحه ابن كثير

(5)

، والصنعاني، وجماعة.

قوله: (غربها) أي: أبعدها عنك وفارقها.

قوله: (فاستمتع بها) أي: أبقها وتلذذ بها قدر ما تقضي حاجتك.

(1)

"التلخيص"(3/ 253).

(2)

"نيل الأوطار"(6/ 165).

(3)

"النهاية"(4/ 270).

(4)

انظر: "حاشية السندي" على "سنن النسائي"(6/ 67).

(5)

"تفسير ابن كثير"(6/ 11).

ص: 44

الوجه الثالث: يستدل العلماء من المفسرين والفقهاء

(1)

بهذا الحديث على جواز إمساك الزوجة والاستمرار على نكاحها ولو ظهر منها الزنا، وأن ذلك لا يقتضي فسخ نكاحها، واستدلوا به على جواز نكاح الزانية، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وأجازه مالك مع الكراهة، قال الموفق ابن قدامة: (إذا زنت امرأة رجل أو زنا زوجها لم يفسخ النكاح، سواء كان قبل الدخول أو بعده في قول عامة أهل العلم

)

(2)

.

وحملوا الآية: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] على ابتداء النكاح، فيجوز للرجل أن يستمر على نكاح من زنت وهي تحته، ويحرم عليه أن يتزوج الزانية، وقد بوب النسائي على هذا الحديث بقوله: باب (تزويج الزانية)، وقال الجصاص: (ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رئاب

ثم ساق الحديث)

(3)

.

ولا يلزم من قول هؤلاء أن يكون العفيف الذي تحته زانية ديوثًا؛ لأنه إنما يبقيها ليحفظها ويحرسها ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي.

قال النووي: (كأنه صلى الله عليه وسلم أشار عليه أولًا بفراقها نصيحة له وشفقة عليه في تنزهه من مباشرة من هذه حالها، فأعلم الرجل شدة محبته لها وخوفه فتنة بسبب فراقها، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم المصلحة له في هذه الحال إمساكها خوفًا من مفسدة عظيمة تترتب على فراقها، ودفع أعظم الضررين بأخفهما متعين، ولعله يرجى لها الصلاح بعد، والله تعالى أعلم)

(4)

.

ولعل هؤلاء هم الذين يأخذون بالمعنى الأول في تفسير (لا ترد يد لامس)، أما من يقول بأنه لا يجوز الزواج بالزانية ولا إمساكها إذا زنت، وهو قول قتادة وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وهو منقول عن علي وابن مسعود

(1)

ولهذا ذكره الحافظ في "البلوغ" تبعًا لفقهاء الشافعية، وأما ابن دقيق العيد والمجد ابن تيمية فلم يذكروه. انظر:"التلخيص"(3/ 253)، "أضواء البيان"(6/ 81 - 92).

(2)

"المغني"(9/ 565).

(3)

"أحكام القرآن"(5/ 208).

(4)

"تهذيب الأسماء واللغات"(4/ 130).

ص: 45

وعائشة والبراء رضي الله عنهم، فلأن الله تعالى أباح نكاح المحصنات المؤمنات، ولأنها إذا كانت تتعاطى الزنا فإنه لا يؤمن أن تأتي من الزنا بولد فتلحقه بزوجها وتورثه ماله.

والذي يظهر -كما قال الشنقيطي- أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوج إلا عفيفة صَيِّنَةً، للآيات والأحاديث الواردة في هذا، كقوله صلى الله عليه وسلم:"فاظفر بذات الدين تربت يداك"

(1)

.

وأما حديث الباب فإن الاستدلال به على جواز نكاح الزانية غير مستقيم لأمور ثلاثة:

1 -

أنه في استمرار النكاح لا في ابتدائه.

2 -

أن الاستدلال به متوقف على صحة المعنى الأول، وهو منازع فيه.

3 -

أن الحديث متكلم فيه، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(1)

"أضواء البيان"(6/ 94).

ص: 46

‌التحذير من نفي الولد بعد إثباته

1107/ 7 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَينِ: "أيَّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيسَ مِنْهُمْ فَلَيسَتْ مِنَ اللهِ في شَيءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ جَنتَهُ، وَأيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ -وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيهِ- احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤوسِ الأَوّلينَ وَالآخِرِينَ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حبانَ.

1108/ 8 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: مَنْ أقَرَّ بِوَلَدٍ طَرْفَةَ عَينٍ فَلَيسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيهَقيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب "التغليظ في الانتفاء"(2263)، والنسائي (6/ 179 - 180)، وابن حبان (9/ 418) من طريق يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن يونس، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

والحديث صححه ابن حبان، كما قال الحافظ، وصححه الحاكم (2/ 202) على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، مع أن عبد الله بن يونس لم يخرج له مسلم.

وهذا حديث سنده ضعيف، عبد الله بن يونس ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير"

(1)

، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"

(2)

، ولم يذكرا فيه

(1)

(5/ 232).

(2)

(5/ 205).

ص: 47

جرحًا ولا تعديلًا، ولم يوثقه إلا ابن حبان

(1)

، ولم يرو عنه إلا يزيد بن الهاد، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند أبي داود والنسائي، ولذا قال ابن القطان: (عبد الله بن يونس هذا لا تعرف حاله

)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(عبد الله بن يونس حجازي مجهول الحال، مقبول) أي: مقبول في المتابعات، وكأن الحافظ جمع بين مقتضى توثيق ابن حبان وقول ابن القطان.

وقد توبع، فقد روى الحديث ابن ماجه (2743) من طريق موسى بن عبيدة، حدثني يحيى بن حرب، عن سعيد المقبري، به، لكن هذه المتابعة لا يفرح بها، فإن موسى بن عبيدة ضعيف، وشيخه يحيى مجهول

(3)

، ثم إن تفرد مثل هذين عن إمام كسعيد المقبري في شهرته وكثرة أصحابه علة أخرى.

والجزء الثاني من الحديث له شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرج أحمد (8/ 413 - 414)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 223 - 224) من طريق وكيع، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي المجالد، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعًا:"من انتفى من ولده ليفضحه في الدنيا، فضحه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، قصاص بقصاص".

وهذا سند فيه عبد الله بن أبي المجالد، وهو من رجال البخاري، وهو ثقة، ووالد وكيع هو الجراح بن مليح الرؤاسي، متكلم فيه

(4)

، وقال الحافظ في "التقريب"(صدوق يهم)، قال أبو نعيم:(تفرد به وكيع، عن أبيه) فكلام الأئمة في والد وكيع، وإعلاله بالتفرد مما يضعف الحديث.

وقد نقل الحافظ في "التلخيص" أن الدارقطني صحح حديث الباب في "العلل" مع أنه ذكر تفرد عبد الله بن يونس به، عن المقبري

(5)

.

(1)

"الثقات"(7/ 29).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 472).

(3)

"مصباح الزجاجة"(2/ 378).

(4)

"تهذيب التهذيب"(2/ 58).

(5)

انظر: "العلل"(10/ 376)، "التلخيص"(3/ 254)، وما في "العلل" ليس بصريح في تصحيح الحديث، وقد جاء في المطبوع:(وهو الصحيح)، وفي مخطوطة "العلل" المصرية والكويتية:(وهو صحيح).

ص: 48

وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد رواه البيهقي في "الكبرى"(7/ 411 - 412) من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن شريح، عن عمر رضي الله عنه.

وإسناده ضعيف؛ لأن فيه مجالد بن سعيد الهمزاني ضعفه الإِمام أحمد ويحيى بن سعيد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وآخرون

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(ليس بالقوي).

وقد روى البيهقي -أيضًا- من طريق قدامة بن محمَّد، نا مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت محمَّد بن مسلم بن شهاب يزعم أن قبيصة بن ذؤيب كان يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها، ثم اعترف به وهو في بطنها، حتى إذا ولد أنكره، فأمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجلده ثمانين لفريته عليها، ثم ألحق به ولدها

(2)

. قال الحافظ: (إسناده حسن)

(3)

. وقد تقدم الكلام على سماع مخرمة من أبيه عند الحديث (464) وقد نفى سماعه من أبيه الإِمام أحمد وابن معين وغيرهما.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (أدخلت على قوم من ليس منهم) أي: أتت بولد من زنا وهي في فراش الزوجية، فنسبت الولد إلى الزوج وهو ليس منه.

قوله: (فليست من الله في شيء) الظاهر أن هذا من أحاديث الوعيد التي تُمر كما جاءت، وقيل معناه: ليست أهلًا لرحمة الله تعالى.

قوله: (ولن يدخلها الله الجنة) أي: مع من يدخلها من المحسنين، بل يؤخرها أو يعذبها ما شاء ثم يكون مآلها إلى الجنة، إلا أن تكون كافرة فيجب لها الخلود.

قوله: (جحد ولده وهو ينظر إليه) أي: انتفى من ولده وهو يعلم أنه

(1)

"تهذيب التهذيب"(10/ 36).

(2)

"السنن الكبرى"(7/ 411).

(3)

"التلخيص"(3/ 259).

ص: 49

ولده، فقوله:"وهو ينظر إليه" كناية عن العلم بأنه ولده، والضمير إما أن يعود إلى الولد، ففيه إشعار بقلة شفقة الرجل وقساوة قلبه وغلظته، أو يعود إلى الرجل؛ أي: والحال أن الرجل ينظر إلى ولده، وهو أظهر

(1)

.

قوله: (احتجب الله عنه) أي: حرمه الله من النظر إليه يوم القيامة.

* الوجه الثالث: الحديث ضعيف، وعلى تقدير صحته هو من باب الوعيد، وأحاديث الوعيد عند أهل السنة والجماعة تمر كما جاءت؛ لأنه أبلغ في الزجر وأعظم في التحذير عما حرم الله، وصاحبها تحت المشيئة.

* الوجه الرابع: في الحديث وعيد عظيم لمن خانت زوجها ومكنت رجلًا من نفسها فحملت منه، فنسبت هذا الولد إلى زوجها وإلى أسرته، وأصبح كأنه فرد منهم، وهذا يترتب عليه أمور عظيمة؛ لأنه سيطلع على عوراتهم ويشاركهم في أموالهم، ويجري بينهم التوارث.

* الوجه الخامس: في الحديث وعيد عظيم لإنسان علم أن الولد ولده ثم نفاه، وتبرأ منه، فقطع منه نسبه، وأصبح مشردًا بلا نسب ولا أصل، والجزاء من جنس العمل، فإن هذا الرجل لما تبرأ من ولده وصار سببًا في فضحه في دار الدنيا فضحه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الإنسان إذا أقر بالولد ثبت نسبه منه ولا يمكن نفيه أبدًا؛ لأن هذا رجوع عن الإقرار في حق آدمي، والرجوع في مثل هذا لا يقبل؛ لأن النسب يحتاط لإثباته، وقد ثبت بحجة شرعية، وهي الإقرار، فلم يَزُلْ بإنكار

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بذل المجهود"(10/ 240).

(2)

"المغني"(7/ 324).

ص: 50

‌التعريض بنفي الولد

1109/ 9 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، قَال:"هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَال:"فَمَا ألوَانُهَا؟ "، قَال: حُمْرٌ، قَال:"هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَال:"فأَنَّى ذلِكَ؟ "، قَال: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَال:"فَلَعَلّ ابْنَكَ هذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَفي روَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَهُوَ يُعَرِّضُ بأَنْ يَنْفِيَهُ، وَقَال في آخِرِه: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ في الانْتِفَاءِ مِنْهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب "إذا عَرَّضَ بنفي الولد"(5305) من طريق مالك، ومسلم (1500)(18) من طريق ابن عيينة، كلاهما عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (19) من طريق معمر، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري

وفيه: فقال: يا رسول الله ولدت امرأتي غلامًا أسود، وهو حينئذٍ يعرض بأن ينفيه، وزاد في آخر الحديث: ولم يرخص له في الانتفاء منه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود) أي: إنه لا يشبهني ولا يشبه أمه، فأنا أبيض وأمه بيضاء، وقد جاء في رواية عند مسلم:(أنكرته) ومعناه: استنكرت بقلبي أن يكون مني، وليس معناه نفيه عن نفسه باللفظ.

ص: 51

قوله: (هل لك من إبل؟) الغرض من هذا السؤال وما بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم مراد هذا الرجل وأنه يعرض بنفي ولده -كما في رواية مسلم- لكون لونه خالف لون أبيه وأمه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقنعه ويزيل وساوسه، فضرب له مثلًا مما يعرف ويألف.

قوله: (حمر) بضم فسكون، جمع أحمر، وهي التي لم يخالط حمرتها لون آخر.

قوله: (مِنْ أورق) بفتح الهمزة، هو الذي فيه سواد ليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء.

قوله: (فأنى ذلك؟) بفتح النون المشددة اسم استفهام، والمعنى: من أين أتاها اللون الذي خالفها، هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها أو لأمر آخر؟

قوله: (نزعه عرق) المراد بالعرق: الأصل من النسب، تشبيهًا بعرق الشجرة، ومعنى:(نزعه) جذبه.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن التعريض بالقذف ليس قذفًا، كما أنه لا يعد غيبة إذا جاء صاحبه مستفتيًا ولم يقصد مجرد القدح والعيب، وهذا هو قول الجمهور.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على الاحتياط في باب الأنساب، وأن مجرد الظن والاحتمال لا ينفي الولد من أبيه، فيلحق الولد بأبويه ولو خالف لونه لونهما، ولهذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش، ولم يجعل مخالفة اللون دلالة يجب الحكم بها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ضرب له المثل باختلاف الألوان في الإبل ولقاحها واحد.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه لا يجوز للأب أن ينفي ولده بمجرد كونه مخالفًا له في اللون، وقد حكى ابن رشد والقرطبي الإجماع على ذلك

(1)

، وتعقبهما الحافظ ابن حجر بأن الخلاف في ذلك ثابت عند

(1)

"المفهم"(4/ 307).

ص: 52

الشافعية

(1)

، وهو أنه إن لم ينضم إلى مخالفة اللون قرينة الزنا حرم النفي، وإن انضمت أو كان متهمها برجل فأتت بولد على لونه ففيه وجهان، وقالت الحنابلة: يجوز النفي مع القرينة، والخلاف عند عدمها

(2)

.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يخاطب الناس بما يعرفون وما يفهمون، حيث ضرب هذا المثل للأعرابي الذي فهم المراد منه وأدرك المقصود؛ لأنه قد خفي عليه هذا الأمر في الآدميين، فشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بما يعرفه ويألفه ولا ينكره.

* الوجه السابع: هذا الحديث من أدلة القياس في الشرع وصحة الاعتبار بالنظير، فقد قاس النبي صلى الله عليه وسلم نسل بني آدم على نِتاج الإبل، والعلة: نزع العرق القديم المؤثر في لون البشرة، والحكم: الثبوت والإلحاق مع اختلاف لون البشرة

(3)

.

كما يستدل به الأصوليون على اشتراط أن تكون العلة وصفًا مناسبًا للحكم، وإلغاء الأوصاف التي لا تؤثر في الحكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألغى اختلاف لون الولد عن أبيه؛ لعدم تأثيره في الحكم

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب"(7/ 120).

(2)

"فتح الباري"(9/ 444).

(3)

"القياس في القرآن والسنة" ص (380).

(4)

"بدائع الفوائد"(4/ 1539).

ص: 53

‌باب العِدَّةِ والإحْدَادِ [والاسْتِبْرَاءِ وغير ذلك]

(1)

العدة لغة: مأخوذة من عَدَّ المال أو الأيام، أو غيرهما، عدًا: إذا أحصى آحادها، والكمية المعدودة عِدد وعدة، قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} [التوبة: 36]، وإذا أضيفت العدة إلى المرأة كان المراد أيام أقرائها؛ لأنها كمية تُعَدُّ وتحصى.

والعدة شرعًا: تربص المرأة المحدود شرعًا عن التزويج بعد فراق زوجها.

والعدة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

ومن السنة أحاديث الباب.

وقد أجمعت الأمة على إيجاب العدة في الجملة على المرأة التي فارقها زوجها، وإن كانوا يختلفون في بعض أفراد من تجب عليه.

والحكمة من مشروعيتها:

1 -

تعرُّف براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب.

2 -

إمهال الزوج مدة يتمكن فيها من مراجعة مطلقته بعد أن يتروى في أمرها.

3 -

تعظيم شأن عقد الزواج، وأنه ليس كالعقود التي تنتهي آثارها بمجرد فسخها

(2)

.

(1)

زيادة من طبعة الفقي وطبعة طارق بن عوض الله.

(2)

انظر: "الفرقة بين الزوجين" ص (187)، "آثار عقد الزواج" ص (270).

ص: 54

وهذا رأي الجمهور، ويرى آخرون، ومنهم ابن حزم أن العدة من الأمور التعبدية التي يعمل بها، ولا تلتمس لها حكمة؛ لأنها لو كانت لاستبراء الرحم لاكتفي فيها بحيضة.

وقد رد هذا ابن القيم، وبين أن العِدَدَ ليست من العبادات المحضة، بل فيها من المصالح من رعاية حق الزوجين والولد والنكاح، ما هو واضح لمن تأمله

(1)

.

والإحداد لغة: المنع، ومنه سمي البواب حدادًا لمنعه الداخل، والمرأة حاد؛ لأن الإحداد يمنعها من كثير مما كان مباحًا قبله، قال في "القاموس":(الحاد والمحد: تاركة الزينة للعدة)

(2)

.

وشرعًا: أن تجتنب المرأة المتوفى عنها أثناء العدة كل ما يدعو إلى نكاحها من الطيب والكحل وثياب الزينة والخروج من منزلها لغير حاجة.

والحكمة منه:

1 -

التعبد لله تعالى بامتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

2 -

إظهار حق الزوج على زوجته، والتأسف على ما فاتها من حق العشرة، وإدامة الصحبة إلى وقت الموت.

3 -

فوات نعمة النكاح بموت العائل الذي كان يصونها ويحفظها ويرعى مصالحها.

4 -

سَدُّ ذريعة تطلع المرأة للرجال أو تطلعهم إليها

(3)

.

والاستبراء لغة: طلب البراءة. وشرعًا: تربصٌ يقصد منه العلم ببراءة الرحم. والغالب أنه في الإماء؛ لتقديره بأقل ما يدل على البراءة من غير تكرار ولا عدة، بخلاف الحرة، فلا بد من التكرار

(4)

.

(1)

"المحلى"(10/ 256)، "زاد المعاد"(5/ 665).

(2)

(1/ 601).

(3)

انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 146 - 148)، "فتح الباري"(4/ 338)، (9/ 477).

(4)

انظر: "المطلع" ص (349)، "فقه الدليل"(4/ 510).

ص: 55

‌عدة الحامل المتوفى عنها

1110/ 1 - عَنِ الْمِسْوَر بن مَخْرَمَةَ رضي الله عنه أَنَّ سُبَيعَةَ الأَسْلَمِيّةَ رضي الله عنها نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتِ النبي صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَن تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنكَحَتْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَين.

وَفي لَفْظٍ: أنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بأَرْبَعِينَ لَيلَةً.

وَفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، قَال الزُّهْرِيُّ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَزَوَّجَ وَهيَ في دَمِهَا، غير أنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الطلاق" باب " {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} "(5320) من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية نفست

والحديث أصله عند البخاري (5318)، ومسلم (1485) من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها، فتوفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال

(1)

: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"انكحي" هذا لفظ البخاري.

وروى البخاري أيضًا (4909) عنها رضي الله عنها أنها قالت: قتل زوج سبيعة

(1)

راجع "فتح الباري"(9/ 472).

ص: 56

الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة

الحديث.

وروى -أيضًا- البخاري (5318)، ومسلم (1484) من طريق ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه أنه كتب إلى ابن الأرقم يسأل سبيعة الأسلمية كيف أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أفتاني إذا وضعت أن أنكح.

هذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه، وفيه: قال ابن شهاب: فلا أرى بأسًا أن تتزوج

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن سُبيعة) بضم السين وفتح الباء الموحدة، تصغير سَبُعَةَ، وهي اللبوة؛ أي: أنثى الأسد

(1)

، وهي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، لها صحبة ورواية، وذكرها ابن سعد في المهاجرات، قال ابن عبد البر:(روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا)

(2)

.

قوله: (نُفِست) بضم النون وكسر الفاء على المشهور؛ أي: ولدت، وفي لغة: بفتحهما، قاله النووي، وقال الهروي: إذا حاضت فالفتح لا غيره

(3)

.

قوله: (بعد وفاة زوجها) هو سعد بن خولة، لرواية مسلم:(كانت تحت سعد بن خولة)، مات في حجة الوداع، وقال الطبري: إنه مات سنة سبع، قال العيني عن الأول:(وهو الصحيح)

(4)

.

وقد تقدم في حديث أم سلمة: (قتل زوج سبيعة)، قال الحافظ:(كذا هنا، وفي غير هذه الرواية أنه مات، وهو المشهور)

(5)

، وقال في موضع آخر:

(1)

"الإعلام" لابن الملقن (8/ 378).

(2)

"الاستيعاب"(12/ 36)، "الإصابة"(11/ 296).

(3)

"الغريبين"(6/ 1871)، "مشارق الأنوار"(2/ 21)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 364).

(4)

"الإصابة"(4/ 139)، "عمدة القارئ"(17/ 91).

(5)

"فتح الباري"(8/ 654).

ص: 57

(إن كانت محفوظة ترجحت؛ لأنها لا تنافي مات أو توفي، وإن لم يكن في نفس الأمر قتل فهي رواية شاذة)

(1)

.

قوله: (بليال) هكذا أبهمت المدة، ولعل ذلك لتعدد الروايات

(2)

، وتعذر الجمع لاتحاد القصة، ولا يترتب على ذكرها فائدة؛ لأن المقصود أن تضع قبل أربعة أشهر وعشر.

قوله: (فاستأذنته) المراد به الاستفتاء، بدليل الرواية الأخرى:(فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي).

قوله: (قال الزهري) هو محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، الفقيه المدني، نزيل الشام، مشهور بالإمامة والجلالة، كان ثقة حافظًا، وصفه الشافعي والدارقطني وغير واحد بالتدليس، وهو أحد كبار صغار التابعين؛ لأنه رأى ولقي عددًا قليلًا من الصحابة لا يزيدون عن عشرة، وأهمهم أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد روى عنه الزهري ما يقرب من خمسين حديثًا. ولد سنة خمسين على أحد أقوال ثلاثة، ومات سنة مائة وثلاث أو أربع وعشرين، استشهد به مسلم في أحاديث قليلة، ومنها حديث الباب

(3)

.

قوله: (في دمها) أي: دم نفاسها.

قوله: (غير أنَّه) هذا ضمير الشأن؛ أي: إن الحال والشأن أن زوجها لا يقربها.

قوله: (لا يقربها) أي: لا يجامعها، أما العقد عليها فجائز، وكذا الدخول.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها؛ لأنها لم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن وضعت، فدل على أنها قبل الوضع في عدة.

(1)

"فتح الباري"(9/ 472).

(2)

انظر: "الإعلام"(8/ 382).

(3)

"تهذيب التهذيب"(9/ 395).

ص: 58

الوجه الرابع: الحديث دليل على أن عدة الحامل المتوفى عنها وضع الحمل ولو لم يمض عليها أربعة أشهر وعشر، لقوله:(بليال)، وفي رواية:(بأربعين ليلة)، وللحديث روايات أخرى، وكلها تفيد أنها وضعت قبل تمامها أربعة أشهر وعشرًا.

* الوجه الخامس: عموم الحديث يشمل وَضْعَ ما فيه خلق إنسان ولو لم يكن تامًّا، وأما ما لا يتحقق فيه ذلك فلا تخرج بوضعه من العدة؛ لأن العدة لازمة بيقين، فلا تنقضي بمشكوك فيه، ويرى ابن دقيق العيد أنها لا تخرج إلا بالحمل التام المتخلق؛ لأن هذا هو الغالب، ووضع العلقة والمضغة نادر، ولا ينبغي حمل الحكم على النادر

(1)

، لكن للمخالف أن يقول: إذا كان المقصود هو العلم ببراءة الرحم حصل ذلك بوضع ما تبين فيه خلق إنسان ولو لم يكن تامًّا.

* الوجه السادس: الحديث دليل على أنه يباح لمن وضعت أن تتزوج ويعقد عليها ولو لم تطهر من نفاسها؛ لقولها: (حين وضعت حملي)، ولما قاله الزهري، وقد نسبه الحافظ إلى الجمهور، وقال:(وهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4])

(2)

.

* الوجه السابع: أخذ جمهور العلماء بهذا الحديث مع عموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقالوا: عدة الحامل المتوفى عنها وضع الحمل

(3)

، واعتبروا هذه الآية مخصصة لآية البقرة:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] لأنها عامة تتناول المتوفى عنها الحامل وغير الحامل، وهذا التخصيص دل عليه حديث سبيعة هذا، وعليه فتكون آية البقرة خاصة بالمتوفى

(1)

انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم"(10/ 363)، "إحكام الأحكام"(4/ 247).

(2)

"فتح الباري"(9/ 475).

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(28/ 144)، "زاد المعاد"(5/ 594).

ص: 59

عنها غير الحامل، وتكون آية سورة الطلاق في الحامل، سواء أكانت متوفى عنها أم غيرها، وبهذا الجمع يزول التعارض الظاهر بين عموم آية البقرة وخصوص آية سورة الطلاق، ويؤيد ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه:(أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون عليها الرخصة؟ نزلت سورة النساء القُصرى بعد الطولى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ})

(1)

، يعني بذلك أن السورة القصرى وهي سورة الطلاق مخصصة لآية البقرة؛ لأنها أخرجت منها بعض أفرادها.

على أنه قد نوزع في عموم آية البقرة؛ لأن قوله تعالى: {أَزْوَاجًا} جمع منكر، والجمع المنكر في سياق الإثبات لا يفيد العموم على رأي جماعة من الأصوليين

(2)

.

ويرى آخرون أن المتوفى عنها الحامل تعتد أطول الأجلين بالأشهر أو بوضع الحمل، فإن كان حملها أكثر من أربعة أشهر اعتدت به، وإن وضعت قبل هذه المدة اعتدت بالأشهر، ولعل سبب الخلاف تعارض عموم آية البقرة مع آية سورة الطلاق، فإن كل واحدة من الآيتين عام من وجه وخاص من وجه، ولعل هذا التعارض هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين، وذلك ليحصل العمل بكلتا الآيتين، والخروجُ من العهدة بيقين، بخلاف ما إذا عمل بإحداهما.

قال القرطبي: (الجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، وهذا النظر حسن، لولا ما يُعَكِّر عليه من حديث سبيعة .. )، وقال ابن كثير:(هذا مأخذ جيد، ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة .. )

(3)

.

وهذ القول روي عن علي رضي الله عنه، فقد أخرج سعيد بن منصور عن مسلم بن صبيح، قال: كان عليٌّ يقول آخر الأجلين

(4)

.

(1)

رواه البخاري (4532)، (4910).

(2)

انظر: "أضواء البيان"(1/ 280).

(3)

"تفسير القرطبي"(3/ 175)، "تفسير ابن كثير"(1/ 419).

(4)

"سنن سعيد بن منصور"(1/ 352).

ص: 60

وبه قال ابن عباس كما ثبت في "الصحيحين"

(1)

، لكن الظاهر رجوعه عنه، فإن أصحابه: عطاء وعكرمة وجابر بن زيد قالوا كقول الجماعة

(2)

.

والقول الأول هو الراجح، فإن حديث سبيعة نص في الحكم، مبين أن الحامل المتوفى عنها غير داخلة في عموم آية البقرة، أضف إلى ذلك أن المقصود الأصلي من العدة براءة الرحم ولا سيما ممن تحيض، وهذا يحصل بالوضع، فأي فائدة في الأشهر عند من يقول: تعتد أطول الأجلين؟! ثم إن ما جاء في قصة سبيعة هو آخر الأمر، فإنه بعد حجة الوداع؛ لما تقدم من أن وفاة زوجها كان في هذه الحجة. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(8/ 653)، "شرح صحيح مسلم" للنووي (10/ 363).

(2)

انظر: "التمهيد"(20/ 33 - 34).

ص: 61

‌عدة الأمة إذا عَتَقَتْ واختارت نفسها

1111/ 2 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: أُمِرَتْ بَريرَةُ أَن تَعْتَدَّ بثَلَاثِ حِيَض. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لكِنَّهُ مَعلُولٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب "الطلاق"، باب "خيار الأمة إذا أُعتقت" قال (2077): قال: حدثنا علي بن محمَّد، ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:

فذكرته.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة، قال عنه البوصيري:(هذا إسناد صحيح، ورجاله موثقون)

(1)

، وقال الحافظ ابن حجر:(الحديث على شرط الشيخين، بل هو في أعلى درجات الصحة)

(2)

.

وقد أُعل هذا الحديث، كما ذكر الحافظ، ومن قبله ابن عبد الهادي

(3)

، وذلك لتفرد شيخ ابن ماجه علي بن محمَّد الطنافسي به عن وكيع، وهو وإن كان ثقة فقد روى قصة بريرة عن وكيع جماعة من الثقات -كما عند البخاري وغيره- ولم يذكروا هذه اللفظة، ورواه عبد الرحمن بن مهدي -وهو إمام جبل- عن الثوري -كما عند الترمذي- ولم يذكر هذه اللفظة، وكذا من تابع منصورًا كالحَكَمِ والأعمش لم يذكروها، هذا من جهة الإسناد، أما من جهة المتن فإن مذهب عائشة رضي الله عنها أن الأقراء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ

(1)

"مصباح الزجاجة"(2/ 138).

(2)

"فتح الباري"(9/ 405).

(3)

"المحرر"(2/ 692).

ص: 62

بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] هي الأطهار، كما سيأتي، وليست الحِيَضَ، فلو كان عندها علم من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لما قالت الأقراء هي الحِيَضُ. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المختلعة أن تستبرئ بحيضة كما تقدم في "الخلع" ومن عتقت فهي أولى؛ لأن الحِيَضَ الثلاث إنما جعلت في حق المطلقة؛ ليطول زمن الرجعة، واختيار العتيقة نفسها ليس طلاقًا، فكان القياس أن تعتد بحيضة، وقد نصَّ شيخ الإِسلام ابن تيمية على أن الحديث معلول، وتبعه تلميذه ابن القيم فقال:(إنه يبعد أن تكون الثلاثُ حِيَضٍ محفوظة)

(1)

، وقد روى ابن أبي شيبة (5/ 181) عن حفص بن غياث، عن هشام، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بريرة أن تعتد عدة الحرة. ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(2/ 247)، والبيهقي (7/ 451) عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بسند ضعيف.

* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن الأمة إذا عتقت تحت العبد فاختارت نفسها أنها تعتد عدة الحرة ثلاث حيض؛ لأنها بانت من زوجها وهي حرة، وهذا قول الجمهور، واختاره ابن حزم

(2)

.

والقول الثاني: أنها تعتد بحيضة، وهو اختيار ابن تيمية، ونصره ابن القيم، ولعل هذا مبني على أن اختيارها نفسها بعد عتقها فسخ، وليس بطلاق؛ لأنها فرقة من قبل الزوجة، فكانت فسخًا، قال ابن تيمية: (والقرآن ليس فيه إيجاب العدة ثلاثة قروء إلا على المطلقات، لا على من فارقها زوجها بغير طلاق

)

(3)

.

وقال ابن القيم: (المعتقة إذا فُسخت فهي بالمختلعة والأمة المستبرأة أشبه، إذ المقصود براءة رحمها، فالاستدلال على تعدد الأقراء في حقها بالآية غير صحيح؛ لأنها ليست مطلقة، ولو كانت مطلقة لثبتت لزوجها عليها الرجعة)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(32/ 111)، "تهذيب مختصر السنن"(3/ 147).

(2)

"المحلى"(10/ 256).

(3)

"الفتاوى"(32/ 340).

(4)

"تهذيب مختصر السنن"(3/ 147).

ص: 63

‌حكم المطلقة البائن من حيث النفقة والسكنى

1112/ 3 - عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بنْتِ قَيسٍ رضي الله عنها عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (في الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا): "لَيسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام مع عليه وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الهمداني الكوفي، نسبة إلى شَعْب -بفتح الشين، بطن من همدان- تابعي جليل القدر، فقيه كبير، يضرب المثل بحفظه، روى عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى البخاري في "تاريخه" أنه قال:(أدركت خمس مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

، استقضاه عمر بن عبد العزيزء رحمه الله، وأثنى عليه سلف هذه الأمة، قال ابن عيينة:(علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه)، ولد سنة تسع عشرة، ومات في الكوفة فجأة سنة ثلاث ومائة رحمه الله

(2)

.

أما فاطمة بنت قيس فقد سبقت ترجمتها في باب "الكفاءة والخيار" من كتاب "النكاح" عند الحديث (1006).

* الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب، "المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها"(1480)(44) من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، عن فاطمة رضي الله عنها.

والحديث له طرق أخرى، وألفاظ متعددة مختصرًا ومطولًا، لكن اختلفت الروايات في ذكر السكنى، ففي الرواية التي ذكرها مسلم أولًا (لا نفقة لكِ)

(1)

"التاريخ الأوسط"(3/ 105).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(4/ 294).

ص: 64

وليس فيها نفي السكنى، وفي الروايات الأخرى (لا نفقة لكِ ولا سكنى).

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن المطلقة البائن، وهي التي طلقها زوجها آخر الثلاث ليس لها نفقة ولا سكنى زمن العدة، وهذا قول علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم، ومن التابعين عطاء وطاوس والحسن، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال ابن حزم وإسحاق وأبو ثور وغيرهم

(1)

، ورجحه ابن عبد البر

(2)

، وهو قول ابن تيمية، ونصره ابن القيم

(3)

، ورجحه الشوكاني

(4)

.

والقول الثاني: أن لها النفقة والسكنى، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وسفيان الثوري رحمه الله، وهو مذهب الحنفية

(5)

، واستدلوا بقوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، فالنهي عن إخراجهن يدل على وجوب السكنى مع النفقة، ويؤيده قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] فهذا أمر بالسكنى، وأما النفقة فلأنها محبوسة بسبب الزوج من أجل العدة، فتكون نفقتها عليه

(6)

.

وقد قال عمر رضي الله عنه: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ}

(7)

. قالوا: فهذا عمر رضي الله عنه يخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة؛ لأنه قال: (سنة نبينا) وهذا له حكم الرفع، ويدل على أنة حفظ شيئًا من السنة يخالف قول فاطمة.

والقول الثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وهذا قول المالكية والشافعية، ورواية عن أحمد، ونسبه الباجي ومن بعده الحافظ ابن حجر إلى

(1)

"المحلى"(282/ 10)، " تفسير القرطبي"(18/ 162)، "المغني"(11/ 402 - 403).

(2)

"التمهيد"(19/ 151).

(3)

"زاد المعاد"(5/ 522 - 542).

(4)

"نيل الأوطار"(6/ 340).

(5)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (5/ 348)، "بدائع الصنائع"(3/ 209).

(6)

"المغني"(11/ 403).

(7)

رواه مسلم (1480)(46) من طريق أبي أحمد الزبيري، حدثنا عمار بن رُزيق، عن أبي إسحاق، قال: كنت مع الأسود بن يزيد .. الحديث.

ص: 65

الجمهور

(1)

، واختاره ابن المنذر

(2)

، واستدلوا على وجوب السكنى بقوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيثُ سَكَنْتُمْ} قالوا: فأمر الله بإسكانها في البيت حفظًا للنسب وتحصينًا لماء الزوج، واستدلوا على عدم وجوب النفقة بقوله:"لا نفقة لكِ" وهو ما جاء في أقوى الروايات، وبقوله:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ} [الطلاق: 6] فمفهوم الآية أنهن إن لم يكن أولات حمل لا ينفق عليهن، إذ لو كانت البائن لا نفقة لها مطلقًا لم تُخَصَّ الحامل بالذكر، فدل على أن غيرها لا نفقة لها، ويؤيد ذلك ما ورد في إحدى روايات أبي في اود بإسناد مسلم: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ""لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملًا"

(3)

.

وقد أجاب من لم يستدل بحديث فاطمة وهم الحنفية ومن وافقهم عنه بعدة أجوبة، أهمها:

1 -

أن حديثها معارض للقرآن، حيث دل حديثها على أن البائن لا نفقة لها ولا سكنى، والقرآن دل على أن لها ذلك، كما تقدم.

2 -

أن حديثها معارض لرواية عمر رضي الله عنه.

3 -

أنه قول امرأة، وهي عرضة للخطأ والنسيان.

وبهذا يتبين أن سبب الخلاف في هذه المسألة اختلاف ألفاظ الحديث، والخلاف في تأويل قوله تعالى:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}

(4)

وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6].

أما ما استدل به أصحاب القول الثاني من قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ

} فليس هو في البائن، وإنما هو في المطلقة الرجعية، بدلالة السياق وهو قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] والأمر الذي يرجى إحداثه هو المراجعة في العدة، وهذا غير وارد في البائن، ويؤيد ذلك رواية النسائي: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليه

(1)

"المدونة"(2/ 108)، "المنتقى"(4/ 101)، "التحقيق"(9/ 218)، "المفهم"(4/ 268)، "نهاية المحتاج"(6/ 267)، "فتح الباري"(9/ 480)، "الإنصاف"(9/ 361).

(2)

"الإشراف"(5/ 345).

(3)

"السنن"(2290).

(4)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 178)، "المفهم"(4/ 267).

ص: 66

الرجعة"

(1)

، وأما قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ} فالظاهر أن الاستدلال به مستقيم؛ لأن هذا نص عام في كل مطلقة، والضمير فيه يرجع إلى ما قبله، وليس هو مختصًّا بالرجعية؛ لأن الرجعية لا يقال في حقها: أسكنها حيث سكنت، بل يقال: لا تُخرجها من بيتها، كما في أول الآيات

(2)

.

وأما قول عمر: (وسنة نبينا) فإن هذا وإن رواه مسلم في "صحيحه" فقد طعن فيه الأئمة، ففي مسائل الإمام أحمد لأبي داود:(قلت لأحمد: تذهب إلى حديث فاطمة بنت قيس طلقها زوجها؟ قال: نعم، فذكر له قول عمر رضي الله عنه: إلا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا) فقال: كتابُ ربنا أيُّ شيء هو؟ قال الرجل: {أَسْكِنُوهُنَّ} ، قال: هذا لمن يملك الرجعة، قلت: يصح هذا عن عمر قال: لا)

(3)

.

وقال الدارقطني: "وليست هذه اللفظة التي ذكرت فيه محفوظة، وهي قوله: (وسنة نبينا)؛ لأن جماعة من الثقات رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، أن عمر قال: لا نجيز في ديننا قول امرأة، ولم يقولوا فيه: وسنة نبينا، وكذلك رواه يحيى بن آدم وهو أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عمر لم يقل فيه: وسنة نبينا، وهو الصواب"

(4)

.

وأما اعتراضاتهم على حديث فاطمة فقد أجاب عنها القائلون به بما يلي:

1 -

قولهم: إن حديثها مخالف للقرآن، عنه جوابان:

الأول: بالمنع؛ لأن الآية المذكورة خاصة بالرجعية، كما تقدم، وقد حكاه الطبري في "تفسيره" عن جماعة من السلف

(5)

.

الثاني: سلمنا أن الآية عامة في البائن والرجعية، فيكون الحديث مخصصًا لعمومها، وتخصيص القرآن بالسنة وارد، فالعمل بحديث فاطمة ليس

(1)

"السنن"(6/ 144)، وانظر:"فتح الباري"(9/ 480).

(2)

انظر: "الفرقة بين الزوجين" ص (211)، "الشرح الممتع"(13/ 469).

(3)

"المسائل" ص (184).

(4)

"العلل"(2/ 41)، "العلل" لابن أبي حاتم (1317)، "فتح الباري"(9/ 481).

(5)

"تفسير الطبري"(28/ 86).

ص: 67

بترك للقرآن كما قال عمر: (لا نترك كتاب ربنا) لأن كتاب ربنا خاص بالرجعية، فهي التي لها النفقة والسكنى.

وأما قولهم: إن حديثها معارض برواية عمر فيجاب عنه بما يلي:

الأول: أن هذا لا يصح عن عمر، كما تقدم.

الثاني: أن عمر رضي الله عنه خالفه جماعة من الصحابة، كعلي وابن عباس ومن وافقهما، والحجة معهم، ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قول المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حجة على عمر وعلى غيره، فهذا القول ليس عليه دليل من القرآن؛ لأنه إن كان المقصود إثبات السكنى فالآية في الرجعية، وهو مخالف لحديث فاطمة الذي هو نص في المسألة.

الجواب الثالث: أن من له إلمام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع ويجزم بأن عمر رضي الله عنه لم يكن عنده سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة، ولو كان عنده شيء من ذلك لبينه ونشره للأمة.

وأما قولهم: إنه قول امرأة وهي عرضة للخطأ والنسيان، فهذا مطعن باطل بإجماع المسلمين؛ لأمور ثلاثة:

1 -

أنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه رد خبرًا لكونه عن امرأة، وكم من سنة تلقتها الأمة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة؟ وقد أخذ العلماء بحديث فريعة بنت مالك -الآتي- في اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها، ولا مقارنة بين فاطمة بنت قيس وفريعة بنت مالك في العلم والثقة والجلالة في الدين.

2 -

أنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه رد الخبر بمجرد تجويز النسيان على ناقله؛ لأن النسيان لا يسلم منه أحد.

3 -

أن فاطمة بنت قيس من المشهورات بالحفظ، فقد سمعت حديث الدجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيخطب به مرة واحدة، فوعته مع أنه حديث طويل، فكيف يُظن بها أن تحفظ مثل هذا، وتنسى أمرأ متعلقًا بها وهو وجوب النفقة والسكنى لها على زوجها

(1)

؟! والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 528)، "مختصر تهذيب السنن"(3/ 190).

ص: 68

‌ما تجتنبه المرأة الحاد

1113/ 4 - عَنْ أُمِّ عَطِيّةَ - رضي الله عنهه - أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسنُ طِيبًا، إلا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" مُتَفَقٌ عَلَيهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِم، وَلأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنَ الزِّيَادَةِ:"وَلَا تَخْتَضِبُ"، وَللنَّسَائيِّ:"وَلَا تَمْتَشِطُ".

1114/ 5 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالتْ: جَعَلْتُ عَلَى عَينى صَبِرًا، بَعْدَ أنْ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُ يَشِبُّ الْوَجْهَ، فَلا تَجْعَلِيهِ إلَّا باللَّيلِ وَانْزَعِيهِ بالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإنَّهُ خِضَابٌ"، قُلتُ: بِأَيِّ شيءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَال: "بِالسِّدْرِ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وَإسْنَادُهُ حسن.

1115/ 6 - وَعَنْهَا رضي الله عنها أن امْرَأة قَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ ابْنَتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتكَتْ عَينُهَا، أفَنكْحُلُهَا؟ قَال:"لَا". مُتفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليها من وجوده:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث أم عطية رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه" وأولها في كتاب "الحيض"، باب "الطيب للمرأة عند غسلها من الحيض"(313)، من طريق أيوب، ومسلم في "الطلاق"(938)(66) من طريق هشام بن حسان، كلاهما عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها، وهذا لفظ مسلم، والحديث له ألفاظ متعددة، وقد رواه البخاري في مواضع من

ص: 69

كتاب "الطلاق"، ومنها باب "القسط للحاد عند الطهر".

ورواه أبو داود (2302) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن هشام، والنسائي (6/ 204) من طريق عاصم، كلاهما عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، وفيه:(ولا تختضب).

ورواه النسائي (6/ 203) من طريق خالد بن الحارث، عن هشام بزيادة "ولا تمتشط". والظاهر أن ذكر الاختضاب وكذا الامتشاط غير محفوظ، فإن الحديث رواه عن هشام بن حسان أكثر من عشرة أنفس ولم يذكروا ذلك، ويؤيد هذا رواية أيوب عن حفصة عند مسلم، وليس فيها شيء من ذلك، ولكن ورد بعض الموقوفات عن الصحابة رضي الله عنهم

(1)

.

أما حديث أم سلمة رضي الله عنها الأول فقد رواه أبو داود (2305)، والنسائي (6/ 204 - 205) من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت المغيرة بن الضحاك يقول: أخبرتني أم حكيم بنت أسيد، عن أمها، أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل الجَلَاءَ، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة، فسألتها عن كحل الجلاء، فقالت: لا تكتحل إلا من أمر لا بد منه، دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صَبِرًا

الحديث.

وهذا سند ضعيف، وفي متنه نكارة.

أما ضعف سنده فكما يلي:

1 -

أن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، وإنما كانت عنده كتب أبيه، ولم يسمعها منه. وقد تقدم هذا عند الحديث (464).

2 -

المغيرة بن الضحاك مجهول، ولم يوثقه إلا ابن حبان، فقد ذكره في "الثقات"

(2)

.

3 -

أم حكيم بنت أُسيد مجهولة، وكذا أمها.

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(7/ 44 - 45)، "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 204 - 205)، "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 439).

(2)

(7/ 463).

ص: 70

وأما نكارة متنه فإنه مخالف للحديث الصحيح الذي بعده، فإنه يدل على منع الحاد من استعمال الكحل مطلقًا.

والحافظ قد حسن هذا الحديث هنا، وضعفه في "التلخيص"

(1)

؛ وهو الأظهر؛ لما تقدم.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها الثاني فقد رواه البخاري في كتاب "الطلاق"، باب "تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا"(5336)، ومسلم (1488) من طريق حميد بن نافع، عن زينب ابنة أبي سلمة قالت: سمعت أم سلمة

وذكرت الحديث وفي آخره: مرتين أو ثلاثًا في كل ذلك يقول: لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (لا تُحد) بضم حرف المضارعة، وكسر الحاء المهملة، ماضيه أَحَدَّ، ويجوز فتح حرف المضارعة وكسر الحاء أو ضمها، يقال: أَحَدَّتِ المرأة على زوجها وحَدَّت: إذا حزنت عليه وتركت الزينة، وهي حاد -بغير هاء- على الأرجح؛ لأنه وصف للمؤنث كحائض، ويجوز حادة -بالهاء- وقد استعمله البخاري في تراجم بعض الأبواب، كما تقدم، ويقال: امرأة مُحِدّ، بضم الميم اسم فاعل من الرباعي.

وقد تقدم تعريف الإحداد بأنه اجتناب الزنية والخروج من المنزل لغير حاجة.

قوله: (امرأة) نكرة في سياق النفي أو النهي، فتفيد العموم في كل امرأة صغيرة أم كبيرة، مكلفة أم غير مكلفة، مدخولًا بها أم غير مدخولٍ بها.

قوله: (فوق ثلاث) أي: ثلاث ليال بأيامها، وفوق: ظرف زمان؛ لأنه أضيف إلى زمان.

قوله: (إلا على زوج) إيجاب للنفي، والجار والمجرور متعلق بالفعل (تحد) فالاستثناء مفرغ.

(1)

(3/ 267).

ص: 71

قوله: (أربعةَ أشهرٍ) بالنصب مفعول لمقدر؛ أي: تحد.

قوله: (وعشرًا) معطوف على ما قبله، والمراد عشر ليال مع أيامها؛ ولذا لم يؤنث العدد، ولو أريد به الأيام لقيل: عشرة، قال تعالى:{قَال آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَويًّا} [مريم: 10] مع قوله تعالى: {قَال آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} [آل عمران: 41].

قوله: (إلا ثوب عصب) بفتح العين وإسكان الصاد، مصدر بمعنى اسم المفعول، والعصب في اللغة: الفتل والطي وشدة الجمع واللي، قال ابن الأثير:(هي برود يمانية يعصب غزلها؛ أي: يجمع ويشد، ثم يصبغ وينشر، فيبقى موشى، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذ الصبغ)

(1)

.

وإضافة ثوب إلى ما بعده من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: ثوب معصوب.

قوله: (إلا إذا طهرت) بضم الهاء وفتحها، أي: من الحيض، فيرخص لها في استعمال هذا الطيب؛ لإزالة الرائحة الكريهة لا لقصد الطيب.

قوله: (نُبْذَةً) بضم النون وسكون الباء؛ أي: قطعة، وتطلق على الشيء اليسير، وهي مفعول لفعل محذوف؛ أي: أخذت نبذة.

قوله: (من قُسْطٍ) بضم القاف وإسكان السين المهملة، عقار معروف من عقاقير الأدوية طيب الريح، تستعمله الحائض بعد غسلها لإزالة الرائحة، وليس هو من الطيب

(2)

.

قوله: (أو أظفار) هذه رواية مسلم بـ (أو)، وهي للتخيير، وفي رواية للبخاري ومسلم:(من قسط وأظفار) بالواو العاطفة، وهي أوجه لأنهما نوعان، وعند البخاري في "الحيض" و"الطلاق":(من كست أظفار)

(3)

بالكاف، والإضافة نسبة إلى أظفار مدينة بسواحل اليمن.

(1)

"النهاية"(3/ 245).

(2)

"النهاية"(4/ 60).

(3)

"صحيح البخاري"(5341).

ص: 72

والأظفار: نوع من العطر الأسود مغلف من أصله على هيئة ظفر الإنسان، يوضع في البخور

(1)

، والكست بالكاف هو القُسط.

قوله: (ولا تختضب) الخضاب: صبغ الشعر أو الأعضاء بالحناء.

قوله: (ولا تمتشط) المشط: ترجيل الشعر، ويطلق على خضاب شعر الرأس، ولعله المراد هنا.

قوله: (صبرًا) بفتح الصاد المهملة وكسر الباء، ويجوز إسكانها، وقد تكسر الصاد، عصارة شجر الصبر، يجعل على أطراف العين للتداوي، ولو جعل في داخل العينين لذهب بنورهما.

قوله: (بعد أن توفي أبو سلمة) وهو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، مشهور بكنيته، من السابقين إلى الإسلام، وكان أخًا للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، مات سنة أربع من الهجرة رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره في سادس أحاديث كتاب "الجنائز".

قوله: (يَشِبُّ الوجه) بفتح حرف المضارعة بعده شين معجمة مكسورة أو مضمومة من باب ضرب ونصر؛ أي: يلون الوجه ويحسنه.

قوله: (بالسدر) بكسر السين المهملة وسكون الدال: شجرة النبق، واحدته سدرة، له أوراق صغيرة تطحن، ثم يوضع بالماء ويُغسل به.

قوله: (وقد اشتكت عينها) بالرفع على أنها فاعل، وتكون العين هي المشتكية، واقتصر عليه النووي

(2)

، ورجحه ابن حجر

(3)

، وبالنصب على أنها مفعول، والفاعل ضمير مستتر يعود على البنت.

قوله: (أفنكحلها) بضم الحاء مضارع كحل، من باب نصر، وبفتحها من باب فتح.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز الإحداد على القريب الميت كالأب والأخ والابن والعم، وأن مدة ذلك ثلاثة أيام فما دون، تفريجًا

(1)

"النهاية"(3/ 158).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(5341).

(3)

"فتح الباري"(9/ 488).

ص: 73

عن النفس، ومراعاة للطبيعة البشرية، فإن مات في بقية يوم أو بقية ليلة ألغيت تلك البقية، وعَدَّتْ ذلك من الليلة المستقبلة

(1)

.

وهذا الإحداد ليس بواجب، للاتفاق على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحالة

(2)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم الإحداد على الميت فوق ثلاث غير زوجها، لا فرق في ذلك بين الأب وغيره؛ لأن الحديث سيق مساق الحصر.

وقد روى البخاري بسنده عن محمد بن سيرين، قال: توفي ابن لأم عطية رضي الله عنها فلما كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت به، وقالت: نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا بزوج

(3)

.

أما ما ورد في "المراسيل" لأبي داود عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام، وعلى سواه ثلاثة أيام

(4)

، فالجواب عنه من وجهين:

الأول: أنه ضعيف لا تقوم به حجة؛ لأنه مرسل أو معضل، فإن عمرو بن شعيب لم يكن من الصحابة ولا من التابعين، وعلى تسليم أنه من التابعين فهو من صغارهم، فلا يقف في معارضة الأحاديث الصحيحة، ولو سلمت صحته فهو شاذ؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة.

الثاني: على فرض صحته فهو مخصص لعموم النهي في حديث أم عطية، فتكون السبعة خاصة بالأب

(5)

.

* الوجه الخامس: ذهب الجمهور من أهل العلم قديمًا وحديثًا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وجوب الإحداد على المرأة المتوفى عنها

(1)

"تفسير القرطبي"(3/ 180).

(2)

"فتح الباري"(3/ 146)، "شرح الزرقاني"(3/ 232).

(3)

"صحيح البخاري"(1279). وانظر: "فتح الباري"(3/ 146) فقد ذكر أن الباء سببية.

(4)

"المراسيل" رقم (399)، وانظر:"تحفة الأشراف"(13/ 316).

(5)

"فتح الباري"(9/ 486).

ص: 74

زوجها، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري والشعبي، وهذه المخالفة لا تقدح في الاحتجاج وإن كان فيها رد على من ادعى الإجماع، والظاهر أنه لم يبلغهما الحديث، ولعلهما استدلا بحديث أسماء الآتي. على أن بعض العلماء قد ضعف ما نسب إلى الحسن، قال العيني:(لا يصح هذا عن الحسن، قاله ابن العربي)

(1)

.

وقد استدل بعض العلماء على وجوب الإحداد من القرآن بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ووجه الدلالة: أن الله تعالى نفى الجناح عن المتوفى عنها زوجها إذا انقضت عدتها في فعل المعروف من الزينة والطيب، والتعرض للخطاب على ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، فدل على أن الجناح لازم لها قبل ذلك، وإلا فما الفائدة من قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قال ابن سعدي: (في هذه الآية وجوب الإحداد مد العدة)

(2)

.

* الوجه السادس: أن مدة الإحداد هي مدة العدة أربعة أشهر وعشر، تبدأ من حين موت زوجها، سواء أعلمت بذلك حين الوفاة أم لم تعلم إلا بعد ذلك، ولو فرض أنها انقضت العدة قبل علمها فلا عدة عليها ولا إحداد. قال ابن عبد البر:(أجمعوا على أن كل معتدة من طلاق أو وفاة تحسب عدتها من ساعة طلاقها أو وفاة زوجها)

(3)

.

وقد ورد في حديث أسماء بت عميس رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال:"لا تحدي بعد يوفك هذا"

(4)

، وظاهره أن الإحداد لا يجب على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث،

(1)

"عمدة القاري"(8/ 67).

(2)

"تفسير ابن سعدي" ص (104).

(3)

"التمهيد"(15/ 99).

(4)

رواه أحمد (45/ 20) وغيره من طريق محمد بن طلحة، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء رضي الله عنها.

ص: 75

لكن أعلَّه الأئمة الحفاظ كالدارقطني والبيهقي بالإرسال

(1)

، ثم إنه شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة في وجوب الإحداد كحديث أم عطية رضي الله عنها، وقد حكم عليه بالمخالفة الإمام أحمد وإسحاق

(2)

، ويرى أبو حاتم أن الحديث ليس عن أسماء، وقد غلط محمد بن طلحة فيه، ونقل عن آخرين أن هذا قبل أن ينزل العِدَدُ

(3)

. وذكر الحافظ ابن حجر عنه عدة أجوبة كلها تكلف

(4)

، قال البيهقي:(الأحاديث قبله أثبت، والمصير إليها أولى، وبالله التوفيق)

(5)

.

* الوجه السابع: مدة عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر كما هو نص القرآن، وهذا الحديث، والجمهور من أهل العلم على أن المتوفى عنها لا تخرج من العدة إلا بدخول الليلة الحادية عشرة بناءً على أن المراد بقوله:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} عشرُ ليالٍ بأيامها، فيكون اليوم العاشر من العدة وليلته قبله تبع له.

وقد التمس العلماء عللًا لتذكير العدد في قوله: {وَعَشْرًا} فقالوا: لتغليب الليالي؛ لأن الليلة تبع لليوم؛ ولأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال؛ ولأن التذكير أخف في اللفظ من التأنيث

(6)

.

* الوجه الثامن: أن الإحداد خاص بالنساء دون الرجال، لقوله:"لا تحد امرأة"، وأما الإحداد في العصر الحاضر الذي وقع فيه بعض المسلمين من تنكيس الأعلام، وتغيير برامج الإعلام بما ينالسب المقام، وتعطيل الأعمال لوفاة زعيم من الزعماء في مدة معينة، فليس من الإسلام في شيء، فإن الحداد خاص بالمرأة، كما دل عليه الحديث، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء وأشرف الخلق ولم يُحِدَّ عليه الصحابة رضي الله عنهم، ثم مات أبو بكر رضي الله عنه،

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (15/ 303 - 304)، "السنن الكبرى"(7/ 438).

(2)

انظر: "مسائل الكوسج"(9/ 4730).

(3)

"العلل"(1318).

(4)

"فتح الباري"(9/ 487).

(5)

"السنن الكبرى"(7/ 438).

(6)

"المحرر الوجيز"(2/ 216)، "تفسير القرطبي"(3/ 186)، "الفتوحات الإلهية"(1/ 190).

ص: 76

ثم قتل عمر وعثمان رضي الله عنهما فلم يحد الصحابة على واحد منهم، وهكذا التابعون وأئمة الإسلام، ولم يحد عليهم المسلمون، فيكون هذا العمل المذكور من البدع والتشبه بأعداء الإسلام مع ما فيه من الأضرار الكثيرة وتعطيل المصالح، والإحداد حكم شرعي لا بد له من دليل، ولا دليل عليه، فهو مردود على فاعله، ومن أمر به أو أشار بفعله فهو مبتدع آثم.

* الوجه التاسع: الحديث دليل على أن الإحداد خاص بالمتوفى عنها زوجها، لقوله:"إلا على زوج"، فهو إيجاب بعد النفي، فيقتضي حصر الإحداد في المتوفى عنها، أما المطلقة الرجعية فلا إحداد عليها بالإجماع؛ لأنها في حكم الزوجات يندب لها أن تتزين ليرغب فيها زوجها.

أما البائن فمذهب الجمهور

(1)

أنه لا إحداد عليها، لقوله:"على ميت" أي: على زوج ميت؛ ولأن الغرض من الإحداد إظهار الأسف على فراق زوجها وموته، وهذا لا يوجد في الطلاق البائن.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في رواية، والشافعي في القديم، وبعض المالكية إلى وجوب الإحداد عليها

(2)

، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء، قالوا: فهذا عام في كل معتدة، كما قاسوا البائن على المتوفى عنها بجامع أن كلًّا منهما فرقتها بينونة.

والصواب القول الأول، لقوة دليله، فإن الإحداد إنما يجب على الموتى ومن أجلهم، كما هو صريح الأدلة، والمبتوتة أشبه بالرجعية من المتوفى عنها.

وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فهو ضعيف، لا تقوم به حجة، ولا يعرف في كتب السنة

(3)

، وأما القياس فهو فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة نص خاص بالمتوفى عنها، فلا تلحق به البائن.

(1)

"المنتقى" للباجي (4/ 145)، "مغني المحتاج"(3/ 398)، "المغني"(11/ 299).

(2)

المصادر السابقة، "المبسوط"(6/ 58).

(3)

انظر: "الدراية"(2/ 79).

ص: 77

* الوجه العاشر: دلت أحاديث الباب وبعض الآثار الموقوفة على أن المرأة الحاد تجتنب ما يلي:

1 -

ثياب الزينة، وهي الثياب التي جرت عادة النساء بلبسها للزينة والمناسبات من أي لون كان، وقد دلَّ عليها الحديث بقوله:"لا تلبس ثوبًا مصبوغًا"، أما الثوب المصبوغ الذي لا يراد به التجمل فلا بأس به، وقد ذكر الفقهاء في ثياب الزينة ما كان موجودًا في زمانهم أو قبل زمانهم، أما في عصرنا هذا فقد لا يوجد شيء مما ذكروه، وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم نص على المصبوغ؛ لأنه مما يتجمل به غالبًا، لكن القاعدة في ذلك أن كل ثوب زينة فالمرأة ممنوعة منه، وما عداه من ثياب نظيفة ليست للزينة فلا تمنع منها ولو كانت ملونة.

2 -

الكحل، وذلك لأنه من الزينة، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الكحل إذا كان للزينة فالحاد ممنوعة منه، وإنما وقع الخلاف في حكم الاكتحال للضرورة والعلاج، وسبب الخلاف تعارض الأدلة، وفي المسألة قولان:

الأول: للجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو أنه يجوز الاكتحال للتداوي

(1)

، قالوا: فتكتحل بالليل وتمسحه بالنهار، واستدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو نص صريح في ذلك، وحملوا أحاديث المنع كحديث أم سلمة الثاني على كحلها إذا لم تحتج إليه، أو إذا لم تخف على عينها

(2)

.

والقول الثاني: أنه لا يجوز للحاد أن تكتحل مطلقًا، سواء خافت على عينها أو لم تخف، وهذا قول ابن حزم، ورواية عند المالكية

(3)

، وحجتهم

(1)

"شرح فتح القدير"(4/ 339)، "حاشية العدوي"(2/ 112)، "التمهيد"(17/ 315)، "المهذب"(2/ 191)، "دقائق أولي النهى"(5/ 609).

(2)

"التمهيد"(17/ 319)، "فتح الباري"(9/ 448).

(3)

"المحلى"(10/ 276)، "حاشية العدوي"(2/ 112).

ص: 78

الأحاديث القاضية بالمنع مطلقًا، قال النووي عن حديث أم عطية وأم سلمة:(فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا)

(1)

.

والقول بالمنع مطلقًا قوي ولا سيما في زماننا هذا، فقد وجد من الأدوية ما تعالج به العين دون الكحل، وأما الكحل للزينة فهم متفقون على المنع كما تقدم.

فإن لم يوجد عندها دواء غير الكحل واضطرت إليه فالقول بالجواز قوي، لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى المباح، كما في الأصول، هذا أمر، والأمر الثاني أن المضطر إلى شيء لا يحكم له بحكم المترفه المتزين، وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء، وإنما نهيت الحاد عن الزينة لا عن التداوي

(2)

.

وللعلماء أجوبة عن حديث أم سلمة في النهي عن الكحل، ولعل أحسنها أن يقال: إن المنع الوارد في حقها محمول على أنه يمكن لها البرء بغير الكحل كالتضميد بالصبر ونحوه

(3)

.

3 -

ومما تُنهى عنه الحاد: الطيب في ثيابها أو بدنها بجميع أنواعه، سواء أكان دهنًا أم بخورًا أم غيرهما؛ لأنه يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة، واستثنى في الحديث بعض الأنواع لقطع رائحة الحيض بعد غسلها من الحيض، وهذه غير مستعملة في زماننا؛ لأنه ظهر من المنظفات وقطع الرائحة ما يغني عنها.

ولا حرج على المعتدة في الاستحمام وغسل بدنها وشعرها بالصابون وغيره، وقد أفتى بذلك الشيخان: ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله؛ لأن الذي في الصابون والشامبو ليس طيبًا بل نكهة

(4)

.

وتنهى الحاد عن شرب القهوة التي فيها زعفران؛ لأنه طيب، وفي

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(9/ 368).

(2)

"التمهيد"(17/ 319).

(3)

"فتح الباري"(9/ 488).

(4)

انظر: "فتاوى ابن باز"(22/ 187)، "الشرح الممتع"(13/ 404).

ص: 79

الحديث: "ولا تمس طيبًا"، ومَسُّ كل شيء بحسبه

(1)

.

4 -

الاختضاب: وهو الصبغ بالحناء، فهذا منهية عنه؛ لأنه من الزينة، ويدخل فيه ما ظهر في هذا الزمان من التشقير والتمييش وسائر الأصباغ التي تستعمل للزينة بجميع أنواعها وأسمائها.

5 -

الامتشاط، وهذا وما قبله ذكره الفقهاء، وقد تقدم الكلام على ذلك سندًا.

6 -

الحلي، وهذا قد ورد في حديث أم سلمة عند أبي داود، وأحمد

(2)

، والحلي من الزينة سواء كان من الذهب أو الفضة أو غيرهما، والجمهور من أهل العلم على المنع منه.

هذه هي الأشياء التي يجب على الحاد أن تجتنبها، ويضاف إليها النهي عن خروجها من المنزل كما سيأتي.

ويجوز للمعتدة أن تكلم من جرت عادتها بتكليمه قبل ذلك، ولها استعمال الهاتف، أو إجابة من يطرق الباب، ونحو ذلك مما لم يرد في الشرع النهي عنه.

ولها أن تنظف ثيابها وتلبس ما شاءت من الثياب غير ثياب الزينة، ولها أن تخرج إلى فناء منزلها وحديقة بيتها، وأن تصعد إلى السطح، وأن ترى القمر، والمنع من ذلك أمر محدث لا أصل له. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "أحكام الإحداد" للمصلح ص (101)

(2)

رواه أبو داود (2304)، وأحمد (44/ 205)، وهو حديث صحيح، وقد ضعفه ابن حزم (10/ 227) ورَدَّ هذا ابن القيم في "زاد المعاد"(5/ 708 - 709).

ص: 80

‌جواز خروج المعتدة البائن لحاجتها

1116/ 7 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: طُلِّقَتْ خَالتِي، فَأرَادَتْ أنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا. فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أنْ تَخْرُجَ، فَأَتَت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"بَلَى، جُدِّي نَخْلَكِ، فإِنَّكِ عَسَى أنْ تَصَّدَّقي أوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب "خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها"(1483) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنها يقول:

وذكر الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (طُلقت خالتي) رواية أبي داود، والنسائي

(1)

: (طُلقت خالتي ثلاثًا) أي: ثلاث تطليقات أو ثلاث مرات.

قوله: (أن تجد) بفتح أوله وضم الجيم بعدها دال مهملة؛ أي: تقطع ثمر نخلها.

قوله: (فإنك عسى أن تصدقي) بحذف إحدى التائين، والأصل: أن تتصدقي، والجملة ظاهرها أنها تعليل للخروج، لكن قال القرطبي: إن هذا ليس تعليلًا لإباحة خروجها بالاتفاق، وإنما خرج هذا مخرج التنبيه لها

(1)

"سنن أبي داود"(2297)، "سنن النسائي"(6/ 209).

ص: 81

والحض على فعل الخير، والله أعلم

(1)

.

قوله: (أو تفعلي خيرًا) أو للتنويع، بأن يراد بالتصدق الفرض، وبالخير: التطوع والهدية والإحسان إلى الجار.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المعتدة من طلاق بائن لها أن تخرج من منزلها لحاجتها نهارًا، وقد بوب النووي على هذا الحديث بقوله كما تقدم:(باب خروج المعتدة البائن في النهار لحاجتها)، وكذا بوب أبو داود في "سننه"، والقول بجواز خروجها هو قول مالك والشافعي وأحمد والليث

(2)

.

قال الخطابي: (وجه استدلال أبي داود منه في أن للمعتدة من الطلاق أن تخرج بالنهار: هو أن النخل لا يُجد عادة إلا نهارًا، وقد نُهِيَ عن جداد الليل، ونخل الأنصار قريب من دورهم، فهي إذا خرجت بكرة للجداد رجعت إلى بيتها للمبيت

)

(3)

.

وذهب أبو حنيفة إلى أن المعتدة البائن لا تخرج ليلًا ولا نهارًا قياسًا على الرجعية

(4)

.

والصواب الأول، وهو أن لها الخروج، بل إنها تعتد حيث شاءت، والحديث لم يقيد خروجها بشيء، والمطلق يبقى على إطلاقه حتى يثبت تقييده.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب الصدقة من التمر عند جداده، وقد ورد في حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين بن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد بالليل والحصاد بالليل. قال جعفر بن محمد: أُراه من أجل المساكين

(5)

. ففي الحديث ما يدل على استحباب

(1)

"المفهم"(4/ 289).

(2)

"المنتقى"(4/ 145)، "المغني"(11/ 299)، "مغني المحتاج"(3/ 398).

(3)

"معالم السنن"(3/ 289).

(4)

"المبسوط"(6/ 58).

(5)

أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه"(3/ 965 - 966)، والبيهقي (4/ 133)، والخطيب في " تاريخه"(12/ 372)، وجاء في بعض أسانيده، ذكر علي رضي الله عنه، والصواب إرساله.

انظر: "العلل" للدارقطني (3/ 104).

ص: 82

الصدقة على الفقراء والمساكين، وقيل: لأجل الهوام لئلا تصيب الناس

(1)

.

* الوجه الخامس: استحباب التعريض لصاحب النخل أو الزرع بفعل الخير والتذكير بالمعروف والبر؛ لأن بعض الناس قد يغفل عن ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

"فيض القدير"(6/ 404).

ص: 83

‌مُكْثُ المتوفى عنها في بيتها حتى تنقضي العدة

1117/ 8 - عَنْ فُرَيعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ في طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ. قَالتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْجِعَ إِلى أَهْلِي؛ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ، وَلَا نَفَقَةً، فَقَال:"نَعَمْ" فَلَمَّا كُنْتُ في الحُجْرَةِ، نَاداني، فَقَال:"امْكُثي في بَيتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ" قالتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذلكَ عُثْمَانُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ والأَرْبَعَةُ، وصحَّحَهُ التِّرْمِذِي وَالذُّهْلِيُّ وابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ وَغَيرُهُمْ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي فريعة -بضم الفاء وفتح الراء- بنت مالك بن سنان الخُدْرية، أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، وسماها بعض الرواة عند النسائي: الفارعة، وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أُبي ابن سلول، قال ابن حبان:(لها صحبة)، وقال ابن عبد البر:(شهدت بيعة الرضوان)

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (45/ 28)، وأبو داود في كتاب "الطلاق"، باب "في المتوفى عنها تنتقل"(230)، والترمذي (1254)، والنسائي (6/ 199)، وابن ماجه (2031)، وابن حبان (4293)، والحاكم (2/ 208) كلهم من طريق سعد

(2)

بن

(1)

"الثقات"(3/ 337)، "الاستيعاب"(13/ 133)، "الإصابة"(13/ 89).

(2)

بعضهم يقول: سعيد بن إسحاق، والأكثرون: سعد، وهو الأشهر. ["التمهيد" (21/ 27)].

ص: 84

إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن فريعة بنت مالك أن زوجها

الحديث.

وهذا الحديث قد رواه الزهري، واختلف عليه فيه، ولما ذكر الدارقطني هذا الاختلاف في "العلل" (15/ 413) قال:(والصحيح قول من قال: عن سعد بن إسحاق، عن عمته زينب، عن الفريعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم).

والحديث صححه قوم وضعفه آخرون. فممن صحح الحديث الترمذي، فقال:(حديث حسن صحيح)، ومحمد بن يحيى الذهلي (ت 258)، فقد نقل عنه الحاكم أنه قال:(هذا حديث صحيح محفوظ)، وصححه ابن حبان، والحاكم، وقد يفهم تصحيحه عن الإمام مالك، فقد أدخله في "موطئه"(2/ 591) وبنى عليه مذهبه، وصححه ابن عبد البر، فقال:(هذا حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق)

(1)

. وممن صححه ابن القطان -كما سيأتي-.

وممن ضعف الحديث ابن حزم، فقال:(إن زينب مجهولة لا تعرف ولا روى عنها أحد غير سعد بن إسحاق، وهو غير مشهور بالعدالة)

(2)

. وتبعه على هذا عبد الحق في "الأحكام الوسطى"

(3)

.

والجواب أنه لا يلتفت لما قاله ابن حزم، وقد صحح الحديث جمع من أئمة الحديث، كما تقدم، ومنهم أئمة كبار حفاظ، وأما:

1 -

قوله: (إن زينب مجهولة) فهي مجهولة عنده، وإلا فهي من التابعيات، وهي امرأة أبي سعيد الخدري

(4)

، ذكرها ابن حبان في "الثقات"

(5)

، والذي غرَّ ابن حزم قول علي بن المديني: إنها لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق، مع أنه ورد في "المسند"

(6)

أن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة روى عنها، فهذه امرأة تابعية تحت صحابي، وروى عنها الثقات، ولم

(1)

"التمهيد"(21/ 31).

(2)

"المحلى"(10/ 302).

(3)

(3/ 226 - 227).

(4)

انظر: "المسند"(18/ 337).

(5)

(4/ 271).

(6)

(18/ 337).

ص: 85

يُطعن فيها بحرف، واحتج بها مالك، وصحح الأئمة حديثها، ومن كانت هذه حالها فحري أن تقبل.

2 -

وأما قوله: (إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة) فقد وثقه يحيى بن معين، وقال النسائي والدارقطني:(ثقة)، وقال أبو حاتم:(صالح)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ومن يروي عنه سفيان الثوري وحماد بن زيد ومالك ويحيى بن سعيد والزهري -وهو أكبر منه-، وغير هؤلاء، كيف يكون غير مشهور

(1)

؟!

قال ابن عبد البر: (سعد بن إسحاق ثقة لا يختلف في ثقته وعدالته)

(2)

، ولما نقل ابن عبد الهادي تصحيح الحديث عن العلماء الذين تقدم ذكرهم قال:(إن ابن حزم تكلم فيه بلا حجة)

(3)

.

وقد تعقب ابن القطان عبد الحق في متابعته لابن حزم في إعلال الحديث فقال: (وعندي أنه ليس كما ذهب إليه، بل الحديث صحيح، فإن سعد بن إسحاق ثقة،

وزينب كذلك ثقة

)

(4)

.

وقد ضعف الألباني الحديث

(5)

وأعله بجهالة حال زينب، لكنه صححه في مواضع أخرى

(6)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أعبد له) بفتح فسكون فضم، جمع عبد، وفي رواية (أبقوا) أي: هربوا.

قوله: (أن أرجع) في تأويل مصدر؛ أي: سألته عن الرجوع.

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 680)، "تهذيب التهذيب"(3/ 404).

(2)

"التمهيد"(21/ 26).

(3)

"المحرر"(2/ 694).

(4)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 394 - 395).

(5)

"الإرواء"(7/ 506).

(6)

"صحيح سنن أبي داود"(2/ 436 - 437)، و"صحيح سنن ابن ماجه"(5/ 341)، و"الإرواء""التحقيق الثاني (3121)، وكذا "صحيح النسائي" ص (748).

ص: 86

قوله: (فقال: نعم) أي: فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانتقال إلى دار إخوتي وأهلي في بني خُدْرة، كما في بعض الروايات

(1)

.

قوله: (في الحجرة) أي: حجرة بعض نسائه، وفي رواية أبي داود وغيره:(فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له).

قوله: (امكثي) أي: انتظري واثبتي، وعند النسائي:"اعتدي حيث بلغك الخبر" والظاهر أن هذا اللفظ شاذ، فإن أكثر الرواة لم يذكروه والقصة واحدة، ثم إنه لا يمكن حمله على العموم، فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها

(2)

.

قوله: (حتى يبلغ الكتاب أجله) أي: يصل، والكتاب؛ أي: المكتوب، والمراد به: العدة؛ لأنها مفروضة من الله تعالى.

وأجله: مدته وغايته، وإذن النبي صلى الله عليه وسلم لها بالتحول، ثم منعه إياها بعد ذلك قد يكون اجتهادًا منه صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لما تأمل مسألتها رأى أن عذرها غير كاف في الانتقال، فأرجعها إلى الأصل، أو أنه أُوحي إليه عدم الإذن لها

(3)

.

قوله: (فقضى به بعد ذلك عثمان) هذا فيه اختصار، ففي سنن أبي داود وغيره:(فلما كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتَّبعه وقضى به).

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها، ولا تخرج عنه إلى غيره، والمراد به: المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه.

* الوجه الخامس: اختلف العلماء أين تقضي المتوفى عنها زمان العدة على قولين:

(1)

"التمهيد"(21/ 29 - 30).

(2)

"المغني"(21/ 291)، "أحكام الإحداد" ص (131).

(3)

"أحكام الإحداد" ص (129).

ص: 87

الأول: أنها تعتد في البيت الذي كانت تسكنه قبل وفاة زوجها، سواء أكان الزوج ساكنًا أم لا، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان وروي عن ابن عمر رضي الله عنهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة

(1)

، وجماعة من فقهاء الأمصار، ودليلهم حديث الباب.

والقول الثاني: أنها تعتد حيث شاءت، وهذا مروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وقد أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" ما ورد عنهم بأسانيد صحيحة

(2)

، وقال به من التابعين: طاوس وعطاء والحسن، كما في "المصنف" -أيضًا- وهو قول داود وأصحابه، وحكاه البغوي عن أبي حنيفة، واختاره المزني من الشافعية

(3)

، وهو قول ابن حزم

(4)

.

واستدلوا بأن السكنى إنما ورد في القرآن للمطلقات، وأما المتوفى عنها فإن الله تعالى أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشرًا دون التعرض لذكر مكان معين، فدل على عدم اشتراطه، وقد روى عبد الرزاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(إنما قال الله تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث شاءت)

(5)

، وروى البخاري بسنده عن ابن عباس قال:(نسخت هذه الآية عدتها في أهلها، فتعتد حيث شاءت، لقول الله: {غَيرَ إِخْرَاجٍ})

(6)

.

ومعنى ذلك: أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] دل على أن المعتدة تعتد عند أهلها وتتربص في بيت زوجها حولًا كاملًا، لقوله:{غَيرَ إِخْرَاجٍ} ثم نُسخت هذه الآية بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فتعتد حيث شاءت؛ لأنه لما نسخ الحول بأربعة أشهر وعشر نسخت السكنى؛ لأن السكنى تبع للعدة.

(1)

"التمهيد"(21/ 31)، "شرح فتح القدير"(4/ 343)، "المغني"(11/ 290).

(2)

"المصنف"(7/ 29 - 30).

(3)

"شرح السنة"(9/ 303).

(4)

"المحلى"(10/ 282).

(5)

"المصنف"(7/ 29).

(6)

"صحيح البخاري"(4531)، وانظر:"فتح الباري"(8/ 194).

ص: 88

والقول بالنسخ هو رأي الأكثرين، كما قال ابن كثير

(1)

، يرون أن آية:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} منسوخة بآية: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وهذا الموضع وقع فيه الناسخ مقدمًا في التلاوة على المنسوخ

(2)

.

قالوا: وحديث الباب ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم، وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة ثابتة أو إجماع

(3)

.

والراجح هو الأول، لقوة دليله، فإنه نص في الموضوع، ولم يأت من خالفه بما ينهض لمعارضته فالتمسك به متعين

(4)

.

أما ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو قول صحابي، ومن شرط حجيته عند القائلين به ألا يخالف نصًّا ولا قول صحابي آخر، فإن خالف نصًّا أخذ بالنص، وهو حديث فريعة، وإن خالف قول صحابي آخر أُخذ بالراجح، وقد خالف ابنَ عباس عمرُ وعثمانُ رضي الله عن الجميع، والحديث معهما، قال ابن عبد البر في الرد على من طعن في الحديث:(أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة؛ لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة، وبالله التوفيق)

(5)

. وقال ابن القيم: (وقد تلقى الحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار)

(6)

.

أما القول بان قوله تعالى: {غَيرَ إِخْرَاجٍ} منسوخ، فهذا فيه نظر لأمرين:

الأول: وجود الخلاف في الناسخ، كما حكى ابن كثير عن ابن عباس أن الناسخ الآية المذكورة، وبه قال جماعة من السلف، ويروى عن قتادة أن الناسخ آية الميراث، وعن سعيد: الناسخ آية الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

(1)

"تفسير ابن كثير"(1/ 437).

(2)

"الإيضاح" لمكي ص (154).

(3)

"التمهيد"(21/ 31).

(4)

"نيل الأوطار"(6/ 337).

(5)

"التمهيد"(21/ 31).

(6)

"زاد المعاد"(5/ 687).

ص: 89

نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].

الثاني: أن الجمع بين الآيتين ممكن، فيقدم على النسخ، فإن آية:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} لم تدل على وجوب الاعتداد سنة حتى يقال بالنسخ بالأربعة أشهر وعشر، وإنما دلت على أن ذلك من باب الوصاية بالزوجات أن يمكَنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن حولًا كاملًا إن اخترن ذلك، أما إذا انقضت العدة ورغبن الخروج فلا بأس؛ لأن تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ليست واجبة، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وممن اختار هذا ابن جرير، وابن تيمية

(1)

، وابن كثير. وعلى هذا فتكون الآية الأولى دالة على أن الأربعة أشهر والعشر واجبة، وما زاد على ذلك فهي مستحبة، ينبغي فعلها تكميلًا لحق الزوج ومراعاة للزوجية، والدليل على استحبابها أن الله تعالى نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول، ولو كان لزوم المسكن واجبًا لم ينف الحرج عنهم

(2)

.

* الوجه السادس: استدل بحديث فريعة من قال بوجوب السكنى للحاد، وأنها أحق بسكنى دار زوجها من ورثته، وهذا قول المالكية

(3)

والشافعية في قول

(4)

، ورواية للحنابلة في الحامل فقط

(5)

.

قالوا: حتى لو بيعت الدار لزم الورثة استثناء سكناها إلى انقضاء العدة.

ووجه استدلالهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بالسكنى في بيت زوجها من غير استئذان الورثة، ولو لم تجب السكنى لم يكن أن تسكن إلا بإذنهم، كما أنه ليس لها أن تتصرف في شيء من مال زوجها بغير إذنهم.

والقول الثاني: أنه لا يجب للحاد السكنى مطلقًا، حاملًا أو غير حامل،

(1)

"تفسير الطبري"(5/ 259)، "تفسير ابن كثير"(1/ 439)، "تفسير السعدي"(1/ 194).

(2)

"نيل الأوطار"(6/ 337)، "تفسير ابن سعدي" ص (106).

(3)

"بلغة السالك"(2/ 80).

(4)

"نهاية المحتاج"(7/ 154).

(5)

"المغني"(11/ 293).

ص: 90

وهذا مذهب الحنفية

(1)

، والشافعية في أحد القولين، وهو مذهب الحنابلة إذا كانت حائلًا.

واستدلوا بأن الله تعالى قسم تركة الميت بين الورثة على قدر حقوقهم، ولم يجعل فيها شيئًا زائدًا ولا موقوفًا، فلا يجب على الورثة إسكان زوجة مورثهم.

وهذا القول هو الراجح، لقوة دليله، والأدلة تدل على أن الواجب على المتوفى عنها فعل السكنى لا أن يُبذل لها السكنى، والإضافة في قوله:"امكثي في بيتك" إضافة سكنى لا إضافة ملك.

وحديث فريعة دل على عدم الخروج، لا على لزوم السكنى للزوج؛ لأن الفُريعة قد صرحت بأنه ليس البيت للزوج، وعلى هذا فسياق الحديث بَيِّنٌ في أنه لا يجب على الزوج شيء، ولكنها هي مكلفة بعدم الخروج.

* الوجه السابع: استدل بعض العلماء بحديث فريعة على جواز الخروج المؤقت للمرأة الحاد، وهو خروجها نهارًا من منزلها إذا احتاجت إلى ذلك.

ووجه الاستدلال: أن فريعة خرجت من منزلها، وجاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسأله عن جواز انتقالها، ولم ينكر عليها خروجها

(2)

.

وقد قسم الفقهاء خروج الحاد إلى قسمين:

1 -

خروج جائز: وهو ما كان لحاجة أو ضرورة، فالحاجة أن تخرج لشراء حوائجها، أو تكون مدرسة أو طالبة فتخرج لذلك. والضرورة كأن تخاف سقوط البيت، أو تخاف عدوًا، أو تكون في دار غير حصينة فتخشى أن يقتحم عليها، أو تكون في بيت انتهت مدة أجرته، أو طلبه صاحبه لبيعه أو سكناه، فلها أن تنتقل حيث شاءت، أو تخرج للعلاج أو مراجعةٍ مرتبةٍ للمستشفى ونحو ذلك.

2 -

خروج ممنوع: وهو ما ليس لحاجة ولا ضرورة، مثل خروجها للنزهة أو لحضور عُرس أو لأجل العمرة.

(1)

"شرح فتح القدير"(4/ 344).

(2)

"بدائع الصنائع"(3/ 205).

ص: 91

* الوجه الثامن: حكى بعض أهل العلم الإجماع على أن المتوفى عنها ليس لها نفقة أيام العدة إن كانت حائلًا، وإن كانت حاملًا فكذلك على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأن النفقة إن كانت للحمل فنفقة الأقارب تسقط بالموت، وإن كانت لها لكانت لها وهي حائل

(1)

.

* الوجه التاسع: استدل العلماء بهذا الحديث على جواز قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأن عثمان رضي الله عنه سأل فريعة عن هذا الحكم، وعمل به في جماعة من الصحابة من غير نكير

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الإحداد" ص (134).

(2)

"التمهيد"(31/ 21).

ص: 92

‌جواز انتقال المعتدة البائن للضرورة

1118/ 9 - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيسٍ رضي الله عنها قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ زَوْجِي طَلَّقَني ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، فَأمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه مسلم في كتاب "الطلاق"، باب "خروج المعتدة البائن

" (1482) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس، وهذا الحديث هو إحدى روايات حديثها المتقدم.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن يقتحم علي) بضم أوله مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: يَهْجِمَ ويدخل عليَّ بعض الأجانب الأشرار، فيفضي ذلك إلى شر وفتنة.

قوله: (فتحولت) أي: انتقلت من بيت زوجها إلى بيت ابن عمها ابن أم مكتوم لما في بعض روايات مسلم: "انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم، فاعتدي عنده"

(1)

، وفي رواية:"اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك"

(2)

، وعلى هذا فتحولها إنما كان لخوفها.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المطلقة البائن لها أن تخرج من منزلها الذي طلقت فيه إذا خافت على نفسها وتتحول إلى منزل آخر مأمون، وهذا يدل على أنها لا تنتقل إلا للضرورة.

(1)

"صحيح مسلم"(1480)(45).

(2)

"صحيح مسلم"(1480)(36).

ص: 93

فإن قيل: إن هذا الحديث قد يشكل على ما تقدم من أن البائن لا نفقة لها ولا سكنى.

والجواب: أنه على الرواية التي قدمها الإمام مسلم بلفظ (لا نفقة لكِ) مع الأخذ بظاهر القرآن لا يبقى إشكال؛ لأن مُؤَدَّى هذا أن لها السكنى، لكن لما كان بيتها غير مأمون استأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم أن تتحول فأذن لها.

وأما على رواية (لا نفقة لك ولا سكنى) فينشأ الإشكال. فإما أن يحمل نفي السكنى على ما ظنته فاطمة بنت قيس، وهو أن حرمانها من السكنى مع أحمائها حرمان لها من أي حق في السكنى، فذهبت تقول ما روي عنها، وسبب حرمانها ما وقع منها من فحش القول على أهل مُطَلِّقِهَا -إن ثبت ذلك- أو يحمل نفي السكنى على أن زوجها لا يلزمه أن يسكنها في بيت غير البيت الأول الذي تحولت عنه، ولهذا اعتدت عند ابن مكتوم كما في رواية مسلم، والعلم عند الله تعالى

(1)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز قبول قول المرأة في كون المنزل مأمونًا أو غير مأمون. وأنها لا تُكلف إقامة البينة على ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الفرقة بين الزوجين" ص (217)، "الشرح الممتع"(13/ 468).

ص: 94

‌ما جاء في عدة أم الولد

1119/ 10 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَال: لَا تُلْبِسُوا عَلَينَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنيُّ بالانْقِطَاعِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي رضي الله عنه كان من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، وكان من أهل الدهاء والسياسة، أسلم عام الحديبية حيث قَدِمَ هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا جميعًا، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على غزوة ذات السلاسل وراء وادي القرى، كما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى سُواعَ صنمٍ لهذيل فهدمه، وعمل لعمر وعثمان ومعاوية، وهو الذي فتح مصر في عهد عمر رضي الله عنه، مات سنة ثلاث وأربعين، وله تسعون سنة رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، بابٌ "في عدة أم الولد"(2308)، وابن ماجه (2083)، والدارقطني (3/ 359)، والحاكم (2/ 258) كلهم من طريق عبد الأعلى، عن سعيد، عن مطر، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص، قال: لا تلبسوا علينا

الحديث.

ورواه أحمد (29/ 338) من طريق قتادة، عن رجاء بن حيوة، به.

(1)

"الاستيعاب"(8/ 222)، "الإصابة"(7/ 122).

ص: 95

وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، وكلام الحاكم فيه نظر، فإن مطرأ وهو الوراق استشهد به الشيخان ولم يحتجا به، وقبيصة لم يخرج له البخاري.

ومطر الوراق متكلم فيه، لكن تابعه قتادة عند أحمد، كما تقدم.

والحديث ضعيف، وعلته قول الدارقطني:(قبيصة لم يسمع من عمرو)، ونقل البيهقي عن عبد الله ابن الإمام أحمد أنه قال:(قال أبي: هذا حديث منكر)

(1)

، وضعفه ابن قدامة، ونَقَلَ عن ابن المنذر أنه قال:(ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص)، وقال محمد بن موسى -من كبار أصحاب أحمد- سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص، فقال: لا يصح، وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟!

(2)

.

والحديث له علة ثالثة وهي الاضطراب، فقد روي كما تقدم، وروي (عدة أم الولد عدة الحرة) كما سيأتي، وروي:(عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، فإذا عتقت فعدتها ثلاث حيض)

(3)

، وقد لا تكون هذه علة إذا تمَّ الترجيح بين الروايات.

وقد روي موقوفًا من طريق ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، قال: سئل عمرو بن العاص عن عدة أم الولد، فقال:(لا تلبسوا علينا ديننا، إن تكن أمة فإن عدتها عدة حرة)، ورواه سليمان بن موسى، عن رجاء، عن قبيصة، عن عمرو موقوفًا

(4)

، قال الدارقطني:(ورفعه قتادة ومطر الوراق، والموقوف أصح)

(5)

، ومعنى أنه موقوف أنه قال: لا تلبسوا علينا ديننا، ولم يقل: سنة نبينا

(6)

.

(1)

"السنن الكبرى"(7/ 448).

(2)

انظر: "المغني"(11/ 263 - 264).

(3)

"البدر التمام"(4/ 195).

(4)

"سنن الدارقطني"(3/ 309).

(5)

المصدر السابق.

(6)

"البدر التمام"(4/ 195).

ص: 96

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن عدة أم الولد -وهي الأمة التي وطئها السيد فأتت بولد، ثم مات عنها- فعدتها أربعة أشهر وعشر، وهذا قول سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والأوزاعي، وجماعة، وهو رواية عن الإمام أحمد.

والقول الثاني: أن عدتها حيضة، وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول ابن عمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول مالك، والشافعي، وآخرين

(1)

، ورجحه الصنعاني

(2)

.

واستدلوا بأن أم الولد المتوفى عنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك بحيضة تشبيهأ لها بالأمة يموت عنها سيدها.

وفي المسألة أقوال أخرى لا داعي لذكرها، قال ابن رشد:(سبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة وبين الحرة، وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة، وهو مذهب أبي حنيفة)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار"(18/ 188).

(2)

"سبل السلام"(6/ 301).

(3)

"بداية المجتهد"(3/ 182).

ص: 97

‌تفسير المراد بالأقراء

1120/ 11 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: إِنَّمَا الأقرَاءُ الأَطْهَارُ. أَخْرَجَهُ مَالِكٌ في قِصَّةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه مالك في "الموطأ" في كتاب "الطلاق"، باب "ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض"(2/ 576) عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها انتقلت

(1)

حفصةَ بنتَ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة

(2)

، قال ابن شهاب: فَذُكِرَ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن

(3)

، فقالت: صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس، فقالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فقالت عائشة: صدقتم، تدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار.

وهذا كما قال الحافظ: سند صحيح.

* الوجه الثاني: لا خلاف أن لفظ القُرْءِ في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} لفظ مجمل، قال ابن عبد البر:(لم يختلف أهل اللغة والعلم بلسان العرب أن القرء يكون في اللسان العربي حيضة، ويكون طهرًا، ولا اختلف العلماء في ذلك أيضًا، وإنما اختلفوا في المعنى المراد بقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] .. )

(4)

وسبب الخلاف

(1)

أي: نَقَلَتْ، وحفصة ابنة شقيقها عبد الرحمن.

(2)

على اعتبار أن الأقراء هي الأطهار.

(3)

لأنها أحد المكثرين عن عائشة رضي الله عنها.

(4)

"الاستذكار"(18/ 26 - 27)، وانظر:"التمهيد"(15/ 86).

ص: 98

اشتراك القرء بين الطهر والحيض، كما سيتبين إن شاء الله.

قال أهل اللغة: القروء: الأوقات، الواحد: قُرء، وقد يكون حيضًا، وقد يكون طهرًا؛ لأن كل واحد منهما يأتي لوقت، وأقرأتِ المرأة إذا دنا حيضها، وأقرأتِ إذا دنا طهرها

(1)

.

* الوجه الثالث: هذا الأثر من أدلة القائلين بأن المراد بالقرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أنه الطهر، وهو الزمن الذي بين الحيضتين.

وهذا قول المالكية، والشافعية، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، وداود، وأبي ثور، وابن حزم

(2)

، واختاره الشنقيطي

(3)

.

كما استدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ووجه الاستدلال: أن اللام هي لام الوقت؛ أي: فطلقوهن في عدتهن، كما في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: في يوم القيامة. فإذا طلقها في طهر فقد طلقها في عدة، ولو كانت الأقراء هي الحيض لكان قد طلقها قبل العدة.

كما استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم في أول كتاب "الطلاق"- وفيه: "ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض لكان طلقها قبل العدة لا في العدة، وكان ذلك تطويلًا عليها، وهو غير جائز كما لو طلقها في الحيض، قالوا: وهذا تفسير منه صلى الله عليه وسلم للآية المتقدمة، وهذا الدليل -كما يقول الشنقيطي- فصل في محل النزاع؛ إذ لا يوجد دليل يقاومه لا من جهة

(1)

"اللسان"(1/ 130).

(2)

"المحلى"(10/ 258)، "المغني"(11/ 200)، "مغني المحتاج"(3/ 385).

(3)

"أضواء البيان"(1/ 211).

ص: 99

الصحة ولا من جهة الصراحة

(1)

.

كما استدلوا بأن إدخال التاء في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يدل على أن القرء مذكر، وهو الطهر، إذ لو كان للحيض لكان بغير تاء؛ لأن واحدها حيضة.

والقول الثاني: أن القرء هو الحيض، وهذا قول عشرة من الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة

(2)

، وقال به جماعة من التابعين كأصحاب ابن مسعود مثل علقمة والأسود وإبراهيم، وبه قال الشعبي والحسن وقتادة، وأصحاب ابن عباس: سعيد بن جبير وطاوس، وبه قال سعيد بن المسيب، وهو قول الحنفية، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، فإنه رجع إلى هذا القول واستقر مذهبه عليه

(3)

.

واستدل هؤلاء بما يلي:

1 -

قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ووجه الاستدلال: أنه لو حمل القرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين وبعض الثالث؛ لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء عند من يرى أن القرء هو الطهر، أما إذا حمل على الحيض فإن الاعتداد يكون بثلاث حيضات كوامل؛ لأن العدة تبدأ من الحيضة الأولى المستقبلة بعد الطهر الذي طلقها فيه.

2 -

قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى جعل الأشهر بدلًا عن الأقراء عند اليأس من الحيض، والمبدل هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل مقامه، فدل ذلك على أن المبدل هو الحيض، والبدل هي الأشهر.

(1)

"أضواء البيان"(1/ 213).

(2)

ذكر ابن القيم في "زاد المعاد"(5/ 637) أن النقل عن أبي بكر فيه غرابة، أما النقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما فهو ثابت، وسكت عن النقل عن عثمان رضي الله عنه.

(3)

"المغني"(11/ 200).

ص: 100

3 -

أن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض، ولم يأت في موضع واحد استعماله للطهر، فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين، قال النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة:"تدع الصلاة أيام أقرائها"

(1)

.

وقد حصل بين الفريقين نقاش، وكل فريق يريد أن يحتج على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه، وقد أطال ابن القيم وغيره من أهل العلم الكلام في هذه المسألة، وحكى ما بين الفريقين من ردود ومناقشات

(2)

.

والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، فإنه مؤيد بقول عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما الخلفاء الأربعة، وقد نقل الأثرم عن الإمام أحمد أنه قال:(إنه قول الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

وأما الاستدلال بتفسير عائشة رضي الله عنها فقد خالفها من هو أعلم بمراد الله من كتابه وأفهم لمعناه كالخلفاء الأربعة ومن معهم، ولا يكاد يختلف الرجال والنساء في مسألة إلا وكان الصواب في الغالب في جانب الرجال

(4)

. ثم إن المقصود من العدة هو العلم ببراءة الرحم، وبراءته إنما تكون بالحيض لا بالطهر.

والفرق بين القولين أن من قال: إن الأقراء هي الأطهار رأى أن المطلقة الرجعية إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة عليها وحلت للأزواج، ومن قال: إنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة، وزاد آخرون: وتغتسل منها

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أبو داود (297)، وإسناده ضعيف جدًّا، قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 397):(لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 600 - 650).

(3)

"المغني"(11/ 200).

(4)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 636).

(5)

"بداية المجتهد"(3/ 171 - 173).

ص: 101

‌ما جاء في عدة الأمة

1121/ 12 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: طَلَاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيضَتَانِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا، وَضَعَّفَهُ.

1122/ 13 - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَخَالفُوهُ، فَاتَّفقُوا عَلَى ضَعْفِهِ.

* الكلام عليهما من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه الدارقطني في كتاب "الطلاق" و"الخلع" و"الإيلاء" وغيره (4/ 38) من طريق ابن شهاب، عن سالم، عن نافع، أن ابن عمر كان يقول:

فذكره هكذا موقوفًا.

وإسناده صحيح، كما قال الدارقطني، وقال عن وقفه:(إن هذا هو الصواب).

ورواه ابن ماجه (2079)، والدارقطني (4/ 38) من طريق عمر بن شبيب المُسْلِي، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره هكذا مرفوعًا.

وهذا حديث منكر غير ثابت -كما قال الدارقطني- وذلك من وجهين:

الأول: أن عطية العوفي ضعيف، وسالم ونافع أثبت منه وأصح رواية.

الثاني: أن عمر بن شبيب المسلي ضعيف الحديث لا يحتج بروايته

(1)

،

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (13/ 188).

ص: 102

ضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان وآخرون

(1)

.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، بابٌ "في سنة طلاق العبد"(2189)، والترمذي (1182)، وابن ماجه (2080)، والحاكم (2/ 205) من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"طلاق الأمة تطليقتان، وقرؤها حيضتان"، قال أبو عاصم: حدثني مظاهر، حدثني القاسم، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال:"عدتها حيضتان".

وهذا حديث ضعيف اتفق الأئمة على تضعيفه؛ لأن في إسناده مظاهر بن أسلم المخزومي المدني، وقد اتفق الأئمة على تضعيفه

(2)

، قال أبو داود:(هو حديث مجهول)، وقال الترمذي:(حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث)

(3)

.

وروى الدارقطني (4/ 40) بالسند الصحيح عن أبي عاصم النبيل أنه قال: (ليس بالبصرة حديث أنكر من حديث مظاهر هذا)، قال أبو بكر النيسابوري شيخ الدارقطني:(والصحيح عن القاسم خلاف هذا).

وأما قول الحاكم: (مظاهر بن أسلم شيخ أهل البصرة لم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح، فإذن الحديث صحيح) فهو قول لم يوافقه عليه أحد، كما ذكر الحافظ.

* الوجه الثاني: استدل بهذا الأثر من قال: إن الأمة تطلق تطليقتين وتعتد قرءين، سواء أكانت تحت حر أم عبد، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من الصحابة والتابعين

(4)

، وهو مبني على أن الطلاق معتبر بالنساء، قالوا: ولأن المرأة محل الطلاق، فيعتبر بها كالعدة وقياسًا على الحد، فإنه ينصف في حق الأمة، فكذا الطلاق والعدة، وقد روى

(1)

انظر: "تهذيب التهذيب"(7/ 406).

(2)

"تهذيب التهذيب"(10/ 166).

(3)

انظر: "العلل" للدارقطني (15/ 124).

(4)

"زاد المعاد"(5/ 650).

ص: 103

عبد الرزاق بسنده

(1)

، عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال:(يكون عليها نصف العذاب، ولا يكون عليها نصف الرخصة؟!) لكنه ضعيف لانقطاعه، فإن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، ودافع ابن القيم عن انقطاعه ردًّا على ابن حزم

(2)

.

وذكر ابن قدامة أنه قول عمر

(3)

وعلي وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة، فكان إجماعًا.

وقد حكى العلماء خلاف الظاهرية في هذا كداود وابن حزم تبعًا لابن سيرين، وأن طلاق العبد كطلاق الحر، لعموم الأدلة الواردة في الطلاق، وأن عدة الأمة كعدة الحرة؛ لأن الظاهرية لا يأخذون بقول الصحابي في جملة مذهبهم، ورجح هذا الصنعاني

(4)

.

والذي يظهر أن الصواب ما ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أولى من اتباع الظاهرية، وقد نصر هذا القول ابن القيم، وقول الظاهرية قوي لولا ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"المصنَّف"(12879).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 652).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(7/ 222).

(4)

"سبل السلام"(6/ 309).

ص: 104

‌تحريم وطء الحامل من غير الواطئ

1123/ 14 - عَنْ رُوَيفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَحِلُّ لِامرِئٍ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيرِهِ"، أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ الْبَزَّارُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو رويفع -تصغير رافع- بن ثابت بن السكن الأنصاري النجاري المدني رضي الله عنه، قال الذهبي:(له صحبة ورواية)، سكن مصر، وأمَّره معاوية رضي الله عنه على طَرَابُلُسَ سنة ست وأربعين، فغزا أفريقية، وتوفي بِبَرْقَةَ، وهو أمير عليها لمسلمة بن مخلَّد سنة ست وخمسين، حدث عنه بُسْرُ بن عبد الله، وحَنَشُ الصنعاني وغيرهما

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ "في وطء السبايا"(2158) من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت الأنصاري، قال: قام

(2)

فينا خطيبًا، قال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين، قال:"لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره"، يعني: إتيان الحبالى، "ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن

(1)

"السير"(3/ 36)، "الإصابة"(3/ 289)، وانظر:"معجم البلدان"(1/ 388)، (4/ 25).

(2)

فاعل (قام) هو رويفع بن ثابت رضي الله عنه. انظر: "عون المعبود"(6/ 195).

ص: 105

يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنمًا حتى يقسم".

ورواه البزار في "مسنده"(6/ 297) من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الحسن، عن رويفع به.

وابن إسحاق صرح بالتحديث في رواية عند أحمد (28/ 207) فإن ثبت هذا انتفت شبهة تدليسه.

ورواه الترمذي (1131)، وابن حبان (11/ 186) من طريق عبد الله بن وهب، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بسر بن عبيد الله، وعند ابن حبان: عن حَنَشِ بن عبد الله السبائي، كلاهما عن رويفع، بلفظ:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره" هكذا مختصرًا عند الترمذي، وجاء مطولًا عند ابن حبان، ولفظ أبي داود هو لفظ "البلوغ".

وقال الترمذي: (حديث حسن).

والحديث في سنده ربيعة بن سليم، وقد ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 290)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(3/ 477) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"(6/ 301)، وفيه يحيى بن أيوب، إن كان الغافقي فهو صدوق- ربما أخطأ، والظاهر أنه هو

(1)

.

وقد جاء في إسناد الترمذي أنه ربيعة بن سليم، وفي إسناد أبي داود أبو مرزوق، وهو التُّجِيبي، وأبو مرزوق قيل: اسمه: ربيعة بن سليم، وقيل: حبيب بن الشهيد، وهكذا أسماه الحافظ، كما في "الكنى" من "التقريب" وقال:(إنه ثقة)، ولم يذكر القول الأول، ولما ذكر ربيعة بن سليم قال عنه:(مقبول)، فإن كانا شخصًا واحدًا، وإلا فإن ربيعة بن سليم قد تابعه أبو مرزوق، كما عند أبي داود.

(1)

انظر: "تهذيب الكمال"(31/ 233).

ص: 106

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (يؤمن بالله) أي: يصدق به مع قبول شرعه والانقياد له.

قوله: (واليوم الآخر) أي: يوم القيامة وما فيه من الجزاء على الأعمال، والجملة صفة لامرئ، والغرض منها الحث على اجتناب ما ذكر، وبيان أنه من لوازم الإيمان ومقتضياته.

قوله: (أن يسقي ماءه زرع غيره) أي: يطأ امرأة وهي حبلى من غيره، ومعلوم أن الماء الذي يُسقى به الزرع يزيد فيه، ويتكون الزرع منه، فشبه وطء الحامل بساقي الزرع.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم وطء الحامل من غير الواطئ، وأن هذا منافي لكمال الإيمان بالله واليوم الآخر، وذلك لأن هذا الوطء سقي لزرع غيره، وهو ولد غيره، والواجب إمهالها هانظارها حتى تضع ما في بطنها، ثم يعقد عليها.

ولا فرق بين أن يكون هذا الحمل من عقد شرعي أو من شبهة أو من زنا، فليس لأحد أن يطأ ذات حمل حتى تضع، سواء أكان بعقد أو بشراء للأمة أو بسبي أو بغير ذلك.

* الوجه الخامس: استدل بعموم الحديث من قال: بأن المرأة إذا زنت وحملت من الزنا بأنه لا يحل نكاحها حتى تضع، لعموم قوله:"فلا يسقي مماءه زرع غيره"، وهذا قول أحمد ومالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف

(1)

.

والقول الثاني: أنه يحل نكاحها وإن كانت حاملًا؛ لأن حمل الزنا لا حرمة له؛ لأنه وطء لا يلحق به النسب، فلم يُحَرِّم النكاح، فهو كما لو لم تحمل، وهذا قول الشافعي

(2)

.

(1)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 62)، "المغني، (9/ 561)، "بدائع الصنائع" (2/ 269).

(2)

"المهذب"(2/ 55).

ص: 107

والصواب القول الأول، لما تقدم؛ لأن الزانية حامل من غيره، فحرم عليه نكاحها كسائر الحوامل، لأن في ذلك صيانة لنسب الزوج الصحيح عن الاختلاط بماء الزنا، وهذا كله مفرَّع على جواز نكاح الزانية، وقد تقدمت هذه المسألة في باب "اللعان".

* الوجه السادس: أن الإيمان بالله واليوم الآخر يستلزم الخضوع لشرع الله تعالى والوقوف عند حدوده. والله تعالى أعلم.

ص: 108

‌حكم زوجة المفقود

1124/ 15 - عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه (في امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ) تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.

1125/ 16 - وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ "امْرَأَتُهُ حَتى يَأتِيَهَا الْبَيَانُ"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنيُّ بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عمر رضي الله عنه فقد رواه مالك في كتاب "الطلاق"، باب "عدة التي تفقد زوجها"(2/ 575) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل).

ورواه الشافعي في "الأم"(8/ 656) عن مالك به.

وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنه منقطع؛ لأن سعيدًا لم يسمع من عمر رضي الله عنه، وقد تقدم في "النكاح" أن مرويات سعيد عن عمر رضي الله عنه حجة، للعلم بالواسطة، ولتقدم الطبقة، وللاهتمام بأحاديث عمر رضي الله عنه، فيكون الانقطاع الذي هو مظنة الضعف مندفعًا هنا.

ورواه البيهقي (7/ 445) من طريق أبي عمرو الشيباني، عن عمر رضي الله عنه، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 521) من طريق ابن أبي ليلى، عن عمر، وابن أبي ليلى سمع من عمر على الأرجح، وقد صحح الحافظ ثبوته عن عمر رضي الله عنه

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(9/ 431).

ص: 109

وقد روى سعيد بن منصور في "سننه"(1756)، والبيهقي (7/ 445) عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين. وصحح إسناده الحافظ، وقال: إنه ثبت ذلك عن عثمان وابن مسعود في رواية

(1)

.

وروى عبد الرزاق (7/ 85)، وابن أبي شيبة (4/ 237) من طريق معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا في المفقود أن امرأته تتربص أربع سنين .. ورواه مالك (2/ 575) عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مختصرًا عن عمر وحده.

وأما حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقد رواه الدارقطني (3/ 312) من طريق محمد بن الفضل بن جابر، نا صالح بن مالك، نا سوار بن مصعب، نا محمد بن شرحبيل الهمداني، عن المغيرة بن شعبة، به مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف جدًّا، قال أبو حاتم:(هذا حديث منكر)

(2)

. فيه محمد بن شرحبيل، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (هو متروك الحديث، يروي أحاديث بواطيل مناكير)

(3)

.

وسوار بن مصعب قال عنه أحمد والدارقطني والنسائي: (متروك)، وقال البخاري:(منكر الحديث)

(4)

، وصالح بن مالك قال ابن القطان:(لا يعرف).

ومحمد بن الفضل بن جابر قال عنه ابن القطان -أيضًا-: (لا يعرف حاله)

(5)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (في امرأة المفقود) المفقود: من خفي خبره، فلم يعلم أحي هو أم ميت؟؛ لسفر أو أسر ونحوهما.

(1)

"فتح الباري"(9/ 431).

(2)

"العلل"(1298).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 289).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 128، 155)، "الميزان"(2/ 246).

(5)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 127).

ص: 110

قوله: (تربص) هذا تعبير الحافظ، وليس في الحديث، كما تقدم، ومعناه: تنتظر مدة أربع سنين، فلا تتزوج.

قوله: (حتى يأتيها البيان) أي: خبر زوجها أحي هو أم ميت؟ ثم تبني حكمه على ما تبين لها.

* الوجه الثالث: استدل بهذا الأثر عن عمر رضي الله عنه وما ذكر من آثار أخرى عن الصحابة رضي الله عنهم على أن امرأة المفقود تنتظر مدة أربع سنين منذ فقدت زوجها، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تتزوج، وقد حمل الفقهاء هذا على من كان ظاهر غيبته الهلاك، كمن فقد من بين أهله لغير سبب معروف، أو فقد في غرق مركب، ونحو ذلك.

وهذا التقدير هو المشهور من مذهب الإمام أحمد

(1)

.

فإن كان ظاهر غيبته السلامة كالمسافر لتجارة أو طلب علم أر سياحة فهذا يضرب له أجل قدره تسعون سنة منذ ولد قطعًا للشك؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يعيش بعد ذلك.

والقول الثاني: أنه يرجع في تقدير المدة إلى اجتهاد الحاكم أو من يقوم مقامه كالقاضي، ولا يحدد الانتظار بأربع سنين ولا بتسعين ولا بغير ذلك، وهذا هو الصحيح عند الشافعية، وظاهر مذهب الحنفية، وإحدى الروايتين عن أحمد

(2)

، لعدم الدليل على التحديد، وإذا تعذر الوصول إلى اليقين يرجع إلى غلبة الظن في كل مسائل الدين، فيجتهد القاضي في تقدير مدة الانتظار، ويختلف ذلك باختلاف الأوقات والوسائل التي تستعمل في البحث عن المفقود، ولا سيما في زماننا هذا الذي توفرت فيه وسائل المواصلات وأسباب الاتصال من الهواتف والبرقيات وغير ذلك، وهذا بخلاف الزمان السابق الذي لم يحصل فيه شيء من ذلك.

(1)

"المغني"(11/ 247).

(2)

"نهاية المحتاج"(6/ 28)، "حاشية ابن عابدين"(3/ 331 - 332)، "الإنصاف"(7/ 335).

ص: 111

وأما ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم فهي قضايا أعيان، وقضايا الأعيان لا تقتضي العموم، بخلاف دلالات اللفظ فهي على عمومها، كما علم في الأصول

(1)

.

وإذا انتهت مدة الانتظار اعتدت عدة وفاة أربعة أشهر وعشرًا، ثم حلت للأزواج.

* الوجه الرابع: إذا تزوجت امرأة المفقود وبقي زوجها على فقده فالنكاح بحاله، وإن رجع ففي المسألة تفاصيل موضعها كتب الفقه، وهي مبنية على الاجتهاد، وأرجح الأقوال أن زوجها الأول إذا قدم فهو بالخيار مطلقًا، سواء أقدم قبل وطء الثاني أم بعده، وقد قضى بالخيار عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، قال الموفق:(وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر فكانت إجماعًا)

(2)

.

فإن أبقاها الزوج الأول للثاني فهي له، ويأخذ منه صداقه، وإن أخذها فهي له، ولا يرجع الثاني عليها بشيء

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الشرح الممتع"(13/ 362).

(2)

"المغني"(11/ 250 - 251). وانظر: "الاستذكار"(17/ 302).

(3)

"الشرح الممتع"(13/ 370).

ص: 112

‌تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية

1126/ 17 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ إلَّا أنْ يَكُونَ نَاكِحًا أَوْ ذَا مَحْرَمٍ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1127/ 18 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه مسلم في كتاب "السلام"، باب "تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها"(2171) من طريق هشيم، أخبرنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم".

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في كتاب "النكاح"، باب "لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة"(5233)، ومسلم (1341) من طريق سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به مرفوعًا، وهذا لفظ البخاري، وزاد: فقام رجل، فقال: يا رسول الله، امرأتي خرجت حَاجَّةً، واكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال:"ارجع فحج مع امرأتك". ولفظ مسلم: "لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لا يبيتن) مضارع، ماضيه بات فلان ليلًا؛ أي: فعل ذلك الفعل في الليل، ولا يكون إلا مع سهر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ

ص: 113

لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64]، وقد أنكر كثير من علماء اللغة مجيء بات بمعنى نام

(1)

.

والمعنى: أنه لا يمكث عندها بالليل خاليًا بها، ومفهومه أنه يجوز له البقاء عندها في النهار خلوة أو غيرها، لكن حديث ابن عباس الذي يليه دل على المنع من الخلوة مطلقًا ليلًا أو نهارًا.

قوله: (عند امرأة ثيب) هذه اللفظة ثابتة في "صحيح مسلم" وليست في "البلوغ"، والثيب: من قد تزوجت، ووجه تخصيصها:

1 -

أنها هي التي يُدخل عليها غالبًا، بخلاف البكر؛ فإنها مصونة في العادة، مجانبة للرجال.

2 -

أنه إذا نُهي عن الدخول على الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فتكون البكر من باب أولى.

قوله: (إلا أن يكون ناكحًا) أي: زوجًا لها.

قوله: (أو ذا محرم) أي: صاحب حرمة، وذلك بأن تكون المرأة من ذوات محارمه، وهي التي لا يجوز له الزواج بها، وهي من حرمت بالنسب؛ أي: بالقرابة كالأم والبنت والأخت، أو حرمت بالرضاع كأمه من الرضاع أو أخته، أو بالمصاهرة كأم زوجته وزوجة أبيه أو نحو ذلك.

قوله: (إلا مع ذي محرم) استثناء منقطع؛ لأن وجود المحرم ليس خلوة، أو تسميته خلوة تسامح.

* الوجه الثالث: حديث جابر رضي الله عنه دليل على أنه لا يجوز للرجل أن يبيت عند امرأة إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم منها كأخيها أو عمها ونحو ذلك؛ لأن الشيطان حريص على إغواء الناس وإيقاعهم في الذنوب والمعاصي، ولا سيما في المبيت؛ لأنه محل السكن وانقطاع الاتصال بالناس، ومثل هذا مظنة إيقاع الفاحشة بها، وإذا نهي عن الخلوة بالأجنبية ولو

(1)

"المصباح المنير" ص (67).

ص: 114

لمدة قصيرة فالمبيت من باب أولى؛ لأن الخطر فيه أكثر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"

(1)

.

يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (لكن في مثل زماننا هذا قد يُتهم المحرم، سواء أكان من النسب أم من الرضاعة، فينبغي للمرأة التَّوَقِّي ولو كان محرمًا؛ لأن بعض المحارم لا يؤمن، فلا يبيت عندها إلا إذا كان معها غيرها من النساء، فالحاصل أن المقام مقام عظيم خطير، والواجب على المرأة أن تتحرى أسباب الأمن وتبتعد عن أسباب الخطر)

(2)

.

* الوجه الرابع: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أعم من حديث جابر رضي الله عنه حيث دل على تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ليلًا أو نهارًا، لما يترتب على الخلوة من المفاسد العظيمة؛ لأنه إذا اجتمع نقصان الإيمان وضعف النفوس ووجود الدوافع إلى المعصية وقع المُحَرَّمُ، وتحريم الخلوة من باب تحريم الوسائل، والوسائل لها أحكام المقاصد، فنهيُ الشرع عن الخلوة ابتعادًا عن الشر وأسبابه.

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخولَ على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول لله، أفرأيت الحَمْوَ؟ قال:"الحَمْوُ الموتُ"

(3)

. والحمو: قريب الزوج كالأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن يحل له أن يتزوج بها لو لم تكن متزوجة، ومعناه: أن الحمو مثل الموت؛ لما يترتب على دخوله الذي لا ينكر من الهلاك الديني، والدمار الأمدي، والناس قد يتساهلون به، فيحصل من ذلك ما لا تحمد عقباه، وإذا نهي عند الدخول فالنهي عن الخلوة من باب أولى.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على كمال الشريعة الإسلامية وحرصها على صون الأعراض ومنع الفساد. والله تعالى أعلم.

(1)

أخرجه الترمذي (2165)، والحاكم (1/ 114)، والبيهقي (1/ 91)، وصححه الألباني في "الإرواء"(6/ 215) بطرقه وشواهده، وقد تقدم ذكره في "الحج"(718).

(2)

من شرح الشيخ عبد العزيز المسجل في الأشرطة.

(3)

تقدم تخريجه في "الحج" عند الحديث (718).

ص: 115

‌وجوب استبراء المسبية

1128/ 19 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: في سَبَايَا أَوْطَاسٍ: "لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتى تَضَعَ وَلَا غَيرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتى تَحِيضَ حَيضَةً"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

1129/ 20 - وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في الدَّارَقُطْنيِّ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "النكاح"، باب "في وطء السبايا"(2157)، والحاكم (2/ 195) من طريق شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، وَرَفَعَهُ، أنه قال في سبايا أوطاس

وذكر الحديث.

قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) وسكت عنه الذهبي، وليس الأمر كما قال الحاكم؛ لأن شريكًا -وهو ابن عبد الله القاضي- إنما أخرج له مسلم مقرونًا، وهو سيء الحفظ. وقد اختلف على شريك في هذا الإسناد، فرواه عن قيس -كما تقدم- ورواه عن إسحاق السبيعي، ورواه عن قيس مقرونًا بإسحاق، ثم إن شريكًا لم يتابع على هذا اللفظ عن إسحاق، -فيما أعلم- فقد روى الحديث علية أصحاب إسحاق كشعبة والثوري وغيرهما بغير هذا اللفظ

(1)

.

وقد حسن الحافظ هذا الحديث في "التلخيص"

(2)

، ولعل هذا باعتبار

(1)

انظر: "العلل" للدارقطني (11/ 349).

(2)

(1/ 188).

ص: 116

شواهده، فإن الحديث له شواهد، ومنها حديث رويفع السابق، ومنها:

الحديث الثاني وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد رواه الطبراني في "الأوسط"(1/ 297) عن أحمد بن عمرو، والدارقطني (3/ 257) عن أبي محمد بن صاعد، كلاهما عن عبد الله بن عمران العائذي بمكة، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مسلم الجَنَدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض. قال لنا ابن صاعد: (وما قال لنا في هذا الإسناد أحد عن ابن عباس إلا العائذي). وهذا إعلال له بالإرسال، فإن تفرد العائذي بوصله عن بقية أصحاب ابن عيينة علة قوية.

وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 226 - 227) عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس مرسلًا. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 370) عن معتمر بن سليمان، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس مرسلًا أيضًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (في سبايا أوطاس) هذا على حذف مضاف؛ أي: في شأن سبايا أوطاس، والسبايا: جمع سبية كعطايا وعطية، يقال: سبيت العدو سبيًا: أسرته.

وأوطاس: اسم واد في الطائف، تجمَّع فيه المنهزمون من هوازن وحلفائها بعد حنين، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي عامر الأشعري فقاتلهم حتى قتل، وتولى القيادة بعده أبو موسى الأشعري فقاتلهم حتى بددهم وشردهم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجب على السابي استبراء المسبية إذا أراد وطأها، والمراد بالاستبراء -كما تقدم-: التربص للعلم ببراءة رحمها، فإن كانت حاملًا فاستبراؤها بوضع حملها، لهذا الحديث، ولعموم قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وإن كانت غير حامل وهي ممن تحيض فاستبراؤها بحيضة كاملة، وإن كانت آيسة فبمضي شهر واحد من دخولها في ملكه.

ص: 117

ويدخل في عموم الحديث من ملك أمة بشراء أو هبة أو غير ذلك من أسباب الملك، وكانت المملوكة ممن يوطأ مثلها.

* الوجه الرابع: أخذ بعموم الحديث من قال: إن الاستبراء واجب، سواء ملك الأمة من صغير لم يبلغ أو من امرأة، وسواء كانت بكرًا أم ثيبًا؛ ولأن العدة تجب مع العلم ببراءة الرحم.

والقول الثاني: أنه لا يجب الاستبراء إذا ملكها من طفل أو امرأة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم

(1)

؛ لأن المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم، وحيث تيقن المالك براءة رحم الأمة فله وطؤها ولا استبراء عليه. فإن قيل: ألا يمكن أن يكون أحد زنى بها؟ فالجواب: بلى، لكن الأصل عدم ذلك

(2)

.

وكذا لو ملكها وهي بكر فلا استبراء عليه على أحد القولين، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما، ذكره عنه البخاري

(3)

. وهو قول داود

(4)

، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

؛ لأن الحكم يدور مع علته.

وقال الجمهور يجب عليه الاستبراء؛ لعموم الحديث.

* الوجه الخامس: في قوله: "لا توطأ حامل" دليل على جواز مقدمات الوطء كالتقبيل واللمس والاستمتاع بها فيما دون الفرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الوطء، وهذا رواية عن أحمد في المسبية

(6)

.

والقول الثاني: تحريم ذلك كله سدًّا للذريعة؛ لأنه ربما لم يملك نفسه فيجامعها؛ ولأنه استبراء يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع كالعدة

(7)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتاوى"(34/ 70)، "زاد المعاد"(5/ 714).

(2)

"الشرح الممتع"(13/ 408).

(3)

"فتح الباري"(4/ 423).

(4)

"المغني"(11/ 274).

(5)

"الفتاوى"(34/ 70).

(6)

"المغني"(11/ 276).

(7)

"المغني"(11/ 277).

ص: 118

‌ما جاء في أن الولد للفراش دون الزاني

1130/ 31 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"الْوَلَدُ لِلْفِراشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ حَدِيثِهِ.

1131/ 22 - وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها في قِصَّةٍ.

1132/ 23 - وَعَنِ ابْنِ مَسعودٍ رضي الله عنه عِنْدَ النَّسَائِيِّ.

1133/ 24 - وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عِنْدَ أبي دَاوُدَ.

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "الحدود"، بابٌ "للعاهر الحجر"(6818) من طريق شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول:

وذكر الحديث.

ورواه مسلم (1458) من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بمثله مرفوعًا.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه البخاري في الباب المذكور (6817)، ومسلم (1457) من طريق الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال:"هو لك يا عبد، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة" قالت: فلم ير سودة قط. وهذا لفظ مسلم.

ص: 119

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد رواه النسائي في كتاب "الطلاق" باب "إلحاق الولد بالفراش إذا لم يَنْفِهِ صاحب الفراش"(6/ 181) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الولد للفراش، وللعاهر الحجر" قال النسائي عقبه: (ولا أحسب هذا عن عبد الله بن مسعود، والله تعالى أعلم).

وقد أُعل هذا الحديث بالإرسال، فقد قال الترمذي:(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: إنما هو مغيرة عن أبي وائل مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد: وإنما هو: قال عبد الله بن حذافة للنبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

. والمراد: أن البخاري يرجح أن هذا الحديث حديث عبد الله بن حذافة لا حديث عبد الله بن مسعود، وهو ما يدل عليه كلام النسائي المذكور، وقد عزاه الهيثمي إلى الطبراني

(2)

.

وذكر الدارقطني في "العلل" وَصْلَهُ عن أبي وائل، عن عبد الله، وإرساله عن أبي وائل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:(ورفعه صحيح)

(3)

.

وأما حديث عثمان رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الطلاق"، باب "الولد للفراش"(2275) من طريق مهدي بن ميمون، ثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن رباح، قال: زوجني أهلي أمة لهم رومية، فوقعت عليها، فولدت غلامًا أسود مثلي، فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلامًا أسود مثلي، فسميته عبيد الله، ثم طَبِنَ

(4)

لها غلام لأهلي رومي يقال له: يُوحَنَّه، فراطنها بلسانه، فولدت غلامًا كأنه وَزَغة من الوزغات

(5)

، فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: هذا ليوحنه، فرفعنا إلى عثمان أحسبه قال مهدي: قال: فسألهما، فاعترفا، فقال لهما:

(1)

"العلل"(1/ 457).

(2)

"مجمع الزوائد"(5/ 15).

(3)

"العلل"(5/ 106).

(4)

طبن -بفتح الطاء وفتح الباء الموحدة- بمعنى: أفسدها، وبكسر الباء بمعنى: فطن لها وأنها توافقه على ما يريد. "عون المعبود"(6/ 370).

(5)

الوزغة -بالفتح-: هو الذي يقال له: سام أبرص [المصدر السابق].

ص: 120

أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد للفراش، وأحسبه قال: فجلدها، وجلده وكانا مملوكين.

وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه رباحًا الكوفي، وهو مجهول، كما في "التقريب"، وفي سنده اختلاف ذكره الدارقطني

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (الولد للفراش) هذا على حذف مضاف؛ أي: لصاحب الفراش والواطئ على الفراش، والمعنى: أنه تابع أو محكوم به له، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي: أهل القرية، وقد جاء الحديث بلفظ:"الولد لصاحب الفراش" عند البخاري

(2)

. والعرب تكني عن المرأة بالفراش، ولا تكون المرأة فراشًا إلا بالعقد والدخول المتحقق على الراجح، كما سيأتي.

قوله: (وللعاهر الحجر) العاهر: الزاني، والعَهَر: بفتحتين: الزنا والفجور، يقال: عَهِرَ من باب تَعِبَ: فَجَرَ، فهو عاهر، وعَهَرَ عُهورًا من باب قعد لغة

(3)

. والحجر: معروف.

والمعنى: أن الولد لصاحب الفراش وهو الزوج فيلحق به، وللعاهر الخيبة والحرمان ولا حق له في الولد، وهذا لا ينافي إقامة الحد عليه على حسب حاله.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الولد يحكم به للفراش؛ لأن النسب يحتاط في إثباته حفظًا للنسل وصيانة للعرض، فماذا ولد للزوج ولد وأمكن كونه منه فهو ولده في الحكم إلا أن ينفيه باللعان التام

(4)

، ولهذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد لزمعة؛ لأنه هو صاحب الفراش، قال ابن دقيق العيد:(الحديث أصل في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم)

(5)

.

(1)

"العلل"(3/ 30).

(2)

"صحيح البخاري"(6750).

(3)

"المصباح"(435).

(4)

"المغني"(11/ 152).

(5)

"إحكام الأحكام"(4/ 269).

ص: 121

وثبوت النسب بالفراش مجمع عليه -كما يقول ابن القيم- وهو إحدى الجهات الأربع التي يثبت بها النسب، وهي الفراش، والاستلحاق، والبينة، والقافة، والثلاثة الأولى مجمع عليها

(1)

.

والفراش هي الزوجة أو الأمة، والزوجة لا تكون فراشًا بمجرد عقد النكاح، وإن كان عقد النكاح مقصودًا به الوطء، وإنما تكون فراشًا بالعقد والدخول المحقق، إما باعتراف الزوج أو بالبينة الدالة على ذلك، وهذا رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(2)

، ورجحه الصنعاني

(3)

.

والقول الثاني: أن الزوجة تعتبر فراشًا بمجرد العقد وإن علم أن الزوج لم يجتمع بها، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول ضعيف؛ لأن العقد لا تأثير له في إثبات النسب، وإلا لجاز نسب الولد إلى من لم يبلغ التاسعة من عمره

(4)

.

والقول الثالث: أنها تكون فراشًا بالعقد مع إمكان الوطء، وهو قول الشافعي وأحمد.

والصواب الأول؛ لأنه مقتضى الدليل اللغوي؛ لأن المرأة لا تكون فراشًا إلا بحقيقة الوطء، ولا يمكن أن يفترشها زوجها إلا إذا جامعها، ثم هو مقتضى دليل العقل، فإنه -كما يقول ابن القيم- كيف تصير المرأة فراشًا لرجل لم يدخل بها ولم يَبْنِ بها؟ وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسبٍ بمن لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها

(5)

؟!

أما الأمة فلا تصير فراشًا إلا بالوطء -على قول الجمهور- والفرق بينهما أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل العقد عليها كالوطء عند من يقول به، بخلاف الأمة فإنها تراد لملك الرقبة، وأنواع المنافع غير الوطء.

ولا يلحق الولد بالفراش إلا إذا أمكن كونه منه، كأن تلده لأكثر من ستة

(1)

"زاد المعاد"(5/ 410).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 415).

(3)

"سبل السلام"(6/ 323).

(4)

"آثار عقد الزواج" ص (366).

(5)

"زاد المعاد"(5/ 415).

ص: 122

أشهر منذ أن تزوجها؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر بالإجماع، وأما أكثره فهو موضع خلاف، وقد روي عن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري أنه سنة، وهذا يؤيده ما قرره أهل الذكر من رجال الطب الشرعي في هذه المسألة من أن الحمل لا يمكث في بطن أمه أكثر من سنة

(1)

، فإن لم يمكن كونه منه كأن تلده لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها لم يلحق به، وفي المسألة تفاصيل محلها كتب الفقه.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الزنا لا يثبت به النسب، لقوله:"وللعاهر الحجر"، وهذا قول أكثر أهل العلم، وهو المذهب عند الحنابلة، فإذا ادعى الزاني أن الولد ولده لم يلحق به، كما استدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن استلحقه الورثة بعد موت المورث أنه إن كان من أمة كان يملكها المورث حين أصابها فإنه يلحقه من وقت الاستلحاق ما لم يكن المورث قد أنكره قبل موته، وإن كان من أمة لم تكن مملوكة له أو من حرة عَاهَرَ بها فإنه لا يلحقه ولو كان هو الذي ادعاه في حياته

(2)

.

وهذا نص صريح في اعتبار الفراش وعدم اعتبار الزنا أساسًا لثبوت النسب.

والقول الثاني: أنه إذا استلحقه ولم ينازعه أحد فإنه يلحق به

(3)

، حفظًا لنسب هذا الطفل؛ لئلا يضيع نسبه ولئلا يُعَيَّر، وهذا قول الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وجماعة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم

(4)

. ثم إن الفقهاء ذكروا في باب "الإقرار بمشارك في الميراث" أن الورثة لو أقروا بوارث للميت ثبت نسبه بشروط معروفة في محلها، فهكذا هنا، وقوله:"الولد للفراش، وللعاهر الحجر" جملتان متلازمتان؛ أي: إذا نازع الزاني صاحب فراش في الولد، فالولد للفراش، بدليل حديث الباب. لكن هذا القيد لم يدل عليه دليل

(5)

.

(1)

"الفرقة بين الزوجين" ص (230).

(2)

رواه أبو داود (2265) وسنده حسن.

(3)

"الإنصاف"(9/ 269).

(4)

"زاد المعاد"(5/ 425).

(5)

انظر: "الفرقة بين الزوجين" ص (238).

ص: 123

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن حكم الفراش مقدم على الشَّبَهِ، وأن حكم الشبه إنما يُعتمد عليه في إلحاق النسب إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منه كالفراش، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت هنا إلى شبه الغلام بعتبة؛ لوجود ما هو أقوى منه، وهو الفراش.

* الوجه السادس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجته سودة بنت زمعة بالاحتجاب من الغلام على سبيل الاحتياط والورع؛ لأنه في ظاهر الشرع أخوها؛ لأنه الحق بأبيها زمعة، لكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الشبه بينه وبين عتبة بن أبي وقاص قويًّا خشي أن يكون من مائه، فيكون أجنبيًّا منها، فأمرها بالاحتجاب منه تورعًا.

ويستفاد من ذلك أن المرأة إذا شكت في قرابة أحد محارمها فإنها تحتجب عنه احتياطًا وتورعًا، ولا تتساهل في أمر مشتبه فيه. والله تعالى أعلم.

ص: 124

‌باب الرضاع

الرضاع في اللغة: بكسر الراء وفتحها، مصدر رَضَعَ الصبيُّ الثديَ رضعًا ورِضَاعة ورضاعًا؛ أي: مصَّه

(1)

.

وشرعًا: اسم لحصول لبن امرأة في معدة طفل بأي وسيلة كان.

فالمقصود أن اللبن يصل إلى معدة الطفل، سواء وصل إليها عن طريق الثدي، وهو الغالب، أو عن طريق الرضاعة الصناعية، أو شَرِبَهُ من إناء أو نحو ذلك، خلافًا لابن حزم حيث قصر الحكم على المص من الثدي بفيه فقط

(2)

، كأنه لَحَظَ مسمى الرضاع، وأما غيره فقد لحظ المعنى من الرضاع، وهو الأقرب.

وإذا تم الرضاع بشروطه نشر الحرمة، وهي أن يكون الطفل المرتضع ولدًا للمرضعة في النكاح والنظر والخلوة والمحرمية في السفر، وولد من نُسب لبنها إليه.

ولا يؤثر الرضاع في بقية أحكام النسب، فلا يصير ولدًا للمرضعة في وجوب نفقتها عليه، وكونها ترثه ويرثها، وكذا الولاية في النكاح والمال، فهذه وما ماثلها لا تترتب على الرضاع؛ لأنه لا يساوي النسب في القوة، فلا يساويه في الأحكام، وإنما يُشَبَّهُ به فيما نُصَّ عليه، كما سيأتي إن شاء الله.

والأصل في ثبوت حكم الرضاع الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23].

(1)

"الدر النقي"(3/ 698).

(2)

"المحلى"(7/ 10).

ص: 125

وأما السنة: فأحاديث الباب، وقد أجمعت الأمة على التحريم بالرضاع وإن اختلفت في بعض فروعه.

والحكمة في جعل الرضاع سببًا للتحريم: أن جزء المرضعة وهو اللبن صار جزءًا للرضيع باغتذائه به، فأشبه منيَّها وحيضها في النسب

(1)

.

(1)

"الإمتاع في أحكام الرضاع" ص (12).

ص: 126

‌ما جاء في الرضعة والرضعتين

1134/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الرضاع"، بابٌ "في المصة والمصتين"(1450) من طريق ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا تحرم) بضم التاء، وفتح الحاء، وتشديد الراء مكسورة؛ أي: لا تمنع الزواج، ولا يثبت بها التحريم، بحيث يكون الرجل محرمًا للمرأة.

قوله: (المصة والمصتان) المصة: هي المرة الواحدة من المص، والمراد بها: الرضعة، وهي تناول الثدي برفق وامتصاصه لبنه مرة واحدة، وفي رواية:"الإملاجة والإملاجتان" وهي بكسر الهمزة والجيم المفتوحة المخففة، وهي المصة، يقال: مَلَجَ الصبي أمه ملجًا: رضعها، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أملجته، والمرة من الثلاثي ملجة، ومن الرباعي إملاجة

(1)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المصة والمصتين لا تحرمان؛ لأنهما يسيرتان، والرضاع المؤثر ما كان له أثر على الرضيع، كما سيأتي.

(1)

"المصباح المنير" ص (577).

ص: 127

* الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث داود الظاهري وأتباعه على أن الرضاع المحرم ثلاث رضعات فصاعدًا، أخذًا بمفهوم الحديث، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا المفهوم عارضه منطوق أقوى منه، وهو حديث عائشة رضي الله عنها الآتي (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمْنَ، ثم نسخن بخمس معلومات .. الحديث) والله تعالى أعلم.

ص: 128

‌ما جاء أن الرضاع المحرم هو ما يسد الجوع

1135/ 2 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

أخرجه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب "الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم"(2647)، ومسلم (1455) من طريق مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد، فاشتدَّ ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقال:"يا عائشة من هذا؟ " قلت: أخي من الرضاعة، قال: "يا عائشة انظرن

" الحديث، وهذا لفظ البخاري.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (انظرن) أي: تأملن.

قوله: (من إخوانكن) أي: من الرضاع، وذلك بالنظر في الرضاع هل هو رضاع تثبت به الحرمة لتحقق شروطه أو لا؟

ولعل الغرض من هذه الجملة التنبيه على الزمن الذي تثبت به حرمة الرضاع، خشية أن يكون الرضاع وقع حالة الكبر بحيث لا يترتب عليه أحكامه

(1)

.

(1)

"الإعلام"(9/ 22).

ص: 129

قوله: (فإنما الرضاعة من المجاعة) أسلوب قصر، والمجاعة: بفتح الميم خلو المعدة من الطعام؛ أي: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية أو المطعمة من المجاعة، والمعنى: أن الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي ما أذهب الجوع بحيث يكون الرضيع طفلًا يسد اللبن جوعته، فينمو منه وينبت لحمه، فيصير كجزء من المرضعة.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن مطلق الرضاع لا يحرم، وإنما الذي يحرم هو ما يسد الجوع، ويغذي الطفل، فيكون حينئذٍ كالجزء من المرضعة، فيصير كأحد أولادها، تغذى في بطنها وصار بضعة منها.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه ينبغي التثبت من وجود الرضاع المحرم، من حيث زمانه ومن حيث عدده؛ لأن من الرضاع ما لا تثبت به المحرمية.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه يجب على الرجل أن يكون عنده غيرة على أهله ومحارمه من مخالطة الأجانب، وأن الرجل يسأل زوجته عما يشكل عليه، بشرط ألا يصل الأمر إلى حَدِّ الشكوك والأوهام.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على أنه يقبل قول المرأة فيمن اعترفت برضاعه مع الإرشاد إلى الاحتياط في ذلك.

* الوجه السابع: جاء الرضاع في القرآن مطلقًا، كما تقدم في قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وظاهره ثبوت حكم الرضاع بمطلق الرضاع قل أو كثر، لكن هذا الحديث قيد مطلق القرآن. والله تعالى أعلم.

ص: 130

‌حكم رضاع الكبير

1136/ 3 - وعَنْها رضي الله عنها قَالتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيلٍ فَقَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبي حُذَيفَةَ مَعَنَا في بَيتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ. فَقَال:"أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيهِ" رَوَاهُ مُسْلِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الرضاع"، باب "رضاعة الكبير"(1454)(27) من طريق القاسم، عن عائشة رضي الله عنها أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت -تعني ابنة سهيل- النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه، وإنه يدخل علينا، وإني أظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه تحرمي عليه، يذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فرجعتْ، فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة.

* الوجه الثاني: في ألفاظه:

قوله: (سهلة بنت سهيل) هي زوجة أبي حذيفة بن عتبة رضي الله عنه، أسلمت قديمًا، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة رضي الله عنهما

(1)

.

قوله: (إن سالمًا) هو سالم بن معقل، نشأ في بيت أبي حذيفة وتبناه، فكان يقال له: سالم بن أبي حذيفة، وكان مولى لامرأة من الأنصار، وقد

(1)

"الاستيعاب"(13/ 50)، "الإصابة"(12/ 319 - 320).

ص: 131

أنكحه أبو حذيفة بنت أخيه هندًا

(1)

بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان سالم من فضلاء الصحابة وقُرَّاءِ القرآن، وقد تقدم في أبواب "الإمامة" أنه كان يؤم المهاجرين الأولين في العُصْبة -موضع بقباء- قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكثرهم قرآنًا

(2)

، واستشهد هو ومولاه أبو حذيفة يوم اليمامة في خلافة الصديق رضي الله عنه سنة ثنتي عشرة رضي الله عنه

(3)

.

قوله: (مولى أبي حنيفة) أي: حليف أبي حذيفة، وكان أبو حذيفة قد تبنى سالمًا؛ أي: اتخذه ابنًا له قبل أن يُبطل الإسلام التبني، فلما أبطل الله التبني صار سالمًا أجنبيًّا من المرأة.

وأبو حذيفة هو مُهشِّم أو هاشم أو هشيم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف رضي الله عنه، أسلم قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر هو وزوجته سهلة بنت سهيل الهجرتين، وصلى للقبلتين، وشهد بدرًا وما بعدها، وأراد مبارزة أبيه يوم بدر، وقد استشهد يوم اليمامة، كما تقدم وهو ابن ست وخمسين سنة على أحد الأقوال

(4)

.

قوله: (وقد بلغ ما يبلغ الرجال) أي: أدرك الحلم وصار بالغًا. وجاء في رواية عند مسلم: (وكيف أرضعه وهو رجل كبير) وفي رواية: (إنه ذو لحية).

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: بجواز رضاع البالغ وأن حرمة الرضاع تثبت برضاع البالغ كما تثبت برضاع الطفل، وهذا قول عائشة رضي الله عنها، وروي عن عطاء والليث وداود، ونصره ابن حزم ورد حجج المخالفين

(5)

.

(1)

هذا الاسم مختلف فيه، وقد جاءت تسميتها هندًا في البخاري. فانظر:"فتح الباري"(7/ 314 - 315)(9/ 131، 133).

(2)

الحديث أخرجه البخاري (692).

(3)

"الاستيعاب"(4/ 101)، "الإصابة"(4/ 103).

(4)

"الاستيعاب"(11/ 195)، "الإصابة"(11/ 81).

(5)

"المحلى"(10/ 17).

ص: 132

وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على خلاف قول عائشة رضي الله عنها، فقد روى مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول:(أبي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن أحد بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا)

(1)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى أن رضاع البالغ لا يحرم، واستدلوا بقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَينِ} [لبقرة: 233] وبالحديث المتقدم: "إنما الرضاعة من المجاعة" قالوا: فهذا نص خرج مخرج الحصر، دالٌّ على أن حكم الرضاعة خاص بمن يشبعه اللبن، ويكون غذاءه لا غير، وهذا لا يتأتى في رضاع الكبير. كما استدلوا بحديث أم سلمة الآتي.

وأجابوا عن قصة سالم بأنها خاصة به خصوصية عين لا تتعداه إلى غيره، وقد حكم بالخصوصية أمهات المؤمنين، كما تقدم، أو أنها منسوخة، قال الشافعي:(وهذا -والله تعالى أعلم- في سالم مولى أبي حذيفة خاصة)

(2)

.

وقال ابن المنذر: (وليس تخلو قصة سالم أن تكون منسوخًا أو خاصًّا بسالم كما قالت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن بالخاص والعام والناسخ والمنسوخ أعلم)

(3)

. واختار هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز

(4)

.

والقول الثالث: أن الحكم خاص بسالم وبمن يشبه حاله، وهذه خصوصية وصف، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

، واختاره ابن القيم

(6)

، والصنعاني تبعًا للشارح حسين بن محمد المغربي، ومن بعدهما الشوكاني

(7)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1454).

(2)

"الأم"(6/ 79).

(3)

"الإشراف"(4/ 112).

(4)

"الفتاوى"(22/ 264).

(5)

"مجموع الفتاوى"(34/ 60).

(6)

"زاد المعاد"(5/ 593).

(7)

"البدر التمام"(4/ 234)، " سبل السلام"(6/ 336)، "نيل الأوطار"(6/ 353).

ص: 133

والقول بالخصوصية نوقش من ثلاثة أوجه:

1 -

أنه مخالف للأصل؛ لأن الأصل عدم الخصوصية.

2 -

أن قول أم سلمة: (والله ما نرى هذا إلا رخصة

) مجرد تظنن منها.

3 -

أنه لو كان خاصًّا بسالم لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، كما بين لأبي بُردة رضي الله عنه لما ضحى بالجذعة من المعز:"إنها لن تجزئ عن أحد بعدك"

(1)

.

وأما القول بالنسخ فهو ضعيف؛ لأن من شرط النسخ معرفة التاريخ، وهنا لا يعرف، ثم لو كان النسخ صحيحًا لما ترك التشبث به أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، قال القرطبي:(قد أطلق بعض الأئمة على حديث سالم: أنه منسوخ، وأظنه سمى التخصيص نسخًا، وإلا فحقيقة النسخ لم تحصل هنا، على ما يعرف في الأصول)

(2)

.

ورأي شيخ الإسلام فيه وجاهة؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة، وذلك بأن تجعل قصة سالم مخصصة لعموم:"إنما الرضاعة من المجاعة" وغيره من الأدلة، لكن الاحتياط في هذا مطلوب، وعدم التساهل مؤكد، وهذا أمر يتعلق بالمحارم، ولا سيما في هذا الزمان الذي ضعف فيه الإيمان، وغلب فيه الجهل، وانتشرت الرذائل، وتساهل بعض الناس في صيانة محارمهم والغيرة عليها. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (5563)، ومسلم (1961).

(2)

"المفهم"(4/ 189).

ص: 134

‌ثبوت حكم الرضاع لزوج المرضعة وأقاربه

1137/ 4 - وَعَنْهَا رضي الله عنها أن أفْلَحَ -أَخَا أَبي الْقُعَيسِ- جَاءَ يَسْتَأذِنُ عَلَيهَا بَعْدَ الْحِجَابِ. قَالتْ: فَأبَيْتُ أنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخْبَرْتُهُ بالَّذِي صَنَعْتُ، فَأمَرَنِي أنْ آذَنَ لَهُ عَلَيّ وَقَال:"إنَّهُ عَمُّكِ"، مُتَفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب "الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض

" (2644) ثم في كتاب "النكاح"، باب "لبن الفحل" (5103)، ومسلم (1445) من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة أنها أخبرته أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن أنزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له عليَّ. هذا لفظ مسلم.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن أفلح أخا أبي القعيس) أفلح: هو عم عائشة رضي الله عنها من الرضاعة؛ لأنه أخو أبي القعيس نسبًا الذي رضعت عائشة من زوجته، وليس له ذكر إلا في هذا الحديث، كما ذكر ابن عبد البر

(1)

، وقد ورد في إحدى روايات مسلم:(استأذن عليَّ أفلح بن قعيس) وهذا وهم من بعض الرواة، والصواب ما تقدم

(2)

.

(1)

"التمهيد"(8/ 235).

(2)

"المفهم"(4/ 178).

ص: 135

قوله: (بعد الحجاب) أي: بعد نزول آيات الحجاب، وذلك آخر سنة خمس من الهجرة

(1)

.

قوله: (فأبيت أن آذن له) جاء تعليل ذلك في بعض الروايات: (فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس) تريد أن أبا القعيس لم يرضعها وهو زوج المرأة، وإنما الذي أرضعها هي زوجته، واللبن للمرأة لا للرجل فيما تظن.

* الوجه الثالث: الحديث أصل في أن للرضاع حكم النسب من إباحة الدخول على النساء ونحو ذلك من الأحكام، كما تقدم.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على ثبوت حكم الرضاع من زوج المرضعة وأقاربه، وأن الرضاع كما يتعلق بالمرأة يتعلق بالرجل، فيكون زوج المرضعة بمنزلة الوالد، وهي بمنزلة الأم، وأخوه بمنزلة العم، وأختها بمنزلة الخالة؛ لأنه صاحب اللبن، فإن اللبن تسبب عن مائه وماء المرأة جميعًا.

ولهذا ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن لبن الفحل يؤثر في التحريم، والفحل هو الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازية لكونه السبب فيه

(2)

، ولم يخالف إلا ابن علية وأهل الظاهر وجماعة

(3)

؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت لأفلح عمومة عائشة رضي الله عنها، وإنما ارتضعت لبن امرأة أبي القعيس؛ لأن أبا القعيس صار لها أبًا، فينشر التحريم، كما تقدم.

ويصور لبن الفحل مع افتراق الأُمَّين، كرجل له امرأتان، ترضع إحداهما صبيًّا والأخرى صبية، فيحرم أحدهما على الآخر؛ لأنهما أخوان لأب.

ولو أرضعت إحداهما ولدًا صار هذا الولد ولدًا له، وأخًا لأولاده من هذه المرأة المرضعة وأخًا لأولاده من المرأة الأخرى؛ لأنهم اشتركوا مع الرضيع في أب واحد

(4)

.

(1)

"الإعلام"(9/ 17).

(2)

"فتح الباري"(9/ 150).

(3)

"فتح الباري"(9/ 151).

(4)

انظر: "المفهم"(4/ 179)، "الشرح الممتع"(13/ 434).

ص: 136

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن من شك في حكم فإنه يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن من ادعى رضاعًا وصدقه الرضيع ثبت حكم الرضاع بينهما، ولا يحتاج إلى إقامة بينة، فإن أفلح ادعى الرضاع وصدقته عائشة رضي الله عنها وأذن له الشارع بمجرد ذلك.

* الوجه السابع: فيه دليل على مشروعية الاستئذان ولو في حق المحرم؛ لجواز أن تكون المرأة على حال لا يحل للمحرم أن يراها عليه.

* الوجه الثامن: في الحديث دليل على وجوب الحجاب، والمراد الحجاب الشرعي الذي يعني أن تستر المرأة جميع بدنها، ومن ذلك الوجه والكفان والقدمان ومواضع الزينة، ولو كان الحجاب غير واجب لما كان لذكره فائدة. والله تعالى أعلم.

ص: 137

‌مقدار الرضاع المحرِّم

1138/ 5 - وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه مسلم في كتاب "الرضاع"، باب "التحريم بخمس رضعات"(1452) من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكير، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات

الحديث). وفيه: (وهن فيما يقرأ من القرآن).

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الرضاع الذي تثبت به الحرمة خمس رضعات، ومفهومه أن الرضعة والرضعتين والثلاث وما نقص عن الخمس لا يحرم، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وعطاء وطاوس، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وابن حزم، ورجحه الصنعاني، والشوكاني

(1)

.

ووجه الاستدلال: أن عائشة رضي الله عنها، ذكرت عددًا أعلى وعددًا أدنى، ولو كان هناك عدد أدنى من الخمس لبينته.

وقد روى عبد الرزاق بسنده عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (لا يحرم دون

(1)

"المحلى"(10/ 9)، "سبل السلام"(6/ 330، 340)، "نيل الأوطار"(6/ 351).

ص: 138

الخمس رضعات معلومات)

(1)

، وهذا حصر طريقه النفي والإثبات.

والقول الثاني: أن قليل الرضاع وكثيره يحرم، وهذا مروي عن علي، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة، والزهري، وآخرون، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد

(2)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [لنساء: 23] قالوا: فعلق الله التحريم بوجود الإرضاع، ولم يقيد ذلك بشيء، فحيث وجد اسم الرضاع ثبت حكمه، فهؤلاء رجحوا ظاهر القرآن على الأحاديث الواردة في هذا، كما استدلوا بالحديث الآتي:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فإنه ربط التحريم بمجرد الرضاع، كما ورد آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم.

والقول الثالث: أنه لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور، وأبو عبيد، وداود، وهو رواية عن أحمد

(3)

، واستدلوا بالحديث المتقدم:"لا تحرم المصة والمصتان" قالوا: فمفهوم الحديث أن ما زاد على المصتين يثبت به التحريم، وهو الثلاث فصاعدًا.

والراجح القول الأول، وهو أن الرضاع المحرم خمس رضعات، لأن حديث عائشة رضي الله عنها نص صريح، ويقويه حديث:"لا تحرم المصة والمصتان" كما يقويه حكمة التحريم بالرضاع -كما تقدم- وهي شبهة الجزئية بين المرضع والمرضعة، وهذا لا يتحقق إلا برضاع كامل، وهو خمس وجبات بحيث ينبت اللحم، وينشز العظم.

أما من يرون أن قليله وكثيره محرم فهو مردود بالحديث المتقدم: "لا تحرم المصة والمصتان"، وأما قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} فإن

(1)

"المصنف"(7/ 466)، ورواه الدارقطني (4/ 183)، والبيهقي (7/ 456)، وصححه الحافظ في "فتح الباري"(9/ 147).

(2)

"المغني"(11/ 310)، "بداية المجتهد"(3/ 64).

(3)

"المغني"(11/ 310).

ص: 139

السنة بينت أن الرضاعة التي تحرم هي ما كانت مبنية على العدد، فلا تحرم المصة ولا المصتان، ولا يحرم إلا الخمس، فتكون الآية من قبيل المجمل الذي بينه الشارع بالعدد وضبطه به.

وأما من قال إن الثلاث تحرم فدليله مفهوم حديث عائشة رضي الله عنها، والخمس منطوق، فهو مقدم، ثم إن العمل بأحاديث الرضعات الخمس إعمال للأحاديث كلها.

* الوجه الثالث: الرضعات مفردها رضعة: وهي -على الأظهر- اسم مرة، كالأكلة والشربة، فيكون المراد بها الوجبة التامة وإن تخللها تنفس أو انتقال من ثدي إلى آخر، أو جاءه ما يلهيه، وإنما يتركه عن رِيٍّ وطيب نَفْسٍ؛ لأنه لم يرد في الشرع لها ضابط معين، فيرجع فيها إلى اللغة وإلى عرف الناس، والناس لا يعدون الأكلة إلا الوجبة التامة، سواء تخللها قيام أو اشتغال يسير أو قطعها لعارض ثم رجع إليها؛ لأنه لم يكملها.

وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، نصرها ابن القيم، واختارها ابن سعدي

(1)

.

* الوجه الرابع: قول عائشة رضي الله عنها: (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) يمثل به الأصوليون لما نسخ لفظه وبقي حكمه، فإن الآية الدالة على أن المحرم خمس رضعات ليست في القرآن الآن، وكلام عائشة رضي الله عنها هذا مراد به أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ آية خمس الرضعات، لكونه لم يبلغه النسخ

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(11/ 312)، "زاد المعاد"(5/ 575)، "المختارات الجلية" ص (111)، "الاختيارات الجلية" لابن بسام (2/ 414).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(9/ 281).

ص: 140

‌يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

1139/ 6 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنها أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَال:"إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، إنَّها ابنَةُ أَخي مِنَ الزَضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ"، متفقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب "الشهادة على الأنساب والرضاع

" (2645)، ومسلم (1447) من طريق همام، حدثنا قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أريد على ابنة حمزة) أي: رُغِّبَ في أن يتزوج ابنة عمه حمزة رضي الله عنه، وقد اختلف في اسمها على أقوال ستة سردها ابن الملقن في "شرحه على العمدة"

(1)

.

قوله: (فقال: إنها لا تحل لي

) الكلام موجه إلى علي رضي الله عنه، كما ورد عند مسلم من حديث علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما لك تَنَوّق

(2)

في قريش وتدعنا؟ فقال: "وعندكم شيء؟! قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة"

(3)

.

(1)

"الإعلام"(9/ 8).

(2)

تَنَوّق -بفتح التاء والنون وتشديد الواو-: أي تختار وتبالغ في الاختيار. "إكمال المعلم"(4/ 631).

(3)

"صحيح مسلم"(1446).

ص: 141

قوله: (إنها ابنة أخي

) جملة مستأنفة لتعليل تحريم ابنة حمزة على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن حمزة أخ للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع أرضعتهما ثويبة، وهي مولاة لأبي لهب

(1)

، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم عم ابنة حمزة رضي الله عنه.

قوله: (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) من: سببية؛ أي: يحرم النكاح بسبب الرضاعة كما يحرم بسبب النسب، ولهذا سمى الله تعالى المرضعة أمًا والمرتضعة أختًا.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن ما حرمه النسب وهو القرابة يحرمه الرضاع، وقد ذكر الله تعالى في القرآن المحرمات بالنسب؛ أي: بالقرابة وهن سبع: الأمهات، والجدات وإن علون، والبنات، وبنات الأولاد وإن نزلن، والأخوات مطلقًا

إلخ، فتكون المحرمات من الرضاع سبعًا -أيضًا-، وذلك أن كل امرأة حرمت نسبًا حرمت من تماثلها رضاعًا، كالأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، والعمة من الرضاع

وهكذا.

وقد ذكر الله تعالى أن المحرمات بالرضاع: الأمهات وإن علون، والأخوات، وجاءت السنة ببيان الباقي كما في حديث الباب.

فهذا من جهة العدد، أما من جهة الحد، فالقاعدة في باب الرضاع: أن الرضاع ينشر الحرمة إلى المرتضع وفروعه، دون أصوله وحواشيه، فتنتشر الحرمة إلى أبنائه وبناته ونسلهم، فيكونون أولادًا للمرضعة ولصاحب اللبن، أما أصوله من أب أو أم وآبائهما، أو حواشيه من إخوة وأخوات فلا يتعلق بهم تحريم؛ لأن قرابات الرضيع ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب ولا سبب، فلم يتعلق بهم تحريم

(2)

.

وأما المرضعة فإن الرضاع ينشر الحرمة إلى فروعها وأصولها وحواشيها، فأولاد الزوج وزوجته المرضعة؛ إخوة المرتضع وأخواته، وآباؤهما أجداده

(1)

"صحيح البخاري"(5101)، "صحيح مسلم"(1449).

(2)

"المفهم"(4/ 178).

ص: 142

وجداته، وإخوة المرضعة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته.

أما موضوع المصاهرة فقد ذهب الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم إلى أنه يحرم من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة، وعلى هذا فأم زوجتك من الرضاع حرام عليك كأم زوجتك من النسب، وبنت زوجتك من الرضاع -كأن يكون لك زوجة قد أرضعت بنتًا من زوج سابق- تحرم عليك، كبنت زوجتك من النسب.

واستدل هؤلاء بعموم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الرضاع لا يؤثر في تحريم المصاهرة، نقل ذلك عنه ابن رجب

(1)

، مع أن ابن القيم نقل عنه أنه توقف

(2)

، ودليل هذا القول عموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فيكون الأصل الحل، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر المصاهرة عندما قال:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"القواعد"(3/ 114)، "الاختيارات" ص (213).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 557).

(3)

انظر: "الشرح الممتع"(13/ 424).

ص: 143

‌صفة الرضاع المحرم وزمنه

1140/ 7 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الأمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ"، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ.

1141/ 8 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: "لَا رَضَاعَ إلَّا في الحَوْلَينِ"، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَرَجّحا الْمَوْقُوفَ.

1142/ 9 - وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا رَضَاعَ إلَّا ما أنْشَزَ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ"، أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ.

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث أم سلمة رضي الله عنها فقد رواه الترمذي في أبواب "الرضاع"، باب "ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين"(1152) من طريق أبي عوانة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة رضي الله عنه، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي

الحديث".

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، ورواه يحيى القطان، عن هشام، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا، قال الدارقطني:(وقول يحيى أشبه بالصواب)

(1)

ورواه ابن أبي شيبة (4/ 290) عن عبدة، عن

(1)

انظر: "العلل"(15/ 255).

ص: 144

هشام بن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن جده، عن أم سلمة بنحوه موقوفًا. ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(4/ 119، 175) من طريق وهيب، عن هشام، عن فاطمة، عن أم سلمة بنحوه موقوفًا أيضًا.

وقول الحافظ: إن الحاكم صحح الحديث، لم أقف عليه، لأني لم أجد الحديث في "المستدرك" ولا رأيت أحدًا عزاه إليه.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه الدارقطني (4/ 174)، وابن عدي في "الكامل"(7/ 103)، والبيهقي (7/ 462) من طريق الهيثم بن جميل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين" هذا لفظ الدارقطني، وعند ابن عدي:"لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين".

قال الدارقطني: (لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ)، وقال ابن عدي:(وهذا يعرف بالهيثم بن جميل، عن ابن عيينة مسندًا، وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بن جميل يسكن أنطاكية، ويقال: هو البغدادي، ويغلط الكثير على الثقات كما يغلط غيره، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب).

وقال البيهقي: (هذا هو الصحيح موقوفًا) وعلى هذا فيكون الهيثم بن جميل قد وهم في رفع هذا الحديث، وقد صحح وقفه إضافة إلى من ذكر: عبد الحق، وابن عبد الهادي، والزيلعي، وغيرهم

(1)

.

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "النكاح"، بابٌ "في رضاعة الكبير"(2059)، ومن طريقه البيهقي (7/ 461) من طريق عبد السلام بن مطهر، أن سليمان بن المغيرة، حدثهم عن أبي موسى الهلالي، عن أبيه، عن ابن لعبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

وذكر الحديث.

وهذا حديث ضعيف، والغريب أن المؤلف سكت عنه على خلاف

(1)

"الأحكام الوسطى"(3/ 185)، "التنقيح"(3/ 248)، "نصب الراية"(3/ 218).

ص: 145

عادته، وسبب ضعفه أن فيه ثلاثة مجاهيل:

1 -

أبو موسى الهلالي.

2 -

والده، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: هو مجهول وأبوه مجهول

(1)

.

3 -

ابن عبد الله بن مسعود مجهول؛ لأنه لم يسم.

وقد اختلف في إسناده؛ فقد رواه الدارقطني (4/ 173) من طريق النضر بن شميل، نا سليمان بن المغيرة، نا أبو موسى، عن أبيه، عن ابن لعبد الله بن مسعود، أن رجلًا كان مع امرأته وهو في سفر، فولدت، فجعل الصبي لا يمص، فأخذ زوجها يمص لبنها ويمجه، قال: حتى وجدتُ طعم لبنها في حلقي، فأتيت أبا موسى الأشعري فذكرتُ ذلك له، فقال: حرمت عليك امرأتك، فأتاه ابن مسعود، فقال: أنت الذي تفتي هذا بكذا وكذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم".

وخالف وكيعٌ عبدَ السلام والنضرَ فلم يذكر في إسناده ابن عبد الله بن مسعود، رواه أبو داود (2060)، وأحمد (7/ 185) من طريق وكيع، قال: ثنا سليمان بن المغيرة، عن أبي موسى، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (ما فتق الأمعاء) أي: شق أمعاء الصبي بأن سلك فيها ووقع منها موقع الغذاء، وذلك بأن يكون في زمن الرضاع.

والأمعاء: جمع مِعًى -بكسر ففتح- كعنب وأعناب، وهي المصران.

قوله: (في الثدي) جار ومجرور حال من فاعل (فتق) أي: كائنًا في الثدي، فائضًا منه، سواء كان بالارتضاع أو بغيره، أو يكون على حذف مضاف؛ أي: في زمن الثدي، وهو لغة معروفة، فإن العرب تقول: مات فلان

(1)

"الجرح والتعديل"(9/ 438).

ص: 146

في الثدي؛ أي: في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة،

(1)

. قال النووي: (معناه: مات وهو في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيه بلبن الثدي)

(2)

.

قوله: (وكان قبل الفطام) بكسر الفاء، هو فصل الصبي من الرضاع.

قوله: (أنشز العظم) أي: قواه وأحكمه وأكبر حجمه

(3)

.

* الوجه الثالث: في هذه الأحاديث دليل على أن صفة الرضاع الذي تثبت به الحرمة هو ما تغذى به الجسم واستفاد منه، وذلك بأن يصل إلى الأمعاء ويوسعها، وهذا يدل على أن القليل لا يحرم، وفيها دليل على أن وقت الرضاع هو زمن الصغر وهو وقت المجاعة.

* الوجه الرابع: استدل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما من قال: إن الرضاع المحرم هو ما كان في الحولين، وأما ما كان بعدهما فلا يحرم، وهذا قول الجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين.

قال الترمذي بعد الحديث: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا)

(4)

.

كما استدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فجعل الله تعالى تمام الرضاعة حولين، فدل على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم.

وظاهر هذا القول أن الرضاع في الحولين مؤثر، سواء فُطِمَ الصبي أم لم يفطم.

والقول الثاني: أن الرضاع في الحولين والأيام بعد الحولين، وهذا

(1)

رواه مسلم (2316).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(15/ 83).

(3)

انظر: "عون المعبود"(6/ 62).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 459).

ص: 147

رواية عن مالك، حكاها عنه ابن القاسم، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال: ما كان بعد الحولين من رضاع شهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث

(1)

. وكان مالكًا لاحظ أن الطفل يحتاج إلى هذه المدة لتحويل غذائه إلى طعام.

والقول الثالث: أن الرضاع المحرم ما كان في ثلاثين شهرًا، وهذا قول أبي حنيفة، لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء؛ لأنه يكون سنتين، فَعُلِمَ أنه أراد الحمل مع مدة الفصال، وكأنه لاحظ احتياج الطفل إلى هذه المدة للتدرج من اللبن إلى الطعام المعتاد

(2)

.

والقول الرابع: أن العبرة بالفطام

(3)

، فما كان قبل الفطام فهو مؤثر ولو كان بعد الحولين، وما كان بعد الفطام فليس بمؤثر ولو في الحولين، وقد صح هذا عن أم سلمة وابن عباس رضي الله عنهم، وهو قول جماعة من السلف منهم: الزهري، والحسن، وقتادة، وعكرمة، وأحد قولي الأوزاعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

.

واستدلوا بأثر ابن مسعود المذكور، كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الرضاعة من المجاعة" فإن عمومه يقتضي أنه ما دام الطفل غذاؤه اللبن أن ذلك الرضاع يحرم، فإن فُطم ولو في الحولين لم يكن رضاعه من المجاعة.

كما استدلوا بالنظر؛ لأنه إذا كان الطفل يتغذى بغير اللبن فأي فرق بين من كان في الحولين ومن بعد الحولين؟

وقد تقدم الخلاف في حكم رضاع الكبير، وذكر ابن القيم أن القول

(1)

"الاستذكار"(18/ 258).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 115 - 116).

(3)

"الفروع"(5/ 570).

(4)

"الاستذكار"(18/ 258)، "زاد المعاد"(5/ 577).

ص: 148

بالحولين والقول برضاع الكبير طرفان، وما سواهما فأقوال متقاربة

(1)

.

والذي يظهر -والله أعلم- ويستفاد من الأدلة أن الرضاع المعتبر ما كان الطفل بحاجة إليه، لعموم:"إنما الرضاعة من المجاعة"، ولما جاء من الأوصاف الأخرى، فإن فُطم الولد عن اللبن واستغنى بالطعام استغناء بينًا ولو في الحولين لم يكن ذلك رضاعًا؛ لأنه لا رضاع بعد الفطام. والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 570).

ص: 149

‌حكم شهادة المرضعة

1143/ 10 - عَنْ عُقْبَةَ بنِ الْحَارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بنْتَ أبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ امْرَأةٌ فَقَالتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"كَيفَ وَقَدْ قِيلَ؟ "، فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيرَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي النوفلي المكي رضي الله عنه، أسلم يوم الفتح، وكان أبوه أحد المطعمين في الجاهلية، وقد قتل يوم بدر مع المشركين، وعقبة هو قاتل خبيب بن عدي رضي الله عنه، قال الزبير بن بكار: وأهل النسب يقولون: عقبة هذا هو وأبو سِرْوعة أسلما معًا يوم الفتح، والأصح أنه أبو سروعة، وهو قول أهل الحديث، وقال ابن الأثير: الأول أصح؛ أي: أخوان أسلما يوم الفتح، ونقل الحافظ عن أبي حاتم أنه قال:(أبو سروعة قاتل خبيب، له صحبة، اسمه عقبة بن الحارث بن عامر، وليس هو عندي بعقبة بن الحارث الذي أدركه ابن أبي مليكة، ذاك قديم)

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" وأولها في كتاب "العلم"، باب "الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله"(88)، ومنها: في كتاب "النكاح"، باب "شهادة المرضعة"(5104) من عدة طرق عن

(1)

"سيرة ابن هشام"(2/ 320، 366)، (3/ 182)، "الاستيعاب"(8/ 98)، "الإصابة"(7/ 20)، "تهذيب التهذيب"(7/ 212).

ص: 150

عبد الله بن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عُزَيزٍ، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف وقد قيل؟ " فَفَارَقَها، ونكحت زوجًا غيره.

هذا لفظ البخاري في كتاب "العلم" وهو أقرب إلى لفظ "البلوغ"، وإلا فإن الحافظ ما ساقه بلفظه.

وقد رواه ابن أبي مليكة قال: حدثني عبيد بن أبي حاتم، عن عقبة بن الحارث، قال: وقد سمعته من عقبة، لكني لحديث عبيد أحفظ، قال: تزوجت امرأة

الحديث.

وهذا الحديث من أفراد البخاري، ولم يخرجه مسلم، بل لم يخرج في "صحيحه" عن عقبة بن الحارث شيئًا

(1)

.

* الوجه الثالث: في شح ألفاظه:

قوله: (بنت أبي إهاب) جاء في كتاب "الشهادات" عند البخاري: (أنه تزوج أم يحيى بنت إهاب)

(2)

، واسمها غَنِيَّةُ -بوزن عطية- بنت أبي إهاب بن عُزَيزِ بن قيس، وهي امرأة جبير بن مطعم، وأم ولده نافع ومحمد

(3)

.

قوله: (فجاءت امرأة) في رواية عند البخاري: (فجاءت أمة سوداء)

(4)

.

قوله: (ولا أخبرتني) بكسر التاء المثناة؛ أي: قبل ذلك، وكأنه اتهمها، وفي رواية للبخاري في "النكاح":(وهي كاذبة). وفي رواية: (فأرسل إلى أبي آل إهاب يسألهم، فقالوا: ما علمناه أرضعت صاحبتنا)

(5)

.

قوله: (فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: من مكة؛ لأنها كانت دار إقامته.

قوله: (كيف وقد قيل) استفهام إنكاري؛ أي: كيف تجتمع بها وتباشرها وقد

(1)

"النكت على العمدة" للزركشي ص (298).

(2)

"صحيح البخاري"(2659).

(3)

"الإعلام"(9/ 30)، "الإصابة"(13/ 64، 306).

(4)

"صحيح البخاري"(2659).

(5)

"صحيح البخاري"(2640).

ص: 151

قيل ذلك، والواو حالية، وفي رواية:"دعها عنك"، وفي أخرى:"فنهاه عنها".

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الرضاع يثبت وتترتب عليه أحكامه بشهادة امرأة واحدة، وهذا مذهب الإمام أحمد، وهو قول طاوس، والزهري، والأوزاعي، وآخرين

(1)

.

وذهب الشافعي، وعطاء إلى أنه لا بد من أربع نسوة؛ لأن كل امرأتين في منزلة الرجل الواحد

(2)

.

وذهب مالك، والحكم بن عتيبة إلى أنه لا يقبل إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجل أكمل شهادة، وإذا كان لا يقبل في الشهادة إلا رجلان فمن باب أولى لا يقبل إلا امرأتان، وهذا القول رواية عن أحمد

(3)

.

وذهب الحنفية إلى أنه لا يقبل إلا رجلان أو رجل وامرأتان قياسًا للرضاع على غيره

(4)

، لعموم قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282].

والجمهور على عدم العمل بحديث الباب كما تبين، فلا يقبل في الرضاع شهادة امرأة واحدة؛ لأنها شهادة على نفع نفسها، وحملوا الحديث على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بفراقها من باب الورع، وأن النهي فيه للتنزيه.

وهذا محمل ضعيف، لمخالفته لظاهر الحديث، ولا سيما بعد تكرار السؤال، كما في بعض الروايات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"دعها عنك"، "كيف وقد قيل"

(5)

.

فالصواب القول الأول، وهو أن شهادة المرأة الواحدة تقبل في الرضاع ولو كانت هي المرضعة؛ لأن هذه المرأة أثبتت الرضاع، ونفاه عقبة، فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم قولها. فحديث الباب نص في محل النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل

(1)

"المغني"(11/ 340).

(2)

"مغني المحتاج"(3/ 424).

(3)

"شرح الخرشي على مختصر خليل"(4/ 182).

(4)

"بدائع الصنائع"(4/ 14).

(5)

"نيل الأوطار"(6/ 359).

ص: 152

شهادتها، ولأن الرضاع فعل لا يحصل لها به نفع مقصود، ولا تدفع عنها به ضررًا، فقبلت شهادتها فيه كفعل غيرها، ثم إن الرضاع من الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء في الغالب الكثير، واطلاع الرجال عليه أمر نادر، فكيف ترد شهادتهن فيه والحاجة داعية إلى ذلك؟

وما استدل به المخالف فهو إما عمومات، فيقدم عليها حديث الباب؛ لأنه خاص، أو تعليل لا يقف لمعارضة هذا الحديث الصحيح الصريح.

وقد روى عبد الرزاق بسنده عن ابن شهاب، قال: جاءت امرأة سوداء في إمارة عثمان رضي الله عنه إلى ثلاثة أبيات قد تناكحوا، فقالت: أنتم بَنِيَّ وبناتي، ففرق بينهم

(1)

.

وروى -أيضًا- بسنده عن الشعبي، قال: كان القضاة يفرقون بشهادة امرأة في الرضاع

(2)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على قبول شهادة الرقيق إذا كان عدلًا، لقوله:(فجاءت أمة سوداء) ولو لم تكن شهادتها مقبولة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بفراق امرأته بناء على شهادتها.

والجمهور على أنه لا تقبل شهادة الرقيق، والصواب مع من قبلها

(3)

.

* الوجه السادس: في الحديث دليل للقاعدة الشرعية: يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، وذلك أن شهادة المرأة الواحدة لا تكفي في فسخ النكاح وفي الطلاق، فإذا شهدت بالرضاع ثبت حكمه -عند من يقبل شهادتها- ويترتب على ذلك فسخ النكاح تبعًا له إذا كان قد حصل بين من يحرم اجتماعهما. ومثل ذلك الشهادة بالولادة فإنه يثبت بها النسب، ولا يثبت النسب بشهادتهن استقلالًا.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه يجب الإنكار على من حاول البقاء على المحرمات ولو كان عن تأويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعقبة: "كيف وقد قيل؟ " مع أنه قال: (هي كاذبة). والله تعالى أعلم.

(1)

"المصنف"(7/ 482)، والزهري لم يدرك عثمان رضي الله عنه، فهو مرسل.

(2)

"المصنف"(7/ 484).

(3)

"فتح الباري"(5/ 267).

ص: 153

‌ما جاء في النهي عن استرضاع الحمقاء

1144/ 11 - عَنْ زَيادٍ السَّهْمِي قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسْتَرْضَعَ الحَمْقَاءُ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاودَ، وَهُوَ مُرْسلٌ، وَلَيسَتْ لِزيَادٍ صُحْبَةٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو زياد السهمي، روى عنه هشام بن إسماعيل المكي، قال في "التقريب":(مجهول، أرسل حديثًا) وقد ذكره ابن حجر في "الإصابة" في القسم الرابع، وهو من ذكر اسمه في الصحابة على سبيل الوهم والغلط

(1)

.

* الوجه الثاني: في خريجه:

أخرجه أبو داود في "المراسيل"(196)، ومن طريقه البيهقي (7/ 464)، قال أبو داود:(حدثنا الحسن بن الصبَّاح، حدثنا إسحاق ابن بنت داود بن أبي هند -من خير الرجال- عن هشام بن إسماعيل المكي، عن زياد السهمي، قال: نهى رسول لله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقاء، فإن اللبن يُشبه).

وهذا سند ضعيف، زياد السهمي مجهول، كما مضى، والراوي عنه وهو هشام مجهول، وإسحاق ابن بنت داود، قال عنه ابن القطان:(لا تعرف له حال، وقول الحسن بن الصباح: إنه من خير الرجال، لا يقضي له بالثقة في الرواية)

(2)

.

وإسحاق هذا وثقه الخطيب، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: (ربما

(1)

"الإصابة"(4/ 93)، "تهذيب التهذيب"(3/ 336).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 63).

ص: 154

أخطأ)

(1)

، وقال الحافظ:(صدوق يخطئ).

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن تسترضع) أي: يطلب منها الرضاع، فتكون مرضعة للطفل.

قوله: (الحمقاء) مؤنث الأحمق، يقال: حَمُقَ -بالضم- فهو أحمق، والمرأة حمقاء، والحُمْقُ: قلة العقل، وضعف البصيرة.

قوله: (فإن اللبن يشبه) أي: إن المرأة إذا أرضعت غلامأ فإنه ينزع إلى أخلاقها فيشبهها

(2)

.

ولذا قيل: إن الرضاع يغير الطباع.

* الوجه الرابع: استدل الفقهاء بهذا المرسل على أنه لا ينبغي أن تُسترضع المرأة الحمقاء، بمعنى يطلب منها أن ترضع الطفل، وهذا وإن كان مرسلًا إلا أنه يستأنس به من جهة المعنى في اختيار المرضعة بأن تكون امرأة عاقلة مستقيمة معروفة بالدين والأخلاق الفاضلة، وقد نقل الموفق عن الإمام أحمد أنه كره الارتضاع بلبن الفجور والمشركات؛ لأن لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور، والارتضاع من المشركة يجعلها أمًّا، لها حرمة الأم مع شركها، وربما مال إليها في محبة دينها

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الثقات"(8/ 108)، "تهذيب التهذيب"(1/ 215).

(2)

"النهاية"(2/ 442).

(3)

"المغني"(11/ 346).

ص: 155

‌باب النفقات

النفقات: جمع نفقة كثمرة وثمرات، وهي في اللغة: اسم من الإنفاق، وهو الإخراج، واللفظ يدل على المضي والذهاب، يقال: نَفقَ فرسه: إذا ذهب، ونَفِقَتِ الدراهم نفقًا من باب تعب: نَفِدَتْ

(1)

.

وشرعًا: ما يلزم المرءَ صرفُه لمن عليه مؤنته من زوجته وأولاده ومماليكه ودوابه ونحو ذلك.

والأسباب الموجبة للنفقة ثلاثة:

1 -

النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح، وهذه نفقة الزوجات.

2 -

النسب: وهو الاتصال بين شخصين بولادة قريبة أو بعيدة، وهذه نفقة الأقارب.

3 -

المُلك: وذلك كالرقيق والدابة، وهذه نفقة المماليك والبهائم.

ونفقة الزوجة هي أقوى النفقات؛ لأنها معاوضة، فتطالب بها، أو لها الفسخ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

(1)

"المصباح المنير"(2/ 618).

ص: 156

‌جواز إنفاق المرأة من مال زوجها بغير علمه إذا منعها الكفاية

1145/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بنتُ عُتْبَةَ -امْرَأةُ أبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِيني مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيني وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذَلِكَ مِنْ جُنَاح؟ فَقَال:"خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في مواضع أولها كتاب "البيوع"(2211)، ومنها: في "النفقات"، في عدة أبواب، ومنها: باب (إذا لم ينفق الرجل للمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف (53641)، ومسلم (1714) من طرق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظ مسلم.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (دخلت هند) هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، صحابية، قرشية، عالية الشهرة، أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها يوم الفتح، وكانت ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، فجاءته مع بعض النسوة في الأبطح فأعلنت إسلامها، ورَحَّبَ بها، وأخذ البيعة عليهن، وكانت فصيحة جريئة، صاحبة رأي وحزم وأنفة، تقول الشعر الجيد، ومنه رِثَاها لقتلى بدر من المشركين قبل إسلامها، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه،

ص: 157

وبهذا جزم ابن سعد، ومال إليه الحافظ، وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه سنة أربع عشرة في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول ابن عبد البر، والله تعالى أعلم

(1)

.

قوله: (أبي سفيان) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، صحابي من سادات قريش في الجاهلية، والد معاوية رأس الدولة الأموية، ولد سنة سبع وخمسين قبل الهجرة، أسلم يوم الفتح، وأبلى بعد إسلامه البلاء الحسن، وشهد حنينًا والطائف، ومات سنة إحدى وثلاثين رضي الله عنه

(2)

.

قوله: (فقالت: إن أبا سفيان) هذا السؤال كان يوم الفتح وقت إسلام هند رضي الله عنها.

قوله: (رجل شحيح) أي: بخيل حريص، يقال: شَحَّ يَشُحُّ، من باب (قتل)، وفي لغة من بابي (ضرب وتعب)، فهو شحيح، وهم أشحاء وأشحة، وفي رواية:(رجل مِسِّيك) بكسر الميم وتشديد السين صيغة مبالغة، ويجوز مَسِيك وزن شحيح. والشح أعم من البخل؛ لأن البخل مخصوص بمنع المال، والشح يعم منع كل شيء في جميع الأحوال

(3)

، وقيل: الشح هو البخل مع حرص

(4)

.

وقال ابن القيم: (الفرق بين الشح والبخل: أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وامساكه، فهو شحيح قبل الحصول، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل)

(5)

، وسيأتي مزيد كلام في هذين اللفظين في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

(1)

"الاستيعاب"(13/ 178)، "الإصابة"(13/ 165)، "فتح الباري"(9/ 508).

(2)

"الاستيعاب"(5/ 117)، "الإصابة"(5/ 127).

(3)

"الإعلام"(10/ 14).

(4)

"مختار الصحاح" ص (331).

(5)

"الوابل الصيب" ص (41).

ص: 158

قوله: (من جناح) الجناح: هو الإثم، وهو من الميل، قال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] أي: مالوا، وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، كقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ} في غير موضع من القرآن.

قوله: (خذي) هذا أمر إباحة، بدليل رواية البخاري:"لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف"

(1)

.

قوله: (بالمعروف) أي: بما يقره الشرع والعرف، وقال ابن حجر:(المراد بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية)

(2)

.

واعلم أن هندًا لم ترد أن أبا سفيان شحيح مطلقًا، فتذمه بذلك، وإنما وصفت حاله معها، فإنه كان يقتر عليها وعلى أولادها، كما قالت:(لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفى بنيّ) وهذا لا يدل على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإنسان هذا مع أهل بيته؛ لأن غيرهم أحوج منهم وأولى، وعلى هذا فلا يجوز أن يُستدل به على أن أبا سفيان كان بخيلًا، فإنه لم يكن معروفًا بهذا

(3)

، ثم إن العرب لا تُسوِّد البخلاء، وأبو سفيان كان سيد قومه.

* الوجه الثالث: هذا الحديث فيه مسائل عديدة تدخل في أبواب الفقه، أذكر منها ما يتعلق بالنفقات، وما أرى أهميته مما زاد على ذلك:

ففي الحديث دليل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها، وقد انعقد الإجماع على ذلك، وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب نفقة الولد على أبيه، وقد أجمعوا على وجوبها إذا كان الولد صغيرًا أو بالغًا مريضًا وهو معسر، فإن بلغ مبلغًا يمكنه تحصيل نفقته بالاكتساب سقطت نفقته عن الأب، لكن عموم الحديث يفيد وجوب النفقة على الأب مطلقًا إذا كانوا فقراء، وله ما ينفق عليهم، ولم يستثن منهم بالغًا ولا صحيحًا.

(1)

"صحيح البخاري"(2460).

(2)

"فتح الباري"(9/ 509).

(3)

"المفهم"(5/ 159).

ص: 159

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن القول قول الزوجة في قبض النفقة، ووجه الاستدلال: أنه لو كان القول قول الزوج لكلفت المرأة أن تقيم بينة على إثبات عدم الكفاية، فلما سلطها الشارع على ماله دل على أن القول قولها، ومن قال: إن القول قول الزوج أجاب عن الحديث بأنه ليس قضاء وإنما هو فتيا

(1)

.

* الوجه السادس: الحديث دليل على أن من وجبت عليه النفقة فلم ينفق شحًّا فإنه يؤخذ من ماله ولو بغير علمه؛ لأنها نفقة واجبة عليه، وقد ذكر أهل العلم أن هذا ليس خاصًّا بالنفقة بل هو عام في كل من له حق على إنسان وامتنع عن أدائه، وتسمى مسألة الظفر، وهي مسألة خلافية تقدم بحثها في باب "العارية"

(2)

والراجح -كما تقدم- أنه إن كان الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى بينة كالنفقة وحق الضيف جاز الأخذ، وإن كان الحق خفيًّا كالدين أو ثمن المبيع ونحو ذلك مما خفي لم يجز الأخذ، والله أعلم.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على أن المعتبر في النفقة الواجبة الكفايةُ المعتبرةُ بالمعروف، والمعروف يقضي بمراعاة أمور كثيرة تختلف باختلاف البلاد والأزمنة.

والقول بأن النفقة معتبرة بالكفاية، وليست مقدرة بشيء معين هو قول أكثر أهل العلم

(3)

.

ووجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر هندًا أن تأخذ كفايتها من غير تقدير، ورد الاجتهاد في ذلك إليها مع التقييد بالمعروف؛ أي: المتعارف عليه بين كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، ولم يعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدار معلوم.

والمشهور في مذهب الشافعي، ورواية عن مالك أن النفقة مقدرة بالأمداد على الموسر كل يوم مدان، وعلى المعسر مد، وعلى المتوسط مد

(1)

"الإعلام"(10/ 20).

(2)

انظر: "شرح الحديث"(890).

(3)

انظر: "بداية المجتهد"(3/ 104)، "المغني"(11/ 349).

ص: 160

ونصف، قياسًا على فدية الأذى في الحج، وكفارة الجماع في رمضان

(1)

.

والصواب الأول، ولذا قال النووي -وهو من الشافعية-:(إن هذا الحديث يرد على أصحابنا) أي: لأنه نص صريح في اعتبار الكفاية بدون تقدير شيء معين، لكن قال الحافظ: إنه ليس صريحًا في الرد عليهم، دانما التقدير بالأمداد يحتاج إلى دليل

(2)

، وعلى أي حال فالظاهر أن جميع أنواع النفقة غير مقدرة شرعًا، لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، فيكون مرجعها إلى العرف الذي يتمشى مع أحكام الشرع ومقاصده.

* الوجه الثامن: استدل العلماء بهذا الحديث على أن المعتبر في نفقة الزوجة عند النزاع منظور فيه إلى حالها وقدر كفايتها دون حال زوجها، وهذا قول بعض الحنفية، لقوله:"خذي ما يكفيك"

(3)

.

والقول الثاني: أن النفقة معتبرة بحال الزوجين معًا، فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين، وإن كانا معسرين فعليه نفقة المعسرين، وإن كانا متوسطين فلها عليه نفقة المتوسطين، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر، وهذا مذهب الحنابلة، والمالكية، واختاره الخصاف من الحنفية، وقال صاحب "الهداية":(وعليه الفتوى)

(4)

، قال الموفق:(وفيه جمع بين الأدلة وعمل بها ورعاية لكلا الجانبين)

(5)

.

وقد استدل هؤلاء بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مع حديث هند الذي معنا.

والقول الثالث: أن النفقة معتبرة بحال الزوج وحده يسارًا وإعسارًا، فإن كان غنيًّا ألزم عند النزاع بنفقة غني، وإن كان فقيرًا فنفقة فقير ولو كانت هي غنية.

(1)

"مغني المحتاج"(3/ 426).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 248)، "فتح الباري"(9/ 509).

(3)

"حاشية ابن عابدين"(3/ 603).

(4)

"المدونة الكبرى"(2/ 192)، "بداية المجتهد"(3/ 104)، "الهداية"(2/ 39).

(5)

"المغني"(11/ 349).

ص: 161

وهذا قول الشافعية والظاهرية، وظاهر الرواية عند الحنفية؛ للآية الكريمة المذكورة، ولقوله تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] حيث إن ظاهرهما يفيد أن المعتبر حال الزوج

(1)

، إلا أن الشافعية استثنوا المسكن، فالمعتبر فيه حال الزوجة لا حال الزوج

(2)

.

وهذا القول قوي جدًّا، فإن الآية دليل واضح على أن الزوج لا يكلف أكثر مما يطيق، وحديث هند -في نظري- ليس فيه دليل على أن المعتبر حال الزوجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف حال أبي سفيان وأنه قادر على الإنفاق، فأمرها أن تأخذ ما يكفيها؛ لأن من يعطي بعض النفقة ويمنع بعضها قادر على أن يؤخذ من ماله ما يكفي زوجته وأولاده.

* الوجه التاسع: في الحديث دليل على أن المرأة إذا قَدِرَتْ على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل، وسيأتي -إن شاء الله- حكم ما إذا عَجَزَ الزوج عن الإنفاق.

* الوجه العاشر: في الحديث دليل على أن ما لم يقدره الله ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف.

* الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على أن ذم الشاكي لخصمه بما هو فيه حال الشكاية لا يكون غيبة، فلا يأثم به هو ولا سامعه بإقراره عليه

(3)

.

* الوجه الثاني عشر: جواز سماع كلام المرأة الأجنبية عند الإفتاء والحكم وما فيه معنى ذلك، وقد شرط الفقهاء لذلك أمن الفتنة وعدم التلذذ بكلامها، لقوله تعالى:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] قال الجصاص: (فإذا كانت منهية عن إسماع صوت خلخالها، فكلامها إذا كانت شابة تُخشى من قِبَلِهَا الفتنة أولى بالنهي عنه)

(4)

.

(1)

"المحلى"(10/ 91 - 92)، "مغني المحتاج"(3/ 426)، "حاشية ابن عابدين"(3/ 603).

(2)

"مغني المحتاج"(3/ 432).

(3)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 284)، "إعلام الموقعين"(6/ 480).

(4)

"أحكام القرآن"(5/ 229).

ص: 162

وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تسمع الأجانب صوتها في الصلاة، وأما خارج الصلاة فيجوز لها أن تكلم من احتاجت إلى تكليمه، كما في الاستفتاء، والرد على الهاتف ونحو ذلك بقدر الحاجة بكلام معروف لا لين فيه، ولا ميوعة

(1)

، قال تعالى:{إِنِ اتَّقَيتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. قال ابن كثير: (ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم؛ أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإحكام"(2/ 93).

(2)

"تفسير ابن كثير"(6/ 405).

ص: 163

‌بيان فضل المنفق وما تنبغي مراعاته عند الإنفاق

1146/ 2 - عَنْ طَارقٍ الْمُحَارِبِي رضي الله عنه قَال: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ ويَقُولُ:"يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأ بمَنْ تَعُولُ: أمَّكَ وَأَبَاكَ، وأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ"، رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَصحَّحَهُ ابْنُ حِبانَ وَالدَّارَقُطْني.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو طارق بن عبد الله المحاربي الكوفي، له رواية وصحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين أو ثلاثة، وروى عنه أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي، وربعي بن حراش، وجامع بن شداد المحاربي

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه النسائي في كتاب "الزكاة"، باب "أيتهما اليد العليا"(5/ 61)، وابن حبان (8/ 131)، والدارقطني (3/ 44 - 45) من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق المحاربي، قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس

الحديث.

وهو عند النسائي وابن حبان مختصرًا هكذا، ورواه الدارقطني مطولًا.

وهذا الحديث رجاله ثقات، يزيد بن زياد وثقه أحمد وابن معين

(1)

"الاستيعاب"(5/ 215)، "الإصابة"(5/ 214).

ص: 164

والعجلي، وقال أبو حاتم:(ما بحديثه بأس، هو صالح الحديث)

(1)

، وقال الحافظ:(صدوق)، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين. وأصله في "الصحيحين"، فأوله جاء من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول

"

(2)

وآخره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"

(3)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (يد المعطي العليا) هذا تعريف العليا بأنها يد المعطي، وهذا تعريف حسي ومعنوي، فالمنفق يده عالية على يد الأخذ عند القبض، وهي عالية عليها في شرفها وفضلها وإحسانها.

قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: ابدأ في الإعطاء والإنفاق بمن تعول، وهو الذي تلزمك نفقته من أهل وعيال، يقال: عال الرجلُ اليتيمَ عولًا، من باب (قال): كفله وقام به، والعيال: أهل البيت ومن يمون الإنسان، الواحد: عَيِّل، مثل: جياد وجيد

(4)

. وتقدم في "الزكاة".

قوله: (أمك وأباك) منصوب بفعل مقدر؛ أي: أعط أمك.

قوله: (ثم أدناك أدناك) أي: ثم أعط أقاربك الأقرب فالأقرب، وهذا التكرار إما للتوكيد، أو للتدرج في حقوق الأقارب: الأقرب فالأقرب.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن تكون يده عليا بحيث يكون منفقًا محسنًا على قدر حاله واستطاعته، لا أن يكون آخذًا سائلًا؛ لأن البذل والإنفاق يجعل اليد عليا.

(1)

"الجرح والتعديل"(9/ 262)، "تهذيب التهذيب"(11/ 286)

(2)

تقدم هذا في باب "صدقة التطوع" من كتاب "الزكاة" برقم (634).

(3)

رواه البخاري (5971)، ومسلم (2548).

(4)

"المصباح المنير" ص (438).

ص: 165

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحسن إلى أقاربه وأرحامه ويواسيهم بما يستطيع، وأن يبدأ بالأهم فالأهم، فيبدأ بالأم؛ لأنها مقدمة في البدء على الأب، ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية فهو أقل منها، والأخت مقدمة على الأخ، وهكذا يراعي الأقرب فالأقرب من أقاربه إذا لم يكن عنده ما يكفيهم.

* الوجه السادس: اسْتُدِلَّ بهذا الحديث على وجوب نفقة الأقارب على قريبهم إذا كان قادرًا على الإنفاق، والمنفَق عليه محتاجًا، لقوله:"وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" والمراد بالأقارب: قرابة الأصول والفروع وكل ذي رحم محرم. والله تعالى أعلم.

ص: 166

‌وجوب نفقة المملوك على مالكه

1147/ 3 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ"، رَوَاهُ مِسْلِمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب "الأيمان"، باب "إطعام" المملوك" (1662) من طريق عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشج حدثه، عن العجلان مولى فاطمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يجب على السيد نفقة رقيقه وكسوته، سواء أكان عبدًا أم أمة، وأنه لا يكلف من العمل إلا ما كان في حدود قدرته واستطاعته.

وقد جاء في "الصحيحين" من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"

(1)

.

وهذا الأمر يراد به الندب؛ لأن السيد لو أطعم رقيقه أدنى مما يأكله وألبسه أقل مما يلبسه فإنه لا يذم؛ لأنه قد أدى الواجب، قال القرطبي:(ولا خلاف في ذلك فيما علمته)

(2)

، وإنما موضع الذم أن يمنعه مما تقوم به

(1)

"صحيح البخاري"(2545)، "صحيح مسلم"(1661).

(2)

"المفهم"(4/ 352).

ص: 167

حياته، وأما كونه يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس فهذا من مكارم الأخلاق، وقد لبس أبو ذر رضي الله عنه بُردًا وألبس غلامه مثله، وقد جاء الحديث في الحث عليه والإرشاد إليه؛ لأن هذا نوع من التواضع بحيث لا يرى لنفسه مزية على عبيده، إذ الكل عبيد الله، والمال مال الله، ولكن الله تعالى سخر بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا

(1)

.

* الوجه الثالث: يستفاد من ذلك وجوب الإحسان إلى الخدم والعمال بإعطائهم حقوقهم في وقتها، وعدم تكليفهم من العمل ما لا يطيقون، أو التعدي على أوقات عباداتهم وراحتهم، وقد تقدم شيء من ذلك في باب "الإجارة". والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم"(4/ 352).

ص: 168

‌وجوب نفقة الزوجة على زوجها

1148/ 4 - عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاويةَ الْقُشَيرِيِّ عَنْ أبيهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أحَدِنَا عَلَيهِ؟ قَال:"أنْ تُطْعِمَهَا اذَا طَعِمْتَ، وَتَكسُوهَا اذَا اكْتَسَيتَ" الحَدِيثَ، وَتَقَدَّمَ في عِشْرَةِ النِّسَاءِ.

1149/ 5 - وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: في حَدِيثِ الْحَجِّ بطُولِهِ، قَال في ذِكْرِ النِّسَاءِ:"وَلَهُنَّ عَلَيكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث حكيم بن معاوية رضي الله عنه تقدم تخريجه في باب (عشرة النساء) من كتاب "النكاح" برقم (1033) مع وجود اختلاف في بعض الألفاظ عما هنا، وقد أخرجه أحمد (33/ 217)، وأبو داود (2142)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 269)، وابن ماجه (1850)، وابن حبان (9/ 482)، والحاكم (2/ 187 - 188) كلهم من طريق أبي قزعة الباهلي، عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال:

وذكر الحديث.

وهذا الحديث قد صححه ابن حبان، والحاكم، وسكت عنه الذهبي، وحسنه الألباني

(1)

. ولعل ذلك من أجل حكيم بن معاوية، فقد قال عنه الحافظ:(صدوق).

(1)

"آداب الزفاف" ص (280).

ص: 169

وكذا حديث جابر رضي الله عنه فقد تقدم تخريجه في باب (صفة الحج) من كتاب "الحج" برقم (742)، وهذه الجملة مما حذفه الحافظ -هناك- عند سياقه للحديث، ولذا لم يقل الحافظ إنه تقدم كالذي قبله.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها على زوجها وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم

(1)

.

ووجه الاستدلال من الحديث الأول: أن قوله: "تطعمها

" جاء جوابًا لقول السائل: (ما حق زوجة أحدنا عليه؟)، ولفظة:(حق) تقتضي الوجوب، لا سيما مع وجود القرائن، ومنها لفظة:(على) فإنها من الحروف الدالة على الإيجاب، كما ذكره الأصوليون.

ووجه الاستدلال من الحديث الثاني: أن صيغة: (لهن عليكم) تفيد إلزام الأزواج بالنفقة والكسوة، وهذا يقتضي الوجوب، ونفقة الزوجة أقوى النفقات، كما تقدم؛ لأنها معاوضة، فتطالب بها أو لها الفسخ؛ لأن الزوجة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، ومن القواعد المقررة في الشريعة أن من حُبس لِحَقِّ غيره فنفقته واجبة عليه

(2)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن نفقة الزوجة وكسوتها واجبة بالمعروف، وهو المعتاد في بيئتها وزمانها من غير تقتير ولا تبذير، وهذا يدل على أن نفقة الزوجة معتبر فيها الكفاية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على مقدار معين، بل ترك ذلك إلى المعروف، لاختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص.

وفي حديث حكيم بن معاوية أن حقها على زوجها أن يطعمها من طعامه ويكسوها من كسوته، ولا ريب أن هذا من كمال المروءة ومن مكارم الأخلاق، فلا يقدم نفسه عليها أو يميزها عنه، ويتأكد هذا فيمن عنده أكثر من زوجة. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(11/ 348).

(2)

"المغني"(11/ 348)، "آثار عقد الزواج" ص (161).

ص: 170

‌عظم مسؤولية المرء عمن تلزمه نفقته

1150/ 6 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقوتُ"، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بلَفْظِ: "أنْ يَحْبِسَ عمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الزكاة"، بابٌ "في صلة الرحم"(1692)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 268) من طريق أبي إسحاق، عن وهب بن جابر الخيواني، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، مرفوعًا.

والحديث رجاله ثقات غير وهب بن جابر، فهو متكلم فيه، فقد وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان، ونقل الحافظ عن ابن المديني أنه قال:(مجهول) وقال الذهبي: (لا يكاد يعرف، تفرد عنه أبو إسحاق)

(1)

.

وأصل الحديث في "صحيح مسلم"(996) من طريق طلحة بن مصرف، عن خيثمة، قال: كنا جلوسًا مع عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له، فدخل، فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلقْ؛ فأعطهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا

".

وقد ذكر الصنعاني تبعًا للشارح المغربي أن لفظ مسلم خاص بقوت

(1)

"تاريخ الدارمي"(834)، "الثقات"(5/ 489)، "تاريخ الثقات"(466)، "تهذيب التهذيب"(10/ 141).

ص: 171

المماليك، ولفظ النسائي عام

(1)

، ولعل وجه العموم في قوله:"من يقوت" فإنه عام في الزوجة والأولاد والرقيق والحيوان، بخلاف:"من يملك" فهو في المملوك والحيوان، على أن النسائي بَوَّبَ لهذا الحديث بقوله:"إثم من ضَيَّعَ عياله".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كفى بالمرء إثمًا) كفى: فعلٌ ماضٍ مبني على فتح مقدر، بالمرء: الباء حرف جر زائد، والمرء: مفعول كفى مجرور لفظًا منصوب محلًّا، إثمًا: تمييز.

قوله: (أن يضيع) في تأويل مصدر فاعل كفى، وهو من أضاع الرباعي، أو من ضَيَّعَ مشددًا، وهو من التضييع؛ أي: يترك من يقوت ضائعًا هالكًا.

قوله: (من يقوت) من قاته يقوته: إذا أعطاه قوتًا، والقوت: ما يؤكل ليمسك الرمق، وجمعه: أقوات

(2)

.

ومعنى الحديث: يكفي في كون المرء آثمًا مذنبًا أن يضيع ويهمل من تلزمه نفقته من مماليك وبهائم وغيرهم.

قوله: (قهرمان) بفتح القاف وإسكان الهاء، هو كالخازن الوكيل والحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجال بلغة الفرس

(3)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على عظم مسؤولية الإنسان عمن تلزمه نفقته، من زوجة وأولاد وأقارب ومماليك وحيوان، وأن تضييع الإنسان وإهماله لمن تحت يده ببخله وإمساكه النفقة عنه من أكبر أسباب الإثم.

فالواجب على الإنسان أن يتقي الله تعالى ويبذل النفقة لمن هي لهم، سواء أكان من بني آدم أم من الحيوان، ولا يجوز له أن يقصر فيها أو يظلم أو يحبسها عنهم بغير حق، وعليه أن يبدأ بمن يعول. والله تعالى أعلم.

(1)

"سبل السلام"(3/ 420).

(2)

"المصباح المنير" ص (518).

(3)

"النهاية"(4/ 129).

ص: 172

‌ما جاء في نفقة الحامل المتوفى عنها

1151/ 7 - عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ -في الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا- قَال: "لَا نَفَقَةَ لَهَا". أَخْرَجَهُ الْبَيهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لكِنْ قَال: الْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ.

1152/ 8 - وثَبَتَ نَفْيُ النَّفَقَةِ في حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيسٍ رضي الله عنه كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الكلام عليهما من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه البيهقي (7/ 431) من طريق حرب بن أبي العالية، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

وهذا سند ضعيف، فيه حرب بن أبي العالية، قال الذهبي:(خرج له مسلم وأبو عبد الرحمن حديثًا واحدًا)، وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه، فقال:(روى عنه هشيم، ما أدري، له أحاديث ضعيفة) كأنه ضعفه.

واختلف فيه رأي ابن معين، فمرة قال:(شيخ ضعيف)، ومرة قال:(ثقة)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يهم).

وفيه -أيضًا- عنعنة أبي الزبير، وهو موصوف بالتدليس

(2)

.

ورواه البيهقي (7/ 430) موقوفًا من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة، حسبها الميراث.

(1)

"سير أعلام النبلاء"(7/ 193)، "تهذيب التهذيب"(2/ 197).

(2)

"نصب الراية"(3/ 274).

ص: 173

قال البيهقي: (هذا هو المحفوظ موقوف).

وفيه عنعنة ابن جريج وأبي الزبير، وقد رواه عبد الرزاق (7/ 37) قال: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر، قال: (ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة

) وفيه تصريح ابن جريج بالتحديث.

وأما حديث فاطمة بنت قيس فقد مضى تخريجه في باب (الكفاءة والخيار)(1006)، ثم في باب (العِدَدِ)(1111).

* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن المتوفى عنها زوجها ليس لها نفقة وإن كانت حاملًا، وهذا الأثر وإن كان موقوفًا وفيه ما تقدم، لكنه مؤيد بأمور ثلاثة:

الأول: أن الوفاة بينونة كبرى، فهي كالطلاق الذي هو آخر الثلاث بجامع البينونة والحِلِّ للغير، ولهذا ذكر الحافظ حديث فاطمة بنت قيس بعد هذا الحديث مع أنه ليس في المتوفى عنها، والمعنى: أنه إذا كانت البائن في حال الحياة لا نفقة لها فالمتوفى عنها من باب أولى.

الأمر الثاني: أن المال قد انتقل من الزوج إلى الورثة فوقعت فيه السهام، وهي من جملتهم لها سهمها، فنفقتها من سهمها.

الأمر الثالث: أنه لو قيل بالنفقة فإنه لا يخلو إما أن تكون النفقة لها أو للحمل، فبطل أن يكون للحمل؛ لأن نفقة الأقارب تسقط بالوفاة، وبطل أن تكون لها؛ لأنها لو كانت لها، لكانت لها وإن كانت حائلًا، فإذا لم تجب لواحد منهما بطل وجوبها.

والقول بأنه لا نفقة لها، هو قول الجمهور من أهل العلم، وهو قول جابر وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال ابن المسيب وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو الراجح عند الحنابلة، ورجحه ابن المنذر

(1)

.

(1)

"تفسير القرطبي"(3/ 185)، "بدائع الصنائع"(3/ 211)، "الخرشي على خليل"(4/ 150)، "نهاية المحتاج"(7/ 154)، "المغني"(11/ 405).

ص: 174

والقول الثاني: أن النفقة تجب للمتوفى عنها الحامل، وتكون من جميع المال، وهذا القول حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم وابن سيرين والشعبي والثوري وآخرين، وهو وجه في مذهب أحمد.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] قالوا: ولأنها معتدة بالحمل عن نكاح، فكان لها النفقة كالمطلقة الحامل.

والراجح الأول؛ لقوة مأخذه، وأما الآية فإنها في الحامل المبتوتة، وهو قول أكثر المفسرين، وذلك أن البائن في حال الحياة إذا كانت حاملًا فالإنفاق على زوجها من ماله، بخلاف المتوفى عنها فإن المال انتقل للورثة، كما تقدم، وعلى هذا فالنفقة تكون في حصة هذا الجنين من التركة، فإن لم يكن تركة وجبت نفقته على قريبه.

وهذا الخلاف في المتوفى عنها الحامل، فإن كانت غير حامل فلا نفقة لها بالإجماع

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح السنة"(9/ 302).

ص: 175

‌وجوب الإنفاق على الزوجة والمملوك والولد

1153/ 9 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اليَدُ الْعُلْيَا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَيَبْدَأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَطْعِمْني أوْ طَلِّقْني"، رَوَاهُ الدَّارَقُطْني، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (3/ 297) من طريق عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير

" وفي آخره: "ويقول عبده: أطعمني واستعملني، ويقول ولده: إلى من تكلني".

وقد حسن الحافظ هذا الإسناد، لأن فيه عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث؛ لأن العلماء تكلموا في حفظه

(1)

، لكن الظاهر أن هذه الرواية معلولة؛ لأن الصواب فيها الوقف، كما في رواية الأعمش عن أبي صالح الآتية، فيكون رفع الحديث من أوهام عاصم.

وقوله: (تقول المرأة

) ظاهره أنه مرفوع، والصواب أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، بدليل رواية البخاري (5355) من طريق الأعمش، حدثني أبو صالح، قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة ما ترك غنًى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني،

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 35).

ص: 176

ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ " فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على فضل البذل والإنفاق من غير إسراف، والترغيب في ذلك، وخيرية اليد العليا المعطية على اليد السفلى، وهي يد الآخذ، وقد دل على هذا المعنى حديث حكيم بن حزام في "الصحيحين"

(1)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الواجب على المنفق أن يبدأ بمن يعول، فيقدم النفقة الواجبة على غيرها من النفقات؛ كنفقة الزوجة والأولاد والوالدين إذا كانا عاجزين، وغيرهم، وعلى المؤمن الذي أعطاه الله تعالى بسطة في المال أن تكون يده عليا في الأقربين.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن للمرأة أن تطلب الفراق إذا لم ينفق عليها زوجها، وأن هذا حق لها، لها أن تطلبه، ولها أن تصبر وترضى بما عليه زوجها من العسر، وهذا أفضل لها، كما حصل من نساء سلف هذه الأمة إلى يومنا هذا، فإن من النساء التقيات الخيرات من تصبر على عسر زوجها وفاقته، ولا تقول له شيئًا، لحبها له، أو لتقواها وإيمانها، أو لأسباب أُخر. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم في "الزكاة" رقم (634).

ص: 177

‌ما جاء في الفرقة إذا أعسر الزوج بالنفقة

1154/ 10 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ -فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ- قَال: "يُفَرَّقُ بَينَهُمَا". أخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبي الزِّنَادِ عَنْهُ قَال: فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: سُنَّةٌ؟ فَقَال: سُنَّةٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ قَويٌّ.

الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه سعيد بن منصور، باب "ما جاء في الرجل إذا لم يجد ما ينفقه على امرأته" (2/ 55) رقم (2025) قال: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت: سُنَّةٌ؟ قال: سُنَّةٌ.

ورواه -أيضًا- بهذا الإسناد عبد الرزاق (7/ 96) والشافعي كما في "ترتيب المسند"(2/ 328).

ورجاله ثقات، لكنه مرسل، والمرسل غير حجة عند المحدثين، وقد قال الشافعي بعد سياقه بهذا الإسناد:(والذي يشبه قول سعيد سنة: أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

وظاهر هذا أن الشافعي يحتج بمثل هذا المرسل، وقد ورد عنه أنه قال:(إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن)

(2)

ففهم منه بعض العلماء أنه يرى حجية مراسيل سعيد بن المسيب دون غيرها

(3)

.

(1)

"ترتيب مسند الشافعي"(2/ 328).

(2)

انظر: "مختصر المزني" ضمن كتاب "الأم"(5/ 176).

(3)

انظر: "الكفاية" للخطيب ص (444)، "المجموع" للنووي (1/ 61).

ص: 178

وقال ابن المديني: (إذا قال سعيد: "مضت السنة" فحسبك به)

(1)

، وعلى هذا فقول سعيد: (من السنة

) مستثنى من التابعين، كما قيل في استثناء مراسيله، ويكون الشافعي قد ألحق سعيدًا بالصحابة رضي الله عنهم في مثل هذه الصيغة.

والصواب أن الشافعي لا يحتج بمرسل سعيد وإنما يرجح به، والترجيح بالمرسل جائز، ومن راجع كلامه في "الرسالة" رأى ذلك بينًا

(2)

.

وقد ذكر الحافظ السخاوي القولين في هذه الصيغة هل هي من الموقوف المتصل أو من المرفوع المرسل

(3)

.

* الوجه الثاني: استدل الفقهاء -ومنهم الحنابلة- بهذا المرسل على أن الزوج إذا أعسر بنفقة زوجته ولم يستطع الإنفاق أن يفرق بينهما بطلاق أو خلع أو فسخ، وهذا راجع إلى رغبتها وطلبها، فإن اختارت الفراق فلها ذلك؛ لما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والقول بجواز التفريق لعدم الإنفاق هو مذهب مالك، والشافعي في القول المعتمد، وأحمد

(4)

.

كما استدلوا بالعمومات كقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"

(5)

، ولا شك أن الإمساك مع عدم الإنفاق من أبلغ الضرر وأشد الأذى.

كما استدلوا بالقياس على العيب، وذلك أنه يجوز التفريق بالعيب، كما تقدم في "النكاح" وهو لا يفوت به إلا المتعة أو كمالها؛ فالتفريق بالنفقة التي بها قوام الحياة من باب أولى.

وظاهر هذا القول أن لها الفراق مطلقًا، سواء تزوجته وهو معسر عالمة بعسره، أو تزوجته وهو معسر جاهلة بإعساره، أو تزوجته وهو موسر ثم أعسر

(6)

.

(1)

"تهذيب الكمال"(1/ 505).

(2)

"الرسالة" رقم المسألة (1264).

(3)

انظر: "فتح المغيث"(1/ 221).

(4)

"المدونة"(2/ 192)، "المهذب"(2/ 174)، "المغني"(11/ 361).

(5)

تقدم تخريجه في باب "إحياء الموات" رقم (920).

(6)

"الشرح الممتع"(13/ 483).

ص: 179

والقول الثاني في المسألة: أنه لا حق للمرأة في الفسخ، وإنما تطلب من القاضي أن يفرض لها نفقة وتستدين عليه، وهذا مذهب الحنفية والشافعية في قول مرجوح، وأهل الظاهر، وهو مروي عن عطاء والزهري والثوري وابن شبرمة

(1)

. واستدلوا:

1 -

بأنه لم يرد دليل صريح على جواز التفريق لعدم الإنفاق.

2 -

أن الله تعالى ندب إلى النكاج مع الفقر، فقال سبحانه:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] فلا يصح أن يكون الفقر سببًا للتفريق.

3 -

أن الصحابة رضي الله عنهم كان فيهم الموسر والمعسر، بل كان أكثرهم معسرين، ولم يؤثر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين زوجين لعدم إنفاق الزوج.

4 -

أن الامتناع عن الإنفاق للعسر ليس ظلمًا، فلا يكون مسوغًا للتفرق، وتكون النفقة حينئذٍ دينًا، والله تعالى يقول:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة: 280].

وأجابوا عن أدلة الأولين بأن المراد بها الممتنع عن الإنفاق مع القدرة عليه إذا تعين التفريق طريقًا لرفع ظلمه، أما المعسر فلا ظلم منه فلا يصح التفريق عليه.

والقول الثالث: أنه إذا أعسر الزوج بالنفقة وكانت زوجته موسرة وجب عليها أن تنفق عليه، ولا ترجع عليه بما أنفقت إذا أيسر، وهذا قول ابن حزم؛ لقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فقد جعل الله على الوارث القادر نفقة مورثه العاجز، والمرأة وارثة لزوجها، فعليها إذا كانت موسرة نفقته إذا كان معسرًا، قال ابن حزم:(الزوجة وارثة فعليها نفقته بنص القرآن)

(2)

.

وهذا استدلال مردود؛ لأن هذه الآية جاءت في النفقة الواجبة للوالدات

(1)

"فتح القدير"(3/ 329)، "المحلى"(10/ 91 - 92).

(2)

"المحلى"(10/ 92).

ص: 180

بسبب الولادة دون غيرهن، وقد بينت الآية أن نفقتهن واجبة على المولود له وهو الأب، فإن عَجَزَ كانت على وارث الأب، أو وارث المولود له.

والقول الرابع: لابن القيم، وهو أنه لا حق للمرأة في الفسخ بسبب إعسار الزوج، إلا إذا غرها وتراءى باليسار كذبًا، أوكان ذا مال فترك الإنفاق عليها وعَجَزَتْ عن أخذ كفايتها من ماله، أما إذا تزوجته عالمة بإعساره أو تزوجته موسرًا فأعسر فلا حق لها في طلب الفرقة

(1)

.

وبهذا يكون ابن القيم وافق أصحاب القول الأول في صورة من الصور الثلاث المتقدمة، وهي ما إذا تزوجته معسرًا جاهلة بإعساره، ووافق أصحاب القول الثاني في الصورتين الأُخريين.

والقول بأن لها الفسخ إذا غرها قول قوي؛ لأن هذا من باب الغش والتدليس، وأما إذا كان موسرًا ثم أعسر فليس لها الفسخ؛ لأن هذا ليس باختياره، وكذا في الحال الثانية وهي ما إذا كانت عالمة، لكن لا يمنعها من التكسب؛ لأنه إذا كان ينفق عليها له الحق أن يمنعها من التكسب، أما إذا كان لا ينفق عليها فلا يمنعها من التكسب، وقد نقل الموفق عن أبي حنيفة وصاحبيه وجماعة من السلف ذُكروا في القول الثاني أنه يرفع يده عنها لتكتسب

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 521).

(2)

"المغني"(11/ 361).

ص: 181

‌إذا غاب الزوج ولم يترك نفقة

1155/ 11 - عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، أنَّهُ كتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ في رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهمْ: أنْ يَأَخُذُوهُمْ بِأنْ يُنْفِقُوا أوْ يُطَلِّقُوا. فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا، أخْرَجَهُ الشَّافِعيُّ ثُمَّ الْبَيهَقيُّ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.

الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه الشافعي (2/ 327 ترتيب مسنده) ومن طريقه البيهقي (7/ 469) أخبرنا مسلم بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، به.

وهذا سند ضعيف، مسلم بن خالد هو الزنجي ضعيف، قال الحافظ في "التقريب":(صدوق كثير الأوهام).

لكنه لم ينفرد به، فقد تابعه حماد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، به، كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1217) قال أبو حاتم:(نحن نأخذ بهذا في نفقة ما مضى).

كما تابعه عبد الرزاق (7/ 93 - 94)، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:(كتب عمر إلى أمراء الأجناد: أنِ ادعُ فلانًا وفلانًا -ناسًا قد انقطعوا من المدينة وخلوا منها- فإما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يبعثوا إليهن بنفقة، وإما أن يطلقوا، ويبعثوابنفقة ما مضى) وهذا كما قال الحافظ: أتم سياقًا من حديث الباب

(1)

.

(1)

"التلخيص"(4/ 12).

ص: 182

وقد جاء في "مسائل أبي داود" أن الإمام أحمد احتج بهذا الحديث

(1)

.

* الوجه الثاني: استدل الفقهاء من المالكية والحنابلة بهذا الأثر على أن الزوج إذا غاب ولم يترك لزوجته نفقة وليس له مال ظاهر أن لها حق المطالبة بفراقه إن رغبت في ذلك، لما يصيبها من الضرر بسبب عدم إنفاقه

(2)

؛ لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى قواد جيوشه ورؤساء ألويته في أطراف البلاد الإسلامية في شأن رجال غابوا عن نسائهم، بأنه يلزمهم إرسال نفقة نسائهم أو يفارقونهن، وإذا فارقوهن بعثوا بنفقة ما مضى، إلا إن رضيت الزوجة بإسقاط نفقة ما مضى فلها ذلك.

وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإن المُنْفِقَ لو غاب عن قريبه ولم ينفق عليه لم تلزمه نفقة ما مضى؛ لأن نفقة القريب مقصود بها سد الحاجة، أما نفقة الزوجة فهي من باب المعاوضة، والمعاوضة لا تسقط بمضي الزمان، بخلاف ما كان لدفع الحاجة فإنها إذا مضى زمنها استغنى عنها، فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره

(3)

.

وقد استثنى المالكية في موضوع الزوجة إذا غاب زوجها: ما إذا تعهد قريب الزوج أو أجنبي بالإنفاق عليها فلا حق لها في الفراق

(4)

.

وقالت الشافعية: لا حق لامرأة الغائب في طلب الفراق إلا إذا أثبتت بالبينة أنه معسر حيث هو، فلا يكتفى بالجهل بحاله، ولا بإعساره في مبدأ غيبته؛ لأن الإضرار بها إنما يتحقق بالإعسار، فما لم يثبت لم يكن لها حق الفرقة، فكأن الشافعية يديرون الأمر مع الإعسار لا مجرد الغيبة.

كما اشترطوا لسقوط حقها في طلب الفراق أن يكون المتبرع بالنفقة أصلًا للزوج، والزوج من عياله حتى لا تلحقها بذلك مذلة ولا مهانة، فإن كان أجنبيًّا أو قريبًا غير أصل لم تجبر على قبول النفقة منه، ولا يسقط حقها في المطالبة. والله تعالى أعلم.

(1)

ص (179).

(2)

"المغني"(11/ 361).

(3)

"المغني"(11/ 367).

(4)

"الفرقة بين الزوجين" ص (139).

ص: 183

‌مراتب النفقة ومن أحق بالتقديم

؟

1156/ 12 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَال:"أنفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ"، قَال: عِنْدِي آخَرُ؟ قَال: "أنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ"، قَال: عِنْدِي آخَرُ؟ قَال: "أنْفِقْهُ علَى أهْلِكَ"، قَال: عِنْدِي آخَرُ؟ قَال: "أنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ"، قَال: عِنْدِي آخَرُ؟ قَال: "أَنْتَ أَعْلَمُ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائيُ وَالْحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه الشافعي (2/ 326 - 327 ترتيب مسنده)، وأبو داود (1691) في كتاب "الزكاة"، بابٌ "في صلة الرحم"، والنسائي (5/ 62)، والحاكم (1/ 415) كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث.

وهذا لفظ الشافعي، وزاد: قال المقبري: ثم يقول أبو هريرة -إذا حدث بهذا الحديث-: (يقول ولدك: أنفق عليَّ إلى من تكلني، تقول زوجتك: أنفق علي أو طلقني، يقول خادمك: أنفق علي أو بعني).

وهذا الحديث قد ذكره الحافظ في كتاب "الزكاة"، باب "صدقة التطوع" برقم (636) لكن هناك ساقه بلفظ أبي داود وهو بلفظ: "تصدق به

" في جميع المواضع وهو المناسب لكتاب "الزكاة"، وهنا ساقه بلفظ النفقة مع ما في زيادة الشافعي مما يناسب هذا الباب.

ص: 184

وقد رواه عن محمد بن عجلان سفيان بن عيينة عند الشافعي وأبي داود والحاكم، وذلك بتقديم الولد على الزوجة كما في هذا السياق، ورواه يحيى القطان، عن محمد بن عجلان عند النسائي بتقديم الزوجة على الولد، وقد يكون هذا الاختلاف من ابن عجلان؛ فإن في حفظه شيئًا.

ويؤيد رواية يحيى حديث جابر رضي الله عنه وفيه: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك)

(1)

.

وحديث الباب سنده حسن، ومحمد بن عجلان قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة) وقد وصفه الذهبي بأنه متوسط في الحفظ

(2)

، وعلى هذا فلعله حسن الحديث -إن شاء الله- وأما الحاكم فإنه قال:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وهذا فيه نظر بينته هناك في "الزكاة".

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الإنسان يبتدئ في موضوع النفقة على الترتيب المذكور في هذا الحديث، فيبدأ بالإنفاق على نفسه، فإن فضل عنده شيء أنفقه على أهله، فإن فضل عنده شيء أنفقه على ولده، ثم على خادمه، وهذا يدل على أن الحقوق وكذا الفضائل إذا تزاحمت أنه يبدأ بالأوكد فالأوكد.

* الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أن نفقة الأقارب لا تجب على المنفق إلا إذا كان ما ينفقه عليهم فاضلًا عن نفقة نفسه، إما من ماله أو من كسبه، فأما من لا يفضل عنده شيء فليس عليه نفقة، ونفسه مقدمة؛ ولأن النفقة مواساة، فلا تجب على المحتاج، كالزكاة، وعلى هذا فلا تجب النفقة من رأس المال، ولا من ثمن ملك، ولا من قيمة آلة صنعة، كآلة نجارة أو حدادة، فلا نفقة في قيمتها، لحصول الضرر بوجوب الإنفاق من هذه الأشياء، وقيده شيخنا بما إذا لم يحصل ضرر

(3)

، وهذا وجيه جدًّا،

(1)

"صحيح مسلم"(997).

(2)

"الميزان"(3/ 645).

(3)

"السلسبيل"(3/ 852) لشيخنا: صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله.

ص: 185

فإن رأس المال أو ثمن الملك قد يكون مالًا عظيمًا لا يتأثر بالإنفاق.

وهذا أحد الشروط الثلاثة التي يذكرها الفقهاء لوجوب نفقة الأقارب، وهي أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم.

والشرط الثاني: أن يكون المُنْفَقُ عليهم عاجزين عن الكسب؛ لأن النفقة تجب على سبيل المواساة، فلا تُستحق مع الغنى، كالزكاة.

والشرط الثالث: أن يكون المُنْفِقُ وارثًا للمنفق عليه بفرض كالأخ لأم، أو تعصيب، كالعم وابن العم، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي: على الرجل الذي يرث أن ينفق على مورثه حتى يستغني، فأناطت الآية النفقة بالميراث، وهي كذلك تجب على قدر الميراث؛ ولأن الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس، فينبغي أن يختص بالإنفاق عليه وصلته، إلا عموديَّ النسب

(1)

، فتجب نفقته ولو لم يرثه المنفق، لقوة القرابة، وعموم الأدلة، فمن له أب وجدّ معسران وجبت عليه نفقتهما ولو كان المنفق محجوبًا من الجد بأبيه المعسر.

والراجح في ذلك ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أن الإرث ليس بشرط مطلقًا، فتجب نفقة من يرث بالرحم، كالعمة والخالة، لموافقته لظاهر القرآن في قوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، وأن الشرط إنَّما هو غنى المنفق -كما سيأتي- وفقر المنفق عليه وكونه من الأقارب، لوجوب صلتهم وتحريم قطيعتهم، ومن المعلوم أن من قطع النفقة لم يَبَرَّ ولم يصل، وهذا قول أبي حنيفة، قال ابن القيم:(وهو الصحيح في الدليل، وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه، وقواعد الشرع، وصلة الرحم التي أمر الله بها أن توصل، وحرم الجنة على كل قاطع رحم، فالنفقة تُستحق بشيئين: بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

عمودا النسب: الآباء والأمهات وإن علوا، والأولاد -الذكور والإناث- وإن سفلوا. "الكافي"(5/ 99)، "معجم لغة الفقهاء" ص (322).

(2)

"زاد المعاد"(5/ 549).

ص: 186

‌تأكيد نفقة الوالدين

1157/ 13 - عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيم عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبرُّ؟ قَال:"أمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: "أُمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: "أُمَّكَ"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: "أَبَاكَ ثُمَّ الأقْرَبَ فَالأقْرَبَ".

أخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأدب"، باب "في بر الوالدين"(5139)، والترمذي (1897)، وأحمد (33/ 230) من طريق بهز بن حكيم، قال: حدثني أبي عن جدي، به.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن، وقد تكلم شعبة في بهز بن حكيم، وهو ثقة من أهل الحديث، روى عنه معمر وسفيان الثوري وحماد بن سلمة وغير واحد من الأئمة).

والحديث أصله في البخاري (5971)، ومسلم (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"

الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من أبر) بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء على صيغة المتكلم؛ أي: مَنْ أحسن إليه ومن أَصِلُه؟ والبر: بالكسر هو الإحسان، وهو في حق الوالدين وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق، وهو الإساءة إليهم، والتضييع لحقهم.

ص: 187

قوله: (قال: أمك) بالنصب لفعل محذوف، دل عليه ما قبله؛ أي: بُرَّ أمك وصلها أولًا.

وقد ذكرت الأم في هذا الحديث ثلاث مرات، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري كذلك، وهذا يقتضي أن يكون لها ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وقد نقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: للأم ثلاثة أرباع البر

(1)

.

قوله: (ثم الأقرب فالأقرب) أي: إلى آخر ذوي الأرحام.

* الوجه الثالث: في الحديث حث على بر الأقارب والإحسان إليهم، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، وإنما كانت الأم أحقهم لكثرة تعبها وشفقتها وخدمتها؛ لأن لها فضيلة الحمل والرضاع والتربية، وفي الحمل التعب، ثم مشقة الوضع، قال تعالى:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] وإذا كانت الأم مقدمة على الأب فتقديمها على غيره من باب أولى، ومن بر الأم والأب الإنفاق عليهما.

وقد نقل الحافظ عن الجمهور أن الأم مقدمة على الأب في البر، وهذا هو صريح حديث الباب، وأما ما تقدم في حديث طارق:"أمك وأباك" فإن الواو بمعنى (ثم)؛ لأن غير الصريح يحمل على الصريح، وقد نقل بعضهم الإجماع على تقديم الأم على الأب، لكن حكى القاضي عياض في المسألة خلافًا، فقيل: إنهما سواء

(2)

، والصواب الأول. والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب السنن"(14/ 48).

(2)

انظر: "إكمال المعلم"(8/ 5).

ص: 188

‌باب الحضانة

الحضانة في اللغة: بفتح الحاء وكسرها، مصدر الفعل حَضَنَ حَضْنًا وحَضَانَةً، ومنه: حَضَنَ الطائر بيضه: إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحيه، وحضنت المرأة ولدها حضانة: إذا ضمته إليها.

والحِضْنُ: هو صدر الإنسان أو عضداه وما بينهما، أو ما دون الإبط إلى الكشح

(1)

.

وشرعًا: تربية الطفل ورعايته والقيام بجميع أموره في سن معينة، ممن له الحق في الحضانة.

وسبب الحضانة: وجود فراق بين الزوجين.

وهي من محاسن هذه الشريعة وكمالها وعنايتها برعاية الضعفاء والمحتاجين، وهي قربة وطاعة لله تعالى يثاب القائم بها.

(1)

انظر: "المصباح المنير" ص (140، 534).

ص: 189

‌سقوط حضانة الأم إذا تزوجت

1158/ 1 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما؛ أن امْرَأةً قَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ ابْنِي كَانَ بَطْنِي لَهُ وعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإنَّ أَبَاهُ طَلَّقَني وَأَرَادَ أنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَال لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (11/ 310 - 311)، وأبو داود في كتاب "الطلاق"، باب "من أحق بالولد"(2276)، والحاكم (2/ 207) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن امرأة قالت:

الحديث.

وسنده حسن؛ للخلاف في سلسلة عمرو بن شعيب، وقد تقدم الكلام على ذلك.

وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي. قال ابن القيم: (هذا حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب، ولم يجدوا بُدًا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا

)

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (وعاء) بكسر أوله؛ أي: ظرفًا له حال حمله.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 434).

ص: 190

قوله: (وثديي) الثدي: نتوء في صدر الرجل والمرأة، وهو في المرأة أوضح؛ لأنه مجتمع اللبن كالضرع لذوات الظلف والخف، يذكر ويؤنث، وجمعه: أَثدٍ وثُدِيٌّ

(1)

.

قوله: (سقاء) بكسر السين على وزن كساء، وهو وعاء من جلد يكون للماء واللبن، وجمعه أسقية، والمعنى: له سقاء حال رضاعه.

قوله: (وحجري) الحجر: مثلث الحاء، والمراد به: حضن الإنسان.

قوله: (له حواء) بكسر الحاء؛ أي: مكانًا يحويه ويحفظه.

ومراد الأم بذلك أنها أحق بالولد من أبيه؛ لاختصاصها بهذه الأوصاف دون الأب.

قوله: (ما لم تنكحي) بفتح التاء وكسر الكاف: تتزوجي.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على ثبوت الحضانة ومشروعيتها لحاجة المحضون إلى من يقوم بتربيته.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الأم هي الأحق بالحضانة ما لم تتزوج وكانت صالحة لها، وهذا مجمع عليه، قال ابن هبيرة:(اتفقوا على أن الحضانة للأم ما لم تتزوج)

(2)

. وهذا قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة، كما ذكر ابن هبيرة، بل نقل بعضهم الإجماع

(3)

. وذلك لأنها أشفق وأرأف وأصبر وأفرغ.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها؛ لأنها أصبحت مشغولة عن الولد بمعاشرة الزوج الجديد، وقد يلحق الصغير شيء من الغلظة والجفاء من قبل الزوج؛ لأن بعض أزواج الأمهات قد يبغض الصغير ولد زوجته ولا يشفق عليه، وفي ذلك خطر يهدد أمن الطفل واستقراره النفسي، فينشأ وتنشأ معه عقد تحيل حياته المستقبلية إلى شر ونفور،

(1)

"المصباح المنير" ص (80).

(2)

"الإفصاح"(2/ 186).

(3)

انظر: "الحضانة في الفقه الإسلامي" ص (36).

ص: 191

وسوء طباع، وقد تؤثر حضانتها له على العلاقة الزوجية، واحتمال أن يكون زوج الأم على خلاف ذلك احتمال نادر، والنادر لا يقام له وزن، ولا يكون له حكم.

والقول بسقوط حضانة الأم إذا تزوجت هو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، وقد قضى بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولا مخالف لهما، وهذا هو القول الراجح في المسألة، على أن في بعض المذاهب الفقهية استثناءات وتفاصيل موضعها كتب الفقه.

ومن ذلك أن الزوج إذا رضي بحضانة ولد الزوج الأول فإن الحضانة لا تسقط، بل هي باقية على أظهر الأقوال؛ لأنها لم تسقط عنها إلا لأجل التفرغ لحقوق الزوج والقيام ببيته وشؤونه، فإذا رضي بالحضانة فالأم أحق بولدها.

وذهب الحسن وابن حزم إلى عدم سقوط حضانة الأم بزواجها، واستدل بأن أنس بن مالك رضي الله عنه كان عند والدته وهي مزوجة بأبي طلحة، وكذا أم سلمة تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبقي ولدها في كفالتها، وطعن ابن حزم في حديث عمرو بن شعيب بأنه ضعيف؛ لأنه كان يحدث من صحيفة

(1)

، وَرُدَّ هذا بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة الكبار أمثال الإمام أحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق والبخاري وغيرهم

(2)

.

وللفقهاء تفاصيل فيمن تنتقل إليه الحضانة إذا عدمت الأم لسبب كتزويج وموت، وكلها اجتهادية لا دليل عليها، والنفس لا تطمئن إلى شيء مما ذكروه، والأقرب ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وهو تقديم الأقرب مطلقًا، سواء من جهة الأم أو من جهة الأب، فإن تساويا قدمت الأنثى.

* الوجه السادس: وقع الخلاف بين أهل العلم في وقت سقوط حضانة الأم هل هو بمجرد العقد عليها أو لا بد من الدخول؟ الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة أن الحضانة تسقط بمجرد العقد؛ لأن النكاح هو العقد، فإذا عُقد عليها

(1)

"المحلى"(10/ 325).

(2)

"المغني"(11/ 420).

ص: 192

فقد أصبح النكاح متحقق الوجود دخل بها أو لم يدخل؛ ولأنها قد تكون مشغولة بمهام زوجها ومتطلبات الحياة الجديدة.

وقالت المالكية، وهو قول مرجوح عند الحنابلة: إن الحضانة لا تسقط إلا بعد الدخول، ولا تسقط بمجرد العقد على الأم

(1)

؛ لأن الدخول هو الذي يؤدي إلى انشغال الزوجة، وبسببه تتحول إلى التفرغ لحياتها الزوجية مما يصرفها عن الاهتمام بحضانة الطفل.

والقول الأول أظهر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"أنتِ أحق به ما لم تنكحي" وبالعقد يتحقق النكاح، وإنما الدخول من آثار العقد، ومن عُقد عليها صارت زوجة لمن عقد عليها شرعًا.

وتظهر وجاهة هذا القول في زماننا هذا؛ لأن تكاليف الزواج والاستعداد له تقتضي جهدًا ووقتًا من الزوجة وأهلها، فانشغالها عن طفلها أمر ممكن، ثم إن الغالب أن المدة بين العقد والدخول تكون مدة قليلة، فالمقصود أنه إن حصل انشغال عنه أثناء الاستعداد للزواج نُزع منها، وإن لم يحصل شيء من ذلك بقي في حضانتها حتى يتم الدخول.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على اعتبار المعاني والعلل وتأثيرها في الأحكام وأن ذلك أمر مستقر في الفطرة السليمة حتى فِطَرِ النساء؛ لأن هذه الأوصاف الثلاثة التي أدلت بها المرأة وجعلتها سببًا لتعليق الحكم بها قد قررها النبي صلى الله عليه وسلم ورتب أثرها عليها، ولو كانت أوصافًا غير مقبولة ألغاها. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإنصاف"(9/ 425)، "الحضانة في الفقه الإسلامي" ص (104).

ص: 193

‌ما جاء في تخيير الولد بين أبويه

1159/ 2 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ أن امْرَأَةً قَالتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أبي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا غُلَامُ، هَذَا أَبُوكَ وَهِذِهِ أمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهمَا شِئْتَ" فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أحْمَدُ والأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (12/ 307 - 308)، وأبو داود في الباب السابق (2277)، والترمذي (1357)، والنسائي (6/ 185 - 186)، وابن ماجه (2351) كلهم من طريق زياد بن سعد، عن هلال بن أبي ميمونة التغلبي، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الترمذي: (حديث حسن صحيح، وأبو ميمونة اسمه سليم

، وهلال بن ميمونة هو هلال بن علي بن أسامة، وهو مدنى، روى عنه يحيى بن أبي كثير، ومالك بن أنس، وفليح بن سليمان).

وصحح الحديث ابن القطان

(1)

.

ورواه ابن أبي شيبة (7/ 134)، والطحاوي (4/ 177)، والبيهقي (8/ 3) من طريق وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 208 - 209).

ص: 194

* الوجه الثاني: أجمع العلماء على أن الصبي قبل سن التمييز يكون عند أمه ما لم تتزوج -كما تقدم- فإذا بلغ سن التمييز واستقل ببعض شؤونه فإنه يخير بين أبويه، فيذهب مع من اختار منهما، وهذا ما قضى به عمر وعلي وأبو هريرة رضي الله عنهم، وقضى به شريح، وهو قول أحمد والشافعي وإسحاق. واستدلوا بحديث الباب

(1)

.

وحددوا سن التمييز بسبع سنوات؛ لأن هذا -في الغالب- هو سن الاستغناء والتمييز، بحيث يتمكن الطفل فيه من الاستغناء عن النساء.

وإن خير فلم يختر واحدًا منهما أو اختارهما معًا قدم أحدهما بالقرعة.

وشرط تخييره أمران:

الأول: أن يكونا جميعًا من أهل الحضانة بحيث تتحقق مصلحة الطفل عند أي واحد منهما، فإذا كان الأب أحفظ للطفل وأغير من الأم قدم عليها، وكذا لو كانت الأم أحفظ من الأب قدمت عليه، ولا عبرة باختيار الصبي في هذه الحال؛ لأنه ضعيف العقل، يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك فلا عبرة باختياره.

والتخيير ليس قاعدة مطلقة، إنما المطلق هو مصلحة الصغير.

الثاني: أن يكون الغلام عاقلًا، فإن كان معتوهًا فحضانته لأمه؛ لأنها أشفق عليه، وأصبر، وأقوم بمصالحه من أبيه.

وإذا اختار الطفل أباه كان عنده ليلًا ونهارًا، ليحفظه ويعلمه ويؤدبه، ولا يمنعه من زيارة أمه، وإن اختار أمه كان عندها ليلًا وعند أبيه نهارًا ليعلمه ويربيه.

وإذا مرض الولد المميز ذكرًا كان أو أنثى تمرضه أمه في بيتها حتى ولو لم تكن حاضنته، لما تقدم.

وذهبت الحنفية والمالكية إلى عدم التخيير، وقالوا: إنه بعد التمييز يكون

(1)

"المغني"(11/ 415).

ص: 195

عند أبيه، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو:"أنت أحق به ما لم تنكحي" ولو كان الاختيار إلى الصبي ما كانت أمه أحق به

(1)

.

وأجيب عنه: بأن هذا حديث عام في الأزمنة أو مطلقًا، وحديث التخيير يخصصه أو يقيده، قال الصنعاني:(وهذا جمع حسن بين الدليلين)

(2)

.

* الوجه الثالث: اختلف العلماء في البنت إذا بلغت سبعًا هل تخير كالغلام أو لا؟

فذهب الشافعي إلى أنها تخير كما يخير الغلام؛ لأن كل سن خير فيه الغلام خيرت فيه البنت.

والقول الثاني: أنها لا تخير، والأب أحق بها بعد السبع، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو من مفردات المذهب

(3)

؛ لأن المقصود من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ وأغير عليها، ولهذا جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها، فتبقى عنده إلى البلوغ، ثم بعده إلى أن يتسلمها زوجها، والحديث إنما ورد في الغلام لا في الجارية.

وشرط كونها عند أبيها العناية بها وعدم إهماله لها، فإن أخذها وتركها عند ضرة أمها لتسيء إليها ولا تقوم بمصالحها، وتفضل أولادها عليها، فإن أمها والحالة هذه أحق بها إن رضي زوجها إن كانت متزوجة.

والقول الثالث: أنها تبقى عند أمها حتى تحيض، وبعضهم قال: حتى يتسلمها زوجها، وهذا رواية عن أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة

(4)

، ورجحه ابن القيم، فقال:(وهو الصحيح دليلًا)، وقال:(هذا القول هو الذي لا نختار سواه)

(5)

.

وهذا قول قوي؛ لأن البنت بحاجة إلى تعلم آداب النساء والتخلق

(1)

انظر: "الاختيار"(4/ 15)، "جواهر الإكليل"(1/ 408).

(2)

"سبل السلام"(3/ 432).

(3)

"المهذب"(2/ 219)، "الإنصاف"(9/ 431).

(4)

"المغني"(11/ 415).

(5)

"زاد المعاد"(5/ 473 - 474).

ص: 196

بأخلاقهن وما يتعلق بشؤون المنزل، وهذا لا يتم إلا إذا كانت البنت بصحبة أمها، ومعلوم أن الأب يتصرف في طلب المعاش ولقاء الناس، ولن تجد البنت شفقة وحنانًا كشفقة الأم، ولا بد في ذلك من النظر في المصلحة لها، والتحقق من عدم الضرر والخطر في بقائها عند أمها، ثم إن كونها عند أمها لا يعني تخلي الأب عنها، بل عليه أن يقوم بما يجب عليه، ولو قيل: إن الترجيح في هذه المسألة مرجعه إلى النظر في مصلحة المحضونة ما كان بعيدًا؛ لأن هذا يختلف من أسرة إلى أخرى. والله تعالى أعلم.

ص: 197

‌حكم حضانة الأبوين إذا كان أحدهما كافرًا

1160/ 3 - عَنْ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ رضي الله عنه أنَّهُ أَسْلَمَ، وأَبَتِ امْرَأتُهُ أنْ تُسْلِمَ. فأقْعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأُمَّ نَاحيَةً، والأبَ ناحِيَةً، وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّ بَينَهُمَا. فَمَال إِلَى أُمِّهِ، فَقَال:"اللَّهُمَّ اهْدِهِ"، فَمَال إِلَى أَبِيهِ فَأَخَذَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو الحكم رافع بن سنان الأنصاري الأوسي رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخيير الصغير بين أبويه، وكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم وأبت امرأته أن تسلم -كما في حديث الباب-، روى عنه حفيد ابنه: جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه النسائي في كتاب "الطلاق"، باب (إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد)(6/ 185) من طريق عثمان البَتِّي، عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري، عن أبيه، عن جده، أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فجاء ابن لهما صغير لم يبلغ الحلم، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ها هنا والأم ها هنا، ثم خيره، فقال:"اللهم اهده، فذهب إليه". هذا سياق الحديث عند النسائي، وهو الموافق لما في "البلوغ" من أن المخير كان ذكرًا.

(1)

"الاستيعاب"(3/ 245)، "الإصابة"(3/ 239).

ص: 198

وقد أعل هذا بأن عبد الحميد بن سلمة وأباه وجده لا يعرفون، نقل هذا الحافظ عن الدارقطني

(1)

، وقد وهم عثمان البتي في ذلك، وخالفه آخرون، فقالوا: عبد الحميد بن جعفر.

فقد رواه أبو داود (2244) من طريق عيسى بن يونس، والنسائي في "الكبرى"(6/ 125 - 126) من طريق المعافى بن عمران، والحاكم (2/ 206 - 207)، وأحمد (39/ 168) من طريق عيسى بن يونس -أيضًا-، والدارقطني (4/ 43 - 44) من طريق علي بن غراب وأبي عاصم النبيل، أربعتهم عن عبد الحميد بن جعفر، أخبرني أبي، عن جدي رافع بن سنان، أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اقعد ناحية" وقال لها: "اقعدي ناحية"، قال: وأقعد الصبية بينهما، ثم قال:"ادعواها" فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهدها" فمالت الصبية إلى أبيها، فأخذها.

وفي هذا السياق أن المخير كانت صبية، وعبد الحميد بن جعفر وأبوه ثقتان، وجده رافع صحابي، كما تقدم.

وهذا سند صحيح إن كان جعفر بن عبد الله والد عبد الحميد قد سمع من جد أبيه رافع بن سنان، وقد صرح بالتحديث في إسناد الحاكم، لكن نقل العلائي في "جامع التحصيل" أن عبد العزيز النخشبي قال: هذا مرسل؛ لأن جعفر بن عبد الله لم يدرك جدَّ أبيه، ولم يقل بإرساله أحد سواه

(2)

.

وفي إسناد الحاكم: الحسن بن علي بن زياد وهو السُّرِّي، له ترجمة في "الأنساب" للسمعاني

(3)

، وعلى أي حال فجعفر ثقة، وما رواه كان قد حصل في أهل بيته فهو أدرى به

(4)

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 105).

(2)

"جامع التحصيل" ص (186)، "التابعون الثقات المتكلم في سماعهم من الصحابة" ص (159).

(3)

(23/ 252).

(4)

"تحقيق المسند"(39/ 168).

ص: 199

وقد ضعف ابن القطان رواية عبد الحميد بن سلمة، وصحح رواية عبد الحميد بن جعفر، وهو يرى أنهما قصتان خُيِّرَ في أحدهما غلام، وفي الأخرى جارية

(1)

، وقد نقل ابن قدامة عن ابن المنذر أنه قال عن هذا الحديث:(لا يثبته أهل النقل، وفي سنده مقال)

(2)

.

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بثبوت الحضانة بعد الفرقة للأم الكافرة وإن كان الولد مسلمًا، ووجه الاستدلال: أنه لو لم يكن للأم حق في الحضانة مع كفرها لم يُقْعِدِ النبي صلى الله عليه وسلم الصبية بينهما، وهذا قول الحنفية والمالكية

(3)

. قالوا: ولأن مناط الحضانة الشفقة، وليست تختلف باختلاف الدين.

والقول الثاني: أن الأم الكافرة لا حضانة لها، وهذا قول الشافعية والحنابلة

(4)

.

واستدلوا بأن الحضانة ولاية، وقد دلت نصوص الشريعة على أنه ليس لكافر ولاية على مسلم؛ ولأن أمه ربما فتنته عن دينه، وعلمته الكفر، وزينته له، وربته عليه، وهذا أعظم الضرر، وإذا كان المقصود من الحضانة حفظ الولد ومصلحته فكيف تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه؟!

وأجابوا عن الحديث بجوابين:

الأول: أنه متكلم في إسناده، كما تقدم.

الثاني: أن الطفل اختار أباه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيد أن كونه مع الكافر خلاف هدي الله تعالى، وهذا هو الراجح.

والمشهور من مذهب الحنابلة أنه ليس للفاسق حضانة ولو كان هو

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 514 - 515).

(2)

"المغني"(11/ 413).

(3)

"بدائع الصنائع"(4/ 42)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 253)، "المدونة"(2/ 359)، "الشرح الصغير"(1/ 452).

(4)

"نهاية المحتاج"(7/ 218)، "المغني"(11/ 412).

ص: 200

الأب؛ لأنه لا يوثق به في أداء الواجب من الحضانة، ولا حظ للمحضون في حضانته؛ لأنه يتأثر به، وينشأ على طريقته، وهو قول الجمهور، ويرى ابن القيم أن الفسق لا أثر له على حق الحضانة، وأن اشتراط العدالة في الحاضن في غاية البعد؛ لأنه لو اشترط ذلك -في رأيه- لأفضى إلى ضياع أطفال العالم، ولكانت المشقة عظيمة على الأمة؛ لأنه منذ مجيء الإسلام والفساق يحضنون أبناءهم، ولم نسمع أن تعرض لهم أحد يحاول انتزاع أبنائهم، وقد استطرد ابن القيم في تعليله قائلًا:"إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه منع فاسقًا من تربية ابنه وحضانته، ولا كذلك ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم"

(1)

.

ولو روعي التفريق بين بداية حياة الطفل وعدم فهمه وإدراكه لما هو فسق أو فجور فلا يؤثر الفسق على حق الحضانة، وبين المرحلة التي تليها، وهي التي يتأثر فيها المحضون فَيُمنع الفاسق، لما كان ذلك بعيدًا، كما تقول به الحنفية، ولو قيل: إن الفسق يمنع الحضانة إذا كان يضيع به الولد -ولا سيما في زماننا هذا- لكان وجيهًا، وتحديد ذلك يُرجع فيه إلى القاضي. والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 462)، "الحضانة في الفقه الإسلامي" ص (76).

ص: 201

‌ما جاء أن الخالة بمنزلة الأم في الحضانة

1161/ 4 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى في ابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالتِهَا، وَقَال:"الْخَالةُ بِمَنْزلَةِ الأم"، أَخْرَجَهُ الْبُخَاريُّ.

1162/ 5 - وَأَخْرَجَهُ أحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَال: وَالْجَارِيةُ عِنْدَ خَالتِهَا؛ فإنَّ الْخَالةَ وَالِدَةٌ.

الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث البراء رضي الله عنه رواه البخاري في كتاب "الصلح"، باب "كيف يُكْتَبُ؟ "(2699) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه، قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة

وساق الحديث بطوله إلى أن قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة، يا عمِّ، يا عمِّ، فتناولها علي رضي الله عنه فأخذها بيدها، وقال لفاطمة: دونكِ ابنةَ عمك، احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي

(1)

، وقال زيد: ابنة أخي

(2)

، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال:"الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خَلْقي وخُلُقي، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا".

وما قد يخشى من عنعنة أبي إسحاق، فقد زال بتصريحه بالسماع من

(1)

خالتها: أسماء بنت عميس زوجة جعفر، وأم الصبية سلمى بنت عميس.

(2)

المراد الأخوة الإسلامية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد بين زيد بن حارثة وحمزة مؤاخاة.

ص: 202

البراء عند البخاري في موضع آخر

(1)

، وليس هناك قرينة على التدليس، وبهذا يتبين أن إعلال بعض العلماء له بعنعنة أبي إسحاق

(2)

ليس بوجيه.

وأما حديث علي رضي الله عنه فقد رواه أبو داود (2280)، والنسائي في "الكبرى"(7/ 433)، وأحمد (2/ 160 - 161) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، وهبيرة بن يَرِيم، عن علي رضي الله عنه، قال: لما خرجنا من مكة اتبعتنا ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم

وساق الحديث بنحو ما تقدم، وفيه:"والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة".

وهذا سند حسن، رجاله ثقات، غير هانئ بن هانئ فهو مستور، كما قال الحافظ في "التقريب"، وهبيرة بن يحيىيم فقد قال فيه الحافظ:(لا بأس به، وقد عيب بالتشيع)، ولعل حديثهما من قبيل الحسن لمتابعة أحدهما للآخر.

* الوجه الثاني: هذا الحديث من الأدلة على مشروعية الحضانة وثبوتها لمصلحة الصغير لحفظه وصيانته وتربيته.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن العصبة من الرجال لهم أصل في الحضانة ما لم يوجد من هو أحق منهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلًّا من جعفر وعلي رضي الله عنهما على ادعائهما حضانة ابنة عمه، ولم ينكر عليهما.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الأم مقدمة في الحضانة على كل أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الخالة حق الحضانة في هذه القصة إلا لأنها بمنزلة الأم لكمال شفقتها وبرها.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الخالة تلي الأم في استحقاق الحضانة، وقد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن، فمقتضى التشبيه في قوله:"الخالة بمنزلة الأم" أن تكون الخالة أقدم من غيرها من أمهات الأم وأقدم من الأب والعمات.

وللفقهاء خلاف في المسألة، فمنهم من قال: يقدم الأب على الخالة،

(1)

"صحيح البخاري"(1781).

(2)

"انظر: "الإرواء" (7/ 247).

ص: 203

ومنهم من قال: تقدم الجدة أم الأم وأم الأب على الخالة، ومنهم من قال: تقدم الأخوات، وهي أقوال اجتهادية لا دليل عليها، والأظهر في هذه المسألة ما قاله الشوكاني وهو تقديم الخالة بعد الأم على سائر الحواضن؛ لنص الحديث وفاءً بحق التشبيه المذكور وإلا كان لغوًا

(1)

.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن المرأة إذا تزوجت لا يسقط حقها من الحضانة إذا رضي زوجها بقيامها بالحضانة، وبهذا يحصل التوفيق بين قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالحضانة لزوجة جعفر، وبين قوله في الحديث المتقدم:"أنت أحق به ما لم تنكحي". والله تعالى أعلم.

(1)

"نيل الأوطار"(6/ 368).

ص: 204

‌فضل الإحسان إلى الخدم

1163/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاولْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَينِ"، مُتفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِي.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأطعمة"، باب "الأكل مع الخدم"(5460) من طريق شعبة، عن محمد هو ابن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله أُكُلة أو أُكُلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حَرَّهُ وعِلاجَهُ".

هذا لفظ البخاري.

ورواه مسلم (1663) من طريق داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه وقد ولي حره ودخانه، فليقعده معه، فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلًا، فليضع في يده منه أُكُلة أو أُكلتين"، قال داود: يعني لقمة أو لقمتين.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا أَتَى أحدَكم خادمُه) بتقديم المفعول (أحدكم) على الفاعل (خادمه) لئلا يعود الضمير -لو جاء على الأصل- على متأخر لفظًا ورتبة، والمراد بالخادم: ما يشمل الرقيق والأجير والطباخ وغيرهم، بل قال العلماء: يدخل في ذلك حامل الطعام، كما سيأتي.

ص: 205

قوله: (فإن لم يجلسه معه) أي: إن الأفضل أن يجلسه معه؛ لما فيه من التواضع وعدم الترفع على المسلم.

قوله: (فليناوله) ظاهر الأمر الإيجاب وأنه يناوله من الطعام ما ذكر، وقيل: إن الأمر للندب.

قوله: (أُكلة أو أُكلتين) الأُكلة: بضم الهمزة هي اللقمة، وعليه فإن اللفظين المشكوك في أيهما الوارد متحدان من حيث المعنى، و (أو) للتقسيم بحسب حال الطعام وحال الخادم.

قوله: (فإنه ولي حره وعلاجه) وعند مسلم (ودخانه) والجملة مستأنفة للتعليل، والمعنى: أن الخادم قد تعلقت نفسه بهذا الطعام، فإنه تولى عمله وإعداده وناله من حره ودخانه ما ناله.

قوله: (مشفوهًا) أي: قليلًا؛ لأن الشِفَاهَ كثرت عليه حتى صار قليلًا، وقوله:(قليلًا) أي: قليلًا بالنسبة إلى من اجتمع عليه.

* الوجه الثالث: في هذا الحديث حث على مكارم الأخلاق، وأمر بالتواضع وترك التكبر على العبد والخادم، وذلك بالإرشاد إلى هذا الأدب العظيم، وهو أن الخادم إذا أعدَّ الطعام وقدمه للأكل فإنه ينبغي لسيده مراعاة خادمه، وذلك بأن يجلسه معه للأكل أو يناوله منه لقمة أو لقمتين؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشمَّ رائحته، وهذا إما على الاستحباب، أو على الوجوب، كما تقدم، والحديث محمول على ما إذا كان الطعام يختلف، بأن كان السيد ونحوه يمتاز بشيء من الطعام عن خدمه، أما إذا كان الطعام واحدًا فلا حاجة إلى ما ذُكر.

والأفضل الأكمل أن يكون طعام المخدوم والخادم واحدًا، كما تقدم في حديث أبي ذر رضي الله عنه:"فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون"، وقد تقدم نقل الإجماع على أن هذا ليس للوجوب؛ لأن الواجب نفقة المملوك وكسوته بالمعروف، بدليل هذا الحديث؛ فإنه لما أُمر أن يناوله لقمة أو لقمتين دل على أن مساواته غير واجبة، وقد ألحق العلماء حامل الطعام بمن صنعه؛ لوجود المعنى فيه، وهو تعلق نفسه به. والله تعالى أعلم.

ص: 206

‌النهي عن تعذيب الحيوان

1164/ 7 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَال: "عُذِّبَتْ امْرَأةٌ في هِرَّةٍ، سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ النَّارَ فِيهَا، لَا هيَ أطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرْضِ"، مُتَفَقٌ عَلَيهِ.

الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "أحاديث الأنبياء"، باب "ما ذكر عن بني إسرائيل"(3482)، ومسلم (2242) من طريق محمد بن أسماء الضُّبعي، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عذبت امرأة) في حديث جابر عند مسلم: (من بني إسرائيل)

(1)

وفي رواية له: (ورأيت في النار امرأة حِمْيريةً سوداءَ طويلةً)، قال الحافظ:(ولا تضاد بينهما؛ لأن طائفة من حمير دخلوا في اليهودية فنسبت المرأة إلى دينها تارة، وإلى قبيلتها أخرى)

(2)

.

قوله: (في هرة) في للتعليل، ذكر ذلك ابن هشام

(3)

، أو للسببية؛ أي: بسبب هرة، وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(من جَرَّاءِ هرةٍ لها)

(4)

أي: من أجلها، والهرة: أنثى السِّنَّور، والهر: الذكر، والهرة هي

(1)

"صحيح مسلم"(904).

(2)

"فتح الباري"(6/ 357).

(3)

"مغني اللبيب "ص (224).

(4)

(2618).

ص: 207

البَسَّةُ -بفتح الباء- وذكر صاحب "القاموس" أن العامة تكسر الباء

(1)

.

قوله: (سجنتها) جملة مستأنفة؛ لبيان سبب دخولها النار، بسبب الهرة.

قوله: (خشاش) بفتح الخاء وكسرها وضمها، والفتح أشهر، والمراد: هوام الأرض وحشراتها من فأرة ونحوها، وفي رواية مسلم:(حشرات الأرض).

* الوجه الثالث: الحديث أصل في تحريم تعذيب الحيوان، وحبسه بدون طعام وشراب؛ لأن هذا من الظلم والتعدي. والموجبُ للعقوبة المذكورة فيه مجموعُ الأمرين من الحبس والمنع من الأكل، وهذا يدل على أن هذا الفعل ذنب عظيم يستحق فاعله النار، وهذا هو الغرض من الإخبار بهذه القصة، وإذا كان هذا في الهرة فكيف بما فوقها من الإبل والبقر والغنم؟! وإذا كان هذا في الحيوان فكيف بظلم بني آدم المعصومين والتعدي عليهم وحبسهم بغير حق، وإيذائهم وتعذيبهم بأنواع العذاب؟! لا ريب أن جرم ذلك فوق ما ذكر بأضعاف مضاعفة، فما جاء في هذا الحديث فهو تنبيه على ما فوقه من الظلم والتعدي.

* الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن المرأة كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بسبب الهرة، لقوله:"عذبت في هرة"، "دخلت النار في هرة"؛ لأنها لو كانت كافرة ما علل دخولها بسبب الهرة.

والقول الثاني: أنها كافرة، دلَّ على ذلك ما في "المسند" من حديث علقمة، قال: كنا عند عائشة فدخل أبو هريرة، فقالت: أنت الذي تحدث أن امرأة عذبت في هرة أنها ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها؟ فقال: سمعته منه، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله -يعني ابن الإمام أحمد-: هكذا قال أبي، فقالت: هل تدري ما كانت المرأة؟ إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، وإن المؤمن أكرم على الله عز وجل من أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث

(2)

.

(1)

"ترتيب القاموس"(1/ 271).

(2)

"المسند"(16/ 424)، وهذا سند ضعيف، فيه أبو عامر الخزاز، قال عنه أحمد: =

ص: 208

وعلى هذا فإن كانت كافرة فمعناه أنها عذبت بكفرها وزيدت عذابًا بسبب ذلك؛ لأن الحديث نص صريح في تعذيبها بسبب الهرة، ويكون ذكر الهرة تحذيرًا لهذه الأمة من تعذيب الحيوان وأنه سبب للعقوبة، وإن لم تكن كافرة فتعذيبها بسبب الهرة، ولما أصرت على تعذيبها وذلك من الصغائر، صار من الكبائر، وهذا اختيار النووي

(1)

.

* الوجه الخامس: جواز اقتناء الهرة وحبسها بشرط إطعامها وسقيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرتب الذم إلا على ترك إطعامها وسقيها، ويلحق بالهرة ما في معناها، والحديث لا يدل على وجوب إطعامها، بل على وجوب تخليتها تأكل بنفسها.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب نفقة الحيوان على مالكه، كذا قال النووي، وليس في هذه الرواية ما يدل على ذلك؛ لأن الحديث لا يدل على وجوب إطعام الهرة، بل على وجوب تخليتها تأكل بنفسها، لكن في رواية همام، عن أبي هريرة عند مسلم:"من جَرَّاءِ هرةٍ لها" فهذه ظاهرها الملك، فيدل على وجوب الإنفاق على البهائم وأن على صاحبها علفها وسقيها وما يصلحها.

* الوجه السابع: لقد سبق الإسلام بقرون عديدة جمعيات الرفق بالحيوان

(2)

، التي تنادي بالحفاظ على الحيوانات وعدم إيذائها، وأما الإنسان فهي لا تهمل الدعوة إلى الرفق به من حيث الجملة، ولكنها تنتقي، فإن كان مسلمًا فلا قيمة له ولا كرامة، وإن كان كافرًا فهو موضع الاحترام والعناية. والله المستعان.

= (صالح الحديث) وقال أبو حاتم: (شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به)، وقال الحافظ عنه:(صدوق كثير الخطأ). انظر: "مسند الطيالسي"(3/ 28)، "تهذيب التهذيب"(4/ 442).

(1)

"شرح صحيح مسلم"(14/ 490).

(2)

تأسست هذه الجمعية عام (1824) بالتاريخ النصراني.

ص: 209

* الوجه الثامن: هذا الحديث في النهي عن تعذيب الحيوان وما قبله في فضل الإحسان إلى الخدم ليس لذكرهما في "باب الحضانة" مناسبة واضحة، إلا أن يقال: إن الخادم تحت رعاية المخدوم فأشبه الطفل في وجوب مراعاته، وكذا الهرة بحاجة إلى العناية بها إذا حبسها. والله تعالى أعلم.

ص: 210

‌كتاب الجنايات

الجنايات: جمع جناية، وهي مصدر جنى، والقياس أن المصادر لا تجمع، ولكن لما تعددت أنواعها جمعت، فإنها تكون عمدًا، وشبه عمد، وخطأ، وتكون في الأطراف، والنفس.

وهي لغة: التعدي على بدن أو مال أو عرض.

وشرعًا: التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالًا، وعلى هذا فالتعريف الشرعي أخص من اللغوي، لاقتصاره على ما يتعلق بالبدن فقط.

ومجيء الشريعة بأحكام الجنايات دليل على كمال هذه الشريعة وأنها جاءت لمصالح العباد بجلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم؛ لأن الله تعالى شرع بها ما يردع عن العدوان، ويمنع الناس من ظلم بعضهم بعضًا وتعدي بعضهم على بعض.

ولولا هذه العقوبات التي شرعها الله لأهلك الناس بعضهم بعضًا، ولفسد نظام العالم، وليس للناس حياة ولا اطمئنان على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم إلا بتمكين شرع الله تعالى، وعلى حسب قوة الرادع في أي دولة يقوى الأمن، وعلى حسب ضعف الرادع يضعف الأمن، وهذا أمر مشاهد محسوس.

ص: 211

‌حرمة دم المسلم

1165/ 1 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِم يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدينِهِ الْمُفَارِق للْجَمَاعَةِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1166/ 2 - وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلا في إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الإسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الأَرْضِ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "الديات"،‌

‌ باب

"قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} "(687) من طريق حفص بن غياث، ورواه مسلم (1676) من طريق حفص بن غياث وأبي معاوية ووكيع كلهم من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكر الحديث.

ورواه مسلم -أيضًا- من طريق سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله الذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم

" وذكره بنحوه.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الحدود"، باب

ص: 212

(الحكم فيمن ارتد)(4353)، والنسائي (8/ 23)، والحاكم (4/ 367) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن عبيد الله بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا.

وهذا الحديث رجاله ثقات، وعبيد بن عمير هو أبو قتادة الليثي.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي. وقال ابن عبد الهادي: (هو حديث صحيح على شرط الصحيح)

(1)

. وقد نقل الحافظ -هنا- تصحيح الحاكم، وصرح بصحته في "الدراية"

(2)

.

وروى مسلم من طريق الأعمش، أنه لما روى حديث ابن مسعود السابق، قال: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود، عن عائشة بمثله، ولعل الحافظ ذكر حديث عائشة مع أن ما جاء فيه أفاده ما قبله؛ لأن فيه تفسيرًا وتقييدًا وزيادة على ما قبله.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) أي: لا يجوز سفك دم إنسان مسلم، يعني قتله، وفي رواية عند مسلم من طريق سفيان:"لا يحل دم رجل" وهذا كناية عن قتله ولو لم يُرَقْ دمه، كما لو خنقه أو سَمَّه، وإنما عبر بذلك باعتبار الغالب في القتل وهو إراقة الدم.

قوله: (امرئ) أي: رجل، ويقال: مرء مسلم، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ومؤنثه: امرأة ومَرْأَة ومَرَةٌ، وخص الذَّكَرَ -هنا- بالذكر لشرفه وأصالته وغلبة دوران الأحكام عليه.

قوله: (يشهد

إلخ) هذه صفة ثانية لقوله: "مسلم" وهي صفة كاشفة؛ لأن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا كان يشهد تلك الشهادة، والصفة الكاشفة هي التي تبين حقيقة الموصوف.

(1)

"التنقيح"(3/ 254).

(2)

(2/ 262).

ص: 213

قوله: (إلَّا بإحدى ثلاث) الباء سببية، وثلاث على تقدير محذوف يفهم من السياق؛ أي: إلَّا بسبب إحدى خصال ثلاث، أو ثلاث خصال، وهي: الزنا والقتل والارتداد، ثم فصلها بتعداد المتصفين بها، كما في حديث عائشة الذي بعده، وقد وقع في رواية الثَّوري:"إلَّا ثلاثة نفر".

قوله: (الثيب الزاني) يجوز فيه الجر على أنَّه بدل مما قبله، وعلى البدلية لا بد فيه وفيما بعده من مضاف محذوف، تقديره: خصلة الثيب الزاني، وقصاص النَّفس بالنفس، وترك التارك لدينه، وبدون هذا التقدير يتعذَّر الإبدال؛ لأنَّ الثيب وما بعده ليسوا نفس هذه الخصال، ويجوز رفعه على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وهي، والنصب بتقدير: أعني.

والثيب: من ليس ببكر، وهو وصف يطلق على الذكر والأنثى، يقال: رجل ثيب، وامرأة ثيب، وهو عند الفقهاء: المكلف الحر الذي وطئ في نكاح صحيح ولو طلقها، والأنثى مثله.

قوله: (والنفس بالنفس) الباء للمقابلة، والمعنى: أن قاتل النَّفس يقتل في مقابلة النَّفس التي قتلها، ولفظ الحديث هو لفظ الآية، والحديث هنا مطلق، لكنَّه مقيد بما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي بعده، وهو قوله:"ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا يقتل" كما أنَّه مقيد بأحاديث ستأتي.

قوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) أي: المرتد عن الإسلام، والمراد بالجماعة: جماعة المسلمين؛ أي: فارقهم بالارتداد ولو كان بينهم، وإلا فالغالب أنَّه لا يبقى معهم، وهي صفة للتارك، لا صفة مستقلة، وإلا لكانت الخصال أربعًا.

قوله: (ورجل يقتل مسلمًا) التّقييد بالرجل لا مفهوم له؛ لأنَّ المرأة مثله، وإنَّما خص الرجل؛ لأنَّ الغالب أن القتل يقع من الرجال.

قوله: (ورجل خرج من الإسلام) الخروج من الإسلام إمَّا أن يراد به الردة، وإما أن يراد به المحاربة، بدليل ما بعده، ويكون التعبير بالخروج عن الإسلام للوعيد الشديد على الخروج على الإمام.

ص: 214

قوله: (فيحارب الله ورسوله) المراد بالمحاربة هنا: المضادة والمخالفة والمناقضة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطَّريق وإخافة السبيل، لكن قوله: "فيقتل

" يؤيد أن المراد به المحارب، فإن ما ذكر هنا هو الذي أمر الله به في حق المحاربين

(1)

.

قوله: (يصلب) الصلب: تعليق الإنسان للقتل على جذع ونحوه.

قوله: (أو ينفى من الأرض) النفي من الأرض: هو الجلاء والإخراج منها، والمراد هنا: أن يبعد من بلده إلى بلد آخر.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على عصمة دم المسلم؛ وأنَّه لا يحل دمه إلَّا إذا ارتكب واحدًا من هذه الخصال الثلاث، وهي:

1 -

الزنا بعد الإحصان، بخلاف البكر، فإنَّه يجلد ويغرب ولا يرجم.

2 -

قتل النَّفس عمدًا عدوانًا، لقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وعموم الحديث يدل على أنَّه يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة، والمسلم بالكافر، وسيأتي الكلام في ذلك.

3 -

الارتداد عن دين الله تعالى.

فمن فعل واحدة من هذه الثلاث استحق عقوبة القتل؛ إمَّا كفرًا وهو المرتد، وإما حدًّا وهما: الزاني والقاتل، وذلك لما في قتله من المصالح العظيمة، وهي حفظ الأنساب والنفوس والأديان.

والأصل في الدماء العصمة شرعًا وعقلًا، أما عقلًا فلأن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ليؤدي دوره في هذه الحياة، وفي القتل إبادة له وحرمان له من الحياة، وإفساد لهذه الصورة الإنسانية.

وأمَّا شرعًا فلقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا

(1)

"نيل الأوطار"(7/ 8).

ص: 215

فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].

وهذه الأمور الثلاثة سيأتي تفصيلها -إن شاء الله تعالى- عند أحاديثها، منها: ما في هذا الباب، ومنها ما هو في الأبواب القادمة.

° الوجه الرابع: مفهوم قوله: "إلَّا بإحدى ثلاث" أنَّه لا يحل إراقة دم المسلم بغير هذه الثلاث، وقد جاء ما يدل على أنَّه يحل بغيرها، فيكون عموم هذا المفهوم مخصصًا بما ورد من الأدلة الدّالة على أنَّه يحل دم المسلم بغير الأمور المذكورة، ومنهم من قال: إن ما ورد من الأدلة الأخرى يمكن رده إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنَّه لا بد في صحة إسلام المرء من نطقه بالشهادتين: لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جعلهما كالتفسير والوصف للمسلم، وذلك لا يعرف إلَّا بالتلفظ والاتصاف.

° الوجه السادس: استدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على أن تارك الصَّلاة كسلًا لا يقتل، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وقول المزني من الشَّافعية، والزهري وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وداود بن علي

(2)

؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حصر إهدار دم المرء المسلم في هذه الثلاثة بلفظ النفي والاستثناء، وتركُ الصَّلاة ليس واحدًا منها.

وأجيب عن ذلك بجوابين:

الأوَّل: أن هذا الحديث عام خصصته الأحاديث الدّالة على وجوب قتل تارك الصَّلاة

(3)

، ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلَّا بحق

(1)

"جامع العلوم والحكم" حديث (14)، "نيل الأوطار"(7/ 7).

(2)

"الصَّلاة" لابن القيِّم عن (17).

(3)

"المغني"(3/ 353)، "المجموع"(3/ 17).

ص: 216

الإسلام، وحسابهم على الله"

(1)

.

الثَّاني: أن الحديث دليل على أنَّه يقتل؛ لأنَّه جعل التارك لدينه منهم، والصلاة ركن الدين الأعظم، ولا فيما إذا قلنا بأنه كافر، فقد ترك الدين بالكلية، وإن لم يكفر فقد ترك عمود الدين

(2)

.

أما من ترك الصَّلاة جاحدًا لوجوبها فلا خلاف في كفره وأنَّه مرتد عن دين الإسلام، ويقام عليه حد الردة، والخلاف فيمن تركها كسلًا وهو يعترف بفرضيتها.

° الوجه السابع: في حديث عائشة رضي الله عنها دليل على أن من أقام محاربًا بعد ارتداده أن الإمام غير فيه بين قتله أو صلبه أو نفيه، لقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] لكن ينبغي تقييد حرابته بما إذا لم يَقْتُلْ وإلا قُتل.

أما من ارتد ولم يحارب فلا يعاقب إلَّا بالقتل، كما دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البُخاريّ (25)، ومسلم (22).

(2)

"الصَّلاة" لابن القيِّم عن (20).

ص: 217

‌تعطيم شأن الدماء

1167/ 3 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَينَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البُخاريّ في كتاب "الرقاق"، باب "القصاص يوم القيامة"(6533)، ومسلم (1678) من طريق الأعمش، حدثني شقيق، قال: سمعت عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وهذا لفظ مسلم؛ لأنَّ لفظة (يوم القيامة) ليست عند البُخاريّ.

° الوجه الثَّاني: في الحديث دليل على عظم شأن دم الإنسان، فإنَّه لم يُبدأ به يوم القيامة في القضاء والفصل بين النَّاس إلَّا لكونه أهمَّ وأعظمَ من غيره من أنواع المظالم بين العباد، وذلك الشاهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد، كما تقدم، وهذا فيه تحذير بليغ من حقوق العباد عمومًا؛ لئلا تلحق المسلمَ عاقبتُها في ذلك الموقف العظيم، وأعظمها الدماء، قال ابن دقيق العيد:(هذا تعظيم لأمر الدماء، فإن البدء يكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد، ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه)

(1)

.

° الوجه الثالث: ورد هذا الحديث عند النَّسائيّ بلفظ: "أول ما يحاسب

(1)

"إحكام الأحكام"(4/ 304).

ص: 218

به العبد الصَّلاة، وأول ما يقضي بين النَّاس في الدماء"

(1)

. وهذا يدل على عظم شأن الصَّلاة، فإنَّه لم يُبدأ بها يوم القيامة في الحساب إلَّا لكونها أعظم العبادات.

ولا منافاة بين أول الحديث وآخره -إن قيل بصحته

(2)

-، لأنَّ أوله يتعلق بما بين العبد وربه، وآخره بما بين العبد وغيره من الخلق

(3)

، أو يقال: إن أوله في أولية الحساب، وآخره في أولية القضاء، والقضاء معناه: الفصل في الخصومات، والحساب: إطلاع العباد على أعمالهم، وهذا كله من باب الجمع بالاعتبار المذكور، فإن قلنا بالترجيح -وهو المتعين- فلا كلام في ترجيح ما في "الصحيحين". والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن"(7/ 83)، وهو من طريق إسحاق الأزرق، عن عاصم، عن شقيق به.

(2)

لأنَّه من رواية عاصم بن بهدلة، وهو لا يقارن بالأعمش.

(3)

انظر: "فتح الباري"(11/ 396).

ص: 219

‌حكم قتل الحر بالعبد

1168/ 4 - عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدع عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ في سَمَاعِهِ مِنْهُ، وَفي رِوَايَةِ أَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ:"وَمَنْ خَصى عَبْدَهُ خَصَينَاهُ"، وَصحّحَ الْحَاكِمُ هَذِه الزِّيَادَةَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (33/ 296)، وأبو داود في كتاب "الديات"، باب "من قتل عبده أو مَثَّلَ به أيقاد منه؟ "(4515)، والترمذي (1414)، والنَّسائيُّ (8/ 21)، وابن ماجة (2663) من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعًا.

وقد رواه عن قتادة جماعة منهم: شعبة، وأبو عوانة، وابن أبي عروبة وغيرهم.

ورواه أبو داود (4516)، والنَّسائيُّ (8/ 20)، والحاكم (4/ 367 - 368) من طريق هشام، عن قتادة، به بزيادة:"ومن خصى عبده خصيناه".

قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحٌ الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وقال التِّرمذيُّ:(هذا حديث حسن غريب)، ونقل في "العلل" عن البُخاريّ أنَّه قال:(كان علي بن المديني يقول بهذا الحديث) قال محمَّد:

ص: 220

(وأنا أذهب إليه)

(1)

.

والحديث مداره على رواية الحسن، عن سمرة، وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف تقدم ذكره، وخلاصته: أنَّه قيل: إنَّه سمع منه، وقيل: لم يسمع منه شيئًا، وإنَّما هو كتاب، وقيل: إنَّه سمع منه حديث العقيقة فقط، وهذا ثابت، وأمَّا غيره فهو محل نظر، وهذا هو الأقرب، ثم إنَّه ليس هذا هو المهم، وإنَّما المهم أن الحسن كان يدلس، ولا يقبل من حديثه إلَّا ما صرح فيه بالسماع، وهو هنا رواه بالعنعنة، وقد جاء في سياق الإسناد عند الإمام أحمد التصريح بأن الحسن لم يسمعه من سمرة.

ولهذا قال الحافظ ابن رجب: (وقد طعن في هذا الحديث الإمام أحمد وغيره)

(2)

.

ورواه عبد الرَّزاق في "مصنفه"(9/ 488) عن معمر، عن قتادة، عن الحسن مرسلًا. وقد تكلم العلماء في رواية معمر عن قتادة

(3)

.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من جدع عبده جدعناه) الجدع: هو القطع، يقال: جدعت الأنف جدعًا من باب (نفع): قطعته، وكذا الأذن واليد والشفة، لكنَّه بالأنف أخص

(4)

.

قوله: (ومن خمس عبده خصيناه) الخِصَاءُ: سَلُّ الخصيتين ونزعهما، تقول: خصيت العبد أخصيه خِصاء -بالكسر-: سللت خِصْييه، فهو خَصِيٌّ

(5)

.

° الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بأن الحر يقتل بالعبد قصاصًا، فإذا قَتَلَ حر عبدًا وجب الاقتصاص منه، وهذا قول النَّخعيُّ وداود

(1)

"العلل الكبير"(2/ 588)، "التَّاريخ الكبير"(2/ 290).

(2)

"جامع العلوم والحكم" حديث (14).

(3)

انظر: "شرح علل التِّرمذيُّ"(2/ 611 - 612).

(4)

"المصباح المنير" عن (93).

(5)

"المصباح المنير" عن (171).

ص: 221

الظاهري، وهو مروي عن قتادة والثوري، وهو اختيار ابن تيمية وابن عثيمين

(1)

.

ووجه الاستدلال: أن الحديث دل على أن السيد يقاد بعبده في النَّفس والأطراف، وإذا كان القصاص مشروعًا في حق السيد إذا اعتدى على عبده، فإنَّه يكون مشروعًا في حق من قتل عبد غيره من باب أولى، كما استدلوا بعموم الأدلة في وجوب القصاص، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وسيأتي، فدل على أن دماء المؤمنين متكافئة، وأن العبرة بأصل الإيمان، وليست العبرة بالحرية والرق.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتص من الحر إذا قتل عبد غيره، ولا يقتص منه إذا قتل عبده

(2)

.

واستدلوا: بقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِزِنْبَاع بن روح بن سلامة الجُذاميّ لما جبَّ عبده وجاع أنفه: "من مَثَّلَ بعبده أو حرقه بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله"

(3)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الحر لا يقتل بالعبد مطلقًا، سواء أكان عبده أم عبد غيره، وإنَّما يؤدب، وعليه قيمته بالغةً ما بلغت، واختاره ابن باز في "شرحه" على "البلوغ"

(4)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] قالوا: فمقتضى ظاهر هذه الآية أن الحر لا يقتل إلَّا بالحر، وأن العبد لا يقتل إلَّا بالعبد، وأن الأنثى لا تقتل إلَّا بالأنثى، إلَّا أننا خالفنا الظاهر في قتل العبد بالحر وقتل الأنثى بالذكر للإجماع على

(1)

"المحلى"(10/ 470)، "المغني"(11/ 473)، "الاختيارات" عن (289)، "الشَّرح الممتع"(14/ 40).

(2)

"بدائع الصنائع"(7/ 235).

(3)

رواه البيهقي (8/ 36)، وفي سنده المثني بن الصباح قال البيهقي:(ضعيف لا يحتج به).

(4)

"المهذب"(2/ 173)، "بداية المجتهد"(2/ 397)، "المغني"(11/ 473).

ص: 222

ذلك

(1)

. وللمعنى المستنبط من نسق الآية، وهو أن الجنس يقتل بما يماثله، وإذا قُتل بما يماثله قتل بما هو فوقه من باب أولى، وأمَّا الحر فإنَّه لا يقتل بالعبد؛ لأنَّه لا يلزم من قتل الجنس بما يماثله أن يقتل بمن هو دونه، والعبد لا يساوي الحر بل هو أقل منه

(2)

.

والقول الأول وجيه لما تقدم؛ ولأنَّه هو الذي يتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة من حقن الدماء والحفاظ على الأرواح من أن تُزهق بغير حق، قال ابن تيمية:(ليس في العبد نصوص صريحة صحيحة تمنع قتل الحر به) وقَوَّى أنَّه يقتل به، وقال: هذا الراجح

(3)

.

وأمَّا الآية فلا دلالة فيها على المدَّعَى؛ لأنَّها لم ترد لبيان مقابلة الجنس بجنسه وحتمية ذلك، وإنَّما وردت -والله أعلم- ردًّا على أناس حصل بينهم قتال في الجاهلية، ولم يقتصوا إلَّا بعد الإسلام، وحلفوا ألا يرضوا إلَّا بالحر بدل العبد، والرجل بدل المرأة، ثم إن الاستدلال بها عن طريق مفهوم المخالفة، وهو لا يعتبر حجة إذا عارضه المنطوق، والذي يظهر أن الاستدلال بالآية غير ظاهر، كما يقول الشوكاني

(4)

، وأمَّا دليل أبي حنيفة فهو ضعيف، فيه المثنى بن الصباح، وهو لا يحتج به. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإجماع" لابن المنذر عن (144 - 145).

(2)

"تفسير الرَّازي"(5/ 50).

(3)

"الفتاوى"(14/ 85 - 86)، "الإنصاف"(9/ 469).

(4)

انظر: "نيل الأوطار"(7/ 18).

ص: 223

‌حكم قتل الوالد بالولد

1169/ 5 - عَنْ عُمَرَ بْنِ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بالْوَلَدِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِي، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيهَقيُّ، وَقَال التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ مُضْطَرِب.

* الكلام عليه من وجوهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

فقد رواه أحمد (1/ 423)، والترمذي في أبواب "الديات"، باب "ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا؟ "(1400)، وابن ماجة (2662) من طريق الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

فذكره.

وهذا سند ضعيف؛ لأنَّ فيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، وبه أعله الحافظ في "التلخيص"

(1)

، قال ابن المبارك:(كان الحجاج يدلس، فكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب مما يحدثه العرزمي، والعرزمي متروك لا نقر به)

(2)

.

وقد تابع الحجاجَ ابنُ لهيعة، كما عند أحمد (1/ 292 - 293) وصرح بالتحديث عن عمرو بن شعيب، وهذا فيه نظر، فقد قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (لم يسمع ابن لهيعة من عمرو شيئًا)

(3)

. ومما يؤيد ذلك أن الإمام أحمد رواه -أيضًا- من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب به،

(1)

(4/ 20).

(2)

"التَّاريخ الكبير"(2/ 378).

(3)

"المراسيل"(417).

ص: 224

هكذا بالعنعنة

(1)

.

ورواه ابن الجارود (788)، والبيهقيّ (8/ 38) من طريق محمَّد بن عجلان، وابن أبي عاصم في "الديات"(66) من طريق المثني بن الصباح، كلاهما عن عمرو بن شعيب به.

وقد صحح الحديث ابن الجارود، والبيهقيّ، كما في "معرفة السنن" (12/ 40) فإنَّه لما رواه من طريق ابن عجلان قال:(هذا إسناد صحيح)، ثم رواه من طريق الحجاج، وقال:(والحجاج غير محتج به).

وقد حكم التِّرمذيُّ على هذا الحديث بأنه مضطرب، وذلك أنَّه روي موصولًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر، وروي عن سراقة بن مالك، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وروي عن عمرو بن شعيب مرسلًا

(2)

، ورويَ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومع أن التِّرمذيُّ حكم باضطرابه إلَّا أنَّه قال:(والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به).

° الوجه الثَّاني: استدل بهذا الحديث من قال: إنَّه لا يقاد الوالد بالولد، والمعنى: أن الوالد إذا قتل ولده فإنَّه لا يجب عليه القصاص سواء أكان القاتل هو الأب أَمِ الأم، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة

(3)

، واختاره ابن باز في "شرحه".

كما استدلوا بعموم الأدلة الموجبة لبر الوالدين والإحسان إليهما، والاقتصاص منهما ينافي ذلك؛ ولأن الوالد سبب في إيجاد الولد، فلا ينبغي أن يكون الولد سببًا في إعدام الوالد؛ ولأن القصاص شرع للردع والزجر، وليس هناك حاجة إلى ردع الوالد عن قتل ولده؛ لما هو معروف عن الوالدين من الشفقة على أولادهم والرحمة بهم، وهذه تمنعهم من قتل أولادهم ظلمًا وعدوانًا.

(1)

"المسند"(1/ 409).

(2)

انظر: "العلل" للدارقطني (2/ 107).

(3)

"بدائع الصنائع"(7/ 235)، "المهذب"(2/ 174)، "المغني"(11/ 483).

ص: 225

وقال داود الظاهري ومالك وأحمد في رواية عنهما وابن المنذر: إنَّه يجب القصاص على الوالد إذا قتل ولده؛ لعموم الأدلة في وجوب القصاص من القاتل، وعدم ورود ما يقوى على تخصيصها، واختار هذا ابن عثيمين

(1)

.

وأجابوا عن الأحاديث بأنها لا تقوم بها حجة، لما تقدم من الكلام عليها، وأمَّا التعليل بأن الوالد سبب إيجاد الولد

فهو مردود؛ فإن الولد لم يكن سببًا في إعدام والده، بل هو سبب إعدام نفسه.

وقال مالك: إن تعمد القتل تعمدًا لا شك فيه مثل أن يضجعه ويذبحه أو يبقر بطنه ونحو ذلك، قتل، بخلاف ما لو ضربه بعصا ونحوه، فمات

(2)

.

وكأن مالكًا غَلَّبَ شفقة الأب وأنها شبهة قائمة في عدم قتل الأب بابنه إلَّا في حالة تزول فيها الشفقة زوالًا لا لبس فيه، كالصور المتقدمة، فهنا تأتي عمومات الأدلة.

وعند التأمل نجد أن العمومات قوية في هذه المسألة، وتبقى الأدلة المعارضة لها، هل تقوى على تخصيصها أو لا؟ ويبقى نظر القاضي واجتهاده. والله تعالى أعلم.

(1)

"الشَّرح الممتع"(14/ 43 - 44).

(2)

"المدونة الكبرى"(6/ 228)، "بداية المجتهد"(4/ 303).

ص: 226

‌ما جاء في قتل المسلم بالكافر وأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم

1170/ 6 - عَنْ أَبي جُحَيفَةَ قَال: قُلْتُ لِعَليٍّ رضي الله عنهما: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ الْوَحْيِ غَيرُ الْقُرْآنِ؟ قَال: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إلا فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللهُ تَعَالى رَجُلًا في الْقُرْآنِ، وَمَا في هذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا في هذِه الصَّحِيفَةِ؟ قَال: "الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1171/ 7 - وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَال فِيهِ:"المُؤْمِنُونَ تَتَكافأُ دِمَاؤُهُمْ، ويسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ" وَصحَّحَهُ الحَاكِمُ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجهما:

أما حديث أبي جحيفة رضي الله عنه فقد رواه البُخاريّ في عدة مواضع من "صحيحه"، أولها في كتاب "العلم"، باب "كتابة العلم"(111)، ومنها في كتاب "الجهاد"، باب "فكاك الأسير"(3047) من طريق زهير، حدَّثنا مطرف، أن عامرًا حدثهم عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه

وذكر الحديث.

وعامر هو الشعبي، وأبو جحيفة هو الصحابي الجليل وهب السُّوائيُّ، وهذا الحديث فيه رواية صحابي عن صحابي.

ص: 227

وأمَّا حديث علي رضي الله عنه فقد رواه أحمد (2/ 286)، وأبو داود (4530)، في كتاب "الديات"، باب "أيقاد المسلم بالكافر؟ " والنَّسائيُّ (8/ 19 - 20) من طريق يَحْيَى بن سعيد، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد، قال: انطلقت أنا والأشتر

(1)

إلى علي رضي الله عنه فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى النَّاس عامة؟ قال: لا، إلَّا ما في كُتابي هذا

فإذا فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم

الحديث، وتمامه: من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين".

وقد صحح هذا الإسناد ابن عبد الهادي، والحافظ ابن حجر

(2)

، وسماع يَحْيَى بن سعيد القطان من ابن أبي عروبة كان قبل اختلاطه. وفيه الحسن البصري وهو مدلس، وقد عنعنه، ولكنه قد توبع، فقد رواه أبو داود (2035)، والنَّسائيُّ (8/ 24)، وأحمد (2/ 267) من طرق، عن قتادة، عن أبي حسَّان الأعرج، عن علي بنحوه، وفي "المسند" أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيؤتى

الحديث.

وأبو حسَّان الأعرج، واسمه مسلم بن عبد الله، من رجال مسلم، وهو صدوق، وروايته عن علي مرسلة، ثم إن الحديث فيه عنعنة قتادة، وهو مدلس. وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث علي رضي الله عنه ولفظه:(ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم). وسيأتي هذا في كتاب "الجهاد" إن شاء الله تعالى.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (هل عندكم) الخطاب لعلي رضي الله عنه، والجمع إمَّا لإرادته مع بقية أهل البيت، أو للتعظيم، وإنَّما سأل أبو جحيفة عليًّا رضي الله عنه؛ لأنَّ جماعة من

(1)

قيس بن عباد -بضم العين، وتخفيف الموحدة- ثقة، والأشتر هو مالك بن الحارث النَّخعيُّ، كان رئيس قومه في الجاهلية، أسلم وشهد اليرموك وذهبت عينه فيها، وله عليٌّ رضي الله عنه على مصر، فقصدها، ولكن مات في الطَّريق. انظر:"الإصابة"(10/ 3)، "الإعلام"(6/ 131).

(2)

"التنقيح"(4/ 460)، "الدراية"(2/ 262).

ص: 228

الرافضة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما عليًّا- أشياء من الوحي، خصهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليها غيرهم، وقد سأل هذا السؤال قيس بن عباد والأشتر النَّخعيُّ، كما تقدم، كما سأله غيرهما

(1)

.

والظاهر أن المسؤول عنه هنا ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة من الوحي الشامل للكتاب والسنة.

قوله: (قال: لا) أي: لا شيء عندنا، فحذف اسم لا وخبرها، لدلالة السياق.

قوله: (والذي فلق الحبة) الواو للقسم، والغرض منه: تأكيد ما تضمنته، وهو أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يخصه بشيء من علم الدين دون غيره من النَّاس.

ومعنى (فلق الحبة) أي: شقها فأخرج منها النبات والغصن، والحبة: ما يكون في السنبل والأكمام.

قوله: (وبرأ النسمة) بفتح الباء والراء؛ أي: خلق، والنسمة -بفتح النون والسين-: النَّفس، وكل دابة فيها روح فهي نسمة، والجمع: نَسَم، بالتحريك، مثل: قصبة وقصب.

قوله: (إلَّا فَهْمٌ) مرفوع على أنَّه بدل من (شيء) أي: ليس عندنا شيء إلَّا فهم، قال الجوهري:(فهمت الشيء فهمًا: علمته)

(2)

والفهم: جودة استعداد الذهن للاستنباط وحسن تصور المعنى.

قوله: (وما في هذه الصحيفة) أي: وما في هذه الورقة، وكانت بِقِرَابِ سيفٍ، كما عند مسلم

(3)

، وفي لفظ النَّسائيّ وغيره:(فأخرج كتابًا من قراب سيفه)

(4)

والقراب: بالكسر، وعاء يكون فيه السيف بغمده وحمائله.

قوله: (والعقل) بفتح العين، وسكون القاف، هي الدية، والمراد هنا:

(1)

راجع: "البداية والنهاية"(10/ 529).

(2)

"الصحاح"(5/ 2005).

(3)

"صحيح مسلم"(1370).

(4)

"سنن النَّسائيّ"(8/ 19).

ص: 229

تفصيل أحكامها، وسميت الدية عقلًا؛ لأنَّ أولياء القاتل كانوا يعطون أولياء المقتول الدية من الإبل، ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل.

قوله: (وفكاك الأسير) بكسر الفاء وفتحها، إطلاق أسره وتخليصه من يد العدو، والمراد هنا: الترغيب فيه.

قوله: (تتكافأ دماؤهم) أي: تتساوى في الديات والقصاص، فلا فرق في ذلك بين الشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعالم والجاهل.

قوله: (ويسعى بذمتهم أدناهم) الذمة: الأمان والعهد والضمان، والمعنى: أن الواحد من المسلمين إذا أمَّن كافرًا، حرم دمه على جميع المسلمين، ولو كان هذا المجير أصغر المسلمين، والمراد بالأدنى: أقلهم عددًا، وهو الواحد، أو أسفلهم رتبة وشرفًا، وهو العبد أو الأجير ونحوهما.

قوله: (وهم يد علي من سواهم) أي: هم مجتمعون على أعدائهم يعين بعضهم بعضًا، وكما أن اليد الواحدة لا يمكن أن يميل بعضها إلى جانب وبعضها إلى جانب، فكذلك اللائق بشأن المسلمين.

قوله: (ولا ذو عهد في عهده) أي: ولا يقتل معاهد في مدة عهده حتَّى يبلغ مأمنه ما دام أنَّه قائم بالعهد غير ناقض إياه.

والمعاهد: من أُبرم معه أو مع دولته معاهدة صلح أو معاهدة عدم اعتداء.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنَّه لا يجوز قتل المسلم بالكافر، سواء أكان حربيًّا أم ذميًّا أم مستأمنًا.

والحربي: هو من لا عهد له ولا ذمة، وهو الكافر الذي يحمل جنسية الدولة الكافرة المحاربة للمسلمين، سواء أكانت محاربة بالفعل أم لا.

والذمي: من أُمضي له عقد الذمة، وهو عهد يعطى للمقيمين من غير المسلمين في دولة المسلمين بعدم التعرض له في نفسه وماله ودينه، إذا أَعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام.

والمستأمن: من أُعطي الأمان الموقت على نفسه وماله وعرضه ودينه، لغرض شرعي؛ كسماع كلام، أو تجارة أو سفارة ونحو ذلك.

ص: 230

وهذا قول الجمهور من الشَّافعية والحنابلة والظاهرية

(1)

.

وقد جاءت دلالة الحديث من جهة المنطوق والمفهوم، أما المنطوق فمن قوله:"ولا يقتل مسلم بكافر" والكافر لفظ عام، يشمل كل كافر حربيًّا أم ذميًّا أم مستأمنًا، وأمَّا المفهوم فقوله في رواية قيس بن عباد:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" فإن مفهومه أن دماء غير المسلمين لا تكافئ ولا تساوي دماء المؤمنين، وعليه فلا قصاص من المسلم للكافر، ويؤيد ذلك أن الله تعالى نفى التساوي بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} [القلم: 35] وإذا انتفى التساوي والتكافؤ بين الفريقين انتفى وجوب القصاص المبني على المماثلة والمساواة.

والقول الثَّاني: أنَّه يجب القصاص على المسلم إذا قتل ذميًّا عمدًا عدوانًا، وهو قول أبي حنيفة

(2)

، لعموم الأدلة التي دلت على مشروعية القصاص، كقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق، وفيه:"والنفس بالنفس"، وحملوا حديث الباب على الحربي.

والقول الثالث: أنَّه يجب القصاص على المسلم إذا قتل ذميًّا غِيلَة، وهو قول المالكيّة، ولهم تفسيرات عديدة لقتل الغيلة، ومنها: أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله، وقيل: هي الغدر، وهي أن يقتله على زوجته أو ماله، وقيل: أن يخدعه حتَّى يدخله موضعًا ويأخذ ما معه، وقيل: غير ذلك

(3)

.

واستدلوا بما ورد عن عبد الله بن يعقوب، عن عبد الله بن عبد العزيز بن صالح الحضرمي، أنَّه قال:(قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر مسلمًا بكافر قتله غيلة)

(4)

.

(1)

"المهذب"(2/ 173)، "المحلّى"(12/ 11)، "المغني"(11/ 465).

(2)

"بدائع الصنائع"(7/ 37).

(3)

انظر: "بداية المجتهد"(4/ 300)، "عقوبة الإعدام" ص (213).

(4)

"المراسيل" لأبي داود (242)، وسنده ضعيف.

ص: 231

والراجح هو القول الأوَّل، لقوة أدلته وصراحتها في الدلالة على المراد، وأما أدلة أصحاب القول الثَّاني فهي عامة تخصص بما ورد من أنَّه لا يقتل مسلم بكافر، وأمَّا دليل المالكيّة فهو ضعيف؛ لأنَّه مرسل مسلسل بالمجاهيل، فلا تقوم به حجة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنَّه لا يجوز قتل المعاهد في مدة عهده، وذلك وفاء بالعهد الذي أعطي للمعاهدين، وأصبحوا بموجبه معصومي الدم، ما داموا قائمين بالعهد غير ناقضين إياه، ومن قتل معاهدًا لم يقتص منه على قول الجمهور، لكن عليه الدية، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنَّة"

(1)

.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن المسلم الواحد إذا أمَّن حربيًّا صار أمانه ساريًا على عموم المسلمين، فيجب احترام أمانه ولا يحل هتك عهده وعقده، ولو كان الذي أمَّنه عبد أو امرأة ونحوهما. فإذا قال: أَمّنِّي حتَّى أكلم الأمير، أو اتصل بفلان أو نحو ذلك، فأمنه لم يجز قتله حتَّى يُرَدَّ إلى مأمنه، وفي حديث أم هانئ رضي الله عنها أنَّها قالت: يا رسول الله زعم ابن أمي على أنَّه قاتل رجلًا قد أجرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أُمَّ هانئ"

(2)

.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على تساوي المسلمين في القصاص والدية، فلا فرق بين شريف ووضيع، أو صغير وكبير، وليس أحد أفضل من أحد لا في نسب ولا جنس ولا لون، بل هم أمام الحق سواء، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة.

° الوجه السابع: في الحديث دليل على وجوب العمل على فِكاك الأسير المسلم والسعي إلى تخليصه من الأسر، وقد ورد الأمر بذلك والترغيب فيه،

(1)

رواه البُخاريّ (3166)، وسيأتي شرحه إن شاء الله في آخر "الجهاد".

(2)

رواه البُخاريّ (3171)، ومسلم (1/ 498) رقم (82)، وسيأتي شرحه إن شاء الله في "الجهاد".

ص: 232

قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] والمراد بذلك: إعتاقها من الرق، أو تخليصها من الهلكة

(1)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا المعاني"

(2)

، والعاني: الأسير.

° الوجه الثامن: في الحديث دليل على وجوب اتحاد كلمة المسلمين ضد أعداء الإسلام، ووقوفهم صفًّا واحدًا لمن أراد النيل من دينهم وعقيدتهم، أو حاول تفريق صفهم وتشتيت أمرهم، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. وهذا يفيد منع تولية الكفار شيئًا من الولاية أو أمور المسلمين؛ لأنَّ للولي يدًا على المولَّى عليه.

° الوجه التاسع: في الحديث دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص أهل البيت بشيء من العلم دون سائر الأمة؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه نفى ذلك، وأكد النفي بالقسم بالله تعالى الذي برأ النسمة وفلق الحبة، لتأكيد الأمر وأنَّه لم يُخَصَّ بشيء دون غيره. وفي حديث علي رضي الله عنه -عند مسلم- قال:(من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلَّا كتاب الله وهذه الصحيفة، فقد كذب) وفي هذا أبلغ الرد على الشيعة والرافضة الذين يزعمون أن عندهم أشياء خصهم بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دون غيرهم من الأمة، ومن أصول مذهبهم وأركان دينهم القول بإيداع الشريعة أو خَزْنِ العلم عند الأئمة المعصومين بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن هذا العلم: الجامعة والجَفْر ومصحف فاطمة وغير ذلك مما فيه طعن في الشريعة وتضليل للأمة، فإن مقتضى ذلك أن الدين لم يكمل، وهذا مصادم لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] كما أن فيه طعنًا في الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كنتم جزءًا من الشريعة، والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالتَهُ} [المائدة: 67]. والله تعالى أعلم.

(1)

"التفسير وأصوله"(2/ 57).

(2)

رواه البُخاريّ (5373) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 233

‌ما جاء في القصاص بالمثقل، وقتل الرجل بالمرأة

1172/ 8 - عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ جَارِيَةً وُجدَ رَأسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ، فَسَألوهَا: مَنْ صَنَعَ بِكِ هذَا؟ فُلَانٌ، فُلَانٌ، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا. فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأقَرّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأسَهُ بَينَ حَجَرَينِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البُخاريّ في مواضع من "صحيحه"، أولها: في كتاب "الخصومات"، باب "ما يذكر في الأشخاص، والخصومة بين المسلم واليهودي"(2413)، ثم في مواضع من كتاب "الديات"، ومنها: باب "سؤال القاتل حتَّى يُقِرَّ، والإقرار في الحدود"(6876)، ومسلم (1672)(17) من طريق همام، حدَّثنا قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وهذا لفظ مسلم، إلَّا أن في آخره:(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرَضَّ رأسه بالحجارة) وهذا يخالف لفظ "البلوغ"، ولفظ الحافظ مثل لفظ صاحب "العمدة".

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن جارية) يحتمل أنَّها أمة أو حرة دون البلوغ.

قوله: (قد رُضَّ) وفي رواية للبخاري: (رضخ رأسها)

(1)

والرّض بالضاد المعجمة، والرضخ -بالضاد والخاء المعجمتين- بمعنى واحد، وهو الدق.

(1)

"صحيح البُخاريّ"(5295).

ص: 234

قوله: (فسألوها) في رواية "الصحيحين": (فجيء بها إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: "أقتلك فلان؟ ") وهذا يبين أن السائل هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فلان، فلان) بحذف همزة الاستفهام، وقد جاء في "الصحيحين" سبب القتل:(أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها)، وفي رواية: (خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة، فرماها يهودي بحجر

) وقوله: (على أوضاح) أي: بسبب أوضاح، وهي حلي الفضة، سميت بذلك لبياضها.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الرجل يُقتل بالمرأة، وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة

(1)

.

وهذا الحديث نص في الموضوع، ولا يقال: إنَّه يحتمل أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتله لنقضه العهد؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قتله قصاصًا حيث رضي رأسه بين حجرين، ولو كان قتله لنقضه العهد لقتله بالسيف

(2)

.

واستدلوا -أيضًا- بعموم الآيات الموجبة للقصاص، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ولم تفرق هذه الآيات بين الرجل والمرأة، كما يستدل لذلك بحديث عمرو بن حزم الآتي في أول "الديات"، وفيه:"وأن الرجل يقتل بالمرأة".

وذهب الحسن البصري وعكرمة وعطاء إلى أنَّه لا يجب القصاص على الرجل إذا قتل المرأة، وإنَّما تجب الدية، واستدلوا بقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .

ووجه الاستدلال: أن الله تعالى قابل الحر بمثله، والعبد بمثله، والأنثى بمثلها في القصاص، فدل على أن كل فرد لا يقتل إلَّا بما يماثله، وإلا لم يكن لهذه المقابلة معنى.

(1)

"بدائع الصنائع"(7/ 234)، "المهذب"(2/ 221)، "بداية المجتهد"(4/ 302)، "المغني"(11/ 500).

(2)

"الشَّرح الممتع"(14/ 41).

ص: 235

وفي المسألة أقوال أُخر، لا داعي لذكرها، والراجح هو القول الأوَّل، لقوة دليله، ويؤيده الحكمة من مشروعية القصاص، وهي صيانة الأنفس وحقن الدماء، ولو قيل بعدم القصاص إذا قتل الرجل المرأة لأدى ذلك إلى إهدار دماء النساء، وهضم حقوقهن، وإقدام الرجال على قتل النساء لأتفه الأسباب، وفي هذا من المفاسد ما لا يخفى.

وأمَّا استدلال أصحاب القول الثَّاني بآية: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} فلا دلالة فيها على أن الرجل لا يقتل بالمرأة؛ لأنَّ هذا من باب دلالة المفهوم، وقد جاءت السنة بقتل الذكر بالأنثى، فدل على أن هذا المفهوم لا عبرة به، وأن الذكر يقتل بالأنثى

(1)

.

ثم إن الآية لم ترد لبيان مقابلة الجنس بجنسه وحتمية ذلك، وإنَّما وردت -والله أعلم- ردًّا على أناس حصل بينهم قتال في الجاهلية، ولم يقتصوا إلَّا بعد الإسلام، وحلفوا ألا يرضوا إلَّا بالحر بدل العبد، والرجل بدل المرأة، تطاولًا عليهم وإظهارًا لشرفهم عليهم، ذكر معنى ذلك القرطبي عن الشعبي وقتادة، ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير

(2)

، وتقدمت الإشارة إلى ذلك.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على ثبوت القصاص في القتل بالمُثَقَّلِ، وأنَّه لا يختص بالمحدد، والمثقل هو ما ليس له حد من الأدوات، كالمطرقة والحجر والخشبة الكبيرة، وهذا قول الجمهور، ومنهم: الأئمة الثلاثة مالك والشَّافعيّ وأحمد

(3)

.

كما استدلوا بعموم الآيات الدّالة على وجوب القصاص في القتلى، ولم تفرق بين من قُتل بمحدد ومن قُتل بمثقل.

(1)

"الشَّرح الممتع"(14/ 42).

(2)

"تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 293)، "تفسير الطبري"(3/ 362)، "تفسير القرطبي"(2/ 245).

(3)

"المهذب"(2/ 176)، "مواهب الجليل"(6/ 24)، "المغني"(11/ 508).

ص: 236

والقول الثَّاني: أنَّه لا قصاص إلَّا في القتل بالمحدد، وأمَّا القتل بالمثقل فلا يعتبر قتل عمد، فلا يجب به القود، سواء كان المثقل من الحديد أو من غيره، وهذا قول الحسن البصري والشعبي والنخعي، ورواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية أخرى: التَّفريق بين مثقل الحديد فيجب القصاص، ومثقل غيره فلا يجب، وأجابوا عن الحديث بأعذار ضعيفة

(1)

.

واستدلوا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا والحجر فيه مائة من الإبل

الحديث" وسيأتي.

ووجه الاستدلال: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأن قتيل السوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة، وهذه ليست محددة، وإنَّما هي من المثقل، فدل على أن القصاص لا يجب في القتل بالمثقل.

والراجح هو القول الأوَّل؛ لأنَّ حديث الباب نص في الموضوع، ويؤيد ذلك حكمة مشروعية القصاص، وهي حماية الأرواح وحقن الدماء.

ثم إن القتل بمثقل كالقتل بالمحدد بل هو أشد؛ لأنَّ المحدد أسرع في الإزهاق من المثقل، يضاف إلى ذلك أن عدم إيجاب القتل بالمثقل قد يؤدي إلى اتخاذه وسيلة لتنفيذ جرائم القتل، إذا علم القاتل أنَّه لن يقتص منه.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن القاتل يُقتل بمثل ما قَتَلَ به، فإن قَتَلَ بسيف قُتل به، وإن قتل ببندقية أو بغرق أو بخنق قتل بذلك، وهذا قول الجمهور من المالكيّة والشافعية

(2)

. ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال:(هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل)

(3)

، وقال الزَّركشي:(هي أوضح دليلًا)

(4)

.

(1)

"الإعلام"(9/ 86)، "المغني"(11/ 446)، "بدائع الصنائع"(7/ 233).

(2)

"تفسير القرطبي"(2/ 258)، "المهذب"(2/ 186)، "المغني"(11/ 508).

(3)

"المستدرك على مجموع الفتاوى"(5/ 97).

(4)

"شرح الزَّركشي"(61/ 88).

ص: 237

كما استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} [البقرة: 194] وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] قالوا: ولأن القصاص بني على المماثلة والمساواة ولذا سمي قصاصًا، فشرع فيه المماثلة، بجعل الجزاء من جنس الجناية.

وعند هؤلاء يجوز العدول عن المماثلة إلى السيف؛ لأنَّه أسرع وأسهل.

ويستثنى من ذلك ما إذا وقع القتل بوسيلة محرمة كاللواط أو السحر أو نحو ذلك، فإنَّه لا يقتل بمثله؛ لأنَّ هذا الفعل محرم لعينه، فوجب العدول عنه وتحريم تعاطيه.

والقول الثَّاني: أن عقوبة القصاص لا تنفذ إلَّا بالسيف سواء وقعت الجناية به أو بغيره، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد

(1)

.

واستدلوا بأحاديث، ومنها: حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلَّا بالسيف"

(2)

؛ ولأن السيف أمضى الآلات وأسرع في إزهاق روح الجاني؛ لئلا يقع الحيف والظلم عليه، ولا يؤمن ذلك إلَّا إذا كان التنفيذ بالسيف.

والظاهر في هذه المسألة أنَّه إذا كان المقصود إزهاق نفس الجاني وأن ذلك يكون بأسرع آلة فلا مانع أن يترك ذلك للإمام أو من ينيبه، فله أن يختار أيَّ آلة تكون أسرع من السيف وأقل إيلامًا

(3)

.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على جواز العمل بالإشارة وأنها معتبرة في الدعاوى وغيرها، لكن لا يعمل بها، بل ترشد إلى المطلوب، ولهذا ذكر جمهور الفقهاء أن القتل لا يثبت بمجرد قول المجروح على

(1)

"بدائع الصنائع"(7/ 245)، "الإنصاف"(9/ 490).

(2)

رواه ابن ماجة (2/ 889) من طريق جابر الجعفي، عن أبي عازب، عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنه، وهذا سند ضعيف جدًّا، أبو عازب لا يعرف، وجابر الجعفي متهم بالكذب.

(3)

"التّشريع الجنائي"(1/ 760).

ص: 238

المتهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ما قتل اليهودي بمجرد قول الجارية، وإنَّما قتله باعترافه، فإذا اعترف الجاني مرَّة واحدة كفى، ولو أنكر المتهم فالقول قوله مع يمينه

(1)

.

° الوجه السابع: فيه دليل على خبث اليهود وحرصهم على المال وطمعهم فيه ولو ترتب على ذلك إزهاق الأرواح. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإعلام"(1/ 84).

ص: 239

‌حكم جناية الغلام إذا كانت عاقلته فقراء

1173/ 9 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لأُناسٍ فُقَراءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لأُناسٍ أَغنِيَاءَ، فَأَتَوْا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثةُ بإسْنَادٍ صَحِيحٍ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (33/ 157)، وأبو داود في كتاب "الديات"، بابٌ "في جناية العبد يكون للفقراء"(4590)، والنَّسائيُّ (8/ 25 - 26) من طريق معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، به.

وهذا لفظ النَّسائيّ، وعند أبي داود وأحمد:(فلم يجعل عليه شيئًا).

وهذا الحديث إسناده صحيح، وقد تفرد به معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو متكلم فيه، قال ابن معين:(صدوق، وليس بحجة) وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: (كان من المتقنين)، وقال الذهبي:(صدوق، صاحب حديثٍ ومعرفة)

(1)

.

وعزو الحديث للثلاثة وهم من الحافظ؛ لأنَّ التِّرمذيَّ لم يرو هذا الحديث، ولهذا فإن المزي عزاه لأحمد وأبي داود والنَّسائيُّ، وكذا ابن

(1)

"تاريخ الدوري"(2/ 572)، "الثقات"(9/ 176)، "تهذيب الكمال"(28/ 139)، "الميزان"(4/ 133).

ص: 240

عبد الهادي في "المحرر"

(1)

، وأبو نضرة: هو المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبدي.

° الوجه الثَّاني: هذا الحديث أشكل على كثير من أهل العلم، واختلفوا في الجواب عنه، والواجب أن يحمل على معنى يطابق الأدلة الشرعيّة ويوافقها؛ لأنَّ ما اشتبه من السنة مثل ما اشتبه من القرآن، ومعلوم أن المتشابه من القرآن يفسر بالمحكم ويرد إليه، فكذا السنة ما اشتبه منها يرد إلى المحكم ويفسر به

(2)

.

ومعلوم أن السنة دلت على أن الجاني عمدًا عليه القصاص أو الدية، وخطأ عليه الدية وتحملها العاقلة، وهنا قال:(لم يجعل عليه شيئًا).

وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن هذا الجاني كان غلامًا، والغلام يطلق على ما قبل البلوغ، وعلى هذا فلا يجب عليه القصاص؛ لأنَّ عمد الصبي حكمه حكم الخطأ، وليس على عاقلته دية؛ لأنهم فقراء، والدية لا تجب على العاقلة إلَّا إذا كانوا أغنياء، ولم يعط النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من بيت المال لأسباب: إمَّا لعدم وجود شيء في بيت المال، أو لبيان أن بيت المال لا تلزمه مثل هذه الجنايات، وقد ذكر بعض العلماء أنَّه دَفَعَ ديته من بيت المال، وهذا لا دليل عليه

(3)

.

وهذا الحمل موافق لألفاظ الحديث. وحمله بعضهم على أن هذا الغلام كان مملوكًا، والمملوك جنايته في رقبته على تفاصيل مذكورة في كتب الفقه، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

"تحفة الأشراف"(8/ 193)، "المحرر"(2/ 710).

(2)

من كلام ابن باز في شرحه على "البلوغ".

(3)

"معالم السنن"(4/ 41)، "السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 105).

ص: 241

‌النهي عن القصاص في الجراحات قبل برء المجني عليه

1174/ 10 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرنٍ في رُكبَتِه، فَجَاءَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: أَقِدْني، فَقَال:"حَتَّى تَبْرَأَ"، ثُمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَال: أَقِدْنِي، فَأقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيهِ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، عَرَجْتُ، فَقَال:"قَدْ نَهَيتُكَ فَعَصَيتَني، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ"، ثُمَّ نَهى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ يُقْتَصّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْني، وَأُعِلَّ بِالارْسَالِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أحمد (11/ 606) من طريق محمَّد بن إسحاق أنَّه ذكر أحاديث عمرو بن شعيب، فقال: وذكر عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل طُعن

الحديث.

وهذا سند ضعيف، ابن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالتحديث، ولهذا قال ابن عبد الهادي:(الظاهر أنَّه لم يسمعه منه)

(1)

. وقد تابع محمدَ بن إسحاق ابنُ جريج، عن عمرو بن شعيب، أخرجه الدارقطني (3/ 88) ومن طريقه البيهقي (8/ 67 - 68) وفي هذا الإسناد ابن جريج وهو مدلس، وقد عنعنه، ثم إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب

(2)

.

(1)

"تنقيح التحقيق"(4/ 492).

(2)

"العلل الكبير"(1/ 325).

ص: 242

وقد خالف ابنَ إسحاق وابنَ جريج أيوب فقد رواه عبد الرَّزاق في "مصنفه"(9/ 453)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 90) عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبعدك الله، أنت عَجِلْتَ" هكذا رواه عنه مختصرًا مرسلًا، بل هو معضل.

والحديث له شواهد لا تخلو من مقال، ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته

الحديث بنحوه.

رواه ابن أبي شيبة (9/ 369)، والدارقطني (3/ 89)، والبيهقيّ (8/ 66 - 67) من طريق ابن علية، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه.

وقد روي هذا موصولًا، لكن نص أبو داود على أن ابن علية قد وَهِمَ فيه

(1)

، وروي مرسلًا عن أيوب، عن عمرو بن دينار، رواه البيهقي (8/ 66)، وروى أبو داود في "المراسيل"(243)(2) من طريق ابن عيينة، وأبو داود -أيضًا- (243)(3) من طريق حماد بن زيد، كلاهما عن عمرو بن دينار، عن محمَّد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: طعن رجل آخر بقرن في رجله

الحديث. وذكر الدارقطني أن المرسل هو المحفوظ، وكذا رجح أبو زرعة المرسل

(2)

.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بقرن) هو بفتح القاف وسكون الراء، عظم ينبت في رأس الحيوان، وهو معروف.

قوله: (أقدني) بفتح الهمزة، أمر من القَوَدِ: وهو الاقتصاص من الجاني.

قوله: (حتَّى تبرأ) أي: يحصل لك الشفاء مما أصابك.

قوله: (عَرَجْتُ) بفتح الراء؛ أي: صرت أعرج، يقال: عَرَجَ يَعْرُجُ من باب (قتل) أي: غَمَزَ في رجله، لعلة طارئة، فهو أعرج، وهي عرجاء، فإن

(1)

"المراسيل"(331).

(2)

انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1391)، "السنن" للدارقطني (3/ 89).

ص: 243

كان من علة لازمة قيل: عَرِجَ -بالكسر- يَعْرَجُ من باب (تعب)

(1)

.

قوله: (فأبعدك الله) جملة دعائية غير مقصودة؛ لأنَّ هذا الرجل قد أساء الأدب، فدعا عليه من باب الزجر عن هذه العجلة.

قوله: (وبطل عرجك) أي: ضاع عليك أرش عرجك، وفاتك ما كان له من دية بسبب تعجلك في القصاص.

° الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على النَّهي عن استيفاء القصاص في الجروح حتَّى يندمل الجرح ويشفى صاحبه، ويعرف ما صار إليه الجرح وانتهى، وذلك لاحتمال السراية، وهي تجاوز العَطَبِ من محل الجناية إلى غيره.

وهذا النَّهي للتحريم، فيحرم أن يُقتص من عضو قبل برئه، والقول بالتحريم هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو قول الحنفية والمالكية، وذهب الإمام الشَّافعي إلى أنَّه لا يحرم، وإنَّما النَّهي للكراهة أو للإرشاد، وهو رواية لأحمد خَرجَهَا الموفَّق

(2)

. واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقاد الرجل، ولو كان حرامًا ما أقاده.

قال ابن المنذر: (كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالقصاص من الجرح حتَّى يبرأ صاحب الجرح)

(3)

.

فإذا اقتص المجني عليه من الجاني قبل برء جرحه ثم سرت الجناية بطل حقه ولا ضمان على الجاني؛ لأنَّه باقتصاصه قبل الاندمال رضي بترك ما يزيد عليه بالسراية، فبطل حقه منه، كما لو رضي بترك القصاص.

فإن رضي المجني عليه بتأخير القصاص إلى البرء، ثم سرت الجناية كأن يقطع إصبعًا عمدًا، ثم تآكلت أخرى، وجب على الجاني الضَّمان، إمَّا بالقصاص أو الدية؛ لأنَّ السراية أثر الجناية، والجناية مضمونة، فكذا أثرها، وهو مبني على قاعدة:(ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون). والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير"(401).

(2)

"المغني"(11/ 563 - 564).

(3)

"الإشراف"(7/ 377).

ص: 244

‌ما جاء في قتل شبه العمد، ودية الجنين

1175/ 11 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأتانِ مِنْ هُذَيلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا في بَطْنِهَا، فاخْتَصَمُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ دِيَةَ جَنِينِها غرةٌ عَبْدٌ أَوْ وَليدَةٌ، وَقَضى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ". فَقَال حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَليُّ: يَا رَسُولَ الله، كَيفَ يُغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذلِكَ يُطَلُّ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما هذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ"، مِنْ أجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1176/ 12 - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَأل: مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْجَنِينِ؟ قَال: فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النابِغَةِ، فَقَال: كُنْتُ بَينَ امْرَأتينِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى .. فَذَكَرَهُ مُخْتَصرًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجهما:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البُخاريّ في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الطب"، باب "الكهانة"(5758)، وفي مواضع من "الديات"، منها: باب "جنين المرأة"(6904)، ومسلم (1681)(36) من طريق ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.

ص: 245

وأمَّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود في كتاب "الديات"، باب "دية الجنين"(4572)، والنَّسائيُّ (8/ 21 - 22)، وابن ماجة (2641)، وابن حبان (13/ 378)، والحاكم (3/ 557) من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن عمر رضي الله عنه أنَّه سأل عن قضية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حَمَلُ بن النابغة، فقال: كنت بين ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بِغُرَّةٍ وأن تقتل.

ورواه أبو داود والحاكم من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، وفي آخره:(فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا).

وهذا الحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، وابن جريج قد صرح بالتحديث، وأبو عاصم هو الضَّحَّاك بن مخلد النبيل.

لكن طعن الحفاظ في لفظة: (وأن تقتل)، وقد رواه أبو داود والنَّسائيُّ عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: قام عمر على المنبر

فذكر معناه، ولم يذكر (وأن تقتل). وهذا سند منقطع، طاوس لم يسمع من عمر رضي الله عنه، قال البيهقي بإثر الحديث:(كذا قال: "أن تقتل بها" يعني المرأة القاتلة، ثم شك فيه عمرو بن دينار، والمحفوظ أنَّه قضى بديتها على عاقلة القاتلة)

(1)

، وعلى هذا فهي لفظة شاذة، والمحفوظ ما ذكر

(2)

.

وقد أخرجه -دون ذكر الأمر بالقتل- عبد الرَّزاق (18343) ومن طريقه الطّبرانيّ (3482)، والدارقطني (3/ 117)، والحاكم (3/ 575) عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، بالزيادة المذكورة.

وأعلم أن هذا الحديث مروي بعدة روايات، وله ألفاظ كثيرة في "الصحيحين" و "السنن" وغيرها، وقد يبدو التعارض في بعض الرِّوايات.

(1)

"السنن الكبرى"(8/ 114)، وانظر:"مختصر سنن أبي داود"(6/ 367).

(2)

انظر: "المسند"(5/ 404 - 405).

ص: 246

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (اقتتلت امرأتان من هذيل) هما ضرتان تحت حَمَلِ بن النابغة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية في "الصحيحين": (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان

)

(1)

، ولا تنافي بين الرِّوايات؛ لأنَّ لحيان -بكسر اللام أو فتحها- بطن من هذيل.

قوله: (بحجر) أي: صغير لا يقصد به القتل غالبًا، فيكون هذا القتل شبه عمد، وفي رواية:(ضربتها بعمود فُسطاط)

(2)

، قال القرطبي:(يحتمل أن تكون جمعت ذلك عليها، فأخبر أحدهما بإحدى الآلتين، والثَّاني بالأخرى)

(3)

.

قوله: (فقتلها وما في بطنها) ظاهر ذلك أن القتل وقع عقب الضرب، وهذا غير مراد؛ لما جاء في "الصحيحين" من رواية سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرةٍ عبدٍ أو أمة، ثم إن المرأة توفيت

)

(4)

، كما أن هذه الرِّواية فيها بيان أن الجنين خرج ميتًا، ورواية الباب محتملة لأنَّ يكون خرج ميتًا، وأن يكون خرج حيًّا لكنه مات.

قوله: (أن دية جنينها) الجنين: حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيًّا فهو ولد، أو ميتًا فهو سِقْطٌ.

قوله: (غرةٌ عبدٌ أو وَليدةٌ) الغرة -بضم الغين المعجمة، وتشديد الراء-: هي في الأصل بياض في الوجه، والمراد هنا: العبد أو الأمة ولو كانا أسودين؛ لكرم الآدمي على الله.

وقوله: (عبدٌ) بالتنوين، تفسير وبيان لقوله:(غرة) فهو بدل، و (أو) للتنويع، والوليدة: هي الأمة، كما في الرِّوايات الأخرى.

(1)

"صحيح البُخاريّ"(6909)، "صحيح مسلم"(1681).

(2)

"صحيح مسلم"(1682)(38).

(3)

"المفهم"(5/ 60).

(4)

"صحيح البُخاريّ"(6910)، "صحيح مسلم"(1681).

ص: 247

ويجوز في (غرة) ترك التنوين وإضافته إلى ما بعده، والأول أقوى، ويؤيده حديث المغيرة:(قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرةِ عبدٍ أو أمة)

(1)

.

قوله: (وقضى بدية المرأة على عاقلتها) أي: قضى بدية المرأة المقتولة على عاقلة المرأة القاتلة، وهذا قد يكون فيه إشكال في مرجع الضمير، لكن الرِّواية الأخرى المتقدمة بينت ذلك، ففيها:(فجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة). والعاقلة: هم الأقارب الذين يقومون بدفع الدية عن قريبهم القاتل، سموا عاقلة: إمَّا من العقل: وهي الدية؛ لأنهم يؤدونها، أو من العقل بمعنى: المنع؛ لأنهم يمنعون قريبهم من أن يعتدى عليه.

والعاقلة: هم العصبة بالنفس، كالإخوة لغير أم، والأعمام وبنوهم، وفي دخول الآباء والأبناء في العاقلة خلاف، وفي رواية عند أبي داود:(وبَرَّأَ زوجها وولدها) أي: برأهما من تحمل الدية، وهذا يدل على أن الزوج والولد ليسا من العاقلة.

قوله: (وورثها ولدها ومن معهم) وفي رواية للبخاري: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها)

(2)

، والضمير المنصوب يعود على الدية، والمراد بولدها: ولد المرأة المقتولة ومن معهم من الورثة الذين يرثون مع الابن كالزوج، وليس للعاقلة شيء، وفي رواية لأبي داود:(ميراثها لزوجها وولدها)

(3)

وهذا لبيان الواقع؛ لأنهم كانوا هم الورثة، وإلا فالظاهر أن ميراثها لورثتها أيًّا كان، كما في رواية "الصحيحين"

(4)

.

قوله: (فقام حَمَلُ بن النابغة) هو زوج القاتلة، وهو حَمَلُ بن مالك بن النابغة، نسب إلى جده، وحَمَل هذا له صحبة، وقد نزل البصرة، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، روى عنه ابن عباس رضي الله عنها، قيل: وعمر رضي الله عنه

(5)

. وفي رواية لأبي داود: (فقال أبو القاتلة)

(6)

، وفي رواية للطبراني: (فقال أخوها العلاء بن

(1)

"صحيح البُخاريّ"(6905).

(2)

"صحيح البُخاريّ"(6909).

(3)

"السنن"(4575).

(4)

انظر: "عون المعبود"(12/ 317).

(5)

"الإصابة"(2/ 288).

(6)

"السنن"(4574).

ص: 248

مسروح) فإما أن يحمل على أن الجميع قال ذلك، أو يقال بالترجيح، وهو أولى.

وكونه تكلم مع أنَّه ليس من العاقلة: إما لأنه زوج المقتولة والقاتلة وعاصب القاتلة ووالد الجنين، ويحتمل أنَّه معبر عن العصبة دون نفسه مستبعدًا الحكم

(1)

.

قوله: (كيف يغرم) -بضم الياء- مضارع غَرِمَ -بكسر الراء- من باب (تعب) مبني لما لم يسم فاعله، تقول: غَرِمْتُ الدية والدين وغير ذلك أَغْرِمُهُ: إذا أديته

(2)

.

قوله: (من لا شرب

إلخ) نائب فاعل، والمعنى: كيف تُطلب الدية لمن لم يولد حيًّا ولم يوجد منه شيء من أمارات الحياة.

قوله: (ولا استهل) الاستهلال: رفع الصوت بالصياح وغيره، والمعنى: أنَّه لم تُعلم حياته بصوت نطق ولا بكاء.

قوله: (يطَلّ) بضم الياء المثناة وفتح الطاء وتشديد اللام، مضارع مبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: يهدر ويلغى، وروي:(بَطَلَ) بالباء الموحدة من البطلان، قال القاضي عياض:(كذا رويناه عن جمهورهم بالباء الموحدة، وعند أبي جعفر بالياء باثنتين مضمومة)

(3)

، وقال النووي:(أكثر نسخ بلادنا بالمثناة)

(4)

.

قوله: (من إخوان الكهان) أي: من أشباه الكهان، بضم الكاف وتشديد الهاء، جمع كاهن: وهو من يدعي علم الغيب، أو يدعي الكشف عن المغيبات، من عَرَّافٍ ومُنَجِّمٍ ورَمَّال وغيرهم.

قوله: (من أجل سجعه) أي: بسبب كلامه الذي قاله بأسلوب السجع، وهذا يحتمل أن يكون مدرجًا، وأن يكون من نفس الحديث، وقد جزم

(1)

"المفهم"(5/ 65).

(2)

"المصباح المنير" ص (446).

(3)

"إكمال المعلم"(5/ 492).

(4)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 191).

ص: 249

القرطبي بأنه من تفسير الراوي

(1)

. والسجع: أن تتوافق في الكلام فِقْرتان أو أكثر في الحرف الأخير

(2)

.

وإنَّما كره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سجع حمل بن النابغة لأمرين:

1 -

أنَّه عارض به حكم الله تعالى وشرعه، وقصد إبطاله.

2 -

أنَّه تكلف هذه السجعات لنصرة الباطل، كما كان الكهان يروجون أقاويلهم بأسجاع تعجب السامعين

(3)

.

قوله: (بمسطح) بكسر الميم؛ أي: عود من أعواد الخِباء.

قوله: (وأن تُقتل) بصيغة الفعل المبني لما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي: القاتلة تقتل قصاصًا.

° الوجه الثالث: هذا الحديث أصل في النوع الثَّاني من أنواع القتل وهو شبه العمد، وهو قصد الجناية بما لا يقتل غالبًا، كما لو ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغيرة، أو ألقاه في ماء قليل ونحو ذلك، فشبه العمد يشبه العمد في قصد الجناية، ويخالفه في أن الآلة لا تقتل غالبًا.

فهذا النوع لا يجب فيه القصاص، ولا دية على الجاني، وإنَّما الدية على العاقلة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن دية شبه العمد تكون على عاقلة القاتل، وهم عصبته الذكور من الآباء والإخوة والعمومة وبنوهم، واعتبار الآباء والأبناء من العاقلة موضع خلاف بين أهل العلم.

وإنَّما كانت الدية على العاقلة؛ لأنَّ القتل وقع بدون قصد من الجاني، فناسب مساعدتهم له ولو كان غنيًّا، ولكن تخفف عنهم بتفريقها عليهم حسب قدرتهم وقربهم، وتؤجل، كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

"المفهم"(5/ 64).

(2)

انظر: "بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح"(3/ 92).

(3)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 191).

ص: 250

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن دية الجنين الذي سقط ميتًا بسبب الجناية على أمه غرة، وهي عبد أو أمة، لا فرق بين الذكر والأنثى، ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان، بشرط السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع، وقد قَدَّرَ الفقهاء الغرة بخمس من الإبل؛ لأنَّ ذلك مروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما

(1)

؛ ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات؛ لأنَّه أرش المُوْضِحَةِ ودية السن، فوجب الرد إليه.

ودية الجنين على القاتل لا على العاقلة؛ لأنَّها أقل من ثلث الدية، وما كان أقل من ثلث الدية فإن العاقلة لا تحمله.

وتكون دية الجنين ميراثًا؛ لأنَّها بدل نفسه، فيرثها ورثته، كما لو قُتل بعد الولادة، وليس للعاقلة منها شيء.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الدية تكون ميراثًا بعد المرأة المقتولة، فيأخذها ولدها ومن معهم من الورثة، ولم يُختلف في أن الزوج يرث هنا فرضه من دية زوجته المقتولة.

° الوجه السابع: ذم السجع إذا كان متكلفًا قُصد به نصرة الباطل، فأمَّا إذا وقع بغير تكلف ولم يقصد به نصرة الباطل فهو غير مذموم. وقد جاء السجع في كلام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مع أنَّه قد يقال: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد السجع، وإنَّما جاء اتفاقًا لقوة بلاغته

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(12/ 66).

(2)

"فتح الباري"(12/ 252).

ص: 251

‌ثبوت القصاص في الطَّرَف كالسِّن

1177/ 13 - عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ -عَمَّتَهُ- كَسَرَتْ ثَنِيّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيهَا الْعَفْوَ، فَأبوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأبوْا، فَأَتوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبوا إلَّا الْقِصَاصَ، فَأمَرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِالْقِصَاصِ، فَقَال أنسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتكْسَرُ ثَنِيّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيّتُهَا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أنَسُ، كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوْا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أقسَمَ عَلَى اللهِ لأبرهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَاريِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البُخاريّ في مواضع من "صحيحه" أولها في كتاب "الصلح"، باب "الصلح في الدية"(2703) من طريق حميد أن أنسًا حدثهم أن الرُّبيع -وهي ابنة النضر- كَسَرَتْ ثنية جارية

وساق الحديث.

ورواه مسلم من طريق ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه به.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن الرَّبيع) بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخره عين مهملة، هي بنت النضر الأنصارية الخزرجية، أخت أنس بن النضر الآتي ذكره.

قوله: (عمته) أي: عمة أنس بن مالك؛ لأنَّها أخت أبيه مالك بن النضر، وعليه فهي بدل أو عطف بيان من الرُّبيع.

ص: 252

قوله: (ثنية) على وزن فعيلة، جمعها ثنايا، وهي أسنان مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت.

قوله: (جارية) أي: امرأة شابة، وهي من الأنصار كما في بعض الرِّوايات، وعند أبي داود:(ثنية امرأة)

(1)

، وهذا يبين أن المراد بالجارية المرأة الشابة لا الأمة الرقيقة.

قوله: (فطلبوا إليها العفو فأبوا) أي: فطلب أهل الرَّبيع من الجارية ومن أهلها العفو عن الكسر المذكور مجانًا، فامتنعوا من قبول ذلك.

قوله: (فعرضوا الأرش فأبوا) أي: فعرض أهل الرَّبيع (الأرش) وهو بفتح الهمزة، ومعناه: الدية؛ أي: دية الثنية، وأصل الأرش: الفساد يقال: أَرَّشْتُ بين القوم: إذا أفسدت، ثم استعمل في نقصان الأعيان؛ لأنَّه فساد فيها

(2)

والمعنى: أن هؤلاء امتنعوا عن قبول الأرش وأصروا على القصاص.

قوله: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص) أي: المماثلة، وذلك بكسر ثنية الرَّبيع، إمَّا بقلع سنها إن كانت الجناية كذلك، أو يبرد من سنها بقدر ما كسرت من ثنية الجارية، وهذا هو الأقرب لسياق الحديث.

قوله: (فقال أنس بن النضر) هو أخو الرُّبيع -كما تقدم- استشهد في غزوة أُحد رضي الله عنه كما ثبت في "الصحيحين"

(3)

، وهذا يفيد أن قصَّة الرَّبيع كانت قبل أُحد.

قوله: (لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها) لم يقل ذلك رضي الله عنه ردًّا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وإعراضًا عن حكمه، وإنَّما قاله من باب التوقع والرجاء بأن الله تعالى يرضي الخصم، ويلقي في قلبه الإجابة إلى العفو أو أخذ الدية بدل القصاص، وقد أثنى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ولو كان قَصَدَ ردَّ ما حكم الله به لكان مستحقًا لِأَوْجَعِ القول وأفظعه.

(1)

"السنن"(5495).

(2)

انظر: "المصباح المنير" ص (12).

(3)

"صحيح البُخاريّ"(4048)، "صحيح مسلم"(1899).

ص: 253

قوله: (يا أنس كتابُ الله القصاصُ) أي: يا أنس شَرْعُ الله تعالى وحكمه يثبت لهم القصاص، وقد يكون ذلك إشارة إلى قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينافيه.

وكتاب الله: مبتدأ، والقصاص: خبر.

قوله: (فعفوا) أي: على الدية، بدليل رواية البُخاريّ في "التفسير" من طريق الفَزَاريُّ، عن حميد:(فرضي القوم، وقبلو الأرش)

(1)

.

قوله: (إن من عباد الله

) أي: إن بعض عباد الله لا يخيب الله رجاءهم ولا يرد دعاءهم، ومنهم أنس بن النضر رضي الله عنه، وإنَّما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك لأنَّ أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره وهو القصاص مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك، فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث أنس في يمينه، فألهم الله تعالى الغير العفو، فبرَّ قسم أنس رضي الله عنه.

قوله: (لأبرَّه) أي: لا يُحَنِّثه، بل يبر قسمه ويعطيه مطلوبه لكرامته عليه.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على ثبوت القصاص في السن إذا كانت الجناية عمدًا، وهذا هو نص القرآن، فإن كانت الجناية على السن بكاملها، فهذا مأخوذ من قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ، وقد ثبت الإجماع على قلع السن بالسن بالعمد

(2)

، وأمَّا كسر السن فقد دل هذا الحديث على ثبوت القصاص فيه، وهو قول الجمهور، وبه قطع الشَّافعية إذا أمكن

(3)

.

وشرط ذلك أمران:

الأوَّل: المماثلة، فالثنية بالثنية، والرباعية بمثلها، والعليا بالعليا، وكذا السفلى.

(1)

"صحيح البُخاريّ"(4611).

(2)

"مراتب الإجماع" ص (138)، "المغني"(11/ 553).

(3)

"بدائع الصنائع"(7/ 308)، "الكافي"لابن عبد البر (2/ 390)، "المغني"(11/ 554)، "المهذب"(2/ 181).

ص: 254

الثَّاني: الأمن من الحيف، وذلك بأن يمكن الاستيفاء من سن الجاني بلا حيف، ويتم ذلك في السن بأن يبرد من سن الجاني بنسبة ما كسره من سن المجني عليه، كالنصف مثلًا، قال أبو داود في "سننه":(سمعت أحمد بن حنبل قيل له: كيف يُقتص من السن؟ قال: تُبرد)

(1)

.

وذهب الشَّافعي إلى عدم مشروعية القصاص في السنن، لعدم إمكان المماثلة

(2)

.

والصَّواب الأوَّل؛ لأنَّ حديث الباب نص في الموضوع، والمماثلة ممكنة، ولا سيما في زماننا هذا.

أما العظام غير السن فإن كانت عظام الرأس فلا قصاص بالإجماع؛ لما يخشى في القصاص من تلف الجاني.

وأمَّا عظام بقية البدن ففيها ثلاثة أقوال:

القول الأوَّل: أن فيها القصاص، وهذا رأي ابن حزم

(3)

، لعموم الآيات الدّالة على معاملة الجاني بمثل ما فعل، وحديث أنس هذا:"كتابُ الله القصاص" وهو عام.

والقول الثَّاني: أن فيها القصاص إلَّا ما كان مخوفًا، مثل الفخذ والصلب وعظم الرقبة والصدر، ففيها الدية، وهذا قول مالك وابن المنذر

(4)

، للعمومات السابقة.

والقول الثالث: أنَّه لا قصاص فيها، وهو قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة

(5)

، بل الدية، لعدم المماثلة؛ ولأنَّه لا يؤمن من الحيف.

والقول الثَّاني قوي، لا سيما في زماننا هذا.

(1)

"السنن"(4/ 197).

(2)

"روضة الطالبين"(9/ 198)، "مغني المحتاج"(4/ 35).

(3)

"المحلى"(12/ 110).

(4)

"الكافي"(2/ 390)، "تفسير القرطبي"(6/ 202).

(5)

"بدائع الصنائع"(7/ 298)، "المهذب"(2/ 179)، "المبدع"(8/ 308).

ص: 255

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن القصاص هو حكم الله تعالى وشرعه، فيجب تنفيذه على الجاني، إلَّا إذا عفا صاحب الحق، ولا يعتبر هذا تعطيلًا لحكم الله تعالى؛ لأنَّ القصاص مَحْضُ حَقِّ آدمي.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الاستشفاع والسعي في قبول التنازل عن القصاص عند أهل المجني عليه، وأن هذا ليس من باب الشفاعة في الحدود بعد رفعها إلى السلطان.

° الوجه السادس: جواز الحلف على ما يُظن وقوعه، وهذا على أحد القولين. وسأذكر الكلام في هذه المسألة -إن شاء الله- في كتاب "الإيمان والنذور".

° الوجه السابع: استدل الأصوليون بهذا الحديث على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه، والمراد أنَّه شرع لنا من حيث إنَّه وارد في كتابنا أو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لا من حيث إنَّه كان شرعًا لمن كان قبلنا.

ووجه الاستدلال: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كتابُ الله القصاصُ" وليس في كتاب الله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} إلَّا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا} فدل على أنَّه صلى الله عليه وسلم قضى بحكم التوراة، بدليل أنَّه ذكر الآية، ولو كان حكمًا ابتدأه ما ذكرها.

والظاهر أن الخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة لفظي؛ لأنَّ القائلين به لا يعتبرونه دليلًا مستقلًا، وإنَّما هو راجع إلى الكتاب أو السنة، ومن لا يرى حجيته فإنَّه يعمل به؛ لوروده في الكتاب والسنة، لا لأنه شرع لمن قبلنا

(1)

.

° الوجه الثامن: قال القرطبي: (فيه دليل على كرامات الأولياء)، وذلك أن في الحديث منقبة عظيمة لأنس بن النضر رضي الله عنه، وأنَّه من عباد الله تعالى الذين يسمع الله نداءهم، ويجيب دعاءهم، ويحقق لهم مطلوبهم.

° الوجه التاسع: جواز الثّناء على بعض عباد الله الصَّالحين في حضورهم إذا أُمنت الفتنة في ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

"تيسير الوصول" للمؤلف ص (314).

ص: 256

‌من قُتل بين قوم ولم يُعرف قاتله

1178/ 14 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ في عِمِّيَّا أَوْ رِمِّيَّا بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ الْخَطَإ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَال دُونَهُ فَعَلَيهِ لَعْنَةُ اللهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائي، وَابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَاد قَويٍّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الديات"، باب "من قتل في عميا بين قوم"(4540)، والنَّسائيُّ (8/ 39 - 40)، وابن ماجة (3635) من طريق سليمان بن كثير العبدي، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا به، وتمامه:(فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا) وقد جاء عند أبي داود: (من قتل في عميا في رمي يكون بينهم).

وهذا الحديث -كما قال الحافظ- سنده قوي، فيه سليمان بن كثير، وهو من رجال الشيخين، إلَّا أن العلماء تكلموا في روايته عن الزُّهريّ خاصة

(1)

، وفي غيره لا بأس به، كما قال الحافظ في "التقريب". لكن روي هذا الحديث مرسلًا، فقد رواه أبو داود (4539) من طريق حماد ومن طريق سفيان، عن عمرو، عن طاوس، مرسلًا، قال الدارقطني:(وهو الصَّحيح)

(2)

،

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 189).

(2)

"العلل"(11/ 36).

ص: 257

وقال ابن عبد الهادي: (إسناده جيد، لكن قد روي مرسلًا)

(1)

.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في عِمِّيا) بكسر العين المهملة وتشديد الميم المكسورة بعدها ياء، اسم مقصور من العَمَى؛ أي: من قُتل في حال يعمى أمره فلا يتبين قاتله.

قوله: (أو رِمِّيا) بكسر الراء وتشديد الميم المكسورة بعدها ياء، اسم مقصور من الرمي، وكل منهما مصدر يراد به المبالغة؛ أي: من قتل في حال ترامي القوم ومضاربتهم فيما بينهم، فلم يتبين القاتل ولا حال القتل فهو قتل خطإ

(2)

.

وقد تقدم لفظ أبي داود: (من قتل في عميا في رمي) وظاهر هذا أن اللفظ الثَّاني تفسير للأول؛ أي: ترامى القوم، فوجد بينهم قتيل.

قوله: (فعقله عقل الخطأ) أي: فديته دية قتل الخطأ ولا قصاص فيه.

قوله: (ومن قتل عمدًا فهو قود) أي: ففيه القصاص.

قوله: (ومن حال دونه فعليه لعنة الله) أي: حال دون القصاص وسمى الجاني بشفاعة أو بقوته مع طلب مستحقه له.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنَّه إذا قتل إنسان في حال مشتبهة لم يتضح فيها القاتل، كما لو تقاتل فريقان وتراموا بحجارة أو نحوها ثم وجد بينهم قتيل لا يُدرى من قتله فإن ديته دية القتل الخطأ ولا قصاص فيه، وهذا أظهر الأقوال في هذه المسألة؛ لدلالة الحديث عليه، لكن حصل الخلاف في الدية على من تكون؟

فالقول الأوَّل: أن الدية في بيت المال، وهو قول إسحاق؛ لأنَّه مسلم مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين.

ومثل هذا لو مات في زحمة طواف أو سعي أو رمي جمار أو نحو

(1)

"التنقيح"(4/ 481).

(2)

"النهاية"(3/ 305).

ص: 258

ذلك؛ لأنَّه دم معصوم لا يضيع هدرًا، فتكون الدية في بيت المال في كل حالة لا يبقى فيها سبيل للثبوت على غير بيت المال.

والقول الثَّاني: أن ديته تجب على جميع من حضر، وذلك لأنَّه مات بفعلهم، فلا يتعداهم إلى غيرهم، وهذا قول الحسن.

والقول الثالث: أنَّه هدر؛ لأنَّه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد، وهو قول مالك

(1)

، والقول الأوَّل أرجح، لقوة مأخذه، ولأنَّه قول علي رضي الله عنه

(2)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن قتل العمد يوجب القصاص، وقتل العمد: أن يَقْصِدَ آدميًّا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن موته به، وله صور وأمثلة محلها كتب الفقه.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنَّه لا يحل لمسلم أن يحول دون استيفاء القصاص أو الدية بأن يحمي الجاني، أو يكون سببًا في ذلك، وأن هذا من الكبائر، والواجب على المؤمن أن يكون عونًا للحق ولو كان أهل الحق ضعيفين أو أعداء له فالحق أحق بالأخذ والاتباع.

والواجب على ولاة الأمور وعلى القضاة إنفاذ الحق وإيصاله إلى مستحقه، وأن يحذروا التساهل أو قبول الشفاعات التي تمنع الحق أو السماح لمن يقف بهذا الطَّريق ولو كان عظيمًا، ومن حال دون تنفيذ الحق بشفاعة أو قوة فقد تعرض لغضب الله تعالى ولعنته، وقد أنكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد في شأن المخزومية، وقال: "أتشفع في حد من حدود الله

"

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "معالم السنن"(6/ 345)، "فتح الباري"(12/ 218)، "دقائق أولي النهى"(6/ 163).

(2)

انظر: "مصنف عبد الرَّزاق"(10/ 51).

(3)

رواه البُخاريّ (1688)، ومسلم (1688)، وسيأتي شرحه في باب "حد السرقة" إن شاء الله تعالى.

ص: 259

‌عقوبة القاتل والممسك

1179/ 15 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَتَلَهُ الآخَرُ يُقْتلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذي أَمْسَكَ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ مَوْصُولًا ومُرْسَلًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلا أن الْبَيهَقِي رَجَّحَ الْمُرْسَلَ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

فقد أخرجه الدارقطني (3/ 140)، والبيهقيّ (8/ 50) من طريق أبي داود الحَفَرِي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أميَّة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل

الحديث".

وهذا الحديث في سنده اختلاف، فقد روي موصولًا كما مَرَّ، وروي مرسلًا من طريق وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن أميَّة، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل أمسك رجلًا وقتله الآخر، قال:"يُقتل القاتل، ويُحبس الممسك".

رواه ابن أبي شيبة (9/ 372)، والدارقطني (3/ 140)، والبيهقيّ (8/ 50).

وقد رجح البيهقي المرسل، فإنَّه قال بعد الموصول: (هذا غير محفوظ، وقد قيل عن إسماعيل بن أميَّة، عن سعيد بن المسيب، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والصَّواب ما أخبرنا

) ثم ساق المرسل المتقدم، ولعل وجه ترجيح المرسل أنَّه من طريق وكيع عن سفيان، وهو أثبت من الحفري في روايته عن

ص: 260

سفيان

(1)

. ويؤيد هذا أن عبد الرَّزاق رواه في "مصنفه"(9/ 481) عن معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلًا.

أما ابن القطان فقد رجح الموصول، حيث قال:(وهو عندي صحيح)

(2)

.

قال ابن عبد الهادي: (وقول البيهقي أصح من قول ابن القطان)، ثم قال عن المرسل:(هذا هو المحفوظ)

(3)

.

° الوجه الثَّاني: استدل بهذا الحديث من قال: إنَّه إذا أمسك رجل رجلًا وقتله آخر، فإن القاتل يقتل قصاصًا إلَّا أن يعفو أهل القتيل، قال الموفق:(لا خلاف في أن القاتل يقتل؛ لأنَّه قتل من يكافئه عمدًا بغير حق)

(4)

.

وأمَّا الممسك فإن لم يعلم أن القاتل سيقتله فلا شيء عليه؛ لأنَّه متسبب، والقاتل مباشر، فيسقط حكم المتسبب به، وإن أمسكه لمن يقتله مثل أن ضبطه له حتَّى ذبحه:

فالقول الأوَّل: أنَّه يحبس، كما دل عليه الحديث، ولم يذكر في الحديث مدة حبسه، فيكون مرجعها إلى اجتهاد الحاكم؛ لأنَّ الغرض تأديبه، وليس بمقصود استمراره إلى الموت، وعزاه الشوكاني إلى الجمهور

(5)

، وقيل: يحبس حتَّى يموت، وهذا قول عطاء وربيعة، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه

(6)

، وهو رواية من أحمد، أخذ بها الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم

(7)

؛ لأنَّه حَبَسَ المجني عليه إلى الموت فيحبس هو إلى الموت.

والقول الثَّاني: أن الممسك يقتل كالقاتل؛ لأنهما اشتركا في القتل، فإنَّه لولا الإمساك ما قَدِرَ على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل

(1)

انظر: "شرح العلل" لابن رجب (2/ 538).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 416)

(3)

"التنقيح"(4/ 485).

(4)

"المغني"(11/ 596).

(5)

"نيل الأوطار"(7/ 26).

(6)

المصدر السابق.

(7)

"الفتاوى"(11/ 245).

ص: 261

بفعلهما. وهذا قول مالك، ورواية من أحمد

(1)

.

والقول الثالث: أن الممسك يعاقب ويأثم ولا يقتل؛ لأنَّ الممسك غير قاتل؛ ولأن الإمساك سبب غير ملجئ، فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضَّمان على المباشر، وهذا قول أبي حنيفة والشَّافعيّ

(2)

، وكأن هؤلاء لم يأخذوا بهذا الحديث في أنَّه يحبس الممسك؛ لأنَّه معلول بالإرسال كما تقدم، وهذا القول قوي -في نظري- والعقاب أنواع، ومنه السجن، ويكون مرجعه إلى اجتهاد الحاكم. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(11/ 596).

(2)

المصدر السابق.

ص: 262

‌حكم قتل المسلم بالمعاهد

1180/ 16 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْبَيلَمَانيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ. وَقَال: "أنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمّتِهِ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا مُرْسلًا، وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنيُّ بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ المَوْصُولِ وَاهٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو عبد الرحمن بن أبي زيد البيلماني -بفتح الباء، وسكون الياء، وفتح اللام- مولى عمر رضي الله عنه، يذكر في عداد الضعفاء، قال عنه أبو حاتم: الشين الحديث)، وقال الدارقطني:(ضعيف لا تقوم به حجة)، وقال الأزدي:(منكر الحديث)، روى عن ابن عباس وابن عمرو ابن عمرو وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه ابنه محمَّد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسماك بن الفضل وغيرهم، مات في خلافة الوليد بن عبد الملك

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد رواه عبد الرَّزاق (10/ 101) باب (قود المسلم بالذمي)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 135)، والبيهقيّ (8/ 31) عن الثوري، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن البيلماني يرفعه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أقاد من مسلم قتل يهوديًّا، وقال:"أنا أحق من وفَى بذمتي" وعند البيهقي: "من وفَى بذمته".

وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ لأنَّه مرسل، والذي أرسله عبد الرحمن بن البيلماني، وقد قال عنه الدارقطني: (ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 135 - 136).

ص: 263

الحديث، فكيف إذا أرسله؟!)

(1)

، وقد روي مرسلًا -أيضًا- من طرق أخرى

(2)

.

وروي موصولًا، فقد رواه الدارقطني (3/ 134) من طريق إبراهيم بن محمَّد الأسلمي، عن ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد، وقال:"أنا أكرم من وفى بذمته".

وهذا إسناد واهٍ -كما قال الحافظ- آفته إبراهيم الأسلمي، فهو متروك، كما قال النَّسائيّ والدارقطني

(3)

. قال الدارقطني عقب الحديث: (والصَّواب عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسلًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم).

وإذا كان مرسل الثقات من قبيل الضعيف، فكيف بمرسل الضعفاء والمتروكين، هذا من جهة الإسناد، وأمَّا من جهة المتن ففيه نكارة؛ لأنَّه مخالف للحديث الصَّحيح المتقدم:"لا يقتل مسلم بكافر" على أن لفظ الكافر لفظ عام.

ولعل الحافظ ذكر الحديث لبيان حاله، وليعرف طالب العلم أن الحديث لا أصل له، وأن في الباب حديثًا مخالفًا للصواب، ولو أسقطه كما فعل ابن دقيق العيد في "الإلمام" وابن عبد الهادي في "المحرر" لكان أولى.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز قتل المسلم بالكافر المعاهد، وأن المعاهد في ذمة إمام المسلمين، وفي ذمة المسلمين جميعًا.

والمعاهد -بفتح الهاء، وقيل: بكسرها-: هو الكافر الذي أُعطي العهد والأمان، فحرم قتله أو أسره أو رقه، قال الحافظ:(المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم)

(4)

.

(1)

"السنن"(3/ 135).

(2)

انظر: "المراسيل" لأبي داود ص (328)، "المصنف" لابن أبي شيبة (9/ 290)، "العلل" للدارقطني (14/ 69)، "السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 30).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 135)، "تهذيب التهذيب"(1/ 137).

(4)

"فتح الباري"(12/ 259).

ص: 264

والقول بأن المسلم يقتل بالمعاهد هو قول الحنفية، وقد استدلوا بهذا الحديث في كتبهم

(1)

. كما يستدلون بعموم الأدلة الدّالة على مشروعية القصاص، قالوا: لأنَّ الحاجة تدعو إلى زاجر قوي يردع المسلم ويمنعه من الاعتداء على الذميين؛ لأنَّ العداوة الدينية قد تدفع المسلم على الإقدام على قتل الذمي لأتفه الأسباب، فكان في تشريع القصاص من المسلمين للكافر الذمي سَدٌّ لباب الفتنة وحفظ الحقوق الذميين التي كفلها لهم الإسلام، وحملوا حديث:"لا يقتل مسلم بكافر" على أن المراد الحربي لا المعاهد، لتتفق النصوص.

يقول عبد القادر عوده رحمه الله: (ورأي أبي حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهي لا تفرق في العقوبة لاختلاف الدين، والقانون المصري لا يفرق بين ذمي ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر)

(2)

.

وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالذمي، وتقدم بيان ذلك، وهو القول الراجح.

وقد أجمع الفقهاء على أن قتل المعاهد من كبائر الذنوب، لما ثبت فيه من الوعيد، فقد ثبت في الصَّحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنَّة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"

(3)

.

وقد نقل ابن بطال عن المهلب أنَّه استدل بهذا الحديث الصَّحيح على أن المسلم لا يقتل بالمعاهد؛ لأنَّه اقتصر في الحديث على الوعيد الأخروي دون الدنيوي

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الهداية"(4/ 160).

(2)

"التّشريع الجنائي الإسلامي"(1/ 124).

(3)

رواه البُخاريّ (3166)، وسيأتي شرحه -إن شاء الله- في أواخر "الجهاد".

(4)

"شرح ابن بطال"(8/ 563).

ص: 265

‌قتل الجماعة بالواحد

1181/ 17 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قُتِلَ غُلَامٌ غِيلَةً، فَقَال عُمَرُ: لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

فقد رواه البُخاريّ في كتاب "الديات"، باب "إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم؟ " (6896) فقال: قال لي ابن بشار: حدثني يَحْيَى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر:(لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم).

وهذا إسناد موصول؛ لأنَّ ابن بشار -واسمه محمَّد، ويعرف بِبُنْدار- هو من شيوخ البُخاريّ الذين سمع منهم، وحدث عنهم بالشيء الكثير.

وهذا السياق للإسناد وإن كان سياق تعليق إلَّا أن القول بالاتصال هو الراجح، قال الحافظ:(هذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد)

(1)

، ويؤيد ذلك أن البُخاريّ قد استعمل صيغة:(قال فلان) بكثرة عن شيوخه في الأسانيد المتصلة في "التَّاريخ الكبير"، وهذا وإن لم يعهد منه في "الصَّحيح" إلَّا أنَّه ممكن الوقوع، وما أحسن قول الحافظ ابن رجب عن حديث المعازف الذي رواه البُخاريّ بمثل صيغة حديث الباب، فقال: (وقال هشام بن عمار: حدَّثنا صدقة بن خالد

) قال ابن رجب: (هكذا ذكره البُخاريّ في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنَّه مسند، فإن هشام بن عمار أحد شيوخ

(1)

"فتح الباري"(12/ 227).

ص: 266

البُخاريّ، وقد قيل: إن البُخاريّ إذا قال في "صحيحه": (قال فلان) ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنَّه يكون قد أخذه عنده عرضًا أو مناولة أو مذاكرة، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندًا، والله أعلم)

(1)

.

وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة (9/ 347) عن وكيع، قال: حدَّثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء برجل، وقال:(لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم).

ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 871) عن يَحْيَى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال عمر:(لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا).

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (غلام) هو الذكر الصَّغير، قال ابن سيده:(هو غلام من لدن الفطام إلى سبع سنين) وتقدم ذلك في أول الكتاب

(2)

.

قوله: (غيلة) بكسر الغين؛ أي: خديعة وخفية، وهو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه أحد، قال ابن فارس:(الغين والواو واللام أصل صحيح يدل على خَتْل وأخذٍ من حيث لا يدري)

(3)

.

وليس للفقهاء تعريف اصطلاحي لقتل الغيلة، ولعلهم تركوا ذلك لوضوح معناه اللغوي، ومع ذلك ذكروا له صورًا، منها:

1 -

أن يدعو شخصًا إلى منزله لخياطة أو طِبٍّ، أو نحو ذلك، فإذا انفرد به قتله وأخذ ما معه.

2 -

أن يخدع صغيرًا أو كبيرًا فيدخله موضعًا، فيقتله ويأخذ ما معه.

وتقدم شيء من ذلك في باب "ما جاء في قتل المسلم بالكافر".

قوله: (لو اشترك فيه) هذا لفظ "البلوغ"، وهي رواية الكُشْمَيهَنِي، قال

(1)

"مجموع رسائل ابن رجب"(2/ 449).

(2)

انظر: "شرح الحديث"(88).

(3)

"معجم مقاييس اللُّغة"(4/ 42).

ص: 267

الحافظ: (وهو أوجه)، والذي في البُخاريّ:(فيها) والتأنيث على إرادة النَّفس، كما قال الحافظ

(1)

.

قوله: (صنعاء) بالمد، مدينة قديمة أثرية، وهي عاصمة اليمن اليوم.

قوله: (لقتلتهم به) أي: لاقتصصت منهم وقتلتهم جميعًا لاشتراكهم في قتله، وإسناد القتل إليه رضي الله عنه فيه إشارة إلى أن قتل الغيلة لا يُقبل فيه العفو، كما سيأتي. ولفظة:(به) ليست عن البُخاريّ.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنَّه إذا اشترك جماعة -اثنان فأكثر- في قتل شخص عمدًا، فإنَّه يجب عليهم القصاص جميعًا بشرط أن يكون فعل كل واحد منهم صالحًا لإحداث الوفاة، وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة

(2)

؛ لأنَّ الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه أمر بقتل قاتلي الغلام، وقد ورد أنهم كانوا سبعة، وكان ذلك بمحضر من الصّحابة رضي الله عنهم ولم ينقل عن أحد منهم أنَّه أنكر ذلك عليه، ولو كان هذا غير جائز لما أمر به عمر رضي الله عنه

(3)

.

كما استدلوا بعموم الأدلة من الكتاب والسنة الدّالة على مشروعية القصاص، ولم تفرق بين كون القاتل واحدًا أو جماعة.

ومن جهة المعنى: فإنَّه لو سقط القصاص بالاشتراك لأدى ذلك إلى التسارع إلى القتل عن طريق الاشتراك؛ ليسلم القاتل من القصاص، فتسفك الدماء، وتزول حكمة الردع والزجر.

والقول الثَّاني: أنَّه لا يجب القصاص عليهم وإنَّما تجب الدية، وهذا رواية في مذهب الإمام أحمد، وبه قال الزُّهريّ وابن المنذر

(4)

، وحكاه ابن

(1)

"فتح الباري"(12/ 277).

(2)

"المهذب"(2/ 174)، "بدائع الصنائع"(7/ 238)، "بداية المجتهد"(4/ 301)، "المغني"(11/ 490).

(3)

انظر: "المصنف" لعبد الرَّزاق (9/ 475).

(4)

"المغني"(11/ 490)، "فتح الباري"(12/ 227)، "الإنصاف"(9/ 448).

ص: 268

أبي موسى عن ابن عباس رضي الله عنهما

(1)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].

ووجه الاستدلال: أن الآية دلت على وجوب المماثلة والمساواة في الأوصاف، وإذا تفاوتت فلا قصاص؛ كالحر يؤخذ بالعبد، وإذا كان التفاوت في الأوصاف يمنع من القصاص فإن التفاوت في العدد يمنع من باب أولى.

كما استدلوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقتل الجماعة بالواحد يستدعي قتل أنفس بنفس، فيكون ممنوعًا لمخالفته لظاهر الآية.

والقول الثالث: أنَّه يقتل واحد فقط يختاره أولياء الدم، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وهو قول بعض الشَّافعية، وهو مروي عن بعض السلف؛ كمعاذ وابن الزُّبير وابن سيرين والزهري

(2)

.

واستدلوا بما تقدم في القول الثَّاني، حيث دلت الآيتان على أنَّه لا تؤخذ أنفس بنفس واحدة، وإذا كان الأمر كذلك فيقتص من واحد فقط، وليس من المعقول أن يفلت بقية الجناة من العقاب، فيلزمون بدفع حصصهم من الدية.

والراجح هو القول الأوَّل، لقوة دليله، وقد نقل ابن قدامة إجماع الصّحابة رضي الله عنهم على هذا الرأي، لكن قد يشكل على ذلك ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأما أدلة الباقين فهي غير ناهضة؛ لأنَّ آية البقرة -كما تقدم- وردت لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من تعنت وكبرياء حتَّى إنهم لا يقبلون بالعبد إلَّا حرًّا، ولا بالأنثى إلَّا ذكرًا، ولم تتعرض الآية لقتل الجماعة بالواحد.

وأمَّا آية المائدة فإنَّها نزلت توبيخًا لليهود الذين خالفوا نص التوراة في أن النفس بالنفس، فصاروا يفضلون بعض الأجناس على بعض، فيقتصون من

(1)

"الإرشاد" ص (452).

(2)

"المغني"(11/ 490)، ولعل هذا قول آخر للزهري، فقد تقدم في القول الثَّاني.

ص: 269

القُرَظِي للنَّضَرِي، ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن قتل الغيلة يوجب القتل حتمًا، ولا يجوز فيه عفو ولا صلح، وهذا قول المالكيّة، وبعض فقهاء الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

ووجه الاستدلال:

1 -

أن عمر رضي الله عنه قتل النفر الذين قتلوا الغلام وهم خمسة أو سبعة، كما تقدم، وقال:(لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم).

2 -

أن عمر رضي الله عنه نسب العقوبة إليه لا إلى ولي الدم، ولم يستثن عفو الولي، مما يدل على أن قتل المغتال لولي الأمر، وليس لأولياء القتيل أثر من إسقاط العقوبة عنه.

والقول الثَّاني: أن قتل الغيلة كغيره من أنواع القتل في وجوب القصاص، ولولي الدم العفو إلى بدل أو إلى غير بدل، وهذا قول الجمهور

(2)

.

واستدلوا بعموم الأدلة على شرعية القصاص التي لم يفرق فيها بين قتل الغيلة وغيره.

والقول الأوَّل أرجح، لقوة دليله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(والأول أشبه بأصول الشريعة، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنَّه لا يُدرى به)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"حاشية المقنع"(3/ 362)، "مجموع الفتاوى"(28/ 316)، "الفروع"(5/ 669)، "جواهر الإكليل"(2/ 255).

(2)

"المغني"(11/ 460)، "فتح الباري"(12/ 510).

(3)

"الفتاوى"(28/ 317).

ص: 270

‌تخيير الولي بين القصاص والدية

1182/ 18 - عَنْ أَبي شُرَيحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " .. فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيل بَعْدَ مَقَالتَي هذِهِ فَأَهْلُهُ بَينَ خِيرَتَينِ: إِمَّا أَنْ يَأخُذُوا الْعَقْلَ أَوْ يَقْتُلُوا"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

1183/ 19 - وَأَصْلُهُ في الصحيحَينِ مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه بمعْنَاهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في ترجمة الراوي:

وهو أبو شريح الخزاعي ثم الكعبي، خويلد بن عمرو، أو عمرو بن خويلد، أو هانئ وقيل: غير ذلك، وقد قال ابن عبد البر عن الأوَّل: إنَّه أصحها، وقال ابن حجر: والأول أشهر، وهو صحابي جليل، أسلم قبل فتح مكّة، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح، روى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروى عنه نافع بن جبير بن مطعم، وأبو سعيد المقبري، وابنه سعيد، وغيرهم، وكان أبو شريح من عقلاء أهل المدينة، فصيحًا قويًّا في الله تعالى لا تأخذه فيه لومة لائم، وقصته مع عمرو بن سعيد والي المدينة ليزيد بن معاوية معروفة، وهي في "الصحيحين"، قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين رضي الله عنه

(1)

.

° الوجه الثَّاني: في تخريجهما:

أما حديث أبي شريح رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الديات"، باب "ولي العمد يرضى بالدية"(4504)، والترمذي (1406) من طريق

(1)

"الاستيعاب"(11/ 321)، "الإصابة"(11/ 192).

ص: 271

يَحْيَى بن سعيد، قال: حدَّثنا ابن أبي ذئب، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل

الحديث".

وهذا الحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، قال التِّرمذيُّ:(هذا حديث حسن صحيح).

وعزوه للنسائي وهم من الحافظ رحمه الله، وقد عزاه المزي إلى أبي داود والترمذي فقط

(1)

، وعزاه الحافظ نفسه في "التلخيص" إلى التِّرمذيِّ فحسب

(2)

.

وأمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه البُخاريّ في كتاب "الديات"، باب "من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين"(6880)، ومسلم (1355) من طريق يَحْيَى بن أبي كثير، حدَّثنا أبو سلمة، حدَّثنا أبو هريرة أنَّه عام فتح مكّة قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية

وساق الحديث، وفيه: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إمَّا أن يؤدى، وإما أن يقاد

" الحديث بطوله، وعند مسلم: "إمَّا أن يفدى، وإما أن يقتل".

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الواجب في قتل العمد أحد أمرين: إمَّا القصاص وأمَّا الدية، ويتعين أحدهما باختيار الولي، وهذا قول الشَّافعي، ومالك وأحمد في رواية عنهما، وهو قول الظاهرية

(3)

.

كما استدلوا بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] قال ابن عباس في الآية: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية

فالعفو أن يقبل الرجل الدية في العمد

يتبع بالمعروف، ويؤدي بإحسَّان)

(4)

، وهذا يفيد أن هذه الأمة مخيرة بين

(1)

"تحفة الأشراف"(9/ 225).

(2)

(4/ 25)

(3)

"المحلى"(10/ 360)، "بداية المجتهد"(4/ 305)، "المغني"(11/ 457)، "روضة الطالبين"(9/ 239).

(4)

رواه البُخاريّ (4498).

ص: 272

القصاص والدية، وهذا من رحمة الله تعالى وإحسانه إلى هذه الأمة حيث لم يحتم عليهم القصاص كما كان في بني إسرائيل.

والقول الثَّاني: أن الواجب في قتل العمد القصاص عينًا، وليس للولي أن يأخذ الدية من القاتل إلَّا برضاه، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك في المشهور عنه، ورواية عن أحمد

(1)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ووجه الدلالة: أن (على) تفيد الوجوب، وأن الله تعالى لم يذكر الدية. كما استدلوا بالأدلة الموجبة للمماثلة، كقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} [البقرة: 194] والمعاقبة بالمثل لا تتحقق إلَّا بالقصاص، إذ لا مماثلة بين القتل والدية.

كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم: "ومن قتل عمدًا فهو قود" فالرسول صلى الله عليه وسلم أوجب القود في العمد واقتصر عليه، ولو كانت الدية واجبة لذكرها.

والقول الثالث: أن الواجب القصاص عينًا، وللولي أن يأخذ المال من غير رضا القاتل، وهذا قول للشافعي

(2)

، ودليل ذلك ما تقدم في الذي قبله، إلَّا أنهم قالوا: إن لولي الدم أخذ الدية ولو لم يرض القاتل؛ لأنَّه لا يهدر دم في الإسلام.

والراجح هو القول الأوَّل؛ لأنَّ أدلتهم قوية وصريحة في تخيير الولي بين القصاص والدية.

أما أدلة الباقين فهي غير ناهضة على المدعى؛ لأنَّ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قد جاء في آخرها ما يدل على أن هذا محمول على

(1)

انظر: "بدائع الصنائع"(7/ 241)، "حاشية الدسوقي"(4/ 240).

(2)

انظر: "نهاية المحتاج"(7/ 309).

ص: 273

اختيار الاقتصاص من القاتل، وأمَّا آيات المماثلة فليس فيها ما ينفي إيجاب الدية الثابت بأدلة أخرى، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن قتل عمدًا فهو قود"، فتكون أدلة التخيير جاءت بحكم زائد على ما ثبت في هذه الأدلة، فيؤخذ بالجميع

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(1/ 44).

ص: 274

‌باب الديات

الديات: جمع دية، وهي مصدر وَدَى القتيل؛ أي: أدى ديته، والهاء عوض عن فاء الكلمة، وهي الواو، مثل: وعد عدة، ووصل صلة. وجمعت لاختلاف أنواعها.

واصطلاحًا: المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية على نفس أو طَرَف.

والأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92].

أما السنة فالأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيرها، وأمَّا الإجماع فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في النَّفس عند توفر شروط وجوبها.

والدية عقوبة مالية تحل محل القصاص إذا سقط، أو امتنع لسبب من الأسباب، إذا كانت الجناية عمدًا، وتكون عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد أو خطأ.

والقاعدة في هذا الباب أن كل من أتلف إنسانًا أو جزءًا منه بمباشرة أو تسبب فعليه الدية.

والمباشرة: فعل الأمر من غير واسطة، كان يضربه بآلة تقتل أو يلقيه من شاهق، والتسبب: أن يكون الشخص ونحوه سببًا في حصول أمر ما، كأن يحفر بئرًا في الطَّريق فيقع فيها إنسان

(1)

.

(1)

"معجم لغة الفقهاء" ص (129، 399).

ص: 275

‌مقادير الديات

1184/ 1 - عَنْ أَبي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفيهِ:"أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَد، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْليَاءُ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ في النَّفْسِ الدِّيةَ مائَةً مِنَ الإبِلِ، وَفي الأنفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفي اللِّسان الدِّيَةُ، وَفي الشَّفَتَينِ الدِّيَةُ، وَفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفي الْبَيضَتين الدِّيَةُ، وَفي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفي العَينَينِ الدِّيَةُ، وَفي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْف الدِّيةِ، وَفي الْمَأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفي الْمُنَقَلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإبِلِ، وَفي كُلِّ إِصْبَعِ مِنْ أَصابع الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْر مِنَ الإبِل، وَفي السِّنّ خَمس مِنَ الإبِلِ، وَفي الْمُوضِحَةِ خَمس مِنَ الإبلِ، وَإِن الرَّجُلَ يُقْتَلُ بالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ألفُ دِينَارٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيل، وَالنسَائي وَابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَحْمَدُ، وَاخْتَلَفُوا في صحّتِهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في ترجمة الراوي:

وهو أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري الخزرجي المدني، قاضي المدينة النبوية، قيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمَّد، وقيل: اسمه كنيته، روى عن أبيه، وخالته عمرة بنت عبد الرحمن، والسائب بن يزيد وغيرهم، ولم يدرك جده عمرو بن حزم، روى عنه ابناه:

ص: 276

عبد الله ومحمد، والزهري وغيرهم، وقد كان من مشاهير الفقهاء العباد، قال عنه الحافظ في "التقريب":(ثقة عابد)، مات سنة مائة، وقيل: بعدها

(1)

رحمه الله تعالى. وأما أبوه فهو محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري المدني، ولد في حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سنة عشر في نجران عندما كان أبوه واليًا عليها للنبي صلى الله عليه وسلم، روى عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، وروى عنه ابنه أبو بكر، وعمرو بن كثير بن أفلح، وكان ثقة قليل الحديث، قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين رحمه الله

(2)

.

وأمَّا جده عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري، فقد تقدمت ترجمته في "نواقض الوضوء" من كتاب "الطهارة" عند الحديث (77).

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (247) من طريق محمَّد بن بكار وأخيه جامع بن بكار، والنَّسائيُّ (8/ 59) من طريق محمَّد بن بكار، كلاهما قالا: حدَّثنا يَحْيَى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزُّهريّ، ورواه النَّسائيّ (8/ 57) وأحمد

(3)

، وابن حبان (14/ 501) من طريق الحكم بن موسى، ثنا يَحْيَى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزُّهريّ، عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت على أهل اليمن

الحديث.

وقد تقدم هذا الحديث في "نواقض الوضوء" وذكرت هناك اختلاف

(1)

"تهذيب التهذيب"(12/ 40).

(2)

"تهذيب التهذيب"(9/ 329).

(3)

عزاه إلى أحمد أبو القاسم البغوي في "مسائله" ص (85) وكذا عزاه ابن عبد الهادي في "التنقيح"(1/ 227)، ولم أجده في "المسند" المطبوع، وقد ذكر ابن عساكر في "ترتيب أسماء الصّحابة الذين أخرج حديثهم أحمد" ص (85) عمرو بن حزم وأن مسنده في الخامس عشر من مسند الأنصار، وفي الطبعة الأخيرة للمسند (39/ 476) جاء ذكر مسند عمرو بن حزم، وليس فيه حديث الباب، وما فيه إلَّا خمسة أحاديث فقط.

ص: 277

العلماء في صحته؛ لأنَّ هذا الإسناد ظاهره السلامة من العلة، فرجاله جميعًا ثقات، وقد صحَّحه ابن عدي وابن حبان والحاكم وغيرهم.

لكن في الحديث علة خفية قادحة، وهي أن الحكم بن موسى أخطأ في هذا الحديث -كما في الإسناد الثَّاني- وقال: سليمان بن داود، والصَّواب سليمان بن أرقم، كما في رواية محمَّد بن بكار وأخيه، ولأن كل من قرأ أصل يَحْيَى بن حمزة وَجَدَهُ عن سليمان بن أرقم، وسليمان بن أرقم قال عنه أبو زرعة:(ذاهب الحديث)، وقال أبو حاتم:(متروك)

(1)

.

والحديث له طرق أخرى، ومنها ما رواه عبد الرَّزاق (4/ 4) ومن طريقه ابن خزيمة (2269)، وابن الجارود (784، 786)، والدارقطني (1/ 121) عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا

فذكره، قال الدارقطني:(مرسل، ورواته ثقات).

وذلك لأنَّ عبد الله بن أبي بكر روى الحديث عن جده محمَّد بن عمرو بن حزم، وقد ولد محمَّد في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، ولم يسمع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر -إن شاء الله- لأنه رواه لنا عن طريق الوجَادة، وهو قوله:(هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).

لكن ينبغي أن يعلم أنَّه كما بَعُدَ الزمن عن عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ضعفت قوة الوجادات؛ لأنَّه لا يؤمن عليها من التغيير أو التحريف أو الضياع أو الزيادة أو النقصان.

والحديث قد تعددت طرقه، وهي تدل بمجموعها على أنَّه حديث محفوظ، لكن هذا لا يعني أنَّه مسند، كما قال رجل ليحيى بن معين: هذا مسند؟ قال: (لا، ولكنه صالح)، بمعنى أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كتبه، كما قال الإمام أحمد، فصار نسخة ووجادة توارثها الأئمة والمصنفون.

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 101)، "تهذيب التهذيب"(4/ 169).

ص: 278

ثم إنَّه ورد لمعظم ما جاء فيه شواهد صحيحة، وأخرى صالحة يصل بها إلى درجة الاحتجاج، من فتاوى الصّحابة ومراسيل التّابعين، وأكثر ما جاء من شواهده حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود وأحمد في "مسنده"، ومراسيل سعيد بن المسيب، وفتاوى لعلي رضي الله عنه، ثم إن العلماء تلقوه بالقبول، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل، وقد ذكرت شيئًا من ذلك في باب "نواقض الوضوء". وسأذكر ما له شواهد عند الكلام على أحكامه إن شاء الله تعالى.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (اعْتَبَطَ) بالعين المهملة الساكنة، بعدها فتح؛ أي: قُتل بلا موجب، تقول: عبطت الشَّاةِ عبطًا، من باب (ضرب): ذبحتها صحيحة من غير علة بها

(1)

.

قوله: (قتلًا) منصوب على المصدرية.

قوله: (عن بينة) أي: قد قامت البينة على معرفة القاتل بالشاهدين أو بالإقرار؛ لأنَّ المقصود بالبينة: كل ما أبان الحق وأظهره.

قوله: (فإنَّه قود) بالفتح؛ أي: فحكمه القصاص.

قوله: (مائةً من الإبل) بالنصب على أنَّه بدل من (الدية) الذي هو اسم (إن) مؤخرًا، ويجوز رفعه على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف.

قوله: (أوعِبَ جَدْعُهُ) بضم الهمزة، فعل مبني لما لم يسمَّ فاعله بمعنى: استوعب، جدعه؛ أي: قطع واستؤصل بأكمله، تقول: وعبته وعبًا من باب (وعد) وأوعبته إيعابًا واستوعبته، كلها بمعنى، وهو أخذ الشيء جميعه

(2)

.

قوله: (وفي البيضتين) أي: الخصيتين.

قوله: (وفي الصلب) بضم الصاد وإسكان اللام، ويجوز ضمها للإتباع، هو: عظم من لدن الكاهل إلى العَجْبِ، وهو العمود الفقري، قال الفيومي

(1)

"المصباح المنير"(390).

(2)

"المصباح المنير" ص (664).

ص: 279

(الصُّلْبُ كل ظهر له فَقَار. .)

(1)

.

قوله: (وفي المأمومة) هي الشجة التي بلغت إلى أم الدماغ، وأم الدماغ: هي جلدة فوق الدماغ.

قوله: (وفي الجائفة) هي الطعنة التي بلغت جوف البطن، وقيل: هي التي تصل جوف العضو من ظهر أو صدر أو ورك أو غيرها مما له جوف.

قوله: (وفي المنقلة) بضم الميم وفتح النون وتشديد القاف مكسورة، هي الشجة التي تكسر العظم وتخرجه عن محله.

قوله: (وفي الموضحة) بضم الميم بصيغة اسم الفاعل من الإيضاح، وهي الجرحة التي ترفع اللحم عن العظم وتوضحه.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على ثبوت القصاص إذا قُتل المسلم المعصوم عمدًا عدوانًا إلَّا أن يرضى أولياء المقتول بالدية، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور قبل هذا الباب، وفيه:"ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إمَّا أن يُؤدى، وإما أن يقاد" هذا لفظ البُخاريّ، ولفظ مسلم:"إمَّا أن يفدى، وأما أن يقتل".

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الدية الكاملة للنفس المسلمة هي مائة من الإبل، ويشهد لهذا حديث سهل بن حثمة الطَّويل -الآتي- في "القسامة" وفيه:(فَكَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة) وهو في "الصحيحين".

وقد ذهبت الشَّافعية والظاهرية والحنابلة في رواية إلى أن الإبل هي الأصل في الدية، وما عداها كالبقر والغنم والذهب والفضة فهو مقوم بها أصلًا، وعليه فتقوم الدية بالعملة المعروفة حسب قيمة الإبل غلاء ورخصًا، وهذا هو المعمول به في المحاكم قديمًا، أما الآن فدية العمد وشبهه مائة ألف وعشرة آلاف، ودية الخطأ مائة ألف

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" ص (345).

(2)

صدر بهذا قرار مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربيَّة السعودية رقم (133) في 3/ 9/ 1401 هـ.

ص: 280

وذهب بعض العلماء إلى أن أصول الدية هي الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة، وهذا هو الصَّحيح من المذهب عند الحنابلة، وهو قول عطاء وطاوس، وفقهاء المدينة السبعة، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن عمر رضي الله عنه قام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذَّهب ألف دينار، وعلى أهل العروض اثنى عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة

(1)

.

والقول الأول أرجح.

ومما يؤيد أن الأصل هي الإبل:

1 -

أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ، فغلَّظ بعضها، وخفف بعضها، كما سيأتي، والتغليظ والتخفيف لا يتحقق في غير الإبل.

2 -

أنَّه جاء في حديث عمرو بن شعيب: "والمأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل أو قيمتها من الذَّهب أو الورق أو البقر أو الشاء

"

(2)

.

3 -

أن ديات الأعضاء والشجاج كل ذلك مقدر بالإبل، كما في حديث الباب وغيره، ولو كان غيرها أصلًا لثبتت في هذه الأشياء.

وأمَّا حديث عمرو بن شعيب فليس فيه دليل على أن المذكور أصول، بل هو دليل على أن الإبل أصل، ولو كانت أصولًا لم يكن إيجابها تقويمًا للإبل ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية كاملة، كالأنف واللسان والذكر.

أما الأنف فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية كاملة في استئصاله، لقوله:"وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية"، ويشهد لهذا حديث عبد الله بن

(1)

رواه أبو داود (4542)، والبيهقيّ (8/ 77).

(2)

"المسند"(11/ 604).

ص: 281

عمرو رضي الله عنهما، وفيه: (قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا جُدع الديةَ كاملةً

)

(1)

. ولأن الأنف عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة.

وكذا اللسان فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية كاملة في قطع لسان الكبير الناطق، لقوله:"في اللسان الدية"، ويشهد لهذا أحاديث مرسلة وآثار تقوي ذلك، فقد روى البيهقي من طريق ابن شهاب، أن سعيد بن المسيب أخبره أن السنة مضت في العقل بأن في اللسان الدية

(2)

.

وروى عبد الرَّزاق وابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه أنَّه قال:(في اللسان الدية)

(3)

.

وكذا الذكر فقد أجمع العلماء على وجوب الدية فيه كاملة؛ لقوله: "وفي الذكر الدية" ويشهد له ما رواه ابن شهاب أن سعيد بن المسيب أخبره أن السنة مضت في العقل بأن في الذكر الدية، وفي الأنثيين الدية. وقد أفتى بذلك علي رضي الله عنه، كما رواه عبد الرَّزاق عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي أنَّه قال:(وفي الذكر الدية، وفي إحدى البيضتين النصف)

(4)

.

° الوجه السابع: في الحديث دليل على أن في الشفتين الدية، وهذا أمر مجمع عليه، لقوله:"وفي الشفتين الدية" ويشهد لهذا ما ورد عن علي رضي الله عنه بسند حسن أنَّه قال: (في الشفتين الدية)

(5)

؛ ولأنهما عضوان ليس في البدن مثلهما، وفيهما جمال ظاهر، ومنفعة كاملة.

° الوجه الثامن: الحديث دليل على أن في البيضتين وهما الخصيتين

(1)

رواه أبو داود (4564)، والنَّسائيُّ (8/ 43)، وابن ماجة (2630)، وأحمد (11/ 662) من طريق محمَّد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده .. ، وسنده حسن.

(2)

"السنن الكبرى"(8/ 89).

(3)

"مصنف عبد الرَّزاق"(17561)، "مصنف ابن أبي شيبة"(9/ 176).

(4)

"مصنف عبد الرَّزاق"(17635)، "سنن البيهقي"(8/ 97).

(5)

"مصنف عبد الرَّزاق"(17484).

ص: 282

الدية، لقوله:"وفي البيضتين الدية" وقد أجمع أهل العلم على ذلك، ويشهد لذلك قضاء علي رضي الله عنه أن في البيضة النصف، كما تقدم، وعن سعيد بن المسيب، وقد تقدم أيضًا؛ ولأن فيهما الجمال والمنفعة، فإن النسل يكون بهما، فكانت فيهما الدية كاليدين.

° الوجه التاسع: في الحديث دليل على وجوب الدية في كسر الصلب إذا لم يجبر، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، لقوله:"وفي الصلب الدية"، ويشهد له مرسل سعيد بن المسيب من طريق ابن شهاب، أن سعيد بن المسيب أخبره، أن السنة مضت في العقل بأن في الصلب الدية

(1)

؛ ولأنَّه عضو ليس في البدن مثله، وفيه جمال ومنفعة، فوجب فيه الدية كالأنف.

والقول الثَّاني: أن فيه حكومة

(2)

، إلَّا أن يذهب مشيه أو جِمَاعُهُ فتجب الدية لتلك المنفعة، وهذا قول الشَّافعية، والقاضي من الحنابلة.

قالوا: لأنَّه عضو لم تذهب منفعته، فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء.

والراجح هو القول الأوَّل؛ لأنَّ حديث الباب نص في ذلك، مع ما عضده من مرسل سعيد بن المسيب. وأمَّا قولهم: لم تذهب منفعته، ففيه نظر، فإن النفع قد ذهب مع الحدوبة، والله تعالى قال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْويمٍ (4)} [التين: 4].

° الوجه العاشر: في الحديث دليل على وجوب الدية كاملة في إتلاف العينين، وقد أجمع أهل العلم على ذلك، لقوله:"وفي العينين الدية" ويشهد لهذا ما رواه محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده،

(1)

"السنن الكبرى"(8/ 95).

(2)

الحكومة: أن يُقَوَّمَ المجني عليه كأنه عبد لا جناية فيه، ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية، وشرطها ألا يتجاوز بها أرش المقدر إذا كانت في محل له مقدر كاليد والرجل والإصبع.

ص: 283

مرفوعًا، وفيه: "وفي العين نصف العقل، خمسون من الإبل

"

(1)

.

ولأن العين من أعظم الجوارح منفعة وجمالًا.

° الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على وجوب نصف الدية في قطع الرجل الواحدة، وقد أجمع أهل العلم على أن في الرجلين الدية، وفي أحدهما نصف الدية، لقوله:"وفي الرِّجْلِ نصف الدية"، ويشهد له حديث عمرو بن شعيب:"وفي الرِّجْلِ نصف الدية"

(2)

. وحد الرجل الذي تجب به الدية هو مفصل الكعبين.

° الوجه الثَّاني عشر: في الحديث دليل على أن في المأمومة ثلث الدية، سواء كانت الجناية عمدًا أو خطأ، وقد ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، لقوله:"وفي المأمومة ثلث الدية"، ويشهد لهذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم، وفيه:"والمأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل، أو قيمتها من الذَّهب أو الورق أو البقر أو الشاء"

(3)

.

° الوجه الثالث عشر: في الحديث دليل على أن في الجائفة ثلث الدية سواء أكانت عمدًا أم خطأ، وقد ذهب إلى هذا عامة أهل العلم، لقوله:"وفي الجائفة ثلث الدية"، ويشهد لهذا حديث عمرو المتقدم.

وهذا في الجائفة غير النافذة، وأمَّا الجائفة النافذة مثل ما لو طعن بطنه بسنان فخرج من ظهره، أو العكس، فالجمهور على أن ذلك جائفتان، فيجب فيهما ثلثا الدية، لقضاء أبي بكر رضي الله عنه بذلك

(4)

، ولا مخالف له، فكان إجماعًا

(5)

.

° الوجه الرابع عشر: في الحديث دليل على أن في المنقلة خمس عشرة من الإبل، وقد أجمع أهل العلم على ذلك، لقوله:"وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل"، ويشهد لهذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم، كما يشهد له فتيا

(1)

رواه أحمد (11/ 604).

(2)

"المسند"(11/ 662).

(3)

"المسند"(11/ 604).

(4)

رواه ابن أبي عاصم في "الديات" ص (72) وسنده حسن.

(5)

"المغني"(12/ 168).

ص: 284

علي رضي الله عنه، كما أخرجه عبد الرَّزاق وابن أبي شيبة عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة.

° الوجه الخامس عشر: في الحديث دليل على أن كل أصبع من أصابع اليدين أو الرجلين فيه عشر من الإبل، وهذا قول عامة أهل العلم، لقوله:"وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل"، وسيأتي لهذا مزيد بحث وأدلة في الأحاديث الآتية.

° الوجه السادس عشر: في الحديث دليل على أن دية السن خمس من الإبل، وهذا قول عامة أهل العلم، بل قال الموفق:(لا نعلم خلافًا أن دية الأسنان خَمْسٌ خَمْسٌ)

(1)

، وسيأتي لذلك مزيد بحث وأدلة إن شاء الله تعالى.

° الوجه السابع عشر: في الحديث دليل على أن في الموضحة خمسًا من الإبل، لقوله:"وفي الموضحة خمس من الإبل"، وسيأتي لذلك مزيد بحث وأدلة في الأحاديث الآتية.

° الوجه الثامن عشر: الحديث دليل على أن الرجل يقتل بالمرأة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء -كما تقدم- لقوله:"وأن الرجل يقتل بالمرأة"، ويشهد لهذا حديث أنس في "الصحيحين" في قصَّة اليهودي الذي قتل المرأة، وتقدم، وقد مضى بحث هذه المسألة.

° الوجه التاسع عشر: في الحديث دليل على أن الدية على أهل الذَّهب ألف دينار، وظاهر هذا أنَّه أصل على أهل الذَّهب، والإبل أصل على أهل الإبل، ويحتمل أن ذلك مع عدم الإبل وأن قيمة المائة منها ألف دينار في ذلك العصر.

وقد طعن العلماء في هذه الجملة، وأنَّها لا تصح في المرفوع؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقض بذلك، وإنَّما الذي قضى به ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، كما في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم

(2)

، وقد تقدم أن الذي قضى بالدية ألف دينار هو عمر رضي الله عنه لما غلت الإبل، فجعلها على أهل الذَّهب ألف دينار. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(12/ 130).

(2)

"المسند"(11/ 603).

ص: 285

‌أسنان الإبل في دية الخطأ

1185/ 2 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "دِيَةُ الْخَطَإِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي، وَأَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ بلَفْظِ:"وَعِشْرُونَ بنِي مَخَاضٍ" بَدَلَ بَنِي لَبُونٍ. وَإِسْنَادُ الأوَّلِ أقوَى. وَأَخرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

فقد رواه الدارقطني (3/ 175) من طريق الحجاج بن أرطأة، عن زيد بن جبير، عن خِشْف بن مالك، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، بلفظ:"وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون".

ورواه أبو داود (4545) في كتاب "الديات"، باب "الدية كم هي؟ "، والترمذي (1386)، والنَّسائيُّ (8/ 43 - 44)، وابن ماجة (2631) بهذا الإسناد، وفيه:"وعشرون بنات لبون، وعشرون بني مخاض" بدل: "بني لبون".

قال الدارقطني: (الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلَّا خشف بن مالك، عن ابن مسعود

).

وهذا سند ضعيف، الحجاج مدلس وقد عنعنه، وقد صرح بالتحديث في رواية ابن ماجة من طريق عبد السَّلام بن عاصم، عن الصباح بن محارب، عنه، والصباح صدوق ربَّما خالف، وعبد السَّلام مقبول، كما في "التقريب"، وخشف بن مالك جَهَّله غير واحد، ووثقه النَّسائيّ، وذكره ابن حبان في

ص: 286

"الثقات"

(1)

، وقد تفرد برفع الحديث.

والفرق بين رواية الدارقطني ورواية الأربعة أن الخامس عند الدارقطني: "عشرون بني لبون" وعند الأربعة: "بني مخاض" وبينهما فرق كما سيأتي، فإن ابن اللبون أتى عليه سنتان، وابن المخاض أتى عليه سنة.

قال الدارقطني: (هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة، ومنها: أن خشف بن مالك رجل مجهول، ولم يروه عنه إلَّا زيد بن جبير، ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد إلَّا الحجاج، فاختلفوا عليه فيه

)، وقال في "العلل":(لا يعرف هذا -أي: ذكر بني مخاض- عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا في حديث خشف هذا)

(2)

. ولما ساقه أبو داود أردفه بقوله: (وهو قول عبد الله) قال البيهقي: (يعني إنَّما روي من قول عبد الله موقوفًا غير مرفوع).

وقول الحافظ: (وإسناد الأوَّل أقوى) أي: إسناد اللفظ الأوَّل أقوى؛ لأنَّه موافق لرواية أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله، فقد رواه الدارقطني (3/ 172) من طريق أبي مِجْلَزٍ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: (دية الخطأ خمسة أخماس

وفي آخره: وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور

) وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن الظاهر أنَّه في حكم الموصول؛ لأنَّه كان شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، وعنده في ذلك من العلم ما ليس عند غيره

(3)

.

وقد أطال الدارقطني في "السنن" في تقوية رواية: "عشرون بني لبون" وتضعيف رواية: "عشرون بني مخاض" وذهب إلى تقوية رواية أبي عبيدة، عن أبيه، واعتبر حديث خشف بن مالك مخالفًا لها، ثم إن أكثر الرواة لا يذكرون

(1)

"الثقات"(4/ 214)، "الاستذكار"(25/ 38)، "تهذيب التهذيب"(3/ 12).

(2)

(5/ 49).

(3)

انظر: "سنن الدارقطني"(3/ 173)، "فتاوى ابن تيمية"(6/ 404)، "تهذيب مختصر السنن"(6/ 350)، "شرح العلل" لابن رجب (1/ 398)، "تهذيب التهذيب"(5/ 66).

ص: 287

تفسير الأخماس، ولعل تفسيرها من كلام الحجاج، وقد خالفهم، وهم أكثر عددًا وكلهم ثقات.

والحديث رواه ابن أبي شيبة (9/ 133) من طريق وكيع، قال: حدَّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله، أنَّه قال:(دية الخطأ أخماسًا: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون).

ورواه عبد الرَّزاق (9/ 288)، وابن أبي شيبة -أيضًا- (9/ 133) من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الله بمثله، وهذا الطَّريق رواه الدارقطني (3/ 173 - 174) وقال: (فهذه الرِّواية وإن كان فيها إرسال فإبراهيم النَّخعيُّ هو أعلم النَّاس بعبد الله وبرأيه وفتياه

).

وهذا الموقوف أصح من المرفوع، فإن أبا داود لما روى المرفوع -كما تقدم- قال:(وهو قول عبد الله) أي: إنه روي موقوفًا، كما مرَّ، وقال البيهقي: (والصحيح أنَّه موقوف على عبد الله بن مسعود، والصحيح عن عبد الله أنَّه جعل أحد أخماسها بني المخاض في الأسانيد التي تقدم ذكرها

).

فيكون التغليظ في دية الخطأ مستنده قول جماعة من فقهاء الصّحابة رضي الله عنهم، قال ابن القيِّم:(إن حديث ابن مسعود رضي الله عنه قد روي من وجوه متعددة، إذا جمع بعضها إلى بعض قوي بمجموعها على دفع العلة التي علل بها)، وهذا جارٍ على منهج الفقهاء، ثم ذكر الاختلاف في الأسنان، ثم قال:(وكل هذا يدل على أنَّه ليس في الأسنان شيء مقدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم)

(1)

.

° الوجه الثَّاني: في الحديث دليل على مقدار دية قتل الخطأ وأنها مخففة تقسم أخماسًا: عشرون حقة، وهي ما دخلت في السنة الرابعة، وعشرون جذعة، وهي ما دخلت في الخامسة، وعشرون بنات مخاض، وهي

(1)

"تهذيب مختصر السنن"(6/ 350).

ص: 288

التي دخلت في السنة الثَّانية، وعشرون بنات لبون، وهي التي دخلت في الثَّالثة، وعشرون بني لبون أو بني مخاض على ما تقدم.

ووجه التخفيف أنَّها وجبت أخماسًا، وأُدخل فيها الذكور، والذكور عند النَّاس أقل رغبة من الإناث.

وهذا التحديد هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف، إلَّا أنَّه وقع الخلاف في الخامس منها، فقال أحمد وأبو حنيفة: عشرون بني مخاض، أخذًا بالمرفوع؛ ولأن بني المخاض دون بني اللبون فكان الأولى الأخذ باليقين

(1)

.

وقال مالك والشَّافعيّ: الخامس بنو لبون، أخذًا بالرواية الموقوفة

(2)

والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح معاني الآثار"(13/ 300).

(2)

"الاستذكار"(25/ 38).

ص: 289

‌أسنان الإبل في دية العمد

1186/ 3 - وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيق عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ: "الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، في بُطُونِهَا أَوْلادُهَا".

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الديات"، باب "الدية كم هي؟ "(4541)، والترمذي (1387)، وابن ماجة (2626)، وأحمد (11/ 244) من طريق محمَّد بن راشد، أخبرنا سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

وقال التِّرمذيُّ: (حديث حسن غريب)، وهذا هو الراجح في سلسلة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، كما تقدم أكثر من مرَّة.

وسليمان بن موسى روي له مسلم في "المقدمة"، ووثقه ابن معين، وقال أبو حاتم:(محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه)

(1)

.

ومحمد بن راشد وهو المكحولي ثقة، وثقه أحمد وابن معين والنَّسائيُّ وآخرون

(2)

.

والجملة الأخيرة: (في بطونها أولادها) ليست عند أبي داود ولا

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 141)، "تهذيب التهذيب"(4/ 197).

(2)

"الميزان"(3/ 543)، "تهذيب التهذيب"(9/ 140).

ص: 290

التِّرمذيُّ ولا أحمد في هذا الحديث، إنَّما هي في حديث عبد الله بن عمرو الآتي.

وظاهر سياق الحافظ لهذا الحديث أنَّه في دية الخطأ وهذا لفظ أحمد، بينما هو في دية العمد، كما عند التِّرمذيِّ، وأحمد (11/ 602)، ولفظ التِّرمذيِّ: "فمن قتل مؤمنًا متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة

الحديث"، وفي آخره: "وذلك لتشديد العقل".

° الوجه الثَّاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن دية العمد مائة من الإبل مثلثة، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهذا قول عطاء والشَّافعيّ، ورواية في مذهب مالك، ورواية عن أحمد، ومحمد بن الحسن من فقهاء الحنفية

(1)

.

والدية بهذه الأوصاف تعتبر مغلظة؛ لأنَّها إناث وليس فيها ذكور، ولهذا قال في رواية التِّرمذيِّ:"وذلك لتشديد العقل"

(2)

، ويؤيد ذلك ما رواه مالك عن عمرو بن شعيب، أن رجلًا يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ منه عمر الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة

(3)

.

والقول الثَّاني: أن دية العمد أرباع، خمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهذا قول أبي حنيفة، وقول في مذهب مالك، ورواه جماعة عن أحمد، وهو قول الزُّهريّ وربيعة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار"(25/ 21)، "المغني"(12/ 14).

(2)

"جامع التِّرمذيِّ"(4/ 6).

(3)

"الموطأ"(2/ 867).

(4)

"الاستذكار"(25/ 20)، "معالم السنن"(6/ 351)، "المغني"(12/ 14).

ص: 291

‌ما جاء في حالات يَعْظُم فيها القتل

1187/ 4 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: " .. وإِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلَاثةٌ: مَنْ قَتَلَ في حَرَمِ اللهِ، أَوْ قَتَلَ غيرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ الجَاهِلِيّةِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ في حَدِيثٍ صَحَّحَهُ.

1188/ 5 - وَأَصْلهُ فِي البْخُارِي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجهما:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه ابن حبان (13/ 340 - 341) من طريق سنان بن الحارث بن مصرف، عن طلحة بن مصرف، عن مجاهد، عن ابن عم رضي الله عنهما

، وذكر الحديث بطوله، وفيه الجملة المذكورة.

وقد وقع في سياقه عند ابن حبان (ابن عمر) وهكذا جاء في "زوائد ابن حبان" للهيثمي (1699). وأورد الحافظ هذا الحديث في "إتحاف المهرة"(8/ 630) من مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وجاء في "التلخيص"

(1)

(ابن عمرو) وعلى هذا اعتمد بعض من حَقَّقَ "البلوغ"، فحكم بأن (ابن عمر) تحريف.

وهذا الحديث فيه سنان بن الحارث بن مصرف، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلًا

(2)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

وكذا ابن قُطْلُوبُغا

(4)

، وروى عنه جمع، وباقي رجاله ما بين صدوق وثقة، وهذا الحديث انفرد به ابن حبان.

(1)

(5/ 2630).

(2)

"الجرح والتعديل"(6/ 424).

(3)

(4/ 254).

(4)

انظر: "زوائد رجال صحيح ابن حبان"(3/ 162).

ص: 292

وقد رواه أحمد (11/ 264) من طرق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه:"وإن أعدى النَّاس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية".

ورواه -أيضًا- (11/ 264) من طريق حبيب المعلم، عن عمرو، مقتصرًا على الجملة المذكورة.

وهذا الحديث أصله في البُخاريّ -كما قال الحافظ-، فقد رواه في كتاب "الديات"، باب "من طَلَبَ دم امرئ بغير حق"(6882) من طريق نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه".

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (أعتى النَّاس) هذا أفعل تفضيل من العتو، وهو التجبر، والمعنى: أطغى النَّاس وأشدهم تمردًا وتجبرًا.

قوله: (من قتل في حرم الله) في حديث ابن عباس: "ملحد في الحرم" والإلحاد: العدول عن القصد، ومنه لحد الحافر القبر؛ أي: مال به عن الوسط، والإلحاد يشمل كل ميل عن الإسلام، سواء بالشرك أو بالمعصية، ومنها: القتل بغير حق، أو غير ذلك

(1)

.

قوله: (ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية) المراد بسنة الجاهلية: كل ما كان من أمر الجاهلية، ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث

(2)

.

قوله: (لذحل) بفتح الذال المعجمة، وسكون الحاء المهملة، هو الحقد والعداوة، والمراد به: الثأر والسعي للانتقام عن جناية عليه في الجاهلية بعد دخوله في الإسلام.

(1)

انظر: "تفسير ابن كثير"(5/ 407).

(2)

انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 226).

ص: 293

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على شدة هذه الجرائم الثلاث، ووصف صاحبها بأنه أشد النَّاس عتوًا وتجبرًا، وهذا يدل على فساد طبعه وخبث طويته حيث ارتكب واحدة من هذه الأمور العظيمة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على عظم شأن المعصية في حرم الله تعالى، ومن ذلك الإقدام على جريمة القتل، والقتل في حد ذاته أعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى، ويعظم أمره إذا كان في حرم الله تعالى، قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وقد أخرج الإمام أحمد بسنده عن شعبة، عن السدي، أنَّه سمع مُرَّةَ بن شراحيل أنَّه سمع عبد الله- قال لي شعبة: ورفعه، ولا أرفعه لك- يقول: في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: (ولو أن رجلًا همَّ فيه بإلحاد وهو بِعَدِنَ أَبْيَنَ لأذاقه الله عز وجل عذابًا أليمًا)

(1)

.

وقد استثنى العلماء من تحريم القتل والقتال في الحرم حالتين:

1 -

القتال مدافعة، فيجوز لمن اعتدى عليه أحد داخل حدود الحرم أن يقاتله مدافعة إذا لم يندفع بدون ذلك.

2 -

قتل من جنى في الحرم جناية تُحِل قتله، مثل القاتل عمدًا، والزاني المحصن إذا تمت الشروط

(2)

.

وظاهر الحديث أنَّه عام في حرم مكّة وحرم المدينة، وقد ورد الحديث في غزوة الفتح عندما قُتل رجل في المزدلفة، كما جاء في بعض الرِّوايات

(3)

، لكن هذا لا يقتضي تخصيص الحديث به؛ لما علم من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلَّا أن يقال: إن الإضافة في قوله: (حَرَمِ الله) عهدية، والمعهود حرم مكّة.

(1)

"المسند"(7/ 155) وسنده حسن، وقد روي مرفوعًا، انظر:"العلل" للدارقطني (5/ 268)، "الاقتضاء"(1/ 225 - 226)، "تفسير ابن كثير"(5/ 407).

(2)

"تنبيه الأفهام"(3/ 130).

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 211).

ص: 294

وقد ذهب الإمام الشَّافعي وأحمد إلى أن الدية تغلظ على القاتل إذا قتل في البلد الحرام، أو قتل في الأشهر الحرم، أو قتل ذا رحم

(1)

.

وهذا ليس عليه دليل مرفوع، وإنَّما ورد آثار عن الصّحابة كعمر وابن عباس رضي الله عنهم، وأسانيدها ضعيفة

(2)

، فالظاهر أن الدية مائة من الإبل مطلقًا إلَّا ما جاء فيه الدليل، كما تقدم.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنَّه لا يجوز لولي الدم المسفوك عمدًا أن يقتل غير قاتل وليّه، وأن من فعل ذلك فهو أبغض النَّاس إلى الله تعالى؛ لأنَّ الجاني لا يجني إلَّا على نفسه، قال تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقال تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] أي: سلطة على القاتل؛ لأنَّه بالخيار إن شاء قتله قودًا، وإن شاء عفا عنه إلى الدية، وإن شاء عفا عنه مجانًا، كما تقدم، {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} بأن يمثل بقتل القاتل، أو يقتص من غير القاتل، أو يقتل غيره

(3)

.

° الوجه السادس: تعظيم شأن القتل من أجل عداوات الجاهلية وثأرها التي قضى عليها الإسلام وأبطلها وأنَّه لا قصاص فيها، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة: "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة

الحديث"

(4)

.

° الوجه السابع: الحديث دليل على أن المسلم منهي عن التشبه بأفعال الجاهليين الخاصة بهم من عبادات أو عادات، إلَّا ما دلَّ النَّصُّ الشرعي عليه

(5)

، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(هذا نصّ عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية، في أعيادهم وغير أعيادهم)

(6)

والله تعالى أعلم.

(1)

"الأم"(7/ 278)، "بداية المجتهد"(4/ 338)، "المغني"(12/ 23).

(2)

راجع: "الإرواء"(7/ 310).

(3)

"تفسير ابن كثير"(5/ 70 - 71).

(4)

رواه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.

(5)

انظر: "التشبه المنهي عنه" ص (59، 135).

(6)

انظر: "الاقتضاء"(1/ 226 - 227).

ص: 295

‌تغليظ الدية في شبه العمد

1189/ 6 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "ألَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بالسَّوْطِ وَالْعَصَا- مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ في بُطُونهَا أَوْلَادُهَا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الديات"، بابٌ "في الخطأ شبهِ العمد"(4547)، والنَّسائيُّ (8/ 41)، وابن ماجة (2627)، وابن حبان (13/ 365) من طريق حماد، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكّة، فكبّر ثلاثًا، ثم قال: "لا إله إلَّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مَأثرة في الجاهلية تذكّر وتُدَّعَى من دم أو مال تحت قدميَّ، إلَّا ما كان من سقاية الحاج وسِدَانة البيت، ألا أن دية الخطأ

الحديث" وهذا لفظ أبي داود.

والحديث صحَّحه ابن القطان

(1)

، ونقل الحافظ تصحيح ابن القطان وأقره

(2)

، وقال ابن عبد البر:(هذا حديث مضطرب، لا يثبت من جهة الإسناد)

(3)

.

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 409).

(2)

"التلخيص"(4/ 19).

(3)

"الاستذكار"(25/ 24).

ص: 296

وقد حصل في سنده اختلاف ذكره النَّسائيّ والدارقطني، فقد رواه النسائي (8/ 41) من طريق هُشيم، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

وهذا لا يؤثر لما هو معلوم من أن جهالة الصحابي لا تضر.

ورواه -أيضًا- من طريق بشر بن المفضل ويزيد بن زُريع قالا: نا خالد الحذاء به، إلَّا أنَّهما قالا: يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وروايتهما مرجوحة؛ لأنَّه قد خالفهما حماد بن زيد، ووهيب، وهُشيم، والثوري، واتفاق هؤلاء على عقبة بن أوس دليل على ضعف الرواية الأخرى؛ لأنَّ النَّفس تطمئن لحفظ وضبط الأكثر عند الاختلاف ما لا تطمئن إلى رواية الأقل

(1)

.

° الوجه الثَّاني: استدل بهذا الحديث الشَّافعية والحنابلة وأبو حنيفة في رواية عنه، وبعض المالكيّة على أن الجناية على النَّفس ثلاثة أقسام: عمد، وخطأ، وشبه عمد

(2)

، وهذا الحديث أثبت شبه العمد، والظاهر أن إثبات العمد والخطأ لا خلاف فيه؛ لوروده في القرآن.

قال السرخسي: (ثبت شبه العمد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم ينكره أحد فكان إجماعًا)

(3)

.

وشبه العمد: هو قصد الجناية بما لا يقتل غالبًا، كما لو ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا ونحو ذلك، وسمي شبه عمد؛ لأنَّه عمد في الضرب والاعتداء، ولكنه ليس قصدًا في الإماتة.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن دية شبه العمد مائة من الإبل، وأنها مغلظة كدية العمد، لوجود العمد في الاعتداء، وذلك بأن يكون منها أربعون من الإبل حاملًا في بطونها أولادها. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإرواء"(7/ 258).

(2)

"المبسوط"(26/ 59)، "بداية المجتهد"(4/ 296)، "الإنصاف"(9/ 433)، "مغني المحتاج"(4/ 3).

(3)

"المبسوط"(26/ 65).

ص: 297

‌ما جاء في دية الأصابع والأسنان

1190/ 7 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "هَذِهِ وَهذِهِ سَوَاءٌ، يعني الْخِنْصَرَ وَالإبْهَامَ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلأَبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ:"الأَصَابعُ سَوَاءٌ؛ وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ". وَلابنْ حِبَّانَ: "دِيَةُ أَصَابعِ الْيَدَينِ وَالرِّجْلَين سَوَاءٌ، عَشَرَة مِنَ الإِبلِ لكُلِّ إِصْبَعٍ".

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه البُخاريّ في كتاب "الديات"، باب (دية الأصابع) (6895) قال: حدَّثنا آدم، حدَّثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.

ورواه أبو داود (4559) من طريق عبد الصَّمد بن عبد الوارث، حدثني شعبة به. ولفظه: (الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء".

ورواه التِّرمذيُّ (1392) من طريق يَحْيَى بن سعيد ومحمد بن جعفر قالا: حدَّثنا قتادة

وهو مثل لفظ البُخاريّ.

وبهذا يتبين أن جمع التِّرمذيُّ وأبي داود في اللفظ المذكور ليس بجيد؛ لأنَّ لفظ "البلوغ" هو لفظ أبي داود، كما تقدم، ولفظ التِّرمذيُّ كلفظ البُخاريّ.

ورواه التِّرمذيُّ (1391)، وأحمد (4/ 378)، وابن حبان (13/ 366) من طريق الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يزيد بن أبي سعيد النّحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا.

ص: 298

قال التِّرمذيُّ: (حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم).

وكأن المصنف لم يستحضر وجود الحديث عند التِّرمذيِّ بهذا اللفظ، فاقتصر على عزوه لابن حبان، وكذا فعل في "التلخيص"

(1)

.

ولعل الحافظ ذكر هذه الرِّوايات؛ لأنَّ رواية البُخاريّ مقدمة على غيرها، ورواية أبي داود:"الأصابع سواء" أعم من رواية البُخاريّ؛ لأنَّها تشمل الأصابع الخمسة، ورواية البُخاريّ نصت على الخنصر والإبهام، ثم إن في رواية أبي داود زيادة بيان لقوله:"الأسنان سواء" وذلك في قوله: "الثنية والضرس سواء". وأمَّا الرّواية الأخيرة ففيها التنصيص على أصابع اليدين والرجلين، وبيان مقدار الدية لكل إصبع.

° الوجه الثَّاني: الحديث دليل على أن دية كل إصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل، وقد ذكر الفقهاء أن دية كل إصبع مقسومة على أناملها؛ لأنَّه لما قسمت دية اليد على الأصابع وجب أن تقسم دية الأصابع على عدد الأنامل، وفي كل إصبع ثلاثة أنامل، في كل أنملة ثلاثة أبعرة وثلث، أما الإبهام ففيه أنملتان في كل أنملة خمس من الإبل نصف دية الإصبع.

أما الأصابع الزائدة ففيها حكومة عند الجمهور؛ لأنَّه لا جمال فيها ولا منفعة، فلم تكمل فيها الدية؛ ولأنَّه لا مقدر فيها، ومثل هذا يقال في أصابع الرجلين.

وأمَّا الظفر فقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن فيه حكومة؛ لأنَّ ما ورد عن الصّحابة رضي الله عنهم في تقدير ديته مختلف، فعمر رضي الله عنه حكم فيه ببعير، وحكم ابن عباس رضي الله عنهما بأن فيه خُمُسَ دية الإصبع، وروي عنه عُشْرُ دية الإصبع، فيوافق عمر رضي الله عنه، ولعل هذا محمول على معنى الحكومة

(2)

.

(1)

(4/ 33).

(2)

"الجناية على ما دون النفس" ص (357 - 358).

ص: 299

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن دية الأسنان سواء، لا فرق بين ثنية وناب وضرس، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وحديث الباب نص في ذلك؛ ولأن كل دية وجبت في جملةٍ، فإنَّها مقسومة على العدد دون المنافع، كما في الأصابع والشفتين وغيرهما.

وقد تقدم أن دية السن خمس من الإبل، وقد دلت رواية أبي داود:"الثنية والضرس سواء" على أن الدية لا ينظر فيها إلى النفع فحسب وإلا فالضرس أنفع في مضغ الطَّعام من الثنية، والإبهام بالنسبة للأصابع أنفع من الخنصر، بل من سائر الأصابع.

وتوحيد الدية في الأسنان والأصابع من حكمة الشارع، حمايةً للمسلم من التعدي على أصابعه وأسنانه، وقطعًا للنزاع، ولو كانت الدية مختلفة لحصل شيء من النزاع والاختلاف. والله تعالى أعلم.

ص: 300

‌ما جاء في ضمان المتطبب لما أتلفه

1191/ 8 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ قَال: "مَنْ تَطَبَّبَ -وَلم يَكُنْ بالطِّبِّ مَعْرُوفًا- فَأصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيرِهِمَا، إلا أَنَّ منْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وَصَلَهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الدارقطني (3/ 196)، والحاكم (4/ 212) من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكره بلفظ "البلوغ".

ورواه أبو داود (4586) في كتاب "الديات"، بابٌ "فيمن تطبب بغير علم فأعنت"، والنَّسائيُّ (8/ 52 - 53)

(1)

، وابن ماجة (3466) بهذا الإسناد، ولفظه عند أبي داود:"من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن"، وللنسائي بنحوه، ولعل الحافظ ساق لفظ الدارقطني لأنَّه أتم.

وقال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحٌ الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.

وهذا فيه نظر ظاهر، فإن ابن جريج والوليد بن مسلم مدلسان، وقد عنعناه، إلَّا عند الدارقطني والحاكم فقد وقع في الإسناد تصريح الوليد

(1)

انظر: "السنن الكبرى"(6/ 366)، "تحفة الأشراف"(3/ 347).

ص: 301

بالتحديث، فبقيت العلة في عنعنة ابن جريج، وبقي أمر آخر وهو أن التِّرمذيَّ قد نقل في "العلل" عن البُخاريّ -كما تقدم- أنَّه قال:(ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب)

(1)

.

قال أبو داود: (هذا لم يروه -أي: مسندًا- إلَّا الوليد لا ندري أصحيح هو أم لا؟)، وقال الدارقطني:(لم يسنده عن ابن جريج غير الوليد بن مسلم، وغيره يرويه عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب مرسلًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ولا شك أن هذا إعلال للحديث؛ لأنَّ تفرد الوليد بن مسلم بإسناده غير مقبول من مثله عن ابن جريج، فهذا الإسناد ضعيف، وله شاهد من رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت، فهو ضامن" رواه أبو داود (4587)، وهذا سند مرسل، وفيه جهالة المُرْسِلِ، وقد يكون مرجع حديث ابن جريج إلى هذا، فلا يتقوى به.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من تطبب) صيغة تفعل تستعمل في معنى تَكَلُّفِ الشيء، مثل تجمل، وتصبر، ومعناه: تكلف الطب وتعاطاه، فداوى مريضًا ولم يكن عارفًا له.

قوله: (فأصاب نفسًا فما دونها) أي: فأهلك نفس المريض أو أتلف شيئًا منه، والحديث شامل لطب الأدوية والجراحة وتوابع ذلك.

قوله: (فهو ضامن) أي: لما أتلفه.

° الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أن من ادعى لهم الطب وليس بعالم فيه فغرَّ النَّاس وعالجهم فأتلف بعلاجه إنسانًا فمات من علاجه أو أتلف بعض أعضائه فإنَّه ضامن لما أتلف، وتجب عليه الدية؛ لأنَّه متعد.

(1)

(1/ 325).

ص: 302

وقد أجمع أهل العلم على تضمين الطَّبيب الجاهل، قال ابن رشد:(لا خلاف بين أهل العلم أنَّه إذا لم يكن من أهل الطب أنَّه يضمن؛ لأنَّه متعدٍ)

(1)

ومثل هذا قال الخطابي، وابن القيِّم

(2)

، ويؤيد ذلك عبارات الفقهاء في كتبهم على اختلاف مذاهبهم التي تنص على تضمين الطَّبيب الجاهل، وقد ذكر ابن رشد أنَّه إذا أخطأ وهو ليس من أهل المعرفة أن عليه الضرب والسجن والدية، قيل: في ماله، وقيل: على العاقلة. ومثل هذا شامل لجميع أنواع الطب

(3)

.

وقد ذكر ابن القيِّم أن الطَّبيب لا يكون حاذقًا يثق من نفسه جودة الصنعة وإحكام المصلحة حتَّى يراعي عشرين أمرًا، ثم سردها

(4)

.

ومفهوم الحديث أنَّه إذا عالجه من له علم وبصارة بالطب أنَّه لا يضمن ما نتج من فعله، وكذا لو أعنت الطَّبيب الحاذق بالسراية فإنه لا يضمن اتفاقًا؛ لأنَّها سرايةُ فعلٍ مأذونٍ فيه من جهة الشرع، ومن جهة الشخص المعالج، وهكذا سراية كل مأذون فيه، كما تقدم، فإن كان الفعل غير مأذون فيه، كما لو ختن صبيًّا بغير إذن وليه فَسَرتْ جنايته ضمن.

ومن تعاطى الطب وهو جاهل به، فهو آثم وعمله محرم؛ لأنَّه مبني على دعوى كاذبة وتغرير بالنَّاس؛ لأنَّ النَّاس لا يذهبون عادة إلى من ليس بطبيب.

وما أخذ من أجرة فهي حرام، وهي من أكل أموال النَّاس بالباطل؛ لكونها ثمرة خداع وتمويه على النَّاس.

ومما يؤسف عليه أن هذا النوع موجود في المجتمع، ففيه رجال ونساء يدعون المعرفة بما يعرف بالطب الشعبي من كَيٍّ وفَصْدٍ وتقديم أدوية مركبة من أعشاب وغيرها، ويعبثون بأبدان النَّاس، ويأخذون الأثمان الباهظة التي تدر عليهم أموالًا طائلة.

(1)

"بداية المجتهد"(4/ 338).

(2)

"معالم السنن"(6/ 378)، "زاد المعاد"(4/ 139).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 299)، (3/ 442).

(4)

"زاد المعاد"(4/ 142) وما بعدها.

ص: 303

وقد ذكر أهل العلم أن الطَّبيب إذا كان حاذقًا ولكنه أخطأ الدواء، أو صفة استعماله، أو جنت يده على عضو صحيح فإنَّه يضمن ما جنس، فإن كان جنايته أقل من الثُّلث ففي ماله خاصة، وإن كانت أكثر من الثُّلث فهي على عاقلته؛ لأنَّه في حكم الجاني خطأ، وإذا كان هذا في الطَّبيب الحاذق فكيف بمن يتطبب بالنَّاس؟!

والواجب على ولاة الأمر تتبع مثل هؤلاء وكفهم عن العبث بأبدان النَّاس وأعضائهم.

وبتضمين الطَّبيب الجاهل يتضح مبدأ العدل في هذه الشريعة وصيانة أرواح النَّاس وأبدانهم من عبث العابثين الذين يُقْدِمُون بكلِّ جرأة على معالجة النَّاس وهم جاهلون. والله المستعان.

ص: 304

‌دية الموضحة

1192/ 9 - وَعَنْهُ؛ أَن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال: "فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَزَادَ أَحْمَدُ:"وَالأَصَابعُ سَوَاءٌ، كلُّهُنَّ عَشْرٌ عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ"، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (11/ 386)، وأبو داود في كتاب "الديات"، باب "ديات الأعضاء"(4566)، والترمذي (1390)، والنَّسائيُّ (8/ 57)، وابن ماجة (2655)، وابن الجارود (785) كلهم من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا، وهذا لفظ ابن ماجة.

قال التِّرمذيُّ: (حديث حسن).

ورواه أحمد (11/ 589) من طريق مطر الورَّاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "في الموضحة خمس من الإبل، والأصابع سواء

الحديث".

وسنده حسن في المتابعات؛ لأنَّ مطرًا الوراق فيه كلام، وقد لخص الحافظ حاله في "التقريب" فقال:(صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف)، وقد تابعه حسين المعلم، كما في الإسناد الذي قبله.

° الوجه الثَّاني: الحديث دليل على أن دية الموضحة خمس من الإبل، وقد تقدم أن الموضحة: هي كل جرح في الوجه أو الرأس ينتهي إلى عظم، سميت بذلك لأنَّها توضح العظم وتبرزه.

ص: 305

والجمهور من أهل العلم على أن جميع الرأس والوجه موضع للموضحة، وقد ذكر الفقهاء أن الشجة إذا كانت في الرأس ونزلت إلى الوجه فهي موضحتان؛ لأنَّها في عضوين، وإن كان بينهما حاجز وهي في موضع واحد كالرأس أو الوجه فموضحتان أيضًا.

وأمَّا الأصابع فتقدم الكلام عليها. والله تعالى أعلم.

ص: 306

‌ما جاء في دية أهل الذمة ودية المرأة

1193/ 10 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ أَهْلِ الذِّمّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمينَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ. وَلَفْظُ أَبي دَاوُدَ:"دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ"، وَللنَّسَائيِّ:"عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا"، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (11/ 662 - 663)، من طريق سليمان بن موسى، وأبو داود (4542) في كتاب "الديات"، باب "الدية كم هي؟ " من طريق حسين المعلم، والترمذي (1413) من طريق أسامة بن زيد، والنَّسائيُّ (8/ 45) من طريق سليمان بن موسى، وابن ماجة (2644) من طريق عبد الرحمن بن عياش، أربعتهم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

وهذا لفظ النَّسائيّ.

ورواه أبو داود (4583) من طريق محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"دية المعاهد نصف دية الحر". وفيه عنعنة محمَّد بن إسحاق.

ورواه النَّسائيّ (8/ 44 - 45) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتَّى يبلغ الثُّلث من ديتها".

ص: 307

وهذا سند ضعيف؛ لأنَّ فيه ابن جريج وهو مدلس، وقد عنعنه، والراوي عنه إسماعيل بن عياش، وهو في غير الشاميين ضعيف كثير الخطأ لا يؤخذ بروايته، وابن جريج حجازي، بقي أمر آخر، وهو أن التِّرمذيَّ نقل في "العلل" عن البُخاريّ -كما تقدم- أنَّه قال:(ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب).

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عقل) أي: دية، وتقدم وجه تسمية الدية عقلًا.

قوله: (أهل الذمة) المراد بالذمة: العهد والأمان والضمان. وأهل الذمة: هم الذين يُعطون عهدًا مستمرًا للبقاء في دار الإسلام إذا أعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام. والمراد بهم: اليهود والنصارى الذين يعيشون تحت سلطان المسلمين.

قوله: (المعاهد) بكسر الهاء، وقيل: بفتحها، وهو الذي دخل دار الإسلام من الكفار بعهد من الإمام أو من أحد المسلمين.

قوله: (عقل المرأة مثل عقل الرجل) أي: دية المرأة في أعضائها وجراحها مثل دية الرجل في أعضائه وجراحه.

قوله: (حتَّى يبلغ الثُّلث) ضمير (يبلغ) يعود على العقل، والمعنى: أن دية المرأة تستمر مثل دية الرجل حتَّى يصل الأرش إلى ثلث دية المرأة، فإذا بلغت الثُّلث صارت ديات جراحها على النصف من دية جراح الرجل.

ففي إصبعين من أصابع المرأة عشرون كالرجل، وفي ثلاث أصابع ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون؛ لأنَّ الأربعين تزيد على الثُّلث، فترجع إلى النصف من دية جراح الرجل.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن دية الكتابي نصف دية الحر المسلم، سواء أكان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا، وقد ورد في بعض الرِّوايات:

ص: 308

(أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين)، وهذا قول مالك وأحمد، قال الخطابي:(ليس في دية أهل الكتاب أبينُ من هذا)

(1)

، إلَّا أن أحمد قال: تضعف الدية على المسلم إذا قتل الذمي أو المستأمن عمدًا، من باب التعزير، فتكون ديته مثل دية المسلم

(2)

، ودليل ذلك فعل عثمان رضي الله عنه

(3)

.

وجمهور أهل العلم على أن دية الذمي لا تضاعف بالقتل العمد؛ لعموم الأدلة، ولذا قال الشوكاني:(ما ذهب إليه أحمد من التفصيل باعتبار العمد والخطأ فليس عليه دليل)

(4)

لكن لو لم يكن في قول أحمد إلَّا اتباع الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه لكفى.

والقول الثَّاني: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم في الخطأ العمد، وهذا قول الشَّافعي وإسحاق

(5)

، ودليلهم قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم

(6)

.

والقول الثالث: أن دية غير المسلم سواء كان كتابيًا أو غير كتابي كدية المسلم في الخطأ والعمد، وهذا مذهب الحنفية وجماعة من السلف

(7)

، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَينَكُمْ وَبَينَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: ذمة وهدنة {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فذكر أنَّها دية، كما ذكر ذلك في المؤمن، والأصل عدم الفرق حتَّى يثبت دليل صحيح على ذلك.

والقول الأوَّل أرجح لقوة دليله، والأحاديث الواردة في هذا الباب تبيّن المراد من الآية.

(1)

"معالم السنن"(6/ 374).

(2)

"المغني"(12/ 54).

(3)

"مصنف عبد الرَّزاق"(10/ 96).

(4)

"نيل الأوطار"(7/ 75).

(5)

"الأم"(7/ 259).

(6)

"مصنف عبد الرزاق"(10/ 92 - 93)، "مصنف ابن أبي شيبة"(9/ 288).

(7)

"المغني"(12/ 51).

ص: 309

وأمَّا الكافر غير الكتابي كالوثني المستأمن أو المجوسي، ففي مقدار ديته ثلاثة أقوال:

القول الأوَّل: أن ديته ثمانمائة درهم؛ أي: ثلثا عشر دية المسلم، وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم وجماعة من السلف، وهو قول الحنابلة، والشافعية.

والقول الثَّاني: أن دية الكافر مثل دية المؤمن، وهو قول الحنفية، كما تقدم.

والقول الثالث: أنَّها نصف دية المسلم مثل ما تقدم في دية الكتابي، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزُّبير، واختاره الشوكاني وابن باز وابن عثيمين

(1)

، لما جاء في بعض الرِّوايات:"عقل الكافر نصف عقل المؤمن"

(2)

، وهذا عام يشمل الكتابي وغيره، وتخصيص الكتابي في بعض الرِّوايات لا يقتضي تخصيص الحكم؛ لأنَّه فرد من أفراد العام، ومجيء الخاص بحكم العام لا يقتضي التخصيص، كما في الأصول، ويؤيد ذلك أن الكفر نقص مؤثر، فالتنصيف قوي.

° الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال بأن دية جراح المرأة مثل دية جراح الرجل حتى تبلغ الثُّلث من ديته، فإذا جاوز الثُّلث فعلى النصف من ديته، بمعنى أن الجناية التي توجب ثلث الدية تكون هي والرجل سواء، وحديث الباب نص في ذلك، فيقدم على ما سواه، وعلى هذا فإذا قطع إصبع امرأة ففيه عشر من الإبل، وفي إصبعين عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة أصابع عشرون نصف دية الرجل.

وهذا قول المالكيّة والحنابلة والشَّافعيّ في القديم، وهو قول سعيد بن

(1)

"المهذب"(2/ 252)، "المغني"(12/ 51)، "نيل الأوطار"(7/ 75)، "الشَّرح الممتع"(14/ 131).

(2)

رواه التِّرمذيُّ (1413)، والنَّسائيُّ (8/ 45) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ورواه أحمد (11/ 288) بلفظ:"دية الكافر نصف دية المسلم".

ص: 310

المسيب والقاسم بن محمَّد وآخرين

(1)

.

وعن ربيعة بن عبد الرحمن، قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاثة أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون، قال: فقلت: لما عظم جرحها واشتدت مصيبتها تنصف عقلها؟ قال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: هي السنة يابن أخي

(2)

.

أما دية النَّفس فقد أجمع أهل العلم على أن المرأة على النصف من دية الرجل، نقل الإجماع ابن المنذر وابن عبد البر وابن رشد والموفَّق ابن قدامة، وغيرهم

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإجماع" لابن المنذر ص (147)، "المهذب"(2/ 266)، "بداية المجتهد"(4/ 353). "المغني"(12/ 57).

(2)

رواه مالك (2/ 860)، وعبد الرَّزاق (9/ 394)، والبيهقي (8/ 96) بسند صحيح إلى سعيد.

(3)

"المغني"(12/ 56).

ص: 311

‌حكم شبه العمد

1194/ 11 - وَعَنْهُ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتلُ صَاحِبُهُ، وَذَلكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيطَانُ فَتَكُونُ دِمَاءٌ بَينَ النَّاسِ في غَيرِ ضَغِينَةٍ وَلَا حَمْلِ سلَاح"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنيُّ وَضَعَّفَهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأوَّل: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في "الديات"، باب "ديات الأعضاء"(4565)، وأحمد (11/ 327)، والدارقطني (3/ 95) من طريق محمَّد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وهذا لفظ أبي داود، وفي آخره:"فتكون دماء في عِمِّيَّا في غير ضغينة ولا حمل سلاح"، وقد عزاه الحافظ في "الدراية"

(1)

لأبي داود وحده؛ لأنَّ لفظ الدارقطني انتهى عند قوله: "ولا يقتل صاحبه".

وهذا الحديث في سنده محمَّد بن راشد وهو يعرف بالمكحول، وثقه أحمد وابن معين والنَّسائيُّ وآخرون، وقال ابن عدي:(إذا حدث عنه ثقة فحديثه مستقيم)

(2)

. وسليمان بن موسى وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم:(محله الصدق، وفي بعض أحاديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه منه ولا أثبت منه)

(3)

، وقد تقدم هو والذي قبله قريبًا، والحديث له شواهد تقدم بعضها، تدل على أن شبه العمد ليس فيه قصاص، وإنَّما تغلظ فيه الدية.

(1)

(2/ 261).

(2)

"الكامل"(6/ 201)، "الميزان"(3/ 543).

(3)

"الجرح والتعديل"(4/ 141).

ص: 312

وأمَّا تضعيف الدارقطني فلم أجده في "السنن" بعد سياق هذا الحديث، لكنَّه ذكر أثناء كلامه على حديث ابن مسعود رضي الله عنه -المتقدم- في تخميس دية الخطأ أن محمَّد بن راشد ضعيف عند أهل الحديث

(1)

، فلعل الحافظ يقصد هذا، أو يكون التنصيص على تضعيف الحديث في بعض نسخ "السنن"، ولم أقف عليه في "العلل" له.

وقد عزا الحديث ابن عبد الهادي في "المحرر" إلى أحمد وأبي داود

(2)

. وكان الحافظ ابن حجر ذَهَلَ عن كون الحديث عند أبي داود وأحمد فعزاه إلى الدارقطني.

° الوجه الثَّاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (دية شبه العمد مغلظة) أي: أشد من دية قتل الخطأ، فهي مثل دية قتل العمد، وذلك بأن تكون الدية مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، كما تقدم.

قوله: (ولا يقتل صاحبه) أي: صاحب شبه العمد، وهو القاتل، سماه صاحبه لصدور القتل عنه، والغرض من هذه الجملة دفع توهم جواز الاقتصاص في شبه العمد حيث جعله كالعمد المحض في العقل.

قوله: (أن يغزو الشَّيطان) نزا من باب (نصر)، وهو الوثوب والتسرع في الشر، ويكون في الأجسام، نحو: نزا الفحل نزوًا: وثب، ويكون في المعاني كما هنا، والمعنى: يثب الشَّيطان بين النَّاس فيحرش بينهم ويهيجهم على القتال، وفي رواية لأحمد:"أن ينزغ الشَّيطان بين النَّاس"

(3)

.

قوله: (فتكون دماء) بالضم على أن (تكون) تامة، وما بعدها فاعل؛ أي: فتوجد دماء أو فتحصل دماء.

قوله: (في غير ضغينة) أي: في غير حقد ولا عداوة، والمعنى: أن

(1)

"السنن"(3/ 176).

(2)

"المحرر"(2/ 717).

(3)

(11/ 602).

ص: 313

قتل شبه العمد يحصل بسبب وسوسة الشيطان وإغوائه، فيحصل القتال بين الناس من غير حقد ولا عداوة ولا حمل سلاح، بل في حال يعمى أمر المقتول ولا يتبين قاتله ولا حال قتله، فيكون القتل في مثل ذلك شبه عمد.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن دية قتيل شبه العمد مغلظة، وتقدم ذلك، كما أن فيه دليلًا على إثبات شبه العمد، وتقدم أيضًا، وأنه ليس فيه قصاص، وهذا من الفروق بينه وبين العمد والخطأ.

° الوجه الرابع: أن قتل شبه العمد لا يقصد به القتل؛ إذ لا عداوة ولا حمل سلاح، وإنما بسبب الشيطان الذي ينزغ بين الناس فيوقعهم فيما وقعوا فيه. والله تعالى أعلم.

ص: 314

‌مقدار الدية من الفضة

1195/ 12 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَتَلَ رَجلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ ألفًا. رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَرَجّحَ النَّسَائيُ وَأَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالهُ.

° الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب "الديات"، باب "الدية كم هي؟ "(4546)، والترمذي (1388)، والنسائي (8/ 44)، وابن ماجه (2629) من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به مرفوعًا.

وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا محمد بن مسلم فهو متكلم فيه، فقد ضعفه الإمام أحمد، والنسائي، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي، وقال ابن مهدي:(كتبه صحاح) وبالغ ابن حزم فقال: (ساقط لا يحتج بحديثه)!

(1)

.

ومع ما فيه من كلام فقد تفرد بوصل هذا الحديث.

وقد رواه الترمذي (1389) من طريق سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ولم يذكر فيه: ابن عباس.

قال الترمذي: (لا نعلم أحدًا يذكر في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمد بن مسلم).

(1)

"المحلى"(10/ 393)، "تهذيب التهذيب"(9/ 393).

ص: 315

وقد رجح النسائي إرساله، فقال: (محمد بن مسلم ليس بالقوي، والصواب مرسل

)

(1)

. ورجح -أيضًا- إرساله أبو حاتم

(2)

، كما رجح إرساله البخاري وأبو داود وابن حزم، وغيرهم

(3)

.

ووجه ترجيح الإرسال، أمران:

الأول: أن من وصله وهو محمد بن مسلم قد طعن الأئمة فيه، فيتوقف في حديثه لو فُرض أنه لم يُخَالِفْ، فكيف وقد خالف من هو من كبار الحفاظ الأثبات، أمثال ابن عيينة، وقد قال يحيى بن معين:(كان سفيان بن عيينة أثبت من محمد بن مسلم الطائفي ومن أبيه ومن أهل قريته)

(4)

.

الثاني: أن البيهقي روى بسنده عن محمد بن ميمون، ثنا سفيان، به موصولًا، قال محمد بن ميمون: وإنما قال لنا فيه: عن ابن عباس مرة واحدة، وأكثر ذلك كان يقول: عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى هذا أن سفيان رفع الحديث مرة واحدة، والأكثر أنه يرسله، فإن كان محمد بن ميمون قد حفظه عن سفيان فهو دليل على أن سفيان قد اختلف عليه في وصله وإرساله، فتارة يوصله، وتارة يرسله، وهو الأكثر، ومحمد بن ميمون صدوق ربما أخطأ، ولعله وَصَلَهُ خطأ، بدليل أن الحديث جاء عن سفيان مرسلًا من طريقين، كما عند الترمذي وابن أبي شيبة. يقول ابن حزم:(والذي رواه مشاهير أصحاب ابن عيينة عنه في هذا الخبر فإنما هو عن عكرمة، لم يذكر فيه ابن عباس)

(5)

.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الدية اثنا عشر ألفًا، وقد بين البيهقي أن المراد: درهمًا

(6)

، وقد يستدل بهذا الحديث من يرى أن الخمسة: وهي الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة، كلها أصول، أما على القول

(1)

"السنن الكبرى"(7/ 356).

(2)

"العلل"(1290).

(3)

"العلل الكبير"(2/ 577 - 578)، "سنن أبي داود"(4/ 185)، "المحلى"(10/ 393).

(4)

"تاريخ ابن معين"(3/ 304).

(5)

"المحلى"(1/ 3930).

(6)

"السنن الكبرى"(8/ 78).

ص: 316

الراجح وهو أن الأصل الإبل فيحمل هذا الحديث على أن هذا المبلغ هو قيمة الإبل في ذلك الوقت، لا أنها دية مستقلة، أو أن الجاني لم يكن عنده إبل فصالح النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل القتيل والجاني. والله تعالى أعلم.

ص: 317

‌ما جاء في أنه لا يؤخذ أحد بجناية غيره

1196/ 13 - عَنْ أَبي رِمْثَةَ قَال: أتيتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم وَمَعِي ابْنِي فَقَال: "مَنْ هَذَا؟ "، قُلْتُ: ابْني أَشْهَدُ بِهِ. قَال: "أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْني عَلَيكَ وَلَا تَجْني عَلَيهِ". رَوَاهُ النَّسَائيُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو رمثة -بكسر الراء وسكون الميم- التيمي، ويقال:

التميمي

(1)

رضي الله عنه، صحابي اشتهر بكنيته، واختلف في اسمه على عدة أقوال، ذكرها المزي في "تهذيبه"، وقد جزم أحمد والبخاري وابن حبان أن اسمه رفاعة بن يثربي، وقيل: حبيب بن حيان، وقيل: حيان بن وهب، وقيل غير ذلك، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه إياد بن لقيط، وثابت بن أبي منقذ.

وهو غير أبي رمثة البلوي، فهذا سكن مصر، ومات بأفريقية، وهذا ما مشى عليه ابن عبد البر، وهو التفريق بينهما، ويرى المزي أنه واحد، فقال: (أبو رمثة البلوي، ويقال: التميمي، ويقال: التيمي

روى له أبو داود والترمذي والنسائي)

(2)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

فقد رواه النسائي في كتاب "القسامة"، بابٌ "هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ "(8/ 53)، وأبو داود (4495)، وأحمد (11/ 673)، وابن الجارود

(1)

لأنه من تيم الرَّباب، وهم بطن من تميم. انظر:"الأنساب"(1/ 360).

(2)

"التاريخ الكبير"(3/ 321)، "المسند"(14/ 63)، "صحيح ابن حبان"(5995)، "الاستيعاب"(12/ 254)، "تهذيب الكمال"(33/ 316)، "الإصابة"(12/ 134).

ص: 318

(770)

من طرق، عن إياد بن لقيط، قال: حدثني أبو رمثة التميمي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي، فقال:"ابنك؟ " قلت: أشهد به، قال:"لا يجني عليك ولا تجني عليه" وهذا لفظ ابن الجارود، وجاء في آخر سياقه عند أبي داود:(وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]).

وهذا الحديث إسناده صحيح، وقد جاء هذا المعنى عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم

(1)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (ومعي ابني) هكذا لفظ "البلوغ"، وهو لفظ ابن الجارود، كما تقدم، ورواية عند أحمد. والذي في "سنن" أبي داود والنسائي:(انطلقت مع أبي)(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي) فأبو رمثة هو الابن الذي جاء مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو الأب الذي جاء ومعه ابنه، وهكذا جاء في مصادر أخرى منها:"كتاب الديات" لابن أبي عاصم

(2)

.

والأكثرون من الرواة كسفيان الثوري وعبيد الله بن إياد وعبد الملك بن سعيد كلهم قالوا: أن أبا رمثة كان مع أبيه، مما يرجح أن أبا رمثة هو الابن؛ لأنهم الأكثر ضبطًا وعددًا

(3)

.

قوله: (أشهد به) اختلف في ضبط هذا اللفظ، فقيل: بهمزة وصل، وصيغة أمر؛ أي: كن شاهدًا بأنه ابني من صلبي، وقيل: بفتح الهمزة، وصيغة المتكلم؛ أي: وأُقِرُّ وأعترف بأنه ولدي، فيكون الغرض منها تقرير أنه ابنه، وهذا هو الأقرب.

قوله: (أما إنه) بالتخفيف للتنبيه، و (إنه) إما ضمير الشأن أو ضمير الابن.

قوله: (لا يجني عليك) أي: لو صدرت منه جناية لا تؤخذ بها أنت، ولا يكون ضمانها عليك، والجناية: الذنب والجرم، وما يفعله الإنسان مما

(1)

انظر: "الإرواء"(7/ 333).

(2)

ص (121).

(3)

انظر: "علل ابن أبي حاتم"(1438)، "المسند"(11/ 677).

ص: 319

يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة

(1)

.

وقوله: (ولا تجني عليه) أي: لو صدرت منك جناية لا يؤخذ بها هو، ولا يكون ضمانها عليه، ولعل المراد بالحديث: الإثم، وإلا فإن الدية تحملها العاقلة.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، سواء أكان قريبًا كالأب والولد وغيرهما، أم أجنبيًّا؛ لأن الله تعالى أوجب العدل، فقال سبحانه:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فليس لأحد أن يقتل أحدًا بجناية أخيه أو ابن عمه؛ لأن هذا هو عمل الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإبطاله والقضاء عليه.

وأما ما ورد من أن العاقلة تحمل الدية في شبه العمد والخطأ، فليس من تحمل الجناية، وإنما هو من باب التعاون والتعاضد فيما بين المسلمين. والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية"(1/ 309).

ص: 320

‌باب دعوى الدم والقَسَامَة

أي: باب دعوى القتل والأيمان عليه، وعبر بالدم للزومه للقتل غالبًا، وعبر بالقسامة؛ لأنها صارت حقيقة عرفية على الخمسين يمينًا في جانب المدعي ابتداء، كما سيأتي.

والحافظ مقلد للشافعية في كتبهم في هذا التبويب، ومنهم النووي في كتابه "المنهاج"، والأكثرون من الفقهاء يقتصرون على القسامة

(1)

.

والدعوى: هي طلب الشيء زاعمًا ملكه، وعند الفقهاء: قول مقبول عند القاضي يقصد به المدعي طَلَبَ حَق قِبَلَ غيره أو دَفْعَ غيره عن حق نفسه.

وأضافها إلى الدم؛ لأن الدعوى أنواع، فقد تكون دعوى مال، أو دعوى عِرْضٍ، أو دعوى دم، أو غير ذلك.

والقسامة -بفتح القاف وتخفيف السين-: اسم مصدر أقسم إقسامًا وقسامة، والقسامة: هي اليمين، سميت بذلك لأنها تُقْسَمُ على أولياء الدم، يقال: قُتِلَ فلان بالقسامة: إذا اجتمع الأولياء وادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، وحلفوا خمسين يمينًا.

والقول بأن القسامة هي اليمين، هو قول ابن فارس والجوهري وغيرهما من علماء اللغة، وقال الأزهري وجماعة: هي اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول، والأول هو الصحيح

(2)

.

وشرعًا: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.

(1)

انظر: "تحفة المحتاج"(4/ 109)، "منتهى الإرادات"(5/ 106).

(2)

"الإعلام"(9/ 58).

ص: 321

وقولنا: (أيمان مكررة) أي: لا بد أن تتكرر اليمين، كما سيأتي، بخلاف سائر الدعاوى، وذلك لعظم شأن الدماء.

وقولنا: (في قتل) يفيد أنه لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجراح، كما سيأتي -إن شاء الله-.

وقولنا: (معصوم) هذا شرط في القتيل الذي لم يعلم قاتله، إذ لا أيمان ولا دعوى أصلًا في قتيل غير معصوم، كمرتد -مثلًا- وهذا بالإجماع

(1)

.

وقد ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أن القسامة مشروعة وأصل يثبت به القصاص أو الدية على ما سيأتي -إن شاء الله- في حديث الباب الذي هو الأصل في مشروعيتها.

(1)

انظر: "دقائق أولي النهى"(6/ 155)، "القسامة في الفقه الإسلامي" ص (20).

ص: 322

‌أحكام القسامة

1197/ 1 - عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودٍ، خَرَجَا إِلَى خَيبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ. فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ في عَينٍ، فَأتى يَهُودَ فَقَال: أنتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأقبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ سَهْلٍ. فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَبِّرْ كَبِّرْ"، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأذَنُوا بِحَرْبٍ" فَكَتَبَ إِلَيهِمْ في ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَال لِحُوَيِّصَةَ، وَمُحَيِّصَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَهْلٍ:"أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ "، قَالُوا: لَا، قَال:"فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ "، قَالُوا: لَيسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيهِمْ مِائَةَ نَاقَةٍ. قَال سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْني منْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب "كتابة الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه"(7192)، ومسلم (1669)(6) من طريق أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه

الحديث.

وهذا الحديث له عدة ألفاظ في "الصحيحين" وغيرهما.

ص: 323

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن رجال من كبراء قومه) أي: من شيوخ قوم سهل بن أبي حثمة، وهم من الأنصار من بني حارثة من الخزرج رضي الله عنهم.

قوله: (أن عبد الله بن سهل) هو عبد الله بن سهل بن زيد بن كعب الحارثي الأنصاري، قتل في خيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتحها، وهو أخو عبد الرحمن الآتي ذكره

(1)

.

قوله: (ومحيصة بن مسعود) بضم الميم فحاء مهملة مفتوحة، فمثناة تحتية مشددة، فصاد مهملة على صيغة التصغير، وحكى القرطبي وغيره التخفيف، واعتبره هو المشهور

(2)

، وهو محيصة بن مسعود بن زيد بن كعب الحارثي الأنصاري المدني ابن "عبد الله بن سهل المقتول، صحابي معروف، أسلم قبل الهجرة، وشهد أحدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد كلها، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فَدَك يدعوهم إلى الإسلام

(3)

.

قوله: (من جهد أصابهم) بفتح الجيم، و (من) سببية؛ أي: بسب مشقة وضيق عيش.

قوله: (قد قتل) في بعض الروايات: (فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلًا).

قوله: (وطرح في عين) في رواية: (في عين أو فقير) أي: أُلقي بعد قتله في عين، والمراد بها: الحفرة أو البئر الصغيرة أو حوض يكون أسفل النخلة، والفقير: الحفيرة

(4)

.

قوله: (فأتى يهود) اسم جنس، يراد به القبيلة والطائفة، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث

(5)

، أو وزن الفعل.

(1)

"الإصابة"(6/ 113).

(2)

"المفهم"(5/ 8)، "الإعلام"(9/ 59)، "فتح الباري"(12/ 233).

(3)

"أسد الغابة"(5/ 119)، "الإصابة"(2/ 303)(9/ 142).

(4)

"الأعلام"(9/ 59).

(5)

"الإعلام"(9/ 65).

ص: 324

قوله: (فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل) أي: فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيصة وأخوه حويصة بن مسعود وابن عمهما عبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل، وفي رواية لمسلم:(فدفنه ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: (فدفنه صاحبه، ثم أقبل إلى المدينة

). وحويصة: بضم الحاء، وفتح الواو فمثناة تحتية مشددة، فصاد مهملة، ويجوز التخفيف في يائه، وهو أخو محيصة لأبيه وأمه، وهو أسن منه، أسلم على يد أخيه محيصة بعد الهجرة سنة ثلاث، وشهد أُحدًا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، وكان عبد الرحمن بن سهل أصغر الثلاثة.

قوله: (فذهب محيصة يتكلم) أي: أراد أن يتكلم بشرح القصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و (ذهب) هنا من أفعال الشروع، و (محيصة) اسمها، وجملة (يتكلم) خبرها، دكلانما بادر إلى الكلام لكونه حاضرًا في الواقعة، وكان أصغر من أخيه حويصة، كما تقدم.

قوله: (كَبِّر كَبِّر) بصيغة الأمر من التكبير؛ أي: ليبدأ الأكبر بالكلام، واللفظ الثاني تأكيد للأول تنبيهًا على شرف السن، وقوله:(يريد السن) هذا مدرج لتفسير (كَبِّرْ).

قوله: (إما أن يدوا صاحبكم) أي: إما أن يدفع اليهود لكم دية القتيل، ففاعل (يدوا) اليهود، ويدوا: بفتح الياء وضم الدال، فعل مضارع من ودى يدي دية، من باب (ضرب)

(2)

.

قوله: (وإما أن يَأْذنوا بحرب) هكذا في نسخ "البلوغ"، بفتح الياء، والذي في "الصحيحين":(يُؤذنوا) بضمها؛ أي: يعلمونا أنهم ممتنعون عن التزام شرعنا؛ لأن الأذان معناه: الإعلام، والمعنى: أنهم إذا امتنعوا عن الحلف فهم ممتنعون عن الالتزام بأحكام ديننا، فينتقض عهدهم ويصيرون حربًا، وهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم فيه فائدتان:

(1)

"الإصابة"(2/ 303)، "أسد الغابة"(2/ 74).

(2)

"المصباح المنير" ص (654).

ص: 325

1 -

التسلية لأولياء المقتول وأن الأمر مأخوذ بعين الاعتبار.

2 -

الإخبار بالحكم على تقدير ثبوت القتل على يهود، لا أن ذلك حكم على اليهود في حال غيابهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع منهم، ولهذا كتب لهم بعد هذا القول.

قوله: (فكتب إليهم في ذلك) أي: فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود كتابًا في هذه القضية يذكر فيه ما ادُّعِيَ به عليهم، ووجود القتيل بينهم.

قوله: (أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم) أي: أتحلفون خمسين يمينًا -كما في بعض الروايات- على شخص من اليهود بأنه هو القاتل، ونحكم لكم بثبوت دمه على هذا الشخص، فتقتلونه به أو تأخذون ديته.

قوله: (ليسوا مسلمين) أي: فلا نرضى بأيمانهم؛ لأنهم كفار لا يتورعون عن الكذب.

قوله: (فوداه) أي: فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم دية القتيل لئلا يهدر دمه.

قوله: (من عنده) ظاهره أن المراد من ماله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض الروايات:(فوداه بمائة من إبل الصدقة)، وفيها نفي احتمال أن الدية من اليهود أو غيرهم، وقد طعن بعضهم في رواية:(بمائة من إبل الصدقة) وقالوا: إنها غلط من راويها سعيد بن عبيد، ووجه ذلك أن الصدقة المفروضة وهي الزكاة لا تصرف هذا المصرف، وإنما هي لأصناف سماهم الله تعالى، وهذه الرواية عند البخاري ومسلم، ورواه يحيى بن سعيد، وقال:(من عنده)، ومن تحاشى تغليط الثقة قال: لا منافاة، والمعنى: أنه اشتراها من إبل الصدقة، وهناك تأويلات أخرى لا تخلو من ضعف، فإن قيل: بالترجيح -ولعله المتعين

(1)

- فرواية يحيى بن سعيد أرجح، فإنه ثقة متقن، وسعيد بن عبيد هو الطائي أبو الهذيل الكوفي، وثقه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم:(يكتب حديثه)

(2)

، وقال الحافظ:(ثقة).

(1)

انظر: "التمييز" للإمام مسلم ص (192)، "تهذيب مختصر السنن"(6/ 32).

(2)

"تهذيب التهذيب"(4/ 55).

ص: 326

قوله: (ركضتني منها ناقة) أي: ضربتني برجلها، وأراد بهذا أنه ضبط الحديث وحفظه حفظًا بليغًا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم الإبل لأولياء القتيل، كما جاء في بعض الروايات.

° الوجه الثالث: هذا الحديث هو الأصل في مسألة القسامة، قال القاضي عياض: (حديث القسامة المذكور أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة

)

(1)

، وقال ابن الملقن:(هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام، وأصل في القسامة وأحكامها)

(2)

.

وصفتها: أن يوجد قتيل ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على من قتله، فيدعي أولياء المقتول على واحد أو جماعة قتله، وتقوم القرائن على صدق الولي المدعي.

ولا بد في القسامة من أربعة شروط مأخوذة من أدلتها:

الأول: أن تكون الدعوى على قتل يوجب القصاص إذا ثبت القتل؛ لأن الأصل فيها حديث الباب، وهو في دعوى قتل.

فإن كانت الجناية فيما دون النفس من الأطراف والجراح فلا قسامة -على أحد القولين- لأن القسامة ثبتت في النفس لحرمتها؛ ولأن المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله، ومن قُطِعَ طرفه أو جُرح أمكنه ذلك، قال الموفق ابن قدامة:(لا أعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا)

(3)

.

الثاني: أن تكون الدعوى على شخص معين، لقوله كما في بعض الروايات:(فيحلف خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته)، فإن كان مبهمًا، أو كانت الدعوى على أهل مدينة أو حَيٍّ من الأحياء فلا قسامة.

الشرط الثالث: اتفاق الأولياء في الدعوى، فإن ادعى بعضهم وأنكر

(1)

"إكمال المعلم"(5/ 448).

(2)

"الإعلام"(9/ 58).

(3)

"المغني"(12/ 217).

ص: 327

بعض لم تثبت القسامة؛ لأنه دعوى قتل، فاشترط اتفاق جميع الأولياء، كالقصاص في غير القسامة.

الرابع: وجود اللَّوْث، وهو بفتح فسكون، من لاث الرجل يلوث لوثًا: أخبر بغير ما يُسأل عنه، ولاث الخبر: كتمه وحبسه عن وجهه

(1)

. وفي تفسير اللوث قولان:

القول الأول: أنه العداوة الظاهرة، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا، وما بين أهل البغي وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، ونحو ذلك.

والقول الثاني: أن اللوث ما رجح جانب المدعي في دعواه، وهذا القول أعم من الأول؛ لأنه يشمل العداوة وغيرها من القرائن، كأن يوجد القتيل في دار إنسان، أو يُرى أثاثه عنده، ونحو ذلك.

وهذا رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، قال الحافظ ابن حجر:(اتفقوا على أنها لا تجب القسامة لمجرد دعوى الأولياء حتى تقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها)

(3)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه إذا وجد القتيل المجهول القاتل ووجدت القرائن على قاتله حلف أولياء المقتول، لقوله:"تحلفون وتستحقون دم قاتلكم" وفي بعض الروايات: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته" وهذا يفيد أن عدد الأيمان خمسون تعظيمًا لشأن الدم، وأنه لا بد من خمسين رجلًا، على كل واحد منهم يمين، فإن كانوا أقل، فإن الأيمان بينهم على قدر إرثهم، فإذا كان للقتيل ثلاثة أبناء حلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينًا، فإذا حلفوا على شخص استحقوا دمه إذا كان القتل عمدًا، أو الدية إذا كان خطأ.

(1)

"إكمال الإعلام"(2/ 569).

(2)

"الإنصاف"(10/ 139).

(3)

"فتح الباري"(12/ 236).

ص: 328

° الوجه الخامس: استدل العلماء: بقوله: "أتحلفون

" وفي رواية: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" على أن الأولياء الذين يحلفون في القسامة هم العصبة؛ أي: عصبة المقتول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلًا وارثًا، فإنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبًا؛ ولأنه خاطب بهذا بني عمه، وهم غير وارثين مع وجود الأخ، وهذا قول مالك، ورواية عن أحمد.

والقول الثاني: أن الأولياء الذين يحلفون هم الوارثون، وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد

(1)

، واستدلوا بان النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحالف هو المستحق للدية أو القصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا، فدل ذلك على أنه لا يحلف إلا الوارث المستحق للدية. والقول الأول أرجح؛ لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بذلك بني عمه وهم غير وارثين؛ ولأنه لا يُعقل أن يكون خمسون رجلًا وارثين، وعلى هذا فيبدأ بالوارثين، فإن لم يبلغوا خمسين كُمِّلوا من سائر العصبات الذين لا يرثون، الأقربُ فالأقرب منهم إلى الميت.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أنه إذا نكل المُدَّعُونَ عن الحلف، وقالوا: لا نحلف على شيء لم نره، توجهت الأيمان على المدعى عليهم، فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء.

° الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه إذا نكل المدعى عليه وأبي أن يحلف أو لم يرض المدعون يمينه أُدِيَ القتيل من بيت المال؛ لأن أولياء عبد الله بن سهل لم يحلفوا، ولم يرضوا بأيمان اليهود.

ويمكن أن يستدل بعموم هذا الحديث على أن دية المقتول في زحمة طواف أو تدافع، تكون في بيت المال، وقد مضت الإشارة إلى ذلك.

(1)

"الأم"(7/ 229)، "المنتقى"(7/ 58)، "الإنصاف"(10/ 146)، "القسامة في الفقه الإسلامي" ص (163).

ص: 329

° الوجه الثامن: في الحديث دليل على أن المشتركين في طلب حق ينبغي لهم أن يقدموا للكلام واحدًا منهم؛ لأن هذا نوع من الأدب مع المتحدث معه، وفيه تنظيم للأمر، وأحقهم أسنهم إذا كان فيه أهلية لذلك.

° الوجه التاسع: في الحديث دليل على أن موجب القسامة هو القود، وهو قول الأكثرين، لقوله:"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم".

والقول الثاني: أن القسامة توجب الدية ولا توجب القصاص، وهو قول الحنفية، والشافعية في الجديد، وجماعة من الصحابة والتابعين

(1)

.

واستدلوا بقوله: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" وهذا حصر بين أمرين لا ثالث لهما وهو القصاص.

والقول الأول أرجح لقوة مأخذه، ويؤيده المعنى، فإن ردع المجرمين وصيانة الدماء واستقرار الأمن إنما يكون في القسامة على الوجه الذي صحت به الآثار، وأما غرامة الدية فأمر ميسور عند أرباب الفساد.

وأما أدلة القائلين بالدية فهي إما مؤولة؛ لقيام الدليل على وجوب التأويل، وإما معارضة بما هو أقوى منها، وإما ضعيفة لا تقوم بها حجة.

وأما لفظ: "إما أن يدوا صاحبكم

" فالجواب أنها دعوى على اليهود بدون تعيين القاتل فلا يمكن القصاص، فإن حلفوا على واحد أمكن القصاص.

° الوجه العاشر: ظهر في مسألة القسامة أمور أهمها:

1 -

أن اليمين توجهت على المدعي، وهذا لا يخالف قاعدة: أن اليمين على المدعى عليه؛ لأن الأصل أن اليمين مشروعة في الجانب الأقوى، وجانب المدعي قد ترجح بوجود القرائن التي تقوي جانبه.

2 -

تكرار الأيمان فيها، ذلك لعظم شأن الدماء.

3 -

أن المدعي يحلف على شيء لم يره، وهذا لكونه معتمدًا على

(1)

"المغني"(12/ 204)، "تحفة المحتاج"(4/ 117).

ص: 330

القرائن وغلبة الظن، كقول الأعرابي:(والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني)

(1)

، وقول عبد الله بن سهل:(أنتم والله قتلتموه) فحلف على غلبة الظن وما يحيط به من القرائن التي تجعله في مقام اليقين، فإنه لم يكن في خيبر سوى اليهود، وبينهم وبين المسلمين العداوة المعروفة. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه في كتاب "الصيام" حديث (676).

ص: 331

‌ما جاء في أن القسامة كانت في الجاهلية

1198/ 2 - عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنصَارِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيهِ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَينَ ناسٍ مِنَ الأنصَارِ في قَتِيلٍ ادّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلِم.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "القسامة"، (1670)(7)(8) من طريق يونس، عن ابن ضهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار مولى ميمونة رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.

ورواه من طريق ابن جريج، حدثني ابن شهاب، بهذا الإسناد مثله، وزاد: وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وبهذا يتبين أن الحافظ جمع بين الروايتين في سياق واحد.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن القسامة كانت موجودة في الجاهلية قبل الإسلام، وقد بوب البخاري في "صحيحه" في كتاب "مناقب الأنصار" باب "القسامة في الجاهلية"، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم

وساق الحديث بطوله

(1)

.

(1)

"صحيح البخاري"(3845).

ص: 332

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية؛ لكونها سبيلًا من سبل صيانة الدماء وعدم ضياع الحقوق، وهذا يدل على أن ما عند الكفار مما يوافق الشرع يؤخذ به، ومثل ذلك المضاربة فقد كانت في الجاهلية وأقرها الإسلام، كما تقدم في موضعه.

وهذا إقرار للقسامة في الجملة لا في التفصيل؛ لأن القسامة في الإسلام تختلف عن القسامة في الجاهلية في أمور، منها:

1 -

أن القسامة في الإسلام تُشرع الأيمان فيها في جانب المدعين، كما تقدم، فإذا حلفوا استحقوا القود في العمد، أما في الجاهلية فقد دل سياق حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم على أن المدعى عليه يخير بين الدية أو الأيمان أو القصاص.

2 -

أن اليمين لا تطلب من المدعى عليه إلا بعد نكول المدعي، بخلاف القسامة في الجاهلية فإنها تطلب من المدعى عليه.

3 -

أنه لا تخيير للمدعى عليه كما في الجاهلية

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "القسامة في الفقه الإسلامي" ص (22).

ص: 333

‌باب قتال أهل البغي

القتال: مصدر قاتله يقاتله قتالًا ومقاتلة، بمعنى حاربه ونازله.

والبغي: مصدر بغى يبغي بغيًا، ويطلق هذا الفعل في اللغة على مجرد الطلب، تقول: بغيت الشيء أبغيه: إذا طلبته. ويطلق على التعدي والاستطالة على الناس، يقال: بغى الرجل بغيًا: إذا عدل عن الحق واستطال، ومنه الفئة الباغية؛ أي: المتعدية.

والبغي في اصطلاح الفقهاء: هو خروج جماعة من المسلمين لهم شوكة ومنعة عن قبضة الإمام؛ لينازعوه في سلطانه بتأويل سائغ.

وموقف الإمام من البغاة أنه يراسلهم ويسألهم ما يكرهون منه، ويزيل ما يكرهونه من مظلمة؛ لأن إزالة ذلك وسيلة إلى الصلح المأمور به، ويكشف ما يدعونه من شبهة؛ لأن في كشف شبهتهم رجوعًا إلى الحق، وذلك لأن الله تعالى أمر بالإصلاح أولًا، فقال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} [الحجرات: 9] فإن أصروا نصحهم وخوفهم عاقبة البغي، وأمرهم بالعود للطاعة؛ لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود، فإن أصروا دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا أو أجابوا وغُلبوا في المناظرة، وأصروا آذنهم بالقتال، لقوله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ولدفع شرهم وأذاهم عن المسلمين، وللحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية وعزتها، وعلى هذا فقتال البغاة هو آخر وسيلة يلجأ إليها الإمام.

وقد قسم بعض العلماء الخارجين على الإمام إلى أقسام:

1 -

بغاة، وتقدم تعريفهم وحكمهم.

2 -

خوارج: وأول خروجهم في عهد علي رضي الله عنه وأصولهم موجودة قبل

ص: 334

ذلك، وهم أشنع من البغاة وأقبح؛ لأنهم يخرجون لتفريق المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، يقاتلون المسلمين، ويَدَعُون عُبَّادَ الأصنام والأوثان، والجمهور من أهل العلم على أنهم عصاة حكمهم حكم البغاة، وقال آخرون: إنهم مرتدون وحكمهم القتل مطلقًا، لثبوت الأحاديث في قتلهم.

3 -

قطاع طريق: وهم الذين يتعرضون للناس بإشهار السلاح وسلب الأموال وغيرها، وقد دل القرآن على عقوبتهم في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].

ص: 335

‌التحذير من حمل السلاح على المسلمين

1199/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ "مَنْ حَمَلَ عَلَينَا السلَاحَ فَلَيسَ مِنا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الديات"، باب "قوله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} (6874)، وفي "الفتن"(7070)، ومسلم (98) من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعًا.

ورواه البخاري (7071) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ نفسه.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه لا يجوز حمل السلاح على المسلمين برهم وفاجرهم؛ لأن حمل السلاح معناه قتالهم وسفك دمائهم وإخافتهم وترويعهم، بل لا يحمل السلاح إلا على من استحقه كالكفار والبغاة -على ما تقدم- وقطاع الطريق، والواجب على المسلمين التناصح وحل المشاكل بالطرق السلمية لا بحمل السلاح، بل قد ورد النهي عما هو دون ذلك، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُشِرْ أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار"

(1)

.

وعنه -أيضًا- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشار إلى أخيه بحديده فإن

(1)

رواه البخاري (7072).

ص: 336

الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه"

(1)

.

° الوجه الثالث: في الحديث وعيد شديد على من حمل السلاح على المسلمين، لقوله:"فليس منا" والمعنى: أنه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته نصر المسلم والقتال دونه، لا ترويعه وإخافته وقتاله، أو يمسك عن تأويله؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر

(2)

.

وهذا الحديث حمله العلماء على من حمل السلاح لقتال المسلمين غير مستحل قتالهم، أما إذا استحل قتالهم بغير حق فهذا كافر؛ لاستحلاله المحرم القطعي.

وأما حمل السلاح لقتال البغاة من المسلمين فقد ورد فيه أدلة خاصة. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه مسلم (2616).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 467)، "فتح الباري"(13/ 24).

ص: 337

‌التحذير من الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة

1200/ 2 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:"مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيّةٌ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه مسلم في كتاب "الإمارة"، باب "وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة"(1848) من طريق غيلان بن جرير، عن أبي قيس بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّية يغضب لعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عَصَبَةٍ، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من خرج من طاعة) أي: طاعة من وقع عليه الاجتماع وتمت بيعته في قطر من الأقطار؛ لأن من المعلوم أن الناس لم يجمعوا على خليفة واحد في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية إلى يومنا هذا، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم.

قوله: (وفارق الجماعة) أي: جماعة المسلمين الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم.

ص: 338

قوله: (فميتته جاهلية) بكسر الميم، مصدر نوعي؛ لأنه أضيف إلى الجاهلية، وهذا فيه تشبيه من مات مفارقًا للجماعة بمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام؛ لأن الخارج عن الطاعة -كأهل الجاهلية- لا إمام له.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب طاعة الناس لولي الأمر الذي تمت بيعته، ولزوم الجماعة وإن جرى من الإمام ما جرى من نقص أو معصية ما لم يروا كفرًا بواحًا عندهم فيه من الله برهان، كما جاء في حديث عبادة رضي الله عنه

(1)

.

وقد دلت النصوص الشرعية على أن الطاعة إنما تكون في المعروف، وهذا من القطعيات الشرعية، لحديث:"إنما الطاعة في المعروف"

(2)

.

وفي الطاعة ولزوم الجماعة الخير الكثير والأمن والطمأنينة، وصلاح الأحوال، ونصر الحق، وقمع البدع وأهلها.

وفي الاختلاف والخروج الشر العظيم، وضعف الحق، وتدخل القوى الكافرة، وظهور البدع والمنكرات، وانقسام الناس، وزعزعة الأمن وإراقة الدماء، ونهب الأموال، وهذا واضح في زماننا هذا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يُستراح من فاجر)

(3)

. ويقول: (لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المنكرات وتركِ واجبٍ أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب)

(4)

.

° الوجه الرابع: في الحديث تحذير شديد ووعيد عظيم لمن ينقض البيعة ويفرق الجماعة، ويخرق الإجماع.

(1)

رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709)(42).

(2)

رواه البخاري (4340)، ومسلم (1840).

(3)

"مجموع الفتاوى"(4/ 444).

(4)

"مجموع الفتاوى"(14/ 472).

ص: 339

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن من فارق الجماعة ولم يخرج عليهم ولم يقاتلهم أنه لا يقاتل ليرد إلى الجماعة ويذعن للإمام بالطاعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حال موته ولم يأمر بقتاله؛ لأنه لم يخرج بذلك عن الإسلام. والله تعالى أعلم.

ص: 340

‌ما جاء في أن عمارًا تقتله الفئة الباغية

1201/ 3 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالت: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغيَةُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه مسلم في كتاب "الفتن"، باب "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء"(2916)(73) من طريق ابن عون، عن الحسن، عن أمه

(1)

، عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا.

ورواه -أيضًا- من طريق شعبة، قال: سمعت خالدًا يحدث عن سعيد بن أبي الحسن، عن أمه (1)، عن أم سلمة، بلفظ:"تقتلك الفئة الباغية".

ورواه البخاري (447)، ومسلم (2915) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في بناء المسجد، وفيه:"وَيْحَ عمارٍ تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الخير، ويدعونه إلى النار".

وكان الأولى أن يشير إليه الحافظ كعادته؛ لأن هذا مما يقوي الحديث، وقد ذكر ابن عبد البر أن الآثار قد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن عمارًا تقتله الفئة الباغية

(2)

، وقد أجمعوا على أنه قتل سنة سبع وثلاثين في صفين مع علي رضي الله عنهما، وقد تقدمت ترجمته في باب "التيمم".

(1)

هو الحسن البصري، وهو سعيد بن أبي الحسن، وأمه خَيْرَة، بالفتح، انظر: "تهذيب الكمال، (35/ 166).

(2)

"الاستيعاب"(8/ 234).

ص: 341

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن عمارًا رضي الله عنه يقتل في حرب

بين طائفتين من المسلمين، وقد دل التاريخ على أن الطائفة الأولى أهل

العراق بقيادة علي رضي الله عنه، والثانية أهل الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه، وأول ما

نشأت الفتنة من قتل عثمان رضي الله عنه حيث امتنع معاوية من بيعة علي رضي الله عنه بحجة

أن معه قتلة ابن عمه عثمان رضي الله عنه، وطلب منه تسليمهم للانتقام منهم،

فمعاوية رضي الله عنه خرج بشبهة، وهي المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه. فكاتبهم علي رضي الله عنه

مبينًا أنه ينظر في الأمر؛ لأن القتلة ليسوا أفرادًا، بل هم جمع غفير، ولهم.

قوة، فلا يمكن تسليمهم في الحال، فحصل الانقسام بين المسلمين، طائفة تُؤْثِرُ الخليفة الرابع عليًّا رضي الله عنه، والأخرى تُؤْثِرُ معاوية، وثالثة اعتزلت المعسكرين، وابتعدت عن الفتنة، فحصلت موقعة الجمل، ثم وقعة صفين، وفيها قتل عمار رضي الله عنه، قتله أهل الشام، وبأن بذلك وظهر سِرُّ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عليًّا محق، وأن معاوية باغٍ

(1)

. وهذه من الفتن التي وقعت في القرن الأول المشهود له بالخيرية، وقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تفترق أمتي فرقتين، فتمرق بينهما مارقة، فيقتلها أَولى الطائفتين بالحق"

(2)

، وهذا دليل على:

1 -

أن ما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنه أنه عن اجتهاد وتأويل.

2 -

أن عليًّا أقرب إلى الصواب من معاوية، بل نكاد نجزم بصوابه، إلا أن معاوية كان مجتهدًا.

3 -

أن كلا الطائفتين على الحق، ولكن إحداهما أقرب إليه.

يقول ابن كثير: (هذا الحديث من دلائل النبوة؛ لأنه قد وقع الأمر طبق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما تزعمه فرقة الرافضة أهل الجهل والجور من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب عليٍّ أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا مذهب أهل

(1)

"البداية والنهاية"(10/ 526).

(2)

"المسند"(18/ 274)، وإسناده صحيح.

ص: 342

السنة والجماعة أن عليًّا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدًا في قتاله له، قد أخطأ وهو مأجور إن شاء الله، ولكن عليًّا هو الإمام المصيب إن شاء الله، فله أجران)

(1)

.

وللقرطبي كلمة جامعة يحسن تسجيلها -هنا- حيث يقول: (لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تُعُبِّدْنَا بالكَفِّ عما شجر بينهم، ألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم

وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غِنائهم في الدين رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134]. وسئل بعضهم عنها فقال: تلك دماء قد طهر الله منها يدي، فلا أَخْضِبُ بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبًا فيه

) والله تعالى أعلم

(2)

.

(1)

"تفسير القرطبي"(16/ 321 - 322).

(2)

"البداية والنهاية"(10/ 563)، وانظر:"تفسير القرطبي"(16/ 321)، "منهاج السنة" لابن تيمية (4/ 385 - 394، 530).

ص: 343

‌ما ينهى عنه في قتال البغاة

1202/ 4 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ بَغى مِنْ هذِهِ الأُمةِ؟ "، قَال: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَال:"لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا". رَوَاهُ الْبزَّارُ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ فَوَهِمَ؛ فَإنَّ في إِسْنَادِهِ كَوْثَرَ بْنَ حَكِيمٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.

1203/ 5 - وَصح عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه مِنْ طُرُقٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيبَةَ وَالحَاكِمُ.

° الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البزار (1849 زوائد)، والحاكم (2/ 155) من طريق عبد الملك بن عبد العزيز، حدثني كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

وهذا إسناد ضعيف جدًّا، آفته كوثر بن حكيم، وقد تفرد به، وهو متروك، قال الإمام أحمد:(أحاديثه بواطيل، ليس بشيء)، وقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال النسائي:(متروك الحديث)، وقال ابن حبان:"كان ممن يروي المناكير عن المشاهير، ويأتي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات"

(1)

.

(1)

"العلل"(2/ 156)، "التاريخ الكبير"(7/ 245)، "الضعفاء والمتروكين" للنسائي ص (89)، "المجروحين"(2/ 233).

ص: 344

قال البزار: (لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ولا رواه عن نافع إلا كوثر)، وقال ابن عدي:(هذا الحديث غير محفوظ)

(1)

.

والحديث سكت عنه الحاكم، كما في المطبوع، وقول الحافظ هنا: إن الحاكم صححه، ليس في المطبوع من "المستدرك"، إلا إن كان الحافظ أخذ هذا من سكوته عنه، مع أنه لا ينسب لساكت قول، وقد قال في "التلخيص":(سكت عنه الحاكم)

(2)

، وقد يكون في كتاب آخر غير "المستدرك"، وقد تعقب الذهبي سكوت الحاكم بقوله:(قلت: كوثر متروك).

وأما حديث علي رضي الله عنه فقد رواه ابن أبي شيبة (15/ 263) من طريق يحيى بن آدم، عن شريك، عن السدي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه، أنه قال يوم الجمل:(لا تتبعوا مدبرًا، ولا تُجْهِزُوا على جريح، ومن ألقى سلاحه فهو آمن).

وفي إسناده شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ.

ورواه الحاكم (2/ 155)، والبيهقي (8/ 181) من طريق علي بن حجر، حدثنا شريك، عن السدي، عن يزيد بن ضبيعة العبسي، قال: نادى منادي عمار -أو قال: علي- يوم الجمل، وقد ولى الناس:(ألا لا يُذاف على جريح، ولا يقتل مُوَلٍّ، ومن ألقى السلاح فهو آمن، فشق ذلك علينا).

وهذا الأثر عن علي رضي الله عنه له طرق، ومنها: ما رواه سعيد بن منصور (2/ 337) من طريق الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن حسين، أن مروان بن الحكم قال له -وهو أمير المدينة-: ما رأيت أحدًا أحسن غلبة من أبيك علي بن أبي طالب .. وساق الخبر، وفيه: (فصرخ صارخ لعلي لا يقتل مدبر، ولا يذفف على جريح

إلخ). وتذفيف الجريح: الإسراع في قتله

(3)

.

وهذا سند موصول صحيح، وتابع الدراورديَّ حفصُ بن غياث، عن

(1)

"الكامل"(6/ 76 - 78).

(2)

(6/ 2754).

(3)

انظر: "اللسان"(9/ 115) مادة "ذفف".

ص: 345

جعفر، عن أبيه، مرسلًا، رواه ابن أبي شيبة (15/ 280)، كما تابعه ابن جريج

(1)

، قال: أخبرني جعفر عن أبيه .. فذكره، رواه عبد الرزاق (10/ 123 - 124).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يا ابن أم عبد) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه المعروف بذلك.

قوله: (لا يُجهز) بضم الياء مبني لما لم يسم فاعله، وكذا الأفعال التي بعده، يقال: جَهَزْتُ على الجريح، من باب (نفع) وأجهزت عليه إجهازًا: إذا أتممت عليه وأسرعت قتله

(2)

.

قوله: (لا يقسم فيؤهما) أي: لا تغنم أموالهم فتقسم.

° الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على عدد من القواعد التي ينبغي للإمام مراعاتها والالتزام بها في قتال البغاء، وذلك لأن الغرض من قتالهم هو إخماد فتنتهم ودفع شرهم وأذاهم، والحفاظ على وحدة الأمة وعزتها.

وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أنه مؤيد بعمومات وأدلة أخرى، وبعمل الصحابة رضي الله عنه. فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال:(شهدت صفين، فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون موليًا، ولا يسلبون قتيلًا)

(3)

.

وقال الشوكاني: (إن النهي المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه المقال السابق، ولكنه يؤيده أن الأصل في دم المسلم تحريم سفكه، والآية المذكورة {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فيها الإذن بالمقاتلة إلى حصول تلك الغاية، وربما كان ذلك الهرب من مقدماتها إن لم يكن منها)

(4)

.

(1)

"التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل" ص (186).

(2)

"المصباح المنير" ص (113).

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات"(7/ 411)، والحاكم (2/ 155) وعنه البيهقي (8/ 182)، وقال الحاكم:(صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي، وصححه ابن كثير في "الإرشاد"(2/ 289)، والألباني في "الإرواء"(8/ 114).

(4)

"نيل الأوطار"(7/ 193).

ص: 346

ومن هذه القواعد:

1 -

أنه لا يجهز على الجريح منهم؛ لأن شَرْطَ حِلِّ قتالهم كونهم مقاتلين، والجريح تمنعه جراحته عن القتال.

2 -

أنه لا يقتل أسيرهم، فإذا دخل في الطاعة خلي سبيله، وإن أبي ذلك وكان رجلًا جلدًا من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة، فإذا انقضت خلي سبيله، وشرط عليه ألا يعود إلى القتال

(1)

.

3 -

ألا يطلب هاربهم؛ لأن الغرض من قتالهم هو إخماد فتنتهم، وهذا متحقق بتفرقهم، وعلى هذا فلا يطلب الهارب منهم، ولا يتبع مدبرهم، إلا إذا كان له فئة أخرى من أهل البغي، يأوي إليها، فإنه يجوز قتله في هذه الحال؛ لأنه يُخاف من عوده مرة أخرى

(2)

.

والقول بجواز قتله هو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية، ورجحه الشوكاني، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] والهارب والجريح لم يحصل منهما فيئة.

والقول الثاني: أنه لا يجوز قتله؛ لأن القصد دفع البغاة في تلك الحال، وقد وقع، وهذا قول الشافعي ومن وافقه، أخذًا بعموم النهي، وأجابوا عن الآية بأنه لا دليل فيها؛ لأن المراد بالفيئة إلى أمر الله ترك الصولة والاستطالة، وقد حصل ذلك من الهارب والجريح الذي لا يقدر على القتال

(3)

.

4 -

ألا تغنم أموالهم، وذلك لأن قتالهم إنما هو لدفع شرهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم، وعلى هذا فلا يستباح منهم إلا ما اقتضته الضرورة، كدفع الصائل، ويبقى حكم المال وكذا الذرية والنساء على أصل العصمة، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} قال الشافعي:

(1)

"المغني"(12/ 235).

(2)

"الفتاوى"(35/ 52).

(3)

"نيل الأوطار"(7/ 192).

ص: 347

(الآية تدل على أنه إنما أبيح قتالهم في حال، وليس في ذلك إباحة أموالهم ولا شيء منها)

(1)

. وقال ابن قدامة: (فأما غنيمة أموالهم وسبي ذراريهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم اختلافًا)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الأم"(5/ 520).

(2)

"المغني"(12/ 254).

ص: 348

‌حكم من فرق أمر هذه الأمة وهي جميع

1204/ 6 - عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أتاكُمْ وَأَمْرُكُم جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُم فَاقْتُلُوهُ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عَرْفَجَةُ -بفتح العين وسكون الراء- وضبطه بعضهم بضم العين والفاء، وشُريح بالضم، مختلف في اسم والده، فقيل: شريح، وقيل: شراحيل الأشجعي، وقيل: غير ذلك، له صحبة، روى عنه زياد بن عِلاقة، ووقدان أبو يعفور العبدي، وغيرهما، روى له مسلم وأبو داود والنسائي حديثًا واحدًا، وهو حديث الباب

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإمارة"، باب "حكم من خرق أمر المسلمين وهو مجتمع"(1852)(60) من طريق يونس بن أبي يعفور، عن أبيه، عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه".

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (وأمركم جميع) أي: كلمتكم مجتمعة على إمام واحد وأنتم يد واحدة، فالمراد بالأمر: الأمر الذي يعنيهم ويهمهم، وهو أمرهم العام، أمر

(1)

"تهذيب الكمال"(19/ 555)، "الإصابة"(6/ 411).

ص: 349

الولاية، ولهذا أضافه إلى ضمير الجمع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"

(1)

.

قوله: (أن يشق عصاكم) أصل العصا: الاجتماع والائتلاف، وذلك أنها لا تدعى عصا حتى تكون جميعًا، فإذا انشقت لم تدع عصا، ومنه قيل للرجل إذا قام في المكان واطمأن واجتمع إليه أمره: قد ألقى عصاه. وقيل للخوارج: قد شقوا عصا المسلمين؛ أي: فرقوا جماعتهم. فَشَقُّ العصا: تعبير يراد به تفريق الجماعة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على وجوب السمع والطاعة لولي أمر المسلمين ما أمر بالطاعة، وتحريم الخروج عليه، ووجوب العمل على جمع كلمة المسلمين والتحذير من تفريق جماعتهم، وأن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين فإنه يجب قتله مهما كانت منزلته شرفًا ونسبًا، لقوله في بعض الروايات:"فاضربوه بالسيف كائنًا من كان" وهذا يدل على أن تفريق جماعة المسلمين من كبائر الذنوب، لوجوب قتل من أراد ذلك، ولما يترتب على تفريق الكلمة وشق عصا الطاعة من المفاسد العظيمة، قال الصنعاني: (دلت الألفاظ -أي: ألفاظ الحديث- على أن من خرج على إمام قد اجتمعت عليه كلمة المسلمين، المراد: أهل قُطْرٍ

فإنه قد استحق القتل؛ لإدخاله الضرر على العباد)

(2)

.

ومما يدل على عناية الإسلام باجتماع الكلمة واتحاد الصف أن الإسلام يطالب بقتل الحاكم الثاني، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"

(3)

.

إن التعدد في القيادات يعني التفرق والشتات، ووحدة القيادة رمز على وحدة الأمة ومتانة جسدها ووحدة رأيها. والله المستعان.

(1)

رواه البخاري (4425)، وسيأتي شرحه في كتاب "القضاء" إن شاء الله تعالى.

(2)

"سبل السلام"(7/ 99).

(3)

رواه مسلم (1853).

ص: 350

‌باب قتال

(1)

الجاني وقتل المرتد

تقدم أن القتال مصدر قاتله يقاتله قتالا ومقاتلة، ومعناه: حاربه ونازله، وأما القتل: فهو إزهاق الروح بالضرب أو بغيره.

والفرق بين القتل والقتال أنه في القتال إذا كف المقاتل وجب تركه والكف عنه، كما تقدم في قتال أهل البغي، بخلاف القتل، ولهذا فكل من جاز قتله جاز قتاله، وليس كل من جاز قتاله جاز قتله

(2)

.

والجاني: اسم فاعل من جنى جناية؛ أي: أذنب ذنبًا يؤاخذ عليه.

وهي في عرف الفقهاء: التعدي على الأبدان سواء في النفس أو الطَّرَفِ، وقد تقدم هذا في باب "الجنايات".

وأما معناها العام: فهو شامل للتعدي على النفس والطرف والعرض والمال، وهي بهذا المعنى تتناول أحكام الصائل، وهو من سطا عاديًا على غيره يريد نفسه أو عرضه أو ماله، وهذا هو مراد الحافظ بهذا الجزء من هذا الباب، كما سيأتي إن شاء الله.

وأما المرتد فهو في اللغة: الراجع، يقال: ارتد فلان فهو مرتد: إذا رجع، والاسم: الردة

(3)

. وهو لفظ خاص بالكفر، أما الارتداد فيستعمل فيه وفي غيره.

وفي الشرع: الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر.

والردة تحصل بقوله الكفر أو فعله أو اعتقاده، كما تحصل بالشك، كالشك في وجود الله تعالى، أو الشك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(1)

في بعض النسخ: "قتل".

(2)

"الشرح الممتع"(14/ 401).

(3)

"الدر النقي"(3/ 744).

ص: 351

‌ما جاء فيمن قُتِلَ دون ماله

1205/ 1 - عَن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائي وَالترْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أبو داود في كتاب "الأدب"، باب "في قتال اللصوص"(4771)، والترمذي (1419)، والنسائي (7/ 115) من طريق عبد الله بن حسن، قال: حدثني عمي إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.

وهذا لفظ الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: (حديث حسن).

والحديث رواه البخاري (2480)، ومسلم (141) باللفظ نفسه، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على مشروعية الدفاع عن المال، وجواز مقاتلة المعتدي لأخذ المال، وأن من دافع عن ماله وقتل في هذه المدافعة فهو شهيد عند الله تعالى.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟، قال:"فلا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار"

(1)

.

(1)

رواه مسلم (140).

ص: 352

وظاهر العموم أنه لا فرق بين المال القليل والكثير، وهو قول الجمهور، قال عبد الله بن المبارك:(يقاتل عن ماله ولو درهمين)

(1)

.

وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئًا يسيرًا، كالثوب والطعام، قال النووي:(وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير)

(2)

.

وقد ذكر القرطبي أن سبب الخلاف في ذلك هل القتال لدفع المنكر فلا يفرق المال بين القليل والكثير، أو أنه من باب دفع الضرر فتختلف الحال في ذلك

(3)

.

° الوجه الثالث: نص الفقهاء على أن الدفاع عن النفس والأهل والعرض والمال مشروع، وأنه يكون بأسهل ما يغلب على الظن دفعه به، فإن كان يندفع بالتهديد لم يضربه، وإن كان لا يندفع إلا بالضرب ضربه بيده، ثم بعصا، ومتى أمكن الأسهل حرم الأصعب، كضربه بحديدة؛ لعدم الحاجة إليه؛ لأن المقصود دفعه لا إتلافه، فإن فعل فعليه الضمان، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله ولا ضمان عليه.

ويستثنى من المدافعة بالأسهل ما إذا خشي أن يبادره الصائل بالقتل إن لم يعاجله، فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه، ويكون ذلك هدرًا.

° الوجه الرابع: اختلف العلماء فيمن قتل دون ماله أو نفسه أو أهله هل يأخذ حكم الشهيد في أحكام الدنيا؟، على قولين:

الأول: أنه لا يأخذ حكم الشهيد بل يغسل ويكفن ويصلى عليه، وتسميته شهيدًا إنما هو باعتبار الثواب دون أحكام الدنيا، وهذا القول رواية عن أحمد، وهو قول مالك، والشافعي؛ لأن رتبته دون رتبة الشهيد في المعركة، لكن له ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل شهيد المعركة

(4)

.

القول الثاني: أنه يأخذ حكم الشهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه، وهو

(1)

"جامع الترمذي"(3/ 88).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(2/ 524).

(3)

"المفهم"(1/ 353).

(4)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 523).

ص: 353

قول الشعبي والأوزاعي، وإسحاق في الغسل؛ لأنه قتل شهيدًا، فأشبه شهيد المعركة، أخذًا بعموم الحديث

(1)

، والقول الأول أقرب؛ لقوة مأخذه، والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(3/ 475).

ص: 354

‌ما جاء فيمن عَضَّ رَجُلًا فوقعت ثنيته

1206/ 2 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَال: قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاختَصَمَا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال:"أيَعَضُّ أَحَدُكُم أخاه كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لَا دِيَةَ لَهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في كتاب "الديات"، باب "إذا عض رجلًا فوقعت ثناياه"(6892)، ومسلم (1673) من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: قاتل يعلي بن مُنْية أو ابن أمية رجلًا، فعض أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه، فنزع ثنيته، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟، لا دية له".

هذا لفظ مسلم، كما قال الحافظ، مع بعض الاختلاف، وليس عند مسلم لفظة:"أخاه" وإنما هي عند البخاري.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يعلى بن أمية) تقدمت ترجمته في "الحج" عند الحديث (752)، ويقال: يعلى بن مُنْية، بضم الميم وسكون النون بعدها ياء مثناة، وهي أمه، على أحد الأقوال.

قوله: (فعض) من العض وهو القطع بالأسنان، يقال: عَضَّ يَعَضُّ بفتح الياء والعين من المضارع، من باب (تَعِبَ)، وأصل عضَّ: عَضضَ، بكسر الضاد الأولى

(1)

.

(1)

انظر: "المصباح المنير" ص (415).

ص: 355

قوله: (فنزع ثنيته) هكذا بالإفراد، وهو رواية البخاري وأحد ألفاظ مسلم، وعند البخاري ورواية لمسلم:(فوقعت ثنيتاه)، وقد ذكر الحافظ أن التثنية هي رواية الأكثر.

والمعنى: فنزع المعضوضةُ يدُه ثنيةَ العاض وأخرجها من مكانها، لكن لا عمدًا بل لشدة نزعه، والثنية: إحدى الأسنان الأربع في مقدمة الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت.

قوله: (كما يعض الفحل) بفتح الياء والعين، كما تقدم، والفحل: هو الذكر من الإبل وغيرها من الدواب، وهذا التشبيه مقصود به التنفير وتقبيح حال المشبه.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن من عض رجلًا فانتزع المعضوضُ يدَه فنزع ثنية العاض أنه لا شيء عليه، لا قصاص ولا دية؛ لأن العاض معتد صائل على المعضوض، وللمعضوض الدفاع عن نفسه، ولا يترتب على دفاعه عن نفسه ضمان ما يتلف بسبب ذلك؛ لأنه دفاع مشروع مأذون فيه، وما يترتب على المأذون فهو غير مضمون.

وقد قيد حكم هذا الحديث وأمثاله بأن يدافع عن نفسه بالأسهل فالأسهل من وسائل الدفع، وذلك بأن يمكنه تخليص يده بأيسر ما يقدر عليه من فك لحييه أو الضرب في شدقيه ليرسلهما، ونحو ذلك، وظاهر الدليل عدم الاشتراط، لكنهم قالوا: إن هذا القيد مأخوذ من القواعد الكلية العامة في الشرع

(1)

.

° الوجه الرابع: تحريم العض وأنه ليس من شيم بني آدم، وإنما هو من فعل الحيوان، ولهذا شبه عض الآدمي بفعل البهيمة تنفيرًا عن مثل هذا الفعل.

° الوجه الخامس: مشروعية الدفاع عن النفس، وأن الخصومة خصلة ممقوتة، وتزيد بشاعتها إذا كانت بطريقة وحشية. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاعلام"(9/ 120).

ص: 356

‌حكم من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه

1207/ 3 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيكَ بِغَيرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأتَ عَينَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيكَ جُنَاحٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وفي لفظٍ لأَحْمَدَ والنّسَائي، وصَححَهُ ابنُ حِبَّانَ:"فَلَا دِيَةَ لَهُ ولَا قِصَاصَ".

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه البخاري في كتاب "الديات"، باب "من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له"(6902)، ومسلم (2158)(44) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وهذا لفظ البخاري.

ورواه أحمد (14/ 545)، والنسائي (8/ 61)، وابن حبان (13/ 351) من طريق النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اطلع إلى بيت قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فلا دية له ولا قصاص".

وهذا سند صحيح، وإنما أورد الحافظ هذه الرواية لأن فيها زيادة حكم على ما تقدم، وهو نفي الدية والقصاص، ولهذا بوب البخاري على هذا الحديث بنفي الدية -كما تقدم- مع أنه ليس في الخبر الذي ساقه تصريح بذلك، لكنه أشار إلى هذه الزيادة

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 243).

ص: 357

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قال أبو القاسم) هذه كنية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

).

قوله: (اطلع عليك) هذا لفظ عام يتناول كل مطلع كيفما كان، ومن أي جهة كان، سواء أكان من ثقب أم شَقِّ باب، أم نافذة، أو غير ذلك.

قوله: (فحذفته) بالحاء المهملة؛ أي: رميته بالحصاة، وأصل الحذف: الرمي بحصى أو نوى بين السبابتين، أو بين الإبهام والسبابة.

ويروى بالخاء المعجمة، وقد ذكر القرطبي أن هذه هي الرواية الصحيحة وأن من رواه بالحاء فقد أخطأ، فإن الخذف بالخاء يكون بالحجر، وبالمهملة بالعصا

(1)

، وتبعه على ذلك النووي، فذكره بالخاء المعجمة فحسب

(2)

، قال الحافظ:(ولا مانع من استعمال المهملة في ذلك مجازًا)

(3)

.

والتعبير بقوله: "فحذفته بحصاة" إشارة إلى أنه لا يرميه إلا بشيء خفيف كحصاة وبندقة ونحوهما؛ لأن الحذف لا يكون إلا بالشيء الخفيف.

قوله: (ففقأت عينه) بالهمز؛ أي: شققتها فخرج ما فيها، أو أطفأت نورها.

قوله: (جناح) رواية مسلم: "من جناح" والجناح بالضم: هو الإثم، وعند مسلم:"من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه" وهذا نصر في الإباحة والتحليل.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم الاطلاع على أحوال الناس في منازلهم والنظر إليهم، ولهذا ينبغي للمستأذن ألا يقف أمام الباب، بل ينحرف عنه يمينًا أو شمالًا، لئلا يطلع على شيء لا يليق الاطلاع عليه وقت فتح الباب، لحديث هزيل قال: جاء رجل فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا -عنك-

(1)

"المفهم، (5/ 479).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(14/ 386).

(3)

"فتح الباري"(12/ 216).

ص: 358

أو هكذا، فإنما جعل الاستئذان من أجل النظر"

(1)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن من اطلع على بيت غيره بغير إذنه فإنه لا حرمة له ولا لنظره، ولو حذفه صاحب المنزل بحصاة ففقأ عينه لم يكن عليه إثم ولا ضمان لا بقصاص ولا دية؛ لأن هذا دفاع مأذون فيه، والمترتب على المأذون فيه غير مضمون، وظاهر الحديث -كما تقدم- أنه لا يرميه بثقيل أو يرشقه بنُشَّابة، فإن فعل تعلق به القصاص أو الدية، وإنما يرميه بالشيء الخفيف كالمِدْرَى

(2)

والبندق والحصاة، لقوله:"فحذفته"

(3)

. وهذا قول الشافعي وأحمد

(4)

.

وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن عليه القصاص إن فقأ عينه

(5)

، واستدلوا بأن هذا الناظر لو دخل المنزل ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فمجرد النظر أولى.

وأجابوا عن الحديث بأنه ورد على سبيل التغليظ والتخويف والمبالغة في الزجر.

والصواب القول الأول، فإن الحديث نص صريح في الإذن في فقءِ عين الناظر، وما علل به أصحاب القول الثاني مصادم للنص، فلا يلتفت إليه، والقياس على من دخل المنزل قياس مع الفارق، فإن الداخل يُعلم به فيستتر منه، بخلاف الناظر من ثقب الباب ونحوه.

° الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه يجوز رميه قبل نهيه وإنذاره، ويؤيد هذا حديث أنس رضي الله عنه أن رجلًا اطلع في بعض حُجَرِ النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص أو مشاقص وجعل يختله ليطعنه

(6)

.

والقول الثاني: أنه لا بد من نهيه وإنذاره قبل رميه، وكأن هذا القائل نظر إلى قاعدة الدفع بالأسهل فالأسهل. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أبو داود (5174)، وانظر:"فتح الباري"(11/ 24 - 25).

(2)

انظر: "فتح الباري"(10/ 267).

(3)

"الإعلام"(9/ 200).

(4)

"المهذب"(2/ 226)، "المغني"(11/ 539).

(5)

"رد المحتار"(5/ 555)، "الكافي"(2/ 410).

(6)

رواه البخاري (6901)، ومسلم (2157).

ص: 359

‌حكم ما أفسدته الماشية ليلًا

1208/ 4 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب رضي الله عنه قال: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ حِفْظَ الحَوَائِطِ بالنهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَن حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بالليلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفي إسْنَادِهِ اخْتِلَاف.

° الكلام مع عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أحمد (30/ 568)، وأبو داود (3570) في كتاب "البيوع"، باب "المواشي تفسد زرع قوم"(3570)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 334)، وابن حبان (13/ 354 - 355) من طريق الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيِّصة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فكُلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى

الحديث.

وهذا السياق لأبي داود.

وهذا الحديث مداره على الزهري، وفي سنده اختلاف، كما ذكر الحافظ، وهذا الاختلاف في وصله وفي إرساله وفي الزيادة في بعض أسانيده، كما سيتبين.

وقد رواه عن الأوزاعي موصولًا محمد بن مصعب، كما عند أحمد، والفريابي عند أبي داود، والوليد بن مسلم عند النسائي، وأيوب بن سويد عند الشافعي (2/ 118) ومن طريقه الدارقطني (3/ 155)، والبيهقي (8/ 341).

وتابع الأوزاعي على وصله عبدُ الله بن عيسى، عن الزهري، رواه ابن

ص: 360

ماجه (2332)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 334) وقرن النسائي بعبد الله بن عيسى إسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة محتج به في "الصحيحين"، فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله

(1)

.

وروي مرسلًا، فقد رواه مالك (2/ 747) ومن طريقه أحمد (39/ 97) عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة، أن ناقة للبراء

وهذا مرسل صحيح، رجاله ثقات.

قال ابن عبد البر: (هذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو حديث مشهور، أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به

)

(2)

.

وتابع مالكًا الليث، عن الزهري، عن ابن محيصة الأنصاري -لم يسمه- أن ناقة للبراء

رواه ابن ماجه (2332).

وتابعهما سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وحرام بن سعيد بن محيصة، أن ناقة للبراء

فتابع سعيد حرامًا عليه. رواه أحمد (39/ 101)، والبيهقي (8/ 342).

قال الطحاوي: (وإن كان الأوزاعي قد وصله فإن مالكًا والأثبات من أصحاب الزهري قد قطعوه)

(3)

، وهو بهذا يرجح الإرسال، ولا شك أن الإرسال أرجح، فقد رواه بذلك أكثر من عشرة أنفس

(4)

.

ورواه عبد الرزاق (18437) ومن طريقه أبو داود (3569) عن معمر، عن الزهري، فقال فيه: عن حرام بن محيصة، عن أبيه، أن ناقة للبراء

فزاد: عن أبيه.

قال أبو داود: لم يُتَابَعْ عبد الرزاق، وقال محمد بن يحيى الذهلي: لم

(1)

انظر: "الصحيحة"(238).

(2)

"التمهيد"(11/ 82).

(3)

"شرح معاني الآثار"(3/ 204).

(4)

انظر: "السنن" للدارقطني (3/ 155 - 156).

ص: 361

يتابع معمر على ذلك. فجعل الخطأ من معمر. فعليه فهي زيادة شاذة.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه يجب على أهل الحوائط، وهي البساتين والمزارع حفظ بساتينهم في النهار؛ لأنهم منتشرون فيها، يحرثون ويزرعون ويجنون، وأما المواشي فهذا أوان رعيها التي جرت عادتها أن ترعى فيه.

وأما في الليل فأصحاب البساتين ينامون ويرتاحون من الكد والتعب في النهار، والغالب أن البساتين مشرعة ليس عليها حائط، والليل ليس وقت رعي، فيلزم أصحاب المواشي حفظها بالليل؛ لئلا تفسد على الناس مزارعهم وهم نائمون.

فإذا حصل إفساد في النهار فلا ضمان على أهلها؛ لأن التفريط من أهل البستان، إلا إذا رعى ماشيته في النهار قرب مزرعة، والمزرعة ليس عليها سور أو نحوه، فعليه الضمان؛ لأن البهيمة في مثل هذا تذهب وتأكل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"

(1)

.

وإن حصل منها إفساد في الليل فعلى صاحبها ضمان ما أفسدته إذا كان مفرطًا في حفظها، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد

(2)

، لهذا الحديث، أما إذا لم يفرط بأن حفظها برباط أو شَبْكٍ أو سور، ثم انطلقت مع تمام الحفظ فلا ضمان على صاحبها؛ لأنه لم يفرط.

وقد استدل الفقهاء -أيضًا- على حكم الضمان بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] والنفش: الرعي ليلًا، وقد روى المفسرون أن سليمان عليه السلام حكم في هذه القضية أن يُدفع الحرث لصاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيصيب منها، والآية تشهد لهم -على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ-.

(1)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

"بداية المجتهد"(4/ 149 - 151)، "المهذب"(2/ 290)، "المغني"(12/ 541).

ص: 362

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ضمان على أرباب البهائم فيما أتلفت لا في الليل ولا في النهار، إلا أن يكون صاحبها راكبًا، أو قائدًا، أو سائقًا، أو مرسلًا

(1)

.

واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "العجماء جرحها جبار"

(2)

؛ أي: هدر، والمعنى: أن جناية البهيمة هدر غير مضمون.

والراجح القول الأول، لقوة مأخذه، ويؤيده العمومات الموجبة لحفظ الأموال، ومنها:"لا ضرر ولا ضرار"

(3)

، وأما حديث "العجماء جرحها جبار" فهو عام مخصوص بحديث البراء السابق، والخاص مقدم على العام

(4)

.

وأما البهائم التي يهملها أصحابها فتتعرض للناس في طرقهم ويحصل بسببها الوفيات الجماعية وإزهاق النفوس البريئة، فلا شك أنهم ظالمون معتدون آثمون، ولا ريب أنها هدر، أما ما يحدث من جرائها وتضمين صاحبها فهذا يرجع فيه إلى القاضي وما يراه بناء على التقارير بشأن ما يحصل. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح معاني الآثار"(3/ 203)، "بدائع الصنائع"(7/ 168).

(2)

رواه البخاري (1499)(6912)، ومسلم (1710).

(3)

تقدم تخريجه في باب "إحياء الموات".

(4)

"التمهيد"(11/ 86).

ص: 363

‌ما جاء في قتل المرتد واستتابته

1209/ 5 - عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه في رَجُلٍ أَسْلَمَ ثمّ تَهَوَّدَ: لَا أَجْلِسُ حَتى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وفِي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: وَكَانَ قَدِ اسْتُتِيبَ قَبْلَ ذلِكَ.

1210/ 6 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث معاذ رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب "استتابة المرتدين"، باب، حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم"، ومسلم (3/ 1456) من طريق قرة بن خالد، حدثني حميد بن هلال، حدَّثنا أَبو بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: أقبلت إلى رسول الله على ومعي رجلان

وساق الحديث، وفيه: بَعْثُ أبي موسى رضي الله عنه إلى اليمن، ثم معاذ رضي الله عنه بعده، وفيه: فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، فإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فاسلم، ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتَّى يقتل، قضاءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث مرات)، فأمر به فقتل

الحديث.

ورواه أَبو داود (4355) من طريق طلحة بن يحيى، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدم عليَّ معاذ وأنا باليمن، ورجل كان يهوديًّا فاسلم فارتد عن الإسلام، فلما قدم معاذ، قال: لا أنزل

ص: 364

عن دابتي حتَّى يقتل فقتل، قال أحدهما

(1)

: وكان قد استتيب قبل ذلك.

وأما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في الباب المذكور (6922) من طريق حمَّاد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: أُتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذابي" ولقتلتهم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (من بدل دينه) صيغة عموم تشمل الذكر والأنثى، وتبديل الدين هو الردة، والمراد بالدين: الدين الإسلامي؛ لأنه هو الدين الحق، والمعنى: من بدل دينه الإسلامي بغيره من الأديان، والردة تحصل بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالترك، كان يعتقد ما يقتضي الكفر، كأن ينكر وجود الله تعالى، أو وحدانيته، أو يكره ما أنزل الله، أو بالفعل كالسجود للصنم، أو بالقول كالاستهزاء؛ بالله تعالى أو برسوله، أو القدح بشيء من أحكام الشريعة ولو تعريضًا، وهذا أمر عظيم وقع فيه فئام من الناس، والترك كترك الصلاة أو ترك الحكم بما أنزل الله رغبة عنه.

قوله: (فاقتلوه) هذا أمر يراد به الوجوب ولا صارف له.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب قتل المرتد إذا ثبتت جريمة الردة عليه، وهو مسلم بالغ عاقل مختار عالم بالتحريم.

ويؤيد حديث الباب ما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئ مسلم

فذكر: التارك لدينه المفارق للجماعة" على أن المراد به المرتد، أما إن فُسِّرَ بالمحارب قاطعِ الطَّرِيق فلا شاهد فيه على ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

.

(1)

أي: طلحة بن يحيى وبريد بن عبد الله.

(2)

"الصارم المسلول" ص (319 - 320).

ص: 365

وقد دل على هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، كما في حديث معاذ رضي الله عنه، وقد نقل ابن قدامة وغيره إجماع أهل العلم على وجوب قتل الرجل المرتد، وقال:(روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عبَّاس وخالد وغيرهم رضي الله عنهم، ولم ينكر ذلك، فكان إجماعًا)

(1)

؛ ولأن ردة الشخص تضر المسلمين وتسبب ردة غيره وتساهله، وقتله حسم لباب الشر وردع لغيره من أن يعمل عمله.

• الوجه الرابع: استدل الجمهور من الحنابلة والمالكية والشَّافعية بحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما على أن المرأة المرتدة تقتل كالرجل، لعموم:"من بدل دينه"

(2)

.

وذهبت الحنفية إلى أن المرأة المرتدة لا تقتل، ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام

(3)

، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فانكر قتل النساء والصبيان

(4)

؛ ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالطارئ، كالصبي.

والراجح القول الأول؛ لقوة دليله؛ ولأن المرأة شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فهو محمول على الكافرة الأصلية لا المرتدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة، وكانت كافرة أصلية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء، ولم يكن فيهم مرتد

(5)

. فيكون حديث الباب خاصًّا؛ فيقدم على غيره من العمومات.

(1)

"المغني"(12/ 264).

(2)

"المهذب"(2/ 223)، "بداية المجتهد"(4/ 426)، "الكافي"(3/ 257).

(3)

"بدائع الصنائع"(7/ 135).

(4)

رواه البخاري (3014)، ومسلم (1774) وسيأتي شرحه إن شاء الله في كتاب "الجهاد".

(5)

روى القصة عبد الرزاق (5/ 202)، وسعيد بن منصور (2/ 239)، وابن أبي شيبة (12/ 381)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 78).

ص: 366

• الوجه الخامس: استدل بحديث معاذ وابن عبَّاس رضي الله عنهما من قال: إن استتابة المرتد غير واجبة، بل هي مستحبة، وهذا قول الحنفية، وقول عند الشَّافعية والحنابلة

(1)

؛ لأنه على أمر بقتل المرتد ولم يأمر باستتابته، ولو كانت واجبة لأمر بها، وكذا حديث معاذ رضي الله عنه.

والقول الثاني: أنَّها تجب استتابة المرتد قبل قتله، وبه قال مالك، وهو المشهور في مذهب الشَّافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق

(2)

. واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن ينتهوا غَفَرَ لهم ما سلف، وهذا معنى الاستتابة، والمرتد من الذين كفروا، والأمر للوجوب.

كما استدلوا بحديث جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام، فإن رجعت وإلَّا قتلت

(3)

؛ ولأن الردة إنما تكون عن شبهة، وهي لا تزول في الحال؛ ولأنه أمكن إصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه.

والأظهر أنَّه يجوز قتله في الحال، لظاهر الحديث، لكن إن رأى الإِمام المصلحة في تأجيله واستتابته فله ذلك، وعليه يحمل ما ورد من الآثار، وتتحقق توبته بإتيانه بالشهادتين وإقراره بما جحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين أنَّه تقبل توبة المرتد في الجملة)

(4)

.

وأما الآية فهي في الكافر الأصلي، وأما حديث جاب رضي الله عنه فهو ضعيف، فيه معمر بن بكار السعدي، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا

(1)

"الإشراف"(2/ 238)، "شرح ابن بطَّال"(8/ 571)، "المهذب"(2/ 284)، "المغني"(12/ 266).

(2)

المصادر السابقة.

(3)

رواه الدَّارَقُطني (3/ 118 - 118)، وعنه البيهقي (8/ 203).

(4)

"الصارم المسلول" ص (313).

ص: 367

تعديلًا

(1)

، وقال العقيلي:(في حديثه وهم، ولا يتابع على أكثره)

(2)

، وقال الذهبي:(صويلح)

(3)

.

• الوجه السادس: في هذا الحديث منقبة عظيمة لمعاذ رضي الله عنه وهي غيرته على الإسلام وقوته في أمر الله تعالى، وحرصه على تنفيذ حدود الله تعالى، فإنه لما عرف الحقيقة أَبى أن ينزل عن دابته حتَّى ينفذ حكم الله تعالى في هذا المرتد، فدل ذلك على أنَّه ينبغي للمؤمن ولولاة الأمور المبادرة إلى أوامر الله تعالى ورسوله، والمسارعة إلى تنفيذ حدوده، والحرص على عدم تأخيرها لأسباب لا وجه لها، ولعل أبا موسى أَخَّرَهُ لأنه كان يرجو إسلامه. والله تعالى أعلم.

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 259).

(2)

"الضعفاء"(4/ 207).

(3)

"الميزان"(4/ 153).

ص: 368

‌وجوب قتل من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم

-

1211/ 7 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَعْمى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ نَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيلَةٍ أَخَذَ الْمِغْوَلَ، فَجَعَلَهُ في بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيهَا فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال:"ألَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد أخرجه أَبو داود في كتاب "الحدود"، باب "الحكم فيمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، (4361)، والنَّسائي (7/ 107 - 108) من طريق إسماعيل بن جعفر، قال: حدثني إسرائيل، عن عثمان الشحام، عن عكرمة، قال: حدَّثنا ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد

وذكر الحديث بطوله، وقد ساق منه الحافظ القدر المقصود.

وهذا حديث صحيح، قال ابن عبد الهادي:(في إسناده عثمان الشحام احتج به مسلم، وعكرمة إمام، واحتج به البخاري، وباقي الإسناد مخرج لهم في الصحيح)

(1)

.

وقد احتج الإِمام أحمد بهذا الحديث على قتل الذِّمِّيُّ إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (له أم ولد) أي: له جارية يطؤها، وله منها ولد، والظاهر أنَّها غير مسلمة، بدليل أنَّها كانت تجترئ على يسب النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

"التنقيح"(3/ 367).

(2)

"الصارم المسلول" ص (68).

ص: 369

قوله: (تشتم النبي صلى الله عليه وسلم) الشتم: هو السب، والمراد هنا: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعيب والنقص، والاعتراض على شريعته، يقال: شتمه يشتمه، من باب (ضرب وقتل).

قوله: (وتقع فيه) يقال: وقع فيه: إذا عابه وذمه.

قوله: (فلما كان ذات ليلة) يجوز رفع ذات على أنَّها فاعل لـ (كان)، ويجوز النصب على أنَّها خبر، واسمها مقدر؛ أي: فلما كان الوقت أو الزمان، ويجوز نصبه على الظرفية؛ أي: كان الأمر في ذات ليلة. وذات ليلة: قيل معناه: ساعة من ليلة، وقيل معناه: ليلة من الليالي، وذات مقحمة.

قوله: (المغول) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة، على وزن منبر، قال في "القاموس":(حديدة تجعل في السوط فيكون لها غلافًا)

(1)

، وقال الخطابي:(شِبْهُ المِشْمِلِ، ونَصْلُهُ دقيق ماضٍ)

(2)

، والمشمل: السيف القصير، سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل؛ أي: يغطيه بثوبه، واشتقاق المغول من غاله الشيء واغتاله: إذا أخذه من حيث لم يدر

(3)

.

وضبطه الصنعاني بكسر الميم وسكون العين المهملة،

(4)

وهو في "السنن" بالغين المعجمة، كما تقدم.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وأن دمه هدر، فإن كان الساب مسلمًا كان ذلك ردة، فيقتل بإجماع أهل العلم، على ما تقدم في حكم المرتد، وإن كان من أهل العهد فيقتل على خلاف بين أهل العلم في استتابته، وينتقض عهده بذلك.

وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا فإنه يجب قتله، وممن حكى الإجماع إسحاق بن راهويه، ثم شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

، وآخرون.

ويؤيد ذلك أن مفسدة السبِّ لا تزول إلَّا بالقتل؛ لأن السابَّ متى

(1)

"ترتيب القاموس"(3/ 430).

(2)

"معالم السنن"(6/ 199).

(3)

"الصارم المسلول" ص (68).

(4)

"سبل السلام" ص (3/ 516).

(5)

"الصارم المسلول" ص (3 - 4).

ص: 370

استبقي طمع هو وغيره في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطَّرِيق سواء، بخلاف المرأة المقاتلة فإنها إذا أُسرت زالت مفسدة مقاتلتها

(1)

.

ولأن سب الرسول صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق، فهو سب لمن أرسله، وفيه منافاة لحق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أوجب الحقوق البشرية، فإن حقه التعظيم والإجلال والتوقير، قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8، 9]، كما أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه تنقص لشريعته، وقدح في الدين، فصار سب الرسول صلى الله عليه وسلم متضمنًا ثلاثة أمور كلها كفر: سَبَّ الله، وسَبَّ الرسول، وسَبَّ شريعته

(2)

. وقد تعلق بهذا الأمر ثلاثة حقوق:

1 -

حق الله: حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وطعن في كتابه ودينه وألوهيته، فَسَبُّ الرسول سَبٌّ لمن أرسله.

2 -

حق الرسول: لأن حقه التعظيم.

3 -

حق المؤمنين: الذين آمنوا به، وما قام أمر دينهم وآخرتهم إلَّا به.

• الوجه الرابع: الجمهور من أهل العلم على قبول توبة الساب إذا علمنا صدق توبته بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومدافعته عن شريعته، لعموم:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، لكن وقع الخلاف في سقوط القتل عنه، فمنهم من قال: يسقط عنه القتل؛ لأن قتله لردته، فإذا تاب زال عنه سبب القتل، وهؤلاء لا يفرقون بين سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرون الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة.

والقول الثاني: أنَّه يقتل، لحق النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يسقط بالتوبة، كسائر حقوق الآدميين، فإذا قتل عومل معاملة المسلمين.

ولو قيل إن هذا يرجع إلى رأي الإِمام حسب المصلحة لكان له وجاهة

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الصارم المسلول" ص (285).

(2)

"الشرح الممتع"(14/ 423).

(3)

"الصارم المسلول" ص (510)، "الشرح الممتع"(14/ 458 - 459).

ص: 371

‌كتاب الحدود

‌باب حدَّ الزاني

الحدود في اللغة: مفردها حد، وهو بمعنى المنع، وهو على كثرة إطلاقاته وسعة مدلولاته لا يخرج عن هذا المعنى.

وسميت هذه العقوبات الشرعية حدودًا لعلة المنع، لكن مورد المنع إما لأنها تمنع عن المعاودة، أو لأنها زواجر عن محارم الله، أو لأنها مقدرة من الشارع تُمنع الزِّيادة فيها والنقصان.

وأما الحد شرعًا: فتكاد تتفق عبارات الفقهاء على تعريفه، وهو: عقوبة بدنية مقدرة شرعًا لأجل حق الله تعالى.

وقولنا: (عقوبة) جنس في التعريف يشمل المقدرة وغير المقدرة، البدنية وغيرها.

وقولنا: (بدنية) قيد أول يخرج العقوبة المالية، كجزاء الصيد.

وقولنا: (مقدرة) قيد ثانٍ يخرج التعزير؛ لأنه غير مقدر، كما سيأتي.

وقولنا: (شرعًا) قيد ثالث يفيد بأنها توقيفية من الشارع، فخرج العقوبات المقدرة في القوانين الوضعية فلا تسمى حدودًا.

وقولنا: (لأجل حق الله تعالى) قيد رابع يخرج ما كان حقًّا للعبد، وهو القصاص في النفس أو الطرف، وهذا باعتبار الأغلب؛ لأن القصاص وإن كان فيه حق لله تعالى إلَّا أنَّه غلب فيه جانب حق الآدمي، ولهذا إذا عفا الأولياء سقط، بخلاف الحد فلا يجوز العفو عنه، كما سيأتي.

واعلم أن إطلاق الحدود على العقوبات المقدرة اصطلاح جرى عليه

ص: 373

الفقهاء، ولعلهم قصدوا بذلك أن تتميز العقوبات المقدرة عن غيرها، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم أن هذا اصطلاح حادث، وأن الحد في لسان الشرع أعم وأشمل، فهو يشمل العقوبة المقدرة وغير المقدرة، كما يشمل نفس الجناية، وهي المعصية، كقوله تعالى: " {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]

(1)

.

والحكمة من مشروعية الحدود: أنَّها جوابر وزواجر، فهي كفارة لمن أقيمت عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر شيء من الجرائم الحدية:"ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له"

(2)

، وهي زواجر للفاعل عن المعاودة، ولغيره من أن يفعل فعله، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} ، وقال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، فالحدود تردع العصاة، وتمنع من انتشار الفساد وشيوع الجرائم، وتحقق الأمن في البلاد، وفيها حفظ الأنساب والأعراض والعقول والأموال.

وقوله: (باب حد الزاني) في بعض النسخ: (حد الزنا) وهو يوافق حد القذف وحد السرقة، والأول يوافق باب (حد الشارب

).

والزنا: اسم مقصور على لغة الحجاز، وهي لغة القرآن، قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، وهو مصدر زنى يَزْنِي زنًا فهو زانٍ، والجمع زناة، مثل: قضى يقضي قضاءً فهو قاضٍ وهم قضاة، ويجوز فيه المد على لغة نجد، وقيل: لبني تميم منهم خاصة.

والأصل أن تكتب الكلمة بالألف المقصورة؛ لأنه يائي اللام، وعليه الرسم في القرآن، ويجوز كتابتها بالألف الممدودة (الزنا).

وعند الفقهاء: أن يجامع الرجل من لا يحل له جماعها في فرجها.

(1)

"الفتاوى"(28/ 347 - 348)، "إعلام الموقعين"(3/ 242).

(2)

رواه البخاري (18)، ومسلم (1709)

ص: 374

ولا خلاف بين الفقهاء أن الجماع في الفرج زنا، وإنَّما الخلاف فيما لو وطئها في الدبر، فالجمهور من المالكية والشَّافعية والحنابلة أنَّه زنا، فيعاقب الواطئ في الدبر بعقوبة الزنا، قال الموفق:(والوطء في الدبر مثله -أي: مثل الوطء في القبل- في كونه زنا؛ لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك فيها ولا شبهة، فكان زنا كالوطء في القبل)

(1)

. وعلى هذا فيكون تعريفه: أن يجامع الرجل من لا يحل له جماعها في قبلها أو دبرها.

وعند الحنفية أن الوطء في الدبر كاللواط لا حد فيه، بل فيه التعزير

(2)

.

(1)

"المغني"(12/ 340).

(2)

"فتح القدير"(5/ 262)، "روضة الطالبين"(10/ 91)، "حاشية الخرشي"(8/ 289).

ص: 375

‌ما جاء في حد الزاني

1212/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه وَزَيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَني رضي الله عنهما؛ أَن رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتى رَسُولَ اللهِ على فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْشُدُكَ باللهِ إِلا قَضَيتَ لي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالى، فَقَال الآخَرُ - وَهُوَ أفقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ، فَاقْضِ بَينَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأذَنْ لي، فَقَال:"قُلْ"، قَال: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيتُ مِنْهُ بِمائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُوني أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هذَا الرَّجْمَ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأقْضِينَّ بَينَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَهذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع كثيرة من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الوكالة"، كما تقدم في "البيوع"، ومنها: في "الحدود"، باب "الاعتراف بالزنا"(6827، 6828)، ومسلم (1697 - 1698) من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلًا من الأعراب

الحديث، واللفظ لمسلم، كما قال الحافظ.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من الأعراب) هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه، والأعرابي:

ص: 376

نسبة إلى الجمع؛ لأنه جرى مجرى القبيلة، وهم من سكن البادية من العرب، ويجمع على أعاريب، والعرب: خلاف العجم، وهم سكان الأمصار، أو هو عام فيمن سكن البادية والأمصار.

قوله: (أنشدك بالله) هكذا بإثبات حرف الجر في المخطوطة وبعض نسخ "البلوغ"، وليس مثبتًا في "صحيح مسلم" مع أن اللفظ له، ولا في نسخ الشرح. و (أنشدك) بفتح الهمزة، وسكون النون، وضم الشين، من قولهم: نشده: إذا سأله رافعًا نشيدته؛ أي: صوته، هذا أصله، ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد ولو لم يكن هناك رفع صوت، وضمن معنى أنشدك: أُذَكِّرُكَ، ولهذا حذف حرف الجر.

قوله: (إلَّا قضيت لي) هذا استثناء مفرغ، والفعل مؤول بالمصدر المتصيد، والتقدير: لا أنشدك إلَّا القضاء بكتاب الله، وقيل: المعنى: أسألك بالله لا تفعل شيئًا إلَّا القضاء، فالتاكيد إنما وقع لعدم التشاغل بغيره، لا لأن لقوله:(بكتاب الله) مفهومًا.

والقضاء: هو الفصل في الخصومات.

قوله: (بكتاب الله) أي: حكم الله وشرعه، وهو يشمل ما أنزل الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جاء في الحديث ذكر التغريب، ولرواية:"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بالحق".

قوله: (فقال الآخر) هو والد الزاني، والأعرابي هو زوج المرأة المزني بها.

قوله: (وهو أفقه منه) وجه ذلك أنَّه استأذن، وأنه قال: فاقض بيننا، وذاك قال: إلَّا قضيت لي؛ ولأنه سأل أهل العلم.

قوله: (إن ابني) في رواية للبخاري في الباب المذكور: (إن ابني هذا) وهو يدل على حضوره، قال الحافظ:(خلا معظم الروايات عن هذه الإشارة)

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(12/ 139).

ص: 377

قوله: (عسيفًا على هذا) العسيف: هو الأجير وزنًا ومعنى، والجمع عُسفاء، كأجراء، وقد جاء هذا التفسير مدرجًا في بعض روايات البخاري، وفي حديث عمرو بن شعيب عند النَّسائي:(كان ابني أجيرًا لامرأة هذا)

(1)

، سمي بذلك من العسف، وهو الجور؛ لأن المستأجر يعسفه على العمل، و (على) بمعنى عند، والظاهر أن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور، فكان ذلك سببًا لما وقع له منها، والإشارة إلى الرجل الأول، وهو زوج المرأة.

قوله: (فأخبرت) بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله؛ وكأن المخبر ظن أن ذلك حق له، له أن يعفو عنه على مال يأخذه.

قوله: (فافتديت منه) الفداء -بكسر الفاء-: ما يقوم مقام الشيء دفعًا للمكروه.

قوله: (ووليدة) الوليدة: فعيلة بمعنى مفعولة، قال الجوهري:(هي الصبية والأمة، والجمع ولائد)

(2)

.

قوله: (وتغريب عام) التغريب: مصدر غَرَّبَ، وهو النفي عن البلد الذي وقعت فيه الفاحشة، يقال: غَرُبَ الرجل: بَعُدَ، وغَرَّبته: أبعدته.

قوله: (رد عليك) أي: مردود عليك، من إطلاق لفظ المصدر على اسم المفعول، كقولهم: ثوب نسج؛ أي: منسوج.

قوله: (وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) هذا حد الزاني غير المحصن، وقد يستدل على أنَّه بكر لم يحصن برواية النَّسائي:(كان أجيرًا لامرأة هذا، وابني لم يحصن)

(3)

، ووجب عليه الحد؛ لوجود قرينة تدل على اعترافه، وهي حضوره مع أبيه، كما في رواية:(ابني هذا)، وسكوته عما نسب إليه، أو أنَّه اعترف، ثم إن قوله:(رد عليك) يشعر بأنه قُبِضَ العوض، ولا مقابل له إلَّا الافتداء عن الرجم.

(1)

"السنن الكبرى"(6/ 429).

(2)

"الصحاح"(2/ 554).

(3)

"السنن الكبرى"(6/ 429)، وقد يُطعن في هذه الرواية لكونها في غير "الصحيحين".

ص: 378

قوله: (واغد يا أنيس) أي: انطلق، وأصل الغدو الذهاب ما بين صلاة الصبح وطلوع الفجر، ثم كثر حتَّى استعمل في الذهاب والانطلاق في أي وقت كان، ومنه هذا الحديث، ويؤيد ذلك رواية:"قم يا أُنيس فسل امرأة هذا"

(1)

.

وأنيس: هو ابن الضحاك الأسلمي، لرواية: (ثم قال لرجل من أسلم - يقال له: أنيس -: "قم يا أنيس".

قوله: (فإن اعترفت فارجمها) هذا مراد به إعلام المرأة بأن هذا الرجل قد قذفها بابنه، فَيُعَرِّفُها بأن لها عنده حد القذف، فتطالب به أو تعفو عنه، بناء على أن القذف حق للمقذوف، إلَّا أن تعترف بالزنا، فيجب عليها الحد، فاعترفت فرجمت، كما في بعض الروايات، هذا ما ذكره الشراح، وفيه نظر، والظاهر أن المسألة قد اشتهرت، فَطُلِبَ اعتراف المرأة، ولا مجال للقول بالستر هنا، وجاء في رواية للبخاري:(فاعترفت فرجمها)

(2)

، وعند مسلم:(فغدا عليها فاعترفت)

(3)

.

• الوجه الثالث: في هذا الحديث فوائد كثيرة أذكر أهمها، ومن ذلك أن الحديث فيه دليل على جفاء بعض الأعراب لبعدهم عن مواطن العلم والأدب، حيث ناشد الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحكم له إلَّا بكتاب الله تعالى.

• الوجه الرابع: فيه دليل على حسن خلقه حيث لم يوبخ هذا الأعرابي ولم يعنفه على سوء أدبه.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن حد الزاني الذي لم يحصن جلد مائة اتفاقًا، وتغريب عام للحر الذكر، وهو قول المالكية، والرواية المعتمدة في مذهب الحنابلة، وقول للشافعية

(4)

، وسيأتي الخلاف في ذلك.

وأما حد الزاني المحصن فهو الرجم بإجماع من يعتد بإجماعه، كما سيأتي أيضًا.

(1)

"فتح الباري"(12/ 140).

(2)

"صحيح البخاري"(6859).

(3)

"صحيح مسلم"(1697)(25).

(4)

"بداية المجتهد"(4/ 379)، "المهذب"(2/ 242)، "المغني"(12/ 324).

ص: 379

• الوجه السادس: هذا الحديث من أدلة القائلين بعدم الجلد قبل الرجم في حق المحصن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى لم يذكره في وقت التعليم واستيفاء الحكم، والمخالف يقول: إن عدم ذكر الجلد لا دليل فيه على نفيه؛ لأن الترك لا عموم له، كما أن الفعل لا عموم له.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على أنَّه لا يجوز العفو عن عقوبة الزنا؛ لأنها عقوبة حدية لحق الله تعالى، فلا يملك العبد إسقاطه، سواء أكان المسقط له هو الإِمام، أم المجني عليه، أم المتضرر من جريمة الزنا.

• الوجه الثامن: في الحديث دليل على أن للعالم أن يفتي في مِصْبر فيه من هو أعلم منه إذا أفتى بعلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله: "ثم سألت أهل العلم.

• الوجه التاسع: الحديث فيه دليل على أن من أقدم على محرم جهلًا أنَّه لا يؤدب بل يعلم؛ لأن والد الزاني افتدى الحد من ابنه بمائة شاة ووليدة ظانًّا جواز ذلك، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى، ورَدَّ العوض.

• الوجه العاشر: في الحديث دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود، لقوله: "واغْدُ يا أنيس

"، وقد بوب البخاري في كتاب "الوكالة" على ذلك، وساق هذا القدر من الحديث، وأشار إلى شيء من ذلك في آخر كتاب "الحدود"، وقد تقدم أن الحافظ أورد هذا القدر في باب "الوكالة" من كتاب "البيوع". والله تعالى أعلم.

ص: 380

‌ما جاء في الجمع بين الجلد والرجم

1213/ 2 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الحدود"، باب "حد الزنى" من طريق هُشَيْم، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (خذوا عني) أي: تلقوا عني حكم حد الزنا.

قوله: (خذوا عني) توكيد لفظي، وتكرير اللفظ يدل على ظهور أمر كان قد خفي شأنه واهتم به.

قوله: (فقد جعل الله لهن سبيلًا) الضمير يعود على النساء الزواني، وسبيلًا: أي: خلاصًا عن إمساكهن في البيوت بحد واضح في حق المحصن وغيره، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما ذكر في هذا الحديث من الحد هو بيان لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15].

قوله: (البكر بالبكر) البكر: مبتدأ وما بعده متعلق بمحذوف حال؛ أي:

ص: 381

البكَر يَزْنِي بالبكر، و (جلد مائة) مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: عليهما جلد مائة، والجملة خبر لقوله:(البكر)، والبكر في الأصل: الشاب الذي لم ينكح، والشابة التي لم تُنكح، والمراد هنا: من لم يجامع في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل.

وقوله: (بالبكر) خرج مخرج الغالب، فليس على سبيل الاشتراط؛ لأنه يجب الجلد على البكر سواء زنى ببكر مثله أو ثيب، كما تقدم في قصة العسيف.

قوله: (والثيب بالثيب) الثيب: من تزوج من الرجال والنساء، قال أهل اللغة: الثيب يقع على الرجل والمرأة، وبه جاء هذا الحديث، والمراد هنا: من جامع في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل. وقوله: (بالثيب) خرج مخرج الغالب على ما تقدم.

قوله: (نفي سنة) النفي هو الإبعاد عن الوطن، والمراد به نفي الزاني عن البلد الذي وقعت فيه الجناية.

• الوجه الثالث: الظاهر من سياق هذا الحديث أن آية سورة النساء جاءت لبيان العقوبة في أول الإسلام، وهي الحبس، فإن قوله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} يشعر بأن هذا الحكم نزل لوقت محدد، وأن الله تعالى سيبدله بحكم آخر، ثم جاء تغييره بما دل عليه حديث عبادة رضي الله عنه من ثبوت الحد.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن حد الزاني البكر من ذكر أو أنثى أن يجلد مائة ويغرب عامًا، أما الجلد فهو مجمع عليه كما تقدم، وأما التغريب فالقول به في حق الحر الذكر هو قول الجمهور

(1)

-كما تقدم-؛ لحديث عبادة هذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جمع الجلد مع التغريب وعطف أحدهما على الآخر، والجلد عقوبة حدية باتفاق، فيكون التغريب عقوبة حدية؛ لأن العطف يقتضي التشريك، كما استدلوا بحديث العسيف المتقدم.

(1)

"بداية المجتهد"(4/ 379)، "المهذب"(2/ 242)، "المغني"(12/ 324).

ص: 382

والقول الثاني: أن البكر لا يغرب إلَّا أن يراه الإِمام، وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عند الحنابلة

(1)

، واستدلوا بقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، والآية لم تذكر التغريب، فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله، والزِّيادة على كتاب الله نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد كهذا الحديث، فتبقى دلالة الآية، ويرد ما عداها.

والصواب القول الأول، لقوة أدلته ووضوح مأخذه، وما قالته الحنفية غير مسلم، فإن الزِّيادة على النص لا تكون ناسخة؛ لأن النسخ إبطال ورفع الحكم، ونحن لم نقل بإبطال الجلد، بل نقول بإيجابه وزيادة التغريب عليه بدلالة السنة.

• الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث فقهاء الشَّافعية والحنابلة على وجوب تغريب المرأة كالرجل، لقوله:"البكر بالبكر".

وقالت المالكية والأوزاعي: إن المرأة لا تغرب

(2)

؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في نهي المرأة عن السفر إلَّا مع محرم أو زوج، ويكون عموم حديث الباب مخصوصًا بأحاديث النهي عن سفر المرأة بدون محرم.

وهذا قول قوي؛ لأن تغريبها بدون محرم تعريض لها للفتنة وتضييع لها، وتغريبها مع محرمها يفضي إلى تغريب من لا ذنب له، وإن كلفت دفع أجرة له فقد كلفت بشيء زائد على عقوبتها المنصوصة بالشرع، لكن إن وجد محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب فإنها تغرب عملًا بأدلة التغريب، وإن لم يوجد فلا تغرب، لما تقدم، قال الموفق:(وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها)

(3)

، وعلى هذا فيسقط عنها التغريب، وقد ذكر الشنقيطي قاعدة وهي: أن النص الدال على النهي يقدم على الدال على الأمر على الأصح؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

(4)

.

(1)

"بدائع الصنائع"(7/ 39)، "الإنصاف"(10/ 34).

(2)

"بداية المجتهد"(4/ 379)، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 359).

(3)

"المغني"(12/ 324).

(4)

"أضواء البيان"(6/ 66).

ص: 383

ويرى بعض أهل العلم أنَّها تحبس، والحبس يقوم مقام التغريب في إبعادها عن الناس وقطع الصلة بها

(1)

.

• الوجه السادس: لم يرد في الحديث ذكر مسافة التغريب، ولذا قال الفقهاء: إن أقلها مسافة قصر، لتحصل الغربة؛ ولأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر، والذي يظهر جواز التغريب إلى ما دون مسافة القصر، كما قال بعض أهل العلم؛ لأن الحديث مطلق

(2)

.

• الوجه السابع: الحديث دليل على أن حد الزاني المحصن الرجم مع الجلد، أما الرجم فهو مجمع عليه ممن يعتد بإجماعه، وإنَّما الخلاف في الجلد قبل الرجم على قولين:

الأول: أنَّه لا يجلد بل يرجم فقط، وهذا قول الأئمة الثلاثة، ورواية عن أحمد، وهي الصحيح من المذهب، ونسبه ابن كثير في "تفسيره" إلى الجمهور

(3)

، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا رضي الله عنه ولم يجلده، وكذا رجم الغامدية رضي الله عنهما واليهوديين ولم يجلد واحدًا منهما، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي بينهما بكتاب الله ولم يذكر إلَّا الرجم فقط، حيث رتبه على الاعتراف ترتيب الجزاء على الشرط.

والقول الثاني: أن المحصن يجلد قبل أن يرجم، وهو رواية عن أحمد، وقول علي رضي الله عنه وبعض الصحابة"

(4)

، واستدلوا بحديث عبادة هذا حيث صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحًا ثابتًا ثبوتًا لا مطعن فيه، كما استدلوا بما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه أنَّه جلد شراحة الهمدانية يوم

(1)

"نيل الأوطار"(7/ 101).

(2)

"المغني"(12/ 324)، "سبل السلام"(4/ 15).

(3)

"بداية المجتهد"(4/ 376)، "المغني"(12/ 313)، "المهذب"(2/ 283)، تفسير ابن كثير" (6/ 5)، "شرح فتح القدير" (5/ 25).

(4)

"المغني"(12/ 313).

ص: 384

الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ولما قيل له: جلدتها ثم رجمتها؟ قال: (جلدتها بكتاب الله تعالى، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

والقول الأول أرجح، لقوة أدلته؛ لأن الظاهر أن قصة ماعز رضي الله عنه وما معها متأخرة عن حديث عبادة رضي الله عنه؛ لأنه بيان لحد الزنا الذي كانت عقوبته الحبس، كما دلت عليه آية النساء، فيظهر أن حديث عبادة أول نص في حد الزنا، فتكون قصة ماعز متاخرة، ويبعد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جلد ماعزًا والغامدية واليهوديين ولم يذكر أحد من الرواة ذلك، فيقوى الظن بعدم وقوع الجلد، بل إن نقل الجلد أهم من نقل الرجم، ثم إن الرجم يغني عن الجلد؛ لأنه حد فيه قتل فيسقط ما عداه.

وأما ما ورد عن علي رضي الله عنه فقد تكلم العلماء في صحته، ثم إن رواية البخاري ليس فيها ذكر الجلد، وليس الأخذ بالرواية التي ذكر فيها الجلد بأولى من الأخذ بالرواية التي اقتصر فيها على الرجم

(2)

، وعلى فرض صحته والأخذ به فالظاهر أنَّه اجتهاد من علي رضي الله عنه، ويؤيد ذلك رواية أحمد: "أجلدها بكتاب الله، بالقرآن، وأرجمها بسنة نبي الله صلى الله عليه وسلم) ثم إن قول الصحابة:(جمعت بين حدين) يؤيد ذلك، فإن هذا يشعر بأنهم لم يكونوا يعرفون الجلد قبل الرجم، فاستنكروا هذا، ولو رأى الحاكم الجمع بين الجلد والرجم لكان له مستند من فعل علي رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه النَّسائي في "الكبرى"(6/ 404)، وأحمد (2/ 121)، والحاكم (4/ 365)، ورواه البخاري (6812) ولكن ليس فيه ذكر الجلد، وانظر:"العلل" للدارقطني (4/ 96 - 97).

(2)

انظر: "عقوبة الإعدام" ص (519).

ص: 385

‌ما جاء في الاعتراف بالزنا وهل يشترط تكراره

؟

1214/ 3 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: أَتى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في الْمَسْجدِ فَنَادَاهُ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني زَنَيتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحّى تِلْقَاءَ وَجْههِ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِني زَنَيتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذلِكَ عَلَيهِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"أَبِكَ جُنُون؟، قَال: لَا، قَال: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ "، قَال: نَعَمْ، فَقَال: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بهِ فَارْجُمُوهُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، ومنها: في كتاب "الحدود"، باب "لا يُرجم المجنون والمجنونة"(6815)، ومسلم (1691)(16) من طريق الزُّهْريّ، قال: أخبرني أَبو سلمة بن عبد الرحمن

(1)

، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من المسلمين

وذكر الحديث. وهذا لفظ مسلم.

وهذا الحديث رواه جماعة من الصحابة، كأبي بكر وأَبي هُرَيرَةَ وابن عبَّاس وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وبريدة وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم،

(1)

اسمه عبد الله على الأصح، والده عبد الرحمن بن عوف، متفق على ثقته وجلالته. "الإعلام"(9/ 174)].

ص: 386

وقد أطال الإِمام مسلم، ثم أَبو داود في سياق أسانيد قصة ماعز رضي الله عنه، وذكروا طرقها، وألفاظها، وفي قصته مواضع حصل فيها اضطراب

(1)

، وسأذكر شيئًا من ذلك لتوضيح ما أُجمل في حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه هذا.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (رجل من المسلمين) هو ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، كما وردت تسميته في البخاري وإحدى روايات مسلم، وكما في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما الآتي.

قوله: (فأعرض عنه) لعله يرجع عن الاعتراف بشبهة مثلًا، فيتوب فيما بينه وبين الله تعالى، ولذا قال له: "لعلك قَبَّلْتَ

" كما سيأتي.

قوله: (فتنحى) أي: انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (تلقاء وجهه) منصوب على الظرفية، وأصله مصدر أقيم مقام الظرف؛ أي: مكانًا تلقاء، فهو مصدر نائب مناب الظرف المحذوف، وليس في المصادر تفعال بكسر أوله إلَّا هذا وتبيان، وسائرها بفتح أوله.

قوله: (حتَّى ثنى ذلك) أي: كرر وردد، وقد ضبطه ابن الملقن بتخفيف النون، وكذا المغربي

(2)

.

قوله: (أبك جنون) استفهام حقيقي، والمعنى: هل أنت مصاب بمرض عقلي؟ فإن قيل: لو كان مجنونًا لم يفد قوله: إنه ليس بمجنون، فما وجه سؤاله، وإنَّما سؤال غيره ممن يعرفه هو المؤثر؟ فالجواب:

1 -

أنَّه ورد في بعض الروايات أنَّه سأل غيره عنه، كحديث بريدة:("أبه جنون؟ " فأخبر أنَّه ليس بمجنون)

(3)

فعلى هذا يكون سأله أولًا، ثم سأل عنه احتياطًا.

(1)

ومنها موضوع الحفر له، وموضوع الصلاة عليه والاستغفار له. ["الإعلام" (9/ 177)].

(2)

"البدر التمام"(4/ 382).

(3)

رواه مسلم (1695).

ص: 387

2 -

أن المقصود بسؤاله معرفة حاله وعقله ليبنى عليه الأمر، لا على مجرد إقراره بعدم الجنون؛ لأنه ظهر عليه من الحال ما يشبه حال المجنون، وذلك أنَّه دخل المسجد وليس عليه رداء، كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عند مسلم.

قوله: (فهل أحصنت) بفتح الهمزة، فحاء فصاد مهملتان؛ أي: تزوجت، وأصل الإحصان المنع، وله معان منها: التزويج، وهو الإحصان الموجب لرجم الزاني، وسمي الزواج إحصانًا؛ لأن المرأة المزوجة يمنعها زوجها من الوقوع في الفاحشة، ويمتنع هو بها.

وإنَّما سأله عن الإحصان والعقل فقط؛ لأنهما شيئان لا يدركان بالنظر والعلامات الواضحة، والسؤال عن الإحصان لتردد حال الزاني بين الجلد والرجم، ولا يمكن الإقدام على أحدهما إلَّا بعد تبين سببه.

قوله: (اذهبوا به فارجموه) أي: في مصلى الجنائز، لرواية البخاري:(فأمر به فرجم في المصلى)، ولم يعين في هذه الرواية ما يرجم به، لكن ورد في حديث أبي سعيد عند مسلم:(فرميناه بالعظم والمدر والخزف). والعظم معروف، والمدر: قطع الطين، والتراب المتلبد

(1)

، والخزف: قطع الفخار المتكسر.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الزنا يثبت بالإقرار كما يثبت بالشهادة، فمن أقر على نفسه بأنه زنى، وهو مختار ثبت الحد في حقه، وقد ثبت حد الزنا بالإقرار في عدة وقائع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وأما ثبوت الزنا بالشهادة، فقد ذكر ابن تيمية أنَّه ما عرف حد أقيم بشهادة

(2)

.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء هل يكفي الإقرار مرة واحدة لثبوت الحد، أم لا بد من التكرار؟، على قولين:

الأول: أنَّه لا بد من الإقرار أربع مرات، وهو مذهب الحنفية

(1)

"المصباح المنير" ص (566).

(2)

"منهاج السنة"(1/ 95).

ص: 388

والحنابلة

(1)

، واستدلوا بالنص والقياس، أما النص فهذا الحديث، ووجه الاستدلال: أن قول الراوي: (فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه) إشعار بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه وإلَّا لرجمه في أول مرة.

وأما القياس فقد قاسوا الإقرار على الشهادة بالزنا، فكما أنَّه لا يقبل إلَّا أربعة شهود، فكذا لا بد من أربع إقرارال.

القول الثاني: أن يكفي لإقامة الحد إقرار واحد، وهذا مذهب المالكنة والشَّافعية

(2)

، لما تقدم في قصة العسيف:"واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر إقرارات أربعة مع أن المقام مقام بيان واستيفاء، والفعل المطلق يصدق بالواحد، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهنية، كما سيأتي، وإنَّما اعترفت مرة واحدة، ولما قالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك

إلخ، بين أن ردها لأجل وضع الحمل، مما يدل على أن قصتها بعد قصة ماعز، وأن تكرار الإقرار ليس بشرط.

وأجاب هؤلاء عن أدلة الأولين بما يلي: أما قصة ماعز فعنها ثلاثة أجوبة:

1 -

أن الروايات في عدد إقراره مضطربة، فجاء أربع مرات، كما في هذا الحديث وحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عند مسلم:(أنَّه ردده أربع مرات)، وفيه أيضًا: أنَّه ردده مرتين، وفيه: فرده مرتين أو ثلاثًا، وجاء ثلاثًا في حديث أبي سعيد عند مسلم:(فاعترف بالزنا ثلاث مرات).

2 -

أن ترديد ماعز ليس دليلًا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تصد تكرار الإقرار، بل قصد الاستثبات والتَّبَيُّنَ، بدليل استفساره عن حاله وعن كيفية الزنا، كما في حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما الآتي وغيره.

(1)

"بدائع الصنائع"(7/ 50)، "المغني"(354).

(2)

"بداية المجهد"(4/ 373)، "مغني المحتاج"(4/ 150).

ص: 389

3 -

سلمنا أنَّه لا اضطراب وأنه أقر أربع مرات، لكن هذا أمر فعله ماعز رضي الله عنه من تلقاء نفسه، ولم يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم به، ولم يطلبه منه، وكونه أقره عليه دليل على جوازه لا على شرطيته.

وأما القياس فهو غير مستقيم؛ لأن الإقرار في المال لا بد فيه من عدلين، ولو أقر على نفسه مرة واحدة كفت إجماعًا، ولم يقل أحد إنه لا بد من إقرارين، ثم إن هذا القياس ينتقض بأن إقرار الفاسق على نفسه مقبول، بخلاف شهادته، ثم إن اشتراط الأربعة خاص بشهود الزنا، فلا يقاس عليه غيره. على أن اشتراط الأربعة في الشهود إنما هو لمزيد الاحتياط في الحد؛ لكونه يسقط بالشبهة، ولا وجه للاحتياط بعد الإقرار، فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة، بخلاف الشهادة عليه.

ومن يرى التكرار ينفي الاضطراب، وذلك بحمل رواية المرتَهِن أنَّه اعترف مرتين في يوم، ومرتين في يوم آخر، بدليل حديث بريدة عند مسلم: (فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، إني أريد أن تطهرني، فلما كان من الغد أتاه

) فلعل الراوي اقتصر على أحد اليومين، أما رواية الثلاث فلعل الراوي اقتصر فيها على المرات التي رده فيها، فإنه لم يرده في الرابعة، بل استثبت وسأله، ثم أمر برجمه، أو يقال: بالترجيح بين الروايات.

والذي يظهر - والله أعلم - هو الجمع بين الأدلة وعدم إهمال شيء منها، وهو أن من كان مشكوكًا في عقله ملتبسًا أمره، فلا بد من إقراره أربعًا لحديث ماعز رضي الله عنه، ومن عُرف صحة عقله واتضاح أمره فمرة واحدة؛ لبقية الأحاديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بمرة واحدة في حديث العسيف وقصة الغامدية؛ لظهور الأمر وعدم اللبس، ويؤيد ذلك أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز رضي الله عنه، وقد دلت جميع روايات حديثه على أنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يدري عن حاله شيئًا، وقد رجح هذا الشوكاني

(1)

، والشنقيطي

(2)

.

(1)

"نيل الأوطار"(7/ 110).

(2)

"أضواء البيان"(6/ 32).

ص: 390

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن المجنون لا يعتبر إقراره ولا يثبت عليه الحد؛ لأن شرط الحد التكليف، وكذا الحكم في طلاقه وعتقه وأيمانه ووصيته، وقد مضى شيء من ذلك في "الطلاق".

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أنَّه يجب على القاضي والمفتي أن يستفصل عما يجب الاستفصال عنه مما يغير حكم المسألة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ماعزًا عن الجنون ليتبين العقل، وعن الإحصان ليثبت الرجم.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على أنَّه لا يشترط في إقامة الحد حضور الإِمام ولا نائبه، لقوله:"اذهبوا به فارجموه" وقد ورد في حديث جابر بن سمرة: (فرجمه)

(1)

، والمراد: أمر برجمه، كما في باقي الروايات، والأولى حضور الحاكم ويقوم مقامه القاضي أو نائبه؛ ليؤمن الحيف أو الاستهانة بحدود الله تعالى.

• الوجه الثامن: استدل بهذا الحديث من قال: إن المحصن لا يجلد قبل الرجم؛ لأنه لم يذكر الجلد مع تعدد رواة قصة ماعز، وكثرة ألفاظها.

• الوجه التاسع: في الحديث منقبة عظيمة لماعز رضي الله عنه إذ جاء بنفسه تائبًا طالبًا التطهير مع الإعراض عنه وتلقينه ما يسقط الحد، كما في الحديث الآتي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم"

(2)

.

• الوجه العاشر: في الحديث دليل على أن وجود مثل هذه الحالات النادرة في ذلك المجتمع الطاهر فيها حكمة ورحمة، أما الحكمة فلأجل أن يدرك الناس في هذه الأمة - إلى يوم القيامة - أنَّه لا يخلو مجتمع من أناسٍ قد يتلطخون بمثل هذه الأمور، وأن العبرة بكثرة أهل الفضل والدين والصلاح. وأما كونها رحمة، فهذا يدركه من عايش قصص التائبين من أهل عصرنا، فإذا علموا أن من الصحابة - رجالًا ونساءً - من قد زنى سهَّل ذلك عليه أمر التوبة، والله أعلم.

(1)

"سنن أبي داود"(4422).

(2)

رواه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه (1695)(22).

ص: 391

‌حكم تلقين المُقِرِّ ما يدفع الحَدَّ عنه

1215/ 4 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: لَمَّا أتى مَاعزُ بن مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال لَهُ: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ "، قَال: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، بابٌ "هل يقول الإِمام لِلْمُقِرِّ: لعلك لمست أو غمزت؟ " (6824) من طريق وَهْب بن جرير، حدَّثنا أبي، قال: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال:

وذكر الحديث، وتمامه: قال: "أنكتها؟ " -لا يكني-، قال: فعند ذلك أمر برجمه.

ولعل الحافظ ذكر حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما هي مع أنَّه في قصة ماعز رضي الله عنه؛ لأن فيه زيادة لم ترد في حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؛ ولأن فيه تسمية الرجل المبهم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعلك قبلت) حذف المفعول للعلم به؛ أي: قبلتها، والمراد: المرأة التي زنا بها.

قوله: (أو غمزت) الغمز: بالغين المعجمة، هو الإشارة بالعين والحاجب، ويطلق على الجسّ واللمس باليد، أو وضع اليد على عضو الغير.

قوله: (أو نظرت) أي: لعلك لم يقع منك زنا حقيقة، "وإنما أطلقت الزنا على القبلة أو اللمس أو النظر، وقد ورد حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عن

ص: 392

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"

(1)

، وفي رواية:"فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، وبصدق ذلك الفرج ويكذبه".

وقد بوب البخاري على حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه -باب "زنا الجوارح دون الفرج"، قال الحافظ:(أي: إن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره.)

(2)

، وقال ابن بطَّال:(سمي النظر والنطق زنا؛ لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي)

(3)

.

قوله: (لا يكني) بفتح الياء التحتانية وسكون الكاف من الكناية، والمعنى: أنَّه صلى الله عليه وسلم تلفظ بالكلمة المذكورة ولم يَكْنِ عنها بلفظ آخر.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن النظر إلى المرأة التي لا تحل قد يسمى زنا، ولكنه لا حد فيه.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنَّه ينبغي التثبت والتبين في أمر من جاء معترفًا بالزنا تائبًا؛ لأن العادة أن صاحب الفاحشة يستتر ولا يظهر أمره، فإذا جاء تائبًا وجب التثبت؛ خشية أن يكون في عقله شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بمجرد إقراره بالزنا، وإنما سأله عن عقله، ثم قال: أشرب خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، كما في حديث بريدة رضي الله عنه، ثم سأله لعله أطلق لفظ الزنا على التقبيل أو الغمز أو النظر، بل استفهمه صلى الله عليه وسلم بلفظ لا أصرح منه في المطلوب وهو لفظ النيك الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحاشى عن التكلم به في جميع حالاته، ولم يُسمع منه إلَّا في هذا الموطن

(4)

، كل هذا مبالغة في التثبت، ودليل على حرص الشريعة على صيانة الدماء.

(1)

رواه البخاري (4363)، ومسلم (2657).

(2)

"فتح الباري"(11/ 25 - 26).

(3)

انظر: "شرح ابن بطال"(9/ 23).

(4)

انظر: "نيل الأوطار"(7/ 112).

ص: 393

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز تلقين المقر الرجوع عن إقراره واعتذاره بشبهة يتعلق بها، لقوله: "لعلك قبلت

"، وأنه يقبل رجوعه عن ذلك، ولولا أنَّه يقبل رجوعه لما كان لتلقينه ذلك فائدة، وهذا رأي الجمهور من أهل العلم، إلَّا أن المالكية لا يرون تلقين من اشتهر بالمحرمات

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المنتقى شرح الموطأ"(7/ 165)، "نيل الأوطار"(13/ 259).

ص: 394

‌ما يثبت به الزنا

1216/ 5 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ فَقَال: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمّدًا بالْحَقِّ، وَأنزَلَ عَلَيهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أنزَلَ اللهُ عَلَيهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَينَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَال بالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ، فَيُضِلُّوا بتَرْكِ فَريضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرّجْمَ حَقٌّ في كِتَابِ اللهِ: عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الاعْتِرَافُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "الاعتراف بالزنا" مختصرًا (6829)، ثم في باب "رجم الحبلى إذا زنت" رواه مطولًا (6830)، ومسلم (1691) من طريق الزُّهْريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنَّه سمع عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما يقول: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق

) وساق الحديث. وقد تضمن خطبة طويلة لعمر رضي الله عنه ساقها البخاري بطولها، وفيها هذا المقدار الذي ساقه الحافظ، وأما لفظ "البلوغ" فهو لفظ مسلم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أنَّه خطب) كانت هذه الخطبة من عمر رضي الله عنه بعد صدوره من الحج وقدومه المدينة سنة ثلاث وعشرين.

ص: 395

قوله: (إن الله بعث محمدًا بالحق) هذه الجملة ساقها عمر رضي الله عنه بين يدي خطبته توطئة لها؛ ليتيقظ السامع لما سيقول:

قوله: (آية الرجم) بالرفع اسم كان مؤخر، وخبرها (فيما أنزل الله)، وآية الرجم على ما ذكر العلماء:(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وفي رواية للنسائي أن موضعها سورة الأحزاب، وهي مما نسخ لفظه وبقي حكمه، وسيأتي الكلام عليها قريبًا.

قوله: (قرأناها) أي: تلوناها.

قوله: (ووعيناها) أي: حفظناها.

قوله: (وعقلناها) أي: تدبرناها.

وجمع عمر رضي الله عنه بين هذه الألفاظ مبالغة في تأكيد ثبوت آية الرجم وأنها كانت متلوة من القرآن.

قوله: (ورجمنا بعده) أي: تبعًا له، وفيه إشارة إلى وقوع الإجماع على الرجم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الحكم باق لم ينسخ.

قوله: (فأخشى إن طال بالناس زمان) قد وقع ما خشيه عمر رضي الله عنه فقد أنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم، وبعض المعتزلة، وهؤلاء محجوجون بالسنة، وضالون بشهادة عمر رضي الله عنه، وهذا من الحق الذي جعله الله تعالى على لسان عمر وقلبه رضي الله عنه.

قوله: (وإن الرجم حق في كتاب الله) أي: في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، على ما تقدم في حديث عبادة رضي الله عنه، أو أنَّه يريد الآية المنسوخة، ومعنى (حق) أي: ثابت أو واجب يُعمل به إلى يوم القيامة.

قوله: (إذا أَحْصَنَ) بفتح الهمزة؛ أي: تزوج حرة تزويجًا صحيحًا وجامعها وهو بالغ عاقل، والمرأة كذلك.

قوله: (إذا قامت البينة) أي: شهادة أربعة ذكور.

قوله: (أو كان الحَبَلُ) بفتح المهملة والموحدة؛ أي: الحمل، كما في

ص: 396

رواية أخرى، والمعنى: أن توجد امرأة حبلى لا زوج لها ولا سيد.

قوله: (أو الاعتراف) أي: الإقرار بالزنا والاستمرار عليه.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن أدلة ثبوت الزنا ثلاثة: وهي الإقرار، والبينة، ولا خلاف في ثبوت الزنا بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب، وأما الثالث وهو ظهور الحمل فهو موضع خلاف.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء في المرأة يظهر عليها الحمل ولا زوج لها ولا سيد هل يثبت عليها الزنا؟ على قولين:

الأول: أنَّه يثبت عليها الزنا، ويجب عليها الحد إلَّا إذا ادعت الغصب أو وطء الشبهة وأقامت البينة على ذلك، ولا تقبل دعواها بغير بينة

(1)

، وهذا قول مالك وأصحابه، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(2)

.

واستدلوا بحديث الباب حيث صرح عمر رضي الله عنه بأن الحمل يثبت به الزنا كالبينة والإقرار، وقول الصحابي حجة عند أكثر العلماء، لا سيما وأنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، فينزل منزلة الإجماع

(3)

، كما استدلوا بأن الحمل شاهد على الزنا ولو حصل إكراه أو وطء شبهة لظهر؛ لأن الناس لا يسكتون عن بيان ما يدفع عنهم العار والأذى.

القول الثاني: أن ظهور الحمل على امرأة لا زوج لها ولا سيد لا يثبت به الزنا، ولا يجب به الحد، ولا تُسال عن سبب حملها إلَّا ببينة تشهد بالزنا، أو باعتراف منها، وهذا قول الحنفية والشَّافعية، والمعتمد في مذهب الحنابلة

(4)

.

(1)

انظر: "المفهم"(5/ 87).

(2)

"بداية المجتهد"(4/ 386)، "المغني"(12/ 377)، "الفتاوى"(28/ 334)، "الاختيارات" ص (296)، "تهذيب مختصر السنن"(3/ 62).

(3)

"المفهم"(5/ 85).

(4)

"بدائع الصنائع"(3/ 245)، "المغني"(12/ 377)، "فتح الباري"(12/ 148 - 149).

ص: 397

وحجتهم أن الحمل لا يلزم أن يكون من الزنا اختيارًا، فقد يكون من وطء غصب أو إكراه أو من وطء شبهة، وقاعدة الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات، بل قال بعض العلماء: إن من المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية أنَّه ينبغي أن تكون الشبهة كافية في درء العقوبات، ولا ينبغي أن تكون كافية في إيجابها

(1)

.

والفرق بين القولين أنَّه على الأول يكفي ظهور الحمل في ثبوت الحد، وعلى الثاني لا يكفي بل لا بد أن تقوم بينة أو تعترف.

والذي يظهر - والله أعلم - أن من ظهر عليها الحمل ولا زوج لها ولا سيد وادعت إكراهًا أو وطء شبهة أنَّه لا يقام الحد عليها، إلَّا إن وجد قرينة قوية تدل على كذبها، وأن هذا الحمل من زنا، فهذا يرجع فيه إلى اجتهاد القاضي. وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم قضايا درأوا فيها الحد بالشبهة عمن وجدت حبلى ولا زوج لها ولا سيد، وقد ادعت الإكراه، ونحوه، ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق والبيهقي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بامرأة من أهل اليمن، قالوا: بغت، قالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلَّا برجل رمى فيَّ مثل الشهاب، فقال عمر رضي الله عنه:(يمانية نؤمة) فخلى عنها

(2)

.

• الوجه الخامس: روى النَّسائي من طريق سفيان، عن الزُّهْريّ، عن عبيد الله، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما رضِي حديث عمر رضي الله عنه، وفي آخره:"ألا وإن الرجم حق على من زنى إذا أَحصن وكانت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأناها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة

")

(3)

.

وقد طعن الأئمة في ثبوت هذه الآية، واعتبروا ذلك من أفراد سفيان بن عيينة، عن الزُّهْريّ، وقد خالفه ثمانية من أصحاب الزُّهْريّ لم يذكروها،

(1)

"تفسير سورة النور" للمودودي ص (66).

(2)

"المصنف"(7/ 410)، "السنن الكبرى"(8/ 236)، "وإسناده صحيح"["الإرواء" (8/ 30)].

(3)

"السنن الكبرى"(6/ 410 - 411).

ص: 398

ومنهم: صالح بن كيسان، عند البخاري

(1)

، ويونس بن عبد الأعلى، كما عند مسلم

(2)

، ولذا أعرض عنها البخاري وكأنها لم تصح عنده، قال النَّسائي: (لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث "الشيخ والشيخة

" غير سفيان، وينبغي أنَّه وهم، والله أعلم)

(3)

.

ومما يدل على أن سفيان بن عيينة لم يحفظه ما جاء في "مسند الحميدي" أنَّه قال: سمعته من الزُّهْريّ بطوله، فحفظت منه أشياء، وهذا لم أحفظه

(4)

.

وقد ورد الحديث عند أحمد بإثباتها

(5)

، لكن إعراض البخاري عنها يدل على عدم ثبوتها، ثم هي أخبار آحاد ليست مشهورة، فضلًا عن أن تكون متواترة، وآيات القرآن لا تثبت إلَّا بالتواتر، ثم إن تخصيص الرجم بالشيخ والشيخة لا وجه له، فإن الحكم معلق بالإحصان، سواء أكان المحصن شيخًا أم شابًّا، ولا يوجد مادة (شيخ) في لغة العرب تفيد الإحصان

(6)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(6830).

(2)

"صحيح مسلم"(1691).

(3)

"السنن الكبرى"(6/ 411).

(4)

(1/ 16).

(5)

"المسند"(35/ 134، 472).

(6)

راجع: "مجلة الحكمة" عدد (7) ففيها دراسة جيدة لهذه المسألة.

ص: 399

‌حكم الأمة إذا زنت

1217/ 6 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أحَدِكُمْ فَتبَيَّنَ زنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَهذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "البيوع"، باب "بيع العبد الزاني"(2152)، ومسلم (1703) من طريق اللَّيث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أنَّه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث، واللفظ لمسلم، كما قال الحافظ.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (فتبين زناها) ظاهره أن المراد تبينه بما يتبين في حق الحرة، وهو الشهادة أو الاعتراف، أو أن المراد عِلْمُ السيد بذلك

(1)

.

قوله: (ولا يثرب عليها) بضم الياء المثناة، وفتح المثلثة، وتشديد الراء مكسورة؛ أي: لا يعنفها ولا يوبخها، والتثريب: التوبيخ واللوم.

قوله: (فليبعها) هذا أمر ندب عند الجمهور، وحملته الظاهرية على

(1)

انظر: "سبل السلام"(7/ 134)، "نيل الأوطار"(13/ 316).

ص: 400

الوجوب أخذًا بظاهره، والجمهور صرفوه عن ظاهره تمسكًا بالأصل الشرعي، وهو أنَّه لا يجبر أحد على إخراج ملكه لشخص آخر في غير الشُّفْعةَ

(1)

.

قوله: (ولو بحبل من شعر) لو: للتقليل، وقوله:(من شعر) بفتح العين وسكونها، وخص حبل الشعر؛ لأنه أكثر حبالهم، وفي رواية لهما:"ولو بضفير" والضفير: الحبل، وهذا خرج مخرج التقليل والتزهيد في الجارية الزانية.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب إقامة الحدود على الأرقاء؛ ردعًا لهم عن الفواحش وصيانة لهم عن محارم الله عز وجل.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن حد الأمة إذا زنت هو الجلد، وهذا الحديث لم يبين الإحصان وعدمه، وقد جاء في رواية في "الصحيحين":(أنَّه سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن)، وقد طعن الطحاوي في قوله:(ولم تحصن) وادعى تفرد مالك بها عن ابن شهاب، وأشار إلى تضعيفها، وأنكر الحفاظ عليه ذلك؛ لأنه رواه ابن عيينة ويحيى بن سعيد، عن ابن شهاب، وليس في ثبوتها مُخَالفَةُ؛ لأن الأمة تجلد مطلقًا، سواء أكانت محصنة أم غير محصنة، فالآية دلت على حكم المحصنة، والحديث على حكم غير المحصنة وأنهما حكمهما الجلد. وقد دل قوله:{فَإِنْ أَتَينَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، أن الجلد ينصف عليها فتجلد خمسين، ولا تغريب على قول الجمهور؛ لأن تغريبها يضر بسيدها، وربما أغراها بمعاودة الفاحشة.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنَّه إذا تكرر الزنا من الأمة أنَّها تجلد مرة ثانية، فإن لم يردعها الجلد وجب بيعها ولو بأرخص الأثمان؛ لأنه لا خير في بقائها ولا فائدة في تأديبها، وهذا يدل على أن الزنا عيب في الرقيق، بدليل أنَّه أمر ببيعه ولو بحبل، وإذا لم يعلم به المشتري فله الخيار في رده.

(1)

"المفهم"(5/ 121).

ص: 401

فإن قيل: كيف يؤمر ببيعها والمسلم لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه؟ فالجواب: أنَّه لم يقصد ببيعها التخلص منها وبلوى غيره بها، وإنَّما المراد لعلها ترتدع عند المشتري وتستعف بأن يعفها بنفسه أو يصونها في بيته أو يزوجها، أو تعلم بان إخراجها من ملك سيدها بسبب الزنا فتتركه خشية تنقلها بين الملاك، أو غير ذلك من وجوه حفظها؛ لأن بعض الناس قد يكون أقدر على إعفاف أمته أو حفظها من غيره، ثم إن الظاهر من قوله:"ولو بحبل من شعر" أن البائع بين عيبها للمشتري بسبب كون ثمنها زهيدًا.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن السيد منهي عن الجمع بين عقوبة الجلد والتعنيف على الزنا؛ لأن الحد كفارة وهو بمثابة التوبة، والتائب والمحدود لا ينبغي أن يعيرا.

• الوجه السابع: استدل العلماء بهذا الحديث على أنَّه لا يجب على البائع ذكر عيب الأمة الزانية التي أقيم عليها الحد، لأمرين:

1 -

لأن الشارع أمره ببيعها ولم يأمره ببيان عيبها.

2 -

أن هذا العيب ليس معلومًا ثبوته في المستقبل، فقد يتوب الفاجر ويفجر البار.

وظاهر النص أن البائع يبين للمشتري هذا العيب؛ لأجل أنَّه ينتبه لهذا مستقبلًا؛ ولأنه لا تنزل قيمته إلَّا إذا بين ما فيه، ثم إن في ترك البيان نوعًا من الغش يؤدي إلى أن السيد الثاني لا يحتاط لهذا الأمر، فالأقرب أنَّه يبين. والله تعالى أعلم.

ص: 402

‌ما جاء في أن السيد يقيم الحد على رقيقه

1218/ 7 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ في مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أَبو داود في كتاب "الحدود"، باب، في إقامة الحد على المريض" (4473)، والنَّسائي في "الكبرى" (6/ 455، 459)، وأحمد (2/ 352) من طريق عبد الأعلي بن عامر التغلبي، عن ميسرة بن يعقوب أبي جميلة الطهوي، عن علي رضي الله عنه، قال: فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا علي انطلق فأقم عليها الحد"

وذكر الحديث، وفيه قصة، إلَّا أن النَّسائي في الموضع الأول ساقه مختصرًا، وهو لفظ "البلوغ" ولم يذكر القصة.

وهذا سند ضعيف، فيه عبد الأعلى، ضعفه أحمد وأَبو زرعة وأَبو حاتم وابن معين والنَّسائي

(1)

، وميسرة بن يعقوب هو صاحب راية علي رضي الله عنه، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى عنه جماعة

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(مقبول).

وقد رواه مسلم (1705) موقوفًا من طريق السدي، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 86).

(2)

"الثقات"(5/ 427)، "تهذيب التهذيب"(10/ 345).

ص: 403

أقيموا على أرقائكم الحدود من أحصن منهم ومن لم يُحْصِنْ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخفت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أحسنت".

• الوجه الثاني: أجمع العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار ولي الأمر أو من يقوم مقامه كالقاضي.

وأما الأرقاء فالجمهور على أن أسيادهم وملاكهم هم الذين يقيمون عليهم الحد، لهذا الحديث، ولحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه المتقدم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها

" والجمهور على أن السيد يجلد رقيقه للزنا، واختلفوا في القطع للسرقة، والجلد للشرب، ورجح ابن حزم القول بالعموم

(1)

.

وقالت الحنفية: إنه لا يقيم الحدود مطلقًا إلَّا الإِمام أو من أذن له

(2)

، واستدلوا بما رواه الطحاوي عن مسلم بن يسار، أنَّه قال: كان رجل من الصحابة رضي الله عنه يقول: (الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان) قال الطحاوي: (لا نعلم له مخالفًا)

(3)

وتعقبه ابن حزم بأنه خالفه اثنا عشر صحابيًّا

(4)

. وحديث الباب حجة عليهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(11/ 166).

(2)

"شرح فتح القدير"(5/ 21).

(3)

"مختصر اختلاف العلماء"(3/ 299).

(4)

"المحلى"(11/ 21).

ص: 404

‌تأخير رجم الحبلى حتى تضع

1219/ 8 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه أَن امْرَأَةً مِنْ جُهَينَةَ أَتَتْ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم وَهيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا فَقَالتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا. فَقَال:"أَحْسِنْ إِلَيهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بهَا" فَفَعَلَ. فَأَمَرَ بهَا فَشُكَّتْ عَلَيهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَرُجمَتْ، ثُمّ صَلَّى عَلَيهَا، فَقَال عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَال: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَينَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أفضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بنَفْسِهَا لله؟ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في "الحدود"، باب "من اعترف على نفسه بالزنى"(1696) من طريق يحيى بن أبي كثير، حدثني أَبو قلابة، أن أبا المهلب حدثه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن امرأة من جهينة

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن امرأة من جهينة) هي قبيلة جهينة بن زيد، وهي قبيلة عظيمة لها فروع كثيرة، منازلهم كانت ولا تزال على ساحل البحر الأحمر، وعاصمة حاضرتهم بلدة أُملج، وهي بلدة ساحلية على البحر غرب المدينة النبوية.

وقد ذهب بعض العلماء كالنووي والشوكاني وغيرهما إلى أن هذه المرأة هي المعروفة بالغامدية التي روى حديثها بريدة رضي الله عنه وغيره؛ لأن غامدًا بطن

ص: 405

من جهينة

(1)

.

وقال آخرون: هما قصتان؛ لما بينهما من الاختلاف؛ فإن قصة الجهنية رواها عمران بن حصين، ولم يرددها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تذكر ماعزًا صلى الله عليه وسلم، ولها ولي بالمدينة، ولذا رجعت بعد الولادة، وجاء لعمر رضي الله عنه ذكر في قصتها، أما الغامدية فروى حديثها بريدة رضي الله عنه، ورددها الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت ماعزًا رضي الله عنه، وليس لها ولي بالمدينة، فتكفل رجل من الأنصار بشأنها، ولم يرجمها الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بعد الفطام، وجاء في قصتها ذكر خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومن يقول: إنهما قصة واحدة ينشأ عنده عدة إشكالات، ومن يقول: هما قصتان يسلم من هذا.

قوله: (وهي حبلى) يقال: حبلت المرأة تحبل فهي حبلى: إذا حملت، ونقل النووي في "تهذيبه" اتفاق أهل اللغة على أن الحَبَل مختص بالآدميات، وفي غيرها يقال: الحمل

(2)

، لكن قد يشكل على هذا ما تقدم في "البيوع" من بيع حَبَلِ الحَبَلَةِ، وهو في الحيوان.

قوله: (من الزنا) من: تعليلية، ويصح كونها ابتدائية.

قوله: (أصبت حدًّا) أي: ما يلزم به الحد ويثبت، وهذا لفظ مجمل، لكن وقع بيانه في رواية أخرى إن كانت قصة الجهنية والغامدية واحدة، أو في قول عمر رضي الله عنه:(أتصلي عليها وقد زنت).

قوله: (أحسن إليها) أمره بالإحسان إليها خشيةَ أن يصل إليها أذى من قراباتها بسبب زناها، ورحمة بها لأنها قد تابت.

قوله: (فإذا وضعت فأتني بها) ظاهر هذا أن الرجم وقع عقب الوضع، فإن كانتا قصتين فلا إشكال، وإن كانت واحدة فقد ثبت في حديث بريدة رضي الله عنه أن الغامدية رجمت بعد أن فطمت ولدها، فتكون الأولى محمولة على الثانية، والمراد أنَّه أتى بها بعد الولادة، ثم أمر بتأخيرها إلى الفطام.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 214)، "نيل الأوطار"(13/ 288).

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات"(3/ 61).

ص: 406

قوله: (فشكت عليها ثيابها) شُكَّتْ بوزن شُدَّتْ، ومعناه: جمعت عليها ثيابها ولُفَّتْ بها؛ لئلا تنكشف في تقلبها واضطرابها عند نزول الموت.

قوله: (ثم صَلَّى عليها) بفتح الصاد واللام عند الجمهور من رواة مسلم، كما قال القاضي عياض، وصلاته عليها ليعلم أنَّها ماتت تائبة، ونقل القاضي عياض عن الطَّبري أنَّها بضم الصاد وكسر اللام

(1)

، على البناء لما لم يُسَمَّ فاعله، ويؤيد ذلك رواية أبي داود:(ثم أمرهم فصلوا عليها)

(2)

، والأول أرجح لأمرين:

الأول: أن أكثر رواة مسلم عليها.

الثاني: قول عمر رضي الله عنه: (أتصلي عليها) يدل على أنَّه صلى الله عليه وسلم باشر الصلاة عليها.

وأما رواية أبي داود فمعناها أمرهم أن يصلوا خلفه.

قوله: (أتصلي عليها) الظاهر أنَّه استفهام تعجب واستكشاف لحكمة صلاته صلى الله عليه وسلم عليها مع أنَّه وقع منها أمر يقتضي إهمال أمرها والإعراض عنها، وليس هو للإنكار، هكذا قال ابن علان

(3)

، وقد يرد على هذا النفي جذب عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصلي على ابن أُبي بن سلول، فقد يقال: إن هذا الاستفهام للإنكار؛ لوجود الفعل، لا سيما ما عرف من قوة عمر رضي الله عنه وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم.

قوله: (لو قسمت بين سبعين) أي: سبعين عاصيًا، فحذف التمييز للعلم به، والظاهر أن العدد من باب المبالغة في عظم توبتها، وليس المراد التحديد بالسبعين، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلاف ذلك.

قوله: (لوسعتهم) بكسر السين وفتح العين؛ أي: لكفتهم في رفع آثامهم، والمعنى: أنَّها تابت توبة تستوجب مغفرةَ ورحمةَ سبعين من أهل المدينة.

(1)

"إكمال المعلم"(5/ 523).

(2)

"السنن"(4440).

(3)

"دليل الفالحين"(1/ 134).

ص: 407

قوله: (أن جادت) من الجود، كأنها أخرجت روحها ودفعتها لله عز وجل. وجملة:(لقد تابت) أفادت ما خفي على عمر رضي الله عنه، فإنه نظر إلى ما صدر منها، وغفل عما ختمت به أمرها، وهو التوبة.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن حكم الزنا يثبت بالاعتراف مرة واحدة، وسبق الخلاف في ذلك.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على ثبوت حكم الرجم في حق الزاني المحصن بأن يرجم بالحجارة حتَّى يموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم برجمها، وهذا محمول على أنَّها كانت محصنة؛ لأن الأحاديث الصحيحة والإجماع يدلان على أنَّه لا يرجم غير المحصن.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن شرط استيفاء الحد أن يؤمن الحيف، فلا يتعدى إلى غير من عليه الحد، فإذا وجب الحد على حامل فلا يقام عليها حتَّى تضع، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم، كما نقله ابن المنذر وابن حزم وابن قدامة

(1)

، وذلك لئلا يقتل من لا ذنب له، والله تعالى يقول:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وهكذا القصاص لو وجب على امرأة وهي حبلى، فإنها تترك حتَّى تضع؛ لئلا يتعدى القتل إلى غير الجاني، وأما تأخير الحد لأجل المرض، فسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريبًا.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على مشروعية شَدِّ ثياب المرأة عليها عند إرادة تنفيذ الحد عليها؛ لئلا تنكشف عورتها عند اضطرابها من مس الحجارة، والجمهور على أنَّها تُرجم قاعدة، ولعل ذلك مأخوذ من كونها شدت عليها ثيابها، بل نقل بعضهم الاتفاق على ذلك.

أما الرجل فالجمهور على أنَّه يرجم قائمًا، وقال مالك: قاعدًا، وقيل: يخير الإِمام

(2)

.

(1)

"الإجماع" ص (161)، "مراتب الإجماع" ص (215)، "المغني"(12/ 327).

(2)

"سبل السلام"(4/ 23).

ص: 408

• الوجه السابع: في الحديث دليل على مشروعية الصلاة على المرجوم، وجوازها من الإِمام كبقية موتى المسلمين، وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب "الجنائز"، وأزيد هنا ما له مناسبة، قال ابن القيم على حديث الغامدية:(لم يُختلف فيه أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليها)

(1)

، وابن القيم يقصد رواية بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، (ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت)

(2)

، وقد خولف في ذلك، فقد أخرجه مسلم من طريق غيلان المحاربي، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، وليس فيه ذكر الصلاة، وقد ذكرت هذا في كتاب "الجنائز".

وكذا صَلَّى على الجهنية، وكل ذلك جاء صريحًا في القصتين.

وقد جاء الخلاف في قصة ماعز رضي الله عنه، فروى البخاري من طريق محمود بن غيلان، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهْريّ، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه في قصة ماعز رضي الله عنه، وفي آخره: فقال النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، وصَلَّى عليه

(3)

.

وقد أُعلت هذه الزِّيادة بأن محمود بن غيلان خالف أكثر من عشرة أنفس، رووا الحديث عن عبد الرزاق فلم يذكروها، منهم من سكت عنها، ومنهم من صرح بنفيها، قال الحافظ: (قد خالفه العدد الكثير من الحفاظ، فصرحوا بأنه لم يصل عليه، لكن ظهر لي أن البخاري قويت عنده رواية محمود بالشواهد

)، ثم ذكرها، ومنها: حديث عمران في قصة الجهنية. قال البيهقي: (وقول محمود بن غيلان أنَّه صلى عليه خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزُّهْريّ على خلافه).

وقد سئل أَبو عبد الله البخاري هل قوله: ("فصلى عليه" يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا)

(4)

.

(1)

"زاد المعاد"(4440).

(2)

"صحيح مسلم"(1695)(23).

(3)

"صحيح البخاري"(6820).

(4)

"صحيح البخاري"(6820).

ص: 409

وقد رواه ابن جريج عند مسلم

(1)

، ويونس بن يزيد عند البخاري، ومسلم بدونها

(2)

.

وعلى هذا فزيادة: (فصلى عليه) غير محفوظة، وعذر البخاري في ذكرها ما تقدم ذكره عن الحافظ، ومن يقول بثبوتها فهو يرى أن زيادة الثقة إذا وقعت غير منافية كانت مقبولة.

وقد جاء في رواية من طريق عبد الرزاق - رواها عنه جماعة - عن معمر: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ولم يصلِّ عليه)

(3)

، ورواية الإثبات عند هؤلاء أرجح، لأمور:

1 -

كونها في "صحيح البخاري".

2 -

كونها مثبتة، والمثبت مقدم على النافي.

3 -

أن رواية النفي يمكن حملها على أنَّه لم يصل عليه حين رجمه، ورواية الإثبات أنَّه صلى عليه في اليوم الثاني، كما في رواية أبي أمامة بن سهل بن حنيف.

• الوجه الثامن: نقل ابن القيم الاتفاق على أن الحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة على مرتكب الجريمة، كان تكون جريمته ثبتت بالبينة، وذلك لئلا تكون التوبة سببًا في إسقاط الحدود وظهور الفساد في البر والبحر، وتوبته إذا كانت نصوحًا نفعته فيما بينه وبين الله تعالى، فيغفر له ما سلف، ويكون الحد تطهيرًا وتكفيرًا لسيئته، وهو من تمام التوبة

(4)

.

واختلفوا في سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، أو من جاء تائبًا كحال ماعز والجهنية رضي الله عنهما على أن التوبة لا تسقط الحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تائبة تطلب التطهير بإقامة الحد،

(1)

"صحيح مسلم"(1691).

(2)

"صحيح البخاري"(5270)(6214)، "صحيح مسلم"(1691).

(3)

"المصنف"(7/ 320)، "سنن أبي داود"(4430)، "جامع التِّرمِذي"(1429)، "سنن النسائي"(3/ 62)، "المسند"(22/ 353).

(4)

"الصارم المسلول" ص (431 - 432)، "إعلام الموقعين"(3/ 142).

ص: 410

وسمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلها توبة، ويؤيد هذا قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وهذا عام في التائب وغيره، ولا مخصص له فيما أعلم؛ ولأن الحدود كفارة، فلم تسقط بالتوبة، ككفارة اليمين والقتل.

وهذا قول الجمهور، ومنهم الحنفية، والمالكية، وأرجح الروايتين عن أحمد، وقول للشافعي

(1)

.

والقول الثاني: أن التوبة تقبل، وتُسقط عنه الحد، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهو المعتمد في مذهب الشَّافعية

(2)

، واستدلوا بقوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16]، وقوله تعالى في حق السارق:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ} [المائدة: 39]؛ ولأن الحد خالص حق الله تعالى، فيسقط بالتوبة

(3)

.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن قصة الغامدية وماعز محمولة على من اختار إقامة الحد عليه، وكأنه يرى تطهيره بالحد أبلغ من تطهيره بالتوبة، أو ليجتمع له تطهيران، وأما من تاب بعد اعترافه ولم يطلب إقامة الحد عليه فلا يقام، وهذا قول وسط، كما يقول عنه ابن القيم

(4)

.

وأصح قولي أهل العلم أن الأفضل فيمن ارتكب جريمة الزنا أن يتوب سرًّا، ولا يظهر جريمته حتَّى يقام حده عليه، ومن تاب صادقًا فإن الله تعالى يقبل توبته؛ لعموم الأدلة في قبول توبة التائبين.

وهذا الكلام في غير المحارب، أما المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط عنه الحد بالاتفاق، وهذا بالنسبة لحق الله تعالى، أما حقوق الآدميين كأخذ مال أو قتل أو جرح فلا تسقط على رأي الجمهور إلَّا أن يُعفى عنها

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(12/ 484).

(2)

"المهذب"(2/ 266)، "المغني"(12/ 484).

(3)

"الصارم المسلول" ص (431 - 432).

(4)

"الاختيارات" ص (296)، "إعلام الموقعين"(2/ 79)(3/ 156).

(5)

انظر: "المغني"(12/ 483)، "تفسير ابن كثير"(3/ 95).

ص: 411

‌رجم المحصن من أهل الكتاب

1220/ 9 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1221/ 10 - وقصَّةُ رجْمِ اليهودِيَّينِ في "الصحيحين" من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه مسلم في "الحدود"، باب "رجم اليهود أهل الذمة في الزنى" (1701) قال: حدثني هارون بن عبد الله، حدَّثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أَبو الزُّبَير أنَّه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم ورجلًا من اليهود وامرأته.

ثم قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة، حدَّثنا ابن جريج بهذا الإسناد مثله غير أنَّه قال: وامرأة.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفِي فرواه البخاري في "الحدود"، باب "أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورُفِعُوا إلى الإِمام"(6841)، ومسلم (1699) من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا

الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (رجم) أي: أمر، وأُسند الفعل إليه من باب المجاز العقلي؛ لأنه هو الآمر، وقد تقدم في حديث ماعز:(اذهبوا به فارجموه).

ص: 412

قوله: (رجلًا من أسلم) هو ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه.

قوله: (وامرأة) هذه رواية لمسلم، كما تقدم، والمراد بها الجهنية كما تقدم.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن أهل الكتاب وسائر أهل الذمة إذا رُفعوا إلينا حكمنا بينهم بما في شريعتنا، كان ذلك موافقًا لما عندهم أو مخالفًا، وأنزلناهم في الحكم منزلتنا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم برجم اليهوديين، وقد رجم ماعزًا وغيره من المسلمين.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على وجوب إقامة حد الزنى على الذِّمِّيّ إذا زنى؛ لأن أهل الذمة يعتقدون تحريم الزنى، كما في شريعتهم، ولذا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يجلدون، مع كذبهم في هذا، فإقامة الحد عليهم من باب المنع في وقوع مثل هذه الجريمة، وليس من باب التطهير والكفارة.

• الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال: إن الإحصان ليس من شروطه الإسلام، وأن الذِّمِّيَّ يحصِّن الذمية، فإذا وطئ الكافر في نكاح صحيح في شرعه فهو محصن، تجري عليهم أحكام المسلمين إذا ترافعوا إلينا، وهذا مذهب الشَّافعية والحنابلة، واختاره ابن القيم

(1)

.

والقول الثاني: أن الإسلام شرط في الإحصان، فلا يكون الكافر محصنًا، ولا تحصن الذمية مسلمًا، وعليه فلا يرجم الكافر، وهذا مذهب المالكية، وأكثر الحنفية، ورواية عند الحنابلة

(2)

، واستدلوا بما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أشرك بالله فليس بمحصن"

(3)

.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المشرك ليس بمحصن، والرجم لا يكون إلَّا للمحصن، فالإسلام إذن شرط في الإحصان.

وأجابوا عن حديث الباب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين بحكم التوراة، ولذا سألهم عنها، لا بهذه الشريعة، وكان ذلك عند قدومه المدينة،

(1)

"المهذب"(2/ 284)، "المغني"(12/ 381)، "زاد المعاد"(5/ 35).

(2)

"بداية المجتهد"(4/ 378)، "شرح فتح القدير"(5/ 24).

(3)

رواه الدَّارَقُطني (3/ 147).

ص: 413

لما ورد في بعض طرق القصة: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه اليهود)، وكان إذ ذاك مأمورًا باتباع حكم التوراة، ثم نُسخ ذلك بالحد المعروف.

والراجح القول الأول، لقوة دليله، وضعف دليل المخالف، فإن الحديث نص صريح في أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان.

وأما دليلهم وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقد روي مرفوعًا، وروي موقوفًا، قال الدَّارَقُطني:(والصحيح موقوفًا)

(1)

، ولو صح رفعه فقد تعين حمله على إحصان القذف، جمع أبينه وبين قصة اليهوديين؛ لأن الراوي واحد، فلا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه

(2)

، وعليه فلا يجب حد القذف على من قذف مشركًا.

وأما جوابهم عن حديث الباب بأنه أول قدومه المدينة فهي دعوى تحتاج إلى تحقيق التاريخ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك عند مقدمه المدينة لا يقتضي الفورية، ولا ينافي ثبوت شرعية حكم الرجم، والنبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن حكم التوراة في الرجم ليقيم عليهم الحجة من كتابهم الذي أنكروا أن يكون الرجم فيه، وليبين لهم أن كتب الله تعالى متفقة على هذا الحكم، وهو مأمور من ربه بأن يحكم عليهم بشرعه، قال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وهذا دليل قطعي بأنه مأمور بالحكم بما في شريعته.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن أنكحة الكفار صحيحة، ولولا صحة أنكحتهم ما ثبت إحصانهم.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على أن الكفار مخاطبون بالأوامر والنواهي على أرجح الأقوال في هذه المسألة، وهو مبني على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم عليهم بشرعه؛ لا بما في التوراة، وهو الظاهر، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(1)

"العلل"(13/ 75)، "السنن"(3/ 147).

(2)

انظر: "معرفة السنن"(12/ 281).

ص: 414

‌ما جاء في إقامة الحد على المريض

1222/ 11 - عَنْ سَعِيدِ بن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنهما قَال: كَانَ بين أَبْيَاتِنَا رُوَيجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبَثَ بأَمَةٍ مِنْ إِمَائِهمْ، فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"اضْرِبُوهُ حَدَّهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذلِكَ، فَقَال:"خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ثُمّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً"، فَفَعَلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَة، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ في وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي رضي الله عنهما، ذكره الجمهور في الصحابة رضي الله عنهم، وقال ابن عبد البر:(صحبته صحيحة)، واختلف فيه قول ابن حبان، فذكره في الصحابة، وفي ثقات التابعين، وقال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث)، وقال الواقدي:(كان واليًا لعلي رضي الله عنه على اليمن)

(1)

.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (36/ 263)، والنَّسائي في "الكبرى"(6/ 473)، وابن ماجة (2574) من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن سعيد بن سعد بن عبادة رفقا، قال: كان بين أبياتنا رويجل

وذكر الحديث.

(1)

"الاستيعاب"(4/ 195)، "الإصابة"(4/ 190)، "تهذيب التهذيب"(4/ 32).

ص: 415

وهذا الحديث في سنده محمد بن إسحاق، وهو صدوق حسن الحديث، لكنه مدلس، وقد عنعنه

(1)

، ثم إنه مختلف في إسناده، كما ذكر النَّسائي وغيره، فقد رواه أَبو داود (6/ 472) من حديث الزُّهْريّ، عن أبي أمامة، عن رجل من الأنصار، ورواه النَّسائي (6/ 472) من حديث الزُّهْريّ -أيضًا- عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، ورواه الدَّارَقُطني (3/ 99) من حديث فليح، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف.

وقد أعل -أيضًا- بالإرسال، فرواه النسائي من طريق يحيى بن سعيد القطان ومحمد بن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله، عن أبي أمامة، فذكره مرسلًا، ولما ذكر الاختلاف في إسناده قال:(أجودها حديث أبي أمامة مرسل)، ورواه غير واحد عن يحيى الأنصاري، عن أبي أمامة مرسلًا.

وقد رجح الدَّارَقُطني إرساله -أيضًا- والظاهر أن هذا لا يضر لأن أبا أمامة معدود في صغار الصحابة، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سماه وحنكه

(2)

.

قال الحافظ بعد أن ذكر طرق الحديث وما ورد فيها من اختلاف: (فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أَبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة، وأرسله مرة)

(3)

.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظ:

قوله: (أبياتنا) جمع بيت، ويجمع على بيوت -أيضًا- كما في "القاموس"

(4)

.

قوله: (رويجل) تصغير رجل، ولعل الغرض من ذلك التحقير، وقد ورد في بعض الروايات:(رويجل ضعيف مُخْدج) والمخدج: بضم الميم وسكون الخاء المعجمة، هو السقيم الناقص الخلق، وفي رواية:(مُقْعَدٌ زَمِن).

(1)

انظر: "مصباح الزجاجة"(2/ 312 - 313).

(2)

انظر: "العلل" للدارقطني (12/ 276)، "تهذيب التهذيب"(1/ 231).

(3)

"التلخيص"(3/ 95 - 96).

(4)

"ترتيب القاموس"(1/ 346).

ص: 416

والزَّمِنُ: هو المريض مرضًا يدوم طويلًا

(1)

.

قوله: (فخبث) بفتح الخاء والباء، من باب (قتل) أي: زنا وفجز

(2)

.

قوله: (فذكر ذلك سعد) هو سعد بن عبادة بن دُليم الأنصاري الخزرجي المدني رضي الله عنه، سيد الخزرج، شهد بيعة العقبة، اختلف في شهوده بدرًا، وقد جزم البخاري بشهوده إياها، وتبعه ابن منده، وقال ابن سعد: كان يتهيأ للخروج فَنُهِشَ فأقام، قال الذهبي:(له أحاديث يسيرة، مات قبل أوان الرواية)، وكان رضي الله عنه سيدًا جوادًا ملكًا شريفًا مطاعًا، مات سنة أربع أو ست عشرة

(3)

.

قوله: (عثكالًا) العثكال بالكسر على وزن قرطاس، وهو عذق النخل.

قوله: (شمراخ) بالكسر على وزن قرطاس -أيضًا-، هي فروع العثكال، وهي غصون دقيقة تنبت على أصل العثكال في أعلى الغصن الغليظ، وهي التي تنتظم فيها ثمرة النخلة، والعثكال للنخل كالعنقود للعنب.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إن المريض إذا ارتكب ما يوجب الجلد كالزنا أو القذف أو الشرب أنَّه يقام عليه الحد ولا يؤخر، فيقام عليه الحد بقدر ما يستطيع ويتحمل، وهذا أحد الأوجه الثلاثة عند الشَّافعية، وهو قول الظاهرية، وبعض الحنابلة

(4)

.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الحد على هذا الزاني مع علمه بضعفه وعدم تحمله، ومع ذلك أمر أن يقام عليه الحد بضربه بعذق فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، لئلا تفوت إقامة الحد عليه.

والظاهر أن هذا الحديث محمول على مريض لا يرجى برؤه، بدليل الصفات التي وصف بها هذا الرجل، كما تقدم، وهذا هو الذي يقام عليه

(1)

"المصباح المنير" ص (164، 256).

(2)

"المصباح المنير" ص (162).

(3)

"الطبقات"(3/ 614)، "الاستيعاب"(4/ 152)، "السير"(1/ 270)، "الإصابة"(4/ 152).

(4)

"المحلى"(12/ 91)، "روضة الطالبين"(7/ 317)، "الشرح الكبير"(26/ 193).

ص: 417

الحد ولا يؤخر؛ لأنه ليس له نهاية تنتظر، أما من كان يرجى برؤه، أو خيف عليه شدة حر أو برد فيؤخر الحد حتَّى يبرأ، أو يزول ما يُخاف منه، ليقام الحدُّ على الوجه الشرعي، يقول ابن القيم:(تأخير الحد أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض لمصلحة المحدود)

(1)

.

وقد تقدم ما رواه مسلم موقوفًا من طريق السدي، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدود من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدي، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخفت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول لله صلى الله عليه وسلم فقال:"أحسنت"

(2)

.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن المخارج المؤدية إلى أعمال مباحة أنَّه يجوز ارتكابها، ولا تعد من الحيل المنهي عنها التي تفضي إلى أمور محرمة. والله تعالى أعلم.

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 18).

(2)

"صحيح مسلم"(1705).

ص: 418

‌حكم من عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط أو وقع على بهيمة

1223/ 12 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ والْمَفْعُولَ بهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوا الْبَهيمَةَ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثقُونَ، إلا أَنَّ فِيهِ اخْتِلافًا.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث عبارة عن حديثين، كل جملة في حديث مستقل، الأول حديث عمل قوم لوط، والثاني حديث الوقوع على بهيمة، وقد جمعهما الحافظ في سياق واحد، ولعل ذلك لاتحاد الصحابي والسند.

وقد رواهما أحمد (4/ 464)، وأَبو داود في كتاب "الحدود"، بابٌ "فيمن عمل عمل قوم لوط"(4462)، وبابٌ "فيمن أتى بهيمة"(4464)، والتِّرمِذي (1455)(1456)، والنَّسائي في "الكبرى"(6/ 486) مقتصرًا على الجملة الثانية، وساق الأولى بلفظ:"لعن الله من عمل عمل قوم لوط"، وابن ماجة (1561) كلهم من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، مرفوعًا.

وهذا الحديث رجاله موثقون -كما قال الحافظ -أي: قيل بتوثيقهم، فعمرو بن أبي عمرو متكلم فيه، قال البخاري: (عمرو بن أبي عمرو صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولا أقول بحديث عمرو بن أبي عمرو أنَّه من

ص: 419

وقع على بهيمة يقتل)

(1)

، وقال يحيى بن معين:(عمرو ثقة، ينكر عليه هذا الحديث)

(2)

. وقال أحمد: (ليس به بأس)، ووثقه أَبو زرعة، وقال أَبو حاتم:(لا بأس به)

(3)

، وقال أَبو داود:(ليس هو بالقوي)، وقال الذهبي:(صدوق، حديثه مخرج في الصحيحين في الأصول) ثم قال فيما بعد: (حديثه صالح حسن منحط عن الدرجة العليا من الصحيح)

(4)

فتعقبه الحافظ بقوله: (كذا قال، وحق العبارة أن يحذف العليا)

(5)

. ونقل عبد الحق عن النَّسائي أنَّه استنكر هذا الحديث

(6)

، وقال الحافظ (لم يخرج له البخاري من روايته عن عكرمة شيئًا، بل عن أَنس وغيره)

(7)

.

والذي يظهر أن الرجل لا بأس به، لكن قد أُنكر عليه هذا الحديث، وقد ذكر الذهبي في مقدمة كتابه "من تُكُلِّمَ فيه وهو موثَّق" أن ثقات الرواة الذين تكلم فيهم بعض الأئمة لا ينزل حديثهم عن رتبة الحسن، إلَّا أن يكون للرجل منهم أحاديث تُستنكر عليه، وهي التي تُكُلِّمَ فيه من أجلها، فينبغي التوقف في هذه الأحاديث.

وقد تابع عمرو بن أبي عمرو داود بن الحصين، عن عكرمة، كما رواه عبد الرزاق (13492)، وعباد بن منصور عند البيهقي (8/ 234) ولا يفرح بهما؛ لشدة ضعفهما.

وقول الحافظ: (إلَّا أن فيه اختلافًا) أي: في كل جملة من هذا الحديث جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما ما يخالفها، أما الأولى فقد روى أَبو داود (4463) عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما هي في البكر يوجد على اللوطية، قال: يرجم، وروى

(1)

"علل التِّرمِذي الكبير"(2/ 622).

(2)

انظر: "الكامل" لابن عدي (5/ 116).

(3)

"الميزان"(3/ 281).

(4)

"تهذيب التهذيب"(8/ 73).

(5)

"شرح علل التِّرمِذي"(2/ 643 - 644)، "تهذيب التهذيب"(8/ 72).

(6)

"الأحكام الوسطى"(4/ 88)، وانظر:"التلخيص"(4/ 61).

(7)

"هدي الساري"(432).

ص: 420

البيهقي (8/ 232) عنه قال: ينظر أعلي بناء في القرية فيرمى به منكسًا، ثم يتبع الحجارة.

وأما الجملة الثانية فقد روى البيهقي (8/ 234) عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رَزِين، سئل ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن الذي يأتي البهيمة، قال: لا حدَّ عليه.

فهذا الاختلاف عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما يدل على أنَّه ليس عنده فيهما سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما تكلم باجتهاده.

والحق أن ما جاء عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما بالنسبة للجملة الأولى لا يعد اختلافًا؛ لأن الحديث ورد بالقتل، وما ورد عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما صور من صور هذا القتل.

وأما بالنسبة للجملة الثانية فهو اختلاف، وقد اختلفت كلمة العلماء في الخروج من هذا الاختلاف.

فالإمام أحمد

(1)

وأَبو داود والترمذي وآخرون رجحوا حديث عاصم في أن الذي يأتي البهيمة لا حد عليه، وهو الذي يظهر من كلام البخاري، كما تقدم، وذلك لضعف عمرو بن أبي عمرو.

والبيهقي وجماعة رجحوا رواية عمرو بن أبي عمرو لأمور ثلاثة:

1 -

أن القاعدة في مثل هذا تقديم الرواية على الرأي، فإنه لا حكم لرأي ابن عبَّاس إذا انفرد، فكيف إذا عارض المروي، فيترجح المرفوع على الموقوف.

2 -

أن عمرًا تابعه على روايته جماعة، كما عند عبد الرزاق في "مصنفه".

3 -

أن عمرًا لا يقصر عن عاصم في الحفظ، بل لعله خير منه في الحديث، فقد قال الحافظ عن عاصسم:(صدوق له أوهام) وقال عن عمرو: (ثقة ربما وهم) وتقدم من وثقه، ولكن المعوَّل في هذا الأمر العظيم على ما قاله كبار الأئمة، أمثال أحمد والبخاري، كما تقدم.

(1)

انظر: "مسائل الإِمام أحمد" رواية ابنه عبد الله ص (326)، "المغني"(12/ 352).

ص: 421

• الوجه الثاني: اتفق أهل العلم على تحريم عمل قوم لوط وأنه من كبائر الذنوب، وقد ذم الله تعالى هذه الفعلة الشنيعة، وقص علينا قصتهم تحذيرًا لنا أن نسلك سبيلهم، فيصيبنا ما أصابهم، وذلك في أكثر من موضع في القرآن.

وقد اختلف العلماء في عقوبة هذه الجريمة على ثلاثة أقوال:

الأول: أنَّه يقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا، سواء أكانا محصنين أو بكرين، أو أحدهما محصنًا والآخر بكرًا، وهذا قول مالك، وأحد قولي الشَّافعي، ورواية عن أحمد، وصفها ابن القيم بأنها أصح الروايتين، وحكى ابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، إجماع الصحابة على هذا القول

(1)

، واستدلوا بحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما رقِي هذا، لكنهم اختلفوا في كيفية قتله، على خمسة أقوال:

الأول: أنَّه يقتل بالسيف، لظاهر حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، فإن القتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف.

القول الثاني: أنَّه يرجم بالحجارة؛ لحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يعمل عمل قوم لوط قال: "فارجموا الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا"

(2)

، وهو قول عمر وعلي وابن عبَّاس رضي الله عنهم.

والقول الثالث: أنَّه يرفع على أعلي بناء في البلد فيرمى منه منكسًا ويتبع بالحجارة؛ لأن هذه عقوبة الله تعالى بقوم لوط، كما قال تعالى:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)} [الحجر: 74]، قال الشنقيطي: (وهذا غير ظاهر؛ لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده، بل عليه وعلى الكفر وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم قد جمعوا إلى اللواط ما هو أعظم من اللواط،

(1)

"تبصرة الحكام"(2/ 261)، "المغني"(12/ 348)، "مغني المحتاج"(4/ 144)، "الداء والدواء" ص (246).

(2)

رواه ابن ماجة (2562)، وسنده ضعيف؛ لأن فيه عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ضعيف من قبل حفظه، وقد أشار إلى هذا التِّرمِذي في "جامعه" بإثر الحديث (1456).

ص: 422

وهو الكفر بالله وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

والقول الرابع: أنَّه يحرق بالنار؛ وهو قول أبي بكر وعلي وابن الزُّبَير رضي الله عنهم، وكأن عليًّا يرى الرجم ويرى التحريق.

والقول الخامس: يهدم عليه حائط، وهذا مروي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

والقول الثاني في المسألة: أنَّه يحد حد الزاني، فيجلد مائة ويغرب إن كان بكرًا، ويرجم إن كان محصنًا، وهذا قول للشافعي، ورواية عن أحمد، وقول جماعة من السلف ذكرهم ابن القيم، وهؤلاء أطلقوا عليه أنَّه زنى وجعلوا تعريف الزنا شاملًا له

(2)

، واستدلوا بدليلين:

الأول: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"

(3)

.

الثاني: القياس على الزنا بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج، فهو وطء في محل محرم.

واعتذروا عن حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما بأن فيه مقالًا، فلا ينتهض على إباحة دم المسلم.

والقول الثالث: أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزاني وإنَّما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك، وهذا قول أبي حنيفة، وقول عند الشَّافعية، وهو قول الظاهرية

(4)

، واحتجوا بأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيه، واختلافهم فيه يدل على أنَّه ليس فيه نص صريح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات.

والذي يظهر - والله أعلم - هو القول الأول القاضي بأن يقتل مطلقًا إن ثبت إجماع الصحابة الذي حكاه من تقدم ذكرهم، ويكون هذا الإجماع مقويًا للحديث، وإلَّا فالقول الثالث أظهر؛ لأن حديث الباب وحده لا ينتهض على

(1)

"أضواء البيان"(3/ 43).

(2)

"الداء والدواء" ص (246).

(3)

رواه البيهقي (8/ 233).

(4)

"شرح فتح القدير"(5/ 262)، "المحلى"(13/ 448)، "مغني المحتاج"(4/ 144).

ص: 423

إباحة دم المسلم، والمسألة مرجعها إلى اجتهاد القاضي ونظره.

أما ما استدل به أصحاب القول الثاني من حديث أبي موسى رضي الله عنه، فقد ضعفه الحافظان الذهبي وابن حجر؛ لأنه من رواية بشر بن الفضل البجلي، وهو مجهول

(1)

، وفي إسناد البيهقي محمد بن عبد الرحمن المقدسي، كذبه أَبو حاتم، ونقل الذهبي عن الأزدي أن قال:(لا يصح حديثه)

(2)

.

وأما القياس فهو فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة نص، بناء على صحة الحديث واستقامة الاستدلال به.

• الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن من وقع على بهيمة فإنه يقتل بكل حال، وهذا رواية عن أحمد، وقال الشَّافعي:(إن صح الحديث قلت به) وهو ظاهر اختيار ابن القيم

(3)

.

والقول الثاني: أن حده حد الزاني، وهذا قول الشَّافعي، وقول للمالكية، وهو قول الحسن البصري

(4)

، ودليلهم القياس على الزنا بجامع أن كلًّا منهما وطء في فرج محرم ليس فيه شبهة، فيكون حده كالزنى.

والقول الثالث: أنَّه يعزر ولا حد عليه، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم أَبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه، والشَّافعي في قول له، وأحمد في رواية عنه، قال المرداوي:(هي المذهب وعليها جماهير الأصحاب)، وهو قول إسحاق، والظاهرية

(5)

.

واستدلوا بأن لم يصح في عقوبته شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعقوبات المقدرة لا بد فيها من دليل ثابت سالم من الاعتراض، ولا دليل هنا ثابت، فلا حد

(1)

"الميزان"(1/ 324).

(2)

"الجرح والتعديل"(7/ 325)، "المغني في الضعفاء"(3/ 338)، "التلخيص"(6/ 2738).

(3)

"الداء والدواء" ص (257)، "مغني المحتاج"(4/ 145)، "الإنصاف"(10/ 178).

(4)

"تبصرة الحكام"(2/ 258)، "المغني"(12/ 352).

(5)

"بدائع الصنائع"(7/ 34)، "تبصرة الحكام"(2/ 258)، "مغني المحتاج"(4/ 145)، "المغني"(12/ 351)، "الإنصاف"(10/ 178).

ص: 424

إذن، وقد روى ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه:(ليس على من أتى بهيمة حد)

(1)

.

وهذا أرجح الأقوال؛ لأن من أتى بهيمة فعل فعلًا محرمًا مجمعًا عليه، فاستحق العقوبة بالتعزير، وهذا أقل ما يفعل به، والبهيمة لا حرمة لها، وليس بمرغوب فيها فلا حاجة للزجر عنها بالحد؛ لأن النفوس تعاف ذلك الفعل المستهجن، فيبقى على الأصل في انتفاء الحد ووجوب التعزير.

وأما حديث الباب فلم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة، ولا نُقِلَ عن الصحابة إجماع على القتل، كما نقل فيمن عمِل عَمل قوم لوط - إن ثبت هذا الإجماع - بل ورد عن ابن عبَّاس وعمر رضي الله عنه أنَّه لا حد عليه كما تقدم.

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إن البهيمة التي وقع عليها إنسان تقتل، وهذا هو القول الراجح في مذهب الحنابلة، وكذا الشَّافعية في الراجح عندهم إذا كانت البهيمة مما يؤكل، وحديث الباب عام في كل بهيمة مأكولة أو غير مأكولة.

والحكمة من قتلها ما رواه أبو داود والنَّسائي أنَّه قيل لابن عبَّاس: ما شأن البهيمة؟ -أي: لأنها لا عقل لها ولا تكليف عليها فما بالها تقتل- قال: ما أُراه قال ذلك، إلَّا أنَّه يكره أن يؤكل لحمها أو يُنْتَفَعُ بها وقد عمل بها ذلك العمل.

وروي أنَّه قال: إنها تُرى فيقال: هذه التي فعل بها ما فعل.

والقول الثافي: أنَّها إن كانت مأكولة ذبحت وإلَّا لم تقتل، وهذا قول في مذهب الشَّافعية

(2)

، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلَّا لمأكله

(3)

.

والأول هو الراجح، وهو أنَّها تقتل لا سيما إذا كانت مأكولة يمكن الاستفادة منها، أما إن كانت غير مأكولة كالحمار والبغل ونحوهما، فإن قتلت فهو أخذ بعموم الحديث، وإن أبعدت إلى مكان آخر يمكن أن تعيش فيه، لكان فيه وجاهة في نظري، والله أعلم.

(1)

"المصنف"(10/ 6).

(2)

"المهذب"(2/ 345).

(3)

رواه مالك (2/ 447) ومن طريقه البيهقي (9/ 89) على أنَّه من كلام أبي بكر رضي الله عنه. وانظر: "المراسيل" لأبي داود ص (398).

ص: 425

‌ما جاء في أن التغريب باقٍ ينسخ

1224/ 13 - عَنْ ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرجَالُهُ ثِقَاتٌ، إلا أَنَّهُ اخْتُلِفَ في رَفْعِهِ ووَقْفِهِ.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه التِّرمِذي في أَبواب "الحدود"، باب "ما جاء في النفي" (1438) قال: حدَّثنا أَبو كريب، ويحيى بن أكثم، قالا: حدَّثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.

وهذا الحديث إسناده قوي، ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، فقد رواه أَبو كريب، ويحيى بن أكثم وآخرون مرفوعًا كما مَرَّ، ورواه محمد بن عبد الله بن نمير، وأَبو سعيد الأشج، كلاهما عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب، هكذا موقوفًا لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الدَّارَقُطني عن وقفه: (هو الصواب). ورواية أبي سعيد الأشج رواها البيهقي (8/ 223) من طريق إبراهيم بن أبي طالب، حدثني أَبو سعيد، به.

وروي مرسلًا من طريق يوسف بن محمد بن سابق، عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم

مرسلًا لم يذكر ابن عمر. وقد

ص: 426

رجح أَبو حاتم إرساله

(1)

.

قال التِّرمِذي: (وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النفي، رواه أَبو هريرة وزيد بن خالد، وعبادة بن الصامت، وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم).

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن جلد الزاني البكر وتغريبه عن محل إقامته مدة سنة أمر مستقر، وأنه لم ينسخ ولم يغير، بدليل فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولعل هذا هو الغرض من ذكرهم في هذا الحديث، وإلَّا فالحجة قائمة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم".

ولعل الحافظ ساق هذا الحديث ردًّا على من ادعى نسخ التغريب، كما قالت الحنفية، وهذا أمر لا سبيل إلى إثباته بعد ثبوت عمل الخلفاء رضي الله عنهم بالتغريب، مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "العلل الكبير" للترمذي (2/ 600)، "علل ابن أبي حاتم"(1382)، "علل الدارقطني"(12/ 320 - 321).

ص: 427

‌حكم دخول المتشبه بالنساء على المرأة

1225/ 14 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَال، وَالْمُتَرَجِّلَات مِنَ النِّسَاءِ. وَقَال:"أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكِمْ"، رَوَاهُ الْبُخَاريُّ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "نفي أهل المعاصي والمخنثين"(6834) من طريق هشام الدستوائي، حدَّثنا يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، وتمام الحديث: وأخرج فلانًا، وأخرج عمر فلانًا.

ورواه -أيضًا- في "اللباس"(5885) من طريق شعبة، عن قَتَادة، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، ولفظه:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم) تقدم في "الجنائز" أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى (لعن رسول الله) أي: دعا باللعنة.

قوله: (المخنثين من الرجال) جمع مخنث، بفتح النون وكسرها، على وزن اسم الفاعل أو اسم المفعول، وهو المؤنث من الرجال، وهو الرجل الذي يتشبه بالنساء في أخلاقه وحركاته وكلامه وزيّه وغير ذلك مما هو من خصائص النساء، مأخوذ من التخنث، وهو التكسر في المشي وغيره.

ص: 428

قوله: (والمترجلات من النساء) جمع مترجلة، وهي المرأة التي تتشبه بالرجال في أخلاقها وحركاتها وكلامها وزيها وغير ذلك مما هو من خصائص الرجال.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم تشبه الرجال بالنساء وأن ذلك من كبائر الذنوب، لثبوت لعن من فعل ذلك، فينهى الرجل عن التشبه بالمرأة في كل أمر جاء الشرع بتخصيصه بالنساء؛ كالحرير ولبس الذهب والحجاب، وصفة زيها وملابسها، ونحو هذا مما ثبت به النص، أو لم يأت به الشرع ولكن قضى به العرف، فإنه يعتبر ما عليه حال الناس وما قضى به عرفهم ما لم يتضمن مفسدة منعها الشرع، وعلى هذا فيحرم على الرجل لبس حلية الذهب والتزعفر وهو كل طيب له لون، ويحرم على الرجل أن يتشبه بالمرأة في مشيتها وكلامها.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم تشبه النساء بالرجال، وأن ذلك من كبائر الذنوب، فتنهى المرأة عن التشبه بالرجل في كل أمر جاء الشرع بتخصيص الرجل به، مثل كون لباس الرجل فوق الكعبين، أو لم يات به الشرع ولكن قضى به العرف، فإنه يعتبر في ذلك ما لم تتضمن مفسدة منعها الشرع.

وقد ذكر العلماء أن الحديث محمول على من قصد التشبه بالآخر مما يمكن تركه، أما ما لا حيلة للرجل أو المرأة فيه فلا إثم فيه؛ لأنه غير داخل في الاستطاعة، مثل رقة الصوت عند الرجل أو خشونته عند المرأة أو تكسره في مشيته وثبوتها وانتصابها في ذلك، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:(وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته، فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به)

(1)

.

• الوجه الخامس: الحكمة من النهي عن التشبه أن الله تعالى خلق

(1)

"فتح الباري"(10/ 332).

ص: 429

الإنسان وجعل لكل من الرجل والمرأة خصائص ينفرد بها عن الآخر في تكوين بدنه، وفي طباعه وصفاته النفسية والعقلية، وجعل لكل منهما وظيفة ورسالة في هذه الحياة تناسب تكوينه وما فطر عليه، ولن تستقيم أمور الناس وتنتظم أحوالهم حتَّى يقوم كل من الرجل والمرأة بوظيفته التي تلائمه.

ومن هنا جاء الإسلام بنهي المرأة عن التشبه بالرجل، ونهى الرجل عن التشبه بالمرأة؛ لأن انتزاع الرجل بعض خصائص المرأة أو وظائفها هو فقد للرجولة الحقة والحياة السوية، وكذا المرأة متى حاولت انتزاع بعض خصائص الرجل أو وظائفه فهي ممسوخة وخارجة عن طبيعتها وأنوثتها.

ومن مقاصد الشريعة في تحريم التشبه ولعن فاعله إظهارُ الفرق بين الرجل والمرأة، وسَدُّ الذرائع، لما قد يفضي إليه هذا التشبه من مفاسد عظيمة، فإن الرجل إذا تشبه بالمرأة في لباسها وحركاتها وصوتها قد يفضي به ذلك إلى أن يمكن من نفسه كأنه امرأة، ولعل هذا غرض الحافظ من ذكر هذا الحديث في آخر باب الزنى، وقد تبع في هذا البخاري، فإنه ذكره في "الحدود".

وكذا المرأة متى تشبهت بالرجل اكتسبت من أخلاقه ما يهون عليها أمر البروز والخروج من منزلها ومشاركة الرجال، وصارت تُظهر من بدنها مثل ما يظهره الرجل

(1)

.

هذا فيما يتعلق بتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، وأما التشبه بالكفار فسيأتي - إن شاء الله - في كتاب "الجامع".

• الوجه السادس: في الحديث دليل على مشروعية نفي من أتى معصية لا حد فيها، وهو يدل على نفي من أتى ما فيه حد من باب أولى، والنهي عن دخول المخنثين في البيوت من الطرق والتدابير الواقية من الزنا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول المخنث على النساء لما سمعه يصف المرأة بأوصاف تهيج قلوب الرجال. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الفتاوى"(22/ 154)، "التقليد والتبعية" لناصر العقل ص (91)، "التشبه المنهي عنه" ص (172).

ص: 430

‌ما جاء في أن الحدود تدرأ بالشبهات

1226/ 15 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا"، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَة، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

1227/ 16 - وَأَخْرَجَهُ التِّرمذي وَالحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِلَفْظِ: "ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَهُوَ ضعِيفٌ أَيضًا.

1228/ 17 - وَرَوَاهُ البَيهَقِي عَنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ بِلَفْظِ: "ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه فقد رواه ابن ماجة (2545) من طريق إبراهيم بن الفضل، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف -كما قال الحافظ - بل ضعيف جدًّا، فيه إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني، ضعفه أحمد وابن معين وأَبو زرعة وأَبو حاتم والبخاري وآخرون، وقد نقل الحافظ أقوال الأئمة فيه

(1)

، ولخص حاله في "التقريب"، فقال:(متروك).

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه التِّرمِذي في أَبواب "الحدود"، باب "ما جاء في درء الحدود"(1424)، والحاكم (4/ 384) من طريق يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزُّهْريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

(1)

"تهذيب التهذيب"(1/ 131).

ص: 431

وهذا سند ضعيف -كما قال الحافظ- بل ضعيف جدًّا، فيه يزيد بن زياد القرشي الدمشقي، قال عنه البخاري:(منكر الحديث ذاهب)

(1)

، ولما قال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) تعقبه الذهبي بقوله: (يزيد بن زياد شامي متروك).

ورواه البيهقي (8/ 238) من طريق عبد الله بن هاشم، حدَّثنا وكيع، عن يزيد، فذكره موقوفًا.

قال التِّرمِذي: (ورواية وكيع أصح)، وقال البيهقي:(ورواية وكيع أقرب إلى الصواب)، وهذا لا يعني صحة الموقوف، فإن الحديث مداره على يزيد بن زياد، وعليه فلا يصح لا مرفوعًا ولا موقوفًا.

وأما حديث علي رضي الله عنه وأنه من قوله، فلم أقف عليه لا في "السنن"

ولا في "المعرفة" للبيهقي، وقد رواه في "السنن الكبرى"(8/ 238) من طريق المختار بن نافع، ثنا أَبو حيان التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه مرفوعًا، وسنده ضعيف جدًّا، المختار بن نافع قال عنه البخاري:(منكر الحديث). ورواه في "الخلافيات" عن علي رضي الله عنه موقوفًا

(2)

، وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال:(ادرأوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم)

(3)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (ادرأوا) أي: ادفعوا، والدرء هو الدفع، والخطاب للحكام ومن ينوب منابهم كالقضاة.

قوله: (بالشبهات) جمع شبهة، والشبهة مأخوذة من الاشتباه، وهو

(1)

"العلل الكبير"(2/ 596).

(2)

انظر: "نصب الراية"(3/ 333).

(3)

رواه ابن أبي شيبة (11/ 70)، والبيهقي (8/ 238)، وقال في "المعرفة" (12/ 328):(إنه أصح ما روي في هذا الباب)، وحسنه الألباني في "الإرواء". ورواه ابن حزم عن عمر رضي الله عنه موقوفًا، وصححه الحافظ في "التلخيص"(4/ 63)، وقال التِّرمِذي:(وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك).

ص: 432

الالتباس وعدم اتضاح الشيء؛ أي: فلا تحدوا إلَّا بأمر متيقن لا يتطرق إليه تأويل.

• الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذه الأحاديث على أن الحد يدفع بالشبهة التي يجوز وقوعها؛ كدعوى الإكراه، أو أنَّها أُتيت وهي نائمة، أو رجوع المقر عن إقراره، أو كون الشهود على الزنا نساء، وغير ذلك من الشبهات التي لا يمكن حصرها؛ لأن أساسها في الغالب الوقائع وهي لا تحصر، والمرجع في ذلك إلى اجتهاد القاضي واقتناعه بما يدعى أنَّه شبهة.

والقول بأن الحدود تدرأ بالشبهات موضع اتفاق بين الفقهاء ما عدا الظاهرية فهم لا يقولون به، ويرون أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، قال ابن حزم:(لا يحل درء حد بشبهة ولا إقامته بشبهة، وإنَّما هو الحق واليقين فقط)

(1)

.

والفقهاء يختلفون فيما يصح أن يكون شبهة وما لا يصح، مثل إكراه الرجل على الوطء، بعضهم يعتبره شبهة، وبعضهم لا يعتبره.

وأحاديث الباب لم يثبت منها شيء مرفوعًا، وبعض الموقوف لا بأس به، كما تقدم، فيكون المعول عليه، ويؤيده ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من العمومات، كما في قصة ماعز رضي الله عنه أنَّه قال له:"لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت" كل ذلك يلقنه أن يقول نعم، بعد إقراره بالزنا، ولا فائدة من ذلك إلَّا كونه لو قالها تُرك، وكذا ما جاء في قصة الغامدية، وسيأتي في باب "السرقة" ما يؤيد ذلك أيضًا.

ثم إن أحاديث الباب وإن لم تصح من جهة الإسناد، فهي صحيحة من جهة المتن، ومعناها مقطوع به من جهة الشرع، وموافق لمقتضى العقل، وذلك أن الحد عقوبة مقدرة على معصية، وهذه المعصية لا بد أن تتحقق لتنطبق عليها العقوبة، ولا تتحقق مع قيام الشبهة؛ لأننا إذا أقمنا الحد مع قيام

(1)

"المحلى"(11/ 243).

ص: 433

الشبهة فمعناه أننا اعتقدنا ثبوت ما ليس بثابت، وهذا من باب الحكم بالظن، وهو لا يكفي في عقوبة بليغة قد تصل إلى إتلاف معصوم أو إضرار بمسلم فيما يتعلق بجلده أو الحط من قدره في المجتمع.

وقد قرر الباحثون في الفقه الإسلامي أن قاعدة درء الحدود بالشبهة لها ارتباط وثيق بقاعدة البراءة الأصلية، وأن الأصل في الإنسان براءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات حتَّى تثبت إدانته بدليل صحيح لا يتطرق إليه الظن والاحتمال، بناء على أن الأصل براءة الذمة، يقول الشوكاني عن الأدلة في هذا الباب:(والجميع يصلح للاحتجاج به، لا سيما والأصل في الدماء ونحوها العصمة، فلا تستباح مع وجود ما يدل على سقوط الحد)

(1)

.

• الوجه الرابع: يستفاد مما تقدم أنَّه يجب على الحاكم والقاضي الاحتياط في إقامة الحدود وفرض العقوبات، وعليه أن ينظر في الشبهات التي تتوارد على القضية، فما اقتنع به أثبته، وما لم يقتنع به ألغاه، وأثبت الجريمة وأدان الجاني. والله تعالى أعلم.

(1)

"السيل الجرار"(4/ 316).

ص: 434

‌من ألمَّ بمعصية فعليه أن يستتر

1229/ 18 - عَنِ ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا هذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتي نَهى اللهُ تَعَالى عَنْهَا، فَمَنْ ألَمَّ بهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعَالى، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيهِ كِتَابَ اللهِ عز وجل"، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ في الْمُوَطَّإِ مِنْ مُرْسَلِ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(1/ 86)، والحاكم (4/ 244)، والبيهقي (8/ 330) من طريق أسد بن موسى، حدَّثنا أَنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، حدثني عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رجم الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورة

الحديث" وهذا السياق للطحاوي.

والحديث إسناده قوي، وظاهره الصحة، أسد بن موسى ثقة، وبقية رجاله على شرطهما، قال الحاكم:(إسناد صحيح على شرط الشيخين) وسكت عنه الذهبي، مع أن أسد بن موسى لم يخرجا له ولا أحدهما.

وقد أعل بالإرسال، فقد ذكر الدَّارَقُطني طرق الحديث وأنه رواه اللَّيث بن سعد وابن عيينة وحماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار، مرسلًا عن النبي هو أشبهها الصواب)

(1)

.

(1)

"العلل"(12/ 385 - 386).

ص: 435

ورواه مالك (2/ 825) عن زيد بن أسلم أن رجلًا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكره بنحوه.

ورواه الشَّافعي في "الأم"(7/ 367 - 368) قال: أخبرنا مالك به مرسلًا، ثم قال:(هذا حديث منقطع ليس مما يثبت به، هو نفسه حجة، وقد رأيت من أهل العلم عندنا من يعرفه، ويقول به، فنحن نقول به).

وقال ابن عبد البر: (هكذا روى هذا الحديث مرسلًا جماعة الرواة للموطأ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه)

(1)

، قال الحافظ:(ومراده بذلك: من حديث مالك، وإلَّا فقد روى الحاكم.)

(2)

ثم ذكره مسندًا، كما تقدم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (هذه القاذورات) هكذا بالجمع في نسخ "البلوغ" وقد جاءت بلفظ الإفراد في المصادر المذكورة في التخريج، إلَّا في "الموطأ" فقد جاءت بالجمع، وهي جمع قاذورة، وهي الأمر القبيح والفعل السيئ، والمراد ما فيه حد كالزنا والشرب، وسميت قاذورة؛ لأن حقها أن تقذر، فوصفت بما يوسف به صاحبها، والمعاصي كلها قاذورات.

قوله: (فمن ألمَّ بها) أي: فعلها وارتكبها.

قوله: (من يبد لنا) أي: يظهر ما فعل.

قوله: (صفحته) أي: جانبه أو وجهه، والمراد هنا حقيقة أمره، والمعنى: من تظهر لنا جريمته وتصل إلى الإِمام نقم عليه الحد ولا نتركه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم تعاطي ما حرم الله تعالى من المعاصي من الأقوال والأفعال، والمعاصي كلها قاذورات، فيجب البعد عنها والحذر منها، ومن وقع في شيء منها فليستتر بستر الله تعالى، ولا يظهر ما فعل، وعليه أن يبادر بالتوبة، والله تعالى يقبل توبة عبده متى تحققت شروطها،

(1)

"التمهيد"(5/ 321).

(2)

"التلخيص"(4/ 64).

ص: 436

وأصح الأقوال عند أهل العلم أن الأفضل فيمن ارتكب معصية أو ما يوجب الحد أن يستر على نفسه ويتوب فيما بينه وبين الله تعالى، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستر الله على عبد في الدنيا إلَّا ستره الله يوم القيامة"

(1)

. وعنه -أيضًا- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافى إلَّا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه"

(2)

.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن من أظهر المعصية وما حصل منه، أنَّه يقام عليه أمر الله تعالى، وكذا لو ثبتت عليه بالبينة، وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه مسلم (2590).

(2)

رواه البخاري (6069)، ومسلم (2990).

ص: 437

‌باب حد القذف

القذف في اللغة: الرمي بالحجارة ونحوها مما يؤذي ويضر، واستعير للسب وتوجيه العيوب، بجامع الإضرار في كلّ، وإضافة الحد إلى القذف من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ أي: الحد الذي سببه القذف.

والقذف شرعًا: الرمي بالزنا.

ولا خلاف بين أهل العلم في أن الرمي بالزنا قذف يوجب الحدَّ على القاذف، وإنَّما الخلاف في الرمي بعمل قوم لوط، وهذا مبني على الخلاف في اعتباره زنا، فمن اعتبره زنا، قال: الرمي به مثل الرمي بالزنا، وهو قول مالك والشَّافعي وأحمد، ومن لم يعتبره زنا، قال: إن الرمي به يوجب التعزير، وهو قول أبي حنيفة

(1)

.

ومثال القذف أن يقول: يا زانٍ، أو أنت زانٍ، أو يا من فَعَلَ عَمَلَ قوم لوط، أو نحو ذلك من الألفاظ الصريحة في القذف، ومثله لو قال: فضحتِ زوجَكِ، أو يا قَحْبة، ونحو ذلك، بشرط وجود قرينة تدل على المراد؛ لأن هذه الألفاظ كنايات، على ما ذكره الفقهاء.

والقذف من كبائر الذنوب إذا كان المقذوف محصنًا - وهو: الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله - وإنَّما كان من الكبائر؛ لثبوت الحد فيه ولعن فاعله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

(1)

"التشريع الجنائي"(2/ 463).

ص: 438

وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} [النور: 23] وعده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات

(1)

.

وتخصيص النساء بالذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} مع أن الرجال في حكمهن بلا خلاف؛ لأن قذف النساء أشنع وأعظم.

والحكمة من تحريمه وإيجاب الحد على فاعله صيانة الأعراض، وتطهير المجتمع من بذاءة اللسان، وثرثرة الكلام، وإشاعة الفواحش، وفضح البيوت، واتهام الأعراض، والتشكيك في الأنساب.

وإقامة حد القذف هو العلاج الحاسم والدواء الشافي الذي يهدف إلى استئصال الشر من جذوره، وتطهير المجتمع من اللغو والكلام الباطل، خلافًا للقوانين الوضعية في بعض الدول العربية التي تعاقب على القذف بالحبس والغرامة، أو أحدهما، ومثل هذا لا يرجع الجاني ولا يزجر غيره. والله عليم حكيم.

(1)

رواه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه.

ص: 439

‌ثبوت حد القذف

1230/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: لَمّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَينِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَأَشَارَ إِلَيهِ الْبُخَارِيُّ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (40/ 76 - 77)، وأَبو داود في كتاب "الحدود"، باب "في حد القذف"(4474)، والتِّرمِذي (3181)، والنَّسائي في "الكبرى"(6/ 489)، وابن ماجة (2567) من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنهما.

وهذا الحديث حسنه التِّرمِذي، وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس وقد عنعنه، لكن صرح بالتحديث عند الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(7/ 409) وعند البيهقي كما في "دلائل النبوة"(4/ 74)، و"السنن الكبرى"(8/ 550) فزال بذلك ما يخشى من تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.

لكن قد يشكل على هذا أن الشيخين قد رويا قصة الإفك بطولي وتفاصيلها، ولم يرد ذكر لِجَلْدِ الرامين، نعم ورد التصريح بأسماء القذفة، لكن لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلدهم

(1)

.

ثم إن الحديث قد اختلف فيه على ابن إسحاق فرواه جماعة من الثقات

(1)

انظر: "فتح الباري"(13/ 342).

ص: 440

عنه موصولًا بذكر عائشة رضي الله عنها -كما تقدم، ورواه محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة مرسلًا

(1)

.

وقول الحافظ: (وأشار إليه البخاري) مراده بذلك قول البخاري في كتاب "الاعتصام" من "صحيحه": باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ} [الشورى: 38]{وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، (وشاور النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا وأسامة فيما رمى به أصحاب الإفك عائشة، فسمع منهما حتَّى نزل القرآن، فجلد الرامين.)

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لما نزل عذري) أي: الآيات الدالة على براءتها مما رميت به، شبهتها بالعذر الذي يبرئ المعذور من الجرم.

قوله: (على المنبر) اسم آلة، مشتق من النبر، وهو الرفع؛ لأنه يتخذ للارتفاع عليه، وتعلية الصوت.

قوله: (فذكر ذلك) أي: عذري.

قوله: (وتلا القرآن) أي: قرأ القرآن المتعلق بعذرها، وهو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ. .. } [النور: 11] إلى آخر ستَّ عشرة آية، على أحد الأقوال، ويكون آخرها:{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26]،

(3)

. وقال ابن كثير في بداية تفسيرها: (هذه الآيات العشر نزلت كلها في شأن عائشة رضي الله عنها.) وعلى هذا فآخرها قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20]، آخر الوجه الثاني من سورة النور على مصحف المدينة النبوية.

وقد أجمع العلماء على أن قصة الإفك هي سبب نزول هذه الآيات، وكان نزولها بعد شهر من الحادثة، كما ذكر ابن كثير

(4)

. وسميت بقصة الإفك

(1)

انظر رسالة: "الأحاديث التي أشار أَبو داود في "سننه" إلى تعارض الوصل والإرسال فيها" ص (420) للدكتور تركي الغميز.

(2)

"فتح الباري"(13/ 339).

(3)

"فتح الباري"(8/ 477).

(4)

"تفسير ابن كثير"(6/ 25).

ص: 441

أخذًا من لفظ الآية، والإفك أخص من الكذب؛ لأنه -كما قال أَبو هلال العسكري-:(هو الكذب الفاحش القبيح)

(1)

، إضافة إلى أنَّه قلب للحقائق وَصرْفٌ لها عن وجهها، وهو إثم كبير، وهذه هي معاني الإفك في اللغة، كما في "اللسان" وغيره.

قوله: (وأمر برجلين) أي: أمر بإحضار رجلين، وهما: حسان بن ثابت، ومِسْطح بن أُثاثة، بكسر الميم وإسكان السين، وبضم الهمزة من أُثاثة.

قوله: (وامرأةٍ) بالجر عطف على ما قبله، وهي حمنة بنت جحش، وقد ورد تسميتهم عند البخاري كما في "المغازي"(4141) كما ورد النص على جلدهم في الرواية المرسلة عند أبي داود، حيث نُصَّ على الرجلين، أما المرأة فالنص عليها من قول النفيلي شيخ أبي داود.

قوله: (فَضُرِبُوا الحد) أي: حد القذف، وهو ثمانون، وذلك لثبوت كذبهم به.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على ثبوت حد القذف، ووجوب إقامته على القاذف في الجملة، وقد اتفق العلماء على أن القذف الذي يجب فيه الحد هو الرمي بالزنا أو نفي النسب، وقد تقدم ذلك.

ويلحق بحد القذف عقوبة أخرى نص عليها القرآن وهي الحكم بفسق القاذف وعدم قبول شهادته، وعدم تصديقه في أقواله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، والإحصان في الآية بمعنى: العفة مع البلوغ والعقل.

• الوجه الرابع: ظاهر الحديث أنَّه لم يثبت القذف لعائشة رضي الله عنها إلَّا من الثلاثة المذكورين، والأكثرون من المفسرين على أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول

(2)

، وهذا قد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (وكان

(1)

"الفروق في اللغة" ص (37).

(2)

"تفسير ابن كثير"(6/ 20)، "تفسير القرطبي"(12/ 201).

ص: 442

الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أُبي ابن سلول)

(1)

. لكن هل هذا خاص به أو معه غيره؟ فيه كلام للمفسرين.

وأما حده ففيه خلاف بين أهل العلم، فقال القرطبي وابن القيم

(2)

: إنه لم يُحَدَّ، وذكر ابن القيم أعذارًا، منها: أن الحد كفارة وابن أبي ليس أهلًا لذلك، وقيل: إن الحد لا يثبت إلَّا ببينة أو إقرار، وهو لم يثبت عليه شيء من ذلك، وقيل: ترك حده للمصلحة، وهي تأليف قومه؛ لأنه كان سيدًا مطاعًا، وقيل: لذلك كله.

وكل هذه أعذار ضعيفة، ما عدا الثاني؛ لأن الظاهر أن ابن سلول لم يصرح بشيء، بل كان لدهائه ونفاقه يثير الفرية ويترك غيره يخوض فيها، وقد توارى خلفها يشعل نيرانها دون أن يثبت عليه شيء يُدان به، وقد جاء في "الصحيح" الإشارة إلى هذا.

وقيل: إنه أقيم عليه الحد مع من حُدَّ من الصحابة، ذكر هذا القرطبي، وأشار إليه ابن حجر رحمه الله، ومستند هذا القائل روايات لا تخلو من مقال

(3)

. والأقرب أنَّه لم يحد، فإنه لو حُدَّ لنقل واشتهر.

• الوجه الخامس: يرى الماوردي أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلد أحدًا من القذفة لعائشة رضي الله عنها، وعلل ذلك بأن الحد إنما يثبت ببينة أو إقرار.

وأجاب القائلون بأنهم حدوا بأنه قد يثبت ما يوجب الحد بنص القرآن، وحد القاذف يثبت بعدم ثبوت ما قَذَفَ به، ولا يحتاج في إثباته إلى بينة، صحيح أن القرآن لم يبين أحدًا من القذفة، لكن ورد هذا في تفسير الآيات، فقد جاء في "الصحيحين" ما يدل على أن مسطح بن أثاثة من القذفة، وأنه هو المراد بقوله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ}

(4)

[النور: 22]. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770).

(2)

"زاد المعاد"(3/ 263).

(3)

"فتح الباري"(8/ 479 - 481).

(4)

"سبل السلام"(4/ 34).

ص: 443

‌حكم قذف الرجل زوجته

1231/ 2 - عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَال: أَوّلُ لِعَانٍ كَانَ في الإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا فَحَدٌ في ظَهْرِكَ"، الحديثَ. أخْرَجَهُ أبُو يَعلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1232/ 3 - وَهُوَ: فِي الْبُخَارِيِّ نَحوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أَنس رضي الله عنه فقد رواه النَّسائي (6/ 172 - 173) من طريق عمران بن يزيد، ورواه ابن حبان (10/ 302 - 303)، وأَبو يعلى (3/ 199) من طريق مسلم بن أبي مسلم الجرمي، قالا: حدَّثنا مخلد بن الحسين، حدَّثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أَنس بن مالك رضي الله عنه، قال:

وذكر الحديث.

وهذا الحديث في إسناده مسلم بن أبي مسلم، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال:(ربما أخطأ) ووثقه الخطيب، ونقل الحافظ في "اللسان" عن الأزدي قوله:(حدث بأحاديث لا يتابع عليها) وعن البيهقي أنَّه غير قوي، وقد تابعه عمران بن يزيد -كما تقدم- ومحمد بن كثير عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(3/ 151)

(1)

، وأصل هذا الحديث عند مسلم (1496) بنحوه، ولعل الحافظ اختار هذه الرواية؛ لأنها أدل على المراد في باب القذف، وهو قوله:"البينة أو حد في ظهرك" فإن هذا ليس عند مسلم، لكن لو أشار إلى أن

(1)

"الثقات"(9/ 158)، "تاريخ بغداد"(13/ 100)، "لسان الميزان"(8/ 56).

ص: 444

أصل الحديث في مسلم لكان أولى -كعادته- ولعله اكتفى بالإشارة إلى حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما.

وأما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب "إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة"(2671) من طريق هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"البينة أو حد في ظهرك"، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك". فذكر حديث اللعان

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أول لعان كان في الإسلام) ثبت هذا في حديث أَنس عند مسلم، وقد تقدم تعريف اللعان في بابه، وأشرت هناك إلى خلاف العلماء في نزول آية اللعان، فمنهم من قال: إنها نزلت في هلال بن أمية الواقفي حين قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، وهذا ظاهر قوله هنا: (أول لعان كان في الإسلام

).

والقول الثاني: أنَّها نزلت في عويمر العجلاني لما قذف زوجته بشريك بن سحماء، لقوله صلى الله عليه وسلم لعويمر:"قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك"

(1)

ويكون ذكر هلال بن أمية وهمًا من أحد الرواة، ولا يؤثر هذا؛ لثبوت أصل الحديث. وهذا اختيار الشَّافعي، والطبري، والقاضي عياض، وابن بطَّال، وأبي العباس القرطبي، وآخرين

(2)

.

وأما الأولية في حديث الباب فهي مقابلة بغيرها، لأنه ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(إن أول من سأل عن ذلك فلان وفلان)، وفي رواية:(فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان)

(3)

والمراد عويمر وشريك، لأنهما من

(1)

رواه البخاري (4959)، ومسلم (1492).

(2)

"بيان خطأ من أخطا على الشَّافعي" ص (259)، "تفسير الطَّبري"(18/ 82)، "إكمال المعلم"(5/ 86)، "شرح ابن بطَّال"(7/ 463)، "المفهم"(4/ 295، 300).

(3)

"صحيح البخاري"(5312)، "صحيح مسلم"(1493)(6).

ص: 445

بني العجلان، كما تقدم، وأما هلال بن أمية فهو أنصاري واقفي كما مَرَّ

(1)

.

قوله: (أن شريك بن سحماء) بفتح الشين المعجمة والسين المهملة، وسحماء: هي أمه، قيل لها: سحماء؛ لأنها كانت سوداء، وشريك هذا صحابي بلوي، كان حليفًا للأنصار، وتقدم ذكره في "اللعان".

قوله: (قذفه هلال بامرأته) أي: إن هلال بن أمية رمى شريك بن سحماء بأنه قد زنى بزوجته وهي خولة بنت عاصم، ذكرها في "الإصابة"

(2)

، وليس لها رواية. وهذا ثابت في "الصحيحين"، لكن ورد أيضًا فيهما أن القاذف هو عويمر العجلاني -كما تقدم-، وهذه وجهة نظر من قال: إنهما قصتان مختلفتان اتفق وقوعهما في زمن واحد أو متقارب.

قوله: (البينة) هذا لفظ البخاري، كما تقدم، ولفظ أبي يعلى:"يا هلال أربعة شهود وإلَّا فحد في ظهرك". والبينة، ومثلها (أربعة شهود) بالنصب مفعول به لفعل محذوف؛ أي: أحضر البينة، وبالرفع مبتدأ حذف خبره؛ أي: عليك البينة، والمراد: بينة الزنا، وهي أربعة شهود.

قوله: (الحديث) إشارة إلى أنَّه لم يكمل الحديث، وإنَّما ساق القدر المطلوب، وهو حديث طويل.

قوله: (والا فحد في ظهرك) فيه حذف فعل الشرط، ثم المبتدأ بعد فاء الجزاء، والتقدير: وإنْ لا تحضر البينة فجزاؤك حد في ظهرك، والمراد به: حد القذف ثمانون جلدة، للآية الكريمة.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنا كلف البينة على ذلك بأربعة شهود، كما لو قذف غيرها، لعموم آية القذف، فإن لم يقم بينة أقيم عليه حد القذف ويسقطه باللعان.

وعلى هذا فالأزواج داخلون في عموم آية القذف، إلَّا أن الله تعالى جعل لهم فرجًا ومخرجًا فأنزل آيات اللعان، وتقدم بيان ذلك في بابه بما يغني عن إعادته. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "أسباب نزول القرآن"(2/ 719).

(2)

(12/ 235).

ص: 446

‌حد المملوك إذا قذف

1233/ 4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِر بْنِ رَبِيعَةَ قَال: لَقَدْ أَدْرَكتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضرِبُونَ الْمَمْلُوكَ في الْقَذْفِ إلَّا أَرْبَعِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ في "جَامِعِهِ".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

تقدمت ترجمة عبد الله بن عامر بن ربيعة في سابع أحاديث كتاب "الصداق"، والغرض هنا التنبيه على وهم وقع فيه الشارح المغربي، وتبعه الصنعاني

(1)

حيث ذكر أنَّه عبد الله بن عامر القارئ الشامي، أحد القراء السبعة، وأنه ولد سنة إحدى وعشرين، وهذا غلط واضح، لم ينتبه له الشارح ولا الصنعاني، فإن من ولد سنة إحدى وعشرين كيف يقول: لقد أدركت أبا بكر وعمر

وإنَّما هو عبد الله بن عامر بن ربيعة العَنْزِي أَبو محمد المدني، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في ترجمته.

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مالك في "الموطأ"(2/ 828) عن أبي الزناد، أنَّه قال: جلد عمر بن عبد العزيز عبدًا في فرية ثمانين، قال أَبو الزناد: فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: (أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا، فما رأيت أحدًا جلد عبدًا فرية أكثر من أربعين).

وإسناده صحيح، لكن ليس فيه ذكر أبي بكر رضي الله عنه، ورواه عبد الرزاق

(1)

"البدر التمام"(4/ 412)، "سبل السلام"(4/ 36).

ص: 447

(7/ 437)، وابن أبي شيبة (9/ 502) من طريق سفيان الثَّوري، عن ذكوان، عن عبد الله بن عامر، وليس في رواية عبد الرزاق ذكر أبي بكر، وهي في رواية ابن أبي شيبة. ورواه البيهقي (8/ 251) بهذا الإسناد، ولفظه هو لفظ "البلوغ".

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن حد المملوك ذكرًا كان أم أنثى إذا قذف حرًّا أربعون جلدة، لفعل الصحابة رضي الله عنهم، والنص إنما ورد في تنصيف حد الزنا في الإماء، وهو قوله تعالى:{فَعَلَيهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فكأن الصحابة رضي الله عنهم قاسوا حد القذف على حد الزنا الثابت تنصيفه في حق الأمة، وتكون آية القذف العامة في الأحرار والأرقاء قد دخلها التخصيص، والمخصص وهو القياس، أعني قياس حد القذف من الأمة على حد الزنا في حقها، ثم قاسوا العبد على الأمة في ذلك كله بجامع الملك.

والقول الثاني: أن حد المملوك إذا قذف حرًّا ثمانون جلدة كحد الحر، وهذا قول ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وابن حزم الظاهري

(1)

، ولعل من قال بذلك أخذ بعموم الآية، وهو أن العبد داخل في عمومها، ولا يمكن إخراجه إلَّا بدليل، ولم يرد دليل يخرجه لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس، وإنَّما ورد النص في تنصيف الحد على الأمة في حد الزنى، وقياس القذف على الزنى قياس مع الفارق؛ لأن القذف حق للآدمي، فَيُرْدَعُ العبد كما يردع الحر

(2)

، واختار هذا القول الصنعاني، والشنقيطي، وابن عثيمين

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(11/ 161 - 162)، "المغني"(12/ 387 - 388).

(2)

"أضواء البيان"(6/ 93).

(3)

"سبل السلام"(4/ 37)، "أضواء البيان"(6/ 92 - 93)، "الشرح الممتع"(14/ 284).

ص: 448

‌حكم من قذف مملوكه

1234/ 5 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "قذف العبد"(6858)، ومسلم (1660) من طريق فضيل بن غزوان، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي نُعْم، حدثني أَبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أَبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد

الحديث"، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جُلد يوم القيامة إلَّا أن يكون كما قال".

• الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن السيد إذا قذف عبده بالزنا لم يُحَدَّ للقذف في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّه يُحَدُّ لقذفه يوم القيامة، ولو وجب حده في الدنيا لم يجب حده يوم القيامة، لما تقدم من أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.

أما إذا قَذَفَ المملوكَ غيرُ مالكه فالجمهور على أنَّه لا يحد القاذف، بل نقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك

(1)

، ويجب أن يؤدب القاذف ردعًا له عن أعراض المعصومين، وكفًّا له عن أذاهم.

(1)

انظر: "الاستذكار"(24/ 131)، "الإقناع في مسائل الإجماع"(4/ 1846)، "المفهم"(4/ 350).

ص: 449

واستدلوا بحديث الباب، فإنه صريح في أن الحد لا يقام على قاذف العبد، قالوا: ولأن مرتبة العبد دون مرتبة الحر.

والقول الثاني: أن قاذف العبد يحد كما يحد قاذف الحر، وهذا رأي ابن حزم

(1)

، لعموم: وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام

"

(2)

وهذا قول قوي، فإن حرمة المسلم يجب أن تصان، لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، وأما حديث الباب، فلا دلالة فيه على العموم، وإنَّما هو خاص بمن قذف مملوكه، لقوله:"من قذف مملوكه فلا يدخل في هذا إذا كان القاذف أجنبي". والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المحلى"(11/ 272).

(2)

هذا الحديث رواه البخاري (67)، ومسلم (1679) وقد تقدم شرحه في "البيوع" برقم (900).

ص: 450

‌باب حد السرقة

السرقة في اللغة: مصدر سرق يسرق، من باب (ضرب)، ومعناها: الأخذ بخفية؛ لأن العنصر الأساسي لمادة (سرق) هو الاختفاء.

وأما شرعًا فيختلف تعريفها حسب الشروط المعتبرة، مع اتفاقهم على إيراد المعنى اللغوي ضمن الحد، وأحسن تعريف لها أن يقال:

السرقة: أخذ المال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه بغير حق.

وقولنا: (أخذ المال) يخرج ما ليس بمال، كالخمر والدُّخان والصليب وآلات اللهو ونحوها مما منفعته غير مباحة.

وقولنا: (على وجه الاختفاء) هذا هو العنصر الأساسي في السرقة، وذُكِرَ في التعريف لبيان محترزه، فخرج الآخذ من غير خفية، كالمنتهب، وهو آخذ الشيء من صاحبه غلبة وقهرًا، وخرج المختلس: وهو آخذ الشيء بحضور صاحبه في غفلة منه والهرب به، ونحوهما كما سيأتي.

وقولنا: (من مالكه أو نائبه) النائب: كل من كان بيده مال غيره بإذن الشرع، أو بإذن مالكه كالمستعير والمودَع وولي اليتيم ونحوهم. ويخرج ما لو سرق مغصوبًا من غاصبه فلا قطع فيه، لكن ما سقط فيه القطع ففيه التعزير أو مضاعفة الغرم، كما سيأتي - إن شاء الله -.

وقولنا: (بغير حق) يخرج أخذ المالك وديعته من المودَع، أو أخذ الأب من مال ابنه ونحو ذلك.

والسرقة محرمة، وهي من كبائر الذنوب، ثبت حكمها بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]، وأما السنة

ص: 451

فالأحاديث المتكاثرة التي بلغت التواتر في وجوب قطع يد السارق، ومنها أحاديث الباب، وأما الإجماع فقد اتفق المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة.

وأما الحكمة من القطع فهي حماية الناس وأموالهم، فإن القطع بربع الدينار وإن كان قليلًا لكن قصد به حماية الأموال، والقضاء على العبث بالأمن، ففي السرقة اعتداء على الأموال من جهة، واعتداء على حق الملكية الفردية من جهة أخرى، وفيها ترويع الآمنين، وتهديد الناس، وهي تثير القلق الدائم والاضطراب النفسي، فيعيش الناس في ذعر وخوف، والسارق لا يبالي بما يحصل من انتهاك الحرمات وسفك الدماء في سبيل تحقيق غرضه والتخلص مما وقع فيه، والسرقة إذا فشت هُدِّدَ الناس في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، وأصبحت حياتهم مريرة، ثم إن السارق لا يمكن الاحتراز منه؛ فإنه يَنْقِبُ الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، فجاءت هذه العقوبة المناسبة الرادعة بإبانة العضو الذي جعله السارق وسيلة إلى الاعتداء، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} أي: اقطعوا أيديهما جزاءً لهما بعملهما وكسبهما السيء، ونكالًا وعبرة لغيرهما، والنكال: ما يُنَكِّلُ الناس ويخيفهم أن يسرقوا، مأخوذ من النكْلِ بالكسر، وهو قيد الدابة.

ص: 452

‌وجوب قطع السارق، ومقدار النصاب

1235/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إلا في رُبْعِ دِينَار فَصَاعِدًا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

ولفظ البخاري: "تُقْطَعُ اليدُ فِي رُبُعِ دينارٍ فَصَاعِدًا"، وفِي رواية لأحمد:"اقْطَعُوا في رُبُعِ دينارٍ، ولا تَقْطَعُوا فيما هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ".

1236/ 2 - وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثةُ دَرَاهِمَ. مُتّفَقٌ عَلَيهِ.

1237/ 3 - وَعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيضَةَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"، مُتَفَقٌ عَلَيهِ أَيضًا.

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، (6789)، ومسلم (1684)(1) من طريق عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا.

وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:"تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، وسيأتي الفرق بينهما.

ولعل الحافظ قدم رواية مسلم لأنها أقوى حيث جاءت بصيغة القصر، كما سيأتي.

ص: 453

ورواه أحمد (41/ 60 - 61) من طريق محمد بن راشد، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: قدمت المدينة، فلقيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو عامل المدينة، قال: أُتيت بسارق، فأرسلتْ إليَّ خالتي عمرة بنت عبد الرحمن ألا تعجل في أمر هذا الرجل حتَّى آتيك، فأخبرك ما سمعت من عائشة رضي الله عنها في أمر السارق، قال: فأتتني وأخبرتني أنَّها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا في ربع الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك"، وكان ربع الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا، قال: وكانت سرقته دون ربع دينار، فلم أقطعه.

وهذا الحديث في سنده محمد بن راشد المكحول، مختلف في توثيقه، كما يقول ابن عبد الهادي

(1)

، وقد تقدم الكلام عليه، وقد قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق يَهِمُ، وقد رمي بالقدر)، ويحيى بن يحيى الغساني ثقة، لكن يشهد له ما قبله، والحديث رواه مسلم (1684)(4) من طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، باللفظ المذكور أولًا، ولعل الحافظ ذكر رواية أحمد لفائدتين:

1 -

أنَّها بصيغة الأمر.

2 -

أن فيها التصريح بمفهوم الروايات السابقة.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في "الحدود"، في الباب المذكور (6795)، ومسلم (1686) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

وأما حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه فقد رواه البخاري في باب "لعن السارق إذا لم يُسمَّ"(6799)، ومسلم (1687) من طريق الأعمَش، عن أبي صالح، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا.

(1)

"التنقيح"(4/ 553).

ص: 454

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (لا تقطع) بالرفع على النفي، وهو بمعنى النهي؛ أي: لا تقطعوا، وفيه قصر طريقه النفي والاستثناء، والمقصور قطع اليد، والمقصور عليه كون المسروق ربع دينار فصاعدًا.

قوله: (ربع دينار) الدينار يساوي (72) حبة شعير، وهي بالجرام من ثلاثة ونصف الجرام إلى ثلاثة وثلاثة أرباع، فربع الدينار يساوي جرامًا من الذهب تقريبًا.

قوله: (فصاعدًا) حال مؤكدة حذف عاملها وجوبًا؛ أي: فذهب المقدار صاعدًا، وفي مسلم:"ربع دينار فما فوق".

قوله: (تقطع اليد) هذا خبر بمعنى الأمر؛ أي: اقطعوا اليد، بدليل رواية أحمد الآتية.

قوله: (قَطَعَ) أي: أمر بالقطع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه، وفي حديث المخزومية الآتي:"قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها"

(1)

.

قوله: (في مجن) أي: سَرِقَةِ مجن ثمنه ثلاثة دراهم، وهي ربع دينار، كما في رواية أحمد.

والمجن: بكسر الميم وفتح الجيم بعدها نون مشددة، هو الترس الذي يتقي به الفارس وقع السيف، مأخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء؛ لأن الفارس يختفي به.

قوله: (لعن الله السارق) أي: طرده وأبعده عن رحمته، وهذه الجملة إما أنَّها خبرية لفظًا ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله لعن السارق، أو أنَّها خبرية لفظًا إنشائية معنى، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو عليه بذلك، وقيل: لا يراد به اللعن وإنَّما هو للتنفير

(2)

.

(1)

رواه النَّسائي (8/ 71) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

"فتح الباري"(12/ 81).

ص: 455

قوله: (البيضة) ظاهره أن المراد البيضة المعروفة، ونقل البخاري عن الأعمَش راوي الحديث أنَّها بيضة الحديد، وهي التي تتخذ جنة للرأس، قد تكون قيمتها ربع دينار فصاعدًا.

قوله: (الحبل) ظاهره أن المراد الحبل المعروف، ونقل البخاري عن الأعمَش أنَّه قال:(والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم)، وذلك كحبل السفينة، لكن رد العلماء هذا التأويل، قال الخطابي: (تأويل الأعمَش هذا غير مطابق لمذهب الحديث ومخرج الكلام فيه، وذلك أنَّه ليس بالسائغ في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه هذا الحديث من اللوم والتثريب: أخزى الله فلانًا عرض نفسه للتلف في مالٍ له قدر ومزية، وفي عَرَضٍ له قيمة، إنما يضرب المثل في مثله بالشيء الوَتِح

(1)

الذي لا وزن له ولا قيمة)

(2)

.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب قطع يد السارق في الجملة، والقطع يكون لليد اليمنى من مفصل الكف، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقد قرأ ابن مسعود:(فاقطعوا أيمانهما) وهي قراءة شاذة، قال الموفق:(وهذا إن كان قراءة وإلَّا فهو تفسير)

(3)

، وكون القطع من مفصل الكف هو قول أبي بكر وعمري؛ ولأن الكف هو أقل ما يطلق عليه اسم اليد، واليد قبل السرقة كانت محترمة، فلما جاء النص بقطعها وكانت تطلق على الكف وما فوقه، وجب الأخذ بالمتيقن وترك ما عداه، قال البخاري:(وقطع علي رضي الله عنه من الكف)

(4)

.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء هل يشترط النصاب في السرقة على قولين:

الأول: أنَّه لا يشترط النصاب، بل تقطع اليد في القليل والكثير، وهذا القول عزاه ابن رشد للحسن البصري، وعزاه ابن حزم لطائفة، ولعل المراد

(1)

الوتح: بالواو المفتوحة، بعدها ياء مثناة مكسورة أو ساكنة، ثم حاء مهملة، هو: التافه القليل.

(2)

"أعلام الحديث"(4/ 2291).

(3)

"المغني"(12/ 440).

(4)

"فتح الباري"(12/ 96).

ص: 456

بهم الخوارج وبعض المتكلمين، كما ذكر ابن عبد البر

(1)

، وهو قول الظاهرية، إلَّا أنهم -كما قال ابن حزم- يستثنون الذهب، فلا تقطع اليد في سرقته إلَّا بربع دينار، وأما غيره فيقطع في القليل والكثير باستثناء التافه الذي لا قيمة له أصلًا، ودليلهم أن التحديد في الذهب منصوص، ولم يوجد نص في غيره، فيكون داخلًا في عموم الآية

(2)

.

واستدلوا بدليلين:

الأول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} فهي عامة في سرقة القليل والكثير.

الثاني: حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: "لعن الله السارق

" ووجه الدلالة: أنَّه رتب القطع على سرقة القليل كالبيضة، فدل على أنَّه ملحق بالكثير.

القول الثاني: أنَّه لا بد في القطع من نصاب محدد يرجع إليه، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، مستدلين بأحاديث الباب القولية والفعلية، وهذا هو الراجح لثبوت النصاب بادلة كثيرة صحيحة وصريحة.

وأما الآية فهي عامة جاءت السنة بتخصيصها

(3)

، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فعنه جوابان:

الأول: أن سياقه لا يشعر بأن المراد أن اليد تقطع في القليل كالبيضة والحبل، وإنما المراد المبالغة في التحذير من السرقة، وبيان خسارة السارق وأنه إذا سرق القليل تجرأ على سرقة الكثير، وإنما فسر بذلك ليتمشى مع الأحاديث الدالة على اعتبار النصاب.

الثاني: أن حديث عائشة رضي الله عنها وغيره معارض لهذا الإطلاق، فإنه صريح في الحصر، كما تقدم، وفي رواية أحمد:"ولا تقطعوا فيما هو أقل من ذلك" وهذا مفهوم من منطوق الحصر.

(1)

"التمهيد"(24/ 166).

(2)

"المحلى"(11/ 351 - 352).

(3)

انظر: "الشرح الممتع"(14/ 335).

ص: 457

ومما يؤيد مذهب الجمهور أنَّه لا بد في القطع من مقدار يجعل ضابطًا يرجع إليه، وعادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ لا يلحقهم ضرر بفقده، والنصاب المقدر فيه حكمة ظاهرة، فإن ربع الدينار كفاية المقتصد في يومه له ولمن تَكُون غالبًا.

• الوجه الخامس: اختلف القائلون بشرطية النصاب في مقداره على أقوال كثيرة بلغت عشرين، أهمها ثلاثة:

الأول: أن مقدار النصاب ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو عرض قيمته ثلاثة دراهم، ولا قطع فيما هو دون ذلك، وهذا مذهب مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه

(1)

، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها وهو نص في ربع الدينار، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما نص في ثلاثة الدراهم، وكانت قيمتها ربع دينار في ذلك الوقت، كما تقدم.

وأما العروض فتقوم بالدراهم فما بلغ ثلاثة دراهم قطع دون مراعاة ربع الدينار، لحديث المجن المتقدم، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فلم يأخذ به مالك؛ وروى الأثرم عن أحمد أن العروض تقوم بربع دينار أو بثلاثة دراهم، فعلى هذا تقوم العروض بأدنى الأمرين

(2)

.

والقول الثاني: أن النصاب ربع دينار ذهبًا أو ما قيمته ربع دينار من الفضة والعروض، وهذا قول الشَّافعي، فهو يرى أن الذهب هو الأصل، لحديث عائشة رضي الله عنها؛ فإنه جمل الذهب أصلًا يرجع إليه في النصاب، وقد روى مالك أن عثمان أُتي بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع)

(3)

.

وروى البيهقي أن عليًّا قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفًا

(4)

.

(1)

"الاستذكار"(24/ 155)، "بداية المجتهد"(4/ 401)، "المغني"(12/ 418).

(2)

"المغني"(418/ 12).

(3)

"الموطأ"(2/ 832)، وانظر:"شرح الزرقاني"(4/ 154).

(4)

"السنن الكبرى"(8/ 260).

ص: 458

قال الشَّافعي: إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار لم توجب القطع، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما محمول على ذلك، وترك الشَّافعي حديث ابن عمر فلم يأخذ به في تقويم العروض؛ للاختلاف في ثمن المجن

(1)

.

والقول الثالث: أن النصاب عشرة دراهم أو ما يعادلها من ذهب أو عروض، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثَّوري

(2)

، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن، قالوا: وقد تعددت الروايات في قيمة هذا المجن، فقيل: ثلاثة دراهم أو أربعة أو خمسة أو ربع دينار، أو عشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح؛ لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والحدود تدرأ بالشبهات، والواجب الاحتياط فيما يستباح به العضو المحرم، وقد روى أَبو داود، والنَّسائي

(3)

من طريق محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم.

وروى محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مثله

(4)

. وهذا من الاختلاف على محمد بن إسحاق.

والراجح قول الشَّافعي؛ لأن الأحاديث صريحة في أن النصاب ربع دينار، أما رواية ثلاثة دراهم فهي محمولة على أن الثلاثة ربع دينار، وقد تكون أكثر، وهي قضية عين لا عموم لها، فلا يجوز ترك صريح لفظه عقيم في تحديد النصاب لهذه القضية.

وأما دليل الحنفية فيجاب عنه بما يلي:

أولًا: أن الأحاديث في قيمة المجن معلولة في سندها، ومضطربة في متنها، فلا تقدم على حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في "الصحيحين"، ثم إن الصحيح

(1)

"التمهيد"(14/ 378).

(2)

"بدائع الصنائع"(7/ 77)، "عارضة الأحوذي"(6/ 226).

(3)

"سنن أبي داود"(4387)، "سنن النَّسائي"(8/ 83).

(4)

رواه النَّسائي (8/ 84).

ص: 459

في قيمة المجن ثلاثة دراهم، لحديث ابن عمر المتفق عليه، وباقي الأحاديث لا تقاومه سندًا، فإن حديث ابن عبَّاس فيه محمد بن إسحاق، وقد عنعنه.

ثانيًا: أن الاحتياط بعد ثبوت الدليل وصحته يكون في اتِّباع الدليل والعمل به لا فيما عداه

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "سبل السلام"(4/ 40 - 41).

ص: 460

‌حكم جاحد العارية والنهي عن الشفاعة في الحدود

1238/ 4 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَال:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَ سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضعِيفُ أقَامُوا عَلَيهِ الْحدَّ" الحديثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللَّفظُ لِمُسْلِم، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، ومنها: في كتاب "الحدود"، باب "كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان"(6788)، ومسلم (1688)(8) من طريق اللَّيث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، به، وتمامه:"وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لَقَطَعْتُ يدها".

ورواه مسلم (1688)(10) من طريق معمر، عن الزُّهْريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد

الحديث، وهذه الرواية أعرض عنها البخاري، واعتبر بعض العلماء هذا دليلًا على شذوذها.

وظاهر صنيع الحافظ أن قصة المخزومية التي سرقت، والمرأة التي كانت تجحد المتاع قصة واحدة، وأن جحد العارية ذكر تعريفًا لها ووصفًا

ص: 461

لها، لا أن ذلك سبب القطع، وهذا قول النووي

(1)

، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، لكن صنيع المصنف يشعر بأنها واحدة؛ لأنه جعل ما ذكره ثانيأ رواية من روايات الحديث، ومثل هذا فعل صاحب "المحرر" وصاحب "عمدة الأحكام" قبل الحافظ، والظاهر أنَّها قصة واحدة، اختلف فيها هل كانت سارقة أو جاحدة، ومما يؤيد ذلك ذكر أسامة في قصة المخزومية، وفي قوله:(كانت تستعير المتاع) ويبعد أن يأتي أسامة مرة ثانية وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم له: "أتشفع في حد من حدود الله"، ثم إن المرأة وصفت بأنها مخزومية في كلا القصتين.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أتشفع) الخطاب لأسامة بن زيد رضي الله عنه بدليل رواية "الصحيحين": "أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلَّا أسامة حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتشفع في حد من حدود الله

". ولو أن الحافظ ذكره بهذا السياق كما فعل المقدسي وابن عبد الهادي لكان أولى.

وكانت هذه السرقة عام الفتح، كما في "الصحيحين"

(2)

، وإنَّما أهمهم شأنها لما خافوا من لحوقهم العار الجاهلي في قطع يدها وافتضاحهم به بين القبائل.

والشفاعة لغة: مصدر شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع، قال ابن الأثير:"هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم"

(3)

.

وهي في باب العقوباب: التماس العفو عن العقوبة أو التخفيف منها عن الغير من غير بدل.

والاستفهام للإنكار بدلالة السياق، ولما جاء في "الصحيحين" أنَّه قال:

(1)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 200).

(2)

"صحيح البخاري"(4304)، "صحيح مسلم"(1688)(9).

(3)

"النهاية"(2/ 485).

ص: 462

(استغفر لي يا رسول الله)، وقد حمله الحافظ على احتمال أنَّه سبق لأسامة علم بأنه لا شفاعة في حد، وهذا يحتاج إلى دليل؛ وكأنه مبني على أن الإنكار لا يناسب الجاهل.

قوله: (إنما هلك

) هكذا في بعض نسخ "البلوغ"، وهو لفظ "الصحيحين"، وفي لفظ آخر:"أهلك"، وعند البخاري:"إنما ضَلَّ"، وهذا أسلوب قصر، فيه قصر هلاك من قبلنا على ترك إقامة الحد، والظاهر أن المراد بمن قبلنا بنو إسرائيل، ورواية البخاري: "إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه. . .

(1)

، وهذا القصر ليس عامًّا، فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي هلاكهم، فيكون الحديث محمولًا على قصر خاص، وهو الهلاك بسبب المحاباة في الحدود من باب المبالغة في تعظيم شأنها حتَّى كأنها هي بذاتها سبب هلاك بني إسرائيل.

قوله: (الشريف) هو من جمع علو النسب مع حميد الصفات وعلو القدر، وجمعه شرفاء وأشراف.

قوله: (الضعيف) هو ذو الضعف خلاف القوي، وجمعه ضعاف وضعفاء، وليس هو ضد الشريف، لكن جاء في رواية:"كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف"

(2)

، والوضيع ضد الشريف، وهو الذي لا قدر له ولا احترام بين الناس.

قوله: (كانت امرأة) في رواية مسلم: "امرأة مخزومية" كما تقدم، وعند النَّسائي:(سرقت امرأة من قريش من بني مخزوم)

(3)

فهم أحد أفخاذ قريش، وهم من أشرافهم ولذا يقال لهم: ريحانة قريش، وهي نسبة إلى مخزوم بن يَقَظَة، وهو أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على تحريم الشفاعة في حدود الله تعالى، والإنكار على الشَّافع، وقد ذكر ابن القيم أن الشفاعة في الحدود من

(1)

"صحيح البخاري"(3733).

(2)

"صحيح البخاري"(6787).

(3)

"سنن النَّسائي"(8/ 74).

ص: 463

كبائر الذنوب

(1)

، وقال الماوردي:(لا يحل لأحد أن يشفع في إسقاط حد عن زان ولا غيره، ويحل للمشفوع إليه أن يشفِّع فيه)

(2)

. وقد بوب البخاري على الحديث -كما تقدم- بقوله: "باب كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان" وهذا القيد وهو الرفع إلى السلطان لم يرد في لفظ الحديث الذي ساقه البخاري، وإنما جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسامة:"لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة"

(3)

. قال ابن عبد البر: (لا أعلم بين أهل الحلم اختلافًا في الحدود إذا بلغت إلى السلطان لم يكن فيها عفو لا له ولا لغيره، وجاز للناس أن يتعافوا الحدود ما بينهم ما لم تبلغ السلطان، وذلك محمود عندهم)

(4)

. وعلى هذا فليس للإمام أن يقبل شفاعة أحد كائنًا من كان متى بلغه الحد، بل عليه أن ينفذه، ويقيم شرع الله تعالى.

لكن ما المراد ببلوغ الإمام؟ قالت الحنفية والشافعية والظاهرية: إن المراد ثبوت الحد عند الإمام، أما قبل ثبوته فتجوز الشفاعة.

وقالت الحنابلة وفريق من أهل العلم: إن المراد وصول القضية إلى الإمام، واعتبرت المالكية نواب الإمام كافٍ، مثل الشرطة أو الحرس أو من يقوم مقام ولي الأمر.

والأولى في الشفاعة قبل بلوغ الإمام أن ينظر إلى ما يترتب على ذلك من المصالح والمفاسد، وقد أجاز الشفاعة في ذلك أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وفساد وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه، ويظهر أن هذه حالة متفق على استثنائها في الحد والتعزير

(5)

.

وينبغي أن يعلم (أن العدالة الكاملة، والأهداف السامية للعقوبة لا تظهر إلا إذا كانت عامة وشاملة وتطبق على جميع الناس، دون تمييز طبقي أو

(1)

"إعلام الموقعين"(4/ 404).

(2)

"الأحكام السلطانية" ص (281).

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات"(1/ 191) بلفظ مقارب.

(4)

"التمهيد"(11/ 224).

(5)

انظر: "المنتقى شرح الموطأ"(7/ 165)، "المغني"(12/ 467)، "ضوابط السَّتر في قضايا الأعراض والأخلاق والآداب الشرعية" ص (67).

ص: 464

عنصري أو طائفي، وأن السارق يجب أن ينال جزاءه مهما كانت مكانته أو قرابته من الحكام والقضاة والسلطات الحاكمة، وإلا كان التمييز والمحاباة والرشوات والواسطات في تطبيق الحدود سببًا في الظلم والهلاك والدمار، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

° الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال بوجوب قطع جاحد العارية، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهي المذهب، قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سألت أبي فقلت له: تذهب إلى هذا الحديث؟ فقال: (لا أعلم شيئًا يدفعه)

(2)

وهو قول إسحاق بن راهويه

(3)

، والظاهرية، وانتصر له ابن حزم

(4)

، كما نصره ابن القيم

(5)

، واختاره الشوكاني، والصنعاني، والشيخ محمد بن إبراهيم، وابن باز في "شرحه على البلوغ"، وابن عثيمين

(6)

.

ووجه الدلالة: أن الراوي رتب قطع يدها على جحد العارية بالفاء التي تفيد أن سبب القطع هو الجحد.

والقول الثاني: أن جاحد العارية لا يقطع، وهذا قول الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد، اختارها الخرقي، وأبو الخطاب، وعبد الرحمن بن قدامة صاحب "الشرح الكبير"، ونصرها القرطبي

(7)

. واستدلوا بدليلين:

1 -

قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} .

ووجه الدلالة: أن الله تعالى أوجب قطع يد السارق، والجاحد لا يسمى سارقًا، وإنما هو خائن.

(1)

"النظريات الفقهية" ص (36).

(2)

"المغني"(12/ 417).

(3)

"إكمال المعلم"(5/ 502).

(4)

"المحلى"(11/ 433).

(5)

"تهذيب مختصر السنن"(6/ 209)، "إعلام الموقعين"(2/ 62).

(6)

"سبل السلام"(7/ 175)، "نيل الأوطار"(7/ 150)، "فتاوى ابن إبراهيم"(12/ 133)، "الشرح الممتع"(14/ 329).

(7)

"المفهم"(5/ 77)، "المغني"(12/ 417)، "شرح فتح القدير"(5/ 136)، "نهاية المحتاج"(7/ 436)، "الشرح الكبير"(26/ 471).

ص: 465

2 -

حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد هذا "لا قطع على خائن

".

ووجه الدلالة: أن جاحد العارية خائن فلا قطع عليه.

وقد أجاب الجمهور عن الاستدلال بحديث الباب بجوابين:

الأول: أن معمر بن راشد تفرد من بين سائر الرواة بذكر العارية في الحديث، وأن الليث بن سعد ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى رووه عن الزهري وقالوا: سرقت، ومعمر لا يقاوم هؤلاء، ومؤدى هذا الجواب ترجيح رواية سرقت، قال البيهقي:(وأما رواية معمر عن الزهري فهي منفردة، والعدد أولى بالحفظ من الواحد)

(1)

.

الجواب الثاني: سلمنا بثبوت لفظ جحد العارية، لكنه ليس هو سبب القطع، بل سبب القطع هو السرقة، وذكر العارية للتعريف بالمرأة وأن الاستعارة صارت خلقًا لها فعرفت المرأة به، ومؤدى هذا الجواب الجمع بين الروايتين بهذا التأويل. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت

"، ثم أمر بيد المرأة فقطعت، فهذا يدل على أن المرأة قطعت في السرقة وإلا لكان ذكر السرقة لاغيًا لا فائدة فيه

(2)

.

وَرُدَّ هذان الجوابان بما يلي:

أولًا: قولهم بتفرد معمر بذكر العارية غير صحيح، بل قد رواه بلفظ العارية جمع من الرواة، ومن بينهم أيوب بن موسى أحد رواته عن الزهري بلفظ:(سرقت) وكذا رواه يونس بن يزيد -في أحد الوجهين عنه

(3)

-، وشعيب بن أبي حمزة، كما عند النسائي.

ثانيًا: وأما قولهم إن القطع بسبب السرقة لا بسبب الجحد فهو جواب ضعيف لا يخفى تكلفه، فإن من القواعد الأصولية: ترتيب الحكم على الوصف يؤذن بعلية ذلك الوصف، فيكون ترتيب القطع على جحد العارية

(1)

انظر: "السنن الكبرى"(8/ 281)، "شرح صحيح مسلم" للنووي (11/ 200).

(2)

"معالم السنن"(6/ 229)، "المفهم"(5/ 77).

(3)

انظر: "السنن الصغير" للبيهقي (3/ 319).

ص: 466

مؤذنًا بأن الجحد هو علة القطع، وإهمال هذا الوصف وجعله للتعريف يخرجه عن كونه علة، وبالتالي فلا يستلزم وجوه وجود الحكم، وبذلك يذهب كثير من الأحكام الشرعية المرتبة على الأوصاف.

وقد أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة أصحاب القول الثاني بما يلي:

أما الآية فقد قال ابن القيم إن جاحد العارية داخل في اسم السارق، والجحد داخل في اسم السرقة، كما جرى ذلك على لسان الصحابة رضي الله عنهم في روايات حديث عائشة هذا

(1)

، لكن لم يذكر ابن القيم شواهد من لغة العرب على ذلك، ولهذا استبعد الحافظ ابن حجر هذا الجواب

(2)

، وحتى لو ثبت أن جاحد العارية لا يسمى سارقًا لكان قطعه ثابتًا بهذا الحديث، ولا يلزم الاستدلال بالآية على ذلك، ثم إن المعنى الموجود في السارق موجود في الجاحد بل الجاحد أعظم؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، والمعير محسن متفضل، والجاحد يريد قطع هذا الإحسان والمعروف بين الناس.

وأما حديث "لا قطع على خائن" فهو حديث معلول كما سيأتي، وعلى فرض صحته فهو عام لكل خائن، وحديث المخزومية خاص بجحد العارية، فيقدم الخاص على العام، ويكون القطع فيمن جحد العارية دون غيره من الخونة، كجاحد الوديعة.

هذا ملخص ما حصل بين الفريقين من ردود ومناقشات، والذي يظهر لي أن جاحد العارية لا يقطع، وأن هذه المرأة ما قطعت بسبب جحد العارية بل بسبب السرقة، وذلك لأمور:

1 -

اتفاق الشيخين على ذكر السرقة.

2 -

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السرقة.

3 -

أن رواية الجحد يمكن تأويلها كما تقدم.

4 -

أن جاحد العارية ليس بسارق ولا يقطع إلا السارق. والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب مختصر السنن"(6/ 211).

(2)

"فتح الباري"(12/ 92).

ص: 467

‌لا قطع على خائن ومختلس ومنتهب

1239/ 5 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَيسَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه أحمد (33/ 303)، وأبو داود في كتاب "الحدود"، باب "القطع في الخلسة والخيانة"(4391)، والترمذي (1448)، والنسائي (8/ 88 - 89)، وابن ماجه (2591)، وابن حبان (10/ 310 - 311) كلهم من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

قال الترمذي: (حديث حسن صحيح).

وهذا الحديث له عدة ألفاظ، وقد جمع ابن حبان في إسناده بين أبي الزبير وعمرو بن دينار، لكن ذكر الدارقطني في "العلل"(1/ 216 - 217) أن هذا لا يصح، والمحفوظ عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أعل هذا الحديث بأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، وإنما سمعه من ياسين بن معاذ الزيات، كما في رواية عبد الرزاق (10/ 206) وابن عدي في "الكامل"(7/ 183)، وقد أعله بذلك أحمد، وأبو داود كما في "سننه"، وأبو زرعة، وأبو حاتم كما في "العلل"(1353)، وياسين قال عنه ابن معين:(ليس حديثه بشيء)، وقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال ابن عدي:(كل روايته أو عامتها غير محفوظة).

ص: 468

وقد رواه النسائي (8/ 88) من طريق سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر به، وسفيان ثقة إمام، لكن قال النسائي:(لم يسمعه سفيان من أبي الزبير). ورواه -أيضًا- من طريق المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، به، والمغيرة بن مسلم صدوق حسن الحديث، لكن قال النسائي وابن معين في رواية: ليس بالقوي في أبي الزبير.

وقد جاء عند النسائي في "الكبرى"(7/ 39) من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج، قال أخبرني أبو الزبير

ورواه عبد الرزاق (10/ 206) عن ابن جريج قال: قال لي أبو الزبير

فتابع ابن المبارك عبد الرزاق، لكن رد النسائي رواية ابن المبارك وقال: ما عمل شيئًا. والظاهر أنه يقصد بذلك أن التصريح بالسماع خطأ.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ليس على خائن) اسم فاعل من خانه خونًا وخيانة ومخانة، والخائن: من يؤتمن على شيء بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعي ضياعه أو ينكره.

قوله: (ولا مختلس) اسم فاعل من اختلس؛ أي: أخذ الشيء من صاحبه بحضرة صاحبه في غفلة منه والهرب به.

قوله: (ولا منتهب) اسم فاعل من انتهب؛ أي: أخذ الشيء من صاحبه غلبة وقهرًا، وهو بمعنى الغاصب، إلا أن الغصب أعم؛ لأنه يكون في المنقول وفي العقار.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه لا قطع على الخائن والمختلس والمنتهب، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، بل حكي فيه الإجماع، لكن تقدم أن مذهب إسحاق ورواية عن أحمد وقول الظاهرية أن جاحد العارية يقطع.

والله تعالى قد شرع قطع يد السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة للسرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع

ص: 469

هذا النوع بالرفع إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة، فإنه لا يمكن إقامة البينة عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها

(1)

.

وسقوط القطع عن الخائن والمختلس والمنتهب لا يعني أنهم ليسوا بمجرمين، بل هم مجرمون مفسدون، ويجب على الإمام تعزيرهم وتأديبهم بما يردعهم وأمثالهم ممن تسول لهم أنفسهم الاعتداء على الناس وعلى أموالهم مع ما في ذلك من إخافتهم وترويعهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 193).

ص: 470

‌حكم سرقة الثَّمَرِ والكَثَرِ

1240/ 6 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خَديج رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ"، رَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ، وَصَحّحَهُ أَيضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (25/ 103)، وأبو داود (4388) في كتاب "الحدود"، باب "ما لا قطع فيه"، والترمذي (1449)، والنسائي (8/ 88)، وابن ماجه (2593)، وابن حبان (10/ 311 - 317) كلهم من طرق، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عمه واسع بن حبان، أن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكره.

وهذا لفظ الترمذي وأحمد والنسائي وابن ماجه، هكذا مختصرًا. وعند أبي داود بهذا اللفظ، وفيه قصة، وهي عند أحمد في رواية أخرى، وساقها ابن حبان مختصرة، وليس في إسناد أحمد ذكر واسع بن حَبَّان.

وهذا حديث صحيح، رجاله رجال "الصحيحين" كما قال ابن عبد الهادي، لكن اختلف في وصله وإرساله، حيث اختلف على يحيى بن سعيد بإثبات واسع بن حبان

(1)

في إسناده أو إسقاطه.

وقد رواه ابن عيينة عند النسائي (8/ 87)، وابن ماجه، ورواه الليث عند

(1)

انظر: "الإصابة"(10/ 292)، "تهذيب الكمال"(30/ 396).

ص: 471

الترمذي والنسائي، وزهير بن محمد -في أحد الوجهين عنه- عند الطيالسي (2/ 263)، ورواه وكيع عن الثوري عند النسائي (8/ 87)، أربعتهم عن يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، هكذا موصولًا بذكر واسع بن حَبَّان.

ويمكن أن يضاف إليهم أبو أسامة -حماد بن أسامة- فقد رواه عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رجل من قومه، عن رافع، به، رواه النسائي (8/ 88)، والدارمي (2/ 95 - 96)، والظاهر أن هذا الرجل هو واسع بن حبان، كما جاء موضحًا في الروايات الأخرى.

وقد نقل ابن عبد البر عن الحميدي قال: (فقيل لسفيان: ليس يقول أحد في هذا الحديث: (عن عمه) فقال: هكذا حفظي) وقال: (فإن صح هذا فهو متصل مسند صحيح، ولكن قد خولف ابن عيينة في ذلك، ولم يتابع عليه، إلا ما رواه حماد بن دُليل، عن شعبة).

ورواه مالك (2/ 839)، ويحيى القطان عند النسائي (8/ 87)، وحماد بن زيد عند النسائي (8/ 87) وعند أبي داود (4389)، وأبو نعيم، عن الثوري عند النسائي (8/ 87)، وأبو معاوية عند النسائي (8/ 87)، ويزيد بن هارون وشعبة عند أحمد (25/ 103، 127)، وزهير بن محمد عند الطبراني في "الكبير"(4/ 261)، وآخرون عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن رافع، ليس فيه واسع بن حبان، وهذا سند منقطع؛ لأن محمد بن يحيى لم يسمع من رافع.

وقد تبين بهذا أن سفيان الثوري قد اختلف عنه، فرواه عنه وكيع موصولًا، ورواه عنه أبو نعيم منقطعًا، فإن كان سفيان يرويه على الوجهين فذاك، وإلا فوكيع أثبت في سفيان من أبي نعيم، والنفس تميل إلى ثبوت الوصل، فإن زيادة هؤلاء الثقات ومنهم ابن عيينة والليث مقبولة.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في ثمر) بالثاء المثلثة حمل الشجر، والمراد به ما كان معلقًا في الشجر قبل أن يجدَّ ويحرز، لكن ظاهر الحديث العموم.

ص: 472

قوله: (ولا كثر) بفتح الكاف والثاء المثلثة هو جُمَّارُ النخل بوزن رُمَّان، وهو شحمه الذي وسط النخلة، وقد جاء هذا التفسير عند النسائي من رواية الليث المتقدمة:(لا قطع في ثمر ولا كثر، والكثر الجمار).

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه لا قطع في سرقة الثمر ولا في سرقة الكثر، وظاهر الحديث العموم فيما كان على رؤوس الشجر أوكان قد جُدَّ ووضع على الأرض، وبهذا قال أبو حنيفة، وعلل ذلك بأنه يسرع الفساد إليه لرطوبته، ولهذا يرى أنه لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم ولو قديدًا، والثمار والفواكه الرطبة، سواء سرقت من شجرها أو بعد قطعها، أما إذا كانت الثمار يابسة وآواها الجرين -وهو موضع تجفيفها كما سيأتي- ففيها القطع، وقد قاس ما يتسارع إليه الفساد على ما لم يحرز بجامع أن كلًّا منهما معرض للهلاك، وقد أدار أبو حنيفة الحكم على اليبس والرطوبة

(1)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم -ومنهم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة

(2)

- إلى وجوب القطع في كل محرز، لا فرق في ذلك بين الطعام والثمار، واليابس منها والرطب، فمدار الحكم عندهم على الحرز المكاني، لا على اليبس والرطوبة، لعموم آية السرقة والأحاديث الواردة في اشتراط النصاب، ويؤيد هذا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الآتي الدال على أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين.

وأما حديث الباب فهو محمول -كما نقل عن الشافعي- على ما كانت عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فترك القطع لعدم الحرز، فإذا أُحرزت الحوائط كانت كغيرها

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المبسوط"(9/ 153)، "بدائع الصنائع"(7/ 69)، "شرح فتح القدير"(5/ 130).

(2)

"شرح معاني الآثار"(3/ 173).

(3)

"الأم"(7/ 333)، "شرح معاني الآثار"(3/ 173)، "معالم السنن"(6/ 221).

ص: 473

‌حكم تلقين السارق الرجوع عن اعترافه

1241/ 7 - عَن أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ رضي الله عنه قَال: أُتيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ" قَال: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيهِ مَرّتَينِ أَوْ ثَلاثًا، فَأَمَرَ بهِ، فَقُطِعَ. وَجيءَ بِهِ، فَقَال:"اسْتَغفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيهِ"، فَقَال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيهِ، فَقَال:"اللَّهُمّ تُبْ عَلَيهِ- ثَلَاثًا". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائيُّ، ورِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو أمية المخزومي، ويقال: الأنصاري، لا يعرف له اسم، عداده في أهل المدينة، له هذا الحديث، روى عنه أبو المنذر مولى أبي ذر رضي الله عنه ويقال: مولى آل أبي ذر

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في "الحدود"، باب "التلقين في الحد"(4380)، وأحمد (37/ 184)، والنسائي (8/ 67) من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلص قد اعترف

الحديث.

وهذا سند ضعيف، أبو المنذر مجهول كما قال الذهبي

(2)

. وقول

(1)

"الإصابة"(11/ 22).

(2)

"الميزان"(4/ 577).

ص: 474

الحافظ هنا: رجاله ثقات، فيه نظر، وهو مخالف لقوله في "التقريب" عن أبي المنذر:(مقبول)، قال الخطابي:(في إسناده مقال، والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به)

(1)

.

وقد نقل الحافظ في "التلخيص" كلام الخطابي هذا وسكت عنه، مما يدل على أخذه به!

(2)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (بِلِصٍّ) بتشديد الصاد، وهو مثلث اللام، كما في "القاموس"

(3)

واللص هو السارق، ويجمع على لصوص وألصاص.

قوله: (ما إخالك) بكسر الهمزة وفتحها، من خال يخال؛ أي: ظنَّ، والكسر هو الأفصح والأكثر استعمالًا، على خلاف القياس، وبنو أسد يفتحون همزتها على القياس

(4)

؛ لكونها على صيغة المتكلم.

° الوجه الرابع: استدل بهذا من قال: إنه لا بد من إقرار السارق مرتين ولا يكفي إقراره مرة واحدة.

ووجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ قطع هذا السارق حتى اعترف مرتين، ولو كانت المرة الواحدة كافية لقطعه بأول اعتراف.

كما استدلوا بالقياس على حد الزنا بجامع أن كلًّا منهما يتضمن إتلافًا؛ ولأنه أحد حجتي القطع، فيعتبر فيه التكرار كالشهادة.

وهذا قول الحنابلة، ومالك في رواية عنه، وإسحاق وبعض السلف.

وذهب الجمهور من أهل العلم ومنهم أبو حنيفة والشافعي ومالك في رواية، وجماعة من السلف

(5)

، إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة، ولا حاجة إلى التكرار قياسًا على سائر الأقارير؛ لأن المقر غير متهم في

(1)

"معالم السنن"(6/ 217).

(2)

"التلخيص"(6/ 2777).

(3)

"ترتيب القاموس"(4/ 143).

(4)

"المصباح المنير" ص (187).

(5)

"شرح فتح القدير"(5/ 125)، "نهاية المحتاج"(7/ 140)، "بداية المجتهد"(4/ 414)، "المغني"(12/ 464).

ص: 475

إقراره، لا سيما في هذه الحالة التي يترتب عليها قطع عضو عزيز عليه.

وهذا القول هو الراجح، لقوة مأخذه، وأما حديث الباب فلا حجة فيه على اشتراط التكرار؛ لأنه حديث ضعيف؛ ولأنه خرج مخرج الاستثبات وتلقين ما يسقط الحد؛ ولأن الراوي تردد هل أقر مرتين أو ثلاثًا، وكان طريق الاحتياط لهم أن يشترطوا الإقرار ثلاثًا ولم يقولوا به. وأما القياس فهو مع وجود الفارق، ذلك أن القياس على الشهادة غير صحيح؛ لأن اعتبار العدد في الشهادة إنما هو لتقليل التهمة، ولا تهمة في الإقرار.

° الوجه الخامس: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أنه ينبغي تلقين المقر بالسرقة الإنكارَ والرجوعَ عن إقراره، وذلك إذا جاء معترفًا تائبًا نادمًا، ومثل هذا حصل لماعز رضي الله عنه كما تقدم، وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنه عدة روايات في تلقين المقر

(1)

، فإذا رجع عن إقراره فإنه يدرأ عنه الحد.

وهذا في السارق المقر، أما من ثبتت عليه السرقة بالبينة فلا اعتبار لرجوعه.

وإذا أقر السارق بالسرقة أمام الحاكم ثم رجع عن إقراره فإنه يلزمه غرامة المال الذي أقر به؛ لأنه حق آدمي.

° الوجه السادس: جاء في هذا الحديث أمر المحدود بالسرقة بالاستغفار والدعاء له بالتوبة بعد استغفاره، وقد استدل بهذا الحديث من قال إن الحد ليس بكفارة، لقوله:"استغفر الله وتب إليه" بعد قطع يده، والكفارة هي التوبة.

والجمهور على أن الحد كفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر شيء من الجرائم الحدية:"ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له"

(2)

.

قال السندي: (لا دليل في الحديث لمن قال: الحدود ليست كفارات

(1)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(10/ 224)، "مصنف ابن أبي شيبة"(10/ 25).

(2)

تقدم تخريجه أول الحدود.

ص: 476

لأهلها، مع ثبوت كونها كفارات بالأحاديث الصحاح التي كادت تبلغ حد التواتر، كيف والاستغفار مما أُمر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:"استغفر لذنبك" وقد قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة: 117] لمعان ومصالح ذُكروا في محله، فمثله لا يصلح دليلًا على بقاء ذنب السرقة. والله تعالى أعلم)

(1)

.

(1)

"حاشية السندي على سنن النسائي"(7/ 67).

ص: 477

‌ما جاء في حسم اليد بعد قطعها

1242/ 8 - وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، فَسَاقَهُ بمَعْنَاهُ، وَقَال فِيهِ:"اذْهَبُوا بهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ". وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيضًا، وَقَال: لَا بَأْسَ بإِسْنَادِهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البزار (2/ 66 "مختصر زوائده")، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 168)، والدارقطني (3/ 102)، والحاكم (4/ 381) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن خَصِيفَة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق

فذكر الحديث بنحو الحديث الذي قبله، وفي آخره قال: اذهبوا به

الحديث.

قال البزار: (لا نعلمه عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد).

وهذا الإسناد ظاهره الصحة؛ لكنه معلول؛ لأن الدراوردي قد وصله، وهذا وهم منه، والصواب إرساله، كما قال ابن المديني وابن خزيمة والدارقطني

(1)

، فإن الحديث رواه جماعة: منهم ابن عيينة -كما في "المراسيل" لأبي داود ص (324)، وابن أبي شيبة (10/ 24) -، والثوري وابن جريج -كما في "مصنف عبد الرزاق"(10/ 225) -وإسماعيل بن جعفر -كما عند أبي عبيد في "غريب الحديث"(2/ 95) - أربعتهم عن يزيد بن خصيفة،

(1)

"السنن"(3/ 102)، "العلل"(10/ 65)، "التلخيص"(4/ 74).

ص: 478

عن محمد بن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، فهذا يدل على أن إرساله هو الصواب وأن الدراوردي قد أخطأ في وصله.

° الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أنه ينبغي حسم اليد بعد القطع حتى يتوقف سيلان الدم، إما بالكي كما قال علماء اللغة في تفسير الحسم

(1)

، فيكوى محل القطع لينقطع الدم، أو بغير ذلك من الوسائل الطبية الحديثة؛ لأنه لو استمر نزيف الدم لهلك، والحد لا يراد به إهلاكه وإنما يراد به تطهيره وتأديبه وتأديب غيره.

وظاهر الحديث أن الحسم واجب؛ لأنه أمر، ولا صارف له عن معناه الحقيقي، لا سيما وأن تركه يؤدي إلى التلف

(2)

، وقد ورد ما يدل على تعليق يد السارق في عنقه، واستحب الفقهاء ذلك

(3)

، ولكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، وقد رواه النسائي وضعفه

(4)

، والحنفية يرون أن مرجع ذلك لولي الأمر يختار ما يراه مناسبًا للردع

(5)

.

° الوجه الثالث: استدل العلماء المعاصرون ومنهم هيئة كبار العلماء ومجلس المجمع الفقهي في المملكة العربية السعودية بهذا الحديث على أنه لا يجوز إعادة ما قطع من الأعضاء بحد أو قصاص.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحسم يد السارق، والحسم مانع من إعادتها؛ لأن إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، وهذا يكون بتواطؤ وإعداد طبي خاص ينبئ عن التهاون في جدّية إقامة الحد وفاعليته.

والقرآن يؤيد هذا القول، فإن الله تعالى قال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} والجزاء لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة ليحصل الردع والزجر، وإعادتها مفوت لذلك؛

(1)

"غريب الحديث"(2/ 95).

(2)

"نيل الأوطار"(7/ 152).

(3)

"المغني"(12/ 442).

(4)

"السنن"(8/ 92).

(5)

"مكافحة جريمة السرقة" ص (202).

ص: 479

لأن في إعادتها سترًا على جريمة السارق، والشرع قاصد لفضحه، وقد تكون إعادتها مشجعة لأهل الفساد والإجرام على تعاطي جريمة السرقة، والمقصود أن إعادتها يفوت المقاصد الشرعية العظيمة من قطعها.

وذهب بعض المعاصرين، وهو الدكتور وهبة الزحيلي إلى جواز إعادة ما قطع بحد أو بقصاص، إلا أنه اشترط في القصاص رضا المجني عليه، وحجته في ذلك أنه بتنفيذ الحد تَمَّ العمل بالنص الشرعي، ويبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة؛ ولأن الهدف تحقق من إقامة الحد، ولا سلطان للحاكم على المحدود بعد تنفيذ الحد.

والقول الأول هو الصواب، لقوة مأخذه، والرد على الثاني يفهم مما تقدم

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الجراحة الطبية" ص (414)، "الشرح الممتع"(14/ 365).

ص: 480

‌ما جاء في أن السارق لا يَغرَمُ إذا أقيم عليه الحد

1243/ 9 - عَنْ عَبْدِ الرّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لا يَغْرَمُ السارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيهِ الْحَدُّ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَبَيّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَال أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه النسائي في كتاب "قطع السارق"، باب "تعليق يد السارق في عنقه"(8/ 92 - 93) من طريق المسور بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَغْرَمُ صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد".

وهذا حديث ضعيف، في سنده انقطاع؛ لأن المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف لم يلق جده عبد الرحمن بن عوف؛ لأن عبد الرحمن بن عوف مات سنة اثنتين وثلاثين، وحفيده المسور مات سنة سبع ومائة، ولهذا قال النسائي:(هذا مرسل، وليس بثابت).

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر، ومسور لم يلق عبد الرحمن، وهو مرسل أيضًا)

(1)

.

وأعله -أيضًا- الدارقطني وذكر الاختلاف في إسناده، وقال:(إنه مضطرب غير ثابت)

(2)

.

(1)

"العلل"(1357).

(2)

"العلل"(4/ 294).

ص: 481

ثم إن المسور قد تفرد برواية هذا الحديث عن جده عبد الرحمن، وبينهما مفازة، والمسور قال عنه الحافظ:(مقبول الحديث) ومن كان كذلك فيقبل حديثه حيث توبع وإلا فلا، وهو في هذا الحديث لم يتابع عليه.

° الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن السارق إذا قطعت يده وقد استهلكت العين فإنه لا يلزمه ضمانها، وهذا قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وجماعة من السلف

(1)

. والحنفية إنما استدلوا به لأن الإرسال ليس بجرح عندهم، فالمرسل عندهم حجة

(2)

، مع أن الحديث فيه علل أخرى غير الإرسال.

كما استدلوا بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} فإن الآية دلت على أن القطع هو جزاء السارق، ولو قلنا بالضمان لم يكن القطع هو كل الجزاء، ويكون زيادة على ما في القرآن.

وذهب الجمهور من أهل العلم ومنهم الشافعي وأحمد وجماعة من السلف إلى أنه يلزم السارق الضمان، سواء أكان موسرًا أو معسرًا

(3)

؛ لأن السارق معتد ظالم، والقطع حق لله تعالى، والضمان حق المسروق منه، وهما حقان متغايران، فلا يبطل أحدهما الآخر. قالوا: وأما آية السرقة وأنه لم يذكر فيها تضمين السارق فإنه لم ينفه أيضًا، وإنما سكت عنه، وحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه، وحديث الباب لا تقوم به حجة على عدم الضمان؛ لأنه مرسل.

والمراد بالضمان رد العين المسروقة إلى صاحبها إن كانت موجودة، أو رد قيمتها أو مثلها إن كانت تالفة.

(1)

"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 83).

(2)

"حاشية السندي"(8/ 93).

(3)

"المغني"(12/ 454)، "سبل السلام"(7/ 187).

ص: 482

وقد أجمع أهل العلم على أن العين إذا كانت موجودة فإن ردها شرط لصحة توبة السارق، سواء حدّ أو لم يحد؛ لأن المالك وجد عين ماله، ومن وجد عين ماله فهو أحق به، وإنما الخلاف المتقدم فيما إذا أقيم الحد على السارق والعين تالفة أو مستهلكة

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(12/ 454).

ص: 483

‌اشتراط الحرز في القطع

1244/ 10 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّق، فَقَال:"مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيءَ عَلَيهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيءٍ مِنْهُ فَعَلَيهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْويَهُ الْجَرينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيهِ الْقَطْعُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الحدود"، باب "ما لا قطع فيه"(4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 85) من طريق ابن عجلان، وابن ماجه (2596) من طريق الوليد بن كثير، وأحمد (11/ 273) من طريق محمد بن إسحاق، والحاكم (4/ 380) من طريق عمرو بن الحارث، أربعتهم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق

الحديث، وهذا لفظ أبي داود.

ورواه الترمذي في "البيوع" من أوله دون قوله: "ومن خرج

".

وأخرجه النسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة، ورواه أحمد مع ألفاظ أخرى في ضالة الإبل واللقطة والكنز.

وقال الترمذي: (حديث حسن) وقد تقدم أن هذا هو الصحيح في سلسلة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 831) عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن

ص: 484

أبي حسين المكي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر نحوه. هكذا مرسلًا

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سئل عن الثمر المعلق) في بعض نسخ "البلوغ" بالتاء المثناة من فوق، فيكون خاصًّا بالنخل، وفي بعضها بالثاء المثلثة، وهو الموافق لأكثر الأصول، وهو الموجود في المخطوطة التي سبق وصفها

(2)

، وعليه الشراح كالمغربي والصنعاني

(3)

، وصوبه الشيخ عبد العزيز بن باز، ويؤيد ذلك رواية أحمد (قال: يا رسول الله، فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: "من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء

") والثمر: اسم جامع للرطب واليابس من التمر والعنب وغيرهما.

وقوله: (المعلق) أي: المدلى من الشجر، وليس المراد ما علقه آدمي.

قوله: (بفيه) أي: الفم، وحذفت الميم للإضافة، وجاء في لغة قليلة إثباتها، وقد جاء هذا في رواية أحمد، كما تقدم.

قوله: (من ذي حاجة) مِنْ بيان لـ (مَنْ) في قوله: (من أصاب) وذي الحاجة؛ أي: فقير أو مضطر، والظاهر أن المراد مطلق الحاجة ولو غنيًّا.

قوله: (غير متخذ خبنة) غير بالنصب حال من فاعل أصاب.

والخبنة: بالضم ثم السكون معطف الإزار وطرف الثوب، قال الخطابي:(الخبنة: ما يأخذه في ثوبه، فيرفعه إلى فوق)، وقال ابن الأثير:(ما تحمله في حضنك)

(4)

.

قوله: (ومن خرج بشيء منه) هذا تصريح بمفهوم قوله: "غير متخذ خبنة" لترتيب الحكم عليه.

قوله: (فعليه الغرامة) في رواية أبي داود: "غرامة مثله" وفي نسخة

(1)

انظر: "التمهيد"(19/ 211).

(2)

انظر: (7/ 125) من هذا الكتاب.

(3)

"البدر التمام"(4/ 435)، "سبل السلام"(4/ 52).

(4)

"معالم السنن"(2/ 270)، "النهاية"(3/ 567).

ص: 485

و"سنن النسائي": "غرامة مثليه" وهذا من باب التعزير بالمال.

والغرامة: مصدر غَرِمَ من باب (تعب)، وهي ما يلزم أداؤه تأديبًا أو تعويضًا.

قوله: (والعقوبة) هذا لفظ مجمل، وقد ورد في "سنن النسائي":"وجَلَداتُ نكالٍ" فيكون المراد بالعقوبة التعزير لعدم تقديرها.

قوله: (الجرين) بفتح الجيم وكسر الراء بوزن أمير، موضع تجفف فيه الثمار من التمر والعنب وغيرها، وجمعه جُرُن وأجران، وهو البيدر والمِرْبَد، والمربد لغة أهل نجد.

° الوجه الثالث: دل هذا الحديث على أن آخذ الثمر من تمر أو غيره له ثلاث حالات:

1 -

حالة لا شيء فيها، وهي ما إذا أكل بفيه من غير أن يحمل معه شيئًا؛ لأن أصحاب البساتين جرت عادتهم بالسماح في مثل ذلك، والإذن العرفي كالإذن اللفظي.

2 -

وحالة يغرم مِثْلَي ما أخذ، ويؤدب من غير قطع، وهي ما إذا أخذه من شجره وأخرجه؛ لأنه مال الغير أخذه بلا إذنه ولا رضاه، والغالب أن أصحاب البساتين لا يسمحون بمثل هذا التصرف.

3 -

وحالة يقطع فيها، وهي ما إذا أخذ ما يبلغ نصابًا من حرزه الذي جعل فيه.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على اعتبار الحرز في السرقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عمن أخذ الثمار من الشجرة، وأوجبه على سارقه من الجرين، فدل على أن الجرين حرز الثمر.

وهذا الحديث هو عمدة القائلين بشرطية الحرز من السنة النبوية، وهو قول جماهير أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك كابن هبيرة، وابن قدامة

(1)

.

(1)

"الإفصاح"(2/ 414)، "المغني"(12/ 426).

ص: 486

وقرر القائلون بشرطية الحرز أن هذا الحديث مخصص لعموم آية السرقة، كما تقدم تخصيصها بأحاديث اشتراط النصاب، لكن قد يقال: إن كان الإحراز مأخوذًا من مفهوم السرقة لغة فلا عموم في الآية، قال في "القاموس":(السرقة والاستراق المجيء مستترًا لأخذ مال غيره من حرزه)

(1)

.

والحرز لغة: الموضع الحصين.

وشرعًا: المكان المعد لحفظ المال بحيث لا يعد صاحبه مضيعًا له بوضعه فيه، وحرز كل شيء بحسبه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الجرين حرزًا للثمار.

وذهبت الظاهرية وجماعة من السلف إلى عدم اشتراط الحرز وأن من سرق قطعت يده، سواء أخذ من حرز أو من غيره.

واستدلوا بعموم آية السرقة، ونصر ابن حزم هذا القول

(2)

، وأجاب عن حديث الباب بأنه من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهي صحيفة لا يحتج بها، وقد تقدم في باب "الحضانة" رد هذا، ثم إنه إذا كان الحرز داخلًا في المعنى اللغوي للسرقة فلا عموم في الآية، وقد تقدم نقل كلام صاحب "القاموس".

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه من أخذ ما لا قطع فيه ضوعف عليه الغرم، وقد نص الإمام أحمد على ذلك فقال: كل من سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم

(3)

.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن من خرج بشيء من الثمر فإنه يعاقب، وهذه العقوبة غير مقدرة، بل هي تعزير يرجع فيه إلى رأي الإمام.

° الوجه السابع: استدل الجمهور بهذا الحديث على أن ما آواه الجرين

(1)

"ترتيب القاموس"(2/ 555).

(2)

"المحلى"(11/ 319).

(3)

"زاد المعاد"(5/ 54).

ص: 487

من الثمار ففيه القطع لوجود الحرز، لا فرق في ذلك بين اليابس والرطب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالقطع على إيواء الجرين، وهذا نص صريح على أن مدار الحكم الحرز، لا الرطوبة خلافًا للحنفية القائلين لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللَّبَنِ والثمار والفواكه الرطبة، أما إذا كانت الثمار يابسة وآواها الجرين ففيها القطع، وقد تقدم بيان ذلك.

° الوجه الثامن: هذا الحديث يستدل به من يقول بجواز التعزير بالمال، لقوله:(غرامة مثليه) وإضعاف الغرم على آخذ الثمر من العقوبة بالمال، وهذه مسألة خلافية تقدم الكلام عليها في "الزكاة"

(1)

، وللمخالف أن يقول: إن هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه كلام، وعلى فرض ثبوته فإنه يُقتصر فيه على موضعه، ولا يتعداه إلى غيره، فيضعف الغرم على آخذ الثمر المعلق، ثم إن الروايات مختلفة في لفظة:(مثليه)، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "شرح الحديث"(605).

ص: 488

‌جواز العفو عن السارق قبل بلوغ الإمام

(1)

1245/ 11 - عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لَهُ -لَمّا أَمَرَ بقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ ردَاءَهُ فَشَفَعَ فِيهِ- "هَلَّا كَانَ ذلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَني بهِ؟ ".

أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الحدود"، باب "من سرق من حرز"(4394)، والنسائي (8/ 69)، وابن الجارود (828)، والحاكم (4/ 380) من طريق أسباط بن نصر، عن سماك بن حرب، عن حميد ابن أخت صفوان، عن صفوان بن أمية قال: كنت نائمًا في المسجد عليَّ خميصة لي ثمنُ ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا، أنا أبيعه وأنسئه ثمنها؟ قال:"فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به".

وهذا الإسناد فيه أسباط بن نصر الهمداني، وهو متكلم فيه، فقد أشار أحمد إلى ضعفه

(2)

، وضعفه النسائي والساجي، وقال ابن معين:(ثقة)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق كثير الخطأ،

(1)

هذا هو ظاهر صنيع الحافظ حيث اقتصر على المرفوع فقط، وهو قوله:"هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به"، وله موضوع آخر وهو: بيان نوع من أنواع الحرز.

(2)

"العلل"(2/ 95).

ص: 489

يُغرب)، وقد علَّق له البخاري حديثًا في الاستسقاء

(1)

.

وقد خولف في إسناده، فقد رواه أحمد (24/ 23)(45/ 610) من طريق سليمان بن قَرْم، عن سماك، عن جُعيد ابن أخت صفوان بن أمية، عن صفوان بنحوه.

وهذا سند ضعيف لضعف سليمان بن قرم، وجهالة جعيد ابن أخت صفوان

(2)

، فقد تفرد بالرواية عنه سماك بن حرب، كما قال الذهبي، ولم يوثقه إلا ابن حبان.

والحديث له طرق أخرى

(3)

، ولعله يصح بمجموعها، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الدارقطني (3/ 206)، والحاكم (4/ 380) من طريق زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس أن صفوان بن أمية أتى النبي صلى الله عليه وسلم

وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي.

ورواه النسائي (8/ 69) من طريق أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه، وأشعث ضعيف، لكنه يصلح حديثه في المتابعات.

وقد صحح الحديث ابن عبد الهادي فقال: (حديث صفوان حديث صحيح، وقد رواه الإمام أحمد -أيضًا- وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عنه)

(4)

.

وعزو الحديث للأربعة وَهْمٌ من الحافظ، فإن الترمذي لم يرو هذا

(1)

"الثقات"(6/ 85)، "تهذيب الكمال"(2/ 358)، "تهذيب التهذيب"(1/ 185)، "فتح الباري"(2/ 510).

(2)

نقل الحافظ في "تهذيبه"(3/ 48) في ترجمة حميد ابن أخت صفوان عن البخاري أنه قال: (إن زائدة صحَّفه، فقال: جعيد بن حجير) ولم أجده في ترجمة حميد من "التاريخ الكبير"(2/ 357)، وقد رأيته في "سنن أبي داود" فإنه قال:"ورواه زائدة، عن سماك، عن جعيد بن حجير"، وذكر ابن القطان (3/ 569) أن حميد بن حجير لا يعرف في غير هذا الحديث، وقال الذهبي:(مجهول)، وقال الحافظ:(مقبول).

(3)

انظر: "الإرواء"(7/ 345).

(4)

"تنقيح التحقيق"(4/ 563).

ص: 490

الحديث، ولهذا لم يعزه المزي إلى الترمذي

(1)

، وكذا ابن عبد الهادي، والحافظ نفسه عزاه للثلاثة فقط في "الفتح"

(2)

.

وقوله: إن الحاكم صحح الحديث، فيه نظر، فإن الحاكم سكت عنه، وكذا الذهبي، وإنما صحح الحاكم حديث ابن عباس المذكور.

° الوجه الثاني: الحديث دليل لمن قال باشتراط الحرز في قطع السارق؛ لأن صفوان رضي الله عنه أحرز رداءه بوضعه تحت رأسه، ومن استدل به على عدم اشتراط الحرز فهو استدلال ضعيف؛ لعل وجهه أن المسجد ليس بحرز، لكن صفوان لم يجعله بجانبه، وإنما جعله تحت رأسه، وهذا إحراز له.

وهذا يدل على أن الإنسان حرز لثيابه ومتاعه ولفراشه الذي هو نائم عليه في أي مكان كان، سواء في المسجد أو في غيره كالصحراء، أما إذا نام ووضعه بجانبه من غير أن يتوسده فليس بحرز.

وبهذا يتبين أن الحرز كما يكون بالمكان والغَلَقِ، يكون بالحافظ والملاحظ، فيقطع السارق فيما كان مالكه حافظًا له وإن لم يكن مغلقًا عليه في مكان.

ومما له صلة بموضوع الحرز مسألة سرقة السيارات، فإن وجهات النظر قد تختلف في صفة حرزها، فلقائل أن يقول: إن حرز السيارة إيقافها داخل المنزل، فإذا سرقت خارجه فلا قطع؛ لأنها غير محرزة

(3)

، لكنه يعزر تعزيرًا بليغًا يردعه وأمثاله، على قاعدة سرقة ما لا قطع فيه.

ولقائل أن يقول: إن إيقاف السيارة أمام المنزل مقفلة يعتبر حرزًا لها، ولما فيها من آلات مشدودة فيها أو أمتعة بداخلها، وأن الناس لا يسعهم إلا هذا؛ لأن إلزامهم بإحراز سياراتهم داخل منازلهم فيه من المشقة والحرج ما لا تأتي الشريعة بمثله، فمن أوقفها أمام بابه وأغلقها فقد أحرزها، ولا يعد

(1)

"تحفة الأشراف"(4/ 187).

(2)

(12/ 88).

(3)

انظر: "فتاوى ابن إبراهيم"(12/ 142).

ص: 491

بذلك مضيعًا، فإذا كَسَرَ إنسان قفلها أو زجاجها وأخذها أو أخذ شيئًا بداخلها، أو سرق شيئًا من آلاتها المشدودة فيها قطعت يده إذا بلغ المسروق نصابًا، وتحققت بقية شروط القطع.

فإن كانت غير مقفلة فأخذها أو أخذ شيئًا مما في داخلها لم يُعَدَّ سارقًا؛ لعدم الإحراز؛ وكذا لو كانت مقفلة وبداخلها نقود فأخذت فلا قطع؛ لأن السيارة ليست حرزًا للنقود، وصاحبها يعد مضيعًا

(1)

.

وهذه المسألة هي من مسائل الاجتهاد؛ لعدم وجود نصٍ فيها؛ ولأن الفقهاء لم يتكلموا عنها؛ لعدم وجودها في زمانهم؛ وإنما يستفاد حكمها إما من قياسها على سرقة الدَّواب التي فصَّل فيها الفقهاء

(2)

، وإما من القول بأنها محرزة، لكون المرجع في الحرز إلى العرف والعادة، وعلى هذا فالمرجع في هذه المسألة إلى القاضي، وتبقى مهمته في تحقيق المناط، وهو هل مسألة سرقة السيارات داخلة فيما ذكر أم لا؟ والله تعالى أعلم.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على ثبوت القطع ووجوب تنفيذه على السارق وأن المسروق منه لا يملك العفو عنها إذا بلغت الإمام، فإن صفوان جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عافيًا عن سارقه، ملتمسًا تحويل القضية من سرقة إلى بيع، ومع ذلك رد الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته، فدل على عدم جواز العفو عن عقوبة السرقة متى بلغت الإمام، سواء كان العفو من السارق أو من غيره.

وقد دل على أن القطع يسقط بالعفو قبل الرفع إلى الإمام، وهو مجمع عليه

(3)

، لكن ينبغي النظر إلى حال السارق، وهل هو يستحق العفو أو لا؟

(4)

وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق رداء صفوان

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "مكافحة جريمة السرقة في الإسلام" ص (72).

(2)

انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 169)، "المغني"(12/ 428).

(3)

"نيل الأوطار"(7/ 146).

(4)

انظر: ص (464) من هذا الجزء.

(5)

رواه أحمد (14/ 18)، والنسائي (8/ 68).

ص: 492

‌عقوبة السارق إذا تكررت السرقة

1246/ 12 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: جِيءَ بِسَارق إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "اقْتُلُوهُ"، فَقَالُوا: يا رسُولَ اللهِ إِنَّما سَرَقَ، قَال:"اقْطَعُوهُ" فَقُطِعَ، ثُمّ جِيءَ بهِ الثَّانِيَةَ فَقَال:"اقْتُلُوهُ"، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمّ جِيءَ بهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الرّابعَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بهِ الْخَامِسَةَ فَقَال:"اقْتُلُوهُ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ.

1247/ 13 - وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الحارثِ بنِ حاطبٍ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ القَتْلَ فِي الخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو الحارث بن حاطب بن معمر القرشي الجمحي رضي الله عنه، ولد في الحبشة بعد هجرة أبيه إليها، وبهذا جزم ابن حبان وابن عبد البر وغيرهما، وقيل: ولد قبل ذلك، له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي داود والنسائي، استعمله ابن الزبير على مكة سنة ست وستين، واستعمله مروان على المساعي في المدينة، وعمل لابنه عبد الملك على مكة

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الحدود"، بابٌ "في السارق يسرق مرارًا"(4410)، والنسائي (8/ 90 - 91) من طريق مصعب بن

(1)

"الثقات"(3/ 77)، "الاستيعاب"(2/ 230)، "الإصابة"(2/ 151).

ص: 493

ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وتمامه: قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة. وهذا لفظ أبي داود.

وهذا سند ضعيف، قال عنه النسائي:(هذا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث، والله تعالى أعلم) وزاد في "الكبرى"(7/ 42): (

ولا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم).

وأما حديث حاطب رضي الله عنه فرواه النسائي (8/ 89 - 95)، والحاكم (4/ 382)، والبيهقي (8/ 372 - 373) من طريق حماد بن سلمة قال: أنبأنا يوسف بن سعد، عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلص

وساقه بنحو حديث جابر رضي الله عنه إلا أن قتل السارق في المرة الخامسة كان في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا معارض لما تقدم.

وهذا الحديث رجاله ثقات، لكن حكم الحفاظ بنكارته، ولما قال الحاكم:(صحيح الإسناد ولم يخرجاه) تعقبه الذهبي بقوله: (قلت: بل منكر) والذي يظهر أن الحاكم بنى تصحيحه على كون رجاله ثقاتٍ، لكن الحفاظ كالنسائي والذهبي حكموا بنكارته

(1)

، ووجه نكارته أمور ثلاثة:

الأول: أنه مخالف للمشهور من هديه صلى الله عليه وسلم في التثبت والاستفصال وتلقين صاحب الحد الرجوع عن إقراره، كما تقدم في قصة ماعز رضي الله عنه، وقصة الذي قال له:"ما إخالك سرقت".

الثاني: أن حد السرقة في المرة الأولى القطع، وهنا قال:"اقتلوه".

الثالث: أن هذه القصة فيها مباينة للمعقول؛ إذ كيف يتصور أن يأتي شخص مقطوع اليدين والرجلين، ويسرق في المرة الخامسة، فيهتك الحرز ويخرج المال من حرزه؟!

ثم إن الحديث في متنه اضطراب لا يمكن دفعه، وذلك أنه جاء في

(1)

"الحدود والتعزيرات" ص (393).

ص: 494

حديث جابر رضي الله عنه أن السارق قتل في الخامسة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث الحارث أنه قتل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كما تقدم.

وهذا أحد المسالك التي ذكرها أهل العلم في الجواب عن هذين الحديثين، وهو نفي صحة هذا الحديث؛ لما تقدم من نكارته واضطراب متنه، ومثل هذا لا تقوم به حجة.

وحكي عن الإمام الشافعي أن هذا الحديث منسوخ، حكاه عنه البيهقي في "سننه"(8/ 275) وذكر أن ناسخه هو حديث معاوية رضي الله عنه في ترك قتل شارب الخمر في الرابعة، وسيأتي الكلام عليه قريبًا إن شاء الله، وهذا نسخ بالتنظير، لا بالنص، وهو مسلك غريب

(1)

.

وبقي مسالك أخرى تركتها لضعفها، والنسخ ضعيف، لكني ذكرته لأن الحافظ أشار إليه، وأقوى هذه المسالك هو الأول، وهو نقد الحديث رواية ودراية، وهو الذي تقتضيه أصول الصناعة الحديثية وقواعد الشريعة الكلية

(2)

.

° الوجه الثالث: اتفق العلماء ومنهم الصحابة رضي الله عنهم والأئمة الأربعة رحمهم الله على أن السارق إذا سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى بعد اليد اليمنى، وقد حكى الاتفاق ابن عبد البر

(3)

، والموفق ابن قدامة

(4)

، وغيرهما، قال الحافظ: (ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم قطع الرِّجْلِ بعد اليد، وهم يقرأون {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا. . .}

(5)

، وقد روى ابن جريج، عن عطاء أنه قال: تقطع اليد اليسرى

(6)

، لقوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ، ونُقِلَ عن ربيعة وداود، واعتبره ابن قدامة قولًا شاذًّا، وأما الآية فالمراد قطع يد كل واحد من السارق والسارقة بدليل أنه لا تقطع اليدان في المرة الأولى.

ثم اختلفوا فيما وراء ذلك إذا سرق ثالثة ورابعة على قولين:

(1)

"الحدود والتعزيرات" ص (399).

(2)

المرجع السابق، "فتح الباري"(12/ 99).

(3)

"الاستذكار"(24/ 193).

(4)

"المغني"(12/ 440).

(5)

"فتح الباري"(12/ 100).

(6)

"مصنف عبد الرزاق"(10/ 184).

ص: 495

الأول: أنه لا قطع في الثالثة، بل يحبس حتى يموت، وهذا مذهب الحنفية، والمعتمد في مذهب الحنابلة، وهو قول الظاهرية

(1)

، واختاره الشيخ ابن باز.

واستدلوا بأقضية وردت عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى عبد الرزاق والبيهقي أن عليًّا كان لا يقطع إلا اليد والرجل، وإن سرق بعد ذلك سجن ونُكِّلَ، وكان يقول: إني لأستحيي من الله ألا أدع له يدًا يأكل بها ويستنجي

(2)

.

ولأن في القطع إتلاف جنس منفعة البطش والمشي، والحدود شرعت للزجر لا للإتلاف.

والقول الثاني: أنه يقطع في الثالثة يسرى يديه، والرابعة يمنى رجليه، فإن سرق خامسة عزر بضرب أو سجن ونحوهما، وهذا مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو مذهب المالكية والشافعية، ورواية في المذهب الحنبلي

(3)

، واستدلوا بما ورد في هذا الباب، وهي أحاديث لا تقوم بها حجة كما تقدم، وما روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد روي عنهما خلافه

(4)

.

وعلى هذا فالصواب هو القول الأول، وهو أنه إن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، فإن عاد فلا قطع، بل يعزر بما يراه الحاكم رادعًا له ولأمثاله.

وقد اشتهر عن أبي مصعب الزهري المدني صاحب الإمام مالك القول بأن السارق يقتل في الخامسة بعد الإتيان على أطرافه

(5)

، وهذا قول ضعيف لا يعول عليه. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحلى"(11/ 357)، "شرح فتح القدير"(4/ 248)، "المغني"(12/ 446).

(2)

"فتح الباري"(12/ 100). قال الحافظ: (سنده صحيح).

(3)

"المهذب"(2/ 284)، "حاشية الدسوقي"(4/ 333)، "المغني"(12/ 446).

(4)

انظر: "فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه "(1/ 299)، "مكافحة جريمة السرقة في الإسلام" ص (174).

(5)

"الاستذكار"(24/ 195).

ص: 496

‌باب حد الشارب وبيان المسكر

هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله لسياق الأحاديث الواردة في حد شارب الخمر، والأحاديث الواردة في بيان المسكر من الأشربة وغيرها.

والشارب في الأصل يطلق على كل من شرب حلالًا كان أم حرامًا، لكن الفقهاء والمحدثين خصوه بشارب الخمر، وتعبير المصنف بكلمة حد دون كلمة عقوبة إشارة منه إلى القول بأن عقوبة الشارب حدية لا تعزيرية، كما سيأتي.

والمسكر: اسم فاعل من أسكر الشراب فهو مسكر: إذا جعل شاربه سكران، أو كانت فيه قوة تفعل ذلك، وسيأتي البحث في هذا إن شاء الله.

وقد أدخل المصنف حديثين لا علاقة لهما مباشرة بالباب، وهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الضرب على الوجه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في إقامة الحدود في المساجد.

ص: 497

‌بيان عقوبة شارب الخمر

1248/ 1 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بجَرِيدَتَين نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَال: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَال عَبْدُ الرّحْمن بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "ما جاء في ضرب شارب الخمر"(6773)، ومسلم (1706)(35) من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه.

وهذا لفظ مسلم؛ لأن البخاري لم يذكر ما أشار به عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما استشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم، ولفظ البخاري:(أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين) قال ابن عبد الهادي: (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وهو أتم)

(1)

، أما المجد في "المنتقى" فإنه لما ساقه بمثل لفظ "البلوغ" قال:(رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه)

(2)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (شَرِبَ الخمر) الخمر في اللغة: الستر والتغطية، وهذا هو الأصل

(1)

"المحرر"(2/ 746).

(2)

انظر: "نيل الأوطار"(13/ 362).

ص: 498

في مادة خَمَرَ، قال ابن فارس:(الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر)

(1)

، والخمر تجمع على خمور، وهي مؤنثة في اللغة الفصيحة المشهورة، وقد تُذَكَّرُ، وهي لغة قليلة حتى إن الأصمعي أنكرها.

والخمر: يطلق على كل ما أسكر العقل من عصير كل شيء أو نقيعه، سواء أكان من العنب أم التمر أم غيرهما.

قال في "القاموس": (الخمر: ما أسكر من عصير العنب أو هو عام، والعموم أصح؛ لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب)

(2)

. وسيأتي تفصيل القول في حقيقة الخمر إن شاء الله تعالى.

وسميت خمرًا إما لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، أو لأنها تستره وتغطيه، أو لأنها تُغَطَّى حتى تغلي، قال ابن عبد البر:(والثلاثة الأوجه كلها موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار، وهي مخالطة للعقل، وربما غلبت عليه وغطته)

(3)

.

قوله: (فجلده) أي: ضربه على جلده، والجلد: هو الضرب بالسوط ونحوه، واشتقاقه من جلد الحيوان: وهو غشاء جسمه.

قوله: (بجريدتين) مثنى جريدة، وهي غصن النخل المجرود من أوراقه، وهي الخوص، فسميت جريدة لأنها مجردة عن الخوص.

قوله: (نحو أربعين) أي: قريبًا من أربعين، والظاهر أن المعنى أن الجريدتين كانتا مفردتين، جلد بكل واحدة منهما عددًا حتى كمل من الجميع أربعون.

قوله: (فلما كان عمر) أي: جاء عمر، والمراد صار خليفة، وكان تامة، وعمر: فاعل.

(1)

"معجم مقاييس اللغة"(2/ 215).

(2)

"ترتيب القاموس"(2/ 106).

(3)

"التمهيد"(1/ 244).

ص: 499

قوله: (استشار الناس) أي: طلب مشورتهم ورأيهم وما عندهم من العلم في جلد شارب الخمر.

وسبب الاستشارة ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال:(ما ترون في شارب الخمر. . .)

(1)

. والمعنى: أنه لما فتحت الشام والعراق وسكن الناس في الريف ومواضع الخصب وسعة العيش وكثرة الأعناب والثمار أكثروا من شرب الخمر.

وإنما استشار عمر رضي الله عنه الناس في العقوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في الخمر حدًّا بحيث لا يزاد عليه كما جاء في حد الزنا والقذف.

قوله: (فقال عبد الرحمن بن عوف) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قديمًا، ومناقبه مشهورة، تقدمت ترجمته في باب "اللباس" من كتاب "الصلاة".

وقد روى الإمام مالك أن عليًّا رضي الله عنه قال: (نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى)

(2)

لكن هذا حديث معضل.

قوله: (أخف الحدود ثمانون) هكذا في نسخ "البلوغ" بالرفع

(3)

، وتخريجها ظاهر، والمراد الإخبار بأن أخف الحدود ثمانون، لا الأمر بذلك.

لكن رواية مسلم بالنصب: (أخفَّ الحدود ثمانين) وتوجيه رواية النصب تؤيده رواية مسلم: (فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين). فكان التقدير: أرى أن تجعلها أخف الحدود ثمانين.

(1)

رواه مسلم (1706)(36).

(2)

"الموطأ"(2/ 842) وقد رواه عن ثور بن يزيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر .. وهذا سند منقطع، بل معضل، فقد رواه النسائي في "الكبرى"(5/ 137)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320) عن ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس به بنحوه. وانظر:"التلخيص"(6/ 2811).

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 64).

ص: 500

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على ثبوت عقوبة شارب الخمر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه جلد الشارب نحو أربعين، وكان الشارب يضرب بالأيدي والنعال وبالثياب وبالجريد، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال:"اضربوه"، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه

(1)

. وحديث أنس رضي الله عنه قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر بالجريد والنعال

(2)

. ثم استقر الأمر على ضربه بالجريد نحو أربعين في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه.

° الوجه الرابع: اختلف العلماء في عقوبة شارب الخمر على ثلاثة أقوال:

الأول: أن عقوبته أربعون جلدة، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(3)

، قالوا: وللإمام أن يزيد على الأربعين تعزيرًا، واستدلوا بهذا الحديث، ورجح هذا الشيخ محمد بن عثيمين

(4)

.

والقول الثاني: أن عقوبته ثمانون، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، ورواية عند الحنابلة، وقول للشافعي، لفعل عمر رضي الله عنه، فإنه استشار الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينقل أن أحدًا خالف، فكان إجماعًا، ورجح هذا القرطبي

(5)

.

والقول الثالث: أنها عقوبة تعزيرية ولا حد فيها، وقد حكى الطبري وابن المنذر وغيرهما ذلك عن طائفة من أهل العلم، قال الحافظ: (وأظنه رأي البخاري، فإنه لم يترجم بالعدد أصلًا، ولا أخرج هنا في العدد الصريح

(1)

رواه البخاري (6777).

(2)

رواه مسلم (1706)(37).

(3)

"المغني"(12/ 499)، "روضة الطالبين"(10/ 171)، "الاختيارات" ص (299)، "زاد المعاد"(5/ 48).

(4)

"الشرح الممتع"(14/ 294 - 295).

(5)

"بدائع الصنائع"(7/ 57)، "مواهب الجليل"(8/ 433)، "المغني"(12/ 498)، "المفهم"(5/ 136).

ص: 501

شيئًا مرفوعًا)

(1)

. وهو اختيار الشوكاني

(2)

، وعلى هذا القول فمرجع العقوبة إلى الإمام، يقدرها بناءً على المصلحة وما يتحقق به الزجر، وهو قول قوي، يؤيده ما يلي:

1 -

فهم الصحابة رضي الله عنهم فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَقِتْ في الخمر حدًّا)

(3)

، وعن علي رضي الله عنه قال:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسُنَّ فيه -أي: الخمر- شيئًا)

(4)

.

2 -

أن الصحابة رضي الله عنهم أعملوا رأيهم في تحديد العقوبة لما استشارهم عمر رضي الله عنه وقد فهموا أن الأربعين ليست حدًّا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه نص بتحديد الأربعين، وإلا لما قالوا فيه بالرأي، كما لم يقولوا بغيره، قال الشوكاني:(ومما يؤيد عدم ثبوت مقدار معين عنه صلى الله عليه وسلم طلب عمر رضي الله عنه المشورة من الصحابة، فأشاروا عليه بآرائهم، ولو كان قد ثبت تقديره عنه صلى الله عليه وسلم لما جهله جميع أكابر الصحابة)

(5)

.

3 -

أنه ورد الضرب بالأيدي والنعال والثياب، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والظاهر أن الضرب بهذه الصفة لا يمكن تحديده بالأربعين.

4 -

أن هذا القول تجتمع به الأدلة، ولا يشكل عليه شيء منها.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن عقوبة الخمر لا تتجزأ، بل تُستوفى جملة واحدة؛ لأن قوله:(فجلده) ظاهر في هذا، ويؤيده حديث علي رضي الله عنه الآتي في قصة الوليد.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن البلاد والأماكن قد تختلف في عقوبة الخمر، فإذا كثر الشرب وتساهل الناس زيد في العقوبة لردعهم، وإن قل الشرب فلا مانع من الاقتصار على الأربعين.

(1)

"فتح الباري"(12/ 72 - 75).

(2)

"نيل الأوطار"(7/ 161).

(3)

رواه أبو داود (4476)، قال الحافظ: إسناده قوي.

(4)

متفق عليه، وسيأتي الكلام عليه في باب "التعزير" إن شاء الله تعالى.

(5)

"نيل الأوطار"(7/ 162).

ص: 502

° الوجه السابع: فضل الاجتهاد في المسائل ومشاورة أهل العلم، وهذا دأب أهل الحق وطالبي الصواب.

والاستشارة فيها من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره، فمن ذلك:

1 -

أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله تعالى، وقد أمر الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو أكمل الناس عقلًا وأغزرهم علمًا، وأفضلهم رأيًا، قال تعالى:{وَشَاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].

2 -

أن فيها احترامًا لأهل الرأي والعلم، فإنه إذا جمعهم وأخذ رأيهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم، وأحبوه، وعلموا أنه لا يستبدُّ عليهم.

3 -

أن في الاستشارة تنوير الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

4 -

ما تنتجه الاستشارة من صواب الرأي، وسداد العمل، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يَتِمَّ له مطلوب فليس بملوم

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "تفسير ابن سعدي" ص (154).

ص: 503

‌حكم إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

(1)

1249/ 2 - وَلِمُسْلِم عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه في قِصّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: جَلَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. وَفي هذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيهِ أَنَّهُ رَاهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فَقَال عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتى شَرِبَهَا.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الحدود" باب "حد الخمر"(1707) من طريق حُضين بن المنذر أبي ساسان، قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما: حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: وَلِّ حارَّها من تولى قارَّها

(2)

، فإنه وَجَدَ عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليَّ.

(1)

الظاهر من صنيع الحافظ أنه قصد أمرين: الأول: ثبوت الحد وأنه أربعون، والثاني: حكم إقامته بالقرينة الظاهرة.

(2)

هذا مثل من أمثال العرب ذكره الميداني (3/ 436) وغيره. ومعناه: ولِّ شدتها من تولى هنيئها، والقارُّ: البارد، ويعني الحسن بهذا: ولِّ شدة إقامة الحد من تولى إمرة المسلمين وتناول حلاوة ذلك. ["المفهم" (5/ 135)].

ص: 504

والحافظ قد اختصر الحديث، واقتصر على المراد، لكن قوله: (وفي الحديث

إلخ) قصور؛ لأنه يوهم أن عثمان جلد الوليد بشهادة واحد على التقيؤ مع أنه شهد عليه رجلان، كما في سياق الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الوليد بن عقبة) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، أمهما أروى بنت كريز بن ربيعة، أسلم يوم الفتح، ولاه عثمان الكوفة سنة خمس وعشرين وقصة صلاته بالناس الصبح وهو سكران رواها مسلم كما تقدم، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه الشرب مشهورة -أيضًا- مخرجة في "الصحيحين"، مات سنة إحدى وستين رضي الله عنه

(1)

.

قوله: (وكل سنة) أي: كل من الأربعين والثمانين سنة؛ أي: طريقة مشروعة يعمل بها، فالأربعون سنة؛ لأنها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والثمانون سنة قد عمل بها عمر رضي الله عنه في زمانه.

قوله: (وهذا أحب إلي) اسم الإشارة يعود إلى الأربعين التي جلدها الوليد، وأمر بالإمساك عليها، ومعناه: هذا الذي جلدته وهو الأربعون أحب إلي من الثمانين.

ويحتمل أنها تعود إلى الثمانين؛ لأنها أقرب مذكور، وتكون الثمانون أحب إليه مع جرأة الشاربين، لا أنها أحب إليه مطلقًا، لئلا يقال: كيف يجعل فعل عمر رضي الله عنه أحب إليه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يشكل على هذا أن عليًّا رضي الله عنه لم يجلد الوليد ثمانين، وإنما جلده أربعين، كما في رواية مسلم.

وقد جاء في "صحيح البخاري" في "مناقب عثمان" حديث المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود من طريق شبيب بن سعيد، عن يونس، عن الزهري (ثم دعا عثمان عليًّا فأمره أن يجلده -أي: الوليد- فجلده ثمانين)

(2)

.

(1)

"الإصابة"(10/ 311).

(2)

"صحيح البخاري"(3696).

ص: 505

وجاء في باب "هجرة الحبشة" من رواية معمر، عن الزهري:(فجلد الوليد أربعين)

(1)

، وهذا تعارض، وقد رجح الحافظ رواية معمر هذه، وقال: (إنها أصح من رواية يونس، عن الزهري، والوهم فيه من الراوي عنه شبيب بن سعيد، ويرجح رواية معمر ما أخرجه مسلم

) ثم ذكر حديث الباب

(2)

.

وقبل الحافظ رجح القرطبي حديث حضين بن المنذر في رواية الأربعين، وقال:(لأنه مفصَّل في مقصوده، حَسَنٌ في مساقه، وساقه مساق المثبت) واعتبر رواية الثمانين وهمًا

(3)

.

قوله: (أن رجلًا شهد عليه) أي: الوليد، ولم يرد في السياق تسمية هذا الشاهد، ولذا وقع الخلاف في تعيينه

(4)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن عقوبة الشارب أربعون أو ثمانون، وأن الكل سنة، قال الحافظ:(في هذا الحديث الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين)

(5)

.

° الوجه الرابع: في قول علي رضي الله عنه: "وكلٌّ سنة) دليل واضح على اعتقاد علي رضي الله عنه صحة إمامة الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن حكمهما يوسف بأنه سنة، وفي هذا رد قوي على الرافضة والشيعة؛ لأنه قول متبوعهم الذي يتعصبون له ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه

(6)

.

° الوجه الخامس: اختلف العلماء فيمن وجدت منه ريح الخمر أو تقيأها هل هذا يكفي لثبوت الجريمة فيقام عليه الحد أم لا؟

فالقول الأول: أنه لا يثبت الحد بوجود الرائحة أو القيئ، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، كما ذكر ابن قدامة، وقال:(هو قول أكثر أهل العلم)

(7)

.

(1)

"صحيح البخاري"(3872)

(2)

"فتح الباري"(7/ 57).

(3)

"المفهم"(5/ 135).

(4)

"فتح الباري"(7/ 57).

(5)

"فتح الباري"(12/ 75).

(6)

"المفهم"(5/ 136).

(7)

"المغني"(1/ 501)، "فتح الباري"(10/ 65).

ص: 506

قالوا: لأنه يمكن أن يكون شربها مكرهًا أو في مخمصة، أو أنه لم يعلم أنها مسكرة، فلما علمها مجها، أو شرب لغصة بقدر ما يسيغها.

والرائحة مع ذلك محتملة لا يلزم منها الشرب، فقد تكون من الخمر، وقد تكون من غيره، فإن الروائح قد تتفق، ومثل هذه الأمور تورث شبهة، والحد لا يقام مع وجود الشبهة.

والقول الثاني: أنه يثبت الحد بالرائحة أو القيء، وهذا مذهب مالك وأصحابه، والرواية الثانية عن أحمد، وهو اختيار ابن القيم

(1)

.

واستدلوا على القيء بحديث الباب، قالوا: لأن عثمان رضي الله عنه أقام الحد على الوليد بالقيء، لقوله:(إنه لم يتقيأها حتى شربها).

وأما إقامة الحد بالرائحة فدليله ما ثبت في "الصحيحين" واللفظ للبخاري بإسناده إلى علقمة قال: كنا بحمص فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أُنزلت، فقال: قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنتَ، ووجد منه ريح خمر، فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر؟ فضربه الحد

(2)

.

والذي يظهر -والله أعلم- هو القول الأول، وهو أن الحد لا يقام بمجرد القيء ولا الرائحة؛ لأن قاعدة الشريعة المطردة المجمع عليها درء الحد بالشبهة، وما يتوارد من الشبه في موضوع الرائحة والقيء شبهة محتملة، كشبهة الاشتباه، وشبهة النسيان، وشبهة الإكراه، وشبهة الجهل ونحو ذلك. فيمكن وقوعها، فإن الروائح قد تتفق، وقد يكون لديه عصير أو نبيذ قد تخمر فنسي تخمره وشربه

ونحو ذلك.

لكن إن وجد قرينة أخرى تنفي الشبهة وتبعد الاحتمال ويقنع بها القاضي، فإنه يحد، وهذا مروي عن جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه وابن

(1)

"إعلام الموقعين"(3/ 197)، "الطرق الحكمية" ص (7)، "فتح الباري"(9/ 50).

(2)

رواه البخاري (5001)، ومسلم (801).

ص: 507

الزبير رضي الله عنه وعطاء، واختاره بن قدامة. وذلك كان يكون من وجدت منه الرائحة معروفًا بالإدمان، أو يشهد شاهدان على شخص أحدهما بالشرب والآخر بالرائحة أو القيء، أو يوجد جماعة من الفساق على شراب، بعضهم سكر، وبعضهم تنبعث منه الرائحة، ونحو ذلك.

أما قصة الوليد فلا دليل فيها؛ لأن الظاهر أن عثمان رضي الله عنه لم يجلد الوليد بمجرد القيء، وإنما شهد عليه حمران بن أبان أنه شرب، وشهد آخر أنه تقيأها، فانضمت شهادة التقيؤ إلى شهادة الشرب، مع أن الوليد قد شرب وشرب، كما ذكر ذلك الحافظ في ترجمته.

وأما قصة ابن مسعود مع الرجل فالجواب عنها من وجهين:

الأول: أنها ليست نصًّا في أن موجب الحد وجود الرائحة مجردة، بل يحتمل أن الرجل اعترف بالشرب بلا عذر، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال

(1)

، لا سيما مع وجود المعارض، ويؤيد هذا قوله له:(أتشرب الخمر؟) فإنه حكم عليه بالشرب، ثم إن معارضته لابن مسعود رضي الله عنه مع قوله له:(أحسنت) مشعر بأن الرجل فيه مبادئ سكر؛ إذ كيف يعارضه أولًا ثم يقول له: (أحسنت)؟!

الثاني: أن هذا مجرد رأي لابن مسعود رضي الله عنه والرأي يخطئ ويصيب، ثم إن عليًّا رضي الله عنه قد خالف ابن مسعود، كما ذكر الحافظ

(2)

، بناءً على رواية عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث.

والملاحظ أن البخاري مع دقته في تراجمه لم يخرج هذا الحديث في كتاب "الحدود" وإنما أخرجه في "فضائل القرآن" ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب "الحدود" كعادته في تقطيع الحديث على أبواب العلم مراعاة لما فيها من أحكام، وكذا مسلم ذكر الحديث ضمن أحاديث "فضائل القرآن"، ولم يذكره في "الحدود" مع أنها أولى به؛ لأنه أخرج حديث إقامة الحد بالقيء، فكان المناسب أن يذكر بعده حديث إقامة الحد بالرائحة. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 336)، "فتح الباري"(9/ 50).

(2)

"فتح الباري"(9/ 50).

ص: 508

‌حكم من تكرر منه شرب الخمر

1250/ 3 - عَنْ مُعَاويةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَال في شَارب الْخَمْر:"إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمّ إِذَا شَرِبَ الرّابعَةَ فَاضْرِبوا عُنُقَهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ صَريحًا عَنِ الزُّهْريِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (28/ 83)، وأبو داود في كتاب "الحدود"، باب "إذا تتابع في شرب الخمر"(4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 141)، وابن ماجه (2573) من طريق عاصم، عن أبي صالح ذكوان، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، به مرفوعًا.

وهذا سند حسن، من أجل عاصم بن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، والحديث رواه الحاكم (4/ 382) وسكت عنه، وقال الذهبي:(صحيح) ونقله عنه الزيلعي. وقال ابن عبد الهادي: (رواته ثقات، وقد روى جماعة من الصحابة نحو هذا الحديث)

(1)

.

وقال الترمذي: (وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نُسخ بعد)، وذكر -أيضًا- في أول كتابه "العلل" أن جميع ما في هذا الكتاب -وهو كتاب

(1)

انظر: "العلل الكبير"(2/ 608)، "العلل" للدارقطني (10/ 91)، (13/ 438)، "نصب الراية"(3/ 347)، "المحرر"(633).

ص: 509

الجامع- معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين

وذكر منهما حديث الباب

(1)

.

ورواه أبو داود (4885) من طريق سفيان قال الزهري: أخبرنا قَبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه" فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورُفِعَ القتل وكانت رخصة. قال سفيان: حدث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومخوَّل بن راشد، فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث.

وهذا صريح في رفع القتل وأنه نسخ.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الشارب يقام عليه الحد ثلاث مرات، فإذا شربها في الرابعة فإنه يقتل.

وقد ورد في بعض الأحاديث أن القتل في الثالثة، وفي بعضها أنه في الخامسة، وهذا شك نادر من بعض الرواة لا يؤثر في صحة الحديث، ولا في أن الحكم بالقتل إنما هو في الرابعة، وعليه أكثر الروايات.

والقول بأنه يقتل هو قول الظاهرية، وقد نصره ابن حزم ودافع عنه، واختاره من المتأخرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"، ثم طبع في رسالة مستقلة

(2)

.

والقول الثاني: أنه لا يقتل، وبه قال جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابله

(3)

، واستدلوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث

الحديث" وتقدم في أول "الجنايات".

ووجه الدلالة: أن هذا الحديث ورد بأسلوب يقتضي القصر على من ورد

(1)

انظر: "شرح العلل " لابن رجب (1/ 4).

(2)

"المحلى"(11/ 365)، "المسند"(9/ 40).

(3)

"الأم"(6/ 155)، "البحر الرائق"(5/ 29)، "فتح الباري"(12/ 10).

ص: 510

ذكرهم، وهم الزاني والقاتل والمرتد، والشارب ليس واحدًا منهم، فيبقى حكم دمه على الأصل وهو العصمة، ويكون هذا الحديث ناسخًا لحديث القتل.

كما استدلوا بما تقدم من حديث قبيصة بن ذؤيب في أن القتل قد رفع، قال النووي:(هذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو حديث منسوخ، دلَّ الإجماع على نسخه)

(1)

.

والمقصود أن الجمهور لا يرون القتل، ويقولون إن حديث الباب إما منسوخ بحديث ابن مسعود رضي الله عنه أو حديث قبيصة، وإما أن الإجماع منعقد على خلافه كما قال الترمذي، وكذا قال الشافعي:(لا نعلم أحدًا من أهل الفتيا يخالف في أن من أقيم عليه حد في شيء أربع مرات ثم أُتي به خامسة أو سادسة أقيم ذلك الحد عليه ولم يقتل، وفي هذا دليل على أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان ثابتًا فهو منسوخ)

(2)

، وقال ابن المنذر:(وأجمعوا على أن السكران في المرة الرابعة لا يجب عليه القتل، إلا من لم يُعَدَّ خلافه خلافًا)

(3)

.

والقول الثالث: أنه يجوز قتله في الرابعة تعزيرًا لا حدًّا إذا رأى الإمام ذلك، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(4)

، ووجهة نظرهم الجمع بين الأدلة، فقد ورد أدلة مفادها القتل في المرة الرابعة، وهي قد وردت من طرق متعددة بأسانيد قوية، كما يقول الحافظ ابن حجز

(5)

، كما جاءت أحاديث وآثار مفادها عدم القتل، كما تقدم في حديث قبيصة بن ذؤيب، وهذا القول هو الراجح؛ لأن الجمع بين الأدلة وإعمالها أولى من إعمال بعضها وإهمال الآخر.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 228).

(2)

"اختلاف الحديث"(9/ 199).

(3)

"الإجماع" ص (146).

(4)

"الفتاوى"(7/ 483)(21/ 9)(28/ 347)، (34/ 217)، "مختصر تهذيب السنن"(6/ 237).

(5)

"فتح الباري"(12/ 73).

ص: 511

وقد رد أصحاب القول الأول على أصحاب القول الثاني قولهم: إن القتل منسوخ؛ بأن أحاديث النسخ ليست صريحة، وبعضها لا يقوى على معارضة الأحاديث التي فيها الأمر بالقتل.

فحديث ابن مسعود رضي الله عنه حديث عام، وأحاديث قتل الشارب أحاديث خاصة، ثم إنه ليس هناك دليل على تأخر حديث ابن مسعود رضي الله عنه حتى يقال بالنسخ، ومعرفة التاريخ شرط في العمل بالنسخ.

وأما حديث قبيصة فأجيب عنه بما يلي:

1 -

أنه مرسل؛ لأن قبيصة ولد يوم الفتح.

2 -

أنه لو كان متصلًا لكانت أحاديث الأمر بالقتل مقدمة عليه؛ لأنها أصح وأكثر.

3 -

أن هذا فعل، والقول مقدم عليه؛ لأن القول تشريع، والفعل قد يكون خاصًّا، إذ قد يكون ترك قتله لعذر.

لكن يؤيد النسخ ما ورد في قصة ابن النعيمان وهو عبد الله بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنوه، فوالله ما علمت؛ إنه يحب الله ورسوله"

(1)

. قال الحافظ ابن حجر: (وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة)

(2)

.

وأما دعوى الإجماع على ترك القتل فقد وافق ابن القيم ابن حزم على نقضها؛ لأن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله، وأضاف ابن القيم أنه قول بعض السلف

(3)

، ومثل هذا لا يكفي، فإن قول عبد الله بن عمرو بن العاص جاء من طريق منقطع لا تقوم به حجة؛ لأنه من رواية الحسن

(1)

رواه البخاري (6780).

(2)

"فتح الباري"(12/ 78).

(3)

"تهذيب مختصر السنن"(6/ 237).

ص: 512

البصري عنه، وهو لم يسمع منه على الصحيح، وقول عبد الله بن عمر ذكره ابن حزم وابن القيم بدون إسناد، ومثل ذلك لا يتم به نقض الإجماع، وما ذكره عن بعض السلف لم يتم تعيينه إلا ما روي عن الحسن، وقد ذكره الحافظ ابن حجر بدون إسناد

(1)

.

والذي يظهر أن الأحاديث بقتل الشارب حدًّا في الرابعة منسوخة؛ لأن أحاديث النسخ يشد بعضها بعضًا، ثم إن قتل الشارب من الأمور التي لا تخفى، لا سيما وأن شاربها لا يشربها مرة واحدة وإنما يكون مدمنًا عليها في الغالب، والقول بقتله تعزيرًا فيه وجاهة. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(12/ 73).

ص: 513

‌النهي عن الضرب في الوجه

1251/ 4 - عَنْ أَبي هُرَيرَة رضي الله عنه قَال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُم فَلْيَتَّقِ الْوَجْه"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

الكلام عليه من وجهين:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب "إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه"(2559) من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه".

ورواه مسلم (2612) من طريق المغيرة الحزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه".

ورواه من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، بلفظ:"إذا ضرب أحدكم".

ورواه -أيضًا- من طريق أبي عوانة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه".

وبهذا يتبين أن لفظ "البلوغ" هو لفظ مسلم؛ لكنه ملفق من هذه الرواية وما قبلها، وسيذكر الحافظ هذا الحديث مرة أخرى بلفظ البخاري في باب "الرَّهبِ من مساوئ الأخلاق" من كتاب "الجامع".

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على النهي عن الضرب في الوجه، وهذا نهي عام يعم الحدود والتعزيرات، والإنسان والحيوان، وذلك لأن الوجه

ص: 514

مجمع المحاسن، وهو لطيف، فيظهر فيه أثر الضرب، وربما شانه، والشين فيه لا يمكن ستره، بخلاف ما يخفى من الأعضاء؛ ولأن الوجه مجمع الحواس كالعين والأذن، وربما آذاها الضرب، وقد مضى في "عشرة النساء" حديث معاوية القشيري في نهي الزوج عن ضرب زوجته.

ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث في باب "حد الشارب" لكون الحدِّ يقام بالضرب بالجريد والنعال ونحوه، ولما كان بعض الناس قد تأخذه الغيرة أو الحماس في تنفيذ الحد، نُهي أن يتجاوز في ضربه إلى الوجه. والله تعالى أعلم.

ص: 515

‌النهي عن إقامة الحدود في المساجد

(1)

1252/ 5 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تُقَامُ الْحُدُودُ في الْمَسَاجِد"، رَواهُ التِّرمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "الديات"، باب "ما جاء في الرجل يقتل ابنه فيقاد منه أم لا؟ "(1401) من طريق إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد".

قال الترمذي: (هذا حديث لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعًا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، وإسماعيل بن مسلم المكي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه).

وقد تابعه سعيد بن بشير، عن عمرو بن دينار، به، رواه الحاكم (4/ 369)، وعبيد الله بن الحسن العنبري، عن عمرو. رواه الدارقطني (3/ 142)، والبيهقي (8/ 39) وفي أسانيدها مقال، ويحتمل أن يكون هؤلاء قد أخذوه عن إسماعيل بن مسلم، فيكون كلام الترمذي في محله.

(1)

هذا العنوان تقدم في "باب المساجد" حيث ذكر الحافظ هناك حديث حكيم بن حزام، وهنا ذكر حديث ابن عباس، وهذا في ظاهره تكرار لم يعهد من الحافظ، وابن عبد الهادي في "المحرر" ذكر حديث حكيم بن حزام في باب "المساجد"(1/ 272) ولم يذكر شيئًا في "الحدود".

ص: 516

والحديث له شواهد منها حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها"، وقد مضى الكلام عليه في باب "المساجد" من كتاب "الصلاة"

(1)

.

* الوحه الثاني: في الحديث دليل على أن الحدود لا تقام في المساجد، وظاهر النهي أنه للتحريم، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم إلا أن معناه صحيح، فإن إقامة الحد في المسجد وإن كان عبادة؛ لأنه إجراء لحكم الله تعالى إلا أنه يؤدي إلى تلويث المسجد، فإنه إذا ضرب الجاني أو قطعت يده لوث المسجد، مع ما في ذلك من اللغط ورفع الأصوات فيه، ومثل ذلك غير لائق بالمسجد؛ لأن الله تعالى يقول:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وهذا الرفع يشمل الرفع الحسي بالبناء والتطهير من الأذى والقذر وكل ما لا يليق بالمسجد، والرفع المعنوي بإقامة ذكر الله تعالى وطاعته من الذكر والتلاوة والصلاة والابتعاد عن معصيته من اللغو وقول الزور وكل فعل يخل بتشريفها.

ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم أقاموا الحدود في المسجد، وقد تقدم أن ماعزًا لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو في المسجد وأقرّ عنده بالزنى، قال:"اذهبوا به فارجموه"، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: (2/ 483) من هذا الكتاب.

ص: 517

‌حقيقة الخمر

1253/ 6 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَال: لَقَدْ أنْزَلَ اللهُ تَحْريمَ الْخَمْرِ وَمَا بالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إلَّا مِنْ تَمْرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1254/ 7 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1255/ 8 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1256/ 9 - وَعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث أنس رضي الله عنه فقد رواه مسلم في كتاب "الأشربة"، باب "تحريم الخمر وأنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر"(1982) من طريق عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر.

وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد رواه البخاري في كتاب "الأشربة"، بابٌ "الخمرُ من العنب وغيره"(5581)، ومسلم (3032) من طريق أبي حيان

ص: 518

حدثنا عامر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال: أما بعد، نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب

الحديث.

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد راه مسلم في "الأشربة"، باب "بيان أن كل مسكر خمر"(2003) من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة".

وفي رواية له من طريق عبيد الله، أخبرنا نافع بلفظ:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام".

وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه أحمد (23/ 51)، وأبو داود في "الأشربة"، باب "النهي عن المسكر"(3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393) من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند حسن، داود بن بكر قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق) فهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات.

ورواه ابن حبان (12/ 202) من طريق موسى بن عقبة، عن ابن المنكدر، به.

وموسى بن عقبة ثقة من رجال الجماعة، وهذه متابعة قوية لداود بن بكر، كما تابعه سلمة بن صالح الأحمر عند ابن عدي في "الكامل"(3/ 330 - 331) وفيه ضعف.

والحديث له شواهد، ومنها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" رواه النسائي (8/ 301) وسنده حسن، ولما أشار المنذري إلى أحاديث الباب قال:(وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادًا)

(1)

.

(1)

"مختصر السنن"(5/ 267).

ص: 519

وعزو الحديث للأربعة وَهْمٌ من الحافظ؛ فإن النسائي ما رواه من حديث جابر رضي الله عنه، وإنما رواه بهذا اللفظ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده

(1)

.

* الوجه الثاني: اتفق فقهاء المسلمين على إطلاق اسم الخمر على المعتصر من العنب، واختلفوا في تعدية اسم الخمر وحكمها إلى غير العنب على قولين:

الأول: أن اسم الخمر يطلق على كل ما أسكر العقل، سواء أكان مشروبًا أم مأكولًا أم مشمومًا، وسواء أكان من العنب أم من التمر أم من غيرهما، وهذا قول جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية

(2)

. فالمدار عندهم على الإسكار وغيبوبة العقل من أي مادة صنع؛ لأن المقصود حفظ العقل، وإبعاد الأمة عن أضرارها ومفاسدها.

واستدلوا بما يلي:

1 -

حديث أنس رضي الله عنه فإنه نص صريح في أن المتخذ من التمر يسمى خمرًا، وأن الخمر ليست خاصة بالمتخذ من عصير العنب.

2 -

قول عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة

فبيَّن رضي الله عنه على ملأ من الصحابة دخول الأشربة المأخوذة من العنب والتمر

إلخ في مسمى الخمر، ثم أخبر أن الخمر ليس مقصورًا على هذه الأصناف الخمسة، بل هي اسم لكل ما خامر العقل، وعمر رضي الله عنه من أهل اللغة.

3 -

حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه نص صريح في أن الخمر لفظ عام يشمل كل ما أسكر، وهذا من جوامع الكلم التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظة (كل) من صيغ العموم، فتشمل كل ما أسكر من مشروب أو مطعوم أو مشموم؛ لأنه

(1)

"السنن"(8/ 300).

(2)

"المحلى"(8/ 443)، "المهذب"(2/ 366)، "جواهر الإكليل"(2/ 295)، "الشرح الكبير"(26/ 416).

ص: 520

علق التحريم على وجود الإسكار، ولم يفرق بين نوع ونوع

(1)

.

4 -

حديث جابر رضي الله عنه فإنه دل على تحريم القليل مما أسكر كثيره، فما عرف أنه مسكر وجب اجتنابه بالكلية، وإن كان قليله لا يسكر؛ لأن قليله قد يجر إلى كثيره، وجاء ذلك بلفظ عام؛ لأن. (ما) من ألفاظ العموم، فتشمل كل ما أسكر من أي مادة كان.

والقول الثاني: أن الخمر اسم خاص بالمتخذ من عصير العنب خاصة إذا غلى واشتد، وبه قالت الحنفية، وهل يشترط أن يقذف بالزَّبَدِ؟ ذهب أبو حنيفة إلى أنه يشترط؛ لأن الغليان بداية الشدة والإسكار، واكتمالها إنما يكون بالقذف بالزبد، فلا يسمى خمرًا قبل ذلك؛ لأن أحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية، كالحدِّ، وكفر مستحلها، وتحريم بيعها، ونجاستها.

وذهب صاحباه أبو يوسف ومحمد إلى عدم اشتراط قذفه بالزبد؛ لأن الإسكار يتحقق بدونه، وهذا هو الراجح عند الحنفية سدًّا للذريعة

(2)

.

واستدل الحنفية على أن الخمر هي عصير العنب من اللغة بما جاء في "المحكم" لابن سيده فإنه جزم بأن الخمر ما أسكر من عصير العنب دون سائر الأشياء

(3)

، قال صاحب "الهداية" من الحنفية:(الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم)

(4)

.

كما احتجوا بقوله تعالى حكاية عن صاحب يوسف عليه السلام: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر ويبقى نيئًا لا ما ينبذ أو يطبخ.

كما احتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حرمت الخمر قليلها وكثيرها، وما أسكر من كل شراب

(5)

. قالوا: فخص الخمر بحكم، ثم عطف عليها المسكر، والعطف يقتضي المغايرة.

(1)

"الفتاوى"(28/ 341 - 342).

(2)

"بدائع الصنائع"(5/ 112)، "تكملة فتح القدير"(10/ 91).

(3)

"المحكم"(5/ 114).

(4)

"الهداية"(4/ 108).

(5)

"رواه النسائي"(8/ 321).

ص: 521

وهذا الحديث مختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وقد بين النسائي ذلك، ونقل الزيلعي عن ابن معين والعقيلي تضعيف الحديث

(1)

. وقد حسن المعلق على "جامع الأصول" هذا الحديث موقوفًا

(2)

.

وأجابوا عن أدلة الجمهور بأنها محمولة على القليل من القدر المسكر.

والصواب في هذا ما ذهب إليه الجمهور من أن الخمر يطلق على كل ما أسكر من آية مادة كان إطلاقًا حقيقيًّا وأنه لا يختص بالمسكر من ماء العنب، لقوة أدلتهم وصراحتها في الدلالة على المراد.

وأما مذهب الحنفية فهو قول ضعيف مخالف للغة العرب، والسنة الصحيحة، وفهم الصحابة رضي الله عنهم.

وما حكاه صاحب "الهداية" مردود، فالمعروف في اللغة ما ذهب إليه الجمهور، وهو قول الجوهري، وأبي حنيفة الدِّينَوَرِي وغيرهما من متقدمي أهل اللغة

(3)

، قال صاحب "القاموس":(الخمر ما أسكر من عصير العنب أو هو عام، والعموم أصح؛ لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب)

(4)

. وتقدم هذا، وأما ما نقل عن ابن سيده فهو معارض بما قرره غيره من أهل اللغة من أن المتخذ من غير العنب يسمى: خمرًا، ثم إن ابن سيده متأخر؛ لأنه في منتصف القرن الخامس.

ويكفي في ذلك أفصح العرب لسانًا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه الذي قال: "كل مسكر خمر" فإن هذا نص في تعريف الخمر يغني عن النزاع.

وأما فهم الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أنس رضي الله عنه كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأُبي بن كعب من فضيخ زَهْو تَمْرٍ، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد

(1)

"نصب الراية"(4/ 306).

(2)

"جامع الأصول"(5/ 105).

(3)

انظر: "الصحاح"(2/ 649)، "فتح الباري"(10/ 47)، وانظر ترجمة الدينوري في:"الأعلام"(1/ 119).

(4)

"ترتيب القاموس"(2/ 106).

ص: 522

حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها

(1)

. ففي الحديث دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خمر، وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أهل اللسان وقد فهموا أن شرابهم ذلك خمر، بل لم يكن لهم شراب ذلك الوقت في المدينة غيره، ولو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم، لما تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما بادروا بالإراقة دل على أنهم فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر دون تفريق بين ما اتخذ من العنب أو غيره.

وأما استدلال الحنفية بآية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} فلا حجة لهم فيها؛ لأنها جاءت إخبارًا عن قضية رؤيا حصل فيها العصر، وقد تكون الخمر في وقتهم تعصر من العنب ولا يعرفون إلا هذا، وجاء في شرعنا المطهر من الأدلة الصحيحة الصريحة ما يثبت أنها تؤخذ من غير العنب، فيكون عليها المعول.

وأما حديث ابن عباس فهو ضعيف كما تقدم، وعلى فرض صحته فلا حجة فيه؛ لأن المراد بالخمر ما كان معروفًا عندهم كما مضى.

والخلاصة أن الخمر من ماء العنب إذا اشتد حقيقة لغوية شرعية بالاتفاق، وأما غيره فيطلق عليه اسم الخمر حقيقة لغوية شرعية على الأصح، كما هو مذهب الجمهور من علماء اللغة والشريعة.

وثمرة الخلاف: أن من شرب من أي مسكر من العنب أو غيره أقيم عليه الحد، سواء سكر منه أم لا، وهذا مذهب الجمهور، وأما عند الحنفية فمن شرب من ماء عصير العنب حُدَّ، سواء سكر منه أم لا؛ لأنه الخمر حقيقة، ومن شرب من غيره فلا يحد إلا إذا سكر، وعلى هذا فالحنفية يفرقون بين الخمر والمسكر.

ولا ريب أن مذهب الجمهور مع قوة أدلته تؤيده قاعدة سد الذرائع، وهي من مقاصد الشريعة، ومذهب الحنفية يفتح باب شرب المسكرات وتعاطيها تحت مسميات جديدة.

(1)

رواه البخاري (5582).

ص: 523

الوجه الثالث: حرم الله تعالى الخمر لما تشتمل عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة، التي كشف الطب الحديث عن كثير منها بما لديه من وسائل وأجهزة علمية دقيقة، وهي كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الخمر يصنعها للدواء:"أنها ليست بدواء، ولكنها داء"

(1)

.

والخمر تحتوي على مواد كيماوية كثيرة، أهمها: مادة "الغَول الإيثيلي" وتسمى "الكحول" وهي تنتج عن تخمر مادة السُّكَّر، وهي السبب في جميع الأضرار الناتجة عن تعاطي الخمور بأنواعها، وتوجد في السوائل الأخرى بنسب قليلة، وترتفع في المقَطَّرة منها، وتحديد الخمر وما يتبعها من السوائل المسكرة لا يتوقف على تساوي النِّسَبِ، ولا على ارتفاع وجودها، بل يتوقف على مجرد الوجود وإن كانت نسبتها قليلة، كالبيرة مثلًا.

"والغول" سريع الذوبان في الماء، ويصل إلى الدم، ويتوزع على جميع أخلاط البدن وأنسجته بسرعة فائقة، ولا سيما إذا أُخذ على معدة فارغة، ولعل هذا هو السر في أن الغول يؤثر على جميع أجزاء البدن، لا يستثني منها شيء، وأكثر الأجهزة تأثرًا في حالة السُّكْر هو الدماغ، ثم جهاز الدوران الدموي، والجهاز العصبي، والعقل، ثم الجهاز الهضمي بجميع أجزائه، ثم الجهاز التنفسي والبولي، وما ينشأ عن ذلك من الأمراض النفسية والعقلية، والشيخوخة المبكرة، والموت المفاجئ، وضعف مقاومة الجسم للأمراض، ثم الأضرار الاجتماعية، والاقتصادية، حتى نَسْلُ الإنسان لم يسلم من أذى المسكرات، بل وصل إلى الأجنة في بطون أمهاتها.

وبالجملة فهي أم الخبائث، وجماع الإثم، ومجمع الأمراض، ولهذا تجد السكارى غالبًا هم أفقر الناس، وأتعس الناس، وأشقى الناس

(2)

. نسأل الله السلامة والعافية.

(1)

رواه مسلم (1984)، وسيأتي شرحه -إن شاء الله- قريبًا.

(2)

انظر: "مع الطب في القرآن الكريم" ص (140)، "فقه الأشربة وحدُّها" ص (77)، "موقف الإسلام من الخمر" ص (17)، "الخمر والإدمان الكحولي" ص (15)، "أحكام الأطعمة في الإسلام" ص (165).

ص: 524

‌ما جاء في إباحة شرب النبيذ وشرطه

1257/ 10 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبيبُ في السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإنْ فَضَلَ شَيءٌ أَهْرَاقَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في "الأشربة"، باب "إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرًا"(2004) من طريق أبي عمر يحيى بن عبيد البهراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب

الحديث.

وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة عند مسلم، كلها قريبة من هذا المعنى.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ينبذ له الزبيب) بضم الياء مبنيًّا لما لم يسم فاعله؛ أي: يتخذ له النبيذ من الزبيب، وهو العنب المجفف بأن يطرح في الماء وينقع. يقال: نبذ التمر أو العنب ونحوهما، اتخذ منه النبيذ، وأصل النبذ الطرح، ومنه قيل للماء يطرح فيه ما يحليه: نبيذ

(1)

.

قوله: (في السقاء) بكسر السين على وزن كساء، جلد السخلة إذا أجذع يكون للماء واللبن.

قوله: (شربه وسقاه) مفعول سقاه الثاني محذوف، وقد جاء في رواية

(1)

"المصباح المنير" ص (590)، "المعجم الوسيط"(2/ 903).

ص: 525

عند مسلم (سقاه الخادم أو أمر به فَصُبَّ) والمعنى: أنه إن بدا في طعمه بعض تغير ولم يشتد سقاه الخادم، وإن اشتد أمر به فأهريق، فتكون (أو) للتنويع حسب حال النبيذ

(1)

، وأما القول بجواز شربه إذا اشتد، بدليل سقيه الخادم فهو مردود، إذ لا دليل على أنه بلغ حد الإسكار، وإنما بدا فيه بعض التغير؛ لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم كما لا يجوز شربه.

قوله: (فإن فَضَلَ) بفتح الضاد من باب (قتل) بمعنى بقي، وفي لغة بكسر الضاد من باب (تعب).

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز شرب النبيذ وهو الماء يلقى فيه التمر أو الزبيب ليحلو به الماء وتذهب ملوحته، بشرط ألا يصل إلى درجة الإسكار وإلا حرم. قال ابن القيم: (وهو يدخل في الغذاء والشراب، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظ الصحة

)

(2)

.

وقد حدد فقهاء الحنابلة جواز شرب النبيذ ما لم يغل أو يمر عليه ثلاثة أيام، فإذا مضى عليه ثلاثة أيام حرم شربه، وصار بحكم الخمر

(3)

، مستدلين بهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشربه يومه والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء اليوم الثالث شربه، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم؛ ولأن الحكم يثبت بغلبة الظن، والنبيذ بعد ثلاث مظنة التغير.

والقول الثاني: أنه لا يحرم شرب العصير ما لم يغلِ ولو زاد على ثلاثة أيام، وهذا قول الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو الخطاب

(4)

، وحمل كلام الإمام أحمد على عصير يتخمر في ثلاث غالبًا، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشربوا في كل وعاءٍ غير أن لا تشربوا مسكرًا"

(5)

؛ ولأن علة تحريمه الشدة المطربة، وهذا في المسكر خاصة، وهذا القول فيه

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(13/ 185).

(2)

"زاد المعاد"(4/ 237).

(3)

"الإنصاف"(10/ 235).

(4)

"الهداية"(2/ 108)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(26/ 435).

(5)

أخرجه مسلم (3/ 1584 - 1585).

ص: 526

وجاهة؛ لأن الأشربة يسرع إليها التخمر في بعض البلاد قبل غيرها، وكذا الأواني، فالبلاد الحارة ليست كالباردة، والآنية المفرَّغة من الهواء ليست كغيرها، وكذا ما يوضع في ثلاجة لا يفسد ولو مضى عليه مدة، ولعل هذا هو سبب اختلاف الأحاديث واختلاف الفقهاء، والضابط لذلك أن ما لم يصل إلى حد الإسكار باشتداده وغليانه فهو حلال، وما وصل فهو حرام؛ لأن علة التحريم: الشدة الحادثة، وهي توجد بوجود الغليان، قال النووي:(في هذه الأحاديث دلالة على جواز الانتباذ، وجواز شرب النبيذ ما دام حلوًا لم يتغير ولم يغل، وهذا جائز بإجماع الأمة)

(1)

.

وهذا يدل على عناية الشريعة بهذا الجانب، حيث وضعت هذه الضوابط لضمان عدم تحول النبيذ أو العصير إلى مسكر، حسمًا لمادة قرب المسكر، سدًّا لذريعة الوصول إليه. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 185).

ص: 527

‌تحريم التداوي بالخمر

1258/ 11 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الله لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيكُمْ"، أَخْرَجَهُ الْبَيهَقيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1259/ 12 - وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَميِّ أن طَارقَ بْنَ سُوَيدٍ رضي الله عنه سَأَل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَال: "إِنَّهَا لَيسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُمَا.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث أم سلمة رضي الله عنها رواه ابن حبان (4/ 233)، والبيهقي (10/ 5) من طريق جرير، عن أبي إسحاق الشيباني، عن حسان بن مخارق، قال: قالت أم سلمة رضي الله عنها: اشتكت ابنة لي، فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال:"ما هذا؟! فقالت: إن ابنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم".

هذا لفظ ابن حبان، ولفظ البيهقي:"فيما حرم عليكم" وهو لفظ "البلوغ".

وهذا الحديث رجاله ثقات معروفون، خلا حسان بن مخارق، فقد ترجمه البخاري في "تاريخه"، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

.

(1)

"التاريخ الكبير"(3/ 33)، "الجرح والتعديل"(3/ 235)، "الثقات"(4/ 164).

ص: 528

وعليه فالرجل مجهول الحال.

وله شاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم).

ذكره البخاري تعليقًا

(1)

، ووصله ابن أبي شيبة (7/ 381) من طريق جرير، والطبراني في "الكبير"(9/ 403) من طريق الثوري كلاهما عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود. قال الحافظ:(إسناده صحيح على شرط الشيخين)

(2)

.

وفي الباب ما رواه أبو داود (3874) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام" وهذا سند ضعيف، وصفه الذهبي بأنه خبر منكر، وقال الحافظ عن ثعلبة:(مستور).

وأما حديث وائل بن حجر فقد رواه مسلم في "الأشربة"، باب "تحريم التداوي بالخمر"(1984)، وأبو داود (3873)، والترمذي (2047)، وابن ماجه (3500)، وأحمد (31/ 83) كلهم من طريق سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر

الحديث.

وهذا لفظ مسلم إلا أنه عنده بتذكير الضميرين (إنه

ولكنه).

ولم يتضح لي غرض الحافظ من ذكر أبي داود مع مسلم، إلا إن كان غرضه بيان الاختلاف في السائل، فقد جاء عند أبي داود والترمذي طارق بن سويد أو سويد بن طارق، وقد ذكر ابن عبد البر

(3)

، وابن حجر

(4)

الاختلاف في اسمه، ونقل ابن حجر عن الترمذي وأبي زرعة وابن حبان وابن منده والبغوي أنه طارق بن سويد.

(1)

انظر: "فتح الباري"(10/ 78).

(2)

"فتح الباري"(10/ 79).

(3)

"الاستيعاب"(5/ 212).

(4)

"الإصابة"(5/ 212).

ص: 529

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (إن الله لم يجعل شفاءكم

) هذه الجملة تعليل لما تقدم من كون أم سلمة رضي الله عنها عملت لابنتها نبيذًا وصل إلى درجة الغليان.

قوله: (أن طارق بن سويد) مختلف في اسمه -كما تقدم- فقيل طارق بن سويد الحضرمي، كما جزم به أبو زرعة والترمذي وابن حبان والبغوي وآخرون، وقيل: سويد بن طارق، كما جزم به أبو حاتم وغيره، ويقال: الجعفي، له صحبة، حديثه عند أهل الكوفة.

قوله: (يصفها للدواء) أي: للعلاج بها، ولفظ الترمذي (إنا لنتداوى بها).

قوله: (لكنها داء) أي: ولكنها مرض. قال الخطابي: (إنما سماها داء لما في شربها من الإثم، وقد تستعمل لفظة "الداء" في الآفات والعيوب، ومساوئ الأخلاق)

(1)

.

* الوجه الثالث: استدل بما ورد من الأحاديث جمهور العلماء من

الحنفية والمالكية والحنابلة والصحيح عند الشافعية على أن التداوي بالخمر محرم

(2)

؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بأن الخمر ليست بدواء، وهذا يدل على تحريم التداوي بها، بل بين صلى الله عليه وسلم أنها داء، وإذا كانت داء لم يعقل أن يزال الداء بالداء.

كما استدلوا بقوله تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90].

ووجه الاستدلال من وجهين:

الأول: أن الله تعالى بين أن الخمر رجس، وغير المحرم لا يوصف بذلك، فدل على تحريمها.

(1)

"معالم السنن"(5/ 356).

(2)

"المنتقى شرح الموطأ"(3/ 141)، "المغني"(12/ 500)، "مغني المحتاج"(4/ 188)، "حاشية ابن عابدين"(6/ 478).

ص: 530

الثاني: أنه أمر باجتنابها، وهذا أمر بالاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه لا بشرب ولا تداوٍ ولا تخليل ولا بيع. وفي اتخاذ الخمر دواء حض على الترغيب فيها وملابستها، وهذا ضد مقصود الشارع.

والقول الثاني: أنه يجوز التداوي بالخمر إذا تعينت علاجًا ولم يوجد غيرها، بشروط معتبرة

(1)

، وهذا قول بعض الحنفية

(2)

، وهو أحد الوجهين عند الشافعية، ونسبه ابن العربي إلى ابن شهاب، وبه قال ابن حزم

(3)

.

واستدلوا على ذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، كما في حديث أنس رضي الله عنه الثابت في "الصحيحين"

(4)

قالوا: وأبوال الإبل نجسة، وهذا دليل على جواز التداوي بالنجس، ومنه الخمر.

كما استدلوا بالقياس على إباحة المحرمات كالميتة للمضطر. وحملوا الأحاديث الناهية عن التداوي بالخمر على حالة التداوي بها من غير ضرورة ملجئة، كمن يظن نفعها ولو بإخبار طبيب، وعلى حالة الاختيار، كما إذا وجد غيرها من الحلال يقوم مقامها.

والصواب قول الجمهور؛ لوجود النص الدال على تحريم التداوي بالخمر؛ ولأن الإنسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعها، ثم إن في اتخاذها دواء مناقضة لمقصود الشارع كما تقدم.

وأما الاستدلال بحديث العرنيين فهو مردود بعدم التسليم بنجاسة أبوال الإبل حتى يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتداوي بها، بل أبوال الإبل وأرواثها وكل ما يؤكل لحمه طاهرة، ولو سلمنا القول بنجاستها فالواجب الجمع بين العام وهو تحريم التداوي بالحرام وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال

(1)

انظر: "الاضطرار إلى الأطعمة والأدوية المحرمة" ص (123).

(2)

نسب الحافظ في "فتح الباري"(10/ 80) القول بالجواز إلى الحنفية، وهذا فيه نظر، وعلى إثره مشى الصنعاني، فإن جمهورهم على التحريم. انظر:"بدائع الصنائع"(5/ 113)، حاشية ابن عابدين (6/ 478).

(3)

"المحلى"(11/ 371)، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 152)، "المجموع"(9/ 51).

(4)

رواه البخاري (233)، ومسلم (1671).

ص: 531

الإبل، فيقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل

(1)

.

وأما الاستدلال بالقياس فهو قياس فاسد الاعتبار؛ لمخالفته النص الصريح في تحريم التداوي بالخمر، ثم إن المحرمات التي أباحها الشارع للضرورة يعلم قطعًا أثرها في إنقاذ حياة الإنسان كالميتة للمضطر، بخلاف التداوي بالخمر فإنه لا يقطع بزوال المرض بها.

* الوجه الرابع:

طلبت من بعض المتخصصين في صناعة وتحليل الأدوية في إحدى الشركات الدوائية الإفادة عن موضوع الكحول المستعمل في صناعة الأدوية، فأفادَ -جزاه الله خيرًا- بما يلي:

تطلق لفظة الكحول على الكحول (الإيثيلي) وهي مادة سائلة عديمة اللون، لها رائحة مميزة، وتتطاير بسرعة.

وللكحول استعمالات كثيرة وبتركيزات مختلفة في صناعة الدواء، نذكر منها:

أولًا: الأشربة:

1 -

مادة مذيبة للمواد الفعالة الداخلة في تركيب بعض الأدوية والتي لا تذوب في الماء بصورة أساسية.

2 -

سائل مذيب لمكسبات الطعم والرائحة المضافة إلى الأدوية.

وهنا يبقى الكحول كأحد مكونات الدواء بنسبة متدنية.

ثانيًا: صناعة الأقراص:

يستعمل كمذيب لبعض المواد الفعالة، لكي يسهل توزيعها بشكل متجانس مع المواد المضافة الأخرى لتكوين دواء فعال.

ويتم التخلص من الكحول بتبخيره عن طريق التسخين لفترات محددة،

(1)

"نيل الأوطار"(8/ 211).

ص: 532

وبذلك لا يكون الكحول كأحد مكونات الدواء.

ثالثًا: المرهم والكريمات:

يستعمل كمذيب لبعض المواد الفعالة أو مكسبات الرائحة، لكي يتم توزيعها بشكل متجانس مع المواد المضافة الأخرى.

وهنا يبقى الكحول كأحد مكونات الدواء بنسبة متدنية.

رابعًا: الحُقَن:

يستعمل كمذيب لبعض المواد الفعالة، لكي يتم توزيعها بشكل متجانس مع المواد المضافة الأخرى، وهنا يبقى الكحول كأحد مكونات الدواء بنسبة متدنية.

خامسًا: المطهرات:

1 -

مادة مذيبة لبعض المواد الفعالة في الدواء التي لا تذوب في الماء بصورة أساسية.

2 -

سائل مذيب لمكسبات الطعم والرائحة.

وهنا يبقى الكحول كأحد مكونات الدواء بنسبة متدنية.

ويستخدم الكحول -أيضًا- لتعقيم وتطهير الآلات والأجهزة، وهنا لا يكون الكحول كأحد مكونات الدواء ويتطاير.

هذا وقد قرر مجلس المجمع الفقهي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في المدة من 21 - 26/ 10 / 1422 هـ جواز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة، تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلًا للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية. والله تعالى أعلم.

ص: 533

‌باب التعزير وحكم الصائل

التعزير لغة: مصدر عزره يعزره تعزيرًا: إذا منعه ورده وأدبه، أو أعانه وقواه ونصره، فهو من ألفاظ الأضداد.

وشرعًا: التأديب على معصية لا حد فيها ولا كفارة.

وذلك كالخلوة بالمرأة الأجنبية، أو التخلف عن صلاة الجماعة، أو الفطر في رمضان لغير عذر، أو سرقة ما لا قطع فيه، أو شهادة الزور، أو الرشوة، وغير ذلك من الأفعال المخالفة للشريعة الإسلامية التي لم يرد فيها حد ولا كفارة.

وقولنا: (لا حد فيه) يخرج ما فيه حَدٌّ كالزنا والسرقة ونحوهما.

وقولنا: (ولا كفارة) كالجماع في رمضان، أو في حال الإحرام.

وقد وقع بعض علماء اللغة كصاحب "القاموس"

(1)

في وهم في هذا الموضع، حيث ذكروا أن التعزير يطلق على الضرب بما دون الحد المقدر، ولا ريب أن هذا وضع شرعي لا لغوي، يجمعهما حقيقة التأديب لغة كما تقدم، ويفترقان في القيد الشرعي وهو قوله:(بما دون الحد المقدر) لأنه قبل ورود الشرع ليس فيه حدود مقدرة.

وقد يعتذر عنه بأنه لم يلتزم الألفاظ اللغوية، بل يذكر المنقولات الشرعية تكثيرًا للفوائد

(2)

.

وسلم من هذا الوهم الجوهري حيث قال: (التعزير: التأديب، ومنه

(1)

"ترتيب القاموس"(3/ 214).

(2)

راجع: "حاشية ابن عابدين"(4/ 64)، "التعزيرات في الإسلام" ص (9).

ص: 534

سمي الضرب دون الحد تعزيرًا)

(1)

. فأشار إلى أن هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن اللغوية بزيادة قيد.

والحد يخالف التعزير في عشرة أمور، ذكرها القرافي وابن عابدين، ومنها:

1 -

أن الحد مقدر، والتعزير غير مقدر.

2 -

أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة، والتعزير تجوز فيه الشفاعة.

3 -

أن الناس أمام الحدود سواء، بخلاف التعزير، فتعزير ذوي الهيئات أخف، كما سيأتي.

4 -

أن الحد لا بد أن يكون في معصية، بخلاف التعزير، فقد لا يكون في معصية كتأديب الأولاد والطلاب ونحو ذلك

(2)

.

وهل هناك فرق بين التعزير والتأديب، قيل: بالفرق، وهو أن التعزير بسبب المعصية، والتأديب أعم منه، كما تقدم في تأديب الولد والطالب، قال البخاري: بابٌ (كم التعزير والأدب؟).

وقيل: لا فرق، وهو ما جرى عليه الجوهري في "صحاحه" وغيره حيث قال:(التعزير: التأديب).

والصائل: اسم فاعل من صال يصول صولًا: إذا سطا ووثب، فالصائل على شيء: القاصد الوثوب عليه، والمراد هنا: من سطا عاديًا على غيره، يريد نفسه أو عرضه أو ماله، سواء كان الصائل آدميًّا أو بهيمة.

(1)

"الصحاح"(2/ 744)، "معجم متن اللغة"(4/ 92)، "الحدود والتعزيرات عند ابن القيم" ص (458).

(2)

"الفروق" للقرافي (4/ 204)، "حاشية ابن عابدين"(4/ 64).

ص: 535

‌مشروعية التعزير ومقداره

1260/ 1 - عَنْ أَبي بُرْدَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو بُردة بن نيار -بكسر النون بعدها تحتانية مخففة- واسمه هانئ بن نيار بن عمرو البلوي الأنصاري، شهد بيعة العقبة الثانية، وحضر بدرًا وما بعدها، وكانت معه راية بني حارثة يوم الفتح، وشهد مع علي حروبه كلها، مات سنة خمس وأربعين رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، بابٌ "كم التعزير والأدب؟ "(6848)، من طريق الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبي بردة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله". ورواه البخاري -أيضًا- (6850)، ومسلم (1708) من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو، أن بكيرًا حدثه قال: بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر، فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان بن يسار فقال: حدثني عبد الرحمن بن جابر، أن أباه حدثه أنه سمع أبا بردة الأنصاري قال:

وذكر الحديث.

(1)

"الاستيعاب"(11/ 145)، "الإصابة"(11/ 34).

ص: 536

وقد ذكر الدارقطني هذا الاختلاف في "العلل"(6/ 202) ورجح رواية الليث ومن تابعه في عدم ذكر لفظة (أباه)، وفي "التتبع" رجح رواية عمرو بن الحارث بزيادة هذه اللفظة، فقال:(وقول عمرو صحيح)

(1)

.

وقد ذكر الحافظ أن هذا الاختلاف لا يقدح في صحة الحديث، فيحتمل أن عبد الرحمن سمع أبا بردة لما حدث به أباه، وثبته فيه أبوه، فحدث به تارة بواسطة أبيه، وتارة بغير واسطة

(2)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يجلد) روي بفتح الياء مبنيًّا للمعلوم، وبضمها مبنيًّا لما لم يسم فاعله؛ أي: لا يجلد أحد، وروي مجزومًا على النهي، ومرفوعًا على النفي، وهو أبلغ من النهي، ويؤيد الأول رواية عند البخاري:"لا تجلدوا"

(3)

.

قوله: (فوق عشرة أسواط) في رواية البخاري: "فوق عشر ضربات"، وفي رواية:"فوق عشر جلدات". والسوط: ما يضرب به من جلد، سواء أكان مظفورًا أم لم يكن

(4)

.

قوله: (إلا في حد من حدود الله) اختلف في معناه على قولين:

الأول: أن المراد بحدود الله: محارمه من ترك واجب أو فعل محرم، وهذا تفسير ابن تيمية، ونسبه لطائفة من أهل العلم، وبه قال ابن القيم، وقالوا: إن الحديث في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه، والمعلم صبيه، والمعنى: لا يجلد أحد أكثر من عشرة أسواط إلا أن يكون الجلد في محارم الله تعالى، وإطلاق الحد على محارم الله وارد في القرآن، قال تعالى في الواجباب:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وقال تعالى في المحرمات:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187].

(1)

"التتبع" ص (226)، وانظر:"علل ابن أبي حاتم"(1356).

(2)

"فتح الباري"(1/ 177).

(3)

"صحيح البخاري"(6850).

(4)

"اللسان"(7/ 325) مادة: سوط، "المعجم الوسيط" ص (463).

ص: 537

الثاني: أن المراد بحدود الله تعالى ما ورد عن الشارع فيه حد مقدر بعدد مخصوص، كحد الزنا والقذف وغيرهما، أخذًا بظاهر اللفظ، واستدل هذا القائل بأنه ورد إطلاق الحدود على العقوبات المقدرة، كقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:(أخف الحدود ثمانون).

* الوجه الرابع: ظاهر الحديث دليل على أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط؛ لأن الحديث ورد بصيغة القصر التي طريقها النفي والاستثناء، وهذا من أبلغ طرق القصر، وقد أخذ بهذا الحديث بعض أهل العلم بناءً على التفسير الثاني، كما تقدم.

* الوجه الخامس: ليس لأقل التعزير حد مقدر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، ذكر ذلك ابن القيم، ولم يذكر فيه خلافًا

(1)

. فقد يكتفى فيه بالضربة وباللوم والتوبيخ ونحو ذلك، كالهجر وترك السلام عليه؛ لأنه لو تقدر لكان حدًّا، والتقدير لا يكون إلا بنص من الشارع، يجب المصير إليه، ولا نص على أقل التعزير، فيكون مفوضًا إلى رأي الحاكم حسب المصلحة، لكن خالف في هذا القُدُوري من الحنفية

(2)

، فقدر أدنى التعزير بثلاث جلدات؛ لأن ما دونها لا يقع به الزجر

(3)

.

وأما أكثر التعزير ففيه أربعة أقوال:

القول الأول: أنه لا حد لأكثر التعزير، بل هو مفوض إلى رأي ولي الأمر بحسب ما يراه رادعًا وزاجرًا، هذا هو المعتمد في مذهب مالك، والوجه المقدم في مذهب الشافعي، واختاره أبو يوسف من الحنفية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز

(4)

.

(1)

"الطرق الحكمية" ص (272).

(2)

المتوفى سنة (428 هـ).

(3)

"شرح فتح القدير"(5/ 116).

(4)

"جواهر الإكليل"(2/ 296)، "نهاية المحتاج"(8/ 22)، "شرح فتح القدير"(5/ 115)، "السياسة الشرعية" ص (107)، "إعلام الموقعين"(2/ 29، 109)، "المختارات الجلية" ص (119).

ص: 538

وهذا القول مؤيد بأمور ثلاثة:

1 -

أن هذا القول يتمشى مع ظاهر الحديث، ولا يحتاج معه إلى تأويل ولا إلى مخالفة ظاهره، أو ادعاء أن الإجماع منعقد على خلافه.

2 -

أن هذا مؤيد بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء من بعده، كما يقول ابن تيمية ومن بعده ابن القيم، فقد شرع تعزير الشارب المدمن للخمر بالقتل في المرة الرابعة كما تقدم، وعزم صلى الله عليه وسلم على تحريق البيوت على المتخلفين عن حضور الجماعة، وعزر بتضعيف الغرم على السارق لما لا قطع فيه كما تقدم، وجلد عمر رضي الله عنه في الخمر ثمانين، إلى غير ذلك.

3 -

أن هذا القول مناسب لنوعية الجريمة واختلاف الأشخاص والأزمان، فإن التعزير يختلف باختلاف هذه الأمور.

والقول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد المقدر بها، فلا يبلغ بالتعزير على النظرة والخلوة والمباشرة حد الزنا، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف حد القذف، وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي، ورواية عن أحمد، حكاها ابن هبيرة وابن قدامة، واستحسن هذا القول ابن القيم في "الطرق الحكمية" وخالفه في موضع آخر منه

(1)

، وفي بقية كتبه، كما تقدم.

واستدلوا بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في الرجل الذي رُفع إليه وقد وقع على جارية امرأته، فقال: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلَّتها لك

(2)

جلدتُك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له، فجلده مائة

(3)

.

(1)

"نهاية المحتاج"(8/ 22)، "الإفصاح"(2/ 412)، "المغني"(12/ 524)، "الطرق الحكمية" ص (118).

(2)

انظر: "تحفة الأحوذي"(5/ 13).

(3)

رواه أبو داود (4458)، والترمذي (1451)، والنسائي (6/ 124)، وابن ماجه (2551)، وأحمد (30/ 346) من طريق قتادة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، وهذا سند ضعيف، قتادة لم يسمع هذا الحديث من حبيب بن سالم، ثم إن فيه =

ص: 539

فهذا تعزير جاء في حق محصن، وحدُّه الرجم.

والقول الثالث: أنه لا يبلغ التعزير أدنى الحدود إما أربعين أو ثمانين، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد وأبي حنيفة على خلاف بينهم هل الاعتبار بأدنى الحدود في حق الأحرار أو العبيد؟

(1)

.

واستدلوا بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ حدًّا في غير حد فهو من المعتدين"

(2)

.

والقول الثاني والثالث يتفقان في جواز الزيادة ويختلفان في النهاية.

والقول الرابع: أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهذا هو المختار لدى جماعة من الشافعية، ورواية عن أحمد، حكاها الموفق، وابن القيم، واختاره الصنعاني، والشوكاني

(3)

، ودليلهم حديث الباب، وتقدم وجه دلالته.

ويبدو أن سبب هذا الخلاف اختلاف العلماء في دلالة هذا الحديث والمراد بحدود الله تعالى فيه.

والأظهر -والله أعلم- هو القول الأول، وهو أن التعزير لا يقدر بحد معين، لكن إن كان فيما فيه مقدر لم يُبلغ به ذلك المقدر، قال ابن تيمية:(وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين)

(4)

.

= اضطرابًا، وقد ضعفه أبو حاتم والبخاري والترمذي والنسائي، وعلى فرض ثبوته فهو واقعة عين، فلا تفيد العموم في كل تعزير.

(1)

انظر: "شرح فتح القدير"(5/ 115)، "نهاية المحتاج"(8/ 22)، "المغني"(12/ 523).

(2)

رواه البيهقي (8/ 357) وقال: (والمحفوظ في هذا أنه مرسل) وهو حديث الضحاك بن مزاحم مات بعد المائة، قال عنه الحافظ:(صدوق كثير الإرسال) وليس من حديث النعمان.

(3)

"المغني"(12/ 524)، "فتح الباري"(12/ 178)، "سبل السلام"(4/ 79)، "نيل الأوطار"(13/ 396).

(4)

"الفتاوى"(28/ 347).

ص: 540

ويحمل حديث الباب على التأديب المصادر من غير الولاة في غير معصية؛ كتأديب الزوجة والولد والتلميذ ونحو ذلك، ويكون المراد بحدود الله: محارم الله. والله تعالى أعلم.

ص: 541

‌التجاوز عن ذوي الهيئات بما دون الحد

1261/ 2 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "أَقِيلُوا ذَوي الْهَيئَاتِ عَثَرَاتِهمْ، إلا الْحُدُودَ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَالْبَيهَقيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الحدود"، بابٌ "في الحد يشفع فيه"(4375)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 468)، وأحمد (42/ 300) والبيهقي (8/ 267) من طريق عبد الملك بن زيد المدني، عن محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعًا.

وهذا الحديث رجاله ثقات، غير عبد الملك بن زيد فهو متكلم فيه، قال النسائي:(لا بأس به)، ووثقه ابن حبان، ونقل ابن أبي حاتم عن ابن الجنيد أنه قال:(ضعيف الحديث)، وترجمه البخاري في "تاريخه" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا

(1)

.

وقال ابن عدي: (هذا الحديث منكر بهذا الإسناد، لم يروه غير عبد الملك بن زيد)

(2)

، وقال العقيلي:(قد روي بغير هذا الإسناد، وفيه -أيضًا- لين، وليس فيه شيء يثبت)

(3)

.

وقد تابعه أبو بكر بن نافع العمري، عن محمد، به، وليس فيه عن أبيه. رواه البخاري في "الأدب المفرد"(465)، وابن حبان (1/ 296) والعمري هذا ضعيف.

(1)

"التاريخ الكبير"(5/ 413 - 414)، "الجرح والتعديل"(5/ 350)، "الثقات"(7/ 95).

(2)

"الكامل"(5/ 308).

(3)

"الضعفاء"(2/ 343).

ص: 542

كما تابعه عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة، به، دون قوله:(إلا الحدود) رواه النسائي في "الكبرى"(6/ 468) وعبد الرحمن هذا مقبول، كما قال الحافظ.

وللحديث متابعات أخرى لا تخلو من مقال: وقد ذكر الدارقطني في "العلل"(14/ 417) الاختلاف في حديث الباب.

وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم" رواه الطبراني في "الأوسط"(8/ 276)، والخطيب في "تاريخه"(10/ 85 - 86)، من طريق عبد الله بن محمد الحنفي

(1)

، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا. قال الدارقطني:(غريب من حديث عاصم عن زِرٍّ، تفرد به عبد الله بن محمد بن يزيد الحنفي، عن أبيه، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، ولم نكتبه إلا عن ابن مخلد)

(2)

.

وله شاهد -أيضًا- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من أقال مسلمًا أقال الله عثرته" وتقدم في "البيوع" إلا أنه حديث عام في جميع المسلمين وحديث الباب خاص.

فمن نظر إلى هذه الاعتبارات حَسَّنَ الحديث، ومن هؤلاء الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث "مشكاة المصابيح"

(3)

، وهنا سكت عنه، وقد يفهم منه تحسينه.

وممن حسن الحديث -أيضًا- العلائي

(4)

والسهارنفوري

(5)

وتبعهم الألباني

(6)

ومن اعتمد على كلام الأئمة الكبار من المتقدمين أمثال ابن عدي والعقيلي وغيرهما حكم بضعفه، ولعل هذا هو المتعين.

(1)

وقع في "معجم الطبراني": "الجعفي "وانظر: "تهذيب الكمال"(27/ 37).

(2)

"أطراف الغرائب والأفراد"(2/ 10)، "تاريخ بغداد"(10/ 86).

(3)

ص (179).

(4)

"النقد الصحيح" ص (34).

(5)

"بذل المجهود"(17/ 314).

(6)

"الصحيحة" رقم (638).

ص: 543

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أقيلوا) فعل أمر من الإقالة، المراد بها هنا: التجاوز وعدم المؤاخذة، وهذا أمر استحباب

(1)

.

والخطاب للأئمة الذين إليهم إقامة العقوبات على ذوي الجنايات، ويحتمل أن يكون المأمور هو المجني عليه أو أولياءه؛ لأن الجناية لما صدرت ممن ليست له عادة كان الأحسن بهم الصفح وترك حقوقهم فيها

(2)

.

قوله: (ذوي الهيئات) جمع هيئة، والهيئة: صورة الشيء وشكله وحالته، ويراد به: ذوو الهيئات الحسنة الذين يلزمون هيئة واحدة وسمتًا واحدًا، ولا تختلف هيئاتهم بالتنقل من هيئة إلى هيئة.

والمراد بهم: أهل المروءة والصلاح الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة، وهذا قول الشافعي، وقيل المراد بهم: ذوو الوجوه من الناس الذين لهم قيمة وقدر في المجتمع، وهذا قول ابن القيم

(3)

، ولا مانع من اعتبار المعنيين.

قوله: (عثراتهم) جمع عشرة، وهي الزلة، والمراد بالعثرات: ما يتوجه فيه التعزير لإضاعة حق من حقوق الله تعالى، ومنها ما يطالب به من جهة العبد، والمراد هنا: إما الصغائر أو أول معصية يزل فيها مطيع، وهذا أقرب إلى المعنى اللغوي.

قوله: (إلا الحدود) أي: ما يوجب الحد فلا إقالة فيه، وهذا استثناء منقطع.

* الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أنه ينبغي لولاة الأمر من المسلمين ومن يقوم مقامهم من القضاة أن يتسامحوا مع ذوي الهيئات

(1)

"عون المعبود"(12/ 38).

(2)

"شرح الأدب المفرد"(1/ 553).

(3)

"بدائع الفوائد"(3/ 139)، "سبل السلام"(4/ 80).

ص: 544

الكريمة والنفوس الطيبة، والأخلاق المرضية الذين يندر أن يقع منهم الشر، فلا يؤاخذونهم، أو يخففوا عنهم بالنسبة إلى غيرهم.

* الوجه الرابع: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أن هذه المسامحة إنما هي في التعزيرات التي مرجعها إلى اجتهاد الحاكم، أما في حدود الله تعالى فلا بد من إقامتها على من صدرت منه مهما كانت حالته ومنزلته، كما مضى في "الحدود".

* الوجه الخامس: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن التعزير ليس بواجب كالحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالعفو عن ذوي الهيئات، ولو كانت العقوبة واجبة كالحد لكان ذو الهيئة وغيره سواء

(1)

. لكن ذكر أهل العلم أن صاحب الحق إذا طلب حقه من الإمام لزم إجابته ولم يجز العفو، كسائر حقوق الآدميين. والله تعالى أعلم.

(1)

"معالم السنن"(6/ 213).

ص: 545

‌حكم من مات بالتعزير

1262/ 3 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: مَا كُنْتُ لأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فَأَجِدَ في نَفْسِي، إلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَينُهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحدود"، باب "الضرب بالجريد والنعال"(6778)، ومسلم (1707) من طريق عمير بن سعد النخعي، قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) وهذا لفظ البخاري.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لأقيم) بنصب المضارع على تقدير أن الناصبة بعد اللام المكسورة، وهي لام الجحود، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33].

قوله: (فأجد في نفسي) بنصب المضارع -أيضًا-؛ لأنه في جواب النفي، والفعل أجد ماضيه وجد بمعنى حزن، والمعنى: فأتأسف وأحزن.

قوله: (وديته) أي: أعطيت ديته.

قوله: (لم يسنه) أي: لم يسن ولم يشرع فيه عددًا معينًا يكون حدًّا.

* الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال إن الخمر ليس فيه حد مقدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو عقوبة تعزيرية مرجعها إلى اجتهاد الإمام؛

ص: 546

لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمران يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب -كما تقدم- والضرب بمثل ذلك لا ينضبط بعدد معين، ولهذا قال علي رضي الله عنه:(فإنه لو مات وديته)؛ لأنه إذا مات يخشى أن ضاربه قد زاد عليه في التعزير.

* الوجه الرابع: نقل النووي الاتفاق على أن التالف بإقامة الحد عليه غير مضمون، فإذا وجب عليه الحد فجلده الإمام الحد الشرعي فلا ضمان عليه

(1)

؛ لأن الحد عقوبة مأذون فيها شرعًا، وما ترتب على المأذون فيه فليس بمضمون، ولهذا قال الفقهاء:(من مات في حد فالحقُّ قَتَلَهُ)

(2)

.

وأما التالف بسبب التعزير ففيه قولان:

الأول: أنه يضمنه الإمام، وهذا قول الشافعي، واستدلوا بحديث الباب.

الثاني: أن التالف بالتعزير غير مضمون، وهو قول الجمهور؛ لأن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن من تلف بها كالحد.

وأجابوا عن قول علي رضي الله عنه بأنه من باب الاحتياط، أو أنه خالفه غيره من الصحابة رضي الله عنهم فلم يوجبوا فيه شيئًا

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 233).

(2)

"المغني"(12/ 503).

(3)

"المغني"(12/ 527).

ص: 547

‌ما جاء فيمن قتل دون ماله

1263/ 4 - عَنْ سَعِيدِ بن زيدٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهيدٌ"، رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ وصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "السنة" بابٌ "في قتال اللصوص"(4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (7/ 116)، وابن ماجه (2580) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".

هذا لفظ الترمذي، ومثله النسائي بتقديم وتأخير، وبنحوه لأبي داود، أما ابن ماجه فعنده الجملة التي اقتصر عليها الحافظ في "البلوغ".

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).

وهذا الحديث فيه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وثقه ابن معين وعبد الله بن أحمد، وقال أبو حاتم:(منكر الحديث)

(1)

، وقال ابن القطان:(لا تعرف حاله)

(2)

. وقال الحافظ في "التقريب": (مقبول).

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"الجرح والتعديل"(9/ 405).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 353). وانظر: "تهذيب التهذيب"(12/ 178).

ص: 548

"من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه البخاري (2480)، ومسلم (141). وتقدم في باب "قتال الجاني"، ولعل الحافظ ذكر حديث سعيد بن زيد -هنا- لتقدم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هناك.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على مشروعية دفاع الإنسان عن ماله، وجواز مقاتلة من أراد التعدي على المال، وأن من دافع عن ماله، وقُتل في هذه المدافعة فهو شهيد عند الله تعالى. وقد مضى تفصيل القول في هذه المسألة في الباب المذكور. والله تعالى أعلم.

ص: 549

‌موقف المسلم من الفتن

1264/ 5 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ أَبي رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ الْقَاتِلَ" أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيثَمَةَ وَالدَّارَقُطْنيُّ.

1265/ 6 - وأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطةَ رضي الله عنه.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الله بن خباب بن الأرتِّ حليف بني زهرة، قيل: ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو نعيم:(أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، مختلف في صحبته، له رؤية، ولأبيه صحبة)

(1)

، وقال العجلي:(ثقة من كبار التابعين)، روى عن أبيه، وعن أُبي بن كعب، قتل سنة سبع وثلاثين.

وأما أبوه فهو خباب بن الأرت بن جندلة التميمي نسبًا، الخزاعي ولاءً، الزهري حِلْفًا، من نجباء السابقين إلى الإسلام، قال ابن عبد البر:(كان فاضلًا من المهاجرين الأولين)، شهد بدرًا وما بعدها، وكان من المستضعفين، وعذب عذابًا شديدًا لإسلامه، فصبر على دينه، كان يعمل السيوف في الجاهلية، ثبت ذلك في "الصحيحين"، روى عنه أبو أمامة وابنه عبد الله وآخرون، نزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين

(2)

رضي الله عنه.

(1)

"معرفة الصحابة"(3/ 132).

(2)

"الاستيعاب"(3/ 180)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 323)، "الإصابة"(3/ 76)، "البداية والنهاية"(10/ 647).

ص: 550

وأما خالد بن عرفطة -فهو بضم المهملة والفاء، بينهما راء ساكنة- بن أبرهة بن سنان الليثي، ويقال: العُذري، وهو الصحيح، ولاه سعد بن أبي وقاص القتال يوم القادسية، واستخلفه على الكوفة، وهو معدود من أهلها، روى عنه أبو عثمان النهدي، وعبد الله بن يسار، ومسلم مولاه وغيرهم، وعاش إلى سنة ستين، وقيل: إحدى وستين

(1)

رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث خباب رضي الله عنه فقد رواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير"(2/ 2 / 952) من طريق عبد الله بن خباب أبي هلال، قال: نا حميد بن هلال قال: لما عبر الحرورية النهر انطلقوا إلى عبد الله بن خباب فقالوا: ما حدثك أبوك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن؟ قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول ولا تكن القاتل".

ورواه الدارقطني (3/ 132) من طريق أيوب، عن حميد بن هلال العدوي، عن أبي الأحوص، عنه، به، وفيه قصة الخوارج بالنهروان، ولفظه: "تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الساعي

".

ورواه أحمد (34/ 542 - 543)، وأبو يعلى (7215) من طريق أيوب، والطبراني في "الكبير"(4/ 60 - 61) من طريق صالح بن رستم، كلاهما عن حميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية، فخرج عبد الله بن خباب ذَعِرًا يجر رداءه، فقالوا: لم تُرَعْ؟ قال: والله لقد رُعْتُموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثًا يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه؟ قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، قال:"فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول" قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: "ولا تكن عبد الله القاتل" قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

(1)

"الاستيعاب"(3/ 175)، "الإصابة"(3/ 64).

ص: 551

قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك فعل ما ابْذَقَرَّ

(1)

، وبقروا أم ولده عما في بطنها.

إسناد أحمد رجاله ثقات، وفيه من لم يسمَّ، وهو شيخ حميد بن هلال، ورواه عبد الرزاق (10/ 118) عن معمر، أخبرني غير واحد من عبد القيس، عن حميد بن هلال، عن أبيه

فذكره.

وأما حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه فقد رواه أحمد (37/ 177) من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، عن خالد بن عرفطة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل".

وهذا سند ضعيف، لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان، ورواه الطبراني في "الكبير"(2/ 177) من طريق عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، حدثني جندب بن سفيان. وذكر الحديث وفيه هذه الجملة.

وعبد الحميد بن بهرام وشهر بن حوشب متكلم فيهما.

ومما ورد فيه هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماضي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذًا فليعُذ به" رواه البخاري (7801).

* الوجه الثالث: في هذه الأحاديث دليل على وجوب ترك القتال عند ظهور الفتن، والتحذير من الدخول فيها، وعلى هذا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وأسامة بن زيد وأبي مسعود الأنصاري وأبي موسى وغيرهم، وتمسكوا بالأحاديث الصحيحة التي فيها الحث على اعتزال الفتن.

ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت بحيث يعتزل الفتنة وأهلها وإن كان مقيمًا بين ظهراني الناس.

(1)

على وزن اقشعر؛ أي: لم يتفرق دمه ولكنه سال مجتمعًا.

ص: 552

وقالت طائفة بل التحول عن بلد الفتنة أصلًا، لتحصل له العزلة الكلية التامة عن الناس.

والقول الثاني: أنه إذا اتضح الأمر وتبين الظالم من المظلوم والمبطل من المحق وجب الوقوف مع الحق ومع المظلوم ضد من ظلمه، بدليل أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مع علي رضي الله عنه ضد أهل الشام؛ لأنهم عرفوا الحق، وأن عليًّا رضي الله عنه مظلوم ومبغي عليه، وأن معاوية رضي الله عنه ومن معه بغوا عليه بشبهة المطالبة بقتلة عثمان رضي الله عنه، فمعاوية وأصحابه بغاة، لكنهم مجتهدون، فلهم أجر الاجتهاد، وفاتهم أجر الصواب، وعلي رضي الله عنه له أجر الاجتهاد وأجر الصواب

(1)

، وقد تقدم شيء من ذلك في باب (قتال البغاة).

وأما إذا خفي الأمر ولم يتضح الحق فإنه لا يقاتل، بل يعتزل ويبتعد عن الفتنة، وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وتنزل على هذا التفصيل.

ويعجبني في هذا المقام قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والحقُّ حَمْلُ عَمَلِ كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد، فمن لابس القتال اتضح له الدليل؛ لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية، وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أيّ الفئتين هي الباغية، وإذا لم يكن له قدرة على القتال)

(2)

. والله تعالى أعلم.

انتهى الجزء الثامن، ويليه -بعون الله وتوفيقه- الجزء التاسع، وأوله:"كتاب الجهاد"

(1)

"فتاوى ابن باز"(6/ 113).

(2)

"فتح الباري"(13/ 42)، وقوله: (وإذا لم يكن له قدرة

إلخ) هكذا في "الفتح".

ص: 553