المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجهاد الجهاد في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادًا ومجاهدة؛ أي: - منحة العلام في شرح بلوغ المرام - جـ ٩

[عبد الله بن صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

‌كتاب الجهاد

الجهاد في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادًا ومجاهدة؛ أي: بالغ في قتل عدوه وغيره، وعلى كل تصاريفه فهو لغة: بذل الطاقة والوسع.

وشرعًا: بذل الوسع في قتال الكفار

(1)

.

وهو فرض كفاية إذا كان لدى المسلمين قدرة وقوة على القتال، فإذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، وإلا أثم الكل؛ لأنه واجب في الجملة، وليس واجبًا على الأعيان، أما كونه واجبًا في الجملة فلقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من مات ولم يغز، ولم يُحدث نفسه بالغزو، مات على شُعبَةٍ من نفاقٍ"

(2)

، وقد أجمع المسلمون على وجوبه في الجملة.

وأما كونه ليس واجبًا على الأعيان فلقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، وقوله تعالى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]، فأثبت للمجاهدين والقاعدين الأجر، ولو كان فرض عين لكان القاعد آثمًا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وأصحابه، فإذا لم يجب في الجملة ولم يجب على الأعيان لزم كونه فرض كفاية.

وأما قوله تعالى: {إلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] فقد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافة}

(1)

انظر: "الدرّ النقي"(3/ 765).

(2)

سيأتي تخريجه إن شاء الله.

ص: 5

[التوبة: 122]، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما

(1)

. ويحتمل أنه أراد حينما استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، ولذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك رضي الله عنه ومن تخلف معه حتى تاب الله عليهم، وهذا مروي -أيضًا- عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجحه ابن جرير وابن كثير

(2)

.

والجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال، وقد جاءت أدلة كثيرة من الكتاب والسنة في الأمر بالجهاد والحث عليه، وبيان فضله وعلو مرتبته في العبادات، وما أعَدَّ الله تعالى للمجاهدين في سبيله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دُلَّني على عملٍ يعدل الجهاد، قال:"لا أجده"، قال:"هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ "، قال: ومن يستطيع ذلك؟

(3)

.

وعنه -أيضًا- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض

" الحديث

(4)

.

وإنما كان الجهاد في سبيل الله بهذه الفضيلة والمرتبة؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله، وحماية حوزة الإسلام، وإرهاب أعدائه، وبذل النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله تعالى وثوابه، والقائم به بين إحدى الحُسنيين: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، ومتى تحققت شروط الجهاد حصل به إعزازُ الدين، وتقوية شوكة المسلمين، وحِفْظُ ديارهم وأنفسهم وثرواتهم

(1)

أخرجه أبو داود (2505).

(2)

"تفسير الطبري"(11/ 255)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 95).

(3)

أخرجه البخاري (2785).

(4)

أخرجه البخاري (2790).

ص: 6

ومناهجهم وأوضاعهم، وهو من أسباب تأليف القلوب، واجتماع الكلمة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (من ترك الجهاد عذبه الله عذابًا أليمًا بالذل وغيره، ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذبَّ عنه، ومتى جاهدت الأمة عدوها ألَّف الله بين قلوبها، وإنْ تركت الجهاد شَغَلَ بعضَها ببعض)

(1)

.

وقال -أيضًا-: (إذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذَّبهم الله بأن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض)

(2)

.

لذا يجب على أهل الإسلام أن تَعلُوَ همتهم، وأن يشمِّروا إلى الجهاد في سبيل الله، متى كانوا قادرين عليه، وما ضعف المسلمون وتسلط عليهم الأعداء إلا بتركهم الجهاد، وإخلادهم إلى الراحة، وحبهم للدنيا، وطاعة أعدائهم في تغيير الأفكار، وعدم التسلح، والله المستعان.

(1)

"جامع المسائل" لابن تيمية (5/ 300).

(2)

"مجموع الفتاوى"(15/ 44).

ص: 7

‌وجوب الجهاد في سبيل الله والعزم عليه

1266/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن مَاتَ وَلَم يغْزُ وَلَم يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بهِ مَاتَ عَلَى شُعبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ"، رَوَاهُ مُسْلمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإمارة"،‌

‌ باب

(ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو)(1910) من طريق عبد الله بن المبارك، عن وهيب المكي، عن عمر بن محمد بن المنكدر، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ولم يغز) أي: لم يباشر القتال في سبيل الله، وهو مضارع غزا يغزو غزوًا، واسم الفاعل: غازِ، وجمعه غُزاة وغُزَّى كقضاة ورُكَّع، وأصل الغزو: القصد والطلب. والغزو: قصد جهاد العدو ومقاتلته

(1)

.

قوله: (ولم يحدث نفسه به) أي: ولم ينو الغزو بأن يعزم عليه ويستعدَّ له.

قوله: (مات على شُعبة من نفاق) بضم الشين المعجمة؛ أي: خصلة من خصال النفاق.

الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب الجهاد في سبيل الله

(1)

"المصباح المنير" ص (447)، و"معجم لغة الفقهاء" ص (331).

ص: 8

تعالى، وأن الواجب على المؤمن أن يُعِدَّ نفسه وألا يرهب الجهاد في سبيل الله، وأن يستشعره دائمًا في قرارة نفسه، ولا يغفل عنه، وقد ذكر علماء الأصول أن الواجب المطلق كالجهاد يجب العزم على فعله عند إمكانه، وأن الواجب المؤقت يجب العزم على فعله عند دخول وقته، مثل الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وغير ذلك

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الجهاد وإن كان فرضًا على الكفاية، فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداءً، فعليهم كلهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله إذا تعيّن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز

"، فأخبر أنه من لم يَهُمَّ به كان على شعبة نفاق، وأيضًا فالجهاد جنس تحته أنوع متعددة، ولا بد أن يجب على المؤمن نوع من أنواعه)

(2)

.

الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن ترك الجهاد والغفلة عنه نوع من النفاق، وقد ذكر الإمام مسلم إثر رواية الحديث عن عبد الله بن المبارك أنه قال:(فنُرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال القاضي عياض:(حيث كان الجهاد واجبًا) وحَمَلَهُ على النفاق الحقيقي، ثم قال:(وقد يحتمل أنه على العموم، ويكون معنى هذا: أنه تَشَبَّه باخلاق المنافقين التي منها التخلف عن الجهاد، وهو أحد شعب النفاق وأخلاق المنافقين)، ونقله عنه النووي، وأقره

(3)

.

قال القرطبي: (فيه ما يدل على أن من لم يتمكن من عمل الخير فينبغي له أن يعزم على فعله إذا تمكن منه وأن ينويه، فيكون ذلك بدلًا من فعله في تلك الحال، فأما إذا أخلى نفسه عن ذلك العمل ظاهرًا وباطنًا عن نيته، فذلك حال المنافق الذي لا يعمل الخير، ولا ينويه، وخصوصًا الجهاد

)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الحكم التكليفي "ص (110).

(2)

"الإيمان" ص (12).

(3)

"الإكمال"(6/ 335)، "شرح النووي"(13/ 60).

(4)

"المفهم"(3/ 750).

ص: 9

‌وجوب الجهاد بالمال والنفس واللسان

1267/ 2 - عَنْ أنس رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَال: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بأموَالِكُم وَأنفُسِكم وَألسِنَتِكم"، رَواهُ أَحمَدُ وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (19/ 272)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (كراهية ترك الغزو)(2504)، والنسائي (6/ 7)، والحاكم (2/ 81) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه به مرفوعًا.

ولفظه عند النسائي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم".

والحديث رجاله ثقات، أخرج لهم الشيخان، إلا حماد بن سلمة فهو من رجال مسلم، ولذا قال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وقال ابن عبد الهادي:(إسناده على رسم مسلم)

(1)

.

الوجه الثاني: في الحديث دليل على تنوع الجهاد وأن الفرصة متاحة أمام جميع المؤمنين للمشاركة في الجهاد والظفر بفضله وما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله.

* الوجه الثالث: أن الجهاد يكون بالمال، وذلك ببذله في سبيل الله تعالى من شراء السلاح وتجهيز الغزاة، ونحو ذلك، وقد حكى شيخ الإسلام

(1)

"المحرر"(784).

ص: 10

ابن تيمية وابن القيم قولين في وجوب الجهاد بالمال، وهما روايتان عن الإِمام أحمد، قال ابن القيم:(الصحيح وجوبه، لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء)

(1)

.

وقد جاء في القرآن تقديم الأموال على الأنفس في جميع الآيات التي جاء فيها الأمر بالجهاد والترغيب فيه، قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]، وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [التوبة: 20] إلا في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ} [التوبة: 111]-كما سيأتي- وسر تقديم الأموال على الأنفس -والله أعلم- أن المال محبوب للنفس تبذل طاقتها في تحصيله وجمعه، فإذا بذلته في سبيل الله دلَّ ذلك على قوة الإيمان، وكمال الإخلاص

(2)

، ثم إن المال له نفع عظيم في الجملة، لكونه يستعان به في أمور كثيرة، ولهذا فإن شيخ الإِسلام ابن تيمية لما فاضل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ذكر من مرجحات تفضيل عثمان رضي الله عنه أنه أفضل جهادًا بماله

(3)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الجهاد يكون بالنفس، وذلك ببذلها في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ} ، وفي هذه الآية جاء تقديم الأنفس على الأموال؛ وذلك -والله أعلم- لأنها هي المشتراة في الحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل الجنة ثمنًا لها، بحيث إذا بذلها المؤمنون فيه استحقوا الثمن، فكانت هي المقصودة بعقد الشراء، والأموال تبع لها، وفي هذا دليل بيَّن على عظم شأن الجهاد بالنفس في سبيل الله

(4)

.

(1)

انظر: "الفتاوى"(28/ 87)، "جامع المسائل"(5/ 298)، "زاد المعاد"(5/ 72، 558)، "بدائع الفوائد"(1/ 77).

(2)

انظر: "بدائع الفوائد"(1/ 78).

(3)

انظر: "منهاج السنة"(8/ 229).

(4)

انظر: "بدائع الفوائد"(1/ 78)، "حادي الأرواح" ص (54 - 55).

ص: 11

° الوجه الخامس: أن الجهاد يكون باللسان وذلك بالدعوة إلى الله تعالى وبيان حقيقة هذا الدين، والذب عنه، والدعوة إليه، وذم الكفار وما هم عليه، وإقامة الحجة على ضلالهم وبطلان أعمالهم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المواقع وتعددت القنوات التي تبث الشبه ضد الإِسلام وأهله، والواجب على من قدر على منازلة هؤلاء أن يبادر، وأن يجاهدهم، خصوصًا وأن المتمكنين من هذا النوع من الجهاد قلائل.

يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: (فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 51، 52] فأمر الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادًا كبيرًا، وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يؤمر بالقتال، ولم يؤذن له، وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال)

(1)

.

ويقول ابن القيم: (إن الدعوة إلى الله ورسوله جهاد بالقلب وباللسان، وقد يكون أفضل من الجهاد باليد)

(2)

.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (ومن أعظم الجهاد سلوك طريق التعلم والتعليم، فإن الاشتغال بذلك لمن صحَّت نيته لا يوازيه عمل من الأعمال، لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"منهاج السنة"(8/ 86).

(2)

"أحكام أهل الذمة"(2/ 729).

(3)

"الفتاوى السعدية" ص (45).

ص: 12

‌ما جاء في أن الجهاد لا يجب على المرأة

1268/ 3 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَاد؟ قَال:"نَعَمْ، جِهَاد لَا قِتَال فِيهِ، الْحَجُّ والْعُمْرَةُ"، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ في الْبُخَارِيِّ.

° الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم في كتاب "الحج" برقم (709)، وقد عزاه هناك إلى أحمد وابن ماجه، واقتصر في عزوه هنا على ابن ماجه، وهو من طريق محمَّد بن فضيل، قال: حدثنا حبيب بن أبي عمرة، عن عائشة ابنة طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. والحديث إسناده صحيح، وقد تقدم هناك أن الراجح في لفظة (العمرة) أنها شاذة؛ لتفرد محمَّد بن فضيل بها. والحديث أصله في البخاري (1520) من طريق خالد الواسطي، أخبرنا حبيب به. لكن لفظ البخاري ليس فيه ذكر (العمرة)، فليرجع إلى تخريجه.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن الجهاد غير واجب على المرأة، وأن الثواب المرتب على الجهاد يحصل للمرأة بالحج والعمرة، وذلك لأن المرأة فتنة، وهي مأمورة بالستر والسكون، والجهاد ينافي ذلك، إذ فيه الكر والفر ومخالطة الأقران والمبارزة ورفع الصوت، والرجال أقدر من النساء على ذلك كله.

أما جواز الجهاد لهن فليس في حديث الباب ما يدل على عدم جوازه، والبخاري بَوَّبَ في كتاب "الجهاد" من "صحيحه" بقوله: (باب غزو النساء

ص: 13

وقتالهن مع الرجال)

(1)

.

وقد ورد ما يدل على أن جهادهن إذا حضرن مواقف القتال سَقْيُ الماء ومداواة الجرحى ومناولة السهام، كما في حديث الربيِّع بنت معوذ رضي الله عنهما قالت:(كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة)

(2)

، وفي رواية:(ونداوي الجرحى)، قال البغوي:(في الحديث دليل على جواز الخروج بالنساء في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، فإن خاف عليهن لكثرة العدو وقوتهم، أو خاف فتنتهن لجمالهن، وحداثة أسنانهن، فلا يخرج بهن، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نسوة خرجن معه فأمر بردهن، فيشبه أن يكون رَدُّهُ إياهن لأحد هذين المعنيين)

(3)

. وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن أم سُليم اتخذت يوم حُنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذا الخنجر؟ "، قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك

الحديث

(4)

.

ومما يدل على عدم وجوب الجهاد على النساء أنه لم يكن يُسهَم لهن في الغنيمة، وإنما يُرضخ لهن بدون سهم، وقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء، فيُداوين الجرحى، ويُحْذَينَ من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن

(5)

.

وأما ما يطالب به بعض دعاة المرأة من مشاركتها في الحروب ووجودها في ميادين القتال، فهذا ليس عليه دليل، وفيه مصادمة للنصوص الشرعية، ومنابذة للآداب الإِسلامية، وفيه من التبعات الخطيرة والعواقب الوخيمة ما لا يعلمه إلا الله، وقد نادى بالتحذير منه عقلاء الكتَّاب والدعاة المخلصون، وليس في الرجال قلة تدعو إلى مشاركة المرأة في هذا المجال، ولكن القصد منه إخراج المرأة من بيتها والقضاء على عفتها ونزاهتها، وهدم المجتمع، وتقويض بنيان الفضيلة. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(6/ 78).

(2)

"صحيح البخاري"(2883).

(3)

"شرح السنة"(11/ 13 - 14).

(4)

"صحيح مسلم"(1809).

(5)

"صحيح مسلم"(1822).

ص: 14

‌حكم الجهاد مع وجود الأبوين

1269/ 4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأذِنُه في الْجِهَادِ. فَقَال: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ "، قَال: نَعَمْ، قال:"فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1270/ 5 - وَلأَحْمَدَ وَأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:"ارْجع فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإنْ أَذِنَا لَكَ، وَإِلا فَبِرَّهُمَا".

° الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأولى: في تخريجهما:

أما حديث عبد الله بن عَمْرٍو رضي الله عنهما، فقد رواه البخاري في كتاب "الجهاد"، باب (الجهاد بإذن الأبوين)(3004)، ومسلم (549) من طريق أبي العباس الشاعر

(1)

-وكان لا يُتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما يقول:

وذكر الحديث.

وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فقد رواه أحمد (18/ 248)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (في الرجل يغزو وأبواه كارهان)(2530) من طريق درَّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال:"هل لك أحد باليمن؟ "، قال: أبواي، قال:"أذنا لك؟ "، قال: لا، قال:"ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبِرَّهما".

(1)

أبو العباس الشاعر قال عنه مسلم: اسمه السائب بن فروخ الأعمى. [انظر: "الكنى والأسماء" للإمام مسلم (1/ 609)].

ص: 15

وهذا سند ضعيف، فيه دراج أبو السمح، وهو متكلم فيه، والأكثرون على تضعيفه، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، وهو سليمان بن عمرو العُتْواري، حكى ابن عدي عن الإِمام أحمد أنه قال:(أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف)، ومثله قال أبو داود

(1)

، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وتعقبه الذهبي فقال:(دراج: واهٍ)، لكن الحديث له شواهد يتقوَّى بها، منها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي قبله.

ولعل الحافظ ذكر حديث أبي سعيد بعد حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لما فيه من الأمر بالرجوع واستئذان الوالدين، وهذا لم يدل عليه الحديث الأول.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (أحي والداك) الوصف (حتى) مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما بعده فاعل سد مسد الخبر.

قوله: (ففيهما فجاهد) الجار والمجرور متعلق بالفعل بعده، وقدم لإفادة الاختصاص، والفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط، والتقدير: ولو كان الأمر كما قلت فاخصص المجاهدة بخدمة الوالدين، فحذف الشرط، وعَوَّضَ عنه الظرف المفيد للاختصاص.

والمراد بالجهاد: جهاد النفس في وصول البر إليهما بالتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وغير ذلك.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب بر الوالدين وأنه من فروض الأعيان، وأن برهما مقدم على الجهاد في سبيل الله؛ لأن برهما فرض عين على كل حال، والجهاد فرض كفاية إلا في حالات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للرجل:

(1)

"الكامل"(3/ 112)، "تهذيب التهذيب"(3/ 181).

ص: 16

"ففيهما فجاهد" أي: جاهد نفسك في طلب رضاهما والإحسان إليهما، وسمي ذلك جهادًا من باب المشاكلة لكون الرجل استأذن في الجهاد، ومنه قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

° الوجه الرابع: في حديث أبي سعيد رضي الله عنه دليل على وجوب استئذان الوالدين في الجهاد، فإن أذنا له فذاك وإلا فعليه أن يبرهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجهاد فيهما قائمًا مقام الجهاد في سبيل الله، قال ابن عبد البر:(لا خلاف علمته أن الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان أو أحدهما؛ لأن الخلاف لهما في أداء الفرائض عقوق، وهو من الكبائر، ومن الغزو ما قلت)

(1)

.

وقد حمل الجمهور هذا الاستئذان على جهاد التطوع؛ لأن برهما فرض عين، وجهاد التطوع فرض كفاية، وفرض العين يقدم، وشرط ذلك أن يكونا مسلمين، فإن كانا كافرين فلا إذن لهما.

فإن كان الجهاد فرض عين كحال النفير أو حضور القتال أو هجوم العدو لم يعتبر إذنهما؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذا كل ما وجب مثل صلاة الجماعة والحج ونحو ذلك

(2)

.

يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: (الجهاد إذا صار فرض عين كان أوكد من مطلق بر الوالدين، فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المتعيِّن عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعين إلا بإذنهما)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار"(14/ 96).

(2)

"المغني"(13/ 25 - 26).

(3)

"جامع المسائل"(5/ 352).

ص: 17

‌النهي عن الإقامة في ديار المشركين

1271/ 6 - عَنْ جَرِيرٍ البَجَلِي رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أنا بَرِيءٌ مِنْ كلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَينَ الْمُشْرِكينَ". رَوَاهُ الثلَاثةُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجحَ الْبُخَارِيُّ إِرْسَالهُ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (النهي عن قتل من اعتصم بالسجود)(2645)، والترمذي (1604) من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خَثْعَم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، قالوا: يا رسول الله لِمَ؟ قال: "لا تراءى ناراهما".

هذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، لكنه أُعِلَّ بالإرسال، فقد رواه النسائي (8/ 36) من طريق أبي خالد، عن إسماعيل، عن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث

فذكره.

وممن أعله بالإرسال البخاري قال الترمذي: (سمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل)، وكذا أبو حاتم، وأبو داود إثر سياق الحديث، والترمذي، والدارقطني

(1)

.

(1)

انظر: "جامع الترمذي"(3/ 253)، "العلل" لابن أبي حاتم (942)، "العلل" للدارقطني (13/ 464).

ص: 18

ومن شواهد الحديث ما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" أخرجه أبو داود (2787) من طريق سليمان بن موسى، عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، عن خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة به.

وسليمان بن سمرة قال عنه الحافظ: (مقبول). وابنه خبيب: مجهول، وجعفر بن سعد ليس بالقوي، وسليمان بن موسى فيه لين.

ورواه الطبراني في "الكبير"(7/ 263)، والحاكم (2/ 141 - 142)، والبيهقي (9/ 142) من طريق إسحاق بن إدريس، ثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا". قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه) وفيه إسحاق بن إدريس الأسواري، متروك بالاتفاق، وقال ابن معين:(كذاب يضع الحديث)

(1)

.

وأخرجه النسائي (5/ 82)، وابن ماجه (2536)، وأحمد (33/ 236 - 237) من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "

كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك أشرك بعدما أسلم عملًا أو يفارقَ المشركين إلى المسلمين" وهذا سند حسن، لما تقدم في "الزكاة" من أن بهز بن حكيم وأباه صدوقان.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أنا بريء) أي: خالص من عهدته، فقد انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيني وبينه عُلقة.

قوله: (لا تراءى ناراهما) أي: لا ترى نارُ المسلم نارَ المشرك ولا نارُ المشرك نارَ المسلم، وهذا كناية عن القرب، والعرب تستعمل مثل هذا الأسلوب، تقول: داري تنظر إلى داره، وداره تنظر إلى داري، إذا أرادوا شدة القرب.

(1)

انظر: "الميزان"(1/ 184)، "اللسان"(2/ 41).

ص: 19

° الوجه الثالث: يستدل العلماء بهذا الحديث على تحريم الإقامة في بلاد الشرك ومساكنة المشركين، وهذا يشمل من ذهب إلى ديارهم وأقام معهم، أو أسلم في ديار الشرك وبقي فيها ولم يهاجر إلى ديار المسلمين مع القدرة؛ لأن الله تعالى أوجب على العبد العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسببًا إلى إسقاط ذلك فإنه لا يجوز، والمطلوب من المسلم أن ينضم إلى جماعة المسلمين، فهم إخوته وأولياؤه من دون الناس.

وقد نقل ابن كثير الإجماع على أن كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين أنه ظالم لنفسه مرتكب حرامًا

(1)

، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} [النساء: 97] وقوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: بتركهم الهجرة، والإقامة مع الكفار وتكثير سوادهم، وهذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين مع القدرة على الهجرة وعدم التمكن من إقامة الدين.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل وجوب الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإِسلام بشرط القدرة على الهجرة وعدم التمكن من إظهار الدين، وهذا يدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} .

فإن كان عاجزًا عن الهجرة لمرض أو ضعف أو إكراه على الإقامة أو مانع من الأمور السياسية والقوانين الدولية فهو معذور، وعليه أن يعتزل الكفار ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، قال تعالى:{إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْولْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 98، 99].

(1)

"تفسير ابن كثير"(2/ 343).

ص: 20

أما من قدر على الهجرة لكنه متمكن من إظهار دينه فهذا تستحب له الهجرة؛ لأجل تكثير المسلمين والتخلص من الكفار ومخالطتهم والتمكن من جهادهم، ولا تجب عليه؛ لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة

(1)

.

والمقصود أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم بين ظهراني المشركين؛ لأن هذا فيه مخالفة للنصوص الشرعية الدالة على وجوب الهجرة، وفيه تكثير للمشركين، كما أنه يؤدي إلى فقد الغيرة عند المسلم؛ لأن من يقيم فبي بلد يظهر فيه الكفر وتكثر فيه المعاصي؛ فإن غيرته تضعف أو تموت بالكلية، ويصبح مجاريًا لهم فيما هم عليه، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المغني"(13/ 149)، "الولاء والبراء في الإِسلام" ص (270)، "فقه الأقليات المسلمة" ص (119).

ص: 21

‌ما جاء في انقطاع الهجرة وبقاء الجهاد والنية

1272/ 7 - عَنِ ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنيَّة"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من كتاب "الجهاد" وغيره، ومنها: باب "وجوب النفير"(2825)، ومسلم (1353) من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح:"لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا هجرة) لا نافية للجنس، والهجرة لغة: الترك والخروج من بلد أو أرض إلى بلد أخرى.

وشرعًا: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإِسلام، وبلد الإِسلام: هو البلد الذي تظهر فيه الشعائر والأحكام على وجه عام، وأهم الشعائر: هي الصلاة، فإذا كانت الصلاة مظهرًا من مظاهر البلد فهو بلد إسلام، أما إذا كانت الصلاة يقيمها أفراد أو جماعات وهي ليست من مظاهر البلد فلا يحكم على البلد بأنه بلد إسلامي، مثل البلاد التي فيها أقليات مسلمة يقيمون الصلاة ولكن على نطاق ضيق في حدود مجتمعهم الذي يعيشون فيه أو في حدود بيئتهم، ولكن البلد الذي يقيمون فيه أو هم من أهله لا تقام فيه الصلاة بوجه عام بحيث لا توجد عندهم المآذن ولا يسمع الأذان في جميع الأنحاء فمثل هذا لا يعتبر بلدًا إسلاميًا؛ لأنه لا بد أن تكون الإقامة على وجه عام، فمثلًا:

ص: 22

فرنسا فيها أقليات مسلمة وفيها إقامة للصلاة من قبل هؤلاء، ولكن لا تعتبر مظهرًا من مظاهر البلد بحيث تنتشر المآذن ويُسمع الأذان هنا وهناك ويهرع الناس إلى المساجد، فهذا هو معنى قولنا: إن بلد الإِسلام هو الذي تنتشر فيه الشعائر والأحكام بوجه عام، أما لو كان عن طريق أفراد أو أناس قليلين فهذا لا يطلق عليه أنه بلد إسلامي بهذا الاعتبار

(1)

.

قوله: (بعد الفتح) أي: فتح مكة، فلا هجرة بعد فتحها؛ لأنها صارت بلد إسلام، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون

(2)

.

قوله: (ولكن جهاد ونية) أي: ولكن الباقي جهاد ونية، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة قد انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك معتبرة.

قوله: (وإذا استنفرتم) بضم التاء؛ أي: طلب منكم الخروج في الجهاد من الإِمام أو نائبه في ذلك.

قوله: (فانفِروا) بكسر الفاء على الأفصح، وبه جاء القرآن، قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] ويجوز ضمها؛ أي: اخرجوا.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على انتفاء الهجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت بلاد إسلام، ويقاس عليها كل بلدِ كفرٍ صار بلد إسلام، وهذا فيه إشارة إلى أن مكة لن تعود بلد كفر تجب الهجرة منه.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الجهاد بأن لإعلاء كلمة الله

(1)

انظر: "الفتاوى"(18/ 282)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 366)، "الفتاوى السعدية" ص (92)، "الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة" ص (330)، "فقه الأقليات المسلمة" ص (49).

(2)

"فتح الباري"(6/ 190).

ص: 23

تعالى، ونشر دينه، وإن فتحت عواصم الكفر، حتى يكون الدين كله لله.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينبغي الاهتمام بالنية في الجهاد وغيره من سبل الخير.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب الجهاد إذا استنفره ولي الأمر، إما بطلب النفير العام أو بتعيين من يتم تعيينه، فمن عينه الإِمام خرج، وهذه هي إحدى الصور التي يكون فيه الجهاد فرض عين، بدليل هذا الحديث، وبقوله تعالى:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38]، والثانية: إذا حضر الإنسان القتال؛ لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَار} [الأنفال: 15] والصورة الثالثة: إذا حضر العدو البلد، فيجب عليه القتال دفاعًا عن البلد؛ لأن هذا يشبه من حضر صَفَّ القتال.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: (إذا دخل العدو بلاد الإِسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإِسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة)

(1)

.

والصورة الرابعة: إذا احتيج إلى هذا الشخص

(2)

في القتال، فإنه يتعين عليه إذا لم يكن عذر؛ لدعاء الحاجة إليه، ولأنه صار في حقه فرض عين. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاختيارات" ص (311).

(2)

"دقائق أولي النهى"(3/ 7 - 8)، "الشرح الممتع"(8/ 14).

ص: 24

‌وجوب الإخلاص في الجهاد

1273/ 8 - عَنْ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ الله"، مُتفَّق عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجهاد"، باب (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)(2810)، ومسلم (1904) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكْرِ، والرجل يقاتل ليُرى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ قال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

° الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الإخلاص في الجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك بأن يكون غرض المجاهد إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، فمن جاهد بهذه النية فهو مجاهد في سبيل الله، ومفهوم الحديث أن من قاتل بغير هذا القصد فليس في سبيل الله، وإنما هو في سبيل الغاية التي جاهد من أجلها.

° الوجه الثالث: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه إذا كان القصد من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى فإنه لا يضر ما ينضم إلى ذلك من قصد المغنم، ويكون المعول في هذا على القصد والباعث على الفعل.

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيلًا إلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] فقد فُسِّرَ النيل بمثل الظفر بجيش أو سرية

ص: 25

أو غنيمة مال

(1)

.

ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم قبل القتال: "من قتل قتيلًا فله سلبه"

(2)

، وهذا يدل على أن قصد المغنم لا ينافي نية القتال، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك إلا ليجتهد السامع في قتال المشركين.

ويؤيد هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عُكاظ ومَجَنَّةُ وذو المَجَاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت:{لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة"

(4)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تَمَّ لهم أجرهم"، وفي رواية:" .. وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم"

(5)

.

وظاهر هذا أن المجاهد له الأجر تامًّا إذا لم يغنم، أو ثُلثُ الأجر إن غنم، وقد أخذ بهذا الحديث أكثر المحدثين، واعتبروه مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدال على أنه له الأجر إذا لم يغنم، أو له الغنيمة بدون أجر -من باب المطلق والمقيد، فيكون موافقًا ومفسرًا له، فإن غنم المجاهد بقي له ثُلثُ الأجر، وإن فاتته الغنيمة فله الأجر تامًّا، وهو مأجور في كلتا الحالتين، لكنه مع الغنيمة أنقص، وممن قال بهذا ابن بطال وابن دقيق العيد والنووي وابن حجر وغيرهم

(6)

. والله أعلم.

(1)

"تفسير ابن سعدي" ص (355).

(2)

"رواه أبو داود"(2718).

(3)

رواه البخاري (1770)، (2050).

(4)

رواه البخاري (3123)، ومسلم (1876).

(5)

رواه مسلم (1906).

(6)

انظر: "الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم" ص (476).

ص: 26

‌ما جاء في بقاء الهجرة ما قوتل العدو

1274/ 9 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِي رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتلَ الْعَدُوُّ" رَوَاهُ النَّسَائيُ، وَصحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو محمَّد عبد الله بن السعدي، وفي اسم السعدي أقوال، قيل: وقدان، وقيل: قدامة، وقيل: عمرو، وقيل له السعدي؛ لأنه كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر، له صحبة ورواية، سكن المدينة، ثم نزل الأردن، مات رحمه الله سنة سبع وخمسين على قول

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه النسائي في كتاب "البيعة"، باب (ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة)(7/ 146 - 147)، وابن حبان (11/ 207) من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء بن زَبْرٍ، عن بسر بن عبيد الله، عن إدريس الخولاني، عن عبد الله بن واقد

(2)

السعدي رضي الله عنه، قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كلنا يطلب حاجة، وكنت آخرهم دخولًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إني تركت مَنْ خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال:"لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار"، وهذا لفظ النسائي وابن حبان، وأما لفظ "البلوغ" فهو لفظ أحمد (37/ 10)، ولهذا قال

(1)

"الاستيعاب"(6/ 225)، "أسد الغابة"(3/ 413)"الإصابة"(6/ 104).

(2)

هكذا في "سنن النسائي" وعند ابن حبان: (عبد الله بن وقدان).

ص: 27

ابن عبد الهادي بعد سياقه بمثل لفظ "البلوغ": (رواه أحمد واللفظ له، والنسائي وابن حبان)

(1)

.

وهذا الحديث رجاله ثقات، وقد صرَّح الوليد بالتحديث عند ابن حبان، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2/ 118 - 120)، ونقل الحافظ في "الإصابة" عن أبي زرعة الدمشقي أنه قال:(هذا الحديث عن عبد الله بن السعدي حديث صحيح متقن، رواه الإثبات عنه)

(2)

.

والحديث في إسناده اختلاف، وله طرق أخرى عند النسائي والطبراني في "مسند الشاميين"(1/ 447)، (2/ 435)، (3/ 345)، وأبي نُعيم في "معرفة الصحابة"(3/ 1672)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(31/ 301 - 307).

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة؛ لأنها باقية ما دام القتال مستمرًا بين أهل الإِسلام وأهل الشرك، وقد تقدم الكلام في ذلك. والله تعالى أعلم.

(1)

"المحرر"(2/ 520).

(2)

(8/ 104).

ص: 28

‌ما جاء في الإغارة على العدو بلا إنذار

1275/ 10 - عَنْ نَافِعٍ قَال: أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَني الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهم، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما. مُتَّفقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، وكان ثقة كثير الحديث، قال الخليلي:(نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، ومنهم من يقدمه على سالم، ومنهم من يقارنه به، ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه). وقال الذهبي: (الإِمام المثبت عالم المدينة). روى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه خلق كثير، اختلف في سنة وفاته رحمه الله على أقوال، منها: سنة سبع عشرة ومائة، وهذا صححه الذهبي في "السير"، وقيل: سنة تسع عشرة ومائة، وهذا قول أحمد وابن عيينة، وقيل: عشرين ومائة، واعتبره الذهبي قولًا شاذًّا

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب (من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية)(2541)، ومسلم (1730) من طريق ابن عون قال: (كتبت إلى نافع، فكتب إلى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبى

(1)

"تهذيب الكمال"(29/ 298)، "السير"(5/ 95).

ص: 29

ذرارَيهم، وأصاب يومئذ جويرية، حدثني ابن عمر، وكان في ذلك الجيش) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلى: إنما كان ذلك في أول الإِسلام

وذكر بقية الحديث.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أغار) أي: هجم عليهم وأوقع بهم على غرة.

قوله: (على بني المصطلق) بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام على وزن اسم الفاعل، اسم قبيلة شهيرة بطن من خزاعة، وخزاعة قبيلة يمنية قحطانية، وديارهم هي ديار خزاعة، وهي مكة وما حولها.

قوله: (غارون) بالغين المعجمة وتشديد الراء، جمع غار؛ أي: غافلون، فأخذهم على غرة وبغتة، وذلك لأنهم قد بلغتهم الدعوة العامة، حيث ذكرت المصادر التاريخية أنهم كانوا ضمن المتألبين مع قريش في معركة أُحد ضد المسلمين، ثم أخذوا يعدون العدة لضرب المسلمين بعد رجوعهم إلى ديارهم، وكانت هذه الغزوة سنة خمس في شعبان على الراجح، على ماء لهم يسمى المُريسيع في موضع يقال له: قُديد شمال خُليص

(1)

على الطريق السريع بين مكة والمدينة بحوالي اثني عشر كيلًا.

قوله: (مقاتلتهم) وهم كل من يصلح للقتال ويتهيأ له.

قوله: (وسبى ذراريهم) أي: أخذهم سبيًا وفَرَّقَهم على الغانمين بعد أن ضرب عليهم الرق، والذراري جمع ذرية، وهي هنا النساء والأولاد غير البالغين.

قوله: (وأصاب يومئذ جويرية) هذه الجملة ثابتة في بعض نسخ "البلوغ"، وجويرية هي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رضي الله عنها، والحارث هو ملك بني المصطلق وقائدهم، كانت جويرية من سبايا بني

(1)

انظر: "المغانم المطابة في معالم طابة" ص (334، 380).

ص: 30

المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس رضي الله عنه، فكاتبها ثابت على تسع أواق، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها، فقال:"أو خير من ذلك" فقالت: وما هو؟ فقال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" فقالت: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد فعلت". وسيأتي هذا في كتاب "العتق" إن شاء الله تعالى.

° الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم على أن من بلغتهم الدعوة وعلموا بها فإنه لا يجب في حقهم الإنذار، وقد دل على ذلك قوله:(أغار) وقوله: (وهم غارون). وأما من لم تبلغهم الدعوة ولا علموا بها فيجب الإنذار في حقهم، هذا إن كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوة؛ لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم

(1)

.

والقول الثاني: وجوب الدعوة إلى الإِسلام مطلقًا، سواء أكان عند المدعوين علم بالإِسلام أم لا، وهذا قول مالك، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رحمه الله

(2)

.

واستدلوا بحديث بريدة الآتي: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال

ادعهم إلى الإِسلام. الحديث" وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب عند الإطلاق.

والقول الثالث: أنه لا يجب الإنذار مطلقًا، وهذا القول حكاه المازري، والقاضي عياض

(3)

، وهذا أضعف الأقوال.

والراجح هو الأول؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة.

° الوجه الخامس: استدل الجمهور بهذا الحديث على جواز استرقاق

(1)

"الهداية"(2/ 136)، "المغني"(13/ 29)، "روضة الطالبين"(10/ 239)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 5).

(2)

"المدونة"(2/ 3)، "نيل الأوطار"(7/ 244).

(3)

"المعلم"(3/ 9)، "إكمال المعلم"(6/ 29).

ص: 31

العرب كغيرهم من سائر الكفار من الأعاجم من يهود ونصارى ونحو ذلك، وذلك لأن بني المصطلق عرب من خزاعة كما تقدم، وهذا اختيار البخاري كما تقدم في تبويبه

(1)

، ورجحه الشوكاني

(2)

.

والقول الثاني: أن الرق لا يجري على عربي بحال، فإما الأسر وإما الفداء، وهذا قول الزهريّ وسعيد بن المسيب والشعبي، ويروى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق سبي هوازن قال:"لو كان تامًّا على أحد سبي لتم على هؤلاء، ولكنه أسر وفداء"

(3)

، لكنه حديث ضعيف جدًّا لا يحتج بمثله كما قال البيهقي وغيره، وما ورد عن عمر رضي الله عنه فهي رواية منقطعة.

والقول الأول هو الأظهر، لعموم الأدلة فيما يتعلق في أسارى الكفار، من جواز القتل، أو المنّ، أو الفداء، ومن ادعى أن بعض هذه الأمور يختص ببعض الكفار دون بعض فعليه أن يقيم الدليل المخصِّص، ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا بلاد الشام، وهم عرب، وكذا أطراف بلاد العرب المتصلة بالعجم لم يفرقوا بين عربي وعجمي، بل كانوا يعاملون الجميع على حد سواء

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 170).

(2)

"نيل الأوطار"(14/ 277).

(3)

رواه البيهقي (9/ 73)، وفي إسناده الواقدي، وهو ضعيف جدًّا.

(4)

انظر: "المنار" للمقبلي (2/ 478).

ص: 32

‌ما جاء في التأمير على الجيوش ووصيتهم

1276/ 11 - عَنْ سُلَيمانَ بْنِ بُرَيدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيشٍ، أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيرًا، ثُمَّ قَال: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، في سَبِيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُوا، وَلا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقتُلُوا وَليدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرينَ، فَإنْ أبوْا فَأخْبِرْهُمْ أنهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ في الْغَنِيمَةِ وَالْفَيءِ شَيءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإنْ هُمْ أبوْا فَاسْألهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أبوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ تَعَالى وَقَاتِلْهُم.

وَإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ الله وَذِمَّةَ نَبِيهِ، فَلَا تَفْعَلْ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ؛ فَإنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ، وَإذا أَرَادُوكَ أَنْ تنزِلَهُم عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تَفْعَلْ، بَلْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإنَّكَ لَا تَدْرِي أتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الجهاد"، باب (تأمير الإِمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيره)(1731)(3) من طريق

ص: 33

سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: وذكر الحديث بطوله، وقد اختصر الحافظ بعض ألفاظه.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (على جيش) أي: جنود كثيرة، ولفظ مسلم: (على جيش أو سرية" وهي القطعة من الجيش تنفصل عنه ثم تعود إليه، وحدَّها بعضهم بأربعمائة ونحوها، وسميت سرية؛ لأنها تسري ليلًا على خفية، أو لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهو النفيس

(1)

.

قوله: (أوصاه) الوصية هي الإخبار بالشيء على وجه الاهتمام. ولفظ مسلم: طأوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه

" ومعنى "في خاصته" أي: في حق نفسه خصوصًا، وقد ثبتت هذه اللفظة في بعض النسخ.

قوله: (خيرًا) أي: أن يفعل بهم خيرًا في أمور الدنيا والآخرة.

قوله: (اغزوا باسم الله) أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله تعالى، فتكون الباء للاستعانة والتوكل على الله.

قوله: (في سبيل الله) متعلق بـ (اغزوا) والغرض منه الحث على حسن النية وسلامة القصد؛ لأن الغزاة لهم أغراض ومقاصد، والغزو النافع ما كان في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، كما تقدم.

قوله: (قاتلوا من كفر بالله) فيه معنى التعليل؛ أي: قاتلوهم لأجل كفرهم، لا لعصبية ولا غيرها، وهذا عام خُصَّ منه من لا يجوز قتله من الكفار كالنساء والأطفال ومن له عهد، كما سيأتي، وقد قال متصلًا به:(ولا تقتلوا وليدًا).

قوله: (اغزوا) فيه معنى التأكيد، أو أنه تمهيد لما بعده.

قوله: (ولا تَغلُّوا) بفتح التاء وتشديد اللام مضمومة، والغلول: الأخذ من الغنيمة قبل قسمها، وسيأتي إن شاء الله.

(1)

انظر: "المصباح المنير" ص (275)، "فتح الباري"(8/ 56).

ص: 34

قوله: (ولا تغدروا) بفتح التاء وضم الدال أو كسرها، والغدر هو الخيانة ونقض العهد الذي أوجب الله الوفاء به.

قوله: (ولا تمثلوا) بضم التاء وتشديد الثاء المثلثة المكسورة، والتمثيل: تشويه القتيل بقطع أعضائه كالأنف أو الأذن أو اليد وغيرها.

قوله: (ولا تقتلوا وليدًا) الوليد: الصغير دون التكليف؛ لأنه لا يقاتل وربما يسلم.

قوله: (فادعهم إلى ثلاث خصال) لفظ مسلم: "ثلاث خصال أو خلال" وهو شك من الراوي، ومعناهما واحد.

قوله: (فأيتهن أجابوك) لفظ مسلم: "فأيتهن ما أجابوك"، وأَيَّتُهُنَّ: بالرفع اسم شرط مبتدأ، و "ما" زائدة مع اسم الشرط، كما في قوله تعالى:{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].

هكذا ضُبط اللفظ في طبعات "صحيح مسلم". وقد ذكر القرطبي أنه قيده عمن يوثق بعلمه وتقييده بالنصب؛ أي: على نزع الخافض، و (ما) زائدة، والتقدير: فإلى أيتهن أجابوك، فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني بحرف الجر

(1)

.

قوله: (ادعهم إلى الإِسلام) هذه الخصلة الأولى، وقد جاء في لفظ مسلم:"ثم ادعهم إلى الإِسلام"، والصواب إسقاط "ثم" كما قال القاضي عياض؛ لأن هذا تفسير للخصال الثلاث، و"ثم" توهم الابتداء، وقد جاءت الرواية عند أبي داود

(2)

، وفي كتاب "الأموال" لأبي عبيد

(3)

بإسقاطها.

قوله: (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) أي: ادعهم إلى الانتقال من دار التعرب إلى دار الهجرة، وهي المدينة، وكان هذا في أول الأمر وهو وقت وجوب الهجرة إلى المدينة. وعند مسلم: "وأخبرهم أنهم إن

(1)

"المفهم"(3/ 513).

(2)

"السنن"(1617).

(3)

ص (35).

ص: 35

فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين" أي: من الجهاد وغيره، وهذا من تمام العدل.

قوله: (كأعراب المسلمين) أي: الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو. وقد دل الحديث أنهم إذا أسلموا فلهم ثلاث حالات:

1 -

التحول إلى دار المهاجرين.

2 -

البقاء في أماكنهم مع الجهاد.

3 -

البقاء مع ترك الجهاد.

قوله: (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين) مفهومه أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا الغنيمة، وأما الفيء فقيل: لا يستحقونه بدليل الاستثناء، وقيل: لهم حق مطلقًا

(1)

.

قوله: (فإن هم أبوا) هم: توكيد للفاعل المحذوف مع فعله، والتقدير: فإن أبوا هم، وهذا رأي البصريين؛ لأن أدوات الشرط عندهم لا يليها إلا الفعل، وعند الكوفيين (هم) مبتدأ، خبره ما بعده، وهذا أيسر، كقوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، وقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] ".

قوله: (فاسألهم الجزية) وهي ما يؤخذ من الكفار جزاء الكف عن قتالهم أو إسكانهم دار الإِسلام، وسيأتي البحث فيها في باب مستقل -إن شاء الله-.

قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن) المحاصرة: التضييق والإحاطة، والحصن: كل مكان محرز يُتحصن فيه.

قوله: (ذمة الله وذمة نبيه) الذمة هنا العهد، والمراد عقد الصلح والمهادنة، والمعنى: أن أهل الحصين المحاصَرين إذا قالوا نريد أن ننزل على عبد الله ورسوله فإنه لا يجوز.

قوله: (فإنكم أن تُخفِروا) هذا تعليل للنهي عن إعطاء ذمة الله وذمة

(1)

انظر: "أحكام أهل الذمة"(1/ 18).

ص: 36

رسوله للكفار، وذلك خشية عدم الوفاء بذلك، فإنَّ نَقْضَ عهد الخلق أهون من نقض عبد الله تعالى؛ لأنه قد ينقض الذمة من لا يعرف حقها، وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش.

وقوله: (أن تخفروا) بفتح الهمزة على اعتبارها مصدرية، ولا يصح كسرها على أنها شرطية إذ لا جواب لها، و (أهون) مرفوع على أنه خبر (إنَّ) و (أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر بدل اشتمال من اسم (إن) والتقدير: فإنكم إخفاركم ذممكم.

وتُخفِروا: بضم التاء وكسر الفاء من أخفر الرباعي؛ بمعنى: تنقضوا، تقول العرب: أخفرت الرجل: نقضت عهده، وخَفَرْتُهُ أَخْفِرُهُ من باب ضرب: غدرت به.

قوله: (وإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله) أي: وإن طلبوك أن تتفق معهم على أن يكون الحكم بينكما هو حكم الله تعالى.

قوله: (بل علي حكمك) أي: بل أنزلهم على حكمك واجتهادك أيها الأمير، ولم يذكر هنا حكم أصحابه؛ لأن الحكم في الجيش والسرية مختص بالأمير، بخلاف الذمة والعهد فهي من الجميع؛ لأنه لا يحل لأحد من الجيش أن ينقض العهد.

قوله: (فإنك لا تدري) تعليل للنهي، والمعنى: لا تنزلهم على حكم الله؛ خشية ألا تصيب حكم الله تعالى، فتنسب إلى الله تعالى ما هو خطأ، ولا سيما إذا كانت المسألة من المسائل الاجتهادية.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني بأمرائه وقواد جيشه فيوصيهم بتقوى الله تعالى، ويوجههم إلى ما ينبغي فعله واتباعه من الأحكام والآداب، ويحذرهم مما ينبغي تركه من المعاصي المتعلقة بالقتال حتى يكونوا على بينة وبصيرة من أمرهم، وهكذا ينبغي لولاة الأمور إذا أَمَّروا الأمراء أو أرسلوا الجيوش أن يوجهوهم إلى الخير ويوصوهم بتقوى الله تعالى والاستقامة على أمره، والإحسان إلى الرعية (فبهذين الأصلين: تقوى الله،

ص: 37

والإحسان إلى الرعية يُحفظ على الأمير منصبه، وتقرُّ عينه به، ويأمن فيه من النكبات والغِيَرِ، ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بد أن يسلبه الله عِزهُ، ويجعله عبرة للناس، فما إن سلبت النعم إلا بترك تقوى الله، والإساءة إلى الخلق)

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يجب أن يكون القتال لإعلاء كلمة الله تعالى ونصر دينه وإزالة آثار الكفر، لا لنيل الملك وطلب الدنيا.

° الوجه الخامس: تحريم الغدر ونقض العهود، وسيأتي زيادة بحث له -إن شاء الله-.

° الوجه السادس: تحريم الغلول وسيأتي البحث فيه -إن شاء الله-.

° الوجه السابع: النهي عن التمثيل بالقتلى، ووجوب القتل قِتْلَةَ شرعية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فاحسنوا القتلة

"

(2)

فإن وقع التمثيل من غير قصد كما يقع عند المقاتلة والمسايفة فصاحبه معذور.

° الوجه الثامن: النهي عن قتل الصبيان، وسيأتي ذلك أيضًا -إن شاء الله-.

° الوجه التاسع: الحديث دليل على مشروعية الدعوة إلى الإِسلام قبل القتال، وظاهر الحديث العموم فيمن بلغته الدعوة ومن لم تبلغه، وبه استدل من قال بذلك كما تقدم، والظاهر أن الحديث محمول على من لم تبلغه الدعوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلق وهم غارون؛ لأنهم بلغتهم الدعوة، كما تقدم.

° الوجه العاشر: الحديث دليل على أن من دخل في الإِسلام فهو غير بين أمرين: إما الانتقال إلى دار الهجرة، ويكون له ما للمهاجرين، وعليه ما

(1)

"أحكام أهل الذمة"(1/ 5).

(2)

رواه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، وسيأتي شرحه في كتاب "الصيد والذبائح" -إن شاء الله-.

ص: 38

عليهم، واما البقاء مع أعراب المسلمين الذين لم يهاجروا ولا يكون لهم حظ في الغنائم ولا الفيء على ما تقدم

(1)

.

° الوجه الحادي عشر: استدل بهذا الحديث من قال: إن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، وهذا قول المالكية، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والصنعاني

(2)

، لقوله:(وإذا لقيت عدوك من المشركين) ولفظ المشركين يعم الكفار جميعًا من اليهود، والنصارى، والمجوس، وعباد الأوثان من العرب وغيرهم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس، كما سيأتي في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أكيدر دومة عليها كما سيأتي أيضًا، وهم ليسوا أهل كتاب. وعلى هذا القول فالقيد في سورة التوبة:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29] لا مفهوم له؛ لأنه إخبار بالواقع

(3)

؛ بدليل منطوق حديث بريدة رضي الله عنه، قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(هذا قول قوي، وحجة قوية)

(4)

.

والقول الثاني: أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا عَبَدة الأوثان من العرب فلا تؤخذ منهم، ولا يقبل منهم إلا الإِسلام أو السيف، وهو قول الحنفية، ورواية عن أحمد

(5)

، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية منهم؛ ولأنهم أغلظ كفرًا من غيرهم؛ لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بلغتهم، فكانت المعجزة في حقهم أظهر.

والقول الثالث: أن الجزية لا تؤخذ إلا من كتابي أو مجوسي، وهذا هو

(1)

انظر: "الأموال" لأبي عبيد ص (224) حيث يرى أن الحديث منسوخ، وأن هذا حكم من لم يهاجر أولًا، في أنه لا حق له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجر.

(2)

"بداية المجتهد"(2/ 347 - 348)، "الاختيارات" ص (319)، "زاد المعاد"(5/ 91)، "سبل السلام"(4/ 98).

(3)

انظر: "تفسير ابن سعدي" ص (311).

(4)

من الأشرطة.

(5)

"الإنصاف"(4/ 217).

ص: 39

المذهب عند الحنابلة، وهو قول الشافعية، وابن حزم

(1)

. واستدلوا بآية التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، فقوله:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان للذين في قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .

كما استدلوا بحديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. وسيأتي هذا الحديث -إن شاء الله- في باب "الجزية".

ويشهد له حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها

(2)

. ولا تؤخذ من غيرهم، فإما الإِسلام أو القتال؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أمرت أن أقاتل الناس

"

(3)

، فدل على وجوب مقاتلة جميع الناس، وخص منهم أهل الكتاب بنص القرآن، والمجوس بالسنة، ويبقى سائر الكفار على عموم الحديث.

والقول الأول هو الراجح؛ لقوة دليله، وهو حديث بريدة رضي الله عنه فإنه حديث عام، وهو متأخر عن آية الجزية ورودًا؛ لأنه يفهم منه أن الجزية قد شرعت لقوله:(فإن هم أبوا فاسألهم الجزية)، والآية في سورة التوبة، وهي نزلت عام تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وقد فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال العرب، ولم يبق في الجزيرة أحد من عُبّاد الأوثان، فلما نزلت آية الجزية أخذها ممن بقي على كفره، كالنصارى والمجوس، وعلى هذا فاية الجزية لا مفهوم لها؛ بدليل هذا المنطوق، وهو حديث بريدة، ثم إن آية الجزية لم تتعرض لأخذها من غير أهل الكتاب ولا لعدم أخذها، والحديث بَيَّنَ أخذها من غيرهم، وقبول الجزية من جميع الكفار هو سلوك الصحابة رضي الله عنهم والفاتحين

(1)

"المحلى"(7/ 345)، "مغني المحتاج"(4 /)، "الإنصاف"(4/ 217).

(2)

رواه البخاري (3158)، ومسلم (2961).

(3)

رواه البخاري (25)، ومسلم (22)(36).

ص: 40

المسلمين، ثُم إن عَبَدَة الأوثان -كما يقول ابن القيم-:(أمة كبيرة لا تحصى، لا يمكن استئصالهم بالسيف فإذلالهم وقهرهم بالجزية أقرب إلى عز الإِسلام وقوته من إبقائهم بغير جزية، فيكونون أحسن حالًا من أهل الكتاب)

(1)

.

° الوجه الثاني عشر: وجوب احترام ذمة الله تعالى وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن نقضها أمر عظيم، بخلاف عهد المسلمين فإنه وإن كان النقض محرمًا مطلقًا لكنه فيما يتعلق بذمة الله وعهده أعظم.

° الوجه الثالث عشر: جواز نزول أهل الحصين على حكم أمير الجيش، وأما إنزالهم على حكم الله وحكم رسوله فلا يجوز؛ لأن قائد الجيش وإن اجتهد لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ وقد ذكر بعض العلماء أن هذا النهي خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يمكن نزول الوحي ببيان الصواب، وأما بعد زمانه فيجوز للقائد بعد الاجتهاد إنزالهم على حكم الله تعالى

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام أهل الذمة"(1/ 17).

(2)

انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 284)، "البدر التمام"(4/ 498).

ص: 41

‌ما جاء في التورية في الحرب

1277/ 12 - عَنْ كَعْبِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ غزوَةً وَرَّى بِغَيرِها. مُتفَق عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجهاد"، باب (من أراد غزوة فورَّى بغيرها)(2947)، ومسلم (2769) (54) من طريق ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن كعب رضي الله عنه وكان قائدَ كعبٍ من بنيه، قال: سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمَ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إلا وَرَّى بغيرها) بفتح الواو وتشديد الراء آخره ألف مقصورة؛ أي: سترها بغيرها كتمانًا للمقصود عن العيون والجواسيس، فهذا كان يريد الخروج إلى جهة الجنوب سأل عن طرق الشمال أو الشرق أو الغرب ومواقع المياه ونحو ذلك ليصيب العدو على غفلة، ولا يمكن أن يحصل على خبر صحيح.

والتورية تدور على معنى الستر والتغطية تقول: وَرَّيتُ الخبر أُوَرِّيه تورية: إذا سترتَه وأظهرت غيره، قال أبو عبيد:(ولا أراه إلا مأخوذًا من وراء الإنسان؛ لأنه إذا قال وريته فكأنه إنما جعله وراءه حيث لا يظهر)

(1)

.

(1)

"غريب الحديث"(1/ 250 - 251).

ص: 42

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزو قبيلة أظهر أنه يريد غيرها، فصار يسأل في جهة أخرى عن الطريق وموارد المياه والقبائل التي تقطنها ونحو ذلك.

وهذا من باب استعمال الرأي في الحرب، بل إن الاحتياج إلى الرأي آكد من الشجاعة.

والحكمة من هذا أن يفجأ العدو قبل أن يعلم حتى تقل الخسائر في الأرواح، بخلاف إذا علموا فإنهم يستعدون للملاقاة، وبما أن المقصود الإذعان والاستسلام فهذا يحصل بالمباغتة، ثم إن المباغتة أقرب إلى هدايتهم واستجابتهم، بخلاف ما إذا كانوا مستعدين.

ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يفاجئ العدو إلا بعد دعوته إلى الإِسلام والإعذار إليه.

قال النووي: (اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 289).

ص: 43

‌الوقت الذي يستحب فيه القتال

1278/ 13 - عَنْ مَعْقِلٍ أَن النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه قَال: شَهِدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَال حَتى تَزولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَينْزِلَ النَّصْرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثلَاثةُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ في الْبُخَارِيِّ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عمرو أو أبو حكيم النعمان بن مُقَرِّن -بضم الميم وكسر الراء مشددة- بن عائذ المزني، كانوا سبعة إخوة، كلهم هاجر وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لأحد من العرب سواهم، قال الواقدي وغيره: للنعمان بن مقرن ذكر كثير في فتوح العراق، وهو الذي فتح أصبهان، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(إن للإيمان بيوتًا، وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان). روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه معاوية، ومعقل بن يسار المزني رضي الله عنه، كما ذكرت في أول "الجنائز"، سكن النعمان البصرة، وتحول عنها إلى الكوفة، وقدم المدينة، واستشهد في نهاوند يوم جمعة، سنة إحدى وعشرين، ولما جاء نعيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج فنعاه إلى الناس على المنبر، ووضع يده على رأسه يبكي رضي الله عن الجميع

(1)

.

أما معقل وهو ابن يسار فتقدمت ترجمته في أول "الجنائز".

(1)

"الاستيعاب"(10/ 319)، "الإصابة"(10/ 170).

ص: 44

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (39/ 153)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (في أيِّ وقت يستحب اللقاء)(2655)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 33)، والحاكم (2/ 116) من طريق علقمة بن عبد الله المزني، عن معقل بن يسار أن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث.

وهذا الحديث إسناده صحيح ورجاله ثقات، قال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، وعلقمة بن عبد الله المزني من رجال أصحاب السنن، وبقية رجاله رجال الصحيحين.

والحديث أصله في البخاري (3159)(3160) من طريق بكر بن عبد الله المزني وزياد بن جبير عن جبير بن حية قال: بعث عمر رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين

وذكر الحديث إلى أن قال: فقال النعمان: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الرياح وتحضر الصلاة.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار الأوقات المناسبة للقتال، فكان يقاتل أول النهار؛ لأنه وقت النشاط حيث تكون الأبدان نشيطة بعد راحة الليل، ويكون الوقت باردًا، فإذا لم يتيسر القتال أول النهار فإنه يؤخره إلى أن تزول الشمس، ويبرد الجو، وتنكسر شدة الحر، (وتهب الرياح)؛ لأنها في الغالب تهب بعد الزوال، فيحصل بها تبريد الجو وزيادة النشاط، (وينزل النصر)؛ لأنه مظنة هبوب الرياح، (وتحضر الصلاة)؛ لأن حضور وقت الصلاة مظنة إجابة الدعاء.

وهذا على سبيل الاختيار، أما إذا فجأهم العدو فعلوا ما هو الأصلح في أي وقت كان. والله تعالى أعلم.

ص: 45

‌جواز تبييت الكفار وإن أدى إلى قتل ذراريهم تبعًا

1279/ 14 - عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثامَةَ رضي الله عنه قَال: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبيَّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وذَرَاريهِمْ، فَقَال:"هُمْ مِنْهُم"، مُتَّفَقٌ علَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجهاد"، باب (أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري)(3012)(3013)، ومسلم (1745) من طريق الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بوذَان فسُئل عن أهل الدار يبيتون

لحديث.

ولفظ مسلم: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين

).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية عند مسلم: (قلت: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين)، وظاهر هذا أن السائل هو الصعب بن جثامة، وقد جاء هذا صريحًا في رواية ابن حبان عن الصعب بن جثامة قال:(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين) فظهر أنه هو السائل رضي الله عنه.

قوله: (عن الدار) في بعض النسخ: (عن أهل الدار) وهو الموافق لرواية البخاري، ومعناه: عن أهل المنزل، وفي بعض النسخ: (عن الذراري من

ص: 46

المشركين) وهو الموافق لرواية مسلم، والذراري: جمع ذرية، وهم الأطفال من أولاد المشركين.

قوله: (يبيتون) بضم الياء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء مضارع مبني لما لم يسم فاعله، والبيات: بالفتح الإغارة ليلًا، يقال: بيته تبييتًا وبياتًا، قال الحافظ:(ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يُغار على الكفار بالليل بحيث لا يميز بين أفرادهم)

(1)

.

قوله: (هم منهم) أي: النساء والأطفال من أهلهم في الحكم، فهم سواء في تلك الحالة التي لا يميزون فيها.

° الوجه الثالث: هذا الحديث دليل على جواز قتل النساء والأطفال في حال تبييت العدو والهجوم عليه ليلًا، قال أحمد:(لا بأس بالبيات، وهل غزو الروم إلا البيات؟ قال: ولا نعلم أحدًا كره بيات العدو)

(2)

.

فهذا حصل إصابة ذراريهم ونسائهم بلا قصد فلا إثم في هذه الحال، وأما النهي عن قتل النساء والصبيان -كما سيأتي- فهو محمول على التعمد وقصد قتلهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(6/ 147).

(2)

"المغني"(13/ 140).

ص: 47

‌ما جاء في الاستعانة بالمشركين

1280/ 15 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لِرَجُلٍ تَبِعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: "ارجعْ فَلَنْ أستَعِينَ بِمُشرِكٍ"، رَوَاهُ مُسلِمٌ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الجهاد"، باب (كراهة الاستعانة في الغزو بكافر)(1817) من طريق مالك بن أنس، عن الفضيل بن أبي عبد الله، عن عبد الله بن نيار الأسلمي، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر، فلما كان بحرة الوَبَرَةِ

(1)

أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله:"تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا، قال:"ارجع فلن أستعين بمشرك"، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة

(1)

أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له أول مرة، قال:"ارجع فلن أستعين بمشرك"، ثم رجع فأدركه بالبيداء

(1)

فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فانطلق".

° الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يجوز الاستعانة

(1)

حرة الوبرة: محركة، وجوز بعضهم تسكين الباء، موضع عن المدينة أربعة أميال.

والشجرة: سمرة عند ذي الحليفة. والبيداء: صحراء فوق ذي الحليفة، تقدم ذكرها في "الحج". انظر:"المغانم المطابة" ص (67، 114، 199، 425).

ص: 48

بالمشرك في قتال المشركين، وهذا قول مالك وأحمد، كما استدلوا بحديث خبيب بن إساف الأنصاري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي، ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، قال:"أو أسلمتما؟ " قلنا: لا، قال:"فلا نستعين بالمشركين على المشركين"

الحديث

(1)

. ولأن المشركين لا يؤمن أن يخامروا وأن يكونوا مع أصحابهم وأن يكونوا جاءوا للأذى والخيانة.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى جواز الاستعانة بالكفار، واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فاسهم لهم

(2)

. وبما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية في حنين، وبحديث ذي مِخْبَر

(3)

رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتُنصرون، وتَغْنمون، وتَسلمُون

"

(4)

.

ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر باشتراك المسلمين مع الروم في القتال ضد العدو، ولم يذمهم على ذلك، فدل على الجواز.

وذهب الإِمام الشافعي، وأحمد في رواية عنه اختارها كثير من فقهاء الحنابلة

(5)

، إلى جواز الاستعانة بالكفار إذا كان الكافر ممن يوثق به وهو حسن الرأي ودعت الحاجة إلى الاستعانة به، كان يكون في المسلمين قلة، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز، وهيئة كبار العلماء

(6)

.

(1)

أخرجه أحمد (25/ 42 - 43)، وابن أبي شيبة (12/ 394)، والحاكم (2/ 121) وصححه، وسكت عنه الذهبي، وسنده ضعيف، إلا قوله: (فلا نستعين

) فهو صحيح لغيره، يشهد له حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه عبد الرزاق (9329)، وابن أبي شيبة (12/ 395)، وأبو داود في "المراسيل" ص (270) من طريق الزهريّ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان

ومراسيل الزهريّ ضعيفة.

(3)

يقال: بالباء ويقال: بالميم.

(4)

رواه أبو داود (4292).

(5)

"المغني"(13/ 98).

(6)

"الفتاوى"(18/ 259)(18/ 224، 239)، "مجلة البحوث"(29/ 349).

ص: 49

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيكُمْ إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيهِ} [الأنعام: 119]، كما استدلوا بالأحاديث الدالة على الجواز، وحملوها على الحاجة أو الضرورة، وحملوا أحاديث المنع على عدم ذلك، وقال الإِمام الشافعي عن حديث الباب:(لعل النبي صلى الله عليه وسلم رده رجاءَ إسلامه، وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك فيمنعه الغزو، ويأذن له)

(1)

. وقد أيَّد هذا القول ابن القيم، فقال -وهو يتحدث عن فوائد صلح الحديبية-:(الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عينه صلى الله عليه وسلم بُديلَ بن ورقاء الخزاعي كان كافرًا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم)

(2)

.

وإذا حصلت الاستعانة بهم فإنه يُرضخ لهم، ولا يُسهم لهم؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لهم

(3)

.

وإذا قيل بالجواز فيجب أن يُشترط على القوات التي استعين بها الخروج من بلاد المسلمين فور نهاية الظروف التي أدت إلى الاستعانة بهم، لئلا يكون ذلك سُلمًا لبقائهم في بلاد المسلمين، ومعلوم ما يترتب على هذا من المفاسد، والله المستعان.

(1)

"الأم"(5/ 382).

(2)

"زاد المعاد"(3/ 301). وانظر: قصة بديل بن ورقاء في "تاريخ الطبري"(2/ 625).

(3)

انظر: "جامع الترمذي"(3/ 217)، "الاعتبار" للحازمي ص (395).

ص: 50

‌النهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب

1281/ 16 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأى امْرَأةً مَقْتُولةً في بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأنكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصبْيَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في "الجهاد"، باب (قتل الصبيان في الحرب)(3014)، ومسلم (1744)(24) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي رواية للبخاري (3015)، ومسلم (25): فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم قتل النساء والصبيان؛ لأن المرأة ليست من أهل القتال، وكذا الصبي، قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في ترك قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا

)

(1)

. وإنما حكمهم أنهم يكونون أرقاء إذا حصل سبيهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع بني المصطلق، كما تقدم، بشرط ألا يكون لهم رأي في القتال أو مشاركة فيه، فإن كان أحدهم يقاتل، أو كان ذا رأي فإنه يقتل؛ لأن الرأي من أعظم المؤنة في الحرب، بل ربما كان أبلغ من القتال؛ ولأن المرأة إذا قاتلت فقد وجد منها المعنى المبيح لقتال الرجال؛ ولهذا قُتل دريد بن الصمة؛ لأنه كان له رأي ونكاية مع أنه نيف على المائة حينما أحضروه ليدبر لهم الحرب

(2)

.

(1)

"الإكمال"(3/ 48).

(2)

قصة قتله في "صحيح البخاري"(4323)، ومسلم (2498).

ص: 51

وأما كون من قاتل يقتل فلحديث رباح بن الربيع التميمي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال:"انظر علام اجتمع هؤلاء؟ " فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل

" الحديث

(1)

. قال الخطابي: (في الحديث دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت، ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها: أنها لا تقاتل؟ فإذا قاتلت دل على جواز قتلها)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أبو داود (2669)، والنسائي في "الكبرى"(8628)، وابن ماجه (2842)، وأحمد (25/ 370 - 371) وسنده حسن.

(2)

"معالم السنن"(4/ 13).

ص: 52

‌ما جاء في قتل شيوخ المشركين

1282/ 17 - عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْرِكِينَ وَاسْبْقُوا شَرْخَهُمْ"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصحّحَهُ التَّرْمِذِيُّ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (في قتل النساء)(2670)، والترمذي (1583) من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، وهذا لفظ أبي داود.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب)، والحديث في سنده عنعنة الحسن البصري في روايته عن سمُرة، وهو مدلس، فالحديث ضعيف، ولعل تصحيح الترمذي له مبني على ثبوت سماع الحسن عن سمُرة عنده، والمسألة خلافية تقدم ذكرها في "الغسل" من كتاب "الطهارة" وأشرت إليها في مواضع أخرى فيما بعد، وذكرت أن المسألة ليست مسألة سماع الحسن من سمُرة أو عدم سماعه، وإنما هي مسألة التدليس؛ لأن الحسن معروف بالتدليس، بل إنه يدلس عن الضعفاء

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (شيوخ المشركين) جمع شيخ، وهو في الأصل من استبانت فيه السنن، أو من خمسين أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره أو إلى الثمانين

(2)

.

(1)

انظر: "سير أعلام النبلاء"(4/ 588).

(2)

"القاموس"(2/ 783).

ص: 53

والمراد هنا: إما العموم، وإما الرجال الأقوياء المقاتلون ذوو الجَلَدِ والقوة على القتال، وليس المراد الهرمى الذين لا قوة لهم ولا رأي.

قوله: (واستبقوا شرخهم) بالشين المعجمة وسكون الراء بعدها خاء معجمة جمع شارخ، كركب وراكب، وصحب وصاحب، والمراد بهم: الصغار الذين لم يدركوا ولم يبلغوا الحلم

(1)

، قال البيهقي:(إذا كان المراد بالشرخ: الصغار والذرية، فالمراد بالشيوخ مقابلهم: الرجال البالغين)

(2)

، وقال القاضي عياض:(شرخهم؛ أي: صبيانهم، وشرخ كل شيء أوله، فالصبيان أول الشباب)

(3)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الرجال البالغين يُقتلون، وهذا أحد قولي الشافعية، واختيار ابن المنذر

(4)

، كما استدلوا بعموم الأدلة في قتل المشركين، وعدم مجيء ما يخرجهم من هذا العموم، وحملوا حديث الباب على العموم في كل شيخ قاتل أو لم يقاتل.

وذهب الإِمام أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنهم لا يقتلون، وهذا روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومجاهد، وهو القول الثاني في مذهب الشافعية

(5)

، واستدلوا بحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا

"

(6)

الحديث، وحملوا حديث الباب على ما تقدم من أن المراد بهم: الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال، ومعونة عليه برأي أو تدبير، جمعًا بين

(1)

"النهاية"(2/ 456).

(2)

"معرفة السنن الآثار"(13/ 254).

(3)

"الإكمال"(3/ 48).

(4)

"الإشراف"(4/ 24)، "المهذب"(2/ 299).

(5)

انظر: (الاستذكار)(14/ 72)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(10/ 70)، "شرح الزركشي على المختصر"(6/ 547).

(6)

رواه أبو داود (2614)، وابن أبي شيبة (12/ 383)، والبيهقي (9/ 90)، وابن حزم (7/ 472) من طريق الحسن بن صالح، عن خالد بن الفِزْر، حدثني أنس به. وأعله ابن حزم بجهالة خالد بن الفزر، وقال ابن معين:(ليس بذاك) وقال أبو حاتم: (شيخ) وذكره ابن حبان في "الثقات"(4/ 207). انظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 97).

و (الفزر) ضبطه الحافظ في "التقريب" بأن آخره زاي وقبلها الراء.

ص: 54

الأدلة، والظاهر أن الخلاف فيمن لم يقاتل من الشيوخ، وأما من قاتل فلا خلاف في إباحة قتله كما قال ابن عبد البر وغيره.

وأما غير البالغين فإنهم لا يقتلون، ويكون هذا الحديث موافقًا لما تقدم من النهي عن قتل الصبيان، ويحتمل أن يراد بالشرخ من كان في أول الشباب، كما تقدم عن القاضي عياض، والنهي عن قتله لرجاء إسلامه، كما روي عن الإمام أحمد: أنه قال: (الشيخ لا يكاد يسلم، والشباب أقرب إلى الإِسلام)

(1)

، ويكون الحديث مخصوصًا بمن يجوز تقريره على الكفر بالجزية. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "نيل الأوطار"(14/ 118).

ص: 55

‌ما جاء في المبارزة

1283/ 18 - عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه، أنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ. رَوَاه الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ مُطَوَّلًا.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "المغازي"، باب (قتل أبي جهل)(3965) من طريق قيس بن عُباد، عن علي رضي الله عنه أنه قال:(أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة) وقال قيس بن عباد وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر، حمزة وعلي وعبيدة -أو أبو عبيدة- بن الحارث، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.

وأخرجه أبو داود (2665) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن علي رضي الله عنه قال: تقدم -يعني: عتبة بن ربيعة- وتبعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارز؟ فانتدب له شابٌ من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة.

ورواه أحمد (2/ 259 - 261) بهذا الإسناد بأطول من هذا السياق.

والحديث إسناده صحيح، ورجال ثقات، قال الحافظ: (سماع إسرائيل

ص: 56

من أبي إسحاق في غاية الإتقان للزومه إياه؛ لأنه جده، وكان خصيصًا به)

(1)

.

لكن اختلفت الروايات في تعيين المتحاذيين مع الاتفاق على هذه الأسماء، فقد جاء في "مغازي ابن إسحاق" أن عليًّا قتل الوليد، وحمزة قتل شيبة، وأن أبا عبيدة بارز عتبة، فالله أعلم

(2)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أنهم) أي: المذكورين في سياق الحديث، وهم: علي وحمزة وعبيدة من المسلمين، وعتبة وشيبة والوليد من المشركين.

قوله: (تبارزوا) أي: برز كل قِرْنٍ إلى قرنه ليقتله، وصورة المبارزة أن يتقابل الجيشان، فيخرج منهما رجلان أو بضعة رجال قبل بدء القتال العام، فيقاتلوا، وبعد تمام قتالهم يزحف الصفان، ويبدأ القتال في عامة نقاط الجيش.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز المبارزة، وأن للإمام أن يأذن لبعض جنده بمبارزة أقرانهم من المشركين، ومن أمره الإِمام بالمبارزة فليس له أن يتأخر عنها، والقول بجوازها مذهب الجمهور من أهل العلم، بل حُكي الإجماع، قال ابن قدامة:(لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ولم ينكره منكر، فكان ذلك إجماعًا)

(3)

. وهل يشترط إذن القائد للمعركة؟ قولان:

فذهب الأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد وابن قدامة إلى اشتراط إذن القائد

(4)

، لحديث الباب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للمذكورين؟ ولأن القائد أعلم بفرسانه وفرسان العدو.

وذهب مالك والشافعي وابن المنذر إلى أنه لا يشترط

(5)

، واستدلوا

(1)

انظر: "فتح الباري"(1/ 351).

(2)

انظر: "فتح الباري"(7/ 297).

(3)

"المغني"(13/ 38، 39).

(4)

"المغني"(13/ 38)، "فتح الباري"(7/ 298).

(5)

"الإقناع" لابن المنذر (2/ 459)، "المغني"(13/ 39).

ص: 57

بحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: بارزت رجلًا يوم حنين فقتلته

(1)

. وليس فيه ما يدل على أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول الأول أظهر؛ لقوة مأخذه؛ ولأن الخروج إلى الجهاد موكول إلى إذن الإِمام، فكذا توابعه وفروعه؛ ولأن الإنسان إذا برز إلى من لا يطيقه عرض نفسه للهلاك وكسر قلوب المسلمين؛ لتعلق قلوب الجيش به، أما ما ورد من الأدلة في هذا الباب فقد يدّعي كل فريق على الآخر أن دليله قضية عين لا عموم لها

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه عبد الرزاق (5/ 236) وأصله في "صحيح البخاري"(3142)، و"مسلم"(1751).

(2)

"المغني"(13/ 39)، "الجهاد أنواعه وأحكامه" ص (245).

ص: 58

‌ما جاء في حمل المؤمن الشجاع على العدو

1284/ 19 - عَنْ أَبي أيوبَ رضي الله عنه قَال: إِنما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، يَعْني:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، قَالهُ رَدًّا عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتى دَخَلَ فِيهِمْ. رَوَاهُ الثلَاثةُ، وَصحَحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حبانَ والحاكمُ.

° الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ في قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والترمذي (2972)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 27)، وابن حبان (9/ 11 - 10)، والحاكم (2/ 275) من طريق حيوة بن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القُسطنطينية

(1)

، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل، فقال الناس: مَهْ، مَهْ، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر الإِسلام، قلنا: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.

هذا لفظ أبي داود، قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح غريب)،

(1)

هي اصطنبول في البلاد التركية. انظر: "مراصد الاطلاع"(3/ 1092).

ص: 59

وصححه ابن حبان، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي، وأسلم بن يزيد أبو عمران التجيبي لم يخرج له الشيخان شيئًا، وهو ثقة.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا بأس أن يحمل المؤمن الشجاع القوي على العدو لمقاصد حسنة من تشجيع المسلمين وإرهاب المشركين؛ ليحدث فيهم رجة نفسية واضطرابًا، أو ثغرة ينفذ منها المسلمون إلى قلب العدو، وهذا يسمى الانغماس في العدو، وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أنواعه، ثم قال:(فهذا كله جائز عنذ عامة علماء الإِسلام من أصل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ)

(1)

. وهذا ضرب من الحماسة والشجاعة المندفعة التي يكتب الله بها للمتحمس الشهادة إذا ما قُتل، إذا خلصت نيته واستقام القصد، ومثل هذا لا يوسف بأنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، بناءً على ما قاله أبو أيوب رضي الله عنه؛ فإنه بين أن المراد بالإلقاء إلى التهلكة هو الإقامة في المال والأهل وترك الجهاد، وليس منه حمل الرجل الشجاع على العدو، فهذا ليس من التهلكة، وهو مروي عن ابن عباس وعمر وغيرهما رضي الله عنهما، فقد روى ابن جرير بسند صحيح عن مدرك بن عوف قال: إني لَعِنْدَ عمر فقلت: إني لي جارًا رمى بنفسه في الحرب، فقتل، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا، لكنه اشترى الآخرة بالدنيا

(2)

.

وروى -أيضًا- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله

(3)

.

وقد روى هذا ابن جرير بسنده عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه

(4)

،

(1)

"جامع المسائل"(5/ 311 - 312).

(2)

"تفسير الطبري"(4/ 249)، "فتح الباري"(8/ 185).

(3)

"تفسير الطبري"(3/ 584).

(4)

"تفسير ابن جرير"(3/ 588) قال الحافظ: "سنده صحيح"، "فتح الباري"(8/ 185).

ص: 60

قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينًا فساد الاستدلال بالآية على أن المراد حمل الرجل الشجاع على العدو (تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون على من يتاول الآية على ذلك .. ثم ذكر ما تقدم عن عمر وأبي أيوب رضي الله عنهما)

(1)

.

وهذا قول الجمهور، قال ابن كثير:(والأحاديث والآثار في هذا كثيرة، تدل على جواز المبارزة لمن عرف من نفسه بلاءً في الحرب وشدة وسطوة)

(2)

. أما إن كان إقدامه مجرد تهور فهذا ممنوع، ولا سيما إذا ترتب على ذلك وهن المسلمين وضعفهم

(3)

.

* الوجه الثالث: اختلف العلماء في تفسير هذه الآية: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أقوال كثيرة:

فالقول الأول: أن معناها: لا تتركوا النفقة في سبيل الله تعالى، بدلالة السياق:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وهذا قول حذيفة وابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وقتادة وآخرين، فقد روى البخاري بسنده عن سليمان قال: سمعت أبا وائل، عن حذيفة:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة

(4)

. والمراد: ترك النفقة في سبيل الله.

والقول الثاني: أن معناها لا تتركوا الجهاد في سبيل الله، وذلك بأن تقيموا في أموالكم وأهليكم، وتدعوا الجهاد، وهذا تفسير أبي أيوب رضي الله عنه، كما تقدم، وقد نصر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول في رسالة مستقلة.

وقد رجح الحافظ المعنى الأول لتصدير الآية بذكر النفقة، قال:(فهو المعتمد في نزولها)

(5)

.

وذهب آخرون، ومنهم الشوكاني إلى أن ما ورد في حديث أبي أيوب هو فرد من أفراد ما تصدق عليه الآية؛ لأنها تتضمن النهي عن كل ما يصدق عليه

(1)

"جامع المسائل"(5/ 324).

(2)

"إرشاد الفقيه"(2/ 311).

(3)

"فتح الباري"(8/ 185 - 186).

(4)

"صحيح البخاري"(4516).

(5)

"فتح الباري"(8/ 185).

ص: 61

أنه من باب الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا إنما يتم على رأي من يقول يحمل المشترك على جميع معانيه، وهي مسألة خلافية

(1)

.

والذي يظهر -والله أعلم- أن سبب نزول الآية هو ما ذكره أبو أيوب رضي الله عنه من كونهم همُّوا بالإقامة على الأموال وإصلاحها، وترك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا أيوب قال: (إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار

) فأخبر بسبب نزول الآية، ولم يتكلم فيها برأيه، وهذا من ثابت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حجة يجب اتباعها

(2)

، ولأنه بعد نزولها لم يزل أبو أيوب رضي الله عنه شاخصًا يجاهد في سبيل الله حتى قُبض، ولو لم يفهم هذا من معنى الآية لم يبق في تلك البقاع حتى الموت

(3)

، ثم إن الله تعالى قال في أول الآية:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وفي آخرها قال:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فدلَّ ذلك على ما رواه أبو أيوب رضي الله عنه من أن إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"نيل الأوطار"(7/ 240).

(2)

انظر: "جامع المسائل"(5/ 327).

(3)

انظر: "المحرر في أسباب نزول القرآن"(1/ 246).

(4)

انظر: "مجموع الرسائل"(5/ 326).

ص: 62

‌حكم التحريق في بلاد العدو

1285/ 20 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "المغازي"، باب (حديث بني النضير)(4031)، ومسلم (1746) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وذكر الحديث، وتمامه: وفي البُويرة، فنزلت:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أمر أصحابه، وهذا من المجاز العقلي الذي علاقته السببية.

قوله: (بني النضير) هم قبيلة كبيرة من قبائل اليهود، كانوا في البويرة، تصغير بئر، وهي تقع في الجنوب من مسجد قباء، وهي التي قال فيها حسان:

وَهَانَ على سَراةِ بَني لُؤَيٍّ

حَرِيقٌ بالبُويرةِ مستطيرُ

(1)

وكانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر على ما حكاه البخاري عن الزهري، عن عروة

(2)

.

(1)

"ديوان حسان بن ثابت" ص (118).

(2)

انظر: "معجم ما استعجم"(1/ 285)، "فتح الباري"(7/ 329).

ص: 63

قوله: (وقطع) أي: وأمر أصحابه بقطع الأشجار، ولعلها الأشجار التي يصعب تحريقها لشدة خضرتها وكثرة الماء في عروقها.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز قطع النخل والأشجار وتحريقها في الحرب إذا كان في قطعها مصلحة من إضعاف اقتصاديات العدو أو كونه يتقي بها أو نحو ذلك من المقاصد. وقد روى ابن جرير عن جماعة من السلف أن بني النضير بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} والمعنى: أن ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته ورضاه، وفيه نكاية للعدو، وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم

(1)

.

واللِّينةُ: صنف من النخل، قيل: إنها غير العجوة والبرني، ونقل الفراء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(كل شيء من النخل سوى العجوة هو اللين)

(2)

.

وقد ذكر ابن قدامة أن الشجر والزرع في بلاد العدو ثلاثة أقسام

(3)

:

1 -

قسم تدعو الحاجة إلى إتلافه، كالذي يمنع من قتالهم أو يكون في الطريق إليهم أو يكونون هم يفعلون ذلك بنا، قال:(فهذا يجوز قطعه بغير خلاف نعلمه).

2 -

قسم يتضرر المسلمون بقطعه؛ لكونهم ينتفعون ببقائه أكلًا أو ظلًا أو علفًا لدوابهم، فهذا يحرم قطعه.

3 -

ما عداهما مما لا ضرر فيه على المسلمين ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم ففيه قولان:

(1)

"تفسير الطبري"(28/ 34)، "تفسير ابن كثير"(8/ 146).

(2)

انظر: "معاني القرآن" للفراء (3/ 144)، "فتح الباري"(7/ 333).

(3)

"المغني"(13/ 146).

ص: 64

الأول: الجواز لحديث الباب، وهو رواية عن أحمد، وقول لمالك والشافعي وجماعة.

والقول الثاني: عدم الجواز لنهي أبي بكر رضي الله عنه كما رواه مالك

(1)

، وهذا قول الأوزاعي والليث وأبي ثور

(2)

، والأول أرجح؛ لقوة مأخذه، وأما نهي أبي بكر رضي الله عنه فهو قول صحابي لا يعارض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله الطبري وآخرون على عدم المصلحة في قطعها، أو على الإرادة والقصد، بخلاف ما أصابوه حال القتال

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الموطأ"(2/ 447).

(2)

"المغني"(13/ 146).

(3)

"نيل الأوطار"(7/ 285).

ص: 65

‌تحريم الغلول

1286/ 21 - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغُلُّوا فَإنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (37/ 391)، والنسائي في كتاب "قسم الفيء"(7/ 131)، والترمذي (1564)، وابن ماجه (2852)، وابن حبان (11/ 193 - 194) كلهم من طريق عبد الرحمن بن الحارث بن عياش، عن سليمان بن موسى، عن مكحول الدمشقي، عن أبي سلَّام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث.

بعضهم يذكره مطولًا وبعضهم يذكره مختصرًا.

وهذا الحديث حسنه الترمذي، وفيه عبد الرحمن بن الحارث، قال عنه ابن معين:(صالح)، وقال أبو حاتم:(شيخ)، وقال أحمد:(متروك)، وضعفه ابن المديني

(1)

، وقال الحافظ:(صدوق له أوهام)، وسليمان بن موسى وهو الأشدق، قال عنه البخاري:(عنده مناكير)، وقال أبو حاتم:(محله الصدق، في حديثه بعض الاضطراب .. )، وقال النسائي:(ليس بالقوي في الحديث) وقال ابن عدي: (هو فقيه راوٍ حدث عنه الثقات من الناس، وهو أحد علماء الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، وهو عندي ثبت

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 141 - 142).

ص: 66

صدوق)

(1)

. وقال الحافظ: (صدوق فقيه في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل).

والحديث رواه أحمد (37/ 371 - 372) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلَّام الأعرج، عن المقدام بن معديكرب الكندي أنه جلس مع عبادة بن الصامت

وذكر الحديث وفيه قصة، وفيه لفظ "البلوغ".

وسنده ضعيف، لضعف أبي بكر بن عبد الله، وتسمية الراوي عن عبادة بالمقدام بن معديكرب وهو الصحابي المعروف خطأ، والصواب أنه مقدام الرُّهاوي، فهو الذي يروي عن عبادة، كما في "تاريخ البخاري"

(2)

و"الجرح والتعديل"

(3)

ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا.

وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو حديث طويل، وفيه:"فردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة عارًا ونارًا وشنارًا".

رواه النسائي (6/ 262)، وأحمد (11/ 339 - 341) وسنده حسن، وفيه ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث عند أحمد (11/ 612) وغيره.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا تغلوا) بضم الغين مضارع غل يَغُلُّ من باب قعد؛ أي: خان في المغنم وغيره

(4)

. سمي بذلك؛ لأن صاحبه يغسله في متاعه؛ أي: يخفيه.

قوله: (فإن الغلول ثار

) جملة تعليلية لقصد التحذير وبيان عاقبة الغال، ومعنى (نار) أي: سبب لعذاب النار يوم القيامة.

قوله: (وعار) أي: خزي وفضيحة على صاحبه أمام المجاهدين وقائدهم، وقد يكون منه ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، قال: "لا أُلفين أحدكم يوم القيامة

(1)

"الكامل"(3/ 270)، "تهذيب التهذيب"(4/ 197 - 198).

(2)

"التاريخ الكبير"(7/ 429)

(3)

(8/ 302).

(4)

"المصباح المنير" ص (452).

ص: 67

على رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك

" الحديث

(1)

. فهذا فيه دليل على أن الغال يأتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بهذه الصفة الشنيعة. وأما (الشنار) في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فهو: العيب والعار، وقيل: العيب الذي فيه عار

(2)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الغلول وأنه من كبائر الذنوب، وهذا بالإجماع كما نقله النووي

(3)

، والحديث له ما يؤيده من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال:"إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا خرزًا من خرز يهود، لا تساوي درهمين

(4)

.

* الوجه الرابع: نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الغال من الغنيمة إذا تاب قبل القسمة فإنه يعيد ما غله

(5)

، وأما إذا تاب بعد القسمة ففيه قولان:

الأول: أنه يدفع خمسه إلى الإِمام ويتصدق بالباقي، وهذا قول الحسن والزهري ومالك والأوزاعي والثوري والليث، ونصره ابن قدامة

(6)

؛ لأن في التصدق به نفعًا لمن يصل إليه من المساكين، وما يحصل من أجر يصل إلى صاحبه، فيذهب به الإثم عن الغال.

والقول الثاني: أنه لا يتصدق به، وهذا قول الشافعي، فإنه قال: إن كان مَلَكَهُ فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال

(1)

رواه البخاري (3073)، ومسلم (1831). والحمحمة: بمهملتين بينهما ميم ساكنة ثم ميم قبل الهاء، هو صوت الفرس عند العلف "فتح الباري"(6/ 186).

(2)

"النهاية"(2/ 504).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(12/ 459).

(4)

رواه أبو داود (2710).

(5)

"المغني"(13/ 171).

(6)

"المغني"(13/ 171 - 172).

ص: 68

غيره، قال: والواجب أن يدفعه إلى الإِمام كالأموال الضائعة

(1)

.

* الوجه الخامس: يلحق بالغلول من الغنيمة الغلول من بيت المال أو من الزكوات أو من أموال الدولة، فكل من أخذ منها شيئًا بطريق غير مشروع فهو غال، ويؤيد ذلك أمران:

الأول: أن علماء اللغة عمموا الغلول في المغنم وغيره كما تقدم.

الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم فإنه كان في خطاب العاملين على الصدقات، مما يدل على أن الغلول عام في كل شيء فيه حق للعباد، وهو مشترك بين الغال وغيره. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(6/ 186).

ص: 69

‌استحقاق القاتل سلب المقتول

1287/ 22 - عَن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

1288/ 23 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه في -قِصَّةِ قَتْلِ أَبي جَهْلٍ- قَال: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيفَيهِما حَتى قَتَلَاهُ، ثُمّ انْصَرَفَا إلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَال:"أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيفَيكُمَا؟ " قَالا: لَا، قَال: فَنَظَرَ فِيهِمَا فَقَال: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأولى: في تخريجهما:

أما حديث عوف بن مالك فقد رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، باب (في الإِمام يمنع القاتل السلب إن رأى)(2719) من طريق صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مدديٌّ من أهل اليمن ليس معه إلَّا سيفه

وذكر حديثًا طويلًا، وفيه: فلما فتح الله عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخد من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى

وذكر تمام الحديث.

ورواه أبو داود (2721) -أيضًا- بهذا الإسناد عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد، وزاد:(ولم يخمس السلب)، قال ابن عبد الهادي: (إسناده

ص: 70

صحيح) وقال ابن الملقن: (إسناده جيد)

(1)

.

وكان الأولى بالحافظ أن يذكر هذه الزيادة كما فعل ابن دقيق العيد في "الإلمام" وابن عبد الهادي في "المحرر"؛ لفائدتها، كما سيأتي.

ورواه مسلم (1753)(44) من طريق صفوان بن عمرو به مختصرًا.

وأما حديث عبد الرحمن بن عوف فقد رواه البخاري في كتاب "فرض الخمس"، باب (من لم يخمِّس الأسلاب)(3141)، ومسلم (1752) من طريق يوسف بن الماجشُون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أَضْلَعَ

(2)

منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عَمِّ هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده ليِّن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته

الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (بالسَّلَبِ) بالتحريك، ثياب المقتول وسلاحه ومركوبه من دابة وسيارة ودبابة وطائرة ونحو ذلك.

(1)

"المحرر" ص (286)، "الإعلام"(10/ 313).

(2)

بفتح الهمزة وسكون الضاد وفتح اللام على وزن (أفعل) من الضلاعة وهي القوة، قال في "النهاية" (3/ 97):(معناه بين رجلين أقوى من اللذين كنت بينهما وأشد) أو بفتح أوله وسكون المعجمة وضم اللام جمع ضلع. انظر: "إكمال المعلم"(6/ 65)، "فتح الباري"(6/ 248).

ص: 71

قوله: (أبي جهل) هذه كنيته، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أحد سادات قريش وأبطالها في الجاهلية، يعد من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له: أبو الحكم، فدعاه المسلمون أبا جهل، استمر على عناده وشركه وإيذاء المسلمين حتى كانت وقعة بدر فشهدها مع المشركين فكان من قتلاها

(1)

.

قوله: (فابتدراه) أي: تسابقا إلى أبي جهل بسيفيهما، والضمير يعود على الغلامين من الأنصار المتقدم ذكرهما في قصة قتل أبي جهل وهما: معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وقد جاء هذا صريحًا عند البخاري ومسلم بعد سياق الحديث، فإن مسلمًا قال: والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وورد في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فقال: أأنت أبو جهل؟ قال: فأخذ بلحيته، قال: وهل فوق رجل قتلتموه؟ أو رجل قتله قومه

(2)

.

وهذا يفيد أن الذي قتله معاذ ومعوِّذ ابنا عفراء، قال النووي: يحتمل أن الثلاثة اشتركوا في قتله، وكان الإثخان من معاذ بن الجموح، ثم جاء ابن مسعود بعد ذلك وفيه رمق فحزَّ رقبته

(3)

.

قوله: (لمعاذ بن عمرو بن الجموح) بفتح الجيم، صحابي جليل شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وشهد بدرًا، ولما ضرب أبا جهل بسيفه ضربة صارمة أطنت قدمه جاء عكرمة بن أبي جهل وضرب معاذًا على عاتقه، فطرح يده وبقيت معلقة بجلدة بجنبه، قال: وأجهضني عنها القتال، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها. حتى طرحتها. عاش رضي الله عنه إلى أواخر خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: إلى خلافة

(1)

"السيرة الحلبية"(2/ 418)، "الأعلام" للزركلي (5/ 262).

(2)

رواه البخاري (3962)، ومسلم (1800).

(3)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(12/ 308).

ص: 72

عثمان رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن سلب المقتول يكون لقاتله، سواء قاله قائد الجيش قبل القتال أو بعده، وهو قول الجمهور، وهذا من باب التشجيع على قتال الأعداء، وقد ذكر الفقهاء شروطًا لاستحقاق القاتل سلب المقتول، وهي أن يكون قَتَلَهُ حال الحرب، وأن يكون القاتل منهمكًا على القتال ومقبلًا عليه، وأن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم، وأن يكون فيه منعة وقوة

(2)

.

* الوجه الرابع: استدل بعض العلماء كأصحاب مالك وآخرين

(3)

، بحديث عبد الرحمن بن عوف على أن للإمام أن يعطي السلب لمن شاء وأنه مفوض إلى رأيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ابني عفراء قتلا أبا جهل، ثم جعل سلبه لغيرهما.

وهذا الاستدل فيه نظر، والصواب أن السلب للقاتل، كما هو صريح الأدلة في هذا الباب، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى السلب لمعاذ بن عمرو؛ لأنه رأى أثر ضربته بسيفه هي المؤثرة في قتله لعمقها فأعطاه السلب، وطيب قلوبهما بقوله:(كلاكما قتله) وإلا فالجناية القاتلة ضربة معاذ بن عمرو، ونسبة القتل إليهما مجازًا؛ أي: كلاكما أراد قتله، وقرينة المجاز إعطاء سلب المقتول لأحدهما، وقد يقال: هذا محل النزاع.

* الوجه الخامس: اختلف العلماء في تخميس السلب؛ بمعنى هل يقسم خمسة أقسام كالغنيمة أو أنه يدفع كله للقاتل؟ فيه ثلاثة أقوال:

الأول: أن السلب لا يخمس مطلقًا، وهو قول أحمد، وابن المنذر، وابن جرير، وهو الأصح عند الشافعية

(4)

، واستدلوا بعموم الأدلة في هذا

(1)

"الاستيعاب"(10/ 120)، "السير"(1/ 249)، "الإصابة"(9/ 224)، "السيرة" لابن هشام (2/ 287).

(2)

"المغني"(13/ 66).

(3)

"شرح النووي"(12/ 308)، "فتح الباري"(6/ 248).

(4)

"الاستذكار"(14/ 140)، "المهذب"(2/ 305)، "المغني"(13/ 69).

ص: 73

الباب، ومنها حديث أبي قتادة:(من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه) فَمَلَّكَهُ إياه ولم يستثن منه شيئًا، ولفظة:(ولم يخمس السلب) نص صريح في نفي تخميسه؛ ولأنه لو اعتبر من خمس الخمس لاحتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك، وعلى هذا القول تكون آية:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] مخصصة بهذه الأحاديث.

القول الثاني: أن السلب يخمس مطلقًا، وهذا قول مكحول، ومالك، والأوزاعي، وهو قول ضعيف للشافعي

(1)

، واستدلوا بعموم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ

}.

والقول الثالث: التفصيل، وهو إن استكثره الإِمام خَمَّسَهُ وإلا فلا، وهذا قول إسحاق

(2)

، ودليله فعل عمر رضي الله عنه مع البراء بن مالك حين بارز المرْزُبانَ فقتله فأخذ سلبه، فبلغ ثلاثين ألفًا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالًا كثيرًا، ولا أرانا إلا خامسيه

(3)

، ومؤدى هذا القول أن تخميس السلب مرجعه إلى الإِمام، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار"(14/ 140)، "المغني"(13/ 69).

(2)

المصدران السابقان.

(3)

رواه عبد الرزاق (5/ 233)، وأبو عبيد (310)، والبيهقي (6/ 310). وانظر:"المغني"(13/ 38).

ص: 74

‌حكم القتل بما يعم

1289/ 24 - عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيلِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1290/ 25 - وَوَصَلَهُ العُقَيليّ بإسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو فقيه الشام أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الدمشقي، روى عن أنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع وغيرهما، وروى عنه خلق كثير، منهم الزهري وربيعة الرأي وعطاء الخرساني، وكان من سبي كابل -من ثغور خراسان- وصار مولى لامرأة من قيس، وكان سِنْديًّا لا يفصح، وعتق بمصر، قال في "التقريب":(ثقة فقيه كثير الإرسال مشهور)، مات سنة بضع عشرة ومائة

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث مكحول فقد رواه أبو داود في "المراسيل"(321)، والبيهقي (9/ 84) من طريق يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن ثور، عن مكحول مرسلًا.

ورجاله ثقات، أخرج لهما الشيخان، غير ثور وهو ابن يزيد الكلاعي، فقد أخرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم شيئًا.

(1)

انظر: "تهذيب الكمال"(28/ 464)، "سير أعلام النبلاء"(5/ 155).

ص: 75

وروى أبو داود -أيضًا- (322) ومن طريقه البيهقي (9/ 84) عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا. فقلت ليحيى: أفبلغك أنه رماهم بالمجانيق؟ فأنكر ذلك، وقال: ما نعرف هذا. وفي هذا المرسل نَفْيُ ما أثبته مكحول في المرسل قبله.

وأما الموصول من حديث علي رضي الله عنه فقد رواه العقيلي في "الضعفاء"(2/ 244) من طريق عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب أبي صادق، عن علي رضي الله عنه قال: نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف.

وهذا سند ضعيف جدًّا؛ لأن عبد الله بن خراش تكلم فيه الأئمة، فقال البخاري:(منكر الحديث)، وقال أبو حاتم:(منكر الحديث ضعيف الحديث).

وقد ذكر العقيلي هذا الحديث في ترجمته مع أحاديث أخرى ثم قال: (كلها غير محفوظة، ولا يتابعه عليها إلا من هو دونه أو مثله)

(1)

.

وحصار الطائف ثابت في "الصحيحين" وليس فيه ذكر الرمي بالمنجنيق.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (نصب المنجنيق) هو بفتح الميم والجيم وسكون النون الأولى، لفظ أعجمي عَرَّبه العرب، وهو آلة من آلات الحرب تقذف بها الحجارة إلى مسافة بعيدة.

قوله: (على أهل الطائف) أي: في حصار أهل الطائف، وذلك في شوال سنة ثمان، كما ذكر البخاري، وهذا قول جمهور أهل المغازي

(2)

.

والطائف مدينة معروفة، وحصار الطائف كان بعد هزيمة حنين وأوطاس؛ لأن ثقيفًا لجأت إلى حصونها بالطائف واعتصمت بها، فحاصرهم المسلمون خمس عشرة ليلة -على أحد الأقوال- ولم يتمكنوا من اقتحامها

(1)

"الضعفاء"(2/ 243)، "تهذيب "التهذيب" (5/ 173).

(2)

انظر: "فتح الباري"(8/ 43).

ص: 76

فانصرفوا عنها، وقصتهم في "الصحيحين"

(1)

.

* الوجه الرابع: يستدل الفقهاء بما تقدم على أنه يجوز رمي الكفار بما يَعُمُّ إتلاف ذريتهم ونسائهم معهم؛ لأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ ولأن القتال به معتاد، فأشبه الرمي بالسهام، وهذا قول أحمد والشافعي وأصحاب الرأي والثوري والأوزاعي وابن المنذر

(2)

.

ويقاس عليه ما ظهر في هذا العصر مما هو أبلغ منه في القتل والإبادة والإتلاف من المدافع والطائرات ونحو ذلك، جعلها الله تعالى بأيدي المسلمين، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(4325)، "صحيح مسلم"(1778).

(2)

"المغني"(13/ 140).

ص: 77

‌ما جاء في قتل الأسير بدون عرض الإِسلام عليه

(1)

1291/ 26 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَال:"اقْتُلُوهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجهاد"، باب (قتل الأسير وقتل الصَّبْر)(3044)، ومسلم (1357) من طريق مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر

الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (وعلى رأسه المغفر) جملة حالية، الغرض منها بيان أنه ليس بِمُحْرِمٍ حين دخوله.

والمغفر: بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء زيادة في الدرع ليغطي الرأس كالقلنسوة، أو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة.

قوله: (جاءه رجل) مختلف في اسمه على أقوال ذكرها ابن الملقن، وجزم عدد من الشراح بأنه أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه

(2)

.

(1)

حديث الباب موضعه كتاب الحج، وقد ذكره البخاري في "الجهاد" وبوب عليه كما سيأتي، وما ذكرته هو تبويب أبي داود، ولعل وجه ذلك أن ابن خطل لما كان مقدورًا عليه صار كالأسير في يد الإمام وهو غير فيه بين القتل وغيره، كما سيأتي.

(2)

"الأعلام"(6/ 160)، "فتح الباري"(4/ 61).

ص: 78

قوله: (ابن خَطَلٍ) بالتحريك، واسمه عبد العزى، كما جزم بذلك ابن دقيق العيد وغيره

(1)

، وقيل غير ذلك، واسم خطل: عبد مناف من بني تميم، وخطل لقب له؛ لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر. أسلم ابن خطل، وتَسَمَّى عبد الله، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فقتل مولى كان معه يخدمه، ثم ارتد مشركًا، واتخذ قينتين تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قال:"من دخل المسجد فهو آمن"، فانتهز ابن خطل هذه الفرصة ودخل المسجد، وتعلق بأستار الكعبة ليستجير بها، ولكن ذلك لم ينفعه؛ لشدة أذيته وطغيانه

(2)

.

قوله: (بأستار الكعبة) جمع ستر، وهو الثوب الذي تغطى به الكعبة، وقد ذكر المؤرخون أنها كانت تكسى من عهد إسماعيل فهو أول من كساها، وكانت كسوتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من القباطي والحِبَرات، وأول من جعلها من الديباج معاوية على خلاف في ذلك كله، وكانت تكسى في الجاهلية وصدر الإِسلام يوم عاشوراء، ثم صارت تُكسى في أوقات أخرى

(3)

.

قوله: (فقال: اقتلوه) روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة

(4)

.

والمشهور أن سبب قتله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مصدقًا وبعث معه رجلًا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه فأمر مولاه بصنع الطعام، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه وقتله ثم ارتد، وكان له جاريتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

"أحكام الأحكام"(3/ 522).

(2)

"الأعلام"(6/ 155).

(3)

انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 249)، "فتح الباري"(3/ 458).

(4)

"المصنف"(14/ 492)، وفيه:(أبي عثمان) بدون نسبة، وفي "الفتح": أبي عثمان النهدي قال الحافظ: وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند الإمام ابن المبارك في "البر والصلة" من حديث أبي برزة نفسه. ورواه الإمام أحمد من وجه آخر (33/ 36، 40 - 41). انظر: "فتح الباري"(4/ 61).

ص: 79

قال الحافظ: وهو أصح ما ورد في تفسير قتله

(1)

، وقد جزم بذلك أبو داود في "سننه"

(2)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز دخول مكة بدون إحرام إذا كان الداخل غير مريدِ الحَجَّ ولا العمرة، وقد حكى ابن قدامة الإجماع على أن من جاوز الميقات وهو لا يريد دخول الحرم فإنه لا يلزمه الإحرام

(3)

، كما أنه لا خلاف في أن مريد النسك يجب عليه الإحرام، وإنما الخلاف فيمن يريد دخول مكة لحاجة كتجارة أو زيارة، أو مكي قدم من سفره ونحو ذلك، والراجح أنه لا يلزمه الإحرام، وقد مضى بحث هذه المسألة في كتاب "الحج"

(4)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على جواز لبس المغفر ونحوه من السلاح حال الخوف من العدو وإرهابًا لهم، وهو من باب الأخذ بأسباب الوقاية وأنه لا ينافي التوكل على الله تعالى.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز رفع أخبار المجرمين إلى ولاة الأمور لينفذوا فيهم حكم الله، وأن هذا ليس من الغيبة أو النميمة؛ لما يترتب عليه من المصالح العظيمة

(5)

.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن من جاز قتله في الحرم لكونه تعاطى سبب القتل فإن تعلقه بأستار الكعبة لا يمنعه من ذلك.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على عظم الكعبة وحرمتها في النفوس؛ لكون ابن خطل تعلق بأستارها مستجيرًا بها مع أنه كان كافرًا. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(4/ 61).

(2)

(3/ 60).

(3)

"المغني"(5/ 70).

(4)

انظر: (5/ 196) من هذا الكتاب.

(5)

انظر: "الإعلام"(6/ 165)، "تنبيه الأفهام"(3/ 142).

ص: 80

‌ما جاء في القتل صبرًا

1292/ 27 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ رحمه الله أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثةً صَبْرًا. أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ في الْمَرَاسِيلِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأولى: في ترجمة الراوي:

وهو الإِمام المقرئ الفقيه أحد الأعلام الأثبات الثقات أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي، روى عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعبد الله بن مغفل وأنس وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه خلق كثير، منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني والأعمش. روي عن حبيب بن ثابت أنه قال: قال لي سعيد بن جبير: (لأن أنشر علمي أحب إليّ من أن أذهب به إلى قبري)، قتله الحجاج بن يوسف سنة خمس وتسعين رحمه الله

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الأثر رواه أبو داود في "المراسيل"(323) من طريق هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة وهي من قريش صبرًا: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط

قال أبو داود: قال شعبة: طعمة بن عدي مكان المطعم، وصوابه: طعيمة.

ورجاله ثقات، وإسناده صحيح إلى مرسله.

(1)

"تهذيب الكمال"(10/ 358)، "سير أعلام النبلاء"(4/ 321).

ص: 81

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (قتل يوم بدر) أي: بعد نهاية المعركة وأخذ الأسارى.

قوله: (ثلاثة) أي: من الأسارى، تقدم ذكرهم.

قوله: (صبرًا) الصبر في الأصل معناه: الحبس، والقتل صبرًا: أن يحبس المقتول ويوثق ثم يرمى حتى يموت.

* الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال بجواز قتل الصبر، وقد روى الإِمام مسلم بسنده عن عبد الله بن مطيع، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: "لا يقتل قرشي صبرًا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة"

(1)

، وذكر القاضي عياض أن هذا إعلام من النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم سيسلمون كلهم كما كان، وأنهم لا يرتدون كما ارتد غيرهم ممن حورب وقتل صبرا، ولم يرد أنهم لا يقتلون ظلمًا صبرًا وغير صبر، فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح مسلم"(1782).

(2)

"الإكمال"(6/ 147)، راجع:"شرح النووي على صحيح مسلم"(12/ 376).

ص: 82

‌جواز فداء الأسير المسلم بالأسير الكافر

1293/ 28 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنَ المُشْرِكينَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحّحَهُ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، باب (ما جاء في قتل الأسارى والفداء)(1568)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 47)، من طريق سفيان بن عيينة، وأحمد (33/ 61، 95، 113، 124) من طريق إسماعيل بن علية، وحماد بن زيد، وسفيان، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:

فذكره.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، وعَمُّ أبي قلابة: هو أبو المهلب، واسمه: عبد الرحمن بن عمرو، ويقال: معاوية بن عمرو

).

والحديث أصله عند مسلم (1641) من طريق إسماعيل وحماد وعبد الوهاب الثقفي ثلاثتهم عن أيوب، بهذا الإسناد عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني عقيل .. وذكر الحديث، وفيه: ففُدي بالرجلين

وذكر تمامه.

ولعل الحافظ عدل إلى لفظ الترمذي لأنه أخصر أو لأنه أصرح.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه يجوز فداء الأسير المسلم

ص: 83

بأسير أو أكثر من المشركين، وهذا يدل على عناية الإِسلام بالأسارى وحرصه على تخليصهم.

وقد ذكر الفقهاء أن المسلمين إذا أسروا أحدًا من أهل الحرب فإن الإِمام يخير فيهم بين أربعة أمور تخيير مصلحة واجتهاد في الأصلح لا تخيير شهوة: إما القتل، وإما استرقاقهم، وإما المنُّ عليهم بدون شيء، وإما الفداء بمال أو مسلم بأن يُطلق الأسير الكافر مقابل إطلاق رجل مسلم مأسور عند الكفار، كما في حديث عمران هذا، ولقوله تعالى:{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وقال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر:"لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم سألني هؤلاء النَّتْنَى لأطلقتهم له"

(1)

. وقد مَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ثُمامة بن أُثَال

(2)

، ومَنَّ على أبي العاص بن الرَّبيع

(3)

.

وأما القتل: فلأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة، كما حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه

(4)

، وأما الرِّق، فلأنه يجوز إقرارهم بالجزية، فبالرق أولى؛ لأنه أبلغ في صَغَارِهِم، وقد تقدم استرقاق ذراري بني المصطلق.

وما تقدم من كون الإِمام مخيرًا هو الراجح في هذه المسألة، قال ابن قدامة: (لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى، فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين وبقاؤه ضرر عليهم، فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي

(1)

رواه البخاري (3139)، وسيأتي شرحه بعد حديث واحد -إن شاء الله-.

(2)

رواه البخاري (4372)، ومسلم (1764) وتقدمت قصته في باب "الغسل" من كتاب "الطهارة". وانظر:"زاد المعاد"(5/ 65).

(3)

أخرجه أبو داود (2692)، وأحمد (43/ 381) من طريق محمَّد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة رضي الله عنهما، وهذا سند حسن من أجل ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث، وأما قول الحاكم (3/ 23):(هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه) فوهم منه؛ فإن مسلمًا لم يحتج بمحمد بن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات.

(4)

رواه البخاري (3043).

ص: 84

في المسلمين، فالمنُّ عليه أصلح، ومنهم من يُنتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان، والإمام أعلم بالمصلحة، فينبغي أن يُفوض ذلك إليه)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(13/ 46).

ص: 85

‌ما جاء في أن الحربي إذا أسلم قبل القدرة عليه فقد أحرز ماله

1294/ 29 - عَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ رضي الله عنه أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو صخر بن العيلة -بفتح العين- بن عبد الله بن ربيعة البجلي الأحمسي، كنيته أبو حازم، ذكر ابن عبد البر أن العيلة هي أمه، وقال:(العيلة في أسماء نساء قريش متكررة) ذكره ابن سعد في مسلمة الفتح، سكن الكوفة، وأخرج أبو داود حديثه، قال ابن السكن والبغوي:(ليس له غيره)

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، بابٌ (في إقطاع الأرضين)(3067) ومن طريقه البيهقي (9/ 114) من طريق الفريابي، ثنا أبان، وهو ابن عبد الله بن أبي حازم قال: حدثني عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفًا

وساق الحديث بطوله إلى أن قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، أسلمنا وأتينا صخرًا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فأتاه فقال: "يا صحر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم، فادفع إلى القوم ماءهم

" الحديث.

وهذا الحديث رجاله موثقون؛ أي: قيل بتوثيقهم، أبان بن عبد الله بن

(1)

"الاستيعاب"(5/ 120)، "الإصابة"(5/ 130).

ص: 86

أبي حازم مختلف فيه، فقد قال أحمد:(صدوق صالح الحديث)، ووثقه ابن معين، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال ابن حبان:(كان ممن فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير)، وقال الذهبي:(كوفي له مناكير حسن الحديث)

(1)

، وقال في "التقريب":(صدوق في حفظه لين)، وقد تفرد أبان بن عبد الله بهذا الحديث، وما دام أنه مختلف فيه فمثله لا يحتمل تفرده لا سيما مع مقولة ابن حبان والذهبي.

وعثمان بن أبي حازم لم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، فقد ذكره في "الثقات"

(2)

، وقد تفرد بالرواية عنه ابن أخيه أبان، وقال الحافظ:(مقبول)، ووالد عثمان مجهول الحال، فقد انفرد بالرواية عنه ابنه عثمان، وقال ابن القطان:(لا يعرف حاله، ولم يؤثر توثيقه عن أحد)

(3)

، وقال الحافظ:(مستور)، ورواه أحمد (31/ 70) عن وكيع، حدثنا أبان، حدثني عمومتي، عن جدهم صخر

الحديث، وعلى هذا فقد تكون رواية وكيع أرجح؛ لأنه أحفظ من الفريابي.

والحديث له شواهد، ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى بشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله تعالى"

(4)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن من أسلم من الكفار حرم دمه وماله، وظاهر قوله:(وأموالهم) أن الأموال تشمل المنقول وغير المنقول، فيكون المسلم طوعًا أحق بجميع أمواله، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم لا فرق عندهم بين أن يكون إسلامه في دار الإِسلام أو دار الكفر على ظاهر الدليل، وللفقهاء تفاصيل في ذلك

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المجروحين"(1/ 94)، "المغني في الضعفاء"(1/ 13)، "تهذيب الكمال"(2/ 14).

(2)

(7/ 192).

(3)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 265).

(4)

تقدم تخريجه عند شرح الحديث (1276).

(5)

انظر: "المغني"(13/ 115).

ص: 87

‌جواز المن على الأسير بدون فداء

1295/ 30 - عَنْ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال في أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَني في هؤُلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "فرض الخمس"، باب (ما منَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمِّس)(3139) من طريق معمر، عن الزهري، عن محمَّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في أسارى بدر) أي: من المشركين، وهو بضم الهمزة مقصور، جمع أسير، ويقال: أَسارى بفتحها، ويقال: أَسرى مثل قتلى وقتيل، والأسير مأخوذ من الأَسر والإسار وهو القِدُّ، -وهو السَّير المتخذ من جلدٍ غير مدبوغٍ-؛ لأنهم كانوا يشدون به الأسير، فسمي كل أخيذ وإن لم يشد بالقِدِّ أسيرًا.

قوله: (لو كان المطعم حيًّا) لو هنا إما أن تكون بمعنى الخبر المحض بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأنه لو كان المطعم حيًّا ثم كلمه في هؤلاء النتنى لتركهم له، وقد تكون بمعنى التمني

(1)

.

(1)

"القول المفيد"(3/ 123).

ص: 88

قوله: (المطعم بن عدي) هو المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي، رئيس بني نوفل في الجاهلية وقائدهم في حرب الفجار -بكسر الفاء وتخفيف الجيم- التي وقعت سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، وهو أحد المشركين الذين كانوا يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وهو الذي أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف وعاد متوجهًا إلى مكة، وكان أحد الذين مزقوا صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، مات المطعم كافرًا قبل وقعة بدر، وله بضع وتسعون سنة

(1)

.

قوله: (النتنى) جمع تكسير على وزن فَعْلَى، ومفرده نَتِنٌ مثل زَمِن وزمنى، أو نتين كجريح وجرحى، والمعنى: أنهم خبيثو النفوس بسبب شركهم، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].

قوله: (لتركتهم له) أي: لأطلقت هؤلاء الأسارى بدون فداء من أجله مكافأة له على حسن صنيعه مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذب عنه المشركين، ودخل مكة في جواره لما رجع من الطائف

(2)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز المنّ على الأسير وإطلاقه بدون فداء لشفاعة رجل عظيم، والمنُّ على الأسير وإطلاقه هو أحد الأمور الأربعة التي يخير فيها الإِمام في موضوع الأسارى حسب المصلحة، كما تقدم.

والأسير الذي يخير فيه الإِمام بين هذه الأمور الأربعة هو الرجل من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية، أما عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقرون بالجزية، فيخير الإِمام فيهم بين القتل أو السنن أو المفاداة وأما استرقاقهم فهو موضع خلاف.

(1)

"الطبقات"(1/ 212)، "سيرة ابن هشام"(2/ 19 - 25)، "الأعلام"(8/ 157).

(2)

انظر: "فتح الباري"(7/ 324).

ص: 89

وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء للمسلمين بنفس السبي، ولا يجوز قتلهم لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، كما تقدم.

* الوجه الرابع: استحباب الاعتراف بالفضل، ومكافأة من أسدى إليك معروفًا وإن كان كافرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن المطعم بن عدي لو كان حيًّا وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأسارى وإطلاقهم بغير فداء لَفَعَلَ مكافأة له على إحسانه.

والاعتراف بالفضل من أخلاق النبوة، وهو خلق جميل، وصفة عالية، لأنه اعتراف بالنعمة، وشكر للمنعم، وتشجيع لذوي الفضل أن يستمروا في فضلهم الذي يلقى الاعتراف من الآخرين، وهو دليل على حسن الخلق، وكمال الإيمان، وشرف النفس، وكرم الطبع، وهو من أسباب بقاء النعم وزيادتها.

وقد أمر الله تعالى بألا ننسى الفضل فيما بيننا، وأن ننسب الفضل إلى أهله، قال تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ} [االبقرة: 237] قال ابن حبان: (الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع، أوشك ألا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر لله جل وعلا، ولمن أسداها إليه)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"روضة العقلاء" ص (264).

ص: 90

‌جواز وطء المرأة المسبية

1296/ 31 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَحَرّجُوا، فَأنزَلَ اللهُ تَعَالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} الآية. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الرضاع"، باب (جواز وطء المسبية بعد الاستبراء وإن كان لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي)(1456) من طريق صالح أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس فلقوا عدوًا، فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا

الحديث. وتمامه: أي: فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سبايا) هذا جمع مفرده سبية كعطية وعطايا، قال ابن الأثير:(السَّبِيَّةُ: المرأة المنهوبة، فعيلة بمعنى مفعولة)

(1)

.

قوله: (يوم أوطاس) تقدم في آخر باب "العدة" أن غزوة أوطاس كانت بعد حنين سنة ثمان.

(1)

"النهاية"(2/ 340).

ص: 91

قوله: (فتحرجوا) أي: ظنوا أن في وطئهن إثمًا وحرجًا؛ لكونهن متزوجات، فاجتنبوا وطأهن.

قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] أي: ذوات الأزواج، يقال: امرأة محصنة؛ أي: متزوجة، والإحصان له عدة معان، وهو بالرفع عطفًا على {أُمَّهَاتُكُمْ} في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي: وحرمت عليكم المحصناتُ.

وقوله تعالى: {إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} [النساء: 24] أي: إلا ما ملكتم بالسبي من أرض الحرب فهن حلال لكم ولو كنَّ ذوات أزواج، كما تقدم.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن أزواج الكفار إذا سباهن المسلمون وأزواجهن في دار الحرب فإنهن حلال للمسلمين، وينفسخ نكاحها من زوجها الكافر بمجرد سبيها، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، قال القرطبي عن حديث الباب: (هذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت لسبب تحرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله في جوابهم:{إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ}

(1)

.

لكن لا يجوز وطؤها إلا بعد استبرائها، كما تقدم في آخر "العدة"، إما بوضع الحمل إن كانت حاملًا أو بحيضة واحدة.

* الوجه الرابع: ظاهر الحديث يدل على جواز وطء المسبية ولو قبل إسلامها، سواء أكانت كتابية أم وثنية، والآية المتقدمة عامة، وسبايا أوطاس كن وثنيات، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على سبايا أوطاس الإِسلام، ولا أخبر أصحابه بأنه لا توطأ مسبية حتى تسلم، ولو كان هذا شرطًا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو وقت البيان ولا سيما وفي المسلمين يوم حنين وغيره مَنْ هو حديث عهد بالإِسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم، وتجويز حصول الإِسلام من جميع السبايا وهن في غاية الكثرة بعيد جدًّا.

(1)

"تفسير القرطبي"(5/ 121).

ص: 92

ويؤيد ذلك أنه ثبت بالسنة -كما تقدم في آخر "العدة"- أنه صلى الله عليه وسلم باستبراء المسبية ولم يذكر الإِسلام، فدل على جواز وطء المسبية على أي دين كانت

(1)

.

* الوجه الخامس: أخذ بعموم هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} جماعة من السلف فقالوا: إن بيع الأمة يكون طلاقًا لها من زوجها؛ لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع المسلمين، وقد رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأبي بن كعب رضي الله عنه، وابن المسيب وآخرين.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واستدلوا بقصة بريرة المتقدمة في كتاب "النكاح" فإن عائشة رضي الله عنها اشترتها ونجّزت عتقها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البقاء وبين الفسخ فاختارت الفسخ، وتقدم هذا في "النكاح"، ولو كان بيع الأمة طلاقها لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الآية الكريمة:{إلا مَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} المسبيات فقط، والله أعلم

(2)

.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 132)، "نيل الأوطار"(6/ 347).

(2)

"تفسير الطبري"(8/ 155)، "تفسير القرطبي"(5/ 122)، "تفسير ابن كثير"(2/ 225).

ص: 93

‌ما جاء في تنفيل السرية

1297/ 32 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سريةً وَأنا فِيهِمْ، قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُم اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "فرض الخُمس"، باب (ومن الدليل على أن الخُمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي صلى الله عليه وسلم

) (3134)، ومسلم (1749) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سرية) تقدم معناها في حديث بريدة رضي الله عنه -أول "الجهاد"، والمشهور عند أهل المغازي أن بعث هذه السرية كان قبل التوجه إلى فتح مكة، أما البخاري فقد ذكرها بعد غزوة الطائف، ومعلوم أن غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

(1)

.

قوله: (وأنا فيهم) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(وكنت فيهم).

قوله: (قِبَلَ نجد) بكسر القاف؛ أي: جهة نجد، وهذا لفظ "الصحيحين"، وفي رواية لمسلم:(إلى نجد)، ونجد: هي قلب جزيرة العرب، قال الجوهري:(كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد)

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(8/ 43 - 56).

(2)

"الصحاح"(2/ 542).

ص: 94

قوله: (سُهمانُهم) بالضم جمع سهم، وهو النصيب؛ أي: أنصباؤهم، والمراد أن نصيب كل واحد منهم بلغ هذا العدد، بدليل رواية أبي داود من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: (وانبعثت سرية من الجيش، فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرًا ثني عشر بعيرًا

الحديث)

(1)

.

قوله: (ونُفلوا) بضم أوله مبني لما لم يسم فاعله، من التنفيل، والنفل: أن يعطى المغازي شيئًا زائدًا على نصيبه من الغنيمة، وقد جاء في رواية عند مسلم:(ونفلوا سوى ذلك بعيرًا، فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أبي داود من طريق ابن إسحاق:(فنفلنا أميرنا)

(2)

. وفي رواية عند مسلم -أيضًا- من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع بلفظ:(ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا) ويجمع بينهما بأن أمير السرية نفلهم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضاه، فجازت نسبته إلى كل منهما. وقد زعم النووي أن المُنَفَّلِينَ في هذه السرية هم بعض المجاهدين لا كلهم

(3)

، ورد هذا ابن العراقي بأن هذا خلاف ظاهر الحديث؛ لأن ظاهره أن كل واحد من السرية نُفِّلَ، وسببه زيادة عنائه ونفعه بانفراده عن بقية الجيش بتلك السفرة والمشقة

(4)

.

قوله: (بعيرًا بعيرًا) الأول مفعولٌ ثانٍ، والثاني للتقسيم؛ أي: كل واحد نُفِّلَ بعيرًا، ويجوز إعرابهما حالًا جامدة مؤولة بالمشتق أي: متساوين، مثل: ادخلوا رجلًا رجلًا أي: مترتبين. وقد جاء في رواية مسلم: "ونفلوا سوى ذلك بعيرًا" وفي رواية: "ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بعيرًا".

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية بعث السرايا في الجهاد لإضعاف العدو واستنزاف قوته وعدته وإرهابه.

* الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن هذه السرية لم تكن قطعة من جيش كبير، بل هم جماعة خرجوا لهذه المهمة منفردين، وبهذا قال

(1)

"السنن"(2741).

(2)

"السنن"(2743).

(3)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 299).

(4)

"طرح التثريب"(7/ 258).

ص: 95

ابن العراقي

(1)

، لكن ظاهر رواية أبي داود المتقدمة أن تلك السرية كانت قطعة من الجيش، ورواية مالك أرجح من رواية شعيب بن أبي حمزة؛ لأن شعيبًا دونه في الحفظ. وهذا يدل على أن السرية التي لم ترتبط بجيش تنفرد بجميع ما غنمته، لقوله:"فبلغت سهماننا لني عشر بعيرًا"، أما إذا انفردت السرية من الجيش لمصلحة واتجهت إلى جهة ما، ثم غنمت، فإن سائر الجيش يشاركونها، فيما غنمت؛ لأن كل واحد منهما ردء لصاحبه.

وقد جزم القرطبي مستندًا لرواية أبي داود المتقدمة بأن هذه السرية خرجت من الجيش وأن الغنائم قسمت بين الجيش والسرية، ثم زيد أهل السرية بعيرًا بعيرًا

(2)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على مشروعية التنفيل، وذلك بتخصيص من له أثر في الحرب بشيء من المال زيادة على نصيبه من الغنيمة بالقدر الذي رآه الإِمام؛ تقديرًا لجهادهم وإخلاصهم وتشجيعًا لهم ولغيرهم على الجهاد، وإثبات النفل أمر مجمع عليه، وإنما اختلف في محله هل هو من أصل الغنيمة، أو من أربعة أخماسها، أو من خمس الخمس؟ سيأتي هذا -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب"(7/ 256).

(2)

"المفهم"(3/ 537).

ص: 96

‌صفة قسم الغنيمة

1298/ 33 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَينِ وَلِلرّاجِلِ سَهْمًا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. ولِأَبِي دَاودَ: أسْهمَ لِرَجُلٍ ولِفَرَسِهِ بثَلَاثةِ أَسْهُمٍ: سَهْمَينِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "المغازي"، باب (غزوة خيبر)(4228)، ومسلم (1762) من طريق عبيد الله بن عمر، حدثنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وهذا لفظ البخاري وزاد: قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم.

ورواه أبو داود (2733) بهذا الإسناد، ولفظه:"أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه". ولعل الحافظ ذكر رواية أبي داود؛ لأنها مفسرة لما قبلها ومبينة للمراد.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (للفرس سهمين) أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفرس سهمين زيادة على سهم صاحبه، فيكون للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، بدليل تفسير نافع ورواية أبي داود.

قوله: (وللراجل سهمًا) الراجل: هو الماشي على رجليه، ويطلق على خلاف الفارس، وجمعه رجال، كما في قوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ويجمع على رجَّالة بالتشديد.

ص: 97

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الفارس المقاتل على فرسه يستحق ثلاثة أسهم: سهمان من أجل فرسه، وسهم من أجله، وهذه صفة قسمة الغنيمة بعد إخراج الخمس.

وأما المقاتل من المشاة فليس له إلا سهم واحد، والحكمة في إعطاء الفرس سهمين الترغيب في اتخاذ الخيل للغزو والعناية بها؛ لما في ذلك من إعظام الشوكة وإعلاء كلمة الله تعالى، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فأمر الله تعالى بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، ثم خص رباط الخيل وهي التي تربط في سبيل الله؛ لأنها الوسيلة البارزة وقت نزول القرآن، وعطفها على القوة من عطف الخاص على العام لبيان فضلها، والتعبير برباط الخيل يراد به كل ما يرابط في الثغور وحدود البلاد حسب حاجة كل عصر.

* الوجه الرابع: يفهم من الحديث ومن تاريخ الغزوات أنه لا شيء لغير الخيل من البهائم، كفيلٍ، وبغل، وبعير ونحوها، ولو عظم غناؤها وقامت مقام الخيل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسهم لها، وكذا أصحابه رضي الله عنهم، ولا خلاف في ذلك، مع أنه لم تخل غزوة منها، وذلك لأن صاحبها لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من الكلفة؛ ولأن غير الخيل لا يلحق بها في التأثير في الحرب، ولا يصلح للكر والفر، لكن ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن قياس الأصول أن يُرضخ لها، كما يرضخ لمن لا سهم له من النساء والعبيد والصبيان

(1)

.

ثم إن الاعتبار في الإسهام أو الرضخ بحال الحرب ونشوب المعركة، فلو دخل الحرب فارسًا، ثم حضر الوقعة راجلًا حتى فرغت الحرب لموت فرسه أو شروده أو مرضه فله سهم راجل ولو صار فارسًا بعد الوقعة، اعتبارًا بحال شهودها، ولو دخل دار الحرب راجلًا ثم ملك فرسًا أو استعاره وشهد به الوقعة فله سهم فارس ولو صار بعد الوقعة راجلًا؛ لأن الفرس حيوان يُسهم له، فاعتبر وجوده حالة القتال، فيسهم له مع الوجود، ولا يسهم مع العدم، كالآدمي. والله تعالى أعلم.

(1)

"الاختيارات" ص (315).

ص: 98

‌ما جاء في أنه لا نَفَلَ إلا بعد الخُمُسِ

1299/ 34 - عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا نَفَلَ إلا بَعْدَ الْخُمُسِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ الطَّحَاويُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو يزيد معن بن يزيد بن الأخنس السلمي المدني الكوفي ثم المصري، ثم الشامي، له ولأبيه ولجده صحبة، وقد روى البخاري بسنده عن معن بن يزيد رضي الله عنهما قال: بايعت رسول الله عمرو أنا وأبي وجدي، وخطب عليَّ فأنكحني، وخاصمت إليه، وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيت بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن"

(1)

. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو الجويرية -حِطَّان بن خُفاف الجرمي- وسهيل بن ذراع، وعتبة بن رافع، شهد فتح دمشق، وكان له مكان عند عمر رضي الله عنه، قتل في وقعة مَرْج راهط

(2)

مع الضحاك بن قيس الفهري، وذلك سنة أربع وستين

(3)

رضي الله عنه.

(1)

"صحيح البخاري"(1422).

(2)

انظر: "البداية والنهاية"(11/ 673).

(3)

"الاستيعاب"(10/ 179)، "الإصابة"(2/ 30)(9/ 264).

ص: 99

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (25/ 194)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم)(2754)، والطحاوي في في شرح معاني الآثار" (3/ 242) من طريق أبي عوانة قال: حدثنا عاصم بن كليب قال: حدثني أبو الجويرية قال: أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير في إمارة معاوية في أرض الروم قال: وعلينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني سلمة يقال له: معن بن يزيد، قال: فأتيته بها لقسمها بين المسلمين، فأعطاني مثل ما أعطى رجلًا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته يفعله -سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخُمُس"- إذًا لأعطيتك، قال: ثم أخذ فعرض عليَّ نصيبه، فأبيت عليه، قلت: ما أنا بأحق به منك، وهذا السياق لأحمد.

وأما تصحيح الطحاوي -الذي ذكر الحافظ هنا- فلم أجده في "شرح المعاني" إلا إن كان الحافظ استفاده من سياق الطحاوي للحديث مستدلًا به، فالله أعلم.

ورواه أبو داود (2753) من طريق أبي إسحاق الفزاري، والخطيب في في تاريخه" (5/ 150) من طريق أبي حمزة كلاهما، عن عاصم بن كليب به، وهذا الحديث سنده صحيح، صححه ابن عبد الهادي

(1)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا نفل) بفتح النون وسكون الفاء، ويجوز فتحها، تقدم معناه.

قوله: (إلا بعد الخمس) أي: خمس الغنيمة، والمعنى: أنه لا يزاد المغازي على سهمه من الغنيمة إلا بعد إخراج الخمس من الغنيمة المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فيخرج خمس الغنيمة، ويقسم خمسه أسهم: لله ورسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والباقي أربعة أخماس تقسم بين الغانمين، للراجل

(1)

"المحرر" ص (290).

ص: 100

سهم، وللفارس ثلاثة، كما تقدم، والتنفيل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا قول الجمهور

(1)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن النفل إنما يكون من الغنيمة التي يقاتل عليها؛ لأنه من الأخماس الأربعة التي هي للغانمين بعد إخراج الخمس، وهذا المال الذي وجده أبو الجويرية ليس بغنيمة أخذ بعنوة وقتال، وإنما هو فيء أُخِذَ من مال الكفار بغير حرب، والفيء ليس فيه الخمس، وما لا خمس فيه فلا نفل فيه، ثم إن النفل إنما يكون بعد القتال، فيكون المانع من التنفيل عدم ثبوت الخمس في هذا المال.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن ما وجد في أرض الكفار من الركاز يكون غنيمة إذا كان آخِذُهُ إنما قدر عليه بجماعة المسلمين، فيقسم عليهم كأموال الكفار الظاهرة؛ ولأنه مال مشرك مظهور عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة. أما لو وجده في موضع يقدر عليه بنفسه فهو كما لو وجده في دار الإِسلام، فيه الخمس، وباقيه له

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(13/ 60).

(2)

"المغني"(13/ 124).

ص: 101

‌بيان المقدار الذي يجوز التنفيل إليه

1300/ 35 - عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه قَال: شَهدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ في الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ في الرَّجْعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَابْنُ حِبّانَ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الرحمن حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري، نزل الشام، قال البخاري:(له صحبة) روى له أبو داود وغيره، قال الذهبي:(له رواية يسيرة)، وجاء له ذكر في "صحيح البخاري" في قصة الحكمين.

جاهد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وشهد اليرموك أميرًا، وسكن دمشق، وكان يقال له: حبيب الروم؛ لكثرة جهاده فيهم، قال ابن سعد: (لم يزل مع معاوية في حروبه، ووجهه إلى إرمينية

(1)

واليًا عليها، فمات بها سنة اثنتين وأربعين، ولم يبلغ الخمسين)

(2)

رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (فيمن قال: الخمس قبل النفل) (2750)، وابن الجارود (1079)، وابن حبان (11 /

(1)

انظر: "معجم البلدان"(1/ 159).

(2)

"طبقات ابن سعد"(7/ 409)، "الاستيعاب"(2/ 294)، "السير"(3/ 188)، "الإصابة"(2/ 208).

ص: 102

165)، والحاكم (2/ 133) من طريق مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة رضي الله عنه.

والحديث جاء عند أبي داود والحاكم مطولًا وفيه قصة، وجاء عند ابن الجارود وابن حبان مختصرًا بمثل لفظ:"البلوغ".

قال الحاكم: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وسكت عنه الذهبي، وهذا الحديث رجاله ثقات إلا زياد بن جارية فهو مختلف فيه، قال عنه أبو حاتم:(شيخ مجهول)

(1)

، وقال الترمذي:(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: زياد بن جارية مشهور، وقد أخطأ من قال: يزيد بن جارية)

(2)

. وقال النسائي: (ثقة)، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، بل ذكره ابن أبي عاصم وأبو نعيم في الصحابة

(4)

، فالظاهر تحسين حديثه، لا سيما وأنه من الطبقة المتقدمة جدًّا، فهذا شُكَّ في صحبته فلن يشك في أنه من كبار التابعين الذين تتلمذوا للصحابة رضي الله عنهم

(5)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (نفل الربع) بتشديد الفاء؛ أي: أعطى ربع الغنيمة نفلًا بعد الخمس، فأخذ الخمس أولًا عن تمام الغنيمة، كما تقدم، ثم أعطى الربع مما بقي من الأخماس الأربعة، ثم قسم البقية بين الغانمين.

قوله: (في البدأة) بفتح الباء وسكون الدال؛ أي: في ابتداء السفر للغزو حين يكون العسكر مقبلًا إلى أرض العدو، فيعطيهم الربع على ما تقدم.

قوله: (والثلث في الرجعة) أي: وأعطى ثلث الغنيمة للغزاة حين رجوعهم من أرض المعركة وعودتهم إلى أوطانهم، فيكون المراد بالبدأة السفر

(1)

"الجرح والتعديل"(3/ 527).

(2)

"العلل"(2/ 667)، وانظر:"التاريخ الكبير"(3/ 348).

(3)

(4/ 252).

(4)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم (2/ 375).

(5)

"بيان الوهم والإيهام"(4/ 17).

ص: 103

للجهاد، والرجعة القفول، وهذا تفسير ابن المنذر، ونقله عنه الخطابي ثم قال:(كلام ابن المنذر في هذا ليس بالبين؛ لأن فحواه يوهم أن معنى الرجعة هو القفول إلى أوطانهم، وليس هو معنى الحديث).

ثم بين معنى الحديث وأن المراد بالبدأة نهوض السرية من جملة العسكر إلى جهةٍ ما، فتوقع بالعدو وتغنم، فما غنموا كان لهم منه الربع بعد الخمس، ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه، فإن قفلوا من الغَزاة ثم رجعوا فأوقعوا في العدو ثانية كان لهم الثلث. قال الصنعاني:(وما قاله الخطابي هو الأقرب)

(1)

، وهو قول أبي عبيد

(2)

، وعليه مشى الشيخ عبد العزيز بن باز في تفسير الحديث.

ولعل سر هذا التفريق -والله أعلم- أنهم في البدأة ظهورهم محمية بالجيش؛ لأنه وراءهم، فهم يغيرون على العدو بقوة الجيش، فصار تعبهم أهون، والخطر عليهم أقل، بخلاف الرجعة فإن نهوضهم أشق، والخطر فيه أعظم؛ لكون الجيش منصرفًا عنهم. وهذا أحد أقسام النفل في الغزو

(3)

.

وتفسير ابن المنذر له حظ من النظر؛ لأنه أَخْذٌ بظاهر اللفظ، ولأنهم قد يقاتلون وهم راجعون إلى ديارهم، فأُعطوا الثلث في القفول لضعفهم وضعف دوابهم، ورغبتهم في الرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم، لطول عهدهم بهم.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على جواز التنفيل من الغنيمة، وقد تقدم أن التنفيل يكون بعد إخراج الخمس، والتنفيل في هذا الحديث هو تنفيل السرايا، فهذا دخل الجيش أرض العدو وأرسل الإِمام سرية إلى جهةٍ ما فغنموا، بدأ فعزل الخمس، ثم جعل لهم الربع مما بقي نفلًا خاصًّا بهم، ثم يشاركون الجيش فيما فضل بعد الربع، ثم يفعل بهم بعد القفول مثل ذلك، إلا أنه يزيد في الانصراف فيعطيهم الثلث بعد الخمس.

(1)

انظر: "الأوسط"(11/ 136)، "معالم السنن"(4/ 58)، "النهاية"(1/ 103)، "المغني"(13/ 53 - 55)، "سبل السلام"(7/ 96).

(2)

"الأموال" ص (327).

(3)

انظر: "المغني"(13/ 53).

ص: 104

* الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال: إن الإِمام لا ينفل أكثر من الثلث؛ لأن تنفيل الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث، وليس للإمام أن يتجاوز ذلك، وهو قول الجمهور من العلماء، وهو قول مكحول، والأوزاعي، ونص عليه أحمد.

وذهب الشافعي إلى أنه لا حدَّ للنفل، وإنما هو موكول إلى رأي الإِمام حسب المصلحة، ويؤيد هذا قوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ففوض أمرها إليه

(1)

.

واختار هذا القول الصنعاني

(2)

والشوكاني

(3)

، قال الصنعاني:(إن حديث الباب هذا لا دليل فيه على أنه لا ينفل أكثر من الثلث). والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "معرفة السنن والآثار"(9/ 230)، "المغني"(13/ 55).

(2)

"سبل السلام"(7/ 296).

(3)

"نيل الأوطار"(7/ 316).

ص: 105

‌جواز تخصيص بعض السرايا بالتنفيل

1301/ 36 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيشِ. مُتفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "فرض الخمس"، باب (ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين)(3135)، ومسلم (1750)(40) من طريق الليث، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وتمامه عند مسلم: والخمس واجب في ذلك كله.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينفل كل من يبعثه من السرايا، وإنما كان يخص بعضًا دون بعض؛ تبعًا للمصلحة التي يراها، فيعطيهم زيادة على ما يحصل لهم من قسم عامة الجيش.

* الوجه الثالث: في قوله: (والخمس واجب في ذلك كله) دليل على أنه يجب تخميس النفل، وأن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة بعد إخراج الخمس منها، وقد تقدم هذا. والله تعالى أعلم.

ص: 106

‌حكم الأكل مما يصيبه المجاهدون

1302/ 37 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: كُنا نُصِيبُ في مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ، فَنَأكلُهُ ولَا نَرْفَعُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلأَبي دَاودَ: فَلَمْ يُؤخَذْ مِنْهمُ الْخُمُسُ. وَصححَهُ ابْنُ حِبّانَ.

1303/ 38 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنهما قَال: أصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأخُذُ مِنْهُ مِقدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمّ يَنْصَرِفُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في كتاب "فرض الخمس"، باب (ما يصيب من الطعام في أرض الحرب)(3154) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ورواه أبو داود (2701)، وابن حبان (11/ 156 - 157) من طريق أبي ضمرة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه: أن جيشًا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا وعسلًا فلم يؤخذ منهم الخمس.

ورواه البيهقي (9/ 59) من طريق عثمان بن الحكم الجذامي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن جيشًا غنموا .. هكذا مرسلًا.

ولما ذكر الدارقطني هذا الاختلاف قال: (والمرسل أشبه)

(1)

.

(1)

"العلل"(12/ 327).

ص: 107

وقد ذكر الحافظ رواية أبي داود؛ لأن فيها التنصيص على أن ما يؤكل لا يحتسب من أنصباء المجاهدين ولا يخمس عليهم.

وأما حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في النهي عن النُّهبى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو)(2704) من طريق أبي معاوية، وأحمد (31/ 469)، وابن الجارود (1072)، والحاكم (2/ 133 - 134) من طريق هُشيم، كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمَّد بن أبي المجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.

وهذا الحديث إسناده صحيح على شرط البخاري، فإن محمَّد بن أبي المجالد من رجاله، وقد اختلف في اسمه فقيل: محمَّد كما عند البخاري وأبي داود وأحمد، وقيل: عبد الله

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في مغازينا) جمع مَغزاة، بفتح الميم فيهما، والغزوة والمغزاة المرة من الغزو.

قوله: (ولا نرفعه) أي: لا نحمله على سبيل الادخار، أو لا نرفعه إلى أمر من يتولى أمر الغنيمة

(2)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الأكل من الفاكهة والطعام الذي يصيبه المجاهدون في أرض الحرب وأن ذلك لا حرج فيه، ولا يحتاج إلى إذن الإِمام، وهذا أمر مجمع عليه إلا من شذ؛ لأن المجاهد بحاجة إلى الطعام الذي يقيم أوده ويغذي بدنه، فالحاجة داعية إليه، وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم؛ لأنه يعسر عليهم نقل الطعام والعلف من دار الإِسلام

(3)

.

وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: أصبت جرابًا

(1)

انظر: "تهذيب الكمال"(1/ 276)، (26/ 365)، "تهذيب التهذيب"(5/ 339).

(2)

انظر: "فتح الباري"(6/ 256).

(3)

انظر: "إكمال المعلم"(6/ 114)، "المغني"(13/ 126)، "زاد المعاد"(3/ 342).

ص: 108

من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسمًا

(1)

.

وإنما الحرج في الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة بحيث ينفرد به عن إخوانه المجاهدين، أما ما يشاركه فيه غيره من الطعام والفاكهة فلا حرج فيه. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(3153)، "صحيح مسلم"(1772).

ص: 109

‌حكم ركوب الدابة من المغنم ولبس الثوب منه

1304/ 39 - عَنْ رُويفِعِ بن ثَابِتٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيءِ الْمُسْلِمِينَ حَتى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتى إِذَا أخلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشيء)(2708)، والدارمي (2/ 148) من طريق محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب، عن أبي مرزوق -مولى تُجِيب، وتجيب بطن من كندة- عن حنش الصنعاني، عن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

وهذا سند حسن، حسنه الحافظ في "فتح الباري"

(1)

، فيه محمَّد بن إسحاق رواه بالعنعنة، وقد صرح بالتحديث في رواية عند أحمد (28/ 207) وأبو مرزوق مختلف في اسمه، فقيل: حبيب بن الشهيد، وبه جزم الحافظ في "التقريب"، وقال عنه:(ثقة) وقيل: ربيعة بن سليم، وقيل: هما اثنان، فإن كان هو ربيعة بن سليم فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

، وقال الحافظ:(مقبول)، وإن كانا اثنين فقد تابع أحدهما الآخر؛ لأنه جاء الحديث عند الترمذي (1131) مختصرًا من طريق

(1)

"فتح الباري"(6/ 256).

(2)

(6/ 301).

ص: 110

يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن سليم، عن بسر بن عبد الله، عن رويفع به.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من فيء المسلمين) المراد هنا: الغنيمة المشتركة.

قوله: (أعجفها) أي: أتعبها وصيرها هزيلة، قال أهل اللغة: عَجِفَ الفرس عجفًا من باب تعب: ضَعُفَ، فهو أعجف

(1)

.

قوله: (أخلقه) أي: أبلاه وأتلفه، قال أهل اللغة: خَلُقَ الثوب -بالضم- إذا بَلِيَ فهو خَلَقٌ -بفتحتين- وأخلق الثوب بالألف لغة

(2)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجوز لأحد من المجاهدين أن يلبس ثوبًا من الثياب المغنومة حتى إذا أبلاه رده، أو يركب دابة منها حتى إذا أهزلها ردها، لما في ذلك من الإضرار بسائر الغانمين والانفراد عنهم.

أما لو ركب دابة من غير إعجاف، أو لبس ثوبًا من غير إتلاف أو إخلاق، كأن يركب دابة توصله إلى سكنه، أو تبعده عن العدو، ثم يردها، أو يلبس ثوبًا يستر عورته أو يستدفئ به ثم يرده، فلا حرج في ذلك، قال الحافظ ابن حجر:(اتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم في حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" ص (394).

(2)

"المصباح المنير" ص (180).

(3)

"فتح الباري"(6/ 255).

ص: 111

‌ما جاء في الأمان

1305/ 40 - عَنْ أَبي عُبَيدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيبَةَ وَأَحْمَدُ، وَفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

1306/ 41 - وَلِلطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: "يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ".

1307/ 42 - وَفي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: "ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ".

1308/ 43 - زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: "وَيُجِيرُ عَلَيهِمْ أَقْصَاهُمْ".

1309/ 44 - وَفي الصَّحِيحَينِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ".

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخت الشقيقة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، اسمها فاختة على الأشهر، وكانت تحت هبيرة بن عمرو المخزومي فولدت له عمرًا وهانئًا ويوسف وجعدة، وقد أسلمت أم هانئ يوم الفتح، ولما بلغ زوجها إسلامها فرَّ إلى نجران، وقال هناك شعرًا يعتذر فيه عن فراره، كما قال شعرًا يخاطب امرأته، ومات مشركًا، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بأنها امرأة ذات

ص: 112

أطفال صغار وأيتام، وقالت: إني أكره أن يؤذوك، ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنها

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث أبي عبيدة رضي الله عنه فقد رواه ابن أبي شيبة (12/ 451) من طريق حجاج، عن الوليد بن أبي مالك، عن عبد الرحمن بن سلمة

ورواه أحمد (3/ 223 - 224) من طريق حجاج، عن الوليد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: أجار رجل من المسلمين رجلًا، وعلى الجيش أبو عبيدة بن الجراح فقال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص: لا تجيروه، فقال أبو عبيدة: نجيره، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يجير على المسلمين أحدهم"، ولفظ ابن أبي شيبة:"يجير على المسلمين بعضهم".

وهذا الحديث سنده ضعيف؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه، ثم إن رواية القاسم -وهو ابن عبد الرحمن الشامي- عن أبي أمامة متكلم فيها

(2)

.

وأما حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد رواه أبو داود الطيالسي (2/ 317)، وأحمد (29/ 300) من طريق شعبة، عن عمرو بن دينار، عن رجل من أهل مصر، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجير على المسلمين أدناهم".

وهذا سند ضعيف -أيضًا- لأن الرجل المصري لم يُسمَّ، وبه أعله الهيثمي في "مجمع الزوائد"

(3)

.

وأما حديث علي رضي الله عنه فقد رواه البخاري في كتاب "الفرائض"، باب (إثم من تبرأ من مواليه)(6755)، ومسلم (1370) من طريق الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب

وساق الحديث بطوله، وفيه هذه الجملة.

(1)

"الاستيعاب"(13/ 304)، "الإصابة"(13/ 300).

(2)

انظر: "تهذيب الكمال"(23/ 383).

(3)

(5/ 329).

ص: 113

وأما رواية ابن ماجه (2685) وكذا أبي داود (2751)، وأحمد (11/ 288) فهي من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم

" الحديث. وهذا السياق لأبي داود، ولفظ ابن ماجه: "ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم" ونحوه لأحمد، وهذا سند حسن.

وأما حديث أم هانئ رضي الله عنها فقد رواه البخاري في كتاب "الجزية والموادعة"، باب (أمان النساء وجوارهن)(3171)، ومسلم (1/ 498) رقم (82) من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، أن أبا مرة -مولى أم هانئ ابنة أبي طالب- أخبره أنه سمع أم هانئ ابنة أبي طالب رضي الله عنها تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح

وذكرت الحديث إلى أن قالت: فقلت: يا رسول الله زعم ابن أمي عليٌّ أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرته، فلان ابن هبيرة

(1)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ

".

ولعل الحافظ جمع بين هذه الأحاديث لتعدد ألفاظها، فإن كل حديث أفاد ما لم يفده اللفظ الآخر.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (يجير) بضم الياء مضارع أجار، من الإجارة: وهي إعطاء الأمان، ويقال: استجاره: طلب منه أن يحفظه فأجاره.

قوله: (على المسلمين)"على" تفيد الوجوب والنفوذ؛ أي: ينفذ عليهم أمان الواحد منهم، فيجب عليه مراعاته وعدم نقضه.

قوله: (أدناهم) الأدنى يفسر بالكمية والكيفية؛ أي: أقلهم عددًا وهو الواحد، وأضعفهم وأحقرهم منزلة، كالعبد والمرأة والأجير.

قوله: (ذمة المسلمين واحدة) الذمة هي العهد والأمان، سمي العهد

(1)

انظر: "فتح الباري"(1/ 470).

ص: 114

ذمة؛ لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها؛ والمعنى: أمان المسلمين وعهدهم واحد، فلا يجوز لأحد نقض ما عاهد عليه بعضهم أي بعض كان.

قوله: (يسعى بها أدناهم) أي: يتولاها أدناهم وأقلهم منزلة فتتحقق وتثبت.

قوله: (أقصاهم) أي: أبعدهم دارًا، فإذا أَمَّنَ من هو في غاية البعد عن المعركة شخصًا كافرًا وجب على المسلمين حفظ أمانه ورعايته ولا يحل لهم نقضه، وفسِّر قوله:(وَيرُدُّ على المسلمين أقصاهم) بأن السرية إذا غنمت بقوة الجيش كانت الغنيمة لهم وللقاصي من الجيش؛ إذ بقوته غنموها، وأن ما صار في بيت المال من الفيء فهو لقاصيهم ودانيهم وإن كان سبب أخذه دانيهم

(1)

.

قوله: (قد أجرنا من أَجَرْتِ) بكسر التاء خطاب لأم هانئ رضي الله عنها حين أخبرته أنها أجارت رجلًا فلم يجز إجارتها أخوها علي رضي الله عنه وأراد قتله، كما تقدم. والمعنى: أجزنا جوارك وأمضيناه ونفذناه فأمنَّا من أمَّنْتِ.

* الوجه الرابع: في هذه الأحاديث دليل على صحة أمان الكافر إذا صدر من مسلم أي مسلم كان ذكرًا أم أنثى حرًّا أم عبدًا، لقوله:"أدناهم" فإنه شامل لكل وضيع، ويؤخذ منه صحة أمان الشريف بالأولى.

فإذا قال المسلم لكافر: أجرتك، أو أمنتك، أو أنت آمن ونحو ذلك، ثبت حكم الأمان والتزم به جميع المسلمين، فيحرم قتل هذا الكافر، ويحرم ماله والتعرض له.

وهذا مذهب جمهور العلماء، وخالف أبو حنيفة في أمان العبد فلم يجزه إلا أن يكون مأذونًا له في القتال؛ لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي

(2)

، والصواب قول الجمهور؛ لدخول العبد في عموم لفظ:"المسلمين".

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 90).

(2)

"المغني"(13/ 75).

ص: 115

وخالف بعض المالكية في أمان المرأة، وقالوا: إنه موقوف على إجازة الإمام له، فإن أمضاه. جاز وإلا فلا، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ:(قد أجرنا من أجرت) على أنه إجارة منه وليس تنفيذًا.

والصواب قول الجمهور، وقد وصف ابن عبد البر ومن قبله ابن المنذر قول بعض المالكية بأنه قول شاذ لا يعلم أحدًا من الأئمة قال به

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ هو إمضاء لما وقع منها وأنه قد صح أمانها وانعقد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى جوارها جوارًا حقيقيًّا، ثم إن قوله:(قد أجرنا) ليس هو إنشاء جوار، وإنما هو موافقة لها على من أجارت وعمل بمقتضى ما عقدت

(2)

. ولأن المرأة داخلة في عموم لفظ: "المسلمين" على القول الراجح عند الأصوليين، بدليل قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] وقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وهذه جموع صحيحة مذكرة دخلت فيها النساء قطعًا

(3)

.

* الوجه الخامس: ما جاء في هذه الأحاديث هو في الأمان الصادر من واحد من المسلمين، فيجوز أمانه لشخص واحد من الكفار ولعدد قليل، أما الأمان لجميع المشركين فهذا لا يصح إلا من الإمام؛ لأن له الولاية على جميع المسلمين، فجاز أن يكون تأمينه عامًّا.

ويصح الأمان من الأمير لأهل بلدة جُعل بحذائهم؛ لأن له الولاية على من بإزائه دون غيره. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإشراف"(4/ 137)، "الاستذكار"(14/ 88).

(2)

"المفهم"(4/ 79).

(3)

"تيسير الوصول" ص (186).

ص: 116

‌ما جاء في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب

1310/ 45 - عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إلا مُسْلِمًا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الجهاد والسير"، باب (إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب)(1767) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث.

ورواه أحمد (1/ 343) بهذا الإسناد بلفظ: "لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب. ".

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لأخرجن) الجملة مؤكدة بالقسم المقدر، وباللام ونون التوكيد، وقد جاء الأمر بذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب

" الحديث

(1)

.

قوله: (اليهود والنصارى) تقدم التعريف بهم في باب "المساجد" من كتاب "الصلاة" عند الحديث (252).

قوله: (من جزيرة العرب) وحَدُّهَا من الغرب بحر القُلْزُم وهو المعروف

(1)

رواه البخاري (3053)، ومسلم (1637).

ص: 117

الآن باسم البحر الأحمر، وعلى هذا فالحجاز داخل في مسمى جزيرة العرب، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشرق خليج البصرة وهو الخليج العربي، ومن الشمال ساحل البحر الأحمر الشرقي الشمالي وما على مُسامَتَتِهِ شرقًا من مشارف الشام وريف العراق، والحد غير داخل في المحدود هنا، ونسبت هذه الجزيرة إلى العرب؛ لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها

(1)

.

قوله: (حتى لا أدع إلا مسلمًا) حتى غائية؛ والمعنى: لأخرجن اليهود والنصارى من هذه الجزيرة إلى أن لا يبقى فيها إلا مسلم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يجوز أن يمكن أحد من الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم من دخول جزيرة العرب للاستيطان بها، بل يجب إخراجهم وصيانة هذه الأرض المباركة من كل دين يخالف دين الإسلام، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على الأمر بإخراج اليهود والنصارى وأن هذا من آخر ما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته. وذلك لأن جزيرة العرب هي دار الإسلام الأولى، منها فاضت أنواره، وانتشرت آثاره، فهي أصل ديار الإسلام، وأهلها أصل المسلمين، وهي دار طيبة لا يقطنها إلا طيب، والمشرك خبيث بشركه؛ فلذا حرمت عليه هذه الجزيرة.

وقد رتب الفقهاء رحمهم الله على هذا الأصل العظيم أحكامًا شرعية، منها:

1 -

منع أي كافر من التملك في جزيرة العرب؛ لأنه إذا حُرِّمت الإقامة والاستيطان حَرُمَتِ الأسباب المؤدية إليها.

2 -

أنه ليس للكافر المرور بجزيرة العرب والإقامة المؤقتة فيها إلا لعدة ليال لمصلحة كصاحب سفارة أو بيع بضاعة ونحو ذلك، أو عمل كما حصل لأهل خيبر، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه.

3 -

تحريم إقامة الكنائس وغيرها من معابد الكفار ووجوب هدم ما

(1)

انظر: "معجم البلدان"(2/ 137)، "خصائص جزيرة العرب" ص (15).

ص: 118

أحدث منها؛ لأن الكنيسة معبد كفري تقام فيه شعائر الكفار، وكل معبد يعد للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال.

4 -

لا تدفن جيفة كافر بهذه الجزيرة، فإن مات فيها نقل عنها إلا لضرورة، فتغيب جيفته في الفلاة لا في مقبرة تعد لهم

(1)

.

وبهذا يعلم عِظَمُ ما وقع فيه كثير من المسلمين اليوم من إدخال غير المسلمين إلى هذه الجزيرة من عَمَالةٍ وخدم وسائقين، ومعظم هؤلاء يخالطون المسلمين في بيوتهم غير مبالين بما ثبت في النصوص الشرعية الدالة على أنه لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان. والله المستعان!

(1)

انظر: "خصائص جزيرة العرب" ص (73).

ص: 119

‌الحث على إعداد آلات الجهاد في سبيل الله

1311/ 46 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قَال: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ في الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، عُدَّةً في سَبِيلِ اللهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الجهاد"، باب (المِجَنِّ ومن يتَّرِسُ بترس صاحبه)

(1)

(2904)، ومسلم (1757)(48) من طريق سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس الحدَثان، عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير

وذكر الحديث.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كانت أموال بني النضير) بنو النضير: إحدى طوائف اليهود الذين سكنوا قرب المدينة، وكانت منازلهم جنوب مسجد قباء، كما تقدم، فوادعهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه على ألا يحاربوه ولا يعينوا عليه، فنكثوا العهد كما هي عادة اليهود، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح، وكان هذا بعد بدر بستة أشهر على ما حكاه البخاري عن الزهري، عن عروة

(2)

.

(1)

مناسبة الحديث لهذا الباب جاءت في قوله: "وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله" والمجن من جملة آلات السلاح. انظر: "فتح الباري"(6/ 94).

(2)

"فتح الباري"(7/ 329).

ص: 120

والمراد بأموالهم: الأرض والنخيل وكل شيء من الحلقة والسلاح والكراع.

قوله: (مما أفاء الله على رسوله) الجار والمجرور خبر (كان) ومعنى أفاء: أعطى وردَّ، والفيء: ما أخذ بغير قتال.

قوله: (لم يوجف) أي: لم يسرع، والإيجاف: الإسراع، يقال: وجف الفرس والبعير: أسرع، وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع.

قوله: (ولا ركاب) بكسر الراء هي الإبل لا واحد له من لفظه وإنما من معناه، وهو راحلة.

وإيجاف الخيل والركاب كناية عن القتال؛ والمعنى: أن أموال بني النضير حصلت للمسلمين من غير حرب ولا قتال، بل بما أنزل الله في قلوبهم من الرعب، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2] وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في هذه الآية هم بنو النضير، وأول الحشر: إجلاؤهم من المدينة، وآخر الحشر: إجلاء عمر رضي الله عنه لهم من خيبر.

قوله: (فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة) أي: يضعها حيث شاء، فلا تقسم قسم الغنائم التي قوتل عليها.

قوله: (في الكراع) بضم الكاف، هي الخيل.

قوله: (والسلاح) اسم شامل لآلات الحرب من السيوف والرماح والدروع وغيرها.

قوله: (عدة في سبيل الله) بضم العين وتشديد الدال المهملتين؛ أي: استعدادًا؛ والمعنى: يعده عدة في سبيل الله.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن أموال بني النضير كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنها من الفيء الذي يصرف في مصالح المسلمين

(1)

،

(1)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 83).

ص: 121

وليست من الغنيمة التي تقسم على المجاهدين بعد أخذ الخمس؛ لأن أموال بني النضير لم تحصل بقتال، قال تعالى:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيهِ مِنْ خَيلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحشر: 6].

* الوجه الرابع: الحث على إعداد آلات القتال ووسائله، وتقديم مصلحة ذلك على غيره.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يدخر لأهله قوت سنة، وأن هذا لا ينافي التوكل على الله تعالى، وأما حديث أنس رضي الله عنه قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئًا لِغَدٍ)

(1)

. فهو -على القول بصحته- محمول على أنه لا يدخر لنفسه، وحمله ابن كثير على ادخار ما يسرع إليه الفساد

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه الترمذي (2362)، وابن حبان (14/ 270) من طريق قتيبة بن سعيد، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه. قال الترمذي:(هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا) وجعفر بن سليمان جاء في أحاديثه عن ثابت مناكير، كما ذكر علي بن المديني في "العلل"(72) ولعل هذا منها، والموصول والمرسل مدارهما على جعفر، وانظر:"الكامل" لابن عدي (2/ 144).

(2)

"الشمائل" لابن كثير ص (98 - 99).

ص: 122

‌ما جاء في قسمة الغَنَمِ إذا احتاجها المجاهدون

1312/ 47 - عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَال: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيبَرَ، فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا، فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا في الْمَغْنَمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في بيع الطعام إذا فَضَلَ عن الناس في أرض العدو) (2707) من طريق يحيى بن حمزة قال: حدثنا أبو عبد العزيز شيخ من أهل الأُرْدُنِّ

(1)

، عن عبادة بن نُسَيّ، عن عبد الرحمن بن غَنْم قال: رابطنا مدينة قِنَّسْرِين

(2)

مع شُرحْبيل بن السِّمْط، فلما فتحها أصاب فيها غنمًا وبقرًا، فقسم فينا طائفة منها، وجعل بقيتها في المغنم، فلقيت معاذ بن جبل فحدثته، فقال معاذ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وهذا الحديث سنده حسن، ورجاله لا بأس بهم كما قال الحافظ، وأبو عبد العزيز الأُرْدنيُّ قال عنه ابن معين:(لا أعرفه)، وقال أبو حاتم:(ما بحديثه بأس)

(3)

وقال ابن القطان: (كل رجاله ثقات)، ثم نقل كلام

(1)

ضبطها ياقوت في "معجمه"(1/ 147) بتشديد النون.

(2)

قال ياقوت: "كانت قنسرين وحمص شيئًا واحدًا""معجم البلدان"(4/ 403).

(3)

"الجرح والتعديل"(9/ 170).

ص: 123

أبي حاتم

(1)

. ونقل ابن عبد الهادي كلام ابن القطان وأقره

(2)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن للإمام أن يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من الأنعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب، ويترك الباقي في جملة المغنم يُقسم بين المجاهدين، وهذا موافق لمذهب الجمهور القائلين بجواز أخذ الغانمين ما يحتاجونه من القوت وكل طعام يُعتاد أكله، سواء أكان حيوانًا أم غيره، قال الخطابي:(الأصل أن الغنيمة مخموسة، ثم الباقي بعد ذلك مقسوم، إلا أن الضرورة لما دعت إلى إباحة الطعام للجيش والعلف لدوابهم صار قدر الكفاية منها مستثنى ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، وما زاد على ذلك مردود إلى المغنم، لا يجوز بيعه لآخذه والاستئثار بثمنه)

(3)

، وتقدم الكلام على ذلك، ولو أن المصنف ضم هذا الحديث إلى الأحاديث الماضية في هذه المسألة لكان أولى.

وقد حمل بعض الشراح كالمغربي هذا الحديث على التنفيل من أصل الغنيمة قبل التخميس، وتبعه على هذا الصنعاني، وما ذُكر هو قول الخطابي في معنى الحديث، وتبعه الشوكاني

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 391).

(2)

"المحرر"(2/ 528).

(3)

"معالم السنن"(4/ 36).

(4)

"البدر التمام"(4/ 533)، "سبل السلام"(4/ 124)، "نيل الأوطار"(7/ 336 - 337).

ص: 124

‌الأمر بالوفاء بالعهد والنهي عن حبس الرسل

1313/ 48 - عَنْ أَبي رَافِعٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الرُّسُلَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في الإمام يُستجن به في العهود)

(1)

(2758)، والنسائي في "الكبرى"(8/ 52)، وابن حبان (11/ 233) من طريق عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُلْقِيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله إني لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البُرُد، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع"، قال: فذهبت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قال بكير: وأخبرني الحسن: أن أبا رافع كان قبطيًّا.

وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير الحسن بن علي بن أبي رافع، وهو ثقة كما قال النسائي

(2)

، وقد صرح الحسن بأن جده أبا رافع أخبره بهذا الحديث.

(1)

أي: يُستتر به وأنه محل العصمة والوقاية للرعية، فإذا عقد العهد وصالح بين المسلمين وبين غيرهم إلى مدة أمِنَ الجميع. "عون المعبود"(7/ 436).

(2)

انظر: "تهذيب الكمال"(6/ 218)، "الصحيحة" رقم (702).

ص: 125

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا أخيس) أي: لا أنقض العهد ولا أفسده، يقال: خاس يخيس ويخوس: إذا غدر ونقض العهد، من قولهم: خاس الشيء في الوعاء: إذا فسد

(1)

.

قوله: (ولا أحبس الرسل) هكذا في "البلوغ"، وفي المصادر المذكورة:(البرد) وهو بالضم، وقيل: بسكون الراء، جمع بريد وهو الرسول.

قال الخطابي: (يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلى المُرْسِلِ إلا على لسان الرسول بعد انصرافه، فصار كأنه عَقَدَ له العقد مدة مجيئه ورجوعه)

(2)

، فكان ذلك بمنزلة عقد العهد.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب حفظ العهد والوفاء به ولو لشخص كافر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه لا يجوز حبس الرسل والسفراء بل يجب تأمينهم حتى يرجعوا إلى ديارهم وإلى من أرسلهم سالمين؛ لأن في حبسهم تعطيلًا لمهمتهم وقطعًا للاتصالات الدولية.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على سمو تعاليم الإسلام وشمولها لكل ما يحتاجه الناس، ومن ذلك ما يتعلق بحفظ العهود واحترام الرسل وتأمينهم حتى يرجعوا. والله تعالى أعلم.

(1)

"النهاية"(2/ 92).

(2)

"معالم السنن"(4/ 63).

ص: 126

‌حكم الأرض يغنمها المسلمون

1314/ 49 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيتُمُوهَا فَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ خُمُسَهَا للهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الجهاد والسير"، باب (حكم الفيء)(1756) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكر الحديث.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن ما يحصل للمسلمين من أموال الكفار بدون قتال فإنه يكون فيئًا مصرفه مصرف الفيء، وأما ما يحصل بالقتال فإنه يكون غنيمة خمسها لله ولرسوله، وأربعة أخماسها للغانمين.

هكذا فسر الحديث القاضي عياض، وتبعه من جاء بعده من الشراح

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"إكمال المعلم"(6/ 74)، "المفهم"(3/ 555)، "شرح الأُبِّي"(5/ 70).

ص: 127

‌باب الجزية والهدنة

الجزية في اللغة: مشتقة من الجزاء والمجازاة؛ لأنها جزاء تأمين الكفار وعصمة دمائهم وعيالهم وأموالهم، أو تمكينهم من سكنى دار الإسلام

(1)

.

والمراد هنا: ما يؤخذ من الكفار جزاء الكف عن قتالهم، أو إسكانهم دار الإسلام.

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، أما الكتاب فقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]؛ ومعنى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: ذليلون عند إعطائها، فلا يرسلون بها رسولًا، ولا يتعاظمون، ولا يعظَّمون عند تسليمها.

وأما السنة فمنها: ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند

(2)

: (أمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية)

(3)

، وكذا أحاديث الباب.

وقد أجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة.

وأما المعقول فهو أن الذمي يتمتع بحماية الدولة من أي عدوان خارجي أو داخلي، ويعفى من الخدمة العسكرية، فلا بد من دفع ضريبة مقابل تلك الحماية، ومقابل استقراره في دار الإسلام وحقن دمه والكف عن قتاله.

وقد شرعت الجزية سنة ثمان من الهجرة، وقيل: سنة تسع

(4)

.

(1)

انظر: "أحكام أهل الذمة"(1/ 22).

(2)

انظر: "البداية والنهاية"(10/ 111).

(3)

أخرجه البخاري (3159).

(4)

"فتح الباري"(6/ 259).

ص: 128

والهدنة: بضم الهاء وسكون الدال مشتقة من هَدَنْتُ الصبيَّ: إذا سكنته، والمراد هنا: الاتفاق على وقف القتال بين المتحاربين مدة معلومة، بعوض أو غيره، مع استمرار حالة الحرب.

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، ومن السنة الأحاديث الآتية، وقد أجمع المسلمون على جوازها في الجملة، والقياس يقتضيها؛ لأنه قد يكون بالمسلمين ضعف وفي عدوهم قوة، فيعقدونها حتى يقووا ويستعدوا.

ص: 129

‌ما جاء في أخذ الجزية من المجوس

1315/ 1 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا -يَعْني الْجِزْيَةَ- مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ولَهُ طَريقٌ في "المُوَطَّإِ" فِيهَا انْقِطَاعٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجزية والموادعة"، باب (الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب) (3156 - 3157) من طريق سفيان قال: سمعت عمْرًا قال: كنت جالسًا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بَجَالةُ سنة سبعين -عام حجَّ مصعبُ بن الزبير بأهل البصرة - عند درج زمزم قال: كنت كاتبًا لِجَزْءِ بن معاوية عمِّ الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.

ورواه مالك في "الموطأ"(1/ 278) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".

وهذا الحديث رجاله ثقات، لكنه منقطع، كما قال الحافظ

(1)

، وذلك

(1)

انظر أيضًا: "فتح الباري"(6/ 261).

ص: 130

لأن رواية محمد بن علي بن الحسين عن عمر رضي الله عنه مرسلة

(1)

، قال ابن عبد البر:(هذا حديث منقطع؛ لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن بن عوف) ثم قال: (لكن معناه متصل من وجوه حسان)

(2)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من مجوس) واحدهم مجوسي، وهذا مما يفرق بينه وبين مفرده بالياء، كروم ورومي، وهو نسبة إلى المجوسية، والمجوس قوم يعبدون النور والنار والظلمة، والشمس والقمر، ويزعمون أن للكون إلهين، وهم في بلاد فارس وما حولها، وقد قضى الإسلام على هذه النحلة ظاهرًا بعد فتح بلاد فارس، لكن بقيت لها آثار في بعض الطوائف كالشيعة وإخوان الصفا والبهائية والنصيرية الباطنية والقدرية وغيرها، وهم يستبيحون نكاح أخواتهم وسائر محارمهم

(3)

.

قوله: (هَجَر) بفتحتين، وهي اسم لجميع أرض البحرين، ومنها الأحساء.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية الجزية.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل لمن قال: إن الجزية تؤخذ من المجوس كما تؤخذ من اليهود والنصارى، ويشهد لهذا الحديث حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها

(4)

. وكان غالب أهل البحرين إذ ذاك من المجوس

(5)

، قال ابن عبد البر (في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في المجوس:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يعني في الجزية، دليل على أنهم ليسوا أهل الكتاب، وعلى ذلك

(1)

"المراسيل" ص (185).

(2)

"التمهيد"(2/ 114، 116). وانظر: "التنقيح"(4/ 618).

(3)

"الاقتضاء"(1/ 148).

(4)

رواه البخاري (3158)، ومسلم (2961).

(5)

"فتح الباري"(6/ 262).

ص: 131

جمهور الفقهاء)

(1)

. ومثل هذا قال ابن القيم

(2)

. وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن العالم الحبر قد يخفى عليه ما يوجد عند من دونه في العلم، وأن العالم إذا جهل شيئًا أو أشكل عليه لزمه الاعتراف بالتقصير، ثم سؤال من هو أعلم منه، أو البحث في المسألة حتى يقف على الصواب فيما أشكل عليه

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"التمهيد"(2/ 119).

(2)

انظر: "أحكام أهل الذمة"(1/ 6).

(3)

"التمهيد"(2/ 116).

ص: 132

‌ما جاء في أخذ الجزية من العرب

1316/ 2 - عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيمَانَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَأَخَذُوهُ، فَحَقَنَ دَمَهُ، وَصَالحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

الأول: هو أبو عمرو أو أبو عمر عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي الأنصاري، روى عن أبيه وعن جابر بن عبد الله وأنس وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه ابنه الفضل، وبكير بن عبد الله بن الأشج، ومحمد بن إسحاق وغيرهم، وهو ثقة كثير الحديث، أمره عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل، مات سنة تسع عشرة ومائة على أحد الأقوال.

وقد وهم المغربي حيث ظنه عاصم بن عمر بن الخطاب، وتبعه على هذا الوهم الصنعاني، وقد نص المزي على أنه عاصم بن عمر بن قتادة

(1)

.

والثاني: هو قاضي مكة عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي المكي، روى عن عمه نافع بن جبير وابن عمه سعيد بن محمد بن جبير وآخرين، وروى عنه إسماعيل بن أمية وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم، وقد وثقه أحمد وابن معين وابن سعد وأبو حاتم وآخرون، علق له

(1)

"تحفة الأشراف"(1/ 249)، "تهذيب التهذيب"(5/ 47)، "البدر التمام"(4/ 249)، "سبل السلام"(7/ 315).

ص: 133

البخاري، وروى له مسلم

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الخراج" بابٌ (في أخذ الجزية)(3037) من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس بن مالك، وعن عثمان بن أبي سليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد

الحديث.

وهذا الحديث مداره على محمد بن إسحاق، وقد رواه عن شيخيه عاصم بن عمر، وعثمان بن أبي سليمان، إلا أن عاصمًا أسنده، وعثمان أرسله، فالحديث رواه أبو داود متصلًا من طريق عاصم بن عمر، عن أنس، ومرسلًا من طريق عاصم، عن عثمان، وقد ساقه الحافظ في "البلوغ" على سياق أبي داود.

ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، ومع هذا فقد حسنه الألباني

(2)

، ولعله حسنه لكون ابن إسحاق قد صرح بالتحديث كما في "السيرة" لابن هشام و"السنن الكبرى" للبيهقي

(3)

، وفيه نظر. ثم إن الظاهر أن هذا الاختلاف من ابن إسحاق، وهو لا يُحتمل منه مثل هذا، فالظاهر أنه لم يضبط الحديث.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (بعث خالد بن الوليد) أي: أرسله في سرية أيام غزوة تبوك، وكان عددهم أربعمائة وعشرين فارسًا

(4)

.

قوله: (إلى أُكَيْدِرِ دومة) هو أُكيدر -بضم الهمزة، وفتح الكاف- ابن عبد الملك الكندي، ملك دومة الجندل في الجاهلية، كان شجاعًا مولعًا باقتناص الوحش، وكان نصرانيًّا، قال الخطابي:(هو رجل من العرب يقال: هو من غسان)

(5)

. واختلف في إسلامه، فقيل: إنه أسلم، وقد ورد أنه أهدى

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 111).

(2)

"صحيح سنن أبي داود"(2/ 589).

(3)

"السيرة"(4/ 170)، "السنن الكبرى"(9/ 187).

(4)

"زاد المعاد"(3/ 538).

(5)

"معالم السنن"(4/ 249).

ص: 134

للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس، كما ثبت هذا في "الصحيحين"، قال ابن الأثير:(أما سرية خالد فصحيح، وإنما أهدى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصالحه ولم يسلم، وهذا لا اختلاف بين أهل السير فيه، ومن قال: إنه أسلم فقد أخطأ ظاهرًا)

(1)

.

ودومة: بضم الدال وسكون الواو، هي دومة الجندل، وهي الآن مدينة عامرة بها نخل وزرع، وكانت عاصمة مقاطعة الجوف، ثم انتقلت العاصمة إلى سكاكا التي تقع جنوب شرق دومة الجندل بحوالي أربعين كيلًا، وقد جاء في بعض نسخ "البلوغ":(دومة الجندل)، وهذا خطأ؛ فإن لفظة (الجندل) ليست في "سنن أبي داود".

قوله: (فأخذوه) لفظ أبي داود: (فأُخذ، فأتوه به).

قوله: (فحقن دمه) أي: لم يسفكه بل أعطاه عهدًا بحفظه، تقول:(حقنت دمه: خلاف هدرته، كأنك جمعته في صاحبه فلم ترقه)

(2)

.

* الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: إن الجزية تؤخذ من جميع الكفار ومنهم من بقي على كفره من العرب، وهذا يتم على القول بأن أكيدر من عرب كندة، كما تقدم، قال الحافظ: (إن ثبت أن أكيدر كان كنديًّا، ففيه دليل على أن الجزية لا تختص بالعجم من أهل الكتاب

)

(3)

، وقال ابن القيم: (لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم بل أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب وأخذها من مجوس هجر وكانوا عربًا

)

(4)

، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي:(قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إما الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف، من غير فرق بين كتابي وغيره)

(5)

وقد مضى البحث في هذا عند شرح حديث بريدة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

(1)

"أسد الغابة"(1/ 135)، وانظر:"الكامل"(3/ 192)، "تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 124)، "السيرة" لابن هشام (4/ 169).

(2)

"المصباح المنير" ص (144).

(3)

"التلخيص"(4/ 2961).

(4)

"زاد المعاد"(3/ 157).

(5)

"تفسير ابن سعدي" ص (311).

ص: 135

‌ما جاء في مقدار الجزية وصفة دافعها

1317/ 3 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَال: بَعَثَنِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ .. وَأَمَرَنِي "أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِريًّا". أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم تخريجه والكلام عليه في كتاب "الزكاة"، رقم (601)، وقد رواه أصحاب السنن من طرق، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ رضي الله عنه مرفوعًا، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الترمذي والدارقطني رواية الإرسال، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بعثني إلى اليمن) تقدم أن ذلك في ربيع الأول سنة عشر، وعاد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

قوله: (من كل حالم) اسم فاعل من حَلَمَ الصبي فهو حالم، ويقال: احتلم فهم محتلم؛ أي: أدرك وبلغ مبلغ الرجال.

قوله: (دينارًا) تقدم أنه يساوي ثلاث جرامات ونصف الجرام أو ثلاث وثلاثة أرباع الجرام من الذهب.

قوله: (أو عدله معافريًّا) العدل: بفتح العين وسكون الدال ما يساوي قيمة الشيء ومقداره، نقل الخطابي هذا عن الفراء، ويرى ابن الأثير جواز فتح

ص: 136

العين وكسرها

(1)

.

والمعافري: نسبة إلى مَعافر -بالفتح على وزن مساجد- وهم حي من همدان في اليمن، والمراد بها ثياب تنسج في اليمن نسبت إليهم.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الجزية لا تؤخذ إلا ممن بلغ الحلم؛ لأن الجزية إنما تجب على من يجب قتله مقابل الكف عنه.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الجزية إنما تجب على الذكر دون الأنثى؛ لأن الحالم عبارة عن الرجل، فالرجل هو الذي تؤخذ منه الجزية.

أما من لا يجوز قتله من صبي أو امرأة أو زائل العقل أو شيخ فانٍ أو أعمى ونحوهم فلا جزية عليه؛ لأن الجزية تؤخذ لحقن الدم، وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها

(2)

.

وقد أخرج عبد الرزاق وأبو عبيد بسنديهما عن نافع، عن أسلم مولى عمر، أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد:(أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)

(3)

؛ يعني: من أنبت، قال أبو عبيد:(وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية ومن لا تجب عليه، ألا تراه إنما جعلها على الذكور المدركين، دون الإناث والأطفال؟ وذلك أن الحكم كان عليهم القتل لو لم يؤدوها، وأسقطها عمن لا يستحق القتل، وهم الذرية)

(4)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على نوع من التسامح الإسلامي في الجزية حيث أُخذت قيمتها من صنائع أهل الذمة وأموالهم كالثياب ونحوها،

(1)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 195)، "النهاية"(3/ 190 - 191).

(2)

انظر: "الإشراف"(4/ 44)، "المغني"(13/ 216).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (6/ 85) مطولًا، وأبو عبيد في الأموال ص (41)، وكذا البيهقي (9/ 195، 198) مختصرًا، انظر:"العلل" لابن أبي حاتم (932).

(4)

"الأموال" ص (41)، وانظر:"زاد المعاد"(3/ 157)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 42).

ص: 137

وهذا يدل على أن الجزية غير مقدرة الجنس، بل يجوز أن تكون ثيابًا وذهبًا وغير ذلك.

* الوجه السادس: يستدل بعض الفقهاء بهذا الحديث على مقدار الجزية، وأن أقلها دينار، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد

(1)

، وقال أبو حنيفة: إنها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهمًا، ونصفها في حق المتوسط، وربعها في حق الفقير، وهذا رواية عن الإمام أحمد، لفعل عمر رضي الله عنه، وهؤلاء هم القائلون بأن الجزية مقدرة.

وذهب الثوري، والإمام أحمد -في رواية ثالثة- وأبو عبيد إلى أن الجزية غير مقدرة، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام

(2)

، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم

(3)

. وذلك لتغير الأحوال بتغير الأزمان، وعملًا بجميع الأدلة في هذا الباب، وهذا هو أرجح الأقوال. والله تعالى أعلم.

(1)

"الأم"(5/ 424)، "المهذب"(2/ 321)، "المغني"(13/ 210).

(2)

انظر: "الأموال" ص (46)، "المغني"(13/ 210)، "أحكام أهل الذمة"(1/ 26)، "الإنصاف"، (4/ 193).

(3)

"الفتاوى"(19/ 253 - 254)، "زاد المعاد"(3/ 156).

ص: 138

‌ما جاء في أن الإسلام يعلو ولا يعلى

1318/ 4 - عَن عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو المُزنيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "الإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى"، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو هبيرة عائذ بن عمرو بن هلال المزني البصري، كان ممن بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة، قال ابن عبد البر:(كان من صالحي الصحابة)، سكن البصرة، وابتنى بها دارًا، روى عنه الحسن ومعاوية بن قرة، وعامر الأحول، وغيرهم، روى البغوي من طريق أسماء بن عبيد قال: كان عائذ بن عمرو لا يخرج ماءً من داره، ويقول: (لأن أصبَّ طستي في حَجَلَتِي

(1)

، أحب إلي من أن أصب في طريق المسلمين)، مات في إمارة ابن زياد أيام يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين رضي الله عنه

(2)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الدارقطني (3/ 252)، والبيهقي (6/ 205) من طريق حشرج بن عبد الله بن حشرج، حدثني أبي، عن جدي، عن عائذ بن عمرو المزني مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف، عبد الله بن حشرج مجهول، وكذا والده حشرج بن عائذ، ذكر ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه

(3)

، ونقل الزيلعي عن الدارقطني مثل

(1)

الحجلة مثل القبّة. "ترتيب القاموس"(1/ 595).

(2)

"الاستيعاب"(5/ 306)، "الإصابة"(5/ 308).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 296)(5/ 40).

ص: 139

ذلك

(1)

، وأما حشرج بن عبد الله فقال عنه أبو حاتم:(شيخ).

وقد علقه البخاري موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما

(2)

، وذكره ابن حزم في "المحلى" من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس في اليهودية أو النصرانية تسلم تحت اليهودي أو النصراني، قال:"يفرق بينهما، الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"

(3)

. قال الحافظ: (هذا إسناد صحيح، لكن لم أعرف إلى الآن من أخرجه)

(4)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على علو أهل الإسلام على أهل الأديان، والمسلمون ما اكتسبوا هذه الصفة العظيمة إلا بهذا الدين، فمتى تمسكوا به فهم الأعلون، قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].

والحديث عام في جميع الأحوال، وهو قاعدة عظيمة مؤيدة بنصوص الكتاب والسنة، والفقهاء يستدلون به في فروع الفقه على مسائل كثيرة، ومنها: المنع من بيع العبد المسلم للكافر، ومنها: أن المرأة المسلمة لا تزوج لكافر، وأن الولد يتبع خير أبويه دينًا، وأن أهل الذمة يُمنعون من تعلية بيوتهم على المسلمين، ويؤيد معناه قوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، وقوله تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يعملوا على ما فيه علو الإسلام ورفعته وظهوره على الأعداء في أمور الحرب وأمور المصالحة، والسياسة الاقتصادية، وفي كل شيء، وألا يجعلوا للأعداء أي فرصة في العلو عليهم والهيمنة على ديارهم وفرض أفكارهم ومناهج حياتهم، وهم الذين يملكون بعقيدتهم قيادة البشرية وهدايتها إذا استقاموا على أمر الله، مع ما في أرضهم من كنوز وخيرات، والله المستعان!.

(1)

"نصب الراية"(3/ 313).

(2)

"فتح الباري"(3/ 219).

(3)

"المحلى"(7/ 314).

(4)

"تغليق التعليق"(2/ 490).

ص: 140

‌النهي عن السلام على أهل الكتاب وتوسعة الطريق

1319/ 5 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تَبْدَأُوا الْيَهُودَ والنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "السلام"، باب (النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم؟)(2167) من طريق عبد العزيز -يعني الدراوردي- عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ أحدًا من اليهود أو النصارى بالسلام، وذلك لأن ابتداء السلام عليهم فيه مفاسد منها:

1 -

الوقوع في النهي الثابت في السنة، والأصل في النهي التحريم، وحمله على الكراهة -كما قيل- خلاف الأصل.

2 -

أن السلام فيه نوع من الإكرام والذُّلِّ لهم، وهم ليسوا أهلًا للإكرام.

3 -

إذهاب وهج الحسد من قلوبهم، وهم قد حسدونا على السلام، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين"

(1)

، فمن سلم عليهم أدخل السرور على أفئدتهم لتشريكهم في هذه التحية.

(1)

رواه البخاري في "الأدب المفرد"(988)، وابن خزيمة (574)، (1585)، وابن =

ص: 141

وإذا نهي المسلم عن ابتداء اليهود والنصارى بالسلام وهم أهل كتاب، فغيرهم من المشركين كالهندوس والبوذيين أولى.

ومما يؤسف عليه أن من المسلمين من لم يُقِمْ لهذا النهي وما اشتمل عليه من الحكم والأسرار أي اعتبار، فتراه لا يفرق بين مسلم وكافر في التحية، فيسلم على الكافر كما يسلم على المسلم، ويظن ذلك من المحامد والآداب المطلوبة، وسبب هذا كثرة وفود الكفار إلى ديار المسلمين واختلاطهم بهم وكثرة سفر المسلمين إلى ديارهم مما أذهب الغيرة وأضعف واجب البراءة والعداوة للكافرين في قلوب كثير من الناس.

* الوجه الثالث: مفهوم النهي عن ابتدائهم بالسلام أنه لا نَهْيَ عن رد السلام عليهم، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك"

(1)

. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"

(2)

. وقد نقل النووي اتفاق العلماء على مشروعية الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، لكن لا يقال: وعليكم السلام، بل يقال: عليكم أو وعليكم.

وإذا كان للمسلم حاجة عند أحد من أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار فلا بأس أن يبتدئهم بنحو قوله: السلام على من اتبع الهدى، أما ابتداؤهم بنحو: كيف أصبحت أو كيف أمسيت، أو كيف حالك؟ أو غير ذلك من ألفاظ التحية سوى تحية الإسلام فقد كرهه الإمام أحمد، وقال: هذا عندي أكثر من السلام

(3)

.

= ماجه (856) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. وسنده صحيح.

(1)

رواه البخاري (6257)، ومسلم (2164).

(2)

رواه البخاري (6258)، ومسلم (2163).

(3)

انظر: "المغني"(13/ 252).

ص: 142

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه لا يجوز توسعة الطريق لليهود والنصارى بل نضطرهم إلى أضيقها، لأن فسح الطريق لهم نوع إكرام لهم، وهم لا يستحقونه، والمراد بالحديث حال المشي على الأقدام، وأما في السيارة ونحوها فالظاهر أنه غير مراد لما يترتب عليه من الخطر.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق فإن المسلم لا يفسح له، لأن هذا من إكرامه، بل يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم، إذلالًا للكتابي وإشعارًا بعزة الإسلام، وهذا مقيد عند العلماء بقيدين:

الأول: أن هذا عند الزحام، فيركب المسلمون صدر الطريق، ويكون الذمي في أضيقه، فإن خلت الطريق من الزحمة فلا بأس.

الثاني: أن هذا التضييق مقيد بحيث لا يقع الذمي في ضرر، كأن يقع في حفرة أو يصدمه جدار ونحوه

(1)

.

وهذا الحديث سيعيده المؤلف مرة أخرى في كتاب "الجامع". ولعله يأتي هناك زيادة عما في هذا الموضع. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(14/ 398)، "دليل الفالحين"(3/ 349).

ص: 143

‌جواز عقد الهدنة بين المسلمين والمشركين

1320/ 6 - عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عامَ الْحُدَيبِيَةِ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ:"هَذَا مَا صَالحَ عَلَيهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيلَ بْنَ عَمْرٍو: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ في الْبُخَارِيِّ.

1321/ 7 - وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه وَفِيهِ: "أَنَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَينَا"، فَقَالوا: أَنَكْتُبُ هذَا يَا رسُولَ اللهِ؟ قَال: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا".

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

المسور بن مخرمة رضي الله عنه تقدمت ترجمته في "صفة الحج" عند الحديث (766)، وأما مروان فهو أبو عبد الملك، مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي، ولد في السنة الثانية أو الرابعة من الهجرة، قال البخاري:(لم ير النبي صلى الله عليه وسلم)، وقال الحافظ:(لم أر من جزم بصحبته)، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم أباه الحكم إلى الطائف وهو معه، وبقي فيها حتى ولي عثمان رضي الله عنه فردَّه. أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وعثمان وعلي وبسرة بنت صفوان، وقرنه البخاري بالمسور بن مخرمة في روايته عن الزهري، عن عروة، عنهما، كما سيأتي، روى عنه سهل بن سعد، وهو أكبر منه سنًّا وقدرًا؛ لأنه صحابي، وروى عنه من

ص: 144

التابعين ابنه عبد الملك، وعلي بن الحسين، وعروة، وغيرهم، وقال الحافظ:(كان يعد من الفقهاء).

ولي إمرة المدينة أيام معاوية، ثم أخرجه منها عبد الله بن الزبير، فسكن الشام، ثم عاد إلى المدينة، وحدثت فتن كان من أنصارها، وبويع له بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية بالجابية

(1)

سنة أربع وستين، وغلب على الشام ومصر، ومات بعد تسعة أشهر من بدء خلافته في رمضان سنة خمس وستين

(2)

.

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في صلح العدو)(2766) من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عَيبَةً

(3)

مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.

وهذا لفظ الحديث كما في "سنن أبي داود"، ورواه -أيضًا- (2765) من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية

وساق الحديث بطوله، وليس فيه محل الشاهد الذي ذكر الحافظ هنا، ثم إنه من رواية المسور وحده كما في سياق إسناده، ويبدو أن الحافظ روى الحديث بالمعنى، فصار مؤلفًا من حديثين، ثم إن رواية المسور ومروان مرسلة، أما مروان فلأنه لا صحبة له كما تقدم، وأما المسور فلأنه لم يحضر هذه القصة، وإنما سمعها من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فهو مرسل صحابي، وتحديد المدة تفرد به ابن إسحاق عن أصحاب الزهري.

(1)

الجابية: بكسر الباء وياء خفيفة: قرية من أعمال دمشق. انظر: "مراصد الاطلاع"(1/ 304).

(2)

"الاستيعاب"(10/ 70)، "السير"(3/ 476)، "الإصابة"(9/ 318).

(3)

العيبة: بفتح العين ما يجعل فيه الثياب، ومكفوفة؛ أي: مشدودة ممنوعة؛ أي: أمرًا مطويًّا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم، والإسلال: السرقة، والإغلال: الخيانة.

ص: 145

والحديث أصله في "صحيح البخاري" في كتاب "الشروط"، باب (الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط)(2731)(2732) من طريق معمر، قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه- قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية

وساق الحديث بطوله.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد رواه مسلم في كتاب "الجهاد"، باب (صلح الحديبية)(1784) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن قريشًا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو

وفيه: فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم

وذكر تمام الحديث.

ولعل الحافظ اقتصر على هذا القدر من حديث أنس رضي الله عنه؛ لأن هذه المسألة مختلف فيها

(1)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (خرج عام الحديبية) أي: سافر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدًا العمرة زمن الحديبية، وكان ذلك يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة -على الصحيح- ومعه ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة

(2)

.

والحديبية: بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء مشددة أو مخففة، اسم موضع، سميت ببئر في ذلك الموضع، وقيل: بشجرة حدباء، وهي اليوم قرية بعضها في الحل وبعضها في الحرم على أشهر الأقوال، وتبعد عن مكة اثنين وعشرين كيلًا من جهة الشمال الغربي، وتعرف اليوم باسم الشميسي، وفيها حدائق تعرف باسم حدائق الحديبية

(3)

.

قوله: (سهيل بن عمرو) هو أبو زيد سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري، خطيب قريش، وهو الذي تولى أمر الصلح في الحديبية،

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 345).

(2)

"زاد المعاد"(3/ 287).

(3)

"معجم البلدان"(2/ 229)، "مرويات غزوة الحديبية" ص (17).

ص: 146

وكلامه ومراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم ثابت في "الصحيحين" وغيرهما، قال الشافعي:(كان سهيل محمود الإسلام من حين أسلم)، مات سنة ثماني عشرة رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على جواز عقد الهدنة بين المسلمين والمشركين مدة مقدرة معلومة لمصلحة يراها الإمام، واشترط كون المدة معلومة؛ لأنها لو أطلقت ولم تقدر اقتضى ذلك التأبيد، وهذا يفضي إلى ترك الجهاد.

ومذهب الإمام أحمد والشافعي أن المدة لا تجوز بأكثر من عشر سنين؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، لكن تحديد المدة تفرد به ابن إسحاق عن بقية أصحاب الزهري.

والقول الثاني: أنه يجوز عقد الهدنة أكثر من عشر سنين، لكن تحدد المدة لما تقدم، وهذا رواية عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة

(3)

.

والقول الثالث: أنه يجوز عقد الهدنة مطلقًا بدون تحديد مدة، لكنه عقد جائز يعمل فيه الإمام بالمصلحة، فإن رأى القوة فله نبذ العهد، وهذا اختيار ابن تيمية

(4)

.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الذي يعقد الهدنة هو الإمام أو نائبه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي صالح قريشًا، أما غير الإمام أو نائبه فلا يصح منه العقد؛ لأن هذا أمر يتعلق بنظر واجتهاد ومصلحة للمسلمين، وليس غير الإمام ونائبه محلًّا لذلك لعدم ولايته عليهم.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب المحافظة على نصوص المعاهدة التي تعقد بين المسلمين والمشركين، ولو اشتملت على شروط فيها غضاضة على المسلمين فلا بأس، إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، فإن صلح الحديبية قد اشتمل على بعض الشروط التي فيها شيء من الذل على المسلمين، ومن ذلك اشتراط المشركين أثناء كتابة الصلح ألا يكتب محمد

(1)

"الاستيعاب"(4/ 287)، "الإصابة"(4/ 287).

(2)

"المهذب"(2/ 333)، "المغني"(13/ 155).

(3)

"الهداية"(2/ 138)، "المغني"(13/ 155).

(4)

"الاختيارات" ص (315).

ص: 147

رسول الله، وإنما يكتب محمد بن عبد الله، وألا يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وإنما يكتب باسمك اللهم، كما اشترطوا أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم بغير إذن وليه أنه يرده عليهم، ومن جاء من المسلمين فإنه لا يرد عليهم. وهدف قريش من هذه الشروط وغيرها الحفاظ على سمعتها وعدم الاعتراف بالمسلمين كندٍّ لها يقف معها جنبًا إلى جنب، وقد تخلَّفت قريش عن بعض الشروط، ثم نقضوا العهد.

أما هدف الرسول صلى الله عليه وسلم فهو تحقيق مصالح الدعوة، وما يترتب على هذا الصلح من أمن الناس والكف عن القتال حتى يظهر الإسلام، وينتشر الناس ويتصلوا بالمدينة، ويحصل سماع القرآن والسنة. ولهذا اتضح من خلال عقد الصلح تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهو تسامح محكوم بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يسألونني خُطة يعظِّمون فيها حُرُمَاتِ الله إلا أعطيتهم إياها"

(1)

.

ومع هذا فقد تألم عمر وبعض الصحابة رضي الله عنهم من شروط قريش، ورأوا أن الرضا والالتزام بها يعبر عن الضعف والاستكانة أمام الكفار، حتى قال عمر رضي الله عنه:(فَعَلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا؟)، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي تلك الشروط ووقَّع مع قريش العقد عليها، وقال لعمر:"إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري"، والله تعالى هو العليم بما سيكون كيف يكون، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم واثق بالله تعالى كل الثقة أن العاقبة له وللمسلمين وأن كفته هي الراجحة وإن ظهر للناس ما ظهر.

وقد صارت العاقبة حميدة، فأنزل الله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] فجعل الله تعالى ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه، قال ابن كثير عند هذه الآية:(والمراد به صلح الحديبية؛ فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان)

(2)

. والحمد لله رب العالمين.

(1)

رواه البخاري (2731).

(2)

"تفسير ابن كثير"(7/ 310). وانظر: "زاد المعاد"(3/ 309).

ص: 148

‌إثم من قتل معاهدًا

1322/ 8 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الجزية والموادعة"، باب (إثم من قتل معاهدًا بغير جرم)(3166)، وفي "الديات"(6914) من طريق عبد الواحد، حدثنا الحسن بن عمرو، حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرٍو

(1)

رضي الله عنهما مرفوعًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من قتل معاهدًا) بفتح الهاء اسم مفعول، وبكسرها

(2)

اسم فاعل، من عاهد فلانًا أعطاه عهدًا، والمعَاهَدُ: إما ذمي أعطي عقدًا مستمرًا للبقاء في دار الإسلام بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام، أو مستأمِن: وهو من أعطي عقدًا مؤقتًا لغرض شرعي كسماع كلام الله أو تجارة أو سفارة، كما يطلق المعاهد على من أُبرم مع دولته عقد هدنة على ما تقدم بيانه، قال الحافظ:(والمراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم)

(3)

.

قوله: (لم يرح رائحة الجنة) بفتح الياء والراء، من راح يراح، كخاف

(1)

انظر: "فتح الباري"(6/ 270)، (12/ 259).

(2)

انظر: "عمدة القارئ"(12/ 232).

(3)

"فتح الباري"(12/ 259).

ص: 149

يخاف، وهذا اختيار أبي عبيد والخطابي وابن الجوزي وابن التين وغيرهم.

ويجوز ضم الياء وكسر الراء، من أراح يُريح، تقول: أرحتُ الشيء فأنا أُريحه، ويجوز فتح الياء وكسر الراء، وقد حكى الزمخشري اللغات الثلاث في "الفائق"

(1)

.

قوله: (ليوجد) هذه رواية البخاري في "الديات"، وأما لفظه في الباب المذكور فهو:(وإن ريحها توجد).

قوله: (مسيرة أربعين عامًا) أي: إن ريح الجنة وطيبها ونسيمها يجده المؤمن يوم القيامة من مسافة أربعين عامًا

(2)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على إثم من قتل معاهدًا بغير حق، وأن هذا من كبائر الذنوب لثبوت الوعيد فيه، وهذا يفيد وجوب صيانة دماء أهل الذمة والمعاهدين، وأن المعاهد له حق الأمن على نفسه وماله وعرضه، حتى تتم المدة أو ينبذ إليهم العهد إذا خيف خيانتهم، وإذا كان هذا الوعيد في قتل المعاهد فكيف بقتل المسلم؟!.

وتقييد قتله بغير حق ليس في الحديث، وقد قيده البخاري كما في الترجمة المذكورة، وهذا القيد مستفاد من قواعد الشرع، وثبت في روايات خارج الصحيح

(3)

.

وقد تقدم الكلام في الاقتصاص من قاتل المعاهد في "الجنايات". والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 116 - 118)، "أعلام الحديث"(2/ 1464)، "الفائق"(2/ 89)، "كشف المشكل" لابن الجوزي (4/ 120)، "فتح الباري"(6/ 270)، "عمدة القارئ"(12/ 232).

(2)

انظر: "فتح الباري"(12/ 260).

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 259).

ص: 150

‌باب السَّبْق والرمي

السبْق: بتسكين الباء، مصدر سبق؛ أي: تقدم، وهو بلوغ الغاية قبل غيره.

والسبَق: بفتح الباء هو العوض والجُعْلُ، والمراد به: ما يجعل للسابق على سبقه من جعل أو نوال، وهذا هو المعروف الآن بالجائزة، ومعناها في اللغة: العطية، وجمعها: جوائز

(1)

.

والمسابقة جائزة بالسنة والإجماع، أما السنة فما ذكره الحافظ من الأحاديث، وأما الإجماع فقد قال الموفق:(أجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة)

(2)

.

ومن جهة المعنى فإن المسابقة إذا خلت من العبث، فهي من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد والمصالح والانتفاع بها عند الحاجة إليها.

وأما الرمي: فهو مصدر رميت الشيء وبالشيء: إذا قذفته، ورمى بالشيء أيضًا: ألقاه

(3)

.

والرمي يقال في الأعيان كالسهم والحجر، وهو المراد هنا، ويقال في المقال كناية عن الشتم والقذف، وتقدم في (الحدود).

والمسابقة في الرمي بالسهام تسمى مناضلة، يقال: ناضله مناضلة ونضالًا: باراه في الرمي

(4)

.

(1)

"غريب الحديث" للخطابي (1/ 521)، "اللسان"(5/ 327).

(2)

"المغني"(13/ 404).

(3)

"الصحاح"(6/ 2362).

(4)

"اللسان"(11/ 665).

ص: 151

‌مشروعية سباق الخيل وتنويع المسافة حسب قوتها وضعفها

1323/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: سَابَقَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيلِ الَّتي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيّةَ الْوداعِ، وَسَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُرَيقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

زَادَ الْبُخَارِيُّ، قَال سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتةٌ، وَمِنَ الثنِيَّة إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيقٍ مِيلٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الصلاة"، باب (هل يقال مسجد بني فلان؟)(420)، ومسلم (1870) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ورواه البخاري -أيضًا- في "الجهاد"(2868) من طريق سفيان، عن عبيد الله، عن نافع به، وزاد: قال سفيان: (بين الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين ثنيةَ إلى مسجد بني زريق ميل).

ولعل الحافظ أورد هذه الزيادة؛ لأنها بينت المسافة التي لم تذكر في الرواية الأولى.

ورواه البخاري -أيضًا- (2870) من طريق أبي إسحاق، عن موسى بن

ص: 152

عقبة عن نافع به، وفيه: فقلت لموسى: فكم بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قد أضمرت) الإضمار: ضد التسمين، ومعناه: إعلاف الخيل حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتًا وتغشى بالجلال حتى تحمى وتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجري

(1)

.

قوله: (من الحفياء) بفتح الحاء مع المد أو القصر، موضع خارج المدينة وراء أُحد من جهة الشمال.

قوله: (وكان أمدها) بفتح الهمزة والميم؛ أي: غايتها.

قوله: (إلى ثنية الوداع) بفتح الواو، وأصل الثنية: الطريق في الجبل، وهي ثنية مشرفة على المدينة، يطؤها من يريد مكة، وقيل: مريد الشام، سميت بذلك؛ لأنها موضع توديع المسافرين إلى مكة

(2)

.

قوله: (إلى مسجد بني زريق) بضم الزاي المعجمة، بطن من الخزرج من الأنصار، وهذا المسجد يقع قرب مسجد المصلى المعروف بمسجد الغمامة الواقع في الجنوب الغربي من المسجد النبوي، قرب النهاية الجنوبية لشارع المناخة.

قوله: (خمسة أميال أو ستة) تقدم في "الصلاة" أن الميل: (1848 م)، فتكون مسافة السباق على الأول:(240، 9) تسعة أكيالٍ ومائتين وأربعين مترًا، وقال موسى بن عقبة: ستة أميال أو سبعة. قال الحافظ: (وهو اختلاف قريب)

(3)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية السباق بالخيل، وأن هذا من الرياضة المحمودة الموصلة إلى مقاصد شرعية مطلوبة، وهي الإعداد

(1)

"فتح الباري"(6/ 72).

(2)

"المغانم المطابة" ص (80).

(3)

"فتح الباري"(6/ 72).

ص: 153

للجهاد في سبيل الله تعالى قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، وهذا من حرص الإسلام على إعداد أسباب القوة، التي منها المسابقة والعدو لأجل أن يدرك المجاهدون مرادهم من عدوهم، أو يهربوا منه عند الحاجة، وتخصيص ذلك بالخيل؛ لأنها هي العدة التي يقاتل عليها في ذلك الزمن، ويقاس عليها ما ظهر في هذا الزمن مما شاركها في العلة.

* الوجه الرابع: جواز إضمار الخيل بالصفة المتقدمة، وهذا مستحب في الخيل المعدة للغزو، وليس هذا من باب تعذيبها، بل من باب تدريبها للحرب وإعدادها لحاجتها والكر والفر.

* الوجه الخامس: مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة، ووضع علامات يعرفها المتسابقان؛ لأن الغرض من السباق معرفة الأسبق، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الغاية التي يتسابقان إليها، ونقطة الانطلاق التي يبدآن منها.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على مشروعية تنويع مسافة السباق إلى مسافات طويلة ومسافات قصيرة على حسب درجات الخيل، فالخيل المضمرة تتسابق وحدها، والخيل التي لم تضمر تتسابق وحدها؛ لأن المضمرة أخف وأسرع في الجري بخلاف غير المضمرة فهي أقل منها.

* الوجه السابع: في الحديث دليل على جواز تسمية المسجد باسم شخص أو قبيلة، قال الحافظ:(والجمهور على الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي)

(1)

، وقد روى ابن أبي شيبة أن إبراهيم النخعي لا يرى بأسًا أن يقول: مصلى بني فلان

(2)

وهذا معارض لقول ابن حجر، ولعله رواية أخرى عنه، أو أنه يرى الجواز في المصلى دون المسجد. ومن أدلة الجواز قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"

(3)

.

(1)

"فتح الباري"(1/ 515).

(2)

"المصنف"(2/ 438).

(3)

رواه أحمد (26/ 41 - 42) وقد تقدم تخريجه والكلام عليه في آخر كتاب "الحج" عند الحديث (778).

ص: 154

وإضافة المسجد إلى الشخص لا تفيد التمليك، وإنما هي للتمييز بين المساجد، لكن لا ينبغي التوسع في ذلك بكتابة اسم واقف المسجد في لوحات على أبوابه، بل يكتفي بشهرة اسمه بين الناس خشية احتمال وقوع الرياء، وقد لا يدري واقف المسجد عن ذلك شيئًا، وإنما هو تصرف ممن أشرف على عمارته.

وقد نقل الحافظ عن ابن الجوزي أنه قال: (من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "إعلام الساجد" ص (384)، "فتح الباري" لابن رجب (3/ 151)، ولابن حجر (1/ 545)، "أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية"(2/ 89).

ص: 155

‌مشروعية تنويع المسافة بحسب قوة الخيل وجلادتها

1324/ 2 - وَعَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَبَّقَ بَينَ الْخَيلِ، وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ في الْغَايَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (10/ 498)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في السبق)(2577)، وابن حبان (10/ 543) من طريق عقبة بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وهذا سند صحيح كما قال ابن عبد الهادي

(1)

، لكن ذكر الدارقطني أن عقبة بن خالد زاد في الحديث لفظًا لم يأت به غيره، وهو قوله:(وفضَّل القُرَّحَ في الغاية)

(2)

. وعقبة هذا قال عنه العقيلي: (لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به)

(3)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق صاحب حديث)، وهذا الحديث والذي قبله مدارهما على نافع، فيخشى أن هذا الحديث أحدُ ألفاظ الحديث السابق، فرواه عقبة بالمعنى، فزاد وانفرد.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (سَبَّقَ) بفتح السين وتشديد الباء؛ أي: التزم السَّبَق -بفتح الباء- وهو ما يعطى من الجوائز للسابق على سبقه، وهو من الأضداد، يقال: سبَّق: أعطى السبق للسابق، وسبَّق: أخذ السبق من المسبوق، ولعل السبب أن السبق يقتضي الأخذ من المسبوق والإعطاء للسابق.

(1)

"المحرر" ص (341).

(2)

"العلل" للدارقطني (12/ 335).

(3)

"الضعفاء"(3/ 355).

ص: 156

قوله: (وفضل القرح في الغاية) أي: جعل مسافة سباقها أبعد وأطول من مسافة ما دونها، والقرح: بضم القاف وتشديد الراء جمع قارح، وهو من الخيل ما دخل في السنة الخامسة، وإنما فضله في الغاية؛ لأنه يكون أقوى وأجلد من غيره ممن هو أصغر منه سنًّا.

والغاية: هي مدى الشيء وأقصاه، وتقدم معناها، وجمعها غَايٌ وغايات.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية سباق الخيل، وتنويع مسافات السباق بحسب درجات الخيل في قوتها وجلادتها؛ لأن من الخيل ما هو أمتع وأصبر على الجري والسباق، فيعطى المسافة التي تناسب قوته.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على مشروعية إعطاء الجوائز في سبق الخيل، لقوله:(سبَّق).

والجائزة إذا كانت مجرد جائزة معنوية فهي لا تعدو أن تكون حافزًا معنويًّا يقوي روح المنافسة والمسابقة، إذ تعتبر ذكرى محفوظة، وشهادة على غلبة الغالب وتفوق المتفوق.

أما إذا كانت الجائزة مالًا فإن الحافز يقوى عند أكثر الناس؛ لأن المال محبوب للنفوس، تسعى لجمعه وتحصيله، فيضاف إلى المعنى، فتترك المسابقة أثرًا ماديًّا ملموسًا.

ولا يمكن إنكار مثل هذه الحوافز في رفع الكفاءات والمهارات التي يراد رفعها في المجتمع. قال ابن القيم: "القادر على أن يغلب غيره قد يريد ذلك لمجرد محبة النفس لإظهار القدر والغلبة، وقد يريد ذلك لأخذ المال، فإذا اجتمع الأمران كانت إرادته أبلغ"

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفروسية" ص (101)، "الميسر والقمار، المسابقات والجوائز" ص (14 - 15).

ص: 157

‌ما تجوز المسابقة عليه بعوض

1325/ 3 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ والثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (6/ 129)، وأبو داود في كتاب "الجهاد"، بابٌ (في السبق)(2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (6/ 226)، وابن حبان (10/ 544) من طريق ابن أبي ذئب، عن نافع بن أبي نافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وقال ابن القطان:(إسناده عندي صحيح، ورواته كلهم ثقات)

(1)

.

وساقه ابن دقيق العيد في "الإلمام"

(2)

، والحديث له طرق، أعل الدارقطني بعضها بالوقف

(3)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا سبق) بفتح السين والباء، هو ما يجعل من الجوائز للسابق على سبقه، والقول بفتح السين نص عليه الخطابي

(4)

، وحكى ابن دريد جواز الفتح والإسكان

(5)

. ولا: نافية؛ أي: لا أخذ عوض إلا في الثلاثة المذكورة.

(1)

"بيان الوهم والإيهام"(5/ 383).

(2)

(951).

(3)

"العلل"(9/ 301)(10/ 303)(11/ 230).

(4)

"معالم السنن"(3/ 398). وانظر: "النهاية"(2/ 338).

(5)

"الجمهرة"(1/ 338)، "التلخيص"(6/ 3091).

ص: 158

قوله: (إلا في خف) هذا كناية عن الإبل؛ لأنها هي ذات الخف.

قوله: (أو نصل) بفتح النون وإسكان الصاد، هي حديدة السهم والرمح، والسيف ما لم يكن له مقبض.

قوله: (أو حافر) هذا كناية عن الخيل؛ لأنها هي ذات الحافر، والبغل والحمار له حافر لكنه غير مراد هنا.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز السباق على جوائز للمتسابقين، والسباق على الجوائز مقصور على السباق بالإبل والرمي بالسهام ونحوها، والسباق بالخيل؛ لأن هذه الثلاثة هي التي يحتاج إليها في الجهاد ويعتمد عليها، وإنما جعل لها جوائز لينشط الناس في المسابقة عليها واختيار الخيل والإبل، واعتياد الرمي الذي يَحتاج إلى بذل المال لشراء ما يرمى به لإحسان الرمي، وعلى هذا فيكون أخذ المال بهذه الثلاثة مستثنى من جميع أنواع المسابقات، وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة في هذه الثلاثة بعوض، وإن اختلفوا في صفة الجواز، كما أجمعوا على جوازها بدون عوض، ومستند الإجماع على جوازها بعوض هو هذا الحديث

(1)

.

أما أخذ العوض في المسابقة على غير هذه الثلاثة فمن أهل العلم من منعه، وهو قول المالكية، وقول للشافعية، ومذهب الحنابلة، وابن حزم، وكثير من السلف والخلف

(2)

، وعليه فلا يدخل في الحديث المسابقة على البغال والحمير والرمي بالرماح؛ لأن غير الثلاثة لا يساويها فيما تضمنته من الفروسية وتعلم أسباب الجهاد؛ ولأن الخيل هي التي عهدت المسابقة عليها بين الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسابق على بغل ولا حمار قط مع وجودها عندهم؛ ولأن هذه الحيوانات لا يسهم لها في الغنيمة، والرماح لا يرمى بها.

(1)

انظر: "مراتب الإجماع" ص (183)، "التمهيد"(14/ 88)، "إكمال المعلم"(6/ 284).

(2)

المحلى (7/ 354)، "المغني"(13/ 405)، "جواهر الإكليل"(1/ 271)، "مغني المحتاج"(4/ 312)، "الحاوي الكبير"(15/ 184)، "الفروسية" ص (91).

ص: 159

والقول الثاني: الجواز في كل ما كان موافقًا للمنصوص عليه في المعنى، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم على خلاف بينهم فيما يلحق بالمنصوص عليه، أخذًا بعموم اللفظ؛ ولأن ما كان موافقًا لها في العلة والمعنى فإنه يلحق بها في الحكم

(1)

، وأوسع المذاهب -كما يقول ابن القيم- مذهب الحنفية.

والقول الأول أظهر، وهو أن بذل العوض خاص بما ذكر من الإبل والخيل والنصل؛ لأن الحديث جاء بصيغة النفي والاستثناء وهو من أساليب الحصر، ثم إن غير الثلاثة المذكورة لا يشبهها لا صورة ولا معنى، ولا يحصِّل مقصودها

(2)

؛ ولأن إباحة بذل العوض في غير ما نَصَّ عليه الحديث أو ما في معناه يؤدي إلى اشتغال النفوس به واتخاذه مكسبًا، لا سيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتد رغبتها فيه، فأبيح في نفسه، لأنه إعانة وإجمام للنفس وراحة لها، وحرم أكل المال به، لئلا يتخذ عادة وصناعة ومتجرًا

(3)

. مع ملاحظة أنه إذا كان ما نصَّ عليه الحديث هو آلات الحرب في ذلك الزمن فإنه يدخل في معناه آلات الحرب الحديثة، كالدبابات والمدرعات والطائرات العسكرية ونحو ذلك

(4)

؛ لوجود المعنى المراد.

أما المسابقة في المسائل العلمية فسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في شرح الحديث الآتي. والله تعالى أعلم.

(1)

"بدائع الصنائع"(6/ 206)، "الفتاوى"(32/ 227)، "معالم السنن"(3/ 398)، "مغني المحتاج"(4/ 312)، "الفروسية" ص (91).

(2)

انظر: "المغني"(13/ 407 - 408)، "الفروسية" ص (91)، "الحوافز التجارية التسويقية" ص (133).

(3)

انظر: "الفروسية" ص (85 - 86).

(4)

انظر: "فتاوى اللجنة الدائمة"(1/ 171).

ص: 160

‌ما جاء في اشتراط مُحَلِّلِ السِّبَاقِ

1326/ 4 - وَعَنْهُ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ أدْخَلَ فَرَسًا بَينَ فَرَسَينِ -وَهُوَ لَا يَأمَنُ أنْ يُسْبَقَ- فَلَا بَأسَ بِهِ، وإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (16/ 327)، وأبو داود في "الجهاد"، بابٌ (في المحلل)(2579)، وابن ماجه (2876) من طرق، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف كما قال الحافظ؛ لأن سفيان بن حسين ضعيف في الزهري، قال النسائي:(ليس بالقوي في الزهري خاصة، وفي غيره لا بأس به)

(1)

. وقال الحافظ في "التقريب": (ثقة في غير الزهري باتفاقهم)، وقال أبو حاتم:(هذا خطأ، لم يعمل سفيان بن حسين بشيء، لا يشبه أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد قوله)

(2)

. وقال ابن أبي خيثمة: (سألت ابن معين فقال: هذا باطل، وضرب على أبي هريرة)، وما ذكره أبو حاتم رواه مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: (ليس بِرِهَانِ الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السَّبَق، وإن سبق لم يكن عليه

(1)

"السنن الكبرى"(1/ 204).

(2)

"العلل"(2/ 252)، وانظر:"العلل" للدارقطني (9/ 161).

ص: 161

شيء)

(1)

، وقال أبو داود عقب الحديث:(رواه معمر، وشعيب، وعُقيل عن الزهري، عن رجال من أهل العلم، وهذا أصح عندنا)، ووجه ذلك أن معمرًا وشعيبًا وعقيلًا من أثبت الناس في الزهري، وعلى هذا فالحديث لا يثبت رفعه، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب، أو من كلام رجال من أهل العلم، وقد أطال ابن القيم الكلام في تضعيف هذا الحديث في كتابه "الفروسية"

(2)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من أدخل فرسًا بين فرسين) أي: من أجرى فرسًا في السباق مع فرسين، وهذا الفرس الثالث يسمى المحلِّل، ومعناه أنه يحلل للسابق ما يأخذه من السَّبَق، فيخرج بذلك عن صورة القمار

(3)

.

قوله: (وهو لا يأمن أن يُسبق) بضم الياء مبني لما لم يسم فاعله؛ أي: وهو لا يأمن أن يتخلف فرسه وشمبقه غيره، بمعنى: أنه غير متيقن أن فرسه سيسبق غيره، بل قد يَسبق وقد يُسبق.

قوله: (فلا بأس) أي: فلا مانع من هذا السباق لما سيأتي.

قوله: (وإن أمن فهو قمار) لفظ أبي داود: (وقد أمن أن يُسبق

) والمحلل له ثلاث صور:

1 -

أن يكون أضعف منهما، فهذا قمار.

2 -

أن يكون أقوى منهما فهذا حيلة وخدع؛ لأنه سيغنم ماليهما.

3 -

أن يكون مثلهما فلا يعتبر حيلة؛ لإمكان سبقه أو عدم سبقه.

فإن أمن من تخلف فرسه وسَبْق فرس غيره، بأن كان متيقنًا أن فرسه يسبق فرس غيره، فإن هذا يكون قمارًا، وهو بكسر القاف، وهو الخطر، وأصله في كلام العرب: المغابنة، وفي الاصطلاح: كل لعب على مال يأخذه الغالب من المغلوب، أو هو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن

(1)

"الموطأ"(2/ 468).

(2)

ص (57 - 76).

(3)

انظر: "معالم السنن"(3/ 400).

ص: 162

يكون غانمًا إن أخذ أو غارمًا إن أعطى

(1)

. وليس دخوله هو الذي جعل العقد قمارًا، بل إخراجهما الرهان هو الذي جعل العقد قمارًا، وصار دخوله على غير الوجه الذي دخلا عليه من الخوف والرجاء لا عبرة به، فكأنه لم يدخل، فكان العقد قمارًا.

° الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على اشتراط المحلل في السباق، وهو صاحب الفرس الثالث الذي لم يدفع شيئًا، وذلك ليخرج لعقد من صورة القمار.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المتسابقين متى أدخلا بينهما فرسًا تيقن صاحبه أنه يَسبق غيره فإن العقد يكون قمارًا؛ لأنه لا يخلو واحد منهما من أن يغنم أو يغرم، بخلاف ما إذا لم يتيقن بل صار يرجو ويخاف، فإنه لا يكون قمارًا.

وصورة ذلك أن يضع المتسابقان سَبَقين؛ أي: جائزتين بينهما، ثم يأتي متسابق ثالث فيرسل معهما فرسه ولا يضع من عنده شيئًا، وشرط المحلل أن يكون فرسه مكافئًا لفرسيهما، بحيث يحتمل أن يَسبق أو يُسبق، فإن سبق أخذ سبقيهما؛ لأنه جعل لمن سبق، وقد سبق، وإن لم يسبق أحرزا سبقيهما؛ لأن المحلل لم يسبقهما وليس عليه شيء؛ لأنه لم يُشرط عليه لمن سبقه شيء، فإن كان هناك يقين من عجز فرسه عن السبق كان يكون هزيلًا لم يجز؛ لأن دخوله حينئذٍ يكون صوريًّا في السباق، فيبقى كأنه سباق بين طرفين أخرجا الجعل، وكل منهما إما غانم أو غارم، وهذا هو القمار، وكذا إن كان هناك يقين من تفوقه لم يجز؛ لأن دخوله مجرد صورة أو حيلة منه؛ لأنه سيغنم ماليهما وكأنهما يتسابقان بلا مال يغنمانه، بل على مال يغرمانه

(2)

.

ولا خلاف بين العلماء في جواز العوض من أحد المتسابقين أو من غير المتسابقين كالإمام أو أحد الرعية، أما إذا كان العوض من المتسابقين فإنه لا

(1)

"الحاوي الكبير"(19/ 225).

(2)

انظر: "معالم السنن"(3/ 400).

ص: 163

يجوز إلا إن دخل بينهما محلِّل، خشية الوقوع في القمار، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، ورواية عن مالك

(1)

، واستدلوا بحديث الباب وما في معناه، كما استدلوا بما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن أبي عمر الشيباني، عن رجل من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الخيل ثلاثة: فرس يربطه الرجل في سبيل الله، فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته وعلفه أجر، وفرس يُغالق عليه الرجل ويراهن عليه، فثمنه وزر، وعلفه وركوبه وزر، وفرس لِلْبِطْنَةِ، فعسى أن يكون سدادًا من فقر -إن شاء الله-)

(2)

.

ووجه الاستدلال: أن المغالقة هي المراهنة، وقد كرهها النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت على رسم الجاهلية، وذلك بأن يضعا بينهما جُعلًا يستحقه السابق منهما، وهذا من القمار

(3)

، قال البيهقي:(وهذا -إن ثبت- فإنما أراد به -والله أعلم- أن يخرجا سَبَقَين من عندهما، ولم يدخلا بينهما محللًا، فيكون قمارًا، فلا يجوز)

(4)

.

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنه يجوز بذل الجعل من المتسابقين ولو بدون محلل، وقد نص ابن تيمية على أنهما إن أخرجا العوض وكان معهما آخر محللًا يكافئهما كان ذلك جائزًا

(5)

، وظاهر هذا أن ابن تيمية لا يرى وجوب المحلِّل، بل يراه جائزًا، ودليلهما:

(1)

"الكافي" لابن عبد البر (1/ 490)، "المغني"(13/ 412)، "بدائع الصنائع"(6/ 206)، "مغني المحتاج"(4/ 314).

(2)

"المصنف"(12/ 483)، ورواه أحمد (6/ 300)، (27/ 205)، (38/ 269) من طريق زائدة بن قدامة، عن الركين، عن أبي عمرو الشيباني، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، والحديث له طرق أخرى. انظر: رسالة: "الأحاديث الواردة في اللُّعب" ص (473) للشيخ الدكتور: صالح بن فريح البهلال.

(3)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 521)، "الفائق"(3/ 73).

(4)

"السنن الكبرى"(10/ 21) وإنما قال: (إن ثبت) لأن روى الحديث من طريق فيه مقال.

(5)

انظر: "مجموع الفتاوى"(28/ 22)، "الفروسية" ص (78، 125، 168)، "الشرح الممتع"(10/ 99).

ص: 164

1 -

عدم ثبوت الأحاديث الواردة باشتراط المحلل، ومنها حديث الباب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(محلل السباق لا أصل له في الشريعة، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بمحلل السباق)

(1)

.

وقال ابن القيم: (القول بالمحلل مذهب تلقاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة رضي الله عنهم فلا يحفظ عن أحد منهم قط أنه اشترط المحلل، ولا راهن به مع كثرة تناضلهم ورهانهم)، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله:(ما علمت بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلل)

(2)

.

2 -

لو كان المحلل شرطًا لكان التصريح به في الحديث الصحيح -المتقدم- أولى من التصريح بمحال السَّبق، وهي الخف والحافر والنصل

(3)

.

3 -

أن إدخال المحلل حيلة؛ لأنه إن جاز أخذ العوض بلا محلِّل فلا حاجة إلى المحلل، وإن كان حرامًا لكونه قمارًا صار إدخال المحلل من أجل استحلال الحرام، والحيل ممنوعة شرعًا

(4)

.

وعلى هذا القول فإخراج الجعل من الطرفين قمار في الأصل، ولكنه في هذه المسألة ليس قمارًا محرمًا، بل هو مستثنى منه؛ لأن فيه مصلحة، وهي التمرن على آلات القتال، وهي مصلحة عظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر

(5)

.

وهذا القول تبدو وجاهته، لكن قد يشكل عليه الحديث المتقدم عن رجل من الأنصار، فإنه يدل على كراهة الرهان إذا كان على مذهب أهل الجاهلية، وهو أن يكون العوض من المتسابقين، فإن بذل أحدهما أو غيرهما لم يكن كذلك، وقد ذكر يعض الباحثين أنه لم ير شيخ الإسلام ولا ابن القيم ذكرا هذا الحديث فيما كتباه عن محلِّل السباق

(6)

.

(1)

"مجموع الفتاوى"(18/ 64).

(2)

"الفروسية" ص (29، 31).

(3)

انظر: "الفروسية" ص (30).

(4)

انظر: "الفروسية" ص (31)، "الشرح الممتع"(10/ 100).

(5)

"الشرح الممتع"(10/ 100 - 101).

(6)

انظر: "الأحاديث الواردة في اللُّعب" ص (497).

ص: 165

° الوجه الرابع: اعلم أن المسابقات والمغالبات بالنسبة إلى أخذ العوض ثلاثة أقسام:

1 -

قسم يجوز بلا عوض ولا يجوز بعوض، وهذا هو الأصل، وهو الأغلب، ويدخل في هذا المسابقة على الأقدام والمصارعة وحمل الأثقال، فهذا يحرم أكل المال فيه حتى لا يتخذ عادة وصناعة ومتجرًا، وأبيح بدون مال لما فيه من إجمام للنفس وترويح لها، وتقوية للبدن.

2 -

لا يجوز مطلقًا لا بعوض ولا بغير عوض، ويدخل في ذلك كل مسابقة فيها مفسدة راجحة على المنفعة، كالنَّرْد، والشطرنج

(1)

، وكل مغالبة ألهت عن واجب، أو أدخلت في محرم، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الاتفاق على تحريم ذلك

(2)

.

3 -

يجوز مطلقًا بعوض وبلا عوض، وهو ما فيه مصلحة راجحة، كالرمي، والسباق بالخيل، والإبل؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"

(3)

.

أما المسابقة في المسائل العلمية وحفظ المتون وغيرها، فلا تخلو:

(أ) إما أن تكون من باب الجعالة، فهذه جائزة، وذلك مثل أن يقول: من بحث هذه المسألة أو حفظ كذا فله كذا.

(ب) وإما أن تكون من باب الرهان، فهذه موضع خلاف بين العلماء، فالجمهور على المنع للحصر المستفاد من الحديث المتقدم، وعند أصحاب أبي حنيفة تجوز، لقيام الدين بالجهاد والعلم، وهو وجه عند الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن السعدي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وظاهر ذلك جواز الرهان في العلم، وفاقًا

(1)

انظر: "المعجم الوسيط"(1/ 404، 482)، (2/ 912).

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى"(32/ 216، 227)، "الفروسية" ص (83).

(3)

انظر: "الإرشاد إلى معرفة الأحكام" لابن سعدي ص (149)، "الشرح الممتع"(10/ 92).

ص: 166

للحنفية، لقيام الدين بالجهاد والعلم، والله أعلم) وقال ابن القيم:(فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "مجموع الفتاوى"(28/ 189)، "الاختيارات" ص (160)، "الفروسية" ص (89)، "الإرشاد" لابن سعدي ص (150).

ص: 167

‌ما جاء في فضل الرمي والحث عليه

1327/ 5 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقْرَأُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، "ألا إنَّ الْقُوّةَ الرّمْيُ، ألا إنَّ الْقُوَّةَ الرّمْيُ، ألا إن الْقُوّةَ الرّمْيُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإمارة"، باب (فضل الرمي والحث عليه)(1917) من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي عليِّ ثُمامةَ بن شُفَيٍّ أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر- يقول: .. وذكر الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} أمر من الإعداد، وهو تهيئة الشيء للمستقبل؛ أي: هيئوا للكفار، واللام للتعليل.

قوله: {مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما يتقوى به على قمعهم وقتالهم، وهذا يشمل القوة المعنوية كالرأي والتنظيم، والمادية كالمعدات القاذفة والحاملة والمركوبة.

قوله: (ألا إن القوة الرمي) ألا: أداة استفتاح وتنبيه للتوكيد، والرمي لغة: مصدر رميت بالسهم رميًا ورماية، وهو بمعنى القذف والإلقاء. وفي الاصطلاح: محاولة إصابة هدف معين باستخدام اليد مباشرة أو الآلة

(1)

.

(1)

انظر: "الألعاب الرياضية" ص (76 - 77).

ص: 168

وهو لفظ مطلق يشمل كل ما يُرمى به من سَهْمٍ، أو قذيفة منجنيق، أو بندقية، أو طائرة، أو غير ذلك مما يشمله اللفظ، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي؛ لأنه من أهم مظاهر القوة.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على وجوب إعداد القوة لقمع الكفار وقتالهم بقدر المستطاع، ووجوب ما يحصل به هذا الإعداد من بذل مال ودواسة تنظيم وتعلم صناعة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على فضل تعلم الرمي والمناضلة، وأن الرمي هو أبرز ما يعد لجهاد أعداء الله من قوة، قال القرطبي:(فضل الرمي عظيم، ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين، قال صلى الله عليه وسلم: "يا بني إسماعيل ارموا؛ فإن أباكم كان راميًا"، وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية، وقد يتعين)

(1)

. وقد ورد التشديد العظيم في نسيان الرمي بعد علمه، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من علم الرمي، ثم تركه فليس منا أو قد عصى"

(2)

. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مضت السنَّة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم، كالشروع في الحج، يعني أن ما حفظه من علم الدين وعلم الجهاد ليس له إضاعته)

(3)

.

° الوجه الخامس: استدل أكثر العلماء بحديث الباب مع الآية الكريمة على أن الرمي أفضل من ركوب الخيل، وتعلُّمه أفضل من تعلمه، والسباق به أفضل. ووجه الاستدلال: أن الله تعالى قدَّم الرمي في الذكر على الركوب. وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، والعرب إنما تبدأ في كلامها بالأهم والأَوْلى.

وقد أفاض ابن القيم في ذكر الأوجه الدالة على هذا القول، فأبلغها

(1)

"تفسير القرطبي"(8/ 36). والحديث صحيح، انظر: رسالة "الأحاديث الواردة في اللُّعَب" للشيخ الدكتور: صالح بن فريح البهلال ص (208).

(2)

رواه مسلم (1919).

(3)

"الفتاوى"(28/ 186 - 187).

ص: 169

عشرين وجهًا

(1)

.

وذهبت طائفة من أهل العلم، ومنهم الإمام مالك

(2)

إلى أن ركوب الخيل أفضل من الرمي، لأن الركوب أصل الفروسية وقاعدتها، ولأن الركوب يعلم الفارس والفرس معًا.

وذكر ابن القيم أوجهًا أخرى، ثم قال:(وفصل النزاع بين الطائفتين أن كل واحد منهما يحتاج في كماله إلى الآخر، والرمي أنفع في البعد، فإذا اختلط الفريقان بطل الرمي حينئذٍ وقامت سيوف الفروسية من الضرب والطعن والكرِّ والفرِّ، وأما إذا تواجه الخصمان من البعد، فالرمي أنفع وأنجع، ولا تتم الفروسية إلا بمجموع الأمرين، والأفضل منهما ما كان أنكى في العدو، وأنفع للجيش، وهذا يختلف باختلاف الجيش ومقتضى الحال)

(3)

.

والذي يظهر من الحديث تفضيل الرمي مطلقًا، فإنه نص مؤكد بـ (ألا) و (إنّ) واسمية الجملة، وقد قال ابن كثير:(وقول الجمهور أقوى للحديث)

(4)

، وقد دلَّ واقع الحروب في هذه الأزمنة على هذا الحديث دلالة واضحة، فإن مجالات الرمي الجوية والبحرية والبرية وما تحققه من نتائج لا تقارن بالغزو البري، ولهذا إذا فشلت الوسائل البرية يُلجأ إلى الرمي بواسطة المقاتلات الجوية. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفروسية" ص (17 - 25).

(2)

"التمهيد"(14/ 84).

(3)

"الفروسية" ص (25).

(4)

"تفسير ابن كثير"(4/ 25).

ص: 170

‌كتاب الأطعمة

الأطعمة: جمع طعام، وهو اسم لكل ما يؤكل ويتخذ من القوت، وقيل: الطعام يقع على كل ما يُطعم حتى الماء، قال تعالى:{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في زمزم "طعام طُعمٍ"

(1)

، وعلى هذا فالطعام يطلق غالبًا على ما يؤكل، وقد يطلق على ما يشرب

(2)

.

والأصل في الأطعمة الحل، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ووجه الدلالة: أن الله تعالى امتن على خلقه بما في الأرض جميعًا، ولا يمتن إلا بمباح، إذ لا مِنَّةَ في محرم، وخُصَّ من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث لما فيها من الضرر، وقال تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيكُمْ إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيهِ} [الأنعام: 119].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أَعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لَم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل مسألته)

(3)

، فدل الحديث على أن الأشياء لا تحرم إلا بتحريم خاص؛ لقوله:(لَم يُحَرَّم) فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من المطاعم والمشارب فهو حلال على الأصل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأصل في الأطعمة الحل لمسلم يعمل

(1)

أخرجه مسلم (2472) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو حديث طويل.

(2)

انظر: "معجم مقاييس اللغة"(13/ 411).

(3)

رواه البخاري (6859)، ومسلم (2358).

ص: 171

صالحًا؛ لأن الله تعالى إنما جعل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا معصيته، لقوله تعالى:{لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93])

(1)

.

(1)

"الاختيارات" ص (321).

ص: 172

‌تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير

1328/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأكلُهُ حَرَامٌ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1329/ 2 - وأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظِ: نَهَى. وَزَادَ: "وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيرِ".

• الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد رواه مسلم في كتاب "الصيد والذبائح"،‌

‌ باب

(تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير)(1933) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عَبيدة بن سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكره.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد رواه مسلم -أيضًا- في الباب المذكور (1934) من طريق شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

وذكر الحديث.

ولعل الحافظ أورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه بلفظ نهى؛ ولأن فيه ذكر الطير، ومع أنه واف بالمراد إلا أنه أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن فيه لفظ حرام؛ ولأنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (كل ذي ناب) هذه صيغة عموم، ولذا دخلت الفاء في الخبر، وقوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:(نهى عن كل ذي ناب .. ) هو على حذف

ص: 173

مضاف؛ أي: عن أكل كل ذي ناب، كما في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه:(نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع)

(1)

، والناب: ما بين الأضراس والأسنان، فهو السن الذي خلف الرَّباعية.

قوله: (من السباع) من: للتبعيض أو للجنس، جمع سَبُعٍ، وهو ما يفترس الحيوان ويأكله قسرًا.

والمراد بالحديث: كل ذي ناب من السباع يعدو به على غيره ويفترس، فلا بد من الوصفين، الأول: وجود الناب، الثاني: أن يفترس به، مثل الأسد والذئب والنمر والثعلب والهرة وغيرها، قال الإمام أحمد: كل شيء ينهش بنابه فهو من السباع

(2)

. وهذه فائدة ذكر الناب، وهو أن المراد: ناب يعدو به، وإلا فالسباع كلها ذات أنياب، ولم يقل: كل سبع تنبيهًا على الافتراس والتعدي

(3)

.

فإن كان له ناب لكنه ليس من السباع حلَّ أكله كالإبل، والضبع، وهذا فيه خلاف سيأتي.

قوله: (وكل ذي مخلب من الطير) أصل المخلب هو المِنْجَلُ، ويطلق على ظفر كل سبع من الماشي والطير، أو المخلب لما يصيد من الطير، والظفر لما لا يصيد

(4)

، والمراد: ما له ظفر يصيد به كالصقر والعقاب والحدأة ونحوها، فإن كان له ظفر لا يصيد به، فهو حلال كالدجاج والحمام والعصافير والحبارى ونحو ذلك.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، من الحنفية، والشافعية، والحنابلة

(5)

، وإحدى الروايتين عن مالك، وهي التي اقتصر عليها في

(1)

رواه البخاري (5530)، ومسلم (1932).

(2)

"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(6/ 675).

(3)

"شرح الزرقاني على الموطأ"(3/ 90).

(4)

"ترتيب القاموس"(2/ 87).

(5)

"الهداية"(4/ 67)، "المغني"(13/ 319).

ص: 174

"الموطأ"

(1)

، وجزم ابن رشد بأن هذا هو الصحيح من مذهبه

(2)

.

والقول الثاني: أن أكلها مكروه، وهذا مروي عن مالك، وهو المشهور عند أهل مذهبه، قال ابن العربي:(المشهور عنه الكراهة)

(3)

.

واستدلوا بحديث الباب، وقالوا: إنه مصروف عن التحريم إلى الكراهة بآية الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فهي صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها، وما عداها فهو حلال.

ويبدو أن سبب الخلاف هو معارضة مفهوم آية الأنعام للأحاديث التي جاءت بتحريم أشياء لم تذكر فيها، فأصحاب القول الأول أخذوا بمدلول الأحاديث، وأصحاب القول الثاني تمسكوا بظاهر الآية؛ لأن الحصر فيها ظاهر، فالأخذ بها أولى على رأيهم.

والقول الأول هو الصواب؛ لأن الحديث صريح في التحريم، والنهي لا يصرف عن التحريم إلا بصارف، وآية الأنعام لا دليل فيها لمن يقول بالكراهة؛ لأنها مكية نزلت قبل الهجرة، والمراد منها الرد على أهل الجاهلية في تحريم أشياء من الأزواج الثمانية، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. والأحاديث الدالة على التحريم مدنية فهي متأخرة عنها قطعًا، والآية محكمة حصرت المحرمات بالأربعة المذكورة وقت نزولها، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرَّمات كالمنخنقة والموقوذة والخمر، وجاءت السنة بمحرمات أخرى، كما في حديث الباب، وكل ما ثبت تحريمه بطريق صحيح من كتاب أو سنة فهو حرام، فيزاد على الأربعة المذكورة.

وليست الآية من باب نسخ القرآن بالسنة، وإنما هي من باب تحريم شيء بعد شيء زيادة من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

(1)

(2/ 496).

(2)

"بداية المجتهد"(2/ 514).

(3)

انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك"(5/ 289)، "نيل الأوطار"(15/ 37).

ص: 175

ثم إن المستدل بالآية يلزمه أن يُحِلَّ أكل لحم الحمر الأهلية؛ لأنها غير مذكورة في الآية، وهو لا يقول بذلك، وهذه مناقضة.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير يصيد به، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وجماعة من المالكية

(1)

.

وذهب فريق من المالكية إلى جواز أكل كل ذي مخلب من الطير، كالنسر والحدأة والغربان وجميع سباع الطير وغير سباعها، هذا هو المشهور عندهم

(2)

، واستدلوا بعموم آية الأنعام المتقدمة.

والصواب الأول؛ لأن الحديث نص صريح في التحريم، والجواب عن الآية قد تقدم.

° الوجه الخامس: ذكر ابن القيم حكمة النهي عن أكل السباع وهي ما فيها من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهًا، فيحصل عنده ميل للاعتداء على الناس وحب الانتقام، فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان، وصارت أخلاقه هي أخلاق السباع، أضف إلى ذلك قوة لحومها وقبح رائحتها، فهي غير صالحة لأن يتغذى بها الإنسان

(3)

.

وقد ذكر ابن تيمية أن أسباب تحريم الحيوانات ثلاثة:

1 -

إما القوة السبعية، كما تقدم.

2 -

إما خبث مطعمها كالذي يأكل الجيف من الطير.

3 -

أو لأنها في نفسها مستخبثة كالحشرات

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(13/ 322).

(2)

"الشرح الكبير" للدردير (2/ 115).

(3)

"إعلام المعوقين"(2/ 117)، "مدارج السالكين"(1/ 403).

(4)

ينظر: "مجموع الفتاوى"(20/ 523، 340 - 341)(21/ 540، 585).

ص: 176

‌تحريم الحمر الأهلية وإباحة الخيل

1330/ 3 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيبَرَ عَن لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيةِ، وأَذِنَ في لُحُومِ الْخَيلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَفي لَفظِ البخاري: وَرَخَّصَ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

فقد رواه البخاري في كتاب "المغازي"، باب (غزوة خيبر)(4219)، وفي كتاب "الذبائح والصيد"، باب (لحوم الخيل)(5520)، وباب:"لحوم الحمر الأهلية"(5524)، ومسلم (1941) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى

وذكره، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في المواضع الثلاثة:(ورَخَّصَ).

وقد جاء في بعض نسخ "البلوغ" المطبوعة (وفي لفظٍ للبخاري) -بالتنوين- وهذا خطأ؛ لأنه يشعر بأن البخاري عنده لفظ (أذن) -أيضًا- وليس كذلك، ولعل الحافظ أورد لفظ البخاري تنبيهًا على أن اللفظ الأول لمسلم.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نهى) النهي قول يتضمن طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء.

قوله: (يوم خيبر) المراد غزوة خيبر، وكانت في آخر المحرم سنة

ص: 177

سبع، كما نقله الحافظ عن ابن إسحاق، ونسبه ابن القيم إلى الجمهور

(1)

.

قوله: (الحمر الأهلية) بضم الحاء المهملة والميم، وهو جمع، مفرده حمار أهلي، وهو يطلق على الذكر، والأنثى أتان، وربما قالوا للأتان حمارة، والحمار حيوان داجن من الفصيلة الخيلية يستخدم للركوب والحمل.

والأهلية وصف لإخراج الوحشية، وقد جاء في بعض الأحاديث:(الحمر الإنسية) نسبة إلى الإنس.

قوله: (وأذن) أي: أطلق لهم الفعل، ولفظ البخاري -كما تقدم-:"ورَخَّصَ" أي: يسر وسهل، وهذا في مقابل قوله:(نهى)، وليس المراد بذلك الرخصة في تعريف الأصوليين، فإن هذا اصطلاح حادث بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنه لم يسبق تحريم للخيل وإنما المراد مطلق الإذن، كما في الرواية الأخرى.

قوله: (الخيل) هي جماعة الأفراس، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كقوم ورهط ونفر، بل من معناه، وهو فرس، وجمعه خيول وأخيال، وسميت خيلًا لاختيالها في مشيتها.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية؛ لأن النهي للتحريم، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع، وأنه لا خلاف في تحريمها إلا ما روي عن ابن عباس

(2)

وعائشة رضي الله عنهما، والصحيح ما عليه الناس، وما ورد عن ابن عباس ففيه اختلاف، وعلى فرض ثبوته فلا وجه لقوله ولا قول من تابعه

(3)

، وذكر ابن القيم أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون صحابيًّا، وأحاديثهم في "الصحيحين" وغيرها، ثم ساقها وذكر من أخرجها

(4)

، وقال الشنقيطي: (وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف، لكثرة الأحاديث

(1)

"زاد المعاد"(3/ 316)، "فتح الباري"(7/ 464).

(2)

"صحيح البخاري"(5529)، وانظر:"فتح الباري"(9/ 655).

(3)

"التمهيد"(10/ 123 - 127)، "فتح الباري"(9/ 650).

(4)

"تهذيب مختصر السنن"(5/ 317 - 318).

ص: 178

الصحيحة الواردة بتحريمها)

(1)

، ثم ذكر أن البخاري ومسلمًا رويا تحريمها عن ثمانية من الصحابة بلفظ:(حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية) و (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس)، وبلفظ:(فإنها رجس من عمل الشيطان)، وفي رواية:(فإنها رِجْسٌ أو نَجَسٌ).

وقد أفادت هذه الأحاديث أن علة تحريم الحمر الأهلية هي النجاسة، وهذا يفيد أن تحريم أكلها لعينها لا لمعنى خارج، كما قيل من حاجة الناس إليه وخشية قلة الظهر، فإن هذا معارض بالخيل، بل الخيل أقل وأغلى ومع هذا أبيحت، كما سيأتي

(2)

.

وقد روى أبو داود بسنده حديث غالب بن أبجر المزني رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلى إلا سمانُ حمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية، فقال:"أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جَوَالَّ القرية"

(3)

.

والجَوَالُّ: بفتح الجيم والواو وتشديد اللام جمع جالَّة كدابة ودواب، وهامَّة وهوامّ، وهي التي تأكل الجَلَّةَ

(4)

، وهي في الأصل البعر، والمراد هنا أكل النجاسات، كما سيأتي.

وهذا لا دلالة فيه على الإباحة؛ لأنه حديث ضعيف اتفق الحفاظ على تضعيفه، قال البيهقي: (هذا حديث مختلف في إسناده

ومثل هذا لا يعارض به الأحاديث الصحيحة)، وقال في "المعرفة"(إسناده مضطرب)

(5)

، وقال المنذري:(اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا)

(6)

، وقال

(1)

"أضواء البيان"(2/ 252).

(2)

"تهذيب مختصر السنن"(5/ 324)، "فتح الباري"(9/ 656).

(3)

رواه أبو داود (3809)، ومن طريقه البيهقي (9/ 332) وانظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1491)، "التمهيد"(10/ 125 - 126)، "نصب الراية"(4/ 197 - 198).

(4)

انظر: "الفائق"(1/ 223)، "النهاية"(1/ 288).

(5)

"معرفة السنن"(14/ 104).

(6)

"مختصر السنن"(5/ 320).

ص: 179

الحافظ: (إسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها)

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على إباحة أكل لحوم الخيل، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين كأنس بن مالك وابن الزبير وفضالة بن عبيد وعلقمة والأسود وعطاء والحسن، وهو قول محمد بن الحسن وأبي يوسف من الحنفية، وقول في مذهب المالكية

(2)

، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر، فقد قال جابر رضي الله عنه: إنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما.

والقول الثاني: تحريم أكل لحوم الخيل، وهذا أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ومالك، وروي عنهما الكراهة، فقد ذكر ابن عبد البر الكراهة عن مالك

(3)

، وذكر الشنقيطي القولين في مذهب مالك، قال:(والتحريم أشهر عندهم)، وصحح صاحب "الهداية" وغيره من الحنفية القول بالتحريم

(4)

.

واستدل القائلون بالتحريم بدليلين:

الأول: قوله تعالى: {وَالْخَيلَ وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، فقال:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ولم يذكر سبحانه منفعة الأكل وهي من المنافع العظيمة، فلو كانت الخيل ينتفع بها في الأكل لذكر ذلك؛ ليكون الامتنان به أعظم، وقد ذكر سبحانه الأكل في المذكورات قبلها:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} .

الثاني: حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا

(1)

"فتح الباري"(9/ 656).

(2)

"المغني"(13/ 324).

(3)

"الكافي"(1/ 436)، "بدائع الصنائع"(5/ 39).

(4)

"الهداية"(4/ 68).

ص: 180

يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير" وفي رواية: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر

الحديث، وفيه: وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها)

(1)

.

والراجح هو القول الأول، وهو إباحة لحوم الخيل؛ لأن الأحاديث الواردة في حلها ظاهرة الدلالة، وسيأتي -إن شاء الله- حديث أسماء رضي الله عنهما -المتفق عليه-:(نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا فأكلناه). وقد روى ابن أبي شيبة عن عطاء قال: قلت لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: قلت الصحابة؟ قال: نعم

(2)

.

وأما استدلال أصحاب القول الثاني بآية النحل فهو ليس في محله لأمرين:

الأول: أن سورة النحل مكية إجماعًا، والأحاديث الواردة في حل لحوم الخيل كانت يوم خيبر وهو بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنوات، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم المنع من الآية لما أذن في الأكل، فيكون الإذن بحلها بعد نزول السورة بزمن.

الثاني: أن الآية ليست صريحة في منع أكل لحوم الخيل، بل هذا مفهوم من التعليل، وحديث جابر وأسماء رضي الله عنهما صريحان في جواز الأكل، والمنطوق مقدم على المفهوم، كما هو مقرر في الأصول.

وأما حديث خالد بن الوليد فهو حديث ضعيف، وفي إسناده اضطراب، وفي متنه نكارة، وهو مخالف لرواية الثقات أنه صلى الله عليه وسلم رخص في لحوم الخيل. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أبو داود (3790)، والنسائي (7/ 202)، وابن ماجه (3198)، وأحمد (28/ 16، 18) وهو حديث ضعيف، في سنده اضطراب، وفي بعض ألفاظه نكارة؛ لأن خالد بن الوليد لم يسلم إلا بعد خيبر، ثم هو مخالف لحديث الثقات في حل لحوم الخيل، كما سيأتي -إن شاء الله-.

(2)

عزاه إليه الحافظ في "فتح الباري"(9/ 650) وقال: (بإسناد صحيح على شرط الشيخين) ولم أقف عليه في مظانه من "المصنَّف" إلا إن كان ساقطًا أو في غيره، وقد أضافه محقق الكتاب في الحاشية. فانظر:(8/ 70).

ص: 181

‌إباحة أكل الجراد

1331/ 4 - عَنِ ابْنِ أبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَال: غَزَوْنَا مَعَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأكُلُ الجَرَادَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (أكل الجراد)(5495)، ومسلم (1952) من طريق أبي يعفور قال: سمعت ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال:

فذكره.

وجاء في بعض الروايات: (سبع غزوات أو ستًّا) كذا للأكثر، وفي لفظ (أو ستَّ) بلا تنوين.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (غزونا) تقدم تعريف الغزو أول "الجهاد".

قوله: (سبع) بالنصب مفعول مطلق نائب عن المصدر، والتقدير: غزونا غزواتٍ سبعًا.

قوله: (نأكل الجراد) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(نأكل معه الجراد) وهذه المعية إما أن يراد بها معية الغزو فقط، فيكون تأكيدًا لما قبله، أو معية أكل الجراد، فيكون تأسيسًا، وهذا أولى؛ لأن التأسيس أبلغ من التأكيد.

قوله: (الجراد) بفتح الجيم وتخفيف الراء، واحده جرادة، تطلق على الذكر والأنثى كالحمامة، يقال: إنه مشتق من الجرد؛ لأنه لا ينزل على شيء

ص: 182

إلا جرده، والجراد يتبع فصيلة الحشرات، وهو أصناف، بعضه أحمر، وبعضه أصفر، وبعضه أبيض

(1)

، والجراد منه ما يهاجر من مكانه الأصلي إلى أمكنة أخرى، وهو لا يتغذى أثناء هجرته، ولكنه إذا وصل إلى أرض مزروعة أكل كل الزرع.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على إباحة أكل الجراد، وقد نقل النووي وغيره الإجماع على ذلك

(2)

، سواء مات باصطياد أم بذكاة أم مات حتف أنفه، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد

" الحديث

(3)

. قال ابن حزم: (الجراد حلال إذا أخذ ميتًا أو حيًّا، سواء بعد ذلك مات في الظروف أو لم يمت، وقالت طائفة: لا يحل وإن أخذ حيًّا إلا حين يقتل، وهو قول مالك، ولا نعلم له حجة؛ لأن الذكاة لا تمكن فيه، وذهب قوم إلى أنه لا يحل إن وجد ميتًا، فإن أخذ حيًّا حل كيف مات بعد ذلك)

(4)

.

ويستثنى من ذلك ما مات من الجراد بسبب المبيدات السامة، فهذا يحرم أكله لما فيه من السم القاتل المحرم. والله تعالى أعلم.

(1)

"حياة الحيوان الكبرى"(1/ 186).

(2)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 110)، "حياة الحيوان الكبرى"(1/ 89).

(3)

تقدم في باب (المياه) رقم (13) وأن الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، لكن له حكم الرفع.

(4)

"المحلى"(7/ 437).

ص: 183

‌إباحة أكل الأرنب

1332/ 5 - عَنْ أنسٍ رضي الله عنه -في قصَّةِ الأَرْنَبِ- قَال: فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكهَا إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الهبة"، باب (قبول هدية الصيد)(2572)، وفي "الصيد"(5489)(5535)، ومسلم (1953) من طريق هشام بن زيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مررنا فاستنفجنا أرنبًا بمر الظهران، فسعوا عليه فَلَغَبُوا، قال: فسعيت حتى أدركتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله. هذا لفظ مسلم.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في قصة الأرنب) إشارة إلى أن الحافظ ما ساق الحديث بلفظه، وإنما أراد القدر المقصود.

والأرنب: حيوان ثديي يؤكل لحمه، منه البري ومنه الداجن، كثير التوالد، سريع الجري، يداه أقصر من رجليه، يطلق على الذكر والأنثى، ويقال للذكر -أيضًا-: الخُزَزُ -بمعجمات- على وزن عُمَرَ، وللأنثى: عِكْرشة، وقال الجاحظ: لا يقال: أرنبة للأنثى

(1)

. والأرنب شديدة الجبن، كثيرة الشَّبَقِ

(2)

.

(1)

"الحيوان"(2/ 287)، "حياة الحيوان الكبرى"(1/ 20).

(2)

الشَّبَق: بالفتح هيجان شهوة النكاح. انظر: "المصباح المنير" ص (303).

ص: 184

قوله: (فذبحها) ضمير الرفع يعود إلى أبي طلحة وهو زوج أم سليم والدة أنس رضي الله عنه، تقدم ذكره في "الطهارة" عند الحديث (25).

قوله: (فبعث بوركها) بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز كسر الواو وسكون الراء، هو ما فوق الفخذ، وقد جاء في "الصحيحين":(بوركها أو فخذها).

قوله: (فقبله) هذا هو المجزوم به في جميع الروايات، وهو قبول الهدية، بخلاف الأكل منها فهو غير مجزوم به، فقد جاء عند البخاري في "الهبة" قال الراوي -وهو هشام بن زيد- قلت لأنس: وأكل منه؟ قال: وأكل منه، ثم قال بعد: فقبله، فهو قد شك في الأكل، ثم استيقن القبول فجزم به آخرًا

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على إباحة أكل الأرنب وأنها من الطيبات، وهو قول العلماء كافة، إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء

(2)

. ونقل ابن هبيرة اتفاق الأئمة على إباحتها، فقال:(واتفقوا على أن الأرنب مباح أكله)

(3)

.

ودليل من كرهها ما رواه محمد بن خالد، قال: سمعت أبي خالدَ بنَ الحويرث قال: إن عبد الله بن عمرو كان بالصِّفَاح -قال محمد: مكان بمكة- وأن رجلًا جاء بأرنب قد صادها، فقال: يا عبد الله بن عمرو ما تقول؟ قال: قد جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها، ولم ينه عن أكلها، وزعم أنها تحيض

(4)

.

(1)

"فتح الباري"(5/ 202)(9/ 662).

(2)

"فتح الباري"(9/ 662).

(3)

"الإفصاح"(2/ 314).

(4)

رواه أبو داود (3792) وسنده ضعيف، خالد بن الحويرث سئل عنه ابن معين فقال:(لا أعرفه)، قال ابن عدي: (وخالد هذا كما قال ابن معين لا يعرف، وأنا لا أعرفه أيضًا

وإذا كان مثل يحيى لا يعرفه لا يكون له شهرة أو يُعرف) "الكامل"(3/ 40).

ص: 185

ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه دليل على تحريمها، وإنما هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الضب:"إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" وسيأتي.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز استثارة الصيد أو إنفاجه من جُحْره، من أجل صيده؛ لأنه مما أبيح لنا، فكل وسيلة للحصول عليه فهي جائزة ما لم يكن فيها تعذيب للحيوان.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز إهداء الشيء اليسير إلى الكبير القدر إذا عَلِمَ من حاله الرضا.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على استحباب قبول الهدية ولو كانت يسيرة. وقد مضى في باب "الهبة" الكلام على هاتين المسألتين. والله تعالى أعلم.

ص: 186

‌ما نُهي عن قتله حَرُمَ أكله

1333/ 6 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ. رواه أَحمَدُ وَأبو دَاوُدَ. وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (5/ 192)، وأبو داود في كتاب "الأدب"، بابٌ (في قتل الذر)(5267)، وابن ماجه (3224) من طريق معمر، وابن حبان (12/ 462) من طريق ابن جريج

(1)

وعُقيل بن خالد، والبيهقي (9/ 317) من طريق إبراهيم بن سعد، أربعتهم عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

فذكره.

وهذا إسناد صحيح، قال ابن دقيق العيد:(أخرجه أبو داود عن رجال الصحيح)

(2)

، وقال ابن الملقن:(إسناده صحيح)

(3)

.

وهذا الحديث مداره على الزهري، وقد اختلف عليه في إسناده، فقد روي عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه رواه الخطيب في "تاريخه"(9/ 119) وهذه الرواية غير محفوظة. وعلَّتها سهل بن يحيى الحداد، وقد نسب الدارقطني الوهم إليه

(4)

. وروي عنه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن

(1)

ابن جريج رواه عن الزهري بواسطة كما سيأتي.

(2)

"الإلمام" ص (308).

(3)

"البدر المنير"(16/ 74).

(4)

"العلل"(10/ 124).

ص: 187

ابن عباس رضي الله عنهما، وقد رواه عن الزهري معمر موصولًا -كما تقدم- وروايته أخرجها عبد الرزاق (4/ 451) عنه، ورواه عن عبد الرزاق الإمام أحمد، وعنه أبو داود، ورواها من طريق عبد الرزاق ابن ماجه والبيهقي وغيرهم. قال أبو زرعة:(أخطا فيه عبد الرزاق، والصحيح من حديث معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقد ذكر أن رباح بن زيد الصنعاني رواه عن معمر هكذا مرسلًا)

(1)

. وقد توبع معمر على روايته الموصولة، فقد روى الحديث ابن جريج عن عبد الله بن أبي لبيد عن الزهري به، وعبد الله بن أبي لبيد متكلم فيه

(2)

، قال أبو زرعة:(وأما نفس الحديث، فالصحيح عندنا على ما روي في كتاب ابن جريج عن عبد الله بن أبي لبيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذه الرواية توافق رواية عبد الرزاق.

ورواه عن الزهري عُقيل بن خالد، وروايته معلولة، لا مِنْ جهته؛ فإنه ثقة ثبت، ومن أوثق أصحاب الزهري، لكن من جهة الراوي عنه -كما عند ابن حبان- وهو حِبَّان بن علي العَنَزِي، فإنه ضعيف كما في "التقريب" ورواه -أيضًا- إبراهيم بن سعد عن الزهري، وقد ضعف أبو زرعة رواية إبراهيم هذه بالراوي عنه، وهو الحارث بن عبد الله الهمذاني، مع أنه تابعه محمد بن عبيد الله المدني -عند البيهقي- وهو ثقة.

فهؤلاء الثلاثة قد تابعوا معمرًا على روايته الموصولة، وأما روايته المرسلة فقد تابعه عليها عبد الرحمن بن إسحاق

(3)

، وهو متكلم فيه، والأقرب أنه صدوق، وفي بعض حديثه ما ينكر

(4)

. وروى الحديث ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي عمير بن النحاس الرملي، عن أيوب بن سويد، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن

(1)

"علل ابن أبي حاتم"(2416).

(2)

انظر: "تهذيب التهذيب"(5/ 326).

(3)

انظر: "علل ابن أبي حاتم"(2416).

(4)

انظر: "تهذيب التهذيب"(6/ 125 - 126)"مرويات الإمام الزهري المعلة في كتاب العلل للدارقطني"(4/ 2069).

ص: 188

عبد الله عن ابن عباس قال: (أربع لا يقتلن .. )، قال أبو حاتم:(هذا حديث مضطرب)

(1)

.

وللحديث شاهد من حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي قال: سمعت أبي يذكر عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الخمسة: عن النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد

(2)

. قال البيهقي: (تفرد به عبد المهيمن بن عباس، وهو ضعيف، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أقوى ما ورد في هذا الباب)، وله شواهد أخرى كلها ضعيفة

(3)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نهى) الأصل أنه للتحريم، ولا يصرف إلى الكراهة إلا بدليل.

قوله: (عن قتل أربع) هذا لا يفيد الحصر؛ لأنه مفهوم عدد.

قوله: (النملة) مفرد النمل، والجمع نِمال، سُميت بذلك لتنمُّلها، وهو كثرة حركتها وقلة قوائمها، وهي حشرة ضئيلة الجسم، تتخذ مساكنها تحت الأرض، والنمل عظيم الحيل في طلب الرزق، ومن طبعه أن يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار أمور عجيبة

(4)

.

قوله: (والنحلة) هي واحدة النحل كنخل ونخلة، قال الزجاج: سُميت نحلًا؛ لأن الله نَحَلَ الناسَ العسلَ الذي يخرج منها؛ إذ النِّحْلَةُ العطية، وهي ترعى الزهر فيستحيل في جوفها عسلًا، ويختلف لون عسلها باختلاف النحل والمرعى، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى أيضًا.

قوله: (والهدهد) هو بضم الهائين وإسكان الدال المهملة بينهما، وهو طائر ذو خطوط وألوان كثيرة، رقيق المنقار، له قنزعة على رأسه، وهو من فصيلة الجواثم، وهو منتن الرائحة طبعًا؛ لأنه يبني أفحوصه بالزبل

(5)

.

(1)

"العلل"(2374)، (2444).

(2)

رواه البيهقي (9/ 317).

(3)

انظر: "الإرواء"(8/ 142).

(4)

"حياة الحيوان الكبرى"(2/ 366).

(5)

"حياة الحيوان الكبرى"(3/ 378).

ص: 189

قوله: (والصُّرَدِ) بضم الصاد وفتح الراء، طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار، له برثن عظيم، وهو شرس النفس، شديد النفرة، غذاؤه من اللحم، وله صفير مختلف لكل طائر يريد صيده، ومأواه الأشجار ورؤوس القلاع وأعالي الحصون

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أكل النملة والنحلة والهدهد والصرد؛ لأنه لو حلَّ أكلها لما نهي عن قتلها، وهذه قاعدة من قواعد كتاب الأطعمة، وهي أن كل حيوان نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فإنه يحرم أكله؛ لما تقدم.

قال الخطابي: (فكلُّ منهي عن قتله من الحيوان فإنما هو لأحد أمرين: إما لحرمته في نفسه كالآدمي، وإما لتحريم لحمه كالصرد والهدهد ونحوهما)

(2)

.

ونُهي عن قتل النملة لأنها قليلة الأذى والضرر، وقيل: احترامًا لها وذلك لقصتها مع سليمان عليه السلام، وأما النحلة فلما فيها من منفعة العسل الذي فيه شفاء للناس، وأما الهدهد فنهي عن قتله احترامًا له، وذلك لقصته مع سليمان عليه السلام، أو لأنه منتن الريح ويقتات الدود، وأما الصرد فقد ذكر ابن العربي أنه نهي عن قتله لأن العرب كانت تتشاءم به، فنهي عن قتله ليخلع عن قلوبهم ما ثبت بها من اعتقادهم الشؤم فيه

(3)

.

وكذا كل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله من الحيوانات فإنه يحرم أكله، كالحية والغراب والفأرة والكلب والحدأة وغيرها؛ لأنه إذا أُذن في قتله بغير الذكاة الشرعية دل على تحريم أكله، إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزًا لما أذن في إتلافه؛ ولأن الأمر بقتلها إسقاط لحرمتها ومَنْعٌ من اقتنائها، ولو أُكلت لجاز اقتناؤها.

(1)

"حياة الحيوان الكبرى"(3/ 61).

(2)

"معالم السنن"(8/ 114).

(3)

انظر: "معالم السنن"(8/ 113)، "حياة الحيوان"(2/ 63، 380)، "شرح ابن عثيمين كتاب الأطعمة من البلوغ" ص (10).

ص: 190

ولا ينتقض هذا بقتل البهيمة التي وطئها آدمي، ومع هذا لا يحرم أكلها؛ لأنها غير محرمة لذاتها بل لأمر عارض، وسيأتي ذلك -إن شاء الله-.

° الوجه الرابع: ما نهي عن قتله من الحيوان والحشرات مقيد بما إذا لم يكن منه أذى، فإن حصل منه أذى أو اعتداء حلّ قتله كالنمل -مثلًا- فيقتل بما يبيده لكن بغير النار، فإن أمكن دفع أذاه بغير القتل تَعَيَّن.

والدليل على جواز قتله إلحاقه بالخمس المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنهما: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم

)

(1)

؛ لأن علة قتلها اتصافها بالفسق والعدوان، فيلحق بها ما اتصف بهذه الصفة وإن لم تكن من طبيعته

(2)

، ولأن المؤذي من بني آدم إذا لم يندفع أذاه إلا بالقتل جاز قتله، فالنمل من باب أولى

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم في "الحج" برقم (736).

(2)

"فتاوى ابن باز"(73/ 148). وانظر: "إكمال المعلم"(7/ 176)، "عون المعبود". (14/ 179).

(3)

"شرح كتاب الأطعمة من البلوغ" لابن عثيمين ص (12).

ص: 191

‌حكم أكل الضَّبُع

1334/ 7 - عَنِ ابْنِ أبِي عَمّارٍ قَال: قُلْتُ لِجَابِرٍ رضي الله عنه: الضَّبُعُ صيدٌ هِيَ؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: قالهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَال: نَعَمْ. روَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ وَصَحّحَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي المكي، روى عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه عبد الله بن عبيد بن عمير، وابن جريج، وعمرو بن دينار، وغيرهم، قال ابن سعد وأبو زرعة والنسائي:(ثقة)، وقال أبو حاتم:(صالح الحديث)، وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له جماعة سوى البخاري، كان يلقب بالقِسِّ؛ لكثرة عبادته

(1)

، قال الحافظ في "التقريب":(ثقة عابد) رحمه الله تعالى.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (22/ 72)، وأبو داود في كتاب "الأطعمة"، بابٌ (في أكل الضبع)(3701)، والترمذي (851)، والنسائي (5/ 191)، وابن ماجه (3236)، وابن حبان (9/ 277) من طرق عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، قال: قلت لجابر رضي الله عنه

وذكره. وهذا لفظ أبي داود.

(1)

"تهذيب الكمال"(17/ 229).

ص: 192

ولفظ الترمذي: قلت لجابر: الضبع، أصيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم .. لحديث.

وهذا الحديث إسناده صحيح، قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح)، وقال في "العلل الكبير":(سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث صحيح)

(1)

، ونقل الحافظ في "التلخيص" تصحيحه -أيضًا- عن ابن خزيمة والبيهقي

(2)

.

ونقل الترمذي في "جامعه" عن يحيى بن سعيد القطان قوله: (وروى جرير بن حازم هذا الحديث عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار، عن جابر، عن عمر قوله، وحديث ابن جريج -يعني المرفوع- أصح)

(3)

. ونقل الطحاوي عن يحيى القطان أنه أنكر هذا الحديث، وأنه قال:(كان يحدث به عن جابر، عن عمر، ثم صيَّره عن النبي صلى الله عليه وسلم)، قال الطحاوي:(إنكارًا منه إياه على ابن أبي عمار)

(4)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (الضَّبُع) هي بفتح الضاد وضم الباء أو سكونها اسم للأنثى، ولا يقال: ضَبُعَة؛ لأن الذكر ضِبْعان، والجمع ضَباعين مثل سِرحان وسراحين، وذكر الجوهري وتبعه صاحب "القاموس" أنه يقال للأنثى ضِبْعانة، والجمع ضِبْعانات، ورد عليه ابن بري فقال:(هذا لا يعرف)، وأما ضباع فهو جمع للذكر والأنثى، مثل: سَبُعٍ وسِبَاع

(5)

.

والضبع حيوان كبير الرأس، قوي الفكين، توصف بالعَرَج وليست بعرجاء، ولكن بسبب لدونةٍ في مفاصلها وزيادة رطوبة في الجانب الأَيمن على الأيسر، والضبع نوعان: نوع يأكل الزرع والنبات، ويغلب وجوده في الجبال، ونوع يعيش على الجيف، وأهل البادية يعرفون الفرق بينهما بمجرد رؤيتهما؛

(1)

(2/ 757).

(2)

(6/ 3059).

(3)

"جامع الترمذي"(2/ 198)، (3/ 388).

(4)

"شرح مشكل الآثار"(9/ 95).

(5)

"الصحاح"(3/ 1247).

ص: 193

لأن مظهرهما مختلف، والظاهر أن المراد بالحديث النوع الأول

(1)

.

قوله: (صيد هي) على حذف همزة الاستفهام بدليل الجواب.

قوله: (قال: نعم) هي من حروف الجواب، وهي لتصديق مخبر كقوله: قام زيد، فتقول: نعم، أو إعلام مستخبر، كقوله: هل جاء زيد؟ فتقول: نعم، أو وعد طالب، كقوله: خذ الكتاب، فتقول: نعم آخذه

(2)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على إباحة أكل لحم الضبع، وهذا قول الشافعي وأحمد

(3)

، ونسبه القرطبي إلى مالك وأصحابه

(4)

.

والقول الثاني: تحريم أكله، وهذا مذهب أبي حنيفة

(5)

، وجماعة، واستدلوا بالأحاديث المتقدمة في تحريم كل ذي ناب من السباع، قالوا: والضبع لها ناب تصيد به، فتدخل تحت الحديث، وأجابوا عن حديث الباب بأنه غير مشهور، فيكون العمل بالمشهور أولى.

والراجح القول الأول، لقوة دليله وصراحته في حلها، قال الحافظ ابن حجر:(وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها)

(6)

. قال الشافعي: الحوم الضباع تباع عندنا بمكة بين الصفا والمروة

وفي هذا الحديث دليل على أن الصيد الذي نهى الله تعالى المحرم عن قتله ما كان يَحِلُّ أكله من الصيد، وأنهم إنما يقتلون الصيد ليأكلوه، لا عبثًا بقتله

)

(7)

.

وأما قول أصحاب الرأي الثاني إنها داخلة في عموم النهي عن أكل ما له ناب، فأجيب عنه بجوابين:

الأول: على فرض أنها سبع فإنه لا تعارض بين حديث النهي عن أكل كل ذي ناب وبين حديث الباب الدال على الإباحة؛ لأن هذا حديث خاص فيقدم على العام.

(1)

"حياة الحيوان"(2/ 81)، "فقه الإسلام"(9/ 235).

(2)

انظر: "الجنى الداني" ص (505).

(3)

"مغني المحتاج"(4/ 299)، "المقنع"(3/ 52).

(4)

"بداية المجتهد"(2/ 12).

(5)

"حاشية ابن عابدين"(5/ 194).

(6)

"فتح الباري"(9/ 568).

(7)

"الأم"(3/ 644).

ص: 194

الثماني: أن الضبع ليست بسبع، فلا تدخل في عموم النهي عن السباع؛ لأنها وإن كانت ذات ناب فليست مما يعدو بنابه، والمعتبر في المُحرَّم من السباع ما اجتمع فيه وصفان: الناب، والعدو على الناس، كما تقدم

(1)

، قال ابن القيم:(وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين، وهو كونها ذات نابٍ، وليست من السباع العادية، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تُعَدُّ الضبع من السباع لغة ولا عرفًا)

(2)

، وقال الدميري:(الضبع لا يغتذي بالعدو، وقد يعيش بغير أنيابه)

(3)

.

وأما قولهم: إن حديث الباب غير مشهور، فهذا فيه نظر، فقد صححه جمع من الأئمة، ومنهم البخاري والترمذي، كما تقدم، وكفى بذلك شهرة.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه يجوز للمستفتي إذا سأل المفتي عن حكم شرعي أن يطلب منه الدليل؛ لقوله: (قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يفيد أنه إذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم كفى.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على أن (نعم) صريحة في الجواب، ومن القواعد الأصولية: السؤال كالمعاد في الجواب، ومعناها: أنه إذا ورد الجواب بـ (نعم) -مثلًا- بعد سؤال مُفَصَّلٍ، اعتبر الجواب مشتملًا على مضمون السؤال؛ لأن مدلول هذه الأداة يعتمد على ما قبلها من تفصيل، ولأن الجواب غير مستقل بنفسه في الإفادة، ومن ذلك قوله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] أي: وجدنا ما وعد ربنا حقًّا.

ولهذا تثبت الحقوق بها ويقع الطلاق، فإذا قال رجل لآخر: لي عليك

(1)

انظر: "إعلام الموقعين"(2/ 117).

(2)

المصدر السابق.

(3)

"حياة الحيوان"(2/ 82).

ص: 195

ألف درهم، فقال: نعم، كان إقرارًا منه بالألف، لأن السؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: نعم لك عليَّ ألف درهم. ولو قيل لرجل: أطلَّقت امرأتك؟ فقاله: نعم، كان طلاقًا، لأن الجواب: نعم طلقت امرأتي. والله تعالى أعلم

(1)

.

(1)

انظر: "موسوعة القواعد الفقهية"(5/ 290)، "الكافي" لابن قدامة (3/ 168)، (4/ 574).

ص: 196

‌حكم أكل القنفذ

1335/ 8 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُنفذِ فَقَال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآيةَ، فَقَال شَيخٌ عِنْدَه: سَمِعْتُ أبا هرَيرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: "إنَّها خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ". أَخْرَجَة أَحْمَدُ وَأبُو دَاوُدَ، وإسناده ضَعِيفٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (14/ 515)، وأبو داود في كتاب "الأطعمة"، بابٌ (في أكل حشرات الأرض)(3799) من طريق عيسى بن نُميلة، عن أبيه قال: كنت عند ابن ضمر فسئل عن أكل القنفذ

وذكر الحديث، وتمامه: فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال، ما لم نَدْرِ. وقد أثبت هذا في بعض نسخ "البلوغ" عدا الجملة الأخيرة.

وهذا سند ضعيف، فيه مجهولان، عيسى بن نميلة -بالنون- وأبوه، وفيه رجل مبهم، وهو الشيخ الذي روى عن أبي هريرة رضي الله عنه فإنه لم يُسَمَّ، قال البيهقي:(هذا حديث لم يُرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد فيه ضعف)

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن القنفذ) هو بضم القاف وسكون النون، وضم الفاء أو فتحها، واحد القنافذ، والأنثى قنفذة

(2)

، وهو حيوان ثديي صغير، مغطى

(1)

"السنن الكبرى"(9/ 326).

(2)

"الصحاح"(2/ 569).

ص: 197

بالأشواك، إذا واجهه خطر كَوَّرَ نفسه فلا يظهر منه إلا أشواكه الحادة في كل اتجاه، وبذلك يقي نفسه، يتغذى بالفاكهة وجذور النبات والحشرات، لا يظهر إلا ليلًا، وهو مولع بأكل الأفاعي، ولا يتألم بها

(1)

.

قوله: (فقال) أي: فقرأ، فأطلق القول على القراءة.

قوله: (خبيثة) هكذا لفظ "البلوغ"، وهو لفظ أبي داود وبعض طبعات "المسند"، وفي بعضها (خبيث) بدون تاء.

° الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بتحريم أكل القنفذ، وأنها خبيثة من الخبائث، وهذا قول أحمد وأبي حنيفة

(2)

.

والقول الثاني: أن القنفذ حلال، وهذا قول الشافعي ومالك

(3)

، واستدلوا بأن ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عنه تلا قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً} [الأنعام: 145] وهذا ليس منها؛ ولأنه مستطاب ولا يتقوى بنابه، فحل أكله كالأرنب.

قالوا: وحديث الباب غير ناهض على القول بتحريمه، لما تقدم في سنده، وأيدوا هذا بأن الأصل في الأطعمة الحل، كما تقدم أول كتاب "الأطعمة"، لكن من كرهه في نفسه فله أن يمتنع منه، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الضب، كما سيأتي، إن شاء الله.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (الصواب القول بالإباحة؛ لأنه الأصل، وقد سألنا أهل الخبرة عن هذه الدابة فأخبرونا أنها لا تأكل الجيف، وإنما تأكل الزرع والنبات

). والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "حياة الحيوان"(2/ 265).

(2)

"المغني"(13/ 317)، "بدائع الصنائع"(5/ 36).

(3)

"المهذب"(1/ 330)، "جواهر الإكليل"(1/ 217).

ص: 198

‌تحريم الجلالة وألبانها

1336/ 9 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: نَهى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَلَّالةِ وَألبَانِهَا. أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إلا النَّسَائيَّ، وَحَسّنَهُ الترْمِذِيُّ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأطعمة"، باب (النهي عن أكل الجلالة وألبانها)(3785)، والترمذي (1824)، وابن ماجه (3189) من طريق محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها.

قال الترمذي: (حديث حسن غريب)، والحديث رجاله ثقات إلا ابن إسحاق فهو مدلس وقد عنعنه، ثم إنه قد خولف في إسناده، فقد قال الترمذي: إنه رواه سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(1)

.

ورواه أبو داود (3787)، والبيهقي (9/ 332) من طريق عمرو بن أبي قيس، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل: أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها.

حسنه الألباني

(2)

، وهذا فيه نظر؛ لتفرد عمرو بن أبي قيس عن بقية أصحاب أيوب.

(1)

"مصنف عبد الرزاق"(4/ 523)، "مصنف ابن أبي شيبة"(8/ 148).

(2)

انظر: "الإرواء"(8/ 150).

ص: 199

وروى أبو داود (3780)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 194)، وأحمد (3/ 447) من طريق هشام قال: حدثني قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبن الشاة الجلالة.

قال ابن عبد الهادي: (إسناده صحيح)

(1)

.

وروى ابن أبي شيبة (8/ 146 - 147) عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها.

قال الحافظ: (سنده حسن)

(2)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن الجلالة) لفظ أبي داود والترمذي: (عن أكل الجلالة) وعند ابن ماجه: (عن لحوم الجلالة) والجلالة: بفتح الجيم وتشديد اللام من أبنية المبالغة، هي التي أكثر أكلها الجلة -مثلثة الجيم- وهي البعر، وتكون الجلالة بعيرًا أو بقرة أو شاة أو دجاجة وغيرها.

فالجلالة هي التي تأكل النجاسات من الطير والدواب، وادعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم

(3)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أكل الجلالة وشرب لبنها؛ لأن النهي يحمل عند الإطلاق على التحريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه"

(4)

، وهذا قول فريق من الشافعية، ورواية عن أحمد، وهي المذهب

(5)

، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء

(6)

. ولأن النجاسة قد أثرت في لحم الحيوان بدليل ظهور نتنها في عرقه ولحمه.

(1)

"التنقيح"(4/ 670).

(2)

"فتح الباري"(9/ 648).

(3)

"المحلى"(7/ 410)، "فتح الباري"(9/ 648).

(4)

رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337).

(5)

"المغني"(10/ 366).

(6)

"إحكام الأحكام"(4/ 465)، وقد يكون مراده فقهاء الشافعية.

ص: 200

والقول الثاني: أنه يكره أكل لحم الجلالة، وهذا قول أبي حنيفة والمالكية، وقول لأصحاب الشافعي، صححه النووي

(1)

، وهو رواية عن أحمد، وعند الحنفية إذا كان جميع أكلها النجاسة فلا تحل، وإنما الجواز إذا كانت تُخَلِّطُ، قالوا: لأن النهي لا يرجع إلى ذاتها بل لعارض وهو تغير اللحم، وهو لا يوجب التحريم كما لو نَتَنَ اللحم المذكى وتَرَوَّحَ، فإنه يكره أكله على الصحيح، ولا يحرم

(2)

.

والراجح هو القول الأول؛ لدلالة الحديث وما في معناه من الأحاديث الأخرى التي لا صارف لها، ثم إن نفور الطبع السليم والنفس السوية من الطعام الذي تشم فيه رائحة النتن يؤيد قوة القول بالترك، والله أعلم.

أما تعليل أصحاب القول الثاني فهو تعليل في مقابلة نص، وقولهم: إن النهي لا يرجع لذاتها غير سديد، فإنه يرجع إلى ذات الجلالة؛ لأن هذا اللفظ من صيغ المبالغة، وهو يدل على كثرة أكلها النجاسات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها، فيكون النهي عائدًا إلى ذاتها.

° الوجه الرابع: اختلف العلماء في المقدار الذي إذا أكلته الدابة صارت جلالة، على قولين:

الأول: أن يكون أكثر أكلها النجاسة، فإن كان أقل من ذلك فلا تأثير له؛ لأنه إذا غلب عليها النجاسة تغير لحمها ولبنها، وهذا قول في مذهب الحنابلة والشافعية والحنفية

(3)

.

القول الثاني: أنه لا عبرة بالكثرة ولا بالقلة، وإنما بالرائحة والنتن ولو لم يكثر أكلها النجاسة، فإذا وجد في عرقها أو لحمها رائحة فهي جلالة وإلا فلا، وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية، قال النووي: (الصحيح أنه لا اعتداد بالكثرة، بل بالرائحة والنتن

)

(4)

.

(1)

"بداية المجتهد"(2/ 511)، "المبسوط"(11/ 255)، "مغني المحتاج"(4/ 304).

(2)

"بدائع الصنائع"(5/ 40).

(3)

"المجموع"(9/ 28).

(4)

"روضة الطالبين"(3/ 278)، "المجموع"(9/ 28).

ص: 201

والقول الأول أرجح؛ أخذًا من لفظ الجلالة؛ إذ هو يفيد المبالغة المفهمة للأكثرية.

° الوجه الخامس: الصحيح في المدة التي تحبس فيها الجلالة حتى يحل أكلها أنها لا تتقدر بزمن معين، بل متى غلب على الظن زوال النجاسة حَلَّ أكلها؛ لأن التحديد لا دليل عليه، والحيوانات تختلف، والمقصود زوال المحذور، وما ورد في بعض الأحاديث من حبسها أربعين يومًا فهو ضعيف، وما ورد من بعض السلف فهو مختلف، وقد روى ابن أبي شيبة أن ابن عمر كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا

(1)

. قال الحافظ ابن حجر: (والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر، على الصحيح)

(2)

.

° الوجه السادس: الحديث دليل على تحريم شرب لبن الجلالة؛ لأنه إذا تغير اللحم تغير اللبن، وقد ثبت النهي عنه كالنهي عن الأكل. والله تعالى أعلم.

(1)

"المصنَّف"(8/ 245). ط: الرشد، قال الحافظ:(إسناده صحيح)، "فتح الباري"(9/ 648).

(2)

"فتح الباري"(9/ 648).

ص: 202

‌إباحة لحم الحمار الوحشي

1337/ 10 - عَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه -في قِصةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ- فَأكلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم تخريجه والكلام عليه في كتاب "الحج" برقم (734). وقد رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196)(60) من طريق أبي عوانة، حدثنا عثمان -وهو ابن وهب- قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة: أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا، فخرجوا معه

وساق الحديث.

° الوجه الثاني: الحديث دليل على إباحة لحم الحمار الوحشي، وهذا غرض الحافظ من إعادة هذا الحديث في كتاب "الأطعمة"، وإلا فقد سبق الكلام على ما يتعلق بأحكامه هناك.

والحمار الوحشي نوع من الصيد يشبه الحمار الأهلي، ولحمه من الطيبات، وقد أجمع العلماء على إباحته، وقد روى مسلم حديث جابر رضي الله عنه قال: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح مسلم"(1941)(37).

ص: 203

‌إباحة لحم الفرس

1338/ 11 - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأكلْنَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من كتاب "الذبائح والصيد"، باب (النحر والذبح)(5510) من طريق جرير بن حازم، ومسلم (1942) من طريق عبد الله بن نمير وحفص بن غياث ووكيع، أربعتهم عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:

فذكرت الحديث.

قال البخاري: (تابعه -أي جريرًا- وكيع وابن عيينة عن هشام في النحر).

وقد ذكر الدارقطني الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ثم رجح رواية الحفاظ من أصحاب هشام عنه، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء

(1)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نحرنا) النحر بفتح فسكون هو ذكاة الإبل، وهو طعنها في أسفل العنق عند الصدر؛ لأنه أسهل على الذابح.

وفي رواية للبخاري

(2)

من طريق عبدة، عن هشام:(ذبحنا) والذبح ذكاة البقر والغنم، وهو إمرار السكين لقطع الحلقوم والودجين، وهذا الاختلاف عن الراوي هشام بن عروة، ولعل هذا مصير منه إلى استواء اللفظين في المعنى، والقصة واحدة، هذا قول الحافظ ابن حجر، ومنهم من حمل ذلك

(1)

"العلل"(15/ 299 - 300).

(2)

"صحيح البخاري"(5511).

ص: 204

على التعدد، فمرة نحروها ومرة ذبحوها، وهذا اختيار النووي

(1)

، والعيني

(2)

، وتبعهما الشوكاني

(3)

؛ لأن الأصل الحقيقة، ولا يعدل إلى المجاز إلا إذا تعذر حمل اللفظ على حقيقته، والحقيقة هنا غير متعذرة، وقد نقل الحافظ كلام النووي ولم يرتضه، والأقرب رجحان رواية (نحرنا) فإن عامة أصحاب هشام الحفاظ رووه بهذا اللفظ

(4)

.

قوله: (على عهد) وفي رواية للبخاري

(5)

: (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة)، وقد ذكر العلماء أن الصحابي إذا أضاف شيئًا إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنه علم به فهو من المرفوع حكمًا، وإذا كان هذا في مطلق الصحابة فكيف بآل أبي بكر رضي الله عنه، وفائدة قوله:(ونحن بالمدينة) بيان أنهم أكلوها بعد فرض الجهاد، فيكون فيه رد على من زعم أن حل الخيل كان قبل فرض الجهاد؛ لأن الجهاد ما فرض إلا بعد الهجرة.

قوله: (فرسًا) الفرس واحد الخيل، والجمع أفراس، الذكر والأنثى سواء، وحكى الفراء، وابن جني: فرسة، وقال الجوهري:(هو اسم يقع على الذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة)

(6)

، ولفظها مشتق من الافتراس؛ لأنها تفترس الأرض بسرعة مشيها.

° الوجه الثالث: الحديث من أدلة القائلين بجواز أكل لحم الخيل؛ لأنه أُكل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقرَّهم عليه، وقد جاء في رواية للدارقطني

(7)

: (فأكلناه نحن وأهل بيته)

(8)

، وهي زيادة ضعيفة، لكن

(1)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 103).

(2)

"عمدة القارئ"(17/ 242).

(3)

"نيل الأوطار"(8/ 128).

(4)

انظر: "فتح الباري"(9/ 642).

(5)

"صحيح البخاري"(5511).

(6)

"الصحاح"(3/ 957)، "حياة الحيوان الكبرى"(2/ 209).

(7)

"السنن"(4/ 290) وهي من طريق ابن ثوبان، عن هشام بن عروة .. وهي زيادة معلولة؛ لتفرد ابن ثوبان بها من بين أصحاب هشام.

(8)

عزا المجد في "المنتقى"(8/ 23) هذه الرواية لأحمد، وكذا الحافظ في "التلخيص"(6/ 3055)، ولم أقف عليها في "المسند"، والحافظ في "الفتح" عزاه للدارقطني فحسب.

ص: 205

الأقرب أنه لا يُظن بآل أبي بكر رضي الله عنه أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم علم بجوازه؛ لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يعلم الرد على من قال بتحريم لحوم الخيل، وزعم أن حديث أسماء لا دلالة فيه على الإباحة؛ إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك.

° الوجه الرابع: لا خلاف بين أهل العلم أن التذكية نوعان: ذبح ونحر، وتقدم تعريفهما، لكن اختلفوا فيما إذا خالف المذكي هذه الصفة، فنحر ما يذكى كالبقر، أو ذبح ما ينحر كالإبل، على قولين:

الأول: جواز التذكية وأن الذبيحة تحل، وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة

(1)

، لوجود فري الأوداج وانهار الدم المطلوب في الذكاة، وقد استدل بعض الشراح -كما قال الحافظ- بحديث الباب وهو مبني على أن الأمر في ذلك وقع مرتين، والأصل عدم التعدد مع اتحاد المخرج

(2)

.

الثاني: أن التذكية بهذه الصفة لا تحل إلا في حالة الضرورة أو حالة الجهل، وهو قول المالكية

(3)

، لمخالفة الصفة المشروعة في التذكية، وهي أن الإبل تنحر وغيرها يذبح.

والراجح الأول، لما تقدم من حصول المقصود بهذه التذكية، وما ورد من تخصيص الإبل بالنحر وغيرها بالذبح غاية ما يفيد الاستحباب، وهذا لا يدل على تحريم ما لم تقع ذكاته على هذه الصفة

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بدائع الصنائع"(5/ 41)، "المغني"(13/ 306)، "المجموع"(9/ 85)، "فتح الباري"(9/ 640).

(2)

"فتح الباري"(9/ 642).

(3)

"جواهر الإكليل"(1/ 212).

(4)

"الأطعمة" للشيخ صالح الفوزان ص (126).

ص: 206

‌إباحة لحم الضَّبِّ

1339/ 12 - عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما قَال: أُكِلَ الضبُّ عَلَى مَائِدةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، باب (الأحكام التي تعرف بالدلائل)(7358)، ومسلم (1947) من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أهدت خالتي أم حُفَيدٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمنًا وأَقِطًا وَأَضُبًّا، فأكل من السمن والأقط، وترك الضب تقذرًا، وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حرامًا ما أُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا لفظ مسلم.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الضب) بفتح الضاد، اسم للذكر، والأنثى ضبة، وجمعه ضِباب وضُبان وأضُبٌّ، مثل كَفٍّ وأَكُفٍّ، وهو حيوان من جنس الزواحف غليظ الجسم خشنه، وله ذَنَبٌ عريض حَرَشٌ أعقد، يكثر في صحاري الأقطار العربية، قيل: إنه لا يشرب الماء، ولا يخرج من جحره في فصل الشتاء، وأسنانه قطعة واحدة ليست مفرقة، ولذا لا يسقط له سن، وللضب ذكران، وللأنثى فرجان، وبين الضب والعقرب مودة، فهو يؤويها في جحره لتلسع من يتحرش به إذا أدخل يده لأخذه، وفي طبعه النسيان، ويضرب به المثل في الحيرة، ولهذا لا يحفر جحره إلا عند أكمة أو صخرة؛ لئلا يضل عنه إذا غاب أو تباعد، وقد ضرب العرب في الضب أمثالًا كثيرة، فقالوا: أَضَلُّ من

ص: 207

ضب، وأَجْبَنُ من ضب، وأَعَقُّ من ضب، وأَحْيا من ضب

(1)

.

قوله: (على مائدة) المائدة: هي الطعام نفسه، وهي مشقة من الميد وهو العطاء، يقال: ماده ميدًا أعطاه، أو من الميد وهو التحرك، يقال: ماد يميد إذا تحرك، فهي على هذا اسم فاعل من الثلاثي، وقيل: المائدة هي الخِوَان -بالكسر والتخفيف- وهي سفرة الأكل، قال الفارسي: لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام وإلا فهي خِوان

(2)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على إباحة أكل لحم الضب، وهذا قول الشافعية والحنابلة

(3)

؛ لأن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن حلالًا ما أُكل على مائدته، وقد أقر خالد بن الوليد على أكله كما في بعض الروايات:(قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ). وكونه صلى الله عليه وسلم تركه لا يدل على تحريمه، وإنما تركه؛ لأنه لم يعتد أكله، كما في حديث خالد بن الوليد:(ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)

(4)

.

والقول الثاني: تحريم أكل لحم الضب، وهذا مذهب الحنفية كما نص عليه الكاساني بعد أن ساق الأدلة في النهي عنه

(5)

، وذكر "صاحب الهداية" منهم القول بالكراهة

(6)

، والظاهر ما قاله الحافظ من أن أكثرهم قال بالكراهة

(7)

، وجنح بعضهم إلى التحريم، والطحاوي خالف الحنفية حيث ساق الأحاديث الدالة على إباحته، ثم قال:(فثبت بتصحيح هذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وهو القول عندنا)

(8)

. قال النووي: (أجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا: هو حرام، وما أظنه يصح

(1)

"حياة الحيوان الكبرى"(2/ 77).

(2)

"اللسان"(3/ 411)، "المصباح المنير" ص (278).

(3)

"المهذب"(1/ 330)، "المغني"(13/ 340).

(4)

رواه البخاري (5537)، ومسلم (1946).

(5)

"بدائع الصنائع"(5/ 36).

(6)

"الهداية"(4/ 68).

(7)

"فتح الباري"(9/ 667).

(8)

"شرح معاني الآثار"(4/ 202).

ص: 208

عن أحد، وإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله)

(1)

.

وقد تعقبه الحافظ بأن ابن المنذر نقل عن علي رضي الله عنه النهي عن لحم الضب، فأي إجماع يكون مع مخالفته؟

(2)

وهذا النقل عن علي ذكره ابن المنذر في "الإشراف"

(3)

، ومن بعده الخطابي

(4)

، ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم

(5)

.

وقد استدل القائلون بالنهي عن أكله بثلاثة أمور:

الأول: حديث عبد الرحمن بن شِبْل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب

(6)

.

الثاني: حديث جابر رضي الله عنه قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال:(لا أدري لعله من القرون التي مُسخت)

(7)

.

وعن عبد الرحمن بن حسنة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب، قال: فأصبنا منها وذبحنا، قال: فبينا القدور تغلي بها إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أمة من بني إسرائيل فُقِدَتْ واني أخاف أن تكون هي فأكفئوها"، فَأكْفَأنَاهَا

(8)

.

(1)

"شرح صحيح مسلم"(13/ 105).

(2)

"فتح الباري"(9/ 665).

(3)

(8/ 162).

(4)

"معالم السنن"(5/ 310).

(5)

"جامع الترمذي" بعد الحديث (1790).

(6)

رواه أبو داود (3796)، وهذا الحديث حسنه الحافظ في "فتح الباري"(9/ 665)، وقال:(رواته شاميون ثقات) مع أن بعضهم متكلم فيه مثل: ضمضم بن زرعة. انظر: "تهذيب الكمال"(13/ 327)، وضعفه جماعة، فقد قال الجوزقاني في "الأباطيل" (2/ 221):(حديث منكر، وإسناده ليس بمتصل، وإسماعيل ضعيف الحديث)، وقال الطبري في "تهذيب الآثار" (1/ 109):(هذا خبر لا يثبت بمثله حجة) وممن ضعفه البيهقي (9/ 326) فقال: (ينفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بحجة)، كما ضعفه ابن حزم (7/ 431)، وقال الخطابي:(ليس إسناده بذلك)"المعالم"(5/ 310)، وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 172).

(7)

رواه مسلم (1949).

(8)

رواه أحمد (29/ 292)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 197)، وفي "شرح مشكل الآثار"(8/ 328) من طريق الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه. =

ص: 209

الثالث: أن الضب من الحشرات وهوام الأرض وأنه من الخبائث، والله قد حرم الخبائث.

والراجح القول الأول، وهو أن الضب يباح أكله؛ لأن الأحاديث الدالة على حله صحيحة صريحة، وإذا لم يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم فهو حلال؛ لأن الأصل في الأطعمة الحل.

وأما أدلة القائلين بتحريمه فيجاب عنها بما يلي:

1 -

أما حديث عبد الرحمن بن شبل فقد ضعفه الأئمة، وعلى القول بصحته فإن النهي وإن كان أصله التحريم لكنه معارض بما هو أصح منه، وهو حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كلوا؛ فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي"

(1)

. فيكون النهي محمولًا على الكراهة أو في حق من يتقذره، كما قال الطبري

(2)

؛ لأن النفس إذا كرهت الشيء فإنه لا ينبغي إكراهها عليه؛ لأنها لا تستمريه ولا تنتفع به، بل يضرها، يقول ابن القيم: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله، ولم يُحَمْلِّهَا إياه على كره، وهذا أصل عظيم في حفظ

= ورواه أبو داود (3795)، والنسائي (7/ 199)، وابن ماجه (3238)، وأحمد (29/ 451) من طريق حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن يزيد بن وداعة الأنصاري رضي الله عنه به.

ورواه أحمد (29/ 449)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 198) وفي "شرح مشكل الآثار"(8/ 331) من طريق عدي بن ثابت، عن زيد بن وهب، يحدث عن ثابت بن وديعة رضي الله عنه.

ورواه النسائي (7/ 200)، وأحمد (29/ 452) عن الحكم، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، عن ثابت بن وداعة رضي الله عنه به.

فخالف هؤلاء الثلاثة (حصين السلمي، وعدي بن ثابت، والحكم بن عتيبة). خالفوا الأعمش، قال البخاري:(لم يعرف أن أحدًا روى هذا غير الأعمش)، وقال:(حديث ثابت أصح، وفي نفس الحديث نظر)، ولعل هذا إشارة من البخاري إلى مخالفة هذا الحديث للأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في إباحة لحم الضب، والله أعلم. انظر:"التاريخ الكبير"(2/ 171)، "العلل الكبير"(2/ 753).

(1)

رواه مسلم (1944).

(2)

"تهذيب الآثار""مسند عمر رضي الله عنه"(1/ 106 - 107).

ص: 210

الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا يشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه)

(1)

.

2 -

وأما حديث عبد الرحمن بن حسنة الدال على أن الضب من جملة الممسوخ، والممسوخ محرم، فيجاب عنه بأن هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الضب مما مسخ قبل أن يعلمه الله تعالى أن الممسوخ لا يُنْسِلُ، وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده القردة والخنازير مما مسخ فقال:"إن الله لم يجعل لمسخ نَسْلًا ولا عَقِبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك"

(2)

.

والمعنى: أنها كانت قبل مسخ بني إسرائيل، فدل على أنها ليست مما مسخ، إذ الممسوخ لا يكون له نسل، وعلى هذا فتحمل أحاديث النهي على أول الحال عند تجويز أن تكون الضباب مما مسخ، وحينئذٍ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال، لما علم أن الممسوخ لا نسل له، وبعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه، وأكل على مائدته بإذنه فدل على الإباحة

(3)

.

وأما قولهم: إنه من هوام الأرض، فهذا لا يقتضي تحريمه ما دام أنه ثبت الدليل بحله، وقولهم: من الخبائث غير صحيح بل هو من الطيبات؛ لأنه طاهر يأكل الأعشاب

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"زاد المعاد"(4/ 217).

(2)

"صحيح مسلم"(2663)(32).

(3)

"فتح الباري"(9/ 666).

(4)

"الأطعمة"(69 - 70).

ص: 211

‌النهي عن قتل الضِّفْدِع

1340/ 13 - عَنْ عبد الرَّحْمنِ بْنِ عُثْمَان الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه، أَن طَبيبًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضفْدِع يَجْعَلُهَا في دَوَاءٍ، فَنَهى عَنْ قَتْلِهَا. أخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (25/ 36، 47)، وأبو داود في كتاب "الأطعمة"، بابٌ (في الأدوية المكروهة)(3871)، والنسائي (7/ 210)، والحاكم (4/ 411) من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيبًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. هذا لفظ أبي داود.

وهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات، غير سعيد بن خالد وهو القارظي، فقد اختلف فيه، فقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال الدارقطني:(مدني يحتج به)، وذكره ابن حبان في "الثقات" ونُقل عن النسائي أنه قال:(ضعيف)، وتعقب هذا ابن حجر فقال:(إن النسائي قال في "الجرح والتعديل": ثقة، فينظر أين قال: إنه ضعيف)، وذكر مُغَلْطاي أنه بحث في تصانيف النسائي فلم يجد تضعيفه فيها، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق)

(1)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 16)، سؤالات البرقاني للدارقطني رقم (183)، "الثقات"(6/ 357)، "إكمال تهذيب الكمال"(5/ 281)، "تهذيب التهذيب"(4/ 18 - 19).

ص: 212

وقال البيهقي: (إن هذا الحديث أقوى ما ورد في النهي عن قتل الضفدع)

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن الضفدع) بكسر الضاد وسكون الفاء بوزن الخِنْصِر، واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة، وهو حيوان برمائي، أنواعه كثيرة، ينشأ في المياه الضعيفة الجري ومن العفونات، وما يبقى عقب الأمطار الغزيرة، وهو من الحيوانات التي لا عظم لها، ومنها ما يَنِقُّ، ومنها ما لا ينق، وتوصف بحدة السمع

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم أكل الضفدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلها، وتقدم أن ما نهي عن قتله من الحيوان حرم أكله.

وروى البيهقي بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح)

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن الكبرى"(9/ 318).

(2)

"حياة الحيوان الكبرى"(2/ 82).

(3)

"السنن الكبرى"(9/ 318) وقال: (هذا موقوف إسناده صحيح).

ص: 213

‌باب الصيد والذبائح

الصيد في الأصل يطلق على المصدر الذي هو الفعل، يقال: صاد يصيد صيدًا فهو صائد، ثم أطلق على الحيوان المُصَاد من باب تسمية المفعول باسم المصدر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].

والصيد: هو المتوحش بطبعه من الحيوان المأكول الذي لا مالك له.

والصيد بالمعنى المصدري: هو اقتناص المتوحش

إلخ.

والذبائح: جمع ذبيحة، والذبح: هو قطع الحلقوم والمريء بمحدد ممَّن هو أهل لذلك.

والمراد بهذا الباب الصيد بمعنى الفعل، وهو هيئته وصفته الشرعية، وأما جنس ما يصاد فهذا يستفاد من كتاب "الأطعمة"، وكذا الذبائح فليس المراد جنس ما يذبح، وإنما المراد الفعل، وهو هيئة الذبح وصفته الشرعية.

ولما كان الصيد مصدرًا أفرده المصنف؛ لأن المصادر لا تجمع، وجمع الذبائح؛ لأنها تكون بالسكين أو بالحجر أو بالزجاج أو غيرها.

والأصل في هذا الباب: الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، وقوله تعالى:{إلا مَا ذَكَّيتُمْ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] والمذكى من الطيبات.

وأما السنة فأحاديث الباب، وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على إباحة الاصطياد والأكل من الصيد، وكذا ما ذبح على الصفة الشرعية.

والصيد من الهوايات المحببة، وكان العرب مولعين به، وذلك للعيش

ص: 214

والاستفادة من لحوم الصيد، وهذا هو الغالب، فإذا كان القصد منه دفع الحاجة والانتفاع به فهو مباح، لكن لا ينبغي إضاعة الوقت والجهد في طلبه، لما في ذلك من إضاعة العمر وتفريط الإنسان فيمن تحت يده ممن هو بحاجة إلى رعاية وتربية وتهذيب، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل

"

(1)

.

(1)

رواه أبو داود (2860)، وأحمد (15/ 427) من طريق الحسن بن الحكم النخعي، عن عدي بن ثابت، عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف تفرد به الحسن بن الحكم، وهو متكلم فيه، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ)، وقد وقع في سند هذا الحديث اختلاف، فرواه الحسن بن الحكم، عن عدي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. انظر:"علل ابن أبي حاتم"(2230). وفيه اختلاف آخر فقد رواه شريك القاضي، عن الحسن، عن عدي، عن البراء مرفوعًا. انظر:"العلل الكبير" للترمذي (2/ 829). وانظر: "العلل" للدارقطني (8/ 240).

وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنه رواه أبو داود (2859)، والترمذي (2256)، والنسائي (7/ 195 - 196)، وأحمد (5/ 361) من طريق سفيان، عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس، لا نعرفه إلا من حديث الثوري). فهذا سند ضعيف لجهالة أبي موسى، فإنه لم يرو عنه إلا سفيان، وذكره ابن حبان في "الثقات"(7/ 664).

ص: 215

‌إباحة اتخاذ كلب الصيد

1341/ 1 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيدٍ، أَوْ زَرْعٍ، انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاطٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحرث والمزارعة"، باب "اقتناء الكلب للحرث) (2322)، ومسلم (58)(1575) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وهذا لفظ مسلم.

وقد رواه البخاري ومسلم -أيضًا- بألفاظ متعددة من عدة طرق، وقد ورد من حديث عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهما. كما سيأتي إن شاء الله.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من اتخذ) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(من أمسك) وهو عند مسلم -أيضًا-، وفي لفظ لهما:(من اقتنى) وهي مفسرة لرواية: (من أمسك)، والاقتناء: اتخاذ الشيء للادخار.

قوله: (أو صيد) للتنويع؛ لأن المقصود إباحة الثلاثة.

قوله: (انتقص) بسكون النون وفتح التاء والقاف، هكذا جاء مضبوطًا في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي

(1)

، قال في "المصباح المنير": (نقص

(1)

"صحيح مسلم"(3/ 1203).

ص: 216

وانتقص: ذهب منه شيء بعد تمامه .. )

(1)

، وقد جاء في بعض طبعات "البلوغ" بضم التاء، ولم يتضح لي هذا.

قوله: (قيراط) بكسر فسكون معيار في الوزن والمساحة، تختلف مقاديره باختلاف الأزمنة، وهو في عرف الأكثرين نصف عشر الدينار، وعند أهل الشام جزء من أربعة وعشرين

(2)

. وفي مثل هذا النص مجهول المقدار، والمعنى: أن ما يحصل لمقتني الكلاب في يومه وليلته من أجور صلاة وصيام وصدقة وذكر وغير ذلك فإنه ينقص من أجور هذه الطاعات كل يوم قيراط.

والاقتصار على قيراط هو رواية البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية لمسلم:(فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم)، وكذا جاء في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنه

(3)

، وسيأتي ذكر الجمع بينهما إن شاء الله.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على المنع من اتخاذ الكلاب واقتنائها إلا ما استثناه الشرع من الثلاثة: وهي الكلب الذي يحرس الماشية من السباع، والكلب الذي يحرس الزرع، وكلب الصيد.

• الوجه الرابع: ذهبت الشافعية والحنابلة

(4)

، إلى أن المنع من اتخاذ الكلاب مراد به التحريم، ولهم دليلان:

الأول: النص.

الثاني: ما في اتخاذها من المفاسد والأضرار، ومنها:

1 -

أن بقاءها في البيوت فيه ترويع الناس ولا سيما النساء والأطفال وإيذاؤهم.

2 -

امتناع دخول الملائكة؛ لأن دخول الملائكة للبيوت سبب للخير وللطاعة، وبعدهم سبب للشر والمعصية.

(1)

ص (621).

(2)

"اللسان"(7/ 375).

(3)

رواه البخاري (5480)، ومسلم (1574).

(4)

"الإنصاف، (7/ 253) "مغني المحتاج" (3/ 45).

ص: 217

3 -

أنها تنجس الأواني.

4 -

أنها سبب في نقصان الأجر، والواجب على المسلم أن يحذر ما يكون سببًا في نقصان ثواب أعماله.

والقول الثاني: أن المنع مراد به الكراهة لا التحريم، ذكر هذا القاضي عياض، ولم ينسبه لأحد

(1)

.

واستدلوا بأن نقص الثواب جاء على التدريج، ولو كان اتخاذها حرامًا لذهب الثواب مرة واحدة.

والراجح القول الأول، لقوة دليله، وأما الثاني فهو مرجوح؛ لأنه لو كان اتخاذها مكروهًا ما نقص شيء من أجر متخذها؛ لأن المكروه لا يقتضي نقص شيء من الثواب.

• الوجه الخامس: اختلف العلماء في الجمع بين رواية: (نقص من عمله كل يوم قيراطان) ورواية: (ينقص من أجره كل يوم قيراط) على أقوال، فقيل: إن القيراطين باعتبار كثرة الأضرار، كما في المدن، والقيراط باعتبار قلتها، كما في البوادي، وقيل: الأول باعتبار المدينة النبوية، والثاني باعتبار غيرها، وقيل: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقيراط ثم بقيراطين تنفيرًا عن اتخاذ الكلاب، وهذا هو أحسنها وأظهوها، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز

(2)

.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن اتخاذ الكلب المأذون فيه لا يكون سببًا في نقص الأجر؛ لأنه من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم.

• الوجه السابع: ظاهر الحديث أن جواز الاقتناء مقصور على الأنواع الثلاثة، وعليه فلا يجوز اقتناؤه لحفظ المنازل في المدن وحراستها، وهذا مذهب الحنابلة، وظاهر المنقول عن الإمام مالك، وهو أحد الوجهين عن

(1)

انظر: "إكمال المعلم"(5/ 246).

(2)

انظر: "إكمال المعلم"(5/ 246)، وترجيح الشيخ مستفاد من شرحه.

ص: 218

الشافعية

(1)

؛ لأن الحديث ظاهر في الحصر، وما جاء بصيغة الحصر لا يخرج منه شيء إلا بنص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة؛ ولأن اقتناء الكلاب في البيوت يؤذي المارة ويؤذي الجيران بخلاف الصحراء.

والقول الثاني: جواز اقتناء الكلاب لحراسة المنازل؛ قياسًا على الأمور الثلاثة المأذون فيها، وهذا القول ذكره الموفق ابن قدامة احتمالًا، وهو أصح الوجهين عند الشافعية

(2)

، وهو رأي ابن عبد البر، فإنه قال:(وفي معنى هذا الحديث تدخل عندي إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك، إلا أنه مكروه اقتناؤها في غير الوجوه المذكورة في هذه الأحاديث)

(3)

، واختار هذا الشيخ محمد بن عثيمين، وظاهر كلامه وكلام غيره من أهل العلم أن إباحتها لحراسة المنازل مقيد بما كان بعيدًا عن العمران

(4)

.

والقول الأول هو الراجح لما تقدم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم، ولو كان المراد مطلق الحراسة لأتى بلفظ شامل، ولم يخص الزرع والماشية، فلما خصهما دل على انتفاء الحكم عما عداهما؛ ولأن البيوت يمكن حفظها بالأبواب والأغلاق، والقول بالجواز يفضي إلى تساهل الناس في اتخاذ الكلاب كما حصل من بعض المتشبهين بالكفار في زماننا هذا، لكن ما كان بعيدًا عن العمران فالقول بالجواز فيه لا يخلو من وجاهة، والله المستعان.

وأما استعمال الكلاب في المصالح العامة للمسلمين مثل الكشف عن أماكن المخدرات فقد يقال بجوازه إذا غلبت الاستفادة منها؛ لشبهها بكلب

(1)

انظر: "إكمال المعلم"(5/ 246)، "المنتقى"(7/ 289)، "المغني"(6/ 356)، شرح الزركشي (3/ 673)، "الإعلام"(10/ 158 - 159)، "الإنصاف"(7/ 253).

(2)

"إكمال المعلم"(5/ 246)، "المغني"(6/ 357)، "الإعلام"(10/ 158).

(3)

"التمهيد"(14/ 219).

(4)

انظر: "التمهيد"(14/ 220)، مذكرة شرح كتاب "الأطعمة والصيد" من "البلوغ" للشيخ محمد بن عثيمين ص (28).

ص: 219

الحراسة؛ لأن مثل هذه الكلاب لا تكون قريبة من الناس ككلب حراسة الدار لو قيل بجوازه، بل هي في أماكن خاصة بعيدة عن الناس، ولا ينال الناس منها أي ضرر.

• الوجه الثامن: في الحديث دليل على يسر هذه الشريعة حيث أباح الله تعالى لعباده ما يُحتاج إليه في تحصيل المعاش وحفظ أموالهم ومواشيهم، وهذا من رحمة الله تعالى وتيسيره.

• الوجه التاسع: في الحديث دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يسعى إلى تكثير الأعمال الصالحة، وأن يحذر مما ينقص ثوابها أو يذهب بأجرها، وفيه التنبيه على أسباب الزيادة والنقص لتفعل أو تجتنب. والله تعالى أعلم.

ص: 220

‌الصيد بالجارح والمحدد

1342/ 2 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أرْسَلْتَ كَلْبَك فَاذْكرِ اسْمَ اللهِ، فَإنْ أَمْسَكَ عَلَيكَ فَأَدْرَكتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيرَهُ وَقدْ قَتَلَ فَلَا تَأكُلْ، فَإنَكَ لَا تَدْرِي أَيهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلا أثرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا في الْمَاءِ فَلَا تَأكُلْ". مُتَّفَق عَلَيهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو طريف عدي بن حاتِم بن عبد الله الطائي، ابن الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع، على ما ذكره ابن عبد البر والذهبي وابن كثير وغيرهم، وقيل: في سنة عشر، وقد ساق ابن كثير قصة قدومه.

ثبت على إسلامه في الردة، ونفع الله تعالى به قومه حين ارتد بعض الناس فثبتهم الله به، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر رضي الله عنه، وروى البخاري بسنده عن عدي بن حاتم قال: أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلًا رجلًا ويسميهم فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عدي: فلا

ص: 221

أبالي إذًا

(1)

.

شهد فتوح العراق، كان سيدًا شريفًا في قومه، خطيبًا حاضر الجواب، فاضلًا كريمًا، قال ابن عيينة: حُدِّثْتُ عن الشعبي، عن عدي رضي الله عنه قال: ما دخل وقت الصلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها. روى عنه الشعبي ومُحِلُّ بن خليفة وسعيد بن جبير وآخرون، سكن الكوفة، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، ومات بعد الستين وقد أسَنَّ، فقيل: مات عن مائة وعشرين، وقيل: أكثر

(2)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، ومنها في كتاب "الصيد والذبائح"، باب (الصيد إذا غاب عنه يومًا أو يومين)(5484)، ومسلم (1929)(6) من طريق عاصم، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه مرفوعًا.

ورواه مسلم من طرق بألفاظ متعددة، ويعد هذا الحديث من الأحاديث الأصول في أحكام الصيد؛ لاشتماله على مسائل وقواعد في هذا الباب، ولو جمعت ألفاظه من كتب السنة ودرست أسانيدها وأحكامها لكانت جديرة بذلك.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) في بعض نسخ "البلوغ"(قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهي ثابتة في "صحيح مسلم".

قوله: (إذا أرسلت كلبك) أي: للصيد، بدلالة السياق، وذكر الإرسال؛ لأنه بمنزلة الذبح.

والمراد بالكلب: المعلم، لما جاء في رواية: (إذا أرسلت كلبك

(1)

"صحيح البخاري"(4394). وانظر: "صحيح مسلم"(2523).

(2)

"الاستيعاب"(8/ 68)، "البداية والنهاية (7/ 289)، "السير" (3/ 162)، "الإصابة" (6/ 401) وقد كتب قدوم عدي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المصادر عدا "البداية والنهاية" سنة (سبع)، وصوابه: تسع.

ص: 222

المعلم) وهذا من باب حمل المطلق على المقيد، وسيأتي ضابط المعلم.

قوله: (فاذكر اسم الله) هذا أمر يراد به الوجوب، وظاهره أن التسمية بعد الإرسال، وليس مرادًا، وإنما المراد التسمية عند الإرسال.

قوله: (فإن أمسك عليك) أي: صاد لك ولم يَصِدْ لنفسه.

قوله: (وإن رميت سهمك) هذا فيه إشارة إلى آلة الصيد الثانية، وهو المحدد، وهو ما ينهر الدم بحده كالسهم، والسهم: بفتح أوله وسكون ثانيه، عود يُسَوَّى في طرفه نصل ترميه القوس

(1)

. ويدخل في ذلك البنادق الهوائية؛ فإنها محدد تصيب الصيد بحدها وقوة نفوذها، بل هي أشد نفوذًا من السهم.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، وهذا الوصف مأخوذ من الرواية الأخرى، كما تقدم.

والمعلم على ما ذكره الفقهاء: هو ما ينبعث بالإغراء، وينزجر بالانزجار ابتداءً لا بعد عدوه، ولا يأكل من الصيد، ودليل التعليم قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4،]، والأخير مختلف فيه كما سيأتي.

والحق أنه يرجع في التعليم إلى العرف؛ لأن الله قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} فما عده الناس معلمًا عارفًا بآداب الصيد فهو المعلم، وصيده حلال، وما لا فلا؛ لأن الشارع أطلق التعليم، فيرجع فيه إلى العرف، والله أعلم.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه أحكامًا، ولو لم يجز اقتناؤه ما رتب عليه ذلك، وهذا مجمع عليه، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

• الوجه السادس: اسْتُدِلَّ بعموم قوله: (كلبك) على أنه لا فرق في إباحة الصيد بين الكلب الأسود وغيره، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة.

وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف: لا يحل الصيد بالكلب الأسود

(1)

راجع: "الحرف والصناعات في الحجاز في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم" ص (213).

ص: 223

البهيم، وهو الذي لا بياض فيه

(1)

، إلا إن أُدرك وهو حي وذُكِّي؛ لأنه كلب يحرم اقتناؤه؛ لأن الشارع أمر بقتله؛ لأنه شيطان، وما حرم اقتناؤه حرم تعليمه الصيد، والأحاديث العامة مخصصة بمثل حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال:"عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان"

(2)

.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه لا يحل صيد الكلب إلا إذا أرسله صاحبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الحل على أوصاف مصدرة بإذا الشرطية، وأولها: "إذا أرسلت كلبك

"؛ ولأن الإرسال بمنزلة الذبح، بدليل أنها اعتبرت معه التسمية، فلو استرسل الكلب بنفسه لم يحل صيده عند الجمهور.

وقال آخرون: يحل صيد الكلب وإن لم يرسله صاحبه ما دام أنه أخرجه للصيد وكان معلمًا، وحملوا قوله:(إذا أرسلت) على أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.

والقول الأول أظهر، لأن قوله:(إذا أرسلت) يدل على أنه لا بد من إرساله، وهو أمر زائد على إخراجه للصيد.

لكن إن استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسَمَّى فزاد في عدوه وقتل الصيد، فإنه يحل في أظهر قولي أهل العلم، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وأحد القولين للمالكية، وهو وجه في مذهب الشافعي

(3)

، وذلك لوجود النية والتسمية، وحصول الإغراء الذي صار له أثر في عدو الكلب، فكان كما لو أرسله ابتداء.

• الوجه الثامن: الحديث دليل على اشتراط التسمية عند إرسال الكلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف الأذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصف ينتفي بانتفائه.

(1)

"المغني"(13/ 267).

(2)

رواه مسلم (1572).

(3)

"المغني"(13/ 261)، "الأطعمة" ص (182).

ص: 224

• الوجه التاسع: في الحديث دليل على جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة في الحديث ولو لم يُذكَّى ما دام أن الكلب قد قتله، لقوله:(وإن أدركته قد قتل ولم ياكل منه فكله)، وفي رواية أخرى:(فإنَّ أَخْذَ الكلب ذكاته)؛ أي: إن أخذ الكلب وقتله للصيد ذكاة شرعية بمنزلة ذبح الحيوان، وهذا إجماع

(1)

.

• الوجه العاشر: ظاهر قوله: (وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله) أنه لا يشترط إنهار الدم فيما صاده الكلب، فلو قتله بخنقه أو بصدمته أبيح، وهذا أحد القولين في مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة، وهو الأصح في مذهب الشافعية.

قالوا: ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} [المائدة: 4] ولأنه لا يمكن تعليم الكلب الجرح وإنهار الدم.

القول الثاني: أنه لا يحل ما صاده الكلب إلا إذا جرحه في أي موضع من بدنه بنابه بحيث ينهر الدم، وهذا ظاهر الرواية في مذهب الحنفية والمفتى به عندهم، وهو قول المالكية، والحنابلة، وأحدُ القولين في مذهب الشافعية وهو ظاهر اختيار الشيخ محمد بن عثيمين

(2)

؛ لعموم حديث أبي رافع رضي الله عنه الآتي: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من أكل الصيد الذي قتله المعراض بعرضه -كما سيأتي- لأنه وقيذ، وهذا مثله.

وهذا القول هو الأظهر، لقوة دليله، ويؤيده أن موت الحيوان ودمه فيه مضرٌّ بصحة الإنسان، والشارع ينهى عن كل ما فيه ضرر، وما استدل به أصحاب القول الأول من العمومات فإنه يُخصَّصُ بأدلة تحريم الموقوذة.

• الوجه الحادي عشر: أن شرط إباحة الأكل منه ألا يجده حيًّا حياة

(1)

"الإعلام"(10/ 145).

(2)

انظر: "المجموع"(9/ 96، 102)، "حاشية المقنع"(3/ 553)، "الدر المختار، شرح تنوير الأبصار بحاشية ابن عابدين"(6/ 494)، "الشرح الصغير"(2/ 164)، "الأطعمة" ص (181)، "مذكرة شرح كتاب الأطعمة" ص (36).

ص: 225

مستقرة، فإن وجده كذلك وأدرك ذكاته لم يحل إلا بالتذكية؛ لقوله:(فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه) فلو لم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذبح اختيارًا أو اضطرارًا، كعدم حضور آلة الذبح.

• الوجه الثاني عشر: في الحديث دليل على أن الكلب إذا أكل من الصيد فإنه لا يحل، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية في الجديد، والحنابلة في أرجح الروايتين

(1)

، وهؤلاءهم الذين يشترطون في أوصاف الكلب المعلم ألا يأكل من الصيد، لقوله:(وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكل)، وفي رواية: قلت: فإن أكل؟ قال: (فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه)، وقد دل على هذا قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} [المائدة: 4]، وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه.

والقول الثاني: أن الكلب إذا أكل من الصيد حلَّ الصيد، وهذا قول المالكية، والشافعية في القديم، وقول للحنابلة

(2)

، وهؤلاء لا يشترطون ترك الأكل في أوصاف الكلب المعلم، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أعرابيًّا يقال له: أبو ثعلبة، قال: يا رسول الله إن لي كلابًا مكلَّبة فأفتني في صيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان لك كلابٌ مكلبة فكل مما أمسكن عليك

"، قال: فإن أكل منه، قال: "وإن أكل منه

" الحديث

(3)

.

وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة غير ناهضة، كقولهم: إنه محمول على التنزيه جمعًا بينه وبين حديث أبي ثعلبة الدال على جواز الأكل مما أكل منه الكلب، وهذا جواب ضعيف؛ لأنه لا يناسب الحمل على التنزيه مع التصريح بالتعليل في الحديث بخوف الإمساك على نفسه، فقد جعل الشارع أكل الكلب من الصيد علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه، فلا يعدل عن ذلك.

(1)

"المجموع"(9/ 94)، "تكملة فتح القدير"(10/ 115)، "الإنصاف"(10/ 431).

(2)

"روضة الطالبين"(3/ 247)، "المغني"(13/ 263)، "الشرح الكبير" للدردير (2/ 104).

(3)

رواه أبو داود (2857)، وقد حسنه الألباني إلا قوله:(وإن أكل منه) فهو منكر.

"صحيح سنن أبي داود"(2/ 551)، ولعل ذلك لمخالفته الأحاديث الصحيحة، كحديث عدي رضي الله عنه.

ص: 226

والراجح هو القول الأول، وهو تحريم الأكل من الصيد الذي أكل منه الجارح، لقوة دليله؛ لأن حديث عدي مخرج في "الصحيحين" وحديث أبي ثعلبة في "السنن"، وهو معلول، كما تقدم.

ثم إن حديث عدي مقرون بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الإمساك على نفسه، ومتأيد بأن الأصل في الذبائح التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل، كما أنه يتأيد بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ} ولو كان مجرد الإمساك كافيًا لما احتيج إلى قوله: {عَلَيكُمْ} .

• الوجه الثالث عشر: في الحديث دليل على أنه لا يحل أكل صيد الكلب المعلم إذا شاركه فيه كلب آخر في اصطياده، لقوله:(فإنك لا تدري أيهما قتله) ومحل ذلك ما إذا كان الكلب الآخر قد استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل، ثم ينظر، فإن أرسلاهما معًا فهو لهما، وإلا فهو للأول.

• الوجه الرابع عشر: اختلف العلماء فيما يُعَلَّمُ من الجوارح الأخرى كالفهد والنمر، ومن الطيور كالصقر والبازي وغيرهما، هل يصح صيدها أو لا؟ على قولين:

الأول: أنه يباح الصيد بكل جارح معلم من الحيوانات والطيور، وهذا مذهب الجمهور من الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما، والتابعين، كمجاهد والحسن وطاوس، والأئمة الأربعة، مستدلين بقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] قال ابن كثير: (أي: أُحِلَّ لكم الذبائح التي ذُكِرَ اسم الله عليها، والطيباتُ من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك)

(1)

.

والجوارح في الآية لفظ عام يشمل كل جارحة معلمة، ولم يخص منها شيئًا، وهي بمعنى الكواسب، يقال: جرح فلان لأهله خيرًا: إذا أكسبهم

(1)

"تفسير ابن كثير"(3/ 29).

ص: 227

خيرًا، وفلان جارح أهله؛ أي: كاسبهم

(1)

.

فمعنى الجوارح: المحصلات للصيد المدركات له، وهذا وصف عام.

وقوله: ({مُكَلِّبِينَ}) مشتق من الكَلَبِ -بفتح اللام- وهو مصدر بمعنى التكليب، وهو تعليم الجارح الصيد، قال في "المصباح المنير":(كَلَّبته تكليبًا: علمته الصيد، والفاعل مكلِّب، وكلَّاب أيضًا)

(2)

. و (مكلبين) صفة للقانص، وهي حال؛ أي: حال كونكم أصحاب كلاب، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه، أو حال من المفعول وهي الجوارح؛ أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد، وذلك بأن تقتنصه بمخلبها أو أظفارها.

والقول الثاني: أنه لا يباح الأكل من صيد الجوارح غير الكلاب، فما صاده غير الكلب لا يحل إلا ما ذُكي، وهذا مروي عن مجاهد، وهو قول جماعة من السلف كالضحاك والسدي

(3)

.

واستدلوا بظاهر الآية، فإن قوله:{مُكَلِّبِينَ} حال، والمكلِّب معلم الكلاب صفة الاصطياد، ففي ذلك دلالة على أن المراد الكلاب دون غيرها من الجوارح.

والراجح القول الأول، وهو إباحة الصيد بكل معلم من الجوارح والطيور، لقوة دلالة الآية على العموم لكل جارح، ثم إن الآية نزلت والعرب تصيد بالكلاب والطيور وغيرهما

(4)

. وأما قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} فلا يستفاد منه قصر الحكم على الكلاب؛ لأن المراد بالمكلبين: المعلمون، وإن كان أصل المادة يطلق على الكلاب فليس كونه كلبًا شرطًا، فيصح الصيد بغير الكلاب من أنواع الجوارح، وخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله؛ لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" ص (95).

(2)

ص (537).

(3)

"تفسير الطبري"(9/ 549).

(4)

"سبل السلام"(3/ 172).

(5)

"فتح الباري"(9/ 610)، "فتح القدير" للشوكاني (2/ 12).

ص: 228

• الوجه الخامس عشر: في الحديث دليل على جواز الصيد بالسهام وما أشبهها كالبنادق الهوائية؛ لأنها تنهر الدم بحدها ونفوذها.

• الوجه السادس عشر: الحديث دليل على أنه إذا رمى الصيد فغاب عنه ثم وجده بعد يوم ميتًا ولم يجد فيه إلا أثر سهمه -كأن يكون رماه مع جنبه الأيمن- فإنه يجوز له أن يأكله إن اشتهاه. وفي رواية: (فوجدته بعد يوم أو يومين

)، وهذا يدل على أنه لا عبرة بالزمن، وإنما العبرة بوجود سهمه فيه. ومفهومه أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه فإنه لا يأكله، وهذا الأثر أعم من أن يكون أثر سهم رامٍ آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة كان يموت جوعًا أو متأثرًا بجرحه، فلا يحل أكله مع التردد؛ لاحتمال أنه مات بغير السهم، والأصل في ذلك أن الرخص تراعى شرائطها التي وقعت بها الإباحة، فإذا اختل شيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة.

• الوجه السابع عشر: في الحديث دليل على أنه إذا وجد الصيد غريقًا في الماء فإنه يحرم أكله، لرواية:(فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك)، والمعنى: أن يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء، ومفهوم التعليل أنه إن علم أن سهمه هو الذي قتله، كما لو قطع حلقومه أو أطار رأسه فإنه يحل. فهنا ثلاثة أمور:

1 -

أن يعلم أن الذي قتله هو السهم، فهذا حلال.

2 -

أن يعلم أن الذي قتله هو الماء، فهذا حرام.

3 -

أن يحصل له التردد، فيحرم لما ذكر.

والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن الأولى ليس فيها إلا سبب واحد وهو السهم، والثانية فيها سببان: الماء والسهم، ولا يدري أيهما قتله.

• الوجه الثامن عشر: في الحديث دليل على اشتراط التسمية حال إرسال السهم، لقوله:(وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله)، وسيأتي الخلاف في حكم التسمية إن شاء الله تعالى.

ص: 229

• الوجه التاسع عشر: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قرن الحكم بعلته كما في قوله: (فإنك لا تدري إيّهما قتله)، وذلك ليعرف المؤمن وجه الحكمة في هذا النهي، ويزداد طمأنينة واقتناعًا.

• الوجه العشرون: في هذا الحديث أربع مسائل غُلِّبَ فيها جانب الحظر:

1 -

إذا وجد مع كلبه كلبًا آخر.

2 -

إذا وجد الصيد غريقًا.

3 -

إذا غاب الصيد ووجد فيه أثر غير سهمه.

4 -

إذا أكل الكلب من الصيد.

وهذا من فروع القاعدة الفقهية: إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَبَ الحرامُ الحلال، أو: ما اجتمع محرِّم ومبيح إلا غُلِّب المحرِّم

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "المنثور في القواعد"(1/ 125)، "موسوعة القواعد الفقهية"(9/ 31).

ص: 230

‌ما جاء في صيد المعراض

1343/ 3 - عَنْ عَدِيٍّ رضي الله عنه قَال: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَال:"إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّه فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (صيد المعراض)(5476) من طريق شعبة، عن عبد الله بن أبي السَّفَر، عن الشعبي قال: سمعت عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال:

وذكر الحديث، وفي تمامه سؤاله -أيضًا- عن صيد الكلب.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن صيد المعراض) لفظ البخاري في هذا الموضع: (عن المعراض)، وفي رواية أخرى:(عن صيد المعراض)، والمعراض: بكسر الميم وسكون المهملة، اختلف في تفسيره على أقوال، أقربها أنه عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد، فما أصاب بحده فهو حلال، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ، وقد قوَّى هذا التعريف القاضي عياض

(1)

، وتبعه النووي

(2)

، وقال القرطبي:(إنه الأشهر)

(3)

.

(1)

"إكمال المعلم"(6/ 361).

(2)

"شرح النووي"(13/ 81).

(3)

"المفهم"(5/ 209).

ص: 231

قوله: (إذا أصبت بحده) أي: إذا قتلت الصيد بحد المعراض المحدد الذي ينهر الدم فكله؛ لأنه ذُكِّيَ ذكاة شرعية.

قوله: (وإذا أصبت بعرضه) أي: إذا قتلت الصيد بغير طرف المعراض المحدد.

قوله: (فإنه وقيذ) بوزن عظيم، وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: موقوذ، والموقوذ: ما قُتل بعصا أو حجر وكُلِّ ما لا حد فيه، قال في "المصباح المنير":(وقذه وقذًا من باب وعد: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، فهو وقيذ وموقوذ، وشاة موقوذة: قتلت بالخشب أو بغيره فماتت من غير ذكاة)

(1)

.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن المعراض وغيره من السلاح إن قتل الصيد بحده ونفوذه فهو مباح، لحصول المقصود وهو إنهار الدم، أما إن قتله بصدمه وثقله فلا يباح؛ لأنه وقيذ محرم، قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3].

والموقوذة: هي التي تضرب بشيء ثقيل كالخشب أو الحجر غير المحدد حتى تموت، كما قال هذا ابن عباس رضي الله عنه وغير واحد من السلف

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

ص (668).

(2)

"تفسير ابن كثير"(3/ 15).

ص: 232

‌حكم الأكل من الصيد إذا غاب

1344/ 4 - عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا رَمَيتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكتَهُ، فَكلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ"، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وحوه:

• الوجه الأول في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الصيد والذبائح"، باب (إذا غاب عن الصيد ثم وجده)(1931) من طريق عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يحل أكل الصيد ولو غاب عن صاحبه ما لم يفسد لحمه وتتغير رائحته، وليس في هذا الحديث تقييده بزمن، وقد تقدم في حديث عدي رضي الله عنه:"وإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت"، وفي رواية:"وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل"، وفي رواية:"اليومين والثلاثة" وظاهر هذا أنه لا عبرة بالزمن وإنما الشرط أن يجد به أثر سهمه.

وأما حديث أبي ثعلبة فإنه جعل الغاية أن ينتن الصيد، وأنه لا عبرة بالزمن؛ لأنه يدل بظاهره على أنه لو وجده بعد يوم أو أكثر ولم ينتن أنه يحل أكله، وإن وجده وقد أنتن لم يحل.

والظاهر -والله أعلم- أن المعتبر هو عدم تغير رائحته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل غاية حله إلى أن ينتن، وأما التقييد بيوم الوارد في بعض الروايات فلا مفهوم له، بل إنه يحل أكله ولو غاب أكثر من يوم ما لم يتغير، مما يفيد أن المدة

ص: 233

الزمانية لا أثر لها في الحكم، ومن المعلوم أن تسرب الفساد إلى اللحم يختلف باختلاف برودة الجو وحرارته.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن المسلم ينهى عن أكل ما تعفن من الطعام وتغيرت رائحته، وقد حمل جماعة من أهل العلم ومنهم القاضي عياض، والنووي

(1)

النهي على التنزيه وأنه يكره أكل ما تعفن؛ لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع، إلا أن يخاف منه الضرر فيحرم، وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل إِهَالةً سَنِخَةً، والسنخة بفتح السين المشددة وكسر النون: هي المتغيرة، وهذا محمول على أنها لم تستقذر ولا تضر

(2)

.

والقول الثاني: أنه يحرم أكل المنتن من اللحم وغيره مطلقًا، وعزاه النووي لبعض الشافعية، وقال: إنه قول ضعيف

(3)

، وهو قول المالكية، ورجحه الحافظ

(4)

، وتبعه الشوكاني

(5)

.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على عناية الإسلام بصحة الإنسان وحفظها مما قد يؤثر عليها؛ لقوله: (ما لم ينتن) لأن أكل ما أنتن قد يضر ببدن الإنسان، وهذا دليل من أدلة كثيرة جاءت بالأمر بالأكل من الطيبات، وحرمت الأكل من الخبائث وما فيه مضرة. والله تعالى أعلم.

(1)

"إكمال المعلم"(6/ 363)، "شرح النووي"(13/ 87).

(2)

رواه "البحاري"(2069)، والإهالة: بالكسر الودك المذاب. انظر: "فتح الباري".

(3)

"شرح النووي"(13/ 87).

(4)

"فتح الباري"(9/ 619).

(5)

"نيل الأوطار"(15/ 87).

ص: 234

‌حكم التسمية

1345/ 5 - عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَن قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي: أَذَكَروا اسْمَ اللهِ عَلَيهِ أَمْ لَا؟ فَقَال: "سَمُّوا اللهَ عَلَيهِ أنتُمْ وَكُلُوهُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من"صحيحه" ومنها في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (ذبيحة الأعراب ونحوهم)(5507) من طريق أسامة بن حفص المدني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها

وذكرت الحديث، وتمامه: قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر، وزاد مالك في آخره: وذلك في أول الإسلام.

وقد جاء في الموضع المذكور بلفظ: (لا ندري أَذُكِرَ اسم الله عليه) بضم الذال على البناء لما لم يُسَمَّ فاعله، واللفظ المثبت جاء عند البخاري في "البيوع"(2057).

وهذا الحديث قد رواه عن هشام موصولًا جماعة، منهم محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، وأبو خالد الأحمر، والدراوردي، وآخرون.

ورواه مالك في "الموطأ"(2/ 488) عن هشام، عن أبيه مرسلًا ليس فيه عائشة رضي الله عنها، وكذا رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة ويحيى بن سعيد والمفضل بن فضالة. قال الدارقطني بعد ذكر هذا الاختلاف: (والمرسل

ص: 235

أشبه بالصواب)

(1)

.

لكن ظاهر صنيع البخاري ترجيح الموصول، لزيادة عدد من وصله على من أرسله؛ ولأن في الحديث قرينة تؤيد الوصل، وهي أن عروة معروف بكثرة الرواية عن عائشة رضي الله عنها والأخذ عنها

(2)

.

• الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن التسمية عند الذبح سنة، فتحل الذبيحة إذا ترك التسمية مطلقًا، سواء أتركها عمدًا أم نسيانًا، وهذا مذهب الشافعي

(3)

، ورواية عن أحمد

(4)

، وقول بعض المالكية

(5)

.

ووجه الاستدلال: أن التسمية لو كانت شرطًا في حل الذبيحة لما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء في أكلها إلا بعد تحقق وجودها

(6)

.

كما استدلوا بقوله تعالى: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} [المائدة: 3] قالوا: فأباح التذكية من غير اشتراط التسمية، كما استدلوا بقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فأباح لنا طعام أهل الكتاب وهم لا يسمون، وطعامهم: ذبائحهم، كما قال ابن عباس وغير واحد من السلف

(7)

.

والقول الثاني: أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين

(8)

، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه

(9)

، فيحل عندهم ما تركت التسمية عليه سهوًا، ولا يحل عندهم ما تركت التسمية عليه جهلًا.

واستدلوا بما يلي:

(1)

"العلل"(14/ 173). وانظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1525)، "التمهيد"(22/ 298)، "فتح البيوع"(2057).

(2)

"فتح الباري"(9/ 634).

(3)

"الأم"(4/ 593).

(4)

"المقنع"(3/ 540).

(5)

"الكافي في فقه أهل المدينة"(1/ 428).

(6)

"تفسير ابن كثير"(3/ 318).

(7)

"تفسير ابن كثير"(3/ 36).

(8)

"تفسير ابن كثير"(3/ 318).

(9)

"بدائع الصنائع"(5/ 46)، "بداية المجتهد"(2/ 472)، "المغني"(13/ 290).

ص: 236

1 -

قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فنهى الله تعالى عن الأكل مما تركت عليه التسمية، وهو محمول على حال العمد، كما سيأتي.

2 -

الأحاديث التي فيها الأمر بالتسمية، كما في حديث عدي رضي الله عنه المتقدم، وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه الآتي.

3 -

عموم الآيات والأحاديث في رفع الحرج عن الأمة حال النسيان، كقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وكحديث ابن عباس رضي الله عنهما:"إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وتقدم في "الطلاق"، وحديث ابن عباس الآتي آخر الباب:"المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسمِّ ثم ليأكل".

لكن تفريق أصحاب هذا القول بين الجهل والنسيان وأن الناسي يعذر والجاهل لا يعذر مشكل جدًّا؛ لأن بابهما واحد كما يذكر الأصوليون في موانع التكليف، والجهل مقرون بالنسيان في الكتاب والسنة، بل قد يكون صاحب الجهل أحق بالعذر، كحديث عهدٍ بالإسلام.

وقد فرقت الحنابلة بين الصيد والذبح، فقالوا: لا تسقط التسمية في الصيد بحال، بخلاف الذكاة فتسقط سهوًا، والحنفية والمالكية لا يفرقون، والفرق بينهما كثرة الوقوع وتكراره بخلاف الصيد، والحنفية يقولون: إن الصيد أولى بالسقوط نظرًا لحال الصاند عند رؤية الصيد

(1)

.

والقول الثالث: أن التسمية فرض على الإطلاق، ولا يحل متروك التسمية عمدًا ولا سهوًا، وهذا مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما ونافع مولاه، والشعبي وابن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك

(2)

، وهو قول الظاهرية، وإحدى الروايتين عن أحمد، قدمها في "الفروع"، واختارها أبو الخطاب، وشيخ

(1)

"المغني"(13/ 260)، "جامع المسائل"(6/ 384).

(2)

"تفسير ابن كثير"(3/ 317).

ص: 237

الإسلام ابن تيمية، وقال:(إنه قول غير واحد من السلف، وهو أظهر الأقوال)

(1)

.

واستدلوا بأن الله تعالى قد علق الحل بذكر اسم الله تعالى في آيات كثيرة، قال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ} [المائدة: 4]، وقال تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيه} [الأنعام: 119]، وقال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وهذه الآية تدل على النهي عن الأكل من الذي لم يذكر اسم الله عليه، والضمير في قوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يعود على مصدر الفعل المنهي عنه؛ أي: وإن أكله لفسق، وهذا عام فيندرج المنسي في النهي كما تندرج الميتة، وليس هنا ما يمنع من إطلاق الفسق على تارك ما فرضه الله، فيدخل في ذلك تارك التسمية عمدًا.

والقول بأن المراد بهذه الآيات ما ذبح للأصنام، كقوله تعالى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، هو قول صحيح، لكن الآية عامة فيدخل في عمومها متروك التسمية؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا هو الذي اختاره ابن جرير الطبري وبنى تفسير الآية عليه

(2)

.

كما استدلوا بحديث رافع بن خديج رضي الله عنه الآتي: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" فعلق الحل بمجموع الأمرين: إنهار الدم والتسمية، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسيًا أو جاهلًا لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم، ومن فرق بينهما فعليه الدليل.

وهذا أرجح الأقوال، لقوة مأخذه، وكثرة أدلته، فإن القرآن والسنة علَّقا الحِل بذكر اسم الله تعالى على الذبيحة في غير موضع، ولم يصح ما يخصصها بحال دون حال، ثم إن التسمية شرط وجودي، والشرط الوجودي

(1)

"المحلى"(7/ 412)، "الهداية"(2/ 113)، "المقنع"(3/ 540)، "الفتاوى"(35/ 239)، "جامع المسائل"(6/ 377)، "الفروع"(6/ 316).

(2)

"تفسير الطبري"(12/ 83 - 85).

ص: 238

لا يسقط بالنسيان، كما لو صلى بغير وضوء ناسيًا، فإن صلاته لا تصح.

وأما حديث الباب وهو حديث عائشة رضي الله عنها فليس فيه دليل؛ لأن الاستدلال به خارج عن محل النزاع؛ لأنه سيق لبيان إباحة الأكل من ذبيحة المسلم، والتسمية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم السائلين هي التسمية المطلوبة شرعًا عند الأكل، إذ لا تكليف عليهم في موضوع التسمية عند الذبح، فإن المكلف هو الذابح نفسه، وإذا لم نعلم هل سمى أو لا؟ فالذبيحة حلال؛ لأن الذابح مسلم حتى يتبين خلاف ذلك، أما إذا تيقن أنه لم يسم فإنه لا يأكل.

ثم إنه ليس في الحديث ما يدل على أنهم تركوا التسمية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل لهم اللحم، وإنما فيه أنهم لا يدرون أذكروا اسم الله عليه أم لا؟

بل قد يقال: إن الحديث دليل على شرطية التسمية؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن التسمية لا بد منها، فخافوا ألا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم، فهم خافوا ثم سألوا

(1)

.

وأما قوله تعالى: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} فلا دلالة فيه؛ لأن المراد ما ذكيتم وذكرتم اسم الله عليه، لما ثبت في الأدلة الأخرى.

وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأنهم لا يسمون فهذا غير صحيح، فقد ذكر ابن كثير أن أهل الكتاب يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم، تعالى وتقدس

(2)

.

وأما أدلة أصحاب القول الثاني فهي أدلة أصحاب القول الثالث إلا ما ذكروه من أدلة إباحة الأكل من متروك التسمية نسيانًا، والجواب عنها: إما عمومات فلا دليل فيها، لاتفاق الفريقين على أن المراد نفي الحرج ورفع المؤاخذة، لكن المستدل يرى أن يلزم من ذلك حل الذبيحة، والمخالف يرى

(1)

"تفسير ابن كثير"(3/ 317).

(2)

"جامع المسائل"(6/ 387)، "تفسير ابن كثير"(3/ 36).

ص: 239

أنه لا يلزم من انتفاء الإثم حل الذبيحة؛ لأن حلها أثر حكم وضعي، حيث إنه مرتب على شرط يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه، وأما المؤاخذة والجناح فهما أثر حكم تكليفي من شرطه الذكر والعلم، فلذلك انتفيا بانتفائهما

(1)

.

يوضح ذلك أنه لو ترك واجبًا نسيانًا كالوضوء -مثلًا- فصلى بغير وضوء ناسيًا، فإنه لا إثم عليه، ويلزمه أداؤه.

وأما ما استدلوا به من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في متروك التسمية نسيانًا فلا حجة فيه؛ لأن الأحاديث الصحيحة مع ظاهر القرآن تدل على وجوبها، وما عارض ذلك فالمرفوع منه ضعيف، والموقوف لا حجة فيه مع مخالفة السنة، والمرسل ضعيف لا يحتج به.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الفعل إذا وقع من أهله فإنه لا يُسأل عن وصفه، لأن الأصل السلامة، وإذا كان الأصل السلامة كان السؤال عنه تشددًا

(2)

، وعلى هذا فما ذبح في بلاد المسلمين فهو في الأصل محمول على الصحة، ما لم توجد قرينة على خلاف ذلك، قال ابن عبد البر:(في هذا الحديث من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولم يعرف هل سَمَّى الله عليه أم لا، أنه لا بأس بأكله، وهو محمول على أنه قد سمى، والمؤمن لا يُظن به إلا الخير، وذبيحته وصيده أبدًا محمول على السلامة حتى يصح فيه غير ذلك من تعمد ترك التسمية ونحوه)

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا وجد الإنسان لحمًا قد ذبحه غيره (أي: مسلم) جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه؛ لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة)

(4)

.

أما الذبائح التي ترد إلى بلاد المسلمين فسيأتي الكلام على حكمها -إن شاء الله- عند شرح الحديث (1349). والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الأضحية والذكاة" ص (65).

(2)

انظر: مذكرة "شرح كتاب الأطعمة من البلوغ" ص (47).

(3)

"التمهيد"(22/ 299).

(4)

"الفتاوى (35/ 240).

ص: 240

‌النهي عن الخذف وتحريم ما صيد به

1346/ 6 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَال: "إِنَّهَا لَا تَصيدُ صَيدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (الخذف والبندقة

(1)

) (5479)، ومسلم (54)(1954) من طريق كَهْمَسِ بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلًا يخذف فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف

الحديث.

ورواه مسلم -أيضًا- (56) من طريق سعيد بن جبير أن قريبًا لعبد الله بن مغفل خذف، وساق الحديث بمثل لفظ "البلوغ"، وتمامه: قال فعاد فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبدًا.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (عن الخذف) هو بالخاء والذال المعجمتين، الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، وهو رمي الإنسان بحصاة أو نواة ونحوهما يجعلهما بين

(1)

البندقة: بضم الباء والدال، تتخذ من طين وتيبس فيرمى بها، والظاهر أنها مثل الحصاة التي ترمى بالنباطة، وهي آلة معروفة قديمًا من الخشب، والظاهر أنها تصنع الآن من غير الخشب. وقد علق البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة. راجع: "فتح الباري"(9/ 603).

ص: 241

أصبعيه السبابتين أو الإبهام والسبابة. قال القرطبي: (إن الخذف بالخاء المعجمة من فوقها: الرمي بالحجر، وبالحاء المهملة: الضرب بالعصا)

(1)

.

قوله: (إنها لا تصيد صيدًا) جملة تعليلية، والضمير يعود على الحصاة المفهومة من لفظ الخذف، وأنث الضمير نظرًا إلى المخذوف به وهو الحصاة، ويؤيد هذا قوله: (ولكنها تكسر السن

).

والمعنى: أن الحصاة ليست بآلة صيد مشروعة؛ لأنها ليست بمحدد ينهر الدم، بل المضروب بها إن مات فهو وقيذ.

قوله: (ولا تنكأ) بفتح التاء، وآخره همزة، من باب فتح؛ أي: لا تجرح ولا تثخن.

قوله: (وتفقأ) بفتح التاء، وآخره همزة؛ أي: تقلع العين أو تجعلها عوراء.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الخذف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والنهي للتحريم؛ لأنه لا مصلحة فيه، ويخاف مفسدته؛ لأنه يكسر السن، ويفقأ العين، ولا يحصل به الاصطياد؛ لأن الصيد إنما يحل بنهر الدم، وأما الخذف فإنه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده، فالمقتول به يكون وقيذًا، وقد تقدم تحريم الموقوذة.

• الوجه الرابع: في قول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: (لا أكلمك أبدًا) دليل على مشروعية هجر من خالف الشرع عن علم تأديبًا له وزجرًا حتى يرجع عن ذلك

(2)

، وسيأتي الكلام على الهجر في كتاب "الجامع" -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم"(5/ 242 - 243).

(2)

"المفهم"(5/ 243).

ص: 242

‌النهي عن اتخاذ الحيوان هدفًا للرمي

1347/ 7 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تَتَّخِذُوا شيئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا"، رَوَاهُ مُسْلِم.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الصيد والذبائح"، باب (النهي عن صبر البهائم)(1957) من طريق شعبة، عن عدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (فيه الروح) المراد به الحيوان الحي.

قوله: (غرضًا) بالفتح هو الهدف الذي يرمى إليه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم اتخاذ الحيوان هدفًا يرمى إليه؛ لأن هذا من تعذيب الحيوان، وفيه إتلاف له، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته الشرعية إن كان مما يذكى، ولمنفعته إن لم يكن كذلك، وقد ورد في رواية عند مسلم:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا)

(1)

.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على سمو هذه الشريعة وشمولها حيث أوجبت الشفقة على الناس وعلى البهائم، وحرمت كل ما فيه إيذاء أو تعذيب. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح مسلم"(1958).

ص: 243

‌حكم ذبيحة المرأة

1348/ 8 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأةً ذَبَحتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ فَأمرَ بِأَكلِهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري بعدة ألفاظ في مواضع من "صحيحه"، ومنها: في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (ذبيحة المرأة والأمة)(5504) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابنٍ لكعب بن مالك، عن أبيه أن امرأة

وذكر الحديث، وفي آخره: قال عبيد الله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذَبَحَتْ. وعبيد الله هو ابن عمر العمري، راوي الحديث، وهذه الزيادة جاءت عند البخاري في "الوكالة"(2304).

وفي رواية (5505) أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا بِسَلْعٍ، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"كلوها".

وهذا الحديث وقع في إسناده اختلاف، ذكره الدارقطني، ونقله عنه الحافظ في "المقدمة" ثم قال:(وهو كما قال، وعلته ظاهرة، والجواب عنه فيه تكلف وتعسف)

(1)

.

وقد استظهر الحافظ أن ابن كعب المبهم هو عبد الرحمن بن كعب

(2)

، لما رواه ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن

(1)

انظر: "الإلزمات والتتبع" للدارقطني ص (245)، "هدي الساري" ص (376).

(2)

"فتح الباري"(4/ 482).

ص: 244

كعب بن مالك، عن أبيه طرفًا من هذا الحديث، وجزم المزي بأنه عبد الله

(1)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز تذكية المرأة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، سواء كانت حرة أم أمة، وسواء أكانت طاهرًا أم حائضًا أم نفساء، فليس من شرط الذابح أن يكون ذكرًا، ولا أن يكون طاهرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأكل مما ذبحته هذه المرأة ولم يستفصل، والمرأة قد تذبح مثل ما يذبح الرجل إذا عُلِّمت صفة الذبح، قال ابن المنذر:(أجمع عوام أهل العلم الذين حفظنا عنهم على إباحة أكل ذبيحة الصبي والمرأة إذا أطاقا الذبح وأتيا على ما يجب أن يؤتى عليه)

(2)

.

• الوجه الثالث: جواز ذبح الحيوان بالمحدد من الحجر؛ لأن المقصود إنهار الدم، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:(باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد)

(3)

.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الأصل في تصرفات من يصح تصرفه الحِلُّ والصحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل هذه المرأة أذكرت اسم الله عليها أم لا؟

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على إباحة ذبح ما خيف عليه الموت، وأن ما أصابه سبب الموت فأدرك فهو حلال، لأن هذه الشاة عدا عليها الذئب -كما في بعض الروايات- فأدركتها هذه الجارية حية فذبحتها

(4)

.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على أن الراعي إذا أبصر شاة من الغنم التي يرعاها تموت فذبحها بغير إذن مالكها أنه لا حرج عليه ويحل أكلها، سواء أكان الراعي مملوكًا لصاحب الغنم أو كان وكيلًا؛ لأن يد كل من الراعي والوكيل يد أمانة، فلا يعملان إلا بما فيه مصلحة ظاهرة. وقد بوب البخاري على هذا في كتاب "الوكالة" بقوله: (باب إذا أبصر الراعي أو

(1)

"تحفة الأشراف"(8/ 314).

(2)

"الإشراف"(3/ 432).

(3)

"فتح الباري"(9/ 630).

(4)

"المغني"(13/ 311)، "أحكام الأضحية والذكاة" ص (57).

ص: 245

الوكيل شاة تموت أو شيئًا يفسد ذبح أو أصلح ما يخاف عليه الفساد)

(1)

، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأكل الشاة ولم ينكر على من ذبحها.

قال ابن التين: (في الحديث خمس فوائد: جواز ذكاة النساء، والإماء، والذكاة بالحجر، وذكاة ما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة)

(2)

.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على تصديق الأجير الأمين فيما أؤتمن عليه حتى يتبين عليه دليل الخيانة.

• الوجه الثامن: في الحديث دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم وحرصهم على ما يتعلق بالأكل، لأنهم لم يأكلوا هذه الشاة حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها.

• الوجه التاسع: في الحديث دليل على أن الأمر يأتي بمعنى الإذن، لأن قوله:(فأمر بأكلها) ليس المراد به الإلزام وإنما المراد به الإذن، ولهذا قال علماء الأصول: إن الأمر بعد الاستئذان يكون للإباحة ما لم يقم دليل خلاف ذلك

(3)

.

(1)

انظر: "فتح الباري"(4/ 481)، "عمدة القارئ"(10/ 128).

(2)

"عمدة القارئ"(10/ 129).

(3)

"فتح الباري"(9/ 633)، "مذكرة كتاب الأطعمة" ص (57).

ص: 246

‌آلة الذكاة المشروعة والممنوعة

1349/ 9 - عَنْ رَافِعِ بْنِ خديجٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أنهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللهِ علَيهِ فَكُلْ، ليسَ السِّنَّ والظُّفُرَ، أمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ". مُتَّفقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الذبائح والصيد"، باب (التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا)(5498)، ومسلم (1968) من طريق سعيد بن مسروق

(1)

، عن عَبَايةَ بن رِفَاعَةَ بن رافع، عن جده رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع

وساق الحديث بطوله، وهي رواية البخاري، وهو عند مسلم أخصر.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما أنهر الدم) ما: موصولة أو شرطية، وهو أقرب، وأنهر الدم؛ أي: أساله وصبه بكثرة، شبهه بجري الماء في النهر، والذي يُنهر الدم: كل ما له نفوذ في البدن، وهو المحدد كالسهم والحديد والخشب الذي له حد والزجاج ونحو ذلك، ويدخل فيه ما يخرق بحده مثل رصاص البندقية.

قوله: (ليس السنَّ) بالنصب على الاستثناء بـ (ليس) وهو خبرها، و (ليس) هنا فعل دال على الاستثناء بمعنى (إلا)، ويجوز الرفع على أنه اسم (ليس)، والخبر محذوف؛ أي: ليس السن والظفر مباحًا. وفي رواية: (إلا سنًّا وظفرًا).

(1)

هو والد سفيان الثوري.

ص: 247

قوله: (أما السن فعظم) هذه الجملة فيها معنى التعليل؛ أي: نُهي عن التذكية بالسن؛ لأنه عظم، وقد تقرر عند العرب ألا يُذبح بعظم

(1)

.

قوله: (فمدى الحبشة) بضم الميم اسم مقصور، وهو جمع مفرده مدية، وهي السكين، سميت مدية؛ لأنها تقطع مدى الحيوان؛ أي: عمره وحياته.

والحبشة والحَبَشُ جنس من السودان

(2)

، وبلادهم تقع في الشمال الشرقي من أفريقيا، وتسمى الآن أثيوبيا، والحبشة كفار آنذاك، وقد نهينا عن التشبه بهم.

والمعنى: أنهم كانوا يذبحون بأظفارهم.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على أنه يشترط لحل الحيوان بالذكاة إنهار الدم وإسالته، وذلك بأن تكون الذكاة بمحدد يقطع أو يخرق بحده لا بثقله، كما تقدم، فإن كان الحيوان مقدورًا عليه فلا بد أن يكون الإنهار في موضع معين، وهو الرقبة، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(الذكاة في الحلق واللبة)

(3)

.

واللبة: هي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر.

وإن كان غير مقدور عليه كبعير ندَّ أو شاة شردت، فذكاته بجرحه وإنهار الدم في أي موضع من بدنه حتى يموت؛ لأنه صار حكمه حكم الوحشي النافر، والأولى أن يتحرى أسرع شيء في موته، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد)

(4)

.

ومفهوم الحديث أنه لا يحل الذبح بما لا ينهر الدم، وهو ما يقتل بثقله أو صدمه، ومن ذلك الذبح بالخنق أو الصعق بالكهرباء، أو بضرب الرأس، أو تغطيس الطيور بالماء، وفتل أعناقها، ونحو ذلك، فكل هذا ليس بذكاة شرعية؛ لعدم إنهار الدم المشروط في الحديث.

(1)

انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين"(2/ 184).

(2)

انظر: "فتح الباري"(7/ 190).

(3)

ذكره البخاري تعليقًا (9/ 640)"فتح الباري".

(4)

ذكره البخاري تعليقًا (9/ 638)"فتح الباري".

ص: 248

والذبح بما لا ينهر الدم مضر بالصحة؛ لأن الحيوان بالتدويخ والصعق يصاب قبل زهاق روحه بالشلل واحتقان الدم في اللحم والعروق حيث لا يجد منفذًا، وهذا مضر بصحة الإنسان، ولذا حرم الإسلام الميتة لبقاء دمها فيها، وفي هذا الحديث تنبيه على هذا المعنى

(1)

.

• الوجه الرابع: اختلف العلماء فيما يُقطع في الذكاة على قولين:

الأول: وجوب قطع الحلقوم والمريء والحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب، واشتراط قطعهما هو الصحيح المنصوص عليه في مذهب الشافعية، وهو مذهب الحنابلة

(2)

، وذلك لحصول المقصود بقطعهما، وهو أن الحياة تُفقد بفقدهما، وعليه فلا يشترط قطع الودجين -وهما عرقان محيطان بالحلقوم- بل قطعهما سنة.

والقول الثاني: أنه لا بد من قطع ثلاثة بدون تعيين، وهي إما الحلقوم والودجان، وإما المريء والودجان، وإما الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد

(3)

، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال:(إن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم)

(4)

، وهذا هو الأظهر -إن شاء الله- لأن قطع الودجين فيه إنهار الدم وإراحة الذبيحة بسرعة زهوق النفس، وهذا هو المقصود من الذكاة.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على منع التذكية بالسن والظفر، ويبقى ما عداهما مما ينهر الدم على العموم، فتجوز التذكية به؛ لأن الاستثناء معيار العموم، كلما يقول الأصوليون.

وظاهر الحديث أنه لا فرق في السن والظفر بين أن يكونا متصلين أو منفصلين، ومن آدمي أو حيوان، وهذا مذهب الجمهور.

(1)

"الإعلام"(10/ 173).

(2)

"المجموع"(9/ 86)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(27/ 300).

(3)

"بدائع الصنائع"(5/ 41)، "الإنصاف (10/ 393).

(4)

"الاختيارات" ص (323).

ص: 249

وخص الحنفية المنع بالسن والظفر المتصلين، قائلين إن المتصل يصير في معنى الخنق، والمنفصل في معنى الحجر، وجزم ابن دقيق العيد بحمل الحديث على المتصلين

(1)

.

وظاهر الحديث يرد عليهم، فإن الذي لا تجوز الذكاة به متصلًا لا تجوز به منفصلًا، فيعمل بمقتضى ذلك العموم إلا إذا خُصِّصَ، ولا مخصص، وما عللوا به مخالف للتعليل الوارد في الحديث فلا يلتفت إليه.

• الوجه السادس: علل النبي صلى الله عليه وسلم منع الذكاة بالسن بأنه عظم، وقد اختلف العلماء هل الحكم خاص في محله وهو السن أو عام في جميع العظام، على قولين:

الأول: أنه خاص في محله وهو السن، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به، وهذا قول أبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد

(2)

.

واستدلوا بأمرين:

1 -

أن قوله: (أما السن فعظم) مشعر بخصوص السن، إذ لو أراد العموم لقال: غير العظم والظفر، لكونه أخصر وأبين.

2 -

أننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم، فكيف نعدي الحكم من الأصل إلى غيره مع الجهل.

القول الثاني: أن المنع عام في جميع العظام، لقوله:(أما السن فعظم) فهي علة منصوصة لا مستنبطة، وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد

(3)

.

وهذا القول هو الراجح، لقوة دلالة الحديث عليه، فإن قوله:(أما السن فعظم) نص على العلة فيدل على أنها مناط الحكم، متى وجدت وجد الحكم، فهو قياس حذفت مقدمته الثانية لشهرتها عندهم، والتقدير: أما السن فعظم، وكل عظم لا يحل الذبح به، قال ابن القيم: (وهذا تنبيه على عدم

(1)

"إحكام الأحكام"(4/ 479).

(2)

"المقنع"(3/ 537).

(3)

"المجموع"(9/ 81)، "المقنع"(3/ 537).

ص: 250

التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها، وإما لتنجيسه على مؤمني الجن)

(1)

.

وأما ما قاله الأولون فالجواب عنه ما يلي:

1 -

قولهم: إن الحديث مشعر بخصوص السن دون غيره من العظام، فنقول: إن هذا لا يفيد التخصيص، بل الظاهر أن ذكر السن من أجل أنها عادة يرتكبها بعض الناس بالتذكية به، ثم أشار الشارع إلى عموم الحكم بذكر العلة، أو يقال: إن تعليل السن بكونه عظمًا أنه كان معهودًا عند العرب أنه لا يجوز الذبح بالعظام، وعلى أي حال فهو ذَكَرَ السنَّ ثم ذكر العلة التي تشمله وغيره.

2 -

وأما كوننا لا فعلم الحكمة في تأثير العظام فلا نعديه عن السن إلى غيره، فهذا لا يمنع من التعدية إلى كل ما يصدق عليه اسم العظم؛ لأن العظم معلوم، على أنه يمكن أن يلتمس حكمة، وهي أن العظم إن كان من ميتة أو من حيوان نجس فذلك لنجاسته، والذكاة تطهير، وإن كان من طاهر فهو طعام إخواننا من الجن، كما ثبت في "الصحيح"

(2)

، والذبح به تلويث له بالنجاسة.

• الوجه السابع: علل النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الذبح بالظفر بأنه مدى الحبشة، والظاهر أن المراد بذلك أن الحبشة يذبحون بأظافرهم، لا أن المراد النهي عن كل مدية تستعملها الحبشة، فنهى الشارع عن ذلك؛ لأن الذبح بالظفر يقتضي مخالفة الفطرة من وجهين:

الأول: أن يستلزم توفير الأظافر وإطالتها؛ لأن الظفر لا يمكن الذبح به إلا إذا طال، وهذا مخالف للفطرة التي هي تقليم الأظفار.

الثاني: أن في ذلك مشابهة للسباع التي تفرس الصيد بأظفارها، وجوارح الطير التي تفرس بمخالبها

(3)

.

• الوجه الثامن: يعلم مما تقدم حكم المستورد من اللحوم والدجاج

(1)

"إعلام الموقعين"(4/ 162).

(2)

"صحيح مسلم"(450) وتقدم ذكره في "الطهارة" في آخر شرح الحديث (96).

(3)

انظر: "أحكام الأضحية والذكاة" ص (70).

ص: 251

والطيور وما يُشتق من بعضها، فما كان ذابحه مسلمًا فلا شك في إباحته؛ لأن الأصل فيما يذبحه المسلم الحِل، وما كان ذابحه كتابيًّا وقد ذبحه بالطريقة الشرعية فهو حلال كذلك بنص القرآن، وأما إذا جُهل الأمر بحيث لا يُدرى هل الذي ذبحه ممن تباح ذبيحته أو لا؟ -كما هو الغالب في الأسواق من المستورد- فلعلماء هذا العصر فيه قولان:

الأول: أنه يباح، عملًا بقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وطعامهم: ذبائحهم، كما تقدم

(1)

.

الثاني: أنه محرم؛ لأن الأصل في الحيوانات التحريم، فلا يحل شيء منها إلا بذكاة شرعية متيقنة، تنقلها من التحريم إلى الإباحة، وهذه الذكاة مشكوك فيها بالنسبة لهذه اللحوم، بل يغلب على الظن عدم وجودها، فتبقى على الأصل، قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ} إلى قوله: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} [المائدة: 3] فدلت الآية على أنه إذا لم يُتحقق في هذه اللحوم الذكاة الشرعية فهي محرمة، بناة على الأصل، سواء كانت ذبيحة مسلم أو كتابي

(2)

.

وهذا القول قوي، ويؤيده ما يلي:

1 -

أن القاعدة الشرعية في باب الأطعمة: أنه إذا اجتمع حاظر ومبيح غُلِّبَ جانب الحظر، وهذه القاعدة دلَّ عليها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه

(3)

وغيره من الأحاديث الصحيحة، وهذه اللحوم ترددت بين كونها مذكاة ذكاة شرعية مبيحةً فَتَحِلُّ، وكونها غير مذكاة فلا تحل، تغليبًا لجانب التحريم.

2 -

أن طرق الذبح قد تنوعت، وأصبح معظمها لا يوافق الطريقة الشرعية، لا سيما مع هذه الكميات الهائلة التي تمتلئ بها الأسواق العالمية،

(1)

"فتاوى ابن باز"(23/ 7 - 8).

(2)

انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 60)، "حكم اللحوم المستوردة" للشيخ عبد الله بن حميد ص (15، 19 - 21) وله فتوى -أيضًا- ضمن "أبحاث هيئة كبار العلماء"(2/ 655)، "الأطعمة" للشيخ: صالح الفوزان ص (165).

(3)

أخرجه البخاري (5484)، ومسلم (1929)(6).

ص: 252

وقد ذكر بعض الباحثين أن المسالخ الصغيرة تنتج ألفي دجاجة في الساعة، وهذا يُستبعد معه حصول الذكاة الشرعية بأوصافها المعلومة، ومنها التسمية، وإنهار الدم، وهذا مما يطيب المذكاة، وتركه يكسبها خبثًا، يوجب التحريم.

3 -

أنه لم يبق الأمر محلَّ شك وتردد؛ لأن كثيرًا من الباحثين المهتمين اطلعوا على كيفية الذبح في المجازر الموجودة خارج البلاد الإسلامية، إما بالمشاهدة، وإما بإخبار أصحاب هذه المجازر أنفسهم، مما يفيد عدم الثقة ببقية مُصَدِّري هذه اللحوم، لما يغلب على الظن من أن طريقتهم واحدة.

4 -

أن الأمانة قد ضعفت في هذا الزمان، وقَلَّ الصدق، بحيث لا يُعتمد على أقوال المصَدِّرِينَ لهذه اللحوم، ولا على كتاباتهم على ظهر أغلفتها بأنها ذبحت على الطريقة الإسلامية، لا سيما وقد وجد بعض الدجاج برأسه لم يقطع شيء من رقبته، كما وجدت هذه العبارة مكتوبة على أغلفة ما لا يحتاج إلى ذكاة كالسمك.

5 -

أن المطلوب من المسلم أن يسلك سبيل الاحتياط، ويجتنب ما يشك في حله، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"دع مما يريبك إلى مما لا يريبك"

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عدي رضي الله عنه:"إِذا أرسلت كلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله، فإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله"، ولا ريب أن المطاعم الخبيثة لها تأثير كبير على الأبدان والعقول والأخلاق، ولهذا حرمها الله تعالى على عباده، ثم إن في الموجود في بلاد المسلمين من اللحوم والدجاج الذي يذبح محليًّا ما يغني عن المستورد وما فيه من الشبهة.

وأما تَمَسُّكُ من أحَلَّ هذه اللحوم بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

(1)

رواه الترمذي (2518)، والنسائي (8/ 327)، وأحمد (3/ 248، 249)، وصححه الترمذي، وله شواهد عن أنس وابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) وسيأتي شرحه في أول باب "الزهد والورع" من كتاب "الجامع" إن شاء الله.

ص: 253

حِلٌّ لَكُمْ} ففيه نظر؛ لأن هذا العموم قد خُصَّ بنصوص كثيرة، كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ} إلى قوله: {إلا مَا ذَكَّيتُمْ} وطعام الذين أوتوا الكتاب -وهي ذبائحهم- يُشترط له الذكاة المبيحة، والمسلم لو ذكى ذكاة غير شرعية ما أبيحت ذبيحته، فكذلك الكتابي

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 60)، "الأطعمة "للشيخ: صالح الفوزان ص (165)، "حكم الذبائح المستوردة" لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ضمن "أبحاث الهيئة"(2/ 607 - 739).

ص: 254

‌النهي عن قتل الحيوان صبرًا

1350/ 10 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْ يُقْتَلَ شَيءٌ مِنَ الدَّوابِّ صَبرًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الصيد والذبائح"، باب (النهي عن صبر البهائم)(1959) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (صبرًا) بفتح الصاد وسكون الباء، أصله: الحبس، والصبر: أن يُمْسَكَ شيء من ذوات الأرواح حيًّا ثم يرمى بشيء حتى يموت، والنهي عن صبر البهائم مفسَّر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم:"ولا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا".

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم قتل الحيوان صبرًا؛ لأن هذا من تعذيب الحيوان وإتلافه وتضييع ماليته، وتفويت ذكاته الشرعية إن كان مما يذكى أو منفعته إن لم يكن مذكى.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الحيوان المأكول المقدور على ذبحه أنه لا يحل رميه، بل لا بد من تذكيته، وهذا مجمع عليه، ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث في "الصيد والذبائح" من أجل هذه الفائدة، أما ما لا يقدر

ص: 255

على تذكيته فإنه يصح رميه في أي موضع من بدنه، وتقدم هذا في شرح الحديث السابق.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على سمو الشريعة الإسلامية وشمول تعاليمها وآدابها، حيث أوجبت الشفقة على الناس وعلى البهائم والطيور. والله تعالى أعلم.

ص: 256

‌من آداب الذَّبح

1351/ 11 - عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَال: قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبيحَتَهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الصيد والذبائح"، باب (الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة)(1955) من طريق أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله قال: "إن الله كتب الإحسان

" الحديث.

وقد ذكر الحافظ ابن رجب أن البخاري ترك هذا الحديث؛ لأنه لم يخرِّج في "صحيحه" لأبي الأشعث شيئًا، قال: وهو شامي ثقة

(1)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن الله كتب) أي: شرع، وأما تفسيره بأوجب ونحوه ففيه نظر؛ لأن من الإحسان ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، كما سيأتي.

قوله: (الإحسان) يطلق على إتقان العمل، وعلى التفضل والإنعام.

قوله: (على كل شيء) صيغة عموم، وهي من أقوى صيغ العموم؛ لأنها تدل على العموم باللفظ والمعنى

(2)

.

(1)

"جامع العلوم والحكم" ص (233).

(2)

انظر: "التعيين في شرح الأربعين" ص (152).

ص: 257

قوله: (فأحسنوا القتلة) بكسر القاف اسم هيئة؛ والمعنى: إذا قتلتم من يستحق القتل لموجب من حد أو قصاص فأحسنوا هيئة القتل وصفته بضرب عنقه وإزهاق روحه دون تعزير ولا تمثيل.

قوله: (فأحسنوا الذَّبْحَ) بفتح الذال المعجمة؛ أي: هيئة الذبح وصفته، وهذا لفظ مسلم، وقد ذكر النووي أن كثيرًا من نسخ "صحيح مسلم" أو أكثرها بهذا اللفظ، وفي بعضها: الذِّبْحَة، وقد جاء هذا في بعض نسخ "البلوغ".

قوله: (وليحد أحدكم شفرته) اللام لام الأمر، وحركتها الكسر، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها، كقوله تعالى:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186]، وقد تسكن بَعْدَ ثُمَّ، كقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ} [الحج: 15].

ويُحد: بضم الياء مِن أَحَدَّ السكين؛ أي: جعلها حادة تقطع بسرعة.

والشفرة: بفتح المعجمة وسكون الفاء، هي السكين العريض، وجمعها: شِفَارٌ وشَفَراتٌ، مثل: قَصْعَة وقِصَاع وسجدة وسجَدات

(1)

.

قوله: (وليرح ذبيحته) هكذا في نسخ "البلوغ" بالواو، والمثبت في "صحيح مسلم":(فليرح) بالفاء. والمعنى: ليوصل إلى ذبيحته الراحة بكل وسيلة، ومن ذلك أن يعجل إمرار الشفرة، ولا يجرها إلى موضع الذبح، ولا يسلخ قبل أن تبرد.

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على رحمة الله تعالى الشاملة بخلقه حيث كتب الإحسان على كل شيء، والإحسان نوعان:

1 -

إحسان في عبادة الخالق بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهو الجد في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه المطلوب.

2 -

إحسان في حقوق الخلق، وهو نوعان:

أ- إحسان واجب، وهو القيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه

(1)

"المصباح المنير" ص (317).

ص: 258

عليك من الحقوق من بر الوالدين وصلة الأرحام، والقيام بالحقوق الزوجية، وتربية الأولاد، والإنصاف في جميع المعاملات، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ} [النساء: 36] فأمر الله تعالى بالإحسان إلى جميع هؤلاء، ويدخل في الإحسان الواجب ما ذكر في هذا الحديث.

ب- إحسان مستحب، وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني أو مالي أو علمي أو توجيه لخير ديني أو مصلحة دنيوية، وكل ما نَفَعَ الخلق أو أدخل السرور عليهم، أو أزال عنهم ما يكرهون فهو إحسان.

ومن أفضل أنواع الإحسان وأجلها الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل، قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96].

وقد ذكر الله تعالى أن من كانت طريقته الإحسان أحسن الله جزاءه، قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل: 30]

(1)

.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على وجوب إحسان القتل، وذلك بأن يجتهد في إزهاق الروح ولا يقصد التعذيب، سواء أكان القتل قصاصًا أو حدًّا.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على وجوب الإحسان إلى الذبيحة، فيعمل كل ما يريحها عند الذبح، ومن ذلك أن يكون الذبح بآلة حادة، وأن يُمرها على محل الذبح بسرعة وقوة؛ لأن المطلوب وجوب الإسراع في إزهاق النفس على أسرع الوجوه وأكملها من غير تعذيب، ولا يجوز أن يكسر عنق المذبوح، أو يبدأ في سلخه أو نتف ريشه حتى تخرج روحه من جميع أجزائه.

(1)

انظر: "بهجة قلوب الأبرار" ص (156).

ص: 259

وكره الفقهاء أن يُحِدَّ السكين والبهيمة تنظر إليه، لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحدِّ الشِّفَار وأن توارى عن البهائم، وقال:"إذا ذبح أحدكم فليُجهز"

(1)

؛ ولأن حَدَّ السكين وهي تبصر يؤدي إلى إزعاجها، وهو ينافي الإحسان المطلوب، ولا يذبح واحدة بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها لما ذكرنا.

• الوجه السادس: استدل بهذا الحديث أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه على أن عقوبة القصاص لا تكون إلا بالسيف سواء وقعت الجناية به أو بغيره، وأجيب عنه بأنه مُخَصَّصٌ بآية:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ} [البقرة: 194] فتبقى دلالة الحديث في غير الاعتداء، وأما في الاعتداء فيكون القود بمثل ما قَتَلَ به، وقد تقدم بحث هذه المسألة في "الجنايات". والله تعالى أعلم.

(1)

رواه ابن ماجه (3172) من طريق مروان بن محمد، عن ابن لهيعة، عن قرة بن عبد الرحمن، وأحمد (10/ 105) من طريق قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن عقيل، كلاهما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. وقتيبة بن سعيد قوي في ابن لهيعة كما في "سير أعلام النبلاء"(8/ 17) لكن صوب الحفاظ إرساله، انظر:"العلل" لابن أبي حاتم (1617)، "العلل" للدارقطني (13/ 148)، "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(2/ 208)، "نصب الراية"(4/ 188).

ص: 260

‌ما جاء في ذكاة الجنين

1352/ 12 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (17/ 442)، وابن حبان (13/ 206) عن طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي الوَدَّاك، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره.

وهذا سند حسن، كما قال المنذري

(1)

، ولعل تحسينه من أجل يونس بن أبي إسحاق وهو السبيعي، فقد قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق يهم قليلًا)، وبقية رجاله ثقات، وأبو الوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهذا الحديث صححه ابن دقيق العيد حيث أورده في "الإلمام"

(2)

.

والحديث رواه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199)، وأحمد (17/ 362) من طريق مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف، من أجل مجالد، وهو ابن سعيد الهمداني -بسكون الميم- قال عنه في "التقريب":(ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره)، ولعل الحافظ عزا الحديث لأحمد وابن حبان؛ لأنه جاء عندهما بإسناد حسن، ولم يعزه لأصحاب السنن الثلاثة لضعف إسناده.

(1)

"مختصر السنن"(4/ 120).

(2)

رقم (752).

ص: 261

ولعل الحديث يقوي للاحتجاج به بما له من الطرق عن أبي سعيد، وما يشهد له من أحاديث أخرى، ومنها حديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أبو داود (2828)، وله طرق فيها ضعف.

قال الحافظ: (والحق أن في أسانيدها ما تنتهض به الحجة، وهو مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر

)

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) جملة خبرية، جعل الخبر فيها هو المبتدأ، مثل: غذاء الجنين غذاء أمه، والأصل: ذكاة الجنين هي ذكاة أمه، فحذف المبتدأ الثاني إيجازًا لفهم المعنى، وهو علي قلب المبتدأ والخبر، والتقدير: ذكاة أم الجنين ذكاة له، بمعني أنه لا يحتاج إلي ذكاة مستقلة، بل تكفي ذكاة أمه، فلما قُدِّمَ حول الضمير ظاهرًا لوقوعه أول الكلام، وحول الظاهر ضميرًا اختصارًا

(2)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل علي أن الجنين إذا خرج من بطن أمه ميتًا بعد ذكاتها أنه حلال، وأن ذكاة أمه كافية عن ذكاته، وهذا مذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية، ولا فرق عندهم بين أن يكون الجنين قد أشعر أم لم يشعر

(3)

.

وذهبت المالكية إلي أن ذكاة الجنين ذكاة أمه إذا تم خلقه ونبت شعره؛ لأن التذكية لا تؤثر إلا فيما وجدت فيه الحياة، والحياة لا توجد فيه إلا إذا نبت شعره وتم خلقه

(4)

.

والقول الثالث: أن الجنين إذا خرج ميتًا من الذكاة فإنه ميتة؛ لعموم الأدلة في تحريم الميتة، وكذا لو خرج حيًّا ثم مات، وهذا مذهب الحنفية،

(1)

"التلخيص"(6/ 3074). وانظر: "الإرواء"(8/ 172).

(2)

"المصباح المنير"(209).

(3)

"روضة الطالبين"(3/ 279)، "المغني"(13/ 308).

(4)

"جواهر الإكليل"(1/ 216).

ص: 262

وابن حزم، قالوا: لأن له حياة مستقلة يتصور بقاؤها بعد موت أمه، فيجب أن يفرد بالذكاة

(1)

.

وأجابوا عن الحديث بأنه من باب التشبيه الذي حذفت أداته، وأن معناه: ذكاة الجنين إذا خرج حيًّا كذكاة أمه، ووصف ابن حزم أدلة هذه المسألة بأنها أخبار واهية، ثم شرع في تضعيفها.

والصواب هو القول الأول؛ لقوة دلالة الحديث عليه، ويؤيده من جهة المعنى أمران:

الأول: أن الجنين متصل بامه اتصال خِلْقَؤ، فهو يتغذي بغذائها، فتكون ذكاتُه ذكاتَها كاعضائها.

الثاني: أن الذكاة في الحيوان تختلف بحسب القدرة عليه وعدم القدرة، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون ذكاة له

(2)

، وقد استحب الإمام أحمد أن يذبح ليخرج الدم الذي في جوفه

(3)

.

وأما اشتراط المالكية الإشعار فلا دليل عليه، قال ابن عبد البر:(ليس في هذا الحديث اشتراط إشعاره ولا غيره)

(4)

، وقال ابن رشد:(وعموم الحديث يضعف اشتراط أصحاب مالك نبات شعره)

(5)

.

وأما تأويل الحنفية بأن المراد به التشبيه، فهو تأويل ضعيف لأمور ثلاثة:

1 -

أن هذا التأويل إلغاء للحديث عن الإفادة؛ لأنه معلوم أن ذكاة الحي من الأنعام ذكاة واحدة من جنين وغيره.

2 -

أن الحديث جاء في بعض الروايات: "ذكاة الجنين في ذكاة أمه"

(6)

و (في) للظرفية؛ أي: كائنة أو حاصلة في ذكاة أمه.

(1)

"المحلى"(7/ 419)، "بدائع الصنائع"(5/ 42 - 43).

(2)

"المغني"(13/ 309).

(3)

"المغني"(13/ 310).

(4)

"الاستذكار"(15/ 256).

(5)

"بداية المجتهد"(2/ 463).

(6)

انظر: "نيل الأوطار"(15/ 114).

ص: 263

3 -

أن الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا عن صفة ذكاته ليكون قوله: "ذكاته كذكاة أمه" جوابًا لهم، وإنما قالوا: يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال:"كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه" هذا لفظ أبي داود، فهم سألوا عن أكل الجنين الذي يجدونه بعد الذبح، لا عن صفة ذكاته. والله تعالى أعلم.

ص: 264

‌ما جاء في ترك التسمية

1353/ 13 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لِيَأْكُلْ"، أَخْرَجَهُ الدَّارقُطْنيُّ، وَفي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الْحِفْظِ.

وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَي ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا عَلَيهِ.

1354/ 14 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي "مَرَاسِيلِهِ" بِلَفْظِ: "ذَبِيحَةُ المُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكرَ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ أَوْ لَمْ يَذْكرْ"، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

* الكلام مع عليهما من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه الدارقطني (4/ 296) من طريق محمد بن يزيد، حدثنا معقل، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف، علته -كما قال الحافظ- محمد يزيد بن سنان، وهو ضعيف، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: (ليس بالمتين، هو أشد غفلة من أبيه، مع أنه كان رجلًا صالحًا، لم يكن من أحلاس الحديث، صدوق، وكان يرجع إلى ستر وصلاح، وكان النفيلي يرضاه)

(1)

.

وضعفه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني

(2)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(8/ 128).

(2)

"تهذيب التهذيب"(9/ 462 - 463)، "الجامع في الجرح والتعديل"(3/ 103).

(3)

(9/ 74).

ص: 265

وفي الحديث علة أخرى وهي أن شيخ محمد بن سنان، وهو معقل بن عبيد الله الجزري قد أخطأ في رفع هذا الحديث، وقد قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ).

ومما يدل علي خطئه مخالفة سفيان بن عيينة له، فقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/ 481) عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء قال: حدثنا عَينٌ -يعني عكرمة- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن في المسلم اسم الله، فإن ذبح ونسي اسم الله فليأكل، وإن ذبح المجوسي وذكر اسم الله فلا تأكله)، قال البيهقي:(الأصح وقفه على ابن عباس)

(1)

، وقال ابن عبد الهادي:(والصحيح أن هذا الحديث موقوف علي ابن عباس)

(2)

، وقد صححه الحافظ هنا، وكذا في "فتح الباري"

(3)

، وقال في "الدراية": (صوب الحفاظ وقفه"

(4)

.

وأما الحديث الثاني فقد رواه أبو داود في "المراسيل"(369)، - ومن طريقه البيهقي (9/ 40) - عن ثور بن يزيد، عن الصلت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله".

وهذا سند مرسل، ومع إرساله فمرسله لين الحديث، بل قال ابن حزم:(مجهول) وقال الحافظ في "التقريب": (تابعي، لين الحديث، أرسل حديثًا).

* الوجه الثاني: تقدم أن هذه الأحاديث استدل بها من قال: إن التسمية عند الذبح غير واجبة، وأن الذبيحة تحل إذا لم يسمِّ ولا سيما إذا كان ناسيًا، وقد علل لذلك بأن المسلم يكفيه اسمه، ومعناه أنه في حكم المسمي، لما كان اسمه مشتملًا على اسم الله تعالى.

والتحقيق أن هذه الأحاديث لا حجة فيها علي جواز ترك التسمية ولا إباحة ذبيحة من تركها ناسيًا؛ لأن الأحاديث الصحيحة المتقدمة مع ظاهر القرآن تدل على وجوبها مطلقًا، كما تقدم، أما هذه الأحاديث الثلاثة فالمرفوع ضعيف، والموقوف لا حجة فيه مع مخالفة السنة، والمرسل ضعيف، وما كان هذا شأنه فإنه لا يقف في مقابلة الأدلة الدالة علي الوجوب. والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن الكبرى"(9/ 239).

(2)

"التنقيح"(4/ 637).

(3)

(9/ 624).

(4)

(2/ 206).

ص: 266

‌باب الأضاحي

الأضاحي: جمع أضحية بضم الهمزة، ويجوز كسرها، ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضاد، فيقال: ضَحية كعطية.

وشرعًا: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام النحر تقربًا إلى الله تعالى.

سميت بذلك: لأنها تذبح ضُحىً بعد صلاة العيد.

وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] والمنسك هنا: الذبح الذي يُتقرب به إلى الله تعالى، قال ابن كثير:(يخبر الله تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء علي اسم الله مشروعًا في جميع الملل)

(1)

.

وأما السنة فستأتي الأحاديث مع شرحها في هذا الباب، وقد أجمع المسلمون علي مشروعية الأضحية، واختلفوا في وجوبها، كما سيأتي.

والحكمة من مشروعيتها تعظيم الله تعالى بذبح الأضاحي تقربًا إليه، وإظهار شعائر دينه، وفيها التوسعة علي الأهل وعلي الفقراء يوم العيد، والإهداء لذوي القربي والجيران.

وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لما يأتي:

1 -

أن الذبح وإراقة الدم عبادة مشتملة علي تعظيم الله تعالى وإظهار شعائر دينه، وإخراج القيمة تعطيل لذلك.

(1)

"تفسير ابن كثير"(5/ 420).

ص: 267

2 -

أن الأضحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل المسلمين، ولم ينقل أن أحدًا منهم أخرج القيمة ولو مرة، ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها

(1)

.

(1)

"مجموع الفتاوى"(26/ 304)، "أحكام الأضحية والذكاة" ص (14).

ص: 268

‌مشروعية الأضحية وشيء من صفاتها

1355/ 1 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَينِ، أقْرَنَينِ، ويسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَي صِفَاحِهِمَا. وَفي لَفْظٍ: ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. وَفي لَفْظ: سَمِينَينِ. وَلأَبي عَوَانَةَ في صَحِيحِهِ: ثَمِينَينِ -بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ السِّينِ- وفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، وَيقُولُ:"بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من كتاب "الأضاحي"، ومنها باب (التكبير عند الذبح)(5565)، ومسلم (1966)(17) من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه.

وقوله: (وفي لفظ: "سمينين") هذا ليس في "الصحيحين"، وقد علقه البخاري بقوله:(باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين، ويذكر سمينين)، وقد وصله أبو عوانة في "صحيحه" (5/ 15) من طريق حجاج قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين أملحين أقرنين سمينين

الحديث.

والحديث ورد في "الصحيحين" من عدة طرق عن شعبة، عن قتادة، وليس فيه:(سمينين)، قال الحافظ:(وهو المحفوظ عن شعبة).

وقد رواه ابن ماجه (2/ 1043)، وعبد الرزاق (4/ 379) من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.

وقوله: (ولأبي عَوانة

إلخ) الموجود في طبعة "صحيح أبي عوانة"

ص: 269

بالسين، كما تقدم، وليس بالثاء المثلثة، كما ذكر الحافظ، بل إن الحافظ نفسه نقل في "الفتح" أنه بالسين عن "صحيح أبي عوانة"

(1)

.

والحديث رواه مسلم (1966) من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل لفظه الأول غير أنه قال: ويقول: بسم الله، والله أكبر.

ولعل الحافظ أورد هذه الرواية مع أنها مفهومة مما تقدم؛ لأنها بينت صيغة التسمية والتكبير.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كان يضحي) المضارع بعد (كان) يفيد التكرار والمداومة علي الفعل إلا إذا وجدت قرينة.

قوله: (بكبشين) تثنية كبش، وهو فحل الضأن في أي سن كان، وقيل: إذا أثني، وقيل: إذا أربع، والجمع أَكبُشٌ وأكْبَاش.

قوله: (أملحين) تثنية أملح، وهو الذي فيه سواد وبياض أكثر، وقيل: الأملح: الأبيض الخالص.

قوله: (أقرنين) تثنية أقرن، وهو الكبير القرن، والمراد أن لكل واحد منهما قرنين كبيرين معتدلين.

قوله: (صفاحهما) أي: صفاح كل واحد منهما عند ذبحه، والصفاح الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلي أنه فعل ذلك في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلي المثني بإرادة التوزيع. وقد فعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن، لئلا تضطرب فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل علي مشروعية الأضحية والترغيب فيها والحث علي فعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئًا علي وجه الطاعة والقربة

(1)

"فتح الباري"(10/ 10).

ص: 270

ولم يكن مختصًا به فهو مستحب في حق أمته، ولا خلاف بين العلماء أن الأضحية من شعائر الدين، وإنما الخلاف في وجوبها، كما سيأتي.

* الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث الإمام مالك على أن الضأن أفضل أنواع بهيمة الأنعام في الأضحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولا يفعل إلا الأفضل

(1)

.

وذهب الأئمة الثلاثة إلي أن الأفضل البدنة ثم البقرة ثم الشاة

(2)

، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في فضل التقدم إلى الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة

)

(3)

؛ ولأنه ذبح يتقرب به إلي الله تعالى فكانت البدنة أفضل كالهدي؛ ولأنها أغلى ثمنًا وأكثر لحمًا وأنفع.

وأجابوا عن حديث أنس بأن التضحية بالكبش لأنه أفضل أجناس الغنم

(4)

.

* الوجه الخامس: أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين؛ ولأن لحمه أطيب، مع جواز التضحية بالأنثي بالإجماع.

* الوجه السادس: استحباب التضحية بالأقرن، وأنه أفضل من الأجم، مع جواز التضحية بالأجم اتفاقًا، وهو ما لا قرن له.

* الوجه السابع: مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونًا، وذلك بأن تكون سمينة حسنة، وأحسنها الأملح، والمراد به: الأبيض الخالص البياض، أو ما بياضه أكثر من سواده، كما تقدم، وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى، قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، وقال تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]، فتعظيم البدن من تعظيم شعائر الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(الاستسمان، والاستحسان، والاستعظام)

(5)

.

(1)

"بداية المجتهد"(2/ 433).

(2)

"المغني"(13/ 366).

(3)

رواه البخاري (881)، ومسلم (850).

(4)

"المغني"(13/ 366).

(5)

"تفسير ابن كثير"(6/ 415)، "فتح الباري"(3/ 536).

ص: 271

* الوجه الثامن: استحباب أن يتولي الإنسان ذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح؛ لأن الذبح قربة، قال البخاري:(أمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهن)

(1)

، فإن لم يحسن استناب مسلمًا عالمًا بشروط الذبح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استناب عليًّا في ذبح ما بقي من بُدْنِهِ في حجة الوداع

(2)

.

* الوجه التاسع: فيه استحباب العدد في الأضحية ما لم يقصد المباهاة، وأن من أراد أن يضحي بعدد فالأفضل ذبحها في يوم العيد، والتفريق في أيام النحر جائز، وفيه نفع للمساكين، ويستمر الذبح إلي غروب شمس اليوم الثالث عشر على الراجح من قولي أهل العلم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

* الوجه العاشر: مشروعية التسمية والتكبير عند ذبح الأضحية، فيقول:(بسم الله، والله أكبر)، أما التسمية فواجبة، وأما التكبير فمستحب على قول جمهور أهل العلم، والظاهر أن التسمية واجبة على كل ذبح، وأما التكبير فكأنه خاص بالأضحية والهدي، لقوله تعالى:{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَي مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37].

ولا بد أن تكون التسمية عند الذبح فلو وقع فاصل طويل أعادها، إلا إذا كان الفصل لتهيئة الذبيحة وأخذ السكين، والمعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمي على شاة ثم تركها إلي غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يؤثر على التسمية.

* الوجه الحادي عشر: في الحديث دليل على أن الأضحية إذا كانت من الغنم فإنها تذبح مضجعة؛ لأنه أرفق بها، ويضع الذابح رجله على صفحة عنقها الأيمن بعد إضجاعها على الجانب الأيسر؛ لأنه أسهل للذابح في أخذ السكين باليد اليمنى وإمساك رأسها باليسري، إلا إذا كان الذابح أعسر -وهو من يعمل بيده اليسري عمل اليمنى- فله أن يضجعها على الجانب الأيمن؛ لأن الغرض إراحة الذبيحة وتمكن الذابح منها. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 19).

(2)

رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه (1218).

ص: 272

‌استحباب الدعاء عند ذبح الأضحية

1356/ 2 - وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنهما: أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ في سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ في سَوَادٍ، وَينْظُرُ فيِ سَوَادٍ؛ ليُضَحِّيَ بِهِ، فَقَال:"اشْحَذِي الْمُدْيَةَ"، ثُمَّ أَخَذَهَا، فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذبَحَهُ، وقَال:"بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمّ تَقَبّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وآل مُحَمّدٍ، وَمِنْ أُمّةِ مُحَمّدٍ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في "الأضاحي"(1967) من طريق أبي صخر، عن يزيد بن قُسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأُتيَ به ليضحي به، فقال لها:"يا عائشة هَلُمِّي المُدْيَةَ" ثم قال: "اشحذيها بحجر" ففعلت، ثم أخذها وأخد الكبش فاضجعه ثم ذبحه، ثم قال:"بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد"، ثم ضحى به.

هذا لفظ الحديث عند مسلم، وبهذا يتبين أن الحافظ قد حذف بعض ألفاظه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يطأ في سواد

) أي: إن أظلافه وقوائمه ومواضع البروك منه وما حول عينيه أسود.

قوله: (هلمي) هَلُمَّ: فعل أمر على لغة تميم، لاتصال ياء المخاطبة به وهي فاعل، ومعناه: أحضري، قال تعالى:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] أي: أحضروا شهداءكم، وأما على لغة أهل الحجاز فهو اسم فعل أمر يدل

ص: 273

على الطلب، ولا يقبل الضمائر، وبلغتهم جاء القرآن، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَينَا} [الأحزاب: 18].

قوله: (اشحَذِي المُدية) أمر من شَحَذْتُ السكين بالمِسَنِّ، أشْحَذُها: حَدَدْتُها، وتقول: سَنَنْتُ السكين بالمِسَنِّ سنًّا من باب قتل: أحددته، و (المدية) مثلثة الميم، وهي السكين.

قوله: (ثم ذبحه وقال: "بسم الله") هكذا في بعض نسخ "البلوغ" والمثبت في "صحيح مسلم": (ثم قال:) -كما تقدم- وظاهره أن التسمية وقعت بعد الذبح، وهذا غير مراد؛ لأن (ثم) ليست على بابها وهو إفادة الترتيب والتراخي، وإنما الفعل الذي بعدها مؤول، وتقديره: فأضجعه ثم شرع في ذبحه قائلًا: بسم الله، كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] أي: فإذا أردت.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على استحباب الدعاء بقبول الأضحية، فيقول: (اللهم تقبل مني

) ونحو ذلك، واستحسن بعض العلماء أن يقول نص الآية:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] وهذا قول الجمهور من أهل العلم.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أنه يجوز للرجل أن يضحي عن نفسه وعن أهل بيته بأضحية واحدة، فيشركهم معه في ثوابها، كما أن له أن يشرك من شاء من الأموات، وفضل الله واسع.

وهذا يدل على أن الأصل في الأضحية أنها مطلوبة في وقتها من الحي عن نفسه، وله أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات، وأما ما يظنه بعض العامة أن الأضحية للأموات فقط فهذا خطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يضحون عن أنفسهم وأهليهم.

وأما الأضحية عن الميت منفردًا فمن أهل العلم من رخص فيها؛ لأنها نوع من الصدقة، والصدقة تصح عنه، كما دلت عليه النصوص، وتنفعه إن شاء الله.

ص: 274

ومن أهل العلم من قال: إن الميت لا يُضَحَّى عنه؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء

(1)

، وقد ماتت زوجته خديجة رضي الله عنهما وعمه حمزة رضي الله عنه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه ضحي عن واحد منهما، وخديجة أحبُّ النساء إليه، وعمه أحب أعمامه إليه

(2)

.

فإن أوصى الميت بأضحية في ثلث ماله أو جعلها في غَلَّةِ وقف له، فإنه يجب على القائم على الوقف أو الوصية تنفيذ ذلك، ولا يجوز له التصدق بثمن الأضحية؛ لأنه خلاف السنة، وتغيير للوصية، وإذا كان في الوصية أو الوقف عدة ضحايا والرَّيْعُ لا يكفي إلا واحدة، فلا بأس من جمع الأضاحي

(1)

ورد في هذا الباب ما أخرجه أحمد (2/ 205)، وأبو داود (2790)، والترمذي (1495)، والحاكم (4/ 229 - 230) من طريق شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حَنَشٍ قال: رأيت عليًّا رضي الله عنه يضحي بكبشين، فقلت: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه.

لكن هذا الحديث ضعفه العلماء لما يلي:

1 -

فيه شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، سيء الحفظ، قال في "التقريب":(صدوق يخطئ كثيرًا تغير حفظه لما ولي قضاء الكوفة).

2 -

أبو الحسناء، قال في "التقريب":(مجهول).

3 -

حنش هو أبو المعتمر الكناني الصنعاني، تكلم فيه غير واحد، قال ابن حبان:(كان كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي رضي الله عنه بأشياء، لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به) وقال في "التقريب": (صدوق له أوهام ويرسل).

أما الحاكم فقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأبو الحسناء هذا هو الحسن بن الحكم النخعي)، وسكت عنه الذهبي، وتابعه على تسمية أبي الحسناء، مع أنه ذكره في "الميزان" (4/ 515) وقال:(لا يعرف)، وأما الحسن بن الحكم هذا فمعروف، ترجم له المزي في "تهذيب الكمال"(6/ 128) وذكر أنه روي عن جمع، وقد وثقه ابن معين والإمام أحمد، واحتج به أصحاب الكتب الستة، غير النسائي، نقد أخرج له في مسند علي رضي الله عنه، وعلى فرض صحة الحديث فإن عليًّا رضي الله عنه كان وصيًّا، كما هو ظاهر الحديث لا متبرعًا، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "جامع المسائل" (4/ 255) وقولهم: إنها من باب الصدقة لا يخلو من خفاء؛ لأن الأضحية تحصل بإهراق الدم، ولا يتوقف على التصدق باللحم. انظر: تعليق الأرنؤوط ومن معه على "المسند"(1/ 205).

(2)

انظر: "جامع الترمذي"(3/ 161)، "شرح السنة"(4/ 358)، "الشرح الممتع"(7/ 520).

ص: 275

في أضحية واحدة إذا كان الموصي واحدًا، وإن تبرع القائم بتكميل الثمن من عنده فحسن، وإن لم يَكْفِ المُغَلُّ أبقى المبلغ عنده للعام المقبل ولو أعوامًا؛ لأن هذا هو العرف.

والمطلوب من القائم تحري الدقة والحرص على ما فيه نفع الميت؛ لعظيم حاجته إلى البر والخير، والله أعلم

(1)

.

(1)

انظر: "مفيد الأنام"(2/ 480)، "أحكام الأضحية" ص (16).

ص: 276

‌حكم الأضحية

1357/ 3 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ، لكنْ رَجَّحَ الأَئِمَّةُ غَيرُهُ وَقْفَهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (14/ 24)، وابن ماجه (2/ 1044)، والحاكم (2/ 389)(4/ 231 - 232) من طريق عبد الله بن عياش، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، وفي سنده عبد الله بن عياش، وهو متكلم فيه، قال أبو حاتم:(ليس بالمتين، صدوق، يكتب حديثه، وهو قريب من ابن لهيعة)

(1)

، وقال ابن يونس:(منكر الحديث)

(2)

، وقال الذهبي:(وإن كان قد احتج به مسلم فقد ضعفه أبو داود والنسائي، وقال أبو حاتم: هو قريب من ابن لهيعة)

(3)

، وحديثه في "صحيح مسلم" في الشواهد لا في الأصول، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يَغْلَطُ)، وبهذا يتبين أن قول الحافظ في "الفتح":(رجاله ثقات)

(4)

فيه نظر.

وهذا الحديث روي مرفوعًا، وروي موقوفًا، فقد رواه عن عبد الله بن عياش مرفوعًا: عبد الله بن يزيد المقرئ، كما عند الحاكم، وزيد بن الحباب،

(1)

"الجرح والتعديل"(5/ 126).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 307).

(3)

"تلخيص المستدرك"(4/ 436).

(4)

"فتح الباري"(10/ 3).

ص: 277

كما عند ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي (9/ 260)، وحيوة بن شريح عند البيهقي في "الشعب"(7334).

ورواه موقوفًا عن ابن عياش عبد الله بن وهب، كما عند الحاكم (4/ 232)، وقد رجح الحاكم المرفوع، فقال بعد سياقه مرفوعًا من طريق أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد:(أوقفه عبد الله بن وهب، إلا أن الزيادة من الثقة مقبولة، وأبو عبد الرحمن المقرئ فوق الثقة).

ورجح الترمذي والدارقطني والبيهقي وابن عبد الهادي رواية الوقف، وقال الحافظ في "الفتح":(الموقوف أشبه بالصواب)

(1)

، وعبد الله بن وهب قال عنه الحافظ في "التقريب":(ثقة حافظ عابد)، وقال عن عبد الله بن يزيد المقرئ:(ثقة فاضل).

* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن الأضحية واجبة، وهذا قول أبي حنيفة

(2)

، وأحد القولين في مذهب مالك

(3)

، وهو قول الليث والأوزاعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، بل نصر الشيخ هذا القول

(4)

.

ووجه الاستدلال: أنه لما نهاه عن قربان المصلى دل على أنه ترك واجبًا.

كما استدلوا بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2] فأمر الله تعالى بالنحر، والأصل في الأمر الوجوب.

كما استدلوا بحديث جندب بن سفيان الآتي: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها" وهذا أمر، والأمر للوجوب.

(1)

"العلل" للدارقطني (10/ 304 - 305) ويبدو أن فيه سقطًا يستفاد من "التنقيح"، "السنن الكبرى"(9/ 260)، "التنقيح"(3/ 564، 567)، "المحرر" ص (266)، "فتح الباري"(10/ 3).

(2)

"الهداية"(4/ 70).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 431).

(4)

"الفتاوى"(23/ 162).

ص: 278

وذهب الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة في المشهور عنهم إلي أن الأضحية سنة مؤكدة، بل صرح كثير من أرباب هذا القول بأنه يكره للقادر تركها

(1)

، وهذا القول هو ظاهر اختيار البخاري

(2)

، ونصره ابن حزم وقال:(لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة)

(3)

، واختار هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز.

واستدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي"

(4)

.

ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الأضحية على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة.

كما استدلوا بالتمسك بالأصل، وهو براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب السالم من المعارض.

وقد أجاب كل فريق عن أدلة الآخر، فالقائلون بالوجوب أجابوا عن حديث أم سلمة رضي الله عنه بأن تفويض الفعل إلى إرادة الشخص لا ينافي الوجوب ولا يدل على أن الشخص مخير على الإطلاق إذا ثبت الوجوب بطريق آخر، مثل: يجب الوضوء على من أراد الصلاة.

وأما التمسك بالأصل فهو دليل قوي، لكن قد قام دليل الوجوب السالم من المعارض، فثبت الحكم، وذلك بالأدلة السابقة.

وأجاب الجمهور القائلون بأن الأضحية سنة عن أدلة الوجوب بأن حديث الباب متكلم فيه، والحفاظ على ترجيح وقفه -كما تقدم- ومع ترجيح وقفه فلا ينتهض دليلًا على الوجوب؛ لحال عبد الله بن عياش.

وأما قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} فليس نصًّا في الموضوع فقد

(1)

"المهذب"(1/ 317)، "بداية المجتهد"(2/ 431)، "المغني"(13/ 360).

(2)

"فتح الباري"(10/ 3).

(3)

"المحلى"(7/ 355).

(4)

"رواه مسلم"(1977)، وأُعل بالوقف.

ص: 279

قيل: إن المراد بقوله: {وَانْحَرْ} وضع اليدين تحت النحر عند القيام في الصلاة، وهذا القول وإن كان ضعيفًا لكن مع الاحتمال قد يمتنع الاستدلال، وعلى المعنى المشهور فلا يتبين أن يكون المراد فعل النحر، فقد قيل: إن المراد تخصيصه لله تعالي وإخلاصه له، وعلي أن المراد فعل النحر لا يتعين أن يكون ذلك كل عام، بل يتحقق الامتثال ولو مرة واحدة

(1)

.

وقول الجمهور قوي في نظري، ومع هذا فالأحوط للمسلم ألا يترك الأضحية مع قدرته عليها؛ لأن أداءها هو الذي يتعين به براءة ذمته، والخروجُ من عهدة الطلب أحوطُ، وأما غير القادر الذي ليس عنده إلا مؤنة أهله فإن الأضحية لا تلزمه، ومن كان عليه دين فإنه يقدمه على الأضحية؛ لوجوب إبراء الذمة عند الاستطاعة.

وأما الاقتراض لشراء الأضحية، فإن كان الإنسان يرجو وفاءً، كمن له مرتب أو نحوه فإنه يقترض ويضحي، وإن كان لا يرجو وفاءً، فإنه لا يقترض؛ لئلا يشغل ذمته بشيء لا يلزمه في مثل حاله. والله تعالى أعلم.

(1)

"أحكام الأضحية" ص (8).

ص: 280

‌وقت ذبح الأضحية

1358/ 4 - عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَال: شَهِدْتُ الأَضْحى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إلى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَال:"مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، ومَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو عبد الله، جُندُب -بضم الجيم والدال ويجوز فتحها- ابن عبد الله بن سفيان البَجَلي ثم العَلَقي -والعَلَقُ بطن من بَجِيلَةَ- وقد ينسب إلى جده فيقال: جندب بن سفيان، قال ابن عبد البر:(له صحبة ليست بالقديمة)، سكن الكوفة، ثم البصرة، وروي عنه أهل المصرين، كما روي عنه من أهل الشام شهر بن حوشب، عاش إلي حدود ستة سبعين رضي الله عنه

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأضاحي"، باب (من ذبح قبل الصلاة أعاد)(5562)، ومسلم (1960)(2) من طريق الأسود بن قيس، سمعت جندب بن سفيان البجلي قال:

وذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم.

(1)

"الاستيعاب"(2/ 177)، "السير"(3/ 174)، "الإصابة"(2/ 104).

ص: 281

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (شهدت الأضحي) أي: صلاة عيد الأضحي، ومعني شهدت: حضرت.

قوله: (فلما قضي الصلاة) أي: فرغ منها، فالقضاء في عرف الشرع يطلق على الفراغ من العبادة، قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10].

قوله: (نظر إلي غنم قد ذبحت) الظاهر أنهم ذبحوها عند المصلي لا في نفس المصلي، وهذا على رأي من يقول: إن مصلي العيد مسجد، والمسجد لا يلوث بالدم والفرث.

وقوله: (قد ذبحت) أي: قبل الصلاة بدليل السياق.

قوله: (فليذبح شاة مكانها) أي: بدلها، لعدم إجزاء ما تَمَّ ذبحه قبل الصلاة.

قوله: (فليذبح على اسم الله) هذا أمر بكون الذبح على اسم الله تعالى لا أمر بمطلق الذبح، فكأنه قال: إن أراد أن يذبح فليذبح على اسم الله. وفي رواية لمسلم: (فليذبح باسم) وقد ذكر النووي أنهما بمعني واحد، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير في قوله:(فليذبح) أي: فليذبح قائلًا: باسم الله، أو فليذبح مسميًا

(1)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن وقت ذبح الأضحية يبدأ بعد صلاة العيد، ولو قبل الخطبة، وأن من ذبح قبل الصلاة لم تجزئه، بل شاته شاة لحم، وعليه أن يذبح بدلها؛ لأن الأضحية عبادة مؤقتة لا تصح قبل دخول وقتها الذي شرعت فيه، وإنما وجب عليه أن يذبح بدلها؛ لأنه لما عينها قبل الذبح وجبت عليه، وذبحها قبل الوقت غير مجزئ، فوجب عليه بدلها، وهكذا كل من أوجب أضحية ثم فرط فيها فتلفت أو ذبحها على وجه لا يجزئ وجب عليه ذبح بدلها.

فإن كان المضحي في مكان لا صلاة فيه كأهل البوادي والمسافرين فإنه يعتبر قدر وقت الصلاة.

(1)

انظر: "شرح صحيح مسلم"(13/ 120)، "الإعلام"(4/ 219).

ص: 282

والأفضل تأخير الذبح إلي انتهاء الخطبة تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

* الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن الذبح قبل الصلاة لا يجزئ مطلقًا، سواء أكان الذابح عامدًا أم جاهلًا أم ناسيًا، كمن صلى قبل دخول الوقت.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على مشروعية الخطبة في العيدين، وأنها بعد الصلاة، وأن المشروع فيها أن تكون مناسبة للوقت والحال، وفي خطبة الأضحي يناسب بيان ما يتعلق بالأضاحي.

* الوجه السابع: في نهاية وقت ذبح الأضحية، وفيه قولان مشهوران:

الأول: أن نهاية وقت الذبح غروب الشمس ثاني أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم العيد ويومان بعده، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة وأحمد ومالك

(1)

، واستدلوا بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحي منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء

"

(2)

، ووجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الأكل بعد ثلاثة أيام، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز فيه الأكل، ونسخ تحريم الأكل لا يستلزم نسخ وقت الذبح.

القول الثاني: أن آخر وقت الذبح غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، فتكون أيام الذبح أربعة، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله- وذلك لما يلي:

1 -

قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده)

(3)

، قال ابن كثير:(ويروي هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي، وإليه يذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه)

(4)

.

(1)

"الهداية"(4/ 73)، "بداية المجتهد"(4/ 447)، "المغني"(13/ 386).

(2)

رواه البخاري (5569)، ومسلم (1974).

(3)

انظر: "فتح الباري"(2/ 458).

(4)

"تفسير ابن كثير"(5/ 412).

ص: 283

2 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أيام التشريق ذبح"

(1)

.

3 -

حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله"

(2)

.

4 -

أن هذه الأيام أيام منى وأيام رمي الجمرات وأيام يحرم صومها، فكيف يُخْرَجُ منها الذبح ويُخَصُّ باليومين الأولين؟!

(3)

.

5 -

عملُ الصحابة رضي الله عنهم بمقتضي الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال بذلك: علي بن أبي طالب، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وقال به من السلف: إمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، وعطاء، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، ومكحول، وداود وغيرهم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ظاهر ترجيح ابن القيم

(4)

.

وأما حديث سلمة فلا يفيد أن أيام الذبح ثلاثة فقط؛ لأنه دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئًا فوق ثلاثة من يوم ذبحه، وهو لو أخر الذبح إلي اليوم الثالث من أيام التشريق لجاز له الادخار بعده ثلاثة أيام.

فإن فات وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث عشر فإنه يذبح الأضحية الواجبة، وهي ما وجب قبل التعيين كالمنذورة، ومثل ذلك الأضحية الموصي بها إذا اشتريت قبل أيام النحر، وكذا لو عيَّن إنسان أضحية،

(1)

أخرجه أحمد (27/ 316)، وابن حبان (9/ 166)، والدارقطني (4/ 284)، والبيهقي (9/ 295) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، والحديث له طرق، وقد أورده الألباني في "الصحيحة"(5/ 617) وذكر هذه الطرق، وقد ضعفه البيهقي وجماعة من المحققين، ولو صح لكان نصًّا في الموضوع، لكنه معلول بالاضطراب، والإرسال، انظر:"التمهيد"(12/ 131)، "الجوهر النقي"(9/ 296)، "تفسير ابن كثير"(1/ 353)، "التلخيص"(6/ 3024).

(2)

رواه مسلم (1141).

(3)

"أحكام الأضحية" ص (22).

(4)

"المغني"(13/ 386)، "المجموع"(8/ 390)، "الاختيارات الفقهية" ص (120)، "زاد المعاد"(2/ 319).

ص: 284

وضاعت منه، ثم وجدها بعد مضي أيام النحر، لزمه ذبحها؛ لوجوبها بالتعيين، ويفعل بهذا الواجب المقضي كما يفعل بالمذبوح في وقته، وأما أضحية التطوع فلا يذبحها؛ لأنها سنة فات محلها، ولو ذبحها وتصدق بها كانت لحمًا تصدق به، لا أضحية، والله أعلم

(1)

.

(1)

الإفصاح (1/ 211)، "المغني"(13/ 387)، "مفيد الأنام"(2/ 479 - 480)، "حاشية ابن قاسم على الروض المربع"(4/ 231)، "الشرح الممتع"(7/ 464).

ص: 285

‌ما لا يجوز من الأضاحي

1359/ 5 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهم قَال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ في الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلَعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتي لَا تُنْقِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَححَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "لأضاحي"، باب (ما يكره من الضحايا)(2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (7/ 214 - 215)، وابن ماجه (3144)، وأحمد (30/ 468 - 469)، وابن حبان (13/ 240) والحاكم (1/ 468) من طريق شعبة، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب رضي الله عنه ما لا يجوز في الأضاحي، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي

الحديث)، وهذا لفظ أبي داود.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز، عن البراء، والعمل على هذا عند أهل العلم)، وقال الحاكم:(هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، لقلة روايات سليمان بن عبد الرحمن، وقد أظهر على بن المديني فضائله وإتقانه)، وسكت عنه الذهبي.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قام فينا) في رواية مالك عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن

ص: 286

فيروز: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يُتَّقى من الضحايا؟)

(1)

، وقوله: (وأصابعي

إلخ) قال هذا من باب الأدب.

قوله: (أربع) هذا العدد يفيد الحصر، لوجود القرينة وهي الإشارة، فإن قول الصحابي:(وأصابعي أقصر من أصابعه .. ) يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشار بأصابعه.

قوله: (العوراء البيِّن عورها) العوراء: بالمد تأنيث أعور، والعوراء: هي التي انخسفت عينها أو برزت، ومعني:(البين) الظاهر.

قوله: (والمريضة البيِّن مرضها) وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يقعدها عن المرعي، ويسبب لها الهزال.

قوله: (والعرجاء البيِّن ظلعها) الظلع: بفتح الظاء المُشَالة، وإسكان اللام، هكذا ضبطه أهل اللغة، وأهل الحديث يفتحون اللام، قال السندي: وكأنهم رأوا مشاكلة العور والمرض

(2)

. والظلع هو الغمز، والظالع هو الغامز في مشيته، فالعرجاء هي التي تغمز في يدها أو رجلها خلقة أو لعلَّة طارئة.

والبيِّن ظَلَعُها: هي التي تتخلف عن القطيع وتسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها.

قوله: (والكسيرة التي لا تنقي) هذا لفظ النسائي وابن ماجه، ولفظ أبي داود وأحمد:(والكسير) بدون هاء، وقد جاء هذا في بعض النسخ. وعند النسائي -أيضًا- وعند الترمذي وأحمد (30/ 615):(والعجفاء) وهي بالمد مؤنث أعجف، والعَجَفُ: بالتحريك: الهزال والضعف.

والمراد بالكسيرة: التي لا تقوم ولا تنهض من الضعف والهزال، فهي بمعنى العجفاء.

(1)

"الموطأ"(2/ 482).

(2)

"المصباح المنير" ص (385)، "حاشية السندي على سنن النسائي"(7/ 214).

ص: 287

ومنهم من فسر الكسيرة بالمنكسرة الرجل التي لا تستطيع المشي، فهي فعيل بمعنى مفعول، والأظهر هو المعنى الأول، لرواية:(العجفاء).

قوله: (لا تنقي) بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف؛ أي: لا نِقْيَ لها، والنِّقْيُ: بكسر النون هو المخ من أنقت الإبل: إذا سمنت وصار فيها نقي، فالتي لا تنقي هي التي لا مخ في عظامها لضعفها.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية، وهي عيوب مجمع عليها، كما قال الموفق وغيره

(1)

.

فالأولى: العوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب أجزأت؛ لأن عورها ليس بينًا فلا يؤثر في نقصان لحمها، والعمياء أشد؛ لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقتها ويمنع مشاركتها في العلف.

الثانية: المريضة البين مرضها، وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يُقْعِدُها عن الرعي مما يسبب لها الهزال وفساد اللحم، ومنه الجَرَبُ فهو يمنع الإجزاء قليله وكثيره؛ لأنه يفسد الشحم واللحم، ويلحق بالمريضة المبشومة حتى تَثْلِط؛ لأن البَشَمَ -وهو التُّخْمة من كثرة الأكل

(2)

- عارض خطير كالمرض البين، فإذا زال خطرها أجزأت إن لم يحدث لها مرض بين، والثَّلْط: هو الرقيق من الرجيع

(3)

.

الثالثة: العرجاء البين ظَلَعُهَا -أي: عَرَجُهَا- وذلك بكونه فاحشًا، ويلحق بالعرجاء مقطوعة إحدي اليدين أو الرجلين؛ لأنها أولي بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها؛ ولأنها ناقصة عضو مقصود، كما يلحق بالعرجاء العاجزة عن المشي لعاهة من كسر ونحوه، بل هي أولي بعدم الإجزاء.

الرابعة: الكسيرة التي لا تنقي، وهي الهزيلة التي لا مخ في عظمها،

(1)

"المغني"(13/ 369).

(2)

"المصباح المنير" ص (50).

(3)

"اللسان"(7/ 268).

ص: 288

فهذه لا تجزئ؛ لأنها ضعيفة كريهة المنظر، أما الهزيلة التي لم يصل الهزال إلي داخل عظمها فهي تجزئ.

فهذا الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية، وسكت عن غيرها من العيوب، ولكن يري الجمهور أنه يقاس عليها غيرها مما هو أشدُّ منها أو مساوٍ لها.

قال النووي: (وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمي وقطع الرجل وشبهه)

(1)

.

وقال الخطابي: (في الحديث دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول:"البين عورها، والبين مرضها، والبين ظلعها" فالقليل منه غير بين، فكان معفوًا عنه"

(2)

.

* الوجه الرابع: دل الحديث بمفهومه على أن ما عدا هذه العيوب الأربعة وما في معناها لا يمنع الإجزاء، وذلك لأن هذا الحديث خرج مخرج البيان والحصر؛ لأنه جواب سؤال كما تقدم في رواية مالك، والظاهر أن الحديث كان وقت خطبة وإعلان؛ لرواية:(قام فينا) ولو كان غير هذه العيوب مانعًا من الإجزاء للزم ذكره جوابًا للسؤال؛ لأن ذلك موضع بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(13/ 128).

(2)

"معالم السنن"(4/ 106).

ص: 289

‌السِّنُّ المعتبر في الأضحية

1360/ 6 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إلا مُسِنَّةً، إِلا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الأضاحي"، باب (سن الأضحية)(1963) من طريق زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وذكر الحديث.

وهذا الحديث ضعفه الألباني، وقال:(كان الأحري به أن يحشر في زمرة الأحاديث الضعيفة)

(1)

، وتبعه على هذا مقلدوه، ولا سيما من عَلَّقَ على "بلوغ المرام"، ولم أقف على كلام لأحد من المتقدمين اجترأ فيه على تضعيف هذا الحديث صراحة، والحافظ المزي لما سئل عما وقع في "الصحيحين" من حديث المدلس معنعنًا هل نقول: إنهما اطلعا على اتصالها؟ فقال: (كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما .. )

(2)

، والذهبي لما ترجم لأبي الزبير ذكر أن في "صحيح مسلم" عدة أحاديث لم يصرح فيها أبو الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه وهي من غير طريق الليث عنه، قال:(وفي القلب منها شيء)

(3)

ولم يصرح بتضعيفها، ولعل المانع هيبة "الصحيح" ثم إنه إذا ثبت عن كبار الأئمة كالشيخين أنه لا يقبل المدلَّس بعن، وأن التدليس عنده حرام، ثم

(1)

انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/ 91).

(2)

"النكت على كتاب ابن الصلاح"(2/ 636).

(3)

انظر: "الميزان"(4/ 39)، "الضعيفة"(1/ 91 - 95).

ص: 290

روى في كتابه أحاديث على هذه الصفة دلَّ على أنه رضيها وعرف اتصالها من وجه آخر، ولا يبعد أن ينقدح في ذهن الإمام قرائن يطمئن من خلالها على ثبوت الخبر عنده. والله أعلم.

وقد جاء في "صحيح أبي عوانة"(5/ 74) بعد سياق هذا الحديث سند مُعَلَّقٌ، فيه تصريح أبي الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا تذبحوا) أي: في الأضاحي، وليس نهيًا عامًّا.

قوله: (إلا مسنة) بضم الميم وكسر السين وفتح النون المشددة، هي التي قد صارت ثنية

(1)

، والذكر: ثني، والثني من الغنم -ضأنها ومعزها- ما مضي من عمره سنة ودخل في السنة الثانية، ومن البقر ما دخل في الثالثة، ومن الإبل ما دخل في السادسة، وهذا هو المشهور عند الفقهاء وأهل اللغة في تحديد سنِّ الثني

(2)

، سمي بذلك، لأنه ألقي ثنيته، وهي أسنان مقدم الفم.

قوله: (إلا أن يَعْسُرَ عليكم) بضم السين مضارع عَسُر من باب قَرُبَ: يَعْسُر، وبفتح السين في المضارع من باب تَعِبَ، والمعنى: إلا أن يصعب عليكم ذبحها بأن لا توجد أو لا يوجد ثمنها.

قوله: (جذعة) بفتحتين أنثي الجذع، وهي من الضأن ما بلغ ستة أشهر إلى سنة، هذا هو المشهور عند الفقهاء، ونقل الأزهري عن ابن الأعرابي أن الإجذاع وَقْتٌ وليس بِسِنٍّ، ومرجعه إلي خصب السنة وكثرة اللبن والعشب، فقد يجذع الضأن لستة أشهر، وقد لا يجذع إلا بعد ثمانية أو عشرة

(3)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا تجوز التضحية بالجذع من الضأن إلا إذا عَسُرَ على المضحي وجود المسنة، ولكن الجمهور حملوا هذا

(1)

"المطلع" ص (125).

(2)

انظر: "غريب الحديث"(2/ 427)، "المجموع"(5/ 385، 397، 416)، "كشاف القناع"(6/ 384).

(3)

انظر: "تهذيب اللغة"(1/ 351)، "الزاهر" ص (226).

ص: 291

الحديث على الاستحباب والأفضلية، وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن، وأما الجذع من غير الضأن فلا يجزئ، وعلي هذا فتجزئ الجذعة من الضأن ولو مع وجود الثنية وتيسرها.

واستدلوا على ذلك بأدلة منها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله صارت لي جذعة، قال:(ضح بها)

(1)

.

وعن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الجذع يوفِّي مما يوفِّي منه الثني"

(2)

.

* الوجه الرابع: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أن من شروط الأضحية بلوغ السن المعتبرة شرعًا، وهو من الإبل ما تم له خمس سنين؛ لأن الإبل لا تُثْنِي إلا إذا تم لها خمس، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الغنم ضأنها ومعزها ما تم له سنة، إلا الضأن فيجزئ الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر -على القول بأن الجذع ما له ستة أشهر- وقد نقل النووي الإجماع على ذلك

(3)

.

ومما يدل على عدم إجزاء الجذع من المعز حديث أبي بردة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي جذعة من المعز هي أحب إلي من شاتين فهل تجزئ عني؟ قال: "نعم، ولا تجزئ عن أحد بعدك"

(4)

.

واشتراط السن في الأضحية دليل على أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم، وإلا لأجزأت بالصغير والكبير. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (5547).

(2)

رواه أبو دا ود (2799)، والنسائي (7/ 219)، وابن ماجه (3140)، وأحمد (38/ 204)، والحاكم (4/ 226) وقال:(حديث صحيح).

(3)

"المجموع"(8/ 294).

(4)

رواه البخاري (5556)، ومسلم (1961)(7).

ص: 292

‌ما يكره في الأضاحي

1361/ 7 - عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ: "أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَينَ وَالأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلَا ثَرْمَاءَ". أَخرَجَهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (2/ 45)، وأبو داود في كتاب "الأضاحي"، باب (ما يكره من الضحايا)(2804)، والترمذي (1498)، والنسائي (7/ 216 - 217)، وابن ماجه (3142)، والحاكم (4/ 224) من طرق، عن أبي إسحاق، عن شريح بن النعمان الهمداني، عن علي قال:

فذكره.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي. وفيه شريح بن النعمان الصائدي متكلم قيه، فقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه شبيه بالمجهول، وقال أبو إسحاق:(كان رجل صِدْقٍ) وذكره ابن حبان في "الثقات"

(1)

. وقال الذهبي: (وُثِّقَ) وفي موضع آخر: (جيد الأمر، صالح) وقال الحافظ: (صدوق).

وهذا الإسناد فيه انقطاع؛ لأن أبا إسحاق السبيعي مدلس، ولم يسمع الحديث من شريح بن النعمان، بينهما سعيد بن أشوع

(2)

، فقد رواه الحاكم

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 333)، "الثقات"(4/ 353)، "تهذيب الكمال"(12/ 450)، "الميزان"(2/ 269).

(2)

انظر: "علل ابن أبي حاتم"(1606)"العلل" للدارقطني (3/ 338).

ص: 293

من طريق قيس بن الربيع، ثنا أبو إسحاق، عن شريح، عن علي، فذكره بنحوه، قال قيس: قلت لأبي إسحاق: سمعته من شريح، قال: حدثني ابن أشوع عنه.

وابن أشوع ثقة

(1)

، وهو شيخ أبي إسحاق، وهنا زالت شبهة التدليس، وقيس بن الربيع تكلم الأئمة فيه، ولا سيما من قبل حفظه

(2)

.

وروي الحديث الجراح بن الضحاك الكندي، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أشوع، عن شريح بن النعمان، عن علي رضي الله عنه.

ثم إن الحديث أعل بالوقف فقد أورده البخاري في "تاريخه" من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن شريح مرفوعًا، وقال:(لم يثبت رفعه)

(3)

.

ورواه الثوري، عن ابن أشوع، عن علي موقوفًا، ورجح الدارقطني الوقف، فقال:(يشبه أن يكون القول قول الثوري، والله أعلم)

(4)

.

وروي الترمذي (1503)، وابن ماجه (3143)، والنسائي (7/ 217)، وأحمد (2/ 195)، وابن حبان (13/ 242) من طريق سلمة بن كهيل، عن حُجَيَّةَ بن عدي قال: سمعت عليًّا يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن.

قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) وفيه حجية بن عدي قال عنه أبو حاتم: (شيخ لا يحتج بحديثه، شبيه بالمجهول، شبيهًا بشريح بن النعمان الصائدي وهبيرة بن يحيىيم)، وقال عنه الذهبي:(صدوق إن شاء الله)، ووثقه العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(5)

.

(1)

انظر: "المحلى"(7/ 360)، "تهذيب التهذيب"(4/ 59 - 60).

(2)

"تهذيب الكمال"(24/ 25).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 314)، "تاريخ الثقات" ص (110)، "الثقات"(4/ 192)، "الميزان"(1/ 466)، "أحاديث أبي إسحاق السبيعي" ص (405 - 412).

(4)

"التاريخ الكبير"(4/ 230).

(5)

"العلل"(3/ 239، 298).

ص: 294

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أن نستشرف) الاستشراف: إما بمعنى الصحة والعِظَم، وذلك بأن تكون شريفة ليس فيها عيب

(1)

. أو بمعنى رفع البصر إلي الشيء للنظر إليه

(2)

، والظاهر أن المعنى الأول راجع للثاني.

والمعنى: أمرنا أن نتأمل العين والأذن وننظر إليهما بإمعان.

قوله: (ولا مقابلة) بفتح الباء هي الشاة التي قطعت أذنها من الإمام عرضًا وتركت معلقة.

قوله: (ولا مدابرة) بفتح الباء، وهي التي قطعت أذنها من خلف عرضًا وتركت معلقة من مؤخرها.

قوله: (ولا خرقاء) هي التي في أذنها ثقب مستدير، والخرق: الثقب، وفي بعض النسخ:(ولا خرماء) بالميم، وهي بالمعنى نفسه.

قوله: (ولا شرقاء) هي التي شقت أذنها طولًا، وقيل: الشرقاء: ما قطعت أذنها طولًا، والخرقاء: ما قطعت أذنها عرضًا. وفي بعض النسخ: "ولا ثرماء" وهي التي سقطت ثنيتها.

واعلم أن مصادر الحديث المذكورة قد اختلفت في هذه الألفاظ، تبعًا لاختلاف رواتها، فعند أبي داود والترمذي وابن ماجه وأحمد (2/ 210)، والحاكم:(ولا شرقاء ولا خرقاء)، وعند النسائي:(ولا بتراء ولا خرقاء)، وليس فيها:(ولا ثرماء)، وقد اختلفت -أيضًا- نسخ "البلوغ".

* الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على العيوب المكروهة في الأضحية، وهي التي لا تمنع الإجزاء، وإنما قيل: إنها مكروهة لورود النهي أو الأمر بعدم التضحية بما عاب بها، وليست مانعة من الإجزاء؛ لأن حديث البراء المتقدم خرج مخرج البيان والحصر؛ لأنه جواب سؤال، ولو كان غير العيوب المذكورة فيه مانعًا من الإجزاء للزم ذكره، وقد تقدم هذا.

(1)

"شرح السنة"(4/ 337)، "الشرح الممتع"(7/ 438).

(2)

انظر: "تحفة الأحوذي"(5/ 82).

ص: 295

فيكون الجمع بين حديث البراء وحديث علي رضي الله عنهما أن ما في حديث البراء مانع من الإجزاء، وما في حديث على موجب للكراهة غير مانع من الإجزاء، ولهذا فإن الترمذي ترجم على حديث البراء بقوله:(باب ما لا يجوز من الأضاحي) وعلى حديث علي: (باب ما يكره من الأضاحي).

وقد أُلحق بهذه العيوب أنواع أخرى منها ما يلي:

1 -

العضباء: وهي مقطوعة الأذن أو مكسورة القرن، فهذه تجزئ؛ لأن ذلك لا يُنْقِصُ لحمها؛ ولأنه يكثر وجوده، والكمال أولى، أما ما لا قرن له خِلْقة أو لا أذن له خلقة فتجوز التضحية به بلا كراهة، وإنما فارق العَضَبَ لورود النهي عنه، كما في حديث علي رضي الله عنه:(نهي أن يضحي بأعضب القرن أو الأذن)، وهو عيب؛ لأنه ربما دَمِيَ وآلم الشاة فيكون كالمرض، بخلاف الأجم فإنه حُسْنٌ في الخلقة ليس بعيب ولا مرض، والكمال أولى.

2 -

البتراء من الإبل والبقر والغنم: وهي التي قطع ذنبها أو بعضه، فتكره التضحية بها، أما مقطوعة الألية من الضأن فهذه لا تجزئ في الأضحية؛ لأن ذلك نقص بيّن في جزء مقصود منها، أما إذا كانت من نوعٍ لا ألية له بأصل الخلقة فإنها تجزئ إذ لا نقص فيها عن جنسها.

3 -

ما قطع ذكره قياسًا على العضباء، أما قطع الخصيتين فقط فليس بعيب، فتجوز التضحية به، وهو الخصي؛ لأن الخِصَا يُطَيّبُ اللحم ويزيد في السمن.

4 -

ما سقطت ثناياها أو غيرها من أسنانها، وهي الهتماء.

وتجزئ الأضحية بالجَدّاء، وهي التي توقف ضرعها عن الدَرِّ فنشف لبنها؛ لأنه لا نقص في لحمها ولا خلقتها، واللبن غير مقصود في الأضحية، بل توقف اللبن يزيد في السمن، ولو بقي فيها ضَرْعٌ ونشف آخر أجزأت من باب أولى بلا كراهة، وكذا تجزئ مقطوعة بعض حلمات ضرعها، كما تجزئ الأضحية بما لا ضرع لها، أو كان مقطوعًا.

فينبغي للمسلم أن يُعني باختيار الأضحية، فيحرص على أكمل الأضاحي

ص: 296

في جميع الصفات؛ لأن ذلك من تعظيم شعائر الله تعالى الدال على التقوي، قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، وهذا عام في جميع شعائر الله تعالى. ودلت الآية الثانية وهي وقوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] على أن البدن فرد من أفراد هذا العموم، فيكون تعظيم البدن من تعظيم شعائر الله، وقد تقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما:(الاستسمان والاستحسان والاستعظام).

وقد كان المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغالون في الهدي والأضاحي، يختارونه سمينًا حسنًا يعلنون بذلك عن تعظيم شعائر الله، مدفوعين بتقوى الله، جاء في "صحيح البخاري" قول أبي أمامة بن سهل:(كنا نُسَمِّنُ الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنُون)

(1)

.

وليحرص المسملم على تأمُّل الأضحية حال الشراء والتأكد من خلوها من العيوب المانعة من الإجزاء، وينتبه لتمام سنها، ويحرص على السلامة من قطع الأذن، وكسر القرن، فكلما كانت أغلي وأكمل فهي أحب إلي الله تعالى وأعظم لأجر صاحبها وأدلّ على تقواه، قال في "الاختيارات":(والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(10/ 9).

(2)

ص (120).

ص: 297

‌التوكيل في ذبح الهدي وتفريقه

1362/ 8 - عَنْ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَال: أَمَرَني رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَن أُقَسِّمَ لُحُومَها وَجُلُودَهَا وَجِلَالهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطيَ في جِزَارَيهَا مِنْهَا شَيئًا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الحج"، باب (الجِلَال للبدن)(1707)، ومسلم (1317) من طريق مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن علي رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (أمرني) أي: طلب مني طلب ذي سلطة، وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر.

قوله: (أن أقوم على بدنه) بضم الباء وإسكان الدال ويجوز ضمها؛ أي: إبله التي أهداها إلى البيت وكانت مائة.

قوله: (وأن أقسم لحومها) أي: أدفعه للمساكين، والمراد سوى ما أكل منه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه: (ثم أمر من كل بدنة بِبَضْعَةٍ فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها

)

(1)

.

قوله: (وجلالها) بكسر الجيم ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه وقاية له.

(1)

"صحيح مسلم"(1218).

ص: 298

قوله: (في جِزارتها) بكسر الجيم اسم للفعل الذي هو عمل الجزار، وقيل: إنه بالضم، ومعناه: ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته

(1)

.

* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية الهدي؛ لأن هذه البدن كانت هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكان مائة بدنة، قال النووي:(يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي إليها شيئًا من الغنم، وهي سنة أعرض عنها أكثر الناس أو كلهم في هذا الزمان)

(2)

.

* الوجه الرابع: مشروعية التصدق بلحم الهدي وجلده وجلاله إلا ما يسن أكله من لحمه؛ لأن الجلود تجري مجري اللحم في التصدق.

* الوجه الخامس: جواز التوكيل في قسم لحم الهدي والتصدق به.

* الوجه الساس: جواز الإجارة على ذبح الهدي وتكون الأجرة من غيره، فلا يجوز إعطاء الجزار منها شيئًا؛ لأن عطيته عوض عن عمله، فيكون في معنى بيع جزء منها، وقد جاء في بعض الروايات في الصحيح:(نحن نعطيه من عندنا) مؤكدًا هذا الحكم، وعلي هذا فلا يجوز بيع شيء من الهدي، والأضحيةُ كالهدي، فلا يُعطي الجزار أجرته منها، لما تقدم.

لكن إن دفع إلى جازرها شيئًا لفقره، أو على سبيل الهدية فلا بأس؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولي؛ لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها، وإن أعطاه أجرته كاملة أولًا، ثم أعطاه منها فهو أولي؛ لئلا تقع مسامحة في الأجر؛ لأجل ما يأخذه، فيكون من باب المعاوضة.

* الوجه السابع: الأضحية مقيسة على الهدي، فلا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا شحمها ولا جلدها؛ لأنها مال أُخْرِج لله تعالي فلم يجز الرجوع فيه، وحكى ابن المنذر عن أحمد وإسحاق جواز بيع الجلد والتصدق بثمنه، قال ابن رجب: (لو أبدل جلود الأضاحي بما يُنتفع به في

(1)

"فتح الباري"(3/ 556).

(2)

"المجموع"(8/ 356)، "الإيضاح" ص (364).

ص: 299

البيت من الآنية جاز، نص عليه؛ لأن ذلك يقوم مقام الانتفاع بالجلد نفسه في متاع البيت)

(1)

والله تعالى أعلم.

(1)

"القواعد"(3/ 75)، "مفيد الأنام"(2/ 480)، "أحكام الأضحية" ص (42) وما بعدها.

ص: 300

‌ما جاء أن البدنة والبقرة عن سبعة

1363/ 9 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَال: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الحج"، باب (الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة)(1318) من طريق مالك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:

فذكره.

وللحديث عند مسلم طرق أخرى، جاء في بعضها تصريح أبي الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الاشتراك في البدنة والبقرة وأنهما يجزيان عن سبعة أشخاص، وهذا الحديث نص في الهدي؛ لأنه كان عام الحديبية -كما تقدم في آخر الحج

(1)

-، والأضحية مقيسة على الهدي، وفيه دليل على أن سُبْعَ البقرة أو البدنة قائم مقام الشاة الواحدة، ومجزئ عما تجزئ عنه؛ لأن الواجب في الإحصار -على قول الجمهور

(1)

- والتمتعِ هَدْيٌ على كل واحد، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة، فدل على أن سبعها يحل محل الواحدة من الغنم ويكون بدلًا عنها.

أما ما ورد في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فَعَدَلَ

(1)

انظر: (5/ 367 - 368) من هذا الكتاب.

ص: 301

عشرة من الغنم ببعير

(1)

. فهذه واقعة عين، ولعل التعديل محمول على قلة الإبل أو نفاستها، وكثرة الغنم أو هزالها بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، وأما حديث الباب فهو حديث صريح، فيكون هو القاعدة في هذا الباب ما لم يحصل عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم لذلك

(2)

.

* الوجه الثالث: نقل ابن رشد وغيره الإجماع على أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد

(3)

، والمراد بذلك الاشتراك في الملك بأن يشترك شخصان فأكثر في شراء شاة ويضحيا بها، فهذا لا يجوز؛ لأن الأضحية عبادة وقربة إلى الله تعالى، فلا يجوز إيقاعها ولا التعبد بها إلا على الوجه المشروع زمنًا وعددًا وكيفية؛ ولأن التشريك في الملك لو كان جائزًا في غير الإبل والبقر لفعله الصحابة رضي الله عنهم لقوة المقتضي لفعله؛ لأنهم أحرص الناس على الخير، ومنهم فقراء كثيرون قد لا يستطيعون ثمن الأضحية كاملة، ولو فعلوه لنقل عنهم؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله لحاجة الأمة إليه.

أما الاشتراك في الثواب بأن يكون مالك الأضحية واحدًا ويشرك معه غيره من زوجته وأولاده أو غيرهم من الأحياء، أو يشرك معه من شاء من الأموات، فهذا جائز مهما كثر الأشخاص؛ لأن فضل الله تعالى واسع، وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في قصة أضحيته صلى الله عليه وسلم بالكبش وقوله عند ذبحه: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمدًا. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (4598)، ومسلم (1968).

(2)

"فتح الباري"(9/ 627).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 442).

ص: 302

‌باب العقيقة

العقيقة: هي الذبيحة التي تذبح للمولود.

وأصل العقيقة والعقيق والعِقَّة: شعر رأس المولود، ثم سميت الشاة التي تذبح عند حلقه عقيقة

(1)

؛ لأن هذا الشعر يحلق عند الذبح، والعرب قد تسمي الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه، وهذا المعنى نقله أبو عبيد عن الأصمعي وغيره

(2)

. وقد صار لفظ العقيقة حقيقة عرفية، إذا أُطلق لا يُفهم منه إلا إرادة ذبيحة المولود، وقيل: إن العقيقة مشتقة من العق وهو القطع، ومنه: عق والديه: إذا قطعهما ولم يبرهما، فسميت الشاة عقيقة؛ لأنه يقطع حلقها، وقد يشكل على هذا أن القطع عام؛ لأن كل ذبيحة يقطع حلقها، ومع هذا فقد نقل ابن عبد البر عن الإمام أحمد أنه أنكر تفسير أبي عبيد وما نقله عن الأصمعي وغيره، وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه، قال: ولا حجة لما قال أبو عبيد

(3)

.

ويقال للعقيقة: نسيكة لحديث عمرو بن شعيب الآتي: (من وُلدَ له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان

).

قال ابن عبد البر: (وكان الواجب -بظاهر هذا الحديث- أن يقال للذبيحة عن المولود: نسيكة ولا يقال: عقيقة، لكن لا أعلم أحدًا من العلماء مال إلي ذلك ولا قال به، وأظنهم -والله أعلم- تركوا العمل بهذا المعنى المدلول عليه من هذا الحديث لما صح عندهم في غيره من لفظ العقيقة

)

(4)

.

(1)

"الصحاح"(4/ 1527)، "النهاية"(3/ 276).

(2)

"غريب الحديث"(2/ 153).

(3)

"التمهيد"(4/ 310)، "الاستذكار"(15/ 369)، "تحفة المودود"(30).

(4)

"التمهيد"(4/ 306).

ص: 303

ولعل مراد ابن عبد البر: من المجتهدين، وإلا فقد سماها بعض الفقهاء نسيكة، وتسمي عند العامة في البلاد النجدية: تميمة. ولا أعلم لهذا الاسم أصلًا في الشرع، وقد يكون قصدهم تمام ما يتعلق بالمولود. والله أعلم.

وأما حكمتها فهي مظهر من مظاهر شكر الله تعالى على نعمه، ومن ذلك تجدد نعمة الله على الوالدين بهذا المولود الذي يؤمل نفعه وبره وطاعته.

ص: 304

‌ما جاء في مشروعية العقيقة

1364/ 1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَينِ كبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ وَعَبْدُ الْحَقِّ، لكِنْ رَجّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالهُ.

1365/ 2 - وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه أبو داود في كتاب "الأضاحي"، بابٌ (في العقيقة)(2841) من طريق عبد الوارث، وابن الجارود (911) من طريق محمد بن عمر العَقَدِي، كلاهما عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقد صحح الحديث ابن خزيمة وابن الجارود وعبد الحق

(1)

، وكذا ابن دقيق العيد، حيث أورده في "الإلمام"

(2)

.

لكن أُعل بالإرسال، فقد رواه ابن عيينة والثوري وحماد بن زيد وابن علية وآخرون عن أيوب، عن عكرمه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(3)

.

قال أبو حاتم: وهذا مرسلًا أصح، ووصف رواية الوصل بأنها وهم

(4)

. وبنحو ما قال أبو حاتم قال ابن الجارود، فإنه لما رواه موصولًا قال:(رواه الثوري وابن عيينة وحماد بن زيد وغيرهم عن أيوب لم يجاوزوا به عكرمة).

(1)

"الأحكام الوسطي"(4/ 141).

(2)

"الإلمام"(747)، "التلخيص"(4/ 161).

(3)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(7862)

(4)

"العلل"(1631).

ص: 305

وقد رواه عبد الرزاق (7862) عن معمر وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب، عن عكرمة مرسلًا.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد رواه ابن حبان (12/ 125)، والبزار (1235)، والطحاوي في "شرح المشكل" (1/ 456) من طريق ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن وحسين بكبشين.

وهذا الحديث رجاله ثقات، رجال الشيخين، إلا أن رواية جرير بن حازم، عن قتادة فيها كلام، فقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سألت ابن معين عن جرير فقال: ليس به باس، فقلت: إنه يحدث عن قتادة، عن أنس أحاديث مناكير، فقال:(ليس بشيء، هو عن قتادة ضعيف)

(1)

.

وقال ابن عدي: (هو مستقيم الحديث صالح إلا في روايته عن قتادة، فإنه يروي أشياء لا يرويها غيره، وجرير عندي من ثقات المسلمين، حدث عنه الأئمة)

(2)

. وقال أبو حاتم: (أخطأ جرير في هذا الحديث، إنما هو قتادة، عن عكرمة قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرسلًا)

(3)

. وقال البزار بعد أحاديث من رواية جرير عن قتادة: (وهذه الأحاديث لا نعلم أحدًا تابع جرير بن حازم عليها)

(4)

.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على مشروعية العقيقة، وهي سنة في قول عامة أهل العلم، وإنما الخلاف في وجوبها.

فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه إلى أن العقيقة سنة مؤكدة، قال الإمام مالك:(ليست العقيقة واجبة؛ ولكنها يستحب العمل بها، وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا)

(5)

.

(1)

"العلل" للإمام أحمد (3/ 10).

(2)

"الكامل"(2/ 130).

(3)

"العلل"(1633).

(4)

"مسند البزار"(13/ 467).

(5)

"الموطأ"(2/ 502)، "المهذب"(1/ 321)، "المغني"(13/ 393).

ص: 306

وقال ابن عبد البر: (الآثار كثيرة مرفوعة عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين في استحباب العمل بها وتأكد سنيتها)

(1)

.

واستدل الجمهور على ذلك بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "لا يحب الله العقوق"، وكأنه كره الاسم، قال -أي: السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نسألك عن أحدنا يولد له؟ فقال: "من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه

"

(2)

.

فقوله: (من أحب) تفويض إلي اختيار الفاعل، فيدل على أن العقيقة ليست بواجبة؛ لأن الواجب لا يقال فيه: من أحب فليفعل.

وذهب الحسن البصري

(3)

، والظاهرية

(4)

، إلي وجوب العقيقة، وهو رواية عن أحمد

(5)

، وهو قول الليث بن سعد مقيدًا وجوبها في اليوم السابع، وبعده غير واجبة

(6)

.

واستدلوا بحديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذي"

(7)

، قالوا: فهذا أمر، والأمر للوجوب.

كما استدلوا بحديث سمرة رضي الله عنه الآتي: "كل غلام مرتهن بعقيقته

" وبحديث عائشة رضي الله عنها الآتي -أيضًا-: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان

).

والقول الثالث: أن العقيقة تباح ولا تستحب، وهذا قول الحنفية؛ لأن

(1)

"التمهيد"(4/ 313).

(2)

رواه مالك (2/ 500)، وأبو داود (2842)، والنساني (7/ 162)، وأحمد (11/ 320 - 321) وسنده حسن، وقد أعل بالإرسال، لكن الموصول أرجح، انظر: رسالة "الأحاديث التي أشار أبو داود في سننه إلى تعارض الوصل والإرسال فيها" للشيخ تركي الغميز ص (295).

(3)

"الاستذكار"(15/ 371).

(4)

"المحلي"(7/ 162).

(5)

"الإنصاف"(4/ 110).

(6)

"الاستذكار"(15/ 372).

(7)

رواه البخاري تعليقًا (5472).

ص: 307

تشريع الأضحية نسخ كل دم كان قبلها من العقيقة وغيرها، فمن شاء فعل، ومن شاء لم يفعل

(1)

.

وهذا قول ضعيف، قال ابن عبد البر:(ليس ذبح الأضحي بناسخ للعقيقة عند جمهور العلماء، ولا جاء في الآثار المرفوعة ولا عن السلف ما يدل على ما قال محمد بن الحسن ولا أصل لقولهم في ذلك)

(2)

.

والظاهر -والله أعلم- أن العقيقة سنة مؤكدة، لا ينبغي للقادر تركها؛ لأنها سنة، وإحياء السنة مطلوب، قال أحمد:(إذا لم يكن عنده ما يعق واستقرض رجوت أن يُخْلِفَ الله عليه، أحيا سنة)

(3)

، قال ابن المنذر:(صدق أحمد، إحياء السنن واتباعها أفضل)

(4)

، ومراد أحمد بذلك: تأكيد سُنِّية العقيقة، ولعل المراد بقوله:(فاستقرض) من يرجو وفاء في المستقبل، أما الذي لا يرجو الوفاء في المستقبل ولا ينتظر مالًا من مُرَتَّبٍ أو غيره فلا ينبغي أن يقترض ليعق.

وأما أحاديث القول الثاني فهي مؤكِّدة لفعلها، وليست نصًّا صريحًا في الوجوب، وعلي فرض دلالتها على الوجوب فهي مصروفة إلي الندب بحديث عمرو بن شعيب المتقدم، ولو كانت العقيقة واجبة، لكان وجوبها معلومًا من الدين؛ لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، وتعم به البلوي، ولَبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوبها للأمة بيانًا عامًّا كافيًا تقوم به الحجة، وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم أمر العقيقة بمحبة فاعلها، كما تقدم

(5)

.

* الوجه الثالث: استدل الإمام مالك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا على أن الذكر والأنثى سواء، فيعق عن كل واحد منهما بشاة، لقوله:(عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا). قال في "الموطأ": (الأمر عندنا في العقيقة أن

(1)

"بدائع الصنائع"(5/ 169).

(2)

"الاستذكار"(15/ 373).

(3)

"تحفة المودود" ص (31).

(4)

"الإشراف"(3/ 421)، "المغني"(13/ 395).

(5)

"تحفة المودود" ص (33).

ص: 308

من عق فإنما يعق عن ولده بشاة شاة الله الذكور والإناث

)

(1)

.

وذهب الجمهور من أهل العلم إلي تفضيل الذكر على الأنثى في العقيقة، فعن الغلام شاتان من الغنم -ولو من المعز- ذكورها وإناثها، وعن الجارية شاة، لحديث عائشة رضي الله عنها الآتي وغيره من الأحاديث، قال ابن القيم:(التفضيل تابع لشرف الذكر، وما ميزه الله به على الأنثى، ولما كانت النعمة على الوالد أتم، والسرور والفرحة به أكمل، كان الشكران عليه أكثر؛ فإنه كلما كثرت النعمة، كان شكرها أكثر، والله أعلم)

(2)

. وقد رجح ابن القيم القول بالتفريق على القول بالمساواة من ثمانية أوجه، قال الشيخ محمد بن إبراهيم:(ولا يزيد على اثنتين، إلا إن كان من يريد دعوتهم كثيرين، والثنتان لا تكفيهم فلا بأس)

(3)

.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد تقدم إعلاله، وقد ورد عند النسائي

(4)

، من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ:(عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبشين كبشين)، ولو صحت هذه الرواية لكانت موافقة للأحاديث الأخرى القولية الدالة على التفضيل

(5)

، لكنها معلولة، وعلي تقدير ثبوت رواية:(كبشًا كبشًا) فليس فيها ما يرد الأحاديث الدالة على التثنية للغلام، بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار على شاة واحدة، وهو كذلك، فإن العدد ليس شرطًا بل هو مستحب، فلو عق عن الذكر بشاة واحدة أجزأ

(6)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الموطأ"(2/ 502)، وانظر:"شرح الزرقاني على الموطأ"(3/ 98).

(2)

"إعلام الموقعين"(2/ 150)، وانظر:"زاد المعاد"(2/ 328).

(3)

"فتاوي ابن إبراهيم"(6/ 158).

(4)

"السنن"(7/ 165 - 166) وهو من رواية إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة به. وقد تفرد به ابن طهمان، وأيضًا إذا ثبت عن قتادة فقد خالفه أيوب في الرواية الراجحة عنه فقد رواه عن عكرمة مرسلًا كما تقدم.

(5)

انظر: "تحفة المودود" ص (38).

(6)

"المغني"(13/ 396).

ص: 309

‌مقدار العقيقة

1366/ 3 - عَن عَائشَةَ رضي الله عنها أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ"، رواهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1367/ 4 - وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيّةِ نَحْوَهُ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهي أم كرز -بضم الكاف واسكان الراء آخره زاي- الخزاعية ثم الكعبية المكية، قال ابن سعد: أسلمت يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحوم بُدْنه، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث يسيرة، منها حديث العقيقة، روي عنها عطاء ومجاهد وسباع بن ثابت وحبيبة بنت ميسرة

(1)

.

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه الترمذي في أبواب "الأضاحي"، باب (ما جاء في العقيقة)(1513)، وابن ماجه (3163)، وأحمد (40/ 30) من طريق عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهَك

(2)

، أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الله فسألوها عن العقيقة فأجابتهم أن عائشة أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة.

هذا لفظ الترمذي وأحد ألفاظ أحمد، وليس فيه لفظة:(أن يُعق) وإنما هي عند ابن ماجه، وأحمد في رواية أخرى.

(1)

"الاستيعاب"(13/ 269)، "الإصابة"(13/ 274).

(2)

ماهك: بفتح الهاء. انظر: "المغني" ص (220).

ص: 310

قال الترمذي: (حديث عائشة حديث حسن صحيح)، والحديث فيه عبد الله بن عثمان بن خثيم القارئ المكي، وهو متكلم فيه، فقد وثقه ابن معين والعجلي، وقال أبو حاتم:(ما به بأس، صالح الحديث)، وقال النسائي:(ثقة)، وقال مرة أخرى:(ليس بالقوي)

(1)

، وقال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق)، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح.

وأما حديث أم كرز الكعبية رضي الله عنها فقد رواه أبو داود (2835)، وابن ماجه (3162)، وأحمد (45/ 113) من طرق عن سفيان، حدثنا عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أقروا الطير على مَكِنَاتها"

(2)

، قالت: وسمعته يقول: "عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، لا بضركم أذكرانًا كن أم إناثًا" هذا لفظ أبي داود.

ورواه النسائي (7/ 165) عن قتيبة، عن سفيان، وأبو داود (2836)، وأحمد (45/ 119) عن حماد بن زيد، والترمذي (1516)، والنسائي (7/ 165)، وأحمد (45/ 371) عن ابن جريج، ثلاثتهم عن عبيد الله، عن سباع، عن أم كرز، ولم يذكروا: عن أبيه.

فيظهر من ذلك أن الراجح عن سفيان إثباب: عن أبيه، لكنه وهم في ذلك، قال الإمام أحمد في "مسنده":(سفيان يهم في هذه الأحاديث، عبيد الله سمعها من سباع بن ثابت)، ولما ذكر أبو داود حديث حماد قال عقبه:(هذا هو الحديث، وحديث سفيان وهم)، والحديث له طرق أخرى، وفي أسانيده اختلاف

(3)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (عن الغلام شاتان) الشاة لفظ يطلق في الشرع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز.

(1)

"تهذيب التهذيب"(5/ 275).

(2)

أي: أمكنتها. وهو نهي عن التطير. انظر: "النهاية"(4/ 350).

(3)

انظر: "العلل" للدارقطني (15/ 394).

ص: 311

قوله: (مكافئتان) بكسر الفاء بعدها همزة، من كافأه إذا ساواه، قال أبو داود في "سننه": سمعت أحمد قال: (مكافئتان: مستويتان أو متقاربتان)، فيكون المراد التكافؤ في السن والسمن فلا تكون إحداهما أكبر من الأخرى أو أسمن

(1)

. وقد وقع عند أبي داود في حديث أم كرز: (شاتان مثلان).

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن العقيقة مشروعة في حق الذكر والأنثى، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، وقال الحسن وقتادة: يعق عن الذكر، ولا يعق عن الأنثى

(2)

، لحديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريفوا عنه دمًا

الحديث)

(3)

، ومفهومه أن الجارية لا يعق عنها.

والصحيح القول الأول؛ لأن هذا المفهوم معارض بالمنطوق، وهو حديث عائشة رضي الله عنها وغيره من الأحاديث الدالة صراحة على أن العقيقة مشروعة في حق الذكر والأنثى.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على تفضيل الغلام على الجارية في العقيقة، وقد تقدم الكلام على ذلك.

° الوجه السادس: استدل بعض العلماء بإطلاق لفظ الشاة والشاتين عن الشروط والأوصاف على أنه لا يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، ورجح الشركاني هذا القول

(4)

.

ومن اشترط ذلك فهو بالقياس على الأضحية لا بالنص، فيشترط أن تبلغ السن المعتبرة، فلا يجزئ من الغنم ضأنها ومعزها إلا ما تم له سنة، ويجزئ الجذع من الضأن، وهو ما تم له ستة أشهر، ولا بد من خلوها من العيوب

(1)

انظر: (معالم السنن)(4/ 123)، "الفائق"(3/ 267)، "حاشية السندي على النسائي"(7/ 164).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(8/ 57)، "الإشراف"(3/ 415).

(3)

الحديث تقدم، وانظر:"فتح الباري"(9/ 592).

(4)

"نيل الأوطار"(5/ 156).

ص: 312

المانعة من الإجزاء وهي: العور البين، والمرض البين، والعرج البين، والكبر المتناهي، وهذا قول الحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية، وعزاه ابن عبد البر إلى جمهور العلماء

(1)

.

وذلك لأن العقيقة ذبح مسنون إما وجوبًا أو استحبابًا؛ ولأنه شرع بوصف التمام والكمال، فشُرع في حق الغلام شاتان مكافئتان، قال الإمام مالك:(العقيقة بمنزلة النسك والضحايا، لا يجوز فيها عوراء، ولا عجفاء، ولا مكسورة، ولا مريضة، ولا يباع من لحمها شيء أو جلودها، ويكسر عظمها، ويأكل أهلها من لحمها، ويتصدقون منها، ولا يمس الصبي بشيء من دمها)

(2)

.

° الوجه السابع: استدل العلماء بذكر الشاة والكبش في أحاديث العقيقة على أنها لا تكون إلا من الغنم، وقد روى عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنا يوصف بن مَاهِك قال: دخلت أنا وابن أبي مليكة على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وولدت للمنذر بن الزبير غلامًا، فقلت: هَلَّا عققتِ جزورًا على ابنك، فقالت: معاذ الله، كانت عمتي عائشة تقول: على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة

(3)

.

ورجح هذا القول ابن حزم والحافظ ابن حجر

(4)

.

والقول الثاني: أنها تجزئ من الإبل والبقر؛ لعموم؛ (فأهريقوا عنه دمًا) كما استدلوا بالقياس فقالوا: إن العقيقة نسك، فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل، قياسًا على الهدي، وعزا ابن حجر القول بإجزاء البقر والإبل إلى الجمهور، وقد جاء في هذا عن أنس رضي الله عنه أنه كان يعق عن بنيه جزورًا

(5)

.

(1)

"التمهيد"(4/ 320)، "المغني"(13/ 399)، "المجموع"(8/ 429).

(2)

"الموطأ"(2/ 502).

(3)

"المصنف"(7956)، ورواه الطحاوي في "شرح المشكل"(3/ 68)، والبيهقي (9/ 301)، وابن حزم (7/ 525)، والحديث له طرق. انظر:"الإرواء"(4/ 390).

(4)

"فتح الباري"(9/ 593).

(5)

رواه ابن أبي شيبة (7/ 58)، والطبراني في "الكبير"(1/ 244)، وفي سند ابن أبي=

ص: 313

ويمكن أن يكون قوله: (دمًا) من المجمل. وقد فسر بقوله: (شاتان

).

ومن قال يجوز العق بالبقر أو الإبل قال بإخراجه كاملًا. والله تعالى أعلم.

= شيبة عنعنة الحسن البصري، لكن تابعه قتادة عند الطبراني، وسند الطبراني صحيح، رجاله رجال الشيخين -كما قال الهيثمي- خلا شيخ الطبراني، وهو أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم البصري الكشي، ويقال: الكجي، وثقه الدارقطني وغيره. انظر:"تراجم شيوخ الطبراني" ص (66).

ص: 314

‌من أحكام المولود

1368/ 5 - عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (33/ 271)، وأبو داود في كتاب "الأضاحي"، بابُ (في العقيقة)(2838)، والترمذي (1522)، والنسائي (7/ 166)، وابن ماجه (3165)، من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، ورواه الطحاوي في "شرح المشكل"(3/ 58) من طريق أشعث بن عبد الملك، وعبد الرزاق (4/ 331) عن معمر، عن رجل، كلاهما عن الحسن مرسلًا، والصواب الوصل؛ لأن من وصله أوثق وأكثر ممن أرسله.

وقد اختلف العلماء في سماع الحسن من سمرة على أقوال ثلاثة: وهي أنه سمع منه مطلقًا، وأنه لم يسمع منه مطلقًا وإنما هو كتاب، وأنه سمع منه حديث العقيقة فقط، وقد مضى ذكر ذلك في (باب الغسل) من كتاب "الطهارة" عند الحديث (115).

والذي يظهر أن حديث العقيقة هذا سمعه الحسن من سمرة لثبوت التصريح بذلك، وأما غيره فهو محل نظر، وقد ذكر البخاري في "صحيحه" عن حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ممن سمع

ص: 315

حديث العقيقة فسألته، قال: من سمرة بن جندب

(1)

.

قال الحافظ: (وأعل بعضهم الحديث بأنه من رواية الحسن عن سمرة وهو مدلس، لكن روى البخاري في "صحيحه" من طريق الحسن أنه سمع حديث العقيقة من سمرة، كأنه عنى هذا)

(2)

.

وقد روى الحديث عن قتادة جماعة منهم سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وحماد بن سلمة، وآخرون، وكلهم قالوا:(ويحلق ويسَمَّى) إلا همام بن يحيى فإنه تفرد من بين أصحاب قتادة فقال: (ويحلق رأسه ويدمَّى) وكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به، قال:(إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق)، وقد حكم أبو داود عليه بالوهم وأنه لا يؤخذ بقوله في ذلك؛ لأنه خالف جماعة من الثقات فلم يذكروا ذلك، وقد تكلم العلماء في حفظ همام

(3)

، لكن يشكل على هذا -كما قال الحافظ

(4)

- ما ذكره قتادة عن صفة التدمية، فيبعد أن يكون همام وهم على قتادة، إلا أن يقال إن أصل الحديث:(ويسَمَّى) وأن قتادة ذكر الدم لحكاية فعل أهل الجاهلية، قال ابن عبد البر:(لا يُحتمل همام في هذا الذي انفرد به، فإن كان حفظه فهو منسوخ)

(5)

.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإماطة الأذى عن رأس الصبي، والدم أذى

(6)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (كل غلام) أريد به مطلق المولود ذكرًا كان أم أنثى، كذا قال السندي

(7)

، ويحتمل إبقاء اللفظ على ظاهره، لقوله:(ويحلق رأسه)، إلا أن يقال: إن الحلق عام للذكر والأنثى، كما سيأتي.

(1)

"فتح الباري"(9/ 590)، وانظر:"التاريخ الكبير"(2/ 290).

(2)

"التلخيص"(4/ 161).

(3)

انظر: "تهذيب التهذيب"(11/ 60).

(4)

"فتح الباري"(9/ 508).

(5)

انظر: "التمهيد"(4/ 318).

(6)

انظر: "الاستذكار"(15/ 381).

(7)

"حاشية السندي على سنن النسائي"(7/ 166).

ص: 316

قوله: (مرتهن بعقيقته) اختلف في معنى هذا على أقوال:

1 -

أن نشأة المولود الصحيحة وكمال الانتفاع به رهينة بالعقيقة، كما أن الرهن لا يُنتفع به كمال الانتفاع إلا بعد فكه.

2 -

أنه مرهون ومحبوس عن الشفاعة لوالديه إن مات ولم يعق، وهذا قول عطاء الخرساني ومحمد بن مطرف، وهو مروي عن الإمام أحمد.

وقد ضعف هذا ابن القيم بما خلاصته أن الشفاعة معلقة بإذن الله للشافع أن يشفع ورضاه عن المشفوع له، لا بقرابة ولا بنوة ولا أبوة

(1)

. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: فيه نظر.

3 -

أن العقيقة لازمة لزوم الرهن في يد المرتهن.

4 -

أن العقيقة سبب لفكِّ رهان المولود وتخليصه من الشيطان الذي يَعْلَقُ به من حين خروجه إلى الدنيا، فهي سبب لحسن نشأة الولد ودوام سلامته وطول حياته في حفظه من ضرر الشيطان، وسعيه في مصالح آخرته

(2)

.

وقال آخرون: بالإمساك عن تفسيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسره ولا يجوز القول على الله بغير علم، فهو مرتهن، والله أعلم بهذا الارتهان، والمقصود الحث على العقيقة

(3)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن وقت ذبح العقيقة هو اليوم السابع، وقد ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعقّ

(4)

.

(1)

"تحفة المودود" ص (22، 41).

(2)

انظر: "زاد المعاد"(2/ 326)، "تحفة المودود" ص (39، 42)، "شرح الزرقاني على الموطأ"(3/ 99).

(3)

ذكر هذا الشيخ عبد العزيز بن باز، ورجحه.

(4)

رواه الترمذي (2832)، وابن أبي شيبة (8/ 52) من طريق شريك، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب به. قال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب)، وفيه شريك، وهو ضعيف عند التفرد، وابن إسحاق، وهو مدلس وقد عنعنه.

ص: 317

والظاهر أن التقييد باليوم السابع ليس من باب الإلزام، وإنما هو على وجه الاستحباب، قال ابن القيم:(والظاهر أن التقييد بذلك استحباب، وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت)

(1)

.

وقال ابن حزم: (يذبح كل ذلك في اليوم السابع من الولادة ولا تجزئ قبل اليوم السابع أصلًا، فإن لم يذبح في اليوم السابع ذبح بعد ذلك متى أمكن فرضًا)

(2)

.

فإن فات اليوم السابع ففي أي يوم ذبح فيه أجزأ، وقد ورد حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تذبح لسبع، ولأربع عشرة، ولإحدى وعشرين" ولا حجة فيه؛ لأنه ضعيف

(3)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن تسمية المولود تكون في اليوم السابع، وقد ورد أدلة أخرى مفادها أن التسمية غداة يولد، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة فلام فسميته باسم أبي إبراهيم"

(4)

، وعنه -أيضًا- رضي الله عنه قال: انطلقت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد

إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبت الأنصار إلا حب التمر" وسماه عبد الله

(5)

.

وقد بوب البخاري على هذه الأحاديث وما في معناها بقوله: (باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه) فأفاد بذلك عن طريق المفهوم أن من كان له عقيقة فإن التسمية تؤخر لليوم السابع، كما في حديث سمرة وغيره، ومن لا عقيقة له فلا بأس بتسميته غداة يولد كما في هذه الأحاديث.

(1)

"تحفة المودود" ص (35).

(2)

"المحلى"(7/ 523).

(3)

أخرجه الطبراني في "الصغير"(267)، والبيهقي (9/ 303) من طريق إسماعيل بن مسلم، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه مرفوعًا، قال الطبراني:(لم يروه عن قتادة إلا إسماعيل)، وإسماعيل ضعيف، بل قال النسائي:(متروك الحديث، ليس بثقة).

(4)

رواه مسلم (2149).

(5)

رواه البخاري (5470)، ومسلم (2144).

ص: 318

قال الحافظ ابن حجر على الترجمة المذكورة: (وهو جمع لطيف لم أره لغير البخاري)

(1)

.

لكن قد يشكل على هذا أنه لا دليل على أن المذكورين في هذه الأحاديث لم يعق عنهم؛ لأن عدم العلم بالشيء لا يلزم منه عدم الشيء، ويكون هذا من باب التعارض بين القول والفعل، فيقدم القول، ولا يقال بالنسخ كما ذهب إليه الطحاوي

(2)

؛ لأن الفعل يطرقه احتمالات عديدة، كما في الأصول، ولهذا قال ابن القيم:(تجوز التسمية قبل السابع وبعده، والأمر فيه واسع)

(3)

، وبهذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز، ولو قيل: إن كان الاسم قد هُيِّئ قبل الولادة سمي بعدها، أما إذا لم يُهيأ فلا بأس بتأخيره إلى السابع، لكان ذلك وجيهًا

(4)

.

وينبغي أن يعلم أن اختيار الاسم له ثلاث دلالات:

الأولى: الارتباط بالسنة في تحسين الاسم.

الثانية: سلامة التفكير من أي مؤثر.

الثالثة: الإحسان إلى المولود في:

1 -

اختيار أحسن الأسماء.

2 -

قلة الحروف.

3 -

خفة النطق.

4 -

مراعاة الملاءمة لأهل ملته وطبقته ومرتبته

(5)

.

° الوجه الخامس: ظاهر الأحاديث أن العقيقة مشروعة في حق الصغير وأن المخاطب بها هو الأب شكرًا لله تعالى الذي رزقه الولد، فإن ذبحها غيره

(1)

"فتح الباري"(9/ 588).

(2)

"شرح مشكل الآثار"(1/ 456). وانظر: "شرح علل الترمذي"(1/ 29).

(3)

"تحفة المودود" ص (66).

(4)

انظر: "حاشية ابن قاسم على الروض"(4/ 245)، "الشرح الممتع"(7/ 494 - 495).

(5)

انظر: "تسمية المولود" ص (40).

ص: 319

أجزأ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين

(1)

.

وإذا بلغ الطفل ولم يعق عنه فلا عقيقة له، وقد وصف ابن عبد البر قول من قال: إن الكبير يعق عن نفسه بأنه قول شاذ

(2)

، وجاء في "الدرر السنية" أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب سئل هل يُعَقُّ عن الكبير، فأجاب: العقيقة عن الكبير ما علمت لها أصلًا، وهذا يوافق سؤال عبد الملك الميموني لأحمد هل يعق عنه كبيرًا؟ قال: لم أسمع في الكبير شيئًا، وقد ورد عنه في موضع آخر: قلت لأبي عبد الله: إذا لم يعق عنه هل يعق عن نفسه كبيرًا؛ فذكر شيئًا يروى عن الكبير، ضعفه، ورأيته يستحسن إن لم يعق عنه صغيرًا أن يعق عنه كبيرًا، وقال: إن فعله إنسان لم أكرهه

(3)

.

والظاهر أن مراده حديث أنس رضي الله عنه قال: عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة

(4)

.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على مشروعية حلق رأس المولود في اليوم السابع، قال ابن عبد البر:(أما حلق رأس الصبي عند العقيقة فإن العلماء كانوا يستحبون ذلك)

(5)

.

واستحب الفقهاء إذا حلقه أن يتصدق بوزن شعره من الفضة، لحديث أبي رافع رضي الله عنه قال: لما ولدت فاطمة حسنًا، قالت: يا رسول الله، ألا أَعُقُّ عن ابني بدم، قال: لا، ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين أو الأوفاض. وكان الأوفاض ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجين في المسجد أو في الصُّفَّةِ، ففعلت ذلك، فلما ولدت حسينًا فعلت مثل ذلك

(6)

.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "الاستذكار"(15/ 376).

(3)

انظر: "تحفة المودود" ص (51)، "الدرر السنية"(3/ 414).

(4)

رواه البيهقي (9/ 300) وقال: (إنه منكر)، وقال النووي في "المجموع" (8/ 431):(حديث باطل؛ لأنه من رواية عبد الله بن محرر، وهو متروك)، وانظر:"فتح الباري"(9/ 595).

(5)

"التمهيد"(4/ 318).

(6)

رواه أحمد (45/ 163)، وابن أبي شيبة (8/ 235)، والبيهقي (9/ 304) من طرق =

ص: 320

قال الحافظ في "التلخيص": (الروايات كلها متفقة على ذكر التصدق بالفضة، وليس في شيء منها ذكر الذهب)

(1)

.

والظاهر أن مراده أنه لم يثبت، وإلا فقد ورد ذكر الذهب في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لكن فيه رواد بن الجراح، وهو ضعيف جدًّا

(2)

.

والحكمة من هذا الحلق:

1 -

حكمة صحية: لأن في إزالة شعر المولود تقوية له وفتحًا لمسام الرأس، وتقوية كذلك لحاسة البصر والشم والسمع

(3)

.

2 -

حكمة اجتماعية: وهي أن التصدق بوزن شعره من الفضة مظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي بالصدقة على الفقراء والمستحقين.

ولا ينبغي للأب أن يغفل عن هذه السنة أو يُغْفِلَهَا متذرعًا بخشية الإضرار بالمولود أو أنه لا يحسن الحلاقة، فبالإمكان أن يقوم بذلك غيره ممن لديه خبرة بالحلاقة ليحصل له بذلك بركة اتباع السنة، وأجر الصدقة على الفقراء، فإن لم يمكن الحلق تحرى زنة الشعر وتصدق به. كما قال بعض أهل العلم

(4)

.

ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب حلق رأس الذكر، أما الأنثى ففيها قولان:

الأول: أن يحلق رأسها كما يحلق رأس الذكر، وهو قول الجمهور من

= عن شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع به، وسنده ضعيف، وله أسانيد مختلفة مدارها على ابن عقيل، وهو ضعيف، وله شاهد مرسل رواه مالك في "الموطأ"(1/ 501)، والبيهقي (9/ 299) عن محمد بن علي بن الحسين أنه قال: وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر حسنٍ وحسين فتصدقت بوزنه فضة. وانظر: "الاستذكار"(15/ 370)، "تحفة المودود" ص (57).

(1)

"التلخيص"(6/ 3046).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط"(1/ 334). وانظر: "التلخيص"(6/ 3046).

(3)

"تحفة المودود" ص (40 - 41).

(4)

انظر: "الشرح الكبير بحاشية الدسوقي"(2/ 126)، "الشرح الممتع"(7/ 495).

ص: 321

المالكية والشافعية وبعض الحنابلة

(1)

، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم السابع للمولود فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى، وسموه"

(2)

؛ ولأن في حلقه فوائد كما في حلق رأس الذكر.

والقول الثاني: أن الحلق خاص بالذكر دون الأنثى، وهو قول الحنابلة؛ لأن الحديث ورد بلفظ:(الغلام) فلا يشمل الأنثى

(3)

.

ومن رجح القول الأول قال: لأن لفظ: (غلام) في حديث سمرة لم يقصد به التخصيص بالذكر؛ لأن الذكر والأنثى يشتركان في التسمية والعقيقة، فكذا الحلق إذ لم يرد له تخصيص، ومال إلى هذا الصنعاني، فإنه قال عن حديث سمرة:(وظاهره عام لحلق رأس الغلام والجارية)

(4)

، ومما يؤيد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإماطة الأذى عن المولود، كما تقدم، وقد فسر أهل العلم الأذى بشعر الرأس وما يعلق به من أثر الولادة، ولا يفهم من ذلك إزالة الأذى عن الذكر دون الأنثى. والله تعالى أعلم.

(1)

"المجموع"(8/ 432)، "الشرح الكبير بحاشية الدسوقي"(2/ 126)، "فتح الباري"(9/ 510)، "الإنصاف"(4/ 111).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط"(2/ 526)؛ وقال الحافظ في "الفتح"(9/ 589): (سنده حسن).

(3)

"المغني"(13/ 397)، "الإنصاف"(4/ 111).

(4)

"سبل السلام"(4/ 203).

ص: 322

‌كتاب الأيمان والنذور

الأيمان: بفتح الهمزة جمع يمين، وأصل اليمين: اليد اليمنى، وأطلقت على الحلف والقسم؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه.

وشرعًا: توكيد الشيء بذكر اسم الله أو صفة من صفاته على وجه مخصوص.

وهذا تعريف اليمين المشروعة التي يُحلف بها، ومعنى (على وجه مخصوص) أي: على وجه القسم، بخلاف ما لو قال: الله أكبر قدم زيد، فقد ذكر اسم الله لكنه ليس بالصيغة المخصوصة.

والأصل في اليمين الإباحة على قول الجمهور من أهل العلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف، ولو لم يكن الحلف جائزًا لكان أبعد الناس عنه، قال ابن القيم:(حلف النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعًا)

(1)

.

وذهبت الشافعية إلى أن الأصل في اليمين الكراهة إلا إذا كانت على طاعة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ} [البقرة: 224]؛ ولأنه ربما عجز عن الوفاء بها

(2)

. والأول أرجح.

واليمين تعتريها الأحكام التكليفية الخمسة حسب ما يقتضيه الحال على تفاصيل مدونة في كتب الفقه

(3)

.

(1)

"زاد المعاد"(1/ 163).

(2)

انظر: "الأم"(8/ 150)، "مغني المحتاج"(4/ 325)، "فتح الباري"(11/ 529).

(3)

"المغني"(13/ 440).

ص: 323

والحكمة من مشروعيتها قصد توكيد الخبر ثبوتًا أو نفيًا، وذلك إما بحمل المخاطب على التصديق بالخبر، أو القيام بما يتضمنه، أو تقوية عزم الحالف نفسه على فعل أو ترك

(1)

.

وينبغي للمكلف حفظ يمينه وعدم الإكثار منها بحيث كلما ذكر شيئًا حلف عليه، ما لم توجد مصلحة شرعية؛ لأن الله تعالى قال:{وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} [المائدة: 89] وحفظ اليمين له ثلاثة معان:

1 -

حفظها ابتداء، وذلك بعدم كثرة الحلف.

2 -

حفظها وسطًا، وذلك بعدم الحنث فيها إلا إذا كان الحنث مشروعًا، كما سيأتي في أحاديث الأيمان.

3 -

حفظها انتهاء في إخراج الكفارة بعد الحنث، وكل هذه المعاني ذكرها المفسرون

(2)

.

ولا ريب أن الحذر من كثرة الأيمان أسلم للإنسان وأبرأ لذمته؛ لأن كثرة الحلف تؤدي إلى الاستخفاف باليمين وعدم تعظيم الله تعالى، ومن اعتاد كثرة الحلف كَذَبَ في يمينه وتهاون في الكفارة

(3)

.

وأما النذور فهي جمع نذر، وهو مصدر نذرت أنْذُر -بكسر الذال وضمها- نذرًا، ومعناه: الإيجاب، فيقال: نذر دم فلان أي: أوجب قتله.

وشرعًا: التزام المكلف شيئًا لم يكن واجبًا عليه بأصل الشرع منجزًا أو معلقًا. فالمنجز نحو: لله علي صيام ثلاثة أيام، والمعلق نحو: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا.

(1)

انظر: "بدائع الصنائع"(3/ 3)، "المغني"(13/ 435)، "الموسوعة الفقهية الكويتية"(7/ 245).

(2)

انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 650)، "تيسير العزيز الحميد" ص (711)، "القول المفيد"(3/ 221).

(3)

"تيسير العزيز الحميد" ص (711).

ص: 324

وسيأتي -إن شاء الله- حكم النذر.

وقد جمع الحافظ -كما فعل بعض المحدثين والفقهاء- بين الأيمان والنذور لأمرين:

1 -

تشابههما في المعنى؛ لأن كلًّا منهما يفيد التأكيد والعزم.

2 -

اشتراكهما في بعض الأحكام، ومنها الكفارة

(1)

، وقد جاء في الحديث:"كفارة النذر كفارة يمين" وسيأتي.

وقد ذكر الحافظ عشرة أحاديث في أحكام الأيمان ثم ساق بعدها ثلاثة عشر حديثًا في أحكام النذر.

(1)

انظر: "مغني المحتاج"(4/ 354).

ص: 325

‌وجوب الحلف بالله والنهي عن الحلف بغيره

1369/ 1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ في رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِالله، أَوْ لِيَصْمُتْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1370/ 2 - وَفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إلا بالله، ولا تَحْلِفُوا بِاللهِ إلا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ".

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، بابٌ (لا تحلفوا بآبائكم)(6646)، ومسلم (1646)(3) من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، بابٌ (في كراهية الحلف بالآباء)(3248)، والنسائي (7/ 5) من طريق عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، قال: حدثنا عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث.

والحديث رجاله ثقات، لكنه أُعل بالإرسال، فقد ذكر الدارقطني أنه رواه عوف الأعرابي، عن ابن سيرين -كما تقدم- وأن غيره يرويه عن

ص: 326

ابن سيرين مرسلًا، ثم قال:(وهو الصحيح)

(1)

.

ولعل الحافظ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه أعم مما قبله.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (في ركب) هم ركاب الإبل، وهو اسم جمع لا مفرد له من لفظه، أو جَمْعٌ مفرده راكب، ويطلق على العشرة فصاعدًا، وقد يطلق على ركاب الخيل.

قوله: (وعمر يحلف بأبيه) أي: يقول: وأبي وأبي على وجه القسم به، والظاهر أن هذا جارٍ على عادة قريش؛ لأنها كانت تحلف بآبائها، كما ثبت في "صحيح مسلم"

(2)

، ولذا قال عمر رضي الله عنه:(فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا)

(3)

؛ أي: حاكيًا عن غيري.

قوله: (ألا إن الله ينهاكم) هذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات وهي: ألا؛ لأنها أداة تنبيه، وإن، واسمية الجملة.

قوله: (أن تحلفوا بآبائكم) جمع أب ويشمل الأب والجد وإن علا، وتخصيص الآباء؛ لأنه سبب الحديث، أو لكونه غالبًا على ألسنتهم لما تقدم من أن قريشًا كانت تحلف بآبائها، فلا يفهم منه جواز الحلف بغير الآباء، لقوله:(فمن كان حالفًا فليحلف بالله).

قوله: (فليحلف بالله) أي: بهذا الاسم أو بغيره من أسماء الله وصفاته، نحو: لا ومقلب القلوب، كما سيأتي إن شاء الله.

قوله: (أو ليصمت) أي: لا يحلف، لا أنه يلزمه الصمت، وهو بضم الميم -على المشهور- ماضيه صَمَتَ من باب قتل، والقياس الصرفي كسرها؛ لأن قياس فَعَلَ بفتح العين يَفْعِلُ بكسرها، كضرب يضرب.

(1)

"العلل"(10/ 57).

(2)

"صحيح مسلم"(1646).

(3)

رواه البخاري (6647)، ومسلم (1646).

ص: 327

قوله: (ولا بالأنداد) جمع ند بكسر النون وهو الشبيه والمثيل، والمراد هنا: الأصنام والأوثان التي جعلوها لله تعالى أمثالًا؛ لأنهم يعبدونها ويحلفون بها.

قوله: (ولا تحلفوا إلا بالله) هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، وفيها معنى التعميم بعد التخصيص.

° الوجه الثالث: في الحديث دليل على النهي عن الحلف بالآباء، ولا مفهوم له؛ لأن قوله:(فمن كان حالفًا فليحلف بالله) دليل على النهي عن الحلف بغير الله مطلقًا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(ولا تحلفوا إلا بالله).

° الوجه الرابع: الحديث دليل على عناية الإسلام بحماية جانب التوحيد وسَدِّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فجاء النهي عن الحلف بغير الله تعالى؛ لأن الحلف بالشيء تعظيم له، والعظمة إنما هي لله وحده لا شريك له فيها، فإنها إزاره، والكبرياء رداؤه، فلا يُضَاهى بها غيره، ومن حلف بغير الله فقد أشرك الشرك الأصغر، وقد يكون من الأكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في العظمة.

° الوجه الخامس: نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الحلف بغير الله لا يجوز، وقد حكى الإجماع مع ثبوت الخلاف، وكأنه لم يعتبر المخالف؛ لأنه قول شاذ.

وقد ذهبت الحنفية والظاهرية والحنابلة إلى تحريم الحلف بغير الله تعالى لثبوت النهي

(1)

، وهو للتحريم عند الإطلاق، قال ابن تيمية:(والصحيح أنه نهي تحريم)

(2)

، وقد ورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر"، وفي رواية:"أشرك"، وفي رواية:"فقد كفر أو أشرك"

(3)

، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحلف بغير الله شركًا، فتكون رتبته فوق رتبة الكبائر.

(1)

انظر: "المحلى"(8/ 32)، "شرح فتح القدير"(5/ 69)، "المغني"(13/ 436).

(2)

"الفتاوى"(1/ 335).

(3)

رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وأحمد (8/ 503) وهذا لفظ الترمذي =

ص: 328

والحلف بغير الله تعالى قد يكون شركًا أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم، وقد يكون شركًا أصغر إذا تجرد عن ذلك وجرى على اللسان بلا قصد، وعليه فالحلف بغير الله شرك، ويغلظ الحكم حسب القصد.

وذهب جمهور الشافعية، وهو المشهور عند المالكية إلى أن الحلف بغير الله مكروه

(1)

، واستدلوا بدليلين:

الأول: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، ثم قال: والله لا أزيد ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفلح وأبيه إن صدق"

(2)

.

الثاني: أن الله تعالى قد أقسم في كتابه بالمخلوقات من الليل والنهار والشمس والقمر وغيرها.

وأجاب القائلون بالتحريم عن هذين الدليلين بما يلي:

أما حديث طلحة بن عبيد الله فقد أجيب عنه بأجوبة كثيرة، أشهرها ثلاثة:

الأول: أن لفظة: (وأبيه) غير محفوظة، وذلك أن الإمام مسلمًا روى هذا الحديث من طريق مالك عن أبي سهيل عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: وذكر الحديث بلفظ: "أفلح إن صدق"، ثم أخرجه من طريق إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل به، بلفظ:"أفلح وأبيه إن صدق"، وقد جعل الإمام مسلم الرواية الأولى هي الأصل، وذكر الثانية تحت القِسْمِ الذي

= من طريق سعد بن عبيدة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث رجاله ثقات، لكنه أعل بأن سعد بن عبيدة لم يسمع من ابن عمر هذا الحديث، كما جاء مبينًا في رواية عند أحمد (9/ 275)، وأشار إلى هذا الطحاوي في "مشرح مشكل الآثار"(2/ 299 - 300) ونَصَّ على هذا البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 29)، وانظر معنى الحديث عند: الطحاوي في المصدر المذكور.

(1)

"المدونة الكبرى"(2/ 32)، "نهاية المحتاج"(8/ 174).

(2)

رواه مسلم (11)(9).

ص: 329

قال عن رواته: إنهم ليسوا من الموصوفين بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم.

ورواية: "أفلح إن صدق، أرجح لأمور:

1 -

أن الإمام مالكًا رأس المتقنين وكبير المتثبتين، ثم هو قد روى الحديث عن عمه أبي سهيل -نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي- وهذا فيه مزيد ضبط ليس في رواية إسماعيل بن جعفر.

2 -

أن إسماعيل بن جعفر مضطرب في روايته، فمرة يقول:"أفلح أن صدق"، ومرة:"أفلح وأبيه إن صدق"، ومرة:"دخل الجنة إن صدق".

3 -

أن الحديث رواه عن مالك عشرة أنفس لم يذكر واحد منهم لفظة: (وأبيه).

4 -

أن البخاري روى الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر بمثل لفظ مالك.

5 -

أن رواية مالك لها شواهد عن أنس وابن عباس وعمر رضي الله عنهم

(1)

.

الجواب الثاني: أن الحديث منسوخ وأن هذا كان جائزًا في أول الأمر، ثم استقر النهي عن ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، ويستفاد من السياق أن حديث النهي متأخر؛ لأمور ثلاثة:

الأول: ما ثبت في "صحيح مسلم"(وكانت قريش تحلف بآبائها) فهذا مشعر بأن الحلف بالآباء كان معروفًا عندهم، فدل على أن قوله:(وأبيه) من هذا الباب.

الثاني: قوله: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) فهذا يشعر بحكم متجدد.

الثالث: قول عمر رضي الله عنه: (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها).

(1)

انظر: "المرويات الواردة في الحلف بالله أو بغيره" ص (54).

ص: 330

ورجح هذا الجواب الشيخ عبد العزيز بن باز في "شرحه على البلوغ".

الجواب الثالث: أنها لم تخرج مخرج القسم، بل هي من الكلام الذي يجري على الألسنة بدون قصد، مثل تربت يداه ونحوه، ورجحه النووي

(1)

.

وأما الدليل الثاني للقائلين بالكراهة وهو أن الله أقسم بالمخلوقات فعنه جوابان:

الأول: أن هذا من خصائص الله تعالى، وليس للعبد الاقتداء بالله تعالى؛ فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولو كان ذلك جائزًا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال ميمون بن مهران:(إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله)

(2)

.

والقسم بهذه المخلوقات إشارة إلى فضلها ومنفعتها ليعتبر الناس بها.

الثاني: أن ما ورد في القرآن مؤول على حذف مضاف، والتقدير: ورَبِّ الليل ورَبِّ النهار ورَبِّ الشمس، وهذا جواب ضعيف لأمرين:

1 -

أن الأصل عدم التقدير.

2 -

أنه إذا حصل تقدير فات المراد من القسم بها والإشارة إلى منفعتها.

° الوجه السادس: الحديث دليل على وجوب الصدق في اليمين وتحريم الكذب فيها؛ لأن الصدق مما أوجبه الله على العباد مطلقًا ولو لم يحلفوا بالله، فكيف إذا حلفوا به؟ والكذب حرام وتتأكد حرمته إذا أقسم عليه، قال تعالى:{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14].

° الوجه السابع: تحريم الحلف بالأنداد من الأصنام والأوثان؛ لأن هذا كان موجودًا في الجاهلية فأبطله الإسلام، قال ابن الملقن:(إن قصد بهذا القسم تعظيمًا كفر، وإلا أثم)

(3)

. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

(1)

"شرح النووي"(1/ 382). وانظر: "فتح الباري"(11/ 533).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة، الجزء المفرد" ص (19).

(3)

"الإعلام"(9/ 261).

ص: 331

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله

"

(1)

. وإنما أمر أن يقول: لا إله إلا الله؛ لأنه تعاطى صورة تعظيم الصنم، فضاهى الكفار، فأمر أن يتدارك بكلمة التوحيد. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (6650)، ومسلم (1647).

ص: 332

‌ما جاء في أن اليمين على نية الطالب لها

1371/ 3 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ".

وَفي رِوَايَةٍ: "الْيَمِينُ عَلَى نِيّةِ الْمُسْتَحْلِفِ"، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الأيمان"، باب (يمين الحالف على نية المستحلف)(1653) من طريق هُشيم بن بَشير، عن عبد الله بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

ورواه -أيضًا- من طريق هُشيم، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ الثاني.

وقد ذكر أبو داود في "سننه"(3/ 224) أنهما شخص واحد، عباد بن أبي صالح، وعبد الله بن أبي صالح، وسبقه إلى هذا ابن معين، ويرى ابن المديني أنهما اثنان

(1)

. وقال الترمذي: (سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هو حديث هشيم ولا أعرف أحدًا رواه غيره)

(2)

، ولعل الحافظ ذكر هذه الرواية؛ لأن فيها تفسيرًا للصاحب بأنه المُستحلِف، وهو طالب اليمين، سواء طلبها خصمه أو القاضي.

(1)

انظر: "جزء في الإخوة والأخوات" لابن المديني ص (79)، "الجرح والتعديل"(6/ 78).

(2)

"العلل الكبير"(1/ 553).

ص: 333

° الوجه الثاني: الحديث دليل على أن اليمين المطلوبة من الحالف يجب أن تكون على نية طالب اليمين، ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى غير ما أظهر ولا ينفعه تأويله ولا توريته

(1)

، وإلا لبطلت الفائدة المرجوة من اليمين، فإن الغرض منها تخويف الحالف ليرتدع عن الإنكار والجحود خوفًا من عاقبة اليمين الكاذبة، ولو ساغ له التأويل انتفى ذلك، ولا فرق في ذلك بين أن يكون طالب اليمين هو القاضي أو من له الحق.

فإذا قال عند القاضي: والله ما له عندي وديعة، وعنى بـ (ما) الذي، لم ينفعه تأويله؛ لأن صاحبه لا يفهم هذا منه، وإنما يفهم النفي.

° الوجه الثالث: الحالف له ثلاث حالات:

الأولى: أن يكون ظالمًا، كالذي يستحلفه القاضي على حق عنده، فهذا تنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف، ولا ينفع الحالف تأويله، بدليل حديث الباب، قال النووي:(فإذا ادعى رجل على رجل حقًّا، فحلَّفه القاضي، ووَرَّى فنوى غير ما نوى القاضي، انعقدت يمينه على ما نواه القاضي ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه)

(2)

. لكن نقل الإجماع فيه تامل؛ لأن في بعض المذاهب بعض الشروط لكي تنفع التورية

(3)

.

الثانية: أن يكون الحالف مظلومًا، مثل من يستحلفه ظالم على شيء لو صَدَقَه لظلمه في بدنه أو ماله أو عرضه، أو ظلم غيره أو نال مسلمًا منه ضرر، فهذا له أن يؤول كلامه تأويلًا غير المعنى الذي فهمه المستحلف الظالم.

وقد ورد في "صحيح البخاري" في قصة إبراهيم عليه السلام مع زوجته أنه قال للجبار الذي سأله من هذه؟ قال: أختي

(4)

. قصد بذلك أختي في الدين.

(1)

التورية أن يقسم الإنسان على شيء له معنى متبادر للذهن، وهو يقصد معنى آخر يحتمله اللفظ المذكور، فين يقصد بالفراش والبساط: الأرض، وبالسقف السماء، وبالجارية السفينة ونحو ذلك.

(2)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 127).

(3)

انظر: "أحكام اليمين بالله عز وجل" ص (304).

(4)

"صحيح البخاري"(3358).

ص: 334

وفيه -أيضًا- في قصة الهجرة أن أبا بكر رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الرجل يهديني السبيل

(1)

، فظن المخاطب أنه يعني الطريق، وإنما أراد سبيل الخير.

الثالثة: ألا يكون الحالف ظالمًا ولا مظلومًا، فالأكثرون على جواز التورية في اليمين في هذه الحال، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب"

(2)

.

كما استدلوا بأدلة أخرى كلها في غير اليمين.

والقول الثاني: أنه لا يجوز التورية في اليمين في هذه الحال، وهذا رواية عن أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

، واستدلوا بحديث الباب.

أما التورية في غير اليمين فله أن يتأول وينفعه التأويل، لئلا يقع في الكذب، وقد فعله السلف، قال ابن سيرين:(الكلام أوسع من أن يكذب ظريف)

(4)

، والمعنى أن الظريف وهو الكَيِّسُ الفَطِنُ لا يحتاج للكذب لكثرة المعاريض، كان يطرق الباب طارق فيقول أهله: ليس فلان ها هنا، يريدون مكانًا بعينه؛ لأن ذلك لا يبطل حقًّا ولا يحق باطلًا، أو يقال: أين فلان؟ فيقال: اطلبه في المسجد. والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح البخاري"(3911).

(2)

رواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 96)، والبيهقي (10/ 199) وفي إسناده داود بن الزبرقان وهو متروك، وقد كذبه الأزدي كما في "التقريب"، وروي موقوفًا.

(3)

"الفتاوى الكبرى"(4/ 622)، "الفروع"(6/ 353)، "الإنصاف"(9/ 120).

(4)

"المغني"(13/ 498).

ص: 335

‌حكم من حلف على شيء فرأى غيره خيرًا منه

1372/ 4 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وفي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ: "فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ".

وَفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: "فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ".

وَإِسْنَادُها صَحِيحٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: كان اسمه عبد كُلَال فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم يوم الفتح، وكان أحد الأشراف، وشهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم شهد فتوح العراق، وتَمَّ فتح سجستان

(1)

على يديه، وفتح غيرها، روى عنه ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وآخرون، توفي سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين

(2)

رضي الله عنه.

(1)

سجستان: بكسر أوله وثانيه، ناحية كبيرة، وولاية واسعة، تتقاسمها اليوم دولتا إيران وأفغانستان. انظر:"معجم البلدان"(3/ 190) وكتاب "أفغانستان" لمحمود شاكر.

(2)

"الاستيعاب"(6/ 50)، "السير"(2/ 571)، "الإصابة"(6/ 284).

ص: 336

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ} [المائدة: 89](6622)، عن محمد بن الفضل، ومسلم (1652) عن شيبان بن فروخ، كلاهما عن جرير بن حازم، حدثنا الحسن البصري، حدثنا عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين

" الحديث.

وقد ساق الحافظ القدر اللازم وترك أول الحديث، على أنه ورد في بعض الروايات عدم ذكر الإمارة، كما ذكر الإمام مسلم في "صحيحه".

ورواه البخاري (6722) من طريق ابن عون، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة بلفظ:"فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك"، ولعل الحافظ ذكرها؛ لأن فيها تقديم الفعل وتأخير الكفارة، بخلاف الرواية المتقدمة في "الصحيحين" ففيها تقديم الكفارة وتأخير الفعل.

ورواه أبو داود (3278) من طريق عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن به مرفوعًا باللفظ المذكور.

وهذه الرواية إسنادها صحيح، كما قال الحافظ، وكذا قال ابن عبد الهادي في "المحرر"

(1)

.

وقد روى هذا الحديث عن الحسن جماعة كلهم يروونه بالواو لا بـ (ثم)، وقد رواه عن الحسن قتادة وجرير بن حازم، فأما قتادة فلم يختلف عليه اختلافا ظاهرًا، وأما جرير فقد اختلف عليه.

فرواه أسود بن عامر، وعفان بن مسلم عند أحمد (34/ 230) فذكرا (ثم) وخالفهم شيبان بن فروخ، عند مسلم، وحجاج بن المنهال عند البخاري

(1)

ص (409).

ص: 337

(7146)

، ومحمد بن الفضل عند البخاري -أيضًا، كما تقدم- فلم يذكروا هذا الحرف، وهذا هو الأقرب لأمرين:

1 -

أنه موافق لرواية أكثر الرواة عن الحسن.

2 -

أن البخاري رجح الطرق التي ليس فيها هذا الحرف حيث أخرجه عن محمد بن الفضل.

ولعل الحافظ ذكر رواية أبي داود؛ لأنها صريحة في الترتيب حيث جيء بالحرف (ثم) لكن الحديث مداره على الحسن البصري، وقد رواه عنه جماعة كثيرون كلهم يروونه بالواو كما تقدم لا بـ (ثم).

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (وإذا حلفت) الواو عاطفة، والمعطوف عليه أول الحديث كما تقدم، ومناسبة هذه الجملة لما قبلها هو احتمال أن تعرض الإمارة على عبد الرحمن بن سمرة وتتعين عليه؛ لكونه لا يوجد غيره يصلح لها، فيحلف ألا يتولاها، فالحكم أنه يتولاها ويكفر عن يمينه.

قوله: (على يمين) الحلف هو اليمين، تقول: حلف يحلف حلفًا، قال القرطبي:(اليمين هنا: يعني المحلوف عليه، ويجوز أن يقال: إن (على) صلة، وينتصب يمين على أنه مصدر ملاقٍ في المعنى لا في اللفظ)

(1)

وهذا اللفظ نكرة في سياق الشرط، فيعم كل حلف على يمين كائنًا ما كان الحلف.

قوله: (غيرها) أي: غير المحلوف عليه، وتأنيث الضمير باعتبار لفظ اليمين المقصود منها المحلوف عليه.

قوله: (فكفر عن يمينك) أمر من الفعل كفر بالتشديد، ومعناه: غطَّى، سميت كفارة اليمين بذلك؛ لأنها تغطي الإثم الذي وقع فيه الحالف حيث إنه حنث في يمينه فلم يف بها، والحنث معناه: أن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله.

(1)

انظر: "المفهم"(1/ 312)، "دليل الفالحين"(1/ 253).

ص: 338

قوله: (وائت الذي هو خير) سواء في أمور الدين أو الدنيا.

قوله: (وكفر عن يمينك) هذه الرواية معناها تأخير الكفارة إلى بعد الحنث، لكن الواو لا تفيد الترتيب بل هي لمطلق الجمع.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من حلف على فعل شيء أو حلف على ترك شيء وكان الحنث وعدم البر باليمين خيرًا من التمادي على اليمين فإنه يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا التشريع كما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو -أيضًا- فعله، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها"

(1)

.

وقد دل على معنى الحديث قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيمَانِكُمْ} [البقرة: 224] قال ابن كثير: (أي: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، فالاستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير) ثم ساق الأحاديث

(2)

.

وهذا من محاسن هذا الدين ويسره ورفع الحرج عن المكلفين، فإن الإنسان قد يغضب فيحلف على فعل شيء أو تركه، ثم يندم ويتمنى أنه لم يحلف.

وهذا يختلف باختلاف المحلوف عليه، فقد يكون الحنث واجبًا كان يترتب على اليمين ضرر في النفس أو الأهل أو الغير، وفي هذه الحال يكون الاستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يَلَجَّ

(3)

أحدكم بيمينه في أهله آَثمُ له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه"

(4)

. قال

(1)

رواه البخاري (6721)، ومسلم (1649) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

(2)

"تفسير ابن كثير"(1/ 390).

(3)

أي: يقيم على ترك الحنث ويستمر على يمينه مع ما فيها من الضرر على غيره.

(4)

رواه البخاري (6625)، ومسلم (1655).

ص: 339

النووي: (ومعنى الحديث: أنه إذا حلف يمينًا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه ويكون الحنث ليس معصية، فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث بل أتورع عن ارتكاب الحنث وأخاف الإثم فيه، فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره في عدم الحنث وإدامة الضرر على أهله أكثر إثمًا من الحنث)

(1)

.

وقد يكون مستحبًا كأن يحلف ألا يتصدق على هذا الفقير، وقد يكون الحنث حرامًا كأن يحلف على ترك معصية، وقد يكون مباحًا فيخير بين البقاء على يمينه أو الحنث مع التكفير، كان يحلف على ترك مباح، كأكل فاكهة أو رغيف ونحو ذلك، لكن حفظ يمينه في المباح أولى لعموم قوله تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيمَانَكُمْ} [المائدة: 89].

° الوجه الخامس: اعلم أن الكفارة لها ثلاث حالات:

1 -

أن تكون قبل الحلف فهذه لا تجزئ اتفاقًا.

2 -

أن تكون بعد الحلف والحنث فهذه تجزئ اتفاقًا.

3 -

أن تكون بعد الحلف وقبل الحنث، فهذه فيها خلاف على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه يجوز تقديمها قبل الحنث، وهذا قال به أربعة عشر صحابيًّا

(2)

، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك وأحمد

(3)

، لكن قالوا: يستحب تأخيرها عن الحنث، وكأنهم أرادوا الخروج من الخلاف

(4)

، واستدلوا بأن الأحاديث جاءت بألفاظ مختلفة -كما تقدم- ومفاد ذلك جواز إخراجها قبل الحنث وبعده.

كما استدلوا بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيمَانِكُمْ} [التحريم: 2] والكفارة قبل الحنث تحلة وبعد الحنث كفارة؛ لأنه إذا أخرج الكفارة قبل

(1)

"شرح صحيح مسلم"(11/ 134).

(2)

"تفسير القرطبي"(6/ 275).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 409).

(4)

انظر: "الإنصاف"(11/ 43).

ص: 340

الحنث انحلت اليمين، فإذا بقيت اليمين وحنث فيها احتاج لمحو الإثم بالكفارة.

القول الثاني: أنه إن كفَّر بالصيام لم يجز إخراج الكفارة قبل الحنث؛ لأن الصوم عبادة بدنية، فلم يجز تقديمها على وقت وجوبها لغير حاجة كصيام رمضان، وإن كفر بغيره كالإطعام جاز إخراج الكفارة قبل الحنث قياسًا على تعجيل الزكاة، وهذا قول الشافعي، وحكي رواية عن أحمد، كما ذكر الحافظ ابن رجب

(1)

.

وهذا قول مرجوح؛ لأن فيه تفريقًا بين ما جمعه النص؛ ولأن الصيام نوع تكفير فجاز قبل الحنث كالتكفير بالمال.

القول الثالث: أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، ولو فعل فعليه أن يكفر مرة أخرى، وهذا قول الحنفية، ورواية عن مالك

(2)

.

واستدلوا بقوله: (فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) قالوا: ففيه تقديم الحنث قبل الكفارة، وهذه صيغة أمر، والأمر يقتضي الوجوب.

وأجيب عن ذلك بأن الحديث لا يمنع من تقديم الكفارة على الحنث بدليل الروايات الأخرى.

والراجح هو القول الأول، وهو جواز تقديم الكفارة قبل الحنث. والله تعالى أعلم.

(1)

"مغني المحتاج"(4/ 326)، "الذيل على طبقات الحنابلة"(1/ 184).

(2)

"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 114)، "الاختيار"(4/ 48)، "بداية المجتهد"(2/ 409).

ص: 341

‌حكم الاستثناء في اليمين

1373/ 5 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَال: إنْ شَاء اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيهِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (8/ 103، 187)، وأبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (الاستثناء في اليمين)(3261)(3262)، والترمذي (1531)، والنسائي (7/ 12، 25)، وابن ماجه (2105)، وابن حبان (10/ 182) كلهم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره. وهذا لفظ الترمذي.

قال الترمذي: (حديث ابن عمر حديث حسن، وقد رواه عبيد الله بن عمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، وهكذا روي عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني، وقال إسماعيل بن إبراهيم: وكان أيوب أحيانًا يرفعه وأحيانًا لا يرفعه).

والمستفاد من كلام أهل العلم أن آخر الأمرين من أيوب وَقْفُهُ، وقد جاء هذا صريحًا في رواية حماد بن زيد، عن أيوب، كما عند البيهقي (10/ 42) قال حماد:(كان أيوب يرفع هذا الحديث ثم تركه)، قال البيهقي:(لعله إنما تركه لشك اعتراه في رفعه) وقال: (لا يكاد يصح رفعه إلا من جهة أيوب السختياني، وأيوب يشك فيه أيضًا).

ص: 342

وهذا الحديث مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما من طريق نافعٍ مولاه، ومن طريق سالمٍ ابنه، فأما سالم فرواه عن أبيه موقوفًا، كما ذكر الترمذي في "جامعه" وليس فيه اختلاف، وهذا الموقوف رواه الطحاوي في "شرح المشكل"(5/ 181)، والدارقطني (4/ 162)، والبيهقي (10/ 47) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن سالم، عن أبيه قال:(كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه، وإن كان غير موصول فهو حنث) وهذا لفظ البيهقي.

وعبد الرحمن بن أبي الزناد متكلم فيه، فوثقه الترمذي ومالك والعجلي، وقال يعقوب بن شيبة:(ثقة صدوق وفي حديثه ضعف، سمعت علي بن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب، وما حدثه بالعراق فهو مضطرب)، وضعفه أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد).

وأما نافع فقد اختلف عليه في رفعه ووقفه، فرواه الإمام مالك وأسامة بن زيد عنه موقوفًا، ورواه كثير بن فرقد وأيوب بن موسى عنه مرفوعًا، ورواه أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وحسان بن عطية وعبد الله بن عمر وموسى بن عقبة مرفوعًا وموقوفًا.

والراجح رواية الوقف لأمرين:

الأول: أن الأثبات من أصحاب نافع وقفوه، ومنهم عبيد الله بن عمر الذي هو من أثبت الناس في نافع، رواه عبد الرزاق (8/ 512) عن ابن جريج، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:(من حلف فقال: والله إن شاء الله، فليس عليه كفارة)، ثم سمعه عبد الرزاق عن عبيد الله، وقد نص الترمذي على رواية عبيد الله هذه كما تقدم، وقد روي رفعه عن عبيد الله لكنه غير محفوظ، فقد روى أبو معاوية محمد بن خازم وأبو خالد الأحمر رفعه عن عبيد الله ولكن روايتهما معلولة؛ لأن العلماء تكلموا في رواية أبي معاوية عن عبيد الله،

(1)

"تهذيب التهذيب"(6/ 155).

ص: 343

وأبو خالد متكلم فيه من جهة حفظه، ولذا قال ابن معين:(صدوق وليس بحجة)، وقال الحافظ:(صدوق يخطئ).

ورواه مالك (2/ 380) ومن طريقه البيهقي (10/ 46) عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، وليس هناك اختلاف على مالك في وقفه، كما رواه أسامة بن زيد، عن نافع موقوفًا، وليس عليه اختلاف في وقفه، قال البيهقي:(رواية الجماعة من أوجه صحيحة عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله غير مرفوع، والله أعلم)

(1)

.

الثاني: أن رواية الوقف موافقة لرواية سالم عن أبيه التي لم يختلف فيها.

ومع ترجيح وقفه فقد يقال: إنه مما ليس للرأي فيه مجال، فيعطى حكم الرفع

(2)

؛ ولأن له شاهدًا في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة سليمان عليه السلام وفيه: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته"

(3)

.

قال الترمذي عن حديث الباب: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الاستثناء إذا كان موصولًا باليمين فلا حنث عليه).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من حلف علي يمين) أي: أمر محلوف عليه، فهو من تسمية اسم المفعول باسم المصدر، كما تقدم.

قوله: (فقال: إن شاء الله) هذا استثناء بالمعنى اللغوي، وهو تعليق اليمين ونحوها بقوله: إن شاء الله، ووجه كونه استثناء بالمعنى اللغوي أن

(1)

"السنن الكبرى"(10/ 46).

(2)

انظر: "سبل السلام"(4/ 211).

(3)

رواه البخاري (6647)، ومسلم (1646)(1).

ص: 344

الاستثناء في اللغة معناه الكف والرد، والحالف إذا قال: والله لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد ما قاله بمشيئة الله غيره

(1)

.

وأما الاستثناء الاصطلاحي عند النحاة بأحد أحرف الاستثناء مثل إلا وأخواتها فليس مرادًا هنا.

قوله: (فلا حنث عليه) بكسر الحاء مصدر حَنِثَ بكسر النون من باب عَلِمَ يَحْنَثُ حِنْثًا، والحنث يطلق على التجبد، وعلى الإثم، والمعصية، وعلى الخُلف في اليمين بأن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من حلف على أمر وقال: إن شاء الله، متصلًا باليمين أنه يصح استثناؤه ولا يلزم الوفاء بها، فإذا فعل ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة؛ لأن اليمين لا تنعقد مع وجود الاستثناء، وهذا حكم مجمع عليه، نقل الإجماع الخطابي وابن عبد البر وابن رشد وآخرون، قال ابن عبد البر:(أجمع العلماء على أن الحالف إذا وصل يمينه بالله بالاستثناء وقال: إن شاء الله، فقد ارتفع الحنث عنه، ولا كفارة عليه إن حنث)

(2)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يشترط النطق بالاستثناء بأن يقول: إن شاء الله، فإن لم ينطق واستثنى بقلبه لم ينفع، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، لقوله في الحديث:(فقال: إن شاء الله) فخصه بالقول؛ ولأن اليمين لا تنعقد بالنية، فكذا الاستثناء، ولعموم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تكلم)

(3)

.

وروي عن الإمام أحمد أن من كان مظلومًا فاستثنى في نفسه، قال أحمد: رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه.

قال الموفق ابن قدامة: (فهذا في حق الخائف على نفسه؛ لأن يمينه غير منعقدة، أو لأنه بمنزلة المتأول، وأما في حق غيره فلا)

(4)

، وعزا ابن حزم

(1)

"اللسان"(14/ 124).

(2)

"الاستذكار"(15/ 70).

(3)

متفق عليه، وقد سبق في باب "الطلاق" برقم (1085).

(4)

"المغني"(13/ 486).

ص: 345

جواز الاستثناء في النفس بدون نطق إلى قوم، ولم يسمهم

(1)

، ويمكن حمل كلامه على ما جاء عن الإمام أحمد.

° الوجه الخامس: الجمهور من أهل العلم على اشتراط اتصال الاستثناء باليمين حقيقة أو حكمًا، والاتصال الحقيقي: أن يذكر الاستثناء عقب اليمين بلا فاصل، والاتصال الحكمي: أن يفصل بينهما فاصل اضطراري كسعال وعطاس ونحوهما، واستدلوا بحديث الباب؛ فإن قوله:(فقال) يقتضي كون الاستثناء بعد اليمين مباشرة؛ لأن الفاء للترتيب باتصال؛ ولأن الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه وخبر المبتدأ ونحو ذلك.

وقد جاء ذكر الاتصال في بعض روايات الحديث كما تقدم، والمشهور من الروايات خلوها من هذا القيد.

والقول الثاني: أنه لا يشترط الاتصال، بل له أن يستثني إذا لم يطل الفصل، وهذا قول طاووس والأوزاعي، وهو رواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، قال أحمد في رواية أبي طالب:(إذا حلف بالله، وسكت قليلًا، ثم قال: إن شاء الله، فله استثناؤه؛ لأنه يكفر)

(2)

.

واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشًا"، وفي بعض الروايات: ثم سكت، ثم قال:"إن شاء الله"

(3)

.

كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات

لا يختلى خلاه

"، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لقيننا وبيوتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر"

(4)

. فلم يتصل الاستثناء لوجود الفاصل بكلام العباس رضي الله عنه.

(1)

"المحلى"(8/ 45).

(2)

"العدة" لأبي يعلى (2/ 661)، "المغني"(13/ 484).

(3)

رواه أبو داود (3278) والصواب أنه مرسل عن سماك، عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو حاتم وابن عدي. انظر:"العلل"(1321).

(4)

رواه البخاري (1834)، ومسلم (1353).

ص: 346

والقول الثالث: أن له أن يستثني ولو بعد مدة، وعلى هذا يجوز الانفصال، ولا يشترط الاتصال، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير، فقد روى الطحاوي من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في حديث أصحاب الكهف {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قال ابن عباس: إذا قلت شيئًا فلم تقل: إن شاء الله، فقل: إذا ذكرت إن شاء الله

(1)

.

وفي المسألة أقوال أخرى وتقديرات لا دليل عليها؛ لأن التقدير بابه التوقيف، فلا يصار إليه بالتحكم

(2)

.

والأظهر -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو أنه لا بد من الاتصال، لكن إن حصل فاصل يسير من سكوت أو كلام فإنه لا يؤثر في صحة الاستثناء ما دام الكلام واحدًا، لما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(3)

.

وأما ما روي عن ابن عباس من جوازه إلى مدة فعنه جوابان:

الأول: أنه ورد بأسانيد فيها مقال؛ لأنه لو ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يحنث أحد في يمينه ولم تلزمه كفارة، فكل من حلف وأراد الحنث استثنى.

الثاني: على فرض ثبوته عنه فإن مراده أن المتكلم إذا نسي أن يقول عند كلامه أو مع يمينه: إن شاء الله وذكر بعد مدة، أنه يقول ذلك تبركًا؛ ليكون آتيًا بسنة الاستثناء الوارد في الآية، لا أنه يرفع الحنث ويسقط الكفارة، ذكر ذلك ابن جرير وغيره، قال ابن كثير:(وما قاله ابن جرير هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم)

(4)

.

(1)

"شرح مشكل الآثار"(5/ 182).

(2)

"المغني"(13/ 485)، "سبل السلام"(4/ 212).

(3)

"الشرح الممتع"(13/ 108).

(4)

"تفسير الطبري"(15/ 229)، "تفسير ابن كثير" (5/ 145). وانظر:"البرهان" للجويني (1/ 386)، "المنخول" ص (157)، "المعتبر" ص (162).

ص: 347

وعلى هذا فلا يكون كلام ابن عباس رضي الله عنهما فيما نحن فيه؛ لأن الاستثناء صار للتبرك، وليس لرفع الحنث، وإنما كان قصد التبرك لا يفيد الاستثناء؛ لأنه يزيد اليمين قوة وتأكيدًا.

ويستفاد مما تقدم أن شروط صحة الاستثناء اثنان:

1 -

أن يكون الاستثناء كلامًا.

2 -

أن يكون متصلًا مع ملاحظة ما تقدم.

° الوجه السادس: لا خلاف بين العلماء في أن الاستثناء جائز في اليمين بالله تعالى

(1)

، كان يقول: والله لأزورنك هذا اليوم إن شاء الله، فلو لم تحصل الزيارة لم يلزمه شيء.

وأما الاستثناء في الظهار فالجمهور على صحة الاستثناء فيه، قال الإمام أحمد: إذا قال لامرأته: هي عليه كظهر أمه إن شاء الله، فليس عليه شيء هي يمين، ودليل هؤلاء أن الظهار يمين مكفرة، فصح الاستثناء فيها كاليمين بالله تعالى

(2)

.

وقال الإمام مالك وأصحابه: لا يؤثر الاستثناء إلا في اليمين المكفرة، وهي عندهم اليمين بالله تعالى أو النذر المطلق، وعلى هذا فلا يصح عندهم الاستثناء في الظهار ولا ينفع، وهو قول الأوزاعي أيضًا

(3)

.

واختلف العلماء في صحة الاستثناء في الطلاق والعتاق على قولين:

فالقول الأول: أنه يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، لم يقع شيء من ذلك، وكذا لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: إن ذهبت إلى زيد فأنت حر إن شاء الله،

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وعن أحمد ما يدل عليه، وهو قول

(1)

"تفسير القرطبي"(6/ 275).

(2)

"المغني"(11/ 70)(13/ 486).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 400).

ص: 348

إسحاق بن راهويه، وابن المنذر والظاهرية وجماعة من السلف كطاوس وابنه وعطاء ومجاهد والزهري وآخرين

(1)

، ودليل هؤلاء إجراء الطلاق والعتاق مجرى اليمين، فعمدتهم الأحاديث الدالة على صحة الاستثناء في اليمين، وقد استدلوا بأحاديث فيها النص على الطلاق والعتاق، وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة

(2)

.

والقول الثاني: أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وهذا قول مالك، ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة، وقال به جماعة من السلف كالحسن وسعيد بن المسيب والليث وغيرهم

(3)

، ودليلهم منع إجراء الطلاق والعتاق مجرى اليمين في مسألة الاستثناء؛ لأن الحديث إنما تناول الأيمان وما ذكر ليس بيمين، وإنما هو تعليق على شرط. قالوا: ولأنه أوقع الطلاق والعتاق في محل قابل فوقع، كما لو لم يستثنِ.

وقد جاء عن الإمام أحمد ما يدل على هذا ففي "مسائل ابنه صالح": (سئل أبي وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته واستثنى؟ فقال: سل غيري، فقيل له: لم لا تقول فيها؟ قال: إن الطلاق لا كفارة له، وليس هو بمنزلة اليمين؛ لأن اليمين يكفر، والطلاق لا كفارة له)

(4)

.

وفي "مسائل الكوسج": (قلت له: الاستثناء في الطلاق؟ قال: أقف عنده، والغالب على أنها تطلق، وكذلك العتاق، وذلك أن الطلاق ليس هو يمين يكون فيه استثناء

)

(5)

. قال الموفق عن الاستثناء في الطلاق والعتاق: (توقف أحمد في الجواب، لاختلاف الناس فيها، وتعارض الأدلة، وفي موضع آخر قطع أنه لا ينفعه الاستثناء فيهما)

(6)

.

والخلاف في هذه المسألة مبني على مسألة قبلها، وهي هل يجوز

(1)

"مسائل الكوسج"(5/ 2466)، "المغني"(13/ 488).

(2)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 361).

(3)

"االمغني"(13/ 488).

(4)

"المسائل"(1/ 141).

(5)

(4/ 1578 - 1579).

(6)

"المغني"(13/ 488).

ص: 349

الحلف بالظهار والطلاق والعتاق أو لا؟ والحلف بالطلاق والعتاق هو تعليقهما على شيء، وأُطلق عليه الحلف؛ لمشابهته اليمين في اقتضاء الحث والمنع.

والخلاف كما ترى قوي، حتى إن الإمام أحمد ورد عنه التوقف، ويظهر لي وجاهة القول الثاني لما تقدم، هذا من الناحية العلمية، أما من الناحية التطبيقية فمرجع إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه إلى القاضي فله أن يجتهد ويختار أحد القولين. والله تعالى أعلم.

ص: 350

‌ما جاء في يمين النبي صلى الله عليه وسلم

-

1374/ 6 - وَعَنْهُ رضي الله عنهما قَال: كَانَتْ يَمِينُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟)(6628) من طريق سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ورواه في كتاب "القدر"(6617) من طريق عبد الله بن الفضل، أخبرنا موسى بن عقبة به، ولفظه:(كثيرًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: لا ومقلب القلوب).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا) فيه حذف نحو: لا أفعل أو لا أترك ونحو ذلك.

قوله: (ومقلب القلوب) الواو حرف قسم وجر، ومقلب القلوب اسم مقسم به مجرور، وهو بصيغة اسم الفاعل، والمراد بتقليب القلوب: تقليب أحوالها وصرفها من رأي إلى رأي آخر، وخص القلب بذلك؛ لأنه إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد، كما ثبت في "الصحيحين"

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن اليمين لا تتعين بلفظ معين مثل:

(1)

رواه البخاري (50)، ومسلم (2996) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وسيأتي شرحه في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ص: 351

والله، بل تجوز في كل اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، قال الحافظ ابن حجر:(فيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق)

(1)

.

وقد ساق البخاري تحت الترجمة المذكورة عدة أحاديث، وجملة ما ورد فيها أربعة ألفاظ:

1 -

والذي نفسي بيده، أو نفس محمد بيده.

2 -

لا ومقلب القلوب.

3 -

والله.

4 -

ورب الكعبة.

واعلم أن أسماء الله تعالى باعتبار الحلف بها ثلاثة أقسام:

1 -

ما كان مختصًّا بالله تعالى لا يسمى به غيره، مثل: الله، والرحمن، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، فهذا قَسَمٌ صريح تنعقد به اليمين، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك

(2)

.

2 -

ما يطلق على الله تعالى وعلى غيره، ويغلب إطلاقه على الله عز وجل، مثل: الجبار، والرزاق، والمالك ونحو ذلك، فهذا تنعقد به اليمين؛ لأن هذا الاسم إذا أطلق ينصرف إلى الله تعالى، فإن قصد به غير الله تعالى لم يكن يمينًا؛ لأنه يطلق على غيره، وهذا على القول الراجح.

3 -

ما يطلق على الله تعالى وعلى غيره، ولا يغلب إطلاقه على الله تعالى، مثل: الحي، والعزيز، والكريم، والمؤمن ونحو ذلك، فإن نوى غير الله تعالى فليس بيمين، وإن نوى به الله تعالى أو أطلق انعقد على القول الراجح؛ لأن الأصل أن المسلم لا يحلف إلا بالله عز وجل، قال ابن حزم:(اليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته)

(3)

، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الأحكام

(1)

"فتح الباري"(11/ 527).

(2)

"الإجماع" ص (137).

(3)

"المحلى"(8/ 43).

ص: 352

تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ

(1)

.

وأما القسم بصفات الله تعالى فالجمهور على جواز الإقسام بصفات الله تعالى، سواء أكانت صفة ذاتية -وهي التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة، ومنها الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعينين- أم كانت صفة فعلية، وهي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.

ومن الأدلة على ذلك حديث الباب، ويرى الشيخ محمد بن عثيمين أنه لا يقسم بالصفات الخبرية كاليد والأصبع، إلا الوجه فيقسم به؛ لأنه يعبر به عن الذات

(2)

.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن الله تعالى هو الذي يتولى قلوب العباد فيصرفها كيف شاء، وهذا من كمال قدرته وتمام ملكه وتدبيره، وبهذا يُعلم مدى حاجة العبد إلى ربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، إذ لا بد له من هدايته إلى الصراط المستقيم وتوفيقه لما ينفعه في معاشه ومعاده، وإلا ضل وخسر، وهذا لا ينافي أن العباد مكلفون بأعمال يترتب عليها الجزاء يوم المعاد. فينبغي للعبد أن يسأل ربه دائمًا أن يثبته وأن يُصَرِّفَ قلبه على طاعته، قال القرطبي:(إن أحوال القلوب منتقلة غير ثابتة ولا دائمة، فحق العاقل أن يحذر على قَلْبِهِ من قَلْبِهِ، ويفزع إلى ربه في حفظه)

(3)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم مُصَرِّفَ القلوب صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك"

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الفروع"(6/ 338).

(2)

"الشرح الممتع"(15/ 119)، "أحكام اليمين بالله عز وجل" ص (59).

(3)

"المفهم"(6/ 673).

(4)

رواه مسلم (2645).

ص: 353

‌ما جاء في اليمين الغموس

1375/ 7 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَال: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسُولَ الله، مَا الْكَبَائِرُ؟ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:"الْيَمِينُ الْغَمُوسُ". قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَال: "الَّذي يَقْتَطِعُ بها مَال امْرِيءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ"، أَخْرَجَهُ البخاري.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "استتابة المرتدين"، باب (إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة)(6920) من طريق عبيد الله بن موسى، أخبرنا شيبان، عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين"، قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس

" الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ما الكبائر؟) هذا يشعر بأنه كان معلومًا عند السائل أن في المعاصي كبائر وغيرها، والكبائر: جمع كبيرة، وفي تعريفها عدة أقوال، ومن أحسنها تعريف القرطبي:(أن كل ذنب أَطلق الشرع عليه أنه كبير، أو عظيم، أو أخبر فيه بشدة العقاب عليه، أو علق عليه حدًّا، أو شدد النكير عليه وغلَّظه وشهد بذلك كتاب أو سنة أو إجماع فهو كبيرة)

(1)

.

(1)

"المفهم"(1/ 284).

ص: 354

قوله: (اليمين الغموس) بفتح الغين على وزن صيغة المبالغة (فعول) بمعنى فاعل، وهي اليمين التي يتعمد صاحبها فيها الكذب بأن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فيه، وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها اليمين التي يحلفها كاذبًا عامدًا؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، فظاهر ذلك أنها لا تكون غموسًا إلا إذا اقتطع بها مال امرئ مسلم، لا أن كل محلوف عليه كذبًا يكون غموسًا، وإنما هي يمين فاجرة، على أن من أهل العلم -كابن عبد البر- من يرى أن اليمين الغموس على المعنى الأول

(1)

.

سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في نار جهنم والعياذ بالله، واليمين الغموس فيها عدة مفاسد:

1 -

الكذب.

2 -

اقتطاع مال المسلم.

3 -

الاستهانة باليمين.

4 -

التعود على المكر والخديعة وتضليل القاضي.

قوله: (قلت: وما اليمين الغموس) القائل: هو فراس بن يحيى المُكْتِبِ الراوي عن الشعبي، بدليل رواية ابن حبان:(قلت لعامر: ما اليمين الغموس)

(2)

، وعامر هو الشعبي، فيكون التفسير من كلام الشعبي

(3)

.

قوله: (يقتطع) أي: يأخذ، وهو يفتعل من القطع، كأنه قطع هذا الجزء من المال من صاحبه، وهو أبلغ من الأخذ.

قوله: (هو فيها كاذب) أي: كاذب في يمينه، وهذا قيد يخرج الجاهل؛ لأن الإثم والجزاء لا يستحقهما إلا العامد.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم اليمين الغموس، وهي اليمين الكاذبة التي يقتطع بها حق غيره، وأنها من الكبائر التي يفسق بها صاحبها

(1)

"التمهيد"(21/ 249).

(2)

"الإحسان"(12/ 373).

(3)

"فتح الباري"(12/ 556).

ص: 355

وتعرضه لغضب الله تعالى وعقابه؛ لما فيها من المفاسد العظيمة.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] "

(1)

.

° الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، وهو قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه

(2)

؛ لأنها من الكبائر، فهي أعظم من أن تكفر، ولكن تمحى بالتوبة الصحيحة، ولا يقال: إن الكبائر فيها كفارة كالجماع في نهار رمضان؛ لأن كفارة الجماع مغلظة، ولو أثبتنا الكفارة في اليمين الغموس لكنا حططناها عن رتبة الكبائر؛ لأن كفارتها مخففة؛ ولأن الوطء في رمضان محرم لعارض، وإلا فالأصل الإباحة، بخلاف اليمين الغموس فهي غير مباحة بحال.

كما استدلوا بقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ} [المائدة: 89] ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الكفارة في اليمين المنعقدة، وهي التي قصد عقدها على أمر مستقبل ممكن بحيث يمكن فيها البر أو الحنث، واليمين الغموس غير منعقدة؛ لأنه لا يمكن فيها البر أو الحنث.

والقول الثاني: أن اليمين الغموس فيها كفارة، وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد، وهو قول الأوزاعي وابن حزم وعطاء والحكم، واستدلوا بقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ} قالوا: واليمين الغموس يمين منعقدة؛ لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى؛ ولأنه كلما عظم الذنب كان صاحبه أحوج إلى الكفارة

(3)

.

(1)

"صحيح البخاري"(6676).

(2)

"المدونة الكبرى"(2/ 28)، "تفسير الطبري"(6/ 267)، "التمهيد"(21/ 249)، "المغني"(13/ 448)، "الاختيار"(4/ 46).

(3)

"المحلى"(8/ 395)، "مغني المحتاج"(4/ 325)، "المغني"(13/ 448)، "الإنصاف"(11/ 16).

ص: 356

وقول الجمهور أرجح لقوة أدلتهم؛ لأن اليمين الغموس صاحبها آثم باتفاق المسلمين، ولا سيما إذا كان مقصوده أن يظلم غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم إن القول بالكفارة يفضي إلى تساهل الناس بها لخفة كفارتها.

يقول ابن القيم: (وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش، فإن الشارع لم يشرع له كفارة، ولهذا لا كفارة في الزنا ولا شرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة، وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس

وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبها، بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وإنما عملها فيما كان مباحًا في الأصل وحرم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"إعلام الموقعين"(2/ 118).

ص: 357

‌ما جاء في لغو اليمين

1376/ 8 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها في قَوْلِهِ تَعَالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ} قَالتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، باب ({لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}) (6663) من طريق يحيى، عن هشام قال: أخبرني أبي، عن عائشة رضي الله عنها:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ} قال: قالت: أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله.

ورواه أبو داود (3254) من طريق حسان بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في اللغو في اليمين قال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته، كلا والله، وبلى والله".

وهذا الإسناد تكلم العلماء في بعض رجاله، فحسان بن إبراهيم وثقه أحمد، وقال ابن معين:(ليس به بأس)، وفي رواية عنه:(ثقة)، وقال النسائي:(ليس بالقوي)، وقال ابن عدي:(قد حدث بأفراد كثيرة، وهو عندي من أهل الصدق، إلا أنه يغلط في الشيء ولا يتعمد)

(1)

.

(1)

"الكامل"(2/ 372)، "تهذيب التهذيب"(2/ 214).

ص: 358

وقال الحافظ في "التقريب": (صدوق يخطئ).

وأما إبراهيم بن ميمون الصائغ فقد قال عنه أحمد: (ما أقرب حديثه!) وقال ابن معين: (ثقة)، وقال أبو حاتم:(يكتب حديثه ولا يحتج به)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق).

ثم إن هذا الحديث أُعِلَّ بالوقف، قال أبو داود:(روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ موقوفًا على عائشة، وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول، وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفًا).

وصحح الدارقطني وقفه

(2)

.

° الوجه الثاني: في الحديث دليل على تفسير لغو اليمين وأنها اليمين التي تجري على لسان المتكلم بلا قصد، وإنما تترد على ألسنة الناس أثناء المحادثة، كقول الرجل في عرض كلامه: لا والله، وبلى والله، فيسبق إلى لسانه لفظ اليمين بلا قصد، وهذا تفسير عائشة رضي الله عنها وهو أحد القولين عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول الشافعية، وجزم به المجد ابن تيمية

(3)

، وقال ابن كثير:(والصحيح أنه اليمين من غير قصد)

(4)

. وذكر ابن عبد البر أنه قول أكثر العلماء

(5)

. ورجحه الشوكاني

(6)

.

واللغو: في الأصل ما لا يعتد به من الكلام، والمراد به في الأيمان ما يورد من غير روية، فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير

(7)

.

والقول الثاني: أن لغو اليمين ما يجري على لسان المتكلم بلا قصد، وكذا اليمين التي يحلفها على الشيء يظن صدق نفسه فينكشف خلافه، وقد عزا ابن عبد البر المعنى الثاني إلى جماعة من السلف، وقد روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما.

(1)

"الجرح والتعديل"(2/ 134 - 135)، "تهذيب التهذيب"(1/ 150).

(2)

"العلل"(14/ 146، 161).

(3)

"المحرر"(2/ 198).

(4)

"تفسير ابن كثير"(3/ 163).

(5)

"التمهيد"(21/ 251).

(6)

"نيل الأوطار"(15/ 352).

(7)

انظر: "اللسان"(15/ 250).

ص: 359

والقول بالجمع بينهما هو مذهب الحنابلة، وبه قال ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم

(1)

.

والظاهر -والله أعلم- أن لغو اليمين كما فسرته عائشة رضي الله عنها؛ لأنها شاهدت التنزيل، وهي عارفة بلغة العرب، فتفسيرها مقدم على تفسير غيرها، ويدل لذلك قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيمَانَ} [المائدة: 89] أي: بما صمَّمتم عليه من الأيمان وقصدتموها

(2)

.

فهذا يدل على أن اللغو هي اليمين من غير قصد.

وأما الصورة الثانية ففيها نظر، والصحيح أنها ليست بلغو؛ لأن الحالف قد قصد اليمين، لكن لا حنث فيها ولا كفارة؛ لأن الحالف بارٌّ بيمينه؛ لأنه حلف على شيء يعتقد صدقه فيه، ويمكن أن تسمى: يمين لغو باعتبار عدم الكفارة

(3)

.

وقد دل القرآن -كما تقدم- على أن لغو اليمين لا مؤاخذة فيه ولا كفارة، وهذا من رحمة الله تعالى بالعباد ولطفه بهم حيث لم يؤاخذهم إلا بما انعقدت عليه قلوبهم، ولا خلاف بين أهل العلم في أن لغو اليمين لا كفارة فيها

(4)

، وإنما الخلاف في المراد من لغو اليمين، وفي تفسيرها أقوال أخرى لبعض السلف

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"التمهيد"(21/ 248)، "المحلى"(8/ 34)، "الفتاوى"(33/ 212)، "زاد المعاد"(5/ 207)، "فتح الباري"(11/ 547).

(2)

"تفسير ابن كثير"(3/ 163).

(3)

"الشرح الممتع"(15/ 133 - 134).

(4)

"التمهيد"(21/ 247).

(5)

انظر: "مصنف عبد الرزاق"(8/ 475)، "تفسير ابن كثير"(3/ 163).

ص: 360

‌ما جاء في أسماء الله الحسنى

1377/ 9 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَسَاقَ التَّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ الأَسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ أَن سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الشروط"، باب (ما يجوز من الاشتراط والثُّنْيا في الإقرار

وإذا قال: مائة إلا واحدة أو ثنتين) (2736) وفي "التوحيد"(7392) عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، ورواه مسلم (2677)(6) عن أبي اليمان، عن أيوب، عن ابن سيرين، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائةً إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة".

ورواه البخاري (6410)، ومسلم (2677)(5) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد بلفظ:"لله تسعة وتسعون اسمًا -مائة إلا واحدة- لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم:"لله تسعة وتسعون اسمًا من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر يحب الوتر".

ورواه الترمذي (3507)، وابن حبان (3/ 88) من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا

ص: 361

مائة غير واحدة من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

" الحديث.

قال الترمذي: (هذا حديث غريب

وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث).

فهذا الحديث بسرد الأسماء ضعفه الأئمة؛ لتفرد من لا يقبل تفرده، واضطرابه، واحتمال الإدراج، فإن روايات ذكر الأسماء مخالفة لرواية الأثبات عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكرها، ومما يؤيد ذلك اختلاف الروايات في الأسماء وفي ترتيبها، فإنها لم تتفق على نسق واحد مما يؤكد أن ذكر الأسماء ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من الموصول المدرج في الحديث

(1)

، وكان بعض الرواة جمعها من الآيات والأحاديث، وأنت إذا تتبعت القرآن والسنة وجدت أسماء زائدة على هذا العدد.

ولعل الحكمة -والله أعلم- في عدم تعيينها أن يعني بها المؤمن وأن يتتبعها ويتدبرها ويعقل معانيها، بخلاف ما لو ذكرت محصورة فقد يقتصر عليها، وبهذا يعلم الجواب عن سؤال قد يرد، وهو كيف يتم حفظها ولم يأت بعددها حديث صحيح؟

قال البيهقي: (يحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، وكذلك في حديث الوليد بن مسلم، ولهذا ترك البخاري إخراج حديث الوليد في الصحيح)

(2)

.

وقال ابن كثير: (الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم،

(1)

انظر: "مجموع الفتاوى"(6/ 382)، "فتح الباري"(11/ 215).

(2)

"الأسماء والصفات" ص (8).

ص: 362

وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير وأحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك؛ أي: أنهم جمعوها من القرآن، كما ورفى عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي)

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) هذا لا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تعالى تسعة وتسعون اسمًا

أو نحو ذلك، وإنما معنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فجملة (من أحصاها دخل الجنة) صفة مكملة لما قبلها وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة

(2)

.

ومما يؤيد ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب عبدًا هَمٌّ ولا حُزْنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وفيه: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك

" الحديث

(3)

.

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به.

قوله: (من أحصاها) اختلف العلماء في تفسير ذلك على أقوال كثيرة، فقيل معناها: من حَفِظَها، وقد جاء هذا المعنى في بعض الروايات: (لا

(1)

"تفسير ابن كثير"(3/ 516).

(2)

"مجموع الفتاوى"(6/ 381)، "بدائع الفوائد"(1/ 166 - 167)، "القواعد المثلى" ص (14).

(3)

رواه أحمد (6/ 246)، وابن حبان (3/ 253)، والحاكم (1/ 509) وغيرهم، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ ابن حجر كما ذكر ابن علَّان في "الفتوحات الربانية" (4/ 13). وانظر:"العلل" للدارقطني (5/ 199 - 201) فإنه لما تكلم على الاختلاف على إسناده قال: (وإسناده ليس بالقوي).

ص: 363

يحفظها أحد إلا دخل الجنة)، قال النووي:(هكذا فسره البخاري، والأكثرون)

(1)

، وقيل: المراد معرفة معانيها والإيمان بها، وقيل: المراد من أطاقها بحسن الرعاية لها وتخلق بما يمكنه العمل بمعانيها، فإذا قال:(الرزاق) وثق بالرزق ونحو ذلك.

والأقرب -والله أعلم- أن المراد بإحصائها: حفظها لفظًا وفهمها وتدبرها معنى، وتمام ذلك أن يتعبد لله تعالى بمقتضاها، وَيتِمُّ بأمرين:

الأول: أن يدعو الله تعالى ويثني عليه بها، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] فيختار منها الاسم المناسب لمطلوبه.

والثاني: أن يتعرض في عبادته وأحواله لما تقتضيه هذه الأسماء، فما فيه معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد يقف فيه عند الخشية والرهبة، وما كان يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم يدرب العبد نفسه على الاتصاف بها، وما كان يختص به كالجبار والعظيم فعلى العبد الإقرار

(2)

.

* الوجه الثالث: وجه إيراد هذا الحديث في كتاب "الأيمان" لبيان أن الحلف إنما يكون بأسماء الله تعالى الحسنى وكذا صفاته العلى، كما تقدم، والحلف بها داخل في معنى إحصائها، كما تقدم. والله تعالى أعلم.

(1)

"الأذكار"(180).

(2)

انظر: "بدائع الفوائد"(1/ 164)، "شرح ابن بطال"(10/ 419 - 420)، "فتح الباري"(11/ 225).

ص: 364

‌ما جاء في الدعاء لصاحب المعروف

1378/ 10 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيهِ مَعْرُوفٌ فَقَال لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيرًا فَقدْ أَبْلَغَ في الثَّنَاءِ"، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الترمذي في أبواب "البر والصلة"، باب (ما جاء في النفقة بالمعروف)(2035)، وابن حبان (8/ 202) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا الأحوص بن جوَّاب، عن سُعير بن الخِمْس قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما مرفوعًا.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن جيد

(1)

غريب)، وفي "تحفة الأشراف":(حسن صحيح غريب)، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير"

(2)

. وقال أبو حاتم: (هذا حديث عندي موضوع بهذا الإسناد)

(3)

وفي موضع آخر قال: (هذا حديث منكر بهذا الإسناد)

(4)

، وقال الترمذي:(سألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: هذا منكر، وسُعير بن الخِمْسِ كان قليل الحديث، ويروون عنه المناكير)

(5)

، وقال البزار: (هذا الحديث لا نعلم رواه

(1)

هذه اللفظة قد يبدو أنها مصحفة، لكن لها نظير في بعض نسخ "جامع الترمذي" فانظر الحديث (60) تحقيق أحمد شاكر، والحديث (1972) تحقيق بشار عواد.

(2)

"تحفة الأشراف"(1/ 51)، "صحيح الجامع"(5/ 318).

(3)

"العلل"(2197).

(4)

"العلل"(2570).

(5)

"العلل الكبير"(2/ 803).

ص: 365

عن سليمان التيمي إلا سُعير، ولا عن سُعير إلا الأحوص بن جَوَّاب)

(1)

.

* الوجه الثاني: يستدل العلماء بهذا الحديث على استحباب مكافاة من أسدى إليك معروفًا وأن من كافأ صانع المعروف بالدعاء له أن يجزيه الله خيرًا فإنه لا يعتبر مقصرًا في مكافأته، وسيأتي لهذا مزيد في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ولم تتضح لي مناسبة هذا الحديث لكتاب (الأيمان) وإنما محله كتاب "الجامع"، والله أعلم.

(1)

"كشف الأستار"(1944).

ص: 366

‌ما جاء في النهي عن الندر

1379/ 11 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهى عَنِ النَّذْرِ وَقَال: "إِنَّهُ لَا يَأتِي بِخَيرٍ، وَإِنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (إلقاء العبدِ النذرَ إلى القدر)(6608)، ومسلم (1639)(4) من طريق منصور بن عبد الله، عن عبد الله بن مرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره، وهذا لفظ مسلم.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (نهى) النهي: طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء.

قوله: (عن النذر) تقدم أن النذر التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه منجزًا أو معلقًا، فالمنجز نحو: لله علي أن أتصدق بكذا، والمعلق: إن شفى الله مريضي فللَّه علي أن أتصدق بكذا.

وليس للنذر صيغة معينة، بل كل ما دل على الالتزام فهو نذر، مثل: لله عليَّ كذا، أو: إن قدم غائبي فللَّه عليَّ كذا، والغالب استعمال لفظة:(عليَّ) الدالة على الإيجاب.

وهذا النهي معناه: الزجر عن النذر حتى لا يفعل، بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر

ص: 367

شيئًا

" الحديث

(1)

، وبدليل قول ابن عمر رضي الله عنهما -وهو الراوي للحديث-: أَوَ لَمْ يُنهوا عن النذر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخر

" الحديث

(2)

.

وذكر ابن الأثير وجماعة أنه ليس نهيًا وإنما هو تأكيد لأمر النذر وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر لم يؤمر بالوفاء به؛ لأنه بالنهي يصير معصية، فكيف يؤمر بالوفاء بالمعصية؟!

قالوا: وإنما جاء الحديث بصيغة النهي خشية أن يظن بعض الجهلة أن النذر يغير القدر، فكأنه قال: إذا اعتقدتم ذلك فلا تنذروا

(3)

.

وهذا قول ضعيف لا يساعد عليه لفظ الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه صريح في المعنى الأول، إضافة إلى فهم ابن عمر رضي الله عنهما

(4)

.

قوله: (إنه لا يأتي بخير) جملة تعليلية، ولها معنيان:

الأول: أن النذر لا يأتي بخير إن لم يكن قدره الله تعالى، ويؤيد هذا المعنى رواية في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له"، فالناذر قد يظن أنه إذا قال: إن شفى الله مريضي فللَّه علي كذا، يظن أن النذر له أثر في حصول غرضه إن حصل، مع أن ذلك بقدر الله وقضائه نذر أو لم ينذر.

المعنى الثاني: أن معناها أن عقبى النذر لا تحمد فلا يأتي بخير:

1 -

لأن الناذر إذا نذر قربة صارت لازمة بالنذر، فيؤديها وهو مستثقل لها، وقد يعجز عنها، مع أنه كان في عافية وسعة قبل أن ينذر.

2 -

أن فيه إرادة المعاوضة مع الله وأن حصول مطلوبه لأجل النذر؛ لأن الناذر لم يمحض نيته للتقرب إلى الله تعالى.

ولا مانع من اعتبار المعنيين لوجودهما في النذر.

(1)

رواه مسلم (1940).

(2)

رواه البخاري (6692).

(3)

"النهاية"(5/ 39).

(4)

انظر: "المُعْلم"(2/ 236).

ص: 368

قوله: (وإنما يستخرج به من البخيل) أي: لأن البخيل لا يؤدي طاعة من صدقة أو صيام إلا في عوضٍ ومقابلٍ يُستوفى أولًا، فإن لم يحصل له غرضه لم يفعل، فيكون النذر هو السبب الذي استخرج منه تلك الطاعة، أما غير البخيل فهو يفعل الطاعة ابتداءً دون أن يعلقها على شيء.

وهذا عام في النذر المعلق وهو نذر المجازاة، كان شفى الله مريضي

، والنذر المطلق مثل: لله علي صدقة؛ لأن بعض الناس قد لا ينشط لعمل القربة، فيلزم نفسه بفعلها بواسطة النذر لأجل أن تلزمه.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النذر منهي عنه وأنه لا ينبغي، وأن فعله ابتداء ليس من الطاعات المرغب فيها، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به في الجملة.

قال الخطابي: (هذا باب غريب من العلم وهو أن ينهى عن الشيء أن يُفعل حتى إذا فعل وقع واجبًا)

(1)

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (إن النذر من غرائب العلم حيث كان عقده منهيًا عنه ووفاؤه محمودًا مأمورًا به، والقاعدة في جميع الأمور أن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا هذه المسألة)

(2)

.

ومن أهل العلم من حمل النهي في الحديث على نذر المجازاة، وهو النذر المعلق على وجود نعمة أو دفع نقمة، كما لو قال: إن شفى الله مريضي أو سكنت منزلًا لي فلله علي أن أصوم شهرًا.

أما النذر المطلق وهو التزام العبادة والنذر بها مطلقًا فهذا غير داخل في النهي.

* الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر، والظاهر أن سبب الخلاف ما ورد من الأدلة في الثناء على الذين يوفون بالنذر وأنه سبب من أسباب دخول الجنة، كقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وما ورد من الأدلة على وجوب الوفاء بالنذر، كقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ

(1)

"أعلام الحديث"(4/ 2277).

(2)

"الإرشاد" ص (217).

ص: 369

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"

(1)

. مع الأدلة التي تنهى عن النذر، وفي المسألة أربعة أقوال:

الأول: أن النذر مكروه، وعزاه الترمذي إلى ابن المبارك، وهو قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم الحنابلة في الصحيح من المذهب، وأكثر الشافعية، والمالكية، وابن حزم، إلا أن المالكية خصوا الكراهة بما يتكرر دائمًا كصوم يوم من كل أسبوع، وما لم يتكرر فهو مندوب

(2)

.

واستدلوا بما تقدم من الأدلة في النهي عن النذر؛ لأن فيها التصريح بالنهي عنه، وأنه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء، قالوا: والنهي يقتضي التحريم في الأصل، لكن صُرف إلى الكراهة بنصوص الكتاب والسنة التي أوجبت الوفاء بالنذر، ومدحت الموفين به، قال ابن قدامة: (وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم؛ لأنه لو كان حرامًا لما مَدَحَ الموفين به؛ لأن ذنبهم في ارتكاب المحرَّم أشد من طاعتهم في وفائه

)

(3)

.

والقول الثاني: أن النذر محرَّم، ونُسب هذا إلى طائفة من أهل الحديث، ورجحه الصنعاني

(4)

، وقال ابن مفلح:(وتوقف شيخنا -يعني: ابن تيمية- في تحريمه)

(5)

، وقال الشيخ محمد بن عثيمين:(القول بتحريمه قوي)

(6)

مع أنه يقول بكراهته، والذين حرَّموه أخذوا بظاهر النهي عنه، قالوا: ولأن الناذر قد يقع في قلبه شيء من سوء الظن بالله تعالى وأن الله تعالى لا يجلب له هذه النعمة ولا يدفع عنه هذه النقمة إلا بالنذر، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لا يأتي بخير.

(1)

رواه البخاري (6700).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 198)، "المحلى"(10/ 7)، "المغني"(13/ 621)، "المجموع"(8/ 450)، "مغني المحتاج"(4/ 354)، "جواهر الإكليل"، (1/ 244)، "أضواء البيان"(5/ 677).

(3)

"المغني"(13/ 621).

(4)

"سبل السلام"(8/ 38).

(5)

"الفروع"(6/ 395)، "فتح الباري"(11/ 578)، "الإنصاف"(11/ 117).

(6)

"الشرح الممتع"(13/ 207).

ص: 370

فإن قيل: كيف أثنى الله على الموفين بالنذر وقد ارتكبوا ما نهى الله عنه؟ فالجواب من وجهين:

الأول: أن الله لم يثن على الناذرين وإنما أثنى على الموفين، وفرق بين الأمرين، وعلى هذا فعقد النذر ليس عبادة، لكن الوفاء به عبادة.

الجواب الثاني: أن العلماء قد اختلفوا في معنى قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْر} على قولين:

الأول: قول قتادة ومن وافقه أن المراد يوفون بما افترض الله عليهم من الطاعات كالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ونحو ذلك، ويقوي قول قتادة قوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] أي: أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج، ذكر ذلك القرطبي

(1)

.

الثاني: قول مجاهد وعكرمة وغيرهما أن الآية على ظاهرها، وأن المراد النذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه، وأن هذا مدح لهم بالوفاء به.

وقد جمع ابن كثير بين القولين فقال: (أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر)

(2)

.

والقول الثالث: أن النهي ورد في نذر المجازاة، وهو ما عُلِّق على حصول نفع للناذر، مثل: إن شفى الله مريضي فعليَّ كذا، وذلك لأنه لم يقع طاعة خالصة، ولأن الأحاديث الواردة في ذلك جاء فيها أن النذر لا يرد شيئًا من القدر، وبهذا جزم القرطبي

(3)

، وأما النذر المطلق فهو الذي ورد فيه الترغيب والثناء على الموفين به، وهذا قول جماعة من أهل العلم من الشافعية وغيرهم، واختاره الشنقيطي

(4)

.

والقول الرابع: أن النهي محمول على من علم من حاله عدم القيام بما

(1)

انظر: "تفسير الطبري"(29/ 208)، "تفسير القرطبي"(19/ 128).

(2)

"تفسير ابن كثير"(8/ 313).

(3)

"المفهم"(4/ 606).

(4)

انظر: "طرح التثريب"(6/ 39)، "فتح الباري"(11/ 578)، "أضواء البيان"(5/ 677).

ص: 371

التزمه من النذر، لضعف ونحوه، ويكون معنى قوله:(إنه لا يأتي بخير) أن عقباه لا تُحمد، فإن الناذر قد لا يفي، وقد يتعذر الوفاء به، وقد يأتي به كارهًا مستثقلًا -كما تقدم -

(1)

، أما من قوي على الوفاء بالنذر فإنه يكون في حقه عبادة مشروعة، وهذا القول فيه جمع بين الأدلة، فإن الله عز وجل قد أمر بالوفاء بالنذر -كما تقدم- والأمر بالوفاء به يدل على أنه عبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وأثنى الله على الموفين به فقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة

(2)

، وقد دل قوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية

(3)

.

قال الشوكاني: (فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك)

(4)

، ومما يؤيد هذا الجمع أنه لو كان منهيًا عن النذر على الإطلاق لكان النذر معصية، فكيف يؤمر الناذر بالوفاء بالمعصية؟! وكيف يكون النذر بعد الوفاء عبادة، ويكون صرفه لغير الله تعالى شركًا في العبادة؟

(5)

.

وهذا الجمع قال به جماعة من أهل العلم، وعزاه ابن العراقي إلى القائلين بالاستحباب، وقد جزم به جماعة من الشافعية

(6)

، وهو قول الحنفية

(7)

، وهو أقرب الأقوال. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "سبل السلام"(4/ 224).

(2)

انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (203).

(3)

انظر: "طرح التثريب"(6/ 40)، "روح المعاني"(3/ 43).

(4)

"فتح القدير"(1/ 290).

(5)

انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (203).

(6)

انظر: "طرح التثريب"(6/ 39 - 40).

(7)

انظر: "الاختيار"(4/ 76).

ص: 372

‌ما جاء في أن النذر تدخله الكفارة

1380/ 12 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمينٍ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَزَادَ التِّرْمِذيُّ فِيهِ:"إِذَا لَمْ يُسَمَّ" وَصَحَّحَهُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "النذر"، بابٌ (في كفارة النذر)(1645) من طريق عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شِمَاسة

(1)

، عن أبي الخير

(2)

، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا.

ورواه الترمذي (1528) من طريق أبي بكر بن عياش، حدثني محمد مولى المغيرة بن شعبة، حدثني كعب بن علقمة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يُسَمَّ كفارة يمين" وليس في هذا الإسناد عبد الرحمن بن شماسة.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب) وفي إسناده محمد بن يزيد بن أبي زياد الفلسطيني مولى المغيرة بن شعبة، قال عنه أبو حاتم والدارقطني:(مجهول)

(3)

.

ولعل الحافظ ذكر زيادة الترمذي -على ما فيها- لأن فيها تقييدًا لإطلاق رواية مسلم، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي:"من نذر ندرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين".

(1)

انظر: "فتح الباري"(4/ 80).

(2)

هو مرثد بن عبد الله اليَزَني.

(3)

"الجرح والتعديل"(8/ 126)، "سنن الدارقطني"(1/ 198).

ص: 373

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن للنذر كفارة مثل كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

* الوجه الثالث: ظاهر الحديث أن الكفارة تدخل في كل نذر، وأن من نذر طاعة من صلاة أو صيام أو صدقة فكفارته كفارة يمين ولا يلزمه الوفاء به.

ووجه الاستدلال: أن الشرع شبه النذر باليمين، فإذا كانت اليمين لا يلزم الوفاء بها بل له أن يكفر فكذا النذر.

والقول بالعموم هو قول جماعة من فقهاء الحديث -كما يقول النووي

(1)

-، وذلك لأن الحديث مطلق لم يقيد بنذر دون نذر.

ومن العلماء من حمله على النذر المبهم، ويسمى -أيضًا- النذر المطلق، وهو الذي لم يحدد فيه جنس النذر ولا مقداره، فمن نذر نذرًا لم يسمه كأن يقول: لله علي نذر، أو إن شفى الله مريضي فللَّه علي نذر، فهذا هو الذي فيه كفارة اليمين، وقد رجح هذا الشوكاني

(2)

، والشنقيطي

(3)

، ومن قال بهذا أخذ بزيادة الترمذي وما يؤيدها من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

أما النذور المسماة فإما أن تكون فعلًا، وإما أن تكون مالًا، فإن كانت فعلًا فهي ثلاثة أقسام: نذر الطاعة، ونذر المباح، ونذر المعصية.

فأما نذر الطاعة: فإما أن يكون جنسها واجبًا بأصل الشرع كالصلاة والصوم، والحج، فهذا يلزم الوفاء به إذا كان معلقًا على شيء، قال الموفق ابن قدامة:(بإجماع أهل العلم)، وقال ابن الملقن:(قام الإجماع على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة)

(4)

فإن كان منجزًا، وهو غير المعلَّق، لزم الوفاء به، وهذا قول الجمهور، ومنهم الحنابلة والمالكية والحنفية.

(1)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 113).

(2)

"نيل الأوطار"(5/ 664).

(3)

"أضواء البيان"(5/ 664).

(4)

"المغني"(13/ 626)، "التوضيح"(30/ 374).

ص: 374

ودليلهم حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه أن يوفي بنذر نذره في الجاهلية وهو أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، كما سيأتي، وعلى هذا فنذر الطاعة لا تدخله الكفارة، وإنما يجب الوفاء به، ومن الأدلة أن الله تعالى ذم من لم يف بنذره قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 75 - 77].

فإن كان جنس الطاعة غير واجب بأصل الشرع كالاعتكاف وعيادة المريض فالأكثرون أنه يلزم الوفاء به، وعند أبي حنيفة لا يلزم الوفاء به؛ لأن النذر فرع عن المشروع، فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع

(1)

.

وإن كان مباحًا كلبس الثوب وركوب السيارة ونحو ذلك فهذا ينعقد ويخير الناذر بين الوفاء به وبين كفارة اليمين، وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه النووي في "المنهاج"

(2)

.

واستدلوا بعموم حديث الباب؛ ولأنه لو حلف على فعل مباح برَّ بفعله، فكذلك إذا نذر؛ لأن النذر كاليمين.

والقول الثاني: أن نذر المباح لا ينعقد، وليس عليه كفارة، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية، وهو الأصح في مذهب الشافعية، وهو رواية مخرَّجة في مذهب أحمد

(3)

.

واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسال عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مره فليتكلم وليستظل وليتم صومه"

(4)

.

(1)

"حاشية ابن عابدين"(3/ 1772)، "الاختيار"(4/ 76).

(2)

"المغني"(13/ 626 - 627)، "مغني المحتاج"(4/ 357)، "الشرح الممتع"(5/ 213).

(3)

"الإنصاف"(11/ 12).

(4)

رواه البخاري (6704).

ص: 375

فدل هذا الحديث على أن نذره لم ينعقد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالوفاء به ولم يوجب عليه كفارة، بل أمره ألا يفي به، إلا الصوم لأنه طاعة

(1)

.

والأقرب -والله أعلم- أن نذر المباح ينعقد ويخير بين الوفاء وبين كفارة اليمين، ويؤيد هذا مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، فإن مفهومه أنه لا يجب الوفاء إلا بنذر الطاعة.

وأما القسم الثالث -وهو نذر المعصية- فسيأتي إن شاء الله في الحديث الآتي.

أما إن كان المنذور مالًا كان يقول: لله عليَّ أن أتصدق بمالي، فقد اختلف العلماء فيما يلزم إخراجه على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه يكفيه إخراج الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة رضي الله عنه حين قال: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال:"يجزئك الثلث"

(2)

، ومثله قال لكعب بن مالك رضي الله عنه

(3)

، وقد فهم أبو داود هذا الحكم وبوَّب عليه (باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله)

(4)

، وهذا قول مالك، وهو المذهب عند الحنابلة

(5)

، واختاره الشنقيطي

(6)

.

والقول الثاني: أنه يتصدق بجميع ماله، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن أحمد

(7)

، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"؛ ولأن اسم المال يقع على الجميع.

(1)

"التوضيح"(30/ 391).

(2)

أخرجه أبو داود (3320)، وأحمد (25/ 27)، ومالك (2/ 481)، وعبد الرزاق (8/ 484)، والبيهقي (10/ 67)، والحديث له طرق كثيرة عن الزهري.

(3)

أخرجه أبو داود (3318)، (3319) وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 68)،

وقصة كعب بن مالك أخرجها البخاري (2757)، ومسلم (2769) وليس فيها ذكر الثلث، وإنما فيها: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك

".

(4)

انظر: "عون المعبود"(9/ 148).

(5)

"بداية المجتهد"(2/ 425)، "الإنصاف"(11/ 127).

(6)

انظر: "أضواء البيان"(5/ 672).

(7)

"شرح المهذب"(8/ 462)، "الفروع"(6/ 398).

ص: 376

والقول الثالث: أنه يتصدق بجميع ماله، ويُبقي لنفسه ولمن يعول ما يغنيهم عن سؤال الناس، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالنذر، مع قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، والعفو في أصح التفسيرين هو: ما لا يضر إنفاقه بالمنفق ولا يجحف به، لإمساكه ما يسدُّ خلته الضرورية

(1)

؛ ولأن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز التصدق به، فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجه إذا نذره

(2)

، وهو قول ابن حزم

(3)

، وبعض المالكية، وهو اختيار ابن القيم

(4)

، وقد ذكر ذلك الشافعي ولم ينسبه لأحد بعينه

(5)

.

وأما قصة أبي لبابة وكعب بن مالك رضي الله عنهما فليس فيها ما يدل على النذر

(6)

، وإنما هي صدقة من باب شكر النعمة، وهي توبة الله تعالى عليهما؛ لأن كلًّا منهما قال:(إن من توبتي)، أي: من شكر توبتي

(7)

، وفرق بين من يلتزم إخراج ماله بالنذر، وبين من يريد أن يتصدق

(8)

، على أن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه ليس فيها ذكر الثلث، وإنما قال له النبي صلى الله عليه وسلم، "أمسك عليك بعض مالك".

والأقرب -والله أعلم- لزوم الصدقة بجميع المال لمن نذر ذلك إذا حَسُنَ ظنه بربه وصَدَق اعتماده عليه، مع وجود ما يقوم بكفايته من مرتب ونحو ذلك، وهذا فيه احتياط وإبراء للذمة، قال ابن القيم بعد ذكره الأقوال في المسألة:(وأصح هذه الأقوال: ما دل عليه حديث كعب المتفق عليه أنه يتصدق به، ويمسك عليه بعضه، وهو ما يكفيه ويكفي عياله، والله أعلم)

(9)

.

(1)

انظر: "أضواء البيان"(5/ 685).

(2)

انظر: "زاد المعاد"(3/ 586).

(3)

"المحلى"(8/ 353).

(4)

انظر: "تهذيب مختصر السنن"(4/ 384 - 385)، "زاد المعاد"(3/ 586).

(5)

"الأم"(2/ 278، 279)، "بلغة السالك"(1/ 738).

(6)

انظر: "الأعلام"(9/ 337).

(7)

"الإعلام"(9/ 335).

(8)

"سبل السلام"(4/ 226).

(9)

"تهذيب مختصر السنن"(4/ 385)، "عون المعبود"(9/ 154)، "الشرح الممتع"(15/ 228).

ص: 377

‌أحكام بعض أنواع النذر

1381/ 13 - وَلأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: "مَنْ نَذَرَ نَدْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَارَتُهُ كَفَّارَةُ يمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا في مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَدْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفارَةُ يَمِينٍ"، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إلا أن الْحفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ.

1382/ 14 - وَلِلْبُخَاريِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ".

1383/ 15 - وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: "لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةٍ".

* الكلام عليها من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه أبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (من نذر نذرًا لا يطيقه)(3322) من طريق طلحة بن يحيى الأنصاري، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، وتمامه:"ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به".

وهذا الحديث إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ ومنهم أبو حاتم وأبو زرعة والبيهقي

(1)

، رجحوا وقفه على ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحافظ ابن حجر:(رواته ثقات، لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا وهو أشبه)

(2)

. وقد رواه

(1)

"العلل"(1326)، "السنن الكبرى"(10/ 45).

(2)

"فتح الباري"(11/ 587).

ص: 378

ابن أبي شيبة (4/ 173) من طريق وكيع بن الجراح، عن عبد الله بن سعيد به، عن ابن عباس موقوفًا، وأشار أبو داود إلى ذلك.

ووجه ترجيح الموقوف أن رافعه طلحة بن يحيى متكلم فيه، فقد وثقه ابن معين وعثمان بن أبي شيبة وابن حبان، وأخرج له الشيخان، لكن قال أبو حاتم:(ليس بقوي)

(1)

، وأما وكيع فهو إمام حافظ.

أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد رواه البخاري في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (النذر فيما لا يملك وفي معصية)(6700) من طريق طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فديطعه، ومن ندر أن يعصي الله فلا يعصه".

والحافظ اختصر الحديث فترك أوله، ولو ساقه بتمامه كما فعل ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي لكان أولى.

وأما حديث عمران بن حصين رضي الله عنه فقد رواه مسلم في كتاب "النذر"، بابٌ (لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد)(1641) من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

وساق الحديث بطوله، وفي آخره:"لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد"، وفي رواية:"لا نذر في معصية الله"، وتقدمت الإشارة إليه في "الجهاد".

ورواه النسائي (7/ 28) من طريق محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارتها كفارة يمين".

وهذا سند ضعيف، قال النسائي عقبه: (محمد بن الزبير ضعيف لا تقوم به حجة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث،

وقيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران رضي الله عنه).

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 482)، "تهذيب التهذيب"(5/ 26).

ص: 379

وأعله البيهقي (10/ 75) بالانقطاع، وابن حزم (8/ 7) بضعف محمد وبالانقطاع، وله طرق أخرى كلها ضعيفة.

* الوجه الثاني: في الحديث دليل على أن من نذر نذرًا مبهمًا لم يسمه ففيه كفارة يمين، كما تقدم، لكن لو نذر عبادة وأطلق وجب عليه أقل ما يصدق عليه الاسم، فإذا قال: لله علي أن أصلي، وجب عليه ركعتان، وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقول للشافعي؛ لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان، فوجب حمل النذر عليه، وقيل: ركعة، وهذا رواية عن أحمد، وقول للشافعي

(1)

، وهذا مقيس على النفل وهو الوتر، والنذر فرض، فقياسه على المفروض أولى، وإن قال: لله علي أن أصوم، وجب عليه صيام يوم بلا خلاف؛ لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من نذر نذر معصية كشرب خَمْرٍ أو دخان أو نَذَرَ قطيعة رحم، فإنه لا يجوز الوفاء به بالإجماع

(2)

، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" وقوله: "لا وفاء لنذر في معصية".

وأما وجوب الكفارة ففيه قولان:

الأول: أن عليه الكفارة، وهو مروي عن جماعة من الصحابة كابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وبه قال الثوري، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وهو من المفردات، واختاره الحافظ البيهقي

(3)

، وابن القيم

(4)

، والصنعاني

(5)

، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين

(6)

.

واستدلوا بأدلة، منها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء به، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وكفارته

(1)

"المغني"(13/ 624).

(2)

"المغني"(13/ 634).

(3)

انظر: "المغني"(13/ 624)، "المجموع"(8/ 453، 457).

(4)

انظر: "تهذيب مختصر السنن"(4/ 373).

(5)

"سبل السلام"(4/ 227).

(6)

"الشرح الممتع"(15/ 216).

ص: 380

كفارة يمين"

(1)

.

ويدل لذلك -أيضًا- عموم حديث عقبة رضي الله عنه: "كفارة النذر كفارة يمين" فإنه يتناول نذر المعصية؛ لأنه لم يخص نذرًا دون نذر، وفي المسألة أحاديث أخرى لا تخلو من مقال، لكن يشد بعضها بعضًا

(2)

.

والقول الثاني: أن نذر المعصية ليس فيه كفارة، وهذا قول الجمهور، ومنهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة، ورواية مُخرجة عن أحمد، فإنه قال: فيمن نذر "ليهدمن دار غيره لبنة لبنة": (لا كفارة عليه).

واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فنهى عن الوفاء بنذر المعصية، ولم يأمر الناذر بكفارة، فدل على أنها غير واجبة

(3)

، واختار هذا القول الشوكاني

(4)

.

والقول الأول أرجح، لما تقدم؛ ولأن المعنى يقتضي ذلك، فإن الناذر نذر معصيةٍ ارتكب إثمًا بمجرد نذره، فهو أحوج إلى الكفارة لمحو هذا الإثم وإزالته؛ ولأن الأمر مقدم على الإباحة -كما تقرر في الأصول- للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، فمن أخرج الكفارة فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع

(5)

.

وأما الأحاديث التي لم تذكر الكفارة فليست دليلًا على عدم وجوبها؛ لأنها لم تنفِ الكفارة، والأحاديث الأخرى نطقت بما سكتت عنه هذه الأحاديث، فتكون دلالتها مقدمة، مع أن الأحاديث التي فيها الكفارة كلها معلولة، وأصح ما فيها حديث عقبة:"كفارة النذر كفارة يمين". لكن إن فعل المعصية فهل عليه كفارة؟ الجواب: هو آثم بفعلها، وعليه التوبة، والجمهور

(1)

أخرجه ابن الجارود (935)، ومن طريقه البيهقي (10/ 72)، وفي سنده خطاب بن القاسم الحراني، وهو متكلم فيه، انظر:"تهذيب الكمال"(8/ 269) مع ما يخشى من تفرده عن بقية أصحاب عبد الكريم بن مالك الجزري. انظر أيضًا: "تهذيب الكمال"(18/ 252).

(2)

انظر: "تهذيب مختصر السنن"(4/ 374)، "إرواء الغليل"(8/ 214).

(3)

"الأم"(2/ 279)، "بداية المجتهد"(2/ 415)، "الاختيار"(4/ 78)، "المغني"(13/ 624)، "المجموع"(8/ 457)، "الإنصاف"(11/ 122).

(4)

"نيل الأوطار"(15/ 379).

(5)

انظر: "أضواء البيان"(5/ 669).

ص: 381

على أنه لا تلزمه الكفارة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وهناك وجه تلزمه الكفارة مطلقًا

(1)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من نذر نذرًا لا يطيقه فإنه يكفر كفارة يمين، كنذر طيران في الهواء بلا واسطة، أو حمل صخرة عظيمة، أو أن يمشي إلى مكة أو يختم القرآن كل يوم ونحو ذلك، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين ما كان طاعة أو مباحًا، وهذا فيه كفارة يمين، وهو المذهب عند الحنابلة

(2)

، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا؛ ولأنه عجز عن الوفاء به، فكان الواجب فيه كفارة يمين كسائر النذور عند عدم الوفاء بها. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الإنصاف"(11/ 123)، "المجموع"(8/ 457).

(2)

"المغني"(13/ 632).

ص: 382

‌حكم ندر المشي إلى بيت الله

1384/ 16 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيتِ الله حَافِيَةً، فَأَمَرَتْني أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيتُهُ فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.

1385/ 17 - وَلِأَحْمَدَ، وَالأَرْبَعَةِ: فَقَال: "إِنَّ اللهَ تَعَالى لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيئًا، مُرْهَا فلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثةَ أَيَّامٍ".

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجهما:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "جزاء الصيد"، باب (من نذر أن يمشي إلى الكعبة)(1866)، ومسلم (1644) من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته، فقال:"لتمش ولتركب".

وهذا -كما يقول الحافظ- لفظ مسلم، وهو لفظ البخاري -أيضًا- سوى قوله:"حافية"، وفيها فائدة؛ لأن فيها نوعًا من المشقة.

ورواه أحمد (28/ 523، 540)، وأبو داود (3293)، والترمذي (1544)، والنسائي

(1)

(7/ 20)، وابن ماجه (2134) من طريق عبيد الله بن

(1)

في إسناد النسائي سقط.

ص: 383

زَحْر، عن أبي سعيد الرُّعَيني، عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يصنع بشفاء أختك شيئًا

" الحديث.

وهذا لفظ أحمد والنسائي.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وفي إسناده عبيد الله بن زَحْر متكلم فيه، والأكثرون على تضعيفه، فقد وثقه البخاري، وقال أبو زرعة:(لا بأس به، صدوق)، وقال النسائي:(ليس به بأس)، وضعفه أحمد في رواية، وابن معين، وابن المديني وأبو حاتم والعجلي ويعقوب بن سفيان والدارقطني وآخرون

(1)

.

وذِكْرُ الصيام في الحديث لم يأت من طريق تقوم به حجة، لا سيما وفي الطريق الآتية خلافه وهو قوله:"ولتهد بدنة".

وقد تابعه بكر بن سوادة، عن أبي سعيد به، رواه أحمد (28/ 566) وسنده ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ.

ورواه أبو داود (3303) -من مسند ابن عباس- من طريق إبراهيم بن طهمان، عن مطر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخت عقبة بن عامر رضي الله عنه نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة".

وبهذا يتبين أن الحديث جاء فيه زيادة الصيام والهدي على ما ثبت في "الصحيحين" من أمرها بالمشي والركوب، ولفظ الإهداء شاذ لأمرين:

الأول: من حيث السند فقد نقل الترمذي ومن بعده البيهقي عن البخاري: أنه لا يصح في حديث عقبة الأمر بالهدي

(2)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 12).

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 80)، "فتح الباري"(11/ 589).

ص: 384

الثاني: من حيث المتن، فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز:(إن ذكر الهدي مخالف للأصول في باب الأيمان والنذور؛ لأن الهدي ليس من أجزاء كفارة اليمين).

وأما لفظ الصيام فالألباني يرى أنه لم يأت من طريق تقوم به حجة، والمحفوظ هو الهدي

(1)

، ويرى الشيخ عبد العزيز ثبوت الصيام، ويؤيده ما في "المسند"(5/ 34) من طريق كريب، عن ابن عباس، وفيه:"ولتكفر عن يمينها"

(2)

، وفي سنده شريك بن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ، والصيام من أجزاء الكفارة.

والذي يظهر -والله أعلم- أن المحفوظ في حديث عقبة رضي الله عنه -هو ما ثبت في "الصحيحين" من الركوب والمشي، وأما ذكر الصيام والهدي فهو شاذ لا تقوم به حجة لإعراض الشيخين عنهما، وقد تقدم لنا في بعض المواضع من هذا الشرح أن الحديث إذا جاء في "الصحيحين" وجاء في غيرهما زيادات فالغالب أنها معلولة.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (أن تمشي إلى بيت الله) جاء عند أبي داود -كما تقدم- من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية).

قوله: (حافية) أي: غير منتعلة.

قوله: (لتمش) بكسر اللام وهي لام الأمر، والمضارع بعدها مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء، والمعنى: لتمش في وقت قدرتها على المشي.

(1)

"الإرواء"(8/ 218 - 221).

(2)

انظر: "حاشية الشيخ عبد العزيز بن باز على البلوغ"(2/ 745).

ص: 385

قوله: (ولتركب) أي: إذا عجزت عن المشي أو لحقها مشقة ظاهرة، ويحتمل أن المراد الإذن بالركوب مطلقًا.

قوله: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا) بفتح الشين؛ أي: بتعبها أو مشقتها؛ والمعنى: لا حاجة لله تعالى به فهو غني عنه.

وفي حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه، قال:"ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي، فقال:"إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب"

(1)

.

قوله: (فلتختمر) أي: تغطي رأسها بالخمار.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة نذر الذهاب إلى بيت الله الحرام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر المرأة على نذرها الذهاب؛ ولأن المسجد الحرام مما تشد إليه الرحال، فمن نذر ذلك لزمه، كما سيأتي، والقول بلزوم هذا النذر هو قول الجمهور، بل قال الموفق:(لا نعلم فيه خلافًا)

(2)

.

* الوجه الرابع: اختلف العلماء فيمن نذر المشي إلى بيت الله هل يلزمه المشي على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يلزمه المشي، وله أن يركب ولو قدر على المشي، ولا شيء عليه، وهذا قول للشافعي، ورواية عن أحمد، وعن الشافعي يركب عند العجز، ولا شيء عليه

(3)

، أخذًا برواية "الصحيحين" من وجهين:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لأخت عقبة بالركوب بدون قيد.

2 -

أنه لم يأمرها بالكفارة.

قالوا: لأن المشي نفسه ليس بطاعة، وإنما الطاعة الوصول إلى ذلك

(1)

رواه البخاري (1865)، ومسلم (1642).

(2)

"المغني"(13/ 635).

(3)

"المهذب"(1/ 328)، "المفهم"(4/ 616 - 618)، "الإنصاف"(11/ 149).

ص: 386

المكان من غير فرق بين المشي والركوب، ولهذا سوغ النبي صلى الله عليه وسلم الركوب للناذر بالمشي، فدل على عدم لزومه النذر بالمشي وإن كان داخلًا تحت الطاعة.

القول الثاني: أنه يلزمه المشي، فإن عجز ركب وعليه كفارة يمين، وهذا هو المذهب عند الحنابلة

(1)

، وهو قول الأوزاعي

(2)

. لما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد: "ولتكفر عن يمينها"، كما استدلوا بعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"من نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين"، وعن الإمام أحمد: أنه يصوم ثلاثة أيام، وعنه: أنه يلزمه دم، قال صاحب "الإنصاف":(وجوب كفارة اليمين أو الدم من مفردات المذهب)

(3)

، وهذا مروي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما، وهو قول عطاء والحسن، والدم الواجب عندهم هو شاة

(4)

.

ولعل القائلين بالدم أخذوا بالروايات التي نصت على الهدي.

القول الثالث: أنه إن شق عليه المشي ركب ولا شيء عليه وإن قدر على المشي وركب الطريق كله فعليه الهدي، وهذا قول ابن حزم

(5)

، واستدل بعموم قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] قال: من ليس المشي في وسعه فلم يكلفه الله تعالى المشي، وكان نذره لما ليس في وسعه معصية لا يجوز له الوفاء به، كما استدل بحديث أنس رضي الله عنه المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من نذر المشي وهو لا يطيقه بشيء لركوبه، كما استدل برواية:"فأمرها أن تركب وتهدي هديًا".

وفي المسألة أقوال وتفاصيل ليس عليها دليل، وحديث عقبة واضح فيما

(1)

"المغني"(13/ 635)، "الإنصاف"(11/ 148).

(2)

"جامع العلوم والحكم" ص (435).

(3)

"الإنصاف"(11/ 149).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 94)، "التوضيح"(12/ 493).

(5)

"المحلى"(7/ 263).

ص: 387

دل عليه، فمن أخذ بما ثبت في "الصحيحين" من أنه لا شيء عليه، فله ذلك، وهو اختيار الشنقيطي

(1)

، ومن أراد الاحتياط فكفَّر عما تركه من المشي أو أهدى هديًا فله ذلك، مع ما تقدم من إعلال الروايات. والله تعالى أعلم.

(1)

"أضواء البيان"(5/ 674).

ص: 388

‌ما جاء في قضاء نذر الميت

1386/ 18 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَال:"اقْضِهِ عَنْهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الوصايا"، باب (ما يستحب لمن توفي فُجاءة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذر عن الميت)(2760) وفي كتاب "الأيمان والنذور"، باب (من مات وعليه نذر)(6698)، ومسلم (1638) من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما

وهذا لفظ مسلم.

وهذا الحديث مرسل صحابي؛ لأن أم سعد ماتت سنة خمس، وكان ابنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، وابن عباس كان مع أبويه في مكة، فيحتمل أنه حمله عن سعد أو عن غيره

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (استفتى) أي: طلب الفتيا.

قوله: (سعد بن عبادة) تقدم له ترجمة في "الحدود" عند الحديث (1222).

قوله: (في نذر) لم يبين في هذه الرواية ما هو النذر، فقيل: كان عتقًا،

(1)

"فتح الباري"(5/ 386).

ص: 389

كما في رواية عند النسائي

(1)

، وقيل: صومًا، وقيل: صدقة، وقيل: كان نذرًا مطلقًا، واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد

(2)

، قال القرطبي:(الكل محتمل، ولا مُعَيِّنَ، فهو مجمل)

(3)

.

قوله: (على أمه) هي عمرة بنت مسعود من بني النجار رضي الله عنها، كانت من المبايعات، توفيت سنة خمس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، كما تقدم، فلما قدم صلى على قبرها

(4)

.

قوله: (اقضه عنها) أي: لتبرأ ذمتها من تبعة هذا النذر، وهذا الأمر للوجوب عند الظاهرية، كما سيأتي، وعند الجمهور للندب؛ لأنه أمر بالقضاء على جهة الفتوى فيما سئل عنه، ففيه بيان أنه إن فعل ذلك عنها صح

(5)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من مات وعليه نذر طاعة فمانه يشرع لوارثه قضاؤه عنه؛ لأنه إحسان إليه وبر وصلة ولا سيما إذا كان الميت أحد الوالدين.

* الوجه الرابع: ظاهر الحديث أنه يجب على الوارث أن يقضي النذر عن الميت، سواء أكان بدنيًّا أم ماليًّا، وهذا قول الظاهرية

(6)

، لقوله:(فاقضه عنها) والأمر للوجوب، ورجح هذا الصنعاني

(7)

.

والقول الثاني: أنه لا يلزم الوارث قضاء نذر الميت إلا أن يوصي

(8)

، أو يكون ماليًّا ويخلف تركة، وهذا قول الجمهور، قالوا: والأمر للاستحباب؛ لأنه لو قيل: إن الأمر للوجوب للزم منه أن يأثم الولي بعدم القضاء، وهذا مخالف لعموم قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وهذا هو الأظهر، ويؤيد هذا أمران:

(1)

"السنن"(6/ 253).

(2)

"إكمال المعلم"(4/ 359).

(3)

انظر: "التمهيد"(9/ 26)، "المفهم"(4/ 655).

(4)

"الاستيعاب"(13/ 98)، "الإصابة"(13/ 53).

(5)

"المفهم"(4/ 605).

(6)

"المحلى"(27/ 8)، "التهميد"(9/ 26).

(7)

"سبل السلام"(4/ 229).

(8)

"التمهيد"(9/ 26).

ص: 390

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه قضاء نذر الميت بقضاء الدين، وقضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضى منها، ولهذا يصح قضاء نذر الميت من الوارث وغيره، كما لو قضى عنه دينه؛ ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو من باب التبرع، وغيره مثله في التبرع.

2 -

أن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجزاء، كما هو ظاهر اللفظ، وقد جاء في رواية عند النسائي:(أفيجزئ أن أعتق عنها)، فيكون الأمر في الحديث لبيان الإجزاء لا للإيجاب، كقول السائل: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "صلوا في مرابض الغنم". فإن كان السؤال عن الوجوب، نحو: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "توضأوا من لحوم الإبل" فهو للوجوب

(1)

.

وخلاصة ذلك: أنه إن كان النذر ماليًّا وخلف الميت تركة فلا خلاف في وجوب قضاء نذره، وإن كان ماليًّا ولم يخلف تركة، أو غير مالي لم يجب القضاء عند الجمهور خلافًا للظاهرية.

وقد نقل القرطبي الإجماع على أن حقوق الأموال من العتق والصدقة تصح النيابة فيها وتصح توفيتها عن الميت والحي، وإنما الخلاف في الأعمال البدنية، كما تقدم

(2)

.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الميت يلحقه ما يفعل له من الأعمال الصالحة من عتق أو صدقة أو حج أو دعاء وغير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لسعد رضي الله عنه أن يقضى نذر أمه، ولو كان ذلك لا ينفعها لما كان في الأمر بقضائه فائدة.

* الوجه السادس: مشروعية بر الوالدين بعد وفاتهما، وأن من أعظم البر وفاءَ ما عليهما من الديون والحقوق والواجبات، سواء أكانت لله تعالى أم للآدميين.

(1)

"المغني"(13/ 656)، والحديث رواه مسلم (360) وقد تقدم شرحه في "الطهارة" برقم (75).

(2)

"المفهم"(4/ 605).

ص: 391

* الوجه السابع: بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين.

* الوجه الثامن: في الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يبادر بما عليه من حقوق الله تعالى أو حقوق الآدميين، فيفي بالنذر، ويقضي الدين قبل أن يفجأه الأجل. وقد مضى الكلام في هذا في كتاب "الجنائز"

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: (4/ 250) من هذا الكتاب.

ص: 392

‌جواز تخصيص النذر بمكان معين إذا خلا من الموانع الشرعية

1387/ 19 - عَنْ ثابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَال: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَال:"هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟ "، قَال: لَا، قَال:"فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ "، فَقَال: لَا، فَقَال:"أَوْفِ بِنَدْرِكَ، فَإِنَّهُ لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا في قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الإسْنَادِ.

1388/ 20 - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كرْدَمَ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ.

* الكلام عليهما من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري الأشهلي، شهد بيعة الرضوان، كما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية أبي قلابة أنه حدثه بذلك، مات في أيام ابن الزبير حوالي سنة أربع وستين رضي الله عنه

(1)

.

وأما كردم فهو بفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة، وهو كردم بن سفيان الثقفي، قال البخاري وابن حبان: له صحبة، عداده في أهل مكة، روت عنه ابنته ميمونة، وهي من صغار الصحابة، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عن الجميع

(2)

.

(1)

"الاستيعاب"(2/ 81)، "الإصابة"(2/ 11).

(2)

"الاستيعاب"(9/ 219)، "الإصابة"(8/ 277)(13/ 145).

ص: 393

* الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (ما يؤمر به من الوفاء بالنذر)(3313)، والطبراني في "الكبير"(2/ 75) من طريق الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو قلابة، حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل

وذكر الحديث، وفيه:"هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ "، وهذا لفظ الطبراني -كما قال الحافظ- ولعله اختار لفظ الطبراني؛ لأن فيه زيادة:(ولا في قطيعة رحم).

وهذا الحديث سنده صحيح، ورجاله رجال الشيخين، وقد صححه الحافظ -أيضًا- في "التلخيص"

(1)

، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(أصل هذا الحديث في "الصحيحين"، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة)

(2)

. ولعل ابن تيمية يقصد بقول: (أصله في "الصحيحين") ما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.

وأما حديث كردم رضي الله عنه فقد رواه أحمد (24/ 195) من طريق أبي الحويرث حَفْصٍ من ولد عثمان بن أبي العاص، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب، عن ميمونة بنت كردم، عن أبيها كردم بن سفيان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر نذره في الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلوثَنٍ أو لِنُصُبٍ؟ " قال: لا، ولكن لله تبارك وتعالى، قال:"فأوف بنذرك لله تبارك وتعالى ما جعلت له، انحر على بُوانة، وأوف بنذرك".

وهذا سند ضعيف؛ لأن أبا الحويرث هذا مجهول، فقد انفرد بالرواية عنه عبد الصمد بن عبد الوارث، ولم يؤثر توثيقه عن أحد، وقد تابعه مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن به، رواه ابن ماجه (2131)، والطبراني في "الكبير"(25/ 40).

(1)

(1/ 198).

(2)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 437).

ص: 394

وفيه -أيضًا- عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي متكلم فيه، فقد قال فيه ابن معين:(صويلح)، وفي رواية أخرى:(ضعيف)، وقال أبو حاتم: اليس هو بقوي، هو لين الحديث)، وقال البخاري:(فيه نظر)، وحكي عن ابن المديني أنه وثقه، ووثقه العجلي، وقال الدارقطني:(يعتبر به)

(1)

.

ثم إن السند فيه انقطاع، فقد قيل: إن الطائفي لم يسمع من ميمونة بنت كردم، بينهما يزيد بن مقسم، كما في رواية أخرى عند أحمد (44/ 622) ويزيد بن مقسم روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

، وما دام أن حديث ثابت بن الضحاك صحيح فلا حاجة إلى هذا الشاهد مع ضعفه.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (إبلًا) اسم جمع لا مفرد له من لفظه، وله واحد من معناه وهو بعير.

قوله: (ببوانة) الباء للظرفية بمعنى: في، وبوانة: بضم الباء وتخفيف الواو، قال ابن الأثير: هضبة من وراء ينبع قرب الساحل، وقيل: أسفل مكة دون يلملم، وقد ذكر ياقوت أن الأول هو الذي جاء ذكره في الحديث

(3)

.

قوله: (فسأله) هذا السؤال خشية أن يكون تخصيص هذا المكان لمعنى جاهلي.

قوله: (هل كان فيها وثن) عند أبي داود والطبراني: (من أوثان الجاهلية)، والوثن: اسم لكل ما عُبد من دون الله تعالى من قبر أو غيره.

قوله: (يُعبد) صفة لبيان الواقع؛ لأن الوثن كل ما عُبد من دون الله تعالى.

قوله: (قال: لا) رواية أبي داود: (قالوا: لا) بلفظ الجمع مع أن السائل

(1)

"الجرح والتعديل"(5/ 96)، "تهذيب التهذيب"(5/ 261)، "تعجيل المنفعة" ص (315).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 548)(11/ 317).

(3)

"المشترك وضعًا المفترق صقعًا" ص (68 - 69).

ص: 395

واحد، لكنه لما كان محظورًا وعنده ناس أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يكون المجيب غير السائل.

قوله: (عيد) اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد إما في السنة أو الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك؛ والمعنى: هل فيها اجتماع معتاد من اجتماعاتهم التي كانت عيدًا. والتعبير بالفعل (كان) يفيد المنع من الوفاء بالنذر في هذا المكان ولو بعد زوال المحذور.

قوله: (أوف بنذرك) هذا أمر إباحة؛ والمعنى: أوف بنذرك في المكان الذي خصصت له، وإنما كان للإباحة؛ لأن مكان النذر لا يتعين إلا ما تميز بفضل كأحد المساجد الثلاثة، وهو بالنسبة للنذر ذاته أمر إيجاب.

قوله: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله) مناسبة هذه الجملة لما قبلها بيان أن هذا نذر معصية لو كان في المكان بعض الموانع، وما كان من نذر المعصية فإنه لا يجوز الوفاء به، كما تقدم.

قوله: (ولا في قطيعة رحم) هذا تخصيص بعد تعميم، وهذه الجملة لم ترد عند أبي داود، وإنما هي عند الطبراني، كما تقدم.

قوله: (ولا فيما لا يملك ابن آدم) أي: يضيف النذر إلى معين لا يملكه، كشاة فلان.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الناذر إذا عيَّن مكانًا يذبح فيه ما نذره أنه يلزمه إذا خلا من الموانع الشرعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر هذا الرجل على تحديد المكان لما خلا من الموانع الشرعية، وقد يكون قصد بنذره فقراء ذلك المكان بإيصال اللحم إليهم، وهذه قربة، فتلزمه كما لو نذر التصدق عليهم

(1)

.

والقول الثاني: أنه لا يلزمه المكان وإنما هو على سبيل الندب، قالوا: والصارف له حديث أبي سعيد الآتي: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة

(1)

"المغني"(13/ 643).

ص: 396

مساجد

"، ويؤيد هذا قول الأصوليين: إن الأمر إذا خرج مخرج الجواب عن السؤال فهو للندب.

والذي يظهر لي أنه هناك فرقًا في المسألة، وهو أن حديث الباب ليس القصد منه المكان وإنما أهله، وحديث أبي سعيد القصد منه البقعة، والله أعلم ..

وعلى هذا فالأظهر جواز صرف النذر في المكان المحدد بالشرط المذكور، وإن صرفه في مكان أفضل فله ذلك.

* الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لو وجد في مكان النذر مانع شرعي لم يجز الوفاء بالنذر في ذلك المكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله عن الشرك "هل كان فيه وثن يعبد؟ "، وساله عن وسائل الشرك "هل كان فيه عيد؟ " وهذا يدل على أنه لو كان في المكان شيء من ذلك لمنعه من الوفاء بنذره، وهذه فائدة الاستفصال، وهو يدل على وجوب سد الذرائع الموصلة إلى الشرك.

* الوجه السادس: في الحديث دليل على وجوب البعد عن مشابهة الكفار في عباداتهم وأعيادهم، وإن كان لا يقصد ذلك، وذلك بتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو مشاركتهم في التعييد فيها أو إحياء شعار عيدهم فيها، وإذا كان الذبح في مكان عيدهم منهيًا عنه، فكيف بموافقتهم في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم.

ولهذا ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث في كتاب "التوحيد" في باب (لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله).

* الوجه السابع: في الحديث دليل على أنه ينبغي للمفتي، أن يستفصل المستفتي قبل الفتوى عما له تأثير في تغيير الحكم.

* الوجه الثامن: أن من نذر أن يعصي الله تعالى بفعل محرم أو ترك واجب كقطيعة رحم فإنه لا وفاء في ذلك، وقد تقدم البحث في هذا.

* الوجه الماسع: الحديث دليل على أن من نذر شيئًا معينًا لا يملكه

ص: 397

وإنما هو في ملك غيره فليس عليه شيء، كقوله: إن شفى الله مريضي فللَّه علي أن أذبح شاة فلان، أو أعتق عبد فلان، إلا إن نوى أنه يشتريه منه فالظاهر أنه يلزمه.

فإن التزم في ذمته شيئًا كعتق وصدقة وهو في تلك الحال لا يملك الوفاء فإنه يصح نذره ويثبت دينًا في ذمته. والله تعالى أعلم.

ص: 398

‌من نذر الصلاة في المكان المفضول جاز أن يصلي في الفاضل

1389/ 21 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَال يَوْمَ الْفَتحِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ في بَيتِ الْمَقْدِسِ، فَقَال:"صَلِّ هَاهُنَا"، فَسَأَلَهُ فَقَال:"صَل هَاهُنَا"، فَسَألهُ فَقَال:"شَأَنَكَ إِذًا". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (23/ 185، 186)، وأبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (من نذر أن يصلي في بيت المقدس)(3305)، والحاكم (4/ 304 - 305) من طريق حماد بن سلمة، عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه.

قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم)، ونقل الحافظ في "التلخيص"

(1)

تصحيحه عن ابن دقيق العيد، وهذا لفظ أحمد، لكن قال أبو عوانة:(في هذا الحديث نظر، في صحته وتوهينه!!)

(2)

.

وقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها

(1)

(2/ 196).

(2)

"مسند أبي عوانة"(4/ 20).

ص: 399

بذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة"

(1)

.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يوم الفتح) أي: فتح مكة، ودل على هذا قوله:(صَلِّ ها هنا).

قوله: (أن أصلي) ورد عند أبي داود: (أن أصلي ركعتين).

قوله: (في بيت المقدس) بفتح الميم وتخفيف الدال وكسرها، بمعنى البيت المطهر، والظاهر أن المراد: أن يصلي في المسجد الأقصى؛ لأن بيت المقدس اسم للمدينة، ويطلق على المسجد أيضًا.

قوله: (صل ها هنا) أمر إباحة، والمراد باسم الإشارة المسجد الحرام؛ لأن هذا كان يوم الفتح، كما مر.

قوله: (شأنك) بالنصب مفعول به لفعل مقدر؛ أي: الزم شأنك؛ والمعنى: أنت تعلم حالك

(2)

.

قوله: (إذًا) بالتنوين جواب وجزاء؛ أي: إذا أبيت أن تصلي ها هنا فافعل ما نذرت به من صلاتك في بيت المقدس.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة النذر المعلق على حصول مطلوب، وأنه ينعقد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الرجل على الوفاء بما نذر، ويلزم الناذر الوفاء به إذا حصل شرطه المعلق عليه، سواء أكان عبادة بدنية كالصلاة والصيام أم مالية كالصدقة والعتق، وهذا يسمى نذر المجازاة، وهو التزام طاعة الله تعالى في مقابل حصول نعمة أو دفع نقمة، وهو نوع من أنواع نذر الطاعة والتبرر.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من نذر الصلاة في مكان مفضول جاز له أن يصلي في مكان أفضل منه؛ لأن المسجد الحرام أفضل من

(1)

رواه مسلم (1396).

(2)

انظر: "عون المعبود"(9/ 132).

ص: 400

المسجد الأقصى، وأكثر ثوابًا للمصلي فيه، وكذا لو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصلي في المسجد الحرام، فإن نذر الصلاة في المسجد الحرام تعين، ولم تجزئه الصلاة في غيره؛ لأنه أفضل، وشَدُّ الرحل إليه مشروع.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن كثرة السؤال والإلحاح فيه والتنطع في الأمور مكروه، وأنه يفضي بصاحبه إلى إضجار المسؤول وارتكاب الخطأ، فهذا السائل لو أخذ بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"صل ها هنا" لاستفاد فائدتين:

الأولى: حصول الفضيلة في المسجد الحرام.

الثانية: السلامة من أعباء السفر إلى المسجد الأقصى. والله تعالى أعلم.

ص: 401

‌جواز شد الرحل للمساجد الثلاثة وفاءً بالنذر

1390/ 22 - عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إِلَى ثَلَاثةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم تخريجه في آخر كتاب "الصيام" ضمن أحاديث (الاعتكاف) برقم (707)، وقد رواه البخاري (1197)، ومسلم في كتاب "الحج"(827)(415) من طريق عبد الملك بن عمير، عن قَزَعَةَ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

والحافظ ذكره هناك بلفظ مسلم، وذكره هنا بلفظ البخاري، وقد ذكره هناك لبيان جواز شد الرحل لأحد المساجد الثلاثة لقصد الاعتكاف، وذكره هنا لبيان أن النذر إذا تعلق بأحد المساجد الثلاثة وجب الوفاء به؛ لأن الرحال تشد إليها.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) تقدم شرح هذا في الموضع المشار إليه.

قوله: (مسجد الحرام) من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: المسجد الحرام، وهذا جائز عند الكوفيين، وهو الصواب لوروده في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وقوله:{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}

ص: 402

[ق: 9]، وهو مؤول عند البصريين على تقدير موصوف محذوف؛ أي: مسجد المكان الحرام، وقد سبق ذكر هذه المسألة

(1)

.

قوله: (ومسجد الأقصى) بالإضافة كالذي قبله، وتقدم في "الصيام" شرح هذا.

قوله: (ومسجدي) جاء في بعض نسخ "البلوغ": (ومسجدي هذا) ولفظة (هذا) ليست عند البخاري، وإنما هي عند مسلم.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من نذر الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الوفاء بنذره، ولو لزم من ذلك شد الرحال؛ لأن هذه المساجد تشد إليها الرحال، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، وهم يقولون -أيضًا- بمقتضى حديث جابر رضي الله عنه المتقدم الذي يدل على أن من نذر الصلاة في المكان المفضول جاز أن يصلي في الفاضل.

والقول الثاني: أن من نذر أن يصلي في أحد المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره، وجاز له أن يصلي في أي مكان شاء، وهذا مذهب أبي حنيفة، بناء على قاعدته -كما تقدم-: لا يلزم بالنذر إلا ما وجب بأصل الشرع

(2)

، والصلاة غير واجبة بأصل الشرع في أحد المساجد الثلاثة، وإنما يجب عنده الوفاء بالنذر إذا كان لحج أو عمرة.

والراجح قول الجمهور لقوة دليله، ويؤيده عموم حديث عائشة المتقدم:(من نذر أن يطيع الله فليطعه).

أما لو نذر الصلاة بمسجد غير المساجد الثلاثة، فإن كان يلزم منه شد الرحل فإنه لا يجوز، بل يصلي في أي مسجد لا يلزم منه ذلك، وإن كان لا يلزم منه شد الرحل فالأكثرون على أنه لا يلزم الوفاء به إلا على سبيل الندب

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "شرح الحديث"(939).

(2)

انظر: "حاشية ابن عابدين"(3/ 772).

(3)

انظر: "سبل السلام"(4/ 231).

ص: 403

‌حكم الوفاء بالاعتكاف المنذور حال الشرك

1391/ 23 - عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ في الْجَاهِلِيةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيلَةً في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَال:"فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَزَادَ الْبُخَارِيُّ في رِوَاية: فَاعْتَكَفَ لَيلَةً.

* الكلام عليه في وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" وأولها: في كتاب "الاعتكاف"، باب (الاعتكاف ليلًا)(2032)، ومسلم (1656) من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله

وذكر الحديث.

ورواه البخاري (2043) من طريق أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما

وفيه: (فاعتكف ليلة). وسأذكر -إن شاء الله- غرض الحافظ من ذكر هذه الرواية.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (قلت: يا رسول الله) لم يبين في هذه الرواية مكان السؤال، وقد كان ذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، كما ثبت في "الصحيحين"

(1)

.

قوله: (نذرت) أي: أوجبت على نفسي.

قوله: (في الجاهلية) أي: قبل إسلام عمر رضي الله عنه، وفي رواية مسلم:

(1)

"صحيح البخاري"(4320)، "صحيح مسلم"(1656)(28).

ص: 404

(فلما أسلمت سالت) سميت الجاهلية بذلك لغلبة الجهل على أهلها، وأصل الجاهلية ما قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (أن أعتكف ليلة) في تأويل مصدر مفعول نذرت؛ أي: نذرت اعتكاف ليلة، وقد جاء في "الصحيحين" ذكر اليوم، ففي رواية البخاري:(قال: يا رسول الله إنه كان عليَّ اعتكاف يوم في الجاهلية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي به) ولا منافاة بينهما؛ لأن الليلة يدخل فيها اليوم، والعكس بالعكس.

قوله: (فاعتكف ليلة) قصد الحافظ بهذه الرواية بيان أن عمر رضي الله عنه لم يزد على نذره شيئًا وأن الاعتكاف لا صوم فيه.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة نذر العبادة من الكافر حال كفره، قال الخطابي:(فيه دلالة على أن نذر الجاهلية إذا كان على وفق حكم الإسلام كان معمولًا به)

(1)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على أن النذر ينعقد من الكافر وأنه يجب الوفاء عليه متى أسلم إذا لم يف به حال كفره، وهذا مذهب الإمام أحمد وجماعة من الشافعية، وهو قول البخاري، وابن جرير، ونصره القرطبي، وعزاه لمذهب المالكية تخريجًا مبنيًّا على أن القول الصحيح المشهور من مذهب مالك أن الكفار مخاطبون بالأوامر والنواهي

(2)

، والحديث صريح الدلالة على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله عنه بالوفاء بنذره، وهذا دليل على صحته وانعقاده.

وقال الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية: إن النذر لا ينعقد من الكافر

(3)

؛ لأن نذر الطاعة قربة، والقربة لا تصح من الكافر حتى يسلم؛ لأنه ليس من أهل العبادة والطاعة.

وأجابوا عن الحديث بأجوبة غير ناهضة، كقولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد

(1)

"أعلام الحديث"(2/ 990).

(2)

"المفهم"(4/ 644).

(3)

انظر: "المجموع"(8/ 449)، "فتح الباري"(4/ 284)، "الإنصاف"(11/ 117)، "الشرح الكبير بحاشية الدسوقي"(2/ 161).

ص: 405

أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور، فأمر عمر رضي الله عنه بالوفاء، أو أن المراد بالحديث أمر عمر رضي الله عنه بأن يأتي باعتكاف شبيه بما نذره؛ لئلا يخل بعبادة نوى فعلها، لا أنه أُمِرَ بالوفاء، فيكون ما أمره به غير ما أوجبه على نفسه، بل أمره به الآن على أنه طاعة لله عز وجل.

قال ابن دقيق العيد: (وظاهر الحديث خلافه، فإن دلَّ دليل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح التزامُ الكافرِ الاعتكافَ احتيج إلى هذا التأويل وإلا فلا)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"إحكام الأحكام"(3/ 448).

ص: 406

‌كتاب القضاء

القضاء مصدر قضى يقضي قضاءً، فهو قاضٍ، ويطلق في اللغة على معان عدة منها: إحكام الشيء، والفراغ منه، قال تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَينِ} [فصلت: 12]، وبمعنى إمضاء الحكم، قال تعالى:{وَقَضَينَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] وبمعنى الحكم، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]؛ أي حكم، وهي أبلغ من الإيجاب في معناها.

وجميع معاني القضاء في اللغة لا تخرج عن معنى إمضاء الشيء وإتمامه واحكامه والفراغ منه قولًا أو فعلًا

(1)

.

واصطلاحًا: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات

(2)

.

فقولنا: (تبيين الحكم الشرعي) جنس يشمل القاضي والمفتي.

وقولنا: (والإلزام به) هذا قيد يخرج المفتي؛ لأنه لا يُلزم بالحكم الشرعي.

وقولنا: (وفصل الخصومات) فيه بيان الغرض من القضاء وهو قطع الخصومة بين المتخاصمين ببيان حكم الشرع في القضية مع الإلزام، لنشر العدل والوئام بين الناس، ولئلا تذهب الحقوق ويعتدى على الضعفاء.

والأصل في مشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.

أما الكتاب فقوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ

(1)

انظر: "الصحاح"(6/ 2463)، "النهاية"(4/ 78).

(2)

انظر: "كشاف القناع"(6/ 285).

ص: 407

النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].

وأما السُّنة فحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر، متفق عليه. وسيأتي شرحه إن شاء الله.

وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس.

وأما العقل، فهو أن القضاء من ضرورات الاجتماع، به ينتشر العدل، ويعم الأمن، ويُدفع القوي عن الضعيف، ويُنصف المظلوم من الظالم، ولولا القضاء لعمَّت الفوضى، واختل الأمن، وفسد النظام، وساد الاضطراب.

وهو فرض كفاية، وهذا موضع اتفاق بين الفقهاء، يرتفع الإثم عن الأمة بقيام بعضهم به، وإلا أثموا جميعًا؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم، كالجهاد والإمامة، قال أحمد:(لا بدَّ للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟)

(1)

. والقضاء تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة

(2)

.

وعلى إمام المسلمين القائم بأمرهم أن ينصب قاضيًا يكتفى به، بأن يكون أفضل الموجودين علمًا وورعًا؛ لأن منصب القضاء من أكمل المناصب، فينبغي أن يكون متوليه أكمل من يوجد؛ ولأن الأفضل أقرب إلى حصول المقصود من القضاء، وعلى من تعين عليه القضاء لكونه يصلح، أو لم يوجد غيره أن يجيب إن طُلب للقضاء؛ لأن فرض الكفاية يكون فرض عين إذا لم يوجد من يقوم به غير واحد، كغسل الميت، وتكفينه، والإمامة، والأذان، وإسعاف المريض، ونحو ذلك من فروض الكفايات. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(14/ 5 - 6).

(2)

انظر: "القضاء وشروط القاضي" ص (36).

ص: 408

‌أصناف القضاة

1392/ 1 - عَنْ بُرَيدَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "الْقُضَاةُ ثَلَاثةٌ: اثْنَانِ في النَّارِ، وَوَاحِدٌ في الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ في الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ في الْحُكْمِ فَهُوَ في النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ في النَّارِ". رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأقضية"،‌

‌ بابٌ

(في القاضي يخطئ)(3573)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 397)، وابن ماجه (2/ 776) من طريق خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، ورواه الترمذي (1322 م) من طريق شريك، عن الأعمش، عن سعد بن عُبيدة السلمي، والحاكم (4/ 90) من طريق عبد الله بن بكير، عن حكيم بن جبير، ثلاثتهم (أبو هاشم، وسعد بن عبيدة، وحكيم بن جبير) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه مرفوعًا.

قال أبو داود بعد سياق إسناده عنده: (هذا أصح شيء فيه، يعني حديث بريدة: القضاة ثلاثة).

وخلف بن خليفة متكلم فيه، والأكثرون على توثيقه، قال ابن معين والنسائي:(ليس به بأس) وقال أبو حاتم: (صدوق)

(1)

. وهو من رجال

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 150).

ص: 409

مسلم

(1)

، قال ابن سعد:(تغير قبل موته واختلط)

(2)

وقال الحافظ: (صدوق اختلط في الآخر). ولم يتضح سماع من روى هذا الحديث عنه، قبل الاختلاط أم بعده.

وفي إسناد الترمذي شريك، وهو ابن عبد الله النخعي، وهو سيء الحفظ.

وفي إسناد الحاكم عبد الله بن بكير الغنوي، قال فيه الذهبي متعقبًا قول الحاكم:(صحيح الإسناد): (ابن بكير الغنوي منكر الحديث). ومثله أو شر منه شيخه حكيم بن جبير، فقد قال عنه الدارقطني:(متروك)

(3)

. أما ابن بكير فقد قال عنه الذهبي -أيضًا-: (ضعفوه، ولم يترك)

(4)

، وهذا أخف من قوله:(منكر الحديث)، وقال الساجي:(من أهل الصدق وليس بقوي)

(5)

، وذكر له ابن عدي عدة مناكير

(6)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(7)

، ثم إنه قد تُكُلِّمَ في سماع عبد الله بن بريدة من أبيه

(8)

.

والحديث له عدة طرق، قال الحافظ:(قد جمعتها في جزء مفرد)

(9)

.

وقال الحاكم: (تفرد به الخراسانيون ورواته مراوزة)

(10)

، وقال ابن عبد الهادي في "المحرر":(إسناده جيد)

(11)

، وقال في "التنقيح":(هو حديث حسن أو صحيح)

(12)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على عناية الإسلام بالقضاء وأنه لا يُولَّى

(1)

"صحيح مسلم"(250).

(2)

"الطبقات"(7/ 313)، "الكواكب النيرات" ص (155).

(3)

"السنن"(2/ 122).

(4)

عزاه الألباني في "الإرواء"(8/ 236) إلى "الضعفاء" للذهبي، ولم أجده فيه، وإنما وجدت لفظة (حديثه منكر) رقم (2134).

(5)

"الميزان"(2/ 399).

(6)

"الكامل"(4/ 250).

(7)

(8/ 335).

(8)

انظر: "تهذيب التهذيب"(5/ 137)، "التابعون الثقات"(2/ 497).

(9)

"التلخيص"(6/ 3170).

(10)

"معرفة علوم الحديث" ص (99).

(11)

(1173).

(12)

(5/ 62).

ص: 410

إلا من كان أهلًا له دينًا وعلمًا وورعًا ونزاهة إن وجد وإلا يولى الأمثل فالأمثل، وعناية الإسلام بالقضاء تتمثل في بيان صفات القاضي الناجي يوم القيامة، وصفات ضده؛ ليعمل القاضي على تحقيقها في نفسه وابتعاده عن ضدها.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الناجي من القضاة هو من عرف الحق وقضى به بين الخصمين، والعمدة في ذلك العمل بالحق، فإن من عرفه ولم يعمل به فهو ومن حكم بجهل في النار.

° الوجه الرابع: في الحديث تحذير من معرفة الحق وعدم القضاء به لينال من حطام الدنيا ومتاعها الزائل أو يميل مع من يرجو نفعه من قريب، أو وجيه من أمير أو وزير، أو نحو ذلك.

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الجاهل لا يولى القضاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(من باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية وأصر على ذلك عاملًا بالجهل والظلم فهو فاسق ولا تنعقد أحكامه)

(1)

، ولو أصاب في حكمه فهو ملوم وظالم؛ لأنه لا يحل له الإقدام على الحكم وهو جاهل.

° الوجه السادس: في الحديث دليل على اشتراط كون القاضي رجلًا؛ لقوله: (رجل عرف الحق

ورجل لم يعرف الحق) ومفهومه أن المرأة لا تتولى القضاء، وهذا مفهوم لقب، وهو ليس بحجة عند الأصوليين، لكن نقول عَضَدَ هذا المفهوم منطوق قوي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"

(2)

، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

(1)

"مختصر الفتاوى المصرية" ص (553).

(2)

رواه البخاري (4425).

ص: 411

‌عِظَمُ منصب القضاء

1393/ 2 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وُليَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيرِ سِكِّينٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصحّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ حِبّانَ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (14/ 384 - 385)، وأبو داود في كتاب "الأقضية"، بابٌ (في طلب القضاء)(3572)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 398)، وابن ماجه (2308) من طريق عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقرن أبو داود وأحمد بالمقبري: الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز، وفي هذا الإسناد عبد الله بن جعفر وهو المخرمي: وهو صدوق، وعثمان بن محمد الأخنسي متكلم فيه، فقد وثقه ابن معين وابن حبان، ونقل الترمذي في "العلل" عن البخاري أنه قال:(ثقة)، وقال النسائي عنه بعد سيأتي الحديث:(ليس بذاك القوي)

(1)

، وقال الحافظ:(صدوق له أوهام).

وروى الحديث أبو داود (3571)، والترمذي (2325) من طريق الفضيل بن سليمان، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه).

(1)

"العلل الكبير"(1/ 437)، "تهذيب التهذيب"(7/ 138).

ص: 412

والفضيل بن سليمان فيه ضعف، وعمرو بن أبي عمرو صدوق.

والحديث له طرق أخرى كثيرة، ذكر شيئًا منها ابن المديني في "العلل" ثم محمد بن خلف المعروف بوكيع في "أخبار القضاة"

(1)

، وأعله ابن الجوزي فقال:(هذا حديث لا يصح)

(2)

. قال الحافظ ابن حجر: (وليس كما قال، وكفاه قوة تخريج النسائي له)

(3)

، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف في هذا الحديث على سعيد المقبري وعن الجمع بين المقبري والأعرج، ثم قال:(والمحفوظ عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة)

(4)

.

ولم أجد الحديث في "صحيح ابن حبان" في مظانه، ولا عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" ولا في "الدراية" تبعًا لأصله "نصب الراية"

(5)

.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من ولِّيَ القضاء) بضم الواو وتشديد اللام مكسورة بصيغة المبني لما لم يسم فاعله، من التولية؛ أي: من جعل قاضيًا، ويؤيد هذا ما جاء في بعض الروايات:(من جُعل قاضيًا)، ويجوز فتح الواو وكسر اللام مخففًا بصيغة المبني للمعلوم؛ أي: تصدى للقضاء وتولاه

(6)

. ولفظ: (القضاء) منصوب على كلا الوجهين، لكنه على الأول مفعولٌ ثانٍ، وعلى الثاني مفعول، والفاعل ضمير مستتر.

قوله: (فقد ذبح بغير سكين) المراد به الذبح من حيث المعنى؛ لأن القاضي بين عذاب الدنيا إن رشد وعدل وبين عذاب الآخرة إن جار وفسد.

وإنما عُدِلَ عن الذبح بالسكين ليكون أبلغ في التحذير لأمرين:

الأول: لأجل أن يعلم أن ما يُخاف من هلاك دينه دون بدنه.

(1)

انظر: "العلل" لابن المديني ص (73)، "أخبار القضاة"(1/ 9).

(2)

"العلل المتناهية"(2/ 756).

(3)

"التلخيص"(6/ 3167).

(4)

"العلل"(10/ 397).

(5)

انظر: "نصب الراية"(4/ 64)، "الدراية"(2/ 166)، "التلخيص"(6/ 3167).

(6)

"عون المعبود"(9/ 485).

ص: 413

الثاني: أن الذبح بالسكين يريح وبغيرها من الخشب والقصب وغيرهما يكون الألم فيه أكثر

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أهمية منصب القضاء وعظيم أمره؛ لأن القاضي إن حكم بغير الحق مع علمه به أو جهله له فهو في النار، وإن أصاب الحق فقد أتعب نفسه في إرادة الوقوف عليه وطلبه له وتسويته بين الخصمين، ثم تطبيق ما تبين له على القضية، وتنفيذ ذلك على الواقع، فهو في تعب ونصب، ولا ريب أن القاضي العادل في جهد متواصل وقلق مستمر إلى أن يبين له وجه الحق، وهذا الجهد وهذا القلق لا يحصل إلا لمن أتعب نفسه في الوصول إلى الحق ثم قام بتنفيذه، ولعل من بعض معاني هذا الحديث تشبيه الجهد والقلق بالذبح بغير سكين

(2)

.

ولا ينبغي حمل هذا الحديث على التحذير من القضاء بصورة مطلقة؛ لأن هذا من باب التناقض، والشريعة منزهة عن التناقض

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"معالم السنن"(5/ 204).

(2)

"القضاء وشروطه"(89).

(3)

"فيض القدير"(6/ 38).

ص: 414

‌التحذير من طلب القضاء

1394/ 3 - وَعَنْهُ رضي الله عنه قال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ ستحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ"، رَوَاهُ الْبُخَارِي.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب (ما يكره من الحرص على الإمارة)(7148) من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنكم ستحرصون) السين للاستقبال، والفعل المضارع بكسر الراء، ويجوز فتحها، وهذه الجملة قد أكدت بإن والسين واسمية الجملة تنزيلًا لغير المنكر منزلة المنكر، وذلك لأن حالهم من الزهد في الدنيا والإعراض عن زهرتها يشعر باستبعاد طلبهم للإمارة فضلًا عن الحرص عليها.

قوله: (على الإمارة) بكسر الهمزة، ويدخل فيها الإمارة العظمى وهي الخلافة وولاية أمر الأمة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، كما يدخل في ذلك ولاية القضاء، وهذه مناسبة الحديث لكتاب القضاء.

قوله: (وستكون ندامة يوم القيامة) ظاهر هذا الإطلاق في كل من تولى إمارة، لكنه مقيد بمن دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فهذا هو الذي يندم على

ص: 415

ما فَرَطَ منه إذا جوزي يوم القيامة، وكأنه حذف مثل هذا التقييد هنا تنفيرًا منها وتبعيدًا عنها.

قوله: (فنعم المرضعة) وقع في بعض نسخ "البلوغ"(فنعمت) بالتاء، والمثبت في بعضها بدونها، وهو الموافق لما في "الصحيح"؛ أي: فنعم المرضعة في الدنيا، فضرب المرضعة مثلًا للإمارة وما توصله لصاحبها من حظوظ الدنيا ولذاتها من المال والجاه والكرامة ونفوذ الكلمة وتذلل الناس، ففيه تشبيه الإمارة بالمرضعة؛ لأنها تدر على صاحبها المنافع كما تدر المرضعة باللبن.

قوله: (وبئست الفاطمة) اسم فاعل من الفطم، وهو فصل الصبي عن الرضاعة، والمراد أنه عند الانفصال عن الإمارة بموت أو عزل ونحوهما يحرم الأمير ويفصل عن الخيرات والمنافع، وتبقى التبعات والمهالك. يقول المهلب:(حرص الناس على الإمارة ظاهر للعيان، وهو الذي جعل الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون في الأرض حتى يصلوا بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لا بد أن يكون فطامهم إلى سوء من الحال؛ لأنه لا يخلو أن يُقتل عليها أو يُعزل عنها وتلحقه الذلة، أو يموت عليها، فيطالب في الآخرة بالتبعات، فيندم حينئذٍ)

(1)

.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم شأن الإمارة وكثرة تبعاتها ومسؤولياتها في الدار الآخرة؛ لأن ما تعلق بالخلق فأمره عظيم، وصاحبه على خطر جسيم، وهذا كما تقدم مقيد بمن دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، وقد ورد عن أبي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:"يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة"

(2)

.

أما إن كان أهلًا للولاية وعدل فيها فله أجر عظيم تظاهرت النصوص

(1)

"التوضيح"(32/ 445).

(2)

رواه مسلم (1825).

ص: 416

به، كحديث السبعة الذين يظلهم الله، وفيه:"الإمام العادل"

(1)

.

° الوجه الرابع: لا فرق في ذلك بين الإمارة الكبرى والصغرى، وكذا ولاية القضاء، ولا ريب أن التبعة على حسب المسؤولية، فكلما عظمت المسؤولية عظمت التبعة.

ومن ولي القضاء قاصدًا بذلك الجاه والرئاسة ومنافع الدنيا فهذا مذموم، وهو على خطر عظيم، ويخشى أن يكون له نصيب من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"

(2)

. أما من تعين عليه لكونه لم يوجد من يقوم مقامه، وإذا تركه تولاه من لا يحسن ولا يقوم بحقه فهذا مأجور ومُعان، وكذا يقال فيمن تولى الولاية العامة أو الخاصة إذا أدى الذي عليه من نشر ألوية العدل وبسط بساط الإنصاف. والله تعالى أعلم.

(1)

تقدم تخريجه في كتاب "الزكاة" برقم (631).

(2)

رواه عبد الله بن المبارك في "الزهد"- زيادات نعيم بن حماد - (181) ومن طريقه الترمذي (2376)، والنسائي في "الكبرى"(10/ 386)، وأحمد (25/ 85) عن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن ابن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه رضي الله عنه به مرفوعًا.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) وزكريا بن أبي زائدة وصفه بالتدليس غير واحد، لكن صرح بالتحديث كما جاء في "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 150)، و"المعجم الكبير" للطبراني (19/ 96). وانظر شرح ابن رجب لهذا الحديث ضمن:"مجموع رسائل ابن رجب"(1/ 60).

ص: 417

‌أجر الحاكم إذا اجتهد في حكمه أصاب أو أخطأ

1395/ 4 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمّ أَصابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُم أَخْطَأ فَلَهُ أَجْرٌ"، مُتفَق عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، باب (أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ)(7352)، ومسلم (1716) من طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بُسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إذا حكم الحاكم) أي: أراد الحكم، لقوله:(فاجتهد) لأن الاجتهاد قبل الحكم لا بعده، وتأويل الفعل بالإرادة له نظائر، كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، والحكم هو القرار الذي يصدره القاضي أو غيره، لينهي به الخصومة بين المتنازعين.

قوله: (فاجتهد) الفاء عاطفة على الشرط على التأويل المذكور، وقد تكون الفاء للترتيب الذكري، ويبقى الفعل (حَكَمَ) على أصله.

والاجتهاد لغة: بذل الجهد لإدراك أمر شاق.

والاجتهاد هنا نوعان:

ص: 418

1 -

اجتهاد في معرفة الحكم الشرعي وتطبيقه على هذه القضية، وهو بهذا الاعتبار: بذل الجهد لإدراك الحكم الشرعي بطريق الاستنباط.

2 -

اجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما بحيث يكون الناس في هذا الباب عنده سواء، لا يفضل أحدًا على أحد، ولا يُميله الهوى، ولا تستهويه الأغراض.

قوله: (ثم أصاب) أي: وافق حكم الله تعالى في هذه المسألة.

قوله: (فله أجران) أي: أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته الحق؛ لأن في إصابته الحق إظهارًا له وعملًا به.

قوله: (فله أجر) أي: أجر واحد على اجتهاده في طلب الصواب، والخطأ مغفور له.

° الوجه الثالث: في الحديث بشارة عظيمة للقضاة، فإن القاضي إذا اجتهد وبذل ما يستطيع في الوصول إلى الحكم الشرعي حتى وصل باجتهاده إلى ما يظن أنه الحق في القضية ثم حكم به فإن له أجرين إن كان حكمه صوابًا موافقًا لمراد الله تعالى، وإن كان خطأ فله أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، ولا يأثم بخطئه؛ لأنه غير مقصود.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن القاضي الذي يؤجر إذا أخطأ هو من كان عالمًا مجتهدًا، أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا أجر له بل هو آثم، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة

فذكر منهم: ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار". قال الخطابي: (إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعًا لآلة الاجتهاد عارفًا بالأصول وبوجوه القياس.

فأما من لم يكن محلًّا للاجتهاد فهو متكلف، ولا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل حديث ابن بريدة عن أبيه)

(1)

.

(1)

"معالم السنن"(5/ 205).

ص: 419

° الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأن القاضي لا بد أن يكون من أهل الاجتهاد، والمراد به: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الأصلية، فيكون القاضي عالما بمصادر الشريعة مع كيفية الاستنباط. قال ابن هبيرة: (اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولَّى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فقال: يجوز

)

(1)

.

وهذا الشرط بحسب الإمكان، فإذا لم يوجد إلا قاض مقلدٌ فإنه يولى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن شروط القضاء ومنها الاجتهاد:(هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولى لعدم: الأنفعُ من الفاسقين وأقلُّهما شرا، وأعدلُ المقلدين وأعرفُهما بالتقليد)، قال ابن مفلح:(وهو كما قال)

(2)

.

وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية هو الصواب في هذه المسألة، وهو موافق لمذهب الحنفية فإنهم يعتبرون الاجتهاد شرط فضيلة وكمال، فيصح قضاء المقلد إذا خلا الزمن من مجتهد يتولى القضاء، قال المرداوي:(وعليه العمل من مدة طويلة وإلا تعطلت أحكام الناس)

(3)

.

° الوجه السادس: الحديث دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبًا، بل المصيب واحد، وهو من وافق الصواب في علم الله تعالى. ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين: قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.

ومن قال: كل مجتهد مصيب، احتج بأنه صلى الله عليه وسلم جعل له أجرًا واحدًا، ولو كان لم يصب لم يؤجر، ووصفه بالخطأ محمول على من ذَهَلَ عن النص أو اجتهد في أمر قطعي خالف فيه الإجماع، لكن يرد على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم اعتبره مخطئًا وأثبت له الأجر، فهذا يدل على أنه غير مصيب، وما اعتذروا به عن وصفه بالخطأ تخصيص لا دليل عليه، والحديث عام.

(1)

"الإفصاح"(2/ 343).

(2)

"الفروع"(6/ 424).

(3)

"الإنصاف"(11/ 178).

ص: 420

° الوجه السابع: الحديث دليل على فضل الحاكم الذي على هذا الوصف وأنه يغنم الأجر في كل قضية يحكم بها، ولهذا كان القضاء من أعظم فروض الكفايات؛ لأن الحقوق بين الخلق كلها مضطرة إلى القضاء عند التنازع أو الاشتباه، فعلى القاضي أن يجاهد نفسه على تحقيق هذا الاجتهاد الذي تبرأ به ذمته وينال به الخير والأجر العظيم. والله تعالى أعلم.

ص: 421

‌النهي عن القضاء حال الغضب

1396/ 5 - عَنْ أَبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَينَ اثْنَينِ وَهُوَ غضْبَانُ"، مُتَّفَق عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب (هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟)(7158)، ومسلم (1717) من طريق عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كتب أبي وكتبت له

(1)

إلى عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاضٍ بسجستان ألا تحكم بين اثنين وأنت غضبان؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:(لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يحكم) ضبطت في نسخ "البلوغ" بضم الميم، فتكون (لا) نافية، وضبطت في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي لـ"صحيح مسلم" بسكونها على أن (لا) ناهية، وعلى هذا مشى النووي في ظاهر كلامه، ويؤيد ذلك لفظ البخاري، كما تقدم. وهذا النهي ظاهره التحريم، وعند الجمهور للكراهة، وكأنهم جعلوا الصارف له أنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الأنصاري، كما

(1)

معنى (كتب أبي) أمر بالكتابة، (وكتبت له) باشرت الكتابة التي أمر بها؛ لأن الأصل عدم التعدد. انظر:"فتح الباري"(13/ 137)، وحمله ابن الملقن في "شرحه على العمدة" على التعدد. فانظر:(10/ 34) قال الحافظ: (ولا يتعين ذلك).

ص: 422

سيأتي؛ ولأن النهي ليس لذات الغضب وإنما لكونه مظنة تشويش الذهن.

قوله: (وهو غضبانُ) بلا تنوين؛ لأنه ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون، والجملة حال من الفاعل، والغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، قال ابن فارس:(الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة)

(1)

. وسيأتي لهذا مزيد في كتاب "الجامع" -إن شاء الله تعالى-.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن القاضي منهي عن القضاء حال الغضب، وذلك لما يحصل للنفس بسببه من تشوش الفكر وانشغال القلب الذي يؤدي إلى اختلال النظر وعدم استيفائه على الوجه المطلوب، فيخرج بذلك عن دائرة العدل وإصابة الحق، وقد يميل في حكمه في حق المغضوب عليه إذا كان غضبه من أحد الخصمين، ونَهْيُ القاضي عن القضاء حال الغضب دليل واضح على عناية الشريعة بحقوق الناس ولو في حال الخصومة والنزاع، قال الموفق ابن قدامة:(لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان)

(2)

.

وظاهر النهي التحريم، ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة، وأما قصة الزبير مع خصمه فلا تصلح قرينة صارفة؛ إذ لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وسلم به في مثل ذلك؛ لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضاه وغضبه، بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه من الخطأ، وهذا اختيار الشوكاني

(3)

.

ومن أهل العلم من قال بالتفصيل، وهو أنه إن كان الغضب مشوشًا بحيث يفضي إلى عدم تمييز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه، وإن كان غضبًا يسيرًا لا يمنعه من النظر والفكر فأقل أحواله الكراهة، وهذا التفصيل هو الأقرب، واختاره الصنعاني

(4)

.

وقصة الزبير رواها عبد الله بن الزبير أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير

(1)

"معجم مقاييس اللغة"(4/ 428).

(2)

"المغني"(14/ 25).

(3)

"نيل الأوطار"(15/ 452).

(4)

"سبل السلام"(4/ 242).

ص: 423

عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة

(1)

التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرّح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير:"اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:"اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْرِ"

(2)

فقال الزبير: إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ

} [النساء: 65]

(3)

.

° الوجه الرابع: يقاس على الغضب منع الحاقن أو المريض أو الخائف أو الجائع أو من اعتراه ملل شديد أو حزن غالب وسائر ما يتعلق بالقلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر، وهذا الإلحاق من القياس الجلي؛ لثبوت علة الأصل بالإجماع، وهي تشويش الفكر وانشغال القلب، وكان الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب كثرة الأسباب المهيجة له من قِبَلِ الخصوم، واستيلاؤه على النفس وصعوبة مقاومته دون غيره.

وإذا كان الغضب بهذه الصفة فإنه ينبغي للقاضي أن يجتهد في الأخذ بالأسباب التي تصرف الغضب أو تخففه، من التخلق بالحلم والصبر وتوطين النفس على ما يسمعه من الخصوم، فإن هذا عون كبير -بتوفيق الله- على دفع الغضب أو تخفيفه.

° الوجه الخامس: يؤخذ من إطلاق الغضب في هذا الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الغضب لله تعالى، أو يكون لغير الله تعالى كحظ النفس، وذلك لوجود المعنى الذي من أجله نُهي القاضي عن القضاء حال الغضب، خلافًا لمن خص الحديث بما إذا كان الغضب لغير الله تعالى، فأجازه إذا كان الغضب لله؛ لأنه يؤمن معه من التعدي، بخلاف الغضب لحظ النفس، وهذا مخالف لظاهر الحديث وللمعنى، كما تقدم.

° الوجه السادس: استدل العلماء بهذا الحديث على أن القاضي إذا

(1)

بكسر الشين، مسايل النخل والشجر.

(2)

يروى بالدال وهو ما يحيط بالنخل لحفظ الماء، ويروى بالذال على ما ذكره الخطابي، وهو تمام الشرب.

(3)

رواه البخاري (2359)(2360)، ومسلم (2357).

ص: 424

حكم في حال غضبه فإن حكمه لا ينفذ؛ لأنه منهي عن القضاء في هذه الحال، والنهي يقتضي الفساد، وهذا رواية في مذهب أحمد.

والقول الثاني: أنه ينفذ حكمه إن صادف الحق، وعزاه ابن حجر إلى الجمهور

(1)

، وهو الأصح في مذهب الحنابلة

(2)

، واستدلوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير مع الأنصاري وهو في حال الغضب.

والقول الثالث: أنه إن كان الغضب قبل أن يتضح الحكم لم ينفذ؛ لأنه شغله عن استيضاح الحق، أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم فلا يمنع من نفوذ حكمه، واستدلوا بقصة الزبير أيضًا، وهذا قول ثالث في مذهب أحمد، كما ذكر ابن القيم، وذكره الموفق ابن قدامة في "الكافي"

(3)

، وذكره الحافظ ابن حجر وقال:(إنه تفصيل معتبر)

(4)

.

والذي يظهر أن الاستدلال بقصة الزبير غير مستقيم، لأمور ثلاثة:

1 -

أن حكمه صلى الله عليه وسلم فيها كان قبل الغضب، إلا أن يقال: إن حكمه الثاني بعد غضبه فيه زيادة على الأول؛ لأنه في الأول أمر الزبير أن يترك بعض حقه، وفي الثاني أمره أن يستوفي جميع حقه.

2 -

أن النهي في حديث الباب لا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، وهذا اختيار النووي، فإنه لما ذكر حديث اللقطة وفيه:(قال: يا رسول الله، فضالَّة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال: ما لك ولها .. ) الحديث. قال النووي: (وفيه جواز الفتوى والحكم في حال الغضب، وأنه نافذ، لكن يكره ذلك في حقنا، ولا يكره في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُخاف عليه في الغضب ما يُخاف علينا. والله أعلم) ورجح هذا ابن الملقن، وضَعَّفَ ما عداه.

3 -

أن هذا غضب يسير

(5)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(13/ 138).

(2)

"المغني"(11/ 209 - 210).

(3)

(6/ 97، 98)، وانظر:"الإنصاف"(11/ 210).

(4)

"فتح الباري"(13/ 138).

(5)

انظر: "إكمال المعلم"(5/ 575)، "شرح النووي على صحيح مسلم"(11/ 268)، "الإعلام"(10/ 35)، "القاضي والبينة" ص (177).

ص: 425

‌ما جاء في صفة القضاء

1397/ 6 - عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَقَاضَى إِلَيكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ للأَوَّلِ حَتى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْري كَيفَ تَقْضِي"، قَال عَليٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضيًا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوّاهُ ابْنُ الْمَدِيني، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.

1398/ 7 - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاس رضي الله عنهما.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث علي رضي الله عنه فقد رواه أحمد (2/ 103)، وأبو داود في كتاب "الأقضية"، باب (كيف القضاء)(3582)، والترمذي (1331) من طريق سماك بن حرب، عن حنش، عن علي رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث.

وهذا لفظ الترمذي، وقال:(هذا حديث حسن)، وفي سنده حنش وهو ابن المعتمر، وهو متكلم فيه، قال أبو حاتم:(هو عندي صالح، ليس أراهم يحتجون بحديثه)، وقال البخاري:(يتكلمون في حديثه)، وقال أبو داود:(ثقة)، وقال النسائي:(ليس بالقوي).

وفيه سماك بن حرب وهو متكلم فيه أيضًا، وهو صدوق اختلط بأخرة.

وقال ابن عبد الهادي: (رواه ابن المديني في كتاب "العلل" وقال: هذا حديث كوفي، وإسناده صالح)

(1)

، ولم أقف على رواية ابن المديني هذه في المطبوع من "العلل".

(1)

"المحرر" ص (452).

ص: 426

وهذا الحديث مروي عن علي رضي الله عنه من طرق بعضها مطول وبعضها مختصر، ومعظم طرقه فيها مقال، لكنه بمجموعها حديث حسن.

وروى الحديث ابن حبان (11/ 451) من طريق أسباط بن نصر، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة

وذكر الحديث، وفيه:"إن الناس سيتقاضون، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضِ لواحد حتى تسمع كلام الآخر، فإنه أجدر أن تعلم لمن الحق".

وهذا سند ضعيف؛ لأن في رواية سماك عن عكرمة اضطرابًا، قال يعقوب بن شيبة: قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة

(1)

، ثم هو من رواية أسباط، وقد يكون أخطأ في المتن والإسناد.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد رواه الحاكم (4/ 88) من طريق شَبَابة بن سَوَّار، حدثنا ورقاء بن عمر، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن عليًّا، فقال:"علمهم الشرائع، واقض بينهم"، قال: لا علم لي بالقضاء، فدفع في صدره فقال:"اللهم اهده للقضاء".

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين)، وسكت عنه الذهبي، ومسلم -وهو ابن كيسان- متكلم فيه، وهو ضعيف جدًّا

(2)

، فلا أظن الحديث يصح، فضلًا عن أن يكون على شرط الشيخين.

هذا وقد رأيت من علق على "البلوغ" ذكر أن الشاهد الذي أشار إليه الحافظ هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي في "الشهادات" برقم (1415) ولم يتضح لي وجه كونه هو الشاهد.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (إذا تقاضى إليك رجلان) أي: ترافع إليك خصمان.

(1)

"تهذيب التهذيب"(4/ 204).

(2)

انظر: "تهذيب الكمال"(27/ 530).

ص: 427

قوله: (لا تقضِ للأول) أي: من الخصمين وهو المدعي.

قوله: (حتى تسمع كلام الآخر) أي: المدعى عليه.

قوله: (فسوف تدري كيف تقضي) رواية أبي داود: "فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"، وعند ابن حبان -كما تقدم-:"فإنه أجدر أن تعلم لمن الحق"؛ والمعنى: أنك إذا سمعت كلام الخصمين اتضحت لك القضية وعرفت كيف تطبق الحكم عليها.

قوله: (قال علي

) الظاهر أن القائل ذلك هو حنش بن المعتمر الكناني الكوفي صاحب علي رضي الله عنه.

قوله: (فما زلت قاضيًا بعد) ظرف مبني على الضم؛ أي: بعد تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له، وفي رواية أحمد:"فما زلت بعد ذلك قاضيًا".

° الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي القاضي عن الحكم للمدعي حتى يسمع كلام المدعى عليه، حتى ولو كان كلام الأول مقنعًا وحجته واضحة؛ لأن من العدل في القضاء سماع حجة كل واحد من الخصمين والاستفصال عما لديه، كما أن ذلك أدعى إلى وضوح القضية ومعرفة حكمها.

وهذا التوجيه النبوي للقاضي هو من جملة الأحاديث الدالة على عناية الإسلام بالقضاء، وبيان طريق الحكم وصفته.

وهذا النهي يقتضي الفساد، فإذا حكم قبل سماع الإجابة من المدعى عليه كان حكمه باطلًا، ولا يلزم قبوله، بل يتوجه عليه نقضه وإعادته على وجه الصحة أو يعيده حاكم آخر.

ومحل النهي هو ما إذا كان المدعى عليه حاضرًا، ولم يسمع منه القاضي، فإن سكت المدعى عليه بعد طلب الجواب منه وأصر على عدم الجواب اعتبر ناكلًا وقضي عليه بالنكول.

والقول الثاني: أنه لا يقضى عليه بالنكول، والنكول: الامتناع عن اليمين. ولكن ترد اليمين على المدعي، فإن حلف قضى له وإلا صرفهما؛ لأنه لما نكل المدعى عليه قوي جانب المدعي.

ص: 428

والقول الثالث: أنه يجبر المدعى عليه على اليمين بحبس أو ضرب ولا يقضى عليه بالنكول ولا بِرَدِّ يمين، وتفصيل ذلك في كتب الفقه

(1)

.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على أن القاضي لا يحكم على الغائب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا منع القاضي من أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران في مجلس الحكم حتى يسمع كلام الآخر ففي الغائب أولى بالمنع، لإمكان أن يكون معه حجة تبطل دعوى الحاضر

(2)

؛ ولأن القضاء عليه مع النظر في القضية إذا حضر تطويل لا فائدة فيه، والقول بأنه لا يُحكم على الغائب هو قول القاضي شريح، وأبي حنيفة، وجماعة من السلف

(3)

، ولو قيد بما إذا لم يماطل في الحضور لغير عذر، لكان أولى. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "الطرق الحكمية" ص (126).

(2)

"معالم السنن"(5/ 208).

(3)

"المغني"(14/ 93).

ص: 429

‌حكم القاضي ينفذ ظاهرًا لا باطنًا

1399/ 8 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما قالت: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ ألحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأقضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مما أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيئًا فَإنّمَا أقطَعُ لَهُ قطْعَةً مِنَ النّارِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الأحكام"، باب (موعظة الإمام للخصوم)(7169)، ومسلم (1713) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وذكرت الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنكم تختصمون إلي) أي: تتحاكمون وترفعون المخاصمة إلي للقضاء.

قوله: (ولعل بعضكم أن يكون) لعل: بمعنى عسى، قال الطيبي:(أَنْ) زائدة تشبيهًا لـ (لعل) بـ (عسى)؛ أي: لعله يكون

(1)

.

قوله: (ألحن) في رواية للبخاري ومسلم: "أبلغ من بعض"، وألحن أفعل تفضيل من لَحِنَ كفَرِحَ: إذا فَطِنَ بما لا يَفْطَنُ به غيره، ويقال: لَحِنَ

(1)

انظر: "عمدة القارئ"(20/ 147).

ص: 430

كفَطِنَ وزنًا ومعنى. واللَّحَنُ: بالفتح الفطنة، وبالسكون الخطأ في القول، والمراد أنه إذا كان أفطن كان في الغالب أقدر وأبلغ في حجته من الآخر، فيزين كلامه بحيث يظنه القاضي صادقًا في دعواه. وقد جاء في بعض روايات البخاري ومسلم:"فأحسب أنه صادق فأقضي له"

(1)

.

ولا بد في التركيب من تقدير محذوف ليصح معناه؛ أي: وهو كاذب، ويسمى هذا عند أهل الأصول دلالة الاقتضاء؛ لأن هذا المحذوف اقتضاه الظاهر المذكور بعده، كقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدة.

قوله: (على نحوٍ مما أسمع منه) أي: من الدعوى والبينة أو اليمين، وقد تكون باطلة في نفس الأمر، وقد جاء في رواية -كما تقدم-:"فأحسب أنه صادق".

قوله: (فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا) أي: أعطيته بالقضاء من مال أو غيره.

قوله: (فإنما أقطع له قطعة من النار) أي: إذا كان الذي قضيت له بحسب الظاهر لا يستحقه بحسب الباطن، فهو عليه حرام يؤول به إلى النار.

وقوله: (قطعة من نار) تمثيل يفيد شدة التعذيب على من تعاطى ذلك، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].

وفي الرواية المذكورة لمسلم: "فلا يأخذه" وفي أخرى: "فليحملها أو يذرها".

° الوجه الثالث: الحديث دليل على أن القاضي يحكم على نحو ما يسمع من الخصمين من قوة الحجة ووضوح البرهان، وأنه لا إثم عليه في ذلك؛ لأنه مأمور بالحكم بالظاهر، والإثم والتبعة على من كسب القضية بالباطل؛ لقوله:(إنما أقطع له قطعة من النار). وقد بوب البخاري على هذا

(1)

"صحيح البخاري"(7181)، "صحيح مسلم"(1713)(5).

ص: 431

الحديث في كتاب "المظالم" بقوله: (بابُ إثمِ من خاصم في باطل وهو يعلمه). والقاضي قد يغتر ببعض الخصوم؛ لبلاغته وحسن أسلوبه وقوة كلامه، وربما التبس الأمر بسبب ذلك، لكن يجب على من كسب القضية بمثل هذا أن يعلم أنه متى عرف أن الحكم في غير حقه وأنه لم يصادف الصواب في نفس الأمر فإن حكم القاضي لا ينفعه ولو كان الحاكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

° الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن حكم الحاكم لا يغير حكمًا شرعيًّا في الباطن، فلا يحل حرامًا، فإذا شهد شاهدا زورٍ لإنسان بمال فحكم له به الحاكم بناءً على ذلك لم يحل هذا المال للمحكوم له، قال ابن فرحون:(حكم الحاكم لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا على من علمه في باطن الأمر؛ لأن الحاكم إنما يحكم بما ظهر، وهو الذي يعتد به، ولا يُنقل الباطن عند من علمه عما هو عليه من التحليل والتحريم)

(1)

.

° الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره؛ لأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر من البينة واليمين ونحو ذلك، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يفترق عن غيره في اطلاعه على بعض ما يطلعه الله عز وجل عليه من الغيوب الباطنة في ذلك في أمور خاصة لا في الأحكام العامة.

وإنما كلِّف النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر مع إمكان إطلاع الله إياه على الباطن فيحكم بيقين نفسه من غير حجة أو يمين؛ ليكون قدوة وتشريعًا للأمة.

° الوجه السادس: في الحديث تسلية للحكام؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يغتر بأحد الخصوم لقوة حجته فيحكم له، فإن غيره من باب أولى وأحرى، ولا سيما إذا ضعف الإيمان وانتشر الكذب وكثرت الحيل، والله المستعان.

° الوجه السابع: اتفق الأصوليون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقَرُّ على خطأ

(1)

"تبصرة الحكام"(1/ 66).

ص: 432

في الأحكام، ولا معارضة بين هذا وبين ما دل عليه الحديث، كما تقدم؛ لأن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان:

1 -

حكم مبني على اجتهاد، وهذا هو الذي لا يقر فيه على الخطأ.

2 -

حكم مبني على ما كلف به من البينة، وهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه فإنه لا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح بناء على ما أستقر به التكليف، وهو وجوب العمل بشهادة الشاهدين -مثلًا- فإذا كانا شاهدي زور فالتقصير منهما، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع.

° الوجه الثامن: استدل العلماء بهذا الحديث على أن القاضي لا يحكم بعلمه، وذلك بأن يتحاكم إليه شخصان وهو يعلم أن المدعي صادق فيما ادعاه، فإنه لا يحكم بذلك بل لا بد من البينة، وهذا هو ظاهر المذهب عند الحنابلة، وقول مالك، وأحد قولي الشافعي، وهو اختيار ابن القيم

(1)

.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما يحكم بما يسمع، ومفهومه أنه لا يحكم بما يعلم؛ لأن الحديث جاء بأسلوب القصر، كما في رواية:"فإنما أقضي له بما أسمع"

(2)

.

والقول الثاني: أن للقاضي أن يحكم بعلمه، واستدلوا بقصة هند زوجة أبي سفيان لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"

(3)

. فحكم لها النبي صلى الله عليه وسلم من غير بينة ولا إقرار، لعلمه بصدقها وأنها زوجة أبي سفيان.

ولأن علم القاضي أقوى من الشهادة؛ لأنه يتيقن ما علمه، والشهادة قد تكون كذبًا، وهذا قول آخر للشافعي، ورواية عن أحمد، وهو قول الظاهرية،

(1)

"المغني"(14/ 30)، "فتح الباري"(13/ 138)، "الطرق الحكمية" ص (209).

(2)

"فتح الباري"(13/ 177).

(3)

الحديث تقدم في "النفقات" برقم (1145).

ص: 433

بل يرى ابن حزم أن حكم القاضي بعلمه من أقوى ما يحكم به

(1)

، واختار هذا القول الشوكاني ونصره في رسالة مستقلة

(2)

، حتى إنه لم يذكر خلاف العلماء وأدلتهم، مما يدل على أنه في مجال ترسيخ مبدأ جواز حكم القاضي بعلمه، لا في مجال البحث العلمي، كما هو في كتابه "نيل الأوطار"

(3)

.

والقول الثالث: ما كان من حقوق الله تعالى كالحدود فإنه لا يحكم بعلمه، كما لو رأى رجلًا يزني بامرأة؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على العفو والمسامحة، وما كان من حقوق الآدميين وهي الأموال، فما علمه قبل ولايته لم يحكم به؛ لأنه بمنزلة ما سمعه من الشهود وهو غير حاكم، وما علمه في ولايته حكم به، وهذا قول أبي حنيفة

(4)

، وذكره ابن الملقن قولًا للشافعي

(5)

، وهو ظاهر اختيار البخاري، فإنه بوب على حديث عائشة في قصة هند بقوله:(باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يَخَفِ الظنون والتهمة)

(6)

.

والقول الأول أرجح لقوة مأخده؛ ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمة القاضي والحكم بما يشتهي ثم يحيله على علمه، والقاضي أحوج ما يكون إلى نفي التهمة عن نفسه -ولا سيما في هذا الزمان- وقد قال الشافعي:(لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه)

(7)

، وإذا كان في هذا الزمن الأول فما الظن بهذا الزمان؟!

وقد أفتى متأخرو الحنفية بعدم حكم القاضي بعلمه لفساد الزمان

(8)

.

وقد استثنى الفقهاء ثلاث مسائل يجوز فيها للقاضي أن يحكم بعلمه:

(1)

"المحلى"(9/ 426)، "المغني"(14/ 31).

(2)

انظر: رسالة "رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام" للشوكاني.

(3)

"15/ 486".

(4)

"بدائع الصنائع"(7/ 6)، "الاختيار"(2/ 88).

(5)

"الأعلام"(10/ 31).

(6)

"فتح الباري"(13/ 138).

(7)

"نيل الأوطار"(15/ 486).

(8)

انظر: التعليق على رسالة الشوكاني: "رفع الخصام" ص (20).

ص: 434

1 -

عدالة الشهود أو جرحهم.

2 -

ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به.

3 -

ما استفاض واشتهر

(1)

.

° الوجه التاسع: في الحديث دليل على مشروعية موعظة الخصمين وتحذيرهما من الكذب بأن يدعي الإنسان ما ليس له ويأتي ببينة كاذبة، وقد بوب البخاري على هذا الحديث -كما تقدم- بقوله:(باب موعظة الإمام الخصوم)

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الطرق الحكمية" ص (204)، "الشرح الممتع"(15/ 317).

(2)

"فتح الباري"(13/ 157).

ص: 435

‌ما جاء في نصرة الضعيف لأخذ الحق له

1400/ 9 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَيفَ تُقَدَّسُ أمّةٌ لَا يُؤخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ"، رَوَاهُ ابْنُ حِبّانَ.

1401/ 10 - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيدَةَ رضي الله عنه، عِنْدَ الْبَزَّارِ.

1402/ 11 - وآخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.

* الكلام عليها من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجها:

أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه ابن حبان (11/ 445) من طريق الفضل بن العلاء، حدثنا ابن خُثيم، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، إلا الفضل بن العلاء، روى له البخاري مقرونًا بغيره، وقال ابن معين:(لا بأس به)، وقال علي بن المديني:(ثقة)

(1)

، وفيه عنعنة أبي الزبير، وهو موصوف بالتدليس.

ورواه ابن حبان -أيضًا- (11/ 443) من طريق مسلم بن خالد، عن ابن خثيم به.

ورواه ابن ماجه (4010) من طريق يحيى بن مسلم، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر .. فذكر الحديث بطوله وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم".

والحديث مداره على عبد الله بن خُثيم، وهو متكلم فيه، فقد قال النسائي:(ليس بالقوي في الحديث) ومرة قال: (ثقة) وقال ابن معين:

(1)

"تهذيب التهذيب"(8/ 254).

ص: 436

(أحاديثه ليست بالقوية)، ومرة قال:(ثقة)، وقال أبو حاتم:(ما به بأس صالح الحديث)، وقال ابن المديني:(منكر الحديث)

(1)

.

وأما حديث بريدة رضي الله عنه فقد رواه البزار في "مسنده"(10/ 334)، والبيهقي (10/ 94) من طريق منصور بن أبي الأسود، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 257)، والبيهقي (6/ 95) من طريق عمرو بن أبي قيس، والدارمي في "نقضه على المريسي"(1/ 419) من طريق خالد بن عبد الله، ثلاثتهم عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، وهو سليمان، عن أبيه قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرًا رضي الله عنه حين قدم من الحبشة: ما أعجبُ شيء رأيتَه؟ قال: رأيت امرأة تحمل على رأسها مِكْتَلًا من طعام، فمر فارس فركضه فأبدره

(2)

، فجلست تجمع طعامها، ثم التفت فقالت: ويل لك، إذا وضع المَلِكُ تبارك وتعالى كرسيه فأخذ للمظلوم من الظالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولها:"لا قدست أمة، أو كيف تقدس أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها وهو غير مُتَعْتَعٍ"

(3)

.

قال البزار: (هذا الخبر لا نعلم رواه عن عطاء بن السائب إلا منصور بن أبي الأسود، ولا نعلم له عن بريدة طريقًا غير هذا الطريق)، وقال الحافظ:(ومنصور لا أدري سمع من عطاء قبل اختلاطه أو بعده فيحرر)، وعمرو بن أبي قيس صدوق له أوهام.

وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فقد رواه ابن ماجه (2426) فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عثمان أبو شيبة، ثنا ابن أبي عبيدة (أظنه قال) ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينًا كان عليه

وساق الحديث بطوله وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك خيار الناس؛ إنه لا قُدّستْ أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

(1)

"تهذيب الكمال"(15/ 279).

(2)

في بعض النسخ بالذال المعجمة، ومعناها: نثره وفَرَّقَه.

(3)

أي: من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه.

ص: 437

وابن أبي عبيدة هو محمد بن أبي عبيدة، ثقة

(1)

، وأبوه عبد الملك بن معن أو أبو عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ثقة أيضًا

(2)

، لكن ينظر في تفرد محمد بن أبي عبيدة عن أبيه؛ فإنه لا يحتمل، لأن له عن أبيه، عن الأعمش غرائب وإفرادات كما قال ابن عدي

(3)

.

وحديث الباب له شواهد، منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الطبراني في "الكبير"(11/ 118) وحديث معاوية رضي الله عنه عنده -أيضًا- (19/ 385، 387)(20/ 313) وحديث عبد الله بن أبي سفيان رضي الله عنه عند ابن قانع في "معجم الصحابة"(2/ 113).

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:

قوله: (كيف تُقَدَّس أمة) ضُبط بضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مفتوحة مبنيًّا لما لم يسم فاعله، و (أمة) نائب فاعل، وضبطه بعضهم بفتح التاء وإسكان القاف وضم الدال مبنيًّا للمعلوم، مضارع قَدُسَ من باب كَرُمَ، فعلى الأول معناه: كيف تُطَهَّرُ أمة وتنزه من الذنوب لا يُنتصف لضعيفها من قويها.

وعلى الثاني معناه: كيف تَطْهُرُ أمة من الذنوب وتصير مباركة طيبة

(4)

.

قوله: (من شديدهم) أي: من قويهم إذا ظلم، يقال: شَدَّ الشيء يَشِدُّ من باب ضرب، شدًا: قوي، فهو شديدٌ

(5)

.

* الوجه الثالث: في هذه الأحاديث دليل على أنه يجب أن يؤخذ من القوي للضعيف الذي لا يستطيع أن يقدم حجته أو أن يبلغها بل يُغلب، وعلى الأمة وعلى أعيانها وأمرائها وعلمائها وقضاتها أن ينصفوا الضعيف وألا يدعوا الشديد يعتدي عليه أو يغلبه.

وقد جاء في معنى هذه الأحاديث حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"

(6)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"تهذيب الكمال"(26/ 75).

(2)

"تهذيب الكمال"(18/ 417).

(3)

"الكامل"(6/ 234).

(4)

انظر: "إتحاف الكرام" ص (435).

(5)

"المصباح المنير" ص (307).

(6)

رواه البخاري (2443).

ص: 438

‌عظم شأن القضاء

1403/ 12 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أنّهُ لَمْ يَقْضِ بَينَ اثْنَينِ في عُمُرِهِ". رَوَاهُ ابْنُ حِبّانَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيهَقيُّ، ولَفْظُهُ:"في تَمْرةٍ".

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه ابن حبان (11/ 439) في كتاب "القضاء"، باب (ذكر الإخبار عن وصف مناقشةِ الله في القيامة الحاكمَ العادلَ إذا كان في الدنيا) من طريق عمرو

(1)

بن العلاء اليشكري، عن صالح بن سَرْج

(2)

، عن عمران بن حطان، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

وهذا سند ضعيف، صالح بن سرج ذكره البخاري في "تاريخه"

(3)

، وابن أبي حاتم

(4)

ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره العقيلي، ورَوَى عن عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: (صالح بن سرج كان من الخوارج)

(5)

وذكره الذهبي في "الضعفاء" وقال: (مجهول)، وذكره ابن حبان

(1)

في بعض المصادر كـ"مسند الطيالسي"(3/ 132)، و "سنن البيهقي"(10/ 96) عمر بن العلاء بدون واو، واستشكلها البيهقي، ورجح الحافظ الأول. وانظر:"الجرح والتعديل"(6/ 251).

(2)

في بعض المصادر بالحاء المهملة، وفي "توضيح المشتبه"(5/ 75) بالجيم المعجمة.

(3)

(4/ 282).

(4)

"الجرح والتعديل"(4/ 405).

(5)

"الضعفاء"(2/ 204)، "الميزان"(2/ 295).

ص: 439

في "الثقات"

(1)

.

وعمرو بن العلاء روى عنه جمع، وذكره البخاري في "تاريخه"

(2)

، وابن أبي حاتم

(3)

ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

ولم يذكر فيه توثيقًا، فهو مجهول الحال.

وعمران بن حطان أخرج له البخاري في المتابعات

(5)

، وهو صدوق، وقال "العقيلي:(لا يتابع على حديثه، وكان يرى رأي الخوارج، ولا يتبين سماعه من عائشة رضي الله عنها)

(6)

، وتبعه على هذا ابن عبد البر

(7)

، ولما نقل الحافظ ابن حجر في "المقدمة" كلام العقيلي أشار إلى ثبوت سماعه منها في "الصحيح"

(8)

وقد وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(9)

.

وقد رواه أحمد (41/ 10 - 11) بهذا الإسناد أن عمران بن حطان قال: دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي

الحديث.

ولَمَّا رواه الطبراني في "الأوسط"(3/ 294 - 295) قال: (لا يروى هذا الحديث عن عائشة إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمرو بن العلاء).

والحافظ سكت عن الحديث، وكأنه يرى أنه صالح للاستدلال.

وقد رواه أحمد (41/ 11)، والبيهقي (10/ 96) بهذا الإسناد، ولفظه:"ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط"، ولما أورد المنذري لفظ ابن حبان وأحمد قال:(كذا في أصلٍ من المسند، والصحيح: تَمْرةٍ وعُمُرِهِ، وهما متقاربان في الخط، ولعل أحدهما تصحيف، والله أعلم)

(10)

.

° الوجه الثاني: هذا الحديث -لو صحَّ- يفيد خطر القضاء وعظم أمره،

(1)

"ديوان الضعفاء" ص (191)، "الثقات"(6/ 460).

(2)

(6/ 360).

(3)

"الجرح والتعديل"(6/ 251).

(4)

(8/ 478).

(5)

انظر: "فتح الباري"(10/ 285).

(6)

"الضعفاء"(3/ 297).

(7)

"تحفة التحصيل" ص (249).

(8)

انظر: "هدي الساري" ص (432).

(9)

انظر: "تاريخ الثقات" ص (373)، "الثقات"(5/ 222)، "تهذيب الكمال"(22/ 322).

(10)

"الترغيب والترهيب"(3/ 157).

ص: 440

وشدة حساب القضاة يوم القيامة، وإذا كان هذا في القاضي العادل فكيف بقضاة الجور والجهالة؟! وعلى القاضي الذي يريد النجاة ما يلي:

1 -

أن يستعين بالله تعالى وأن ينبعث من قلبه شعور صحيح بالافتقار إلى الله تعالى أن يلهمه الصواب، ويدله على الحق، ويعينه على تنفيذه.

2 -

أن يحتاط لنفسه ببذل الجهد والطاقة في استنباط الحكم الشرعي وتطبيقه على القضية بعد تصورها وتفهمها.

3 -

أن يكون جلساؤه ومستشاروه من أهل العلم والحق والإنصاف.

4 -

أن يبتعد عن قرناء السوء من الكُتاب والأعوان وأصحاب القلوب المريضة والنفوس الدنيئة الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.

وهذا الحديث من ضمن الأحاديث الواردة في عظم شأن القضاء، مع أنه ورد أحاديث في فضل القضاء بعضها تقدم، فإما أن يقال بترجيح الأحاديث الواردة في فضل القضاء؛ لكونها أصح، أو يقال بالجمع، فتكون أحاديث التحذير محمولة على من طلب القضاء ولم يف بحقه، إما لأنه لا علم له بالحق، أو أنه لا يقدر على الصدع به، وتنفيذ ما قضى به.

وأما أحاديث الترغيب فهي لمن وليه بلا طلب، وسلك فيه مسلك الخوف والرجاء، فبذل جهده في معرفة الحق وفي تنفيذه ولم تأخذه في الله لومة لائم. والله تعالى أعلم.

ص: 441

‌ما جاء في أن المرأة لا تتولى القضاء

1404/ 13 - عَنْ أَبي بَكرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبِي صلى الله عليه وسلم قال: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأةً"، رَوَاهُ الْبُخَارِي.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "المغازي"، باب (كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر)(4452) من طريق عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل

(1)

بعد ما كدت أن ألحق باصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

وهذا فيه بيان سبب الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لن يفلح) الفلاح: اسم جامع لكل مطلوب محبوب وسلامة من كل مكروه.

قوله: (قوم) نكرة في سياق النفي، فيعم كل قوم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمراد بالقوم هنا: الرجال، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11]، وقال الشاعر:

(1)

الظرف متعلق بـ (نفعني) لا بـ (سمعتها) كما هو ظاهر السياق؛ لأنه سمع ذلك قبل أيام الجمل قطعًا، ففيه تقديم وتأخير؛ أي: نفعني الله أيام الجمل بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فتح الباري"(8/ 128).

ص: 442

وما أدري وسوف إِخَالُ أدري

أقوم آلُ حِصْنٍ أم نساءُ

قوله: (أمرهم) أي: الأمر الذي يعنيهم ويهمهم وهو أمرهم العام، أما الأمور الخاصة كولاية وقف أو يتامى أو إدارة مدرسة ونحو ذلك فلا بأس، وقد جعل عمر رضي الله عنه وقفه إلى بنته حفصة رضي الله عنها

(1)

.

قوله: (امرأة) بالنصب مفعول (ولوا) وفي رواية للترمذي والنسائي من طريق حميد الطويل، عن الحسن:(وَليَ أمرَهم امرأةٌ) وهو فاعل.

° الوجه الثالث: الحديث يدل على أن المرأة لا تتولى القضاء، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، ويؤيد ذلك أمران:

الأول: أن القاضي لا بد أن يبرز للناس ويحضر محافل الرجال، والمرأة ليست كذلك، بل ربما كان كلامها فتنة وحضورها فتنة، ثم إن مجلس القضاء يحضره أصناف الرجال من حميد الأخلاق وقبيحها، وهذا أمر لا يناسب المرأة أن تراه.

الثاني: أن القضاء من كمال الولايات يُحتاج فيه إلى تمام العقل وكمال الرأي، والمرأة ليست كذلك فهي قليلة الرأي ناقصة العقل، ومواجهةُ مشكلات القضاء ومعضلاته تحتاج إلى رباطة جأشٍ وثبوت قدم، والمرأة بمقتضى خلقتها وتكوينها مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لها بعد عبادة ربها، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربية الأجيال، ولها من الأعمال ما يتفق مع أنوثتها ورقة عاطفتها، ثم هي يعرض لها عوارض تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوتها وتوهن عزيمتها، وهذا أمر لا يجادل فيه إلا مكابر معاند.

ولهذا لم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء، ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلك لم يخل منه الزمان غالبًا.

والقول الثاني: أنه يجوز أن تتولى المرأة القضاء في جميع الخصومات،

(1)

تقدم هذا في باب الوقف.

ص: 443

ونسب هذا القول إلى ابن جرير الطبري

(1)

؛ لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية بالأولى؛ لأن المفتي يبين الحكم الشرعي بناءً على اجتهاده، والقاضي يبين ذلك ويلزم به بسلطة الدولة.

والقول الثالث: أنه يجوز أن تتولى المرأة القضاء فيما تقبل شهادتها فيه، وهي الأموال، دون الحدود والقصاص؛ لأنها لا تقبل شهادتها فيها، وهذا قول الحنفية، وابن حزم

(2)

، جاء في "الهداية":(ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا الحدود والقصاص)

(3)

، فهم يديرون القضاء مع الشهادة.

واستدلوا بأن المرأة ليست بحاكم، وإنما هي قاضٍ منفذٌ ومخبر عن الحكم الشرعي كالإفتاء والشهادة، وحديث الباب إنما هو في الولاية وهي الحكم لا في القضاء؛ ولأن القاضي أجير وعامل كبقية موظفي الدولة، والأجير يجوز أن يكون رجلًا وأن يكون امرأة، قال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].

كما استدلوا بأن عمر رضي الله عنه استعمل امرأة، وهي الشفاء أم سليمان بن أبي حثمة على حِسْبَةِ السوق

(4)

.

والصواب القول الأول لقوة مأخذه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بهذا الحديث مجرد الإخبار عن عدم فلاح من يولون امرأة، وإنما أراد به نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة.

وأما ما نسب إلى ابن جرير الطبري فقد أجيب عنه بما يلي:

1 -

أنه لم يثبت عنه كما حكاه ابن العربي

(5)

.

(1)

"أحكام القرآن" لابن العربي (3/ 1445)، "فتح الباري"(8/ 128).

(2)

"المحلى"(9/ 429).

(3)

(3/ 107).

(4)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(3179) من طريق دُحيم، عن رجل سماه، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر رضي الله عنه. وهو أثر ضعيف مسلسل بالعلل، وذكر هذا ابن حزم في "المحلى"(9/ 429)، وابن عبد البر في "الاستيعاب"(13/ 56) وقد ورد عند ابن عساكر أن عمر استعمل واحدًا من أهلها.

(5)

"أحكام القرآن"(3/ 1445).

ص: 444

2 -

أنه لا يُدرى في أي كتاب من كتبه، ولم يعزه أحد إلى مصدر معين.

3 -

على فرض أنه قاله فهي زلة منه خالف فيها أدلة الشرع ومذهب جمهور الأمة، ولا يحل لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج على زلة عالم، فقد نهينا عن ذلك.

قال الماوردي: (وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]؛ يعني: في العقل والرأي)

(1)

.

وقياس القضاء على الإفتاء قياس مع الفارق لأمرين:

الأول: أن الإفتاء لا إلزام فيه بخلاف القضاء، كما تقدم أول "القضاء".

الثاني: أن القضاء ولاية، فهو من باب الولايات، بخلاف الإفتاء فإنه ليس كذلك

(2)

.

وأما قول أبي حنيفة فقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله أن أصل التولية عند أبي حنيفة على المنع؛ لكن المراد بذلك أن الإمام إذا ولاها أَثِمَ ونفذ قضاؤها

(3)

.

والقول بالجواز قول ضعيف؛ لأن قياس القضاء على الشهادة قياس مع الفارق؛ لأن أهلية القضاء وشروطه ليست كأهلية الشهادة وشروطها، وإلا يلزم من ذلك صحة تولية العامي الجاهلِ القضاءَ ما دامت شهادته مقبولة. وحَمْل الحديث على الولاية العامة -كما يقول ابن حزم- فيه نظر؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأما ما روي عن عمر رضي الله عنه فهو أثر ضعيف مسلسل بالعلل، كما تقدم، ولذا قال عنه ابن العربي:(لم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الأحكام السلطانية" ص (83).

(2)

"أحكام ولاية القضاء" ص (39).

(3)

انظر: "التعالم وأثره على الفكر والكتاب" ص (102).

(4)

"أحكام القرآن"(3/ 1445).

ص: 445

‌نهي القاضي أن يتخذ حاجبًا يمنع الناس عنه

1405/ 14 - عَنْ أَبي مَرْيَمَ الأزدِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ وَلَاهُ الله شَيئًا مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

هو أبو مريم الأزدي، ويقال: الأسدي، واسمه: عمرو بن مرة الجهني، وبهذا جزم البخاري في "تاريخه"، ونقل عنه الترمذي في "العلل" أنه قال:(أبو مريم هذا هو عمرو بن مرة الجهني، وحديثه في الشاميين)، وتبعه أبو حاتم، والترمذي، والبزار، والبغوي، وابن عبد البر، وابن الأثير وآخرون، قال ابن عبد البر:(كان إسلامه قديمًا، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر المشاهد، ومات في خلافة معاوية). وقال آخرون: إنهما شخصان، ومنهم الحاكم فقد جعل حديث عمرو بن مرة شاهدًا لحديث أبي مريم الأزدي، وهو الظاهر من صنيع الإمام أحمد في "مسنده"، ومنهم الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة". وتبعهم الحافظ ابن حجر، وعلل لذلك بأن سند الحديثين مختلف، وكذا سياق المتن

(1)

.

° الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الخراج والإمارة والفيء"، بابٌ

(1)

"التاريخ الكبير"(6/ 308)، "الجرح والتعديل"(6/ 257)، "العلل الكبير"(1/ 537)، "الاستيعاب"(9/ 4)، "أسد الغابة"(4/ 269)(6/ 284)، "تجريد أسماء الصحابة"(1 / رقم 4512)، "الإصابة"(2/ 18).

ص: 446

(فيما يلزم الإمام من أمر الرعية)(2948)، والترمذي (1333) من طريق يحيى بن حمزة، عن يزيد بن أبي مريم أن القاسم بن مُخَيمِرَةَ أخبره أن أبا مريم الأزدي أخبره، قال: دخلت على معاوية، فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان

(1)

-وهي كلمة تقولها العرب- فقلت: حديثًا سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره" قال: فجعل رجلًا على حوائج الناس.

وهذا لفظ أبي داود، وأما الترمذي فإنه لم يسق لفظه، وإنما أحال على حديث قبله بمعناه، كما سيأتي، والظاهر أن الحافظ ساق حديث الباب بمعناه.

وهذا الحديث رجاله ثقات، وقد سكت عنه الحافظ هنا، وقال في "فتح الباري":(إسناده جيد)

(2)

.

ورواه الترمذي (1332)، وأحمد (29/ 565)، والحاكم (4/ 94) من طريق علي بن الحكم قال: حدثني أبو حسن أن عمرو بن مرة قال لمعاوية: يا معاوية إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" فجعل معاوية رجلًا على الناس.

وهذا سند ضعيف، أبو حسن هو الجزري، تفرد بالرواية عنه علي بن الحكم، فهو مجهول، كما قال الذهبي في "الميزان"

(3)

، قال الترمذي:(حديث عمرو بن مرة حديث غريب، وقد روي من غير هذا الوجه، وعمرو بن مرة الجهني يكنى أبا مريم)، وقال ابن المديني عن الجزري:(روى عن عمرو بن مرة، وعنه علي بن الحكم مجهول، ولا أدري أسمع من عمرو بن مرة أم لا؟)

(4)

.

(1)

صيغة تعجب، والمقصود إظهار الفرح والسرور بقدومه.

(2)

(13/ 133).

(3)

(4/ 515).

(4)

"تهذيب التهذيب"(12/ 77).

ص: 447

وله شاهد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي من أمر الناس شيئًا فاحتجب عن أولي الضّعْفَة والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة".

رواه أحمد (36/ 394) بإسناد قال عنه المنذري: (جيد)

(1)

، مع أن فيه شريكًا القاضي، وهو سيء الحفظ، وقال أبو حاتم:(هذا حديث منكر)

(2)

.

° الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (من ولاه الله شيئًا) هذه نكرة في سياق الشرط، فتعم كل ولاية صغيرة كانت أم كبيرة، فيدخل في ذلك الولاية الكبرى وما دونها من إمارات المدن والقضاء وسائر الوظائف.

قوله: (فاحتجب) إما أن المراد به منع أرباب الحاجات من الوصول إليه فيعسر عليهم رفع حوائجهم أو إنهاؤها، أو أن المراد: امتنع من الخروج إليهم.

قوله: (عن حاجتهم وفَقْرِهِمْ) الحاجة: ما يهتم به الإنسان وإن لم تبلغ حد الضرورة بحيث لو لم تحصل لاختل أمره. والفقر: هو الاضطرار، وقيل: هما متقاربان، والتكرار للتوكيد.

وقوله: (وفَقْرِهِمْ) هكذا في المخطوطة

(3)

، وهو الموافق لما في "سنن أبي داود"، وفي بعض نسخ"البلوغ"(وفقيرهم).

قوله: (احتجب الله دون حاجته) أي: عامله بمثل فعله يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وإذا احتجب الله دون حاجته منعه فضله وعطاءه ورحمته.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على عظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على من تولى للمسلمين أمرًا صغيرًا كان أم كبيرًا؛ لأن الولاية تكليف قبل أن تكون تشريفًا، ويؤيد هذا عمومات الشريعة في عظم الأمانة والقيام على مصالح المسلمين.

(1)

الترغيب والترهيب" (3/ 178).

(2)

سبق ذكرها عند الحديث (956).

(3)

"العلل"(2743).

ص: 448

° الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه يجب على من ولي أمرًا من أمور المسلمين أن يبرز إليهم ولا يحتجب عنهم، بل يقابلهم ويسمع ما عندهم، ليقضي ما يتعين عليه قضاؤه، ويوجه إلى ما يحتاجون إليه.

قال الحافظ ابن حجر: (في هذا الحديث وعيد شديد لمن كان حاكمًا بين الناس فاحتجب عنهم بغير عذر؛ لما في ذلك من تأخير الحقوق أو تضييعها)

(1)

.

° الوجه السادس: استدل الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي بهذا الحديث على أنه لا ينبغي للقاضي أن يتخذ حاجبًا

(2)

.

وذهب آخرون إلى أنه ينبغي للقاضي أن يتخذ حاجبًا يدخل الخصوم إلى القاضي بالترتيب كل خصمين على حدة حسب المواعيد التي أعطيت لهم، وهذا أمر لازم ولا سيما في زماننا هذا، لما في ذلك من المصالح، ومنها: لئلا يتدافع الخصوم إلى مجلس القضاء فيحصل الاضطراب، ومنها: حصول الهدوء والسكينة في مجلس القاضي، وهذا له أثر في التثبت والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين.

ومنها: عدم إطلاع الناس على أسرار موضوع النزاع بين المتخاصمين؛ لئلا تذاع الأسرار لو دخل الناس دفعة واحدة.

وأجابوا عن الحديث بأن المراد به الاحتجاب الذي يؤدي إلى تأخير القضاةِ النظرَ في حاجات الناس وفَضّ الخصومات بينهم

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(13/ 133).

(2)

"الأم"(490).

(3)

"فتح الباري"(13/ 133)، "نيل الأوطار"(15/ 442)، "أحكام ولاية القضاء" ص (115).

ص: 449

‌ما جاء في تحريم الرشوة في الحكم

1406/ 15 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ في الْحُكْمِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ الترْمِذِي، وَصحّحَهُ ابْنُ حِبّانَ.

1407/ 16 - وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما، عِنْدَ الأَرْبَعَةِ إلَّا النَّسَائي.

* الكلام عليهما من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أحمد (15/ 8)، والترمذي في أبواب "الأحكام"، باب (ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم)(1336)، وابن حبان (11/ 467) من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وقد اختلفت نسخ الترمذي في الحكم على هذا الحديث، ففي طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (3/ 622) التي أكمل بها تحقيق أحمد شاكر:(حديث حسن صحيح)، وأما المطبوع مع "تحفة الأحوذي"

(1)

ففيه: (حديث حسن) وكذا في طبعة الرسالة (3/ 173) وهو المثبت في "تحفة الأشراف"(10/ 469)، وهو الذي ذكر الحافظ هنا.

والحديث في إسناده عمر بن أبي سلمة، وقد ضعفه غير واحد من قبل

(1)

(4/ 566).

ص: 450

حفظه، قال أبو حاتم:(هو عندي صالح صدوق في الأصل، ليس بذاك القوي، يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال العجلي:(لا بأس به)، وقال الجوزجاني:(ليس بقوي في الحديث)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق يخطئ).

وقول الحافظ: (رواه أحمد والأربعة) وهم منه، فإنه لم يخرج الحديث من الخمسة إلا الترمذي وأحمد.

وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقد تقدم تخريجه في باب (الربا) من كتاب "البيوع"(844)، وهو حديث صحيح، رواه أبو داود (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه (2313)، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، ونقل عن الدارمي أنه قال:(حديث أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن شيء في هذا الباب وأصح).

ولعل الحافظ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثم جعل هذا شاهدًا له؛ لأن في حديث أبي هريرة زيادة لفظة: (في الحكم) وهي مناسبة لكتاب القضاء، كما سيأتي.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) تقدم شرح هذا في كتاب "البيوع" وأن الرشوة: ما يدفع من مال ونحوه كمنفعة، ليتوصل به إلى ما لا يحل.

فالرشوة قد تكون مالًا، وهذا هو الغالب، وقد تكون منفعة يُمَكنهُ منها أو يقضيها له.

قوله: (في الحكم) هذا تنصيص على بعض أفراد العام، وهو لا يقتضي تخصيص الرشوة بذلك، بل تحريمها عام في الحكم وغيره، لكن تخصيص الرشوة بالحكم أعظم؛ لأن فيه تبديلًا لحكم الشرع بخلاف غيره.

(1)

"تهذيب التهذيب"(7/ 401).

ص: 451

والرشوة في الحكم: أن يُعْطَى القاضي ما يكون له أثر في تغيير الحكم أو تخفيفه واعتباره في صالح الراشي.

° الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الرشوة وأنها من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد توعد أكلة الرشوة والمتعاملين بها بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، وقد مضى في "البيوع" الكلام على ذلك.

° الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الرشوة في الحكم وأنها من كبائر الذنوب، وقد تقدم في "البيوع" ذكر شيء من مفاسدها، وإذا كانت الرشوة حرامًا مطلقًا لا يجوز قبولها، فإنها في باب القضاء والحكم أشد تحريمًا، لما يترتب عليها من تضييع الحقوق على أهلها، وأكل أموال الناس بالباطل، وتغيير حكم الله تعالى؛ لأن المرتشي سيحكم بما يرضي دافع الرشوة من إثبات باطل أو نفي حق، فانتشار الرشوة بين القضاة يفضي -ولابدَّ- إلى تعطيل الأحكام الشرعية، والمحاباة فيها، وضياع الأمانات.

والرشوة في الحكم قد تكون في طريق الحكم وذلك بتلقين الحجة للراشي أو تقوية حجته أو إضعاف حجة الآخر، وقد تكون في الحكم نفسه بأن يحكم للراشي ما هو من حق الطرف الآخر، وقد تكون في تنفيذ الحكم، فيعمل على إضعافه وعدم العناية بتنفيذه أو تخفيفه.

وهذا يوجب فسق الحاكم وعدم نفوذ حكمه؛ لأنه أَكَلَ السحت، وغَيّرَ حكم الله تعالى، كما تقدم.

فإن أعطى القاضي شيئًا ليقضي له بحقه لم يحل له الأخذ وصار هذا سببًا في فسقه؛ لأن القضاء واجب عليه فما أخذه في مقابلة أمر أوجبه الله عليه وهو يأخذ على ذلك رزقًا من بيت المال، فما أخذه فهو حرام عليه وحرام على المعطي؛ لأنه سبب في إفساد الحاكم وتأثيمه، وهذا اختيار الشوكاني

(1)

.

(1)

"نيل الأوطار"(15/ 438).

ص: 452

والقول الثاني: أنها حرام على الحاكم دون المعطي؛ لأنها لاستيفاء حقه، فهي كَجُعْلِ الآبق وأجرة الوكالة في الخصومة، وهذا قول الجمهور، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر)

(1)

.

وإن رشاه ليحكم له بغير حقه فقد أكل السحت، وغير شرع الله تعالى، فيكون أقبح مما قبله؛ لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور.

° الوجه الخامس: ذكر العلماء أن ما يأخذه القضاة من الأموال أربعة أقسام

(2)

:

الأول: الرشوة، وقد مضى حكمها.

الثاني: الهدية: والفرق بينها وبين الرشوة أنهما يشتبهان في الصورة، ويفترقان في القصد، فإن الراشي قصد بالرشوة التوصل إلى ما لا يحل، كما تقدم، وأما المهدي فقصده ايستجلاب المودة، فإن قصد المكافأة فهو معاوض، وإن قصد الربح فهو مستكثر

(3)

.

وأما حكم الهدية للقاضي ففيها تفصيل:

فإن كان للمهدي خصومة لم يجز للقاضي أن يقبلها منه مطلقًا، سواء أكان يهاديه قبل القضاء أم لا؛ لأن الهدية يقصد بها استمالة قلب القاضي، ليعتني به في الحكم، فتشبه الرشوة، وتأخذ حكمها إن أهدى إليه ليحكم له بغير حقه

(4)

.

وإن لم يكن له خصومة فإن كان لا يهاديه قبل ولايته القضاء فإنه لا يقبلها، لأن قبولها ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته والعناية به، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته

(5)

.

(1)

"الفتاوى"(31/ 287).

(2)

"بدائع الفوائد"(3/ 1079).

(3)

"الروح" لابن القيم ص (324).

(4)

"الفتاوى"(31/ 286)، "سبل السلام"(4/ 250).

(5)

"نيل الأوطار"(15/ 441).

ص: 453

واستثنى بعض العلماء ما إذا كان المهدي قريبًا للقاضي وكان من ذي الرحم المحرم، فإن للقاضي أن يقبل هديته ولو لم يكن يهدي إليه قبل القضاء، لعدم التهمة

(1)

.

وإن كان مما يهاديه قبل القضاء لم تحرم استدامتها؛ لأنها لم تكن من أجل الولاية، لوجود سببها قبل الولاية، قال بعض العلماء: إلا إذا كانت هديته بعد القضاء أكثر، فإنه يرد الزيادة؛ لأنه إنما زاد لأجل القضاء ليميل إليه إن وقعت خصومة، والأحوط عدم قبولها مطلقًا، قال القاضي أبو يعلى:(يستحب له التنزه عنها)

(2)

.

قال علاء الدين الطرابلسي المتوفى سنة (1032 هـ): (والأصوب في زماننا عدم القبول مطلقًا؛ لأن الهدية تورث إذلال المهدي وإغضاء المهدي إليه، وفي ذلك ضرر القاضي، ودخول الفساد عليه)

(3)

.

وذلك لأن للإحسان تأثيرًا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.

القسم الثالث مما يأخذه القضاة: الأجرة: وهي ما يأخذه القاضي من الخصوم، فإن كان له رَزْقٌ من بيت المال حرمت الأجرة بالاتفاق؛ لأنه إنما أجري له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجه للأجرة.

وإن لم يكن له رزق من بيت المال جاز له أخذ الأجرة.

الرابع- الرزق: وهو بالكسر، المال الذي يصرف للقاضي من بيت المال كل شهر

(4)

، وهو ما يعرف الآن بالراتب، وهذا أمر قد قررته الشريعة الإسلامية، ونص عليه جميع الفقهاء، وقد ورد في السنة ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من سَنَّ رزق القضاة، لكنه لم يكن بشكل منظمٍ شهريًّا، وإنما حسب الأحوال، وقد نقل ابن الجوزي في "تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه "عن

(1)

"نظام القضاء في الإسلام" ص (116).

(2)

"المغني"(14/ 59).

(3)

"معين الحكام" ص (208).

(4)

"فتح الباري"(13/ 150).

ص: 454

الحسن أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يرزقان المؤذنين والأئمة والمعلمين والقضاة

(1)

.

وذلك لأن القاضي عامل، فله في بيت المال ما يكفيه ويكفي عياله؛ لئلا يتعرض لما في أيدي الناس، أو يشتغل بأعمال لا تتفق ومنصب القضاء كالتجارة أو غيرها من المهن. والله تعالى أعلم.

(1)

"تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه" ص (125)، والحسن لم يدرك عمر، ولم يسمع من عثمان رضي الله عنهما. انظر:"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (31).

ص: 455

‌ما جاء في جلوس الخصمين بين يدي الحاكم

1408/ 17 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزبَيرِ رضي الله عنهما قَال: قَضَى رَسُولُ اللهِ أنَّ الْخَصْمَينِ يَقْعُدَانِ بَينَ يَدَي الْحَاكِم. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجهين:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في كتاب "الأقضية"، باب (كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي)(3588)، والحاكم (4/ 94) من طريق مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:

فذكره.

وهذا سند ضعيف؛ لأن فيه مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف متفق على ضعفه، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه:(أُراه ضعيف الحديث، لم أر الناس يحمدون حديثه)، وقال أبو حاتم:(صدوق، كثير الغلط، ليس بالقوي)

(1)

.

° الوجه الثاني: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أن السنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي، وحديث الباب وإن كان ضعيفًا، لكن المعنى يقتضي ذلك؛ لأن جلوس الخصمين أمام القاضي هو من باب العدل بينهما؛ لأنهما لو لم يجلسا على هذه الصفة لجلس واحد عن يمينه والآخر عن شماله، وهذا فيه ما فيه؛ ولأن جلوسهما على هذه الصفة أمكن للقاضي في العدل بينهما في لحظه ولفظه، قال ابن رشد: (أجمعوا على أنه واجب على

(1)

انظر: "العلل" للإمام أحمد (2/ 488)، "الجرح والتعديل"(8/ 304)، "تهذيب التهذيب"(10/ 144).

ص: 456

القاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس، وألا يسمع من أحدهما دون الآخر

)

(1)

.

وقد نص الفقهاء على أنه يجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في مجلسه وفي الدخول عليه، ولا يجوز له أن يرفع أحد الخصمين عن الآخر، أو يقبل عليه، أو يقوم له دون خصمه، أو يشاوره؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته.

فإن ترافع إليه مسلم وكافر رفع مجلس المسلم على مجلس الكافر.

والقول الثاني: أنه لا فرق بين مجلس المسلم ومجلس الكافر، بل يراعي العدل وسلوك ما يوصل إلى استظهار الحقوق، وقد يكون في تقديم المسلم على الكافر كسر لقلب الكافر فيتلعثم عن ذكر حجته، ويكون ذلك مفضيًا إلى عدم تبين الحجة، وهذا هو الصواب

(2)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بداية المجتهد"(4/ 453).

(2)

"الشرح الكبير مع الإنصاف"(28/ 341)، "تعليق الشيخ محمد بن عثيمين على الروض المربع" ص (707).

ص: 457

‌باب الشهادات

الشهادات: جمع شهادة، وهي مصدر شهد يشهد شهادة، وإنما جمع المصدر لإرادة الأنواع

(1)

؛ لأن الشهادة قد تكون على الأموال أو الحدود أو الرضاع، وغير ذلك، ولها في اللغة معانٍ منها: الحضور، والخبر، والاطلاع على شيء، قال ابن فارس:(الشهادة: الإخبار بما قد شوهد)

(2)

، وقال الجوهري:(الشهادة: خبر قاطع)

(3)

، سميت بذلك من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخبر عما شاهده.

واصطلاحًا: الإخبار عما يعلمه بلفظ شهدت أو أشهد، ونحوهما كسمعت، ورأيت، وتحققت، وعلمت، ونحو ذلك.

وعلى هذا فلا يشترط في أداء الشهادة لفظ معين، بل تصح بكل لفظ دل على اليقين، وهذا قول المالكية

(4)

؛ لأن المقصود من الشهادة بعث الاطمئنان إلى علم القاضي أو غيره بأن ما شهد به الشاهد حق وصدق، وهذا لا يتوقف على لفظ معين.

واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وذكر أنه رواية عن أحمد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن اشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يتوقف إطلاق لفظ الشهادة لغةً على ذلك)

(5)

.

(1)

"سبل السلام"(4/ 253).

(2)

"مجمل اللغة"(2/ 514).

(3)

"الصحاح"(2/ 494).

(4)

انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 164).

(5)

"الفتاوى"(14/ 170). وانظر: "بدائع الفوائد"(1/ 8)(4/ 54).

ص: 458

والحكمة من مشروعية الشهادة: أنها طريق من طرق الأثبات، بها تحفظ الأموال والدماء والأعراض، وبها تنفذ الأحكام، وهي تلي الإقرار في القوة الظاهرة، وإذا كانت بهذه المنزلة فالواجب على القضاة -في هذا الزمان- التحري والتثبت والبحث عن ديانة وأمانة من يؤديها؛ لضعف الإيمان وفساد الذمم.

وتحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، والمراد بتحمل الشهادة: التزام الإنسان بها، والمراد بأدائها: أن يشهد بها عند القاضي أو غيره، ووجه كون ذلك فرضًا أنه لو لم يكن فرضًا لامتنع الناس من التحمل والأداء، فيؤدي إلى ضياع حقوق الناس، وأما كونه على الكفاية فلأن الحاجة المذكورة تندفع بشهادة من تقوم به الكفاية، قال الله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقال تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والظاهر أن (مِن) للتبعيض، ويكون ذلك مخصصًا لعموم الآيات التي تفيد الإيجاب مطلقًا، ثم إن المعنى يؤيد ذلك، كما تقدم

(1)

.

(1)

"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 175)، "مغني المحتاج"(4/ 450)، "الإنصاف"(12/ 3).

ص: 459

‌ما جاء في الثناء على من أتى بالشهادة قبل أن يُسألها

1409/ 1 - عَنْ زَيدِ بْنِ خالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَال: "ألَا أخْبِرُكُمْ بِخَيرِ الشُّهَدَاءِ؟ الّذِي يَأتِي بِشَهادَتِهِ قَبْلَ أنْ يُسْألهَا"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* الكلام عليه من وجوه:

° الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الأقضية"، باب (بيان خير الشهود)(1719) من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

° الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ألا أخبركم) بتخفيف اللام، أداة استفتاح وتنبيه تفيد التوكيد، لينتبه السامع لما بعدها

(1)

.

قوله: (بخير الشهداء) جمع شهيد بمعنى شاهد؛ لأن فعيلًا بمعنى فاعل إذا كان وصفًا غير مضعف ولا معتل اللام، يجمع على فعلاء، مثل كريم وكرماء، قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقال تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، ويجمع شاهد على شهود كحاضر وحضور.

(1)

انظر: "الجنى الداني" ص (381)، "دليل الفالحين"(2/ 53).

ص: 460

والمراد بخير الشهداء: أكملهم في رتبة الشهادة، وأكثرهم ثوابًا عند الله تعالى.

قوله: (الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها) بضم الياء على صيغة الفعل الذي لم يسم فاعله؛ أي: قبل أن تطلب منه الشهادة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل من يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه، وهذا محمول عند أهل العلم على ما إذا كان صاحب الحق لا يعلم بهذه الشهادة، أو أنه نسيها فإنه يشرع للشاهد أن يشهد ولو لم يطلب منه صاحبُ الحقِّ الشهادةَ، حفظًا لحق أخيه المسلم أن يضيع، فهو لا يفعل ذلك تساهلًا في الشهادة أو استخفافًا بها أو طمعًا في مال أو نحوه، ولكن ليؤدي الواجب ويحفظ حق أخيه.

وهذا تفسير الإمام مالك، ويحيى بن سعيد شيخ مالك وغيرهما، قال ابن عبد البر:(هذا أولى ما قيل في تفسير الحديث، ولا يسع الذي عنده شهادة لغيره أن يكتمها ولا أن يسكت عنها، إلا أن يعلم أن حق الطالب يثبت أو قد يثبت بغيره، فإن كان كذلك فهو في سعة، وأداؤها مع ذلك أفضل، وسواء شهد أحد قبله أو معه أو لم يشهد، إذا كان الحق مالًا؛ لأن اليمين فيه مع الشاهد الواحد)

(1)

.

وهذا التوجيه للحديث مبني على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى تطلب منه الشهادة، وعلل الفقهاء لذلك بنفي التهمة؛ لأن الذي يبادر بالشهادة قبل أن تطلب منه قد يتهم بمنفعة المشهود له أو مضرة المشهود عليه، وأما على القول بجواز الشهادة وإن لم يستشهد فالأمر واضح، ولهذا الكلام تتمة عند الحديث الآتي. والله تعالى أعلم.

(1)

"التمهيد"(17/ 295 - 296).

ص: 461

‌ما جاء في ذم من يشهد ولا يستشهد

1410/ 2 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَيرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب (لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهد)(2651)، ومسلم (2535) من طريق شعبة، حدثنا أبو حمزة قال: سمعت زَهْدَمَ بن مُضَرِّبٍ قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة- ثم يكون بعدهم قوم

" الحديث. وهذا لفظ مسلم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن خيركم قرني) على حذف مضاف؛ أي: أهل قرني، ودل على ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "خير الناس قرني

"

(1)

، والمراد بهم: المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرن من العلماء من يحدده بالوصف فيقول: القرن هم الطائفة من الناس اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة كالصحبة -مثلًا-. أو يقال: هو العصر المرتبط وصفه بأكثر أهله، ومنهم من حده

(1)

رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533)(212).

ص: 462

بالزمن على أقوال أشهرها: أن القرن مائة سنة، وهو الذي رجحه صاحب "القاموس"

(1)

، واستقر عليه الأمر.

وقد ذكر الحافظ أن آخر قرن الصحابة سنة مائة وعشرة إلى مائة وعشرين من البعثة، وآخر قرن التابعين سنة مائة وثمانين من الهجرة، وآخر قرن تابع التابعين سنة مائتين وعشرين، وهذا يدل على أن القرن لا يحدد بمائة؛ لأن قرن التابعين حوالي سبعين أو ثمانين، وتابع التابعين حوالي خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمن

(2)

.

وإنما كان خير الناس قرن النبي صلى الله عليه وسلم لفضلهم في العلم والإيمان والأعمال الصالحة، لغلبة الخير فيه وكثرة أهله، وقلة الشر وأهله، واعتزاز الإسلام وكثرة العلم والعلماء، واشتداد الإنكار على من ابتدع كالخوارج والقدرية ونحوهم.

قوله: (ثم الذين يلونهم) هم أهل القرن الثاني، وهم التابعون، لظهور الإسلام فيهم وقربهم من نور النبوة، وما ظهر فيه من البدع استعظم وأنكر وأزيل، أو خَفَّ أثره.

قوله: (ثم الذين يلونهم) هم أهل القرن الثالث، وهم تابعو التابعين، وهذا القرن دون الأوليين لكثرة ظهور الباع، لكن العلماء فيه متوافرون، وقد تصدى كثير منهم لإنكارها، والإسلام إذ ذاك ظاهر، والجهاد قائم.

قوله: (ثم يكون قوم) فاعل (يكون) لأنها تامة؛ أي: يجيء قوم، والتعبير بـ (قوم) يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذه الأوصاف؛ لأنه لم يقل: ثم يكون الناس.

قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) أي: يشهدون قبل أن تطلب منهم الشهادة، لتسرعهم في أدائها وعدم اهتمامهم بها، وهذا بظاهره يعارض حديث زيد بن خالد المتقدم؛ لأن هذا في سياق الذم، وذاك في سياق المدح.

(1)

"ترتيب القاموس"(3/ 606).

(2)

انظر: "فتح الباري"(7/ 6).

ص: 463

وقيل معناه: يشهدون وهم ليسوا أهلًا لتحمل الشهادة؛ لفسقهم أو لاستخفافهم بأمرها، ويؤيد هذا (ويخونون ولا يؤتمنون) كما يؤيده رواية ابن ماجه:"ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل وما يُستشهد، ويحلف وما يُستحلف"

(1)

، وعلى هذا فيكون الحديث وصفًا لهم بشهادة الزور.

قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) الخيانة: مصدر خان بمعنى نقض العهد، وبمعنى الخيانة في الأمانة؛ والمعنى: يخونون من ائتمنهم على مال أو عرض أو غيرهما ولا يؤتمنون لخيانتهم الظاهرة، ولم يقل: يؤتمنون ويخونون؛ لبيان أن الخيانة وصف ثابت لهم، فهم لخيانتهم لا يؤتمنون.

قوله: (وينذرون ولا يوفون) بكسر الذال من باب ضرب، وفي لغة بضمها من باب قتل؛ أي: يلزمون أنفسهم ما ليس بواجب عليهم ولا يوفون به.

قوله: (ويظهر فيهم السِّمَنُ) بكسر السين وفتح الميم هو كثرة الشحم واللحم، وذلك لإفراطهم وتوسعم في المآكل والمشارب ورغبتهم في الدنيا ونيل شهواتها وغفلتهم عن الدار الآخرة.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل القرون الثلاثة الأُول من هذه الأمة، وأن الصحابة رضي الله عنه أفضل ممن جاء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين، لظهور الإسلام والعلم والإيمان والعمل الصالح، وقربهم من نور النبوة وسبقهم إلى الجهاد ومحاربة البدع والمبتدعة.

وقد جاء هذا المعنى في عدة أحاديث، ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الصحيحين"

(2)

، وحديث عائشة رضي الله عنهما

(3)

، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه

(4)

، وحديث النعمان بن بشير في "المسند" وغيره

(5)

.

(1)

"سنن ابن ماجه"(2363).

(2)

"صحيح البخاري"(3651)، "صحيح مسلم"(2533).

(3)

"صحيح مسلم"(2536).

(4)

"صحيح مسلم"(2532).

(5)

"المسند"(30/ 292).

ص: 464

وهذه الأفضلية من حيث الجملة لا من حيث الأفراد، فقد يوجد في تابع التابعين من هو أفضل من التابعين، وقد يوجد في التابعين من هو أفضل من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة فلا يناله أحد غير الصحابة؛ لأنه وصف خاص بهم لا يتعداهم إلى غيرهم، وكذا الأوصاف التي لا توجد في غيرهم، أو لها أثر فيمن بعدهم، كالذَبِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه ونصرته، وضبط الشرع المتلقى عنه، وتبليغه من بعدهم، والإنفاق في سبيل الله، كما قال تعالى:{لَا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، قال الشوكاني:(مزية الصحابة فاضلة مطلقًا باعتبار مجموع القرن، فإذا اعتبرت كل قرن قرن فالصحابة خير القرون، ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل القرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن آخر)

(1)

.

ومسألة المفاضلة من المسائل التي لا يترتب عليها كبير فائدة، فلا ينبغي إعطاؤها أكثر مما تستحق، وهي من الأمور الظاهرة، والغيب علمه عند الله تعالى.

وقد شك الراوي في أفضلية القرن الرابع فقال: (لا أدري أقال بعد قرنه مرتين أو ثلاثة) فيكون المعول على اليقين وهو أن القرون المفضلة ثلاثة، وقد ورد في حديث النعمان عند أحمد إثبات القرن الرابع

(2)

، لكنه من طريق عاصم بن بهدلة، وفي حفظه شيء، فلا يُحتج بما تفرد به عن الثقات

(3)

.

ولا شك أن القرن الرابع فيه خيرية؛ لقربه من القرون المفضلة، لكن لم يثبت التنصيص على ذلك.

• الوجه الرابع: في الحديث دليل على ذم من يأتي لأداء الشهادة قبل أن تطلب منه؛ لأن هذا يدل على تسرعه في الشهادة وعدم الاهتمام بها،

(1)

"نيل الأوطار"(15/ 553).

(2)

"المسند"(30/ 292).

(3)

انظر: "الصحيحة"(700).

ص: 465

ويشكل على هذا حديث زيد بن خالد رضي الله عنه المتقدم الدال على فضل من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.

وقد اختلف العلماء في طريق الخروج من هذا التعارض الظاهر بين الحديثين، فمنهم من قال بالجمع بينهما، ومنهم من قال بالترجيح. فمن قال بالترجيح رجح حديث عمران رضي الله عنه لاتفاق البخاري ومسلم عليه، وانفراد مسلم بحديث زيد بن خالد رضي الله عنه، وذهب ابن عبد البر إلى ترجيح حديث زيد بن خالد على حديث عمران؛ لكونه من رواية ثقات أهل المدينة، وحديث عمران من رواية أهل العراق، أو أن المراد بالشهادة فيه: اليمين، أي: يحلف أحدهما قبل أن يستحلف، ويحلف حيث لا تراد منه اليمين

(1)

.

ومن قال بالجمع حمل حديث زيد بن خالد على من عنده شهادة لا يعلم بها صاحب الحق، فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها فيأتي إلى ورثته فيعلمهم بذلك، وحديث عمران على من يؤدي الشهادة قبل أن يدعى لأدائها، أو أنهم يشهدون وليسوا أهلًا لتحمل الشهادة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث:"ثم يفشو فيهم الكذب، حتى يشهد الرجل وما يستشهد"، ولهذا قرن ذلك بالخيانة، وبترك الوفاء بالنذر

)

(2)

.

وقيل: إن حديث زيد بن خالد في حقوق الله تعالى التي لا طالب لها، أو ما فيه شائبة منها كالعتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق ونحو ذلك، فيؤدي الشهادة من غير أن تطلب منه، وحديث عمران في حقوق الآدميين.

وقيل: إن حديث زيد من باب الكنايات، فهو كناية عن السرعة والمبادرة بأداء الشهادة وعدم التأخر، فكأنه لشدة مبادرته يؤديها قبل أن يُسألها.

(1)

"التمهيد"(17/ 300)، "الاستذكار"(22/ 27).

(2)

"الفتاوى"(20/ 296).

ص: 466

وكل هذا مبني على القول بأنه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة وأن من يفعل ذلك فهو مذموم، وحكى الطحاوي عن جماعة من أهل العلم جواز أداء الشهادة ولو لم يُسألها

(1)

، وقالوا: هو محمود مأجور، واستدلوا بحديث زيد بن خالد، وحملوا حديث عمران على أنه في شهادة الزور، كما حكاه الترمذي عن جماعة من أهل العلم

(2)

.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على ذم التهاون بالنذور وعدم الوفاء بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين من يخون أمانته ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة، فيكون ترك الوفاء بالنذر مذمومًا.

• الوجه السادس: ذم الخيانة في الأمانة والعهود والحث على أدائها، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الخيانة في الأمانة من علامات النفاق، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب "الجامع" -إن شاء الله تعالى-.

• الوجه السابع: في الحديث دليل على ذم التنعم في الدنيا والاعتناء بأسباب السمن من الإقبال على الشهوات والعناية بالمطاعم والمشارب، قال الحافظ:(وإنما كان السمن مذمومًا؛ لأن السمين غالبًا يكون بليد الفهم ثقيلًا عن العبادة، كما هو مشهور)

(3)

.

وليس المراد ذم مطلق السمن، فإنه لا يخلو منه زمان ولا عيب فيه؛ لأنه قد يكون بغير اختيار الإنسان، وإنما الذم على شيء يكون هو السبب فيه، قال ابن الملقن:(لا شك في ذم السمن للرجال لمن استعمله وأحبه، دون من طُبع عليه)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح معاني الآثار"(4/ 150).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 476).

(3)

"فتح الباري"(5/ 260).

(4)

"التوضيح"(16/ 521).

ص: 467

‌من لا تقبل شهادتهم

1411/ 3 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمرو رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَهْلِ الْبَيتِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

1412/ 4 - وَعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَويٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَة"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقد رواه أحمد (11/ 501)، وأبو داود في كتاب "الأقضية"، باب (من ترد شهادته)(3600) من طريق محمد بن راشد، ثنا سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن

" الحديث، وتمامه:(وتجوز شهادته لغيرهم)، القانع: الذي ينفق عليه أهل البيت. وهذا لفظ أحمد.

ولفظ أبي داود وأحمد -أيضًا- (11/ 671): (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة، وذي الغِمْرِ على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها لغيرهم) وعند أحمد: (على غيرهم).

والفرق بين هذه الرواية وما قبلها أن الأولى قول، وهذه الرواية فعل.

والحديث في سنده محمد بن راشد وثقه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم:(كان صدوقًا حسن الحديث)، وسليمان بن موسى هو الأشدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، كما قال الحافظ، وهو يروي أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره، ولعل منها هذا الحديث.

ص: 468

والحديث سكت عنه الحافظ هنا، وقال في "التلخيص":(سنده قوي)

(1)

، وقال البيهقي:(لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه)

(2)

، وكلام البيهقي هذا لا يعني إهمال ما جاء في هذا الحديث؛ لأنها معانٍ جاء الشرع باعتبارها، كما في قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو داود في "الأقضية"، باب (شهادة البدوي على أهل الأمصار)(3602)، وابن ماجه (2367)، والحاكم (4/ 99) من طريق ابن الهاد، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

وذكر الحديث.

وهذا سند رجاله ثقات، قال المنذري:(رجال إسناده احتج بهم مسلم في "صحيحه")

(3)

، وقال ابن عبد الهادي:(إسناده جيد)

(4)

، وقد سكت الحاكم عن هذا الحديث، وقال الذهبي:(لم يصححه المؤلف، وهو حديث منكر مع نظافة سنده)، وقال البيهقي: (هذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، فإن كان حَفِظَهُ فقد قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة

إلخ كلامه)

(5)

، وسأذكره إن شاء الله.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (لا تجوز شهادة خائن) أي: لا تقبل، والمراد بالخائن: من يخون فيما ائتمن عليه، سواء ما ائتمنه الله عليه من أحكام الدين، أو ما ائتمنه الناس من الأموال والودائع والأمانات، فإن من ضيع شيئًا من أوامر الله أو ارتكب شيئًا مما نهاه الله عنه لم يكن عدلًا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].

(1)

(4/ 218).

(2)

"السنن الكبرى"(10/ 155).

(3)

"مختصر السنن"(5/ 219).

(4)

"تنقيح التحقيق"(5/ 83).

(5)

"معرفة السنن والآثار"(14/ 344).

ص: 469

قوله: (ولا ذي غِمْرٍ) بكسر الغين المعجمة وسكون الميم هو الحقد وزنًا ومعنى، قال أبو داود عقب الحديث:(الغِمْرُ: الحِنَةُ والشحناء)، وهي بالحاء المهملة المكسورة بعدها نون مخففة مفتوحة.

قال الخطابي: (ذو الغِمْرِ: هو الذي بينه وبين الشهود عداوة ظاهرة)

(1)

.

قوله: (على أخيه) أي: المسلم، فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، سواء أكان أخاه من النسب أو أجنبيًّا، قالوا: وهذا خرج مخرج الغالب، فلا يشهد مسلم على كافر إذا كانت عداوة غير الدين.

قوله: (ولا تجوز شهادة القانع) هو السائل والمستطعم، وأصل القنوع السؤال، وقيل: هو الخادم الذي ينفق عليه أهل البيت، وقد جاء هذا التفسير في رواية أحمد، كما تقدم، وجاء في بعض نسخ "سنن أبي داود":(والقانع: الأجير التابع، مثل الأجير الخاص).

قوله: (بدوي) هو الأعرابي من سكان البادية، وهو مفرد بدو، كروم ورومي وترك وتركي، ونحوهما مما يفرق بين مفرده وجمعه بالياء

(2)

.

قوله: (صاحب قرية) هو الحضري الذي يسكن القرى والمدن، والقرية لفظ يطلق على كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا، وتقع على المدن وغيرها

(3)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الخائن لا تقبل شهادته؛ لأن خيانته دليل على أنه لا تقوى عنده تمنعه من ارتكاب المحظورات، ومنها الكذب، فلا يحصل الاطمئنان إلى خبره، فلا تصح شهادته.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على عدم قبول شهادة من يضمر العداوة والشحناء للمشهود عليه بحيث يفرح لحزنه ويحزن لفرحه، فإذا شهد عليه لم تقبل شهادته، لئلا يتخذ قبول الشهادة ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة؛ لأن مثل هذا لا يؤمن أن يتقول على المشهود عليه بغير حق، لكن إن

(1)

"معالم السنن"(5/ 218).

(2)

انظر: "ترتيب القاموس"(1/ 233).

(3)

"المصباح المنير" ص (501).

ص: 470

شهد له قبلت شهادته لعدم المحذور، وهو خشية الإضرار بالمشهود له، وقد دل على هذا قوله:(على أخيه) فإن مفهوم أنه إن شهد لأخيه قبلت.

وهذا إذا كانت العداوة من أجل أمر دنيوي، أما إذا كانت من أجل أمر من أمور الدين فإن شهادته تقبل عليه؛ لأن العدالة المشروطة لصحة الشهادة هي العدالة في الدين، وعدالة الشاهد تمنعه من ارتكاب محظور في دينه

(1)

.

ثم إن العداوة في الدين ليست حقدًا فلا تدخل في لفظ الحديث.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن الشاهد إذا كان فيه وصف يخشى معه أن يميل فيشهد بخلاف الحق فإن شهادته لا تقبل كالخادم لأهل البيت؛ لأنه مظنة تهمة دفع الضرر عنهم وجلب الخير لهم.

• الوجه السادس: استدل الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب بهذا الحديث على أن شهادة الوالد لولده وإن نزل، وشهادة الولد لوالده وإن علا أنها لا تقبل

(2)

، وعللوا ذلك بالتهمة، لقوة القرابة بينهم التي تدعو الشاهد إلى أن يشهد بما يخالف الواقع.

والقول الثاني: تقبل شهادة الوالد لولده والعكس، وهذا قول الظاهرية

(3)

، ورواية عن الإمام أحمد

(4)

؛ لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار.

وقد ذكر ابن القيم أن الشهادة لا تُردُّ بسبب القرابة، لعدم الدليل، وإنما ترد بوجود التهمة، لثبوت النص، كما في حديث الباب، فالتهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًّا، وقال:(هذا هو الصواب، وهو القول الذي ندين الله به)

(5)

. واختار هذا الشوكاني، فقال: (فمن كان معروفًا

(1)

"المغني"(14/ 175).

(2)

"الكافي" لابن عبد البر (2/ 893)، "المهذب"(2/ 421)، "بدائع الصنائع"(6/ 272)، "الشرح الكبير مع الإنصاف"(29/ 413).

(3)

"المحلى"(9/ 415).

(4)

"الكافي"(4/ 528).

(5)

"إعلام الموقعين"(1/ 111).

ص: 471

من القرابة ونحوهم بمتانة الدين البالغة إلى حد لا يؤثر معها محبة القرابة، فقد زالت حينئذٍ مظنة التهمة، ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم القبول لشهادته؛ لأنه مظنة التهمة)

(1)

. واختاره -أيضًا- الشيخ عبد الرحمن السعدي

(2)

.

• الوجه السابع: الحديث دليل على وجوب التحري في باب الشهادات ومعرفة من تقبل شهادته ومن ترد؛ لأن الله تعالى أمر بإشهاد العدل، فقال تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق: 2] وقال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قال ابن رشد: (اتفق المسلمون على اشتراط العدالة في قبول شهادة الشاهد)

(3)

.

والعدالة: استقامة الدين؛ لأن من لا صلاح له في الدين لا يؤمن أن يشهد على غيره بالزور.

واستقامة الدين: هي أداء الفرائض واجتناب المحارم، وذلك بألا يرتكب كبيرة ولا يلازم صغيرة، فالصلاح في الدين هو الشرط الأول للعدالة.

والشرط الثاني: المروءة

(4)

، ومعناها: أن يفعل ما يحمده الناس عليه من الآداب والأخلاق من السخاء وبذل الجاه، وحسن المعاملة، وحسن الجوار ونحو ذلك، ويترك ما يذمه الناس عليه، كالغناء، أو الأكل في السوق، أو المشي مكشوف الرأس، أو النوم بين الجالسين، ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء، وفي بعضها يُرجع إلى العرف.

والقول الثاني: أن العدالة مأخوذة من قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فكل مَرْضِيِّ عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته فهو مقبول، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:(هذا أحسن الحدود، ولا يسع الناس العمل بغيره)

(6)

.

• الوجه الثامن: استدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه من قال: لا تجوز

(1)

"نيل الأوطار"(15/ 500).

(2)

"المختارات الجلية" ص (127).

(3)

"بداية المجتهد"(2/ 598).

(4)

"فتح الباري"(5/ 251 - 252).

(5)

"الاختيارات" ص (365).

(6)

"بهجة قلوب الأبرار" ص (125).

ص: 472

شهادة بدوي على صاحب القرية وهو الحضري، وهو قول مالك في عقود المعاوضات، كالبيع والشراء، وقال الإمام أحمد: أخشى ألا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية، قال الموفق:(فيحتمل هذا ألا تقبل شهادته، وهو قول جماعة من أصحابنا)

(1)

. وقال ابن مفلح: (وهو المنصوص)

(2)

.

قالوا: ولأن البدوي يغلب عليه الجفاء في الدين، وقلة معرفة الأحكام الشرعية، وعدم ضبطه ومعرفته لما يلقى عليه ويسمعه. قالوا: ولأن شهادة البدوي لا تخلو من تهمة، قال مالك:(الذي يُشهد بدويًّا ويدع جيرته من أهل الحضر هو عندي مريب)

(3)

.

والقول الثاني: أن شهادة البدوي على القروي صحيحة ومقبولة مطلقًا، سواء أكانت في العقود المالية أو غيرها، إذا كان عدلًا يقيم الشهادة.

وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة في المشهور

(4)

، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنه أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال

الحديث

(5)

. فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي في إثبات دخول رمضان، وهو نص في الصوم، فيقاس عليه غيره من الأحكام.

كما استدلوا بالعمومات الواردة في قبول شهادة كل من يصلح للشهادة بدون تفريق بين بدوي أو حضري، فيكون البدوي داخلًا تحت العمومات في هذا الباب.

وهذا القول هو الراجح، وحديث الباب محمول على من لم تعرف عدالته من أهل البادية؛ لأن الغالب أن البدوي لا يستقر بمكان، فيصعب إحضاره لأداء الشهادة، كما يصعب استحضار من يسأله الحاكم عن عدالته

(6)

.

(1)

"المغني"(14/ 149).

(2)

"الفروع"(6/ 585).

(3)

"معالم السنن"(5/ 219).

(4)

"البحر الرائق"(7/ 92)، "تكملة الفروع"(20/ 90)، "المغني"(14/ 149).

(5)

تقدم في "الصيام" برقم (655).

(6)

"المغني"(14/ 150).

ص: 473

قال الخطابي: (يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة؛ ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن وجهتها)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"معالم السنن"(5/ 219).

ص: 474

‌ما جاء في قبول شهادة من ظهرت استقامته

1413/ 5 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ فَقَال: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤخَذُونَ بِالْوَحْي في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأَخُذُكُم الآنَ بِمَا ظَهَرَ لنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب (الشهداء العدول)(2641) من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:

وذكر الحديث. وتمامه: (فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة).

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إن أناسًا) وقع في بعض النسخ: (إن ناسًا) بحذف همزته تخفيفًا، وعليه مشى ابن علان في شرحه لـ"رياض الصالحين"

(1)

، وإثبات الهمزة هو الموافق لما في "الصحيح".

قوله: (كانوا يؤخذون بالوحي) أي: يعرف الصادق فيهم من الكاذب بإعلام الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم بواسطة الوحي في زمنه صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم) وقع في بعض نسخ

(1)

انظر: "دليل الفالحين"(2/ 284).

ص: 475

"البلوغ": (نؤاخذكم) والمثبت هو الموافق لما في "الصحيح"؛ والمعنى: أننا نعمل بالظاهر، وأما الباطن فهو لله تعالى المطلع على النيات، فمن أظهر لنا خيرًا وإيمانًا وعدالة (أمِنَّاه) أي: صيرناه عندنا أمينًا وقربناه، ومن أظهر لنا سوءًا أو شرًّا، عاملناه بما أظهر، فأبغضناه وحاسبناه، ولو قال: إن نيته حسنة؛ لأننا لا نحكم إلا بالظاهر، والله يتولى السرائر.

• الوجه الثالث: استدل العلماء بكلام عمر رضي الله عنه على أن الواجب أخذ الناس بما ظهر من أعمالهم وتصرفاتهم، وأما البواطن والنيات فهي إلى الله تعالى.

فمن أظهر الخير والاستقامة قبلت شهادته وأُمِنَ على ما هو عليه من أمور المسلمين كولاية وقف أو يتيم ونحو ذلك، ومن أظهر غير ذلك من المعاصي والخيانات ونحو ذلك مما يدل على ضعف إيمانه وقلة أمانته، فإنه لا يؤمن ولا يوثق بشهادته.

وهذا يدل على قبول شهادة من ظهر منه الخير والاستقامة نظرًا إلى ظاهر حاله، وأنه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدَّل من الصلاح من غير كشف عن حقيقة سريرته؛ لأن هذا متعذر إلا بالوحي، وقد انقطع

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تفسير القرطبي"(16/ 312).

ص: 476

‌ما جاء في شهادة الزور من التغليظ والوعيد

1414/ 6 - عَنْ أَبي بَكرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَدَّ شَهَادَةَ الزُّورِ في أَكبَرِ الْكَبَائِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، في حَدِيثٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب (ما قيل في شهادة الزور)(2654)، ومسلم (87) من طريق سعيد الجُريري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثًا) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، ألا وقول الزور"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وهذا لفظ مسلم.

وقد جاء في بعض نسخ "البلوغ": (متفق عليه في حديث طويل)، وليس في المخطوطة -التي سبق وصفها- لفظة:(طويل)، وهو الأقرب؛ لأن الحديث بهذا السياق لا يوصف بأنه طويل.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (بأكبر الكبائر) أي: أعظم الكبائر، وهذا يدل على أن الكبائر أنواع، وقد تقدم تعريف الكبيرة: في "الأيمان والنذور".

قوله: (شهادة الزور) هي تعمد الكذب في الشهادة، والزور بالضم: الكذب، والشرك بالله تعالى والباطل، والزَّوَرُ بالتحريك: الميل، وزَوَّرَ: زَيَّنَ الكذب، وزَوَّرَهُ: حسنه.

ص: 477

فأصل المادة من الازورار وهو الميل، ومنه قوله تعالى:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف: 17]، فالزور قول يستعمل في كل ميل عن الحق، ومن ذلك الكذب والباطل، وشهادة الزور، وعلى هذا فقول الزور أعم من شهادة الزور، لكن في هذا الحديث يحمل قول الزور على شهادة الزور؛ لأن قول الزور لو حمل على غير شهادة الزور لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقًا كبيرة، ولا ريب أن مراتب الكذب متفاوتة حسب ما يترتب عليه من أضرار ومفاسد، كما سيأتي بيان ذلك في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم شهادة الزور وأنها من كبائر الذنوب بل هي من أكبر الكبائر، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك، وقد جاءت النصوص بتحريم شهادة الزور والنهي عنها والتغليظ على متعاطيها، قال تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، وقال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أي: لا يحضرون الزور، وقيل: لا يشهدون، من الشهادة، ورجح الأول ابن كثير، وابن تيمية، وقال ابن سعدي:(لا يحضرون، ومن باب أولى لا يشهدون)

(1)

.

ثم إن الأصل في الشهادة أن تكون سندًا لجانب الحق ومعينة للقضاة على إقامة العدل وإعطاء صاحب الحق حقه، فإذا تخلَّت عن وظيفتها، فكانت سندًا للباطل ومضللة للقضاة، فإنها تحمل حينئذٍ جريمتين كبيرتين:

الأولى: عدم تأديتها وظيفتها الأساسية وهي مساندتها الحق، فتكون من هذه الناحية أسوأ حالًا من كتمان الشهادة.

الثانية: قيامها بجريمة إيجابية تُهضم فيها الحقوق ويُظلم البُرآء.

(1)

"تفسير ابن كثير"(6/ 140)، "تفسير ابن سعدي" ص (587).

ص: 478

• الوجه الرابع: في الحديث بيان لخطر شهادة الزور وما فيها من المفاسد العظيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بها، ومن مفاسدها:

1 -

أكل أموال الناس بالباطل.

2 -

ضياع الحقوق وطمس معالم العدل، فيحرم صاحب الحق من حقه.

3 -

إعانة الظالم على ظلمه وإعطاء المال لغير مستحقه.

4 -

تضليل القضاة فيحكمون بما هو خلَاف الحق بناءً على هذه الشهادة الباطلة.

• - تقويض أركان الأمن، فتكثر الجرائم اتكالًا على وجود هؤلاء المفسدين.

• الوجه الخامس: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور فكررها، وأتى بحرف التنبيه، واعتدل في جلسته؛ لأن الناس يتساهلون بها لكونها أسهل على اللسان؛ ولأن الحوامل عليها كثيرة من الرشوة ومحبة المشهود له أو قرابته أو عداوة المشهود عليه؛ ولأن ضررها يتعدى إلى الفرد والمجتمع، وقد يسفك بها دم أو يؤخذ بها مال.

وهذا بخلاف الإشراك بالله فإنه ينبو عنه قلب المسلم؛ ولأنه لا تتعدى مفسدته غالبًا إلى غير المشرك، والعقوق يصرف عنه كرم الطبع وحسن الخلق والمروءة، وضرره على العاق نفسه. والله تعالى أعلم.

ص: 479

‌ما جاء في اشتراط العلم بالمشهود به

1415/ 7 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لِرَجُلٍ: "تَرَى الشَّمْسَ؟ "، قَال: نَعَمْ، قَال:"عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ". أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ.

* الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه ابن عدي في "الكامل"(6/ 207)، والحاكم (4/ 98)، والبيهقي (10/ 156) من طريق عمرو بن مالك البصري، عن محمد بن سليمان بن مسمول

(1)

، حدثنا عبيد الله بن مسلمة بن وهرام، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ذُكِرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بالشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أنت يا ابن عباس فلا تشهد إلا على أمر يضيء لك كضياء هذه الشمس" وأومأ بيده إلى الشمس.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) فتعقبه الذهبي بقوله: (واهٍ، فعمرو قال ابن عدي: كان يسرق الحديث

(2)

، وابن مسمول ضعفه غير واحد).

والحديث مداره على محمد بن مسمول، وقد ضعفه أبو حاتم والنسائي،

(1)

ابن مسمول بالسين المهملة، وفي بعض المصادر بالشين المعجمة. وقد ذكره الزبيدي في "تاج العروس"(29/ 228) في مادة "سمل".

(2)

سرقة الحديث: أن يكون محدث ينفرد بحديث، فيجيء السارق ويدعي أنه سمعه من شيخ ذلك المحدث، أو يكون الحديث عرف براوٍ فيضيفه لراوٍ غيره ممن شاركه في طبقته. "فتح المغيث"(2/ 290).

ص: 480

ونقل ابن عدي عن البخاري أنه قال: (سمعت الحميدي يتكلم في محمد بن سليمان بن مسمول)، وقال أبو حاتم:(ليس بالقوي، ضعيف الحديث، كان الحميدي يتكلم فيه)

(1)

. ولما ذكر ابن عدي بعض مرويات ابن مسمول قال: (ولمحمد بن سليمان بن مسمول غير ما ذكرت، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده ولا متنه).

وأما عمرو بن مالك فقد قال عنه ابن عدي: (منكر الحديث عن الثقات، يسرق الحديث)

(2)

.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه يقينًا كما تُعلم الشمس بالمشاهدة، والحديث وإن كان ضعيفًا فإن معناه صحيح؛ لأنه يدل على أن الشاهد لا بد أن يشهد عن علم، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، وهذا معنًى دلت عليه العمومات، وذلك لأن الشهادة إخبار عن أمر واقع، فلا بد أن يكون المخبر قد علم هذا الأمر يقينًا.

وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله تعالى: {إلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فقد ذكر القرطبي أن هذه الآية تدل على أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالمًا بها، ثم ذكر حديث الباب

(3)

.

وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36] فإن معنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم، أو يعمل بما لا علم له

(4)

، وعلى هذا فلا تجوز الشهادة بلا علم؛ لأن الشهادة بلا علم غير مقبولة، ومن هذا الشَّكُّ في الشهادة وعدم التحقق منها.

وعلم الشاهد بالمشهود به يحصل بأحد أمرين:

(1)

"الجرح والتعديل"(7/ 267).

(2)

"الكامل"(5/ 150).

(3)

"تفسير القرطبي"(16/ 123).

(4)

"نيل المرام" ص (442).

ص: 481

الأول: رؤية المشهود به، وهذا يكون في الأفعال، كالقتل والغصب والسرقة والإتلاف والعيوب في المبيع ونحو ذلك من الأشياء المرئية.

الثاني: السماع، وهو ضربان:

الأول: سماع من المشهود عليه، كأن يسمعه يُقِرُّ أن لفلان عليه دَينًا، أو استأجر منه داره، أو اشترى منه سيارة، وما أشبه ذلك.

الضرب الثاني: السماع من جهة الاستفاضة، وتسمى شهادة السماع أو شهادة الاستفاضة وهي لقب لما صرح الشاهد فيه بإسناد شهادته لسماعٍ من غير معين، والمراد به: انتشار الخبر وشيوعه بأن يشتهر المشهود به بين الناس، فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضًا، فيشهد الشاهد على واقعة لم يشهدها ببصره ولم يدركها بسمعه.

ولا تقبل شهادة الاستفاضة إلا فيما يتعذر علمه في الغالب بدونها، كالنسب والولادة والنكاح والموت والرضاع والمُلْكِ المطلق، ونحو ذلك؛ لأنه لو منع من الشهادة بالاستفاضة فيما ذكر لوقع الناس في حرج عظيم، وتعطلت الأحكام؛ لأن مثل هذه الأمور تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها ومشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة، كالنسب. وقد عقد البخاري بابًا لشهادة الاستفاضة فقال:(باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم) وذكر أربعة أحاديث في الرضاع

(1)

.

ولا تقبل شهادة الاستفاضة في الحد؛ لأنه يطلب في الزنا -مثلًا- وصف الجريمة وصفًا دقيقًا، يدل على معاينة، وهذا لا يمكن في حال الاستفاضة، وهكذا القصاص، وبقية الحدود؛ ولأن العقوبات مما يحتاط لدرئها وإسقاطها -كما تقدم- والشهادة بالاستفاضة مبنية على غلبة الظن.

وأكثر طرق العلم: الرؤية والسماع، وقد يدرك العلم بغيرها من الحواس

(1)

"فتح الباري"(5/ 253).

ص: 482

الأخرى، كالشم والذوق واللمس، فتجوز الشهادة به كالسمع والبصر، كما نص عليه أهل العلم

(1)

.

وللفقهاء شروط لقبول شهادة الاستفاضة، وأهمها أن يكون الشاهد قد سمعها من جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب؛ لأن هذا هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة

(2)

، فإنه مأخوذ من فيض الماء لكثرته، وأقل عدد يقع العلم بخبرهم أربعة، وقيل: عدلان، وقيل: يكفي عدل واحد إذا سكن القلب إليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وجده المجد

(3)

، والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "دقائق أولي النهى"(6/ 640).

(2)

"فتح الباري"(5/ 254)، "مدى صلاحية الشهادة في إثبات الأحكام" ص (507).

(3)

"المحرر"(2/ 245)، "الإنصاف"(12/ 13).

ص: 483

‌جواز القضاء بشاهد ويمين

1416/ 8 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَقَال: إِسنَادةُ جَيِّدٌ.

1417/ 9 - وَعَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مِثْلُهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

• الكلام عليهما من وجوده:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه مسلم في كتاب "الأقضية"، باب (القضاء باليمين والشاهد)(1712)، وأبو داود (3608)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 435) من طريق سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهذا الحديث مما اختلف في صحته، فصحَّحه قوم، وأعلَّه آخرون، فممَّن صحح الحديث الإمام مسلم حيث أورده في "صحيحه"، والنسائي، فقد قال عقبه: (هذا إسناد جيد، وسيف ثقة، وقيس ثقة

)، وقال الشافعي:(حديث ابن عباس ثابت عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يَرُدُّ أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيها غيره مع أن معه غيره مما يشده)

(1)

.

ونقل الحافظ عن البزار أنه قال: (في الباب أحاديث حسان أصحها حديث ابن عباس)

(2)

.

(1)

"الأم"(7/ 16).

(2)

"التلخيص"(6/ 3237).

ص: 484

وقد أعله البخاري بالانقطاع، فقد قال الترمذي:(سألت محمدًا -يعني البخاري- فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي من ابن عباس هذا الحديث)

(1)

.

كما أعله -أيضًا- الطحاوي فقال: (حديث ابن عباس منكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء، فكيف يحتجون بمثل هذا؟)

(2)

.

أما العلة الأولى فلا ريب أنها من أعلم خلق الله تعالى بالحديث، وسماع عمرو بن دينار من ابن عباس ثابت، أثبته البخاري نفسه، وسفيان بن عيينة وأبو حاتم

(3)

؛ لأنه لقي ابن عباس وأكثر من الرواية عنه، والبخاري لا يريد نفي السماع مطلقًا كما هو صريح عبارته، وإنما يعل هذا الحديث بذاته، أو أنه -كما يقول بعض العلماء- يشير بذلك إلى بعض الروايات التي فيها طاوس أو جابر بن زيد بين ابن دينار وابن عباس، فقد روى الدارقطني هذا الحديث من طريق عبد الله بن محمد بن ربيعة، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس به

(4)

.

ولعل هذا جاء من قِبَلِ بعض الضعفاء، فإن الذين زادوا طاوسًا كلهم ضعفاء، أما الثقات فرووه عن الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء، كما يقول البيهقي

(5)

.

وأما العلة الثانية وهي الانقطاع بين قيس بن سعد وعمرو بن دينار ففيها نظر، فإن قيس بن سعد عاصر عمرو بن دينار وشاركه في الرواية عن عطاء، وثلاثتهم مكيون، وقد كان قيس مع عمرو بن دينار في مكة منذ ولد قيس إلى

(1)

"العلل الكبير"(1/ 546).

(2)

"شرح المعاني"(4/ 145).

(3)

انظر: "التاريخ الكبير"(6/ 328)، "الجرح والتعديل"(6/ 231)، "التابعون الثقات" ص (867).

(4)

"سنن الدارقطني"(4/ 214).

(5)

"مختصر الخلافيات"(5/ 158)، "التنكيل" للمعلمي ص (915).

ص: 485

أن مات، فالمعاصره ثابتة، وهي تكفي إذا كان الراوي غير مدلس، إن لم نقل بثبوت التلاقي

(1)

. ثم إن أئمة الحديث لم يقبلوا هذا من الطحاوي ولم يعرجوا عليه، وهذا البخاري مع استبعاده لصحته بظنه أن عمرًا لم يسمعه من ابن عباس لم يعرج على هذه العلة ولا اعتبرها، وهذا يقضي أن الحديث ثابت عنده عن عمرو، ولو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرولما تركه البخاري

(2)

.

وقد ذكر الحافظ في "البلوغ" أبا داود والنسائي ومقولة النسائي، ولعل الغرض من ذلك الإشارة إلى أن الحديث فيه كلام، وإلا فإن عادة الحافظ أن ما رواه البخاري أو مسلم يسكت عنه، وقد لا يورد أحدًا غيرهما، وكذا يقال في ذكره حديث أبي هريرة بعد حديث ابن عباس رضي الله عنهما مع أن اللفظ واحد، وليس في أحدهما زيادة على الآخر؛ لعله ذكره لبيان أن هذا الأصل فيه أحاديث أخرى غير ما في "صحيح مسلم".

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه أبو داود في كتاب "الأقضية"، باب (القضاء بالشاهد واليمين)(3610)، والترمذي (1343)، وابن ماجه (2368) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.

قال الترمذي: (حديث حسن غريب).

ورواه أبو داود (3611)، وابن حبان (11/ 462) من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة به، وفيه: قال سليمان: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث، فقال: ما أعرفه، فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك، قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.

قال أبو داود بعد الرواية السابقة: (وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في

(1)

"تهذيب مختصر السنن"(5/ 227).

(2)

انظر: "التنكيل" ص (926).

ص: 486

هذا الحديث، قال: أخبرني الشافعي، عن عبد العزيز قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة -وهو عندي ثقة- أني حدثته إياه، ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلًا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعدُ يحدثه عن ربيعة عنه، عن أبيه)

(1)

.

ونسيان الراوي الثقة للحديث إذا حدث عنه ثقة لا يقدح فيه على القول الراجح، وهو رأي الجمهور

(2)

.

وهذا الحديث رجاله ثقات

(3)

، قال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: هو صحيح

(4)

.

وله طريق آخر، أخرجه البيهقي (10/ 169) من طريق المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.

ثم روى البيهقي بعده بسنده عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: (ليس في هذا الباب -يعني: القضاء باليمين مع الشاهد- حديث أصح من هذا).

واعلم أن القضاء بالشاهد واليمين قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة

(5)

، وروي القضاء به عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهما -كما سيأتي-.

• الوجه الثاني: الحديث دليل على أن للقاضي أن يحكم بالشاهد الواحد ويمين المدعي، وذلك إذا أقام المدعي شاهدًا وعَجَزَ عن الإتيان بشاهد آخر فإنه يقضي له بشاهده ويمينه.

ويجب تقديم الشهادة على اليمين، فيشهد الشاهد أولًا ثم يحلف

(1)

"الكفاية" ص (258)، "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي" ص (28).

(2)

"علوم الحديث" ص (117).

(3)

انظر: "العلل" للدارقطني (10/ 138).

(4)

"العلل"(1409). وانظر: (1392)(1425).

(5)

انظر: "التحقيق"(12/ 45 - 56)، "النظم المتناثر" ص (168).

ص: 487

صاحب الحق، وهو المدعي؛ لأنه إذا أتى بشاهد فالنصاب لم يتم، لكن ترجح جانبه بإحضار هذا الشاهد، فصارت اليمين في جانبه؛ لأنها تشرع في جانب أقوى المتداعيين، كما سيأتي إن شاء الله.

وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد

(1)

، وقد روي القضاء بذلك عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم منهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ما نقله ابن قدامة، وهو قول جماعة من التابعين

(2)

، وروى مالك عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل له على الكوفة أن اقض باليمين مع الشاهد

(3)

.

قال مالك: (مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد، يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه، فإن نكل وأبى أن يحلف، أُحلف المطلوب، فإن حلف سقط عنه ذلك الحق، وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه)

(4)

، ومثل هذا قال الإمام أحمد

(5)

.

والقول الثاني: أنه لا يقبل القضاء بالشاهد مع اليمين، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول الشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي، بل قال محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- يفسخ القاضي القضاء به؛ لأنه خلاف القرآن

(6)

.

واستدلوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ووجه الدلالة: أن الآية نص صريح في اشتراط العدد في الشهود، فلا يجوز أقل من هذا العدد بمفهوم المخالفة؛ لأن الله تعالى ألزم الحاكم بهذا العدد من نصاب الشهادة، كقوله

(1)

انظر: "بداية المجتهد"(4/ 443)، "المغني"(14/ 130)، "مغني المحتاج"(4/ 443).

(2)

"المغني"(14/ 130)، وانظر:"الإشرف" لابن المنذر (4/ 228).

(3)

"الموطأ"(2/ 722)، "السنن الكبرى" للنسائي (5/ 437).

(4)

"الموطأ"(2/ 722).

(5)

"المغني"(14/ 132).

(6)

"الاستذكار"(22/ 53)، "المغني"(13/ 130).

ص: 488

تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ولا يجوز الاقتصار على ما دون هذا العدد، فكذا في الشهادة

(1)

.

واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه، وجَعْلُهَا على المدعي مخالفة لهذا الحديث، ثم إن اعتبار اليمين بينة غير جائز، وإلا لأدى إلى التكرار في الحديث.

كما استدلوا بحديث الأشعث بن قيس، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي: "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" وسيأتي الحديث. ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يستحق الخصم شيئًا بغير شاهدين، فدل على أنه لا يحكم له بشاهد مع يمينه.

وأما حديث الباب فقد طعن فيه كثير من علماء الحنفية، ومنهم الطحاوي، والكاساني، وابن التركماني

(2)

، وقد تقدم بيان ذلك، قالوا: وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين زيادة على ما في القرآن، والزيادة نسخ.

والصواب في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة دليله فإن الحكم بالشاهد واليمين رواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم، ومضت به السنة، وأحاديث العمل بالشاهد واليمين هي زيادة على ما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ

} والزيادة على نص القرآن من وظائف السنة الصحيحة، وهذا له نظائر كثيرة.

وأما الاستدلال بالآية فليس بصريح لما يلي:

1 -

أن الله تعالى أمر أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقم بهذا النصاب من الشهادة، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلًا عن أن يكون أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك، فطريق الحكم شيء، وطريق حفظ الحقوق شيء آخر.

(1)

"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 247).

(2)

انظر: "الجوهر النقي" مع "السنن الكبرى"(10/ 167).

ص: 489

2 -

أن الحاكم يحكم -عند الحنفية وغيرهم- بالنكول، واليمين المردودة على طالب الحق، وشهادة المرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن

(1)

.

3 -

سلمنا باعتبار مفهوم المخالفة في الآية لكنه منسوخ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.

وأما حديث: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"، فلا دلالة فيه، لأمور ثلاثة:

الأول: أن اليمين التي على المدعى عليه هي اليمين الدافعة، واليمين مع الشاهد هي اليمين الجالبة فهي غيرها، ومن ثَمَّ فلا مخالفة للحديث، بل الحديث باق على أصله، وحديث الباب إثبات ليمين أخرى

(2)

.

الثاني: أن هذا الحديث في اليمين المجردة، وحديث الباب في اليمين المقرونة ببينة وهي الشاهد؛ لأنه لما قوي جانب المدعي بالبينة ناسب أن تكون اليمين معه -كما تقدم- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(البينة في الدعاوى عند أكثر العلماء هي: ما تبين الحق وتظهره وتوضحه، كالدليل والآية والعلامة، فمتى ترجح جانب أحدهما مثل أن يقيم المدعي شاهدًا، فإنه يحلف مع شاهده، ويُقضى له بشاهد ويمين، كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول أكثر العلماء)

(3)

.

الثالث: أن لفظ البينة اسم عام لكل ما أبان الحق وأظهره، وعليه فالحكم بالشاهد واليمين داخل تحت مسمى البينة، ولو سلمنا بدلالة الحديث لكان من قبيل الخاص مع العام، فتقدم دلالة أحاديث الشاهد واليمين لأنها خاصة.

وأما حديث: "شاهداك أو يمينه" فلا دلالة فيه على نفي الاستحقاق بالشاهد واليمين؛ لأن البينة غير محصورة بالشاهدين، بدليل قبول الشاهد

(1)

انظر: "الاستذكار"(22/ 54).

(2)

انظر: "تهذيب الفروق"(4/ 149).

(3)

"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"(4/ 295).

ص: 490

والمرأتين، فدل على أن المراد بـ"شاهداك" بينتك، وإنما خص الشاهدين بالذكر؛ لأنه الأكثر الأغلب، فالمعنى: شاهداك أو ما يقوم مقامهما

(1)

. ولو سلمنا بدلالة الحديث لكان من قبيل العام وأحاديث الشاهد واليمين من قبيل الخاص فتقدم.

قال الشوكاني: (جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية، وأقل نصيب من إنصاف)

(2)

.

• الوجه الثالث: القضاء بالشاهد واليمين يكون في الأموال أو ما يؤول إليها، كالبيع والشراء والإجارة ونحوها؛ لأن الأموال أقل خطرًا من سائر الحقوق الأخرى، ويخرج من ذلك الحد والقصاص فإنهما لا يثبتان بالشاهد واليمين، وكذا النكاح وحقوقه كالطلاق والرجعة

(3)

، وقد ذكر ابن قدامة أن العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه لا تثبت بشاهد ويمين قولًا واحدًا

(4)

.

وقد دل على ذلك ما جاء في رواية أبي داود من طريق محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار

قال عمرو: (في الحقوق)، وعند أحمد: قال عمرو: (إنما ذاك في الأموال)

(5)

. وهذا التخصيص وإن كان من كلام الراوي فإنه أعلم بتفسير ما روى من غيره، قال الخطابي:(هذا خاص بالأموال دون غيرها؛ لأن الراوي وَقَفَهُ عليها، والخاص لا يُتعدى به محله، ولا يقاس على غيرهن، واقتضاءُ العموم منه غير جائز؛ لأنه حكاية فعل، والفعل لا عموم له، فوجب صرفه إلى أمر خاص، فلما قال الراوي: (هو في الأموال) كان مقصورًا عليه)

(6)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري"(5/ 283).

(2)

"نيل الأوطار"(8/ 322).

(3)

"الموطأ"(2/ 722).

(4)

"المغني"(41/ 128).

(5)

"المسند"(5/ 120).

(6)

"معالم السنن"(5/ 225).

ص: 491

‌باب الدعاوى والبينات

الدعاوى: بكسر الواو وفتحها، جمع دعوى، والدعوى في الأصل هي الطلب، قال تعالى {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57]، وألفها للتأنيث، والمراد هنا: قول مقبول عند القاضي يقصد به المدعي طلب حق قِبَلَ غيره، أو دفع غيره عن حق نفسه، وتقدم هذا في "القسامة".

والبينات: جمع بينة بمعنى الحجة والعلامة، وهي في كل موضع بحسبه، والمراد بها هنا: الشاهدان أو الثلاثة أو الأربعة، أو الشاهد واليمين على قول الجمهور، كما تقدم.

وقال ابن القيم: (البينة اسم لما يبين الحق ويظهره من الشهود وقرائن الحال، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو بالشاهد واليمين)

(1)

.

وسميت البينة بذلك لأنها تبين الحق وتوضحه بعد خفائه، من بان الشيء إذا ظهر.

(1)

"إعلام الموقعين"(1/ 90).

ص: 492

‌ما جاء في أن الدعوى لا تقبل إلا ببينة

1418/ 1 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رجَال وَأمْوَالهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

- وَللْبَيْهقِيِّ بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أنكَرَ".

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "التفسير"، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] (4552) من طريق عبد الله بن داود، ومسلم (1711) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

وهذا لفظ مسلم، وأما البخاري فقد رواه في الموضع المذكور وفيه قصة امرأتين كانتا تخرزان في بيت، فخرجت إحداهما وقد أُنْفِذَ بِإشْفَى في كفها، فادَّعت على الأخرى

الحديث.

وساقه في كتاب "الرهن"(2514) من طريق نافع، عن ابن أبي مليكة، قال: كتبت إلى ابن عباس، فكتب إليَّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى: أن اليمين على المدعى عليه، كذا مختصرًا، ولمسلم نحوه.

ورواه البيهقي (10/ 252) من طريق الحسن بن سهل، حدثنا عبد الله بن

ص: 493

إدريس، عن ابن جريج وعثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، وذكر قصة المرأتين، وفيه اللفظ المذكور.

ولعل الحافظ ذكر رواية البيهقي لأنها أفادت فائدتين:

الأولى: بيان أن البينة على المدعي.

الثاني: تفسير المدعى عليه بأنه المنكر.

وقد صحح الحافظ هذا الحديث هنا، وحسنه في "فتح الباري"

(1)

.

ورجاله ثقات إلا الحسن بن سهل، فقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا

(2)

، وقد روى عنه أبو زرعة، وأبو زرعة لا يحدث إلا عن ثقة

(3)

، لكن أصحاب ابن جريج رووا الحديث بلفظ:"اليمين على المدعى عليه" كما تقدم، فالظاهر أن هذا اللفظ تفرد به عبد الله بن إدريس عن ابن جريج، ولذا أعرض عنه الشيخان.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) لو: حرف امتناع لامتناع هذا هو المشهور عند النحاة؛ أي: تقتضي امتناع الجواب لامتناع الشرط.

بدعواهم؛ أي: بمجرد دعواهم وطلبهم بان لهم حقًّا قبل فلان دون ما يثبت ذلك.

قوله: (لادعى ناس

) بحذف الهمزة، أصلها: أناس فحذفت الهمزة تخفيفًا، وهو اسم جمع كقوم ورهط، واحده إنسان من غير لفظه.

ومعنى (لادعى ناس) أي: لأخذ ناس وسفكوا، وعبر بالدعوى؛ لأنها السبب في الأخذ والسفك؛ والمعنى: امتنع أخذ ناس أموال قوم لامتناع الإعطاء بالدعوى، فالكلام جاء على معنى النفي؛ لأن لو تفيد النفي؛ أي: لا يعطى الناس بدعواهم المجردة لكن بالبينة يعطون، ومفعول (يعطى) الثاني

(1)

(5/ 283).

(2)

"الجرح والتعديل"(3/ 17).

(3)

انظر: "لسان الميزان"(3/ 396).

ص: 494

محذوف، والتقدير: لو يعطى الناسُ الأموال أو الدماءَ. وقوله: (دماء رجال) لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب.

قوله: (ولكنَّ اليمينَ على المدعى عليه) ضُبطت في "صحيح مسلم" بتشديد النون، وذكر الجرداني

(1)

في شرحه على "الأربعين" أنها بالتخفيف

(2)

، والمدعي: هو الذي يدعي الحق فيضيف الشيء إلى نفسه، والمدعى عليه: هو الذي عليه الحق، وهو المراد بقوله:(من أنكر) وهذا من أحسن التعاريف للمدعي والمدعى عليه، فالمدعي من يضيف الشيء إلى نفسه، والمدعى عليه من ينكر، وهو أقرب إلى لفظ الحديث؛ لأنه سمى المدعى عليه منكرًا.

ومعنى (ولكن اليمين على المدعى عليه) أي: إن اليمين القاطعة للنزاع إذا لم يكن بينة على المدعى عليه، والا فإن أول الحديث دليل على أن المدعي لا بد له من بينة، والمراد باليمين هنا: اليمين الدافعة؛ لأنها تبرئ ذمته من الدعوى.

• الوجه الثالث: هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو أصل من أصول القضاء والحكم، وعليه يدور غالب الأحكام، قال القرطبي:(هذا الحديث أصل من أصول الأحكام وأعظم مرجع عند التنازع والخصام)

(3)

، ومثله قال ابن دقيق العيد

(4)

. وقال ابن العطار: (هذا الحديث أصل عظيم، وقاعدة من القواعد الفقهية في باب الدعوى والبينات، وهو أن كل من ادعى دعوى فأنكر المدعى عليه، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إلا في مسائل

)

(5)

؛ لأن الحديث يقتضي ألا يُحكم لأحد بمجرد دعواه -وإن كان شريفًا- بحق من الحقوق -وإن كان يسيرًا- حتى يستند المدعي إلى ما يقوِّي دعواه، وإلا فالدعاوى متكافئة، والأصل براءة الذمم من الحقوق حتى يرد الدليل الناقل عن ذلك.

(1)

انظر ترجمته في: "معجم المؤلفين"(3/ 434).

(2)

"شرح الجرداني" ص (224).

(3)

"المفهم"(5/ 148).

(4)

"شرح الأربعين النووية" حديث (33).

(5)

"شرح الأربعين النووية" لابن العطار ص (161).

ص: 495

• الوجه الرابع: الحكمة من جعل البينة على المدعي واليمين على من أنكر؛ أن المدعي يدعي أمرًا خفيًّا، فهو بحاجة إلى حجة قوية لإظهاره، والبينة حجة قوية؛ لأنها قول من ليس بخصم، فجعلت في جانب المدعي، وأما اليمين فهي أقل قوة؛ لأنها كلام أحد الخصمين، والمدعى عليه لا يدعي أمرًا خفيًّا، وإنما يتمسك بالأصل، وهو براءة الذمة، فصلحت له الحجة الأضعف، وهي اليمين، فجعلت في جانبه.

• الوجه الخامس: اختلف العلماء هل البينة على المدعي أبدًا واليمين على المدعى عليه أبدًا؟

القول الأول: أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه -وهو المنكر- أبدًا، وهذا قول أبي حنيفة، ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخاري

(1)

، فطردوا ذلك في كل دعوى، وقالوا: لا يحلف إلا المدعى عليه، ولهذا لا يقضون بالشاهد واليمين كما تقدم، حتى في القسامة يحلِّفون المدعى عليه، لحديث:"تأتوني بالبينة على من قتله" قالوا: ما لنا بينة، قال:"فيحلفون" ولكن ضعف الحفاظ هذه الرواية لمخالفتها لروايات "الصحيحين": "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته". وتقدم هذا في "القسامة".

والقول الثاني: أنه لا يلزم أن تكون اليمين في جانب المدعى عليه، بل في جانب أقوى المتداعيين، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، بل سائر علماء الأمة، كما يقول ابن القيم

(2)

.

واستدلوا بما تقدم من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، وفي القسامة جعلت اليمين في جانب المدعي؛ لأنه قوي جانبه باللوث.

وأجابوا عن حديث: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) بأجوبة تقدمت، وهي:

1 -

أنه حديث عام دخله التخصيص بمثل حديث الشاهد واليمين.

(1)

انظر: "فتح الباري"(5/ 280).

(2)

"الطرق الحكمية" ص (104).

ص: 496

2 -

أن اليمين في هذا الحديث هي اليمين الدافعة بخلاف اليمين التي على المدعي.

3 -

أن لفظ البينة اسم عام لكل ما أبان الحق وأظهره، والشاهد مع يمين المدعي بينة. على أن ابن القيم قال عن هذا الحديث: (ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أصحاب السنن المشهورة

)

(1)

.

• الوجه السادس: في الحديث دليل على عناية الإسلام بمصالح الناس من حفظ دمائهم وأموالهم وإصلاح مجتمعهم وعدم اختلافهم ليحصل لهم الأمن على دمائهم وأموالهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"الطرق الحكمية" ص (104).

ص: 497

‌ما جاء في القرعة على اليمين

1419/ 2 - عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأمرَ أنْ يُسْهَمَ بَينَهُمْ في الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

• الكلام عليه من وجهين:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "الشهادات"، باب (إذا تسارع قوم في اليمين)(2674) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين

الحديث.

• الوجه الثاني: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث على قولين:

الأول: أن معناه: أن اليمين إذا توجهت على اثنين وأرادا الحلف وتنازعا أيهم يبدأ، فلا يقدم أحدهما بالتشهي ولكن بالقرعة، وعلى هذا فيكون القوم المذكورون في الحديث مدعى عليهم بعين في أيديهم -مثلًا- وأنكروا ولا بينة للمدعي، فتوجهت عليهم اليمين فتسارعوا إلى الحلف.

القول الثاني: أن معناه أن يتنازع اثنان عينًا ليست في يد واحد منهما ولا بينة لواحد منهما، فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها، وعلى هذا المعنى اقتصر الخطابي

(1)

، ويؤبد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها"

(2)

. والمعنى: اقترعا على اليمين؛ أيَّ كَوْنٍ كان هذا الاقتراع؛ أي: سواء أحبا ذلك الاستهام أو كرهاه.

(1)

"أعلام الحديث"(2/ 1312).

(2)

رواه أبو داود (3616).

ص: 498

ووجه القرعة: أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ، فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة، وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم. والله تعالى أعلم.

ص: 499

‌ما جاء من الوعيد لمن اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

1420/ 3 - عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْحَارثيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الْجَنَّةَ"، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال: "وَإِنْ قَضِيبٌ مِنْ أرَاكٍ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1421/ 4 - وَعَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرئٍ مُسْلِم هُوَ فيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

أما الأول: فهو أبو أمامة، إياس بن ثعلبة الحارثي البلوي الأنصاري الخزرجي، حليف بني حارثة بن الحارث من الأنصار، وهو ابن أخت بُردة بن نِيَارٍ، وهو غير أبي أمامة الباهلي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، والصحيح ما ذُكِرَ على ما قرره ابن عبد البر، وعزاه ابن حجر للأكثر، وقال أبو حاتم: اسمه ثعلبة بن سهل، له صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث، أحدها: حديث الباب على ما ذكر ابن عبد البر، وذكر أنه لم يشهد بدرًا؛ لأن أمه مرضت، فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجدها قد ماتت، فصلى عليها، روى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن كعب بن مالك، وغيرهما

(1)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(2/ 462)، "الاستيعاب"(11/ 129)، "شرح النووي على صحيح=

ص: 500

أما الثاني: فهو أبو محمد الأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي، اسمه معديكرب باسم جده، والأشعث لقب له، لشعث في رأسه، كان شريفًا في قومه ورئيسًا مطاعًا في الجاهلية والإسلام، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في سبعين رجلًا من قومه، ثم ارتد عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وزوجه أبو بكر -بعد أن رجع عن ردته- أخته أم فروة بنت أبي قحافة، في قصة طويلة، وهي أم محمد الذي كني به. خرج الأشعث مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق وشهد اليرموك، وبها أصيبت عينه، ثم شهد القادسية بالعراق، والمدائن وغيرها، ثم نزل الكوفة ومات بها سنة أربعين، وقيل: اثنتين وأربعين

(1)

رضي الله عنه.

• الوجه الثاني: في تخريجهما:

أما حديث أبي أمامة فقد رواه مسلم في كتاب "الإيمان" باب (وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار)(137) من طريق العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَةِ

(2)

، عن معبد بن كعب السَّلَمِي، عن أخيه عبد الله بن كعب، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر الحديث.

وأما حديث الأشعث بن قيس فقد رواه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" ومنها: في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77](6676)(6677)، ومسلم (138) من طريق الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان" قال: فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا: كذا وكذا، قال: صدق أبو عبد الرحمن، فيَّ نزلت، كان بيني وبين رجل أرض باليمن، فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"هل لك بينة؟ " فقلت:

= مسلم" (2/ 517)، "تهذيب الكمال" (33/ 49)، "الإصابة" (11/ 18).

(1)

"السير"(2/ 37)، "الإصابة"(1/ 79 - 80)، "المعارف" لابن قتيبة ص (333).

(2)

بطن من جهينة.

ص: 501

لا، قال:"فيمينه" قلت: إذن يحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "من حلف على يمين صبر

" وذكر بقية الحديث، وفي آخره: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا

} إلى آخر الآية. وهذا لفظ مسلم.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:

قوله: (من اقتطع) افتعل من القطع؛ أي: أخذ؛ لأن من أخذ شيئًا لنفسه فقد قطعه عن مالكه، وعبر بـ (اقتطع) دون قطع؛ لأنه أخص لإشعاره بالعمد.

قوله: (حق امرئ مسلم) هذا لفظ يعم المال وغيره، فيدخل فيه من حلف على غير مال كجلد ميتة وآلة طَرَبٍ وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم.

قوله: (بيمينه) لفظ مطلق، لكنه مقيد باليمين الفاجرة، كما في الحديث الآتي، ولعل هذا غرض الحافظ من إيراد حديث الأشعث بعد حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

قوله: (فقد أوجب الله له النار) هذا من أحاديث الوعيد التي يرى سلف هذه الأمة كالإمام مالك والإمام أحمد أنها لا تفسر؛ ليكون أقوى في الردع والزجر عن تعاطي الأيمان الفاجرة، ويرى آخرون أنها تفسر وتحمل على من استحل ذلك ومات عليه، فإنه يكفر ويخلد في النار، أو أنه مستحق للنار، والله تعالى قد يعفو عنه إن شاء، وهذا قول ضعيف، والصواب الأول

(1)

، وسيأتي لهذا مزيد في كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

قوله: (وإن كان شيئًا يسيرًا) خبر كان، واسمها يعود على ما تقدم؛ أي: وإن كان المقتطع شيئًا يسيرًا.

قوله: (وإن قضيب من أراك) بالرفع في نسخ "البلوغ"، قال النووي:(هكذا بالرفع في بعض الأصول أو أكثرها، وفي كثير منها: (وإن قضيبًا) بالنصب على أنه خبر لكان المحذوفة، أو أنه مفعول لفعل محذوف

(1)

انظر: "فتح المجيد" ص (320)، "القول المفيد على كتاب التوحيد"(2/ 112).

ص: 502

تقديره: وإن اقتطع قضيبًا)

(1)

.

وأما الرفع فعلى أنه نائب فاعل لفعل مقدر؛ أي: وإن اقتُطع، وجاء في بعض النسخ (وإن كان قضيبًا

) وهو واضح

(2)

.

والقضيب: هو الغصن المقطوع، فعيل بمعنى مفعول، والأراك: شجر معروف يستأك بأعواده بل هو أفضل ما يستاك به. وهذا مبالغة في القلة.

قوله: (من حلف على يمين) أي: حلف بالله تعالى؛ لأنه المراد عند الإطلاق، والمراد باليمين: الأمر المحلوف عليه؛ أي: من حلف على أمر. وقد ورد في حديث ابن مسعود: (من حلف على مال امرئ مسلم)

(3)

، لكن لفظ "الصحيحين":(على يمينِ صبرٍ) بالإضافة، وهي بفتح الصاد وإسكان الباء، ويمين الصبر: هي اليمين التي تَلْزم ويُجبر الحالف عليها، يقال: صَبَرْته صبرًا: حلَّفته جَهْدَ القسم

(4)

.

قوله: (مال امرئ مسلم) نكرة مضافة، فتفيد العموم، ويؤيد العموم ما تقدم في حديث أبي أمامة: فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: (وإن قضيبٌ من أراك).

وذكر المسلم خرج مخرج الغالب، وكأن ذلك لأن الخطاب مع المسلمين، وإلا فالذمي مثل المسلم في هذا الحكم، وقيل: إن هذا الوصف له مفهوم، وأن هذه العقوبة العظيمة مختصة بمن اقتطع مال المسلم لا مال الذمي، وإن كان اقتطاع مال الذمي محرمًا فله عقوبة أخرى.

قوله: (هو فيها فاجر) أي: هو في الإقدام عليها؛ أي: على اليمين فاجر، والفاجر: هو الذي يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلًا والباطل حقًّا، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وفي بعض الروايات:(يمين كاذبة).

(1)

"شرح النووي"(2/ 518).

(2)

"المفهم"(1/ 347).

(3)

رواه البخاري (2229)، ومسلم (138).

(4)

"المصباح المنير" ص (331).

ص: 503

قوله: (لقي الله وهو عليه غضبان) الغضب صفة من صفات الله تعالى، مقتضاها كراهة المغضوب عليه والانتقام منه.

وخص هذا الفعل بالغضب دون غيره لكونه ارتكب أمورًا عظيمة، وهي اليمين الفاجرة، وهي اليمين الغموس، ورَدُّ الحق باطلًا، وأخذ مال المسلم بغير حق، مع ما في ذلك من الاستهانة باليمين وتضليل القضاة إن كان الحكم عن طريق القاضي.

• الوجه الرابع: في الحديث وعيد شديد وتغليظ أكيد لمن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، وإنما اقتطعه بخصومته الفاجرة ويمينه الكاذبة، وهذا يدل على تحريم أخذ أموال الناس بالدعاوى الكاذبة والأيمان الفاجرة وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بغضب الله تعالى، لقوله:(لفي الله وهو عليه غضبان) ومَنْ غَضِبَ الله عليه فهو في عداد الهالكين الذين حرمهم جنته وأوجب لهم عذابه.

• الوجه الخامس: وجوب الحذر من حقوق الخلق بالأيمان الكاذبة مهما كانت قليلة، لقوله:(وإن قضيبٌ من أراك) فإن هذا يدل على أن استحقاق النار يكون بمجرد اليمين الكاذبة في اقتطاع الحق وإن كان شيئًا يسيرًا لا قيمة له في عرف الناس. والله تعالى أعلم.

ص: 504

‌إذا تداعى اثنان شيئًا ولا بينة لهما

1422/ 5 - عَنْ أبي مُوسى رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَينِ اخْتَصَمَا إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في دَابَّةٍ، لَيسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَينَهُمَا نِصْفَينِ. رَوَاهُ أَحَمْدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَهذَا لَفْظُهُ، وَقَال: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (32/ 378 - 379)، وأبو داود في كتاب "الأقضية"، باب (الرجلين يدعيان شيئًا وليس لهما بينة)(3613)، والنسائي في "المجتبى"(8/ 248) وفي "الكبرى"(5/ 429)، وابن ماجه (2330) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى أن رجلين

وذكر الحديث.

وهذا لفظ النسائي -كما قال الحافظ- قال في "الكبرى": (إسناد هذا الحديث جيد).

والحديث في سنده ومتنه اختلاف، ومقولة النسائي هذه موجودة في "الكبرى" دون الصغرى، ولم يذكرها المزي في "التحفة"

(1)

أما في سنده فإن الحديث مداره على قتادة، ما عدا رواية سماك بن حرب الآتية، وقد اختلف فيه على قتادة اختلافًا كثيرًا، وقد روي موصولًا كما تقدم، وروي مرسلًا، ذكر هذا الاختلاف الدارقطني في "العلل"(7/ 203)، والبيهقي (10/ 254).

ومن وجوه الاختلاف ما رواه البيهقي (10/ 255) من طريق محمد بن

(1)

(6/ 452).

ص: 505

جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه مرسلًا، لم يذكر فيه أبا موسى في الإسناد، وقد ذكر الترمذي في "العلل" أنه سأل محمدًا -يعني: البخاري- عن هذا الحديث فقال: (يرجع هذا الحديث إلى حديث سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، قال البخاري: روى حماد بن سلمة، قال: قال سماك بن حرب: أنا حدثت أبا بردة بهذا الحديث)

(1)

.

قال البيهقي بعد إيراد كلام البخاري: (وإرسال شعبة هذا الحديث عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه في رواية غندر عنه كالدلالة على ذلك، والله أعلم)

(2)

؛ أي: كالدلالة على صحة ما قال البخاري من أن الحديث مرسل، وعلى هذا فأبو بردة لم يسمع الحديث من أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وإنما سمعه من سماك بن حرب، وقد حدث به سماك عن تميم بن طرفة، وقد جاء ذلك عند ابن أبي شيبة (6/ 316)(10/ 156) من طريق أبي الأحوص، وعند الطحاوي في "شرح المشكل"(12/ 206) من طريق حماد بن سلمة، وعند البيهقي (10/ 258 - 260) من طريق أبي عوانة، ثلاثتهم عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة أن رجلين ادعيا بعيرًا، فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين

الحديث، وهذا السياق كما ترى مخالف لسياق المتن السابق. وتميم بن طرفة تابعي ثقة.

وأما الاختلاف في متنه، فقد رواه أبو داود في "المراسيل"(330) من طريق أبي الأحوص، ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، قال: وجد رجل مع رجل ناقة له، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقام البينة أنها ناقته، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن شئت فخذها بما اشتراها به، وإن شئت فدع".

وهذا سند حسن إلى مرسله، وسفيان الثوري ممن روى عن سماك بن حرب قبل التغير

(3)

.

(1)

"العلل الكبير"(1/ 565).

(2)

"السنن الكبرى"(10/ 258).

(3)

انظر: "الكواكب النيرات" ص (240).

ص: 506

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في دابة) الدابة في اللغة اسم كل ما يَدِبُّ على الأرض، وخصها أهل العرف بذوات الأربع، والظاهر أن هذه الدابة كانت بعيرًا، فقد جاء في رواية أبي داود: (أن رجلين ادعيا بعيرًا أو دابة

)، وفي رواية: (أن رجلين ادعيا بعيرًا

).

قوله: (ليس لواحد منهما بينة) أي: ليس لواحد منهما بعينه بينة بل لهما؛ والمعنى: أن كلًّا منهما له بينة، أو لا بينة أصلًا، وهذا أظهر، ويدل للمعنى الأول رواية أبي داود من طريق همام، عن قتادة:(أن رجلين ادعيا بعيرًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما شاهدين، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين)

(1)

. وهذا على أنها قصة واحدة.

• الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أنه إذا ادعى اثنان عينًا كبعير أو شاة ونحوهما، وليس لواحد منهما بينة، فإن العين بينهما. قال الموفق:(لا نعلم في هذا خلافًا)

(2)

، وذلك لاستوائهما في الملك باليد؛ لأن ظاهر الحديث أن العين بيدهما معًا كدابة يركبانها، أو أرضًا بينهما ونحو ذلك، وذلك لأن يد كل واحد منهما على نصفها، وإنما قلنا: إن ظاهر الحديث أن العين بيدهما؛ لأنها لو كانت بيد أحدهما لما جعلت نصفين، وإنما تكون لمن هي بيده بيمينه، إلا إن كان له بينة فإنه يقضى له ببينته.

ومثل هذا لو أقام كل واحد منهما البينة على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم، وحَكَمَ الحاكم بما ادعياه بينهما نصفين لاستوائهما في البينة.

وعلى هذا فما ورد في حديث أبي موسى بروايتيه -لو صَحَّ- يحتمل فيه أن القصة واحدة، ولما تعارضت البينتان تساقطتا فصار كمن لا بينة له، وبهذا يجمع بين الروايات.

ويحتمل أن البعير كان في يد غيرهما فلما أقام كل واحد منهما شاهدين

(1)

"السنن"(3615).

(2)

"المغني"(14/ 285).

ص: 507

على دعواه نُزِعَ البعير من يد المدعى عليه وأُعطي لهما، ويدل لذلك رواية النسائي:(ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل واحد منهما شاهدين، فلما أقام كل واحد منهما شاهدين، نزعت من يد الثالث، ودفعت إليهما)

(1)

.

وهذا كله من الاضطراب في حديث أبي موسى رضي الله عنه.

والقول بقسمة العين عند تعارض البينتين هو قول للشافعي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة ورواية عن أحمد، لما تقدم، وقال الشافعي ورواية عن أحمد ذكرها الخرقي إنه لا بدَّ من الحلف فيصير المختلفان كمن لا بينة له، فيحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به

(2)

.

والأول أظهر لوجود البينة في كل نصف من العين، والبينة الراجحة يحكم بها من غير يمين. والله تعالى أعلم.

(1)

"السنن الكبرى"(5/ 429).

(2)

"المغني"(14/ 286).

ص: 508

‌ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر الرسول صلى الله عليه وسلم

-

1423/ 6 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هذا بيَمِينٍ آثمةٍ تبوأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (23/ 54)، وأبو داود في كتاب "الأيمان والنذور"، باب (ما جاء في تغليظ اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم)(3246)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 437)، وابن ماجه (2325)، وابن حبان (10/ 210) كلهم من طريق هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن نِسْطاس، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا.

وهذا لفظ النسائي وابن ماجه وابن حبان، ولفظ أبي داود:"لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار" أو "وجبت له النار"، ونحوه لابن ماجه.

وهذا الإسناد رجاله ثقات، أخرج لهم الشيخان، غير عبد الله بن نسطاس المدني، فقد وثقه النسائي وابن عبد البر

(1)

، واحتج به مالك، فروى عنه هذا الحديث في "موطئه"(2/ 727)، وقال الذهبي:(لا يعرف، تفرد عنه هاشم بن هاشم)

(2)

.

(1)

"الاستذكار"(22/ 83)، "تهذيب التهذيب"(6/ 51).

(2)

"الميزان"(2/ 515).

ص: 509

والحديث له شواهد منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد أو أمة يحلف عند هذا المنبر على يمين آثمة، ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار". رواه ابن ماجه (2326)، وأحمد (14/ 99)، والحاكم (4/ 297) من طريق الحسن بن يزيد بن فروخ، قال: سمعت أبا سلمة يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول:

الحديث، قال الحاكم:(صحيح على شرط الشيخين، فإن الحسن بن يزيد هذا هو أبو يونس القوي العابد)، وهذا فيه نظر، فإن الحسن بن يزيد لم يخرج له الشيخان ولا أحدهما

(1)

، وهو ثقة، كما في "التقريب"، ثم إن أبا حاتم قد رَدَّ هذا وقال:(ليس هو بأبي يونس، ولكنه الحسن بن يزيد الضمري)

(2)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (على منبري) أي: عند منبري، كما تقدم في رواية أبي في اود، ويحتمل بقاؤها على معناها

(3)

.

قوله: (بيمين آثمة) أي: كاذبة، كما في حديث أبي أمامة:"من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه عدلًا ولا صرفًا"

(4)

، وسميت اليمين بهذا كتسميتها فاجرة اتساعًا حيث وصفت بوصف صاحبها؛ أي: ذات إثم.

قوله: (تبوأ مقعده من النار) أي: اتخذ لنفسه منزلًا في النار، يقال: تبوأ الرجل المكان: إذا اتخذه سكنًا.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على عظيم إثم من حلف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذبًا في يمينه؛ لأن هذا المكان محل تعظيم ومحل اقتداء وتَأَسٍّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومحل تذكر لما كان يقوله صلى الله عليه وسلم على هذا المنبر، فجاء هذا الحالف بأضداد هذه الأوصاف، فاستحق هذا الوعيد.

(1)

انظر: "تهذيب الكمال"(6/ 342).

(2)

انظر: "الجرح والتعديل"(3/ 43).

(3)

"الاستذكار"(22/ 84).

(4)

رواه النسائي في "الكبرى"(5/ 437).

ص: 510

• الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية تغليظ اليمين بالمكان، والمراد بتغليظ اليمين: أن يحلف المدعى عليه باليمين في زمان أو مكان يُعتقد أنَّه يوقع الرهبة في نفس الحالف مما يجعله لا يقدم على الحلف باليمين إلَّا إذا كان صادقًا فيما يقول:

فالتغليظ بالمكان كأن يحلف بين الركن والمقام في مكة، أو عند منبره صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي المسجد في غيرهما، والتغليظ بالزمان سيأتي.

ومسألة التغليظ في اليمين موضع خلاف بين أهل العلم، فمن أهل العلم من قال بتغليظ اليمين، وهم المالكية، والشَّافعية، بل نسبه ابن حجر إلى الجمهور

(1)

، ونقله عنه الشوكاني

(2)

، على خلاف بينهم في المقدار الذي ينبغي أن تغلظ فيه اليمين، ودليلهم هذا الحديث، وحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه الآتي.

وقد ذكروا تغليظ اليمين في كل أمر عظيم خطره، مثل القصاص والطلاق واللعان.

وذهبت الحنفية

(3)

، والحنابلة

(4)

، إلى أنَّه لا يشرع التغليظ لا في زمان ولا مكان، وهو اختيار البخاري، فقد بوب في "صحيحه" بقوله:(بابٌ: يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين، ولا يصرف من موضع إلى غيره)، واستدلوا بأن الأحاديث الواردة في أحكام اليمين لم تخص مكانًا دون مكان -كما يقول البخاري - مثل حديث:(اليمين على المدعى عليه)، وحديث:(شاهداك أو يمينه).

وأجابوا عن حديث الباب بأنه ليس فيه ما يدل على جواز التغليظ بالمكان، وإنَّما يدل على تعظيم ذنب الحالف على منبره صلى الله عليه وسلم كاذبًا، وكذا حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه الآتي يدل على عظم ذنب الحالف بعد العصر لا على التغليظ في الزمان.

(1)

"الأم"(7/ 636)، "الاستذكار"(22/ 87)، "فتح الباري"(5/ 284).

(2)

"نيل الأوطار"(15/ 544).

(3)

"بدائع الصنائع"(6/ 227 - 228).

(4)

"المغني"(14/ 224).

ص: 511

والقول الثالث: أن تغليظ اليمين راجع إلى اجتهاد القاضي

(1)

، بحسب ما يراه من مصلحة القضية وحال المتخاصمين وقوة إيمانهم أو ضعفه، فإن رأى التغليظ غَلَّظَ، كأن يكون المدعى عليه رجلًا مبطلًا متهاونًا باليمين، ولو غلظ عليه لاحتمل ألا يحلف، وإن لم يحيى التغليظ فلا بأس بتركه، كما لو كان المنكر رجل صدق.

وقد ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم طلب التغليظ على خصومهم في الإيمان بالحلف بين الركن والمقام، وعلى منبره صلى الله عليه وسلم، وورد عن بعضهم الامتناع من الإجابة إلى ذلك

(2)

.

لكن لو أَبى الحالف التغليظ لم يكن ناكلًا؛ لأنه قد بذل الواجب عليه، وقيل: بل يعتبر، إذ لو لم يُلْزَمْ به ما كان فيه زجر.

والظاهر الأول، لحديث:"من حُلف له بالله فليرض"

(3)

، قال الشوكاني:(الحق عدم وجوب إجابة الحالف لمن أراد تحليفه في زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو بألفاظ مخصوصة)

(4)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(14/ 224).

(2)

انظر: "فتح الباري"(5/ 284 - 285).

(3)

رواه ابن ماجة (2101)، قال البوصيري (2/ 143):(هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات). وفيه محمد بن عجلان، وهو صدوق لا بأس به، وحَسَّنَ الحديث الحافظ في "فتح الباري"(11/ 535 - 536) مع أن الحديث من رواية ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، فأين أصحاب نافع عن هذا الحديث؟!.

(4)

"نيل الأوطار"(15/ 547).

ص: 512

‌ما جاء في تغليظ اليمين الكاذبة بعد العصر

1424/ 7 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةُ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ: رجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" ومنها: في كتاب "الشهادات"، باب (اليمين بعد العصر)(2672)، ومسلم (108) من طريق الأعمَش، عن أبي صالح، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا، وهذا لفظ مسلم.

• الوجه الثاني: في شرع ألفاظه:

قوله: (ثلاثة) أي: ثلاثة أشخاص، وهو مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة إفادتها التقسيم، والخبر (لا يكلمهم الله)

(1)

.

قوله: (لا يكلمهم الله يوم القيامة) الكلام المنفي هنا هو كلام الرضا واللطف، وهذا وعيد شديد؛ لأن الله تعالى يكلم أهل الإيمان، ونفي الكلام عن هؤلاء دليل على إثبات أصله؛ لأنه لما نفاه عن قوم دل على ثبوته

(1)

"عمدة القاري"(10/ 205).

ص: 513

لغيرهم

(1)

، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلَّا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان"

(2)

، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.

ويحتمل أن الحديث على ظاهره وأن الله تعالى لا يكلمهم أصلًا، وأنهم يذهب بهم إلى النار بدون سؤال ولا محاسبة، وعلى هذا يكون حديث الباب مخصِّصًا لحديث:(ما منكم من أحد. .. )

(3)

.

قوله: (ولا ينظر إليهم) أي: نظر رحمة ولطف بهم وإحسان إليهم، وهذا ليس بتأويل، إنما التَّأويل لو قيل:(لا ينظر إليهم) أي: لا يرحمهم، وهنا أثبتنا النظر، وقصرناه على نوع، فقلنا: نظر رحمة، وهذه العبارة تثبت أصل النظر؛ لأن الله تعالى لا يحجب بصره شيء أبدًا في أي وقت كان.

قوله: (ولا يزكيهم) إما بمعنى لا يثني عليهم ولا يشهد لهم بالإيمان بسبب أفعالهم؛ لأن التزكية بمعنى التوثيق والتعديل، أو لا يطهرهم من دنس الذنوب بل يَرِدُونَ يوم القيامة وهم متدنسون بالذنوب العظائم ومتلوثون بالجرائم.

قوله: (ولهم عذاب الميم) أي: عقوبة شديدة موجعة؛ لأنه لما عظمت ذنوبهم عظمت عقوبتهم.

والتنصيص على العدد لا ينافي الزائد، فالذي ذكر من الوعيد لا ينحصر في هؤلاء الثلاثة، بل ورد في أحاديث أخرى.

قوله: (رجل) بالرفع بدل من ثلاثة.

قوله: (على فضل ماء) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: على ما فاضلٍ عن كفايته، وهذا قيد لابُدَّ منه إشارة إلى أنَّه غير محتاج إليه ومع ذلك منع من هو محتاج إليه.

(1)

"فتح المجيد" ص (489)، "القول المفيد"(3/ 224).

(2)

رواه البخاري (1413)، ومسلم (1016).

(3)

"شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري"(2/ 62).

ص: 514

قوله: (بالفلاة) هي الأرض الواسعة المقفرة، جمعها فلوات وفَلًا وفُلي كعُصي وعَصًا.

قوله: (يمنعه من ابن السبيل) أي: المسافر، والسبيل هو الطَّرِيق سمي به لملازمته له.

قوله: (بسلعة) أي: بمتاع، وهي بكسر السين، جمعها سِلَعٌ، وهو اسم لكل ما يُتَّجَرُ به.

قوله: (بعد العصر) خص بعد العصر لشرف الزمان، لارتفاع الملائكة بالأعمال إلى الله تعالى، وإلَّا فاليمين الفاجرة محرمة كل وقت، أو لأن العصر هي الوسطى فلها من الخصوصية ما يؤكد على مصليها أن يظهر عليه التحفظ والاهتمام بأمور دينه ودنياه ويختم نهاره بالتسبيح والأذكار لا بالأيمان الكاذبة.

قوله: (لَأَخَذَهَا) أي: لقد أخذها؛ بمعنى: اشتراها، ودخول اللام وحدها على الماضي المثبت المتصرف قليل، والغالب تصديرها باللام الجوابية وقد، وفي رواية للبخاري:"لقد أُعطي بها كذا وكذا" فيشمل الكذب في قيمة السلعة التي اشتراها بها، والكذب في السوم.

قوله: (فصدقه) أي: المشتري، فاشترى السلعة بذلك الثمن الذي حلف أنَّه أخذها به اعتمادًا على حلفه.

قوله: (وهو على غير ذلك) الضمير عائد على مصدر الفعل (أخذها) أي: والأخذ (على غير ذلك) أي: على غير ما حلف عليه.

قوله: (ورجل بايع إمامًا) أصل البيع في كلام العرب المعاوضة في الأموال وغيرها، ثم سميت المعاقدة والمعاهدة مبايعة، إما لأن البيعة تكون بمد الباع وأخذ الكف، أو لما فيها من المعاوضة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره.

والمراد بالإمام: الإِمام الأعظم.

ص: 515

قوله: (لا يبايعه إلَّا للدنيا) أي: لأجل شيء يحصل له من متاع الدنيا.

قوله: (فإن أعطاه) الفاء تفسيرية، تفسر مبايعته للإمام للدنيا.

قوله: (وفَى) أي: أدى ما عليه من الطاعة مع أن الوفاء واجب مطلقًا.

• الوجه الثالث: في الحديث وعيد عظيم وزجر شديد لمن اتصف بواحدة من الصفات المذكورة بأن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة كلام محبة ورضا، ولا ينظر إليهم نظر رحمة ولطف، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فحالهم حال المغضوب عليهم لعظم جرمهم.

وهذا وعيد، وقد يتوب الله عليهم ويرحمهم فضلًا منه سبحانه وتعالى، وقد يوفقهم لتوبة صادقة في الدنيا.

• الوجه الرابع: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على إثبات صفة الكلام لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لأن نفي الكلام عن هؤلاء دليل على أن الله تعالى يكلم من أطاعه، ومثل هذا في الاستدلال قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15].

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على تحريم منع الآخرين من الماء الفاضل عن حاجة الإنسان، وأنه يجب على الإنسان بذل ما فضل عن كفايته، ولا سيما إذا كان طالب الماء مسافرًا وفي أرض فلاة، قال ابن بطَّال:(فيه دلالة على أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ حاجته لم يجز له منع ابن السبيل)

(1)

.

وقد ورد في بعضى الروايات عند البخاري: "ورجل منع فضل مائه، فيقول الله: اليومَ أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"

(2)

، ولا يلزم من ذلك مواجهته بهذا الكلام؛ لئلا يعارض هذا ما تقدم أول الحديث من أن الله تعالى لا يكلم هؤلاء، فيكون الكلام لله تعالى بلا مخاطبة، ويحتمل أن

(1)

"شرح صحيح البخاري"(6/ 499)

(2)

"صحيح البخاري"(7446).

ص: 516

يكون الكلام من الملائكة الذين يتولون عذابه أو غير ذلك

(1)

. أما على القول بأن الكلام المنفي هو كلام الرضا والمحبة فلا إشكال، والله أعلم.

• الوجه السادس: الحديث دليل على تحريم اليمين الكاذبة التي يَقْصِدُ بها أكل مال أخيه بالباطل، بان يحلف البائع أنَّه اشتراها بكذا أو أنَّه أُعطي بها كذا، ليغر المشتري، فيشتريها منه بزيادة عن ثمنها الأصلي، ولا سيما إذا كان الحلف في زمان فاضل، فهذا قد ارتكب إثمًا عظيمًا؛ لأنه جمع بين الكذب وبين اليمين بالله تعالى وهو كاذب، وبين الحلف في زمن فاضل، وبين خداعه للمشتري وأكله مال أخيه بالباطل.

• الوجه السابع: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية تغليظ اليمين في الزمان

(2)

، بأن يكون الحلف بعد العصر أو يوم الجمعة ونحو ذلك، وقد تقدم أن الحديث ليس فيه دلالة على ذلك، وأن الصواب أن التغليظ مرجعه إلى اجتهاد القاضي.

• الوجه الثامن: تحريم مبايعة الإِمام لأجل غرض من أغراض الدنيا؛ لأنها بيعة مبنية على غرض فاسد، والواجب أن تكون البيعة لأجل مقاصد الإمامة من إقامة شعائر الله ونصرة دينه والنصح للرعية. والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري"(2/ 63 - 64).

(2)

انظر: "شرح السنة"(10/ 143).

ص: 517

‌إذا تداعى اثنان شيئًا بيد أحدهما وأقاما بينة

1425/ 8 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلَينِ اخْتَصَمَا في نَاقَةٍ، فَقَال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نُتِجَتْ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ هِيَ في يَدِهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الدَّارَقُطني (4/ 209) -كما سيذكره الحافظ مع الحديث الذي بعده- والبيهقي (10/ 256) من طريق زيد

(1)

بن نعيم، حدَّثنا محمد بن الحسن، حدَّثنا أَبو حنيفة، عن هيثم الصيرفي، عن الشعبي، عن جابر- رضي الله عنه أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ناقة، فقال كل واحد منهما: نُتجت هذه الناقة عندي وأقام بينة

الحديث.

وهذا سند ضعيف، كما قال الحافظ؛ لأن فيه زيد بن نعيم، قال عنه الذهبي:(لا يعرف في غير هذا الحديث) ثم ساق حديثه هذا وقال: (هذا حديث غريب، أخرجه الدَّارَقُطني)

(2)

.

وأعله ابن القطان بزيد بن نعيم، وبأبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن

(3)

.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (في ناقة) على وزن فَعَلَة بالتحريك، وهي الأنثى من الإبل، تجمع على نياق، كثمرة وثمار، أو على نُوقٍ مثل بدنة وبُدْنٍ.

(1)

وقع في طبعة عبد الله هاشم لـ "سنن الدَّارَقُطني": (يزيد بن نُعيم)، والتصويب من "السنن الكبرى" للبيهقي، ومن طبعة دار الرسالة "سنن الدَّارَقُطني"(5/ 373).

(2)

"الميزان"(2/ 106).

(3)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 551).

ص: 518

قوله: (نُتجت عندي) بضم النون مبني لما لم يسم فاعله، ومعناه: تولَّدت عندي، وأصل هذا الفعل من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول.

وعند البيهقي (فأقام كل واحد منهما البينة أنَّها دابته نَتَجَها) ونتَجَتِ الناقة: وضعت عندك.

قوله: (وأقاما بينة) هكذا في نسخ "البلوغ" بألف الاثنين، وفي "السنن":"وأقام بينة" بدون ألف، وكذا في "سنن البيهقي"، ومعناها: وأقام كل واحد منهما بينة، لِتُوافِقَ الروايات، وعند البيهقي في رواية أخرى:(فأقام كل واحد منهما البينة).

• الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أنَّه إذا تداعى اثنان عينًا كدابة، وكانت العين بيد واحد منهما، وأقام كل واحد منهما بينة على أن العين له، فإن العين تكون لمن هي في يده، وهو المسمى عند الفقهاء بالداخل؛ لأنهما استويا في الدعوى وفي البينة، وللذي هي في يده سبب تقوَّى به على خصمه، حيث إن العين بيده، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم المالكية والشَّافعية

(1)

.

والقول الثاني: أن العين تكون للخارج منهما -وهو من لم تكن العين بيده- فيقضى له بها ببينة؛ لأنه مُدَّعٍ أحضر بينة، والبينة قد شرعت في حقه، وتلغى بينة الداخل، عملًا بحديث:"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"، فإنه يدل على أن بينة المدعى عليه لا تسمع بحال، وإنما عليه اليمين عند الحاجة إليها؛ ولأن الغالب أن بينة المدعى عليه تعتمد على يده ومشاهدة العين عنده، بخلاف بينة المدعي فإنها أقدمت على الإخبار بشيء خلاف الظاهر، فأُخِذَ بها إذا كانت عادلة. ومن المعلوم أن كلًّا منهما مدع، لكن يقال: إن الآخر مُدَّعٍ عليه؛ لأن العين في يده.

وهذا مذهب الإِمام أحمد، وهو المشهور عنه، وهو من المفردات، وهو

(1)

"مغني المحتاج"(4/ 480)، "الفواكه الدواني"(2/ 309).

ص: 519

قول إسحاق

(1)

، ورجحه الشيخ عبد العزيز بن باز، وأجابوا عن حديث الباب بأنه ضعيف.

وذكر الموفق رواية ثانية عن أحمد: إن شهدت بينة الداخل -وهو من في يده العين- بسبب الملك، كان تقول البينة: إن الدابة -مثلًا- نُتجت في ملكه أو اشتراها قدمت؛ لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد المجردة. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(14/ 278).

ص: 520

‌ما جاء في رد اليمين على المدعي

1426/ 9 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالبِ الْحَقِّ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفي إِسْنَادِهِمَا ضَعْفٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه الدَّارَقُطني (4/ 213)، والحاكم (4/ 150)، والبيهقي (10/ 184) من طريق سليمان بن عبد الرحمن، حدَّثنا محمد بن مسروق، عن إسحاق بن الفرات، عن اللَّيث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) فتعقبه الذهبي بقوله: (لا أعرف محمدًا، وأخشى أن يكون الحديث باطلًا)، فهذا الحديث سنده ضعيف؛ لأن فيه محمد بن مسروق، وقد تفرد به، كما قال الذهبي

(1)

، وهو مجهول، قال ابن القطان:(لا تعرف حاله)، وذكر أَبو حاتم وغيره: أن سليمان بن عبد الرحمن -وهو ابن بنت شرحبيل الدمشقي- كان كثير الرواية عن المجاهيل

(2)

. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

.

وفيه -أيضًا- إسحاق بن الفرات، وهو مختلف فيه، قال أَبو حاتم:(شيخ ليس بالمشهور)، وقال أَبو سعيد بن يونس:(في أحاديثه أحاديثُ كانها مقلوبة)، وقال الذهبي في "الكاشف":(ثقة يُغرب)، وقال عبد الحق عقب

(1)

"الميزان"(1/ 195).

(2)

"بيان الوهم والإيهام"(3/ 219)، "لسان الميزان"(7/ 502).

(3)

(9/ 68).

ص: 521

حديثه هذا: (إسحاق ضعيف)، وقال أَبو عوانة الإسفراييني:(ثقة)

(1)

.

والحديث ضعفه ابن الجوزي فقال: (فيه مجاهيل) فتعقبه الذهبي فقال: (بل هو منكر)

(2)

.

• الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على ثبوت رد اليمين على طالب الحق وهو المدعي، ومن ذلك: أن المدعى عليه إذا توجهت إليه اليمين وأبى أن يحلف فإن اليمين ترد على المدعى، فإذا حلف استحق ما ادعاه وقُضي له به.

وقد تقدم أن حديث الباب ضعيف، لكن يستدل لذلك بما تقدم من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين في جانب المدعي إذا أقام شاهدًا واحدًا، لقوة جانبه بالشاهد؛ فلأن يحكم له باليمين مع قوة جانبه بنكول

(3)

خصمه أولى وأحرى؛ ولأنه إذا نكل المدعى عليه وأبي أن يحلف ظهر صدق المدعي وقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه، كالمدعى عليه قبل النكول.

كما يستدل بحديث القسامة، ووجه الاستدلال: أن اليمين جعلت في جانب المدعي لقوة جانبه باللّوْثِ، فإذا تقوى جانب المدعي بنكول المدعى عليه شرعت اليمين في حق المدعي.

وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم قضايا حكموا فيها بنكول المدعى عليه من غير رد اليمين على المدعي، كما ورد عنهم الحكم برد اليمين، وهذا ليس من الاختلاف، بل هذا له موضع، وهذا له موضع، فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به، فرد المدعى عليه اليمين، فإن المدعي إن حلف استحق، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه، ومثل ذلك لو اختلف زيد وعمرو في قدر الدين، فقال زيد: خمسة آلاف، وقال عمرو: ثلاثة، ونكل

(1)

"الكاشف"(1/ 38)، "تهذيب التهذيب"(1/ 215).

(2)

"تنقيح التحقيق" للذهبي (2/ 326).

(3)

النكول: امتناع المدعى عليه من اليمين إذا توجهت إليه عند عدم بينة المدعي.

ص: 522

عمرو - المدعى عليه - عن اليمين، فترد على المدعي فإن حلف وإلا قُضي عليه.

وأما إذا كان المدعي لا يعلم ذلك والمدعى عليه هو المنفرد بمعرفته، فإنه إذا نكل عن اليمين حُكم عليه بالنكول، ولم ترد اليمين على المدعي.

ومثال ذلك: لو باع زيد سيارة على عمرو على أنَّها سليمة، ثم تبين بها عيب، فإن زيدًا يحلف أنَّه باع السيارة وما بها عيب يعلمه، فإن امتنع من اليمين قُضي عليه بالنكول؛ لأن المدعى عليه يعلم ذلك، والمدعي لا يمكن أن يعلمه.

وهذا التفصيل نسبه ابن القيم إلى شيخه ابن تيمية، وقال:(هذا الذي اختاره شيخنا رحمه الله هو الحق في مسألة النكول ورد اليمين)

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الطرق الحكمية" ص (133).

ص: 523

‌ما جاء في الحكم بقول القافة

1427/ 10 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْم مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَال: "ألَمْ تَرَي إِلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ؟ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زيدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، فَقَال: هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه" ومنها في كتاب "الفرائض"، باب (القائف)(6770)، ومسلم (1459) من طريق اللَّيث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

وذكرت الحديث.

واعلم أن أكثر العلماء يذكرون هذا الحديث في كتاب "اللعان" ومنهم المجد ابن تيمية في "المنتقى"

(1)

، وابن عبد الهادي في "المحرر"

(2)

، والمقدسي في "العمدة"

(3)

، وابن دقيق العيد في "الإلمام"

(4)

، وذلك من باب إثبات النسب، وأن إلحاق القافة يفيد ذلك، ولعل الحافظ ذكره في "الدعاوى والبينات" لبيان أن قول القائف بينة، ولما تحدث ابن القيم عن الطرق التي يحكم بها الحاكم، ذكر منها: الحكم بالقافة

(5)

.

(1)

(2/ 636).

(2)

ص (412).

(3)

ص (225).

(4)

ص (434).

(5)

"الطرق الحكمية" ص (225).

ص: 524

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ذاتَ يومٍ) منصوب على الظرفية الزمانية، لإضافته إلى زمان، وهي ملازمة لذلك، فلا تقبل الجر بمن ولا غيره من أحوال الإعراب.

قوله: (مسرورًا) حال من فاعل (دخل).

قوله: (تبرق) بفتح المثناة الفوقية وضم الراء من باب نصر؛ أي: تضيء وتستنير من الفرح والسرور.

قوله: (أسارير وجهه) جمع أسرار وأَسِرَّة، ومفرد أسرار: سُرٌّ -بكسر السين وضمها مع تشديد الراء-، ومفرد أَسِرَّة: سَرَرٌ بالفتح، فأسارير جمع الجمع.

والأسارير في الأصل خطوط الكف

(1)

، ثم أطلقت على المخطوط التي في الجبهة مرادًا بها ما يظهر على وجه من سَرَّهُ أمر من الإضاءة والبريق، قال ابن الأثير:(بريق الأسارير: ما يعرض لها من البشاشة عند الفرح والاستبشار بالشيء السار)

(2)

.

قوله: (ألم تري) أي: ألم تعلمي، فالمراد من الرؤية هنا: الإخبار أو العلم، وفي رواية البخاري في "المناقب":"ألم تسمعي ما قال المدلجي" وهذا استفهام يراد به التقرير؛ يعني: أن هذا مما يتعين أن تعلميه فاعلمي.

قوله: (إلى مجزز المدلجي) بضم الميم وفتح الجيم، ثم زاي مشددة مكسورة ثم زاي أخرى، اسم فاعل، قيل: لم يكن اسمه مجززًا، وإنما قيل له ذلك لأنه كان إذا أسر أسيرًا جَزَّ ناصيته وأطلقه، وهو مجزز بن الأعور ابن جعدة بن مدلج الكناني، قال الحافظ:(لكني لم أر من ذكر اسمه)

(3)

، وقد ذكره في "الإصابة" وقال: (أغفل ذكره جمهور من صنف في الصحابة،

(1)

"القاموس"(2/ 548).

(2)

"جامع الأصول"(10/ 737).

(3)

"فتح الباري"(12/ 57).

ص: 525

لكن ذكره أَبو عمر في "الاستيعاب"

(1)

، وذكره ابن يونس في فتوح مصر، وقال:(لا أعلم له رواية) والظاهر أنَّه كان مسلمًا وقت هذه الحادثة؛ قال الحافظ ابن حجر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بخبره وسُرَّ به، فهو دليل على أنَّه اعتمد خبره، ولو كان كافرًا لما اعتمده في حكم شرعي. والله أعلم

(2)

.

والمدلجي: نسبة إلى بني مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وقد اشتهر بنو مدلج بالقيافة، وكذا بنو أسد، لكنه ليس خاصًّا بهم على الصحيح.

والقائف: هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر، سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء؛ أي: يتبعها، فالقائف يعرف الناس بالشبه، فيلحق إنسانًا بإنسان لما يدرك من الشبه الذي يراه بينهما مما يخفى على غيره

(3)

. وقد جاء عند البخاري في "المناقب" قول عائشة رضي الله عنها: (دخل عليَّ قائف والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد. .)

(4)

.

قوله: (نظر آنفًا) بالمد على المشهور، ويجوز القصر؛ بمعنى قريبًا، أو بمعنى الآن، وهو ظرف زمان منصوب بالفتحة، ومنه قوله تعالى:{مَاذَا قَال آنِفًا} [محمد: 16]، وهو من استأنفت الشيء: إذا ابتدأته؛ أي: ماذا قال في أول وقت يقرب منا.

قوله: (إلي زيد بن حارثة) هو زيد بن حارثة بن شراحيل، يرجع نسبه إلى القبائل القحطانية، كان قد اختُطف من أمه في الجاهلية في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق، واشتراه حكيم بن حزام، وأعطاه عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنه ما بقيمة أو بهبة، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فدعي زيد بن محمد، ثم أُلغي التبني في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة بنزول سورة الأحزاب:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وفي زيد وزوجه زينب بنت

(1)

"الاستيعاب"(10/ 223)، "الإصابة"(9/ 93).

(2)

"الإصابة"(9/ 94).

(3)

"جامع الأصول"(10/ 737).

(4)

"صحيح البخاري"(3731).

ص: 526

جحش رضي الله عنها نزلت الآيات من سورة الأحزاب، ولم يُسَمَّ أحد من الصحابة رضي الله عنهم في القرآن غيره

(1)

.

وزيد أول من أسلم بعد علي رضي الله عنه على ما قاله ابن إسحاق، كان بطلًا عظيمًا وفاضلًا كريمًا، استشهد في معركة مؤتة سنة ثمان

(2)

رضي الله عنه.

قوله: (وأسامة بن زيد) هو أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، ولد سنة سبع قبل الهجرة، وأسلم قديمًا؛ لأن أباه كان من السابقين، كما تقدم، أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم إلى الروم يبلغ نحو ثلاثة آلاف، فيهم كبار المهاجرين والأنصار، فمات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه، فأنفذه أَبو بكر رضي الله عنه، فكان هذا البعث آخر بعث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وأول بعث بعثه أَبو بكر رضي الله عنه، كان عمر رضي الله عنه يجلّه ويكرمه، ويفضله في العطاء على ابنه عبد الله بن عمر، ويقول: إنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ، وقد روى عنه من الصحابة أَبو هريرة وابن عبَّاس رضي الله عنهما، ومن كبار التابعين أَبو عثمان النهدي وعروة بن الزُّبَير وآخرون، اعتزل الفتن، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين على ما صححه ابن عبد البر

(3)

.

قوله: (هذه أقدام بعضها من بعض) هذه رواية مختصرة، وأوضح منها رواية سفيان، عن ابن شهاب: (فقال يا عائشة رضي الله عنها: ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعضًا

(4)

. وفي رواية لمسلم بعد هذا: (وكان مجززٌ قائفًا).

وكان الأولى بالحافظ أن يذكر هذه الزِّيادة المفيدة، أو يورد الحديث بهذا اللفظ، لما فيها من الدلالة على صدق القيافة، ودفع توهم من يقول: لعل هذا القائف حاباهما بذلك لما عرف من كونهم يطعنون في نسب أسامة.

(1)

انظر: "تفسير ابن كثير"(9/ 416)، "فتح الباري"(8/ 523).

(2)

"الاستيعاب"(4/ 47)، "الإصابة"(4/ 47).

(3)

انظر: "الاستيعاب"(1/ 143)، "أسد الغابة"(1/ 79)، "سير أعلام النبلاء"(2/ 496)، "الإصابة"(1/ 45).

(4)

"صحيح البخاري"(6771)، "صحيح مسلم"(1459)(39).

ص: 527

فهذا سياق أدل على المراد وأوضح في المقصود لقوله: "قد غطيا رؤوسهما".

وكان أهل الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لكونه أسود شديد السواد، وكان أَبوه زيد أبيض من القطن، كما جاء في رواية أبي داود

(1)

؛ لأن أسامة جاء على أمه أم أيمن، واسمها بركة، وكانت حبشية، وأيمن ولدها من عبيد بن عمرو بن الخزرج، فولدت له أيمن، ويقال: إن عبيدًا حبشي من موالي الخزرج.

فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسب أسامة بأبيه زيد مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لكون ذلك زاجرًا لهم عن الطعن في النسب.

وقد أثار القاضي عياض -هنا- إشكالًا، فقال: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود

(2)

.

قال الحافظ: (يحتمل أنَّها كانت صافية، فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك)

(3)

.

وفي "شرح الأُبّي" قال: (لم أر من المؤرخين من ذكر أنَّها كانت سوداء، إلَّا أحمد بن سعيد الصيرفي، فإنه ذكر في "تاريخه" بسنده إلى ابن سيرين أنَّها كانت سوداء، وأُراه ليس بصحيح؛ لأنه لو صح لم ينكر الناس لونه، إذ لا يبعد أن يلد الأبيضُ الأسودَ من السوداء

)

(4)

.

وأما كونها حبشية فلا يلزم منه أنَّها سوداء، فقد يكون المعنى أنَّها من مهاجرة الحبشة، كما قال عمر رضي الله عنه لأسماء بنت عميس:(آلحبشية هذه؟)

(5)

.

(1)

"السنن"(2267).

(2)

"إكمال المعلم"(4/ 656).

(3)

"فتح الباري"(12/ 57).

(4)

"شرح الأُبي"(4/ 83).

(5)

"صحيح البخاري"(4230).

ص: 528

• الوجه الثالث: في الحديث دليل على جواز اضطجاع الرجل مع ولده في لحاف واحد، وهذا من قوله:"وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما" فإن ظاهر قوله: "قطيفة" أنَّه لحاف واحد.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز العمل بقول القائف في إلحاق النسب حيث يشتبه إلحاق الولد بأحد الواطئين في طهر واحد، بشرط عدم ما هو أقوى منه كالفراش، فإن وجد الفراش فالحكم به مقدم مطلقًا، ولهذا تقدم في "اللعان" في قصة الرجل الذي ولدت امرأته غلامًا أسود أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يمكنه من نفيه، ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثرا لوجود الدليل القوي وهو الفراش.

ووجه الاستدلال من الحديث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذا القائف على قوله: (هذه أقدامٌ بعضها من بعض) وسروره بذلك، ولا يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا بحق، والإقرار حجة شرعية؛ لأنه أحد أقسام السنة.

صحيح أن نسب أسامة كان ثابتًا بالفراش، ولكن سرور النبي صلى الله عليه وسلم دليل على اعتبار قول القائف، فَسُرَّ بموافقة قوله للفراش، لا أنَّه أثبت النسب بقوله، فزالت بذلك تهمة القدح في نسبه بتلك الشهادة.

والقول بجواز العمل بقول القافة هو مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشَّافعي وأحمد، وعلى هذا فالقيافة من القرائن الدالة على ثبوت النسب؛ لأنها تبين الشبه بين الولد وأصله

(1)

.

والقول الثاني: أنَّه لا يجوز العمل بقول القائف في إثبات النسب، والولد إذا ادعاه اثنان حكم به لهما، وهذا قول الحنفية، قالوا: والحكم بالقافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين، والشبه قد يوجد في الأجانب وينتفي عن الأقارب

(2)

.

(1)

"المهذب"(2/ 155)، "المغني"(8/ 385).

(2)

"مختصر اختلاف العلماء"(4/ 451).

ص: 529

واعتذروا عن العمل بالحديث بأنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه؛ لأن نسب أسامة كان ثابتًا ومعلومًا إلى زيد رضي الله عنه، وإنَّما كان الكفار يقدحون في نسبه لاختلاف اللون، فلا يصح أن يكون الحديث دليلًا على إثبات النسب بقول القائف.

والقول الأول هو الراجح لأمور ثلاثة:

الأول: أن قول القائف: (هذه أقدامٌ بعضها من بعض) هو في قوة: هذا ابن هذا.

الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر هذا القائف على حكمه، وظاهره أنَّه تقرير لإلحاق بالقيافة مطلقًا، ولو كان هذا لا يجوز شرعًا لبين النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك، ولو كانت القيافة باطلة لم يحصل بذلك سرور، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

الثالث: أن عمر وعليًّا رضي الله عنهما قد حكما بقول القافة، قال ابن القيم: (ولا يعرف قط في الصحابة رضي الله عنهم من خالف عمر وعليًّا رضي الله عنهما في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة، وبحضرته المهاجرون والأنصار فلم ينكره منكر

)

(1)

.

وقولهم: (إن القيافة تخمين) ليس بصحيح لأمرين:

الأول: أن القيافة لا يقبل فيها كلام كل أحد، بل هي استناد إلى ظن غالب ورأي راجح وأمارة ظاهرة بقول من هو من أهل الخبرة والمعرفة.

الثاني: أن هذا تعليل في مقابلة نص.

وأما اعتذارهم عن عدم العمل بالحديث بأنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه، فهذا صحيح، لكن نقول: إن القيافة دليل آخر موافق لدليل الفراش -كما تقدم- وسرور النبي صلى الله عليه وسلم واستبشاره لتعاضد الأدلة لإثبات النسب، لا بقول القائف وحده، ولو لم تصح القيافة دليلًا لم يسر النبي صلى الله عليه وسلم، فمجرد سروره كافٍ في اعتبار قول القائف.

(1)

"زاد المعاد"(5/ 420).

ص: 530

ومع ترجيح العمل بقول القائف إلَّا أنَّه يمكن الاستفادة من تحليل البصمات، ومن الطب الحديث في مجال التحاليل أو البصمة المخبرية للدم، وقرينة التحليل أو البصمة أقوى وأثبت من قرينة الشبه، واحتمال الخطا فيه قليل جدًّا، لكنها تعتبر مؤيدة لحكم القافة فيما ذهبوا إليه من إلحاق النسب بالشبه

(1)

.

• الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنَّه يُكتفى بالإلحاق في القيافة بقائف واحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بخبر مجزز وسُرَّ به؛ ولأن ذلك من باب الخبر؛ ولأن القائف كالطبيب والبيطار الواحد فيؤخذ بقوله إذا لم يوجد سواه. وقيل: لا بدَّ من اثنين، كالشهادة، والحكم بالمثل في جزاء الصيد.

والصواب الأول، قال ابن القيم: (والقائف أولى من الطبيب والبيطار؛ لأنهما أكثر وجودًا منه، فإذا اكتفي بالواحد منهما مع عدم غيره فالقائف أولى.

)

(2)

.

وقد اشترط العلماء في القائف أن يكون عدلًا مُجَرَّبًا في الإصابة؛ لأنه أمر علمي، فلابدَّ من العلم بذلك، ويكفي أن يكون مشهورًا لا سيما بالإصابة، وهذا حق، فإن الخبر لا يقبل ولا ينفذ الحكم به إلَّا ممن اتصف بهذين الوصفين: العدالة والإصابة.

• الوجه السادس: استحباب الفرح والتبشير بالأخبار السارة وإشاعتها ولا سيما ما فيه إزالة ريبة أو قالة سوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُرَّ بقول مجزز.

• الوجه السابع: تشوُّف الشارع الحكيم إلى صحة الأنساب وإلحاقها بأصولها وعدم إضاعتها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش

(3)

.

(1)

انظر: "حجية القرائن في الشريعة الإسلامية" ص (153، 193)، "الحكم بإثبات النسب أو نفيه بالبصمة الوراثية" ص (201).

(2)

"الطرق الحكمية" ص (241).

(3)

"الطرق الحكمية" ص (231).

ص: 531

• الوجه الثامن: في الحديث دليل على جواز قبول شهادة من يشهد قبل أن يُستشهد عند عدم التهمة؛ لأن مجززًا لم يطلب منه شهادة، والتهمة عنه منتفية.

• الوجه التاسع: استدل العلماء بهذا الحديث على جواز الشهادة على المرأة المنتقبة والاكتفاء بمعرفتها ولو لم ير وجهها. والله تعالى أعلم.

ص: 532

‌كتاب العتق

العتق لغة: يطلق على معانٍ منها: الخلوص، ومنه سمي البيت العتيق لخلوصه من أيدي الجبابرة، فلم يملكه جبار، وقال الأزهري:(هو مشتق من قولهم: عَتَقَ الفرس: إذا سبق ونجا، وَعَتَقَ الفرخ: إذا لطار واستقل؛ لأن العبد يتخلص بالعتق، ويذهب حيث شاء)

(1)

.

وشرعًا: تخليص الرقبة من الرق.

والأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما من الكتاب فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وقال تعالى في بيان بعض أفعال الخير:{فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] أي: عتق الرقيق.

وأما السنة فقد ورد في فضل العتق وأحكامه أحاديث كثيرة، ومنها ما ذكره الحافظ هنا.

وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به.

وقد حث الإسلام على عتق الرقاب، ورغَّب فيه، وجعل له أسبابًا كثيرة، منها ما هو قهري، ومنها ما هو اختياري، كما هو مدون في كتب الفقه.

وقد ضيَّق الإسلام مورد الرق، إذ جعل الناس كلهم أحرارًا، فألغى رق السبي والنهب والسلب، كما ألغى رق الاستدانة أو الوفاء بالديون، ولم يُبْقِ إلَّا رقَّ الأسرى في الحروب، مع احترام الأسير، والحث على إطلاق سراحه

(1)

"الزاهر" للأزهري ص (560).

ص: 533

ببدل أو بغير بدل، على حسب المصلحة التي يراها الإِمام، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].

وقد جعل الإسلام العتق من أفضل القُرب، واعتبره أول مرتبة في كفارة القتل، والظهار، والجماع في نهار رمضان، وفرض نصيبًا من الزكاة لعتق الرقاب.

ثم جاء بقواعد معاملة الرقيق، وهي تجمع بين العدالة والرحمة، من ضمان الغذاء والكساء لهم، مثل أوليائهم، وعدم تكليفهم ما لا يستطيعون، وحفظ كرامتهم واعتبار إنسانيتهم، حتَّى أن مَن لطَم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه، وتقدم شيء من ذلك في "النفقات".

وبعد هذا الموقف العادل، والمعاملة الرحيمة، يأتي أعداء الإسلام من المستشرقين، أو الماديين الملحدين ليصفوه بأنه يُقِرُّ الرق، ويبارك مُلَّاك الرقيق، ورَوَّجوا باطلهم القائم على تصيُّد الشبهات الواهية، وتلفيق الأكاذيب، والافتراء على الله تعالى وعلى شريعته وأحكام دينه، مع أن تاريخهم يشهد أنهم هم الذين أنشأوا الرق، بل لم يكفهم استرقاق الأفراد، فعمدوا إلى استرقاق الأمم والشعوب، كما فعلت أوروبا المعاصرة عندما اتصلت بأفريقيا، وسامتها سوء العذاب.

ثم إن الرق في اليهودية والنصرانية مقرر ثابت، عن طريق التسلط والقهر، ولم يرد في الإسلام نص واحد يأمر بالاسترقاق، على حين وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدعو إلى العتق والتحرير.

وإذا كان الأمر كذلك فإن مثل هؤلاء لا يريدون معرفة الحق، والوصول إلى غاية سامية، بل غرضهم التشكيك وزرع الشُّبه؛ لأنه يسوؤهم انتشار الإسلام وامتداد نوره، فبسطوا ألسنتهم بالسوء، وسخَّروا أقلامهم للطعن في هذا الدين، والافتراء على تعاليمه، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ص: 534

‌ما جاء في فضل العتق

1428/ 1 - عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا منه مِنَ النَّارِ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1429/ 2 - وَلِلتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَة رضي الله عنه:"أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتينِ مُسْلِمَتَينِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ".

1430/ 3 - وَلأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ رضي الله عنه: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ".

• الكلام عليها من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو كعب بن مرة، ويقال: مرة بن كعب البهزي السُّلمي -بضم المهملة-، قال ابن عبد البر:(الأكثر يقولون: كعب بن مرة، له صحبة) سكن البصرة ثم الأردن، له أحاديث يرويها شُرحبيل بن السِّمْط، وأَبو الأشعث الصنعاني، وأَبو صالح الخولاني وغيرهم، قال ابن عبد البر:(له أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة، يروونها عن شرحبيل بن السمط، عن كعب بن مرة السلمي البهزي، وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها عن شرحبيل بن السمط، عن عمرو بن عبسة، والله أعلم)، مات رضي الله عنه بالأردن سنة تسع وخمسين، وقيل: سبع وخمسين

(1)

.

(1)

"الاستيعاب"(9/ 256)، "تهذيب الكمال"(42/ 196)، "الإصابة"(8/ 356).

ص: 535

• الوجه الثاني: في تخريجها:

أما حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه فقد رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب (في العتق وفضله)(2517)، ومسلم (1509) (24) من طريق واقد بن محمد قال: حدثني سعيد بن مُرجانة صاحب علي بن الحسين قال: قال لي أَبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

وذكر الحديث، وفي آخره: قال سعيد: فانطلقت حين سمعت الحديث من أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه فذكرته لعلي بن الحسين فأعتق عبدًا له قد أعطاه به ابن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار. وهذا لفظ مسلم.

وأما حديث أبي أمامة رضي الله عنه فقد انفرد به التِّرمِذي، فرواه في أَبواب "النذور والأيمان" باب (ما جاء في فضل العتق)(1547) من طريق عمران بن عيينة - وهو أخو سفيان بن عيينة - عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وذكر مثل حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، وزاد:"وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فِكَاكه من النار، يُجزئ كل عضو منهما عضوًا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فِكاكها من النار يُجزئ كل عضو منها عضوًا منها".

قال التِّرمِذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه)، وفي سنده سالم بن أبي الجعد، وهو ثقة يرسل كثيرًا -كما في "التقريب" - وقد اختلف عليه في إسناده، فإنه جعله هنا من مسند أبي أمامة، ثم إنه تفرد به عمران بن عيينة، وقد قال عنه الحافظ في "التقريب":(صدوق له أوهام).

وأما حديث كعب بن مرة فقد رواه أَبو داود في كتاب "العتق"، باب "أي الرقاب أفضل؟) (3967)، والنَّسائي في "الكبرى" (5/ 8)، وابن ماجة (2522)، وأحمد (29/ 602) من طريق عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شُرَحْبيل بن السِّمْطِ أنَّه قال لكعب بن مرة أو مرة بن كعب: حدَّثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نحوًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

ص: 536

وهذا سند ضعيف لانقطاعه؛ لأن سالم بن أبي الجعد لم يسمع من شرحبيل، قال أَبو داود:(سالم لم يسمع من شرحبيل مات شرحبيل بصفين)، وصفين سنة سبع وثلاثين، وسالم مات سنة مائة على أحد الأقوال، ويدل لذلك قول أبي زرعة:(سالم بن أبي الجعد عن عمر وعثمان وعلي مرسل)

(1)

، ومن المعلوم أن عليًّا رضي الله عنه مات سنة أربعين، فمعنى هذا أن سالمًا لم يسمع من شرحبيل قطعًا لكونه مات قبل الأربعين.

وروى هذا الحديث النَّسائي (5/ 7) من طريق منصور، عن سالم، عن كعب بن مرة، ولفظه: "

وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فهو فكاكها من النار، كل عظم منها عظمٌ منها".

قال الحافظ: (إسناده صحيح)

(2)

. والحديث يشهد له ما قبله إن سلم الأمر من الاختلاف على سالم بن أبي الجعد؛ لأن مدار الحديثين عليه، ويؤيد هذا رواية النَّسائي، والله أعلم.

• الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:

قوله: (أيما امرئ) هذا لفظ مسلم -كما تقدم- ولفظ البخاري: "أيما رجل" وأي: شرطية دخلت عليها (ما) وهي من صيغ العموم، وفي رواية من حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه:"من أعتق رقبة مسلمة. . ."

(3)

، وكل هذه صيغ عموم.

قوله: (امرئ مسلم) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري خلا من هذا القيد، وهو لإخراج الكافر؛ لأنه لا يثبت الأجر للمعتق - بالكسر - إلَّا إذا كان مسلمًا، وأما العتق الصادر من الكافر فإنه وإن كان يصح وينفذ إلَّا أنَّه لا ثواب له، ولا ينجو بسببه من النار.

قوله: (أعتق امرأً مسلمًا) هذا قيد في الرقبة المُعْتَقَةِ، وهو يفيد أن هذه الفضيلة لا تنال إلَّا بعتق الرقبة المسلمة، وإن كان في عتق الكافرة فضل لكنه لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر.

(1)

"المراسيل" لابن أبي حاتم ص (80).

(2)

"فتح الباري"(5/ 147).

(3)

رواه البخاري (6715)، ومسلم (1509)(21).

ص: 537

قوله: (استنقذ الله) أي: وَقَى وأنقذ وخلص بكل عضو منه عضوًا منه من النار.

قوله: (بكل عضو منه عضوًا منه من النار) أي: أنقذ الله عوض كل عضو من أعضاء المعتق - بالفتح - عضوًا من أعضاء المعتق - بالكسر - ونجاه من جهنم يوم القيامة، وفي رواية في "الصحيحين":"من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه"

(1)

.

قوله: (كانتا فكاكه من النار) كتبت في جميع نسخ "البلوغ" بكسر الفاء، والمشهور الفتح، وكسرها لغة حكاها ابن السكيت، ومنعها الأصمعي والفراء

(2)

. والمعنى: كانتا خلاص المعتق - بالكسر - من نار جهنم.

قوله: (يجزئ كل عضو منها عضوًا منه) يروى بالهمز من الإجزاء، ذكره شارح (جامع التِّرمِذي) وقال:(كذا في النسخ الحاضرة)، ثم قال:(الظاهر أن نسخ التِّرمِذي مختلفة في هذا اللفظ)

(3)

، وكذا رأيته في "الكبرى" للنسائي مضبوطًا بالهمز

(4)

. ويروى بضم الياء التحتانية وفتح الزاي غير مهموز، كذا ضبطه الشوكاني مستندًا إلى نسخة "المنتقى"

(5)

؛ أي: يقضي وينوب.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل عتق الرقاب وتخليصها من الرق وأن هذا من أجَلِّ الطاعات وأعظم القربات، ومن أسباب العتق من النار؛ لأنه أعتق هذا الرقيق لله تعالى، فكان جزاؤه أن يعتقه الله من النار؛ لأن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزي المعتق للعبد بالعتق من النار

(6)

، وهذا - والله أعلم - لكون الرقيق في حكم المعدوم إذ لا تصرف له في نفسه، وإنَّما يُتصرف فيه كما يُتصرف في الدابة، فكان عتقه كإخراجه من العدم إلى الوجود؛ لما في عتقه من تخليصه من ضرر الرق، وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكنه من التصرف في نفسه وشؤون حياته على حسب إرادته واختياره في حدود الشرع.

(1)

تقدم قبل هذه الحاشية.

(2)

"المصباح" ص (479)، "تحفة الأحوذي"(5/ 152).

(3)

"تحفة الأحوذي"(5/ 152).

(4)

(5/ 6).

(5)

"نيل الأوطار"(11/ 395).

(6)

"التوضيح"(16/ 139).

ص: 538

وقد دل الحديث على أن هذا الفضل العظيم إنما هو في عتق الرقبة المسلمة، لما يحصل في عتق المؤمن من المنافع العظيمة كالجهاد والشهادة والمعونة على إقامة شرائع الدين، وأما عتق الكافر فلا خلاف في جوازه من باب التطوع، وأما كونه عن كفارة فهو موضع خلاف مذكور في أَبوابه.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن إعتاق كامل الأعضاء أفضل من عتق ناقصها، ليحصل الاستيعاب المستفاد من قوله:(استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار) وعلى هذا فلا ينبغي أن يكون المعتق - بالفتح - ناقصًا بعور أو شلل وشبههما، ولا معيبًا بعيب يضر بالعمل، ويخلُّ بالسعي والاكتساب

(1)

.

• الوجه السادس: استدل الفقهاء بحديث أبي أمامة رضي الله عنه على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى؛ لأن الحديث جعل عتق الأنثى على النصف من عتق الذكر، فالرجل إذا أعتق الذكر أو أعتق امرأتين كان ذلك فِكاكه من النار، وإذا أعتق امرأة واحدة كانت فكاك نصفه من النار، والمرأة إذا أعتقت الأمة كانت فكاكها من النار.

ووجه ذلك أن جنس الرجال أفضل؛ ولأن عتق الذكر فيه من المعاني والمنافع ما ليس في عتق الأنثى، من الجهاد وولاية القضاء وقبول الشهادة والإمامة وغير ذلك مما يختص بالرجال إما شرعًا وإما عادة، وهذا لا يعني الحط من قيمة المرأة، فإن نصوص الشريعة سوَّت بين الذكر والأنثى في أصل الخلق والتكليف والثواب والعقاب، وللمرأة دور كبير في المجتمع في إعداد الناشئة وتربية الأجيال، وإنَّما المراد أن ما يحصل من الرجل بعد عتقه من النفع أكثر مما يحصل من الأنثى، على أن بعض العلماء قال: إن عتق الأنثى أفضل؛ لأنه يكون ولدها حرًّا، سواء تزوجها حر أو عبد، وقال آخرون: عتق الأنثى للأنثى أفضل، وهذا رواية عن أحمد

(2)

، والله أعلم.

(1)

"أعلام الحديث"(2/ 1264 - 1265).

(2)

"الإنصاف"(7/ 392).

ص: 539

‌ما جاء في أي الرقاب أفضل للعتق

1431/ 4 - عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَال: "إِيمَانٌ باللهِ، وَجِهَادٌ في سَبِيلِهِ"، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أفضَلُ؟ قَال: "أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب (أي الرقاب أفضل؟)(2518)، ومسلم (84) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مُرَاوحٍ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال:

وذكر الحديث، وتمامه: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين ضائعًا أو تصنع لأخرق" قال: فإن لم أفعل؟ قال: "تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تَصَدَّقُ بها على نفسك" هذا لفظ البخاري.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (فأي الرقاب أفضل) جمع رقبة، وهو الرقيق، وسمي الرقيق رقبة: لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والمراد: الإنسان، من إطلاق البعض على الكل؛ والمعنى: أي المماليك أحب إلى الله تعالى أن يعتق.

قوله: (أعلاها ثمنًا) بالعين المهملة

(1)

، وهو الموافق لما في البخاري، وقد ذكر الحافظ أنَّها رواية الأكثر

(2)

، وفي بعض نسخ "البلوغ" بالغين المعجمة، وهو الموافق لما في طبعة الناصر لـ"صحيح البخاري"، وهي طبعة

(1)

وكذا في المخطوطة التي سبق وصفها.

(2)

"فتح الباري"(5/ 148).

ص: 540

متقنة، وقد ذكر الحافظ أنَّها رواية الكُشْمِيهني والنسفي، ونقل عن ابن قُرقُول

(1)

- صاحب "المطالع" - أن معناهما متقارب، ورواية مسلم:"أكثرها ثمنًا" وهي تبين المراد، كما يقول الحافظ.

قوله: (وأنفسها عند أهلها) أفعل تفضيل من النفاسة، يقال: نَفُس الشيء -بضم الفاء- نفاسة: كَرُمَ، فهو نفيس؛ والمعنى: أكرمها وأكثرها رغبة عند أهلها.

قوله: (ضائعًا) بالضاد المعجمة، هكذا في "الصحيحين"، وهو لفظ جميع رواة البخاري كما جزم به عياض وغيره، وقال النووي: الأكثر في الرواية بالمعجمة

(2)

، وصوب الدَّارَقُطني، والقرطبي

(3)

(صانعًا) بالصاد المهملة والنون، وهو الموجود في طبعة الناصر، وعلل ذلك الدَّارَقُطني بوجود المقابلة بالأخرق، وهو الذي ليس بصانع، ولا يحسن العمل، وقد فسرت رواية:(ضائعًا) -بالضاد المعجمة- بأن المراد: ذو الضياع من فقر أو عيال، فيرجع إلى الأول

(4)

. وقد اقتصر ابن بطَّال على هذا المعنى، فقال:(قوله: "تعين ضائعًا" أي: تعين فقيرًا)

(5)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الإيمان عمل، وأنه أفضل الأعمال، بل هو أصلها الذي تقوم عليه، ولا إشكال في تقديم الإيمان بالله ورسوله على غيره؛ لأنه أفضل ما افترض الله على عباده مطلقًا.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى، وعن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"

(6)

.

(1)

انظر ترجمته: في "وفيات الأعيان"(1/ 62)، "الرسالة المستطرفة" ص (157).

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 434).

(3)

"المفهم"(1/ 277).

(4)

"فتح الباري"(5/ 149).

(5)

"شرح ابن بطَّال"(7/ 35).

(6)

رواه البخاري (26)، ومسلم (83).

ص: 541

قال المهلب: (إنما قرن الجهاد في سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتَّى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى يفشو الإسلام وينتشر، فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل)

(1)

.

وهذا يتمشى مع رأي القائلين إن اختلاف أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال لاختلاف الأوقات، بان يكون العمل في وقت أفضل منه في غيره، فيكون تقديم الجهاد وقرنه بالإيمان بالله تعالى لعظم الحاجة إليه في إظهار الدين في أول الإسلام، أو أنَّه محمول على الجهاد الواجب وقت النفير إليه.

• الوجه الخامس: الحديث دليل على أن أفضل الرقاب التي يراد إعتاقها ما كان أكثرها قيمة وأكثرها نفاسة وأحبها وأكرمها عند أهلها لحسن أخلاقها وكثرة منافعها، والقاعدة في هذا: أنَّه كلما كان العتيق أفضل في نفسه كان أفضل في العتق، سواء أكان رجلًا أم امرأة، قال القرطبي:(هذا الحديث يدل على أن المعيب ليس كالصحيح، ولا الكبير مثل الصغير، ولا القليل القيمة مثل الكثير، لتفاوت ما بينهم، ولما شهد حديث أبي أمامة وغيره بتفاوت ما بين الذكر والأنثى، لزم منه التفاوت بين من ذكرناهم في ذلك، والله تعالى أعلم)

(2)

.

(1)

"شرح ابن بطَّال"(7/ 35).

(2)

"المفهم"(4/ 342).

ص: 542

‌ما جاء فيمن أعتق شركًا له في عبد

1432/ 5 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقًا، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

1433/ 6 - ولَهُمَا عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: "وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيهِ وَاسْتُسْعِيَ غَيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ"، وَقِيلَ: إِنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ في الْخَبَرِ.

• الكلام عليهما من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجهما:

أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه البخاري في كتاب "العتق"، باب (إذا أعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء)(2522)، ومسلم (1501) من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوِّم العبد عليه قيمة عدل

" الحديث.

وأما حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه فقد رواه البخاري في "العتق"، باب (إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال، استسعي العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة)(2527)، ومسلم (1503) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قَتَادة، عن النَّضْر بن أَنس، عن بَشِير بن نَهِيك، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق نصيبًا -أو شقصًا- في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، وإلا قوِّم عليه

) الحديث.

وقد تكلم الأئمة في لفظة: (واستسعي غير مشقوق عليه) هل هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو أنَّها مدرجة في الخبر؟

ص: 543

وذلك لأن الحديث قد رواه عن قَتَادة جماعة، منهم سعيد بن أبي عروبة -كما تقدم- وجرير بن حازم، وحجاج بن حجاج، وأبان العطار، وموسى بن خلف، وهؤلاء ذكروا هذه اللفظة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه عن قَتَادة شعبة بن الحجاج، وهشام الدستوائي، ولم يذكرا هذه اللفظة مطلقًا، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا من كلام غيره، وشعبة وهشام أحفظ من رواه عن قَتَادة.

ورواه همام بن يحيى عن قَتَادة، وجعل هذه اللفظة من كلام قَتَادة، فقد روى الدَّارَقُطني (4/ 127)، والبيهقي (10/ 282)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 40 - 41) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، حدَّثنا همام، عن قَتَادة، عن النضر بن أَنس، عن بشير بن نهيك، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن رجلًا أعتق شقصًا من مملوك، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه، قال قَتَادة: إن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه.

قال الدَّارَقُطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: (ما أحسن ما رواه همام وضبطه، وفصل بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول قَتَادة!).

فالإمام أحمد وابن المنذر والدارقطني والبيهقي والخطيب والحاكم والخطابي وغيرهم جزموا بالإدراج، وأن هذه اللفظة من كلام قَتَادة

(1)

.

قال الإِمام أحمد -كما في رواية الميموني-: (حديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه في الاستسعاء يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة وهشام فلم يذكراه، ولا أذهب إلى الاستسعاء)

(2)

.

وقال البيهقي: (قد اجتمع شعبة مع فضل حفظه وعلمه بما سمع من قَتَادة وما لم يسمع، وهشام مع فضل حفظه، وهمام مع صحة كتابه وزيادة معرفته بما ليس من الحديث على خلاف ابن أبي عروبة ومن وافقه في إدراج

(1)

"العلل"(10/ 317)، "السنن الكبرى"(10/ 282)، "الفصل للوصل"(1/ 348)، "معالم السنن"(4/ 255)، "نصب الراية"(3/ 282).

(2)

"شرح العلل" لابن رجب (1/ 422).

ص: 544

السعاية في الحديث)

(1)

.

وذهب آخرون إلى عدم الإدراج، وأن لفظة:(واستسعي العبد غير مشقوق عليه) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وممن قال بذلك البخاري ومسلم حيث رويا الحديث بتمامه وأدخلاه في كتابهما، وجزما برفع هذه الجملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذا ابن دقيق العيد في "شرحه على العمدة"

(2)

، وابن عبد الهادي في "التنقيح"

(3)

، ولما ذكر الحديث في "المحرر" سكت عن الإدراج

(4)

، ووجهة نظر هؤلاء أن هذه الجملة من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قَتَادة، وقد تابعه جرير بن حازم وحجاج وغيرهما -كما تقدم- وسعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قَتَادة من غيره، لكثرة ملازمته له وأخذه عنه، فإنه كان أكثر ملازمة لقَتَادة من همام وغيره، وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد لكن روايتهما في عدم ذكر هذه الجملة لا تنافي رواية سعيد؛ لأنهما اقتصرا في رواية الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدًا حتَّى يُتوقف في زيادة سعيد؛ لأن ملازمته لقَتَادة أكثر منهما، فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، مع أنَّه لم ينفرد؛ فإن البخاري قد روى الحديث من رواية جرير بن حازم؛ لينفي التفرد عن سعيد، ثم أشار إلى ثلاثة تابعوهما على ذكرها، فقال: (تابعه -أي: سعيد- حجاج بن حجاج، وأبان، وموسى بن خلف عن قَتَادة

اختصره شعبة)، وقوله:(اختصره شعبة) إجابة عن إشكال: وهو أنَّه إذا كان شعبة أحفظ الناس لحديث قَتَادة -كما تقدم- فكيف لم يذكر الاستسعاء؟ فأجاب: بأن شعبة اختصر الحديث، وغيره ساقه بتمامه، وهذا لا يؤثر، إضافة إلى أن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، وخلاصة ذلك أن رواية سعيد بهذه الزِّيادة قد قويت بهذه المتابعات، ورواية شعبة لا تنافيها؛ لأنها من قبيل اختصار الحديث، والعلم عند الله تعالى.

(1)

"السنن الكبرى"(10/ 282).

(2)

"إحكام الأحكام"(4/ 566).

(3)

(5/ 94).

(4)

ص (365).

ص: 545

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:

قوله: (شركًا له) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء المهملة؛ أي: حصة ونصيبًا، سواء أكان ذلك قليلًا أم كثيرًا، كان يُعْتِقَ نصفه أو ربعه أو ثلثه.

قوله: (في عبد) اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، ومؤنثه أمة من غير لفظه، وحكي: عبد وعبدة

(1)

.

قوله: (فكان له مال) الضمير يعود على من أعتق نصيبه.

قوله: (يبلغ ثمن العبد) أي: قيمة بقية العبد، والمراد: ما لم يعتق منه.

قوله: (قوم عليه قيمة عدل) الفعل مبني لما لم يسم فاعله، وهو من التقويم؛ أي: التقدير؛ والمعنى: تقدر قيمة ذلك العبد تقديرًا عادلًا فلا يزاد في قيمته ولا ينقص، فيقوم كاملًا لا عتق فيه، وتعرف قيمته، وذلك من عارف بقيمة السلع موثوق بدينه وأمانته.

قوله: (فأعطى شركاءه حصصهم) أعطى: بفتح الهمزة مبنيًّا للفاعل في رواية الأكثر، وشركاءه: منصوب على المفعولية؛ أي: فيعطي ذلك المعتِق -بكسر التاء- شركاءه قيمة حصصهم من هذا العبد ويعتق عليه العبد جميعه، وروي (فأُعطي شركاؤه) بضم الهمزة مبنيًّا لما لم يسم فاعله، و (شركاؤه) بالرفع نائب فاعل.

وهذا خبر بمعنى الأمر؛ أي: إن ذلك لازم عليه لا محيص عنه.

قوله: (وعَتَقَ عليه العبد) بفتح العين والتاء؛ أي: وصار جميع العبد حرًّا، وولاؤه لمن أعتقه.

قوله: (وإلَّا فقد عتق منه ما عتق) أي: وإن لم يكن للمُعْتِقِ نصيبه مال؛ فقد عتق من العبد نصيبه، وما عدا ذلك يبقى رقيقًا.

(1)

انظر: "المفهم"(4/ 311)، "فتح الباري"(5/ 151).

ص: 546

قوله: (وإلا قوم عليه) مبني لما لم يسم فاعله؛ والمعنى: أن المعتِق -بكسر التاء- إن لم يكن له مال يفي بقيمة الباقي؛ قدر أهل الخبرة قيمة هذا العبد وصارت دينًا على العبد.

قوله: (واستسعي) مبني لما لم يسم فاعله؛ أي: أُلزم العبد اكتساب ما يفك بقية رقبته من الرق، بأن يكتسب ويعمل حتَّى يحصل قيمة أنصباء شركاء المعتق، فسمي تصرفه في كسبه سعاية، وقيل: المراد أن يخدم سيده الذي لم يعتقه بقدر ما له فيه من الرق

(1)

.

قوله: (غير مشقوق عليه) بالنصب حال من نائب الفاعل، وهو العبد؛ أي: لا يكلف المملوك ما يشق عليه في السعاية، وعلى المعنى الثاني: أنَّه لا يكلفه سيده من الخدمة فوق ما يطيقه ولا فوق حصته من الرق.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز عتق العبد المشترك من بعض الشركاء، وأن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره أنَّه يلزمه عتق باقيه وخلاصه كله من ماله، إذا كان غنيًّا قادرًا على دفع قيمة أنصباء شركائه الذين لم يعتقوا نصيبهم، ويصير العبد حرًّا؛ لأن تبعيض العتق يضر بالعبد ولا تتم به المصلحة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذكرًا أو أنثى على قول الجمهور، إما لأن لفظ العبد في الحديث يراد به جنس الرقيق، كما في قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، فإنه يتناول الذكر والأنثى، وإما على طريق الإلحاق بنفي الفارق، كما هو معلوم من باب القياس في الأصول

(2)

.

ومفهوم قوله: (فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال) أنَّه لا يلزم استسعاء العبد عند يسار المعتِق

(3)

.

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 284).

(2)

"المفهم"(14/ 311).

(3)

"الأعلام"(11/ 416).

ص: 547

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أنَّه إذا كان الذي أعتق نصيبه فقيرًا غير قادر على دفع أنصباء شركائه الذين لم يعتقوا نصيبهم فإنه يعتق من العبد ما قدر عليه، ويبقى رقيقًا فيما بقي من نصيب الشركاء ويكون مبعضًا.

• الوجه الخامس: اختلف العلماء فيما إذا أعتق الشريك نصيبه من عبد بينه وبين غيره وعجز عن عتق باقيه على قولين:

الأول: أنَّه ينفذ العتق في نصيب المعتِق -بكسر التاء- فقط، ولا يطالب المعتِق بشيء، ولا يستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقًا كما كان، وهذا قول مالك والشَّافعي وأحمد وأبي عبيد

(1)

، وهؤلاء يستدلون برواية:(فقد عتق منه ما عتق).

وأجابوا عن جملة: (واستسعي العبد غير مشقوق عليه) بأنها مدرجة من كلام الراوي -كما تقدم- وعلى فرض ثبوتها فالاستسعاء باختيار العبد، لقوله:(غير مشقوق عليه) إذ لو كان ذلك لازمًا لحصل له مشقة، ومعلوم أن هذا غير لازم في الكتابة؛ لكونها غير واجبة، فهذا مثلها، وهذا قول البيهقي. أو يقال إن المراد بالاستسعاء: استمرار العبد في خدمة سيده الذي لم يعتق بقدر ما له فيه من الرق، كما تقدم.

القول الثاني: أن الشريك إذا أعتق نصيبه استسعي العبد وطُلب منه أن يعمل ليحصل نصيب الشريك الذي لم يعتق.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وهو قول الأوزاعي وإسحاق وآخرين

(2)

، واستدلوا بما تقدم من لفظة:(واستسعي العبد غير مشقوق عليه) بناءً على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

"بداية المجتهد"(45/ 231)، "المغني"(14/ 358).

(2)

"بدائع الصنائع"(4/ 87)، "المغني"(14/ 358)، "الاختيارات" ص (198)، " مختصر تهذيب السنن"(5/ 396).

ص: 548

وأجابوا عن رواية: (فقد عتق منه ما عتق) أي: بإعتاق مالك الحصة حصته، وحصة الشريك تعتق بالسعاية ويكون الرقيق كالمكاتب، وهذا هو الذي جزم به البخاري، كما تقدم عند تخريج الحديث.

والذي يظهر أن قوله: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) محمول على ما إذا كان المعتِق فقيرًا والعبد لا قدرة له على السعاية، وقوله:(واستسعي العبد غير مشقوق عليه) على ما إذا كان العبد قادرًا على السعاية

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "سبل السلام"(4/ 283).

ص: 549

‌ما جاء في فضل عتق الوالد

1434/ 7 - عَنْ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيُعْتِقَهُ"، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "العتق"، باب (فضل عتق الوالد)

(1510)

من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي وَلَدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه" وفي رواية: "ولد والده".

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (لا يجزي) بفتح حرف المضارعة؛ أي: لا يكافئ الولد والده على فضله عليه وإحسانه إليه.

قوله: (إلَّا أن يجده مملوكًا) أي: عبدًا رقيقًا.

قوله: (فيعتقه) هكذا في النسخ "البلوغ" والمثبت في "الصحيح" -كما تقدم-: (فيشتريه فيعتقه) وظاهره أن الفاء للتعقيب؛ بمعنى أن الوالد لا يعتق بمجرد الشراء، بل لا بد من الإعتاق بعده، وسيأتي ما فيه.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على عظيم حق الوالدين، وأن برهما من أعظم الواجبات، ولذا قرن الله تعالى بر الوالدين والإحسان إليهما بحقه سبحانه وتعالى فقال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وقال

ص: 550

تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ} [لقمان: 14]، وسيأتي لهذا مزيد في كتاب "الجامع" إن شاء الله.

• الوجه الرابع: الحديث دليل على أن أفضل بر بالوالدين أو أحدهما هو أن يجد الإنسان أباه أو أمه رقيقًا مملوكًا فيشتريه ويعتقه؛ لأنه أخرجهما من أحكام العتق إلى حرية بني آدم.

• الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن الوالد الرقيق لا يعتق على ولده بمجرد شرائه وملكه له، بل لا بدَّ من إعتاقه بعد الشراء؛ لقوله:(فيعتقه)، وهذا مذهب الظاهرية، وعليه فلا يلزم العتق بالشراء بل إن أراد أن يعتقه فحسن.

وذهب الجمهور من العلماء إلى أنَّه يعتق بمجرد الشراء

(1)

، واستدلوا بأن الله تعالى أوجب علينا الإحسان إلى الأَبوين -كما تقدم- وليس من الإحسان أن يبقى والده رقيقًا في ملكه، فإذن يجب عتقه، إما لأجل الملك عملًا بالحديث، أو لأجل الاحسان عملًا بالآية

(2)

.

وأما لفظة: (فيعتقه) فإن الولد لما كان سببًا في عتق أبيه بشرائه إياه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه، ويؤيد هذا حديث سمرة رضي الله عنه الآتي - الدال على أن مجرد الملك سبب للعتق، فيكون قرينة لحمل لفظة:(فيعتقه) على المعنى المجازي، كلما تقدم، ويصير المعنى: فيشتريه فيعتقه بشرائه له، كما يقال: ضربه فقتله، والضرب هو القتل

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"بداية المجتهد"(4/ 240)، "المغني"(9/ 223 - 224).

(2)

"المفهم"(4/ 344).

(3)

"المغني"(9/ 224)، "المفهم"(4/ 345).

ص: 551

‌من ملك ذا رحم مَحْرمٍ عَتَقَ عليه

1435/ 8 - عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (33/ 338 - 377)، وأَبو داود في كتاب "العتق"، بابٌ (فيمن ملك ذا رحم محرم)(3949)، والتِّرمِذي (1365)، والنَّسائي في "الكبرى"(5/ 13)، وابن ماجة (2524) من طريق حمَّاد بن سلمة، عن قَتَادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه.

وهذا الحديث رجال إسناده ثقات، إلَّا أنَّه أُعل بعدة علل:

الأولى: أنَّه من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف في سماعه منه، لا سيما وأن الحسن مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وأما سماعه منه فقد قيل: إنه سمع منه، وقيل: لم يسمع منه شيئًا، وإنَّما هو كتاب، وقيل: إنه سمع منه حديث العقيقة فقط، وهذا ثابت، وأما غيره فهو محل نظر، وهذا هو الأقرب، وتقدم بيان ذلك في باب (الغسل) من كتاب "الطهارة".

الثانية: أن هذا الحديث تفرد به حمَّاد بن سلمة، قال التِّرمِذي: (هذا حديث لا نعرفه مسندًا إلَّا من حديث حمَّاد بن سلمة

قال: ويروى عن قَتَادة، عن الحسن، عن عمر هذا الحديث أيضًا)، وقال في "العلل": (سألت محمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه عن الحسن، عن سمرة إلَّا من حديث

ص: 552

حمَّاد بن سلمة)

(1)

، وقال أَبو داود:(لم يحدث ذلك الحديث إلَّا حمَّاد بن سلمة، وقد شك فيه).

والمراد أنَّه شك في وصله بذكر سمرة رضي الله عنه -كما رواه أَبو داود، والبيهقي (10/ 289) بسندهما عن موسى بن إسماعيل، عن حمَّاد، عن الحسن، عن سمرة فيما يحسب حمَّاد، قال البيهقي:(فكأنه كان يشك في ذكر سمرة في إسناده)

(2)

، ومما يؤيد ذلك كون الحديث جاء عن الحسن بدون ذكر سمرة به.

وعبارة البخاري وأبي داود فيها تضعيف الحديث، ولذا قال البيهقي:(وقد أشار البخاري إلى تضعيف الحديث، وقال علي بن المديني: هذا عندي منكر)

(3)

، وقال:(غير حمَّاد يرويه عن قَتَادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن قَتَادة، عن الحسن من قوله)

(4)

.

الثالثة: أنَّه اختلف فيه حمَّاد وشعبة، عن قَتَادة، فوصله حمَّاد -كما تقدم- وشعبة أرسله، فإنه رواه عن قَتَادة، عن الحسن مرسلًا، ذكره الزيلعي في "نصب الراية" والحافظ في "التلخيص" وقال:(شعبة أحفظ من حمَّاد)

(5)

؛ لأن حمادًا يخطئ في حديثه عن قَتَادة كثيرًا، كما قال الإِمام مسلم

(6)

.

والمقصود أن هذا الإسناد ضعيف، للاختلاف فيه على الحسن البصري، إضافة إلى العلة الأصلية، وهي رواية الحسن بالعنعنة مع أنَّه مدلس.

قال البيهقي: (الحديث إذا انفرد به حمَّاد بن سلمة، ثم يشك فيه، ثم يخالفه فيه من هو أحفظ منه، وجب التوقف فيه)

(7)

.

ورواه ابن أبي شيبة (6/ 32)، وأَبو داود (3951)(3952)، والنَّسائي في "الكبرى"(5/ 15) من طريق سعيد بن أبي عروبة. والنَّسائي -أيضًا - (5/ 14)

(1)

"العلل الكبير"(1/ 561).

(2)

"المعرفة"(14/ 406).

(3)

"المعرفة"(14/ 407).

(4)

"السنن الكبرى"(10/ 289).

(5)

"نصب الراية"(3/ 279)، "التلخيص"(6/ 3263).

(6)

"شرح العلل" لابن رجب (2/ 623).

(7)

"المعرفة"(14/ 406).

ص: 553

من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن قَتَادة، عن الحسن قوله. وقَرَنَ قَتَادة عندهم بالحسن جابر بن زيد.

قال أَبو داود: (وسعيد أحفظ من حمَّاد).

والحديث له شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، رواه ابن ماجة (2525)، والنَّسائي في "الكبرى"(5/ 23) من طريق ضمرة بن ربيعة، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم عتق".

قال النَّسائي: (لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان، غير ضمرة، وهو حديث منكر، والله أعلم).

ورواية عمر رضي الله عنه الموقوفة التي أشار إليها التِّرمِذي أخرجها أَبو داود (3950)، والنَّسائي في "الكبرى"(5/ 14 - 15) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قَتَادة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"من ملك ذا رحم محرم فهو حر"، وقَتَادة لم يدرك عمر رضي الله عنه، لكن روي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه، رواه النَّسائي (5/ 15 - 16) من طريق الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عمر رضي الله عنه، وذكر الاختلاف فيه على الحكم.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (من ملك) عام فيدخل فيه الملك بالشراء أو بالهبة وغير ذلك.

قوله: إذا رحم) بفتح الراء وكسر الحاء، أصله موضع تكوين الولد في بطن أمه، ثم استعمل للقرابة، فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح، وهو القريب الذي يحرم نكاحه لو كان أحدهما رجلًا والآخر امرأة.

قوله: (محرم) بفتح الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة، ويقال: محرم بالتشديد بصيغة اسم المفعول من التحريم، والمحرم: من لا يحل نكاحه من الأقارب كالأب والأخ والعم ومن في معناهم، كما سيأتي.

ص: 554

وهو بالجر على الجوار كقولهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وماءُ شَنٍّ باردٍ، وكان القياس النصب؛ لأنه صفة لـ (ذا رحم) لا نعتٌ لـ (رحم).

قوله: (فهو حر) أي: ذو الرحم المحرم ذكرًا كان أم أنثى يعتق على مالكه بسبب ملكه له.

• الوجه الثالث: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على أن من ملك شخصًا بينه وبينه رحم محرمة للنكاح فإنه يعتق عليه بمجرد ملكه له، ويكون حرًّا، فإذا ملك أباه أو أمه أو أخته أو عمه أو عمته أو نحوهم بشراء أو بهبة أو غنيمة أو إرث عتق عليه، ويدخل في عموم الحديث الآباء وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات لا أولادهم.

وهذا قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، والحسن وجابر بن زيد وعطاء وغيرهم، وهو مذهب أبي حنيفة، والمشكور من مذهب الإِمام أحمد

(1)

.

وذهب الشَّافعي إلى أنَّه لا يعتق بالملك إلَّا الآباء والأبناء، أما الآباء فلحديث: "لا يجزي ولد والده

، وأما الأبناء فبالقياس على الآباء، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد

(2)

.

وهذا مبني على عدم صحة حديث سمرة رضي الله عنه.

وقال مالك: يعتق الآباء والأبناء، والإخوة والأخوات قياسًا على الآباء

(3)

.

وقالت الظاهرية: لا يعتق أحد من الأقارب بمجرد الملك، سواء الوالد أو الولد أو غيرهما، بل لا بد من إنشاء العتق، مستدلين بحديث أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه المتقدم

(4)

، والراجح القول الأول؛ لأن حديث الباب يعتضد بقول الصحابة رضي الله عنهم. والله تعالى أعلم.

(1)

"المغني"(9/ 223)، "الإنصاف"(7/ 401).

(2)

"المهذب"(2/ 6)، "المغني"(9/ 224).

(3)

"بداية المجتهد"(4/ 240).

(4)

"بداية المجتهد"(4/ 239) وقارنه بـ "المحلى"(9/ 200).

ص: 555

‌حكم من أعتق عبيده عند موته وهم كل ماله

1436/ 9 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُم، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَينَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَينِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَة، وَقَال لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه مسلم في كتاب "الإيمان"، باب (من أعتق شركًا له في عبد)(1668) من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلًا أعتق

وذكر الحديث.

• الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (ستة مملوكين له) أي: ستة أعبد، وقد جاء في رواية أبي داود، والنَّسائي، بلفظ:"ستة أعبد"

(1)

.

قوله: (عند موته) على حذف مضاف؛ أي: عند مرض موته، وظاهر هذا أنَّه نجَّز عتقهم في هذه الحال.

قوله: (فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: طلب هؤلاء المماليك الستة ليحضروا إليه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"سنن أبي داود"(3958)، "السنن الكبرى" للنسائي (5/ 35).

ص: 556

قوله: (فجزأهم أثلاثًا) بتشديد الزاي المعجمة، ويجوز تخفيفها، لغتان مشهورتان؛ أي: قسمهم ثلاث حصص، كل عبدين على حدة.

قوله: (ثم أقرع بينهم) أي: هيأهم للقرعة، والقرعة -بضم القاف-: استهام يتعين به نصيب الإنسان، ولها طرق كثيرة.

قوله: (وأرق أربعة) بتشديد القاف، فعل ماض معدى بالهمزة، من رق الثلاثي اللازم، يقال: رَقَّ الشخص يَرِقُّ - بالكسر - من باب ضرب فهو رقيق، ويتعدى بالحركة وبالهمزة، فيقال: رقَّقته وأرقُّه من باب قتل، وأرققته فهو مرقوق

(1)

؛ والمعنى هنا: أبقى حكم الرق على الأربعة.

قوله: (وقال له قولًا شديدًا) أي: غلظ له بالقول والذم والوعيد كراهية لفعله وسوء تصرفه حيث زاد عتقه على الثلث، ومنع الورثة حقوقهم، وقد جاء في رواية عند أبي داود من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي زيد الأنصاري؛ بمعنى هذا الحديث وقال: -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين"

(2)

.

• الوجه الثالث: الحديث دليل على أن العتق في مرض الموت يأخذ حكم الوصية، فلا ينفذ إلَّا فيما أذن فيه الشرع وهو الثلث فأقل، فإذا كان العتق لجماعة من العبيد ولم يحملهم الثلث وقد تساوت قيمتهم -ويغتفر التفاوت اليسير- وكان لهم ثلث صحيح كستة أعبد، قيمة كل اثنين منهم ثلث المال، جعلنا كل اثنين منهم ثلثًا، وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن وقع لهما سهم الحرية عتقا، ورقَّ الباقون، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم؛ لأن قول الراوي:(فجزأهم ثلاثًا) ظاهره أنَّه اعتبر عدد أشخاصهم دون قيمتهم، وإنما فعل ذلك لتساويهم في القيمة والعدد.

(1)

"المصباح المنير" ص (235).

(2)

"سنن أبي داود"(3960)، ورواه النَّسائي في "الكبرى"(5/ 35)، وأحمد (37/ 97)، وهو حديث ضعيف لانقطاعه والاختلاف في سنده، ونكارة متنه، والمحفوظ ما رواه أيوب عن أبي قلابة، كما أخرجه مسلم.

ص: 557

وذهبت الحنفية إلى أنَّه يعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى كل واحد منهم في ثلثي قيمته للورثة

(1)

، كما تقدم في حديث السعاية، قالوا: وحديث الباب مخالف للقياس، وذلك لأن السيد قد أوجب لكل واحد من عبيده الستة العتق، ولو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع، وإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز تصرف السيد فيه.

والصواب الأول فإن قوله: (فأعتق اثنين وأرق أربعة) نص صريح في أنَّه لم يُعْتِقْ منهم إلَّا اثنين، وفيه رد على الحنفية القائلين يعتقون جميعًا.

والقول بالاستسعاء فيه ضرر كبير؛ لأن الورثة لن يحصل لهم شيء في الحال، وقد لا يحصل من السعاية شيء، أو يحصل شيء يسير لا قيمة له، ثم إن فيه ضررًا على العبيد لإلزامهم السعاية من غير اختيارهم

(2)

.

وقولهم: إن الحديث مخالف للقياس فلا يعمل به، مردود؛ لأن القياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار، ولو سلمنا أنَّه ليس بفاسد لكان القياس مع هذا الحديث كالدليلين المتعارضين، فيكون الأخذ بالحديث أولى، لكثرة الاحتمالات الواردة على القياس بخلاف النص

(3)

.

• الوجه الرابع: الحديث نص واضح في صحة اعتبار القرعة شرعًا لتمييز الحقوق، والقول بمشروعيتها هو قول الجمهور من أهل العلم، لدلالة الكتاب والسنة القولية والعملية على ذلك، وفعلها الصحابة رضي الله عنهم، وقد تقدم الكلام على مسألة القرعة في باب (القسم) من كتاب "النكاح"

(4)

. والحمد لله رب العالمين.

(1)

"شرح معاني الآثار"(4/ 384).

(2)

"نيل الأوطار"(12/ 288).

(3)

"المفهم"(4/ 357).

(4)

انظر: الحديث (1070).

ص: 558

‌من أعتق مملوكه وشرط خدمته

1437/ 10 - عَن سَفِينَةَ رضي الله عنه قَال: كُنْتُ مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالت: أَعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

• الكلام عليه من وجوه:

• الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سفينة -بفتح السين

(1)

- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه صلى الله عليه وسلم، وكنيته أَبو عبد الرحمن، واختلف في اسمه على واحد وعشرين قولًا، سردها الحافظ في "الإصابة"، فقيل: مهران، وقيل: مروان، وقيل غيرهما، كان أصله فارسيًّا، فاشترته أم سلمة رضي الله عنها، ثم أعتقته واشترطت عليه ما ذكر في حديث الباب، وقال أَبو حاتم: "كان من مولدي الأعراب، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه). وكان رضي الله عنه رجلًا قويًّا، وقد روى الإِمام أحمد بسنده عن سعيد بن جُمْهان

(2)

، عن سفينة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فكلما أعيا بعض القوم ألقى عليَّ سيفه وترسه ورمحه، حتَّى حملت من ذلك شيئًا كثيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت سفينة"

(3)

، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأم سلمة وعلي رضي الله عنهما وروى عنه ابناه: عبد الله وعمر، وسالم بن عبد الله بن عمر وغيرهم

(4)

.

(1)

"المغني" ص 11291.

(2)

بضم الجيم وسكون الميم، كما في "المغني" ص (62).

(3)

"المسند"(36/ 253).

(4)

"الجرح والتعديل"(4/ 320)، "زاد المعاد"(1/ 115 - 116)، "الإصابة"(4/ 215).

ص: 559

• الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (36/ 255)، وأَبو داود في كتاب "العتق"، بابٌ (في العتق على الشرط)(3932)، والنَّسائي في "الكبرى"(5/ 41 - 42)، وابن ماجة (2526)، والحاكم (2/ 213 - 214) من طريق سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة قال: كنت مملوكًا لأم سلمة

وذكر الحديث، وتمامه: فقلت: إن لم تشترطي على ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت، فاعتقتني واشترطت عليَّ. وهذا لفظ أبي داود، وهذه الزِّيادة ليست عند أحمد.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي، والحديث في سنده سعيد بن جُمْهان الأسلمي، وهو مختلف فيه، وقد وثقه جماعة منهم الإِمام أحمد وابن معين والنَّسائي وأَبو داود، وقال البخاري:(في حديثه عجائب)، وقال الساجي:(لا يتابع على حديثه)، وقال أَبو حاتم:(شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال ابن عدي:(روى عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره، وأرجو أنَّه لا بأس به، فإن حديثه أقل من ذلك)

(1)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق له أفراد).

• الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق مدة معلومة، فيقع العتق منجزًا مع اشتراط نفعه للمعتق أو اشتراط نفعه لغير المعتق، قال البغوي:(لو قال رجل لعبد: أعتقتك على أن تخدمني شهر) فقبل، عتق في الحال، وعليه خدمة شهر. . .)

(2)

.

وقد استدل الفقهاء بهذا الحديث على جواز العتق المعلق على شرط، قال ابن رشد:(اتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتَق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق)

(3)

.

والظاهر - والله أعلم - أن قصة سفينة ليست من باب تعليق العتق على الشرط، وإنما هي من باب استثناء منافع العبد

(4)

، وبينهما فرق؛ لأنه على الأول لا يقع العتق إلَّا بوقوع الشرط، وعلى الثاني يقع العتق في الحال، والله أعلم.

(1)

"الكامل"(3/ 402)، "تهذيب التهذيب"(4/ 13).

(2)

"شرح السنة"(9/ 376).

(3)

"بداية المجتهد"(4/ 246).

(4)

"توضيح الأحكام"(6/ 205).

ص: 560

‌ما جاء في أن الولاء لمن أعتق

1438/ 11 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ في حَدِيثٍ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم تخريجه وشرحه في كتاب "البيوع" برقم (791)، وقد رواه البخاري في أكثر من عشرين موضعًا من "صحيحه"، ومنها في كتاب "المكاتب"(2560) من طريق يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه مسلم (1504)(7) من عدة طرق، ومنها: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة رضي الله عنها.

وقد ذكره الحافظ في "البيوع" مطولًا للاستدلال به على صحة الشروط المشروعة وبطلان غيرها، وساقه هنا مختصَرًا مقتصِرًا على القدر المطلوب.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (إنما) أداة قصر، تفيد قصر الولاء لمن أعتق، سواء أكان رجلًا أم امرأة، ونفيه عمن لم يعتق، وقوة هذا الكلام قوة النفي والإيجاب، فكأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق.

قوله: (الولاء لمن أعتق) الولاء: بالمد أصله السلطة والنصرة ويطلق على القرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة؛ أي: الولاء الذي سببه العتق، وهو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق.

ص: 561

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الولاء لمن أعتق الرقيق لا لمن باعه ولا لغيره؛ لأن الحديث سيق مساق الحصر كما تقدم، ووجه ذلك ما تقدم من كون الرقيق في حكم المعدوم إذ لا تصرف له في نفسه، وإنما يتصرف فيه بالبيع والشراء والهبة، فكان عتقه كإخراجه من العدم إلى الوجود، لما في عتقه من تخليصه من أسر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمام تصرفه، فاستحق معتقه الولاء الذي هو عُلقة وارتباط بين المعتِق والمعتَق، كعلقة وارتباط النسب، وتترتب عليها أحكام شرعية، لكنها أقل من أحكام النسب، ومنها أن المعتق يرث عتيقه ولا ينعكس، وغير ذلك من الأحكام المدونة في كتب الفقه. والله تعالى أعلم.

ص: 562

‌من أحكام الولاء

1439/ 12 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ". رَوَاهُ الشَّافِعيُّ، وَصَحّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَأَصْلُهُ في الصَّحِيحَينِ بِغَيرِ هذَا اللَّفْظِ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم ذكره في باب "الفرائض" برقم (958)، وقد أخرجه الشافعي (2/ 59 "ترتيب مسنده") ومن طريقة الحاكم (4/ 231)، والبيهقي (10/ 292) عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.

قال الحاكم: (صحيح الإسناد)، ورده الذهبي مشنِّعًا عليه بقوله:(قلت: بالدَّبُّوس!)

(1)

.

وعلة الحديث محمد بن الحسن وهو الشيباني، ويعقوب بن إبراهيم وهو أبو يوسف القاضي، صاحبا أبي حنيفة، وهما وإن كانا فقيهين كبيرين في مذهب الحنفية إلا أنهما ليسا من الإثبات في الرواية، فقد ضعفهما غير واحد من الأئمة، وذكرهما الذهبي في "الضعفاء"، فقال عن محمد بن الحسن:(ضعفه النسائي وغيره)، وقال عن يعقوب: (قال البخاري: تركوه، وقال

(1)

الدَّبُّوس: بوزن تَنُّور: واحد الدبابيس، للمقامع من حديد وغيره. انظر:"تاج العروس"(16/ 49)، "مختصر استدراك الذهبي" لابن الملقن (6/ 3084).

ص: 563

الفلاس: كان أبو يوسف صادقًا كثير الغلط)

(1)

، ثم إن الحديث فيه علة أخرى وهي تفرد أبي يوسف عن ابن دينار وهو ممن لا يحتمل تفرده.

والحديث أعلَّه البيهقي، فقال: (هذا اللفظ بهذا الإسناد غير محفوظ،

وروي من أوجه أُخر ضعيفة، وأصح ما روي فيه حديث هشام بن حسان، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره، وهذا مرسل"

(2)

.

ورواه ابن حبان (11/ 325 - 326) عن أبي يعلى الموصلي، عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن دينار، به.

وفي هذا الإسناد زاد بشر بن الوليد عبيد الله بن عمر

(3)

، وبشر بن الوليد متكلم فيه، فقد أثنى عليه الإمام أحمد، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

، وقال صالح جَزَرَة:(هو صدوق، ولكنه لا يعقل، كان قد خَرِفَ)، وقال الآجُري: سألت أبا داود أبشر بن الوليد ثقة؟ قال: (لا). قال البيهقي عن الإسناد الأول: (كذا رواه -يعني الشافعي- عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، وكأنه رواه محمد بن الحسن للشافعي من حفظه فزلَّ عن ذكر عبيد الله بن عمر في إسناده

)، وقال:(هذا اللفظ بهذا الإسناد غير محفوظ، ورواه الجماعة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته).

وقول الحافظ: (وأصله في "الصحيحين" بغير هذا اللفظ) يشير بذلك إلى

(1)

"الضعفاء" ص (346، 445).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (6/ 123). وانظر: "معرفة السنن"(14/ 410)، "السنن الكبرى"(10/ 292).

(3)

انظر: "فتح الباري"(12/ 44).

(4)

"الجرح والتعديل"(2/ 369)، "الثقات"(8/ 143)، "لسان الميزان"(2/ 316).

ص: 564

ما تقدم في كتاب "البيوع" برقم (797) وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. رواه البخاري برقم (2535) من طريق شعبة، وبرقم (6756) من طريق سفيان، ومسلم (1506) من طريق سليمان بن بلال، ثلاثتهم عن عبد الله بن دينار، سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (الولاء) الولاء: بفتح الواو مع المد، لغة: السلطة والنصرة، ويطلق على القرابة، فيقال: بينهما ولاء؛ أي: قرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة، وهو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، وتقدم هذا.

قوله: (لحمة كلحمة النسب) اللُّحْمة: بضم اللام وسكون الحاء، ويجوز فتح اللام، هي القرابة والعلاقة، وأصل اللَّحمة: بفتح اللام، والضم لغة: خيوط النسيج العرضية في الثوب يُلحم بها السَّدَى وهو ما يُمَدُّ طولًا؛ والمعنى: أن الولاء ارتباط وعلقة بين المعتق وعتيقه كعلقة وارتباط النسب؛ ومعنى تشبيهه بلحمة النسب: أنه يجري الولاء مجرى النسب في الميراث، كما تخالط اللحمة سَدَى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد؛ لما بينهما من المداخلة الشديدة

(1)

.

قوله: (لا يباع ولا يوهب) أي: لا يجوز التنازل عنه بثمن ولا بغير ثمن لشخص آخر؛ لأن هذه العصوبة أمر معنوي، كالنسب الذي لا يتأتى انتقاله من شخص إلى شخص آخر، فلو قال: يا فلان بعتك قرابتي من أخي أو وهبتك إياها؛ ما صار أخًا لهذا الشخص، فكذا ولاء العتق.

* الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على النهي عن بيع الولاء وعن هبته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب، والنسب لا ينتقل بعوض ولا بغير عوض، ووجه التشبيه: أن السيد لما أعتق عبده أخرجه من حيِّز المملوكية التي

(1)

انظر: "النهاية"(4/ 240)، "المعجم الوجيز" ص (307، 553).

ص: 565

ساوى بها البهائم إلى حيز المالكية التي امتاز بها عن سائر ما عداه من الحيوانات والجمادات، فأشبه بذلك الولادة التي هي سبب لإخراج المولود من العلم إلى الوجود وإلى التفرغ لعبادة الله تعالى

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"العذب الفائض"(1/ 19).

ص: 566

‌باب المُدَبَّرِ والمُكَاتَبِ وأُمِّ الوَلَدِ

المدبر: بفتح الباء مشددةً بوزن اسم المفعول، من وقع عليه التدبير، وهو مصدر دبر العبد والأمة تدبيرًا، والتدبير في اللغة: النظر في عواقب الأمور.

وشرعًا: تعليق العتق بالموت، سمي تدبيرًا؛ لأنه يعتق بعد ما يدبر سيده؛ أي: يموت، والممات دبر الحياة، أو لأن فاعله دبر أمر دنياه وآخرته، أما دنياه فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وبهذا راجع للأول

(1)

.

ولفظ التدبير مختص بالعتق بعد الموت، فلا يستعمل في غيره من وصية أو وقف أو غيرهما.

والمكاتب: بفتح التاء هو العبد الذي وقعت عليه الكتابة.

والكتابة لغة: اسم مصدر، بمعنى المكاتبة، يقال: كاتب السيد عبده يكاتبه مكاتبة، وأصل الكتابة: الشيء المكتوب، ثم كثر استعمالها في المكاتبة وإن لم يُكتب شيء.

وشرعًا: شراءُ العبدِ نفسَهُ من سيده.

وذلك بأن يقع عقد بين الرقيق وسيده على أن يدفع الرقيق له مبلغًا من المال نجومًا -أي: أقساطًا- ليصير بذلك حرًّا.

والأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع.

(1)

"فتح الباري"(5/ 421).

ص: 567

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيرًا} [النور: 33]، وأما السنة فأحاديث الباب، وقد أجمعت الأمة على مشروعية الكتابة.

وأما أم الولد: فهي التي ولدت من سيدها في ملكه، بأن يطأها السيد فتضع ما تبين فيه خلق إنسان، فتعتق بموته من رأس ماله، ولا خلاف في إباحة التسري ووطء الإماء.

ص: 568

‌حكم بيع المُدَبَّرِ

1440/ 1 - عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُ، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمِائَةِ درهم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَفي لَفْظٍ لِلْبُخَارِي: فَاحْتَاجَ. وَفي رِوَايَةٍ للنَّسَائِيِّ: وَكَانَ عَلَيهِ دَينٌ فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأعْطَاهُ، وَقَال:"اقْضِ دَينَكَ".

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث تقدم مختصرًا في كتاب "البيوع" برقم (787)، وقد رواه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه"، ومنها في كتاب "كفارات الأيمان"، باب (عتق المدبر)(6716)، ومسلم (997) من طريق عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار دبر مملوكًا له، ولم يكن له مال غيره، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن النَّحام بثمانمائة درهم

هذا لفظ البخاري.

ورواه البخاري في "البيوع"، باب (بيع المزايدة)(2141) من طريق الحسين المكتب، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه.

ورواه النسائي في "الصغرى"(8/ 246)، وفي "الكبرى"(5/ 44) من طريق محاضر بن المورِّع، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن

ص: 569

جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أعتق رجل من الأنصار غلامًا له عن دبر وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم فأعطاه، فقال:"اقض دينك، وأنفق على عيالك".

وهذا سند حسن، محاضر بن المورع تكلم فيه أبو حاتم وأحمد، وقال أبو زرعة:(صدوق)، وقال النسائي:(ليس به بأس)

(1)

، وقال ابن عدي: (محاضر هذا قد روى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة

ولم أر في رواياته حديثًا منكرًا فأذكره، إذا روى عنه ثقة)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق له أوهام).

لكنه تفرد عن الأعمش بهذه الزيادة على ما في "الصحيحين"، وقد ذكر الإمام مسلم في "التمييز" أن المحفوظ في حديث جابر رضي الله عنه هو ذكر البيع، وأن ما جاء من الزيادات كذكر الدين فَخَطَأٌ لم يحفظ

(3)

. والحديث رواه البخاري (2230) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل به مختصرًا، بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (غلامًا له) أي: عبدًا، وأصل الغلام الابن الصغير، وقد يطلق على الرجل باعتبار ما كان، وهذا الغلام كان قبطيًّا اسمه يعقوب، مات في إمارة ابن الزبير.

قوله: (عن دُبُر) بضم الدال والباء؛ أي: بعد موته، وأصل الدبر: خلاف القُبُل من كل شيء، ومنه يقال لآخر الأمر: دُبُر، وأصله ما أدبر عنه الإنسان، ومنه دَبَّرَ الرجل عبده تدبيرًا، إذا أعتقه بعد موته

(4)

، بأن يقول السيد لرقيقه: أنت حر بعد موتي.

قوله: (نُعيم بن عبد الله) بضم النون هو نعيم بن عبد الله بن أَسيد -بفتح

(1)

انظر: "تهذيب التهذيب"(10/ 47).

(2)

"الكامل"(6/ 441)، وانظر:"معرفة أصحاب الأعمش" ص (195).

(3)

انظر: "التمييز" ص (146 - 149).

(4)

"المصباح" ص (188).

ص: 570

الهمزة- القرشي العدوي المعروف بابن النَّحام

(1)

، وقد وقع كذلك في رواية للبخاري (2248) وقال القاضي عياض: الصواب إسقاط ابن

(2)

، وتبعه النووي وآخرون، فيكون النحام لقبًا لـ (نُعيم) مستدلين بحديث:(دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة من نُعيم)، ورجح الحافظ إثباتها؛ لأن هذا جاء في الروأيات الصحيحة، والحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف، ولعل أباه -أيضًا- كان يقال له النحام.

أسلم قبل عمر رضي الله عنه ولكن لم يهاجر إلا قبيل فتح مكة؛ لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم، فلما أراد أن يهاجر قال له قومه: أقم على أي دين شئت، استشهد رضي الله عنه بأجنادين

(3)

في آخر خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة، وقيل: في اليرموك

(4)

سنة خمس عشرة

(5)

.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز بيع العبد المدبر قبل موت سيده، وقياسًا على بيع العبد الموصى بعتقه، فإنه جائز إجماعًا

(6)

.

وظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باع هذا المدبر لما علم أن صاحبه لا يملك شيئًا غيره، لما في رواية للبخاري: (أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج

)، وفي الرواية الأخرى:(لم يكن له مال غيره)، والقول بأنه لا يباع إلا لحاجة من دين أو نفقة هو قول الحسن وعطاء، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره ابن دقيق العيد

(7)

.

(1)

النحمة: بفتح النون وإسكان الحاء، الصوت، وقيل: السعلة، وقيل: النحنحة.

(2)

"مشارق الأنوار"(1/ 94).

(3)

أجنادين: بفتح الهمزة، وفتح الدال وكسر النون بصيغة التثنية، ويجوز كسر الدال وفتح النون بلفظ الجمع، موضع بالشام من نواحي فلسطين، كانت به وقعة بين المسلمين والروم. انظر:"معجم البلدان"(1/ 103).

(4)

اسم وادٍ بناحية الشام يصب في نهر الأردن، كانت به وقعة بين المسلمين والروم. انظر:"معجم البلدان"(5/ 434).

(5)

"الاستيعاب"(10/ 324)، "الإصابة"(10/ 175)، "فتح الباري"(5/ 166).

(6)

"الإعلام"(10/ 419).

(7)

"إحكام الأحكام" بحاشية الصنعاني (4/ 569).

ص: 571

والقول الثاني: جواز بيعه مطلقًا، سواء باعه لحاجة أم لا، وهذا قول الشافعي، والمشهور من مذهب الإمام أحمد

(1)

، قالوا: إنه لما جاز بيعه في صورة من صور البيع؛ جاز في كل صورة؛ ولأنه شبيه بالوصية التي يجوز الرجوع عنها ما دام الموصي في حال الحياة.

وأجابوا عن قوله: (فاحتاج) بأنه لا مدخل له في الحكم، وإنما ذكره لبيان السبب في المبادرة لبيعه، ليتبين للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى.

والقول الثالث: أنه لا يجوز بيع المدبر، وهو قول ابن عمر وسعيد بن المسيب والشعبي وآخرين، وهو قول أبي حنيفة ومالك

(2)

؛ لأن المدبر استحق العتق بموت سيده فأشبه أم الولد، واستدلوا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

والقول الأول فيه وجاهة كما ترى؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة

(3)

.

* الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية التدبير وصحته، وهذا أمر متفق عليه، لكن الخلاف في نفوذه، هل هو من رأس المال أو من الثلث؟ فذهب الجمهور إلى أنه يحسب من الثلث، قياسًا على الوصية بجامع النفوذ بعد الموت.

وذهبت الظاهرية وجماعة من السلف إلى أنه يحسب من رأس المال، قياسًا على الهبة ونحوها مما يخرجه الإنسان من ماله في حياته

(4)

، والقول الأول أقوى، لقوة مأخذه.

* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أنه ينبغي لمن ليس عنده سعة في الرزق وبسطة في المال أن يهتم بنفسه ومن يعول من زوجته وأولاده فهم

(1)

"المجموع"(9/ 244)، "المغني"(12/ 316)(14/ 419 - 420).

(2)

"شرح فتح القدير"(6/ 406)، "حاشية الدسوقي"(4/ 383).

(3)

انظر: "الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها"(1/ 170).

(4)

"المغني"(14/ 413)، "سبل السلام"(4/ 290).

ص: 572

أولى من غيرهم، وقد جاء في هذا الحديث عند مسلم زيادة:(ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك). أما من وسع الله عليه في رزقه فعليه أن يغتنم الفرص وينفق في طرق الخير، قال تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

* الوجه السادس: في نظر النبي صلى الله عليه وسلم في مصلحة هذا الرجل وبيعه مدبره دليل على مشروعية نظر الإمام أو من ينيبه في مصالح رعيته وأمره إياهم بما فيه الرفق لهم وبإبطال ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها

(1)

، والله أعلم.

(1)

"الإعلام"(10/ 421).

ص: 573

‌حكم المكاتب يؤدي بعض كتابته

1441/ 2 - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "الْمُكَاتبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيهِ مِنْ مُكَاتبَتِهِ دِرْهَمٌ"، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بإسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّلَاثةِ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

* الكلام عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أبو داود في أول كتاب "العتق"، بابٌ (في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت)(3926) من طريق إسماعيل بن عياش، حدثني سليمان بن سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا.

وهذا سند حسن -كما قال الحافظ- لما تقدم في عدة مواضع من أن مرويات عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده من قبيل الحديث الحسن إذا لم ينفرد بأصل لم يروه غيره، ولم يخالف من هو أوثق منه.

وإسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذه منها، وسليمان بن سليم الشامي القاضي بحمص، ثقة عابد -كما في "التقريب".

وروى الحديث أحمد (11/ 337)، وأبو داود (3927) في الموضع السابق، والنسائي في "الكبرى"(5/ 52 - 53)، والحاكم (2/ 218) كلهم من طريق همام، حدثنا عباس الجُريري، ورواه الترمذي (1260) من طريق يحيى بن أبي أُنيسة، والنسائي (5/ 52)، وابن ماجه (2519) من طريق حجاج، ثلاثتهم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواقٍ فهو عبد، وأيما عبد

ص: 574

كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد". ولفظ الترمذي وابن ماجه والنسائي في الموضع الثاني أخصر.

قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد) وسكت عنه الذهبي، وعباس الجُريري -بضم الجيم- ثقة، روى له الجماعة

(1)

، والحجاج -وهو ابن أرطاة- مدلس، ويحيى بن أبي أُنيسة ضعيف، وقد نقل البيهقي عن الشافعي ما يدل على ضعف هذا الحديث

(2)

.

* الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المكاتب لا يعتق ويكون له حكم الأحرار حتى يؤدي ما عليه من مال الكتابة، فإن بقي عليه شيء فهو عبد تجري عليه أحكام الرقيق، وهذا مذهب الجمهور

(3)

، وهو مروي عن عمر وزيد وابن عمر وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين

(4)

.

ومما يؤيد ذلك حديث عائشة رضي الله عنهما في قصة بريرة، فإن بريرة قد بيعت على عائشة رضي الله عنها بعد أن كاتبت، ولو كان المكاتب يصير بنفس الكتابة حرًّا لامتنع بيعها

(5)

.

وعلى هذا فلو مات العبد قبل استكمال أداء دين الكتابة ولو قليلًا فهو رقيق، ماله الذي وراءه كله لسيده، وكذا لو قتل فهو رقيق يُضمن بقيمته

(6)

. وفي المسألة خلاف تراجع له الكتب المطولة، وبعضه يأتي في الحديث الذي بعد هذا، وقد ذكر ابن القيم في المسألة ستة أقوال

(7)

. والله تعالى أعلم.

(1)

انظر: "تهذيب الكمال"(14/ 238).

(2)

انظر: "معرفة السنن والآثار"(14/ 445)، "التلخيص"(6/ 3282).

(3)

"المغني"(14/ 452)، "فتح الباري"(5/ 195).

(4)

"المغني"(14/ 452).

(5)

"فتح الباري"(5/ 195).

(6)

"المغني"(14/ 465).

(7)

"الاستذكار"(23/ 229)، "تهذيب مختصر السنن"(5/ 385).

ص: 575

‌حكم المكاتب عنده ما يؤدي

1442/ 3 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالتْ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُن مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحِّحَهُ التِّرْمذِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (44/ 73)، وأبو داود في كتاب "العتق"، بابٌ (في المكاتب يؤدي بعض كتابته

) (3928)، والترمذي (1261)، والنسائي في "الكبرى"(5/ 54)، وابن ماجه (2520) من طريق الزهري، قال: حدثني نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعًا.

قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) وفي سنده نبهان -وهو مولى أم سلمة ومكاتبها- وهو مجهول، لم يذكروا في الرواة عنه إلا الزهري

(1)

، ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، مع أن الدارقطني لما ذكر في "العلل" طريق محمد بن عبد الرحمن عن نبهان، أفاد: أنه غير محفوظ، والمحفوظ عن الزهري

(2)

، وقال الإمام أحمد:(نبهان روى حديثين عجيبين؛ يعني: هذا الحديث، وحديث: "أفعمياوان أنتما؟ ")، وقال ابن حزم:(لا يوثَّق)، وقال ابن عبد البر:(مجهول)، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، وهذا من تساهله، وقال الحافظ في "التقريب":(مقبول)، أي: حيث يتابع وإلا فهو لين، وقد تفرد بهذا الحديث فلم يتابع.

(1)

انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 327).

(2)

"العلل"(15/ 231 - 232).

(3)

(5/ 486).

ص: 576

* الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: إن المكاتب إذا كان معه من المال ما يفي بما عليه من دين الكتابة فإن مولاته التي كاتبته تحتجب منه؛ لأنه قد صار حرًّا، وإن لم يكن سلم هذا المال إليها، وهذا أحد الأقوال في مسألة المكاتب يؤدي بعض ما عليه، وهو أنه إذا ملك ما يؤدي عتق بنفس ملكه قبل أدائه، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد

(1)

، وعلى هذا القول فلو مات بعد ملكه ما يؤدي قبل الأداء مات حرًّا، يُدفع إلى سيده مقدار كتابته والباقي لورثته، وهذا الحديث معارض لحديث عمرو بن شعيب المتقدم؛ لأن ظاهر هذا أن العبد له حكم الحر إذا كان عنده ما يؤدي به دين الكتابة، وحديث عمرو يدل على أنه رقيق ما بقي عليه درهم.

* الوجه الثالث: ظاهر الأمر بالاحتجاب الوجوب.

والقول الثاني: أن الأمر بالاحتجاب منه للندب، والصارف له حديث عمرو بن شعيب، فإنه قد دل على أن حكم المكاتب قبل تسليم جميع مال الكتابة حكم العبد، والعبد يجوز له النظر إلى سيدته كما هو مذهب أكثر السلف

(2)

.

والصواب أنه لا يكون حكمه حكم الأحرار بمجرد وجوده لما يؤدي، بل هو عبد ما بقي عليه درهم، فكيف إذا كان دين الكتابة كله عنده لم يؤد منه شيئًا؟!

وحديث أم سلمة ضعيف لا يعتمد عليه لما تقدم، والمعول على حديث عمرو بن شعيب.

ومما يدل على ضعف حديث أم سلمة عمل عائشة رضي الله عنهما بخلافه، فقد روى ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق عمرو بن ميمون بن مهران، عن سليمان بن يسار، عن عائشة رضي الله عنهما قال: استأذنت عليها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان بن يسار، قالت: كم عليك من مكاتبتك؟ قلت: عشر أواق، قالت: ادخل، فإنك عبد ما بقي عليك درهم

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

"الإنصاف"(7/ 451).

(2)

"تفسير ابن كثير"(6/ 50).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 147)، "سنن البيهقي"(10/ 324) وإسناده صحيح.

ص: 577

‌ما جاء في دية المكاتب

1443/ 4 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "يُوْدَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَبَقَدْرِ مَا رقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (3/ 415)(4/ 186)، وأبو داود في كتاب "الديات"، بابٌ (في دية المكاتب)(4581)، والنسائي (8/ 46) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب: "يعتق منه بقدر ما أدى دية الحر، وبقدر ما رق منه دية العبد" هذا لفظ أحمد في الموضع الأول، وفي الموضع الثاني بلفظ "البلوغ"

(1)

.

وهذا إسناد ظاهره الصحة، إلا أنه معلول؛ لأنه قد اختلف في وصله وإرساله

(2)

، فإن هذا الحديث مداره على عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وقد رواه عنه يحيى بن أبي كثير، وأيوب السختياني، ويحيى بن سعيد القطان، وخالد الحذاء، وفي أسانيده اختلاف كثير.

فقد روي عن عكرمة موصولًا بذكر ابن عباس كما تقدم، وروي عن عكرمة مرسلًا ليس فيه ابن عباس، وروي عن عكرمة من قوله، كما روي عن عكرمة بذكر علي رضي الله عنه، وروي عنه عن علي موقوفًا.

(1)

انظر: "حاشية السندي على المسند"(2/ 301).

(2)

"فتح الباري"(5/ 195).

ص: 578

وقد أعل البخاري رواية عكرمة، عن ابن عباس مشيرًا إلى الاختلاف، فإن الترمذي لما سأله عن هذا الإسناد، قال:(روى بعضهم هذا الحديث عن عكرمة، عن علي)

(1)

، وقال البيهقي: (حديث عكرمة إذا وقع فيه الاختلاف وجب التوقف فيه

(2)

، وهذا المذهب إنما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أنه يعتق بقدر ما أدى، وفي ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم نظر، والله أعلم)

(3)

.

وهذا الموقوف رواه النسائي في "الكبرى"(5/ 52)، وابن أبي شيبة (9/ 396) من طريق إسماعيل بن علية، وعبد الرزاق (8/ 412) عن معمر، كلاهما عن أيوب، عن عكرمة، عن علي رضي الله عنه قال:(يُوْدَى المكاتب بقدر ما أدى) هذا لفظ إسماعيل، ولفظ معمر:(المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى).

ورواه النسائي في "الكبرى"(5/ 52) من طريق سفيان، عن خالد، عن عكرمة، عن علي رضي الله عنه قال:(إذا أدى النصف فهو غريم)

(4)

، وقد علق الترمذي رواية خالد هذه في "جامعه"(2/ 538).

فاتفاق اثنين من أصحاب عكرمة وهما: أيوب وخالد الحذاء على وقفه على علي رضي الله عنه يؤيد كلام البيهقي، لكن رواية عكرمة عن علي معلولة بالإرسال، فقد قال أبو زرعة:(عكرمة عن علي رضي الله عنه مرسل)

(5)

، ومثل هذا قال البيهقي.

لكن رواه النسائي (8/ 46) من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس، عن علي رضي الله عنه، ورواه عبد الرزاق (8/ 410) عن معمر، عن قتادة، أن عليًّا

(6)

قال في المكاتب: (يورث بقدر ما أدى، ويجلد الحد بقدر ما أدى، ويعتق بقدر ما أدى، وتكون ديته بقدر ما أدى)، وقال زيد بن ثابت:

(1)

"العلل"(1/ 502).

(2)

لعل المراد إذا لم يمكن الترجيح.

(3)

"السنن الكبرى"(10/ 326).

(4)

أي: من الغرماء أصحاب الديون فلا يرجع إلى الرق أبدًا.

(5)

"المراسيل" ص (158).

(6)

في رواية معمر أسقط خلاسًا فجعله عن قتادة أن عليًّا، وهو كذلك في "الاستذكار"(23/ 233) وقد عزاه لعبد الرزاق.

ص: 579

(هو عبد ما بقي عليه درهم)، وهذا السياق لعبد الرزاق، وقد تُكُلِّم في رواية حماد ومعمر عن قتادة

(1)

.

وروى عبد الرزاق (8/ 406)، والبيهقي (10/ 326) عن سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن الشعبي أن عليًّا قال في المكاتب يعجز قال: يعتق بالحساب

فمجيء الحديث عن علي رضي الله عنه من طريق خلاس وهو ابن عمرو الهَجَري، وهو ثقة -كما في "التقريب"- وطريق الشعبي يؤيد رجحان الوقف على علي رضي الله عنه. مما يدل على تضعيف كون الحديث مرفوعًا، كما تقدم في كلام البيهقي.

* الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:

قوله: (يودى) بضم الياء وسكون الواو وتخفيف الدال مضارع مبني لما لم يسم فاعله من ودى يدي دية: أي يعطى دية المكاتب.

قوله: (بقدر ما عتق منه) أي: بحصة ما صار منه حرًّا بأداء بعض نجوم الكتابة.

قوله: (دية الحرِّ) بالنصب على أنه مفعول ثان.

قوله: (وبقدر ما رقَّ منه) أي: ويعطى المكاتب دية العبد بقدر ما بقي منه عبدًا، فإذا قتل مكاتب وقد أدى نصف كتابته، فله نصف دية الحر ونصف دية العبد.

* الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المكاتب إذا أدى بعض أقساط دين الكتابة أنه يكون مبعضًا، بعضه حر وبعضه رقيق، ويثبت له من الحرية بقدر ما أدى، ويترتب على ذلك تبعض أحكامه، ومنها أنه إذا قتل فإن فيه دية حر ودية رقيق، بقدر ما فيه من الحرية وما بقي فيه من الرق، فمن نصفه حر ونصفه رقيق يكون على قاتله نصف دية حر ونصف قيمته.

(1)

انظر: "شرح علل الترمذي"(2/ 503).

ص: 580

والقول بأن المكاتب إذا أدى بعض نجوم الكتابة يعتق، وتكون ديته بقدر ما أدى هو قول علي رضي الله عنه، كما تقدم، وتقدم مذهب الجمهور وهو أنه لا يثبت له شيء من أحكام الأحرار لا دية ولا غيرها حتى يستكمل حريته.

وهذا الحديث معارض لحديث عمرو بن شعيب الدال على أنه عبد ما بقي عليه درهم، مما يفيد أنه لا يتبعض لا في الدية ولا في غيرها، وعلى هذا فالأظهر البقاء على حديث عمرو بن شعيب حتى يرد دليل واضح لا شبهة فيه يقتضي التبعيض فيما لو قتل، وكذا الحد وغيره من الأحكام

(1)

. والله تعالى أعلم.

(1)

من كلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

ص: 581

‌ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك رقيقًا

1444/ 5 - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ -أَخِي جُوَيرِيةَ أُمِّ الْمُؤمِنِينَ رضي الله عنهما قَال: مَا تَرَكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيئًا إلا بَغْلَتَهُ الْبَيضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* الكلام عليه من وجوه:

* الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو عمرو بن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي المصطلقي أخو جويرية بنت الحارث أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهما، له ولأبيه صحبة، عداده في أهل الكوفة، وكان أبوه صهر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه الحارث بن أبي ضرار، وعن أخته جويرية، وابن مسعود رضي الله عنهم، وروى عنه أبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود

(1)

. قال الحافظ في "التقريب": (هو صحابي قليل الحديث بقي إلى بعد الخمسين) رضي الله عنه.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه البخاري في مواضع من "صحيحه"، وأولها في كتاب "الوصايا"، باب (الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وصية الرجل مكتوبة عنده") (2739) من طريق زهير بن معاوية الجعفي، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه.

(1)

"الاستيعاب"(8/ 297)، "تهذيب الكمال"(21/ 569)، "الإصابة"(7/ 97).

ص: 582

ورواه -أيضًا- في "الجهاد"(2873) من طريق يحيى، حدثنا سفيان، قال: حدثني أبو إسحاق قال: سمعت عمرو بن الحارث

الحديث.

قال الحافظ: (وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من عمرو بن الحارث في الخمس من هذا الكتاب)

(1)

.

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أخي جويرية أم المؤمنين) أخي: بالجر عطف بيان لعمرو، وأم المؤمنين: أي في الحرمة والاحترام، ووجوب الإكرام والتوقير والإعظام

(2)

. وجويرية: بالضم، هي بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جُذيمة، وجذيمة: هو المصطلق بن عمرو، سباها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق سنة خمس أو ست -كما تقدم في الجهاد- وكانت قبله تحت مسافع بن صفوان المصطلقي، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فكاتبها، فقضى عنها النبي صلى الله عليه وسلم كتابتها، ثم أعتقها وتزوجها، وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة، فَحَوَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة

(3)

.

وسيرد لها ذكر في أحاديث (الذكر والدعاء) من كتاب "الجامع"، ماتت في ربيع الأول سنة ست وخمسين، ولها خمس وستون سنة رضي الله عنها

(4)

.

قوله: (ما ترك إلا بغلته البيضاء

) هذا الحصر إضافي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد ترك ثيابًا ومتاع بيته، لكنها لما كانت بالنسبة للمذكورات يسيرة لم تذكر.

قوله: (ولا عبدًا ولا أمة) أي: ولا ترك رقيقًا باقيًا على رقه، بل جميع ما ذكر في الأخبار من أرقاء النبي صلى الله عليه وسلم إما مات وإما أعتقه.

قوله: (ولا شيئًا) هذا تعميم بعد تخصيص؛ أي: ولا شاة ولا بعيرًا،

(1)

"فتح الباري"(5/ 360).

(2)

"تفسير ابن كثير"(6/ 381).

(3)

"صحيح مسلم"(2140).

(4)

"الاستيعاب"(12/ 243)، "الإصابة"(12/ 183).

ص: 583

ولا شيئًا مما يتمول، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:(ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء)

(1)

.

قوله: (إلا بَغْلَتَهُ البيضاء) البَغْلُ: هو الحيوان المولد من فرس أنثى وحمار، وهذه البَغْلَةُ هي التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كان يختص بركوبها واسمها دلدل، وكان له بغال أُخر

(2)

.

قوله: (وسلاحه) أي: ما خلَّفه من السلاح من درع ومغفر وسيف ونحوها مما هو مذكور في كتب السير

(3)

.

قوله: (وأرضًا جعلها صدقة) الضمير يعود للأرض، والجملة صفة؛ أي: جعلها صدقة حال حياته، لما جاء في رواية للبخاري في "الجهاد" من طريق سفيان، عن أبي إسحاق:(وأرضًا بخيبر جعلها صدقة)

(4)

، وفي رواية من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق:(وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة)

(5)

، ولم يضف الأرض إليه كسابقيها؛ لاختصاصهما به دونها؛ لأن غلتها كانت عامة له ولغيره من عياله وفقراء المسلمين، وأراد بها أرض بني النضير أو فَدَكَ، أو سهم خيبر، أو الكل.

* الوجه الرابع: في الحديث دليل على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا والزهد فيها والرغبة عنها، ولذا توفي صلى الله عليه وسلم وما عنده شيء من الدنيا إلا بغلته التي كان يركبها، وسلاحه الذي كان يقاتل به، والأرض التي جعلها صدقة، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لي مثل أُحد ذهبًا ما يسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئًا أَرْصُدُهُ لدين"

(6)

. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم (1635).

(2)

"زاد المعاد"(1/ 134).

(3)

"زاد المعاد"(1/ 130).

(4)

"صحيح البخاري"(2912).

(5)

"صحيح البخاري"(4461).

(6)

رواه البخاري (6445)، ومسلم (991).

ص: 584

لم يكن جماعًا للدنيا، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان صلى الله عليه وسلم يدخر نفقة أهله سنة، ومع ذلك ينفق منها النفقة الكثيرة حتى تنتهي قبل السنة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومُؤنة عاملي فهو صدقة"

(1)

. وعن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركناه صدقة"

(2)

.

وروى البخاري بسنده عن عروة، عن عائشة أن فاطمة والعباس رضي الله عنهما أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فَدَكَ وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال"

(3)

.

الوجه الخامس: ذكر الحافظ هذا الحديث في هذا الباب للاستدلال به على أن أم الولد تعتق بموت سيدها، بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وخلف مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم التي توفيت في أيام عمر رضي الله عنه، فدل على أنها عتقت بوفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بصريح؛ فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أعتقها في حياته بعد ما ولدت إبراهيم، لكن تبقى دلالة الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم كان يحرص على عتق رقيقه وتحريرهم، وأن جميع ما ذكر في الأخبار من أرقاء النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قد مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعتقه، والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (6729)، ومسلم (1670).

(2)

رواه البخاري (6727)، ومسلم (1758).

(3)

رواه البخاري (6725)، ومسلم (1759).

ص: 585

‌ما جاء في أن أم الولد تعتق بموت سيدها

1445/ 6 - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سيِّدها فَهِيَ حرّة بَعدَ مَوْتهِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بِإسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَجّحَ جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه.

* الكلام مع عليه من وجهين:

* الوجه الأول: في تخريجه:

هذا الحديث رواه ابن ماجه في كتاب "العتق"، باب (أمهات الأولاد)(2515)، وأحمد (4/ 484)، والحاكم (2/ 19) من طريق شريك، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أيما امرأة ولدت من سيدها

الحديث. وهذا لفظ الحاكم، وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد) فتعقبه الذهبي بقوله: (قلت: حسين متروك).

فهذا الحديث إسناده ضعيف، كما قال الحافظ، بل هو ضعيف جدًّا؛ لأن فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وقد ضعفه أكثر أصحاب الحديث -كما يقول البيهقي

(1)

- قال البوصيري: (هذا إسناد ضعيف، حسين بن عبد الله تركه علي بن المديني وأحمد بن حنبل والنسائي، وضعفه أبو حاتم وأبو زرعة، وقال البخاري: يقال: إنه كان يتهم بالزندقة)

(2)

، وقال الحافظ في "التقريب":(ضعيف جدًّا).

وفيه -أيضًا- شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، وهو سيء الحفظ؛

(1)

(10/ 346).

(2)

"الزوائد"(2/ 291).

ص: 586

لكنه لم ينفرد به، فقد توبع، فقد رواه الدارقطني (4/ 131) من طريق الفضل بن موسى، عن سفيان الثوري، عن حسين بن عبد الله به.

وهذا يدل على أن شريكًا قد حفظه، فانحصرت العلة في حسين بن عبد الله، قال ابن عبد البر: (لا يصح من جهة الإسناد؛ لأنه انفرد به حسين بن عبد الله

وحسين هذا ضعيف متروك الحديث)

(1)

.

وروى مالك في "الموطأ"(2/ 131) عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورِّثها، وهو يستمتع بها، فإذا مات فهي حرة)، ورواه البيهقي (10/ 342 - 343) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، قال البيهقي: (وغلط فيه بعض الرواة

فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وهم لا يحل ذكره) وسبقه إلى هذا الدارقطني فقال عن وقفه:(إنه هو الصواب)، وتقدم هذا في "البيوع" عند الحديث (792).

ورواه البيهقي (10/ 341) من طريق خُصيف الجزري، عن عكرمة، عن عمر رضي الله عنه بمثله، وله طرق أخرى عند الدارقطني (4/ 134)، والبيهقي.

وقد رجح الدارقطني والبيهقي وعبد الحق وغيرهم وقفه على عمر رضي الله عنه، وكذا قال الحافظ في "التلخيص"

(2)

.

الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أن السيد إذا وطئ أمته صارت أم ولد، بشرط أن تضع ما تبين فيه خلق آدمي سواء أكان حيًّا أم ميتًا، وتكون حرة بعد وفاة سيدها تعتق عتقًا قهريًّا من رأس المال، فهي مقدمة على كل شيء حتى الدين والوصية.

وقد تقدم في "البيوع" الكلام على بيع أم الولد مستوفى، والحمد لله رب العالمين.

(1)

"الاستذكار"(23/ 154 - 155).

(2)

الذي في "التلخيص"(6/ 3289): (والصواب أنه من قول ابن عمر) وهذا خطأ صوابه: من قول عمر. وانظر: "الدراية"(2/ 88).

ص: 587

‌ما جاء في فضل إعانة المكاتب

1446/ 7 - عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيفٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا في سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَارِمًا في عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكاتَبًا في رَقَبَتِهِ، أَظلهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ". رَوَاهُ أَحمَدُ، وَصَحّحَهُ الْحَاكِمُ.

الكلام عليه من وجوه:

الوجه الأول: في ترجمة الراوي:

وهو سهل بن حُنيف بن واهب الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، يكنى أبا أسعد أو أبا عبد الله، كان من السابقين، شهد بدرًا، وثبت يوم أُحد حين انكشف الناس، وبايع يومئذٍ على الموت، وشهد الخندق والمشاهد كلها، روى عنه ابناه: أبو أمامة أسعد

(1)

، وعبد الله، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم، استخلفه علي رضي الله عنه على البصرة بعد الجمل، ثم شهد معه صفين، مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وتقدم في "الجنائز"

(2)

أن عليًّا رضي الله عنه صلى عليه وكبر ستًّا وقال: إنه بدري، رواه عبد الرزاق وغيره، والحديث في "صحيح البخاري" وليس فيه ذكر العدد

(3)

.

* الوجه الثاني: في تخريجه:

هذا الحديث رواه أحمد (25/ 362) من طريق عبد الله بن عمرو، والحاكم (2/ 89 - 90، 217) من طريق زهير بن محمد، وعمرو بن ثابت،

(1)

تقدمت ترجمته عند الحديث (954).

(2)

انظر: الحديث رقم (563).

(3)

"الاستيعاب"(4/ 275)، "تهذيب الكمال"(12/ 184)، "الإصابة"(4/ 273).

ص: 588

ثلاثتهم عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن سهل بن حنيف، عن أبيه مرفوعًا.

قال الحاكم في الموضع الثاني: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)، فتعقبه الذهبي بقوله:(بل عمرو رافضي متروك).

فهذا سند ضعيف؛ لأن مداره على عبد الله بن سهل بن حنيف، وهو في عداد المجاهيل لم يرو عنه سوى عبد الله بن عقيل، ولم يؤثر توثيقه عن أحد، قال الهيثمي:(عبد الله بن سهل بن حنيف لم أعرفه)

(1)

، وكذا قال أبو زرعة العراقي

(2)

.

وعبد الله بن عقيل تقدم الكلام عليه في أكثر من موضع، وقد قال فيه الذهبي بعد أن ساق جملة من أقوال الأئمة فيه:(حديثه في مرتبة الحسن)

(3)

، وقال الحافظ في "التقريب":(صدوق في حديثه لين، ويقال: تغير بِأَخَرَة).

* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:

قوله: (أو غارمًا) اسم فاعل من غرمت الدية والدين أغرم غُرمًا وغرامة من باب تعب: أديته

(4)

، وأصل الغرم في اللغة: اللزوم، وسمي الغارم غارمًا؛ لأن الدين قد لزمه، والغارم هو المدين إما لإصلاح ذات البين، وهذا لا تشترط عسرته، وإما غارم لنفسه، وهو من نزلت به مصيبة في المال لا يستطيع احتمالها، كوجوب دين عليه في نفقة أو زواج أو علاج أو نحو ذلك، وهذا تشترط عسرته.

قوله: (أو مكاتبًا في رقبته) هذا على حذف مضاف؛ أي: في تحرير رقبته، وذلك بإعانته على سداد دين الكتابة.

قوله: (أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) هذه الإضافة للتشريف كبيت الله، وهذا ظل حقيقي فلا يمس هؤلاء حر الشمس ولا وهجها، ولا أحد يملك

(1)

"مجمع الزوائد"(5/ 283).

(2)

انظر: "ذيل الكاشف"(771).

(3)

"الميزان"(2/ 485).

(4)

"المصباح" ص (446).

ص: 589

الظل غيره سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وقد مضى الكلام على ذلك في كتاب "الزكاة" عند الحديث (631).

الوجه الرابع: يستدل الفقهاء بهذا الحديث -ومنهم فقهاء الشافعية- في باب "الكتابة" على فضل إعانة المكاتب على سداد ديون كتابته

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف"

(2)

.

وقد نص الفقهاء على أنه يستحب للسيد أن يضع عن مكاتبه ربع مال الكتابة، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وعللوا للاستحباب بأن الكتابة عقد معاوضة، فلا يجب فيه الإيتاء، كسائر عقود المعاوضات.

وقال الشافعي وإسحاق بوجوب حَطِّ الربع، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة

(3)

، لقوله تعالى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وظاهر الأمر الوجوب، وقد ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية:(يُحطُّ عنه الربع)

(4)

.

وظاهر الآية أن ذلك لا يتقدر بقدر معين.

والقول الثاني: أن المراد بالآية إعطاء المكاتب من الزكاة ما يستعين به على التحرر من الرق، وبه قال جماعة من السلف، واختاره ابن جرير

(5)

.

وأما المجاهد فقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة في فضل الإنفاق

(1)

انظر: "التلخيص"(6/ 3281).

(2)

رواه الترمذي (1655)، والنسائي (6/ 15، 16)، وابن ماجه (2518)، وأحمد (12/ 378 - 379)، وقال الترمذي:(حديث حسن).

(3)

"المغني"(14/ 458).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2587) موقوفًا، وأخرجه -أيضًا- مرفوعًا، وكذا البيهقي (10/ 329)، وقال:(الصحيح موقوف)، وقال ابن كثير في "تفسيره" (6/ 57):(هذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه).

(5)

"تفسير ابن جرير"(18/ 99)، "تفسير ابن كثير"(6/ 56).

ص: 590

في سبيل الله وإعانة الغزاة، وفي حديث زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا"

(1)

، وقد تقدم في أول "الجهاد" الكلام على ذلك.

وأما إعانة الغارم في عسرته فهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(2)

. والله تعالى أعلم.

انتهى الجزء التاسع وبليه -بعون الله وتوفيقه- الجزء العاشر وأوله: كتاب "الجامع"

(1)

رواه البخاري (2843)، ومسلم (1895).

(2)

رواه مسلم (2699). وسيأتي شرحه في باب "البر والصلة" من كتاب "الجامع" إن شاء الله تعالى.

ص: 591