المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور - منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث - جـ ١

[بشير علي عمر]

فهرس الكتاب

‌المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد: فإن أعظم نعم الله تعالى على البشرية نعمة النبوة والرسالة، بها أنقذهم من الضيق في هذه الحياة والدنيا والهلاك والخذلان في العقبى، وهداهم بها إلى الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الأبدية في الأخرى. قال تعالى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123 - 124].

ص: 5

وقد أتم الله هذه النعمة ببعثة خاتم النبيين وإمام المرسلين وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فأكمل به الدين وأتمّ به النعمة، وقضى جلّ في عُلاه بحكمته ولطفه وكرمه ألا ينقطع فضلُه ومنُّه على عباده، فتكفل سبحانه بحفظ ذلك النور الذي أرسله به، فببقائه تبقى النعمة وتزول النقمة، فحفظ الكتاب في الصدور والصحف {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. وقيض للأمة من يحفظ السنة من الحملة الصادقين الموثوقين والعلماء الربانيين المؤيدين بالتأييد الرباني، الذين رزقهم من الحفظ والذكاء ما مكنهم به من حفظ السنة النبوية وتدوينها، ووضْعِ سياجٍ عليها يصونها من أن تكون فريسةً لأباطيل من رام الخلط على الأمة في سنة نبيها من الوضّاعين والملاحدة، أو لأوهامِ وأغلوطاتِ من لم يُحكم ضبطَ المرويات. وقد بذل هؤلاء الجهابذةُ من العلماء أقصى الجُهد في وضع علم هو من مبتكرات هذه الأمة وخاصيتها التي خصها الله بها، ألا وهو علم الحديث رواية ودراية، فرد الله بهؤلاء الفرسان وبسهام هذا العلم الذي ابتكروه أعنف غارة عرفها تاريخ البشرية، فردوا كيد الكائدين وحُفظتْ سنةُ سيد المرسلين.

والغاية القُصوى من هذا العلم هي معرفة صحة الحديث وسقمه، وجميع فنونه ومباحثه مسخرة لتحصيل هذه الغاية، واستمداده من نقد العلماء الجهابذة للمرويات ولنقلة الأخبار بما خصهم الله به من فضيلة المعرفة والعدالة والورع، وهؤلاء العلماء لم يزالوا في كل دهر وزمان، من لدن عهد الصحابة إلى أن دونت السنن وتم وضع معالم علم السنة رواية ودراية. فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم قصب السبق في نقد المرويات والرواة، ومواقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نقدها

ص: 6

لمنقول أقرانها من الصحابة معروفة، وكذلك طلبها لعرض مرويات الراوي عليه من حين إلى آخر لاختبار حفظه وضبطه وسلامة مرويه من زيادة أو نقصان

(1)

، وهذا ابن عباس رضي الله عنه لما فطن لوقوع الكذب على رسول الله يدع رواية أهل التهمة والريبة، وكذلك نقده للمروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القضاء والعلم ورده للأباطيل المروية عنه في ذلك أيضاً معروف ومشهور

(2)

. وقد درج على هذا النهج أئمة التابعين، فتابعيهم، فتبع أتباعهم إلى أن شب هذا العلم وترعرع.

ومن أهم مباحث هذا العلم وأشدها تعلقاً بتحصيل الغاية المنشودة من علم الحديث معرفة علل الأحاديث، وهو فن دقيق إذ به ينكشف مداخل الوهم والخطأ في مرويات الثقات الغالب على منقولهم السلامة والاستقامة، ولدقته لم يتحقق إلا لزمرة يسيرة من العلماء صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم، وحجة يرجع إليهم. وإن استمداد هذا العلم الشريف من كلام هؤلاء الأئمة ومناهجهم، وبمطالعة ذلك وتدبّره يحصل لطالب علم الحديث أهلية الكلام في هذا الفن الدقيق. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:"ولا بدّ في هذا العلم من طول ممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدمت المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد، وعلي بن المديني وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه، وفقُهتْ نفسُه فيه، وصارت له قوةُ نفسٍ وملَكةٌ، صلُح له أن يتكلّم فيه"

(3)

.

وإن من جهابذة هذا العلم بلا نزاع ومحققيه بلا مِراء الإمام أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وكلامه في الإعلال ومسالك العلة مبثوث فيما نقل عنه في كتب شتى ككتابه العلل ومعرفة الرجال، وبعض كتب مسائله،

(1)

انظر: صحيح البخاري 13/ 282 مع فتح الباري.

(2)

صحيح مسلم 1/ 13 - 14.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 664.

ص: 7

وكتب تلاميذه في العلل، ككتاب العلل عن الإمام أحمد للحافظ أبي بكر الخلال وغير ذلك من الكتب الكثيرة. ولما رأيت شخصية هذا الإمام العَلم في هذا العِلم، وموقع كلامه في باب إعلال الأحاديث، وما لمعرفة منهجه في هذا العلم من أهمية، اخترت أن يكون موضوع بحثي في أطروحة الدكتوراه دراسة الأحاديث التي تكلم عليها هذا الإمام بالإعلال، ودراسة كلامه في مسالك الإعلال لاستخلاص منهجه في العلل، وبالله تعالى أستعين وعليه التكلان. وجعلت عنوان البحث: منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث.

‌أهمية الموضوع والسبب في اختياره:

فأهمية هذا الموضوع والسبب في اختياري له يرجع إلى أمور هي:

1 -

شخصية الإمام أحمد في علم الحديث عموماً وفي علم علل الحديث خصوصاً، فقد كان من أكثر الأئمة كلاماً في إعلال الأحايث.

2 -

أهمية معرفة مناهج الأئمة في باب العلل، ولقلة معرفة بعض المعاصرين لمنهاجهم اضطربوا في باب التصحيح والتضعيف، فيصححون ما قد أجمع الأئمة على إعلاله، أو يضعفون بعلة قد اطلع الأئمة عليها ولم يروها قادحة.

3 -

كون هذا الإمام الكبير مع شهرته وتقدمه في هذا العلم لم يفرد منهجه في باب إعلال الأحاديث بالدراسة حسب علمي.

4 -

إيجاد خدمة علمية بإبراز الأحاديث المعلّة عند هذا الإمام.

5 -

إن دراسة منهج هذا الإمام تبرز دقة هذا العلم وما يحتاج إليه دارسه من سعة المعرفة، فيكون في ذلك إسهام في تنبيه الباحثين المشتغلين بهذا العلم على أهمية التروي وطول النظر قبل إصدار الحكم على الأحاديث.

ص: 8

6 -

إن تتبع كلام الأئمة في علم العلل ودراسة مناهجهم هو أفضل طريق إلى اكتساب المعرفة بهذا العلم كما تقدم قول الحافظ ابن رجب رحمه الله في ذلك.

‌خطة البحث:

جعلت البحث في مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة.

المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع، والسبب في اختياره، وذكر خطة البحث ومنهجه.

الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في علل الحديث، وفيه فصلان:

الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد، وفيه خمسة مباحث.

المبحث الأول: اسمه، ونسبه، وأسرته، ومولده، ونشأته.

المبحث الثاني: حياته العلمية ـ طلبه للعلم، أشهر شيوخه، وأشهر تلاميذه.

المبحث الثالث: إمامته ومكانته عند علماء الحديث.

المبحث الرابع: آثاره العلمية.

المبحث الخامس: وفاته.

الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في العلل، وفيه ستة مباحث:

المبحث الأول: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث الثاني: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

ص: 9

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث الثالث: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث الرابع: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث الخامس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث السادس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابن هانئ.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث السابع: سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

المبحث الثامن: المنتخب من العلل للخلال.

المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته.

المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب.

ص: 10

الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها، وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة، وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: ضابط الجهالة عند الإمام أحمد.

المبحث الثاني: جهالة الصحابي لا تضر.

المبحث الثالث: رواية الراوي المجهول حديثاً مخالفاً للثابت المعروف.

المبحث الرابع: نماذج من إعلال الإمام أحمد للأحاديث بجهالة بعض رواتها.

المبحث الخامس: إعلال حديث الراوي المكثر من الرواية عن المجهولين.

الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بعدالته، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالكذب أو التهمة به، وفيه سبعة مطالب:

المطلب الثاني: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي.

المطلب الثالث: لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع.

المطلب الرابع: تعدد طرق الحديث المعل بكذب راويه.

المطلب الخامس: بعض مصطلحات الإمام أحمد في الحكم على حديث الراوي المطعون بالكذب.

المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من الرواية عن الكذّابين والمتهمين بالكذب.

المطلب السابع: مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب.

المبحث الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي ببدعة فيه، وفيه مطلبان.

المطلب الأول: التمييز بين البدعة التي ترد معها رواية الراوي المتصف بها من غيرها.

ص: 11

المطلب الثاني: موقف الإمام أحمد من الرواية عمن أجاب في محنة خلق القرآن.

الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه، وفيه ثمانية مباحث:

المبحث الأول: الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي، وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: سوء الحفظ المطلق والإعلال به عند الإمام أحمد.

المطلب الثاني: الحالات التي لا يعلّ بها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ.

المطلب الثالث: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن بعض شيوخه والإعلال به عند الإمام أحمد.

المطلب الرابع: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن أهل بعض البلدان والإعلال به عند الإمام أحمد.

المطلب الخامس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا جمع الشيوخ في الإسناد والإعلال به عند الإمام أحمد.

المطلب السادس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي حين يروي بالمعنى.

المبحث الثاني: الإعلال بسوء الحفظ الطارئ على الراوي، وفيه ثلاثة مطالب.

المطلب الأول: الإعلال باختلاط الراوي لكبر سنه، فرعان لهذا المطلب:

الفرع الأول: من كان صحيح السماع عن المختلط يحمل خطأ روايته على أمر آخر غير الاختلاط.

الفرع الثاني: ما حدث به المختلط من كتاب لا يدخله الإعلال بالاختلاط.

المطلب الثاني: الإعلال بما يلحق بالاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي.

المطلب الثالث: الإعلال بما يلحق بالاختلاط بسب ذهاب كتب الراوي بسبب من الأسباب.

ص: 12

المبحث الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بشدة الغفلة وعدم التيقظ.

المبحث الرابع: ما يخل بضبط الراوي بسبب طريقة التحمل.

المبحث الخامس: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه لكتابه، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: أهمية حفظ الكتاب وتقديمه على حفظ الصدر عند الإمام أحمد:

المطلب الثاني: من كانت كتبه غير منقوطة ولا مشكولة:

المطلب الثالث: من وقف على لَحَقٍ في كتابه:

المبحث السادس: من لا يحدّث من كتابه فيهِم في حديثه:

المبحث السابع: من حدّث في مكان لم تكن معه كتبه فوهِم، وحدّث في مكان آخر كانت معه كتبه فضبط:

المبحث الثامن: من لم يضبط أهل إقليم حديثه:

الباب الثالث: إعلال الأحاديث بما يخل باتصال أسانيدها، وفيه فصلان

الفصل الأول: ما يثبت به الاتصال، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: اشتراط ثبوت السماع بين الرواة عند الإمام أحمد لثبوت الاتصال، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الأدلة على أن الإمام أحمد يشترط ثبوت السماع للحكم باتصال الإسناد المعنعن.

المطلب الثاني: ما يدل على اكتفاء الإمام أحمد بالمعاصرة وإمكان السماع والجواب عنه.

ص: 13

المبحث الثاني: وسيلة إثبات السماع وذكر شروطها وموانعها عند الإمام أحمد، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: طريق إثبات السماع بالتصريح به في السند.

المطلب الثاني: شروط قبول التصريح بالسماع في السند.

المطلب الثالث: قرائن تمنع من الحكم بثبوت السماع.

المبحث الثالث: صيغ الأداء وعلاقتها بإثبات الاتصال.

الفصل الثاني: الإعلال بما يخل باتصال الأسانيد، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: الإرسال والإعلال به، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: معنى الإرسال عند الإمام أحمد.

المطلب الثاني: الإعلال بإسقاط الصحابي، وفيه أربع مسائل:

المسألة الأولى: الصحبة وما تثبت به عند الإمام أحمد.

المسألة الثانية: ما يقدح في ثبوت الصحبة.

المسألة الثالثة: التفريق بين الصحبة المقترنة بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والمجردة منها.

المسألة الرابعة: ما أعله بعدم ثبوت صحبة راويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثالث: الإرسال الخفي والإعلال به عند الإمام أحمد.

المطلب الرابع: المزيد في متصل الأسانيد والإعلال به عند الإمام أحمد.

المبحث الثاني: التدليس والإعلال به عند الإمام أحمد، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: التعريف بالتدليس والمدلسين عند الإمام أحمد.

المطلب الثاني: وجوه الإعلال بالتدليس عند الإمام أحمد.

الوجه الأول: عدم تصريح المدلس بالسماع في السند.

ص: 14

الوجه الثاني: رواية الحديث عن الراوي المدلس من وجه آخر بالتصريح بالواسطة بينه وبين شيخه.

الوجه الثالث: أن يذكر الراوي أنه لم يسمع الحديث من شيخه الذي روى عنه.

الوجه الرابع: تنصيص الإمام على عدم سماع الراوي لحديث معين من شيخه.

الوجه الخامس: تنصيص الإمام على عدم سماع المدلس من شيخه إلا أحاديث معينة.

الوجه السادس: الإعلال بالنكارة التي سببها التدليس.

المطلب الثالث: كشف من كان يدلس الأسماء تدليس الشيوخ.

الباب الرابع: إعلال الأحاديث بالشذوذ وبالعلل الخفية، وفيه فصلان

الفصل الأول: الإعلال بالتفرد والمخالفة، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: التفرد والإعلال به عند الإمام أحمد، وفيه سبعة مطالب:

المطلب الأول: معنى التفرد والغرابة عند الإمام أحمد.

المطلب الثاني: حد المنكر عند الإمام أحمد، وفيه أربع مسائل:

المسألة الأولى: حد المنكر لغة.

المسألة الثانية: إطلاقات المنكر عند الإمام أحمد.

المسألة الثالثة: تفسير بعض أهل العلم لمعنى المنكر عند الإمام أحمد.

المسألة الرابعة: التعريف الإصطلاحي للمنكر عند الإمام أحمد.

المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الثقة.

المطلب الرابع: موقف الإمام أحمد من زيادات الثقات.

ص: 15

المطلب الخامس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الصدوق الذي خف ضبطه.

المطلب السادس: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي الموصوف بسوء الحفظ.

المطلب السابع: موقف الإمام أحمد من تفرد الراوي المجهول.

المبحث الثاني: الإعلال بالمخالفة عند الإمام أحمد، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: مخالفة الراوي لرواية الأحفظ.

المطلب الثاني: مخالفة الراوي لرواية الأكثر عدداً.

المطلب الثالث: إعلال حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه.

المطلب الرابع: نماذج من نقد الإمام أحمد للمتون لمخالفتها للثابت المعروف.

الفصل الثاني: الإعلال بالعلل الخفية، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: نماذج من الأخطاء الواقعة في أحاديث الثقات، وفيه سبعة مطالب:

المطلب الأول: أخطاء الحفاظ في الأسماء.

المطلب الثاني: أخطاء الثقات في الألفاظ.

المطلب الثالث: التصحيف.

المطلب الرابع: القلب.

المطلب الخامس: رفع الموقف ووصل المرسل.

المطلب السادس: الإدراج.

المطلب السابع: ذكر بعض القرائن يتوصل بها إلى معرفة أخطاء الثقات في الأحايث كما وردت عن الإمام أحمد.

المبحث الثاني: طبقات الرواة عن الأعلام والترجيح بينهم عند الاختلاف.

ص: 16

الخاتمة: وفيها ذكر أبرز سمات منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث والأصول التي بنى عليها كلامه في الإعلال، وهي خلاصة البحث.

الفهارس العلمية، وتتضمن ما يلي:

1 -

فهرس الآيات القرآنية.

2 -

فهرس الأحاديث المرفوعة.

3 -

فهرس الآثار الموقوفة والمقطوعة.

4 -

فهرس الرجال المترجم لهم.

5 -

قائمة المصادر والمراجع.

6 -

فهرس الموضوعات.

ص: 17

‌منهج البحث:

ويتلخص منهجي في هذا البحث في النقاط التالية:

1.

جمع الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد، وأقواله في الرجال مما لها صلة بالإعلال ووجوهه من خلال كتاب "العلل ومعرفة الرجال" ـ رواية عبد الله، ورواية المروذي وغيره ـ وكتب مسائله المطبوعة، وهي: رواية عبد الله، وأبي داود، وصالح، وابن هانئ، ومن كتاب "سؤالات أبي داود للإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم"، وكتاب "المنتخب من العلل للخلال" ـ انتخاب ابن قدامة المقدسي ـ. وهذه المصادر هي التي اعتمدتها بالأصالة لجمع المادة العلمية للموضوع، وإنما اعتمدتها بالأصالة لكون موضوع كل واحد من هذه الكتب أقوال الإمام أحمد مجردة عن أقوال غيره من أئمة الحديث، وقد حوت على جملة كثيرة من كلام هذا الإمام في العلل وفي جرح الرواة وتعديلهم.

2.

تتبعت كلام الإمام أحمد في الإعلال من مصادر ثانوية نقلت كلام الإمام أحمد مع كلام غيره، أو نقلت كلامه من مصادر أصلية هي الآن في حكم المفقود مثل مسائل الأثرم في العلل والجرح والتعديل، وكتاب العلل للخلال، ومن هذه المصادر الثانوية:"التاريخ" لأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، فقد سمع من أحمد مسائل في الحديث وعلم الرجال وذكر بعضها في هذا الكتاب. ومنها ما رواه أبو بكر الأثرم عن الإمام أحمد، ومسائله في حكم المفقود إلا الجزء الصغير في مسائله للإمام أحمد في الفقه. وقد نقلت مما رواه عن الإمام أحمد في العلل وعلم الرجال من كتاب "تاريخ بغداد"، وكتاب "التمهيد" لابن عبد البر، ومن "تهذيب الكمال". ونقلت من كتاب "الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي ما رواه أبو طالب أحمد بن حميد عن أحمد، ومن كتاب "المعرفة والتاريخ" للفسوي ما رواه الفضل بن زياد عن أحمد. ومن

ص: 18

المصادر الثانوية التي استفدت منها وأخذت منها مادة الموضوع: كتاب "تنقيح التحقيق" للحافظ ابن عبد الهادي، وكتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن رجب ـ رحمة الله عليهم أجمعين، فقد تتبعت ما في الكتابين من كلام الإمام أحمد في الأحاديث. وأما مسند الإمام أحمد فلم أجد فيه إلا بضعة وعشرين نصاً يتعلق بموضوع الإعلال، ولم أقف على الرسالة التي ذكرها د. علي بن عبد الله الصباح في "الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد في مسنده" في مقاله المنشور في مجلة "البيان" عدد 176 ربيع الآخر 1423 هـ.

1.

تخريج الأحاديث ودراستها بما يفي بمقصود البحث.

2.

الاستعانة بأقوال الإمام أحمد في الرجال ذات الصلة بموضوع الإعلال.

3.

مقارنة كلامه بكلام غيره من خلال دراسة الأحايث والأقوال.

4.

استخلاص منهج الإمام أحمد من خلال دراسة الأحاديث التي أعلها وأقواله في الرجال. واستخلاص المنهج يتطلب الاستقراء التام لأقوال الإمام، وهو أمر لست أدّعيه، بل يقصر عن بلوغه من كان مثلي في قلة البضاعة وقصر الباع في هذا المجال بالرغم من المحاولة التي بذلتها في الاستقصاء في الجمع والدراسة لما جمعت، ولكن هذا لا يشكل خللاً في العمل الذي قمت به، فقد اعتمدت على كلام أهل الاستقراء التام في رسم أبرز معالم منهج الإمام أحمد، وعلى مقدمة هؤلاء العلماء الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي رحمة الله عليه، فقد كان من أهل الاستقراء التام حقاً لكلام الإمام أحمد في علم العلل وعلم الجرح والتعديل، ويشهد لذلك كتاباه "شرح علل الترمذي"، و"فتح الباري شرح صحيح البخاري". وقد أفدت من الكتابين كثيراً، كما أفدت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسودة في أصول الفقة" في كثير من مسائل أصول الحديث وتحرير موقف الإمام أحمد منها،

ص: 19

وقد كان رحمه الله أيضاً من أهل الاستقراء التام لمنهج الإمام أحمد. وقد أفدت أيضاً من بعض الدراسات التي سبقت في بعض الجزئيات المتعلقة بهذا الموضوع، ومن أهمها رسالة:"موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين"، للشيخ خالد منصور عبد الله الدريس، ورسالة:"منهج المتقدمين في التدليس" للشيخ ناصر بن حمد الفهد.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 20

‌كلمة شكر وتقدير:

الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد الذي أنقذنا به من الضلالة وأبصرنا به سبل النجاة والسعادة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

وبعد، فأحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره على ما منّ عليّ من إتمام كتابة هذه الرسالة، وما كان ذلك ليتم لولا التيسير والتوفيق من المولى عز وجل، فله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده وكما يحب ربُّنا ويرضا.

ثم انطلاقاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناسَ"، يحق لي في هذا الموضع أن أتوجه بالشكر الجزيل والثناء الجميل لمن جعله الله سبباً في إنجاز عملي هذا، وذلك ابتداء بالجامعة الإسلامية على ما أتاحت لي من فرصة الدراسة فيها، والاستفادة من جهودها المبذولة في بث علوم الكتاب والسنة على نهج سلف الأمة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبة والعطاء.

كما أتوجه بالشكر وخالص الامتنان إلى فضيلة شيخي ومشرفي على هذه الرسالة الأستاذ الدكتور محمد بن مطر الزهراني، الذي قد تتلمذت عليه من أول قدومي إلى هذا الصرخ العلمي، وأشرف علي في رسالة الماجستير. وقد تجشَّم عناءَ المتابعة الدؤوبة حتى تم عملي هذا في هذه المرحلة العلمية، ولم يأل جهداً في إرشادي وتوجيهي ومتابعتي في جميع خطوات عملي، ولقد استفدت من توجيهاته وآرائه القيمة مما كان له أثر كبير في مباحث هذه الرسالة، وتعلمت من أدبه وخلقه وكرمه قبل علمه وفهمه، وعاملني بصدر رحب وخُلُق كريم عال، ولم يقيدني بوقت ولا زمن، فأسأل الله العلي القدير أن يجزيه عني خير الخزاء وأن يبارك له في علمه وعمره وعقبه، وأن ينفع به المسلمين وينصر به الدين، إنه قريب مجيب.

ص: 21

كما أتوجه بالشكر إلى سائر المشايخ الذين تعلمت منهم، وبخاصة أساتذتي في كلية الحديث التي كانت هي المَورِد الذي عَللتُ منه عللاً بعد نهلٍ، وأشكرهم وجميع القائمين عليها وأسأل الله العظيم أن يجزيهم خير الجزاء ويجعل عملهم في ميزان حسناتهم.

ولا يفوتني في هذا الموضع أن أتوجه إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتغمد برحمته الواسعة شيخنا الدكتور عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل عبد اللطيف رحمه الله، وأن يغفر له ويرفع في المهديين منزلته وأن يفسح له في قبره وينور له فيه، فقد استفدت منه في وضع أولى لبنات هذا العمل قبل أن ينزل به ما كتب الله عليه من عناء المرض ثم حالت المنية بيننا وبينه، فرحمة الله عليه رحمة واسعة.

ثم أتوجّه بالشكر إلى صاحبي الفضيلة: شيخنا الدكتور وصي الله بن محمد عباس، وشيخنا الدكتور مرزوق بن هياس الزهراني حفظهما الله على ما حظيَت به رسالتي منهما من آراء قيمة وملحوظات علمية مسددة أثْرَت مادة البحث وقوّمت اعواجاجَه، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيهما عني خير الجزاء، وأن يُبارك لهما في حياتهما وذرياتهما، وأن يجعل عملهما في ميزان حسانتهما.

وختاماً أسأل الله العظيم أن يكتب القبول لعملي هذا، وأن ينفعني به وينفع به المسلمين، وقد بذلت فيه قصارى جهدي ـ وإن كان جُهدَ المُقلّ ـ وأتيت فيه بمبلغ علمي، فما أصبت فيه فبمحض الفضل والتوفيق من الله، وما أخطأت فيه، فأسأل الله أن يتجاوز عني ويغفر لي زلتي وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ص: 22

‌الباب الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد وببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلامه في إعلال الأحاديث

وفيه فصلان:

الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد.

الفصل الثاني: التعريف الموجز ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في العلل.

ص: 23

‌الفصل الأول: التعريف الموجز بالإمام أحمد

.

ص: 25

‌المبحث الأول: اسمه ونسبه وأسرته ومولده ونشأته

.

هو الإمام حقاًّ وشيخ الإسلام صدقاً

(1)

أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله ابن يروي بن عوف ابن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر وائل الذهلي الشيباني المروزي، ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام.

هكذا ساق نسبه ولده عبد الله، واعتمده أبو بكر الخطيب في تاريخه

(2)

وغيره.

‌ولادته:

كانت ولادة الإمام أحمد رحمه الله على الصحيح المشهور في ربيع الأول سنة (164) هـ، قدمت أمه بغداد وهي حامل، وولد بها

(3)

.

قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: "ولدت في سنة أربع وستين ومائة، في أولها، في ربيع الأول، وجي به حمل من مرو"

(4)

.

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: "ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة

"

(5)

.

كان أبوه من أجناد مرو، مات شابا له ثلاثون سنة، ونشأ الإمام أحمد تحت رعاية والدته وتربيتها

(6)

.

(1)

حلاّه بذلك الحافظُ الذهبي 11 لتلتبحلاة بذلك الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء 11/ 177.

(2)

تاريخ بغداد 4/ 414.

(3)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله ـ رواية عبد الله 1/ 518 رقم 1217، وتاريخ بغداد 4/ 412، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 24 - 35.

(4)

سيرة الإمام أحمد، لابنه صالح ص 29.

(5)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 3/ 266/رقم 5178.

(6)

تاريخ بغداد 4/ 415، وسير أعلام النبلاء 11/ 179.

ص: 27

‌المبحث الثاني: حياته العلمية

.

‌بداية طلبه للعلم:

بَكَّر الإمام أحمد رحمه الله في الطّلب، وقد بدأ بالاختلاف إلى الكُتّاب، ثم إلى الدّيوان وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وطلب الحديث وأكثر منه.

قال المرّوذي: قال لي أبو عبد الله: "اختلفت إلى الكتّاب ثم اختلفت إلى الديوان، وأنا ابن أربع عشرة سنة"

(1)

.

قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: "وأول شيء طلب الحديث في سنة تسع وسبعين، في السنة التي مات فيها مالك وحماد بن زيد"

(2)

.

وقال المرّوذي: "طلبت الحديث سنة تسع وسبعين، فسمعت بموت حماد بن زيد وأنا في مجلس هشيم، وقال: سمعت من علي بن هاشم بن البريد

(3)

سنة تسع وتسعين

(4)

في أول سنة طلبت الحديث".

وكذلك كتب في هذه السنة عن علي بن ثابت الجزري

(5)

، فقد قال عبد الله ابنه: سمعت أبي يقول في سنة تسع وعشرين ومائتين: "كتب عن علي بن ثابت منذ خمسين سنة"

(6)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 11/ 185.

(2)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله ـ رواية عبد الله ـ 1/ 518/رقم 1217.

(3)

علي بن هاشم بن البريد ـ بفتح الموحدة وبعد الراء تحتانية ساكنة - أبو الحسن الخزاز الكوفي. قال الحافظ ابن حجر: صدوق يتشيع، من صغار الثامنة. وقال الإمام أحمد: مات سنة 189 هـ التاريخ الكبير 6/ 300، تقريب التهذيب ترحمة 4844.

(4)

وانظر أيضا: العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله ـ رواية عبد الله 1/ 518 رقم 1217.

(5)

هو أبو أحمد الهاشمي مولاهم. وثقه الإمام أحمد وغيره انظر: تهذيب الكمال 20/ 337.

(6)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 2/ 362 رقم 2606.

ص: 29

‌رحلاته العلمية:

لقد كان من نشاط الإمام أحمد في طلب العلم رحلاتٌ علميةٌ إلى عديد من البلدان الإسلامية آنذاك، والتي عرفت بأنها ملتقى لكبار المحدثين وفطاحل الفقهاء، وأول رحلاته كانت داخل بلاده العراق؛ فقد رحل إلى الكوفة سنة ثلاث وثمانين، وعمره تسع عشرة سنة، بعد موت شيخه هشيم بن بشير الواسطي؛ وكان هدفه السماع من عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، لكنه لم يظفر ببغيته؛ إذ كان عيسى حاجاً في تلك السنة، وأصيب الإمام أحمد بمرض ألجأه للعودة إلى بغداد، قال رحمه الله: "حج عيسى بن يونس سنة ثلاث وثمانين في السنة التي مات فيها هشيم،

وخرجت إلى الكوفة في تلك السنة، فمرضت ورجعت، وقدم عيسى الكوفة بعد ذلك بأيام ولم أسمع منه، ولم يحج عيسى بعد تلك السنة، وعاش بعد ذلك سنين"

(1)

.

كما كانت أولى رحلاته إلى البصرة في رجب سنة ست وثمانين ومائتين، وهو في الثانية والعشرين من عمره، ثم خرج منها في رمضان من تلك السنة، وسمع من سهل بن يوسف الأنماطي بها

(2)

، ثم عاد إليها في ذي القعدة سنة أربع وتسعين ومائتين، وهو في الثلاثين من عمره، فأقام عند يحيى بن سعيد القطان ستة أشهر، وخرج منها سنة خمس وتسعين، ثم رجع إليها أيضا وهو في السادسة والثلاثين من عمره في سنة مائتين، وحضر عدة مجالس للحديث، سمع من كبار علمائها، وهي آخر مرة يدخل فيها البصرة، وفي هذا السياق يقول:

"دخلت البصرة في أول رجب سنة ست وثمانين ومائة، ومات المعتمر في سنة سبع وثمانين في أولها، ودخلت الثانية سنة تسعين، ودخلت الثالثة في سنة

(1)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 1/ 559 رقم 1334.

(2)

المصدر نفسه 2/ 184 رقم 1944، والتاريخ الكبير 4/ 102.

ص: 30

أربع وتسعين وخرجت في سنة خمس وتسعين، أقمت على يحيى بن سعيد ستة أشهر، ودخلت سنة مائتين ولم أدخلها بعد ذلك وقدمت البصرة سنة أربع وتسعين وقد مات غندر بلغني أن غندر مات سنة ثلاث وتسعين والثقفي عبد الوهاب وابن أبي عدي سنة أربع وتسعين"

(1)

.

وكان يقول أيضا: "قدمت في السنة الثالثة في سنة أربع وتسعين في ذي القعدة فأقمت على يحيى بن سعيد إلى سنة خمس فأقمت بقية ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وخرجت في جمادى الأولى في آخرها

وقد مات محمد بن جعفر غندر وابن أبي عدي والثقفي قبل أن أقدم، فأخبرت أن محمد بن جعفر مات سنة ثلاث وتسعين، ومات ابن أبي عدي وعبد الوهاب الثقفي سنة أربع وتسعين قبل أن أقدم

وقدمت في السنة الرابعة سنة مائتين، فأقمنا على أبي داود

(2)

وكان يحدث مجالس، ثم تحولنا إلى عبد الصمد، وكنا نختلف أيضا إلي البرساني، وقد سمعت منه قبل ذلك في سنة أربع وتسعين، ما أردت من حديث ابن جريج، وكنت أختلف إلى عبد الرحمن وبهز وأنا مقيم على يحيى بن سعيد وكنت أختلف إلى عثمان بن عمر سنة مائتين

"

(3)

.

‌وأمّا رحلاته خارج العراق فقد كان منها:

- رحلته إلى مكة شرفها الله تعالى لأداء شعائر حجته الأولى ولقاء العلماء بها، ثم توالت حججه بعدها، فحج خمس مرات ثلاث منها ماشيا على رجليه

(4)

،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 174/رقم 118، وانظر أيضا: العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 561/رقم 1339.

(2)

هو سليمان بن داود أبو داود الطيالسي.

(3)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 3/ 448/رقم 5904، 5905، 5906.

(4)

انظر: تقدمة الجرح والتعديل ص 304، وحلية الأولياء 9/ 183.

ص: 31

يلتقي بسفيان بن عيينة في أربعة مواسم منها، وقد أقام عنده سنة في أول حجّته وكان ذلك في سنة (187) هـ وعمره لم يتجاوز ثلاثا وعشرين سنة؛ وفاته السماع من فضيل بن عياض؛ إذ مات فضيل قبل وصوله مكة؛ قال عبد الله ابنه: سمعته يقول: "وافيت سفيان أربعة مواسم، كل ذلك أسمع منه، وأقمت بمكة سنة، وأول سنة حججت سنة سبع وثمانين سنة مات فضيل، قدمنا وقد مات فضيل، والثانية سنة إحدى وتسعين ومائة"

(1)

.

وكان في أمنيته أن يدخل المدينة في أول عام يحج فيه، ويسمع من علمائها، وقد جاء ومعه أطراف أحاديث أبي علقمة الفروي لعرضها عليه، وسماعها منه لكن لم يكتب الله له ذلك؛ وكان يقول: "أول سنة حججت سنة سبع وثمانين، كنت أمشي ولم يقدر لي دخول المدينة يعني تلك السنة، وكانت معي أطراف لأبي علقمة الفروي

(2)

، فلم يقدر أن أسمع منه شيئا"

(3)

.

كما رحل أيضا إلى اليمن للقاء عبد الرزاق بن همام الصنعاني سنة تسع وتسعين، وجاءهم نعي القطان وابن مهدي وهم عند عبد الرزاق الصنعاني، قال رحمه الله: "

وجاءنا موت سفيان بن عيينة ونحن عند عبد الرزاق في سنة ثمان وتسعين ومات يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ونحن عند عبد الرزاق سنة ثمان وتسعين"

(4)

.

كما كانت له الرحلة إلى عديد من بلاد الشام سمع خلالها من محدثيها الكبار، قال ابن عساكر: "كان قد خرج إلى الشام قاصدا لمحمد بن يوسف

(1)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله ـ رواية عبد الله ـ 3/ 139/رقم 4611. وانظر أيضا المصدر نفسه 1/ 561/رقم 1338.

(2)

هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة الأموي مولاهم، أبو علقمة الفروي المدني. صدوق من الثامنة، مات سنة 190 تقريب التهذيب 3612.

(3)

المصدر نفسه 1/ 560/رقم 1338.

(4)

المصدر نفسه 3/ 448/رقم 5904، 5905، 5906.

ص: 32

الفريابي، إلى قيسارية، فبلغته وفاته في الطريق، فعدل إلى حمص، فسمع بها أبا اليمان الحكم بن نافع، ويزيد بن عبد ربه، وبشر بن شعيب بن حمزة

واجتاز بدمشق، وسمع من أهل دمشق؛ من الوليد بن مسلم، وزيد بن يحيى بن عبيد"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: "كتبت عن مبشر الحلبي، خمسة أحاديث بمسجد حلب، كنا خرجنا إلى طَرسوس، على أرجلنا"

(2)

.

وكان خروجه إلى طَرَسوس

(3)

ماشياً

(4)

للرباط بثغورها، بصحبة خَلَف المخرّمي

(5)

؛ قال عبد الله بن محمود بن الفرج: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: "خرج أبي إلى طَرَسُوس، ورابط بها وغزا، ثم قال أبي: رأيت العلم بها يموت"

(6)

.

‌شيوخه وتلاميذه:

كتب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن خلق كثير من الشيوخ، وتخرج على أيدي كبار المحدثين وأئمة أعلام، اعتنى غير واحد ممن ترجم له بذكرهم كابن الجوزي، والخطيب البغدادي، وقال هذا الأخير بعد ذكر جملة كبيرة منهم:"وخلق سواهم يطول ذكرهم ويشق إحصاء أسمائهم"

(7)

، كما عدّ له المزي في "تهذيب الكمال" سبعة وعشرين ومائة شيخٍ

(8)

.

(1)

تاريخ دمشق 5/ 253.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 308.

(3)

طرسوس: بفتح أوله وثانيه، وسينين مهملتين، بينمهما واو ساكنة، بلدة مشهورة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. انظر: معجم البلدان 4/ 31.

(4)

انظر: حلية الأولياء 9/ 183.

(5)

انظر: السنة للخلال 3/ 503 - 504/رقم 805.

(6)

سير أعلام النبلاء 11/ 311.

(7)

تاريخ بغداد 4/ 413.

(8)

تهذيب الكمال 1/ 437 - 440.

ص: 33

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "فعدة شيوخه الذين روى عنهم في "المسند" مائتان وثمانون ونيف"

(1)

.

وقد كان الإمام أحمد ملازما لبعض شيوخه أكثر من غيرهم، وحافظاً لأحاديث بعضهم أكثر من حفظه لأحاديث غيره، كما أن له اختصاصا في كثرة الرواية عن بعضهم، فمن هؤلاء:

1) هشيم بن بشير الواسطي ت (183) هـ كان من شيوخه الأوائل الذين أخذ عنهم الحديث

(2)

، وقد لازمه نحوا من أربع سنين؛ وأكثر عنه وجوّد

(3)

. قال صالح بن أحمد، عن أبيه: "أول سماعي من هشيم، سنة تسع وسبعين

إلا أني لم أعتمد بعض سماعي، ولزمناه سنة ثمانين، وإحدى وثمانين، وثنتين، وثلاث، ومات في سنة ثلاث ثمانين، فكتبنا عنه كتاب الحج، نحو من ألف حديث، وبعض التفسير، والقضاء، وكتباً صغاراً. قلت: يكون ثلاثة آلاف؟ قال: أكثر"

(4)

.

2) عبد الرحمن بن مهدي ت (198) هـ، فقد أخذ عنه وأكثر، حتى قال هو بنفسه:"يكون ما كتبنا عن عبد الرحمن مع ما عرضت عليه من حديث مالك عشرة آلاف أو أكثر"

(5)

.

3) وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ت (197) هـ، فقد كتب عنه وأكثر، بل كان يقول:"ما كتبت عن أحد أكثر من وكيع"

(6)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 11/ 181.

(2)

انظر: حلية الأولياء 9/ 162، 163، وتاريخ بغداد 4/ 416.

(3)

كما قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 11/ 180.

(4)

سيرة الإمام أحمد لابن صالح ص 33.

(5)

العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 2/ 98/رقم 1686.

(6)

سير أعلام النبلاء 11/ 207.

ص: 34

وقال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: "خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام"

(1)

.

1) إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصريّ ت (193) هـ، كتب عنه الإمام أحمد في حياة هشيم ثم لزمه بعد موت هشيم عشر سنين؛ وكان يقول:"لزمنا ابن علية بعد موت هشيم عشر سنين، إلا أن تغيب إلى موضع، ومات هشيم سنة ثلاث وثمانين، ومات إسماعيل سنة ثلاث وتسعين، وكتبنا عنه أيضا في حياة هشيم"

(2)

.

2) عفان بن مسلم الصفّار البصريّ ت (220) هـ، وقد لزمه أيضا عشر سنين؛ قال عبد الله: سمعت أبي يقول: "لزمنا عفان عشر سنين ـ يعني ببغداد"

(3)

.

3) يحيى بن سعيد القطان البصري ت (198) هـ قال الحافظ الذهبي معدداً مَن سمع منهم من شيوخه: "

ويحيى القطان، فبالغ"

(4)

. وقد حزن يحيى القطان يوم خرج الإمام أحمد من البصرة، وتوجه إلى واسط للسماع من يزيد بن هارون، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: "شق على يحيى

ابن سعيد يوم خرجت من البصرة ـ يعني اغتم بخروجه من عنده ـ قال: وسأل يحيى بن سعيد عني وأنا بواسط مقيم على يزيد بن هارون، فقالوا: هو بواسط، فقال: أَيْشٍ يصنع بواسط؟ فقالوا: عند يزيد بن هارون، فقال: وَأَيْشٍ يصنع عند يزيد بن هارون؟ " أو كما قال أبي

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 11/ 186.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 363/رقم 2608.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 435/رقم 5848.

(4)

سير أعلام النبلاء 11/ 180.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 302/رقم 2339. وليس في كلام القطان هذا غمز ليزيد بن هارون، وإنما فيه تأسفه على فراق الإمام أحمد.

ص: 35

1) سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي المكي ثم الكوفي ت (198) هـ، وافاه الإمام أحمد مكة في أربعة مواسم للسماع منه والأخذ عنه

(1)

.

2) محمد بن جعفر غندر البصري ت (193) هـ فقد كتب الكثير عنه على الوجه ونسخ عدة من نسخ كتبه

(2)

.

‌وأما تلاميذه

، فمن البَدهي في حق إمام مثل أحمد بن حنبل الذي سمع وأكثر وجوّد أن يتاكثر عليه القاصدون، وأن يسعى للسماع منه الداني والقاصي، فقد كتب وسمع عنه عدد لا يكاد يأتي عليه إحصاء أو يحويهم استقصاء، بل ذُكر أنه يجتمع في مجلس من مجالسه العلمية زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت

(3)

.

وقد جمع الخلال جزءًا في تسمية الرواة عنه قال الحافظ الذهبي: "سمعناه من الحسن بن علي، عن جعفر، عن السلفي، عن السراج، عنه، فعد فيهم: وكيعَ ابن الجراح، ويحيى بن آدم"

(4)

.

وهذان من شيوخه، وقد سمع منه أيضا من شيوخه: عبد الرزاق والحسن بن موسى الأشيب، وأبو عبد الله الشافعي لكنه لم يسمه بل قال: حدثني الثقة

(5)

.

كما سمع منه من أقرانه: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرهما.

(1)

انظر: العلل ومعرفة الرجال - برواية عبد الله 3/ 139/رقم 4611.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 308.

(3)

سير أعلام النبلاء 11/ 316.

(4)

سير أعلام النبلاء 11/ 183.

(5)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 189.

ص: 36

ومن أصحاب الستة: حدّث عنه البخاريّ بحديث واحدٍ

(1)

، وعن أحمد ابن الحسن، عنه حديثاً آخر في المغازي

(2)

، وحدث عنه مسلم

(3)

، وأبو داود

(4)

بجملة وافرة، وروى أبو داود

(5)

، والنسائي

(6)

، والترمذي

(7)

، وابن ماجة

(8)

عنه بواسطة.

وحدث عنه ولداه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق

(9)

.

وممن روى عنه غير من تقدم، واشتهر نقل كلامه في العلل والرجال من طريقه، وكذا مسائله الفقهية: أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم الإسكافي

(10)

، وأبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المرُّوذي

(11)

، وأبو طالب أحمد بن حميد

(12)

، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري

(13)

،

(1)

انظر: صحيح البخاري ـ كتاب اللباس ـ باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر ح 5879.

(2)

صحيح البخاري ـ كتاب المغازي ـ باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم ح 4473.

(3)

انظر على سبيل المثال: صحيح مسلم، الأرقام التالية: ح 166، 215، 502، 581، 710، 1284.

(4)

انظر على سبيل المثال: سنن أبي داود، الأرقام التالية ح 27، 38، 60، 74، 89، 93، 121.

(5)

انظر: سنن أبي داود ـ كتاب الصيد ـ باب الصيد ح 2850.

(6)

انظر: سنن النسائي ح 958، 1431، 1884، 2252.

(7)

انظر: سنن الترمذي ـ كتاب التفسير ـ باب ومن سورة المؤمنون ح 3173.

(8)

انظر: سنن ابن ماجة ح 388، 1465، 1531.

(9)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 181.

(10)

قال ابن أبي يعلى: نقل عن إمامنا مسائل كثيرة، وصنفها ورتبها أبواباً طبقات الحنابلة 1/ 66. وقد أكثر الخطيب وابن عبد البر نقل كلام الإمام أحمد في علل الحديث من طريقه.

(11)

كان المقدم من أصحاب أحمد لورعه وفضله، وكان الإمام أحمد يأنس إليه وينبسط إليه، وقد روى عنه مسائل كثيرة طبقات الحنابلة 1/ 56. منها في العلل ومعرفة الرجال، وهي مطبوعة في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره.

(12)

كان متخصصاً بصحبة الإمام أحمد، وروى عنه مسائل كثيرة طبقات الحنابلة 1/ 39. روى ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال كثيراً من تلك المسائل مما يتعلق بالرجال وعلل الحديث.

(13)

نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، وهي مطبوعة.

ص: 37

وعبد الملك بن عبد المجيد أبو بكر الميموني

(1)

، والفضل بن زياد البغدادي

(2)

، ومهنّا بن يحيى السلمي الشامي

(3)

، وخلق سواهم.

(1)

ذكر أنه صحب الإمام أحمد 22 سنة من سنة 205 هـ إلى سنة 227 هـ. روى عنه مسائل كثيرة المصدر نفسه 1/ 213. ومسائله في الرجال وعلل الحديث أيضاً في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره.

(2)

ذكر الخلال أنه كان من المتقدمين عند الإمام أحمد، وكان يصلي به، ووقع له عنه مسائل كثيرة المصدر نفسه 1/ 251. وقد أكثر يعقوب الفسوي من نقل كلام الإمام أحمد في الرجال وعلل الحديث من طريقه، ورواه الخطيب من طريق الفسوي في تاريخ بغداد.

(3)

رحل مع الإمام أحمد إلى عبد الرزاق، وصحبه إلى أن مات، وذكر الخلال أن مسائله أكثر من أن تحد من كثرتها، وأن عبد الله بن أحمد كتب عنه مسائل كثيرة عن أبيه لم تكن عند عبد الله المصدر نفسه 1/ 345.

ص: 38

‌المبحث الثالث: إمامته ومكانته عند علماء الحديث

كان الإمام إمام الدنيا ـ كما نعته عبد الله بن محمد بن عبد العزيز

(1)

، وكان رحمه الله تعالى "عظيم الشأن، رأساً في الحديث، وفي الفقه، وفي التألُّه، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه"

(2)

.

وثناء الأئمة النقاد عليه كثير موفور استفاضت كتب التراجم بنقله وروايته، بما يغني عن تكراره في هذا التعريف

(3)

، وفيما يلي نماذج دالة على حفظه ومعرفته بالعلل وصحيح الآثار من سقيمها واعتماد الحفاظ على قوله ورجوعه إلى رأيه:

1 -

صالح بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبى يقول: "مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أحفظ ما سمعت منه، ولقد جاء إنسان إلى باب ابن علية ومعه كتب هشيم، فجعل يلقيها عليّ وأنا أقول: إسناد هذا كذا

فجاء المعيطي، وكان يحفظ، فقال له: أجبه فبقي، ولقد عرفت من حديثه ما لم أسمعه"

(4)

.

2 -

قال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن مسلم بن وارة، وسئل عن على ابن المديني ويحيى بن معين أيهما كان أحفظ؟ قال: "على كان أسرد وأتقن،

(1)

انظر: مقدمة الكامل في ضعفاء الرجال ص 118.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 203 ص.

(3)

انظر: تقدمة الجرح والتعديل ص 292 - فما بعد، ومقدمة الكامل في الضعفاء، ص 118 - 119، وحلية الأولياء 9/ 163، وتاريخ بغداد 4/ 416 فما بعد، وسير أعلام النبلاء 11/ 185 - 205.

(4)

تقدمة الجرح والتعديل ص 295 - 296.

ص: 39

1 -

ويحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه، وأجمعهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، كان صاحب فقه، وصاحب حفظ، وصاحب معرفة"

(1)

.

2 -

وقال أبو حاتم: "كان أحمد بن حنبل بارع الفهم لمعرفة الحديث بصحيحه وسقيمه، وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه، وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد: نعم، جعله أصلا وبنى عليه"

(2)

.

3 -

وقد كان الإمام أحمد أحد أولئك الأفذاذ الذين تكلموا في الرجال جرحا وتعديلا صيانة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأداء لواجب أمانة العلم في إنصاف واعتدال وورع، قال عنه الحافظ الذهبي:"وكذلك أحمد بن حنبل، سأله جماعة من تلامذته عن الرجال، وجوابه بإنصاف واعتدال، وورع في المقال"

(3)

.

ومباحث هذه الرسالة شاهدة على تبحره في معرفة علل الحديث، وناطقة بتضلعه من دراية صحيح الحديث وسقيمه، وتنبهه إلى مواضع الخلل من طرقه، ووجوه اتصاله وانقطاعه، وتبحره في معرفة طرق الحديث.

(1)

تقدمة الجرح والتعديل ص 294.

(2)

تقدمة الجرح والتعديل ص 302.

(3)

ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 187 ضمن أربع رسائل، وانظر أيضا: سير أعلام النبلاء 9/ 149، والموقظة ص 63.

ص: 40

‌المبحث الرابع: محنته

.

للحافظ الذهبي رحمه الله استعراض بديع موجز لتاريخ الفتن التي نزلت بهذه الأمة وتفرقت بسببها كلمتُها وتمّ لأعداء الدين ما يريدون من تشويه عقول بعض المسلمين، يقول رحمه الله:

"كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة ثم ظهرت الروافض والنواصب. وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة والجهمية والمجسمة بخراسان في اثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين، فظهر المأمون الخليفة ـ وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول ـ فاستجلب كتب الأوائل وعرّب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة فإنه كان كذلك. وآل به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القران، وامتحن العلماء، فلم يمهل، وهلك لعامه وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة ما زالت على أن القران العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء ولم تكن الجمهية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم، وأظهر المقالة"

(1)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 11/ 236.

ص: 41

لقد صمد الإمام أحمد أمام رياح هذه الفتنة العاتية ـ فتنة خلق القرآن ـ و"صار مثلاً سائراً، يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، فإنه لم يكن تأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونه باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، وهذا مذهب الإمام أحمد

لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فإنه أعطي من الصبر واليقين ما نال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه"

(1)

.

وقد ارتفع قدر الإمام أحمد رحمه الله، وعلت منزلته وصار كالنجم بسبب صموده أمام تلك العاصفة، وصبره على الفتنة والمحنة، فعرف العالم له ذلك كله، وأثنى عليه أئمة عصره ومن بعدهم من ذلك:

1 -

قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين برجلين، ليس لهما ثالث، أبو بكر الصديق، يوم الردة، وأحمد بن حنبل، يوم المحنة"

(2)

.

(1)

من كلام محقق سير أعلام النبلاء 11/ 232 الهامش رقم 1.

(2)

تاريخ بغداد 4/ 418.

ص: 42

2 -

وقال قتيبة بن سعيد: "لولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين"

(1)

.

3 -

وقال أبو زرعة الرازي: "لم أزل أسمع الناس يذكرون أحمد بن حنبل بخير، ويقدمونه على يحيى بن معين، وأبي خيثمة، غير أنه لم يكن من ذكره ما كان

فلما امتحن ارتفع ذكره في الآفاق"

(2)

.

4 -

وقيل لبشر بن الحارث حين ضرب الإمام أحمد بن حنبل: لو قمت فتكلمت كما تكلم أحمد بن حنبل، فقال:"لا أقوى عليه، إن أحمد قام مقام الأنبياء"

(3)

.

وقال عنه أبو عمير بن النحاس الرملي: "رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدينا فأباها، والبدع فنفاها"

(4)

.

(1)

تاريخ بغداد 4/ 417.

(2)

تقدمة الجرح والتعديل ص 309.

(3)

تقدمة الجرح والتعديل ص 310.

(4)

سير أعلام النبلاء 11/ 198.

ص: 43

‌المبحث الخامس: آثاره العلمية

.

على الرغم من أن الإمام أحمد كان يكره وضع الكتب وينهى عن كتابة كلامه، فإن دوره واضحاً في إثراء المكتبة الإسلامية وأسهم في الحركة العلمية بمؤلفاته الكثيرة، حفظها لنا تلاميذه من بعده. وقد أسهم كثير ممن أفردوا دراسات حول الإمام أحمد في بيان آثاره العلمية، وكذلك في الدراسات التي رافقت كثيرا من تحقيقات كتبه في الحديث وعلله والجرح والتعديل وغير ذلك، فلذلك سأقتصر هنا في سرد المطبوع من آثاره العلمية المتعلقة بالعلل والجرح والتعديل وهي كالتالي:

1 -

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي.

2 -

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية الميموني.

3 -

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية صالح بن الإمام أحمد.

4 -

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله بن أحمد.

5 -

المنتخب من العلل للخلال ـ انتخاب موفق الدين ابن قدامة.

6 -

سؤالا أبي داود السجستاني للإمام أحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم.

7 -

مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه عبد الله.

8 -

مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه صالح.

9 -

مسائل الإمام أحمد ـ رواية أبي داود السجستاني.

10 -

مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابن هانئ.

ص: 45

‌المبحث السادس: وفاته

.

كانت وفاة الإمام أحمد رحمه الله في العاشر من شهر ربيع الآخر، سنة (241) هـ، وله ثمان وسبعون سنة:

قال ابنه عبد الله رحمه الله: سمعت أبي يقول: "استكملت سبعا وسبعين، ودخلت في ثمان وسبعين". فحم من ليلته ومات يوم العاشر يوم الجمعة رحمه الله

(1)

.

وقال عبد الله أيضا: "مات في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين وهو في ثمان وسبعين سنة"

(2)

.

وكانت جنازته مشهودة؛ فقد حرز من حضرها من الرجال بثمان مئة ألف، ومن النساء بستين ألف امرأة، ونظروا فيمن صلى العصر يومئذ في مسجد الرصافة فكانوا نيفا وعشرين ألفا

(3)

، وهذا مصداق لقوله رحمه الله:"قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز"

(4)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 145/رقم 1815.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 266/رقم 5178.

(3)

سير أعلام النبلاء 11/ 339.

(4)

سير أعلام النبلاء 11/ 340، والبداية والنهاية 10/ 342.

ص: 47

‌الفصل الثاني: التعريف ببعض الكتب التي اعتنت بتدوين كلام الإمام أحمد في إعلال الأحاديث

ص: 49

‌المبحث الأول: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية ابنه عبد الله

.

‌المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

هذا الكتاب رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، وقد ذكره من ترجم لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال ابن أبي يعلى:"وقع لعبد الله عن أبيه مسائل جياد كثيرة، يغرب منها بأشياء كثيرة في الأحكام، فأما العلل فقد جود عنه، وجاء عنه بما لم يجئ به غيره"

(1)

.

وقال أيضاً: "فأما عبد الله فلم يكن في الدنيا أحد روى عن أبيه أكثر منه، لأنه سمع المسند

وسمع الناسخ والمنسوخ، والتاريخ"

(2)

.

ويدل على أنه من تأليف الإمام أحمد ما ذكره العقيلي أنه قرأ على عبد الله بن أحمد "كتاب العلل" عن أبيه

(3)

. فأضاف الكتاب للإمام أحمد وأضاف روايته لعبد الله ابنه.

والكتاب مشتمل على زيادات من عبد الله منها مسائل سألها أباه في العلل ومعرفة الرجال، ووجادات وما أخذه عن بعض مشايخه غير أبيه كتابة ووجادة.

(1)

طبقات الحنابلة 1/ 183.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

الضعفاء للعقيلي 3/ 962 في ترجمة علي بن المديني. واهتديت إليه بواسطة الدكتور وصي الله عباس في تحقيقه لكتاب العلل ومعرفة الرجال برواية عبد الله 1/ 87.

ص: 51

‌موضوع الكتاب:

أما موضوع الكتاب فيكاد يشمل جميع أبواب علوم الحديث، فأما من حيث علل الحديث، فإنه يذكر الأحاديث من كل باب من أبواب العلم، ويشير إلى نوع العلة، من نكارة، أو غرابة، أو إرسال، أو تدليس، أو تصحيف، أو إدراج، أو قلب، أو بطلان، أو وضع. وأما من حيث الكلام في الرجال فيتكلم عن الثقات، والضعفاء، ومن رمي بالابتداع، والمتروكين، والمتهمين، والوضاعين، يذكر ما يتعلق بجرحهم وتعديلهم، وذكر أسمائهم، وألقابهم وكناهم، وكنى المعروفين بالأسماء، وأسماء المعروفين بالكنى، وأنسابهم، والمؤتلف والمختلف، والمتشابه، والمبهمات، ومواليد الرواة ووفايتهم، ومواطنهم، وإثبات سماع بعضهم من بعض ونفيه حيث لم يثبت. وأما القسم الأكبر من الكتاب فهو في الكلام عن الأسانيد والمتون وما فيها من العلل.

فذكر على سبيل المثال علل أحاديث هشيم فسردها

(1)

مع ذكر علة كل حديث، وأغلبها مما لم يثبت سماعه فيها من شيخه.

ومن أمثلة مادة الكتاب في هذا الموضوع أحاديث سئل عنها الإمام أحمد مما أخطأ فيها الفريابي على سفيان الثوري، وهي من كتاب ابن زنجويه عن الفريابي، وجُملتها (13) حديثاً

(2)

.

وأما في الرجال، فأفرد على سبيل المثال من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء

(3)

، فسردهم أحياناً مع الإشارة إلى ما يثبت سماعهن من النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في غير المشهورات منهن.

(1)

انظر: العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 253 رقم 2161 إلى 2/ 284 رقم 2268.

(2)

المصدر نفسه من 4151 إلى 4164.

(3)

رقم 5784.

ص: 52

كما ذكر الرواة عن عمر، من أهل مكة، ثم من أهل المدينة، ثم من أهل البصرة، ثم من روى عن علي من أهل البصرة، ثم من روى عن عثمان من أهل المدينة

(1)

.

وذكر من روى عن شعبة ولم يسمع منهم الثوري، ومن روى عنهم سفيان ولم يحدث عنهم شعبة

(2)

.

‌خصائص الكتاب:

من أهم خاصية الكتاب أنه أكثر الكتب الموجودة عن الإمام أحمد جمعاً للأحاديث التي أعلّها الإمام أحمد، وهو من أئمة هذا الشأن بلا نزاع، وكلامه يشكل جزء كبيراً من مادة هذا العلم، كما أنه من الأئمة الذين يعتمد قولهم في الجرح والتعديل.

ويختص هذا الكتاب بأنه من رواية ابنه عبد الله، وهو ممن قد شهد له الإمام أحمد بأنه قد وعى علماً كثيراً

(3)

، مما يؤتي قيمة لنوعية الأسئلة التي يسألها الإمام أحمد سواء في علل الأحايث أو في الرجال.

وقد خُصِّص الكتاب بمسائل في علوم الحديث جُرد من غيرها، فلا توجد فيه مسائل فقهية كما هو الحال في بعض كتب مسائله، وهذا مما يزيد من أهمية الكتاب لدى أهل الاختصاص.

‌قيمة الكتاب عند العلماء:

تظهر قيمة هذا الكتاب عند العلماء من استفادة الفحول الأجلاء منه من لدن عهد عبد الله بن الإمام أحمد، فالعقيلي اعتمد عليه كثيراً في مصنفه "كتاب

(1)

المصدر نفسه 1/ 288 إلى 1/ 291.

(2)

المصدر نفسه 1/ 472 - 477.

(3)

تاريخ بغداد 9/ 376.

ص: 53

الضعفاء" في نقل كلام الإمام أحمد في الرجال وفي علل الأحاديث، وكان العقيلي من تلاميذ عبد الله، وقد تقدم أنه سمع الكتاب منه. وكذلك ابن أبي حاتم اعتمد عليه في نقل كثير من كلام الإمام أحمد في الرجال، وذكر أن عبد الله كتب إليه بمسائل أبيه وبعلل الحديث

(1)

، وهو كتابنا هذا، وكان ابن أبي حاتم من أقرانه. وهذان الكتابان من أكثر الكتب اعتماداً على كتاب العلل برواية عبد الله.

وتتابع العلماء في الاستفاد من الكتاب، فنقل الخطيب منه في الرجال وفي العلل، فذكر على سبيل المثال في باب علل حديث:"تبنى مدينة بين دجلة ودُجيل" ما رواه عبد الله عن أحمد من علة هذا الحديث

(2)

. وكذلك له نقولات كثيرة عنه في الرجال.

وكذلك نقل عنه البيهقي رواية حديث من كتاب العلل

(3)

.

وقال ابن الصلاح: "ومن كتب علل الحديث ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل، وكتاب العلل عن الدراقطني"

(4)

.

ومما يدل على أهمية الكتاب كثرة السماعات الموجودة على النسخة الخطية للكتاب

(5)

.

‌روايات الكتاب:

وقع في عنوان الجزء الأول من الكتاب: "الجزء الأول من كتاب العلل ومعرفة الرجال، عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، رواية أبي علي محمد

(1)

الجرح والتعديل 5/ 7.

(2)

تاريخ بغداد 1/ 34، 35.

(3)

السنن الكبرى 8/ 37.

(4)

معرفة علوم الحديث ص 227.

(5)

انظر: مقدمة د. وصي الله عباس العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 102 - 107.

ص: 54

ابن أحمد بن الحسن الصواف، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أبي عبد الله، سماع عبيد الله بن أحمد"

(1)

. وتوجد منه نسخة كاملة في مكتبة أيا صوفيا تحت رقم (3380)، وتشمل على (180) ورقة مجزأة في ثمانية أجزاء. وقد قام الدكتور طلعت فوج ييكيت، والدكتور إسماعيل جراح أوغلوا بتحقيق الجزء الأول من الكتاب

(2)

. ثم قام بتحقيق الكتاب كاملاً الدكتور وصي الله بن محمد عباس، فصدر في ثلاث مجلدات

(3)

.

ثم صدر الكتاب أيضاً من مطبوعات مؤسسة الكتب الثقافية

(4)

. وليس فيها خدمة النص، لكن ضبطت الأصل ضبطاً جيداً.

وذكر د. همام عبد الرحيم سعيد أنه وجد في خزانة المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء الثاني عشر من العلل ومعرفة الرجال من رواية أبي بكر مكرم بن أحمد ابن مكرم عن عبد الله، وعليه سماع ابن أبي يعلى

(5)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله ـ برواية عبد الله 1/ 127.

(2)

صدر الكتاب سنة 1963 م بأنقرة.

(3)

صدرت الطبعة الأولى منه من مطبوعات المكتب الإسلامي سنة 1408 هـ، 1988 م.

(4)

صدر سنة 1410 هـ، 1990 م.

(5)

شرح علل الترمذي 1/ 72. ورقم هذه النسخة: 222/ق 98 - 107.

ص: 55

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

في هذا الكتاب أسئلة وسماعات يقول فيها عبد الله: سألت أبي، وسمعت أبي، وحدثني أبي. وكذلك توجد وجادات يقول فيها عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده، وأغلبها تواريخ عن الأمم السالفة، والأنبياء وغير ذلك من الأخبار، وهو مما يرجح أنها من كتاب الإمام أحمد "التاريخ".

ومادة الكتاب عرضت غير مرتبة ولا مصنفة على نسق واحد، وما ذلك إلا لأن معظم الكتاب إجابات عن أسئلة معروضة على الإمام أحمد في أوقات ومناسبات مختلفة، بعضها من عبد الله، وبعضها مما سئل الإمام أحمد بحضرة عبد الله.

وكذلك ما يتعلق بمادة التاريخ من الكتاب لم ترتب على ترتيب معين، لا على أسماء الرواة ولا على طبقاتهم أو غير ذلك من الأنواع المختلفة المنقولة عن علماء الحديث في ترتيب مادتهم العلمية عند التصنيف.

وكذلك يوجد في كثير من الأسئلة نوع من الخفاء في السؤال أو في الجواب أو في كليهما، وذلك لأن السائل إمام يسأل ما أشكل عليه في بعض الأسانيد والعلل الواقعة فيها، أو في حالة بعض الرواة ومنزلتهم، فيجيبه الإمام أحمد بإشارات يلزم من يروم فهمها بحث طويل في طرق الحديث حتى يفهم السؤال والجواب، إلا إذا كان له علم وإلمام بموضوع المسألة. وقد يسأل عن الحديث بذكر كلمة منه، أو بذكر بابه، وهو موضوعه العام، أو يسأل عن الرجل بذكر اسمه دون اسم أبيه، أو بذكر كنيته، أو لقبه، على ما كان في الأسماء والكنى والألقاب من الاشتباه والاشتراك، وقد يكون الجواب كذلك. وكل هذه الأمور كانت معروفة عند السائل والمجيب بخلاف الناظر في ذلك خصوصا في هذا العصر.

وكان عرض السؤال والجواب بلغة النطق والتخاطب ولم يكن بلغة التصنيف، وبينهما فرق قليل تحتاج المواضع التي وقع ذلك فيها إلى نوع من التأمل.

ص: 56

‌المبحث الثاني: كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المرُّوذي وغيره

.

‌المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

هذا الكتاب جمع مسائل في علل الحديث ومعرفة الرجال برواية ثلاثة من تلاميذ الإمام أحمد، وهم: أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المرُّوذي ت (275) هـ، وأبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني ت (274) هـ، وأبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل رحمهم الله.

وموضوعه شامل لمعظم أبواب علوم الحديث، كما يشمل أحاديث وحكايات من أمور التاريخ. وليس فيه أحاديث مسندة عن الإمام أحمد.

ومعظم الكتاب برواية المرّوذي

(1)

، وهو من تلاميذ الإمام أحمد المذكورين برواية مسائل كثيرة عن الإمام أحمد

(2)

؛ ثم تأتي رواية الميموني في الدرجة الثانية

(3)

، وقد كان كثير السؤال للإمام أحمد، وذكر ابن أبي يعلى أن مسائله عن الإمام أحمد في ستة عشر جزءاً

(4)

، مما يدل على أن هذا جزء صغير من مسائله. ومما يدل على ذلك أن الخلال ذكر أن في مسائله شيئاً كثيراً يقول فيها:"قرأت على أبي عبد الله كذا وكذا، فأملى علي كذا، يعني الجواب"

(5)

وليس في هذا الكتاب من رواية الميموني شيء مما قرأه على الإمام أحمد.

(1)

من أول الكتاب إلى نص رقم 310.

(2)

تاريخ بغداد 4/ 423.

(3)

من النص رقم 336 إلى رقم 514.

(4)

طبقات الحنابلة 1/ 213.

(5)

المصدر نفسه 1/ 214.

ص: 57

والجزء الذي رواه صالح هو أقل الأجزاء الثلاثة

(1)

، والباقي من الكتاب هو ما رواه أبو عوانة الإسفراييني، الراوي عن تلاميذ أحمد الثلاثة، مما رواه عن شيوخه، وهي حكايات والجرح والتعديل.

‌خصائصه:

اختص الكتاب بإيراد كثير من أقوال الإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم، وفي علل الحديث.

ويختص هذا الكتاب بأنه من رواية المروذي الذي وصف بأنه المقدم من أصحاب الإمام أحمد

(2)

، والميموني الذي اختص برواية مسائل كثيرة عن الإمام أحمد كما تقدم، وصالح بن أحمد، وقد كانت له مسائل كثيرة عن الإمام أحمد أيضاً، وكان الناس يراسلونه من خراسان من مواضع نائية يسأل لهم أباه عن المسائل، فوقعت له مسائل جياد

(3)

.

‌قيمته عند العلماء:

اعتمد كثير من العلماء ممن صنف في الجرح والعديل على رواية هؤلاء التلاميذ الثلاثة في نقل كلام الإمام أحمد في جرح الرواة وتعديلهم، منهم ابن أبي حاتم

(4)

، والعقيلي

(5)

، والمزي

(6)

، وكذلك من اعتنى بعلل الحديث، كابن أبي حاتم في

(1)

من نص رقم 311 إلى 327.

(2)

طبقات الحنابلة 1/ 56.

(3)

انظر: طبقات الحنابلة 1/ 173.

(4)

في كتابه الجرح والتعديل، وانظر على سبيل المثال: 1/ 17، 1/ 302، 3/ 141 كلها عن الميموني.

(5)

في كتابه الضعفاء. انظر على سبيل المثال: ترحمة إسماعيل الخلقاني، وأحوص بن حكم، جابر الجعفي، كلها عن الميموني

(6)

تهذيب الكمال 1/ 264، 2/ 148، 3/ 100، 19/ 168.

ص: 58

"المراسيل"

(1)

، وابن دقيق العيد

(2)

، وابن رجب، وابن حجر في شرحهما على "صحيح البخاري"

(3)

. وكذلك من صنف في علوم الحديث كالخطيب

(4)

.

‌رواياته:

هذا الكتاب توجد منه نسخة من مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق ضمن مجموع رقم (40)، وهو من رواية الحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفراييني. وطبع بتحقيق الدكتور وصي الله محمد عباس

(5)

، وصدر أيضاً في الطبعة التي نشرتها مؤسسة الكتب الثقافية مع كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله.

(1)

المراسيل 829.

(2)

في كتاب الإمام. انظر على سبيل المثال 4/ 75 - 76.

(3)

انظر: فتح الباري لابن رجب 2/ 228، 4/ 113، 4/ 156، 6/ 111، وفتح الباري لابن حجر 1/ 300.

(4)

انظر: الكفاية في علم الرواية ص 134، 309.

(5)

صدر عن الدارالسلفية بالهند سنة 1408 هـ، 1998 م.

ص: 59

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

المادة العلمية في هذا الكتاب لم تكن مرتبة لا على الأبواب، ولا على الرواة، وإنما عرضت على شكل أسئلة يسألها التلميذ الإمام أحمد بدون ترتيب معين، وكذلك لا يوجد تفصيل بين ما سئل عنه في جرح الرواة وتعديلهم وما سئل في علل الحديث. فهو يشبه من هذه الناحية كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله.

ص: 60

‌المبحث الثالث: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله

.

‌المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته:

‌موضوعه:

أغلب مادة هذا الكتاب في المسائل الفقهية، وفي آخره تفسير الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وباب صغير في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

‌خصائصه:

وكتاب المسائل لعبد الله عن أبيه يتميز بعدة خصائص منها

(1)

:

1) اهتمامه بالنقل عن الإمام أحمد لبعض الأحاديث التي استدل بها في المسائل التي سأل عنها.

2) كثرة زيادة مروياته هو عن غير أبيه، تكميلا للفائدة وبيانا لمستند المسألة.

3) أن أغلب المسائل المذكورة في كتابه عليها العمل في المذهب، وقدرها محقق الكتاب د. علي المهنا بنسبة التسعين في المائة من مجموع هذا الكتاب.

4) تتميز هذه المسائل بأنها أيضا عرضت لنا جانبا من أخلاق الإمام أحمد وأفعاله في عباداته ومعاملاته وما يفعله في خاصة نفسه، ويوجد شيء من هذا أيضا في مسائل ابن هانئ.

5) تجمع مسائل عبد الله عن أبيه مع ما سأله هو بنفسه أو سمعه منه بعض مسائل الآخرين ـ منها بعض مسائل الكوسج ـ ومسائل فاته سماعها عن أبيه فأخذها من مهنّا الشامي، ومسائل أعطاها إياه بعض أصحابه.

(1)

يراجع: دراسة محقق الكتاب ص 160.

ص: 61

1) كما تتميز هذه المسائل أيضا بأنها أكثر وضوحا من كتب المسائل الأخرى التي وصلت إلينا.

2) ترتيبها ووضع النصوص في أبوابها أدق من كتب المسائل الأخرى.

3) امتازت بذكر احتجاج الإمام بالأحاديث في مسائل فقهية ـ وإن لم تكن كثيرة ـ فيستفاد من ذلك تصحيحه أو تحسينه للأحاديث والآثار، وربما ورد ذكر مراجعة بعض التلاميذ له فيذكر وجه حكمه على الحديث، وهذه فائدة جليلة يتسفيد الباحث من هذا الكتاب في مثل موضوع هذه الرسالة.

‌قيمته العلمية:

هذا الكتاب شأنه شأنه غيره من كتب المسائل التي تمت إلى الإمام أحمد بصلة علمية وثيقة فقد اهتم العلماء بروايته؛ لأن مكانة كتب كهذا إنما تبرز من مكانة هذا الإمام نفسه، والمنزلة العلمية التي يتبوأها بين أئمة الحديث والفقه والتفسير. ولذلك نجد اهتمام العلماء قديما بسماع هذه المسائل، ومن ذلك:

أن ابن أبي حاتم يقول في ترجمة عبد الله بن الإمام أحمد: "كتب إلى بمسائل أبيه وبعلل الحديث"

(1)

.

ورواها عنه أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي كما في "تاريخ بغداد"

(2)

، ووصفها الخلال بأنها مسائل جياد، فقال:"وقع لعبد الله عن أبيه مسائل جياد كثيرة يغرب منها بأشياء كثيرة في الأحكام"

(3)

.

(1)

الجرح والتعديل 5/ 7.

(2)

تاريخ بغداد 4/ 73.

(3)

طبقات الحنابلة 1/ 183.

ص: 62

كما يصور لنا قيمتها العلمية كذلك مدى اهتمام كتب المذهب الحنبلي بالنقل منها والتعويل عليها في مواضع كثيرة لا تكاد تحصى، يلاحظها القارئ في هوامش تحقيق الكتاب؛ حيث يشير المحقق إلى أن المسألة المذكورة نقلها فلان في كتابه، أو أشار إليها فلان.

كل هذا وغيره يؤكد لنا المنزلة الرفيعة والقيمة العلمية العلية التي يتصف بها هذا السفر القيم، والمكانة التي بتبوأها بين كتب التراث الأصيلة.

‌رواياته:

يذكر محقق الكتاب د. علي سليمان بأن النسخ الثلاث للكتاب التي وقف عليها لم يذكر من هو الراوي للكتاب، ولم يجد بعد البحث في عديد الكتب ذات الصلة ما يرشده إلى ذلك.

وصرح ابن أبي يعلى في كتابه "طبقات الحنابلة" عن أناس أنهم رووا المسائل عن عبد الله، ورجح د. علي بن سليمان أن الذي يمكن أن يكون راوي هذه النسخة المطبوعة هو أبو بكر القطيعي؛ وأن من رواة المسائل عنه أبو بكر الخلال، ومن المعروف أنه سمع منه المسائل، ثم فرقها في الأبواب المناسبة، لكتابه العظيم "الجامع لمسائل ـ أو علوم ـ الإمام أحمد رحمه الله" ونراها الآن متفرقة في الأبواب المختلفة لهذا الكتاب

لكن لم يجد الباحث أن أحدا صرح بأنه روى مسائل عبد الله عن أبيه بشكل كتاب مستقل.

ومن رواة المسائل عن عبد الله غلام الخلال عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، لكن الراوي لهذا الكتاب عن عبد الله قد صرح في مواضع عديدة في الكتاب أنه سمع منه سنة خمس وثمانين ومائتين في شهر رجب

(1)

، بينما غلام الخلال قد ولد

(1)

انظر: بداية كتاب الحيض رقم 199، وكتاب الصلاة ـ باب المواقيت رقم 221، وكتاب الزكاة رقم 695، وكتاب الذبائح رقم 1153.

ص: 63

سنة اثنتين أو خمس وثمانين ومائتين

(1)

، فلا يمكن أن يقال إنه روى هذا الكتاب عنه ولم ينقل عن أحد غيرهما ـ حسب ما توصل إليه الباحث ـ أنه روى المسائل عنه إلا القطيعي، وهو رواية لعبد الله بن أحمد، فقد روى عنه المسند، والزهد، وفضائل الصحابة. وعليه فقد رجح الباحث د. علي سليمان بأنه هو راوي هذه النسخة المحققة من قبله، ثم ذكر مؤيدات أخرى لترجيحه واختياره

(2)

.

(1)

انظر: تاريخ بغداد 10/ 460، طبقات الحنابلة 2/ 126.

(2)

انظر: دراسته لكتاب مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه عبد الله ص 150 - 153.

ص: 64

‌المطلب الثاني: منهجه في عرض المادة العلمية في الكتاب:

يمكن تلخيص طريقة عرض عبد الله بن الإمام أحمد لمادة كتابه في النقاط التالية:

1) رتب المسائل ترتيبا فقهيا دقيقا يسهل للباحث فيه عملية الاستفادة والمراجعة.

2) استعمل عبارات السؤال والتحمل، مثل: سألت أبي، وسمعت أبي وسئل أبي وأنا أسمع

(1)

، وقرأت على أبي

(2)

، والعبارتان الأوليان أكثر استعمالا من غيرهما. وأحيانا يستعمل أسلوب الحوار مثل قال ـ قلت

(3)

.

3) يحرص على رواية ما فاته من مسائل أبيه، بواسطة غيره، كروايته عن أبي عبد الله مهنا السلمي

(4)

، وغيره

(5)

.

4) يزيد أحاديث من رواياته عن غير أبيه، لبيان مستند أبيه في المسالة المسؤولة عنها.

(1)

انظر مثلا: رقم 8.

(2)

انظر مثلا: رقم 2، 9.

(3)

انظر مثلا: رقم 2، 3، 4.

(4)

انظر مثلا: رقم 839، 840.

(5)

انظر: رقم 1658.

ص: 65

‌المبحث الرابع: مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود السجستاني

.

‌المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

هذا الكتاب يحتوي على أسئلة من الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني مما سألها الإمام أحمد في جميع أبواب العلم، في الفقه، والآداب، ومسائل الاعتقاد، والإمامة، وفي الحديث، من تفسير لغريبه، وتأويل لمختلفه، وفي علل الحديث وجرح الرواة وتعديلهم، وأصول علم الرواية.

وكذلك يورد جملة من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة والتابعين في المسائل من أبواب الفقه، كلها مما رواها عن الإمام أحمد.

‌خصائصه:

هذا الكتاب يختص بكونه جامعاً لأسئلة سألها الإمام أبو داود للإمام أحمد في جميع أبواب العلم، فمنزلته ومنزلة الإمام أحمد تعطي الكتاب ميزة عالية، فالإمام أبو داود إضافة إلى إمامته في الحديث، كان من كبار الفقهاء، يشهد له على ذلك كتابه السنن، حيث ذكر أصول الأحاديث التي يُستدل بها في مسائل الفقه.

والكتاب يمتاز بذكر آراء الإمام أحمد في شتى مسائل العلم، أما في باب علل الحديث وعلم الجرح والتعديل، فكلامه في إعلال الأحاديث كثير، لا يفوقه في الكثرة إلا ما حواه كتاب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله.

ومن خصائص الكتاب أيضاً أنه أفرد باباً سأل الإمام أحمد فيه عن مسائل في علم رواية الحديث وضبطه.

ص: 67

وكذلك يزيد من أهمية الكتاب كون النسخة الموجودة من الكتاب سمعت وكتبت في عصر المؤلف، وقد سمع النسخة المحفوظة من الكتاب في "الظاهرية" سنة (266) هـ، ووفاة أبي داود سنة (275) هـ.

وقد أفرد المادة المتعلقة بعلل الحديث وشيء من الكلام في الجرح والتعديل في آخر الكتاب، مما يسهل من الاستفادة من الكتاب للمتخصص في علم الحديث.

‌قيمته عند العلماء:

قال الذهبي: "كان أبو داود من نُجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دِقاق المسائل في الفروع والأصول"

(1)

. وهذه المسائل هي المروية في هذا الكتاب.

ومن قيمة الكتاب عند العلماء أن بعض العلماء قد قام باختصاره كما ذكره ابن رجب

(2)

.

وكذلك استفاد من الكتاب الخطيب البغدادي فنقل عنه جملة من كلامه في جرح الرواة وتعديلهم

(3)

.

‌رواياته:

النسخة العتيقة من الكتاب محفوظة في المكتبة الظاهرية، وهناك نسختان أخريان، منها نسخة محفوظة في مكتبة "اسكوريال"، وأخرى من مخطوطات المكتبة "المحمودية" بالمدينة.

(1)

سير أعلام النبلاء 13/ 215.

(2)

جامع العلوم والحكم ص 201 في شرح حديث إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى.

(3)

انظر على سبيل المثال: تاريخ بغداد 7/ 28، 8/ 269، 8/ 279.

ص: 68

وروى الكتاب عن أبي داود أبو بكر ابن داسة راوية كتابه "السنن"، وهو محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق التمار البصري (340) هـ. وقد اعتنى به الشيخ رشيد رضا، فطبع بتحقيق الشيخ محمد بهجة البيطار

(1)

عن نسخة "المحمودية"، وقوبل على نسخة "الظاهرية".

ثم صدَر الكتاب بتحقيق أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد عن النسخ الثلاث

(2)

.

(1)

صدر في سنة 1353 هـ من نشر مطبعة المنار بمصر.

(2)

صدر سنة 1420 هـ، 1999 م من نشر مكتبة ابن تيمية.

ص: 69

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

هذا الكتاب مرتب على أبواب الفقه في المسائل الفقهية، وخصص أبواباً أخرى للآداب، والإيمان، والسير، وعلم رواية الحديث، وتفسير الأحاديث، والجمع بين مختلف الأحاديث، وذكر المختلطين، وباباً للأحاديث أورد فيه أسئلته التي سألها الإمام أحمد في إعلال الأحاديث، وأردفه بباب آخر في الموضوع نفسه بعنوان:"بيان أحاديث فيها ضعف وخطأ ونكارة"، ثم بيان أحاديث يختلف فيها، وكلها أحاديث معلّة، ثم ذكر باباً في الأحاديث المرسلة، ويعني بها التي أعلت بالإرسال وبه ختم الكتاب. وقد يسأل عن علل بعض الأحاديث أثناء أسئلته في المسائل الفقهية، كأن يذكر الإمام أحمد مسئلة ويكون فيها حديث مخالف لما قاله فيسأله عن ذلك الحديث كما فعل معه في مسئلة الرمل في الطواف من الحَجر إلى الحجر، فذكر له رواية أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه مشى ما بين الركن والحجر فأجابه

(1)

.

والعرض للمادة في الكتاب على شكل أسئلة سألها الإمام أحمد أو سئل بحضرته. وقد يورد بعض مسموعاته عن الإمام أحمد من الأحاديث والآثار.

وقد تقدمت الإشارة إلى أن لغة المسائل والأجوبة في هذا الكتاب هي لغة النطق وليست لغة التصنيف، فوقع فيها عدم التزام حركات الإعراب في مواضع، كأن ذلك جاري على لغة ربيعة في بعضها من الوقوف على المنصوب بالسكون

(2)

.

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 180.

(2)

انظر: مقدمة الشيخ محمد رشيد رضا للكتاب.

ص: 70

‌المبحث الخامس: كتاب مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح

.

‌المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

تمتاز مسائل صالح بن الإمام أحمد رحمه الله بكونها شاملة لمختلف أنواع العلوم من عقيدة، وفقه، وحديث، وأثر، وتفسير، وتاريخ، وعلل، وبيان لأحوال الرواة جرحا وتعديلا، بل تتناول أيضاً شرحاً لبعض غرائب النّصوص ومصطلحات، فهي باختصار ديوان شامل لشتى العلوم والمباحث يلقي الضوء على موسوعية هذا الإمام وسعة معارفه وتنوع علومه رحمه الله تعالى.

‌خصائصه:

يتميز هذا الكتاب عن غيره من كتب المسائل عن الإمام الأحمد بما يلي:

1) من أهم أهذه الخصائص كونه كتاباً مشتملاً على عدة موضوعات متنوعة ومعارف متعددة يفوق بذلك مسائل إسحاق بن منصور الكوسج، ومسائل ابن هانئ ومسائل أبي داود؛ فمعظم موضوعات هذه المسائل دائرة في المسائل الفقهية، وقليل منها تطرق إلى شيء من باقي العلوم الإسلامية.

2) ومما تختص به مسائل صالح رحمه الله أنها غير مرتبة على الأبواب الفقهية، بخلاف باقي كتب المسائل التي وضعت عليها أبواب وعناوين تسهل عملية الاستفادة منها، وتقرب مادتها العلمية للباحثين.

3) ومن ناحية عدد المسائل المتضمنة فيها نجد أن مسائل الإمام صالح رحمه الله تحتل الدرجة الثانية ـ حسب تقدير الباحث د. فضل الرحمن المحقق للكتاب ـ

ص: 71

حيث حرز مسائلها وقدرها بحوالي ثلاثة آلاف مسألة، أي أنها تأتي بعد مسائل الكوسج في كثرة المسائل المطروقة

(1)

.

‌قيمته العلمية:

تبرز قيمة هذا الكتاب العلمية عند العلماء من المكانة التي يحتلها الإمام أحمد رحمه الله بين الأئمة؛ فقد كان أحد الأئمة الأربعة المتبوعين، وشهرته بينهم بكثرة الروايات، ومعرفته الواسعة بالآثار، والوقوف عند السنن والأخبار، وصبره على نشر السنة وتمسكه بها كل أولئك جعل لكلامه موقعاً كبيرا في نفوس العلماء المعاصرين له والذين جاءوا من بعده، واحتفلوا بسماع ما روي عنه، وهذا أبو الحسن علي بن محمد بن بشار العالم الزاهد يسمع هذه المسائل من صالح، ويحدث بها جماعة من العلماء، قال القاضي محمد بن أبي يعلى في ترجمته:"وكان قد سمع جميع مسائل صالح لأبيه من صالح، وحدث بها فسمعها منه جماعة، منهم: أبو حفص بن بدر المغازلي وأحمد البرمكي"، ثم نقل قول أحمد البرمكي: "كنت يوماً واقفاً بين يديه ـ يعني ابن بشار ـ بعد العصر، وكان يوم الثلاثاء، وبيدي جزء من مسائل صالح لأقرأه عليه

" وذكر واقعة حصلت له

(2)

.

وقال في ترجمة أبي بكر غلام الخلال: "وحدث عنه بمسائل الأثرم وصالح، وعبد الله وغير ذلك"

(3)

.

كما أن لابنه صالح نفسه مكانة بارزة عند العلماء، فهو الذي يكتب عنه اابن أبي حاتم الإمام المشهور في الجرح والتعديل ويوثقه قائلا:"وهو صدوق ثقة"

(4)

.

(1)

دراسة مسائل صالح، للدكتور فضل الرحمن ص 102.

(2)

طبقات الحنابلة 2/ 58 - 61.

(3)

المصدر السابق 2/ 119.

(4)

الجرح والتعديل 4/ 394.

ص: 72

وهذه الثقة هي التي جعلت العلماء يعتمدون عليه في علم أبيه حتى صاروا "يكتبون إليه من خراسان ومن مواضع أخرى؛ ليسأل لهم أباه عن المسائل ويرسل إليهم بالأجوبة التي يتلقاها عنه"

(1)

.

واعتبروه أحد النقلة عن الإمام في المذهب: قال ابن أبي يعلي الحنبلي رحمه الله: "أما نقلة الفقه عن إمامنا فهم أعيان البلدان، وأئمة الزمان، منهم ابناه: صالح وعبد الله"

(2)

.

وكل هذا وغيره مما حظي به هذا الابن العالم من الثناء الجميل والمدح الجليل جعل الاهتمام بمسائله والنقل منها والتعويل عليها موفورا في كتب علماء الحنابلة

(3)

.

‌رواياته:

طبع كتاب "مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه أبي الفضل صالح" في طبعتين، الأولى: ط. الدار العلمية ـ بالهند، بتحقيق د. فضل الرحمن دين محمد، والثانية ط. دار الوطن، بإشراف طارق بن عوض الله بن محمد. وفي كلتا الطبعتين لم يظهر راوي الكتاب، ويعلق على هذا د. فضل الرحمن قائلا:

"لم يرد إسناد الكتاب في بدايته، ولا في الصفحة الأولى حيث كتب عنوان الكتاب بخط جلي، لكن ذكر ابن أبي يعلى والشيرازي في ترجمة ابن بشار

أنه كان سمع جميع مسائل صالح لأبيه من صالح، وحدث بها، فسمعها منه جماعة. ولم أجد عن أحد غيره أنه كان يروي مسائل صالح عنه، مع العلم أن ابن أبي حاتم

(1)

طبقات الحنابلة 1/ 173.

(2)

المصدر السابق 1/ 7.

(3)

انظر على سبيل المثال: الآداب الشرعية، لابن مفلح 1/ 61، 324، 358 - 359، 2/ 285، 338، والاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب ص 7، 98، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، ص 222، 394.

ص: 73

والخرائطي وغيرهما من تلامذته سمعوا منه المسائل، ونقلوا منها في كتبهم، لكن لم أجد صراحة أنهم كانوا يروون مسائل صالح، فأغلب الظن أن راوي هذا الكتاب عن صالح هو أبو الحسن علي بن محمد بن بشار الزاهد العارف

(1)

. والله أعلم

"

(2)

.

(1)

قال أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: عن ابن بشار: كان يروي مسائل صالح بن أحمد

تاريخ بغداد 22/ 66.

(2)

دراسة محقق مسائل صالح ص 90.

ص: 74

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

يمكن للناظر في كتاب مسائل صالح بن الإمام أحمد رحمهما الله أن يلخص منهجه فيما يلي

(1)

:

1) لم يعتن صالح بترتيب مسائله ترتيباً مبوباً، ولعل هذا عائد إلى كونه يحضر مجلس الإمام أحمد ويسمع منه مسائل متفرقة ـ سواء كان هو السائل أو غيره ـ ويسجلها كما سمعها.

2) المادة العلمية في الكتاب معروضة على شكل أسئلة سألها صالح أباه، وروايات رواها عن أبيه، فأحيانا يقول: سألت أبي عن كذا

(2)

أو يقول: سألت: إلى أي شيء تذهب؟ فقال: كذا ..

(3)

أو: سألته عن كذا؟

(4)

وأحيانا يقول: قال كذا وكذا دون صيغة السؤال

(5)

. وأحيانا يقول: كتب رجل إلى أبي يسأله عن كذا فأملى علي جوابه بكذا

(6)

، وتارة: قرأت على أبي كذا وكذا

(7)

، وعبارات أمثال ذلك.

3) وأحيانا يذكر أقوال الإمام أحمد من غير ذكر شيء من ألفاظ التحمل والرواية، كأنه سجلها في مجلس الإمام أحمد على عجلة، فلخصها كيلا يفوته بعض النكات

(8)

.

(1)

يراجع أيضاً: دراسة د. فضل الرحمن لمسائل الإمام أحمد ـ رواية ابنه صالح ص 99.

(2)

انظر مثلا الأرقام التالية: 1، 11، 36، 56، 57، 59، 66، 70، وغير ذلك.

(3)

انظر مثلا: رقم 3، 23.

(4)

انظر مثلا الأرقام التالية: 4، 13، 14، 17، 18، 20، 25، 29، 30، 35.

(5)

انظر مثلا الأرقام التالية: 31، 32، 160، 163، وغير ذلك.

(6)

انظر مثلا: رقم 734.

(7)

انظر مثلا: رقم 733، 743.

(8)

انظر مثلا الأرقام التالية 1440، 1442، 1443، 1446، 1452، 1454.

ص: 75

1) أما الرواي عن صالح، فإنه عند رواية الأحاديث والآثار يقول: حدثنا صالح ملتزما بذلك. أما عند رواية المسائل الفقهية والمسائل المتعلقة بالرجال ونحوها أحيانا يقول: حدثنا صالح، وغالبا لا يذكر صيغة التحديث.

ص: 76

‌المبحث السادس: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ

.

‌المطلب الأول: موضوع الكتاب، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

موضوع الكتاب هو أسئلة سألها الإمامَ أحمد تلميذُه إسحاق بن إبراهيم ابن هانئ النيسابوري ت (275) هـ، وأجاب عنها. وتشمل الأسئلة جميع أبواب الفقه، وأضاف إلى ذلك أسئلة في باب الآداب، وباب السنة والرد على أهل الأهواء، وباب الإيمان، وباب الرأي والعلم، وباب التفضيل، وباب الأمر والنهي، وباب تفسير الأحاديث، وكتاب التاريخ، وكتاب العلل، وباب قراءة الحديث.

‌خصائصه:

امتاز هذا الكتاب بكون راوي المسائل كان مرافقاً للإمام أحمد خادماً له

(1)

، فاستفاد القرب منه والاطلاع على أمور قلّ أن يطلع عليها تلميذ.

وقد أفرد المادة المتعلقة بعلل الحديث وشيء من الكلام في الجرح والتعديل في آخر الكتاب، مما يسهل للمتخصص في الحديث الاستفادة من الكتاب.

كما امتاز الكتاب بذكر أحاديث احتج بها في مسائل الفقه، أو ترك القول بها في بعض المسائل فروجع فيها فذكر عللها

(2)

.

ويمتاز الكتاب أيضاً بذكر مادة غريزة في جرح الرواة وتعديلهم.

(1)

طبقات الحنابلة 1/ 108.

(2)

انظر على سبيل المثال: مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ مسئلة رقم 17، 42، 109، 112، 796، 806، 1174، 1194، 1581.

ص: 77

‌قيمته عند العلماء:

اعتمده العلماء مصدراً لنقل أقوال الإمام أحمد في الرواة جرحاً وتعديلاً، منهم الخطيب

(1)

، والحافظ المزي

(2)

.

‌رواياته:

طبع الكتاب بتحقيق زهير الشاويش، عن نسخة فريدة

(3)

.

(1)

انظر: تاريخ بغداد 3/ 417.

(2)

انظر على سبيل المثال: تهذيب الكمال 26/ 623، 28/ 232.

(3)

صدر الكتاب سنة 1400 هـ ببيروت، من المكتب الإسلامي.

ص: 78

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

الكتاب مرتب على الكتب والأبواب ابتداء بكتاب الطهارة، وشمل جميع أبواب الفقه. وهو كله مسائل سألها ابن هانئ الإمام أحمد أو سئل الإمام عنها بحضرته. وقد يذكر أثناء كلامه في المسائل الفقهية بعض الأحايث بالإعلال، كما قال في التسمية في الوضوء: لا يثبت حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وقال أيضاً: ليس إسناده بقوي

(1)

.

وأما المادة الحديثيه وكلامه في الجرح والتعديل فخصص ذلك ابتداء بباب تفسير الأحايث، وأتبعه بكتاب التاريخ، ثم كتاب العلل، وأورد في الكتابين جل الكلام الذي رواه عن الإمام أحمد في الجرح والتعديل وإعلال الأحاديث.

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 1/ 3.

ص: 79

‌المبحث السابع: سؤالات الإمام أبي داود السجستاني للإمام أحمد في جرح الرواة وتعدليهم

.

‌المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

حوى هذا الكتاب مادة غنية في جرح الرواة وتعديلهم، لا يكاد يخرج بمضمونه عن هذا الجانب النقدي من علم الرجال

(1)

.

‌خصائصه:

1) يعتبر هذا الكتاب من أقدم المؤلفات التي وصلت إلينا في نقد الرجال، وحوت ألفاظا في بيان حال الرواة جرحا وتعديلا.

2) كون مادة الكتاب مما اجتمع على صياغتها إمامان جليلان في النقد والرواية، وهما الإمام أبو داود وشيخه الإمام أحمد، وخاصية الجلالة مثل هذه قل أن تتوافر في كتاب مطبوع.

3) غزارة المادة النقدية التي انفرد بها عن غيره من كتب الجرح والتعديل، حيث لم تتناقل تلك الكتب سوى أربعة وأربعين ومائة نص من نصوصه، وهي تمثل أقل من ربع الكتاب، ويعد الباقي من إضافاته إلى كتب الفن

(2)

.

4) ما يمتاز به من فوائد أخرى ندرت في غيره بل لا تكاد توجد في كتب متخصصة دونه

(3)

.

(1)

دراسة محقق الكتاب ص 127.

(2)

انظر دراسة محقق الكتاب ص 136.

(3)

انظر: نماذج منها في دراسة محقق الكتاب ص 137.

ص: 81

1) استقل هذا الكتاب بمادة نقدية من أقوال الإمام أحمد متمثلة في 262 قول في نقد الرجال، وهي على ضربين: الضرب الأول منها 167 لم تنقل من هذا المصدر، وإن جاءت نحوها في غيره. والضرب الثاني: أقوال له في بعض الرواة لم يُرو عنه في أولئك الرواة غيرها، ثم أقوال له في بعض الرواة لم تنقل في كتب التراجم الأخرى، وإنما انفرد بذكرها هذا السفر العظيم وتمثل 94 قولا.

‌قيمته العلمية:

يستمد هذا السفر العظيم قيمته العلمية من عظيم مكانة الإمامين: أبي داود التلميذ وأحمد بن حنبل الشيخ وتضلعهما في هذا الشأن، وتقدمها في معرفة الجرح والتعديل والسبر لأحوال رواة الأخبار ما يجعل المادة العلمية التي يعرضها هذا الكتاب غاية في الدقة والإتقان.

كما تتضح هذه القيمة من اعتماد عديد من الأئمة النقاد على هذا الكتاب في مصنفاتهم في هذا الشأن، من هولاء:

1) الإمام أبو جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلي ت 322 هـ في كتابه "الضعفاء".

2) الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ت 463 هـ في كتابه "تاريخ بغداد".

3) الحافظ عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني ت 562 هـ في كتابه "الأنساب".

وكذا اعتمده كثير من النقاد المتأخرين كأمثال أبي الحجاج المزي ت 742 هـ في كتابه "تهذيب الكمال"، والحافظ شمس الذهبي ت 748 هـ في كتبه العديدة

ص: 82

كـ "سير أعلام النبلاء" و"ميزان الاعتدال" و"الكاشف" وغيرها، وغير هؤلاء، مما يدل بجلاء مدى قيمة هذا الكتاب عندهم ـ رحمهم الله تعالى

(1)

.

‌رواياته:

النسخة الخطية المطبوعة منها هذا السفر العظيم لم تحمل إسنادا في أولها؛ وذلك لحصول سقط من بدايتها، لكن ما وقف عليه محقق الكتاب د. زياد محمد منصور من نقولات في تاريخ بغداد للخطيب توافق معظمها ما في هذه النسخة من طريق الحسين بن إدريس بن المبارك بن الهيثم الهروي

(2)

، عن سليمان بن الأشعث أبي داود، عن الإمام أحمد ـ يرويها كلها الخطيب بإسناد واحد وهو: عن شيخه أبي بكر البرقاني

(3)

، عن أحمد بن محمد بن حسنويه

(4)

، عن الحسين به، كل ذلك جعله يقطع "بأنه إن لم تكن هذه النسخة برواية البرقاني إلى أحمد، من طريق الحسين؛ فإنها برواية أحمد بن محمد بن حسنويه عن الحسين به"

(5)

.

(1)

انظر: دارسة محقق الكتاب ص 134.

(2)

حدث عن سعيد بن منصور، وعثمان بن أبي شيبة، وحدث عنه ابن حبان البستي وغيره. ووثقه الدارقطني والذهبي. مات سنة 301 هـ سير أعلام النبلاء 14/ 113.

(3)

شيخ الخطيب البغدادي المشهور، وراوية مستخرج الإسماعيلي على صحيح البخاري، وسؤالات البرقاني للدارقطني، وهو ثقة مشهور. توفي سنة 425 هـ سير أعلام النبلاء 17/ 464.

(4)

ذكر الذهبي أنه وثقه أبو نصر الفامي، وتوفي في رمضان سنة 369 هـ سير أعلام النبلاء 16/ 291 - 292.

(5)

انظر: دراسة المحقق ص 123 - 124.

ص: 83

‌المطلب الثاني: منهج عرض المادة العلمية في الكتاب

.

يتلخص منهج المؤلف في عرض مادة كتابه فيما يلي

(1)

:

1) صنف المؤلف مادة كتابه وجعل المعلومات ذات الموضوع الواحد تحت باب متسقل، فجاء الكتاب ـ عدا القسم المفقود من أوله ـ مقسما إلى سبعة وعشرين باباً.

2) يوجد تكرار لبعض الرواة في أكثر من موضع من الكتاب؛ وهذا راجع إلى الأسلوب الذي بني عليه الكتاب، وهو أسلوب الأسئلة في تدوين المعلومات، وهو نهج يؤدي إلى اتساع المادة العلمية وتنوعها، كما أدت بعض الأسباب أيضا إلى وقوع التكرار في الكتاب مثل الاهتمام بذكر بعض شيوخ الراوي، أو العناية بنفي تحديث بعض الناس عنه، أو غير ذلك.

3) ليس كل ما دونه أبو داود في هذا الكتاب ورد على صيغة السؤال، بل أورد أكثره على غير ذلك؛ حيث كان يسأله تارة، ويصغي إلى سؤال غيره تارة أخرى، وكثيرا ما كان يجلس إليه، ويتلقى عنه من غير مسألة، وربما كتب عنه ذلك كله، وأغلب نصوصه بلفظ: سمعت أحمد.

4) قد يعلق الإمام أبو داود على بعض النصوص التي يرويها عن الإمام أحمد، وبعض التعليقات إنما هي من راوي الكتاب الحسين بن إدريس، لكن معظم مادة الكتاب فهي من إفادة الإمام أبي داود عن شيخه الإمام أحمد رحمه الله.

(1)

يراجع: دراسة المحقق للكتاب ص 140 - 146.

ص: 84

‌المبحث الثامن: المنتخب من العلل للخلال ـ لموفق الدين ابن قدامة

.

‌المطلب الأول: موضوعه، وخصائصه، وقيمته عند العلماء، ورواياته

.

‌موضوعه:

تتضمن مادة هذا المنتخب أحاديث تكلم عليها الإمام أحمد بالتعليل والتضعيف، وتضمن شيئا من كلامه على الجرح والتعديل، كما أن في آخره ملحقاً عرج فيه على طبقات أصحاب سفيان الثوري

(1)

، والأعمش

(2)

وإبراهيم النخعي

(3)

.

والكتاب المطبوع جزء من انتخاب الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي لعلل الخلال الكبير، وهو يشتمل على الجزءين العاشر والحادي عشر منه. وقد ذكر الحافظ الذهبي وأيضاً الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمة الله عليهما أن من مصنفات ابن قدامة "مختصر العلل للخلال"

(4)

. وزاد ابن رجب أنه مجلد ضخم.

‌خصائصه:

يمتاز الكتاب بما يلي:

1) أن أصل الكتاب قد اشتمل على مجموعة روايات عن الإمام أحمد نقلها تلاميذه عنه، وجمعها أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتابه:"العلل"،

(1)

المنتخب من العلل ص 320.

(2)

المصدر السابق ص 322.

(3)

المصدر السابق ص 325.

(4)

سير أعلام النبلاء 22/ 168، وذيل طبقات الحنابلة 2/ 139.

ص: 85

وهو في ثلاث مجلدات

(1)

، وقد سرد ابن أبي يعلى أسماء أولئك التلاميذ ممن سمع منهم الخلال مسائلهم للإمام أحمد فبلغ عددهم ثلاثة وعشرين

(2)

، وذكر أنه رحل إلى أقصى البلاد في جمع مسائل أحمد. وذكر الخطيب البغدادي أنه لم يكن ممن ينتحل مذهب الإمام أحمد أحد أجمع لعلوم أحمد منه

(3)

. فهذه ميزة عظيمة لهذا السفر.

1) أن الكتاب يشتمل على أحاديث معللة تكلم إمام من أئمة العلل وناقد من نقاد الحديث وهو الإمام أحمد عليها بالتعليل مع بيان وجوه التعليل.

2) تنوع موضوعات الكتاب، فهي أشبه ما تكون بموضوعات ما يوسم بالكتاب الجامع، فإنه لم يتقصر على أبواب معينة أو موضوعات محددة، بل تناول جوانب علمية كثيرة، ففيه ما يتعلق بالزهد وذم الدنيا

(4)

، وما يتعلق بالشبع

(5)

وفي البنات والأخوات

(6)

، وفي السباحة والمغزل

(7)

، وفي عدن والزنج والبربر

(8)

، وحول أحاديث الخلافة وفضائل الصحابة

(9)

، وغير ذلك من موضوعات شتى.

‌قيمته العلمية:

يستمد هذا المنتخب قيمته العلمية من قيمة أصله الذي هو العلل للخلال، والذي صنفه في ثلاث مجلدات

(10)

، وهو عمل جبار لم يدانيه فيه

(1)

ذكر ذلك الذهبي سير أعلام النبلاء 14/ 297 - 298.

(2)

طبقات الحنابلة 2/ 12 - 13.

(3)

تاريخ بغداد 5/ 112 - 113.

(4)

انظر: الأرقام التالية 1، 2، 3، 4، 5، 6.

(5)

انظر: رقم 7، 8.

(6)

انظر: رقم 9.

(7)

انظر: رقم 13.

(8)

انظر مثلا: رقم 14.

(9)

انظر مثلا: الأرقام التالية رقم 87، 88، 89، 102، 103، 104، 206.

(10)

انظر: سير أعلام النبلاء 14/ 297 - 298.

ص: 86

أحد، حتى قال الحافظ الخطيب:"وكان ممن صرف عناية إلى الجمع لعلوم أحمد ابن حنبل، وطلبها وسافر لأجلها، وكتبها عالية ونازلة، وصنفها كتبا، ولم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أجمع منه لذلك"

(1)

.

كما تظهر قيمة المنتخب العلمية من اهتمام العلماء بسماعه، كما يظهر من السماعات الموجودة على النسخة الخطية للكتاب، حيث اعتنى بعض العلماء بسماعه، ومنهم الحافظ يوسف بن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

‌روايته:

يظهر من طرة الجزء العاشر لهذا المنتخب ـ وهو الجزء المطبوع منه ـ أن راوي هذا الكتاب هو الفخر بن علي بن أحمد بن البخاري المقدسي، عن موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي

(3)

.

(1)

تاريخ بغداد 5/ 112.

(2)

انظر: مقدمة تحقيق الكتاب ص 31.

(3)

انظر: مقدمة محقق الكتاب ص 36.

ص: 87

‌المطلب الثاني: منهج عرض مادة العلمية للكتاب

.

يتلخص منهج المنتخِب فيما يلي:

1) لم يصنف المنتخِب كتابه على ترتيب معين، وإنما اختار من الأصل أحاديث مختلفة المواضيع، وأثبتها في الكتاب، دون أي تنظيم أو ترتيب محدد.

2) يوجد على كل حديث أو مجموعة أحاديث عنوانا يناسب فحواها، ولا يمكننا أن نعرف إن كانت هذه العناوين من وضع صاحب الأصل، أو من المنتخِب، وذلك لغياب الأصل عنا.

3) ينقل مادة الكتاب مسندة ـ ابتداء من شيخ الخلال إلى نهاية السند ـ محافظا على طريق الأصل في العرض.

ص: 88

‌الباب الثاني: إعلال الأحاديث بالطعن في رواتها

وفيه ثلاثة:

الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة.

الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخل بعدالته.

الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخل بضبطه.

ص: 89

‌الفصل الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالجهالة

.

ص: 91

‌المبحث الأول: ضابط الجهالة عند الإمام أحمد

.

من الأمور التي تشترط لقبول الخبر أن يكون مَن حدّث به ثقة كما قال سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات"

(1)

. وقال الشافعي: "لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا ثم ذكر منها كون من حدث به معروفا بالصدق في حديثه

"

(2)

. فتقرر لدى المحدِّثين ردُّ حديث من لم يعرف بالثقة في روايته. وكان ممن درج على هذا المنوال من أئمة الحديث في رد رواية الراوي المجهول الثقة وإعلال حديثه بسبب تلك الجهالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ومنهجه في ذلك واضح المعالم.

وإذا كان الإمام أحمد كغيره من الأئمة يعتبر الجهالة علة توجب رد الحديث أو على أقل الأحوال التوقف في قبوله فما هو حد الجهالة عنده؟ وبما ترتفع؟.

فأولاً، تقرّر لدى العلماء المتأخرين أنهم وضعوا حداً فاصلاً للجهالة وما ترتفع به مبنياً على رواية عدد من الرواة عن الرجل، فحددوا ذلك برواية رجلين عنه فصاعدا، واتبعوا في ذلك الإمام محمد بن يحيى الذُّهلي

(3)

.

قال الخطيب: "أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك"، ثم ذكر بإسناده عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي أنه سمع أباه يقول: إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة

(4)

.

(1)

ذكره الخطيب بإسناده في الكفاية ص 73.

(2)

الرسالة ص 770.

(3)

انظر شرح علل ابن رجب 1/ 378.

(4)

الكفاية في علم الرواية 150.

ص: 93

فجعلوا حد الجهالة رواية أقل من اثنين عن الراوي وارتفاعها برواية اثنين عنه فأكثر.

وأما الإمام أحمد فمنهجه في ذلك يختلف، فالنظر في صنيعه في هذا المضمار يدل على أنه رحمه الله لا يعتبر رواية عدد معين من الرواة عن الراوي حداًّ فاصلاً لما ترتفع به جهالتُه عنده، ويدل على ذلك أمور، منها:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: سعيد بن جمهان

(1)

هذا، هو رجل مجهول؟ قال: لا، روى عنه غير واحد: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والعوام بن حوشب، وحشرج بن نباتة"

(2)

.

فاعتل رحمه الله لعدم جهالته براوية جماعة من الرواة عنه ـ وعددهم أربعة ـ مما يدل على أن من روى عنه جماعة بهذا العدد لا يوصف بالجهالة.

وسأله عبد الله أيضاً عن نافع مولى أبي قتادة

(3)

فقال: "معروف، روى عنه صالح بن كيسان وأظن الزهري"

(4)

.

فجعله معروفاً مع أنه لم يذكر له راوياً غير صالح بن كيسان والزهري.

(1)

سعيد بن جمهان ـ بمضمومةٍ وسكون ميم ـ الأسلمي البصري أبو حفص. ذكر له المزي ستة من الرواة، وروى عن سفينة مولى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تهذيب الكمال 10/ 376، وتهذيب التهذيب 4/ 14، المغني في ضبط أسماء الرجال ص 62.

وقد وثقه أحمد في رواية المروزي العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 106 رقم 173، وأبو داود وغيرهم. وقال فيه ابن حجر: صدوق له أفراد تقريب التهذيب 3929.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 314 رقم 2390.

(3)

هو نافع بن عباس ـ ويقال له: الأقرع ـ أبو محمد مولى أبي قتادة. روى له الجماعة، وذكر المزي جماعة رووا عنه غير صالح بن كيسان، والزهري، ووثقه غير واحد.

انظر: تهذيب الكمال 29/ 278 - 279.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 732 رقم 4571.

ص: 94

وقال في عمار العبسي

(1)

: "رجل معروف روى عنه شعبة"

(2)

.

وهذا لم يذكر له راوياً غير شعبة وإن كان لم ينص على تفرده بالرواية عنه، ولم أقف على من ذكر له راوياً آخر.

في حين قال في حُصين بن عبد الرحمن الحارثي

(3)

: "ليس يُعرف، ما روى عنه غير حجاج بن أرطأة، وإسماعيل بن أبي خالد روى عنه حديثاً واحداً، أحاديثه أحاديث مناكير، كل شيء روى عنه حجاج منكر"

(4)

.

فهذا جعله مجهولاً مع رواية اثنين عنه.

وقال في حصين بن عبد الرحمن

(5)

آخر: "لا يعرف، روى عنه حفص ابن غِياث عن الشعبي، ما سمعت روى عنه غير حفص"

(6)

.

وقال في مروان بن عثمان

(7)

: "مجهول"

(8)

. وقد روى عنه ثلاثة: سعيد

(1)

هو عمار بن عتبة، وقيل عقبة العبسي. ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر عنه راوياً غير شعبة. ووثقه ابن معين. وقال فيه أبو حاتم: هو صالح الحديث، وهو صدوق الجرح والتعديل 61/ 390.

وذكره ابن معين في التاريخ ـ رواية الدوري 3/ 423 في جماعة من الكوفيين سمع منهم شعبة ولم يسمع منهم سفيان الثوري.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 732 رقم 4571.

(3)

روى عن الشعبي وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وحجاج بن أرطأة: قال عنه الذهبي: صدوق إن شاء الله ميزان الإعتدال ترجمة 2082.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 235 رقم 301.

(5)

وهو النخعي أخو سلم بن عبد الرحمن الجرح والتعديل 3/ 194.

قال عنه الذهبي وابن حجر: مجهول ميزان الإعتدال 2/ 275، التقريب 1383.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 236 رقم 302، 1/ 238 رقم 309. روى عن الشعبي قوله.

(7)

مروان بن عثمان الأنصاري الزرقي أبوعثمان المدني. ضعفه أبو حاتم، وابن حجر الجرح والتعديل 8/ 272، التقريب 6616.

(8)

المنتخب من علل الخلال رقم 183.

ص: 95

ابن أبي هلال، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

وقال في إبراهيم بن عبيد بن رفاعة: "ليس بمشهور"

(1)

، وقد روى عنه جماعة

(2)

.

وقال في عبد الرحمن بن وعلة

(3)

: إنه مجهول، مع أنه روى عنه جماعة

(4)

.

وكذلك قال في رُبيح بن عبد الرحمن

(5)

: "رجل ليس بمعروف"

(6)

. وقد روى عنه جماعة.

والذي يستنتج من هذا هو أنه لا عبرة بتعدد الرواة عند الإمام أحمد في تحديد ما ترتفع به الجهالة، وإنما العبرة بشهرة الراوي وانتشار حديثه بين العلماء،

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 2/ 96 رقم 650.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 114.

(3)

عبد الرحمن بن وعلة المصري. روى عن ابن عباس عند مسلم والأربعة، وعن ابن عمر أيضاً، وعنه جعفر بن ربيعة، وزيد بن أسلم، والقعقاع بن حكيم، وأبو الخير مرشد بن عبد الله اليزني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن قديده الازدي، ويعمر بن خالد المدلجي.

ووثقه ابن معين، والنسائي، والعجلي، وابن عبد البر. وقال عنه ابن حجر: صدوق.

تهذيب الكمال 17/ 2478، التمهيد 4/ 140، تقريب التهذيب 4066

(4)

نقله ابن رجب في شرح علل الترمذي 1/ 379. وذكر الذهبي أنه نقل عن الإمام أحمد أنه ذُكر له حديث ابن وعلة: أيما إهاب دبغ فقد طهر، قال: من ابن وعلة؟ ميزان الإعتدال 3/ 310.

(5)

رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري المدني. روى عنه الدراوردي، وكثير بن زيد، والزبير بن عبد الله، وفليح بن سليمان وغيرهم تهذيب الكمال 9/ 59.

قال عنه أبو زرعة: شيخ الجرح والتعديل 3/ 518.

وقال النجاري: منكر الحديث العلل الكبير للترمذي 1/ 113.

وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به الكامل 3/ 1034.

وقال ابن حجر: مقبول تقريب التهذيب 1891.

(6)

قال ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1034: حدثنا أحمد بن حفص السعدي قال: سُئل أحمد بن حنبل ـ يعنى وهو حاضر ـ عن التسمية في الوضوء فقال: لا أعلم فيه حديثاً يثبت، أقوى شيء فيه حديث كثير بن يزيد عن رُبيح، ورُبيح رجل ليس بمعروف.

ص: 96

وعلى العكس من ذلك عدم شهرته بالعلم والرواية تقتضي الحكم عليه بالجهالة، وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد عند ما سأله أبو داود عن حديث عاصم بن لقيط ابن صبرة

(1)

عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولنا غنم مائة" قال: "أتثبته؟ فقال عاصم: لم نسمع عنه حديثاً كذا ـ يعني لم نسمع عنه بكثير رواية ـ أي ليس عاصم بن لقيط بمشهور في الروايات عنه"

(2)

. فلم يثبت حديثه لأنه ليس مشهوراً بالرواية، وذلك أنه لم يرو عنه سوى إسماعيل بن كثير أبو هاشم المكي، وليس له عنه إلا حديث واحد. وأبو هاشم ثقة

(3)

، لكن لم يعتبر الإمام أحمد روايته عنه مرقِّية له إلى رتبة الشهرة رافعة عنه وسم الجهالة، لأنه لما لم يكن له إلا حديث واحد دل ذلك على عدم شهرته برواية العلم.

وشهرة الراوي تعرف عند الإمام أحمد بأمور، وهذه الأمور هي الأوصاف المعتبرة عنده لرفع الجهالة، وهي كالتالي:

(1)

عاصم بن لقيط بن صبرة العقيلي، روى عن أبيه وافِد بني المنبثق، وروى عنه إسماعيل بن كثير المكي أبو هاشم، ووثقه النسائي، والعجلي، وابن حجر، وحديثه عند أصحاب السنن الأربعة والبخاري في "الأدب المفرد". وقال الذهبي: ماروي عنه سواه، روى حديثاً واحداً.

تهذيب الكمال 9/ 539 - 540، ميزان الإعتدال 4065، التقريب 3093.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 409 رقم 1924.

والحديث أخرجه أبوداود السنن 1/ 97 ح 142، 143، 144، والترمذي الجامع 1/ 56 ح 38، والنسائي السنن 1/ 66، وأحمد 26/ 306 - 310 ح 16380، 16383 مطولاً ومختصراً. وفيه قال عليه الصلاة والسلام:"لنا غنم مائه لا نريد أن تزيد فإذا ولّد الراعي بهمه ذبحنا مكانها شاة". وفيه أيضاً: [يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء قال:"خلل بين الأصابع، وبالغ في الإستنشاق إلا أن تكون صائماً". وكلهم رووه من طرق عن إسماعيل ابن كثير عن عاصم به.

(3)

وثقه أحمد في رواية أبي طالب الجرح والتعديل 2/ 194، وفي رواية أبي داود سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 1/ 233 رقم 227. وكذلك وثقه ابن سعد الطبقات الكبرى 5/ 356، والنسائي تهذيب الكمال 3/ 182.

ص: 97

1.

‌ جلالة الراوي عن الرجل وإن لم يكن له راوٍ سواه

.

إذا لم يرو عن الرجل إلا راوٍ واحد وكان ذلك الراوي من أجلة أهل العلم اعتبرت روايته عنه رافعة لجهالته، يدل على ذلك ما يلي:

أ. ماذكره الحافظ ابن رجب قال: "وقد صحح ـ يعني الإمام أحمد ـ حديث بعض من روى عنه واحد ولم يجعله مجهولا. قال في خالد بن سمير

(1)

: لا أعلم أحداً روى عنه سوى الأسود بن شيبان، ولكنه حسن الحديث. وقال مرة أخرى: حديثه عندي صحيح

(2)

. قال ابن رجب: وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة وإنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات".

والأسود بن شيبان الذي تفرد بالرواية عن خالد هذا قال عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم: "ثقة ثقة"

(3)

. وقال في رواية الميموني: "كان من خيار عباد الله"

(4)

. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "نظر سفيان ـ وهو الثوري ـ وهو مختف عندنا بالبصرة إلى رقعة فيها حديث الأسود بن شيبان فقال إذا ذهبتَ إلى هذا

(1)

خالد بن سمير ـ تصحف في علل ابن رجب إلى شمير بالتصغير ـ السدوسي البصري البصر حدث عن أنس وابن عمر وعبد الله بن رباح الأنصاري وبشير بن نهيك ومضارب بن حزن وعنه الأسود بن شيبان. وثقه النسائي والعجلي وغيرهم. وقال ابن حجر: صدوق يهم قليلاً.

الإكمال لابن ماكولا 4/ 372، المؤتلف والمختلف 3/ 1251، تهذيب الكمال 8/ 90، التقريب 1652. انظر: تنقيح التحقيق 2/ 658. وما أدري ما وجه قول الحافظ فيه صدوق يهم قليلاً، ولم أجد من وافقه عليه.

(2)

شرح علل الترمذي 1/ 380. والحديث الذي أشار إليه ابن رجب هو ما أخرجه أبو داود 3230، والنسائي 4/ 96/2047، وابن ماجه 1568، وأحمد 5/ 38، ميزان الإعتدال 34/ 380/20784 من حديث بشير بن الخَصاصية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يمشي بين المقابر بنعليه: "ويحك يا صاحب السبتين ألق سبتيك" مرتين أو ثلاثاً. قال ابن عبد الهادي: قال الإمام أحمد: إسناده جيد. تنقيح التحقيق 2/ 159.

(3)

تنقيح التحقيق 2/ 156.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 204 رقم 370.

ص: 98

الشيخ فأعلمني حتى أنطلق معك"

(1)

. فهذا يدل على جلالة الأسود بن شيبان، حيث حرص الثوري على الأخذ عنه، وتجشم الخروج إليه بالرغم مما كان فيه من حالة الخوف والاختفاء.

ب. قال الإمام أحمد في هشام بن عمرو الفزاري: "هو من الثقات"

(2)

. وما روى عنه غير حماد بن سلمة، وإنما روى عنه حديثاً واحداً وهو حديث علي بن أبي طالب في الدعاء بعد الوتر

(3)

.

ج. قال الإمام أحمد في أشعث بن عبد الرحمن الجرمي: "ليس به بأس"

(4)

.

(1)

إكمال تهذيب الكمال 2/ 213. وانظر: العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 482 رقم 6063.

(2)

ذكره في رواية أبي طالب عنه الجرح والتعديل 9/ 64، وانظر: بحر الدم 440.

(3)

ذكره البخاري عن أبي جعفر أحمد بن سعيد الدارمي أنه قيل له: روى عن هذا الشيخ غير حماد بن سلمة؟ فقال: لا أعلمه وليس لحماد عنه إلا هذا التاريخ الكبير 6/ 195.

والحديث المذكور أخرجه أبو داود السنن 2/ 134 ح 1427، والترمذي الجامع 5/ 524 ح 3566، والنسائي السنن 3/ 248 - 249، وابن ماجه السنن 1/ 373 ح 1179، وأحمد المسند 2/ 147 ح 751 من طرق عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عمرو الفزاري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمُعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".

قال أبو عبد الله المقدسي في المختارة 2/ 252: إسناده حسن.

وقد وثق هشام بن عمرو ـ غير الإمام أحمد ـ ابن معين، وأبو حاتم الرازي، وقال أبو داود: كان أقدم شيخ لحماد بن سلمة. وقال عنه ابن حجر: مقبول!! التاريخ ـ برواية الدوري 2/ 619، الجرح والتعديل 9/ 64، سنن أبي داود، الموضع نفسه.

(4)

وقد وثقه أيضاً ابن معين الجرح والتعديل 2/ 274، وقال عنه أبوداود: حسن الحديث سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني 1/ 364 رقم 657، وقال عنه ابن حجر: صدوق تقريب التهذيب 534.

انظر حديثه عند أبي داود ح 4637، والترمذي ح 2882، والنسائي السنن الكبرى ح 10803، وهما حديثان ما رأيت له غيرهما.

ص: 99

وهو ممن ذكره الإمام مسلم في "المنفردات والوحدان"

(1)

ضمن من تفرد عنهم حماد بن سلمة بالرواية.

فتوثيقه لهذين الراوين مع أنه ليس لكل واحد منهما إلا راوٍ واحد، ومع قلة حديثهما مبني على جلالة الراوي عنهما، وهو حماد بن سلمة. قال الفضل بن زِياد:"وحدثنا أبو طالب عن أبي عبد الله قال: سألته عن حماد بن سلمة فقال: حماد بن سلمة من خيار عباد الله الصالحين، ومَن جمع من السنة ما جمع! وقال أيوب: هاتوا مثل فتانا حماد. وقال الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل يوماً: العلم عند شعبة، وسفيان، وحماد، فأنكرت عليه حماد أن يكون مثل شعبة وسفيان، ولم أكن بحديثه عالماً، فلما كتبت حديثه علمت أنه قد صدَق، فإن حماداً عالم"

(2)

، فهذا يدل على جلالة حماد بن سلمة عند الإمام أحمد.

د. نقل مغلطاي من كتاب الساجي عن أحمد بن حميد ـ وهو أبو طالب ـ قال: "قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: فالحارث بن عبد الرحمن الذي يروي عنه ابن أبي ذئب؟ قال: لا أرى به بأساً"

(3)

. وقد قال ابن سعد، وابن المديني، وأبو أحمد الحاكم:"لا نعلم أحداً روى عنه ـ أي الحارث بن عبد الرحمن ـ إلا ابن أخته محمد ابن عبد الرحمن ابن أبي ذئب"

(4)

. وذكره الإمام مسلم في "المنفردات والوحدان" فيمن تفرد عنهم ابن أبي ذئب بالرواية

(5)

. ولعل من أجل هذا قال فيه ابن المديني: مجهول، نقله ابن حجر

(6)

.

(1)

ترجمة 1269.

(2)

المعرفة والتاريخ 2/ 195.

(3)

إكمال تهذيب الكمال 3/ 303.

(4)

الطبقات الكبرى ـ القسم المتمم ـ 1/ 270، تهذيب الكمال 5/ 256.

(5)

ترجمة 1162.

(6)

تهذيب التهذيب 2/ 149، وقال عنه ابن معين: هو يروى عنه وهو مشهور الجرح والتعديل 3/ 80. هذا وقد قال النسائي في الحارث بن عبد الرحمن هذا: ليس به بأس، وقال عنه الذهبي: صدوق صالح الكاشف 861. وقال عنه ابن حجر: صدوق التقريب 1038.

ص: 100

روى عنه ابن أبي ذئب عدة أحاديث مما يدل على أنه لا يوصف بقلة الرواية

(1)

.

هـ. وقال الإمام أحمد في عبد العزيز بن عياش فيما رواه عنه ابن شاهين

(2)

: "صالح، وهوشيخ لابن أبي ذئب"

(3)

.

فلم يجعلهما الإمام أحمد مجهولين مع تفرد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالرواية عنهما، وذلك لجلالته، ويدل على ذلك ما ذكره أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال:"كان ابن أبي ذئب يُشبّه بسعيد بن المسيب، قيل له: خلف مثله ببلاده؟ قال: لا، ولا بغير بلاده"

(4)

. وقال يحيى بن معين: "كل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة إلا أبا جابر البياضي"

(5)

، ونقل أبو داود عن أحمد بن صالح المصري مثل هذا

(6)

.

لكن يعكر على هذا أن أبا داود روى عن أحمد أنه قال: "كان ابن أبي ذئب ثقة صدوقاً، أفضل من مالك بن أنس إلا أن مالكاً أشد تنقية للرجال منه، ابن أبي ذئب لا يُبالي عن من يحدث"

(7)

. فهذا لا يمنع أن يقبل الإمام أحمد من تفرد

(1)

انظر على سبيل المثال لا الحصر: الترمذي ح 1189، 1337، 3366، والنسائي السنن الكبرى ح 900، 3060، 5172، 8896، 11432، وابن الجارود المنتقى ح 568، 831، وابن خزيمة ح 1606، وابن حبان ح 426، 1817، 4447.

(2)

سقط النص من النسخة المطبوعة من تاريخ أسماء الثقات ص 162/ 193 ونقله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب 6/ 352.

(3)

أشار الذهبي إلى أنه تفرد بالرواية عنه ابن أبي ذئب، ولم يذكره الإمام مسلم فيمن تفرد عنهم ابن أبي ذئب بالرواية في كتابه عن الوحدان.

قال عنه الذهبي: لا يعرف ميزان الإعتدال 5121، وقال عنه ابن حجر: مقبول تقريب التهذيب 4143.

(4)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 219 رقم 192.

(5)

تاريخ بغداد 2/ 298. وانظر: تهذيب الكمال 25/ 634.

(6)

تهذيب الكمال 25/ 635.

(7)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 218 رقم 219.

ص: 101

عنهم لجلالته، وإن كان لا يجعلهم في مرتبة الثقات كما يفعل بمن تفرد الإمام مالك بالرواية عنهم كما سيأتي، وهذا يوضحه قوله في كلٍّ من الراويين اللذين تقدم ذكرهما حيث قال في الأول ـ وهو الحارث بن عبد الرحمن:"لا أرى به بأساً". وقال في الثاني: "صالح". على أن هناك ما يدل على أن شهرة الأول، وهو كثرة حديثه بخلاف الثاني.

ووجه اعتبار جلالة الراوي وصفاً رافعًا لجهالة من تفرد بالرواية عنه والحكم عليه بالشهرة هو أنه يبعد مع جلالة الحافظ المعتني بهذا الشأن أن يأخذ العلم عمن ليس بأهل أن يؤخذ عنه. قال ابن معين في عُمارة بن أكيمة الليثي

(1)

الذي تفرد الزهري بالرواية عنه: "كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر: إصغاء سعيد بن المسيب إلى حديثه دليل على جلالته عندهم"

(2)

. وذكره ابن البرقي في "باب من لم تشتهر عنه الرواية واحتُملت روايته لرواية الثقات عنه" وقال: لم يغمز

(3)

.

لكن يستثنى من هذا من كان مع جلالته معروفاً بالرواية عن كل ضرب من الرواة، ولا ينتقي شيوخه، فقد قال الإمام أحمد في جون بن قتادة: "شيخ

لا يُعرف، لم يحدث عنه غير الحسن"

(4)

. فلم يعتبره الإمام أحمد معروفاً برواية الحسن البصري عنه مع جلالته كما فعله علي بن المديني

(5)

. والذي يظهر لي أن

(1)

عمارة بن أُكيمة الليثي المدني، روى عن أبي هريرة، وعن ابن أبي رهم الغِفاري، وروى عنه الزهري وحده. قال ابن سعد: روى عنه الزهري حديثاً، ومنهم من لا يحتج بحديثه يقول: هو شيخ مجهول. ا. هـ. انظر: تهذيب الكمال 21/ 228 - 229.

وذكر ابن معين أن محمد بن عمرو بن علقمة روى عنه أيضاً التاريخ ـ برواية الدوري 3/ 176 رقم 782.

(2)

تهذيب التهذيب 7/ 411.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 407 رقم 1916.

(5)

قال علي بن المديني: وجون لم يرو عنه غير الحسن، إلا أنه معروف تهذيب الكمال 5/ 165.

ص: 102

ذلك راجع إلى ما ذكر الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه كان يروي عن كلٍّ، أي سواءٌ كان معروفاً بالعلم والرواية أم لا. قال أحمد في رواية الفضل بن زياد والميموني:"ليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنهما يأخذان عن كل"

(1)

. وقال أيضاً: "حدثنا أبو أسامة، عن وُهيب، عن خالد الحذاء قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: كان أربعة يُصدِّقون من حدثهم: أبو العالية، والحسن، وحُميد بن هلال، ورجل آخر سماه"

(2)

.

2.

‌ أن يتفرد عن الرجل من كان معروفاً بأنه لا يروي إلا عن ثقة

من الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد وقبوله عنده مع كونه ممن لم يرو عنه إلا واحد كون الذي روى عنه ممن عرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة.

قال الحافظ ابن رجب: "المنصوص عن أحمد يدل على أنه من عُرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة فروايته عن إنسان تعديل له ومن لم يعرف عنه ذلك فليس بتعديل"

(3)

.

وهناك طائفة نصّ الإمام أحمد على أن كل من رووا عنه فهو ثقة، منهم:

أ- مالك بن أنس: قال في رواية ابن هانئ: "ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة، كل من روى عنه مالك فهو ثقة"

(4)

.

وروى أبو زرعة الدمشقي عن أحمد أنه قال: "مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف فهو حجة"

(5)

.

(1)

شرح علل الترمذي لإبن رجب 1/ 539.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 442 رقم 989.

(3)

شرح علل الترمذي 1/ 376 - 377.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 244 رقم 2367، وانظر: شرح علل الترمذي 1/ 377.

(5)

لم أقف عليه في تاريخ أبي زرعة الدمشقي، وانظر: شرح علل الترمذي 1/ 377.

ص: 103

وقال الميموني: "سمعت أحمد غير مرة يقول: كان مالك من أثبت الناس، ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولاسيما مدني"

(1)

.

ب- يحيى بن سعيد القطان: قال أبو داود: قلت لأحمد: "إذا روى يحيى أو عبد الرحمن بن مهدي عن رجل مجهول يحتج بحديثه؟ قال يحتج بحديثه"

(2)

.

ج- عبد الرحمن بن مهدي: قال أحمد في رواية الأثرم: "إذا حدّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة" ثم قال: "كان عبد الرحمن أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد، ثم تشدد بعدُ وكان يروي عن جابر

(3)

ثم تركه"

(4)

.

د- أيوب بن أبي تميمة السختياني: قال أبو داود: "قلت لأحمد: أبو زيد المدني؟ قال: أي شيء يُسأل عن رجل روى عنه أيوب"

(5)

.

وذكر ابن رجب في عباس بن عبيد الله بن عباس أنه روى عنه أيوب مع جلالته وانتقاده للرجال حتى قال أحمد فذكره

(6)

.

3.

‌ استقامة حديث الرجل وموافقته لروايات الثقات

.

من الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد أيضاً استقامة أحاديثه وعدم مخالفتها لروايات الثقات، يدل على ذلك ما يلي:

قال الإمام أحمد في عُمارة بن عبد: "مستقيم الحديث، لا يروي عنه غير

(1)

انظر: شرح علل الترمذي، الموضع السابق.

(2)

سؤالات أبو داود للإمام أحمد ص 198/ 197.

(3)

هو ابن يزيد الجعفي.

(4)

تاريخ بغداد 10/ 249.

(5)

المصدر السابق ص 210 رقم 163.

وأبو زيد المدني ـ وقيل أبو يزيد ـ وثقه ابن معين وروى عنه أيوب وغيره الجرح والتعديل 9/ 459، تهذيب التهذيب 12/ 280.

(6)

فتح الباري لابن رجب 2/ 711.

ص: 104

أبي إسحاق السبيعي"

(1)

؛ فلم يجعله الإمام أحمد مجهولاً مع تفرد أبي إسحاق السبيعي بالرواية عنه، لأنه كان مستقيم الحديث. وعلى العكس من قول الإمام أحمد قال فيه أبو حاتم:"شيخ مجهول لا يحتج بحديثه"

(2)

.

وقال الإمام أحمد في هُبيرة بن يَريم كما في رواية عبد الله

(3)

: "هُبيرة رجل صالح، ما أعلم من حدث عنه غير أبي إسحاق".

وقال في رواية الأثرم: "هُبيرة بن يَريم لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامة من غيره ـ يعني الذين روى عنهم أبو إسحاق وتفرد بالرواية عنهم"

(4)

.

وقد قال عنه أبو حاتم حين سئل: "يحتج بحديثه؟ قال: هو شبيه بالمجهولين"

(5)

. وقال عنه ابن معين: "مجهول"

(6)

.

وقد روى عنه أبو إسحاق أحاديث ذكرها ابن عدي ثم قال: "لهبيرة هذا غير ما ذكرت، ويحدث عنه أبو إسحاق بأحاديث، وهذه الأحاديث التي ذكرتها هي مستقيمة ورواها عن أبي إسحاق الثوري وشعبة ونظائرهما"

(7)

.

وهذا الذي أشار إليه الإمام أحمد ـ أعني استقامة حديثه.

ومما يدل على اعتبار الإمام أحمد استقامة حديث الراوي لإثبات شهرته ونفي الجهالة عنه ما ذكره ابن هانئ قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: ما أعلم أن

(1)

رواه الجوزجاني عن الإمام أحمد الجرح والتعديل 6/ 367.

(2)

الموضع نفسه، وقال: سمع علياً، وذكره العجلي في الثقات 2/ 162، وكذلك ابن حبان الثقات 5/ 244 وقال عنه الحافظ: مقبول من الثالثة.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 118 رقم 4504.

(4)

الجرح والتعديل 9/ 109 - 110.

(5)

الموضع نفسه.

(6)

تهذيب التهذيب 11/ 24.

(7)

الكامل 7/ 2594.

ص: 105

أحداً روى عن سَلْم بن أبي الذيال إلا المعتمر، وسلم ثقة"

(1)

.

وإنما وثقه مع تفرد معتمر بن سليمان بالرواية عنه لأن أحاديثه مستقيمة، فدل ذلك على أنه معروف بطلب العلم حيث روى ما يُقارب حديث الثقات. قال أبو داود:"سمعت أحمد ذكر سَلْم فقال: حديثه مقارب"

(2)

.

وقال عباس الدوري: "قال أحمد بن حنبل: سلم بن أبي الذيّال أحاديثه متقاربة، لم يرو عنه غير معتمر"

(3)

.

4.

‌ تقدم طبقة الراوي إذا كان حديثه غير منكر

.

يدل على هذا موقف الإمام أحمد من عمرو بن راشد الأشجعي، فإنه روى حديث وابِصة بن معبَد أن رجلاً صلى خلف الصف وحده فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة

(4)

، فقال الإمام أحمد: حديث وابصة حديث حسن

(5)

، وقال: عمرو ابن راشد معروف

(6)

. وإنما روى عن عمرو بن راشد هذا هلال بن يَساف، ونسير ابن دغلوق

(7)

. وهلال بن يَساف من التابعين، وقد أدرك علي بن أبي طالب

(8)

، فدل على أن عمرو بن راشد متقدم في طبقته، ويكون من طبقة كبار التابعين، وقد روى عن عمر وعلي. وهذا الحديث الذي رواه قد قال فيه أحمد: "لا أعرف

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 247 رقم 2381.

(2)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 336 رقم 493.

(3)

الجرح والتعديل 4/ 265.

(4)

خرجه أبو داود السنن ح 682، والترمذي الجامع ح 231، وأحمد المسند 29/ 524 ح 18000، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 393، وابن حبان الإحسان 5/ 575 ح 2198، والبيهقي السنن الكبرى 3/ 104 وغيرهم.

(5)

تنقيح التحقيق 2/ 33.

(6)

فتح الباري لابن رجب 5/ 24.

(7)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 8 رقم 1369، تهذيب الكمال 22/ 17.

(8)

تهذيب الكمال 30/ 353.

ص: 106

لحديث وابصة مخالفاً"

(1)

قال ابن رجب: "يعني لا يعرف له حديثاً يخالفه، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض، واطرادها واطراحها بعضها، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول"

(2)

فدل على عدم نكارة حديثه عند الإمام أحمد.

واحتج الإمام أحمد أيضاً بالأثر الذي رواه سفيان، عن نسير بن ذُعْلُوق، عن عمرو بن راشد، أن رجلاً اشترى ناقة وهي مريضة فاستثنى البائع جلدها فبرئت، فرغب فيها، فخاصمه إلى عمر، فأرسلهم إلى علي فقال: تقوَّمّ ثم يكون له شراؤه

(3)

. قال الإمام أحمد: "أنا أذهب إلى هذا، فقال له أبو ثور: يا أبا عبد الله، من عمرو بن راشد؟ فقال: سبحان الله، أما سمعت حديث شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن هِلال بن يَساف، عن عمرو بن راشد، عن وابِصة، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده؟ ثم قال أبي: هو رجل معروف أو مشهور"

(4)

وقال في موضع آخر: "عمرو بن راشد روى عنه هلال بن يساف"

(5)

.

فاعتبره الإمام أحمد معروفاً مع قلة عدد من روى عنه، واعتبر في ذلك قدم طبقته وعدم مخالفة حديثه لما هو أثبت منه، والله أعلم.

(1)

فتح الباري لابن رجب 5/ 25.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق المصنف 8/ 194 ح 14850، وعبد الله في مسائل الإمام أحمد بروايته 3/ 915 رقم 1233، وفي العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 8 رقم 1369.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله الموضع نفسه.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 9 رقم 1369.

ص: 107

5.

‌ كونه معروفاً عند أهل العلم ببلده:

ومن الأمور التي تعرف بها شهرة الراوي عند الإمام أحمد كونه معروفاً عند أهل العلم ببلده وإن لم يكن له إلا راوٍ واحد.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد العزيز بن عبيد الله

(1)

الذي روى عنه إسماعيل بن عياش فقال: كنت أظن أنه مجهول حتى سألت عنه بحمص فإذا هو عند هم معروف، ولا أعلم أحداً روى عنه غير إسماعيل بن عياش قال: وقالوا هو من ولد صهيب

(2)

.

فأطلق عليه أنه معروف ونفى عنه الجهالة مما يدل على أنه يقصد أنه معروف في باب الرواية، واعتمد في ذلك على معرفته لدى أهل العلم بحمص، إذ لا يسوغ للإمام أحمد أن يسأل عن الراوي إلا أهل العلم والاختصاص، والعلم عند الله.

(1)

عبد العزيز بن عبيد الله الحمصي. ضعفه ابن معين، ويعقوب الفسوي، والدارقطني، وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث، واهي الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، يكتب حديثه، يروي أحاديث مناكير، ويروي أحاديث حساناً. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه.

التاريخ ـ برواية الدوري 2/ 366 رقم 5127، المعرفة والتاريخ 2/ 450، سنن الدارقطني 4/ 268، الجرح والتعديل 5/ 387، تهذيب الكمال 18/ 172.

(2)

تهذيب الكمال الموضع نفسه.

ص: 108

‌المبحث الثاني: جهالة الصحابي ليست بعلة

.

والذي تقدم من منهج الإمام أحمد من إعلال الحديث بالجهالة خاص بمن وصف بذلك ممن دون الصحابة، أما الصحابة فجهالة أي واحد منهم ليست بعلة. وقد جاء ذلك عن الإمام أحمد صريحاً، فذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر عن الأثرم قال:"قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم"

(1)

.

ونقل عنه أيضاً رحمه الله أنه صحّح حديث رجل من الصحابة لم يُسمّ، فقيل له في الحديث الذي رواه إبراهيم بن أبي العباس، قال: حدثنا بقية، قال حدثنا يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء"

(2)

.

قال الأثرم: قلت لأحمد هذا إسناد جيد؟ قال: نعم. نقله عنه ابن عبد الهادي وقال: وقد احتج به الإمام أحمد أيضاً في رواية غير واحد من أصحابه

(3)

.

فقال الإمام أحمد إن إسناد الحديث جيد مع كون الصحابي في السند مجهولاً غير مسمى، مما يدل على أن ذلك ليست بعلة عنده.

وقد اعتمد ابن التركماني هذا الصنيع من الإمام أحمد في الرد على البيهقي حيث قال إثر روايته للحديث: هو مرسل

(4)

، فقال ابن التركماني: تسمية هذا

(1)

التمهيد 4/ 94. وانظر: الجوهر النقي بحاشية السنن الكبرى 1/ 83 - 84.

(2)

المسند 24/ 251 ح 15495. وأخرجه أبو داود 1/ 121 ح 175 ـ ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 83 ـ من طريق حيوة بن شريح، عن بقية به، وزاد: والصلاة.

(3)

تنقيح التحقيق 1/ 130.

(4)

السنن الكبرى 1/ 83.

ص: 109

مرسلاً ليس بجيد لأن خالداً هذا أدرك جماعة من الصحابة وهم عدول فلا يضرهم الجهالة ثم ذكر سؤال الأثرم المذكور سابقاً

(1)

.

(1)

الجوهر النقي بحاشية السنن الكبرى 1/ 83.

هذا، وقد أعلّ هذا الحديث بعلة أخرى، وهي تدليس بقية وتسويته حيث لم يصرح بالسماع في جميع طبقات الإسناد كما قال محقق المسند 24/ 252: وهذه العلة معارضة بتصحيح الإمام أحمد لإسناد الحديث، وقد صرح بقية بالتحديث في إسناد الإمام أحمد بينه وبين شيخه بحير بن سعد، وإن كان لم يذكر السماع بين شيخه وشيخ شيخه ـ وهو خالد بن معدان ـ، لكن هل مناهج الأئمة في تصحيح أحاديث من وصف بالتسوية تدل على اشتراط تصريحه بالسماع في جميع السند؟.

فتصحيح الإمام أحمد لهذا الإسناد مع عدم تصريح بقية بالسماع في جميع السند يدل على عدم الإشتراط، ويؤيده ما ذكره ابن التركماني قال: إن في سند الحديث بقية وهو مدلس، وقد عنعن، والحاكم أورد الحديث في المستدرك من طريقة ولفظه قال: حدثني بحيرالجوهر النقي 1/ 84 ولم أجده في المستدرك ولم يرمز الحافظ للحاكم عندما ذكر الحديث في اتحاف المهرة 16/ 413.

ص: 110

‌المبحث الثالث: ما رواه المجهول مخالفا للثابت المعروف عند الإمام أحمد

إذا روى الراوي المجهول حديثاً مخالفاً للثابت المعروف عند الإمام أحمد قوي عنده ردّ حديثه بسبب جهالته وما تضمنته روايته من المخالفة. ويدل على هذا صنيعه في أحاديث وهي:

الحديث الأول:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: ما تقول في هذا الحديث، حديث مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمِّه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص أن يُستمتع بجلود الميتة إذا دبغت؟ قلت لأبي: ما تقول في هذا الحديث؟ قال: فيه أمه، من أمه؟ كأنه أنكره من أجل أمه"

(1)

.

رواه أبو داود

(2)

، والنسائي

(3)

، وابن ماجه

(4)

، وأحمد

(5)

وغيرهم من طرق عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند مالك في "الموطأ"

(6)

.

فهذا الحديث أعله الإمام أحمد بجهالة أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حيث قال: فيه أمه، ومن أمه؟

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 192 رقم 4827 و 3/ 48 رقم 4108.

(2)

السنن 4/ 368 ح 4124.

(3)

السنن 7/ 176 ح 4263.

(4)

السنن 2/ 1194 ح 3612.

(5)

المسند 40/ 503 ح 24447.

(6)

رواية الليثي 2/ 498، وانظر: التمهيد 23/ 75.

ص: 111

وتبع الإمام أحمد تلميذه الأثرم في إعلال الحديث بالعلة نفسها فقال: "أما حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه فإن أمه غير معروفة ولم نسمع أنه روى عن غيرها هذا الحديث"

(1)

.

وأم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان روت عن عائشة، وروى عنها ابنُها وعلى حسب ما قاله الأثرم ما روى عنها غير هذا الحديث. وابنها محمد بن عبد الرحمن من التابعين، لا يسأل عن مثله كما قال أبوحاتم

(2)

، ووثقه ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حجر

(3)

. وذكر الحافظ ابن حجر

(4)

أن ابن حبان ذكرها في "الثقات"، ولم أقف عليها في "كتاب الثقات".

وهناك قرائن تؤيد جانب القبول لرواية أم محمد بن عبد الرحمن غير أن الإمام أحمد لم يعتبرها. و هذه القرائن هي:

أولاً: كون أم محمد بن عبد الرحمن من طبقة التابعين إذ إن ابنها نفسه من طبقة التابعين، ونص البخاري

(5)

على أنه سمع ابن عمر، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وزيد بن ثابت.

وكون الراوي المجهول من طبقة كبار التابعين أو أوساطهم مما يجعل حديثه محتملاً ويتلقى لحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول كما قال الحافظ الذهبي

(6)

وقال نحوه ابن كثير

(7)

.

(1)

انظر: الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 1/ 302.

(2)

الجرح والتعديل 7/ 312. وانظر اهذيب الكمال 25/ 598.

(3)

انظر: الطبقات الكبرى 5/ 283، الجرح والتعديل الموضع السابق، تهذيب الكمال 25/ 598، تقريب التهذيب 6108.

(4)

تهذيب التهذيب 12/ 484.

(5)

التاريخ الكبير 1/ 145.

(6)

ديوان الضعفاء ص 274.

(7)

اختصار علوم الحديث ص 97.

ص: 112

الثاني: كون الراوي عنها ثقة مشهوراً بالعلم والرواية.

الثالث: أنها توبعت في رواية هذا الحديث عن عائشة، تابعها الأسود ابن يزيد، وعطاء بن يسار كلاهما عن عائشة بمعناه.

أما حديث الأسود بن يزيد فأخرجه النسائي

(1)

وأحمد

(2)

، والطحاوي

(3)

، وابن حبان

(4)

، والدارقطني

(5)

من طريق شريك القاضي، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن الأسود، عن عائشة قالت:"سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة، فقال: "دِباغها ذكاتها". وهذا لفظ النسائي.

وشريك في إسناد الحديث هو ابن عبد الله النخعي القاضي، صدوق يخطئ، وقد تغير حفظه لما ولي القضاء

(6)

، وقد اختلف عليه الثقات في رواية هذا الحديث. رواه عنه على الوجه المذكور حجاج بن محمد المصيصي، وحسين بن محمد بن بهرام المروذي، أخرج الروايتين الامام أحمد، وأخرج الرواية الثانية النسائي، وابن حبان، والطحاوي.

ورواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. أخرج هذه الرواية النسائي

(7)

، وكذلك قال أبو أيوب بن محمد الوزان

(8)

، وعبد الرحمن بن يونس

(1)

السنن 7/ 174 ح 4255، والسنن الكبرى 3/ 84 ح 4570.

(2)

المسند 42/ 119 ح 25214.

(3)

شرح معاني الآثار 1/ 470.

(4)

الإحسان 4/ 105 ح 1290

(5)

السنن 1/ 44.

(6)

الكواكب النيرات 254 - 255، تقريب التهذيب 2802.

(7)

السنن 7/ 174 ح 4256، والسنن الكبرى 3/ 84 ح 4571.

(8)

وثقه النسائي، وابن حجر تهذيب التهذيب 1/ 411، تقريب التهذيب 627. أخرج روايته النسائي السنن ح 4257، والسنن الكبرى ح 4572.

ص: 113

السرّاج

(1)

كلاهما عن حجاج الأعور عن شريك عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.

وهذا الاختلاف سببه سوء حفظ شريك إذ الرواة عنه كلهم ثقات فاختلافهم يدل على سوء حفظ الراوي الذي رووا عنه.

وقد روى الحديث إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. أخرج الحديث النسائي

(2)

، والطحاوي

(3)

. قال الدارقطني بعد أن ساق الاختلاف: "وأشبهها بالصواب قول إسرائيل ومن تابعه عن الأعمش"

(4)

.

وتبقى علة أخرى في هذا الإسناد وهي عنعنة الأعمش، وهو معروف بالتدليس، وقد روى حفص بن غياث ما يدل على أنه دلس هذا الخبر. فروى عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه عن الأعمش قال: حدثنا أصحابنا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه الطحاوي

(5)

. وهذه العلة لا تمنع من اعتبار الرواية في المتابعات.

والمتابعة الثانية هي رواية عطاء بن يسار، أخرجها الدارقطني

(6)

، والبيهقي

(7)

من طريق إبراهيم بن الهيثم: حدثنا علي بن عيّاش، قال: حدثنا محمد بن مطرِّف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"طهور كل أديم دباغه". قال الدارقطني: إسناد حسن، كلهم ثقات. وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات.

(1)

قال عنه ابن حجر: لا بأس به تقريب التهذيب 4076. أخرج روايته الدارقطني السنن 1/ 44.

(2)

السنن ح 4258، السنن الكبرى ح 4573.

(3)

شرح معاني الآثار 1/ 470.

(4)

علل الدارقطني 5/ق 63. وانظر: تعليق محقق مسند الإمام أحمد 42/ 120.

(5)

شرح معاني الآثار 1/ 470.

(6)

السنن 1/ 49.

(7)

السنن الكبرى 1/ 21.

ص: 114

قال ابن عبد الهادي

(1)

في سنده: "إبراهيم بن الهيثم

(2)

تُكلم فيه، والمحفوظ حديث زيد عن ابن وعلة".

وتوجيه كلام ابن عبد الهادي أن الاختلاف وقع على زيد بن أسلم في رواية الحديث حيث رواه مالك

(3)

، وسفيان بن عيينة

(4)

، وسليمان بن بلال

(5)

، وعبد العزيز الدراوردي

(6)

، وفليح بن سليمان

(7)

، وسفيان الثوري

(8)

، وحماد بن سلمة

(9)

، وهشام بن سعد

(10)

، كلهم رووه عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس، فرواية محمد بن مطرف، وهو أبو غسان المدني

(11)

عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة مخالفة لرواية الجماعة عن زيد بن أسلم، وهي قطعاً خطأ، على أنه قد روي عن أبي غسان مثل رواية الجماعة. فروى الطحاوي

(12)

من

(1)

تنقيح التحقيق 1/ 70.

(2)

قال الذهبي: وثقة الدارقطني، والخطيب ميزان الاعتدال، ترجمة 245، ورمز له بـ[صح]. وقال ابن عدي: أحاديثه مستقيمة سوى حديث الغار الذي أنكروه عليه. وقد فتشت عن حديثه الكثير فلم أر له منكراً يكون من جهته إلا أن يكون من جهة من روى عنه الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 273.

(3)

الموطأ 2/ 498.

(4)

حديثه عند مسلم 1/ 277/366 مكرر، وأبو داود السنن ح 4123، والترمذي حديث رقم 1728، والنسائي السنن ح 4252، والسنن الكبرى ح 4567، وابن ماجه السنن ح 3609.

(5)

أخرج حديثه مسلم الموضع السابق.

(6)

وحديثه عند مسلم الموضع السابق، والترمذي الموضع السابق.

(7)

حديثه عند الدارقطني في السنن 1/ 469.

(8)

وحديثه عند أحمد المسند 4/ 254 ح 435، 5/ 273 ح 3198.

(9)

حديثه عند أحمد المسند 4/ 317 ح 2522.

(10)

ذكره البيهقي ولم أقف على روايته السنن الكبرى 1/ 16.

(11)

وثقه يزيد بن هارون، وأحمد، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة وإبراهيم الجوزجاني وغيرهم تهذيب الكمال 26/ 472.

(12)

شرح معاني الاثار 1/ 470

ص: 115

طريق سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس به. فالحافظ ابن عبد الهادي ما رآى الحمل في هذا الحديث على علي ابن عياش الراوي عن أبي غسان في الرواية الشاذة ـ لثقته

(1)

، فإنه ثقة حجة كما قال الدارقطني

(2)

، بل جعل الحمل على إبراهيم بن الهيثم لأنه متكلم فيه.

فقد تبين أن كلا المتابعتين ـ أعنى رواية الأسود عن عائشة، ورواية عطاء بن سيار عن عائشة ـ لم تسلم من علة.

ويبقى النظر فيما يشهد لحديث عائشة، وهو حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشاة ميتة وفيه أنه قال:"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ "

ـ الحديث

(3)

، فهذا أيضاً أعلّه الامام أحمد بالاضطراب

(4)

.

وشاهد ثان هو حديث سلمة بن المحبّق ـ وسيأتي في هذا المطلب، وهو معلول عنده أيضاً.

فتبين من هذا كله أن حديث أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ليس له عند الامام أحمد شيء سالم من العلة يشهد له، وقد عارضه ما هو أثبت منه عنده، وهو حديث عبد الله بن عُكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب قبل موته بشهر أو شهرين: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أخرجه أبو داود

(5)

، وابن ماجه

(6)

، والترمذي

(7)

،

(1)

تهذيب الكمال 21/ 84، وقال ابن حبان: كان متقناً الثقات 8/ 460.

(2)

ذكره البيهقي السنن الكبرى 1/ 16.

(3)

أخرجه مسلم 1/ 276/363 وغيره.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله 1/ 38، مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 1/ 22.

(5)

السنن 4/ 370 ح 4128، 4127.

(6)

السنن 2/ 1194 ح 3613.

(7)

الجامع 4/ 194 ح 1729.

ص: 116

والنسائي

(1)

، وأحمد

(2)

وغيرهم. قال الإمام أحمد: "أذهب إلى حديث ابن عُكيم"

(3)

.

وقال في رواية صالح ـ بعد أن ذكر اضطراب حديث ابن عباس ـ قال: "وليس عندي في دباغ الميتة حديث صحيح، وحديث ابن عُكيم هو أصحها"، ثم قال:"الله قد حرّم الميتة، فالجلد هو من الميتة، وأذهب إلى حديث ابن عُكيم، أرجو أن يكون صحيحاً"

(4)

.

وقال أيضاً: إسناد جيد يرويه يحي بن سعيد، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكيم. وقال مرة: ماأصلح إسناده

(5)

.

فجهالة أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان علة توجب ردّ حديثها عند الامام أحمد، وكونها من طبقة التابعين مع رواية الراوي الثقة المشهور عنها لا يجدي شيئاً لمعارضة ذلك بما هو أقوى عند الامام أحمد، وهو مخالفته لحديث عبد الله بن عُكيم الذي هو معارِضٌ راجحٌ عند الإمام أحمد لكل ما عارضه من الأحاديث في هذا الباب، مع مايؤيده من ظاهر القرآن ـ وهو تحريم الميتة، وكون جلدها منها كما بينه رحمه الله في رواية ابنه صالح، والله أعلم.

(1)

السنن 7/ 175 ح 4261، 4262.

(2)

المسند 31/ 74 ح 18780.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ رواية عبد الله 1/ 36 ورواية صالح.

(4)

مسائل الامام أحمد ـ برواية صالح 3/ 95 - 96 رقم 1416، 1417.

(5)

تنقيح التحقيق 1/ 64. وقد ذكر الترمذي الجامع 4/ 194 - 195 أن الإمام أحمد كان يذهب إلى هذا الحديث ثم تركه لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عُكيم، عن أسياخ لهم من جُهينة. ا. هـ. قال ابن عبد الهادي مستضعفاً هذا النقل عن الإمام أحمد: هو خلاف المشهور المستفيض عن أحمد تنقيح التحقيق، الموضع نفسه.

ص: 117

الحديث الثاني:

قال أبو طالب أحمد بن حميد: "سألت ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن جون

ابن قتادة فقال: لا يُعرف قلت: روى غير هذا الحديث قال: لا"

(1)

.

والمقصود بالحديث هو حديث سلمة بن المحبِّق

(2)

: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ ببيت بفنائه قِربة معلَّقة فاستقى، فقيل: إنها ميتة، فقال:"ذكاة الأديم دباغه" أخرجه أبو داود

(3)

، والنسائي

(4)

، وأحمد

(5)

، والطحاوي

(6)

، وابن حبان

(7)

، والدارقطني

(8)

، والحاكم

(9)

، والبيهقي

(10)

من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن جَوْن بن قتادة، عن سلمة بن المحبق به، واللفظ لأحمد.

وظاهر صنيع الامام أحمد في هذا الحديث أيضاً إعلاله بجهالة جون، ويزاد عليه معارضة الحديث لما هو أرجح منه عند الامام أحمد، وهو حديث عبد الله بن عُكيم.

ووجه جهالة جون كونه ليس له راوٍ غير الحسن البصري، وهو وإن كان إماماً جليلاً إلا أنه معروف بكثرة الرواية عن المجهولين، فلعدم تحريه في

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 600، وانظر: تنقيح التحقيق 1/ 67.

(2)

سلمة بن المحبق ـ بصيغة اسم الفاعل على ما رجحه العسكري ـ الهذلي أبو سنان، له صحبة وسكن البصرة. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه تهذيب الكمال 11/ 318، وانظر: الإصابة 2/ 67.

(3)

السنن 4/ 368 ح 4125.

(4)

السنن 7/ 173 ح 4254.

(5)

المسند 25/ 249 ح 15908، 15909.

(6)

شرح معاني الآثار 1/ 471، وتحرف جون بن قتادة فيه إلى الحارث بن قتادة.

(7)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 10/ 381 ح 4522.

(8)

السنن 1/ 45.

(9)

المستدرك 4/ 141.

(10)

السنن الكبرى 1/ 17.

ص: 118

الرواية عن المشهورين لم يعدّ الامام أحمد مَن تفرّد بالرواية عنه في عِداد الرواة المعروفين.

الحديث الثالث:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: فحديث الحارث بن بلال ابن الحارث المزني في فسخ الحج؟ قال: لا أقول به. قال أبي: لا نَعرف هذا الرجل، ولم يروه إلا الدراوردي، هذه الأحاديث أحب إليّ"

(1)

.

وحديث الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه قال: [قلت يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: "بل لنا خاصة" أخرجه أبو داود

(2)

، والنسائي

(3)

، وابن ماجه

(4)

، وأحمد

(5)

، والطحاوي

(6)

، والدارقطني

(7)

، والحاكم

(8)

، والبيهقي

(9)

كلهم من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ربيعة الرأي عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني، عن أبيه به.

قال ابن هانئ: "قيل له ـ يعني أحمد بن حنبل ـ في الفسخ، فقال: نعم، هذا عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: فحديث بلال بن الحارث؟ قال: ومَن بلال بن الحارث؟ ومن روى عنه؟ أما أبوه فمِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو فأنكره. فقيل له إنه روى حديثاً! فقال: من رواه؟ وأنكره. قلت: ترى فسخ

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله 2/ 693 رقم 934.

(2)

السنن 2/ 399 ح 1808.

(3)

السنن 5/ 179 ح 2807.

(4)

السنن 2/ 994 ح 2984.

(5)

المسند 25/ 183 ح 15853، 15854.

(6)

شرح معاني الآثار 2/ 194.

(7)

السنن 2/ 241.

(8)

المستدرك 3/ 517.

(9)

السنن الكبرى 5/ 41.

ص: 119

الحج؟ قال: نعم، إن شاء هو فسخ، أذهب إلى حديث جابر:[أنهم أهلوا بالحج فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحلّوا]

(1)

.

وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث بلال بن الحارث في فسخ الحج؟ قال: ومن بلال بن الحارث؟ أو قال: الحارث بن بلال؟ ومن روى عنه؟ ليس يصِحّ حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى يُفتي به في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر"

(2)

.

وقال البغوي: وحكي عن أحمد أنه كان يُجوِّز فسخ الحج لغيرهم من الناس، وضعّف حديث الحارث بن بلال، وقال:"ليس الحارث بن بلال بمعروف، وقد روى فسخ الحج جماعة منهم ابن عباس، وجابر، وعائشة وغيرهم"

(3)

.

وقال المجد ابن تيمية: قال أحمد بن حنبل: "حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثب، ولا أقول به، ولا يُعرف هذا الرجل، وقال: أرأيت لو عُرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون ما يرون من الفسخ أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ "

(4)

.

وهذه الروايات كلها متفقة على أن الإمام أحمد ضعّف حديث الحارث ابن بلال، عن أبيه لأجل جهالة الحارث بن بلال، ولمخالفته لما روي عن عدد كثير من الصحابة. والحارث بن بلال بن الحارث المزني المدني روى عن أبيه ولأبيه

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 1/ 147 - 148 رقم 732.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 407 رقم 1918.

(3)

شرح السنة 6/ 76 وعدد ابن القيم أربعة عشر صحابياً الذين رووا الفسخ. انظر: تهذيب السنن 3/ 312.

(4)

المنتقى مع نيل الأوطار 4/ 5369.

ص: 120

صحبة

(1)

وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد مزينة سنة خمس من الهجرة

(2)

، وروى عن الحارث بن بلال ربيعةُ الرأي وحده، قاله الذهبي

(3)

. وابنه يزيد بن الحارث بن بلال رأى علي بن أبي طالب

(4)

، فالظاهر أن الحارث بن بلال تابعي كبير، حيث إن ابنه رأى علي بن أبي طالب

(5)

، إلا أنه تفرد برواية هذا الحديث، ولا يعرف إلا به وقد خالف رواية جماعة من الصحابة. قال أحمد: عندي ثمانية عشر حديثاً صحيحاً في فسخ الحج

(6)

. فهذه المخالفة كافية في رد الحديث حتى لو كان الحارث بن بلال معروفاً كما قال الإمام أحمد، فكيف وهو غير معروف؟.

(1)

الجرح والتعديل 2/ 395 وانظر: تهذيب الكمال 5/ 215.

(2)

الاستيعاب 1/ 183.

(3)

ميزان الإعتدال ترجمة 1610.

(4)

الطبقات الكبرى 2/ 30.

(5)

أما الحافظ ابن حجر فجعله في الطبقة الثالثة ـ وهي الطبقة الوسطى من التابعين، ولعله لم يعتبر ما ذكره ابن سعد.

(6)

تنقيح التحقيق 2/ 425.

ص: 121

‌المبحث الرابع: نماذج من إعلال الإمام أحمد للأحاديث بجهالة بعض رواتها

.

أعل الإمام أحمد أحاديث رواة تفردوا برواية أصل ليس لهم فيه متابع

ولا شاهد، ردها لأن رواتها غير معروفين لديه، فدل على أن الراوي المجهول لا يحتج بما تفرد به، فمن نماذج الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بتفرد الراوي المجهول:

الحديث الأول:

قال أبو داود: "رأيت أحمد يتهيّب ويجبن أن يقول بحديث عَوْسَجة مولى ابن عباس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الميراث المولى من أسفل]، وقال: عوسجة لا أعرفه"

(1)

.

وقال أيضاً: "سمعت أحمد ذكر حديث عَوْسَجة عن ابن عباس، فقال: عوسجة لا أعرفه"

(2)

.

وهذا الحديث رواه أبو داود

(3)

، والترمذي

(4)

، والنسائي

(5)

، وابن ماجه

(6)

، وأبو داود الطيالسي

(7)

، وأحمد

(8)

، والطحاوي

(9)

، والحاكم

(10)

،

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 296 رقم 1418.

(2)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 235 رقم 235.

(3)

السنن 3/ 324 ح 2905.

(4)

الجامع 4/ 368 ح 2106.

(5)

السنن الكبرى 4/ 88 ح 6405.

(6)

السنن 2/ 915 ح 2741.

(7)

مسند الطيالسي ح 2738.

(8)

المسند حديث 3/ 405 ح 1930، 5/ 365 ح 3369.

(9)

شرح معاني الآثار 4/ 403.

(10)

المستدرك 4/ 347.

ص: 123

والبيهقي

(1)

كلهم من طرق عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس، عن ابن عباس [أن رجلاً مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدَعْ وارثاً إلا عبداً هو أعتقه فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه]. وهذا لفظ الترمذي.

فهذا الحديث تضمن إثبات أصل شرعي في ميراث الرجل إذا مات ولم يدع وارثاً إلا مولى من أسفل، وقد تفرد به

(2)

عوسجة مولى ابن عباس

(3)

، ولم يوجد له متابع ولا شاهد يشهد له، فلم يقبله الإمام أحمد لحال عوسجة حيث وصفه بأنه غير معروف عنده، أي ليس له من الشهرة والرواية ما يحتمل منه مثل هذا التفرد. وعوسجة من طبقة التابعين

(4)

ولم يرو عنه غير عمرو بن دينار

(5)

. وعمرو إمام ثقة ثبت

(6)

، وهذان الأمران ـ كونه من طبقة التابعين، ورواية إمام ثقة عنه ـ من القرائن التي تقوي جانب القبول لحديثه، والحكم عليه بالشهرة، لكنهما معارضان بقرينة أخرى هي أقوى منهما ـ وهي: عدم العمل بهذا الحديث عند العلماء. قال الإمام الترمذي رحمه الله بعد تحسينه للحديث ـ "والعمل عند أهل العلم في هذا الباب إذا مات الرجل ولم يترك عصبة أن ميراثه يجعل في بيت مال المسلمين"

(7)

.

(1)

السنن الكبرى 6/ 242.

(2)

قال النسائي: لم نجد هذا الحديث إلا عند عوسجة السنن الكبرى 4/ 98 ح 6409.

(3)

هو عوسجة المكي مولى ابن عباس، روى عن مولاه ابن عباس وروى عنه عمرو بن دينار. وقال أبو زرعة: ثقة الجرح والتعديل 7/ 24. وقال البخاري لم يصح حديثه التاريخ الكبير 7/ 76.

وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بمشهور الجرح والتعديل الموضع السابق، السنن الكبرى للنسائي 4/ 88. وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 281. وقال الذهبي: مجهول ديوان الضعفاء 3258. وقال ابن حجر: ليس بمشهور، وقد وثق تقريب التهذيب 5249. وانظر: تهذيب الكمال 22/ 432 - 435.

(4)

ذكره ابن حبان في كتاب الثقات في طبقة التابعين 5/ 281.

(5)

قال النسائي: لا نعلم أحداً يروي عنه غير عمرو بن دينار الموضع نفسه.

(6)

انظر: تقريب التهذيب ص 734.

(7)

الجامع 4/ 369.

ص: 124

وقال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: "الفقهاء على خلاف حديث عوسجة هذا إما لاتهامهم عوسجة، فإنه ممن لا يثبت به فرض ولا سنة إما لتحريف في التأويل وإما النسخ"

(1)

.

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: "لا يرث المولى من أسفل في قول عامة أهل العلم، وحكي عن شريج وطاووس أنهما ورثاه"

(2)

.

فإذا انضم إلى هذه القرينة قلة حديثه

(3)

قوي جانب رد ما تفرد به بسبب عدم شهرته بالعلم.

وممن سلك هذا المسلك من الائمة في هذا الحديث وردَّه بعلة عدم شهرة راويه أبو حاتم الرازي

(4)

، والنسائي

(5)

، وكذلك قال البخاري: لم يصح حديثه

(6)

.

الحديث الثاني:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سألت أبي قلت: يصح حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة عليه دينار أونصف دينار يتصدق به؟ " فقال: قُدامة بن وبرة يرويه، لا يعرف"

(7)

.

(1)

تأويل مختلف الحديث ص 262.

(2)

المغني 9/ 253. وروى سعيد ابن منصور، وعبد الرزاق عن سفيان عن عمرو عن عطاء قال: مات في خط بني جمح ولم يترك قرابة إلا عبداً هو أعتقه فأمر عمر أن يعطى المال سنن سعيد بن منصور 1/ 98، مصنف عبد الرزاق 9/ 17 ح 16195.

وهذا منقطع، عطاء لم يُدرك عمر لأنه ولد في خلافة عثمان بن عفان تهذيب الكمال 20/ 70.

ورواه عبد الرزاق من طريق عكرمة بن خالد المخزومي، عن عمر المصنف 9/ 17 ح 16193. وهذا أيضاً منقطع، قال أحمد: عكرمة بن خالد لم يسمع من عمر جامع التحصيل 239.

(3)

لم أجد له غير هذا الحديث وحديثاً آخر: لا خير في الحبش إذا جاعوا سرقوا وإذا شبعوا زنوا، وإن فيهم لخلتين حسنتين: إطعام الطعام، وبأس عند البأس رواه الطبراني المعجم الكبير 11/ 428، وابن عدي الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 2020. وهذا متن موضوع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 2/ 158 ح 728.

(4)

قيل له يصح هذا الحديث؟ قال: عوسجة ليس بالمشهور علل ابن أبي حاتم 2/ 52.

(5)

السنن الكبرى 4/ 98.

(6)

التاريخ الكبير 7/ 76.

(7)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 256 رقم 367.

ص: 125

هذا الحديث أخرجه أبو داود

(1)

، والنسائي

(2)

، وأحمد

(3)

، وابن خزيمة

(4)

، وابن حبان

(5)

، والحاكم

(6)

، والبيهقي

(7)

من طرق عن همام بن يحيى العوذي، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة به مرفوعاً.

قال الإمام مسلم أيضاً: "قيل لأحمد بن حنبل: يصح حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة عليه نصف دينار"؟ فقال: قدامة يرويه، لا نعرفه"

(8)

.

وهذا الراوي الذي أعلّ الإمام أحمد الحديث به لم يذكر له راوياً سوى قتادة بن دعامة السدوسي

(9)

الإمام التابعي، ولم ترفع رواية قتادة عنه الجهالة عند الإمام أحمد، والحديث الذي رواه في كفارة من ترك الجمعة غريب ليس له أصل يشهد له

(10)

.

(1)

السنن 1/ 638 ح 1053.

(2)

السنن 3/ 89، السنن الكبرى 1/ 517 ح 1661.

(3)

المسند 33/ 277 ح 20087، 33/ 330 ح 20159.

(4)

صحيح ابن خزيمة 13/ 177 ح 1861.

(5)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 6/ 28 ح 2788 - 2789.

(6)

المستدرك 1/ 280.

(7)

السنن الكبرى 3/ 248.

(8)

انظر: تهذيب الكمال 23/ 556.

(9)

هذا ما ذكره الأئمة: البخاري التاريخ الكبير 7/ 178، وأبو حاتم الجرح والتعديل 7/ 127، وابن حبان الثقات 5/ 320، والمزي تهذيب الكمال 23/ 556. وقد ذكره الإمام مسلم في كتابه "المنفردات والوحدان" ب رقم 252 ضمن الرواة الذين

لم يرو عنهم غير قتادة، وكذلك النسائي في كتابه "تسمية من لم يرو عنه غير رجل

واحد" ص 122.

(10)

وممن أطلق الجهالة على قدامة بن وبرة الحافظ أبو بكر ابن خزيمة فقال: لست أعرف قدامة بعدالة ولا جرح صحيح ابن خزيمة، الموضع نفسه.

وأطلق الإمام البخاري الحكم على الحديث بعدم الصحة فقال: لا يصح حديث قدامة في الجمعة التاريخ الكبير 4/ 176.

وأما ابن معين فروى عنه الدارمي أنه قال في قدامة: ثقة الجرح والتعديل 7/ 127.

وقال أبو حاتم عن هذا الحديث: هو حديث صالح الإسناد العلل 1/ 196.

فأما توثيق ابن معين لقدامة بن وبرة فهو محمول على ما عُرف من منهجه من توثيق المجاهيل من القدماء كما قال الشيخ المعلمي رحمه الله التنكيل 1/ 69 حيث قال: وابن معين، والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد. ثم قال: وروى همام، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة، عن سمرة بن جندب حديثاً ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية فوثقه ابن معين مع أن الحديث غريب وله علل أخرى.

وللحديث علة أخرى أشار إليها الإمام أحمد في تكملة جوابه عن هذا السؤال فقال: رواه أيوب أبو العلاء فلم يصل إسناده كما وصله همام قال: نصف درهم أو درهم، خالفه في الحكم وقصر في الإسناد.

ص: 126

الحديث الثالث:

قال أبو داود: "سمعت أحمد سُئل عن حديث سلمة بن المحبِّق: [أن رجلاً وطئ جارية امرأته]، فقال: جون بن قتادة شيخ لا يعرف، لم يحدث عنه غير الحسن"

(1)

.

هذا الحديث أخرجه أبو داود

(2)

، والنسائي

(3)

، وابن ماجه

(4)

، وأحمد

(5)

عن الحسن عن سلمة بن المحبق قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يواقع جارية امرأته قال: "إن أكرهها فهي حرة، ولها عليه مثلها وإن طاوعته فهي أمة ولها عليه مثلها" وهذا لفظ أحمد

(6)

.

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 407/ 1916.

(2)

السنن 4/ 605 - 607 ح 4460، 4461.

(3)

السنن 6/ 124 - 125 ح 3363، 3364 السنن الكبرى ح 7231، 7233.

(4)

السنن ح 2552.

(5)

المسند 25/ 252 ح 15911.

(6)

والحديث اختلف فيه على الحسن البصري فقيل عنه: عن قبيصة بن حُريث، عن سلمة. وقيل: عن الحسن، عن سلمة من غير ذكر قبيصة، وقيل: عن الحسن عن جَون بن قتادة عن سلمة. وقيل: عن الحسن عن رجل عن سلمة.

قال النسائي: ليس في هذا الباب شيء يُحتج به السنن الكبرى 4/ 298. وانظر: العلل لعلي بن المديني ص 57 - 59، التاريخ الكبير 4/ 72، السنن الكبرى للبيهقي 8/ 240، السنن للدارقطني 3/ 85، مع التعليق المغني، تهذيب الكمال 5/ 164.

ص: 127

فأعل الإمام أحمد هذا الحديث بجون بن قتادة

(1)

، وقال عنه:"شيخ لا يعرف، لم يحدث عنه غير الحسن".

وكذلك روى أبو طالب أحمد بن حميد قال سألت أحمد بن حنبل عن جون ابن قتادة فقال: لا أعرفه

(2)

.

فقد أعل الإمام أحمد الحديث بمطلق الجهالة والراوي الموصوف بها من طبقة كبار التابعين على ما صنفه الحافظ بن حجر، وقد تفرد عنه بالرواية راوٍ واحد، وهو ثقة إمام ولم ترفع رواية هذا الإمام عنه الجهالة، وذلك راجع إلى ما تقدمت الإشارة إليه أن الإمام الحسن البصري كان يأخذ عن كل أحد.

(1)

له ترجمة في تهذيب الكمال، وذكر المزي أنه يقال أن له صحبة ولم يثبت ذلك وذكر أنه شهد الجمل مع الزبير بن العوام وذكر المزي ممن حدث عنه قرة ين الحارث البصري وقتادة إن كان محفوظاً.

ونص الإمام أحمد وعلي بن المديني على أنه لم يرو عنه إلا الحسن البصري، كذلك لم يذكر أبو حاتم من الرواة عنه غير الحسن.

هذا وقد عارض حكم علي بن المديني على جون بن قتادة حكم الإمام أحمد فقال: جون معروف وجون لم يرو عنه غير الحسن إلا أنه معروف. ثم قال في موضع آخر: الذين روى عنهم الحسن من المجهولين، فذكرهم وذكر فيهم جون بن قتادة.

وذكره ابن حبان في الثقات 4/ 119.

ونقل ابن عساكر عن البرديجي في الأسماء المفردة أنه قال إنه ثقة. تاريخ دمشق، 11/ 338.

وقال الحافظ بن حجر: مقبول من الثانية، وهي طبعة كبار التابعين.

وذكره أبو داود من مشايخ الحسن الذين لقيهم في الغزو والذين لم يحدث عنهم غيره إكمال تهذيب الكمال 3/ 256.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 542، الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 600. وانظر: بحر الدم 98/ 156. وفي نسخة أخرى للجرح والتعديل: لا يُعرف.

ص: 128

وقد روي عن أحمد أنه أفتى بمقتضى هذا الحديث

(1)

، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ليس ببعيد عن الأصول، وحسّن الحديث"

(2)

.

وهذا محمول على ما ذكر من منهج الإمام أحمد أنه يرى العمل بالحديث الضعيف وأنه أحب إليه من الرأي

(3)

.

الحديث الرابع:

قال مُهنَّا: "سألت أحمد ويحيى عن الحديث الذي رواه رفدة بن قضاعة، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة] فقالا جميعاً: ليس بصحيح. قال أحمد: لا يُعرف رفدة بن قضاعة"

(4)

.

هذا الحديث رواه ابن ماجه

(5)

، وابن أبي عاصم

(6)

، والطبراني

(7)

، والعقيلي

(8)

، وابن عدي

(9)

، والخطيب

(10)

، وأبو نعيم

(11)

كلهم من طريق هشام

(1)

ص 284/ 183.

(2)

الإنصاف 10/ 244.

(3)

انظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 170، والنكت 1/ 437.

(4)

فتح الباري لابن رجب 4/ 328.

(5)

السنن 1/ 280 ح 861. ووقع عنده: عن جده عمير بن حبيب، وهو خطأ، والصواب عمير ابن قتادة، فإنه معروف بأنه جد عبد الله بن عبيد بن عمير، وعند سائر من روى الحديث: عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه، عن جده، ولم يقل أحد منهم: ابن حبيب. انظر: تهذيب الكمال 22/ 377، 384، الإصابة في تمييز الصحابة 3/ 180 - 181.

(6)

الآحاد والمثاني 2/ 173 ح 910.

(7)

المعجم الكبير 17/ 148 ح 104.

(8)

الضعفاء للعقيلي 2/ 419.

(9)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1036.

(10)

تاريخ بغداد 2/ 253.

(11)

حلية الأولياء 3/ 358.

ص: 129

ابن عمّار، عن رفدة بن قضاعة به. ورواه ابن الجوزي

(1)

من طريق ابن حبان، عن العباس، عن هشام بن عمار به بلفظ:[كان يرفع يديه في كل خفض ورفع].

والحديث قال فيه الإمام أحمد: ليس بصحيح، وعلته جهالة رفدة بن قضاعة فإنه لا يُعرف كما قال الإمام أحمد في هذا السؤال.

ورِفدة بن قضاعة روى عنه هشام بن عمار، ومروان بن محمد الطاطري

(2)

، وليس له من الحديث إلا شيء يسير، فاعتبره الإمام أحمد غير معروف. قال ابن عدي:"رفدة بن قضاعة هذا لم أر له إلا حديثاً يسيراً، وعند هشام بن عمار عنه مقدار خمسة أو ستة أحاديث"

(3)

.

وقد وثقه هشام بن عمار

(4)

، وقال البخاري: في حديثه المناكير

(5)

. وقال أبو حاتم: منكر الحديث

(6)

. وقال النسائي: ليس بالقوي

(7)

. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه

(8)

. وقال الذهبي: واهٍ

(9)

. وقال ابن حجر: ضعيف

(10)

.

وأما يحيى بن معين فضعف الحديث بناء على ضعف رفدة، فقد قال فيه: هو شيخ ضعيف

(11)

.

(1)

العلل المتناهية 1/ 426.

(2)

انظر: الجرح والتعديل 3/ 523.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1036.

(4)

تهذيب الكمال 9/ 212.

(5)

التاريخ الكبير 2/ 342.

(6)

الجرح والتعديل الموضع نفسه.

(7)

الضعفاء والمتروكون رقم 195.

(8)

الضعفاء للعقيلي الموضع نفسه.

(9)

الكاشف 1584.

(10)

تقريب التهذيب 1963.

(11)

فتح الباري لابن رجب الموضع نفسه.

ص: 130

وأحاديث رفع اليدين في الصلاة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح، وليس فيها أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة، ولا يعرف إلا من حديث رِفدة هذا

(1)

. قال ابن حبان: "وأخبار الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك بين السجدتين"

(2)

.

وللحديث إسناد آخر عن رِفدة، ذكره الدارقطني

(3)

، فقال: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه غيره عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنه كان يكبر في كل تكبيرة، ولم يذكر الرفع. قال الدارقطني: وهذا هو الصواب

(4)

.

الحديث الخامس:

قال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري ـ بالنون ـ الدمشقي: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أُبيّ بن عِمارة ليس بمعروف الإسناد. ثم قال أبو زرعة: فناظرت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح فلم يقنع به. قلت له: فحديث عطاء بن يسار، عن ميمونة ـ حدثت به أبا عبد الله ـ أعني في المسح أيضاً؟ قال: ذاك من كتاب. قلت لأبي عبد الله: أي شيء ذهب أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاث ويوم وليلة؟ قال: لهم فيه أثر، وقال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل: حديث خُزيمة بن ثابت مما لعله أن يدل على ـ يعني حجة لهم، قوله: ولو استزدته لزادني"

(5)

.

(1)

انظر: الضعفاء للعقيلي الموضع نفسه.

(2)

المجروحين 1/ 304.

(3)

علل الدارقطني 9/ 282.

(4)

الموضع نفسه.

(5)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 631 رقم 1824، 1826 - 1827. وانظر: الإمام في أحاديث الأحكام 2/ 194، تنقيح التحقيق 1/ 188 - 189.

ص: 131

حديث أُبي بن عِمارة ـ بكسر العين ـ الذي ضعفه الإمام أحمد في هذه الرواية رواه أبو داود

(1)

قال: "حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن أُبي بن عِمارة ـ قال يحيى بن أيوب: وكان قد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين ـ أنه قال: يا رسول الله! أمسح على الخُفّين؟ قال: "نعم"، قال: يوماً؟ قال: "يوماً"، قال: ويومين؟ قال: "ويومين"، قال: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت".

ورواه ابن ماجه

(2)

، والفسوي

(3)

وابن أبي عاصم

(4)

والطحاوي

(5)

، والطبراني

(6)

، والدارقطني

(7)

والحاكم

(8)

، والبيهقي

(9)

. وقد وقع اختلاف في إسناد الحديث أشار أبو داود إلى بعضه، وفصّله أبو الحسن بن القطان

(10)

. وقال أبو داود: ليس هو بالقوي.

وأعلّ الإمام أحمد هذا لحديث بجهالة رجال الإسناد، فإن قوله: ليس بمعروف الإسناد، فسره ابن الجوزي بأن رجاله لا يعرفون

(11)

. وقد بين الدارقطني المجهولين في الإسناد، وهم: عبد الرحمن بن رزين، ومحمد بن يزيد ابن أبي زياد، وأيوب بن قطن

(12)

.

(1)

السنن 1/ 109 ح 158.

(2)

السنن 1/ 185 ح 557.

(3)

المعرفة والتاريخ 1/ 316.

(4)

الآحاد والمثاني 4/ 163 ح 2145.

(5)

شرح معاني الآثار 1/ 79.

(6)

المعجم الكبير 1/ 202 ح 545، 546، والمعجم الأوسط 3/ 363 ح 3408.

(7)

السنن 1/ 198.

(8)

المستدرك 1/ 170.

(9)

السنن الكبرى 1/ 278 - 279.

(10)

بيان الوهم والإيهام 3/ 323 - 325.

(11)

التحقيق في أحايث الخلاف مع تنقيح التحقيق 1/ 188.

(12)

سنن الدراقطني الموضع نفسه. وعبد الرحمن بن رَزِين الغافقي المصري، لقي سلمة بن الأكوع وقبله يده ميزان الاعتدال 4862، وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 82، ولم يذكر له المزي من الرواة غير العطاف بن خالد، ويحيى بن أيوب الغافقي تهذيب الكمال 17/ 91. وقال فيه الذهبي: وثق الكاشف 3192. وقال ابن حجر: صدوق تقريب التهذيب 3884.

ومحمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفي الفلسطيني، حدث عنه جماعة. ونقل الحافظ عن الخلال عن أحمد أنه قال في حديث رواه ـ وهو حديث الصور ـ رجاله لا يعرفون تهذيب التهذيب 9/ 524. وقال أبو حاتم: مجهول الجرح والتعديل 8/ 126، وكذلك قال الذهبي ميزان الاعتدال 8322. وقال ابن حجر: مجهول الحال تقريب التهذيب 6438.

وأيوب بن قطن بن سنان الفلسطيني، لم يذكر له المزي راوياً غير محمد بن يزيد بن أبي زياد. قال عنه أبو حاتم: محدث. وقال أبو زرعة: لا يعرف. وقال الأزدي، والدارقطني وغيرهما مجهول الجرح والتعديل 2/ 254، تهذيب الكمال 3/ 489، تهذيب التهذيب 410.

ص: 132

وأما حديث عطاء بن يسار، عن ميمونة فسيأتي إن شاء الله في الكلام على الوجادة.

ومما حكم عليه الإمام أحمد بالنكارة لتفرد راويه المجهول ما ذكره المرُّوذي:

قال المرّوذي: "وألقيت على أبي عبد الله حديثاً رواه الفضل بن موسى، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: [عارض رسول الله صلى الله عليه جنازة أبي طالب] فقال: هذا منكر، هذا رجل مجهول"

(1)

.

والمقصود بالرجل المجهول هو إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي، وهو إبراهيم بن بيطار أبو إسحاق. قال ابن عدي: يروي عنه الفضل بن موسى الشيباني، وعيسى بن موسى الغنجار، ومحمد بن سلام البيكندي، وقال عنه:"ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى ليست بمستقيمة"

(2)

.

والحديث رواه ابن عدي

(3)

، وذكره الذهبي

(4)

ومتنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: "وصلتك رحم، وجزيت خيراً يا عمّ".

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 155 رقم 272.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 259.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال الموضع نفسه.

(4)

ميزان الاعتدال 136.

ص: 133

وإنما حكم عليه الإمام بالنكارة لأنه لا أصل له من حديث ابن عباس، ولا من حديث عطاء، ولا من حديث ابن جريج، وإنما جاء من طريق إبراهيم ابن بيطار هذا، فحري به أن يكون منكراً. وقد قال الذهبي أيضاً: هذا خبر منكر

(1)

.

وقد روي من وجه آخر عن عطاء، رواه معاوية بن عبيد الله كاتب المهدي، عن المهدي الخليفة، عن أبيه أبي جعفر المنصور قال: حدثني عطاء، قال: سمعت ابن عباس فذكره، أخرجه الخطيب

(2)

. ومعاوية بن عبيد الله قد ذكر بالخير والعبادة

(3)

، ولم أر من ذكر فيه جرحاً أو تعديلاً من حيث الرواية، وكذلك المهدي والمنصور، فلا يثبت الحديث بروايتهم، ويبقى حكم الإمام أحمد على الحديث بالنكارة ثابتاً بدون معارض.

ومما أنكره الإمام أحمد بالجهالة رفع حديث عائشة برواية عبد العزيز بن النعمان عنها: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى الختانان اغتسل]

(4)

، فقال: عبد العزيز بن النعمان لا يعرف. ا. هـ

(5)

. وذلك أنه قد روي هذا الحديث عنها من وجوه كثيرة موقوفاً عليها

(6)

.

(1)

الموضع نفسه.

(2)

تاريخ بغداد 13/ 196.

(3)

تاريخ بغداد الموضع نفسه، سير أعلام النبلاء 7/ 398.

(4)

أخرجه أحمد المسند 41/ 397 ح 24914، 43/ 77 ح 25902، 43/ 151 ح 26025، وإسحاق بن راهويه المسند 3/ 744 ح 1354، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 55، وابن حبان الإحسان 3/ 453 ح 1177، وابن عبد البر التمهيد 23/ 103 كلهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن عبد العزيز بن النعمان، عن عائشة به. ولفظ ابن حبان:[إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل].

(5)

فتح الباري لابن رجب 1/ 369.

(6)

منها: عند مالك الموطأ 1/ 45 ح 102، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 57 من طريق ابن المسيب، عن عمر، وعثمان، عائشة. وعند مالك الموطأ 1/ 46 ح 103 من طريق أبي سلمة عنها. وعنده أيضاً الموطأ 1/ 46 ح 104، وعند عبد الرزاق المصنف 1/ 248 ح 954 من طريق ابن المسيب في قصة سؤال أبي موسى الأشعري إياها فذكرتْه موقوفاً. ومن طريق عطاء عنها عند عبد الرزاق المصنف 1/ 247 ح 945، ومن طريق ميمون ابن مهران عنها عند الطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 60، ومن أوجه آخرى أيضاً يطول المقام بذكرها.

ص: 134

وقد ثبت عنها مرفوعاً عند مسلم

(1)

وغيره من أوجه كثيرة أيضاً. ومعظم من روى عنها موقوفاً قد جاء عنهم الرواية بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريقها. وقد قال ابن عبد البر عن رواية الوقف: "وهذا الحديث يدخل في المسند بالمعنى والنظر، لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على غيرها من الصحابة في حين اختلافهم في هذه المسألة النازلة بينهم، ومحال أن يسلم أبو موسى لعائشة قولها من رأيها في مسألة قد خالفها فيها من الصحابة غيرها برأيه، لأن كل واحد ليس بحجة على صاحبه عند التنازع، وهذا يدلك على أن تسليم أبي موسى لعائشة في هذه المسألة إنما كان من أجل أن علم ذلك كان عندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك سلم لها إذ هي أولى بعلم مثل ذلك من غيرها"، ثم ذكر من روى الحديث عنها مسنداً

(2)

.

وبهذا يتبين أن رواية عبد العزيز بن النعمان ـ وإن كان في نفسه غير معروف ـ لها أصل من حديث عائشة رضي الله عنه مرفوعاً، مما يدل على أن في إنكار الإمام أحمد لروايته نظراً، والله أعلم.

ومما رده الإمام أحمد من الآثار بعلة الجهالة أثر عثمان بن عفان أن الخلع تطليقة

(3)

،

(1)

صحيح مسلم 1/ 271 ح 349.

(2)

التمهيد 23/ 100 - 101.

(3)

أخرجه مالك في الموطأ ـ رواية أبي مصعب الزهري 1/ 620 ح 1613، ورواية محمد بن الحسن الشيباني 189 ح 563 عن هشام بن عروة، عن أبيه عن جُمهان مولى الأسلميين عن أم بكرة الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد ثم أتيا عثمان بن عفان > في ذلك فقال: هي تطليقة إلا أن تكون سمّت شيئاً فهو ما سمّت.

وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 6/ 483 ح 11760 من طريق ابن جريج، عن هشام به. وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان به مصنف ابن أبي شيبة 4/ 117 ح 18429، 18430، 18431.

ص: 135

ردّه بجهالة الراوي عن عثمان وهو جمُهان

(1)

، وذهب إلى قول ابن عباس أن الخلع تفريق وليس هو بطلاق. قال عبد الله:"قال أبي في حديث عثمان: إسناده ما أدري ما هو: جمهان عن أم بكرة! هو كأنه لم يرض إسناده. قلت لأبي: تذهب إلى قول ابن عباس؟ قال: فيه اختلاف، ورأيته كأنه يذهب إلى قول ابن عباس"

(2)

.

وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث عثمان: [أن الخلع تطليقة] لا يصح؟ فقال: ما أدري، جُمهان لا أعرفه"

(3)

.

ومن الآثار أيضاً ما ذكره أبو داود قال: "سمعت أحمد ذكر أبا شيبة الذي روى عنه عبّاد ابن العوّام، عن عِكرمة [أن ابن عباس كان ينام بين جاريتين]، قال: أبو شيبة هذا شيخ مجهول"

(4)

، وقال في رواية عبد الله:"أبو شيبة الذي حدثنا عنه عباد بن العوام لا أدري من هو، ما روى عنه أعلم غير عباد"

(5)

، ثم ذكر هذا الأثر. وهذا يدل على إنكاره لهذا الأثر لجهالة راويه.

(1)

جُمهان مولى الأسلميين ـ بضم أوله ـ روى عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وعنه عروة بن الزبير، وعمرو بن نبيه الكعبي، وموسى بن عبيدة الجرح والتعديل 2/ 546.

وقال الحافظ ابن حجر: ذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة تهذيب التهذيب 2/ 95، وانظر: الطبقات للإمام مسلم 1/ 252 رقم 914، ولم يسم الإمام مسلم هذه الطبقة بالطبقة الأولى، بل ذكرها بعد ذكر طبقة من يُشبه من قيل فيه إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في العلو والدرجة. وذكره ابن حبان في الثقات 4/ 118. وقال في تقريب التهذيب 973: مدني قديم، مقبول من الثالثة.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله 3/ 1052 رقم 1444. وكذلك ذكر ابن المنذر أن الإمام أحمد ضعف حديث عثمان هذا انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7/ 316.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 407 رقم 1915.

(4)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 317 رقم 427.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 101 رقم 1700.

ص: 136

وأبو شيبة لا يعرف اسمه، وروى عنه أيضاً زكريا بن أبي زائدة على ما ذكره أبو زرعة الرازي

(1)

.

وكان الإمام أحمد رحمه الله ينكر حديث الراوي المجهول إذا تفرد به عن حافظ مكثر، فقد ورد في علل الخلال كما في "المنتخب من علله"

(2)

.

قال مهنا: "سألت أحمد عن إبراهيم بن قعيس يحدث عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء من بعدي" قال لا أعرفه. ولكن العلاء بن المسيب يحدث عنه هذا الحديث ولا نعرف هذا، ولم يروه أصحاب نافع قال: ولا أعرف إبراهيم بن قعيس ولا أدري من هو".

فهذا الحديث أنكره الامام أحمد لأنه غريب من حديث نافع إذ لم يحدث به أصحاب نافع كمالك وعبيد الله وأيوب وغيرهم، ونافع إمام حافظ مكثر وكان له أصحاب كُثًر، والذي تفرد بالحديث عن نافع وهو إبراهيم بن قُعيس

(3)

ليس

(1)

الجرح والتعديل 9/ 390.

(2)

ص 170 رقم 90.

(3)

ويقال إبراهيم قعيس، قال الحافظ ابن حجر: قُعيس لقب إبراهيم وهو إبراهيم بن إسماعيل لسان الميزان 1/ 93. قال أبو حاتم: ضعيف الحديث الجرح والتعديل 2/ 151.

وذكره البخاري في التاريخ الكبير ولم يجرحه كما قال الحافظ ابن حجر التاريخ الكبير 1/ 314، لسان الميزان، الموضع السابق. وذكره ابن حبان في الثقات 6/ 21 - 22. وقال الحافظ: وأخرج حديثه في صحيحه.

روى عن نافع، وأبي وائل شقيق بن سلمة، وروى عنه العلاء بن المسيب، وسليمان بن طرخان التيمي، وكلاهما ثقة انظر الجرح والتعديل 2/ 51.

ولإبراهيم قُعيس حديث آخر عن نافع، رواه عنه العلاء بن المسيب، وأنكره ابن خزيمة كما قال الحافظ في اتحاف المهرة 9/ 9 ولفظه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في غزوة كان أول عهده بفاطمة وأنه خرج في غزوة تبوك ومعه علي

]. أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان الإحسان 2/ 41، والحاكم المستدرك 1/ 499، 3/ 156. وقال الإمام ابن خزيمة: أنا بريء من عهدة هذا الخبر، لأن فيه لفظة تدل على أنه غير ثابت، وهي قوله: ومعه علي وعلي لم يشهد غزوة تبوك.

ص: 137

بمعروف عند الامام أحمد ولا يدري من هو، فلا يحتمل منه مثل هذا التفرد. والظاهر أن رواية الثقة عنه ـ وهو العلاء بن المسيب

(1)

ـ لم تكسبه تلك المعرفة التي يحتمل معها قبول خبر تفرد به عن مثل نافع. والله أعلم.

هذا الحديث رواه أحمد

(2)

قال: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر ـ يعني ابن عياش، عن العلاء بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا يفعلون، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد علي الحوض".

وذكره البخاري في "التاريخ الكبير"

(3)

، وأخرج نحوه الطحاوي

(4)

.

وقد أشار البخاري إلى وقوع اختلاف في رواية هذا الحديث فذكر أن محمد بن يوسف البيكندي روى عن سفيان، عن زُبيد، عن رجل يقال له: إبراهيم، عن كعب بن عجرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء

"

(5)

. هكذا أخرجه الترمذي

(6)

، والنسائي

(7)

كلاهما من طريق محمد بن يوسف، فذكراه عن إبراهيم وليس بالنخعي. وكان البخاري يشير إلى احتمال أن إبراهيم في هذا الإسناد هو قعيس، ونفى المعلمي أن يكون إبراهيم في هذا الإسناد هو قعيس

(8)

، والحديث

(1)

وثقة ابن سعدون، وابن معين، وابن عمار الموصلي، والذهبي، وابن حجر. انظر: الطبقات الكبرى 6/ 348، الجرح والتعديل 6/ 361، المعرفة والتاريخ 3/ 93، تهذيب الكمال 22/ 543، الميزان 4/ 25، التقريب.

(2)

المسند 9/ 514 ح 5702.

(3)

1/ 314.

(4)

شرح مشكل اللآثار ح 1346.

(5)

التاريخ الكبير 1/ 315.

(6)

الجامع 4/ 525 ح 2259.

(7)

السنن الكبرى 7833.

(8)

حاشية التاريخ الكبير 1/ 315.

ص: 138

معروف لكعب بن عجرة من طرق أخرى عن عاصم العدوي، عن كعب بن عجرة صححه الترمذي، وابن حبان

(1)

.

(1)

انظر: جامع الترمذي ح 2259، سنن النسائي ح 4218، 4219، السنن الكبرى ح 7380 - ح 7833، المسند 30/ 50 ح 18126، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 1/ 517 ح 282.

ص: 139

‌المبحث الخامس: إعلال حديث الراوي المكثر من الرواية عن المجهولين

.

من الأمور المنتقدة على بعض الرواة كثرة روايتهم عن المجهولين، لأن ذلك يدل على عدم عنايته بانتقاء الشيوخ، وعدم التمكن من الوقوف على حال المجهولين. ويظهر أثر ذلك في ترحيح مرسل من ينتقي شيوخه على مرسل من لا ينتقيهم

(1)

.

وقد كان الإمام أحمد ينكر على الرواة عدم انتقاء الشيوخ. قال محمد بن عبد الله: "كنت عند أحمد بن حنبل فقال له إبراهيم بن خرزاذ: يا أبا عبد الله، إن ابن عرعرة يحدث، فقال: أف، لا يُبالون عمن كتبوا ـ يعني إبراهيم بن عرعرة"

(2)

.

ومن أمثلة ما أعله الإمام أحمد من أحاديث الثقات لكون شيخهم في الإسناد مجهولاً:

قال أبو طالب: "سألت أحمد بن حنبل في السجن عن حديث يزيد بن هارون، عن بقية، عن أبي أحمد، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كتبت كتاباً فتربه، فإنه أنجح للحاجة والتراب مبارك" فقال: هذا حديث منكر، وما روى بقية عن بحير بن سعيد، وصفوان والثقات يكتب، وما روى عن المجهولين لا يكتب"

(3)

.

هذا الحديث أخرجه ابن ماجه

(4)

، وابن أبي شيبة

(5)

بلفظ: [تربوا صحفكم أنجح لها، إن التراب مبارك] من طريق بقية به.

(1)

انظر: ضوابط الجرح والتعديل ص 129.

(2)

تاريخ بغداد 6/ 148.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 73.

(4)

السنن 2/ 1240 ح 3774.

(5)

المصنف 5/ 308 ح 26367.

ص: 141

وقد رواه بقية من وجه آخر: عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. قال أبو حاتم: هذا حديث باطل

(1)

.

وذُكر ليحيى بن معين قال: ذاك لا يساوي حديثه شيئاً

(2)

.

قال الذهبي: هذه بواطيل

(3)

.

قال أبو طالب: "سألت أبا عبد الله: قلت: شُريح حدثنا عن محمد بن إسماعيل ـ يعني ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن زيد، عن مصعب بن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترفع زينة الدنيا بعد خمس وعشرين ومائة سنة". قال أبو عبد الله: لا تخرجه، هذا منكر جداً، كان ابن أبي فُديك لا يُبالي عمن روى"

(4)

.

هذا الحديث أخرجه ابن عدي

(5)

، والبزار

(6)

وقال البزار: "هذا الحديث لا نعرفه إلا عن عبد الرحمن بن عوف، ولا نعلم له طريقاً إلا هذا الطريق".

قال ابن عدي: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد، لم يروه غير عبد الملك بن زيد، وعن عبد الملك بن ابن أبي فُديك".

وعبد الملك بن زيد، ضعفه ابن الجنيد، وقال النسائي: ليس به بأس

(7)

.

وابن أبي فُديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك، أبو إسماعيل المدني. قال عنه الإمام أحمد في رواية أبي داود: ابن أبي فُديك لا يُبالي أي شيء

(1)

علل ابن أبي حاتم 2/ 309 ح 2442.

(2)

كشف الخفاء 1/ 100.

(3)

سير أعلام النبلاء 8/ 524.

(4)

المنتخب من العلل للخلال ص 291 رقم 189.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 308.

(6)

البحر الزخار ح 1027.

(7)

تهذيب التهذيب 6/ 393 - 394.

ص: 142

روى

(1)

. وقال في رواية الفضل بن زياد: لا بأس به، قيل له: أهو أحب إليك أو أبو ضمرة؟ قال: لا أدري

(2)

. وقال عنه الذهبي وابن حجر: صدوق

(3)

.

وضعف الإمام أحمد حديث ابن عمر مرفوعاً: "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام لم تقبل له صلاة ما دام عليه"

(4)

في رواية أبي طالب وقال: "هذا ليس بشيء، ليس له إسناد"

(5)

.

قال ابن رجب: "يشير إلى ضعف إسناده، فإنه من رواية بقية، عن يزيد ابن عبد الله الجهني، عن هاشم الأوقص، عن نافع. وقال أحمد في رواية مهنَّا: لا أعرف يزيد بن عبد الله، ولا هاشماً الأوقص"

(6)

.

فيزيد بن عبد الله الجهني من شيوخ بقية المجهولين، فضعف الحديث من أجله.

(1)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد رقم 210.

(2)

المعرفة والتاريخ 2/ 165.

(3)

انظر: تهذيب الكمال 24/ 488، وميزان الاعتدال ترجمة 7236، تقريب التهذيب ترجمة 5773.

(4)

أخرجه أحمد 10/ 24 ح 5732، وعبد بن حميد المنتخب من مسنده ص 267 ح 849، والبيهقي شعب الإيمان 5/ 142 ح 6114، والخطيب تاريخ بغداد 14/ 21 من طريق بقية بن الوليد، عن يزيد بن عبد الله، عن هاشم الأوقص، عن نافع، عن ابن عمر.

(5)

ذكره الخلال، ونقله عنه الزيلعي نصب الراية 2/ 325، وانظر: فتح الباري لابن رجب 2/ 215.

(6)

فتح الباريخ لابن رجب الموضع نفسه.

ص: 143

‌الفصل الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بعدالته

ص: 145

‌المبحث الأول: الإعلال بالطعن في الراوي بالكذب أو التهمة به

.

من الأمور التي تعود إلى الإعلال بالطعن في عدالة الراوي الإعلالُ بالكذب، ولماّ كان عماد الرواية هو الصدق كان أشدَّ موجِبات ردّ رواية الراوي كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي.

فكذب الراوي في الحديث النبوي هو أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقلْه ولم يفعلْه ولم يُقرَّه متعمداً لذلك

(1)

. ويُسمّى الحديث الذي رواه "الموضوع". وبعض العلماء لم ير التقييد بقيد التعمّد، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فعرّف الموضوع بأنه ما يُعلم انتفاء خبره وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ فيه

(2)

. والناظر في مناهج النّقّاد المتقدمين ومصطلحاتهم في هذا الباب يرى أنهم يطلقون الحكم بالوضع على حديث من وقع ذلك منه عمداً أو خطأً، كما يصفون الراوي بالكذب وإن كان لم يتعمد اختلاق المتون، وكذلك جامعوا كتب الموضوعات كما أفاده الشيخ المعلمي رحمه الله حيث قال:"إذا قام عند الناقد من الأدلة ما غلب على ظنه معه بطلان نسبة الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يقول: باطل أو موضوع، وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمداً أو خطأ، إلا أن المتبادر من الثاني الكذب عمداً غير أن هذا المتبادر لم يَلتفِت إليه جامعو كتب الموضوعات، بل يوردون فيها ما يجدون قيام الدليل على بطلانه وإن كان الظاهر عدم التعمد"

(3)

.

وكذلك يُطلق المتقدمون الكذب على من يدّعي سماع حديث من شيخ لم

(1)

ضوابط الجرح والتعديل ص 108، وانظر: نزهة النظر ص 43 - 44.

(2)

المصعد الأحمد ص 34 - 35، وانظر: الوضع في الحديث 1/ 108.

(3)

مقدمة تحقيقه لكتاب الفوائد المجموعة ص 11.

ص: 147

يسمع منه، أو من يتعمد قلب الإسناد، أو من يسرق الحديث، أو يقبل التلقين، أو يلزق أحاديث الضعفاء على الثقات، وحكموا على أحاديث هؤلاء وأمثالهم بالوضع، كما ستأتي أمثلة ذلك عند الإمام أحمد، بينما المتأخرون قد خصصوا لأحاديث هؤلاء أسماءً خاصة نظراً لكونهم لم يتعمدوا الكذب

(1)

، ولكن الشأن في الأئمة المتقدمين ـ كما سوف يظهر من منهج الإمام أحمد ـ أن استعمالهم للمصطلحات أشد شمولاً من استعمال المتأخرين لها، الذين عُرفوا بتحرّي التحديد في المصطلحات، على غِرار ما بين منهج الفريقين من الفرق في استعمال ألفاظ الجرح والتعديل

(2)

.

وأما التهمة بالكذب فهو أن يتفرد الراوي برواية ما يخالف القواعد المعلومة إذا لم يكن في الإسناد من يُتّهم بذلك غيره، ومنه أيضاً أن يُعرف عنه الكذب في كلامه وإن كان لا يُتّهم أن يَكذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

. ويدخل في هذا من يصرّح بالسماع من شيخ ثبت أنه لم يسمع منه

(4)

. وكل هذه الأقسام داخلة في الإعلال بكذب الراوي في هذه الدراسة.

ومن خلال دراسة الأحاديث التي أعلّها الإمام أحمد بكذب رواتها أو حكم عليها بالوضع أو الكذب أو البطلان يظهر بعض معالم منهجه في هذا الباب، وذلك في سبعة مطالب:

(1)

انظر: الوضع في الحديث 1/ 109.

(2)

انظر: ضوابط الجرح والتعديل ص 65.

(3)

ضوابط الجرح والتعديل ص 107، وانظر: نزهة النظر ص 44.

(4)

قال الذهبي: أما سرقة السماع وادِّعاء ما لم يَسمع من الكتب والأجزاء فهذا كذبٌ مجرد، ليس من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل من الكذب على الشيوخ، ولن يفلح من تعاناه، وقل من ستر الله عليه منهم، فمنهم من يفتضح في حياته ومنهم من يفتضح بعد وفاته، فنسأل الله الستر والعفو الموقظة ص 60.

ص: 148

1.

إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال الراوي.

2.

إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي.

3.

لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع.

4.

تعدد طرق الحديث المعلّ بكذب راويه.

5.

مصطلحات الإمام أحمد في هذا الباب.

6.

موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتَّهمين بالكذب.

7.

مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب.

ص: 149

‌المطلب الأول: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال الراوي

.

إن الحكم بالوضع على حديث من الأحاديث عمل مبني على غلبة الظن، وللأئمة في هذا طرق متعددة، وإدراك قوي تضيق عنه عباراتهم من جنس ما يؤتاه الصيرفي الجِهبِذ في نقد الذهب والفضة، أو الجوهري لنقد الجواهِر والفُصوص لتقويمها

(1)

. وهناك قرائن تظهر للباحث من مناهج الأئمة يستعين بها على إدراك الأحكام التي توصل إليها هؤلاء الأئمة في هذا الباب، بعضها تعود إلى حال الراوي، وبعضها تعود إلى حال المروي. وسأذكر في هذا المطلب ما وقفت عليه عند الإمام أحمد من القرائن التي تعود إلى حال الراوي، وذلك من خلال دراسة بعض الأحاديث التي حكم عليها بالوضع أو ما في معناه، وهذه القرائن كالتالي:

1.

‌ كون الراوي ممن وصف بأنه كذّاب أو يروي الموضوعات:

فمن ذلك ما رواه ابنه عبد الله:

قال عبد الله: "عرضتُ على أبي أحاديث سمعتها من إسماعيل بن عبد الله ابن زرارة السُّكَّري الرقّي عن شيخ يقال له عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي كان ينزل بالس

(2)

، منها: عن خصيف عن أبي صالح عن أسماء بنت يزيد الأنصارية عن خزيمة بن ثابت الأنصاري قال: [إني لقائم تحت جِران

(3)

ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَقصع عليّ بجِرَّتها

(4)

ويذوب عليّ لعابُها] فذكر الحديث وفيه

(1)

انظر: الموقظة ص 36 - 37، التنكيل 1/ 38.

(2)

بلدة بالشام بين حلب والرقة، كانت تحسب من أعمال الشام لوقوعها في يمين الفرات ـ أي في جانبه الغربي، وكانت في غرب الرقة عند حد أرض صفين حيث يتجه الفرات شرقاً بعد جريانه إلى الجنوب، وقد امتد عليها الخراب انظر: معجم البلدان 1/ 328، بلدان الخلافة الشرقية ص 139.

(3)

هو باطن العنق النهاية في غريب الحديث 1/ 263.

(4)

شدة المضغ وضم بعض الأسنان على البعض النهاية 4/ 72.

ص: 150

"لا وصية لوارث، الولد للفراش، والعارية مردودة، والمِنحَة مردودة، والدَّيْن مقضي، والزَّعيم غارم ـ وهو الكفيل"، وله أيضا غير هذا بأسانيد مختلفة. فقال أبي: عبد العزيز وهو الذي يروي عن خُصيف، اضرب على أحاديثه هي كذب أو قال: موضوعة أو كما قال أبي. فضربت على أحاديث عبد العزيز بن عبد الرحمن"

(1)

.

روى ابن عدي

(2)

والعقيلي

(3)

هذه الرواية من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.

وجه علة الحديث:

أوضحه العقيلي حيث قال: "وإنما أنكر أبوعبد الله الإسناد لا المتن، أما المتن فمعروف بغير هذا الإسناد عن عمرو بن خارجة الجنبي، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الولد للفراش" وليس فيه: "وحسابهم على الله"

(4)

.

ومعنى هذا أن الحديث ليس له أصل من حديث خزيمة بن ثابت، والبلاء من عبد العزيز هذا ومن أجل ذلك أمر الإمام أحمد بالضرب على حديثه وسماه موضوعاً. وأيضاً قد انفرد بزيادة لفظة:"وحسابهم على الله".

وعبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي قال فيه النسائي: ليس بثقة

(5)

.

وقال ابن عدي: وعبد العزيز هذا يروي عن خصيف أحاديث بواطيل يرويها عنه إسماعيل بن زرارة، وإسحاق بن خلدون البالسي، وفيها غير حديث خصيف عن أنس وسائر ذلك كله، ليس لها أصول ولا يتابعه الثقات

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 318 رقم 5419.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1927.

(3)

الضعفاء 3/ 770/964.

(4)

الموضع السابق.

(5)

الضعفاء والمتروكون 211/ 394

ص: 151

عليها. ا. هـ.

(1)

، ونصّ في موضع آخر على أن البلاء في رواية خصيف منه لا من خصيف، قال: وإذا حدّث عن خصيف ثقة فلا بأس بحديثه وبرواياته إلا أن يروى عنه عبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي يكنى أبا الأصبغ، فإن رواياته عنه بواطيل، والبلاء من عبد العزيز لا من خصيف، ويروي عنه نسخة عن أنس بن مالك، وعن جماعة من التابعين. ا. هـ

(2)

.

وقال ابن حبان: يأتي بالمقلوبات عن الثقات فيكثر والملزقات بالأثبات فيفحش، وقال: كتبنا عنه عن عمر بن سنان، عن إسحاق بن خالد البالسي عنه نسخة شبيهاً بمائة حديث مقلوبة منها ما لا أصل له، ومنها ما هو ملزق بإنسان لم يرو ذلك البتة، لا يحل الاحتجاج به بحال. ا. هـ

(3)

.

وقال الحاكم أبو عبد الله: "روى عن خصيف بن عبد الرحمن وعبد الكريم بن مالك أحاديث موضوعة"

(4)

.

وقد رُويتْ هذه القصة التي وردت في هذا الحديث من حديث عمرو ابن خارجة الجنبي وأنه هو الذي وقعت له القصة المذكورة وليس لخزيمة بن ثابت كما في حديث البالسي هذا، فروى الإمام الترمذي في جامعه قال: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لعابها يسيل بين كتفيّ فسمعته يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادّعى إلى غير أبيه أو

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1927.

(2)

المصدر نفسه 3/ 942.

(3)

المجروحين.

(4)

المدخل إلى الصحيح 1/ 172.

ص: 152

انتمى إلى غير مواليه رغبة عنهم فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح

(1)

ورواه النسائي

(2)

، وابن ماجه

(3)

، وأحمد

(4)

، والدارمي

(5)

، والدارقطني

(6)

.

فاتضح أن رواية عبد العزيز البالسي مقلوبة، لا أصل لها من حديث خزيمة بن ثابت البتة، والله أعلم. وفي هذا أيضاً إطلاق الوضع على إلزاق متن معروف بإسناد مختلق.

ومثال آخر لهذه القرينة:

قال عبد الله: "ذكرتُ لأبي حديث عبد الصمد، عن أبيه عبد الوارث، عن أبيه، عن الحسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل في نعلٍ واحدةٍ أو خُفٍّ واحد. قال أبي: هذا حديث منكر. قيل له: إن غير عبد الصمد يقول: عن عبد الوارث، عن الحسن، عن عمرو بن خالد، عن حبيب. قال أبي: نُرى عمرو بن خالد ليس يسوى حديثه [شيئاً] ليس بشيء"

(7)

.

وقال عبد الله في وجاداته على المسند

(8)

: "وكان في كتاب أبي ـ فذكر الحديث بهذا الإسناد ـ ثم قال: فلم يُحدثّنا به، ضرب عليه في كتابه، فظننت أنه

(1)

الجامع 4/ 375/2121.

(2)

السنن 6/ 247/3644.

(3)

السنن 2/ 905/2712.

(4)

المسند 29/ 622 - 625 ح 18081 - 18087.

(5)

السنن 2/ 419.

(6)

السنن 4/ 152.

(7)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 559 رقم 3643 - 3644. وما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها الكلام، وهي مثبتة فيما رواه العقيلي عن عبد الله كتاب الضعفاء 3/ 987.

(8)

المسند 5/ 106 رقم 2948.

ص: 153

ترك حديثه من أجل أنه روى عن عمرو بن خالد الذي يُحدّث عن زيد بن علي، وعمرو بن خالد لا يساوي شيئاً".

وهذا الحديث رواه عبد الله في زياداته على المسند كما تقدم، ورواه ابن عدي

(1)

من طريق عمر بن شبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث بمثل إسناد عبد الله، ليس فيه: عمرو بن خالد. ورواه الطبراني

(2)

من طريق الحسين بن علي الحلواني، عن عبد الصمد، عن أبيه، عن الحسن بن ذكوان، عن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت به

(3)

.

وجه علة الحديث:

أعلّه الإمام أحمد بأنه حديث منكر، وآفته عمرو بن خالد، وهو القرشي مولاهم، أصله من الكوفة ثم انتقل إلى واسط، وهو المتَّهم بهذا الحديث، ومن أجله ضرب الإمام أبو عبد الله على الحديث ولم يحدث به كما قال عبد الله. وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: "عمرو بن خالد الواسطي كذّاب، قلت: الذي يروي عنه إسرائيل؟ قال: نعم، الذي يروي حديث الزَّنديْن

(4)

ويروي عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب"

(5)

.

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1777.

(2)

المعجم الكبير 12/ 23/12359.

(3)

وكلاهما ذكرا الحديث بزيادة في متنه. ولفظ الحديث عند الطبراني: [أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمشي في نعل واحدة أو خف واحد ويبيت في دار وحده أو ينتقض في براز من الأرض إلا أن ينحني أو يلقى عدوا إلا أن ينحني عن نفسه].

ولفظ حديث ابن عدي: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي في خف واحد أو في نعل واحدة، وأن ينام على طريق، وأن ينتفض في براز وحده حتى يتنحنح، أو يلقى عدوا له وحده إلا أن يضطر فيدفع عن نفسه].

(4)

وقع في كتاب الضعفاء للعقيلي: الزيدين، وهو تصحيف، والصواب كما في الحديث المذكور ما أثبتُّ، وسيأتي ذكر الحديث.

(5)

كتاب الضعفاء 3/ 987، وانظر: تهذيب الكمال 21/ 605.

ص: 154

وقال الأثرم أيضاً: "لم أسمع أبا عبد الله يصرّح في أحد ما صرّح في عمرو بن خالد من التكذيب"

(1)

.

وقال وكيع: "كان في جِوارنا، يضع الحديث فلما فُطن له تحوّل إلى واسط"

(2)

.

وقال عباس الدُّوري عن ابن معين: "كذاّب غير ثقة ولا مأمون، يروي عن زيد بن علي، عن آبائه"

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: "كان واسطياًّ، وكان يضع الحديث، ولم يقرأ علينا حديثه وقال: اضربوا عليه"

(4)

.

وقال الدارقطني: "كذاب"

(5)

.

وقال البيهقي: "كان معروفاً بوضع الحديث"

(6)

.

وقال الذهبي: "كذبوه"

(7)

.

وقال ابن حجر: "متروك، رماه وكيع بالكذب"

(8)

، وحالته أشد من المتروك.

وقد دلّس الحسن بن ذكوان في الإسناد الذي في زيادات المسند وعند ابن عدي، فلم يذكر عمرو بن خالد في الإسناد، وأشار عبد الله إلى أن بعض

(1)

تهذيب التهذيب 8/ 27.

(2)

ميزان الاعتدال الترجمة 6359.

(3)

التاريخ 2/ 442.

(4)

الجرح والتعديل 6/ 230.

(5)

الضعفاء والمتروكون الترجمة 403.

(6)

السنن الكبرى 1/ 228.

(7)

الكاشف الترجمة 4150.

(8)

التقريب الترجمة 5056.

ص: 155

تلاميذ عبد الوارث بن سعيد رووه بذكر عمرو بن خالد بين الحسن بن ذكوان وحبيب بن أبي ثابت. وقد جاء هذا مصرَّحاً عن الإمام أحمد، ذكره العقيلي في ترجمة الحسن بن ذكوان من طريق الأثرم أنه قال:

"قلت لأبي عبد الله: الحسن بن ذكوان ما تقول فيه؟ فقال: أحاديثه أباطيل، يروي عن حبيب بن أبي ثابت

وهو لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي"

(1)

.

وإنكار الإمام أحمد موجه إلى إسناد الحديث لا المتن، ووجه ذلك أن الحديث لا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وأما متنه ـ أي النهي عن الانتعال في نعل واحدةٍ

(2)

ـ فصحيح من حديث أبي هريرة، وجابر بن عبد الله. فحديث أبي هريرة في الصحيحين

(3)

بلفظ: "لا يشمي أحدكم في نعل واحدة، ليَنعلْهما جميعاً أو ليَخْلَعهما جميعاً"، وهذا لفظ مسلم. وحديث جابر في صحيح مسلم بلفظ:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل الصماء، وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه]

(4)

.

وفي هذا إطلاق الوضع على تركيب الإسناد لا على اختلاق المتن، وهو مثل الذي قبله، فدل على أن إلزاق متن معروف بسند مختلق يعتبر وضعاً، والعلم عند الله.

وفيه أيضاً إثبات الوضع بقرينة وجود راوٍ معروفٍ بالوضع في سند الحديث، وهو المطلوب من هذا المطلب. وفيه أيضاً إطلاق النكارة على ما هو وضع في الحقيقة، وسيأتي.

(1)

كتاب الضعفاء 1/ 242.

(2)

ما عدا الزيادات التي في الحديث والتي لم يذكرها عبد الله في زيادات المسند.

(3)

صحيح البخاري ح 5855، وصحيح مسلم ح 209768.

(4)

صحيح مسلم 209970.

ص: 156

وقد أمر الإمام أحمد بالضرب على حديث آخر لعمرو بن خالد سيأتي في مطلب موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتهمّين بالكذب، وأنكر له حديثاً آخر سيأتي في مطلب قرائن تعود إلى حال المروي إن شاء الله.

ومثال ثالث لإثبات الوضع بقرينة وجود راوٍ وُصف بالكذب ما ذكره عبد الله:

قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: يعقوب بن الوليد من أهل المدينة، وكان من الكذّابين الكبار، فحدّث عن أبي حازم، عن سهل بن سعد [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب] "

(1)

.

هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن

(2)

قال: حدثنا محمد بن الصباح، وعمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن الوليد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل ابن سعد به.

وأخرجه الطبراني

(3)

من طريق عبد الرحمن بن نافع عن يعقوب به.

وجه علة الحديث:

أعلّه الإمام أحمد بيعقوب بن الوليد الذي وصفه هنا بأنه كان من الكذّابين الكبار.

وقال عنه أيضاً: "يعقوب بن الوليد المديني أبو يوسف كتبت عنه وخرقنا حديثه منذ دهر، وكان من الكذّابين وكان يضع الحديث، يحدث عن أبي حازم، وهشام بن عروة، وابن أبي ذئب. وقال عبد الله: سمعت أبي يقول غير مرّة: كان

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 548 رقم 1305. ورواه ابن أبي حاتم عن عبد الله في ترجمة يعقوب بن الوليد. انظر: الجرح والتعديل 9/ 216.

(2)

كتاب الأطعمة ـ باب القثاء والرطب يجمعان 2/ 1104/3326.

(3)

المعجم الكبير 6/ 162/5859.

ص: 157

كذّاباً يضع الحديث"

(1)

.

وهكذا أطلق الجرح على يعقوب غير واحد من الأئمة، فقال ابن معين كما في رواية عباس الدوري:"لم يكن بشيء"

(2)

وقال الجوزجاني: "غير ثقة ولا مأمون، هو صاحب حديث سهل بن سعد في الرطب والقثّاء"

(3)

وقال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث كان يكذب، والحديث الذي رواه موضوع، وهو متروك الحديث". وقال أبو زرعة: "ليس بشيء وترك حديثه"

(4)

واتهمه ابن عدي بسرقة الحديث

(5)

. وقال ابن حبان: "كان ممن يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب"

(6)

.

ومتن الحديث صحيح من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه بلفظ: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء]. أخرجه الأئمة الستة إلا النسائي

(7)

. ومن حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع البطيخ بالرطب" أخرجه أبو داود

(8)

،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 532 رقم 3518.

(2)

التاريخ 2/ 681.

(3)

أحوال الرجال 134 ترجمة 226.

(4)

الجرح والتعديل 9/ 216، وعنى أبو حاتم بالحديث الذي رواه يعقوب هذا الحديث الذي تحت الدراسة فإن ابن أبي حاتم ذكر قول الإمام أحمد في هذا الحديث من طريق عبد الله في صدر ترجمة يعقوب بن الوليد.

(5)

الكامل 7/ 2605.

(6)

المجروحين 3/ 138. وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 31/ 372 - 374.

(7)

البخاري كتاب الأطعمة ـ باب القثاء بالرطب 9/ 564 ح 5440، ومسلم كتاب الأشربة ـ باب أكل القثاء بالرطب 4/ 1616 ح 2043، وأبو داود الأطعمة ـ باب في الجمع بين لونين في الأكل 3/ 1176 ح 3835، والترمذي باب ما جاء في أكل القثاء بالرطب برقم 1844، وابن ماجه الأطعمة ـ باب القثاء بالرطب يجمعان 2/ 1104 ح 3325.

(8)

السنن ح 3839.

ص: 158

والترمذي

(1)

، والنسائي

(2)

، وابن حبان

(3)

. ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند الترمذي في "الشمائل"

(4)

، وأحمد

(5)

، والنسائي

(6)

، وابن حبان

(7)

، ولفظه:[أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب].

ومن هذا يفهم أن كلام الإمام أحمد في الحديث هو من حيث إسناده إلى سهل بن سعد، فكأن يعقوب بن الوليد ركّب له هذا الإسناد: أبو حازم، عن سهل بن سعد، وهذا من سرقة الحديث، وهو نوع من الوضع في الحديث.

وقد وافق الإمام أحمد على إعلال هذا الحديث الإمامان أبو حاتم، والجوزجاني؛ الأول صريحاً في قوله:"والحديث الذي رواه موضوع"، والثاني إيماءً في قوله:"وهو صاحب حديث سهل بن سعد في الرطب والقثّاء". وقد تقدم أقوالهما. وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن أحاديث ثلاثة رواها أبو يوسف المديني، منها: حديث أبي يوسف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرطب]، قال أبي: أبو يوسف هذا اسمه يعقوب بن الوليد ضعيف الحديث، وحديث سهل هو باطل وهذه الاحاديث الثلاثه بواطيل"

(8)

.

وليعقوب هذا حديث آخر أعلّه الإمام أحمد بقوله: ليس يثبت، وهو حديث ابن عمر مرفوعاً:"الوقت الأول من الصلاة رضوان الله والوقت الآخر عفو الله"

(1)

الجامع ح 1843.

(2)

السنن الكبرى 4/ 166 ح 6722، 6723.

(3)

الإحسان 12/ 52 ح 5247.

(4)

برقم 200.

(5)

المسند 19/ 434 ح 12449.

(6)

السنن الكبرى 4/ 167 ح 6726.

(7)

الإحسان 12/ 53/5248.

(8)

علل ابن أبي حاتم 2/ 14 ح 1515، وانظر الحديثين الباقيين برقم 1235، 2423 من الكتاب نفسه.

ص: 159

رواه الترمذي

(1)

، والدارقطني

(2)

، والبيهقي

(3)

كلهم من طريق أحمد بن منيع، حدثنا يعقوب بن الوليد المدني، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.

فقال الخلال: أخبرنا الميموني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: "لا أعرف شيئاً يثبت في أوقات الصلوات: أولها كذا، وأوسطها كذا، وآخرها كذا ـ يعني مغفرة ورضواناً. وقال له رجل: ما ترى: أول الوقت كذا وأوسطها كذا رضوان ومغفرة؟ فقال له أبو عبد الله: من يروي هذا؟ ليس هذا يثبت"

(4)

.

وقال ابن عدي: "هذا الحديث بهذا الإسناد ـ أي إسناد يعقوب بن الوليد ـ باطل"

(5)

.

2.

‌ ومن القرائن التي تعود إلى حال الراوي رميه بسرقة الحديث:

وسرقة الحديث هو تعمّد تركيب متن على إسناد ليس له، وقد تقدمت بعض أمثلة ذلك، ومنه أيضاً أن يسرق حديثاً لم يسمعه فيدّعي سماعَه من رجل

(6)

، وحديث الموصوف بهذه الصفة يُطلق عليه الإمام أحمد الكذب والبطلان. و من أمثلة ذلك:

قال عبد الله: "قلت لأبي: بلغني أن ابن الحِمَّاني حدّث عن شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه النظر إلى الحمام".

(1)

الجامع ح 172.

(2)

السنن 1/ 249.

(3)

السنن الكبرى 1/ 435.

(4)

الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 4/ 75 - 76.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2606.

(6)

الموقظة ص 60.

ص: 160

فأنكروه عليه فرجع عن رفعه وقال: عن عائشة مرسلاً. فقال أبي: هذا كذب، إنما كنا نعرف به حسين بن علوان، ويقولون إنما وضعه على هشام. قلت له: إن بعض أصحاب الحديث زعم أن أبا زكريا السَّيْلحيني رواه عن شريك، قال كَذِبٌ هذا على السَّيْلحيني، السيلحيني لا يحدث بمثل هذا، هذا حديث باطل"

(1)

.

لم أقف على هذا الإسناد الذي ذكره عبد الله، ولا رواية حسين بن علوان التي أشار إليها الإمام أحمد رحمة الله عليهما جميعاً. وقد أخرج ابن الجوزي في الموضوعات

(2)

من طريق الحاكم بإسناده عن أبي حفص عمرو بن شمر، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عائشة قالت:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب النظر إلى الخضرة، وإلى الأترج، وإلى الحمام الأحمر]. ثم قال: عمرو بن شمر متروك.

وجه علة الحديث:

أعل الإمام أحمد الإسناد الذي ذكره عبد الله بيحيى الحِمّاني بأنه سرقه من حسين بن علوان الذي قام بوضعه على هشام بن عروة. وقد ركّب له يحيى الحِمّاني إسناداً فجعله من حديث شريك؛ سرقه من حسين بن علوان هذا، وليس له أصل من حديث شريك، ولو ثبت أن السيْلحيني حدّث به عن شريك لكان له أصل، لأن السيْلحيني ـ وهو يحيى بن إسحاق البجلي السيْلحيني، ويقال: السيْلحوني والسالحيني ـ شيخ صدوق، ووثقه ابن سعد، والذهبي

(3)

. لكن ذلك لم يثبت، فقد ذكر عبد الله كما في رواية الخلال عنه للمسألة: "أن فضل

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 44 رقم 1499، والمنتخب من علل الخلال ص 82 رقم 23، وانظر: كتاب الضعفاء للعقيلي 4/ 1522.

(2)

3/ 9 ح 1203. وانظر: التلخيص للذهبي 329 رقم 831، واللآلي 2/ 230.

(3)

انظر: تهذيب الكمال 31/ 197، والطبقات لابن سعد 7/ 340، والكاشف 6127.

ص: 161

الأعرج قال: سمعت يحيى بن معين يقول: قد حدّث به السيْلحيني، فأنكره أبي وقال لي: اذهب إلى يحيى وقلْ: قال لك أبي: سمعتَه من السيْلحيني؟ قال: فلقيت يحيى فذكرتُ له إنكارَ أبي عبد الله فقال: قل له: لا، والله ما سمعتُهُ، ورفع عبدُ الله صوتَه كأنه يُحاكي كلامَ يحيى"

(1)

.

ويحيى الحِمّاني هو يحيى بن عبد الحميد الحِمّاني أبو زكريا الكوفي. ذكر الإمام البخاري أن الإمام أحمد رماه

(2)

، وروى غير واحدٍ من تلاميذ الإمام أحمد وجه هذا الرمي وأن ذلك راجعٌ إلى سرقة الحديث، وليس بمعنى اختلاق المتون، ومن أجمع ما رُوي في ذلك ما رواه ابنه عبد الله قال: "قلت لأبي: إن ابنيْ أبي شيبة ذكرا أنهما يقدمان بغداد فما ترى فيهم؟ فقال: قد جاء ابنُ الحِمّاني إلى ههنا فاجتمع عليه الناس وكان يَكذِب جِهاراً فاجتمع عليه الناس، ابنُ أبي شيبة على حال يصدق

قلت لأبي: ابن الحماني حدّث عنك، عن إسحاق الأزرق، عن شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أبردوا بالصلاة" فقال: كذَب، ما حدثتُه به. فقلت: إنهم حكوا عنه أنه قال: سمعتُه منه في المذاكرة على باب إسماعيل بن عُليّة. فقال: كذَب، إنما سمعتُه بعد ذلك من إسحاق الأزرق وأنالم أعلم تلك الأيام أن هذا الحديث غريب حتى سألوني عنه بعد ذلك هؤلاء الشباب أو قال: هؤلاء الأحداث. قال أبي: وقتَ التقيْنا على باب ابنِ عُليّة إنما كنا نتذاكر الفقه والأبواب، لم نكن تلك الأيام نتذاكر المسند، كنا نتذاكر الصغار وأحاديث الفقه والأبواب. وقال أبي: كان وقع إلينا كتاب الأزرق، عن شريك فانتخبت منه فوقع هذا الحديث فيها. قلت لأبي: أخبرني رجلٌ أنه سمع ابنَ الحِماني يحدث عن شريك، عن منصور، عن إبراهيم:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] قال: كانوا يكرهون أن يستدلوا، فقال رجل: هذا الحديث في كتب ابن المبارك عن

(1)

المنتخب من علل الخلال 82 - 83.

(2)

التاريخ الكبير 8/ 291.

ص: 162

شريك، عن الحكم البصري، عن منصور. فقال ابن الحماني: حدثناه شريك عن الحكم البصري، عن منصور. فقال أبي: ما كان أجرأَه، هذه جرأةٌ شديدةٌ ولم يعُجبه ذلك، وقال: ما زِلنا نعرفه أنه يسرق الأحاديث أو يتلقَّطُها أو يتلقَّفُها"

(1)

.

قال: "وسمعت أبي مرة أخرى وذكر ابن الحِمّاني فقال: قد طلب وسمع، ولو اقتصر على ما سمع لكان له فيه كفاية. قال عبد الله بن أحمد: وهذا أحسن ما سمعت من أبي فيه"

(2)

.

وقد تواتر توثيق يحيى الحماني عن يحيى بن معين كما قال الذهبي، وكان له مسند كبير وكان يزعم أنه أول من جمع المسند من أهل الكوفة، قال الذهبي:"لا ريب أنه كان مبرزاً في الحفظ كما كان سليمان الشاذكوني، ولكنه أصون من الشاذكوني، ولم يقل أحدٌ قط إنه وضع حديثاً، بل ربما كان يتلقّط أحاديث ويدّعي روايتها، فيرويها على وجه التدليس ويُوهم أنه سمعها، وهذا قد دخل فيه طائفة، وهو أخف من افتراء المتون"

(3)

.

والحديث الذي في هذه المسألة مثال على تركيب متن على إسناد ليس له، الأمر الذي جعل الإمام أحمد يرمي يحيى الحماني بالكذب، وهذا أشد من ادعاء السماع، وإن كان كلا الأمرين داخلين في سرقة الحديث. والإمام أحمد لم يخرج ليحيى الحماني شيئاً في المسند

(4)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 40 رقم 4077 - 4049.

(2)

المصدر نفسه 1/ 172 رقم 112، وزيادة قول عبد الله من تهذيب الكمال 21/ 425.

(3)

سير أعلام النبلاء 10/ 536 - 537.

(4)

هذا حسب البحث والتتبع، وكذلك فهرس الرواة في المسند ج 50.

ص: 163

3.

‌ ومن قرائن إثباث الوضع والتي تعود إلى حال الراوي كون الراوي يروي عن شيخ ويصرح بالسماع منه مع كونه لم يسمع منه

من أمثلة ذلك ما رواه الخلال عن حنبل:

قال حنبل: "قلت لأبي عبد الله: حدثنا عاصم، عن محمد بن زياد الجزري، عن ميمون، عن يزيد بن الأصمّ قال: قال [إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذونه]. قال أبو عبد الله: اضرب عليه، فضربت عليه وسمعت أبا عبد الله يقول: محمد بن زياد الجزري يقال: إنه يضع الحديث"

(1)

.

أنكر الإمام أحمد هذه الرواية وأمر بالضرب عليها لحال محمد بن زياد الجزري، وهو محمد بن زياد الطحان اليشكري الكوفي المعروف بالميموني ـ نسبة إلى ميمون بن مهران

(2)

. قال عنه هنا: "يضع الحديث". وقال عبد الله: "سألت أبي عن محمد بن زياد يقال له الميموني كان يحدث عن ميمون بن مهران، قال: كذاب خبيث أعور يضع الحديث"

(3)

.

وبين وجه هذا الكذب في رواية أبي دواد: قال: سمعت أحمد بن حنبل قال: "ما كان أجرأَه! يقول حدثنا ميمون بن مهران"

(4)

.

فالظاهر من هذه العبارة أنه يصرّح بالسماع من ميمون بن مهران مع كونه لم يسمع منه، وهذا من أوضح القرائن على كذب الراوي. ومما يدل على عدم سماعه من ميمون ما ذكره هارون بن مرّة ويحيى بن معين يسمع قال: "جاء كتاب البغداديين إلى أبي المليح وأنا حاضر يسألونه عن محمد بن زياد الطحان فقال:

(1)

المنتخب من العلل للخلال 152 رقم 74.

(2)

انظر عن هذه النسبة اللباب في تهذيب الأنساب 3/ 284.

(3)

العلل ومعرفة الرجال 3/ 297/5322.

(4)

سؤالات أبي عبيد أبا داود السجستاني 321/ 493.

ص: 164

جاءنا محمد بن زياد الطحان الأعور بعد ما مات ميمون بن مهران"

(1)

وأبو المليح هو الحسن بن عمر الرّقّي الفزاري مولاهم، وكان راوية لميمون بن مهران. قاله ابن سعد عن عبد الله بن جعفر الرقي

(2)

.

وسائر الأئمة أيضاً على تكذيب محمد بن زياد. قال الحافظ ابن حجر: كذبوه

(3)

.

4.

‌ ومنها كون الراوي ممن يُوضع له الأحاديث فيحدث بها

فمن ذلك من كان هذا وصفه لكونه ليس من أهل الحديث فلا يتفطنّ لما يوضع له من الأحاديث، مثال ذلك ما ذكره المرُّوذي:

قال المرُّوذي: "وعرضت عليه ـ أي أبي عبد الله ـ حديثاً رووه عن محمد ابن الجرّاح، عن شعبة، عن سفيان الثوري، عن علي مرفوعاً: "من صلى كذا فله كذا، ومن قرأ كذا فله كذا"، فقال: هذا باطل موضوع، قد رأيت ابن الجراح فرأيت عنده أحاديث وضعت له، لم يكن يدري ما الحديث"

(4)

.

وذكر الحافظ ابن حجر عن علل الخلال: سئل أحمد عن حديث محمد ابن الجراح، عن شعبة مرفوعاً:"من عمل كذا فله كذا" فقال: "هذا باطل موضوع، وقد رأيت ابن الجراح فرأيت عنده أحاديث وضعت له ولم يكن يدري ما الحديث"

(5)

.

(1)

تهذيب الكمال 25/ 225.

(2)

الطبقات الكبرى 7/ 484. ووصفه أحمد بأنه ضابط لحديث ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم تهذيب الكمال 6/ 282.

(3)

التقريب الترجمة 5927، وانظر أقوال بقية الأئمة في تهذيب الكمال 25/ 223 - 225.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 154/ 271.

(5)

لسان الميزان 5/ 100.

ص: 165

ولم أقف على هذا الحديث، ومحمد بن الجراح قد بيّن الإمام أحمد حالَه، وقال أبو حاتم: مجهول

(1)

، ولم أر السيوطي أشار إلى هذا الحديث عند ما ذكر الباطل من أحاديث فضائل القرآن سورة سورة، فإنه أشار إلى حديث ابن عباس، وحديث أبي أمامة الباهلي فقط

(2)

.

ومنهم من بُلي بمن يُوضع له الحديث في آخر عمره وهو لا يدري، ومثال ذلك ما رواه الخلال عن الأثرم قال:

قال الأثرم: "قال أبو عبد الله في الحديث الذي رواه كاتب الليث، عن نافع بن يزيد، عن زَهرة بن مَعبد، عن سعيد بن المُسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اختار لي أصحاباً" قال: ذاك عندي موضوع"

(3)

.

هذا الحديث أخرجه البزار

(4)

، وابن حبان في المجروحين

(5)

، والخطيب في تاريخه

(6)

. وتمام لفظ الحديث: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين إلا النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة ـ يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ وفي كل أصحابي خير، واختار أمتي على جميع الأمم فبعثني في خير قرن، ثم الثاني، ثم الثالث تترى ثم الرابع فرادى".

وجه علة الحديث:

حكم الإمام أحمد على الحديث بالوضع، ولم يبين وجه علته، وبالنظر في كلامه في رواة الحديث يظهر أن علة الحديث راجعة إلى أبي صالح عبد الله بن صالح

(1)

الجرح والتعديل 7/ 224.

(2)

تدريب الراوي 1/ 289 - 290.

(3)

المنتخب من العلل للخلال 189/ 105.

(4)

كشف الأستار 3/ 288 ح 2763، وانظر: مجمع الزوائد 10/ 16.

(5)

2/ 41.

(6)

في تاريخ بغداد 3/ 162، وفي موضح أوهام الجمع والتفريق 2/ 280.

ص: 166

كاتب الليث بن سعد. قال عنه الإمام أحمد: "كان أولَ أمره متماسكاً ثم فسد بأخرةٍ، وليس هو بشيء"

(1)

وبيّن الحفاظ أبو حاتم، وأبو زرعة وابن خزيمة كيف جاءه هذا الفساد في آخره.

فقال أبو حاتم: "الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخر عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذه مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعه في كتب الناس، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب، وكان رجلاً صالحاً"

(2)

.

وقال أبو زرعة ـ في أثناء كلامه في عثمان بن صالح السُّهمي ـ "لم يكن عندي عثمان ممن يكذب، ولكنه كان يكتب حديث خالد بن نجيح، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ أملى عليهم مالم يسمعوا فبُلوا به، وقد بُلي به أبو صالح أيضا في حديث زهرة بن معبد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر، ليس له أصل وإنما هو عن خالد بن نجيح"

(3)

. والحديث الذي أشار إليه هو هذا الحديث الذي أعله الإمام أحمد بالوضع.

وأما ابن خزيمة فقال: "كان له جار بينه وبينه عداوة فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ويكتب في قرطاس بخط يُشبه خط عبد الله بن صالح ويطرح في داره في وسط كتبه، فيجده عبد الله فيحدث به فيتوهّم أنه خطه وسماعه، فمن ناحيته وقع المناكير في أخباره"

(4)

.

فتبين بهذا كيف جاءت العلة في هذا الحديث، وأنه من وضع خالد بن نجيح، وضعه على أبي صالح فحدّث به، وهذا يدل على غفلة وعدم التيقظ، وهي علة

(1)

العلل ومعرفة الرجال 3/ 212 - 213/ 4919.

(2)

الجرح والتعديل 5/ 87.

(3)

سؤالات البرذعي 417 - 418.

(4)

المجروحين 2/ 40.

ص: 167

جاءته في آخر عمره. قال الذهبي في أبي صالح: "كان صدوقاً في نفسه، من أوعية العلم، أصابه داء شيخه ابن لهيعة، وتهاون بنفسه حتى ضعُف حديثُه، ولم يُترَك بحمد الله، والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى"

(1)

.

لكن يشكل على هذا الحمل على أبي صالح ما رواه الخطيب في

(2)

من طريق أبي العباس محمد بن أحمد بن الأثرم ـ قال الذهبي: صدوق ـ حدثنا علي ابن داود القنطري ـ قال الذهبي: ثقة ـ حدثنا ابن أبي مريم، وعبد الله بن صالح، قالا: حدثنا نافع بن يزيد، عن زهرة بن معبد فذكره بمثل الإسناد الأول. ورواه أيضاً محمد بن الحارث العسكري عن سعيد بن أبي مريم عن نافع به

(3)

. فهاتان المتابعتان تخلصان أبا صالح من التهمة بهذا الحديث فيما يظهر.

فأما أبو زرعة فموقفه من متابعة ابن أبي مريم هو تكذيب راويها عن ابن مريم، وهو محمد بن الحارث العسكري. فروى الحاكم بإسناده إلى أحمد ابن محمد بن سليمان التستري قال: سألت أبا زُرعة الرازي

فمن رواه عن ابن أبي مريم؟ قال هذا كذّاب. قال التستري: وقد كان محمد بن الحارث العسكري حدثني به عن كاتب الليث وابن أبي مريم

(4)

.

وأما الذهبي فبرّأ ساحة أبي صالح من الحمل بسبب هذه المتابعة، وقال: فلعله مما أدخل على نافع مع أن نافع بن يزيد صدوق يقِظ

(5)

. فكأنه يبعد حصول ذلك.

(1)

سير أعلام النبلاء 10/ 405.

(2)

موضح أوهام الجمع والتفريق 2/ 280، وكلام الذهبي من ميزان الاعتدال 3/ 156.

(3)

انظره في تهذيب الكمال 15/ 105.

(4)

تهذيب الكمال 15/ 105.

(5)

ميزان الاعتدال 3/ 157.

ص: 168

وبالرجوع إلى ترجمة خالد بن نجيح ظهر أن سعيد ابن أبي مريم أيضاً لم يسلم من دسّه، فقال أبو حاتم: "خالد بن نجيح المصري كان يصحب عثمان بن صالح المصري، وأبا صالح كاتب الليث، وابن أبي مريم

وهو كذاب، كان يفتعل الأحاديث ويضعها في كتب ابن أبي مريم، وأبي صالح، وهذه الأحاديث التي أنكرت على أبي صالح يتوهم أنه من فعله"

(1)

.

ومثل هذا بعينه قد وقع لقتيبة بن سعيد من خالد ـ وهو ابن نجيح ـ المدائني هذا كما ذكره الحاكم بإسناده عن البخاري في الحديث الذي أنكره البخاري على قتيبة بن سعيد في جمع التقديم بين الصلاتين في السفر قال: "قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني، قال البخاري: وكان خالد المدائني يُدخل الأحاديث على الشيوخ"

(2)

.

فبناء على هذا يظهر لي أن خالد بن نجيح أدخل الأحاديث المفتعلة على ابن أبي مريم كما أدخلها على أبي صالح، لكن لكثرة ما حدّث أبو صالح بهذه المناكير بالنسبة لابن أبي مريم تبادر الحمل في هذا الحديث عليه دونه. وهذا يُمثّل القاعدة التي ذكرها المعلمي في مقدمة تحقيقه لكتاب "الفوائد المجموعة"، قال رحمه الله:

"إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر ـ ثم ذكر أمثلة على ذلك: منها قال: فمن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أدخل على الشيخ كما ترى في لسان الميزان في ترجمة الفضل بن الحُباب وغيرها، وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك

(1)

الجرح والتعديل 3/ 355.

(2)

معرفة علوم الحديث ص 120 - 121.

ص: 169

العلة مطلقاً إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد تحق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقّب بأن تلك العلة غير قادحة وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يُثبت المتعقب أن الخبر غير منكر"

(1)

.

وممن حكم على هذا الحديث بالوضع الإمام النسائي، والظاهر أنه يرى الحمل في ذلك على أبي صالح فإنه شديد القول فيه. قال فيه: ليس بثقة

(2)

.

هذا، وقرينة معرفة أن الراوي ممن أدخلت عليه الأحاديث المفتعلة ليست كافية في حد ذاتها لإثبات الوضع، ولا بد أن ينضمّ إلى ذلك قرينة كون الحديث منكراً سنداً أو متناً أو هما معاً، وهي من القرائن التي تعود إلى حال المروي، الآتية في المطلب القادم. وهذا بخلاف غيرها من القرائن التي تعود إلى حال الراوي المتقدمة مثل كونه وضاعاً أو متهماً بسرقة الحديث فهي كافية بوحدها في إثبات الوضع، والله أعلم.

(1)

مقدمة الفوائد المجموعة ص 11 - 12.

(2)

تهذيب الكمال 15/ 104.

ص: 170

‌المطلب الثاني: إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المَروي

حكم الإمام أحمد بناء على هذه القرائن على أحاديث بأنها باطلة أو موضوعة أو لا أصل لها، وحكمه في ذلك غير متوقف على حال رواتها، بل يتوقف على النظر في المرويات ومدى سلامتها واستقامتها متناً وسنداً، سواء بلغ رواتها إلى حد الترك أو لا، ونظره في ذلك منصب على نوع الخطأ في الرواية سنداً أو متناً أو هما معاً.

فمن تلك القرائن:

1.

‌ كون الحديث لا يشبه ما خرج من مشكاة النبوة لركاكة ألفاظه ومعانيه، أو اشتماله على المجازفة في الترغيب والترهيب، أو الفضائل، وكان مناقضاً للأصول

(1)

، فلكثرة ممارسة الحفاظ للألفاظ النبوية يحكمون بأن هذا مختلق، وقد تقصر عباراتهم عن الإفصاح بوجه العلة. فمن أمثلة ذلك عند الإمام أحمد:

قال الخلال: "أخبرني يوسف بن موسى

(2)

أن أبا عبد الله سُئل عن محدّثٍ بنصبين يقال له: محمد بن نعيم روى عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"منْ لَذَّذ أخاه بما يَشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة". فقال: هذا كذب، هذا باطل

(3)

.

(1)

ذكر السيوطي أن معنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة تدريب الراوي 1/ 277.

(2)

يوسف بن موسى العطار الحربي. قال ابن أبي يعلى: روى عن أحمد أشياء، وحدث عنه الخلال وأثنى عليه ثناء حسناً. كان يوسف هذا يوهدياً، أسلم على يدي أبي عبد الله أحمد بن حنبل وهو حدث فحسن إسلامه

طبقات الحنابلة 1/ 420 - 421.

(3)

المنتخب من العلل للخلال 88 رقم 32.

ص: 171

هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات اعتماداً على هذه الرواية عن الإمام أحمد

(1)

. ونقل الشيخ الألباني عن السُّبكي أنه لم يجد له إسناداً

(2)

. ولم يذكر لهذا الراوي ـ محمد بن نعيم ـ غير هذا الحديث، كأنه لا يعرف إلا به

(3)

. فمثل هذا الوعد العظيم على فعل حقير راجع إلى الركة

(4)

، وإذا انضم إليه كون الحديث عن أبي الزبير عن جابر، وأحاديثه في نسخة معروفة ولا يعرف هذا الحديث فيها قوي الظن باختلاقه.

ومن أمثلته أيضاً:

قال مهنّا: "قلت لأحمد: حدثني الوليد بن الفضل العنزي، أخبرني إسماعيل بن عبيد بن نافع العجلي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمّار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل آنفاً فقلت له: يا جبريل حدِّثني بفضائل عمر في السماء. فقال: يا محمد، لو حدَّثتُك بفضائل عمر في السماء ما لبث نوحٌ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر" فقال أحمد: لا أعرف إسماعيل بن نافع، هذا حديث موضوع"

(5)

.

هذا الحديث أخرجه الروياني

(6)

، والطبراني

(7)

، وابن عدي في ترجمة الوليد ابن الفضل

(8)

، وهو في جزء

(1)

الموضوعات ح 910، وتلخيص الموضوعات ح 642، واللآلي 2/ 87.

(2)

السلسلة الضعيفة ح 107.

(3)

انظر: ميزان الاعتدال 5/ 181، ولسان الميزان 5/ 407.

(4)

انظر: تدريب الراوي 2/ 276.

(5)

المنتخب من العلل للخلال 195 - 196/ 108.

(6)

مسند الروياني 2/ 367/1342.

(7)

المعجم الأوسط 2/ 158/1570.

(8)

الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2541.

ص: 172

ابن عرفة

(1)

كلهم من طريق الوليد بن الفضل العنزي به.

وهو من رواية الوليد بن الفضل العنزي، قال عنه ابن حبان: يروي الموضوعات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد

(2)

. وقد تفرد بهذا الحديث. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن حماد إلا إسماعيل، تفرد به الوليد

(3)

. وقال ابن عدي: ما أظن أن للوليد بن الفضل غير هذا الحديث، وإن كان اليسير من الحديث عنده

(4)

. فمن كان بهذه المثابة في قلة الحديث ثم روى عن مجهول خبراً لا يعرف إلا به قوي القول برده.

وأما إسماعيل بن عبيد بن نافع فقال الإمام أحمد: لا أعرفه، وكذلك قال الأزدي

(5)

.

والخبر مثال على المجازفة في ذكر الفضائل وهو أمر غير معهود في الأحاديث النبوية، فإذا انضم إلى هذا كون راويه ليس له من الحديث إلا قليل، وتفرد عن راوٍ مجهول بخبر لا يعرف إلا به، قويت الدلائل لإثبات الوضع فيه، والله أعلم.

وممن حكم على الحديث بالوضع الإمام أبو حاتم الرازي فقال مجيباً على سؤال ابنه له عن الحديث: "هذا حديث باطل موضوع، اضرب عليه"

(6)

.

(1)

جزء الحسن بن عرفة ح 35.

(2)

المجروحين 3/ 82.

(3)

المعجم الأوسط 2/ 159.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2541.

(5)

انظر لسان الميزان 1/ 420.

(6)

علل ابن أبي حاتم 2/ 385.

ص: 173

2.

‌ ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي أن لا يكون للحديث أصل من حديث أي راوٍ ممن ذكر في الإسناد، ولا يعرف الحديث إلا من طريق من لا يحتمل تفرده

. فمن ذلك:

قال المروذي: "وسئل عن حديث ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن ابن المنكدر، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى قَينة صُبَّ في أُذنه الآنُك

(1)

يومَ القيامة" وقيل له: رواه رجل بحلَب وحسَّنوا الثناء عليه فقال: هذا باطل"

(2)

.

الحديث أخرجه ابن حزم

(3)

من طريق أحمد بن الغمر بن أبي حماد بحمص، ويزيد بن عبد الصمد، نا عبيد بن هشام الحلبي ـ هو أبو نعيم ـ نا عبد الله بن المبارك، عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى قينة فسمع منها صَبَّ الله في أذنيْه الآنك يوم القيامة". وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن إبراهيم أبي بكر الصوري عن أبي نعيم الحلبي به ولفظه: [من استمع إلى قينة

]، ومن طريق سعيد بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو نعيم به ولفظه: [من قعد إلى قينة

]

(4)

وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك على ما ذكره الحافظ ابن حجر في اللسان وفي التهذيب

(5)

.

وهذا الحديث آفته أنه غير معروف ولا أصل له من حديث ابن المبارك،

ولا من حديث مالك، ولا من حديث ابن المنكدر. قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن

(1)

على وزن أفعُل أو فاعُل، وهو الرصاص الأبيض، وقيل الأسود، وقيل هو الخالص منه النهاية في غريب الحديث 1/ 77.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 143 رقم 255، ورواه الخلال عن المروذي. انظر: المنتخب من علل الخلال برقم 42. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية 2/ 786.

(3)

المحلى 9/ 57.

(4)

تاريخ دمشق 51/ 263 ح 10883، 10884 في ترجمة محمد بن إبراهيم أبي بكر الصوري.

(5)

لسان الميزان 5/ 349، تهذيب التهذيب 7/ 77.

ص: 174

الدارقطني أنه قال: "تفرد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدر"

(1)

. وقال ابن حزم: "هذا حديث موضوع مركب فضيحة ما عرف قط من طريق أنس ولا من رواية ابن المنكدر، ولا من حديث مالك، ولا من جهة ابن المبارك، وكل من دون ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون

"

(2)

، وأبو نعيم هو عبيد بن هشام الحلبي ـ وهو الذي عناه عبد الله حين ذكره للإمام أحمد: "رواه رجل بحلَب وحسَّنوا الثناء عليه. قال عنه أبو زرعة: صدوق

(3)

، وكذا وثقه الخليلي في الإرشاد

(4)

. وقال أبو داود: ثقة تغير في آخر أمره لقِّن أحاديث ليس لها أصل. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد الحاكم: روى ما لا يتابع عليه

(5)

. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير في آخر عمره فلقِّن

(6)

. وذكره عبد القيوم في الملحق الأول لكتاب "الكواكب النيرات"

(7)

.

وجه علة الحديث:

نقد الإمام أحمد لهذا الحديث منصب على الرواية لا على حال الراوي، حيث لم يلتفت رحمه الله إلى كون راويه قد حسِّن الثناء عليه، وتوضيح ذلك أن كلاًّ من ابن المبارك، ومالك، وابن المنكدر، وأنس من أوعية الرواية وممن جُمع حديثُهم وانتشر، وسعة معرفة الإمام أحمد بمرويات من تدور عليهم الرواية وكثرة اطلاعه عليها جعلته ينفي أن يكون هذا الحديث من حديث أحد هؤلاء الأعلام، ولم يشر رحمه الله

(1)

انظر: لسان الميزان، وتهذيب التهذيب المواضع نفسها.

(2)

المحلى 9/ 57.

(3)

الجرح والتعديل 6/ 5.

(4)

قال فيه: ثقة مرضي عندهم. 2/ 477 وقال في موضع آخر 1/ 268: صالح.

(5)

انظر: تهذيب الكمال 19/ 244.

(6)

تقريب التهذيب رقم 4430.

(7)

ص 487.

ص: 175

إلى المتهم به ولا من الحمل فيه عليه كما فعل في غيره من الأحاديث، وبالنظر في كلام النقاد في أبي نعيم الحلبي يتبيّن للناظر أن الحمل في هذه الرواية على أبي نعيم، لا لأنه متهم بالكذب لكن لتغيره في آخر عمره وقبوله التلقين، وهو مظنة وقوع الكذب في المرويات، وقد قالوا:"إذا سرّك أن يكذبك الرجل فلقنه"

(1)

.

3.

‌ ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي كون الحديث منكرَ الإسناد، مما يدل على احتمال وقوع تركيب الإسناد في روايته

، مثاله:

قال عبد الله: "حدّثتُ أبي بحديث حدثنا خالد بن إبراهيم أبو محمد المؤذِّن، قال: حدثنا سلاّم ابن رُزيْن قاضي أنطاكية، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُقات المدينة إذا أنا برجل قد صُرع فدَنوتُ منه فقرأتُ في أذنه اليسرى فاستوى جالساً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا قرأت في أذنه يا بن أم عبد؟ " قلت: فِداك أبي وأمي قرأتُ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق لو قرأها موقن على جبل لزال". قال أبي هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين منكر الإسناد"

(2)

.

الحديث أخرجه العقيلي من طريق عبد الله

(3)

، وابن الجوزي

(4)

.

(1)

رواه ابن عدي في الكامل 1/ 45 عن أبي الأسود الدؤلي، وقتادة، وعن ابن سيرين وأيوب بمعناه.

هذا، ولأبي نعيم حديث آخر باطل رواه بمثل هذا الإسناد. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه عبيد بن هشام أبو نعيم الحلبي عن ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال:[رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد]. قال: قال أبي: هذا حديث باطل غلط فيه عبيد بن هشام علل الحديث لابن أبي حاتم 1/ 149.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 463 رقم 5979.

(3)

كتاب الضعفاء للعقيلي 2/ 163 رقم 673.

(4)

الموضوعات 1/ 255 - 256 ح 274.

ص: 176

وجه علة الحديث:

حكم الإمام أحمد على الحديث بالوضع وقال: هذا حديث الكذابين منكر الإسناد. ووجه الكذب فيه النكارة في إسناده، فإن الحديث ذُكر عن سلاّم بن رُزين عن الأعمش، وسلاّم مجهول لا يعرف وروى عن الأعمش _وهو من بحور الرواية ـ ما لم يرويه المعروفون عن الأعمش، ثم ساق إسناداً يسهل إلى الأذهان ذكره الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود. قال الذهبي عن سلاّم أبي رزين: لا يعرف وحديثه باطل

(1)

. وقال في "تلخيص الموضوعات": فيه سلام بن رزين عن الأعمش ـ مجهول، ثم ذكر ما نقله عبد الله عن الإمام أحمد أن الحديث موضوع

(2)

. وفي موضع آخر من الكتاب نفسه

(3)

قال: كأنه ـ أي سلام بن رزين ـ وضعه.

وهذا أيضاً مما حكم عليه الإمام أحمد بالوضع لحال إسناده، وأما المتن فقد روي بإسناد آخر هو أمثل من هذا. فروى أبو يعلى

(4)

قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هُبيرة، عن حَنَش الصنعاني، عن عبد الله أنه قرأ في أذن مبتلى فأفاق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما قرأتَ؟ ". قال: قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى فرغ آخر السورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال". ومن طريق أبي يعلى رواه أبو نعيم

(5)

.

(1)

الميزان 3349. وانظر: المغني في الضعفاء 1/ 270.

(2)

تلخيص الموضوعات ص 111 رقم 201.

(3)

تلخيص الموضوعات 448/ 1150.

(4)

مسند أبي يعلى 8/ 458 ح 5045.

(5)

حلية الأولياء 1/ 7.

ص: 177

ورواه ابن أبي حاتم

(1)

من طريق ابن وهب، والخطيب في التاريخ

(2)

من طريق عفيف بن سالم الموصلي، والبغوي

(3)

من طريق بشر بن عمر، وذكر السيوطي

(4)

أن ابن مردويه رواه من طريق أبي الأسود النضر بن عبد الجبار، والحكيم الترمذي من طريق القعنبي، كل هؤلاء الخمسة ـ وكلهم ثقات ـ عن ابن لهيعة به.

قال الهيثمي: رواه أبو يعلى وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح

(5)

. وتعقب أبو الحسن الكناني

(6)

والألباني

(7)

الحكم على الحديث بالوضع بطريق أبي يعلى هذه، غير أن الألباني أعله بالإرسال، وذلك أن رواية ابن وهب، وعفيف بن سالم، وبشر بن عمر عن ابن لهيعة كلها بالإرسال ـ عن حنش أن رجلاً مصاباً مُرَّ به على عبد الله بن مسعود، وخالف الوليد بن مسلم فذكره عن حنش عن عبد الله أنه قرأ في أذن مبتلى

وأما رواية أبي الأسود، والقعنبي فلم يسق السيوطي إسنادهما بل عطف على سائر الروايات بدون تمييز بين المسندة منها والمرسلة.

ورواية ستة من الثقات تقتضي أن للحديث أصلاً من حديث ابن لهيعة، وإن حكمنا عليه بالضعف إذ العمل على تضعيف حديث عبد الله بن لهيعة كما قال الذهبي

(8)

.

(1)

تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2513 رقم 1407.

(2)

تاريخ بغداد 3/ 312 - 313.

(3)

تفسير البغوي 3/ 320.

(4)

اللآلي المصنوعة 1/ 247 - 248.

(5)

مجمع الزوائد 5/ 118.

(6)

تنزيه الشريعة المرفوعة 1/ 294.

(7)

السلسلة الضعيفة 5/ 212.

(8)

الكاشف 2934. وذلك راجع إما إلى التخليط في حديث المتأخرين عنه الذين رووا عنه بعد احتراق كتبه، وإما للتدليس في حديث المتقدمين عنه كما قال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخيرين عنه موجوداً، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيراً، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدّلس عن أقوام ضعفى عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات فالتزقت تلك الموضوعات به المجروحين 2/ 12.

ص: 178

وإذا تبين وجه إعلال الإمام أحمد للحديث فلا وجه للتعقّب عليه، لأنه حكم عليه بالوضع لنكارة إسناده، وأن هذا المتن بهذا الإسناد منكر، ولم يتكلم عن المتن، وهذا موجود في منهجه وقد تقدمت أمثلة ذلك.

4.

‌ ومن القرائن التي تعود إلى حال المروي أن يروي الراوي حديثاً بإسناد رُوي به أحاديث معروفة جمعت في نسخة ثم لا يكون حديث ذلك الراوي موجوداً في تلك النسخة، فيحكم عليه بالوضع

. مثال ذلك:

روى الخلال قال: "حدثنا مهنّا قال: قلت لأحمد: ثنا إبراهيم بن موسى المروزي، قال: عرضت على مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال أحمد: هذا كذب

(1)

.

وقد اختلفوا في تسمية هذا الراوي عن مالك، وكلهم يروونه من طريق مهنّا: فقيل: إبراهيم بن موسى كما في هذا النقل من طريق الخلال. وإبراهيم بن موسى لم أجد له ترجمة إلا عند الذهبي في "الميزان" وتبعه الحافظ ابن حجر في "اللسان"

(2)

، اعتماداً على هذا النقل عن الخلال.

وقيل أحمد بن إبراهيم بن موسى: قاله ابن حبان، وابن عدي، والدارقطني كلهم عن مهناّ، ووهمّ الدارقطني مهناّ في هذه التسمية.

قال ابن حبان: "أحمد بن إبراهيم بن موسى، شيخ يروي عن مالك ما لم يحدّث به قط، لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل الاحتجاج به كذا!، روى

(1)

المنتخب من العلل للخلال 128/ 61.

(2)

ميزان الاعتدال 1/ 69، لسان الميزان 1/ 116.

ص: 179

عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ثم ذكره بإسناده وقال: وهذا حديث لا أصل له من حديث ابن عمر، ولا من حديث نافع، ولا من حديث مالك، إنما هو من حديث أنس بن مالك، وليس بصحيح"

(1)

.

وقال ابن عدي: "أحمد بن إبراهيم بن موسى منكر الحديث وليس بمعروف، وروى عن مالك وعن غيره بمناكير. ثم قال عن هذا الحديث: وهذا الحديث منكر بهذا الإسناد ولا يرويه إلا أحمد بن إبراهيم بن موسى وهو غير معروف"

(2)

.

وقيل: موسى بن إبراهيم المروزي. وهذا الذي صوبّه الدارقطني كما نقله الحافظ ابن حجر

(3)

عنه، وساق الدارقطني هذا الحديث من طريق مهنّا ابن يحيى عنه ـ أي أحمد بن إبراهيم بن موسى ـ ثم قال:"أحسب مهنّا وهم فيه، وإنما روى هذا عن مالك موسى ابن إبراهيم المروزي"، ثم ساقه من طريق موسى به. وكذلك رواه الخطيب من طريق محمد بن بيان عن مهناّ فقال: عن موسى بن إبراهيم.

وأعاد ابن عدي ذكر هذا الحديث في ترجمة موسى بن إبراهيم، لكن رواه من طريق موسى بن هارون الجمال: سمعت موسى بن إبراهيم: ثنا الليث بن سعد، وقرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر فذكره. وقال عنه ابن عدي:"شيخ مجهول، وله أحاديث عن ثقات الناس، وهو بيّن الضعف على رواياته وحديثه"

(4)

.

(1)

المجروحين 1/ 141.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 183.

(3)

لسان الميزان 1/ 132 ترجمة أحمد بن موسى بن إبراهيم.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2347.

ص: 180

والذي أراه راجحاً من هذه الأقرال أنه موسى بن إبراهيم لمتابعة موسى ابن هارون الجمال لمهناّ في اسمه، وأرى أن الاختلاف في اسمه عن مهنّا راجع إلى جهالته، والله أعلم.

وموسى بن إبراهيم هذا له ترجمة في تاريخ بغداد، وقال يحيى بن معين عنه: ذاك كذاب. وقال الدارقطني: متروك

(1)

. ولم يذكر الخطيب مالكاً من الذين روى عنهم، لكن ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته في "لسان الميزان"

(2)

. وذكر الخطيب عن إبراهيم الحربي أن موسى بن إبراهيم هذا كان صاحب شرطة، ثم ترك الشرطية فجاء إلى مسجد الجامع فقعد مع قوم يدعون، ثم جاء بكتاب معه يقرأ فيه في مسجد الجامع في أصحاب الحديث فقالوا له: أملِ علينا، فأملى عليهم عن ابن لهيعة وغيره شيئاً لم يسمعه قط ولم يسمع هو قط حديثاً، لا أدري أيش قصة ذاك الكتاب اشتراه أو استعاره أو وجده. ا. هـ.

(3)

.

وأحاديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر معروفة في نسخة مشهورة، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه زاد جماعة عدة أحاديث ليست من هذه النسخة، منها القوي والسقيم، وأن الإمام الدارقطني ذكر جلَّها في غرائب مالك

(4)

. ويغلب على الظن من خلال حكم الإمام أحمد وكلام الحفاظ أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن إبراهيم من تلك الأحاديث التي زِيدت على النسخة وليس منها.

وإطلاق الإمام أحمد الكذب على هذا الحديث يعني به كذِب بهذا الإسناد، وإلا فالمتن له طرق ضعيفة، قاله الذهبي

(5)

، وهو كما قال. فوجود

(1)

تاريخ بغداد 13/ 38 - 39.

(2)

6/ 111.

(3)

تاريخ بغداد 13/ 39.

(4)

النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 866.

(5)

ميزان الاعتدال 1/ 69.

ص: 181

حديث بهذا الإسناد ـ مالك، عن نافع، عن ابن عمر ـ وعدم وجود أصل له من أحاديث هذه النسخة قرينة دالة على أن ذلك الحديث ركّب له هذا الإسناد

(1)

.

5.

‌ من القرائن التي تعود إلى حال المروي كون الحديث المروي أصله يعود إلى نسخة موضوعة

. ومثال ذلك:

قال المرُّوذي: "سألته ـ أي الإمام أحمد ـ عن حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه مسح على الجبائر] فقال: باطل، ليس من هذا شيء، من حدّث بهذا؟ قلت: ذكروه عن صاحب الزهري، فتكلم فيه بكلام غليظ"

(2)

.

أطلق الإمام أحمد الحكم بالبطلان على هذا الحديث وأنكر على من حدّث به عن عبد الرزاق عن معمر، وذلك لأن الإمام أحمد أدرك أن أصل الحديث حديث عمرو بن خالد الواسطي عن زيد بن علي عن آبائه، وهذه نسخة موضوعة، فأصبح الحديث يعود إلى نسخة موضوعة، يدل على ذلك ما تقدم في ترجمة عمرو بن خالد الواسطي

(3)

أن الأثرم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: "عمرو بن خالد الواسطي كذّاب، قلت: الذي يروي عنه إسرائيل؟ قال: نعم، الذي يروي حديث الزَّنديْن ويروي عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب"

(4)

.

(1)

وهذه القرينة اتبعها الحافظ ابن عدي في الحكم على أحاديث الحسن بن علي بن صالح بالوضع، فمثلاً قال في حديث [ما أحسن الله خلق رجل وخلُقُه فأطعمه النار] قال: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد، وعندنا نسخة الليث، عن نافع، عن ابن عمر عن غير واحد وما فيه شيء من هذا الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 751، وانظر: الوضع في الحديث 1/ 294.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره 153/ 270.

(3)

انظر: ص 153.

(4)

كتاب الضعفاء 3/ 987، وانظر: تهذيب الكمال 21/ 605.

ص: 182

وحديث الزَّنديْن هو هذا الحديث، فقد رواه ابن ماجه

(1)

، والدارقطني

(2)

، والعقيلي

(3)

؛ الأول من طريق محمد بن أبان البلخي، والثاني والثالث من طريق الدبري، كلاهما عن عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد ابن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب قال: [انكسرتْ إحدى زنديَّ

(4)

فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر]. وهو في مصنف عبد الرزاق

(5)

. قال العقيلي: لا يعرف هذا الحديث إلا من طريق عمرو بن خالد هذا.

ورواه الدارقطني

(6)

أيضاً من طريق محمد بن أبان البلخي، عن سعيد بن سالم ـ وهو القداح ـ عن إسرائيل. ورواه من هذا الطريق ابن عدي

(7)

، ومن طريقه البيهقي

(8)

.

فتبيّن أن أصل الحديث حديث عمرو بن خالد مما رواه عن زيد بن علي ابن الحسين، وهي نسخة موضوعة وهي التي أشار إليها الإمام أحمد بقوله: روى عن زيد بن علي، عن آبائه أحاديث موضوعة، ونصّ المزي على أنها نسخة

(9)

. ومن أجل هذا أنكر الإمام أحمد على من روى الحديث عن عبد الرزاق، عن

(1)

السنن 1/ 215 ح 617.

(2)

السنن 1/ 226.

(3)

كتاب الضعفاء 3/ 987.

(4)

في لسان العرب: الزندان عظما الساعد أحدهما أدق من الآخر، فطرف الزند الذي يلي الإبهام هو الكوع، وطرف الزند الذي يلي الخنصر كرسوع، والرسغ مجتمع الزندين ومن عندهما تقطع يد السارق لسان العرب، مادة "ز ن د" 3/ 196.

(5)

المصنف 1/ 161/623.

(6)

الموضع نفسه.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1775 - 1776.

(8)

السنن الكبرى 1/ 228.

(9)

تهذيب الكمال 21/ 604.

ص: 183

معمر، وتعين أن يكون الحمل فيه على ذلك الراوي عن عبد الرزاق، وبرئت ساحة عبد الرزاق لمعرفة الإمام أحمد بحديثه، فهو يعرف أنه لم يحدث بالحديث عن معمر فلم يبق إلا الراوي عنه. والشاهد من هذا أن الإمام أحمد أنكر الحديث قبل السؤال عن راويه المتهم به؛ توصل إلى معرفة هذا بقرينة في متن الحديث المروي من غير التفات إلى حال راويه.

والمقصود بالبطلان في جواب الإمام أحمد عن هذا السؤال هو إسناد الحديث ـ أعني عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي ـ أما متنه فهو موضوع عنده بمقتضى حكمه على نسخة عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه.

وممن أنكر أن يكون عبد الرزاق حدّث بهذا الحديث عن معمر يحيى بن معين. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت رجلاً يقول ليحيى: تحفظ عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجبائر؟ فقال: باطل، ما حدّث به معمر قط. سمعت يحيى يقول: عليه بدنة مقلدة مجلّلة إن كان معمر حدّث بهذا قط، هذا باطل، ولو حدّث بهذا عبد الرزاق كان حلالَ الدم، من حدّث بهذا عن عبد الرزاق؟ قالوا له: فلان. فقال: لا والله، ما حدّث به معمر، وعليه حجة من ههنا ـ يعني المسجد ـ إلى مكة إن كان معمر حدث بهذا. ثم قال عبد الله: وهذا الحديث يروونه عن إسرائيل، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي فذكره وقال: وعمرو بن خالد لا يسوى حديثه شيئاً"

(1)

.

وفي رواية الخلال عن عبد الله لهذه القصة التصريح بالذي حدّث به عن

(1)

العلل ومعرفة الرجال 3/ 15 - 16/ 3944 - 3945.

ص: 184

عبد الرزاق وأنه محمد بن يحيى ـ وهو الذهلي

(1)

. وهو صاحب الزهري الذي ورد في سؤال المرّوذي.

وقال أبو حاتم في الحكم على هذا الحديث من رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه: هذا حديث باطل لا أصل له

(2)

.

6.

‌ من القرائن التي تعود إلى حال المروي أن يكون المتن أصله كلامُ غير النبي صلى الله عليه وسلم صحابيٍّ أو غيرِه ـ فيضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمداً أو خطأً

، فتعلُّ بذلك الرواية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما ثبت عن الصحابي أو غيره، وهذا بشرط أن لا يكون للحديث أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وذلك بأن ينفي الحديث حافظ جهبذ مثلاً، أو يكون الكلام معروفاً عند الحفاظ من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة ما روي عن الإمام أحمد من هذا النوع:

قال مهنَّا: "سألتُ أبا عبد الله: أتعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل"؟ فقال: لا أعرفه، إنما هذا عن منصور، عن مجاهد، عن عمر"

(3)

.

قال الإمام أحمد في هذا الحديث: لا أعرفه، وهذا يعتمد في نفي الحديث كما قال الحافظ ابن حجر:"إذا قال الحافظ المطلع الناقد في حديث: لا أعرفه اعتمد ذلك في نفيه"

(4)

. وقال الإمام أحمد: "كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث"

(5)

. فالمعروف في متن هذا الحديث عند الإمام أحمد ما ذكره

(1)

انظر: الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 3/ 177، وتلخيص الحبير 1/ 146.

(2)

علل ابن أبي حاتم 1/ 46.

(3)

المنتخب من العلل للخلال 84 رقم 26.

(4)

تدريب الراوي 1/ 296 - 297.

(5)

طبقات الحنابلة ص 220 في ترجمة محمد بن رافع، طبعة مكتبة شبكة المشكاة الإسلامية.

ص: 185

عن عمر، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعروف.

وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس >. رواه أبو نعيم

(1)

، وأبو حيان

(2)

من طرق عن أبي داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وفي سنده عمران القطان، وهو عمران بن دوّار العمي. ضعفه ابن معين

(3)

، والنسائي

(4)

. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث

(5)

. وقال البخاري، وابن حجر: صدوق يهم. وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم. وأورد له العقيلي عن قتادة عن سعيد ابن أبي الحسن عن أبي هريرة حديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"، قال: لا يتابع عليه ولا يعرف بهذا اللفظ إلا عن عمران

(6)

. ومثل هذا لا يحتمل التفرد بمثل هذا الحديث عن مثل قتادة.

وقد روي من طريق آخر عن أنس. أخرجه الطبراني من طريق علي بن عياش، عن معاوية بن صالح الطرابلسي، عن كثير بن مروان، عن يزيد أبي خالد الدالاني، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي خالد الدالاني إلا كثير، ولا عن كثير

إلا معاوية بن يحيى، تفرد به علي بن عياش

(7)

.

(1)

أخبار إصبهان 1/ 195، 353، 2/ 69. ط العلمية 1/ 236، 2/ 30.

(2)

طبقات المحدثين بأصبهان 4/ 176.

(3)

في رواية عبد الله بن الإمام أحمد. انظر: العلل ومعرفة الرجال 3/ 24/3989.

(4)

كتاب الضعفاء والمتروكين الترجمة 477.

(5)

الجرح والتعديل 6/ 298.

(6)

كتاب الضعفاء 3/ 1015، تهذيب التهذيب 8/ 132، وتقريب التهذيب الترجمة 5189.

(7)

المعجم الأوسط 1/ 12/28. روى ابن حبان هذا الحديث بمثل إسناد الطبراني لكن قال بدل كثير بن مروان: عباد بن كثير البصري، وهو متروك.

ص: 186

وكثير بن مروان هو المقدسي، ضعفه ابن معين، والدارقطني. وفي رواية قال ابن معين: كذّاب. وقال ابن عدي: له أحاديث ليست بكثيرة ومقدار ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه

(1)

. ومن أجل ذلك قال عنه الحافظ: متروك

(2)

.

وخالفه إسماعيل بن عياش فرواه عن عباد بن كثير ـ وهو البصري كما قال ابن حبان

(3)

ـ عن سيار الواسطي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة به. رواه الخطيب

(4)

والقزويني في أخبار قزوين

(5)

. ونقل الخطيب عن الدارقطني أنه قال: تفرد به أبو الحكم سيار بن وردان، عن إسحاق، وتفرد به عنه عباد بن كثير، ولم يروه عنه غير إسماعيل بن عياش.

وسيار بن وردان وثقه أحمد، وابن معين

(6)

. وأما عباد بن كثير فهو البصري. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي: متروك

(7)

.

فالطرق الثلاثة لا تسلم من ضعيف أو متروك تفرد عن راوٍ مشهور، ففي الأول عمران القطان عن قتادة، وعمران ضعيف؛ وفي الثاني: كثير بن مروان، عن أبي خالد الدالاني عن إسحاق بن أبي طلحة؛ وفي الثالث: عباد بن كثير، عن سيار الواسطي، عن إسحاق بن أبي طلحة، وكثير وعباد متروكان، ولا يعرف حديث إسحاق بن أبي طلحة هذا إلا من طريقهما.

(1)

ميزان الاعتدال 4/ 329، الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2090.

(2)

فتح الباري 11/ 70.

(3)

المجروحين 2/ 168.

(4)

موضح أوهام الجمع والتفريق 2/ 155.

(5)

3/ 198.

(6)

الجرح والتعديل 4/ 254.

(7)

ميزان الاعتدال 3/ 86.

ص: 187

أما الإمام أحمد فذكر أن المعروف من هذا المتن قول عمر. وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد قال بلغ عمر أن عاملا له لم يَقِل فكتب إليه عمر:[قِلْ فإني حُدِّثت أن الشيطان لا يقيل]

(1)

.

فيفهم من صنيع الإمام أحمد إعلال الرواية المرفوعة بهذا المروي عن عمر، أي إن أصل الكلام لعمر فأضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم غلطاً، وهو من أسباب الوضع في الحديث

(2)

.

واعتبر الشيخ الألباني أثر عمر شاهداً لحديث أنس فحسّن الحديث وقال: "وهو وإن كان موقوفاً فمثله لا يقال من قبل الرأي، بل فيه إشعار بأن هذا الحديث كان معروفاً عندهم، ولذلك لم يجد عمر رضي الله عنه ضرورة التصريح برفعه، والله أعلم"

(3)

. وقول الإمام أحمد عن الحديث: لا أعرفه يقدح في قول الشيخ: إن هذا الحديث كان معروفاً عندهم، وهو وجه علته، إذ لو كان معروفاً لما كان قول عمر كاشفاً عن علته، والعلم عند الله.

وقد أَعل الحديث ابن حجر، والسخاوي، والعجلوني، ورد المناوي على السيوطي في تحسينه له

(4)

.

ومثال آخر لإضافة كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

قال مُهنَّا: سألتُ أحمد قلت: حدثني أبو خيثمة: ثنا محمد بن الحسن

(1)

المصنف 5/ 339، وهو في مختصر قيام الليل للمرزوي ص 104، بدون قول عمر: حدِّثت. وانظر: كشف الخفاء 1/ 131.

(2)

انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 856.

(3)

السلسلة الصحيحة 4/ 203.

(4)

انظر: جميع ذلك في السلسلة الصحيحة 4/ 203.

ص: 188

المديني، ثنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فُتحت المدائن بالسيف، وفُتحتْ المدينة بالقرآن]. فقال: هذا منكر. قلت: لم تسمع هذا من حديث مالك، ولا من حديث هشام؟ قال: لا.

وسألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس بصحيح، قد رأيت أنا هذا الشيخ ـ يعني محمد بن الحسن، وكان كذّاباً وكان رجلاً سخياً. قلت: يُروى عنه الحديث؟ قال: لا، هو كذّاب. وقال: إنما كان هذا قول مالك، ولم يكن يرويه عن أحد

(1)

.

هذا الحديث رواه أبو يعلى في "معجمه"

(2)

، ومن طريقه ابن عدي

(3)

، والعقيلي

(4)

، والبيهقي في "شعب الإيمان"

(5)

من طريق محمد بن الحسن المديني، حدثني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فذكره.

وجه علة الحديث:

حكم عليه الإمام أحمد بالنكارة، وأوضح مهنّا وجه تلك النكارة بسؤاله الآخر: لم تسمع هذا من حديث مالك ولا من حديث هشام؟ فقال: لا. أي ليس لمحمد بن الحسن هذا متابع عن مالك، ولا عن هشام، وحيث إنه لا يحمل منه هذا التفرد عن مالك عن هشام، ومالك إمام حافظ مكثر صاحب أصحاب اعتنوا بحديثه وجمعوه وضبطوه، فدل ذلك على نكارة الحديث واتهامه به.

(1)

المنتخب من علل الخلال 140 رقم 68.

(2)

معجم أبي يعلى 157/ 173.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2180.

(4)

كتاب الضعفاء 4/ 1220.

(5)

شعب الإيمان 2/ 145.

ص: 189

ووجه آخر من علة هذا الحديث هو ما ذكره ابن معين أن هذا قول من قول مالك فجعله ابن زبالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقل مثل هذا الوجه ابن الجوزي عن الإمام أحمد أنه قال في هذا الحديث: "هذا منكر، لم يُسمع من حديث مالك، ولا من حديث هشام، إنما هذا قول مالك، لم يروه عن أحد، قد رأيت هذا الشيخ ـ يعني محمد بن الحسن ـ كان كذّاباً"

(1)

.

ومحمد بن الحسن المديني هو المعروف بمحمد بن الحسن بن زبالة المخزومي. وقد قال يحيى بن معين كما في هذه الرواية إنه كذّاب. وعنه أيضاً: "ليس بثقة، كان يسرق الحديث"

(2)

. وقال البخاري: "عنده مناكير"

(3)

. وقال أحمد بن صالح المصري: "كتبتُ عنه مئة ألف حديث ثم تبين لي أنه كان يضع الحديث فتركت حديثه"

(4)

. وأما أبو حاتم فقال: "واهي الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث، عنده مناكير، وليس بمتروك الحديث"

(5)

. وقال الحافظ ابن حجر: كذبوه

(6)

.

وهذا الحديث قد تفرد به ابن زبالة. قال العقيلي: لا يتابعه إلا من هو مثله أو دونه

(7)

.

وقد ذكر الخليلي

(8)

هذا الحديث مثالاً لما تفرد به غير حافظ يُضعَّف من

(1)

الموضوعات 2/ 217، تحقيق أحاديث التعليق 3/ 358 مع التنقيح. وانظر: المطالب العالية 1/ 369.

(2)

تاريخ يحيى بن معين ـ رواية عباس الدوري 2/ 510.

(3)

الضعفاء الصغير الترجمة 314.

(4)

تهذيب الكمال 25/ 65.

(5)

الجرح والتعديل 7/ 228.

(6)

تقريب التهذيب الترجمة 5852.

(7)

كتاب الضعفاء 4/ 1220.

(8)

الإرشاد 1/ 169 - 170.

ص: 190

أجله، وإن لم يُتَّهم بالكذب. قال:"لم يروه عن مالك إلا محمد بن الحسن بن زبالة، وليس بالقوي، لكن أئمة الحديث قد رووا عنه وقالوا: هذا من كلام مالك بن أنس نفسه، فعساه قُرئ على مالك حديث آخر عن هشام بن عروة فظن هذا أن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحمله على ذلك. ومثل هذا قد يقع لمن لا معرفة له بهذا الشأن ولا إتقان".

وكلام الخليلي هذا يستقيم لو كانت حالة ابن زبالة على ما ذكر من أنه ليس بالقوي فحسب، أما وقد اتهم بالكذب وبسرقة الحديث فالذي يظهر هو ما قاله الحافظ ابن حجر:"إنما هذا قول مالك فجعله محمد بن الحسن مرفوعاً وأبرز له إسناداً"

(1)

، وهذا الصنيع نوع من الوضع، ولو استقام ما قاله الخليلي لكان مثالاً للمدرج، والله أعلم.

وقد أشار ابن رجب إلى هذين المسلكين حيث قال: "ومن الناس من اتهمه بوضعه، ومنهم من قال: وهم فيه، هذا من كلام مالك نفسه فجعله مرفوعاً لسوء حفظه وعدم ضبطه، ومثل ذلك وقع كثيراً لأهل الغفلة وسوء الحفظ غلطاً لا تعمداً"

(2)

.

تتمة:

ويُلاحظ في هذين المطلبين أن الغالب في هذه القرائن ـ سواء التي تعود إلى حال الراوي أو إلى حال المروي ـ التوصل بها إلى معرفة صدق الراوي أو كذبه فيما رواه من الأخبار تحقيقاً أو على الظن الراجح، وهو أمر يحصل في الغالب بتتبع الروايات والنظر في حال رواتها، أي بنقد الأسانيد، وقلَّ أن تعود

(1)

المطالب العالية 1/ 369، وانظر: اللآلي المصنوعة 1/ 127.

(2)

السلسلة الضعيفة 4/ 327 نقلاً عن هداية الإنسان لابن عبد الهادي 2/ 21/2.

ص: 191

تلك القرائن إلى نقد ما يرويه من وجه مخالفته المعقول أو معارضته ما هو أولى منه، أي نقد المتون، وما ذلك إلا للاكتفاء بذلك من دون الالتجاء إلى الوجه الثاني من النقد. وقد نبه الإمام الشافعي على هذا من منهج المحدثين حيث قال: "ولا يُستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المُخبِر وكذبِه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يُستدلَّ على الصدق والكذب فيه بأن يُحدِّثَ ما لا يجوز أن يكون مثلُه

(1)

، أو ما يُخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالاتٍ بالصدق منه"

(2)

.

(1)

وكان هنا تامة ومن أجل ذلك استُغني بمرفوعها، والمعنى: أن يقع مثلُه.

(2)

الرسالة ص 399.

ص: 192

‌المطلب الثالث: لا منافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع

.

وقد تقدم حديث الزَّنديْن وهو يصلح مثالا لهذا، وذلك أن محمد بن يحيى ثقة وقد روى حديثاً حكم عليه الإمام بأنه باطل بالإسناد الذي رواه.

ومثال آخر:

قال مهنّا: "وقلت: حدثنا يزيد بن هارون، أنا محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه" فقال أحمد: محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر ثقة، وهذا الحديث كذب"

(1)

.

هذا الحديث رواه عبد بن حميد

(2)

، والخطيب

(3)

كلاهما من طريق يزيد ابن هارون به. ورواه القضاعي في "مسند الشهاب"

(4)

، والجرجاني

(5)

من طريق الحجاج بن المنهال، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن مجبِّر به.

فهذا الحديث حكم عليه الإمام أحمد بأنه كذب مع توثيقه لمحمد بن عبد الرحمن ابن مجبر راوي الحديث، ووجه ذلك أنه نظر إلى الرواية ورأى أنها باطلة، ولا منافاة بين توثيقه للراوي وحكمه على حديثه بأنه كذب، لأن ذلك محمول على أنه غلِط في الرواية إذ جائزٌ أن يكون قد وقع منه الغلط ثم رجع عنه.

ومحمد بن عبد الرحمن بن مجبر قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: واهي الحديث

(6)

. وقال الفلاّس:

(1)

المنتخب من العلل للخلال 86/ 28.

(2)

المنتخب من المسند 243/ 751.

(3)

تاريخ بغداد 11/ 295 - 296.

(4)

1/ 384/661.

(5)

تاريخ جرجان 1/ 385.

(6)

الجرح والتعديل 7/ 320.

ص: 193

ضعيف. وقال ابن عدي: هو مع ضعفه يكتب حديثه

(1)

. وقال ابن حبان: لا يحتج به

(2)

. وقال الحاكم أبو عبد الله: ثقة

(3)

.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره عبد الله:

قال عبد الله: "وعرضتُ على أبي حديثاً حدثنا عثمان عن جرير عن شيبة بن نعامة عن فاطمة بنت حسين عن فاطمة الكبرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في العُصبة

(4)

، وحديث جرير عن الثوري عن ابن عقيل عن جابر [أن النبي صلى الله عليه وسلم شهِد عيداً للمشركين]

(5)

، فأنكرها جداً وعدة أحاديث من هذا النحو فأنكرها جداً وقال: هذه أحاديث موضوعة أو كأنها موضوعة، وقال: ما كان أخوه ـ يعني عبد الله بن أبي شيبة تطنَّف

(6)

نفسه لشيء من هذه الأحاديث. ثم قال:

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2197.

(2)

المجروحين 2/ 263.

(3)

المستدرك 1/ 205.

(4)

ولفظه: [كل بني آدم ينتمون إلى عصبتهم إلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وأنا عصبتهم] رواه أبو يعلى في مسنده 12/ 109/6741، والطبراني في الكبير 3/ 44/2632، والخطيب في تاريخ بغداد 11/ 285 كلهم من طرق عن عثمان بن أبي شيبة به. وذكر الخطيب متابعين لعثمان وهما أبو العوام ـ وهو أحمد بن يزيد بن دينار ـ، وحسين الأشقر، كلاهما روياه عن جرير بن عبد الحميد الضبي به. وأبو العوام قال عنه الحافظ ابن حجر: مجهول لسان الميزان 1/ 325، وحسين بن الحسن الأشقر صدوق يهم ويغلو في التشيع التقريب الترجمة 1327.

(5)

ولفظه: [كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يشهد مع المشركين أعيادهم حتى نهي عنه] رواه الخطيب في تاريخ بغداد 11/ 285 - 286. قال الذهبي: تفرد به جرير، وما أتى به سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة، وهو منكر سير أعلام النبلاء السيرة النبوية 1/ 74.

قال القاوقجي في اللؤلؤ المرصوع نقلاً من الوضع في الحديث 1/ 116: المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه من قوله: "أبغضت إلي الأصنام"، وأنه لم يشهد مشاهدهم، نعم أخرجه عمه إلى بعض أعيادهم فرجع مرعوباً. ا. هـ.

(6)

الطنف التهمة لسان العرب، مادة:"ط ن ف" 9/ 224. وفي تهذيب الكمال 19/ 483: تتطنَّف. وفي القاموس: تطنف نفسه إلى كذا: أدناه إلى الطمع القاموس المحيط، مادة:"ط ن ف" ص 1077.

ص: 194

نسأل الله السلامة في الدين والدنيا، وقال: نراه يتوهّم هذه الأحاديث نسأل الله السلامة، اللهم سلِّمْ سلِّمْ"

(1)

.

وقال في موضع آخر:

"سمعتُ أبي يقول ـ حين نعي له ـ عثمان بن أبي شيبة فقال: تلك الأحاديث التي حدّث بها وأنكرها جداً، وذكر منها حديثَ جرير عن شيبة بن نعامة عن فاطمة، وحديث جرير عن الثوري عن ابن عقيل عن جابر: شهد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً للمشركين، فقال ما كان أخوه تطنف نفسه لمثل هذه الأحاديث. والحديث حدثناه عثمان عن جرير عن سفيان، وإنما كان يحدث به جرير عن سفيان عن عبد الله بن جرير بن زياد القُمِّي مرسل"

(2)

.

فأنكر الإمام أحمد هذه الأحاديث ووصفها بأنها موضوعة أو شبه موضوعة، والذي رواها هو عثمان بن أبي شيبة وقد قال فيه: ما علمت إلا خيراً وأنثى عليه كما في رواية الأثرم

(3)

. فعثمان ليس بمتهم عنده ولا رماه بالكذب، لكن وصف أحاديثه هذه بأنها موضوعة لتحقق وقوع الخطأ فيها، ثم بيّن عذره في ذلك بأنه يتوهّم هذه الأحاديث أي يحدّث بها على التوهم والغلط. والشاهد أنه وصف أحاديث رواها راوٍ ثقة بالوضع.

ومن هذا المنطلق أخذ الشيخ المعلمي رحمه الله القاعدة التي ذكرها حيث

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 559 رقم 1333.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 264 رقم 5167.

(3)

تاريخ بغداد 11/ 287. ووثقه ابن معين، والعجلي وقال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ وله أوهام تهذيب الكمال 19/ 482، التقريب الترجمة 4545.

وقد ذكر الحافظ الذهبي أن عثمان تفرد بهذين الخبرين، فكأن المتابعتبين اللتين ذكرهما الخطيب لم تصحا عنده انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 152.

ص: 195

قال: "قد تتوفّر الأدلة على البطلان مع أن الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يتّهم بتعمد الكذب، بل قد يكون صدوقاً فاضلاً، ولكن يرى الناقد أنه غلط أو أُدخل عليه الحديث"

(1)

.

(1)

مقدمة الفوائد المجموعة ص 12.

وهناك مثال آخر على ما ذكر في هذا المطلب من عدم المنافاة بين ثقة الراوي والحكم على حديثه بالوضع، وذلك عن ابن معين. رُوي عنه في الحديث الذي رواه نعيم بن حماد، عن عيسى بن يونس، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم، إنهم يحلون الحرام ويحرمون الحلال]، قال محمد بن علي بن حمزة: قلت ليحيى بن معين عن هذا فقال: ليس له أصل، ونعيم ثقة. قلت: كيف يحدّث ثقة بالباطل؟ قال: شبّه له سير أعلام النبلاء 10/ 600.

ص: 196

‌المطلب الرابع: تعدد طرق الحديث المعلّ بكذب راويه

.

ذكر المرُّوذي عن الإمام أحمد أنه ذُكر له الفوائد فقال: "الحديث عن الضعفاء قد يُحتاج إليه في وقتٍ، والمنكر أبداً منكر"

(1)

.

وقال ابن هانئ: "قيل له ـ أي أبي عبد الله ـ فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر. قيل له الضعفاء؟ قال: قد يُحتاج إليهم في وقتٍ، كأنه لم ير بالكتاب عنهم بأساً"

(2)

.

ومعنى هذا أن الحديث المنكر لا يزال منكراً مهما تعددت طرقه، وذلك لأن المنكر قد تحقق للناقد أو غلب على ظنه من وقوع الخطأ فيه، فتعدد الطرق لا يزيل خطأه، وإنما ينفع تعدد الطرق في أحاديث الضعفاء التي يتردد الناقد فيها بين إصابة الراوي وخطئه، فإذا رُويتْ من طرق أخرى ترجّح لديه جانب الإصابة. وإذا كان هذا في الحديث المنكر ففي حديث الكذاّب والمتَّهم بالكذب كان الأمر أشد وأعظم، وكثرة الطرق وتعددها لا تفيد معه إلا كشف ما وقع فيه من سرقة الحديث، فلا تزيده إلا وهناً.

ومن أمثلة هذا ما ذكره عبد الله قال:

"ذكر أبي حديث المُحاربي، عن عاصم، عن أبي عثمان، حديث جرير: [تبنى مدينة بين دِجلة ودُجَيل

] فقال: كان المُحاربي جليساً لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذّاباً، فأظن المحاربي سمع منه. قيل له: إن عبد العزيز بن أبان رواه عن سفيان، فقال: كل من حدّث به فهو كذاّب ـ يعنى عن سفيان.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 163 رقم 287.

(2)

مسائل ابن هانئ 2/ 167 رقم 1925، 1926.

ص: 197

قلت له: إن لويناً حدثناه عن محمد بن جابر فقال: كان محمد ربما ألحق في كتابه، أو يلحق في كتابه ـ يعني الحديث. وقال: هذا حديث ليس بصحيح أو قال: كذب

(1)

.

وقال: وسُئل عن حديث جرير: [تبنى مدينة

] فقال: ما حدّث به إنسان ثقة. وذكر له أن عبد العزيز بن أبان رواه عن الثوري فقال: تركته لما حدّث بحديث المواقيت

(2)

.

هذا الحديث روي من حديث جرير بن عبد الله البجلي ولفظه: [تُبنى مدينة بين دِجلَةَ ودُجيْل

(3)

وقطربُّل

(4)

والصَّراة

(5)

تُجْبى إليها خزائنُ الأرضِ وجبابرتُها يُخسَف بأهلها، فلَهي أسرع هوياًّ بأهلها من الوَتَدِ الحديد في الأرض الرِّخوة].

والحديث روي من عدة طرق وقد توسع الخطيب البغدادي في تاريخه من سردها وذكر عللها

(6)

. وملخص هذه الطرق أربعة، سأذكرها مع عللها:

الطريق الأول: المحاربي، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن جرير.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 370 رقم 2644. وانظر: المنتخب من العلل للخلال 298 رقم 197.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 50 رقم 1519.

(3)

دُجيل اسم نهر في مخرجه من أعلى بغداد بين تكريت وبينها مقابل القادسية دون سامرا، وهو غير نهر دجيل المعروف بنهر كارون. معجم البلدان 2/ 443، بلدان الخلافة الشرقية ص 73.

(4)

قطربل، بالضم ثم السكون ثم فتح الراء وباء موحدة مشددة مضمومة ولام وقد روي بفتح أوله وطائه وأما الباء فمشددة مضمومة في الروايتين وهي كلمة أعجمية اسم قرية بين بغداد وعُكبرا. وقال البخاري: موضع عند باب بغداد معجم البلدان 4/ 371، التاريخ الصغير 2/ 247.

(5)

الصراة، بالفتح وهو نهر يأخذ من نهر عيسى من عند بلدة يقال لها المحول بينها وبين بغداد فرسخ ويسقي ضياع بادوريا ويتفرع منه أنهار إلى أن يصل إلى بغداد معجم البلدان 3/ 399.

(6)

انظر: تاريخ بغداد 1/ 37 - 38.

ص: 198

وهو الطريق الذي ذكره الإمام أحمد، ولم أقف عليه مسنداً.

وعلة هذا الطريق ما رواه العقيلي

(1)

، والخطيب

(2)

ومن طريقه ابن الجوزي

(3)

وذكره البخاري تعليقاً

(4)

من طريق سيف بن محمد ـ وهو ابن أخت سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي قال كنت مع جرير بن عبد الله بقطربل فقال

الحديث.

قال الإمام أحمد كما في رواية عبد الله في هذه المسألة: "كان المُحاربي جليساً لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذّاباً، فأظن المحاربي سمع منه". فتبين أن أصل الحديث لسيف بن محمد فدلسه المحاربي.

وسيف بن محمد رماه الإمام أحمد بالكذب كما في رواية عبد الله هذه. وقال عبد الله أيضاً: "سمعت أبي يقول: لا يكتب حديث سيف بن محمد بن أخت سفيان الثوري، ليس سيف بشيء، وكان سيف يضع الحديث"

(5)

. ورماه أيضاً يحيى بن معين وأبو داود، ونسبه الساجي للوضع. أما غيرهم من الأئمة فلم يوصلوه إلى الكذب، إنما أطلقوا عليه أنه متروك

(6)

.

وأما المُحاربي فهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد الكوفي: وثقه ابن معين، والنسائي

(7)

. وقال أبو حاتم: "صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن

(1)

كتاب الضعفاء 2/ 546.

(2)

تاريخ بغداد 1/ 30.

(3)

انظر: اللآلي 1/ 475.

(4)

التاريخ الكبير 4/ 172.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 245 رقم 326.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1268، وانظر: تهذيب الكمال 12/ 330 - 331.

(7)

تهذيب الكمال 17/ 388 - 389.

ص: 199

المجهولين أحاديث منكرة فيفسد حديثه بروايته عن المجهولين"

(1)

. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: "بلغنا أن المحاربي كان يدلس. وقد روى حديثاً عن معمر وأنكره الإمام أحمد جداً وقال عبد الله: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئاً"

(2)

.

الطريق الثاني: عبد العزيز بن أبان، عن سفيان، عن عاصم به.

ذكر هذا الطريق عبد الله في سؤاله للإمام أحمد، وأخرجه الخطيب مسنداً في التاريخ

(3)

ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات

(4)

.

وعلة هذا الطريق عبد العزيز بن أبان: قال أحمد كما في هذه الرواية: "تركته لما حدث بحديث المواقيت". وقال عبد الله في موضع آخر: "سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان، قال: لم أخرج عنه في المسند شيئاً، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث، لما حدّث بحديث المواقيت حديث سفيان عن علقمة بن مرثد تركته"

(5)

. وقال ابن معين: "وضع أحاديث عن سفيان، لم يكن بشيء"

(6)

. وقال في رواية أخرى: "عبد العزيز بن أبان كذاب يدعي ما لم يسمع وأحاديث لم يخلقها الله قطُّ"

(7)

. وقيل له: "من أين جاء ضعفه؟ قال: كان يأخذ

(1)

الجرح والتعديل 5/ 282.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 364 رقم 5597.

(3)

1/ 32 - 33.

(4)

2/ 66.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 298 رقم 5326. وحديث سفيان، عن علقمة في المواقيت رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ح 613، وهو عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سألة عن وقت الصلاة فقال: "صل معنا هذين ـ يعني اليومين" الحديث، وهو عند الترمذي ح 152، والنسائي ح 518، وابن ماجه ح 667 من طرق عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن سلميان بن بريدة، عن أبيه به. وروي عن شعبة عن علقمة أيضاً، وهو عند مسلم.

(6)

الجرح والتعديل 5/ 377.

(7)

الكامل في معرفة 5/ 1926.

ص: 200

حديث الناس فيرويه"

(1)

. وقال عبد الله بن نمير: "ما رأيت أحداً أبين أمراً منه، وقال: هو كذاب"

(2)

. وقال أيضاً: "ما مات حتى قرأ ما ليس من حديثه"

(3)

. فهذا متهم بسرقة الحديث بنوعيها: ادعاء السماع واختلاق المتون.

ويوضحه ما ذكره الخطيب عن يحيى بن معين: قال أبو زكريا ـ يعني يحيى ابن معين: "عبد العزيز بن أبان كذاب خبيث. قلت له: بأي شيء استدللت على كذبه؟ قال حدّث عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن جرير في دجلة ودجيل. فقلت له فقد حدّث به عمّار بن سيف عن سفيان. قال: عمار كان رجلا مغفلا لا يدري من سفيان سمعه أو من عاصم"

(4)

.

وقال الإمام أحمد في هذه المسألة: "كل من حدّث به عن الثوري فهو كذّاب"، وكان أعلم الناس بحديث سفيان الثوري كما قال عبد الرحمن بن مهدي

(5)

.

وقد ذكر الخطيب الذين رووه عن الثوري، ورواياتُهم كلهم في تاريخه

(6)

وهم:

1.

عمار بن سيف: رواه عن سفيان عن عاصم، ورواه عن عاصم مباشرة وزعم أنه حضر الثوري يسأل عاصماً عنه

(7)

. وقد تقدم عن يحيى بن معين أن هذا من غفلته.

(1)

المصدر نفسه.

(2)

تهذيب الكمال 18/ 112.

(3)

الجرح والتعديل 5/ 377.

(4)

تاريخ بغداد 1/ 34 - 35.

(5)

الجرح والتعديل 1/ 292.

(6)

1/ 31 - 33.

(7)

رواه المحاملي عن عمار عن عاصم الأمالي 1/ 350 - 351، وكذلك الداني في السنن الواردة في الفتن 4/ 904. وروياه من طريق سفيان عن عاصم أيضاً الأمالي برقم 386، والسنن الواردة في الفتن 3/ 718. ورواه الخلال المنتخب من العلل 298/ 197، والعقيلي 3/ 1035، وابن عدي الكامل 5/ 1726.

ص: 201

وعمار بن سيف كان عابداً صالحاً

(1)

. قال أبو حاتم: "وكان ضعيف الحديث منكر الحديث"

(2)

. وقال أبو داود: "كان مغفلاً"

(3)

. وقال ابن حبان: "كان ممن يروي المناكير عن المشاهير حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها، فبطل الاحتجاج به لما أتى من المعضلات عن الثقات"

(4)

. وقال أبو نعيم: "روى عن إسماعيل بن أبي خالد والثوري المناكير لا شيء"

(5)

.

وذكر الإمام البخاري رواية عمار بن سيف قال: "يروى عنه عن سفيان عن عاصم عن أبى عثمان في قطربل وصراة، قطربل موضع عند باب بغداد وصراة نهر: لا يتابع عليه منكر ذاهب"

(6)

.

وقد روى الخلال عن المخرمي: سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن آدم يقول: "إنما أصاب عمار هذا الحديث على ظهر كتاب فرواه"

(7)

.

2.

إسماعيل بن أبان: هو أبو إسحاق الغنوي على ما قاله الخطيب

(8)

. قال عنه البخاري: متروك، تركه أحمد

(9)

. وعن أحمد أيضاً: "كتبتُ عنه ثم حدّثَ بأحايث موضوعة فتركناه"

(10)

. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين:

(1)

الكاشف 2/ 51/3991.

(2)

الجرح والتعديل 6/ 393.

(3)

تهذيب الكمال 21/ 196.

(4)

المجروحين 2/ 195.

(5)

كتاب الضعفاء 121/ 172.

(6)

التاريخ الأوسط 2/ 177، وذكره في الحاشية وهو في المطبوع من التاريخ الصغير 2/ 247.

(7)

المنتخب من العلل ص 298، كتاب الضعفاء للعقيلي 3/ 1035، تاريخ بغداد 1/ 34. ونسب الخطيب هذا القول ليحيى بن معين.

(8)

التاريخ 1/ 36.

(9)

التاريخ الكبير 1/ 347.

(10)

كتاب الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 1/ 107. وانظر: العلل ومعرفة الرجال 3/ 211.

ص: 202

"وضع أحاديث على سفيان لم تكن"

(1)

. وقال أبو حاتم: "متروك الحديث وكان كذاباً"

(2)

.

فهذا حاله، فإما أن يكون وضع الحديث على سفيان أو سرقه من عمار ابن سيف، فقد ذكر المخرمي عن يحيى بن آدم أنه قال: ما رواه أحد إلا عمار بن سيف.

3.

إسماعيل بن نجيح: ذكر الخطيب أنه صاحب غرائب ومناكير عن سفيان الثوري وعن غيره، وذكر عن ابن عقدة أنه قال فيه: ضعيف ذاهب

(3)

.

4.

أبو سفيان عبيد الله بن سفيان الغداني ويقال له أبو سفيان الصوّاف: حديثه أيضاً عند الخطيب في التاريخ

(4)

. قال عباس عن ابن معين: أبو سفيان الصواّف كان كذاباً

(5)

. قال أبو حاتم: هو شيخ ليس بالقوي

(6)

. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه

(7)

. وقال ابن عدي: وفي بعض حديثه بعض النكرة

(8)

.

5.

عبد الرزاق بن همام الصنعاني: ذكر حديثه الخطيب بإسناده إلى أحمد ابن محمد ابن عمر بن يونس قال: قلت لعبد الرزاق أحدثك سفيان الثوري هذا الحديث؟ قال: نعم عن عاصم الأحول

(9)

الراوي عن عبد الرزاق هو أحمد ابن محمد بن عمر أبو سهل اليمامي. قال أبو حاتم: "قدم علينا وكان كذاباً،

(1)

المجروحين 1/ 128.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 160.

(3)

تاريخ بغداد 1/ 37.

(4)

1/ 32.

(5)

التاريخ 2/ 382.

(6)

الجرح والتعديل 6/ 318.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1639.

(8)

الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1639.

(9)

تاريخ بغداد 1/ 32 - 33.

ص: 203

وكتبت عنه ولا أحدث عنه"

(1)

. قال ابن عدي: "حدث بأحاديث مناكير عن الثقات وجدته ينسخ عن الثقات العجائب. وذكر عن القاسم المطرز أنه كان يقول: كتبت عن اليمامي هذا خمسمائة حديث

ليس عند الناس منها حرف"

(2)

. وقال عنه الذهبي: هالك

(3)

.

هؤلاء الذين ذكرهم الخطيب أنهم رووا الحديث عن الثوري، وبذكر أحوالهم من حيث الجرح والتعديل تبين صحة ما قاله الإمام أحمد أن كلَّ من حدّث به عن الثوري فهو كذّاب.

الطريق الثالث: لُوين، عن محمد بن جابر الحنفي، عن عاصم الأحول به. هذا الطريق ذكره عبد الله في هذه المسألة أن لويناً حدثهم به، ورواه الخطيب بإسناده

(4)

.

وعلته: ما ذكره الإمام أحمد أن محمد بن جابر ـ الراوي عن عاصم الأحول ـ ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه الحديث.

ومحمد بن جابر هو السحيمي الحنفي أبو عبد الله اليمامي. ضعفه ابن معين، والنسائي. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: من كتب عنه كتب عنه باليمامة وبمكة وهو صدوق، إلا أن في حديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح. وقال أبو حاتم: "ذهبت كتبه في آخر عمره وساء حفظه، وكان يلقنّ وكان عبد الرحمن ابن مهدي يحدث عنه ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير وهو معروف بالسماع جيد اللقاء رأوا في كتبه لحقاً وحديثه عن حماد فيه اضطراب روى عنه

(1)

الجرح والتعديل 2/ 71.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 182.

(3)

ميزان الاعتدال ـ في ترجمة عمرو بن مخرم البصري 4/ 207.

(4)

تاريخ بغداد 1/ 30.

ص: 204

عشرة من الثقات"

(1)

. وقال ابن حبان: "كان أعمى يُلحق في كتبه ما ليس من حديثه ويسرق ما ذُوكر به فيحدّث به. ثم روى عن إسحاق بن عيسى بن الطباع أنه قال: ذاكرتُ محمد بن جابر ذات يوم بحديث شرِيك عن أبي إسحاق فرأيته في كتابه قد ألحقه بين السَّطريْن كتاباً طرياًّ"

(2)

.

الطريق الرابع: أبو شهاب الحنّاط، عن عاصم الأحول به. ذكره الخطيب من طريق الحسن بن الربيع عنه به

(3)

.

علته: لم يذكر الإمام أحمد علة هذا الطريق، وأما الخطيب فأعله بأبي شهاب الحناط، قال: وأما أبو شهاب الحناط فقد كان صدوقاً إلا أن يحيى بن سعيد القطان لم يكن يرضى أمره، وكان يقول: لم يكن بالحافظ، وأحسب أنه وقع إليه حديث عاصم من جهة عمار بن سيف، أو سيف بن محمد، أو محمد بن جابر فرواه عن عاصم مرسلاً، لأن الحسن بن الربيع لم يذكر عنه الخبر فيه، والله أعلم.

وأبو شهاب الحناط هو عبد ربه بن نافع. قال يحيى القطان: لم يكن أبو شهاب الحناط بالحافظ ولم يرض أمره. قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبى عن أبى شهاب الحناط؟ فقال: ما بحديثه بأس. فقلت له: إن يحيى بن سعيد يقول ليس هو بالحافظ، فلم يرض بذلك ولم يقرَّبه. قال ابن أبى خيثمة عن يحيى بن معين: أبو شهاب الحناط ثقة. وقال أبو حام: أبو شهاب الحناط عبد ربه بن نافع صالح الحديث

(4)

وقال الساجي صدوق يهم في حديثه

(5)

. قال الذهبي: احتج به

(1)

الجرح والتعديل 7/ 219 - 220، تهذيب الكمال 24/ 568.

(2)

المجروحين 2/ 270.

(3)

تاريخ بغداد 1/ 30.

(4)

الجرح والتعديل 6/ 42.

(5)

تهذيب التهذيب 6/ 117.

ص: 205

البخاري ومسلم وهو صدوق وغيره أقوى منه

(1)

. ذكره ابن حجر في طبقات المدلسين من أجل كلام الخطيب الذي أشار فيه إلى تدليسه

(2)

.

فالحاصل أن الحديث لا أصل له. لما ذكر هذا الحديث لأحمد بن منيع ذهب إلى الإمام أحمد فسأله فقال له: يا أبا جعفر! ليس لهذا الحديث أصل

(3)

، وكذلك قال يحيى بن معين

(4)

. وهذا ما يقصده الإمام أحمد لما قال: ما حدث به إنسان ثقة، كما في سؤال عبد الله الثاني. فهذا الحديث على اختلاف طرقه ليس له أصل، لأن أصل الحديث حديث كذب، تلقَّطَتْه الرواةُ إما بالسرقة أو التدليس، وهو يوضّح أن تعدد الطرق لا تجعل الحديث الموضوع صحيحاً أبداً.

ومثال آخر يدل على أن الحديث المعلّ بكذب راويه لا يرتقي بتعدد طرقه:

قال عبد الله: "سألته عن قول الناس: [أول ما خلق اللهُ العقْل قال له: أَقبِل فأَقبلَ

]، فقال: هذا موضوع ليس له أصل"

(5)

.

روي هذا الكلام في أحاديث منها:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم أن "أول ما خلق الله العقل قال: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، ثم قال: ما خلقت شيئاً أحسن منك، بك آخذ، وبك أعطي". رواه أبو نعيم في الحلية

(6)

من طريق سهل بن المرزبان بن محمد أبي الفضل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الزهري، عن

(1)

الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد 121/ 50.

(2)

تعريف أهل التقديس 41/ 18. ذكره في المرتبة الأولى.

(3)

تاريخ بغداد 1/ 34.

(4)

المنتخب من العلل ص 298.

(5)

المنتخب من العلل للخلال 87/ 29.

(6)

7/ 317، وانظر: اللآلي 1/ 130.

ص: 206

عروة، عن عائشة به. قال أبو نعيم:"غريب، لا أعلم له راوياً عن الحميدي إلا سهلاً وأراه واهماً فيه" ولم أقف على ترجمة له.

ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً: "لما خلق الله العقل قال له: قم فقام، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: اقعد فقعد. فقال: ما خلقت خلقاً هو خير منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك ولا أكرم منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أُعرَف، وبك أعاقب، لك الثواب وعليك العقاب". رواه الطبراني في المعجم الأوسط

(1)

وابن عدي

(2)

، والبيهقي في شعب الإيمان

(3)

وابن الجوزي في الموضوعات

(4)

، من طريق حفص بن عمر حدثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة به. قال ابن حبان في حفص بن عمر، وهو قاضي حلب:"يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به"

(5)

والفضل بن عيسى الرقاشي قال فيه الإمام أحمد: ضعيف

(6)

وقال ابن معين: كان رجل سوء. وقال ابن حبان: "ممن يروي المناكير عن الشاهير"

(7)

.

وروي من وجه آخر عن سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، عن الثوري، عن الفضيل بن عثمان عن أبي هريرة به. رواه ابن الجوزي في الموضوعات

(8)

. وقد تقدم الكلام في سيف بن محمد.

(1)

2/ 235/1845.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 798، 6/ 2040.

(3)

4/ 154.

(4)

رقم 137، وانظر: اللآلي 1/ 129.

(5)

المجروحين 2/ 259.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2039.

(7)

المجروحين 2/ 211. وروى قول ابن معين من طريق ابن أبي خيثمة.

(8)

وذكره السيوطي في اللآلي 1/ 129.

ص: 207

ومنها عن أبي أمامة: رواه الطبراني

(1)

، والعقيلي

(2)

بمثل لفظ حديث أبي هريرة. من طريق أبي همام الوليد بن شجاع، عن سعيد بن الفضل القرشي، عن عمر بن صالح العتكي، عن أبي غالب، عن أبي أمامة. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي أمامة إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو همام. وقال العقيلي: حديثه منكر، وعمر هذا وسعيد بن الفضل الراوي عنه مجهولين جميعاً ولا يتابع على حديثه ولا يثبت في هذا المتن شيء.

ومنها ما روي عن الحسن ـ وهو البصري ـ مرفوعاً رواه عبد الله في زوائد الزهد

(3)

ومن طريقه ابن أبي عاصم في كتاب الزهد

(4)

: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار عن الحسن يرفعه، فذكره بمثل لفظ حديث أبي هريرة. فيه سيار بن حاتم العنزي. قال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير. وقال الأزدي: عنده مناكير

(5)

وشيخه جعفر بن سليمان الضبعي: صدوق زاهد يتشيع

(6)

وقال ابن عدي: "أحاديثه ليست بالمنكرة، وما كان منها منكر فلعل البلاء فيه من الراوي"

(7)

على أن هذا قد روي من قول الحسن. رواه البيهقي في شعب الإيمان

(8)

وقال: "هذا من قول الحسن وغيره مشهور" فلعله انقلب على راويه فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

المعجم الكبير 8/ 283، والمعجم الأوسط 7/ 190/7241.

(2)

كتاب الضعفاء 3/ 916.

(3)

انظر: اللآلي 1/ 130.

(4)

ص 320.

(5)

تهذيب التهذيب 4/ 254.

(6)

تقريب التهذيب 945.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 572.

(8)

4/ 154.

ص: 208

وبالجملة هذا الحديث وإن تعددت طرقه لا يصح، ولا أصل له كما قال الإمام أحمد. قال ابن الجوزي:"وقد رويت في العقل أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت ـ ثم ذكر بعض رواته ـ وكلهم متروكون، وقد كان بعضهم يضع الحديث ويسرقه الآخر يغير إسناده"

(1)

. وروى الخطيب بإسناده إلى أبي الحسن الدارقطني قال: "كتاب العقل وضعه أربعة، أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر"

(2)

وهذا مثال آخر على أن الحديث الذي قال فيه إمام من أئمة هذا الشأن: لا أصل له، لا يرتقي بتعدد طرقه، والله أعلم.

(1)

الموضوعات 1/ 177 وانظر: بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة ص 173.

(2)

تاريخ بغداد 8/ 360.

ص: 209

‌المطلب الخامس: بعض مصطلحات الإمام أحمد في هذا الباب

.

تقدم أن استعمال الأئمة المتقدمين رحمهم الله للمصطلحات أشد شمولاً من استعمال المتأخرين، فيلاحظ عند المتقدمين وجود عدة إطلاقات للمصطلح الواحد، ومن أجل هذا يحسن الوقوف على ما عند الإمام أحمد من مصطلحات في هذا الباب وما وقع فيها من إطلاقات، فإن ذلك وثيق الصلة بمعرفة منهجه.

والمصطلحات التي يدور عليها كلام الإمام أحمد في هذا الباب هي: موضوع، كذب، باطل، ليس له أصل، منكر.

والظاهر من المصطلحات الثلاثة الأولى ـ موضوع، كذب، باطل ـ أنها بمعنى واحد، ويوضّح ذلك سؤال عبد الله الذي تقدم، قال عبد الله: قلت لأبي: بلغني أن ابن الحِمَّاني حدّث عن شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه النظر إلى الحمام]. فأنكروه عليه فرجع عن رفعه وقال: عن عائشة مرسلاً. فقال أبي: هذا كذب، إنما كنا نعرف به حسين بن علوان، ويقولون إنما وضعه على هشام. قلت له: إن بعض أصحاب الحديث زعم أن أبا زكريا السَّيْلحيني رواه عن شريك، قال كَذِبٌ هذا على السَّيْلحيني، السيلحيني لا يحدث بمثل هذا، هذا حديث باطل

(1)

.

فهنا حكم على الحديث أولاً بأنه كذب، ثم بيّن وجه ذلك بأن حسين ابن علوان وضعه، ثم حكم عليه آخراً بأنه باطل. فالحديث موضوع: وضعه حسين بن علوان، فسماه مرة: كذباً، ومرة: باطلاً، فهذا صريح في أن هذه الألفاظ الثلاثة عنده بمعنى واحد. ويطلق الإمام أحمد هذه الألفاظ على معان متشابهة، وبالتتبع جاءت كالتالي:

(1)

ص 161.

ص: 210

1.

إطلاقها على الحديث المختلق المصنوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطلاقها على هذا المعنى هو الغالب، فمن ذلك قوله في حديث علي:[من صلى كذا فله كذا، ومن قرأ كذا فله كذا]

(1)

قال: باطل موضوع، وقال في راويه محمد بن الجراح:"قد رأيت ابن الجراح، فرأيت عنده أحاديث وضعت له، لم يكن يدري مالحديث"؛ وكقوله في حديث العقل

(2)

أيضاً: موضوع؛ وكقوله في حديث أبي صالح كاتب الليث بإسناده إلى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين إلا النبيّين والمرسلين

"

(3)

: قال: ذاك عندي موضوع. وقال في حديث: "من لذّذ أخاه بما يشتهي كتب الله له ألف ألف حسنة"

(4)

: كذب، باطل. وقال في حديث:"اطلبوا الخير عند حسان الوجوه"

(5)

: هذا كذب. والوصف المشترك بين هذه الأحاديث أنها كلها متون مختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2.

إطلاق هذه الألفاظ على تركيب الأسانيد، وهو أن يعمد الراوي إلى حديث معروف بإسناد واحد فيرويه بإسناد آخر ليس له، وهذا نوع من أنواع ما استقرّ تسميته في المصطلح بالمقلوب

(6)

فمن ذلك قوله في حديث ابن مسعود في قراءته على المصروع

(7)

: "هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين منكر الإسناد". فأوضح أن وجه الوضع هو نكارة الإسناد، واستدل بذلك على وقوع إلزاق متن لإسناد ليس له. وقال في الحديث الذي رواه عبد العزيز بن عبد الرحمن

(1)

ص 165.

(2)

ص 206.

(3)

ص 166.

(4)

ص 171.

(5)

ص 193.

(6)

انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 864.

(7)

انظر: ص 176.

ص: 211

البالسي عن خزيمة بن ثابت مرفوعا: "لا وصبة لوارث إلخ"

(1)

قال: أحاديثه كذب أو موضوعة، وتقدم قول العقيلي في إيضاح وجه إنكار الإمام أحمد للحديث أنه أنكر الإسناد لا المتن، لأن المتن معروف بغير الإسناد الذي ذكره هذا الراوي. وقال في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، قال فيه: هذا كذب

(2)

وتقدم قول الذهبي أنه يعني كذب بهذا الإسناد، لأن المتن له طرق ضعيفة.

وكذلك أطلق الكذب على سرقة الحديث كما في السؤال عن يحيى الحماني حيث أسند عن شريك عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه النظر إلى الحمام

(3)

فجعل إلزاق هذا الحديث بشريك من الكذب، وهذا أيضاً مما استقرّ تسميته في المصطلح على نوع من المقلوب.

3.

إطلاق الموضوع على حديث المتروك. فمن ذلك ما رواه مهناّ:

قال مهنّا: "قلتُ لأحمد: حدّثوني عن محمد بن بكّار، عن حفص بن عمر، عن صالح بن حسان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأْخُذوا العلمَ إلا عن من تُجيزون شهادتَه". قال: ليس بصحيح، هذا حديث موضوع من قبل صالح بن حسان، هذا رجل مديني متروك الحديث"

(4)

.

فهذا الحديث أطلق عليه الوضع، واتّهَم به صالح بن حسان، وهو عنده متروك الحديث، ولم يرمِه بالكذب. وقال عنه مرة: ليس بشيء

(5)

. وقال ابن معين:

(1)

ص 150.

(2)

ص 179.

(3)

انظر: ص 161.

(4)

المنتخب من العلل للخلال 151 رقم 73. والحديث رواه ابن عدي الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1369، والخطيب في الكفاية 159 - 160، وفي تاريخ بغداد 9/ 301.

(5)

العلل ومعرفة الرجال 1/ 540/1279.

ص: 212

ليس حديثه بشيء

(1)

. وقال البخاري: منكر الحديث

(2)

. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث

(3)

. قال الخطيب عن هذا الحديث: "تفرد بروايته صالح بن حسان، وهو ممن اجتمع نقاد الحديث على ترك الاحتجاج به لسوء حفظه وقلة ضبطه

"

(4)

.

وكذلك أطلق البطلان على حديث المتروك:

قال ابن هانئ: "عرضتُ على أبي عبد الله: يحيى بن سعيد العطار، عن سعد ـ أبو حبيب ـ عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته". قال أبو عبد الله: حديث باطل منكر"

(5)

.

وزاد في رواية الخلال عن محمد بن أبي هارون، عن ابن هانئ قال: وسمعته يقول: سعد أبو حبيب ليس حديثه بشيء

(6)

.

هذا الحديث رواه أبو نعيم في أخبار إصفهان

(7)

، ومن طريقه ابن عساكر في

(1)

التاريخ ـ برواية الدوري 3/ 160/682.

(2)

التاريخ الكبير 4/ 275.

(3)

الجرح والتعديل 4/ 397.

(4)

الكفاية ص 159. ولم أر من رماه بالكذب إلا ما ذكره ابن الجوزي عن ابن طاهر أنه قال: صالح كذاب الضعفاء والمتروكون 2/ 47.

(5)

مسائل ابن هانئ 2/ 245.

(6)

المنتخب من علل الخلال رقم 207.

(7)

1/ 226 في ترجمة إبراهيم بن معمر. وقع الإسناد فيه وفي تاريخ دمشق هكذا: إبراهيم بن معمر، ثنا أبو أيوب بن أ خي زريق الحمصي، ثنا يحيى بن سعيد الأموي، ثنا خلف بن حبيب الرقاشي، سمعت أنس بن مالك

نبّه الشيخ الألباني على احتمال وقوع التحريف في السند مستنداً على ما جاء عن ابن هانئ في المنتخب من علل الخلال، وكذلك اللآلي، وترجمة سعد أبي حبيب عند الذهبي في الميزان انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة ح 786.

ص: 213

تاريخ دمشق

(1)

والديلمي في مسند الفردوس

(2)

، وابن الجوزي في الموضوعات

(3)

.

وصف الحديث بالبطلان وجعل المتّهمَّ به سعداً أبا حبيب ووصفه بأنه ليس حديثه بشيء، وهذه العبارة، إذا لم توجد قرينة رمي الراوي بالكذب، فإن الإمام أحمد رحمه الله يطلقها على الراوي المتروك

(4)

. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يقول أهل الحديث عن بعض المحدّثين: "ليس بشيء"، أو عن بعض الأحاديث: "ليس بشيء" إذا لم يكن ممن ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمداً أو خطأ"

(5)

.

وقد عرّف الحافظ ابن حجر حديث من فحُش غلطه، أو كثرت غفلتُه، أو

(1)

7/ 227 في ترجمة إبراهيم بن معمر.

(2)

على ما ذكره المناوي في فيض القدير 3/ 525.

(3)

3/ 87، وانظر اللآلي المصنوعة 2/ 295.

(4)

قال الإمام أحمد في سعيد بن سنان أبو مهدي الشامي: ليس بشيء العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 158 رقم 276. وقال عنه في رواية ابن أبي يحيى: ضعيف تهذيب الكمال 10/ 496. وقال في صدقة بن عبد الله السمين الدمشقي: ليس بشيء ضعيف الحديث العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 120 رقم 203. وقال في أبي سفيان السعدي، وهو طريف بن سفيان: ليس بشيء لا يكتب عنه العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 515 رقم 1209. وهذا ما رمي بالكذب إنما وصف بشدة الغفلة حتى خرج عن حد الاعتبار المجروحين 1/ 381. وقال في عبد الله بن مسلم بن هرمز: ضعيف الحديث ليس بشيء العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 141 رقم 1809، 2/ 350 رقم 4113. وقال عنه في رواية ابن أبي عصمة: صالح الحديث الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1475. وقال عنه ابن عدي: له أحاديث ليست كثيرة وأحاديثه بمقدار ما يرويه لا يتابع عليه. ا. هـ. ومثل هذا متروك الحديث.

ومن مجيئها بمعنى اتهام الراوي بالوضع لقرينة التصريح بذلك قوله في طلحة بن زيد: ليس بشيء يضع الحديث العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي ص 157 رقم 275، وقال مثل ذلك في مبشر بن عبيد العلل ومعرفة الرجال ـ براوية عبد الله 2/ 380 رقم 2696. وقال في محمد بن القاسم: يكذب، أحاديثه أحاديث موضوعة، ليس بشيء المصدر نفسه 2/ 171 رقم 1899.

(5)

مجموع الفتاوى 25/ 156.

ص: 214

ظهر فسقُه بالمنكر على رأي من لا يشترط في المنكر المخالفة

(1)

، والراوي الذي فحُش غلطه أو كثرت غفلتُه هو المتروك. وعرفّه الذهبي بالمطروح وقال: هو ما انحط عن رتبة الضعيف ـ ثم مثّل له برواية بعض الرواة ـ وقال: وأشباههم من المتروكين والهلكى

(2)

فهذا يدل على أن لحديث المتروك تسمية خاصة لدى الأئمة المتأخرين، فهو فوق الضعيف ودون الموضوع

(3)

.

4.

إطلاق الكذب والبطلان على ما هو خلاف المعروف. جاء مثال لذلك في مسائل صالح:

قال صالح: "قال أبي": حديث عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاتين] كذب، ليس بشيء

(4)

.

ويقصد بذلك الحديث الذي أخرجه الطحاوي حدثنا فهد، قال: ثنا علي ابن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن سعد بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس

(5)

.

قال الحافظ ابن رجب: قاعدة في تضعيف أحاديث رُويت عن بعض الصحابة، والصحيح عنهم رواية ما يخالفها، فمن ذلك حديث سعد بن سعيد، عن عمرة عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر

الحديث. أنكره أحمد والدارقطني وغيرهما. وقال الدارقطني: المحفوظ عنها أنها

(1)

نزهة النظر ص 45.

(2)

الموقظة ص 34.

(3)

انظر: فتح المغيث 1/ 318.

(4)

مسائل صالح 3/ 194/1636 ط دار الوطن 335/ 1297.

(5)

شرح معاني الآثار 1/ 303.

ص: 215

قالت: ما دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر إلا صلى ركعتين. ا. هـ

(1)

.

ومن إطلاق البطلان على هذا النوع ـ أعني خلاف المعروف ـ ما رواه أبو زرعة الدمشقي:

قال أبو زرعة الدمشقي: "وسألت أحمد بن حنبل عن حديث أنس بن مالك: [دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعبد الله بن رواحة آخذ بغَرزِه؟] قال: لو قلت إنه باطل، وردّه رداًّ شديداً. قال أبو زرعة: فأما حديث أنس الأول الذي أنكره أحمد بن حنبل فحدّثني أحمد بن شبُّويه قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: [دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وابن رواحة آخذ بغرزه وهو يقول: "خلوا بني الكفار عن سبيله"]

(2)

.

أنكره الإمام أحمد لأن المعروف أن عبد الله بن رواحة قُتل في مؤتة وكانت قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، هذا إذا حُمل حديثُ أنس بن مالك على أن ذلك كان عامَ الفتح، ولم أر التصريح بذلك في شيء من طرق الحديث، بل الذي ورد أن ذلك كان في عمرة القضاء؛ جاء مصرحاً في رواية الترمذي، وابن حبان

(3)

وغيرهما للحديث الذي ذكره أبو زرعة الدمشقي بإسناده، وإذا كان كذلك فلا اعتراض على الحديث، والله أعلم. اللهم إلا أن يقال وقع ذلك غلطاً كما وقع للإمام الترمذي حيث جعل المؤْتة قبل عمرة القضاء ذهولاً منه وغلطاً،

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 891. والحديث الذي أشار إليه الدارقطني هو ما رواه الأسود ومسروق عن عائشة أنها قالت: [ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين]. صحيح البخاري مع الفتح 2/ 64/593، وصحيح مسلم 1/ 572/301.

(2)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص 455 - 456 رقم 1152، 1153. وذكر الذهبي هذا السؤال في ترجمة ابن رواحة في سير أعلام النبلاء 1/ 236، وذكر أن الإمام أحمد قال: ليس له أصل.

(3)

الجامع للترمذي 5/ 127 ح 2847، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 10/ 379 ح 4521.

ص: 216

وقد ردّ عليه الحافظ ابن حجر رحمة الله على الجميع

(1)

.

ففي هذين المثالين إطلاق الكذب والبطلان على الحديث المخالف للمعروف، وهو المسمى المنكر، وهو نوع من الضعيف.

فإطلاق الإمام أحمد هذه الألفاظ المرادفة للحديث الموضوع على تركيب الإسناد، وسرقة الحديث، والحديث المقلوب، والمطروح أو المنكر على رأي، والمنكر يدل على ما أشير إليه من توسّع المتقدمين في استعمال المصطلحات. وإنما ساغ تسمية هذه الأنواع بالموضوع، والباطل، والكذب لأن بينها وبين الحديث المختلق المصنوع وصف مشترك، وهو بطلان نسبة الكلام إلى من أضيف إليه تحقيقاً أو في الظن الغالب، وإنما الفرق بينها كون ذلك وقع عمداً أو خطأً؟ وهل أُضيف الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره؟ ومن هذا الوجه لم ير بعض الأئمة التقييد بالتعمّد في تعريف الحديث الموضوع كما سبقت الإشارة إليه.

وأما قوله: "ليس له أصل"، فهذا لغة يعني نفي وجود أي أصل للحديث على وجه العموم، لأن "أصل" نكرة في سياق النفي بـ"ليس" فتعمّ. والأصل هو ما انبنى عليه غيره. وذكر السيوطي أن شيخ الإسلام ابن تيميه يقول معنى قولهم:"ليس له أصل" أو "لا أصل له": ليس له إسناد

(2)

فكأن الأصل المنفي في عبارتهم هو الإسناد الذي يتوصل به إلى إثبات المتن.

ووَرَدَ عن الإمام أحمد إطلاق هذه العبارة على الحديث الموضوع المختلق

(1)

انظر قول الترمذي في الجامع حيث ذكر إثر الحديث أنه روي في غير هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه، قال: وهذا أصح عند بعض أهل الحديث، لأن عبد الله بن رواحة قتل يوم مؤتة، وإنما كانت عمرة القضاء بعد ذلك، وانظر رد الحافظ ابن حجر عليه فتح الباري 7/ 502.

(2)

تدريب الراوي 1/ 297.

ص: 217

كما قال في حديث العقل: هذا موضوع، ليس له أصل

(1)

وهو حديث رُوي بأسانيد وكلها واهية وموضوعة كما تقدم، فكأن تلك الأسانيد ليست بشيء، وهذا يعكس المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام لعبارة:"ليس له أصل". وقد أطلقها الإمام أحمد على معانٍ أخرى منها:

1.

ما لم يثبت متنه لمخالفته الثابت المعروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسألة التالية:

قال عبد الله: "سألتُ أبي عن حديث ميمونة بنت الحارث أنها جعلتْ أمرَها بيد العباس فزوّجها من النبي صلى الله عليه وسلم صحيح هذا الحديث؟ قال أبي: هذا حديث ليس له أصل وقال: النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطب حفصةَ إلى عمر فزوَّجه، الزهري عن سالم عن ابن عمر عن عمر خطبها النبي صلى الله عليه وسلم يعني حفصة فزوّجه، والنبي صلى الله عليه وسلم خطب إلى أبي بكر فزوّجه قال أبي: وقال شعبة: ولم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا فيها"

(2)

.

وقال في مسائله: "سألتُ أبي عن حديث ميمونة بنت الحارث: إنما جعلتْ أمرَها بيد العباس فزوَّجها من النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح هذا الحديث؟ فقال أبي: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مِقسَم إلا أربعة أحاديث ليس هذا فيها، قال أبي: هذا حديث ليس له أصل"

(3)

.

أنكر الإمام أحمد هذا الحديث وقال فيه: ليس له أصل، وعلته عنده مخالفته للثابت المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخطت المرأة إلى أهلها، وذكر خطبته حفصة إلى عمر، وعائشة إلى أبي بكر أجمعين، وأما العباس فإنما كان زوجَ أخت ميمونة،

(1)

تقدم في ص 206 - 207.

(2)

العلل ومعرفة الرجال 3/ 35/4052.

(3)

مسائل الإمام أحمد بن حنبل ـ برواية عبد الله 3/ 1016.

ص: 218

وهي أم الفضل بنت الحارث، ولم يكن ولياًّ لها ولاية خاصة، ثم أبان وجه دخول العلة على الحديث المذكور وهو عدم سماع الحكم من مسقم لهذا الحديث. ففي هذا إطلاق لفظزة:"ليس له أصل" على الحديث المنكر متناً

(1)

.

(1)

وحديث خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة إلى العباس أخرجه الإمام أحمد عن سريج، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج ـ وهو ابن أرطاة ـ عن الحكم عن أبي القاسم مقسم، عن ابن عباس [أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ميمونة بنت الحارث، فجعلت أمرها إلى العباس فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم] المسند 4/ 257 ح 2441، وأخرجه أبو يعلى في مسنده ح 2481، والطبراني في المعجم الكبير ح 12093 كلاهما من طرق عن عباد بن العوام به. وقد توبع الحكم عن مقسم متابعة قاصرة، فرواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام قال: حدثني أبان بن صالح، وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، ومجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام]، وكان الذي زوّجه إياها العباس بن عبد المطلب سيرة ابن هشام ج 2 ص 372. وهذا إسناد حسن من أجل ابن إسحاق، ورواه الدارقطني من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عكرمة، عن ابن عباس [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محميّة بن جزء ورجلين آخرين إلى ميمونة يخطبها وهي بمكة، فردت أمرها إلى أختها أم الفضل فردت أم الفضل إلى العباس فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم] السنن 3/ 263. وقد روى ابن جرير ثنا ابن بشّار، ثنا عبد الأعلى، ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] قال: هي ميمونة بنت الحارث، وهذا إسناد صحيح جامع البيان 10/ 23. وذكر ابن سعد مثل هذا عن عكرمة، وعمرة الطبقات الكبرى 8/ 137. وروى ابن جرير أيضا من طريق أبي كريب، عن يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها جامع البيان 10/ 23. وعنبسة بن الأزهر صدوق ربما أخطأ التقريب الترجمة 5232. ويؤيد روايته ما روي من أن التي وهبت نفسها زينب بنت جحش، وقيل غير ذلك انظر الأقوال في جامع البيان الموضع نفسه.

وإذا أمعناّ النظر في الاختلاف الذي وقع بين ابن عباس من جهة، وبين أبي رافع ويزيد ابن الأصم من جهة أخرى في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة هل كان ذلك وهو محرم أو حلال، ظهر أن هناك نوعاً من الغموض في رواية زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة، وإذا انضم إلى هذا الاختلافُ عن ابن عباس: هل ميمونة هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها، لم يقو هذا الحديث على معارضة المعروف الثابت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم من اشتراط الولاية الخاصة في النكاح، وقوي وجه إعلال الإمام أحمد للحديث، والله أعلم.

ص: 219

2.

أطلقها على ما لم يثبت لغرابة إسناده وعدم مجيئه من وجه صحيح ومحفوظ.

قال عبد الله: "سئل عن حديث أبي الزبير عن جابر عن فاطمة بنت قيس في المستحاضة، قال: ليس بصحيح أو ليس له أصل يعني حديث جعفر بن سليمان عن ابن جريج"

(1)

.

وفي المسائل برواية صالح:

قلتُ: "حديث فاطمة بنت أبي حبيش في المستحاضة رواه أبو الزبير، عن جابر، عن فاطمة بنت قيس في المستحاضة؟ قال أبي: ليس هذا بشيء"

(2)

.

أعلّه الإمام أحمد بقوله: ليس بصحيح أو ليس له أصل، وأوضحت رواية صالح وجه علة الحديث، وهو أن الحديث حديث فاطمة بنت أبي حبيش، فرواه جعفر بن سليمان الضبعي من حديث فاطمة بنت قيس

(3)

، وقال أحمد عن هذه

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 52 رقم 4122.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 2/ 90/641.

(3)

أخرج هذه الرواية أبو العباس السراج في مسنده عن وهب بن بقية الواسطي عن جعفر بن سليمان الضبعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المستحاضة فقال: "تقعد أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلى عند كل طهر تم تحتشي وتصلي" ذكره ابن دقيق العيد في الإمام 3/ 330.

ورواه ابن عدي من طريق الحسن بن عمر عن جعفر بن سليمان به. وقال: وهذا الحديث لم يحدث به عن ابن جريج بهذا الإسناد غير جعفر بن سليمان، ويقال إنه أخطأ فيه، أراد به إسناداً آخر عن ابن جريج، لعله يروه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، فلعل جعفر أراد هذا الحديث فأخطأ عليه فقال: عن أبي الزبير عن جابر الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 570 - 571.

وأخرجه الدارقطني في السنن 1/ 219 وقال: تفرد به جعفر بن سليمان، ولا يصح عن ابن جريج عن أبي الزبير، وهم فيه، وإنما هي فاطمة بنت أبي حبيش. ا. هـ. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 355 من طريق الدارقطني. ورواه من طريق أبي بكر أحمد بن إسحاق الضبعي أيضاً وذكر عنه أنه قال: جعفر بن سليمان فيه نظر، ولا يعرف هذا الحديث لابن جريج، ولا لأبي الزبير من وجه غير هذا. ا. هـ.

وقال أبو حاتم لما سئل عن هذا الحديث: ليس يشيء علل ابن أبي حاتم 1/ 50 ح 120.

وأما جعفر بن سليمان الضبعي فأجمع ما رأيت فيه من الأقوال قول الذهبي: صدوق صالح ثقة مشهور، ضعفه يحيى القطان وغيره، فيه تشيع وله ما يُنكر المغني في الضعفاء 1/ 132.

ص: 220

الرواية: ليس بشيء، يشير إلى خطأ جَعلِها من مسند فاطمة بنت قيس، لأن جعفر بن سليمان تفرد بذلك من بين أصحاب ابن جريج الكثيرين.

ومثال آخر لإطلاقه هذه العبارة على ما أنكره لغرابته وعدم مجيئه من وجه صحيح:

قال أبو زرعة الدمشقي: "وسألت أحمد بن حنبل عن حديث سعيد ابن المسيب، عن أبي ثعلبة: "كُلْ ما رَدَّتْ عليك قوسُك": رواه ضمرة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ثعلبة؟ فقال: ما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ قلت له: أتخاف أن لا يكون له أصل؟ قال: نعم. قال أبو زرعة: وإنما رواه الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب؛ أخبرني به محمود بن خالد، عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي"

(1)

.

هذا الحديث أخرجه ابن ماجه من طريق ضمرة بن ربيعة عن الأوزاعي به

(2)

، وقد اختلف على الأوزاعي فيه: قال الدارقطني: وغير ضمرة بن ربيعة يرويه عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن أبي ثعلبة مرسلاً قال: والمرسل

(1)

تاريخ أي زرعة الدمشقي 1/ 459 رقم 1166 - 1167، وفي 2/ 718 رقم 2292 - 2293 قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حدثّنيه محمد بن أسامة، عن ضمرة، عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كل ما ردّتْ عليك قوسك" فقال: ما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ ولم يعجبه، قال: وليس هذا بشيء. قال أبو زرعة: وأصل هذا الحديث بالشام عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب. حدثّنيه محمد بن خالد عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي.

(2)

السنن ح 3211.

ص: 221

أصح

(1)

، وذكر أبو زرعة الدمشقي هنا أن أهل الشام إنما يروون الحديث عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب ـ يعني عن أبي ثعلبة

(2)

.

وأما وجه إعلال الإمام أحمد للحديث فهو من حيث أنه ذكر لسعيد ابن المسيب رواية عن أبي ثعلبة، فإنه أنكره بقوله: وما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ فإن هذا استفهام إنكار، وأوضحه أبو زرعة باستفهام آخر: تخاف أن لا يكون له أصل؟ فقال: نعم. أي ما جاءت رواية لسعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة من وجه صحيح سالم من العلة. وقد تبيّن أن هذه الرواية غير محفوظة حيث أن الصحيح من رواية الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن أبي ثعلبة ليس فيه سعيد بن المسيب كما قاله الدارقطني، ووجه آخر عنه: عن عمرو بن شعيب، عن أبي ثعلبة كما قال أبو زرعة أنه المحفوظ عن أهل الشام.

وهناك قرينة أخرى تؤيد إنكار الإمام لرواية سعيد عن أبي ثعلبة، وهو أن أبا ثعلبة الخشني سكن الشام، والظاهر أن ذلك كان إثر فتحها ـ قبل أن يولد سعيد بن المسيب لأنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، بينما فتحُ الشام كان في السنة الأولى من خلافة عمر ـ فقد روى الإمام أحمد في المسند قال: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة الخشني قال [أَتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله اكتُب لي بأرض كذا وكذا ـ بأرض بالشام لم يظهر عليها

(1)

علل الدارقطني 6/ 318 - 319.

(2)

ذكره البخاري في التاريخ الكبير 2/ 250 قال: وروى الأوزاعي، وحبيب المعلّم، وعبيد الله ابن الأخنس، عن عمرو بن شعيب في حديثه أن أبا ثعلبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الصيد. وذكره الدارقطني تعليقاً في العلل 6/ 323. وقد روي حديث حبيب المعلم وعبيد الله بن الأخنس موصولاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا ثعلبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الدارقطني في العلل 6/ 322 - 323، وذكر اختلافاً آخر على عمرو بن شعيب. وانظر: السنن الكبرى للنسائي 3/ 151، والسنن الكبرى للبيهقي 9/ 237.

ص: 222

النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تسمعون إلى ما يقول هذا؟ " فقال أبو ثعلبة: والذي نفسي بيده لتظهرن عليها، قال: فكتب له بها]

(1)

فيبعد مع هذا لقاء سعيد، وهو مدني لأبي ثعلبة الخشني

(2)

.

والشاهد من هذا إطلاق عبارة "ليس له أصل" على ما لم يثبت من وجه صحيح سالم من العلة.

وأما قول الإمام أحمد: "منكر" فقد أفردتُ له مطلباً خاصاً سيأتي إن شاء الله، ويكفي أن أشير هنا إلى تفسير الأثرم لهذه العبارة عند الإمام أحمد:

قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله ذكر حديث الفضل بن دَلْهم عن الحسن، عن قبيصة بن حُرَيْث، عن سَلَمة بن المُحبّق عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً" فقال: هذا حديث منكر، يعني خطأ"

(3)

.

فقد فسّر الأثرم معنى المنكر عند الإمام أحمد بأنه الخطأ، وهذا وجه إطلاقه المنكر على الحديث الموضوع في حديث:"فتحت المدائن بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن"

(4)

، حيث تحقق من وقوع الخطأ في الحديث بإضافة قول غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

المسند 29/ 273 - 274 ح 17737. وانظر: تاريخ دمشق 66/ 101 - 102. والإسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين أبي قلابة وأبي ثعلبة الخشني، لم يسمع منه انظر: تهذيب الكمال 33/ 168.

(2)

لم يذكر العلائي ولا أبو زرعة العراقي أن سعيد بن المسيب لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، وأرى أن يستدرك عليهما بناء على ما ورد عن الإمام أحمد هنا من إنكار رواية سعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة. وقد ذكر المزي سعيد بن المسيب في الرواة عن أبي ثعلبة الخشني ورمز لابن ماجه لوقوع تلك الرواية في سننه، ولم يستثن بقوله: إن كان محفوظاً على عادته فيمن لم تثبت الرواية بينهما. وسيكون هناك عودة لهذا الموضوع في مبحث طرق إثبات اللقاء والسماع بين الرواة إن شاء الله.

انظر: جامع التحصيل 184 - 185، تحفة التحصيل ص 128، تهذيب الكمال 33/ 167.

(3)

تهذيب الكمال 23/ 221.

(4)

انظر: ص 143.

ص: 223

‌المطلب السادس: موقفه من الرواية عن الكذّابين والمتَّهمين بالكذب

.

تقدم أن الإمام أحمد أمر بالضرب على أحاديث عبد العزيز بن عبد الرحمن البالسي، لأنها كذب أو موضوعة

(1)

.

وتقدم النقل عن عبد الله بن الإمام أحمد أن الإمام أبا عبد الله ضرب على حديث عمرو بن خالد ولم يحدث به

(2)

، وذلك لأن عمراً عنده كذّاب. وروى عبد الله حديثاً آخر في زياداته على المسند

(3)

، وهو حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام فلم يدخلْ عليّ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تدخل"؟ قال: إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا بول"، وفي رواية أخرى "ولا كلب"

(4)

، وقال عبد الله بعد رواية الحديث: وكان أبي لا يحدّث عن عمرو بن خالد، يعني كان حديثه لا يسوى عنده شيئاً. ا. هـ.

وتقدم أيضاً أنه قال في يعقوب بن الوليد: كتبت عنه وخرقنا حديثه منذ دهر، وكان من الكذّابين وكان يضع الحديث

(5)

.

وقال في إسماعيل بن أبان: كتبتُ عنه ثم حدّثَ بأحايث موضوعة فتركناه

(6)

.

وتقدم أيضاً أنه ترك حديث عبد العزيز بن أبان كما نقله عبد الله: وقال عبد الله في موضع آخر: "سألت أبي عن عبد العزيز بن أبان، قال: لم أخرج عنه في المسند شيئاً، وقد أخرجت عنه على غير وجه الحديث، لما حدّث بحديث المواقيت

(1)

انظر: ص 150.

(2)

انظر: ص 153.

(3)

المسند 2/ 405 ح 1247، 1248.

(4)

المسند ح 1270.

(5)

انظر: ص 157.

(6)

انظر: ص 202.

ص: 224

حديث سفيان عن علقمة بن مرثد تركته"

(1)

يشير بهذا إلى أنه المتَّهم به.

وقال حنبل كما في المسألة التي رواها الخلال:

أخبرني موسى بن حمدون، نا حنبل، حدثني أبو عبد الله، ثنا يزيد بن هارون، أخبرني أبو أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى تواضع أبي ذر" قال لي أبو عبد الله: اضرب على حديث أبي ذر. قال: تركتُ حديثه لأنه منكر الحديث، فضربت عليه

(2)

.

فذكر الإمام أحمد أنه ترك حديث أبي أمية بن يعلى لأنه منكر الحديث عنده. وأبو أمية بن يعلى هو إسماعيل بن يعلى أبو أمية الثقفي البصري. قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة

(3)

. وقال البخاري: سكتوا عنه

(4)

. وقال النسائي والدارقطني: متروك

(5)

. وروى ابن عدي بإسناده عن شعبة أنه قال: اكتبوا عن أبي أمية بن يعلى فإنه شريف لا يكذب

(6)

. ونقل الحافظ ابن حجر عن أبي داود أنه كذّب هذه الحكاية عن شعبة

(7)

، فهذا الراوي متروك، وبه يتبين أن وصف الإمام أحمد لهذا الراوي بأنه منكر الحديث وصف له بأن حديثه يستحق الترك.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 298 رقم 5326. وانظر: ص 200.

(2)

المنتخب من علل الخلال 214 رقم 125. والحديث رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 4/ 228، وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 388 ح 32267 كلاهما عن يزيد بن هارون به.

(3)

من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال ـ رواية أبي خالد الدقاق ص 94/ 295.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 309. ومعنى هذه العبارة عند الإمام البخاري كما قال الذهبي: تركوه الموقظة ص 83.

(5)

ميزان الاعتدال 1/ 255.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 309.

(7)

لسان الميزان 1/ 445.

ص: 225

فهؤلاء الرواة ما بين من رمي بالكذب والوضع، وبين المتّهم بالكذب، ومن تُرك حديثه لكثرة المناكير التي يرويها، ومن خلال ما نقلت عن الإمام أحمد يتبيّن أن موقفه من الرواية عنهم هو ترك الرواية عنهم وعدم الاعتداد بحديثهم.

وقد ذكر بعض الحفاظ مثل هذا عن الإمام أحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما من عُرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئاً، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار والاعتضاد. ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول: إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه ويذكر أنه يعرف

"

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب: "وأحمد خرق حديث خلق ممن كتب حديثهم، ولم يحدث به، وأسقط من المسند حديث خلق من المتروكين لم يخرجه فيه مثل فائد أبي الورقاء، وكثير بن عبد الله المزني، وأبان بن أبي عياش وغيرهم، وكان يحدث عمن دونهم في الضعف

والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ، ويحدث عمن دونهم في الضعف مثل من في حفظه شيء ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه"

(2)

.

وقد استدل الإمام مسلم على عدم جواز الرواية عن أهل التهم بحديث الذي رواه المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذبٌ فهو أحد الكاذِبِين"

(3)

، ويُرى مضبوطة بضم الياء بمعنى يظن

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى 18/ 26.

(2)

شرح علل الترمذي 1/ 384 - 386.

(3)

مقدمة صحيح مسلم ص 9.

(4)

النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 839.

ص: 226

‌المطلب السابع: مخالفة حكمِه حكمَ غيره في آحاد المسائل في هذا الباب

.

إن مبنى هذا العلم كما قال الحافظ ابن حجر على غلبة الظن

(1)

، فقد يختلف الحفاظ في الحكم على حديث واحد بالوضع أو عدمه، لأن ذلك دائر مع القرائن التي تلوح لكل واحد منهم، وإن كان الغالب أن تتواطأ أحكامهم في هذا الباب

(2)

. وحيث وقع خلاف بينهم فالمرجع في ذلك إلى الترجيح بين أوجه الخلاف.

وقد رأينا من خلال المطالب التي تقدمت أن الغالب أن يوافِق الإمامَ أحمد غيرُه من الأئمة في حكمه على الأحاديث بالوضع، ونادراً ما يخالفه غيره، ومن ذلك النادر ما رواه محمد بن أبي يحيى

(3)

كما رواه الخلال حيث قال:

أخبرنا محمد بن علي، ثنا محمد بن أبي يحيى قال: سألت أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها". فقال أحمد: قبَّح الله أبا الصلت، ذاك ذكر عن عبد الرزاق حديثاً ليس له أصل.

أخبرني منصور بن الوليد، ثنا إبراهيم بن الجنيد، قال: سئل يحيى بن معين عن عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد؟ فقال: كذاب يحدث أيضاً بحديث أبي معاوية، عن الأعمش بحديث:"أنا مدينة العلم وعلي بابها" وهذا حديث كذبٌ ليس له أصل.

وسألته عن أبي الصلت الهروي؟ فقال: قد سمع وما أعرفه بالكذب. قلت: فحديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس؟ قال: ما سمعته قط، وما

(1)

النكت على كتاب ابن الصلاح 2/ 875 - 876.

(2)

انظر: الموقظة ص 37.

(3)

هذا الراوي لم أهتد إلى من هو، ولم أجده في طبقات الحنابلة.

ص: 227

بلغني إلا عنه. وقال محمد بن أبي يحيى عن يحيى بن معين أنه قال: حدثني به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية

(1)

.

فالظاهر من هذه المسألة وقوع خلاف بين حكم الإمام أحمد على الحديث المذكور وحكم الإمام يحيى بن معين.

حكم الإمام أحمد: أما الإمام أحمد فرواية المروذي عنه تزيد حكمه على الحديث وعلى راويه أبي الصلت إيضاحاً:

قال المروذي: "وسُئل أبو عبد الله عن أبي الصلت

(2)

فقال: روى أحاديث مناكير، قيل له: روى حديث مجاهد عن علي

(3)

: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". قال: ما سمعنا بهذا، قيل له: هذا الذي تنكر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به، وروى عن عبد الرزاق أحاديث

(4)

لا نعرفها ولم نسمعها. قيل لأبي عبد الله: قد كان عند عبد الرزاق من هذه الأحاديث الرديئة؟ قال: لم أسمع منها شيئاً"

(5)

.

وجه إعلاله للحديث: إعلال الإمام أحمد للحديث من وجهين:

1.

استنكره من حديث أبي معاوية حيث قال: ما سمعنا به، وهذه العبارة تقرب من عبارة: لا أعرفه، وقد تقدم أن هذه العبارة الثانية من الحافظ المطلّع تُعتمد

(1)

المنتخب من علل الخلال 208 - 209/ 120، 121.

(2)

هو عبد السلام بن صالح الهروي، وستأتي ترجمته مفصلة إن شاء الله.

(3)

كذا ذكر هنا: عن علي، وكذا هو في تاريخ بغداد من طريق المروذي 11/ 48. أما الحافظ ابن حجر فلم يذكر: علي، وهذا يشعر أنه يرى ذكر علي خطأ تهذيب التهذيب 6/ 320. وهذا الذي يغلب على ظني، لأن هذا الحديث وإن روي من حديث علي إلا أنني لم أقف عليه من رواية مجاهد عن علي، والله أعلم.

(4)

عند المروذي في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 173: "واحداً"، والمثبت من تاريخ بغداد 11/ 48.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 172 - 173 رقم 308.

ص: 228

في نفي الحديث

(1)

، فإذا كان يدّعي أن الحديث من حديث مجاهد، أو الأعمش، أو أبي معاوية ثم لا يعرفه الإمام أحمد وهو حافظ مطلع، دل على أن الحديث لا أصل له من حديث هؤلاء الأعلام، وأن هذا الراوي ـ أبو الصلت ـ هو المتفرد به.

2.

اعتمد على قرينة رواية أبي الصلت عن عبد الرزاق أحاديث لا أصل لها في إنكار هذا الحديث، حيث كان البلاء في تلك الروايات عن عبد الرزاق من أبي الصلت فكذلك في هذه الرواية عن أبي معاوية البلاء منه، ومن أجل ذلك قال في أبي الصلت هذا القول الشديد.

حكم الإمام يحيى بن معين: اختلفت الرويات عن يحيى بن معين في حكمه على هذا الحديث، فقال هنا في رواية ابن الجنيد: هذا حديث كذب ليس له أصل، لكنه أنكره من حديث عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد عن أبي معاوية، وقال عن عمر هذا: كذاب

(2)

. ولما ذكر أبو زرعة الرازي له رواية عمر بن إسماعيل لهذا الحديث قال له: "قل له: يا عدو الله متى كتبتَ أنت هذا عن أبي معاوية، إنما كتبتَ أنت عن أبي معاوية ببغداد، ولم يحدث أبو معاوية هذا الحديث ببغداد"

(3)

.

وقال عن أبي الصلت الهروي كما في رواية ابن الجنيد المذكورة آنفاً: "قد سمع وما أعرفه بالكذب"، فذكر له هذا الحديث من روايته فقال:"ما سمعته قط، وما بلغني إلا عنه"، وقال ابن الجنيد مرة أخرى: سمعت يحيى وذكر أبا الصلت الهروي فقال: "لم يكن عندنا من أهل الكذب، وهذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها"

(4)

.

(1)

ص 185.

(2)

وانظر أيضاً: الضعفاء للعقيلي 3/ 896، تهذيب الكمال 21/ 276.

(3)

الجرح والتعديل 6/ 99، وانظر: تهذيب الكمال 21/ 277.

(4)

سؤالات ابن الجنيد 25، وانظر: تهذيب الكمال 18/ 78.

ص: 229

وكذلك أنكره في رواية ابن زياد: قال يحيى بن أحمد بن زياد

(1)

: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أنا مدينة العلم" فأنكره جداً

(2)

، وفي رواية محمد بن عبد الله بن خميرويه

(3)

عن ابن زياد: سألته عن حديث أبي معاوية الذي رواه عبد السلام الهروي عنه عن الأعمش، فذكره

(4)

.

وقال عبد الخالق بن منصور: "سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت فقال: ما أعرفه، قلت له: إنه يروي حديث الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: أنا مدينة العلم وعلي بابها فقال: ما هذا بشيء"

(5)

.

فهذه الروايات عن يحيى كلها تفيد إنكاره للحديث.

وفي رواية القاسم بن عبد الرحمن الأنباري قال يحيى عن هذا الحديث: هو صحيح. قال الخطيب: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه

(6)

.

وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت عبد السلام بن صالح، فقلت ـ أو قيل له ـ: إنه حدّث عن أبي معاوية، عن الأعمش:"أنا مدينة العلم وعلي بابها" فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية، هذا أو نحوه

(7)

،

(1)

لم أقف على ترجمته.

(2)

تاريخ بغداد 11/ 205.

(3)

قال الذهبي: مسنِد الهراه، وثقه أبو بكر السمعاني سير أعلام النبلاء 16/ 311.

(4)

تاريخ بغداد 11/ 49.

(5)

تاريخ بغداد 11/ 49.

(6)

تاريخ بغداد 11/ 49 - 50.

(7)

تاريخ بغداد 11/ 50.

ص: 230

وزاد الحاكم في روايته: قال يحيى: وهو ـ أي محمد بن جعفر الفيدي ـ ثقة مأمون

(1)

، ولم يذكر الخطيب هذا التوثيق وقد روى الكلام من طريق الحاكم، عن أبي العباس الأصم، عن الدوري.

وفي رواية أبي علي صالح بن محمد جزرة أنه سئل عن أبي الصلت فقال: دخل يحيى بن معين ونحن معه على أبي الصلت فسلم عليه، فلما خرج تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت؟ فقال: هو صدوق، فقلت له إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأتي بابه"! فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش كما راه أبو الصلت

(2)

.

وقال ابن محرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي فقال: "ليس ممن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" فقال: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير قال: حدّث به أبو معاوية قديماً ثم كفّ عنه، وكان أبو الصلت رجلاً موسراً يطلب هذه الأحاديث ويكرم المشايخ وكانوا يحدثونه بها"

(3)

.

قال الخطيب محاوِلاً الجمع بين هذه الأقوال عن ابن معين: أحسب عبد الخالق سأل يحيى بن معين عن حال أبي الصلت ولم يكن يحيى إذ ذاك يعرفه، ثم عرفه بعدُ فأجاب إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن حاله، وأما حديث الأعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عن أبي معاوية عنه، فأنكره أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحيى عنه فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن

(1)

المستدرك 3/ 126 - 127.

(2)

المستدرك 3/ 127، وانظر نحو هذه الحكاية في تاريخ بغداد 11/ 50.

(3)

جزء معرفة الرجال ـ رواية ابن محرز 1/ 79 رقم 231.

ص: 231

أبي معاوية. ا. هـ

(1)

.

والملاحظ أن يحيى بن معين لم يصحح الحديث مطلقاً، إنما صححه من حديث أبي معاوية، وكذلك ما ذكره من المتابعة لأبي الصلت إنما ذكرها لينفي التهمة عن أبي الصلت. واعتبر ابن معين محمد بن جعفر الفيدي متابعاً لا سارقاً بقرينة الحكاية التي ذكرها عن ابن نمير أن أبا الصلت كان رجلاً موسراً فكان يتتبع هذه الأحاديث عند الشيوخ ويكرمهم فيحدثونه بها، والتي تدل على أن الحديث حديث أبي معاوية وقد كان حدّث أبا الصلت به. وعلى نفي التهمة بالكذب يحمل ما ورد عنه من توثيق أبي الصلت، فقد كان هذا منهجاً عنده. قال المعلمي: ابن معين ربما يطلق كلمة "ثقة" لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب. ا. هـ

(2)

.

وقد يقال: إذا كان يحيى ينفي التهمة عن أبي الصلت بناء على وجود من تابعه في الحديث عن أبي معاوية مما يدل على أن أبا معاوية قد حدّث بالحديث لماذا اتهمّ عمر بن إسماعيل بن مجالد؟ والجواب أن عمر بن إسماعيل إنما سمع من أبي معاوية ببغداد حيث سمع منه يحيى بن معين، وأبو معاوية لم يحدث بهذا الحديث ببغداد، إنما حدّث به قبل ذلك ثم كفّ عنه كما أفادته رواية ابن معين عن ابن نمير، فهذا وجه اتهامه لعمر بن إسماعيل، بخلاف أبي الصلت الذي سمع الحديث من أبي معاوية قديماً.

فهذا تحرير موقف ابن معين من هذا الحديث ومن أبي الصلت راويه. وبقي الآن النظر في موقف الإمامين أحمد وابن معين والموازنة بينهما. فالإمام أحمد حكم على الحديث بالنكارة بناء على أنه لا يُعرف عن أبي معاوية، والأمر الثاني

(1)

تاريخ بغداد 11/ 49.

(2)

التنكيل 1/ 72.

ص: 232

أن الذي تفرد به عن أبي معاوية معروف برواية أحاديث منكرة عن عبد الرزاق، فيحمل هذا الحديث على أنه من مناكيره. وقد وافق الإمامَ أحمد على جرح أبي الصلت غيرُ واحد من الأئمة: فأبو حاتم قال عنه: "لم يكن عندي بصدوق، وهو ضعيف ولم يحدث عنه" وأمر أبو زرعة أن يُضرب على حديث أبي الصلت وقال: "لا أحدّث عنه ولا أرضاه"

(1)

. وقال أحمد بن سيار المروزي الحافظ: "كان يعرف بكلام الشيعة وناظرته في ذلك لأستخرج مما عنده فلم أره يُفرط، ورأيته يقدم أبا بكر وعمر ويترحم على علي وعثمان، ولا يذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالجميل، وسمعته يقول: هذا مذهبي الذي أدين الله به، إلا أن ثم أحاديث يرويها في المثالب"

(2)

. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الساجي: يحدث بمناكير، هو عندهم ضعيف. وقال الدارقطني:"كان رافضياً خبيثاً. روى عن جعفر عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان إقرار بالقلب وعمل بالجوارح

" الحديث، وهو متهم بوضعه لم يحدث به إلا من سرقه منه فهو الابتداء في هذا الحديث"

(3)

. وقال ابن حبان: "يروي عن حماد بن زيد وأهل العراق العجائب في فضائل علي وأهل بيته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد"

(4)

. وقال ابن عدي: "ولعبد السلام هذا عن عبد الرزاق أحاديث مناكير في فضائل علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وهو متهم في هذه الأحاديث"

(5)

. وذكر ابن حبان أحاديث منكرة لعلي بن موسى الرِّضا فقال الحافظ ابن حجر: هي من رواية أبي الصلت هي وغيرها

(6)

.

(1)

الجرح والتعديل 6/ 48.

(2)

تهذيب الكمال 18/ 76.

(3)

انظر هذه الأقوال: تاريخ بغداد 11/ 51.

(4)

المجروحين 2/ 151.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1968.

(6)

تهذيب التهذيب 7/ 388 - 389. وانظر الأحاديث المجروحين 2/ 106.

ص: 233

وقد يقال إن المناكير التي رواها أبو الصلت عن عبد الرزاق كانت من الأحاديث الرديئة التي عند عبد الرزاق والتي أشار إليها المروزي في سؤاله، فتبرأ ساحة أبي الصلت منها، وقد كان الإمام أحمد ينكر ذلك ويقول: لم أسمع منها شيئاً. أما الإمام يحيى بن معين فكان يرى أن تلك الأحاديث قد كانت عند عبد الرزاق. فروى ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين وقيل له: إن أحمد ابن حنبل قال: إن عبيد الله بن موسى يُردّ حديثُه للتشيع فقال: كان والله الذي لا إله إلا هو عبد الرزاق أغلى في ذلك منه مئة ضعف، ولقد سمعتُ من عبد الرزاق أضعاف أضعاف ما سمعتُ من عبيد الله

(1)

. فيرى يحيى أن آفة هذه الأحاديث الرديئة عن عبد الرزاق منه لا من غيره، فتبرأ ساحة أبي الصلت منها كما برئت عنده من عهدة هذا الحديث عن أبي معاوية بما أثبته من تحديث أبي معاوية به. فإن سلّمنا هذا من الإمام يحيى بن معين فالسؤال هو ما الجواب عن المناكير التي رواها عن علي بن موسى الرضا؟ ومن أجل هذا قال المعلمي: من يأبي أن يكذّب أبا الصلت يلزمه أن يكذّب علي بن موسى الرضا وحاشاه. ا. هـ

(2)

.

وهناك إشكال في المتابعة التي ذكرها يحيى بن معين، وهو هل محمد بن جعفر الفيدي الذي تابع أبا الصلت روى هذا الحديث عن أبي معاوية مباشرة أو بواسطة؟ فقد ذكر ابن محرز عن يحيى بن معين أنه قال: حدثنا محمد بن جعفر العلاف الذي كان ينزل بفيد كوفي، قال: حدثنا محمد بن الطفيل، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره

(3)

. ويؤيد هذا ما رواه محمد بن أبي يحيى كما في المسألة التي ذكرها الخلال في صدر هذا المطلب أن

(1)

تهذيب الكمال 18/ 59 - 60.

(2)

من تعليقات المعلمي في تحقيقه لكتاب الفوائد المجموعة ص 308.

(3)

جزء معرفة الرجال ـ رواية ابن محرز 2/ 242 رقم 832.

ص: 234

يحيى بن معين ذكر أنه حدثه به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية، وهذا ظاهره مغاير لهذا الإسناد الذي ذكره ابن محرز. ومحمد بن أبي يحيى لم أدر من هو، ويروي في هذه المسألة عن الإمام أحمد وابن معين، ولم يذكره أبو يعلى في طبقات الحنابلة.

وروى الحاكم بإسناده عن محمد بن يحيى بن الضريس، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره

(1)

. ويؤيد هذا رواية صالح جزرة عن ابن معين أنه قال: قد روى هذا ذاك الفيدي، عن أبي معاوية، عن الأعمش كما رواه أبو الصلت. لكن في إسناد الحاكم محمد بن يحيى بن الضريس، وهو فيدي أيضاً وكوفي، ويروي عن محمد بن الطفيل ولم يُذكر محمد بن جعفر من الذين روى عنهم

(2)

. ومع هذا الإشكال فالذي يعتمد في متابعة أبي الصلت هو الحكاية التي ذكرها ابن نمير أن أبا معاوية كان يحدّث بالحديث ثم كفّ عنه.

(1)

المستدرك 3/ 127.

(2)

انظر: ترجمته في الجرح والتعديل 8/ 124. وانظر ترجمة محمد بن جعفر الفيدي في تهذيب الكمال 24/ 587.

ص: 235

‌المبحث الثاني: الإعلال بالطعن في الراوي ببدعة فيه

.

‌المطلب الأول: تعريف البدعة وأهلها

.

المعنى اللغوي: كل من أحدث شيئاً فقد ابتدعه، والاسم البِدْعة، والجمع البدع، ذكره في "جمهرة اللغة"

(1)

.

وقال الجوهري: "ابدعْتُ الشيء، اخترعته لا على مثال، والله تعالى بديع السموات والأرض. والبديع: المبتدِع، والبديع: المبتدَع

البدعة الحدث في الدين بعد الإكمال"

(2)

.

المعنى الشرعي: قال ابن رجب: "المراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه"

(3)

.

ويقال للمنتسبين والمنسوبين إلي شيء منها أهل البدع وأهل الأهواء. قال الجرجاني: "أهل الأهواء أهل القبلة الذين لا يكون معتقدُهم معتقدَ أهل السنة وهم الجبرية والقدرية والروافض والخوارج والمعطِّلة والمشبِّهة"

(4)

.

وقال اليماني: "أهل البدع والأهواء سموا بهذا الاسم لابتداعهم لأشياء ليست من الشريعة، وهوايتهم لأمور استحسنوها فدَعَوُا الناس إلى الدُّخول فيها وهي بعيدة من الحق الأنور والشرع الأظهر" ثم ذكر أصنافهم

(5)

.

(1)

1/ 245.

(2)

الصحاح 3/ 1183 - 1184.

(3)

جامع العلوم والحِكم 2/ 118.

(4)

التعريفات ص 57.

(5)

عقائد الثلاث والسبعين فرقة 1/ 10.

ص: 237

ووجه ذكر هذا المبحث في فصل الطعن في الراوي بما يخل بعدالته، أن الراوي الموصوف ببدعة إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق

(1)

، وكلا الأمرين منافٍ لصفة العدالة.

(1)

هدي الساري ص 385.

ص: 238

‌المطلب الثاني: التمييز بين البدعة التي تردّ بها رواية الراوي المتصف بها من غيرها

.

اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً في مسألة السماع من أهل البدع والأهواء والاحتجاج بمروياتهم، فمنعت طائفة من قبول روايتهم، وهو مروي عن ابن سيرين، وحكي نحوه عن الحسن البصري، ومالك، وابن عيينة، والحميدي وغيرهم

(1)

.

ومأخذ هذا المذهب هو أن أهل الأهواء إما أن يكونوا ممن يكفرون أو يفسقون، وأيضاً في الرواية عنهم ترويج لمذهبهم، والمطلوب مع أهل الأهواء هجرانهم وإخماد ذكرهم؛ ثم إن الهوى والبدعة لا يؤمن معهما الكذب، لا سيما إذا كان ظاهر الرواية تعضد مذهب المبتدع

(2)

، وقد صرح بعض أهل الأهواء بعد التوبة بأنهم كانوا إذا هووا أمراً صيروه حديثاً

(3)

.

والمذهب الثاني: قبول روايتهم إذا لم يتَّهموا بالكذب واستحلاله، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، ويحيى القطان، وعلي بن المديني. قال ابن المديني:"لو تركت أهل البصرة للقدر، وتركت أهل الكوفة للتشيع لخرِبتِ الكتب"

(4)

.

والمذهب الثالث: التفريق بين الداعية وغيره، فيقبل رواية غير الداعية إلى بدعته، وترد رواية الداعية، وقد نسب هذا القول إلى ابن المبارك، وابن مهدي،

(1)

انظر: الكفاية في علم الرواية ص 194 وما بعدها، وشرح علل الترمذي 1/ 356.

(2)

انظر: شرح علل الترمذي 1/ 357، ضوابط الجرح والتعديل ص 97.

(3)

الجرح والتعديل 2/ 32 - 33.

(4)

الكفاية في علم الرواية ص 202، 206، وشرح علل الترمذي 1/ 356.

ص: 239

وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين

(1)

.

‌مذهب الإمام أحمد:

اختلف العلماء في التخريج على النصوص الواردة عن الإمام الإمام في هذا الموضوع: فبعضهم يخرج كلامه على التفريق بين أنواع البدع، وعلى التفريق بين الحاجة إلى الرواية وعدمها، وعلى التفريق بين الداعي والساكت، وبعضهم يقصر على أمر واحد من هذه فقط. سأورد النصوص التي وقفت عليها عن الإمام أحمد ثم تخريجات أصحابه في هذه المسئلة.

‌التجهم:

ويدل على أنها من البدع المغلظة تكفير الإمام أحمد لمن يقول بقولهم.

قال الميموني: "قال سألته ـ يعني أبا عبد الله ـ فيما بيني وبينه واستفهمته واستثبته فقلت: يا أبا عبد الله، قد بُلينا بهؤلاء الجهمية، ما تقول فيمن قال: إن الله ليس على العرش؟ قال: كلامهم كلهم يدور على الكفر. قلت: ما تقول فيمن قال إن الله لم يُكلِّمْ موسى؟ قال: كافر لا شكَّ فيه. قلت: من قال إن أسماء الله مُحدَثَة؟ قال: كافر. ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة فقد زعم أن الله مخلوق. وأقبل يُعظِّم أمرَهم ويُكفِّرهم وقرأ: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126]. وذكر آية أخرى. قلت: من قال: إن الله كان ولا علم؟ فتغيّر وجهُهُ في هذا كلُّه وكان في هذا أشدَّ تَغيراً وأكثر غَيْظاً ثم قال لي: كافر وقال في كل يوم أزداد في القوم بصيرة"

(2)

.

وأما كلامه فيمن يقول من الرواة بقول جهم:

قال عبد الله: "سألت أبي عن الحكم بن عبد الله أبي مطيع البلخي فقال: لا

(1)

انظر: شرح علل الترمذي 1/ 356.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 197 رقم 349.

ص: 240

ينبغي أن يُروى عنه، حكوا عنه أنه كان يقول: الجنة والنار خلقتا، فستفنيان، هذا كلام جهم، لا يُروى عنه شيء"

(1)

.

وقال عبد الله أيضاً: "سألت أبي عن سليم بن مسلم؟ فقال: قد رأيته بمكة ليس يسوى حديثه شيئاً، ليس بشيء قال أبي: وكان يتهم برأي جهم"

(2)

. فهذا جمع بين رأي جهم ونكارة الحديث، يدل عليه قوله: ليس يسوى حديثه شيئاً.

فقد عمّم النهي عن الرواية عمن نسب إلى رأي جهم، ولم يقيّد بالداعية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"لم أقف له على تقييد بالداعية في الجهمي"

(3)

.

‌التشيّع:

جاء عنه أنه ترك أحاديث قوم من المنتسبين إلى التشيع، منهم:

أبو مريم عبد الغفار بن القاسم الأنصاري الكوفي

(4)

.

قال محمد بن عوف الحمصي: "ذكر لأحمد بن حنبل أبو مريم فقال: ليس بثقة، كان يحدث ببلايا في عثمان >، وعامة حديثه بواطيل"

(5)

.

فتكلم فيه لهواه ومن أجل حديثه، فقال: عامة حديثه بواطيل.

لكن ذكر الأثرم قال: "قلت لأبي عبد الله: أبو مريم من أين جاء ضعفه؟ من قِبل رأيه، أو من قبل حديثه؟ قال: من قِبل رأيه، ثم قال: وقد حدّث ببلايا في

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 299 رقم 5331.

(2)

المصدر نفسه 3/ 393 رقم 5726.

(3)

المسودة ص 239.

(4)

قال ابن معين ليس بشيء التاريخ ـ برواية الدوري 3/ 366 رقم 1778.

قال أبو حاتم: متروك الحديث، كان من رؤساء الشيعة، وذكر أن شعبة كان حسن الرأي فيه. وقال أبو زرعة: لين الجرح والتعديل 6/ 53.

قال الدارقطني: متروك سؤالات البرقاني 316.

(5)

الجرح والتعديل 6/ 53.

ص: 241

عثمان، أحاديث سوء"

(1)

.

فجعل علة ضعفه سوء مذهبه.

ومنهم: يونس بن خباب الأسيدي

(2)

.

قال عبد الله: "سألته عن يونس بن خباب؟ فقال: كان خبيث الرأي. فقلت له: كيف هو في الحديث؟ فقال حدثنا عنه عباد"

(3)

.

قال المرُّوذي: "وذكر ـ يعني لأبي عبد الله ـ يُونُس بن خبّاب فتكلم فيه ولم يرضه وقال: هذا كان يقع في عثمان"

(4)

.

ومنهم عبيد الله بن موسى العبسي

(5)

:

قال المروذي: "وسألته عن عبيد الله بن موسى، أخرجتَ عنه شيئاً؟ قال: ربما أخرجت عنه، وربما ضربت عليه، حدّث عن قوم غير ثقات، فإن كان من حديث الأعمش فعلى ذاك"

(6)

.

وقال الميموني: "ذكر عنده عبيد الله بن موسى فرأيته كالمنكر له، قال: كان صاحب تخليط، وحدث بأحاديث سوء، أخرج تلك البلايا فحدث بها. قيل له: فابن فُضيل؟ قال: لم يكن مثله، كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الردية"

(7)

.

(1)

الضعفاء للعقيلي 3/ 853.

(2)

لم يحدث عنه يحيى ولا عبد الرحمن. وقال ابن معين: لا شيء، وعنه أيضاً: رجل سوء، كان يشتم عثمان. وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث تهذيب الكمال 32/ 506.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 419 رقم 910.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 80 رقم 108.

(5)

وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والعجلي تهذيب الكمال 19/ 168.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 174 رقم 309.

(7)

تهذيب الكمال 19/ 168.

ص: 242

فتكلم فيه الإمام أحمد في حديثه عن غير الأعمش، وأنه روى أحاديث ردية تدل على سوء مذهبه، وذكر أنه ربما أخرج حديثه وربما تركه، وهذا في خاصة نفسه، أما في غيره فقد روي عنه أنه كان ينهى عنه.

قال العقيلي: "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت أبي يقول: أردت الخروج إلى كوفة، فأتيت أحمد بن حنبل أودِّعه فقال لي: يا أبا محمد، لي إليك حاجة: لا تأت عبيد الله بن موسى، فإنه بلغني عنه غلوٌ. قال أبي: فلم آته"

(1)

.

فهؤلاء كلهم فيهم غلوٌ في التشيع، لأنهم تعرضوا لعثمان >، واعتبر الإمام أحمد هذا من الغلو في التشيع، وهكذا هو في عرف المتقدمين

(2)

.

وقد جاء سبب آخر لتركه الرواية عن عبيد الله بن موسى، فروى ابن أبي يعلى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:"قيل لأبي: لم كتبت عن عبيد الله بن موسى ثم تركت الرواية عنه، وكتبت عن عبد الرزاق ورويت عنه، وهما على مذهب واحد؟ فقال: أما عبد الرزق فما سمعنا منه مما قيل عنه شيئاً، ولم يبلغنا أنه كان يدعو إلى مذهبه. وأما عبيد الله فإنه كان يدعو إلى مذهبه ويُجاهر به، فتركت الرواية عنه لذلك"

(3)

.

فعلل بكونه داعية ومجاهراً بمذهبه.

(1)

الضعفاء للعقيلي 2/ 876.

(2)

قال الذهبي: الشيعي الغالي في زمان السلف وعُرفهم هو من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً > وتعرض لسبهم ميزان الاعتدال 1/ 6.

(3)

طبقات الحنابلة 1/ 182.

ص: 243

وممن حسّن حاله ولم يتكلم فيه بجرحة في الرواية:

تليد بن سليمان المحاربي

(1)

:

قال المروذي: قال أبو عبد الله: "تليد بن سليمان كان مذهبه التشيّع، ولم ير به بأساً"

(2)

.

وقال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله، وهو أحمد بن حنبل، ذكر تليد بن سليمان فقال: كتبت عنه حديثاً كثيراً عن أبي الجحاف".

ومنهم علي بن بَذِيمة السُّوائي

(3)

:

قال عبد الله: "سألته ـ يعني أباه ـ عن علي بن بذيمة؟ فقال: صالح الحديث، ولكن كان رأساً في التشيُّع"

(4)

، فذكر حسن حديثه مع تشيّعه. ولم يرد عنه ما يبين هل هو غالي أو لا؟

ومنهم فطر بن خليفة المخزومي مولاهم الكوفي

(5)

:

قال عبد الله: "سألت أبي عن فطر بن خليفة، فقال: ثقة صالح الحديث، حديثه حديث رجل كيِّس، إلا أنه يتشيّع"

(6)

.

(1)

قال ابن معين: ليس بشيء. وقال في موضع آخر: كذاب يشتم عثمان، وكل من شتم عثمان، أو طلحة، أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا. هـ. وقال أبو داود، ويعقوب الفسوي: رافضي خبيث. وقال صالح الجزرة: لا يحتج بحديثه، وليس عنده كبير شيء. وضعفه النسائي تاريخ بغداد 7/ 138، تهذيب الكمال 4/ 322 - 323.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 115 رقم 189.

(3)

وثقه ابن معين، وابن سعد، وأبو زرعة، والعجلي، والنسائي تهذيب الكمال 20/ 329.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 116 رقم 4490.

(5)

وثقه ابن معين، والنسائي، والعجلي. وقال أبو حاتم: صالح الحديث تهذيب الكمال 23/ 314 - 315.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 443 رقم 993.

ص: 244

وقال عبد الله أيضاً: "قال أبي: كان فطر عند يحيى ثقة، ولكنه خشبي

(1)

مفرط"

(2)

.

وقال أبو طالب: "وسئل أبو عبد الله عن فطر ومحل، فقال: فطر كان يغلو في التشيع، ومحل قليل الحديث، فطر أكثر حديثاً، ومحل كان مكفوفاً ثقة"

(3)

.

فهذا قد وثقه مع غلوه في التشيع وإفراطه فيه، وصنيعه يدل على أن توثيقه من أجل استقامة حديثه، فإنه كان له حديث كثير، فيمكن سبر مروياته واستبانة أمره في الرواية، فحكم بأن حديثه حديث رجل كيّس.

ومنهم عبد الرحمن بن صالح الأزدي

(4)

:

روى الخلال عن يعقوب بن يوسف المطوعي قال: "كان عبد الرحمن ابن صالح الأزدي رافضياً، وكان يغشى أحمد بن حنبل فيقرِّبه ويُدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن رافضي، فقال: سبحان الله! رجلٌ أحب قوماً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبهم؟ هو ثقة"

(5)

.

ويقال في هذا لم يتبين للإمام أحمد حالته في الرفض، وإنما عرفه بصدق

(1)

أوله خاء معجمة مفتوحة وبعد الشين المعجمة باء معجمة بواحدة، صنف من الرافضة يقال لهم الخشبية. الإكمال لابن ماكولا 3/ 262.

(2)

المصدر نفسه 2/ 338 رقم 2497، وانظر: الضعفاء للعقيلي 3/ 1150.

(3)

المعرفة التاريخ 2/ 179، الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2056.

(4)

قال عنه ابن معين: لا بأس به. وقال أيضاً: ثقة، صدوق شيعي، لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب في نصف حرف. وقال أبو حاتم، وصالح بن محمد: صدوق. وقال أبو القاسم البغوي: سمعته يقول: أفضل أو خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.

وقال الآجري عن أبي داود: لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال موسى بن هارون: كان ثقة، وكان يحدث بمثالت أزاوج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال في موضع آخر: شيعي محترق تهذيب الكمال 17/ 181 - 182.

(5)

تاريخ بغداد 10/ 262.

ص: 245

حديثه، ومحبته لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم بموجب ذلك.

فهؤلاء وثقهم بناء على حسن حديثهم واستقامته، مع أن في بعضهم غلواً في التشيع، مثل فطر بن خليفة، وكذا تليد. أما تليد فلم يوافق الإمام أحمد على توثيقه، ولعله ممن لم يتبين له أمره، فقد اقتصر على وصفه بالتشيع، مما يدل على أنه لم يتبين له غلوه في ذلك، وقد عرف ذلك غيره. وأما فطر بن خليفة فقد وثقه غير الإمام أحمد كما تقدم، ولم يوصف لدى أحد منهم بالغلو في التشيع، إلا ما جاء عن الإمام أحمد. والذي يظهر أن العبرة فيه استقامة حديثه بغض النظر عن رأيه، فإن ذلك دليل على صدقه وتحريه، ومن أجل ذلك قبل الإمام أحمد حديثه ووثقه ووصف حديثه بأنه حديث رجل كيّس.

‌القدر:

أما القدرية فقد وثق ثور بن يزيد الكلاعي

(1)

وقال: "كان يرى القدر وهو ثقة في الحديث"

(2)

.

وقيل له: إبراهيم بن نافع

(3)

؟ قال: "ثقة، وشبل

(4)

ثقة

أصحاب ابن أبي نجيح

(5)

، ولكن كان رأيهم القدر"

(6)

.

(1)

قال القطان: ما رأيت شامياً أوثق من ثور بن يزيد. وقال وكيع: كان ثور صحيح الحديث. ووثقه أيضاً ابن معين، والنسائي. وقال أبو حاتم: صودق حافظ. وقال ابن عدي: مستقيم الحديث تهذيب الكمال 4/ 422، 423، 427، 428.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 185 رقم 1594.

(3)

إبراهيم بن نافع المخزومي المكي. قال ابن عيينة: كان حافظاً. وثقه أحمد وابن معين. تهذيب الكمال 2/ 228.

(4)

شبل بن عباد المقرئ المكي. وثقه أحمد، وابن معين، وقال أبو داود: ثقة إلا أنه يرى القدر. وأخرج له البخاري 12/ 358.

(5)

عبد الله بن أبي نجيح أبو يسار المكي. وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي. قال أبو حاتم إنما يقال في ابن أبي نجيح القدر، وهو صالح الحديث تهذيب الكمال 16/ 217.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 234 رقم 229.

ص: 246

وقال في بُرد بن سنان

(1)

: "ليس به بأس، ولكن كان يرى القدر، زعموا أنهم طلبوا القدرية بدمشق، ففرّ إلى البصرة فسمع البصريون منه"

(2)

.

وقال في أبي قطن عمرو بن الهيثم البصري

(3)

: "ما كان به بأس"، وحدث عنه يوماً فقال له رجل: إن هذا بعد ما رجع من عندكم بالبصرة تكلم بالقدر وناظر عليه، فقال أحمد:"نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية"

(4)

.

وفي رواية أخرى: قيل لأحمد بن حنبل: سمعت من أبي قطن القدري؟ قال: "لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه"

(5)

.

وقال أبو داود: "قلت لأحمد: يُكتب عن القدري؟ قال: إذا لم يكن داعية"

(6)

.

فيؤخذ من هاتين الروايتين التفريق في القدرية بين الداعية وغيره.

والجمع بين هاتين الروايتين وما تقدم عنه في أبي قطن من الإطلاق في

(1)

برد بن سنان الشامي، سكن البصرة. وثقه ابن معين، والنسائي. وقال يزيد بن زريع: ما رأيت شامياً أوثق من بُرد. وقال أبو زرعة: كان صدوقاً في الحديث. وضعفه علي بن المديني تهذيب الكمال 4/ 46.

(2)

المصدر نفسه ص 256 رقم 274.

(3)

وثقه ابن معين، وابن المديني. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الجرح والتعديل 6/ 268.

وكذلك وثقه الشافعي، وقال أحمد: كان ثبتاً تهذيب الكمال 22/ 281 - 282.

(4)

تاريخ بغداد 12/ 200.

(5)

الكفاية في علم الرواية ص 204، وهي تخالف الرواية الأولى، وكلاهما من طريق إبراهيم الحربي، لكن هذه من طريق عثمان بن عبدويه، وقد وثقه الخطيب تاريخ بغداد 11/ 299. والرواية الأولى من طريق محمد بن أيوب بن المعافى، قال فيه الخطيب: كان صالحاً زاهداً، ولم يذكر حاله في الرواية تاريخ بغداد 2/ 84.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 198 رقم 135.

ص: 247

التحديث عن القدرية أن الحاجة إلى الرواية هي التي تقتضي التحديث عنهم في هذه الحالة، وأما ترك الرواية عن الداعية منهم فمن باب هجران المبتدع المعلن بالبدعة.

‌الإرجاء:

معنى الإرجاء هو التأخير، وهو على قسمين: تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك

(1)

. وذكر شيخ الإسلام أن المرجئة ثلاثة أصناف: فالصنف الأول هم القائلون بأن الإيمان مجرد ما في القلب، ومنهم من يدخل فيه أعمال القلوب كأكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم بن صفوان وأتباعه. والصنف الثاني هم القائلون بأن الإيمان مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والصنف الثالث: من يقول الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهو المشهور عن أهل الفقه والعبادة من المرجئة

(2)

.

فمن المرجئة من ترك الإمام أحمد حديثه مثل محمد بن أبان الجُعفي. قال أحمد في رواية أبي طالب: "كان يقول بالإرجاء، وكان رئيساً من رؤسائهم، فترك الناس حديثه من أجل ذلك"

(3)

.

ومنهم من كان ينهى عنه، مثل معلّى بن منصور الرازي

(4)

. قال ابن هانئ:

(1)

هدي الساري ص 459.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى 7/ 195.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2139. وضعفه ابن معين، والنسائي. وقال البخاري: يتكلمون في حفظه، ليس بالقوي الموضع نفسه.

(4)

وثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، وقال أبو حاتم: كان صدوقاً في الحديث، وكان صاحب رأي. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لأني لم أجد له حديثاً منكراً تهذيب الكمال 28/ 295 - 296.

ص: 248

"سمعت أبا عبد الله يقول: كان معلّى معانداً، كان مرجئاً، لا يحل لأحد أن يُحدِّث عن معلَّى"

(1)

. وسئل: هل كتبت عنه شيئاً؟ فقال: "لا، ولا حرفاً"

(2)

. وقال عنه: "كان يحدِّث بما يُوافق الرأي"

(3)

، فأشار إلى جرحه في حديثه بالإضافة إلى رأيه.

ووثق طائفة أخرى، منهم سالم الأفطس

(4)

، وعثمان بن غِياث الراسبي، قال فيه:"ثقة ثبت، ثبت الحديث، إلا أنه كان مرجئاً"

(5)

. وقال في إبراهيم بن طهمان: "هو صحيح الحديث مقارب إلا أنه كان يرى الإرجاء"

(6)

.

وكتب عن طائفة أخرى، منهم محمد بن مُيسِّر الجعفي، قال فيه:"هو صدوق، ولكن كان مرجئاً، قيل له كتبت عنه؟ قال: نعم"

(7)

.

وظاهر هذه الرواية أنه لا يفرق في المرجئة بين الداعية وغير الداعية، لكن ترك حديث المعاندين منهم، والرؤساء منهم.

قد روى أبو داود أنه سمع أحمد يقول: "احتملوا المرجئة في الحديث"

(8)

.

فهنا أطلق ولم يفرق بين الداعية وغيره، ولا بين الغالي وغيره. فيجمع بين هذا وما تقدم عنه من ترك حديث الغالي منهم بأن الترك من باب هجران المبتدع

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ رقم 2301.

(2)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1360 - 1361.

(3)

تهذيب الكمال 28/ 293.

(4)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 305 رقم 390، العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 209 رقم 2036.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 186 رقم 1948.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 359 رقم 559.

(7)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 359 رقم 560.

(8)

المصدر نفسه ص 198 رقم 136.

ص: 249

وإخماد ذكره.

لكن روى المرّوذي قال: "سألته عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، كيف هو؟ قال: كان مرجئاً، قد كتبت عنه

وكان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً"

(1)

.

قال شيخ الإسلام: "وهذا إذا كان رواية أخرى في المرجئة، وإلا فهو إخبار عن حاله نفسه، وليس كل من لم يأخذ عنه هو نهى غيره عنه، ولا منع كون روايته حجة"

(2)

.

ويؤيد كون ذلك رواية أخرى عن الإمام أحمد ما رواه الخطيب من طريق محمد بن عبد العزيز البيوردي قال: "سألت أحمد بن حنبل: أيكتب عن المرجئ والقدري؟ قال: نعم، يكتب عنه إذا لم يكن داعياً"

(3)

. فخالف رواية أبي داود. وقد قال الخلال فيه: روى عن أبي عبد الله مسائل صالحة حِساناً أغرب فيها. ا. هـ

(4)

. فيحتمل أن تكون هذه من غرائبه، والله أعلم.

أما تخريجات أصحاب الإمام أحمد فقال الحافظ ابن رجب: "البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقاً، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفيفة كالإرجاء هل تقبل معها الرواية مطلقاً أو ترد عن الداعية؟ على روايتين"

(5)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وكلام أحمد يفرّق بين أنواع البدع، ويفرق بين الحاجة إلى الرواية عنهم

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 124 رقم 213.

(2)

المسودة ص 239.

(3)

الكفاية في علم الراوية ص 205.

(4)

طبقات الحنابلة 1/ 305.

(5)

شرح علل الترمذي 1/ 358.

ص: 250

وعدمها، كما يفرق بين الداعي والساكت، مع أن نهيه لا يتقضي كون روايتهم ليست بحجة، لما ذكرته من أن العلة الهجران، ولهذا نهى عن السماع من جماعة في زمنه ممن أجاب في المحنة، وأجمع المسلمون على الاحتجاج بهم، وهو في نفسه قد روى عن بعضهم؛ لأنه كان قد سمع منهم قبل الاتبداع، ولم يطعن في صدقهم وأمانتهم، ولا أنكر الاحتجاج بروايتهم، وكذلك الخلال ترك الرواية عن أقوام لنهي المرّوذي، وروى عنهم بعد موته، وذلك أن العلة استحقاق الهَجر عند التارك، واستحقاق الهجر يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من أمر أصحابه بالصلاة عليه، وكذلك لما قدم عليه أبو سفيان بن الحارث، وابن أبي أمية أعرض عنهما، ولم يأمر بقية أصحابه بالإعراض عنهما، بل كانوا يكلمونهما، والثلاثة الذين خُلِّفوا لما أمر المسلمين بهجرهم، لم يأمرهم بفراق أزواجهم إلا بعد ذلك، وهذا باب واسع

وما علمت لأحمد كلاماً بالنهي عن جميع أنواع المبتدعة حتى المرجئة إذا لم يكونوا دُعاة، كما يقتضيه تعميم أبي الخطاب، كما أنه في الجهمي لم أقف له بعدُ على تقييد بالداعية"

(1)

.

وكلامه هذا في غاية الحسن، رحمة الله عليه.

ومما يشهد لكون نهيه عن الرواية لا يقتضي كون روايتهم ليست بحجة، وأن ذلك من باب الهجران أن كثيراً ما يسأله تلاميذه إذا قال في الراوي إنه متروك الحديث: أتركته لهوى فيه؟ فيقول: لا، بل كان منكر الحديث، كما حصل ذلك في كلامه في أبان بن أبي عياش

(2)

، وفي الحسن بن عمارة

(3)

. وعليه فلا يحمل نهيه عن الرواية عن شخص لبدعة فيه على عدم الاحتجاج بروايته إلا إذا

(1)

المسودة 238 - 239.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 295.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 700.

ص: 251

وجدت قرينة تدل على ضعف حديثه.

إعلاله لأحاديث الرواة الموصوفين ببدعة فيهم:

فمنها:

قال مهنا: "سألت أحمد عن حديث الأعمش، عن أبي وائل، أن معاوية لعب بالأصنام. فقال: ما أغلظ أهل الكوفة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصحح الحديث، وقال: تكلم به رجلٌ من الشيعة"

(1)

.

لم أقف على هذا الأثر، والشاهد فيه أن الإمام أحمد لم يصححه، لأنه يرجع أصله إلى رواية رجل من الشيعة، ولا يؤتمن على ما يرويه مما يقوي به مذهبه الخبيث.

قال الأثرم: "وحدثنا أبو عبد الله بحديث جسر كذا، عن رباح كذا، عن أبي أيوب أنه جاء إلى عليّ ومعه رهط من الأنصار فقالوا: السلام عليك يا مولانا فلما فرغ منه قال: الكوفيون يجيئون بالعجائب"

(2)

.

وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند

(3)

قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حَنَش بن الحارث بن لقيط النخعي الأشجعي، عن رياح بن الحارث قال: جاء رهطٌ إلى علي بالرَّحبَة فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قومٌ عرب. قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ غدير خُمٍّ يقول: "من كنتُ مولاه فإن هذا مولاه"، قال رياح:"فلما مضوا تبعتُهم فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: نفرٌ من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري".

(1)

المنتخب من العلل للخلال ص 227 ح 134.

(2)

المنتخب من العلل للخلال ص 206 رقم 116.

(3)

39/ 541 - 542 ح 23563.

ص: 252

ورواه ابن أبي عاصم

(1)

، والطبراني

(2)

، من طريق شريك، عن حنش ابن الحارث به. ورواه الطبراني من وجه آخر عن شريك، عن الحسن بن الحكم، عن رياح بن الحارث به. قال الهيثمي: ورجاله ثقات

(3)

. وقال الألباني: هذا إسناد جيد رجاله ثقات

(4)

.

وأشار الإمام أحمد إلى استنكاره، فإن قوله: يجيئون بالعجائب إشارة إلى أنه منكر. وأشار إلى أن علة النكارة كونه من رواية الكوفيين وهم معروفون بالتشيّع، وهذا الحديث مما يقوي مذهبهم.

ورياح بن الحارث النخعي الكوفي تابعي، سمع علياً وابنه الحسن بن علي. ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، والذهبي، وابن حجر

(5)

.

ومنها:

قال الأثرم: وحدثنا بحديث عبد الملك، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إني قد تركت فيكم الثقلين". فلما فرغ منه قال: أحاديث الكوفيين هذه مناكير

(6)

.

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد

(7)

من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من

(1)

السنة 2/ 590 ح 1355.

(2)

المعجم الكبير 4/ 173 ح 4502.

(3)

مجمع الزوائد 9/ 104.

(4)

سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 340.

(5)

الثقات 4/ 238، معرفة الثقات 1/ 365، الكاشف 1599، تقريب التهذيب 1983.

(6)

المنتخب من العلل للخلال ص 206 رقم 117.

(7)

المسند 17/ 308 ح 11211.

ص: 253

السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، إلا أنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض". وأخرجه ابن أبي عاصم

(1)

، وأبو يعلى

(2)

، والطبراني

(3)

.

ورواه الإمام أحمد وغيره من طرق أخرى عن عطية العوفي به

(4)

.

وربما استدل بوجود الراوي الموصوف بالبدعة في الإسناد لرد الحديث من وجه آخر، وهو أن يكون متن الحديث يناقض مذهب الراوي، فيستدل بذلك على استبعاد أن يكون قد روى ذلك الحديث، مثال ذلك:

قال الخلال: "أخبرنا محمد بن ياسين بن بشير بن أبي طاهر المديني، قال: كتب إليّ إبراهيم بن يماني، أن سل لي أحمد بن حنبل عن حديث رواه عبيد الله ابن موسى، عن الثوري، عن الأجلح، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب معاوية فقد أحبني، ومن أبغض معاوية فقد أبغضني" فكتب إلي أني سألت أحمد فقال: الأجلح يتشيع، كيف يروي مثل هذا؟ وقال: لو رواه شامي لكان، فأما أهل الكوفة فلا"

(5)

.

لم أقف على هذا الحديث، وفي إعلال الإمام أحمد له من هذا الوجه الذي ذكره إبراز لدقة نظره، حيث استدل على براءة ساحة الأجلح من رواية هذا الخبر بأنه حديث جاء في فضل معاوية، ويُستبعد أن يروي مثل هذا راوٍ شيعي مثل الأجلح، لأن المعروف أن الرواة الشيعة يروون ما فيه مدح وفضيلة لأهل البيت عادة، وما فيه ذم ونقيصة لمعاوية وأتباعه. فهو يرى بهذا أن الحديث ليس من

(1)

السنة ح 1553.

(2)

مسند أبي يعلى ح 1140.

(3)

المعجم الكبير ح 2678.

(4)

انظر: ح 11104، ح 11131، وكذا ابن أبي عاصم ح 1554، وابن الجعد ح 2711، وأبو يعلى ح 1021، 1027، والطبراني ح 2679.

(5)

المنتخب من العلل للخلال ص 232 رقم 140.

ص: 254

حديث الأجلح، وإنما أخطأ فيه أحد الرواة ممن فوقه فألصقه به خطأ ووهماً.

ويبدو أن ذلك ممن دون عبيد الله بن موسى العبسي، لأن عبيد الله أيضاً شيعي، بل غالٍ في التشيع كما سلف، فيبعد أن يرويه للتعليل المذكور نفسه.

ص: 255

‌المطلب الثالث: موقف الإمام أحمد من الرواية عمن أجاب في محنة خلق القرآن

.

قال أبو زرعة الرازي: "كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمّار

(1)

، ولا أبي معمر

(2)

، ولا يحيى بن معين، ولا أحد ممن امتحن فأجاب"

(3)

.

وكان الإمام أحمد قد روى عن علي بن المديني، لكنه لم يحدث عنه بعد المحنة. قال عبد الله ـ إثر حديث رواه أحمد من طريق ابن المديني ـ:"وحدثناه أبي عن علي قبل أن يُمتحن بالقرآن"

(4)

.

وتبعه على ذلك تلميذه أبو زرعة الرازي، فذكر ابن أبي حاتم أنه ترك الرواية عن علي بن المديني بعد المحنة، وأما أبو حاتم، فكان يروي عنه لنزوعه عما كان منه. قال أبو زرعة في علي بن المديني: لا نرتاب من صدقه

(5)

.

فهذا يدل على أن ترك الرواية عن هؤلاء ليس من باب عدم الاحتجاج بمروياتهم ولا باب الإنكار لحديثهم، وإنما هو من باب الهجران. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن نهي الإمام أحمد عن الرواية عن الذين أجابوا في محنة

(1)

عبد الملك بن عبد العزيز أبو نصر التمّار ت 218 هـ. وثقه أبو داود، والنسائي. قال الخطيب: كان عابداً زاهداً تاريخ بغداد 10/ 420.

(2)

إسماعيل بن إبراهيم بن معمر الهذلي أبو معمر القطيعي ت 236 هـ. قال ابن سعد: صاحب سنة وفضل وخير، وهو ثقة ثبت. ووثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق الطبقات الكبرى 7/ 95، الجرح والتعديل 2/ 157، تهذيب الكمال 3/ 21 - 23.

(3)

تاريخ بغداد 6/ 271.

(4)

المسند 39/ 441.

(5)

الجرح والتعديل 6/ 193.

ص: 256

خلق القرآن كان من باب الهجران، وليس من باب إنكار الاحتجاج بروايتهم، فقد أجمع المسلمون على الاحتجاج بهم، وهو في نفسه قد روى عن بعضهم؛ لأنه كان قد سمع منهم قبل الابتداع، ولم يطعن في صدقهم وأمانتهم

(1)

.

(1)

انظر: المسودة ص 238.

ص: 257

‌الفصل الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بما يُخلُّ بضبطه

ص: 259

‌المبحث الأول: الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي

.

إن أهل الاستقراء لمناهج أئمة هذا الشأن قد قسموا رواة الأخبار من حيث قبول مروياتهم وردها إلى أربعة أقسام

(1)

:

القسم الأول: المتهمون بالكذب، الذين لا تجوز الرواية عنهم، والمحكوم على مروياتهم بالوضع والبطلان، وقد سبق الكلام في أحاديث هذا النوع من الرواة.

القسم الثاني: من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، وغلب على روايته مخالفة روايات أهل الحفظ والرضا، ولا تكاد توافقها، وذلك لغفلته وشدة سوء حفظه، وسيأتي الكلام على هذا القسم في مبحث خاص

(2)

.

القسم الثالث: أهل الصدق والحفظ، والغالب عليهم الاستقامة في الحديث والإتقان لما نقلوا، ويندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل، فهؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج بهم، وسيأتي الكلام على ما يقع في أحاديثهم من العلل الخفية في باب خاص.

القسم الرابع: أهل صدق وحفظ أيضاً، ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيراً، لكن ليس هو الغالب عليهم، فهذا القسم هو الذي سيكون الحديث فيهم بالأصالة في هذ المبحث.

(1)

انظر تقسيم الحافظ ابن رجب شرح علل الترمذي 1/ 397. وتكلم الإمام مسلم في أقسام الرواة في مقدمة صحيحه 1/ 5 - 7، وكذلك الإمام الترمذي في كتاب العلل في آخر الجامع 5/ 694 - 705.

(2)

المبحث الثالث من هذا الفصل ص 487.

ص: 261

وهذا القسم إنما جاء الضعف عليهم من قبل حفظهم، فهو أمر راجع إلى الإخلال بصفة الضبط المشترط توفرها لقبول الأحاديث، فقد كان يقع الاختلاف في حديثهم، فيحدثون مرة هكذا ومرة هكذا، فيضطربون في رواية الحديث الواحد، وما ذلك إلا لأن أهل العلم وحملته فيما مضى كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع، فمع كثرة المرويات وأسانيدها لا بد لمن لم يوصف بقوة الحفظ وشدة التيقظ أن تقع الأغلاط والأخطاء في مروياته، لكن العبرة بالغالب، فمن كان الغالب على حديثه السلامة والاستقامة فهو من أهل الاحتجاج المطلق، ومن كان الغالب على حديثه الغلط والخطأ كان من المتروكين، ومن كان دون ذلك فهو محل التردد.

فهذه الصفة ـ أعني سوء الحفظ ـ وجودها في الراوي يعدُّ من أسباب إعلال الأحاديث. ثم هي إما لازمة للراوي أو طارئة عليه، واللازمة له إما مطلقاً، وإما مقيدة بروايته عن بعض شيوخه، أو عن أهل بعض البلدان، أو في رواية أهل بعض البلدان عنه، أو كان ذلك إذا جمع الشيوخ دون ما إذا أفردهم. والطارئ عليه هو الذي يأتي بسبب السنّ ـ وهو الاختلاط ـ أو العمى، أو ذهاب الكتب.

وهذا المبحث سيتناول الإعلال بسوء الحفظ الملازم للراوي بأقسامه في مطالب، وأما سوء الحفظ الطارئ على الراوي فستكون دراسته في المبحث الثاني إن شاء الله.

ص: 262

‌المطلب الأول: سوء الحفظ المطلق والإعلال به عند الإمام أحمد

.

منهج الإمام أحمد في الرواة الموصوفين بسوء الحفظ المطلق هو جواز الرواية عنهم وعدم تركهم لسوء حفظهم، لكن إذا انفرد واحد منهم بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به، فيكون حديثه ذلك معلولاً غير مقبول. قال الإمام أحمد في محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا يحتج بحديثه

(1)

. قال الترمذي: "وإنما عنى إذا تفرَّد بالشيء، وأشد ما يكون هذا إذا لم يحفظ الإسناد، فزاد في الإسناد، أو نقص، أو غير الإسناد، أو جاء بما يتغير فيه المعنى"

(2)

.

وكذلك قال في علي بن عاصم الواسطي وقد كان يخطئ ويغلط، وكان فيه لِجاج

(3)

ـ أي لا يرجع عن الخطأ ـ، ولما ذُكر له خطؤه قال:"كان حماد بن سلمة يخطئ، وأومأ أحمد بيده: خطأ كثيراً، ولم ير بالرواية عنه بأساً"

(4)

. فكان يقول فيه: "يُكتب حديثه، أخطأ؟ يترك خطؤه ويكتب صوابه، قد أخطأ غيرُه"

(5)

.

وكذلك حدث عن أبي سعيد مولى بني هاشم ولم يترك حديثه، وقد قال فيه:"كان كثير الخطأ"

(6)

.

وإنما يعرف خطأ الراوي بعدم موافقة الحفاظ له

(7)

، أو أن يأتي بشيء يخالفهم

(8)

، وهو الذي يقع في غالب ما تفرد به هذا الصنف من الرواة.

(1)

جامع الترمذي 2/ 199.

(2)

جامع الترمذي كتاب العلل 5/ 701.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 156 رقم 70.

(4)

تاريخ بغداد 11/ 449.

(5)

الجرح والتعديل 6/ 198 - 199.

(6)

الضعفاء للعقيلي 2/ 751، وانظر: شرح علل الترمذي 1/ 401.

(7)

وهو التفرد بدون مخالفة.

(8)

وهو التفرد مع المخالفة.

ص: 263

‌كتابة أحاديثهم للاعتبار:

وربما كتب الإمام أحمد حديث هؤلاء للاعتبار، فيقوي بروايتهم رواية أهل الصدق والحفظ، ويستدل بها لإزالة التفرد عنهم. فقد أثبت الإمام أحمد رفع رواية معمر لحديث جابر في الشفعة الذي أوقفه مالك، واستدل لذلك برواية صالح بن أبي الأخضر الموافقة لرواية معمر فقيل له:"وصالحٌ يُحتج به؟ قال: يُستدل به ويُعتبر به"

(1)

.

وقد نقل المرُّوذي عن الإمام أحمد أنه لم يرض صالح بن أبي الأخضر، لأنه حدث بأحاديث ثم قال: لم أسمعها

(2)

، وأكثر الأئمة على تضعيفه

(3)

.

وقال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: أبو معشر المديني يكتب حديثه؟ فقال: عندي حديثه مضطرب، لا يقيم الإسناد، ولكن أكتب حديثه أعتبر به"

(4)

.

فقد ضعف الإمام أحمد أبا معشر المديني ـ وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي ـ لاضطرابه وكونه لا يقيم الإسناد، وهذه دلالة على سوء حفظه، وكتب حديثه للاعتبار.

وقال أحمد في رواية ابن القاسم

(5)

في عبد الله بن لهيعة: "ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأن أستدلُّ به مع حديث غيره يَشدُّه، لا أنه حجة إذا انفرد"

(6)

.

(1)

انظر: التاريخ لأبي زرعة الدمشقي 1/ 464 رقم 1187 - 1188. وسيأتي دراسة هذا الحديث في مطلب: مخالفة الراوي لرواية الأكثر عدداً ص 756.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 90 رقم 130.

(3)

انظر: تهذيب الكمال 13/ 13 - 15.

(4)

تاريخ بغداد 13/ 461.

(5)

هو أحمد بن القاسم، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلاّم. حدث عن أبي عبيد، وعن الإمام أحمد بمسائل كثيرة طبقات الحنابلة 1/ 55.

(6)

المسودة في أصول الفقه ص 347.

ص: 264

وضابطه في ذلك أن الحديث إذا لم يكن منكراً، فإنه يستفاد بروايته لأنه قد يحتاج إليه، يدل على ذلك مقولته المشهورة:

قال ابن هانئ: "فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر. قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يُحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً"

(1)

.

‌قبول أحاديثهم في الرقائق:

وجاء عن الإمام أحمد أيضاً ما يدل على أنه يقبل حديث هذا الصنف من الرواة الضعفاء بسوء الحفظ في الرقائق، حتى وإن كثر خطؤهم لسوء حفظهم وغفلتهم.

فقد ضعّف الإمام أحمد رشدين بن سعد المصري، وقدّم ابن لهيعة عليه

(2)

، وقد كان موصوفاً بالغفلة

(3)

فقال الإمام أحمد فيه: "ليس به بأس في الأحاديث الرقاق"

(4)

.

وفيما يلي‌

‌ نماذج من إعلال الإمام أحمد لأحاديث من وصفهم بسوء الحفظ لتفردهم بها:

‌يزيد بن أبي زِياد:

قال عبد الله: سألت أبي عن حديث البراء بن عازب في الرفع فقال: حدثنا محمد بن جعفر غندر قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، قال:

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 167 رقم 1925، 1926.

(2)

الجرح والتعديل 3/ 513.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

قاله في رواية الميموني العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 242 رقم 481.

ص: 265

سمعت ابن أبي ليلى يقول: سمعت البراء يحدث قوماً فيهم كعب بن عجرة قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين فتح الصلاة رفع يديْه، قال أبي: وكان سفيان بن عيينة يقول: سمعناه من يزيد هكذا، قال سفيان: ثم قدِمتُ الكوفة قدمة فإذا هو يقول: ثم لم يَعُد. حدثني أبي عن محمد بن عبد الله بن نميْر قال: نظرت في كتاب ابن أبي ليلى فإذا هو يرويه عن يزيد بن أبي زياد قال أبي: وحدثناه وكيع سمعه من ابن أبي ليلى، عن الحكم وعيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أبي يذكر حديث الحكم وعيسى يقول: إنما هو حديث يزيد بن أبي زياد كما رآه ابن نمير في كتاب بن أبي ليلى قال أبي: ابن أبي ليلى كان سيء الحفظ ولم يكن يزيد بن أبي زياد بالحافظ

(1)

.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت أحمد بن حنل عن هذا الحديث فقال: لا يصح عنه هذا الحديث

(2)

.

حديث البراء بن عازب يرويه يزيد بن أبي زياد، وقد اضطرب فيه كما أشار إليه الإمام أحمد، فرواه شعبة كما ذكره أحمد في هذه الرواية عنه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح الصلاة رفع يديه، ورواه من هذا الطريق الفسوي

(3)

، والدارقطني

(4)

، كلاهما من طريق شعبة بمثل هذا اللفظ. وكذلك رواه هشيم

(5)

، والثوري

(6)

، وأسباط

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 368 رقم 708.

(2)

السنن الكبرى للبيهقي 2/ 76.

(3)

المعرفة والتاريخ 3/ 80.

(4)

السنن 1/ 293.

(5)

حديثه عند أحمد 30/ 441 رقم 18487، وأبي يعلى المسند 2/ 280 رقم 1654، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 294.

(6)

روى حديثه عبد الرزاق في المصنف 2/ 70 رقم 2530 ومن طريقه أحمد المسند 30/ 631 رقم 18702، ورواه البخاري في جزء رفع اليدين ص 88 رقم 76 عن الفريابي، ويعقوب الفسوي المعرفة والتاريخ 3/ 79 من طريق قبيصة، والدارقطني 1/ 294 من طريق إبراهيم بن خالد كلهم عن الثوري به. وخالفهم عن الثوري معاوية بن عمرو، وخالد بن عمرو، وأبو حذيفة كلهم عن الثوري إلا أنهم اختلفوا في اللفظ: فقال بعضهم: فرفع يديه في أول أمره، وقال بعضهم: مرة واحدة. رواه أبو داود في السنن 1/ 479 رقم 751.

ص: 266

ابن محمد

(1)

، وخالد بن عبد الله

(2)

، وصالح بن عمر

(3)

، وحمزة الزيات

(4)

، وجرير الضبي

(5)

، وعبد الله بن إدريس

(6)

، والجراح والد وكيع

(7)

كلهم بمثل لفظ حديث شعبة.

وخالفهم شريك

(8)

، وإسماعيل بن زكريا

(9)

كلاهما عن يزيد بن أبي زياد به وزادا: ثم لا يعود. ورواه سفيان بن عيينة عن يزيد بمثل اللفظ الأول ثم قال

(1)

روى حديثه أحمد المسند 30/ 614 رقم 18674، والبيهقي السنن الكبرى 2/ 26. وأسباط بن محمد هو القرشي. وثقه ابن معبن، ويعقوب بن شبية، وقال أبو حاتم فيه: صالح، وقال النسائي: ليس به بأس تهذيب الكمال 2/ 356.

(2)

هو الطحان، وكان ثقة صحيح الحديث تهذيب الكمال 8/ 102. روى حديثه الدارقطني السنن 1/ 294. وذكر أن عدي بن ثابت قد حدثه عن البراء بمثله.

(3)

روى حديثه أبو يعلى 2/ 293 ح 1696. وصالح بن عمر هو الواسطي نزيل حلوان، ثقة تقريب التهذيب 2897. وذكر في روايته أن عدي بن ثابت قد تابع يزيد بن أبي زياد على هذه الرواية.

(4)

روى حديثه الخطيب في تاريخ بغداد 5/ 40. وحمزة بن حبيب الزيات هو القاري، وثقه أحمد، وابن معين، وقال ابن حجر: صدوق له أوهام تهذيب الكمال 7/ 320، تقريب التهذيب 1526.

(5)

روى حديثه الخطيب في تاريخ بغداد 7/ 254.

(6)

ذكره أبو داود تعليقاً السنن 1/ 479، ورواه أبو يعلى المسند 2/ 291 ح 1688، لكن زاد فيها: ثم لم يرفعهما.

(7)

أخرج حديثه أحمد كما رواه عنه عبد الله في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 372 ح 715.

(8)

هو القاضي، روى حديثه أبو داود السنن 2/ 478 ح 749، وأبو يعلى المسند 2/ 290 ح 1686.

(9)

هو الحُلُقاني، صدوق يخطئ قليلاً تقريب التهذيب 449. وحديثه عند الدارقطني السنن 1/ 293.

ص: 267

ابن عيينة: فلما قدمت الكوفة سمعته يحدث به فزاد: ثم لا يعود، فظننت أنهم لقّنوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغير حفظه أو ساء حفظه. ا. هـ

(1)

. ورواه علي بن عاصم

(2)

عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الإسناد وقال: ثم لم يعد، قال علي: فلما قدمت الكوفة قيل لي إن يزيد حي، فأتيته فحدثني بهذا الحديث فقال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة فكبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أُذنيه فقلت له: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: ثم لم يعد قال: لا أحفظ هذا، فعاوته فقال: ما أحفظه. رواه الدارقطني

(3)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بيزيد بن أبي زياد وقال: يزيد ليس بالحافظ، يشير إلى سبب علة الحديث وهو سوء حفظ يزيد، وقلة ضبطه، وقد ظهر ذلك جلياً في روايته لهذا الحديث حيث اضطرب فيه، فكان يرويه قديماً ولا يقول: ثم لا يعود، ثم حدث به بعد وزاد: ثم لا يعود، ثم لما سئل عن الزيادة قال إنه لم يحفظها. ولم يحمل الإمام أحمد اضطرابه هذا على الاختلاط، إذ لم يرد عنه أنه نسب يزيد إلى الاختلاط كما فعله ابن عيينة

(4)

، بل يزيد بن أبي زياد كان عنده في الأصل ضعيفاً

(1)

رواه الحميدي في مسنده 2/ 316. ورواه عن ابن عيينة الشافعي في المسند ص 176، ومن طريقه البيهقي السنن الكبرى 2/ 76، ورواه أبو داود من طريق عبد الله بن محمد الزهري عن ابن عيينة السنن 1/ 478 ح 750.

(2)

قال أحمد: قال وكيع: خذوا من حديثه ما صح ودعوا ما غلط أو ما أخطأ فيه، وكان أحمد يحتج بهذا ويقول: كان يغلط ويخطئ وكان فيه لجاج، ولم يكن متهماً بالكذب العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 156 رقم 70. وهذا يدل على أنه كان يصرّ على الخطأ. قال ابن حجر: صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع تقريب التهذيب 4758.

(3)

السنن 1/ 294.

(4)

وممن نسب يزيد بن أبي زياد إلى الاختلاط ابن سعد في الطبقات 6/ 340، والعجلي معرفة الثقات 2/ 364، ويعقوب الفسوي المعرفة والتاريخ 3/ 81، وابن حبان المجروحين 3/ 100. وذكره محقق كتاب الكواكب النيرات في الملحق الثاني الخاص بالمختلطين من الضعفاء 509، وصنيعه هذا يجمع أقوال الحفاظ فيه، والله أعلم.

ص: 268

من أجل سوء الحفظ. قال عبد الله: قال أبي: يزيد بن أبي زياد حديثه ليس بذاك

(1)

. وقال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: يزيد بن أبي زياد أحب إليك أو ليث هو ابن أبي سُليم؟ قال أحمد: يزيد عنه اختلاف، مرة طاووس، مرة مِقسَم، مرة مجاهد

(2)

. وروى ابن حبان عن أحمد أنه سئل عن يزيد بن أبي زياد فضعفه وحرك رأسه

(3)

. ويوافق موقفَ الإمام أحمد من يزيد موقفُ غيرِ واحدٍ من الحفاظ منهم شعبة، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة

(4)

. وذكر الإمام مسلم يزيد بن أبي زياد في القسم الثاني من الروة الذين لا يوصفون بالحفظ والإتقان وإن كان اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم

(5)

.

وقد روى البيهقي عن الحاكم بإسناده عن يحيى بن محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث واهي قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يذكر فيه: ثم لا يعود، فلما لُقن أخذه فكان يذكر فيه

(6)

. فأشار الإمام أحمد إلى أن يزيد لقّن هذا الحرف، وقبول التلقين لا يختص بالمختلطين.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 484 رقم 3180.

(2)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد 294 رقم 350.

(3)

المجروحين 3/ 101.

(4)

قال شعبة عن يزيد بن أبي زياد: كان رفاعاً. وقال يحيى بن معين: لا يحتج بحديثه. وفي موضع آخر قال: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به انظر: أقوالهم في الجرح والعديل 9/ 265، تهذيب الكمال 32/ 138 - 139.

(5)

انظر: مقدمة صحيح مسلم 1/ 5.

(6)

معرفة السنن والآثار 1/ 548.

ص: 269

ومما أنكره الإمام أحمد على يزيد بن أبي زياد حديثه في الرايات السود:

قال العقيلي: حدثنا عبد الله، قال: سمعت أبي يقول: حديث إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله ليس بشيء يعني حديث يزيد بن أبي زياد، قلت لعبد الله: الرايات السود؟ قال: نعم

(1)

.

قال العقيلي: وهذا الحديث حدثناه محمد بن إسماعيل حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا خلف عن يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه فتيةٌ من قريْش فتغيّر لونه فقلنا: يا رسول الله إنا لا نزال نرى في وجهك الشيء تكرهه، قال:"إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيَلقَون بعدي تطريداً وتشريداً حتى يجيء قوم من ها هنا ـ وأومأ بيده نحو المشرق ـ وأصحاب رايات سود يسألون الحق ولا يُعطَونه مرتين أو ثلاثاً فيُقاتلون فيُعطَون ما سألوا فلا يقبلون حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلِئتْ ظلماً وجوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتها ولو حبواً على الثلج"

(2)

.

وقد روى هذا الحديث ابن ماجه

(3)

، ونعيم بن حماد

(4)

، وأبو بكر بن أبي شيبة

(5)

، وأبو يعلى

(6)

، وابن أبي عاصم

(7)

والشاشي

(8)

، والبزار

(9)

، والطبراني

(10)

،

(1)

كتاب الضعفاء للعقيلي 4/ 1494.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

السنن 2/ 1366 ح 4082

(4)

الفتن 1/ 311 ح 895.

(5)

المصنف 7/ 527 ح 37727.

(6)

مسند أبي يعلى 5/ 52 ح 5062 مختصراً.

(7)

السنة لابن أبي عاصم 618 ح 1499.

(8)

مسند الشاشي 1/ 347 ح 329، 1/ 362 ح 351.

(9)

مسند البزار 4/ 354 - 355 ح 1556، 1557.

(10)

المعجم الأوسط 6/ 29 ح 5699.

ص: 270

وابن عدي

(1)

، والحاكم

(2)

، وأبو عمرو الداني

(3)

كلهم من طرق عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم ـ وهو النخعي ـ عن علقمة بن قيس النخعى، عن ابن مسعود به.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث

أعل الإمام أحمد هذا الحديث فقال: ليس بشيء، وهذا منه رحمه الله رد للحديث من أصله، وعدم الاعتداد به، والذي يظهر أن ذلك منبي على تفرد يزيد بن أبي زياد به، ولا يحتج بما ينفرد به لسوء حفظه. وقد ذكر البزار بعد رواية الحديث من طريق الحكم عن إبراهيم، أن هذا الحديث إنما يعرف من حديث يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم

(4)

. وقد روي الحديث من طرق عن إبراهيم غير طريق يزيد بن أبي زياد، ذكرها الدارقطني في العلل

(5)

، وهذه الطرق هي طريق الحكم، عن إبرهيم، وطريق عمارة بن القعقاع عن إبراهيم. أما طريق الحكم فرواه عنه عمرو بن قيس الملائي

(6)

من رواية يزيد بن محمد الثقفي، عن حنان ابن سدير

(7)

فقال: عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس وعبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه الحاكم

(8)

. وقال غيره عن حنان، عن عمرو بن قيس، عن الحكم، عن عبيدة، عن عبد الله. وقيل عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله. ذكرهما الدارقطني في العلل. وقيل عن حنان،

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1783 في ترجمة عمرو بن قاسم التمار مختصراً.

(2)

المستدرك 4/ 464.

(3)

السنن الواردة في الفتن 5/ 1032 ح 547.

(4)

انظر البحر الزخار 4/ 310.

(5)

علل الدارقطني 5/ 184 - 185.

(6)

وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي وغيرهم تهذيب الكمال 22/ 201.

(7)

قال الدارقطني هو من شيوخ الشيعة. علل الدراقطني 5/ 184.

(8)

المستدرك 4/ 464.

ص: 271

عن عمرو بن قيس، عن الحسن ـ وهو البصري ـ عن عبيدة، عن عبد الله

(1)

. ورواه داهر بن يحيى الرازي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله. ذكره أيضاً الدارقطني. ورواه عبد الله بن داهر عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أخرجه البزار

(2)

. وعبد الله بن داهر قال عنه ابن معين: ليس بشيء ما يكتب عنه إنسان فيه خير. وقال العقيلي: رافضي خبيث

(3)

. وأبوه قال فيه العقيلي: رافضي يغلو في الرفض ولا يتابع على حديثه

(4)

.

وأما طريق عمارة بن القعقاع فرواه الطبراني

(5)

، والخطيب

(6)

من طريقين عن محمد بن فضيل، عن المغيرة بن مقسم، عن عمارة بن القعقاع، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله به. قال الدارقطني بعد ذكره لهذا الطريق: هو أصحها ـ يعني حتى من طريق يزيد ابن أبي زياد

(7)

ـ. وهذا واضح، فإن عمارة بن القعقاع ثقة

(8)

، وأما طريق الحكم ففيه اختلاف واضح يشعر بضعفه، ثم لا يخلوا الطريق من شيعي أو رافضي، وأما طريق يزيد بن أبي زياد فمن أجله ردّ الإمام أحمد

(1)

رواه الأزدي على ما ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 38، وانظر اللآلي المصنوعة 1/ 347.

(2)

البحر الزخار 4/ 310 ح 1491.

(3)

الكامل 4/ 1543، الضعفاء للعقيلي 2/ 645.

(4)

الضعفاء للعقيلي 2/ 399.

(5)

المعجم الكبير 10/ 88 ح 10043، من طريق عبد الرحمن بن عمرو الحراني عن محمد بن فضيل به، وعبد الرحمن قال فيه أبو زرعة: شيخ الجرح والتعديل 5/ 267.

(6)

الرحلة في طلب الحديث ص 145 - 147. وفي إحدى طرق حديث الخطيب محمد بن إبراهيم بن زياد. قال فيه الدارقطني متروك. وأشار أبو أحمد الحاكم إلى أنه يدعي سماع ما لم يسمع ميزان الاعتدال 4/ 368.

(7)

علل الدارقطني 5/ 185.

(8)

وثقه ابن معين، وابن سعد، والنسائي، ويعقوب الفسوي وغيرهم تهذيب التهذيب 7/ 371.

ص: 272

الحديث. يبقى النظر في رواية عمارة بن القعقاع عن إبراهيم، وذلك أن عمارة ليس مشهوراً بالراوية عن إبراهيم حيث لم يذكره المزي من تلاميذه وإن ورد عن الترمذي ما يدل على سماعه منه

(1)

، وكذلك الراوي عن محمد بن فضيل ـ وهو عبد الرحمن بن عمرو الحراني ـ لا يحتمل تفرده بمثل هذا الحديث، وقد خالفه نعيم بن حماد الخزاعي

(2)

، وموسى بن داود

(3)

فرويا الحديث عن محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد كما رواه الثقات عن يزيد، وهما أشهر بطلب العلم من عبد الرحمن الحراني، وكل هذا يدل على عدم الاعتداد برواية عمارة بن القعقاع، والله أعلم. فقد عاد الأمر إلى تفرد يزيد بن أبي زياد بهذا الحديث، وهو ممن لا يحتج أحمد بما تفرد به فاتضح أن الحديث غير معتدّ به عنده.

وقد أبدى أبو أسامة ـ وهو من شيوخ الإمام أحمد ـ وجهاً آخر لرد الحديث فقال أبو قدامة كما رواه العقيلي: "سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله في الرايات السود فقال: لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم! أهذا مذهب علقمة! أهذا مذهب عبد الله! "

(4)

. فنقد الحديث من جهة متنه، وهو مخالفته للمعروف من هدي إبراهيم، وعلقمة، وعبد الله بن مسعود إذ كانوا يمنعون

(1)

روى الترمذي عن عمارة أنه قال: قال لي إبراهيم النخعي إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة يعني بن عمرو بن جرير

الجامع 4/ 177 ح 1698.

(2)

ونعيم بن حماد قال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً. ا. هـ. وقد روى عنه البخاري مقروناً بغيره تهذيب الكمال 29/ 467، تقريب التهذيب 7215 حديثه عنه في كتاب الفتن له 1/ 311 ح 895.

(3)

وهو الضبي قاضي طرسوس، وثقه محمد بن عبد الله بن نمير وغيره، وقال عنه أبو حاتم: شيخ، في حديثه اضطراب تهذيب الكمال 29/ 59 - 60. وحديثه في مسند الشاشي 1/ 362 ح 351.

(4)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1494.

ص: 273

الخروج على من استبدّ بالأمر. قال الذهبي ـ معلقاً على كلام أبي أسامة ـ: "معذور والله أبو أسامة، وأنا قائل كذلك، فإن من قبله ومن بعده أئمة أثبات، فالآفة منه عمداً أو خطأ"

(1)

. وقال في تلخيص المستدرك إنه حديث موضوع

(2)

.

وقد ورد ما يشهد لبعض ألفاظ الحديث من حديث ثوبان رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد عن وكيع، عن شريك، عن علي بن زيد ـ وهو ابن جدعان ـ عن أبي قلابة عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قِبل خُراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي"

(3)

. وعدّه البيهقي والذهبي من منكرات علي بن زيد

(4)

.

وقد خالفه خالد الحذاء عن أبي قلابة

(5)

، إلا أنه اختلف عليه بالرفع والوقف. وذكر الإمام أحمد أنه قيل لابن علية في هذا الحديث فقال: كان خالد يرويه فلم يلتفت إليه، ضعف ابن علية أمره، قال عبد الله: يعني حديث خالد عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرايات

(6)

. فالظاهر أن الإمام أحمد لم يعتد بهذا الشاهد أيضاً

(7)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 6/ 132.

(2)

تلخيص المستدرك بحاشية المستدرك 4/ 464. وقال في ميزان الاعتدال 6/ 98: هذا ليس بصحيح.

(3)

المسند 37/ 70 ح 22387.

(4)

دلائل النبوة 6/ 515، ميزان الاعتدال 4/ 48.

(5)

فرواه عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. وأما الاختلاف في الرفع والوقف فانظر الحديث في سنن ابن ماجه 2/ 1367 ح 4084، والمستدرك 4/ 463، والسنن الواردة في الفتن 5/ 1032 ح 548 مرفوعاً. وانظره في كتاب الفتن لنعيم بن حماد 1/ 311 ح 896، والمستدرك 4/ 502، ودلائل النبوة للبيهقي 6/ 516 موقوفاً.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 325 رقم 2443.

(7)

وقد اعتمده الشيخ الألباني، فحسن حديث يزيد بن أبي زياد بحديث ثوبان دون قوله في حديث ثوبان: فإن فيها خليفة الله المهدي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/ 197، ورأى أن ما يستنكر من هذا الحديث هو هذه اللفظة وحدها. وصحح حديث ثوبان ابن كثير في الفتن والملاحم 1/ 31، والبوصيري في مصباح الزجاجة 4/ 203 - 204، وتبعهم الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي في كتابه المهدي المنتطر في ضوء الأحديث والآثار الصحيحة 1/ 192.

ص: 274

وورد أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "يخرج من خراسان راياتٌ سودٌ لا يردُّها شيء حتى تُنصب بإيلياء" رواه الترمذي

(1)

، وأحمد

(2)

، والطبراني

(3)

، والبيهقي في "دلائل النبوة"

(4)

. تفرد به رشدين بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن قبيصة، عن أبي هريرة به. ورشدين بن سعد قال فيه ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد

(5)

. وقال الجوزجاني: عنده مناكير كثيرة

(6)

. فتفرد هذا بحديث من حديث الزهري لا يروى إلا من طريقه مما لا يحتمل. وقد رواه البيهقي عن كعب الأحبار قوله، وفي سنده جهالة ومع ذلك رجحه على المرفوع

(7)

. فهذا أيضاً لا يصلح شاهداً.

وورد أيضاً من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي مرفوعاً: "يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي ـ يعني سلطانه" أخرجه ابن ماجه

(8)

، والطبراني

(9)

. وفي سنده عمرو بن جابر وهو الحضرمي، قال أحمد: بلغني أنه كان

(1)

الجامع 4/ 460 ح 2269 وقال: حديث غريب.

(2)

المسند 14/ 383 ح 8775.

(3)

المعجم الأوسط 4/ 31 ح 3536 وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا يونس، تفرد به رِشدين.

(4)

دلائل النبوة 6/ 516.

(5)

تهذيب الكمال 9/ 197 - 198.

(6)

الشجرة في أحوال الرجال ص 156 ترجمة 275.

(7)

دلائل النبوة 6/ 516.

(8)

سنن ابن ماجه 2/ 1368 ح 4088.

(9)

المعجم الأوسط 1/ 94 ح 285.

ص: 275

يكذب

(1)

. وقال ابن حبان: كان سحابياً ـ يزعم أن علياً في السحاب

(2)

. وقال ابن عدي: كان الناس برمونه من وجهين جميعاً: من قوله في علي ومن ضعفه في رواياته

(3)

. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمرو بن جابر وهو كذاب. ا. هـ

(4)

. فهذا أيضاً لا يصلح أن يستشهد به.

هذا وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: سألت عبد الرحمن بن مهدي: أي حديث أصح في المهدي؟ قال: أصح شيء فيه عندي حديث أبي معبد عن ابن عباس

(5)

. وهذا يتضمن عدم تصحيحه لما سواه من الحديث.

‌يحيى بن أيوب الغافقي:

قال عبد الله: سئل أبي وأنا أسمع: عن حيوة بن شريح، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب فقال: حيوة أعلى القوم، ثقة

وكان يحيى بن أيوب سيء الحفظ وهو دون هؤلاء

(6)

.

ونقل الساجي عن أحمد أنه كان يخطئ خطأً كثيراً

(7)

.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يحي بن أيوب المصري، فقال:

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 146 رقم 4644.

(2)

المجروحين 2/ 68.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1766.

(4)

مجمع الزوائد 7/ 318.

(5)

المنتخب من علل الخلال ص 305. ولفظه: [إني لأرجو أن لا تذهب الأيام والليالي حتى يبعث الله منا أهل البيت غلاماً لم يلبس الفتن ولم تَلبسْه الفتن، كما فتح الله بنا هذا الأمر فأرجو أن يختمه بنا] رواه الخلال. وحديث ابن عباس رواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/ 513 ح 37641، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 5/ 1043 ح 558، 559، من طريق ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس به.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 4123، 4125.

(7)

تهذيب التهذيب 11/ 187.

ص: 276

كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له من حديثه عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر الحديث، فقال: ها، من يحتمل هذا، وقال مرة: كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى خاصة

(1)

.

هذا الحديث رواه الطحاوي

(2)

، والعقيلي

(3)

، وابن حبان

(4)

، وابن عدي

(5)

، والدارقطني

(6)

، والحاكم

(7)

، والبيهقي

(8)

من طرق عن يحيى بن أيوب المصري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة به، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين اللتين كان يوتر بعدهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، ويقرأ في التي في الوتر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام بتفرد يحيى بن أيوب المصري برواية هذا الحديث من حديث عائشة، وجعل هذا شاهداً على سوء حفظه، فقال:"ها، من يحتمل هذا" وتوضيح ذلك أن كل من فوقه من المكثرين في الرواية، فيبعد أن يكون الحديث عندهم ولا يعرفه ألصق الناس بهم وأعرفهم بمروياتهم، فتفرده عنهم وعدم

(1)

تنقيح التحقيق 1/ 516، وانظر: الضعفاء للعقيلي 4/ 1504.

(2)

شرح معاني الآثار 1/ 285.

(3)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1505.

(4)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 6/ 188 ح 2432.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2671.

(6)

سنن الدارقطني 2/ 24، 34 - 35.

(7)

المستدرك 1/ 305، 2/ 520، 521.

(8)

السنن الكبرى 3/ 37.

ص: 277

مشاركة بعض الرواة له في رواية الحديث يقضي بخطئه ويدل على خفة ضبطه لما تحمله عن شيوخه.

ومما يؤيد ما ذهب إليه الإمام أحمد ما رواه الخلال في العلل بإسناده عن ابن أبي مريم قال: "أخبرني عثمان بن الحكم

(1)

ـ وكان من أفضل من بمصر ـ قال: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث فقال: لا أعرفه ـ يعني حديث الوتر"

(2)

. ورواه ابن عدي من طريق آخر عن ابن أبي مريم وفيه: "فلم يعرفه وأنكره"

(3)

. فإنكار يحيى بن سعيد الأنصاري للحديث ـ وهو شيخ يحيى بن أيوب في إسناد الحديث ـ علة يعل بها روايته، ويستدل بها على سوء حفظه، وهو ما أشار إليه الإمام أحمد.

وقد رُوي الحديث من وجهين آخرين عن عائشة:

الأول: رواه محمد بن سلمة، عن خُصيف، عن عبد العزيز بن جُريج، قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان يُوتِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يقرأُ في الركعة الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوِّذتين. رواه أبو داود

(4)

، والترمذي

(5)

، وابن ماجه

(6)

، والحاكم

(7)

، ومن طريقه البيهقي

(8)

. وفي الإسناد

(1)

عثمان بن الحكم الجذامي المصري، وثقه أحمد بن صالح المصري، وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالمتقن. الجرح والتعديل 6/ 148، تهذيب التهذيب 7/ 111

(2)

تنقيح التحقيق 1/ 516.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2671.

(4)

السنن 2/ 133 ح 1424.

(5)

الجامع 2/ 326 ح 463.

(6)

السنن 1/ 371 ح 1173.

(7)

المستدرك 2/ 520.

(8)

السنن الكبرى 3/ 38.

ص: 278

خُصيف، هو ابن عبد الرحمن الجزري. قال عنه أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وعنه: ضعيف الحديث. ووثقه ابن سعد وأبو زرعة وغيره. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: يعتبر به يهم

(1)

. وعبد العزيز بن جريج هو والد ابن جريج. قال البخاري: لا يتابع في حديثه

(2)

. ولم يلق عائشة، قاله أحمد

(3)

، وقال ابن حبان: روى عن عائشة ولم يسمع منها

(4)

. وقد وقع التصريح في هذا الحديث بسماعه من عائشة، قال الترمذي: سماع عبد العزيز من عائشة خطأ

(5)

. وكذلك العلائي لم يعتمد هذا التصريح

(6)

. ولعل هذا ما جعل ابن جريج يرسل الحديث عن عائشة، فرواه عبد الرزاق عنه قال: أُخبرتُ عن عائشة فذكره

(7)

. وقد قال الدارقطني: يترك هذا الحديث

(8)

.

الثاني: رواه حيوة بن شريح، عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، ذكره العقيلي بإسناده في ترجمة سليمان بن حسان المصري وأعله به، وقال: لا يتابع على حديثه

(9)

. وذكر الحافظ ابن حجر أنه رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل

(10)

. وسليمان بن حسان قال عنه أبو حاتم: صحيح

(1)

انظر: الطبقات الكبرى 7/ 427، الجرح والتعديل 3/ 403، تهذيب الكمال 8/ 259، سؤالات البرقاني للدارقطني ص 27 ترجمة 125.

(2)

التاريخ الكبير 6/ 23.

(3)

المراسيل لابن أبي حاتم ص 131.

(4)

الثقات 7/ 114.

(5)

الجامع 2/ 327.

(6)

جامع التحصيل ص 228.

(7)

المصنف 2/ 33 ح 4698.

(8)

سؤالات البرقاني ص 44 ترجمة 297.

(9)

الضعفاء للعقيلي 2/ 490.

(10)

تنايج الأفكار 1/ 514. وقد حسنه الحافظ ابن حجر، وكذا حسن حديث يحيى بن سعيد الأنصاري.

ص: 279

الحديث

(1)

، وذكره ابن حبان في الثقات

(2)

. لكن يبقى النظر هل يحتمل تفرد هذا عن عروة بن الزبير، وهو الأمر الذي أشار إليه العقيلي بقوله: لا يتابع على حديثه.

قال العقيلي: وقد روي عن ابن عباس، وأبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وإسناديهما كذا أصلح من هذين، على أن في حديث أبي بن كعب اختلاف كذا، وحديث ابن عباس صالح الإسناد. ا. هـ

(3)

.

وممن أنكر زيادة المعوذتبين غير الإمام أحمد الإمام يحيى بن معين، قاله ابن الجوزي

(4)

.

حديث آخر ليحيى بن أيوب:

قال الخلال: أخبرنا زكريا بن يحيى: نا أبو طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن حديث ابن المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرى المُغنِّيَّات؟ قال: يحيى بن أيوب ضعيف، كان يخطئ كثيراً

(5)

.

أخرج هذا الحديث الطبراني من طريق سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب به مرفوعاً بلفظ:"لا يحل شِرى المُغَنيَّات ولا بيعُهن ولا تجارةٌ فيهن وثَمنُهن حرامٌ" وتلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ

(1)

الجرح والتعديل 4/ 107.

(2)

كتاب الثقات 8/ 280.

(3)

الضعفاء للعقيلي 2/ 490.

(4)

التحقيق في أحاديث الخلاف 1/ 516.

(5)

المنتخب من العلل للخلال ص 104/ 43.

ص: 280

عِلْمٍ} [لقمان: 6] الآية

(1)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله بيحيى بن أيوب لضعفه الراجع إلى سوء حفظه، أعله به مع أنه لم يتفرد بالحديث، وفي السند من هو أضعف منه. فأما من روى الحديث متابعاً ليحيى بن أيوب فهم جماعة:

وهم: خلاد الصفار

(2)

، ومطرّح بن يزيد

(3)

، وبكر بن مضر

(4)

، وليث ابن أبي سليم

(5)

. ورواه فرج بن فضالة عن علي بن يزيد به

(6)

فتابع عبيد الله بن زحر، وهي متابعة قاصرة ليحيى بن أيوب. وكذلك توبع عن القاسم أيضاً: حيث

(1)

المعجم الكبير 8/ 212 ح 7855.

(2)

هو خلاد بن عيسى الصفار أبو مسلم الكوفي. قال العقيلي: مجهول بالنقل. قال الذهبي: بل هو ثقة مشهور حسن الحديث الضعفاء للعقيلي 2/ 366، المغني في الضعفاء 1/ 211/1926. وحديثه عند أحمد المسند 36/ 502 ح 22169، ومن طريقه البيهقي 6/ 14 - 15 ـ ووقع فيهما: خالد الصفار، قال الحافظ هو تحريف صوابه خلاد الصفار تعجيل المنفعة ص 79 ـ والطبري في التفسير 21/ 60، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 214 ح 7862.

(3)

يكنى أبا المهلب. قال الذهبي: مجمع على ضعفه ميزان الاعتدال 5/ 248، وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 28/ 60. وحديثه عند ابن ماجه السنن 2/ 733 ح 2168 ـ لكن وقع الحديث فيه معضلاً ليس فيه علي بن يزيد ولا القاسم ـ والحميدي المسند ح 910، والطبري التفسير 21/ 60، والطبراني المعجم الكبير 8/ 199 ح 7805.

(4)

قال فيه ابن حجر: ثقة ثبت التقريب 759. وحديثه عند الترمذي الجامع 3/ 579 ح 1282، وأحمد المسند 36/ 611 ح 22280، والبيهقي السنن الكبرى 6/ 14.

(5)

قال فيه أحمد: ضعيف الحديث جداً كثير الخطأ المجروحين 2/ 231. وتركه يحيى القطان، وابن مهدي، وأحمد، وابن معين. قاله ابن حبان المجروحين 2/ 230. وحديثه عند الطبراني 8/ 213 ح 7861، والروياني المسند 2/ 276 ح 1192 لكن قال فيه: عن عائشة أو أبي أمامة. وقد رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إليه البيهقي وذكر أن هذا من تخليط ليث بن أبي سليم السنن الكبرى 6/ 14.

(6)

أخرجه المسند 36/ 551 ح 22218، والطبراني 8/ 196 ح 7802، والقعيلي 3/ 975.

ص: 281

رواه يحيى بن الحارث عن القاسم

(1)

، وهي رواية غير صالحة للاعتبار بها لعدم صحة الإسناد إلى يحيى بن الحارث

(2)

.

أما وفي الإسناد من هو أضعف من يحيى فيظهر ذلك بالرجوع إلى من فوقه: وهو عبيد الله بن زحر

(3)

، عن علي بن يزيد

(4)

، عن القاسم بن عبد الرحمن

(5)

، وهذه سلسلة روي بها أحاديث مناكير تكلم عليها الإمام أحمد وجعل ذلك من قبل القاسم. قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: القاسم أبو عبد الرحمن، هو ابن عبد الرحمن، هو مولى لعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية. قال: يُروى له أحاديث مناكير، كان جعفر بن الزبير أولاً رواها بالبصرة، فترك الناس حديثه، ثم جاء بشر بن نُمير فروى بعض تلك الأحاديث، فترك أهل البصرة حديثه

يجيئنا بعد من عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد"

(6)

.

(1)

أخرجه الطبراني المعجم الكبير 8/ 180 ح 7749، وابن عدي في الكامل 6/ 2315.

(2)

لأن في إسناد الطبراني الوليد بن الوليد وهو العنسي، قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث المجروحين 3/ 81، المغني في الضعفاء 2/ 726. وفي إسناد ابن عدي: مسلمة بن علي الخشني، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث. قال الذهبي: تركوه الكامل في الضعفاء الرجال 6/ 2314، المغني في الضعفاء 2/ 657. ولذلك قال العقيلي: لا يعرف الحديث إلا به الضعفاء 3/ 975.

(3)

ضعفه أحمد في رواية حرب، وقال ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: لين الحديث، وقال أبو زرعة: لا بأس به صدوق الجرح والعديل 5/ 315.

(4)

هو الألهاني. قال البخاري: ذاهب الحديث علل الترمذي الكبير 1/ 512. وقال النسائي: متروك الحديث الضعفاء والمتروكون 77/ 432. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، فلا أدري التخليط في روايته ممن؟ المجروحين 2/ 110. وفي رواية حرب عن أحمد: كأنه ضعفه الجرح والتعديل 6/ 209.

(5)

القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي، تكلم فيه الإمام أحمد كما سيأتي. ووثقه البخاري، والترمذي، ويعقوب الفسوي. وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات ويأتي عن الثقات بالأشياء المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها علل الترمذي الكبير 1/ 512، المجروحين 2/ 212، تهذيب التهذيب 8/ 323 - 324.

(6)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل ص 255 - 256.

ص: 282

وقال عبد الله: "سمعت أبي يقول: وذكر القاسم أبا عبد الرحمن، فقال: قال بعض الناس: هذه الأحاديث المناكير التي يرويها عنه جعفر بن زبير، وبشر بن نمير، ومطرح قال أبي: علي بن يزيد من أهل دمشق حدّث عنه مطرح، ولكن يقولون هذه من قبل القاسم، في حديث القاسم مناكير مما يرويها الثقات يقولون من قبل القاسم"

(1)

.

وقال الأثرم: سمعت أحمد حمل على القاسم وقال: "يروي عنه علي بن يزيد أعاجيب، وتكلم فيها، وقال: ما أرى هذا إلا من قبل القاسم"

(2)

.

وقال جعفر بن أبان: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر القاسم مولى يزيد بن معاوية فقال: منكر الحديث، ما أرى البلاء إلا من قبل القاسم. ا. هـ

(3)

.

وتكلم ابن حبان على هذه السلسلة أيضاً، قال:"وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم، فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على الأحوال أوْلى"

(4)

.

وبعد هذا يتضح أن ما ذكره الإمام أحمد في هذه المسألة من إعلال الحديث بيحيى بن أيوب الغافقي مع وجود هذه السلسلة التي قد تكلم عليها وجعل الحمل فيها على القاسم بن عبد الرحمن يدل على أنه لم يستحضر كلامه عليه حين سئل عن الحديث، وأما الإمام البخاري فجعل الحمل على الراوي عن القاسم وهو علي ابن يزيد الألهاني، لأنه وثق كلاً من عبيد الله بن زحر، والقاسم بن عبد الرحمن،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 565 رقم 1353.

(2)

الجرح والتعديل 7/ 113، الضعفاء للعقيلي 3/ 1161، وانظر: تهذيب التهذيب 8/ 323.

(3)

المجروحين 2/ 212.

(4)

المصدر نفسه 2/ 62.

ص: 283

وجرّح علي بن يزيد فتعين أن الحمل عليه، وكلام أبي حاتم يحتمل ذلك أيضاً

(1)

.

‌محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى:

قال عبد الله: "سألته ـ أي أحمد ـ عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فقال: مضطرب الحديث. قال أبي: فقه ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه، حديثه فيه اضطراب"

(2)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي يقول: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مضطرب الحديث سيء الحفظ"

(3)

.

وعن أحمد بن أصرم المزني

(4)

: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: ابن أبي ليلى مضطرب الحديث جداً"

(5)

.

وقال أحمد بن حفص السعدي عن أحمد بن حنبل: "ابن أبي ليلى ضعيف، وعن عطاء أكثر خطأ"

(6)

.

قال العقيلي: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن علي، قال: سمعت أحمد بن حنبل احتج بحديث ابن أبي ليلى؟ فقال: لا، قال: وسألته عن حديث ابن أبي ليلى حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم

(1)

فإنه قال: علي بن يزيد ضعيف الحديث، حديثه منكر، فإن كان ما روى على بن يزيد عن القاسم على الصحة فيحتاج أن ننظر في أمر علي بن يزيد. ا. هـ الجرح والتعديل 6/ 209.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 411 رقم 862.

(3)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1256.

(4)

أحمد بن أصرم بن خزيمة المزني ت 285 هـ. سمع أحمد بن حنبل، وابن معين وغيرهما، وحدث عنه أبو عوانة، وابن أبي حاتم. قال ابن أبي حاتم: سمعت موسى بن إسحاق يعظم شأنه ويرفع منزلته. ووثقه أبو بكر الخلال طبقات الحنابلة 1/ 22، سير أعلام النبلاء 13/ 384 - 385.

(5)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1256.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2191.

ص: 284

لا يعود، فقال: ليس هذا بشيء، قد رواه وكيع عن ابن ليلى، فيكون مثل هذا عن الحكم ولا يرويه الناس عن الحكم!

(1)

.

هذا الحديث قد سبق وأن أشار إليه الإمام أحمد في كلامه على يزيد بن أبي زياد المتقدم، وقال: روى وكيع عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى ابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء فذكره، وقد رواه من هذا الوجه أبو داود

(2)

، وابن أبي شيبة

(3)

، وأبو يعلى

(4)

، والطحاوي

(5)

، وذكره البخاري تعليقاً في "جزء رفع اليدين"

(6)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بسوء حفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال ابن أبي ليلى سيء الحفظ

(7)

. وبيّن خطأه من وجهين:

الأول: ذكر الإمام أحمد أن محمد بن عبد الله بن نمير قد رأى كتاب محمد

(1)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1256.

(2)

السنن 1/ 479 ح 752. لكن وقع عنده: عن عيسى عن الحكم، وكذلك في تحفة الأشراف 2/ 29 ح 1786. وذكر ابن التركماني أن أبا داود رواه من جهة عيسى والحكم الجوهر النقي بهامش السنن الكبرى 2/ 77، فلعل ذلك من اختلاف نسخ الكتاب. وقد ذكر البيهقي أن الحديث قد رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، ورواه أيضاً عن الحكم، عن ابن أبي ليلى انظر: السنن الكبرى 2/ 77. فقد يكون هذا الاختلاف راجعاً إلى اختلاف نسخ السنن، وإلا فاجتماع رواية أحمد، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والطحاوي يقضي بخطأ ما في نسخة سنن أبي داود. ومن أجل هذا لما ذكر المزي الحكم بن عتيبة في شيوخ عيسى بن أبي ليلى قال: إن كان محفوظاً تهذيب الكمال 22/ 630، و 7/ 116.

(3)

المصنف 1/ 213 ح 2440.

(4)

مسند أبي يعلى 2/ 290 ح 1685.

(5)

شرح معاني الآثار 1/ 294.

(6)

رفع اليدين في الصلاة ص 89 ح 77.

(7)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 368.

ص: 285

ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ورأى أنه يروي الحديث عن يزيد بن أبي زياد لا عن عيسى والحكم، يعنى أنه حدّث بالحديث من حفظه فحدّث به مخالفاً لما في أصل كتابه لسوء حفظه. قال البخاري: وإنما روى ابن أبي ليلى هذا من حفظه، فأما من حدّث عن ابن أبي ليلى من كتابه فإنه عن ابن أبي ليلى عن يزيد فرجع الحديث إلى تلقين يزيد

(1)

. وهذا الوجه هو الذي ورد ذكره في رواية عبد الله المتقدمة.

الثاني: أن الحديث لو كان عند الحكم بن عتيبة لرواه الناس عنه، فلا يحتمل تفرد محمد بن أبي ليلى عنه لسوء حفظه. وذكر هذا الوجه العقيلي عن الحسن بن علي عن أحمد كما في هذه المسألة.

وفائدة هذا الإعلال أن رواية ابن أبي ليلى هذه لا تصلح للاعتبار بها، فلا يقال إن عيسى بن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة قد تابعا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حتى يتقوى الحديث بذلك، لأن الخطأ فيها متحقق.

‌عطاء بن مسلم الخفاف:

قال المرُّوذي: قلت تعرف عن عطاء بن مسلم الخفاف عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون في صور الذُّر يطأهم الناس"، فأنكره وقال: ما أعرفه، عطاء بن مسلم مضطرب الحديث

(2)

.

هذا الحديث أخرجه البزار قال: حدثنا محمد بن عثمان العقيلي، حدثنا محمد بن راشد، عن محمد بن عمر كذا، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. وقال البزار: لم أسمعه إلا من العقيلي عن محمد بن راشد

(3)

. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه

(4)

.

(1)

رفع اليدين في الصلاة ص 89.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 152 ح 269.

(3)

كشف الأستار 4/ 155 ح 3430.

(4)

مجمع الزوائد 10/ 334.

ص: 286

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد على ما ذكره المباركفوري

(1)

. وينظر في سنده.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بالنكارة، لأنه من رواية عطاء بن مسلم الذي وصفه بأنه مضطرب الحديث، وهذا أمر ناشئ من سوء الحفظ، وفي قوله في الجواب: ما أعرفه، إشارة إلى تفرد عطاء بن مسلم بالحديث، لأنه نفى معرفته بالحديث من غير طريقه، وكونه مع سوء حفظه يتفرد بحديث من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة ولا يعرف إلا من طريقه، مع شهرة هذا الإسناد وكثرة دواعي الناس إلى روايته دليل على نكارة الحديث، فأنكره الإمام أحمد من أجل هذا، والله أعلم.

وعطاء بن مسلم وثقه ابن معين في رواية الدارمي

(2)

، وقال في رواية معاوية بن صالح: ليس به بأس، وأحاديثه منكرات

(3)

. وقال أبو حاتم: كان شيخاً صالحاً، وكان دفن كتبه وليس بقوي فلا يثبت حديثه. وقال أبو زرعة: دفن كتبه ثم روى من حفظه فيهم فيه، وكان رجلاً صالحاً

(4)

. وقال أبو داود: ضعيف. وقال الطبراني: تفرد بأحاديث

(5)

. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به

(6)

. وقال ابن حبان: كان شيخاً صالحاً، دفن كتبه ثم جعل يحدث، فكان يأتي بالشيء على التوهم فيخطيء، فكثر المناكير في أخباره وبطل

(1)

تحفة الأحوذي 7/ 163.

(2)

الجرح والتعديل 6/ 336.

(3)

الضعفاء للعقيلي 3/ 1100.

(4)

الجرح والتعديل 6/ 366.

(5)

انظر القولين في تهذيب التهذيب 7/ 212.

(6)

الضعفاء للعقيلي 3/ 1100.

ص: 287

الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات

(1)

.

‌من نهى عن الكتابة عنهم وأمر بالضرب على حديثهم:

فمنهم:

‌موسى بن عُبيدة الربذي:

قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا يكتب حديث موسى بن عُبيدة، ولم أخرج عنه شيئاً، حديثه منكر

(2)

.

وقال البخاري: قال أحمد بن حنيل: هو منكر الحديث

(3)

.

وقال أبو داود: سمعت أحمد غير مرة يقول: موسى بن عُبيدة ليس بشيء

(4)

.

وقال عباس الدوري سمعت أحمد يقول: أما موسى بن عُبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدّث بأحاديث منكرة عن عبد الله بن دينار

أما إذا جاء الحلال أردنا قوماً هكذا، فضمّ عباس على أصابع يديه الأربع من كل يدٍ ولم يضمّ الإبهام

(5)

.

وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: موسى بن عبيدة لا يُشتغل به، وذلك أنه يروي عن عبد الله بن دينار شيئاً لا يرويه الناس

(6)

.

وقال أبو طالب أحمد بن حميد: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل لما مر حديث موسى بن عُبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس، قال: هذا متاع موسى بن عُبيدة وضمَّ فمَه وعوَّجه ونفض يدَه وقال: كان لا يحفظ الحديث

(7)

.

(1)

المجروحين 2/ 131.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2334.

(3)

التاريخ الكبير 7/ 291.

(4)

تهذيب الكمال 29/ 112.

(5)

التاريخ ـ برواية الدوري 2/ 593 - 594.

(6)

الجرح والتعديل 8/ 152.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2334.

ص: 288

قال الفضل بن زياد: وسمعت أبا عبد الله وسأله أبو جعفر: أيما أحب إليك موسى بن عبيدة، أو محمد بن إسحاق؟ قال: لا محمد بن إسحاق، قلت له: روى شعبة عن موسى بن عبيدة؟ قال: نعم، فقال أبو جعفر: يقول شعبة عن أبي عبد العزيز الربذي، قال: نعم، لم يرو عنه شعبة حديثاً منكراً. فقال أبو جعفر: روى عنه الثوري أيضاً؟ قال: نعم

(1)

.

قال الجوزجاني: قلت لأحمد: إن موسى قد روى عنه سفيان وشعبة يقول: أبو عبد العزيز الرَّبذي، قال: لو بان لشعبة ما بان لغيره ما روى عنه

(2)

.

فهذه الرواية تفيد أن الإمام أحمد ضعف موسى بن عبيدة وفسر هذا التضعيف بسوء الحفظ المنجلي في روايته عن الثقات الأعلام ما لا يرويه غيره، فمن ثَم وصفه بأنه منكر الحديث، وما ورد عنه أنه قال فيه: ليس به بأس فهو محمول على أنه ليس من أهل التهمة فلا يطرح حديثه، ولكن لا يروى عنه في الحلال والحرام. ومما يدل على شدة ضعفه عنده أنه لم يخرج له في المسند

(3)

.

مما أعله من حديثه:

قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تعرف عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن والحرام بيّن"؟ فقال: لا، من رواه؟ فقلت موسى بن عُبيدة، فقبض يده ثم قال: موسى يُحتمل؟ وحمل عليه، وقال: ليس حديثه عندي بشيء، حديثه عن عبد الله بن دينار كأنه ليس عبد الله بن دينار ذلك، وعن أبي حازم. ا. هـ

(4)

.

(1)

المعرفة والتاريخ 2/ 169.

(2)

الشجرة في أحوال الرجال ص 207.

(3)

وقد وقع في المسند في موضع واحد حديث لموسى بن عُبيدة، لكن جاء في نسخ المسند بالتضبيب فوق اسم عبيدة، ونبه الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة ص 271 أن الصواب موسى بن عبيد ـ ليس فيه هاء ـ انظر: المسند 45/ 455 ح 27463.

(4)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1313، وانظر: تهذيب الكمال 29/ 108. ووقع في تهذيب الكمال: عمثان مكان عمار، والصواب ما في كتاب العقيلي؛ لأن الحديث يرويه موسى بن عبيدة من حديث عمار كما سيأتي في التخريج.

ص: 289

حديث عمّار أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده: أنبأنا يحيى بن واضح الانصاري، ثنا موسى بن عبيدة الربذي، عن عبد الله بن عبيدة وغيره، عن عمار بن ياسر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات فمن توقاهن كان أتقى لدينه، ومن واقعهن أوشك أن يواقع الكبائر كالمرتع إلى جنب الحمى، أوشك أن يُواقعَه، ولكل ملِكٍ حِمى، وحِمى الله حدودُه"

(1)

، ورواه الطبراني

(2)

، وأبو نعيم

(3)

كلاهما من طريق إسحاق. وقال الطبراني: لا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. وأخرجه أبو يعلى حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا محمد بن الزبرقان، حدثنا موسى بن عبيدة قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، عمّن أخبره، عن عمّار بن ياسر فذكره

(4)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعل الإمام أحمد هذا الحديث بموسى بن عبيدة وقال: موسى يحتمل؟ وهذا استفهام إنكار لتفرد موسى بن عبيدة بهذا الحديث، إذ الحديث معروف لنعمان بن بشير

(5)

، فتفرده بالحديث عن عمّار بن ياسر يدل على عدم ضبطه إذ لا يتصور أن يكون الحديث عند عمّار ثم لا يرويه أحد في طبقة التابعين ولا طبقة أتباعهم إلا موسى بن عبيدة مع توفر الدواعي عندهم لرواية الأحاديث وجمعها

(1)

المطالب العالية 7/ 333 ح 1420/ 1، وإتحاف الخيرة المهرة 3/ 298 ح 2771/ 1.

(2)

المعجم الأوسط 2/ 204 ح 1735.

(3)

حلية الأولياء 9/ 236.

(4)

مسند أبي يعلى 2/ 278 ح 1649.

(5)

أخرجه الشيخان صحيح البخاري 1/ 126 ح 52 - فتح الباري، صحيح مسلم 3/ 1219 ح 1599.

ص: 290

وتتبع طرقها، وأيضاً لا يجوز أن يقال إن حديث النعمان بن بشير يشهد له، لأن هذا مما تحقق خطؤه فلا ينجبر، ثم قد ظهر جلياً أثر سوء حفظه حيث اضطرب في رواية الحديث، ففي طريق إسحاق رواه عن عبد الله بن عبيدة وغيره عن عمار، وفي طريق أبي يعلى رواه عن سعد بن إبراهيم، عمن أخبره عن عمار. وعبد الله بن عبيدة هو الربذي أخو موسى بن عبيدة، قال أحمد في رواية صالح: موسى بن عبيدة وأخوه لا يشتغل بهما. وقال ابن معين: لم يرو أحد عنه إلا موسى بن عبيدة، وحديثهما ضعيف. ا. هـ

(1)

.

وحديث آخر:

قال عباس بن محمد الدوري: سمعت أحمد بن حنبل وسُئل على باب أبي النضر هاشم بن القاسم، فقيل له: يا أبا عبد الله، ما تقول في موسى بن عُبيدة الرَّبْذي ومحمد بن إسحاق؟ فقال: أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث ـ كأنه يعني المغازي ونحوها ـ وأما موسى بن عُبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدّث بأحاديث منكرة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكالي بالكالي وأشباه هذا، وأما إذا جاء الحلال أردنا قوماً هكذا ـ فضمّ عباس على أصابع يديه الأربع من كل يد ولم يضمَّ الإِبْهام

(2)

.

هذا الحديث رواه البزار

(3)

، والطحاوي

(4)

، والدارقطني

(5)

، وابن عدي

(6)

،

(1)

الجرح والتعديل 5/ 101.

(2)

تهذيب الكمال 29/ 109.

(3)

كشف الأستار 2/ 92 ح 1280.

(4)

شرح معاني الآثار 4/ 21.

(5)

السنن 3/ 72، ووقع فيه: موسى بن عقبة مكان موسى بن عبيدة. قال الحافظ ابن حجر: وقد جزم الدارقطني في العلل بأن موسى بن عبيدة تفرد به فهذا يدل على أن الوهم في قوله موسى ابن عقبة من غيره تلخيص الحبير 3/ 26.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2335.

ص: 291

والعقيلي

(1)

، والبيهقي

(2)

من طرق عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

ذكر أنه من الأحاديث المنكرة التي رواها موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار، ولسوء حفظه لا يقبل تفرده عن عبد الله بن دينار. وروى ابن الجوزي عن أحمد أنه قال:"ولا يحل الرواية عن موسى بن عبيدة ولا أعرف هذا الحديث موسى؟، وليس في هذا حديث صحيح وإنما إجماع الناس على أنه لا يجوز دين بدين"

(3)

. ومن أجل هذا التفرد وعدم الاعتماد عليه كان الإمام أحمد يرى أن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عبيدة كأنه ليس عبد الله بن دينار ذلك المعروف كما سلف فيما رواه عباس الدوري عنه. ونقل ابن حجر عن الخلال في العلل أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي روى عنه موسى بن عبيدة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ فقال: ما هو الذي روى عنه الثوري، قيل فمن هو؟ قال: لا أدري. ا. هـ

(4)

. وهذا محمول على مثل ما ذكره عباس عن أحمد، وإلا فقد جزم العقيلي بأنه هو عبد الله بن دينار المعروف، وقال: روى عنه موسى بن عبيدة ونظراؤه أحاديث مناكير الحمل فيها عليهم

(5)

.

ما حسنه من أحاديث هذا الصنف من الرواة:

قد جاء عن الإمام أحمد إطلاق الحسن على بعض أحاديث هذا الصنف

(1)

الضعفاء للعقيلي 4/ 1314.

(2)

السنن الكبرى 5/ 290.

(3)

العلل المتناهية 2/ 601.

(4)

تهذيب التهذيب 5/ 202.

(5)

الضعفاء للعقيلي 2/ 644.

ص: 292

من الرواة، وذلك أن هؤلاء الرواة قد يتردد الناقد في حديثهم أحياناً، هل هو محفوظ أو غير محفوظ، وذلك لأن الراوي الموصوف بسوء الحفظ قد يضبط ما يرويه أحياناً، فإذا جاءت ملامح ضبطه لما يرويه فقد يطلق الناقد ما يدل على قبوله لحديثه مع لين ما، وهو الذي يدل عليه مصطلح الحسن.

ومصطلح الحسن مأثور عن الإمام أحمد، وإن كان هو كغيره من الأئمة المتقدمين أكثر ما كانوا يقولون في الحديث أنه صحيح، أو ضعيف، ويقولون: منكر، موضوع، وباطل

(1)

، وإطلاقهم الحسن على الأحاديث قليل نسبياً. وإطلاق الإمام أحمد الحسن في الأحاديث يدل على أن الحديث الحسن حديث مقبول محتج به عنده، لكن مع لينٍ ما فيه في الغالب. فقد سبق أنه قال في حديث وابصة بن معبد في الذي صلى خلف الصف وحده: إنه حسن، وقد احتج به، وإنما قال فيه: حسن لما فيه من رواية عمرو بن راشد الذي لم يشتهر بكثرة الحديث وبالثقة

(2)

.

وكذلك قال في حديث علي بن شيبان مرفوعاً: "لا صلاة لفرد خلف الصف"

(3)

إنه حسن

(4)

، وهو من حديث ملازم بن عمرو، ومع توثيق الإمام أحمد له فقد قال فيه الإمام أحمد: حاله مقارب

(5)

، وقدم عليه عكرمة بن عمّار العجلي

(6)

،

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 575.

(2)

انظر: ص 106.

(3)

أخرجه ابن ماجه ح 871، وأحمد المسند 26/ 224 ح 16297، وابن خزيمة ح 593، 1569، وابن حبان الإحسان ح 1891، والبيهقي السنن الكبرى 3/ 105.

(4)

تنقيح التحقيق 2/ 34، فتح الباري لابن رجب 5/ 25.

(5)

قال فيه رواية أبي طالب: هو من الثقات. وقال في رواية صالح: حاله مقارب الجرح والتعديل 8/ 436.

(6)

قدمه عليه في رواية الفضل بن زِياد تاريخ بغداد 12/ 259.

ص: 293

وخالف شيخه القطان في تقديمه ملازماً عليه. وعكرمة عند الإمام أحمد مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة

(1)

.

وسئل الإمام أحمد في الرجل يأتي امرأته وهي حائض فقال: "ما أحسن حديث عبد الحميد فيه! قال له أبو داود: تذهب إليه؟ قال: نعم، إنما هو كفارة"

(2)

. وحديث عبد الحميد بن عبد الرحمن، رواه شعبة عن الحكم، عنه، عن مِقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض:"يتصدق بدينار أو بنصف دينار"

(3)

، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه. ورواه أحمد عن يحيى القطان، وعن غندر كلاهما عن شعبة مرفوعاً ثم قال: ولم يرفعه عبد الرحمن، ولا بهز

(4)

. فذهب الإمام أحمد إلى القول به لأنه في الكفارة، وليس فيه تحليل ولا تحريم. ومع ذلك في قبوله للحديث بعض اللين للعلة التي أشار إليها، فلذلك حسنه ولم يصححه.

ومن إطلاق الحسن على ما هو صحيح ثابت قوله في حديث حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استأذنت نساؤكم بالليل إلى المسجد فأدنوا لهن"، وهو حديث متفق عليه

(5)

، رجاله كلهم ثقات عند الإمام أحمد، وقال الإمام أحمد في الحديث: إسناده حسن

(6)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 380 رقم 733.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 39 رقم 177.

(3)

أخرجه أبو داود ح 264، والنسائي السنن 1/ 153، وابن ماجه السنن ح 640، وأحمد المسند 3/ 474 ح 2032.

(4)

المسند 3/ 476. وانظر: علل ابن أبي حاتم 1/ 50 - 51.

(5)

أخرجه البخاري صحيح البخاري 2/ 347 ح 865 - مع فتح الباري، ومسلم صحيح مسلم 1/ 327 ح 442.

(6)

فتح الباري لابن رجب 5/ 306.

ص: 294

وقال في حديث أم حبيبة في مس الذكر

(1)

هو حسن الإسناد، وذلك في رواية أبي زرعة الدمشقي

(2)

، وذكر ابن عبد الهادي أن الإمام أحمد قال: حديث أم حبيبة حديث صحيح

(3)

. وذكر ابن حجر عن الخلال أنه قال: صحح أحمد حديث أم حبيبة

(4)

. فأطلق الحسن والصحة على الحديث، مما يدل على أنه قد يطلق الحسن بمعنى الصحة، والله أعلم.

ومما حسنه من أحاديث هذا الصنف من الرواة غير من تقدم:

حديث عبد الله بن محمد بن عقيل الهاشمي:

قال الإمام أحمد في رواية حنبل بن إسحاق: ابن عقيل منكر الحديث

(5)

.

وقال أبو داود: قال أحمد: علي بن زيد، وجعفر بن محمد، وعاصم بن عبيد الله، وعبد الله بن محمد بن عقيل ما أقربهم من السواء

(6)

.

وقال أبو داود أيضاً: سمعت أحمد وقيل له: حسين بن عبيد الله صاحب عكرمة، منكر الحديث؟ فقال برأسه أي نعم، فقيل له: هو أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله قال: ما أقربتهما وعبد الله بن محمد بن عقيل

(7)

.

وقال يعقوب بن شيبة: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عاصماً ـ يعني ابن عبيد الله ـ فقال: حديثه وحديث ابن عقيل إلى الضعف ما هو

(8)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه السنن ح 481، وابن أبي شيبة المصنف 1/ 150 ح 1724، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 75، والبيهقي السنن الكبرى 1/ 130.

(2)

ذكرها ابن عبد البر التمهيد 17/ 192.

(3)

تنقيح التحقيق 1/ 155.

(4)

تلخيص الحبير 1/ 124.

(5)

تهذيب الكمال 16/ 82.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 206/ 152.

(7)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 361/ 566.

(8)

تهذيب الكمال 13/ 503.

ص: 295

وقال أحمد في عاصم أيضاً: ليس بذاك

(1)

.

فقد دلت هذه الروايات عن الإمام أحمد على ضعف ابن عقيل وأنه منكر الحديث، وأن حديثه قريب إلى الضعف، وقد قرنه بعدد من الرواة كلهم ممن تكلم فيهم من قبل حفظهم ـ وهم علي بن زيد، وجعفر بن محمد، وعاصم بن عبيد الله، فعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف الحديث عند الإمام أحمد، وقد سئل الإمام أحمد: هل سمع الحسن من سراقة؟ قال: لا، هذا علي بن زيد، يعني يرويه، كأنه لم يقنع به

(2)

. وكذلك جعفر بن محمد ضعفه بأنه مضطرب الحديث

(3)

، وقد تقدم قوله في عاصم.

لكن روى الترمذي عن البخاري أنه قال: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل

(4)

.

فمن ثم اختلف قول الإمام أحمد في الاحتجاج بحديثه، وهو الحديث الذي رواه ابن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جَحْش قالت: كنت أُستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره ـ فذكرت الحديث إلى أن قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك من الشيطان، فتَحَيَّضي ستةَ أيامٍ أو سبعة أيامٍ في علم الله عز وجل ثم اغتسلي" ـ وذكر الحديث

(5)

.

(1)

الجرح والتعديل 6/ 347 من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 48/1511. وانظر تضعيفه عن أحمد في تهذيب الكمال 20/ 437.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 201 رقم 360.

(4)

الجامع 1/ 9.

(5)

جاء هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، منها: =

ص: 296

فذكر أبو داود أنه سمع أحمد رحمه الله يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء

(1)

. وعنه أيضاً: سمعت أحمد قال: يروى في الحيض حديث ثالث، حديث عبد الله ابن محمد بن عقيل، في نفسي منه شيء

(2)

.

وقال ابن هانئ: قيل لأحمد: حديث حمنة عندك قوي؟ قال: ليس هو عندي بذلك، حديث فاطمة أقوى عندي وأصح إسناداً منه

(3)

. يشير إلى حديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي رواه الشيخان وغيرهما

(4)

.

= 1. من طريق زهير بن محمد الخراساني: أخرجه أبو داود السنن 1/ 199 - 202 ح 287، والترمذي الجامع 1/ 221 ح 128. وزهير بن محمد ثقة إلا في رواية أهل الشام عنه، فهي غير مستقيمة. والراوي عنه عند أبي داود والترمذي هو أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، وهو بصري انظر: تقريب التهذيب 2059.

2.

من طريك شريك بن عبد الله النخعي القاضي: أخرجه وأحمد المسند 45/ 121 ح 27144، وابن أبي شيبة 1/ 128، وابن ماجه السنن 1/ 205 ح 627. وشريك ابن عبد الله القاضي صدوق يخطئ كثيراً تقريب التهذيب 2802.

3.

من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي: أخرجه الدارقطني السنن 1/ 214، والحاكم المستدرك 1/ 172 - 173، والبيهقي السنن الكبرى 1/ 338 - 339. وعبيد الله وثقه ابن معين، والنسائي، وأبو حاتم وقال: لا أعرف له حديثاً منكراً تهذيب الكمال 19/ 138.

4.

من طريق عبد الملك بن جريج: أخرجه عبد الرزاق 1/ 306 ح 1174، وابن ماجه السنن 1/ 203 ح 622. وابن جريج إمام ثقة فاضل مشهور.

5.

من طريق عمرو بن ثابت: أخرجه الدارقطني السنن 1/ 215. ضعيف رمي بالرفض تقريب التهذيب 4995. وقال أبو داود: رجل سوء ولكنه كان صدوقاً السنن 1/ 202. وفي روايته جعل قوله في آخر الحديث: "هذا أعجب الأمرين إليّ" من كلام حمنة ولم يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم ذكره أبو داود تعليقاً 1/ 202.

(1)

السنن 1/ 202.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود السجستاني ص 35 رقم 160.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 1/ 33 رقم 164.

(4)

البخاري ح 306، ومسلم 333 من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 297

وقال ابن رجب: المعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به

(1)

، وقال أيضاً: نقل عنه أكثر أصحابه أنه ضعفه

(2)

.

وذكر الترمذي عن الإمام أحمد أنه قال: هو حديث حسن صحيح

(3)

.

وذكر ابن رجب أن حرب بن إسماعيل الكرماني نقل عن الإمام أحمد أنه قال: نذهب إليه، ما أحسنه من حديث

(4)

.

واحتج بالحديث كما في مسائله برواية ابنه عبد الله

(5)

. وقال في رواية ابن هانئ: "الحيض عندنا على ثلاثة أحاديث: حديث حمنة قالت: إني أثجّ ثجاًّ، وأنها استُحِيضتْ حيضةً منكرة قال: "تحيّضي في علم الله عز وجل ستاً أو سبعاً"

(6)

.

وقال ابن رجب: ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة وتقويته والأخذ به، والله أعلم

(7)

.

فهذه الرواية إن ثبتت فإنها تدل على القول الفصل عن الإمام أحمد وتقضي على الاختلاف الوارد عنه.

والذي يظهر أن احتجاج الإمام أحمد بهذا الحديث عن ابن عقيل لا يدل على إطلاق الاحتجاج بحديثه عموماً، وذلك لأنه قد يكون هذا الحديث

(1)

فتح الباري لابن رجب 1/ 443.

(2)

المصدر السابق 1/ 526.

(3)

الجامع 1/ 226.

(4)

المصدر السابق 1/ 443.

(5)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله 1/ 154.

(6)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 1/ 35/169، كذا جاءت الرواية بدون ذكر الحديثين الآخرين. وذكرهما ابن قدامة في المغني فقال: قال أحمد رحمه الله: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة، وأم حبيبة، وحمنة. وفي رواية أم سلمة المغني 1/ 388.

(7)

فتح الباري لابن رجب 1/ 444، 526.

ص: 298

احتف بقرائن ترجح لدى الإمام أحمد جانب القبول فيه وإن لم يفصح هو عن تلك القرائن، ومما يلوح للناظر في أسانيد الحديث من القرائن التي قد تدل على ترجيح جانب القبول على جانب الرد أن الرواة عن ابن عقيل ـ وأغلبهم ثقات كما تقدم ـ لم يختلفوا في الحديث، وهذا يدل على ضبط ابن عقيل للحديث، وما نقم عليه من سوء الحفظ كان يرجع إلى أن الرواة كانوا يختلفون عليه في الأسانيد

(1)

، اللهم إلا ما كان من ابن جريج ـ أحد الرواة عنه ـ حيث خالف بقية الرواة في اسم ابن عقيل واسم راوية الحديث. فروى عبد الله قال:"قال أبي في حديث حبيبة بنت جحش، قال: ابن جريج حدّث عن ابن عقيل محمد ابن عبد الله بن عقيل، وهو خطأ، وقال: إنما هو عبد الله بن محمد بن عقيل، وقال عن حبيبة بنت جحش، خالف الناس"

(2)

. قال ابن رجب: يشير إلى أنها حمنة ليست حبيبة

(3)

.

والشاهد من هذا أن الإمام أحمد حمّل ابن جريج الخطأ في هذا الحديث، ولو لم تكن عنده قرائن تدل على ضبط ابن عقيل لروايته لكان أولى الناس بأن يحمّل الخطأ هو ابن عقيل لسوء حفظه الذي يجعله يضطرب في الرواية، لكن لما رواه عنه عدد من الثقات على نسق واحد ولم يخالف إلا ابن جريج حمله الخطأ وقوي عنده ضبط ابن عقيل للحديث فاحتج به، والله أعلم.

وقد يقال إن الإمام أحمد يرى الاحتجاج بالحديث الضعيف إذا لم يكن في

(1)

قال أبو زرعة: قال لي ابن نمير: عاصم بن عبيد الله أحب إليك أم ابن عقيل؟ فقلت: ابن عقيل يختلف عنه في الأسانيد، وعاصم منكر الحديث في الأصل الجرح والتعديل 5/ 154.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 51/4120.

(3)

فتح الباري له 1/ 526.

ص: 299

الباب غيره كما هو معروف من منهجه

(1)

، فقد يكون هذا من هذا النوع فلا يلزم منه أنه حسّن الحديث ولا احتج بعبد الله بن محمد بن عقيل، والجواب أن الرواية التي ذكرت الاحتجاج صريحة في أنه حسّن الحديث مثل رواية الترمذي وكذلك رواية حرب الكرماني، فلا يصح الاعتراض.

(1)

قال في رواية أبي طالب: وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخدنا بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه أثبت منه المسودة ص 249.

ص: 300

‌المطلب الثاني: الحالات التي لا يُعلّ فيها حديث الراوي المتصف بسوء الحفظ

.

سبق أن الأصل عند الإمام أحمد عدم الاحتجاج بحديث الراوي المتصف بسوء الحفظ إذا انفرد به، وهناك حالات لا يعلّ فيها حديثه بل يقبل ولا يردّ، وقد جاء عن الإمام أحمد إشارة إلى بعض تلك الحالات، وهي كالتالي:

‌الحالة الأولى: أن يكون الراوي السيء الحفظ له كتاب صحيح

.

وذلك أن الضبط عند المحدثين ضبطان: ضبط صدر، وضبط كتاب

(1)

، فمن اختل ضبط صدره لسوء حفظ فيه، لكن كان له كتاب صحيح، لم يزل موصوفاً بمطلق الضبط، فيصحح له حديثه، ولا يعلّ إذا كان تحديثه به من كتابه، فلم يؤثر سوء حفظه إلا في ضبط صدره فقط.

وقد اعتبر الإمام أحمد هذه الحالة من الحالات التي لا تعل معها حديث الراوي الموصوف بسوء الحفظ، فقد قال أحمد في رواية الأثرم في حاتم بن إسماعيل المدني:"حاتم بن إسماعيل أحب إلي من الدراوردي، زعموا أنه كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح"

(2)

. فحسن حاله لأن له كتاب صالح، حتى إنه قدمه على الدراوردي مع أنه وصفه بغفلة في نفسه، وهي تدل على خفة الضبط. ولعل من أجل هذا كان العمل عند بعض الأئمة على توثيق حاتم بن إسماعيل.

فقال يحيى بن معين في رواية إسحاق بن منصور: ثقة

(3)

.

وقال في رواية عباس الدوري: ثقة يحدث بالمناكير

(4)

.

(1)

نزهة النظر ص 29.

(2)

الجرح والتعديل 3/ 258.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

التاريخ ـ برواية الدوري 3/ 174 رقم 777.

ص: 301

وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً كثير الحديث

(1)

.

ويحمل كلام من تكلم فيه على ما حدث به من حفظه. فتقدم أن ابن معين قال: يحدث بالمناكير. وكذلك قال ابن المديني: روى عن جعفر، عن أبيه أحاديث مراسيل أسندها

(2)

.

وقال الإمام أحمد في الدراوردي، وقد كان ممن يحدث من حفظه فيقع في أوهام لأن في حفظه شيئاً، فقال فيه:"إذا حدث من كتابه فهو صحيح"

(3)

. وقال في رواية الفضل بن زياد: "كان الدراوردي كتابه أصح من حفظه"

(4)

.

وقال الإمام أحمد في أبي عبيدة عبد الواحد بن واصل الحداد: "لم يكن صاحب حفظ، إلا أن أبا عبيدة كان كتابه صحيحاً"

(5)

.

وقد عبّر الإمام الشافعي عن هذا الأصل حيث قال: "ومن كثُر غلطُه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم تقبل شهادته"

(6)

.

‌الحالة الثانية: أن تأتي الرواية عن طريق من عُرف بصحة روايته عنه

.

إذا كان الراوي موصوفاً بسوء الحفظ، فليس معنى ذلك أنه لا يصيب أبداً في الرواية، فقد يصيب ويخطئ، وإن كان الخطأ منه كثيراً فقد تكون له ولا بد حالات يصيب الوجه الصحيح في روايته، فمن سمع منه في تلك الحالة يكون

(1)

الطبقات الكبرى 5/ 425.

(2)

تهذيب التهذيب 2/ 129.

(3)

المصدر نفسه 5/ 395.

(4)

المعرفة والتاريخ 1/ 428.

(5)

تاريخ بغداد 11/ 5.

(6)

الكفاية في علم الرواية ص 228.

ص: 302

عنده شيء من صحيح حديثه، وقد استطاع الأئمة أن يتعرفوا على بعض التلاميذ عن شيوخ ضعفاء حديثهم عنهم صحيح، فإذا جاء الحديث من رواية أمثالهم قُبل ولم يعلّ بسوء حفظ الشيخ.

فمن ذلك: موسى بن عُبيدة الرَّبذي ورواية شعبة عنه.

قد تقدم كلام الإمام أحمد في موسى بن عُبيدة، وأنه ضعفه بكثرة المناكير التي يرويها عن شيوخه، لكن روى الفضل بن زِياد أنه قيل للإمام أحمد: إن شعبة روى عن موسى بن عبيدة الربذي فيقول عن أبي عبد العزيز الربذي فقال: "نعم، لم يرو عنه شعبة حديثاً منكراً"

(1)

. فهذا يفيد أن حديث شعبة عن موسى بن عبيدة ليس فيه منكر، فهو من صحيح حديثه.

ومن ذلك أيضاً: شهر بن حوشب ورواية عبد الحميد بن بهرام عنه

وشهر بن حوشب ممن تُكلّم فيه، وإن كان كثير من الأئمة قد وثقوه

(2)

. فقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: "عبد الحميد بن بَهرام حديثه عن شهر مقارِب، كان يحفظها كأنه سورة من القرآن، وهى سبعون حديثاً طوال"

(3)

.

وشاهد ذلك أن الإمام أحمد، والطبراني رويا من حديث قتادة، عن شهر ابن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري أنه صلى بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب يُسمع من يليه ـ وذكر الحديث

(4)

.

ورواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب وذكر في حديثه: فقرأ

(1)

المعرفة والتاريخ 2/ 169.

(2)

انظر: تهذيب الكمال 584 - 585.

(3)

الجرح والتعديل 6/ 8.

(4)

مسند الإمام أحمد 37/ 532 ح 22898، ح 22901، والمعجم الكبير 3/ 281 ح 3414، وهذا اللفظ له. وأخرجه أيضاً ب رقم 3411، 3412، 3413.

ص: 303

بفاتحة الكتاب وسورة يسرهما، وذكر حديثاً طويلاً. أخرجه الإمام أحمد من طريقه

(1)

.

قال ابن رجب: وهو أصح، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره. ا. هـ

(2)

.

‌الحالة الثالثة: أن يروي الراوي السيء الحفظ عن شيخ عُرف بضبطه لحديثه

.

وهذه الحالة الثالثة التي لا يعلّ فيها رواية الراوي الموصوف بسوء الحفظ، وذلك إذا روى عن شيخ عُرف بأنه ضابط لحديثه، فلا يؤثر حينئذ سوء حفظه في عدم صحة حديثه عن ذلك الشيخ.

فمن ذلك: سلمة بن صالح الأحمر في حديثه عن أبي إسحاق السبيعي

وسلمة بن الأحمر ممن أطلقوا الضعف عليه. قال الإمام أحمد في رواية عبد الله: ليس بشيء

(3)

. وكذلك قال فيه يحيى بن معين

(4)

. وقال في رواية أخرى: ليس بثقة

(5)

. وقال النسائي: متروك الحديث

(6)

. وقال ابن عدي: هو حسن الحديث، لم أر له متناً منكراً، إنما أرى ربما يهم في بعض الأسانيد

(7)

.

وقال حنبل بن إسحاق: "سمعت أبا عبد الله يقول: سلمة الأحمر يحدث عن أبي إسحاق أحاديث صحاح، إلا أنه عن حماد مختلط الحديث"

(8)

.

(1)

المسند 37/ 540 ح 22906.

(2)

فتح الباري لابن رجب 4/ 480 - 481.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 53 رقم 1532.

(4)

التاريخ ـ برواية الدوري 3/ 401 رقم 1953.

(5)

المصدر نفسه 4/ 382 رقم 4894.

(6)

كتاب الضعفاء والمتروكين رقم 243.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1178.

(8)

تاريخ بغداد 9/ 131 - 132.

ص: 304

فذكر أن أحاديثه عن أبي إسحاق صحاح، وهذا مع ضعفه البين، وما ذلك إلا لأنه ضبط حديث أبي إسحاق، فضعفه لم يؤثر في روايته عنه، والله أعلم.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: يحيى بن سُليم الطائفي في روايته عن عبد الله بن عثمان بن خثيم.

قال الإمام أحمد في يحيى بن سُليم: "كذا وكذا، والله إن حديثه يعني فيه شيء وكأنه لم يحمده"

(1)

. وقوله في الراوي: كذا وكذا عبارة تليين

(2)

.

وقال في رواية أبي داود: "يحيى بن سُليم مضطرب الحديث"

(3)

.

وقال في رواية المرُّوذي: "كان يُكثر الخطأ"

(4)

.

ومع ذلك فقد روى عبد الله عنه أنه قال: "كان قد أتقن حديث ابن خُثيم، كانت عنده في كتاب، فقلنا له أعطِنا كتابك، فقال: أعطوني مصحفاً رهناً. قلنا: مِن أَين لنا مصحفٌ ونحن غُرباء"

(5)

.

فهذا يفيد أنه في حالة رواية يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم يخرج عن الأصل الذي هو إعلال ما تفرد به من حديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه.

‌الحالة الرابعة: أن يكون في الحديث قصة ويذكرها الراوي في سياقه لروايته

.

ذكر هذا الضابط الحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنه قال: "إذا كان في

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 480 رقم 3150.

(2)

انظر: تعليق د. وصي الله عباس على العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 61.

(3)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 236.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 142 رقم 252.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 480 رقم 3150.

ص: 305

الحديث قصة دل على أن راويه حفظه"

(1)

. والظاهر أنه لم يفصل بين أن يكون الراوي من الحفاظ أو لا، فتعمم الحالة حتى في الرواة الموصوفين بسوء الحفظ، ويدل على صحة هذا الضابط أن تذكُّر الراوي للقصة وسبب ورود الحديث يدل على ضبطه له، والله أعلم.

(1)

هدي الساري ص 363.

ص: 306

‌المطلب الثالث: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن بعض شيوخه والإعلال به عند الإمام أحمد

.

هناك صنف من الرواة هم في أنفسهم ثقات إلا أن أحاديثهم عن بعض شيوخهم ضُعِّفت لكونهم لم يضبطوها كما ضبطوا غيرها، وأخطؤوا فيها أخطاء بينة، فوصفوا بسوء الحفظ أو الضعف أو الاضطراب في أولئك الشيوخ، فإذا روى واحد من هؤلاء الرواة الثقات الموصوفين بهذا الوصف حديثاً فلا يحكم عليه بالصحة والاستقامة إلا بعد النظر في شيخه في الإسناد، فإن كان ممن ضعِّف فيه أو وصف بالاضطراب أو سوء الحفظ لحديثه فلا يصحح له، ومعرفة هذا من دقائق علم العلل الذي اختص به الأئمة النقاد، ولأهميته أشاد الإمام مسلم بدور أئمة الحديث

(1)

، حيث أدركوا هذا النوع من العلل الخفية، وأثبت أن كل من نابذهم وخالفهم في المذهب فلا سبيل له إلى معرفة الحديث ورجاله.

ومما يدل على أهمية هذا النوع من العلل أن الجهل به أو الغفلة عنه أوقع كثيراً من الناس في الغلط حيث حكموا على أحاديث بعض الرواة بأنها على شرط الشيخين لمجرد كون الشيخين قد احتجا بكل واحد من رجال الإسناد، وفات إدراكهم أنه لا يستقيم الحكم على الإسناد بأنه على شرطهما إلا إذا احتجا بكل واحد من رجال الإسناد على صورة الاجتماع، بخلاف ما لو كان احتجاجهما بهم على صورة الانفراد كسفيان بن حسين، عن الزهري، فإنهما احتجا بكل منهما على الانفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري لضعف سماعه من الزهري دون بقية مشايخه

(2)

.

(1)

كتاب التمييز ص 218.

(2)

انظر تحرير الحافظ ابن حجر لهذه المسئلة في: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 314.

ص: 307

وقد تكلم الإمام أحمد في أحاديث بعض الرواة الثقات عن بعض شيوخهم، وفيما يلي نماذج من ذلك:

‌إسحاق بن يوسف الأزرق "ت (195) هـ

":

قال أبو داود: قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ قال: إي والله، ثقة

(1)

.

وكان إسحاق الأزرق من شيوخ الإما م أحمد.

وتكلم في روايته عن سفيان الثوري.

قال عبد الله: سمعت أبي يقول: ما كان بمحمد بن يزيد الواسطي بأس، كتبه صحاح، وأصله شامي، روى عن النعمان بن المنذر، وداود بن عمرو. ومحمد بن يزيد

(2)

أثبت من إسحاق الأزرق، الأزرق كثير الخطأ عن سفيان، وكان الأزرق حافظاً، إلا أنه كان يخطئ

(3)

.

ولم يرد عنه ما يوضح نسبة هذه الكثرة، وهل ألحقته بالضعفاء عن الثوري مثل أبي حذيفة أم لا؟

وقد روى الشيخان لإسحاق الأزرق حديثه عن الثوري

(4)

، مما يدل على أنهما انتقيا حديثه وتجنبا أخطاءه. ولذلك لما أخرج البخاري حديثه عن الثوري، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أنس أنه سأله: أخبرني بشيء علِقتَه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى

الحديث

(5)

، وهو حديث فرد تفرد

(1)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل 322/ 439.

(2)

قال عنه أحمد: كان ثبتاً في الحديث، وكان يزيد بن هارون إذا قيل له في الحديث هو في كتاب محمد بن يزيد كذا، فإنه يخاف ويتوقاه. ا. هـ تاريخ بغداد 3/ 372. وليس له رواية عن الثوري فيما ذكره المزي تهذيب الكمال 27/ 31.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 34/1468.

(4)

تهذيب الكمال 2/ 395.

(5)

صحيح البخاري 3/ 507، 590 - مع فتح الباري.

ص: 308

به إسحاق عن الثوري كما قال الترمذي

(1)

، فأردفه بطريق أبي بكر بن عياش، عن عبد العزيز، وهي متابعة قوية لطريق إسحاق كما قال الحافظ ابن حجر

(2)

.

ما ذكره الإمام أحمد مما أخطأ فيه الأزرق في حديثه عن الثوري:

1.

قال عبد الله: سألت أبي عن حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً قط أشدَّ تعجيلاً لصلاة الظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الحديث حديث حكيم بن جبير، ليس هذا من حديث منصور، وحدثناه الأزرق عن سفيان، عن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، أخطأ لنا فيه، وقال مرة: الأزرق، عن سفيان عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وأنكر أبي أن يكون هذا من حديث منصور

(3)

.

هذا الحديث رواه أصحاب الثوري، عنه عن حكيم بن جُبير، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. هكذا رواه وكيع

(4)

، وعبد الرزاق

(5)

، والحسين بن حفص

(6)

، ويحيى القطان

(7)

، وأبو حذيفة، ومؤمل بن إسماعيل

(8)

.

(1)

الجامع 3/ 296.

(2)

فتح الباري 3/ 507 - 508.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 303/5349.

(4)

روايته عند الترمذي الجامع 1/ 292 ح 1555، وأحمد المسند 41/ 487 ح 25038، وابن أبي شيبة المصنف 1/ 285 ح 3264.

(5)

وهو في مصنفه 1/ 543 ح 2054.

(6)

قال أبو حاتم: صالح محله الصدق، وأخرج له مسلم عن الثوري الجرح والتعديل 3/ 50، تهذيب الكمال 6/ 370.

وروايته عند البيهقي في السنن الكبرى 1/ 436.

(7)

وروايته عند ابن عدي في الكامل 2/ 635.

(8)

روايتهما عند الطحاوي في شرح معاني الآثار مقرونين 1/ 185.

ص: 309

فخالفهم إسحاق الأزرق فرواه عن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم به كما ذكره عبد الله في هذا السؤال، ورواه البيهقي من هذا الطريق

(1)

، فوهم فيه ومن أجل ذلك أنكره الإمام أحمد، وأيضاً نفى أن يكون من حديث منصور، بمعنى أنه لم يرد من وجه معتبر عن منصور. وذكر أيضاً أن الأزرق اضطرب في رواية هذا الحديث، فمرة رواه مثل رواية الجماعة

(2)

، ومرة رواه من حديث منصور كما تقدم، ومرة رواه عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، وتابعه الفريابي على هذا الوجه الأخير، وهو مما أخطأ فيه الفريابي عن الثوري

(3)

. فهذا المثال يوضح ما ذكره الإمام أحمد من خطأ الأزرق عن الثوري.

وقد ذكر البخاري أن الحديث فيه اضطراب

(4)

، والظاهر أن الاضطراب منفي عن هذا الحديث، لأن الوجوه الأخرى التي رويت منها الحديث تبين خطؤها فانتفت علة الاضطراب، ولذلك لم يعلّه الإمام أحمد بهذه العلة.

والحديث في سنده حكيم بن جبير، وقد قال فيه الإمام أحمد: ضعيف الحديث مضطرب

(5)

.

2.

قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وشعبة، عن منصور، عن هلال، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تُصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس مرتفعة"

(6)

، ثم قال:

(1)

السنن الكبرى 1/ 436.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 43/ 12 ح 25809.

(3)

انظر: العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 58/4159، حيث ذكر الحديث في سلسلة ما أخطأ فيها الفريابي من الأحاديث.

(4)

علل الترمذي الكبير 1/ 204.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله رقم 798.

(6)

المسند 2/ 322 ح 1073.

ص: 310

وحدثناه إسحاق بن يوسف، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة" قال سفيان: فما أدري بمكة يعني أو بغيرها؟

(1)

.

والظاهر من هذا التصرف من الإمام أحمد الإشارة إلى خطأ الأزرق ـ وإن لم يصرح بذلك ـ حيث خالف عبد الرحمن بن مهدي، وخالف رواية شعبة فجعل الحديث من رواية أبي إسحاق. ولذلك قال الدارقطني لما ذكر الحديث في كتابه العلل

(2)

: "حدث بهذا الحديث إسحاق الأزرق، عن الثوري بإسناد آخر: عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ولم يتابع عليه، والصحيح حديث منصور عن هلال بن يساف"

(3)

.

‌جرير بن حازم:

عن قتادة:

قال الفسوي: حدثني الفضل، سئل ـ يعني أبا عبد الله ـ عن جرير بن حازم وأبي هلال

قال: إن جرير وهم في أحاديث عن قتادة

(4)

.

وقال أحمد أيضاً: جرير كان يحدثهم بالتوهم أشياء عن قتادة يسندها بواطيل

(5)

.

وقال أيضاً: كأن حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يسند أشياء ويوقف الناس

(6)

.

(1)

المصدر نفسه 2/ 324 ح 1076.

(2)

علل الدارقطني 4/ 147.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

المعرفة والتاريخ 2/ 167.

(5)

شرح علل الترمذي 2/ 784.

(6)

الموضع نفسه.

ص: 311

وقال المروذي: سألته عن جرير بن حازم فقال: في بعض حديثه شيء وليس به بأس

(1)

.

وقال أيضاً: وذكر جرير بن حازم فقال: كان حافظاً، وقال مرة: في حديثه شيء

(2)

.

وقال ابن رجب: روايات جرير عن قتادةَ خاصة فيها منكراتٌ كثيرة، لا يُتابع عليها، ذكر ذلك أئمة الحفاظ منهم أحمد، وابن معين وغيرهما

(3)

.

مثال لما أعله من حديث جرير عن قتادة:

وقال عبد الله: سمعت أبي يقول قال عفان جاء أبو جُزيْ ـ واسمه نصر بن طريف ـ إلى جرير بن حازم يشفع لرجل يحدثه جرير، فقال جرير: حدثنا قتادة، عن أنس قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، قال: فقال أبو جُزي كذَب والله، ما حدثنا قتادة إلا عن سعيد بن أبي الحسن، قال: أبي وهو قول أبي جُزي ـ يعني أصاب ـ وأخطأ جرير

(4)

.

هذا الحديث رواه أبو داود

(5)

، والترمذي

(6)

، والدارمي

(7)

، والبيهقي

(8)

كلهم من حديث جرير، عن قتادة، عن أنس. ورواه النسائي

(9)

، وابن سعد

(10)

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره 56/ 75.

(2)

المصدر السابق 72/ 136.

(3)

فتح الباري لابن رجب 2/ 125.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2391/ 312، 1/ 543/1288.

(5)

السنن 3/ 30 ح 2583.

(6)

الجامع 4/ 201 ح 1691.

(7)

السنن 2/ 221.

(8)

السنن الكبرى 4/ 143.

(9)

السنن 8/ 219 ح 5274، وفي الكبرى 5/ 508 ح 9813.

(10)

الطبقات الكبرى 1/ 487.

ص: 312

من طريق عمرو بن عاصم، عن جرير وهمام، عن قتادة عن أنس به، فهذه متابعة لجرير من همام، لكن عمرو بن عاصم، وهو الكلابي، تكلم فيه من قبل حفظه

(1)

، وقال النسائي: ما رواه عن همام غير عمرو بن عاصم

(2)

. ا. هـ. فلا يحمل منه هذا التفرد عن همام.

وقد خولف جرير في رواية هذا الحديث كما أشار الإمام أحمد، خالفه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، فرواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً. أخرجه أبو داود

(3)

، والنسائي

(4)

، وابن أبي شيبة

(5)

، والبيهقي

(6)

. وذكر العقيلي أن شعبة رواه أيضاً هكذا مرسلاً عن سعيد

(7)

. وكذلك أبو جزي ـ واسمه نصر بن طريف الباهلي

(8)

ـ كما في هذه الحكاية عن أحمد. وأبو جزي متكلم فيه، بل هو متهم بالوضع

(9)

. لكن صوّبه الإمام أحمد وخطّأ جريرَ بن حازم، لأنه

(1)

وثقه ابن سعد الطبقات الكبرى 7/ 305. وقال عنه ابن معين: صالح الجرح والتعديل 6/ 250، وقال النسائي: ليس به بأس تهذيب الكمال 22/ 89. وقال أبو داود: لا أنشط لحديثه الآجري 235/ 292. وقال أبو حاتم: لا يحتج بعمرو نقله الذهبي في الميزان 5/ 326. وقال ابن حجر: صدوق في حفظه شيء التقريب 5090.

(2)

تحفة الأشراف 1/ 301 نقلاً من السنن الكبرى، وليس هذا القول موجوداً في نسخة السنن الكبرى المطبوعة.

(3)

السنن 3/ 69 ح 2584.

(4)

السنن الكبرى 5/ 508 ح 9814.

(5)

المصنف 5/ 197 ح 25180.

(6)

السنن الكبرى 4/ 143.

(7)

الضعفاء للعقيلي 1/ 216، ولم أقف على حديث شعبة.

(8)

قاله أحمد كما في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 543/1288، وكذلك الإمام مسلم الكنى والأسماء 1/ 189.

(9)

قال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال يحيى بن معين ـ في رواية ابن أبي مريم: من المعروفين بالكذب وبوضع الحديث الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 31. وقال البخاري: سكتوا عنه، ذاهب التاريخ الكبير 8/ 105. وقال مسلم أيضاً ذاهب الحديث الكنى والأسماء، الموضع السابق.

ص: 313

حفظ الوجه الصحيح في هذه الرواية عن قتادة، لأنه وافق هشاماً.

وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث:

أعل الإمام أحمد رواية جرير المسندة وحكم للرواية المرسلة التي ذكرها أبو جزي، وهذا الحديث يمثل ما ذكره الإمام أحمد من أن جرير بن حازم يروي عن قتادة أشياء مسندة، ويخالفه الناس ويوقفونها. والذين خالفوا جريراً في هذا الحديث هم: هشام الدستوائي، وشعبة، وأبو جزي، وهذا الأخير وإن كان ممن لا يكتب حديثه عند الإمام أحمد إلا أنه حفظ الوجه الصحيح، بدليل رواية هشام وشعبة، أما متابعة همام لجرير فلم يرد ما يدل على اعتداده بها، ولعل ذلك راجع إلى تفرد عمرو بن عاصم بها عن همام.

وقد تابع جريراً أيضاً أبو عوانة فرواه الطحاوي

(1)

من طريق هلال بن يحيى الرأي، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس. وذكره أيضاً ابن حبان في ترجمة هلال في المجروحين

(2)

، وقال في هلال بن يحيى: كان يخطئ كثيراً على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. ا. هـ. فالذي يخطئ كثيراً على قلة روايته يكون متروكاً كما قال الذهبي

(3)

، فلا يعتد بهذه المتابعة.

وقد وافق الإمام أحمد على إعلال حديث جرير هذا جمع من الحفاظ منهم: الدارمي، قال ـ بعد ذكر رواية جرير ـ هشام الدستوائي خالفه، فقال: قتادة عن سعيد بن أبي الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم الناس أنه هو المحفوظ. ا. هـ

(4)

. ووافقه النسائي أيضاً قال: هذا حديث منكر، والصواب

(1)

شرح مشكل الآثار ح 1398.

(2)

المجروحين 3/ 88.

(3)

سير أعلام النبلاء 9/ 429.

(4)

سنن الدارمي 2/ 221.

ص: 314

قتادة عن سعيد ابن أبي الحسن. ا. هـ

(1)

. ووافقه أيضاً أبو داود، فقال ـ بعد أن ساق حديث جرير، ثم رواية سعيد بن أبي الحسن، ورواية أخرى عن أنس ـ قال:"أقوى هذه الأحاديث حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ضعاف"

(2)

.

وقد أخرج الشيخان لجرير بن حازم عن قتادة، لكن قال الحافظ ابن حجر: ما أخرج له البخاري إلا أحاديث يسيرة توبع عليها

(3)

.

2 -

أيوب:

قال ابن رجب: قال الأثرم: قال أحمد: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب

(4)

.

وهذا يفيد وجود ما يستنكر في حديثه عن أيوب. واعتمده الأثرم فأنكر حديثاً لجرير عن أيوب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة. قال الأثرم: هذا حديث مرسل

(5)

، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله يقول: جريرُ بن حازِم يروي عن أيوب عجائب. ا. هـ. ذكره ابن رجب عنه

(6)

. وهذا الحديث الذي ذكره أخرجه البزار في مسنده

(7)

.

(1)

تحفة الأشراف 1/ 301، نقلاً من السنن الكبرى، وانظر: نصب الراية 4/ 232.

(2)

سنن أبي داود 3/ 69.

(3)

هدي الساري ص 395.

وقد أنكر أبو حاتم أحاديث لجرير عن قتادة، وهي في العلل لابن أبي حاتم 1/ 270/796، 1/ 285/848، 2/ 49/1523، 2/ 393/2689، والأخير في البخاري. وذكر ابن رجب أن ابن عدي ذكر له أحاديث أخر عن قتادة، عن أنس، أنه لا يتابع عليها شرح علل الترمذي 2/ 786.

(4)

شرح علل الترمذي 2/ 702، 786.

(5)

يشير بذلك إلى عدم سماع أيوب من أنس بن مالك. قاله أحمد وأبو حاتم جامع التحصيل ص 148.

(6)

فتح الباري لابن رجب 5/ 210.

(7)

كشف الأستار 1/ 274 ح 566.

ص: 315

ورواه ابن أبي شيبة

(1)

عن يونس بن محمد، عن جرير، عن أيوب، عن أنس به، وليس فيه ذكر أبي بكر وعمر.

‌جعفر بن بُرقان ت (154) هـ:

ومن هؤلاء الرواة جعفر بن بُرقان الكلابي أبو عبد الله الرَّقِّي.

قال عبد الله: "سألت أبي عن جعفر بن برقان، فقال: إذا حدّث عن غير الزهري فلا بأس، ثم قال: في حديثه عن الزهري يخطئ"

(2)

.

وقال الميموني: "قال أبو عبد الله: جعفر بن بُرقان ثقة ضابط لحديث ميمون، وحديث يزيد بن الأصمّ، وهو في حديث الزهري يضطرب ويختلف فيه"

(3)

.

قال البرقاني: "قلت لأبي الحسن الدارقطني وأبو الحسين بن المظفر حاضر: جعفر بن بُرقان؟ فقالا جميعاً: قال أحمد بن حنبل: يؤخذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عنه فلا. قلت: لقد لقيه، فما بلاؤه؟ قال الدارقطني: ربما حدّث الثقة عن ابن بُرقان، عن الزهري، ويحدّث الآخر عن ابن بُرقان، عن رجل، عن الزهري، أو يقول: بلغني عن الزهري، فأما حديثه عن ميمون بن مهران، ويزيد بن الأصم فثابت صحيح"

(4)

.

وقد ضعفه عن الزهري غير واحد من الحفاظ، منهم يحيى بن معين

(5)

، وابن نمير

(6)

، ومسلم

(7)

، والنسائي

(8)

،. . . . . . . . . . .

(1)

مصنف ابن أبي شيبة 1/ 267 ح 3072.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 103 رقم 4395.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 200 رقم 355.

(4)

سؤالات البرقاني للدارقطني ص 21 رقم 81، وانظر: تهذيب الكمال 5/ 17.

(5)

التاريخ ـ برواية الدوري 4/ 446 رقم 5225، تهذيب الكمال 5/ 14 - 15.

(6)

الجرح والتعديل 2/ 474.

(7)

التمييز ص 218.

(8)

السنن الكبرى 2/ 251، عمل اليوم والليلة ص 233.

ص: 316

والعقيلي

(1)

، وابن عدي

(2)

.

ولم أقف على حديث لجعفر بن برقان عن الزهري ضعفه الإمام أحمد به، وقد ذكر أبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، والعقيلي، والدارقطني بعض ما أخطأ فيه من حديثه عن الزهري

(3)

.

‌حماد بن سلمة ت (167) هـ:

قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن حماد بن سلمة فقال: حماد بن سلمة من خيار عباد الله الصالحين، ومن جمع من السنة ما جمع! وقال أيوب: هاتوا مثل فتانا حماد

(4)

.

وقال أيضاً: سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل يوماً: العلم عند شعبة، وسفيان، وحماد، فأنكرت عليه حماد أن يكون مثل شعبة وسفيان، ولم أكن بحديثه عالماً، فلما كتبت حديثه علمت أنه قد صدق، فإن حماداً عالم

(5)

.

قال ابن عدي: ثنا أحمد بن حفص سئل أحمد بن حنبل يعني وهو حاضر عن حديث لأبي سعيد الخدري فقال: قد رواه حماد بن سلمة، وجعل يُثبته ويَقنع به

(6)

.

فهذا يدل على أن حماداً عنده حجة.

(1)

الضعفاء للعقيلي 1/ 201.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 564.

(3)

انظر: سنن أبي داود 4/ 144، السنن الكبرى 2/ 251، علل ابن أبي حاتم 1/ 254 ح 754، 1/ 402 ح 1205، 1/ 433 ح 1302، 1/ 491 - 492 ح 1474، الضعفاء للعقيلي 1/ 201 - 202، علل الدارقطني 3/ 21. وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 790 - 793، الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 209 - 212.

(4)

المعرفة والتاريخ 2/ 195.

(5)

الموضع نفسه.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 671.

ص: 317

وذكر ابن عدي أيضاً من طريق محمد بن مطهر المصيصي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حماد بن سلمة عندنا ثقة

(1)

.

وأما ما رواه البرذعي من طريق محمد بن يحيى النيسابوري قال: قلت لأحمد بن حنبل في علي بن عاصم ـ وذكرت له خطؤه ـ فقال أحمد: كان حماد بن سلمة يخطئ ـ وأومأ بيده ـ خطأ كثيراً، ولم ير بالرواية عنه بأساً. ا. هـ

(2)

، فهذا ليس محمولاً على الكثرة المعروفة، بدليل ما تقدم من إطلاق التوثيق عليه والاحتجاج بما تفرد به، فتحمل على كثرة نسبية بالمقارنة بغيره من أهل طبقته من الحفاظ وبالمقارنة بكثرة حديثه.

ومع أنه ثقة عنده إلا أنه تكلم في حديثه عن بعض الشيوخ.

وقال ابن رجب: وفصل القول في رواياته أنه من أثبت الناس في بعض شيوخه الذين لزمهم كثابت البناني، وعلي بن زيد، ويضطرب في بعضهم الذين لم يكثر ملازمتهم كقتادة، وأيوب وغيرهما

(3)

.

‌ومن الشيوخ الذين تكلم الإمام أحمد في حديثه عنهم:

1.

‌ أيوب بن أبي تميمة السختياني:

ذكر ابن رجب أن الإمام أحمد قال في رواية حنيل: حماد بن سلمة يسند عن أيوب أحاديث لا يسندها الناس عنه

(4)

. وهذا أمر إذا كثر دلّ على اختلال في ضبط الراوي

(5)

.

(1)

الموضع نفسه.

(2)

سؤالات البرذعي 1/ 394، وانظر: تاريخ بغداد 11/ 449.

(3)

شرح علل الترمذي 1/ 414.

(4)

شرح علل الترمذي 2/ 782، وانظر: فتح الباري لابن رجب 3/ 513.

(5)

انظر: فتح المغيث 2/ 101.

ص: 318

وقد أنكر الإمام أحمد على حماد بن سلمة الحديث الذي رواه عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن بلالاً أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي:"ألا إن العبد قد نام، ألا إن العبد قد نام". ذكره ابن رجب

(1)

.

والحديث رواه أبو داود

(2)

، وعبد بن حميد

(3)

، والبيهقي

(4)

، والدارقطني

(5)

، من طرق عن حماد بن سلمة به. وقال أبو داود: وهذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة

(6)

، وقال أبو حاتم مثل ذلك

(7)

.

وقد بين غير واحد من الحفاظ وجه الخطأ، قال الحافظ ابن حجر: "اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حماداً انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وجد له متابع، أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن زَرْبِىّ ـ وهو بفتح الزاي وسكون الراء بعدها موحدة ثم ياء كياء النسب ـ فرواه عن أيوب موصولاً، لكن سعيد ضعيف، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أيضا لكنه أعضله فلم يذكر نافعاً ولا ابن عمر

"

(8)

.

(1)

فتح الباري لابن رجب 3/ 512.

(2)

السنن 1/ 363 ح 532.

(3)

المنتخب من مسنده ص 250 ح 782.

(4)

السنن الكبرى 1/ 383.

(5)

السنن 1/ 244.

(6)

السنن 1/ 364.

(7)

علل الحديث لابن أبي حاتم 1/ 114 ح 308.

(8)

فتح الباري 2/ 103. وانظر أقوالهم في إعلال الحديث عند ابن رجب في فتح الباري 3/ 513 - 514.

ص: 319

والرواية الموقوفة التي أشاروا إليها هي ما رواه أبو داود من طريق شعيب بن حرب، عن عبد العزيز بن أبي رواد، أخبرنا نافع، عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أذن قبل الفجر فأمره عمر فذكر نحوه

(1)

.

ووجه آخر لإعلال حديث حماد هو ما ذكره الإمام أحمد قال: ثنا شعيب بن حرب، قال: قلت لمالك بن أنس: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يعيد الأذان فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا وشربوا" قلت: أليس قد أمره أن يعيد الأذان؟ قال: لا، لم يزل الأذان عندنا بليل. ذكره ابن الجوزي في التحقيق

(2)

.

ومع ذلك فليس في هذا إشارة إلى تضعيف حماد بن سلمة في أيوب مطلقاً، وإنما هو تضعيف نسبي بالمقارنة بغيره من أهل الطبقة الأولى من أصحاب أيوب الذين كثرت ملازمتهم له ومعرفتهم لحديثه مثل حماد بن زيد، فقد روى الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله وقيل له: حماد بن سلمة وحماد بن زيد إذا اجتمعا في حديث أيوب أيهما أحب إليك؟ قال: ما فيهما إلا ثقة، إلا أن ابن سلمة أقدم سماعاً، كتب عن أيوب في أول أمره، وحماد بن زيد أشد له معرفة لأنه كان يكثر مجالسته، ومات أيوب وحماد بن زيد سنُّه أربع وثلاثون، وكان حماد كثير المجالسة لأيوب، وكان ألزم الناس له وأطولهم مجالسة. ا. هـ

(3)

.

ولذلك لما روى حماد بن سلمة عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول:"اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"

(4)

، أنكروه

(1)

سنن أبي داود 1/ 364 ح 533.

(2)

تنقيح التحقيق 1/ 284، 285.

(3)

المعرفة والتاريخ 2/ 133.

(4)

أخرجه أبو داود السنن 2/ 601 ح 2134، والترمذي الجامع 3/ 446 ح 1140، والنسائي 7/ 64 ح 3953، وابن ماجه 1/ 633 ح 1971، وأحمد المسند 42/ 46 ح 25111، وابن حبان الإحسان 10/ 5 ح 4205 وغيرهم.

ص: 320

عليه، لأن حماد بن زيد، وإسماعيل بن علية روياه عن أيوب مرسلاً

(1)

. قال الترمذي: حديث حماد بن زيد أصح من حديث حماد بن سلمة.

2.

‌ قيس بن سعد ت (119) هـ

(2)

:

قال عبد الله: سمعته ـ يعني أبا عبد الله ـ يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: إن كان ما يروي حماد بن سلمة عن قيس بن سعد حقاً فهو

قلت له: ماذا؟ قال: ذكر كلاماً، قلت: ما هو؟ قال: كذاب. قلت لأبي: لأي شيءٍ هذا؟ قال: لأنه روى عنه أحاديث رفعها إلى عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبي: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد فكان يحدثهم من حفظه فهذه قضيته

(3)

.

قال أبو داود: قلت لأحمد: قيس بن سعد؟ قال: ثقة، ولكن زعموا أن كتابَ حماد بن سلمة عنه ضاع، فصار يروي عنه أحاديث يجعلها

وذكر أحمد: قال يحيى: إن كان ما يروي حماد بن سلمة عن قيس بن سعد قال فتكلم بكلام كأنه ينكره على حماد

(4)

.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر محمد بن المؤمل

(1)

انظر: الجامع للترمذي 3/ 446، علل الترمذي الكبير 1/ 448، علل ابن أبي حاتم 1/ 425 ح 1279.

(2)

قيس بن سعد المكي الحبشي. خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه، وكان يفتي بقوله. ووثقه أحمد، وأبو زرعة، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود تهذيب الكمال 24/ 49.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 127/4542 - 4544، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 782.

(4)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 1/ 230.

ص: 321

ثنا الفضل بن محمد ثنا أحمد بن حنبل ثنا عفان قال: قال حماد بن سلمة: استعار مني حجاج الأحول كتاب قيس فذهب إلى مكة فقال ضاع

(1)

.

ولم أقف على حديث لحماد بن سلمة عن قيس بن سعد أعله الإمام أحمد به. وقد نسب حماد بن سلمة إلى الخطأ في روايته لحديث صحيفة عمرو بن حزم من طريق قيس بن سعد، واعتبر البيهقي هذا الخطأ شاهداً على ضعفه في حديث قيس بن سعد، وهذا الحديث هو ما أخرجه أبو داود في المراسيل من طريق حماد بن سلمة قال:[قلت لقيس بن سعد خُذ لي كتاب محمد بن عمرو ابن حزم، فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الأبل ـ فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومئة، فإذا كانت أكثر من ذلك فعُد في كل خمسين حقّة، وما فضل فإنه يُعاد إلى أول فريضة الأبل، وما كان أقل من خمسٍ وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذودٍ شاةٌ، ليس فيها ذكر ولا هرمةٌ ولا ذات عوار من الغنم]

(2)

. فقوله: [وما فضُل يعاد إلى أول فريضة الإبل] مخالف لسائر روايات صحيفة عمرو بن حزم، فإن الذي ورد فيها أن الإبل إذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقّة. هكذا رواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ولم يختلف عليه إلا بالوصل والإرسال

(3)

. وهذا الذي ورد في كتاب أبي بكر الصديق في فريضة صدقة

(1)

السنن الكبرى 4/ 94.

(2)

المراسيل لأبي داود 128 ح 106. وأخرجه الطحاوي شرح معاني الآثار 4/ 375، والبيهقي السنن الكبرى 4/ 94.

(3)

انظر: سنن النسائي 8/ 58 - 59، مصنف عبد الرزاق 4/ 4 ح 6793، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 14/ 502 - 503 ح 6559، شرح معاني الآثار 4/ 374، المستدرك 1/ 393 - 395، السنن الكبرى 4/ 89 - 90.

ص: 322

رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، وكذلك في كتاب عمر

(2)

، وفي حديث أبي سعيد الخدري

(3)

. فذكر البيهقي من علل هذه الرواية كونها من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، وأن الحفاظ يجتنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله. ا. هـ

(4)

.

3.

‌ حماد بن أبي سليمان ت (120) هـ

(5)

:

قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: حماد بن سلمة عنده عنه تخليط ـ يعني حماد بن أبي سليمان

(6)

.

لكنه لم يبلغ عنده إلى حد الساقط فيه.

قال الخلال بإسناده عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله قيل له: حماد ابن أبي سليمان؟ قال: أما حماد فرواية القدماء عنه مقاربة: شعبةُ، والثوري، وهشام ـ يعني الدستوائي ـ قال: وأما غيرهم فقد جاءوا عنه بأعاجيب. قلت له: حجاج، وحماد بن سلمة؟ قال: حماد على ذاك لا بأس به. قال أبو عبد الله: وقد سقط فيه غير واحد مثل محمد بن جابر، وذاك ـ وأشار بيده، فظننت أنه عنى سلمة الأحمر

(7)

ـ قال الأثرم: ولعله قد عنى غيره

(8)

.

(1)

انظر: صحيح البخاري - مع فتح الباري 3/ 317.

(2)

انظر: الموطأ 1/ 257.

(3)

أخرجه أحمد المسند 17/ 410 ح 11307 مطولاً، وأخرجه مسلم صحيح مسلم 2/ 789 ح 1120 وابن خزيمة صحيح ابن خزيمة 3/ 257 ح 2023 مختصراً، بذكر ما يتعلق بالصوم فقط دون الزكاة.

(4)

السنن الكبرى 4/ 94.

(5)

قال فيه الحافظ ابن حجر: فقيه صدوق له أوهام ورمي بالإرجاء تقريب التهذيب 1508.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 291/ 338.

(7)

وستأتي ترجمته وكلام الإمام أحمد في حديثه عن حماد بن أبي سليمان إن شاء الله.

(8)

تهذيب الكمال 7/ 272.

ص: 323

ولعل ذلك من قبل حماد بن أبي سليمان، حيث كان بأخرة غلب عليه الفقه ولم يعد يحفظ الآثار كما ينبغي. فقد قال حماد بن سلمة:"كنت أسأل حماد بن أبي سليمان عن أحاديث مسندة، وكان الناس يسألونه عن رأيه، فكنت إذا جئت قال: لا جاء الله بك"

(1)

. وذكر أبو حاتم أنه غلب عليه الفقه، وإذا جاء الآثار شوّش

(2)

.

ويدل على ذلك أيضاً ما ذكره موسى بن إسماعيل ـ وهو التبوذكي ـ قال: حدثنا حماد بن سلمة أنه قال لابن حماد بن أبي سليمان: كلّم أباك يحدثني. قال: فكلمه قال: فقال حماد: ما يأتيني أحد أثقل علىّ منه. قال: فكنت أقول له: قل سمعت إبراهيم. فكان يقول: إن العهد قد طال بإبراهيم

(3)

.

وأما الذهبي فعلق على تلك الرواية بقوله: إنما التخليط فيها من سوء حفظ الراوي عنه

(4)

.

ومهما يكن من أمر فلم يبلغ حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان مبلغ الساقط عند الإمام أحمد كما نص على ذلك، فيحمل ما ذكره من تخليطه عنه على أنه دون القدماء من أصحابه الذين حملوا عنه قديماً قبل أن يغلب عليه الفقه فيقدَّمون عليه عند الاختلاف، والله أعلم.

ولم أر حديثاً لحماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أعله الإمام أحمد من أجله. وقد أعل حديثاً لحماد بن أبي سليمان، رواه عنه حماد بن سلمة، لكن الخطأ فيه من حماد بن أبي سليمان وليس من حماد بن سلمة.

قال عبد الله: "حدثني أبي قال: حدثنا عفّان قال: أخبرنا حماد بن سلمة

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 654، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 835.

(2)

انظر: الجرح والتعديل 3/ 147 - 148.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 654، وانظر: تهذيب الكمال 2/ 276.

(4)

سير أعلام النبلاء 5/ 236.

ص: 324

قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة، وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل، عن المغيرة

ابن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال قائماً. قال حماد بن أبي سليمان: ففحج رجليه. قال أبي: منصور والأعمش أثبت من حماد وعاصم"

(1)

.

وحديث حماد بن سلمة أخرجه أحمد

(2)

، وعبد بن حميد

(3)

، وابن خزيمة

(4)

، والطبراني

(5)

. وقد تابعه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان

(6)

. وحديث منصور والأعمش عند الشيخين، كلاهما عن أبي وائل عن حذيفة

(7)

. وفي قول الإمام أحمد: منصور والأعمش أثبت من حماد وعاصم، ترجيح لروايتهما وإسناد الخطأ إلى حماد وعاصم. وقد وافق الإمام أحمد على تخطئتهما كل من الترمذي

(8)

، والدارقطني

(9)

.

فالخطأ في هذه الرواية إذاً من حماد بن أبي سليمان، وليس من حماد بن سلمة، ويؤيد ذلك متابعة أبي حنيفة له.

‌الحسن بن بشر الهمداني الكوفي ت (221) هـ

(10)

:

تكلم الإمام أحمد في حديثه عن زُهير بن معاوية الجعفي.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 121/4511 - 4512.

(2)

المسند 30/ 83 ح 18150.

(3)

المنتخب من مسنده ص 152 ح 396.

(4)

صحيح ابن خزيمة 1/ 36 ح 63.

(5)

المعجم الكبير 20/ 405 ح 966.

(6)

مسند أبي حنيفة ص 84.

(7)

صحيح البخاري 1/ 328، 329 ح 224، 225 - مع فتح الباري، وصحيح مسلم 1/ 228 رقم 273 (73، 74).

(8)

ذكر رواية عا صم ثم رواية حماد ثم قال: والصحيح ما روى منصور والأعمش علل الترمذي الكبير 1/ 93، وانظر: الجامع 1/ 20.

(9)

علل الدارقطني 7/ 95. قال عن رواية عاصم وحماد: وهِما فيه على أبي وائل، وقال رواية الأعمش ومنصور هي الصواب.

(10)

صدوق يخطئ، روى له البخاري، والترمذي، والنسائي تقريب التهذيب 1225.

ص: 325

أما هو في نفسه فقد تردد فيه الإمام أحمد، ثم جزم بأنه لا بأس به

(1)

.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الحسن بن بشر بن سالم الكوفي فقال: ما أدري أخبرك، قد روى عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر في الجنين

(2)

.

وقال الأثرم أيضاً: سمعت أبا عبد الله سُئل عن الحسن بن بشر بن سلم الكوفي فقال: ما أرى به بأساً في نفسه، روى عن زهير أشياء مناكير

(3)

.

ما أعله من حديثه عن زهير:

أشار إليه في رواية الأثرم المتقدمة، حيث قال: قد روى عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر في الجنين، وهذا استنكار منه للحديث.

وحديث الجنين هو حديث: [ذكاة الجنين ذكاة أمه]، أخرجه ابن الجعد

(4)

، وابن عدي

(5)

، وأبو الشيخ

(6)

، والحاكم

(7)

، والبيهقي

(8)

من طرق عن الحسن ابن بشر، عن زهير بن معاوية، به. وقال ابن عدي: هذا حديث زهير عن أبي الزبير ليس يرويه غير الحسن. ا. هـ.

(1)

وأما غير الإمام أحمد، فقال فيه أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: له أحاديث ليست بالكثيرة، وأحاديثه تقرب بعضها من بعض، وليس هو بمنكر الحديث. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 733، تهذيب الكمال 6/ 61، التقريب 1224.

(2)

تاريخ بغداد 7/ 290.

(3)

الجرح والتعديل 3/ 10.

(4)

مسند ابن الجعد 388 ح 2853.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 733.

(6)

طبقات المحدثين بإصبهان 2/ 360 ح 212.

(7)

المستدرك 4/ 114.

(8)

السنن الكبرى 9/ 334.

ص: 326

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

ذكره الإمام أحمد كشاهد على المناكير التي يرويها الحسن بن بشر عن زهير، ووجه نكارته أن الحسن بن بشر تفرد به عن زهير، ولا يحتمل من مثله هذا التفرد عن حافظ مكثر مثل زهير. ورواية الراوي الذي لم يشتهر بالحفظ والإتقان عن حافظ مكثر ما لا يرويه غيره من أصحاب ذلك العَلم دليل على ضعفه. ووافق أبو داود الإمام أحمد على إنكار هذا الحديث على الحسن بن بشر

(1)

.

والحديث رُوي عن أبي الزبير من وجوه أخرى: منها عن حماد بن شعيب

(2)

، أخرجه أبو يعلى

(3)

، وابن عدي

(4)

. ومنها عن عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي

(5)

، أخرجه أبو داود

(6)

، والدارمي

(7)

، والحاكم

(8)

.

وذكر ابن حبان أن الحسن بن بشر سمع هذا الخبر عن حماد بن شعيب فرواه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير ووهم فيه

(9)

. فإن ثبت هذا ظهر جلياً كيف جاءت النكارة في حديث الحسن بن بشر عن زهير بن معاوية.

(1)

سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني 1/ 149 - 150. وأنكر عليه حديثاً آخر عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: "لا تدخلوا الحمام إلا بمئزر".

(2)

ضعفه ابن معين، وقال فيه البخاري: فيه نظر. وقال ابن حبان: يقلب الأخبار ويرويها على غير جهتها الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 660، المجروحين 1/ 251.

(3)

مسند أبي يعلى 2/ 328 ح 1802.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 660.

(5)

قال عنه أحمد وابن معين: ليس به بأس. وعن ابن معين أيضاً: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ولا بالمتين، هو صالح الحديث يكتب حديثه، ويحول من كتاب الضعفاء الذي صنفه البخاري. وقال أبو داود: أحاديثه مناكير. وقال ابن حجر: ليس بالقوي تهذيب الكمال 19/ 43، التقريب 4321. وقال في تلخيص الحبير: ضعيف 4/ 157.

(6)

السنن 3/ 253 ح 2828.

(7)

السنن 2/ 115 ح 1979.

(8)

المستدرك 4/ 114.

(9)

المجروحين 1/ 251.

ص: 327

ومتن الحديث معروف من وجوه أخرى منها عن أبي سعيد الخدري

(1)

، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن جابر، وأبي أمامة، وأبي الدرداء، وأبي هريرة. ا. هـ

(2)

، وصححه ابن حبان أيضاً.

والحسن بن بشر من رجال البخاري، لكن لم يخرج له عن زهير بن معاوية، وقال الحافظ ابن حجر: لم يخرج عنه من أفراده شيئاً، ولا من أحاديثه عن زهير التي استنكرها أحمد

(3)

.

‌عكرمة بن عماّر اليمامي:

قال أحمد في رواية حرب: هو في غير يحيى ثبت. ذكره ابن رجب

(4)

. وذكر الساجي توثيقه عن الإمام أحمد

(5)

.

وقد قدمه الإمام أحمد على ملازم بن عمرو، مع أن الأخير ثقة عنده

(6)

، واحتج لذلك بأن شعبة روى عنه أحاديث

(7)

. وأما أبو داود فذكر أن الإمام أحمد قدم ملازم بن عمرو عليه

(8)

، والظاهر أن المقصود أنه مقدم عليه في يحيى بن أبي كثير خاصة، والله أعلم.

(1)

أخرجه أحمد المسند 17/ 442 ح 11343، وأبو داود السنن 3/ 252 ح 2827، والترمذي الجامع 4/ 60 ح 1476، وابن ماجه السنن 2/ 1067 ح 3199، وابن حبان الإحسان 13/ 206 ح 5889.

(2)

الجامع 4/ 60.

(3)

هدي الساري ص 397.

(4)

شرح علل الترمذي 2/ 795.

(5)

تاريخ بغداد 12/ 260.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 380/733.

(7)

انظر: المعرفة والتاريخ 2/ 171 - 172.

(8)

سؤالات أبي عبيد الآجري أبا دواد السجستاني 1/ 379/707.

ص: 328

وتكلم الإمام أحمد في حديثه عن يحيى بن أبي كثير، ووصفه بالاضطراب فيه

(1)

.

قال عبد الله: قال أحمد: أحاديث عكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير ضعاف ليس بصحاح. قلت له: من عكرمة أو مِن يحيى؟ قال: لا، إلا من عكرمة. وقال في موضع آخر: أتقن حديث إياس بن سلمة

(2)

ـ يعني عكرمة

(3)

.

وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أحمد بن حنبل يضعف رواية أيوب ابن عتبة وعكرمة بن عمّار عن يحيى بن أبي كثير، وقال: عكرمة أوثق الرجلين

(4)

.

وقد ذكر يحيى القطان أيضاً تضعيف عكرمة بن عمار في حديثه عن يحيى بن أبي كثير، وكذلك علي بن المديني، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي

(5)

.

ما أعله الإمام أحمد من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير

(6)

:

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 4/ 117/4492.

(2)

إياس بن سلمة بن الأكوع، يروي عن أبيه. وثقه ابن معين، وابن سعد، والنسائي وغيرهم، وروى له الجماعة انظر: تهذيب الكمال 3/ 404.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 494 رقم 3255.

(4)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 453 رقم 1143.

(5)

انظر أقوالهم في تهذيب الكمال 20/ 260 - 261.

(6)

ومما أنكره غير الإمام أحمد من حديثه عن يحيى بن أبي كثير حديث عائشة مرفوعاً: "ويل للأعقاب من النار" عند مسلم 1/ 213 ح 240 في الشواهد. أعله ابن عمار الشهيد بأن عكرمة بن عمار خالف أصحاب يحيى بن أبي كثير فرواه عنه عن أبي سلمة عن سالم مولى المهري، عن عائشة، بينما رواه علي بن المبارك، وحرب بن شداد، والأوزاعي، وحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني سالم ـ يعني ليس فيه أبو سلمة ـ، وهذا الذي رجحه أبو زرعة أيضاً انظر: علل الحديث لابن عمار الشهيد ص 50 - 52، علل الحديث لابن أبي حاتم برقم 148، و 178.

وثم حديث آخر وهو ما أخرجه الدراقطني السنن 1/ 374 من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في سجود السهو وفيه:[فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم]. وذكر الدارقطني أن شيبان، وعلي بن المبارك، والأوزاعي وغيرهم رووه عن يحيى ولم يذكروا فيه التسليم قبل ولا بعد علل الدارقطني 9/ 279 - 280، ثم ذكر متابعاً لعكرمة متابعة قاصرة وقال: هذان ثقتان، وزيادة الثقة مقبولة ـ يشير إلى قبول هذه الزيادة ـ. ومال إلى ذلك الحافظ ابن حجر فقال: إسناده قوي فتح الباري 3/ 104. وأما ابن رجب فأعل الزيادة بناء على أن رواية عكرمة عن يحيى بن أبي كثير مضطربة عند القطان وأحمد وغيرهما من الأئمة انظر: فتح الباري لابن رجب 6/ 503.

ص: 329

1.

ذكر ابن رجب أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله في استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالليل. ا. هـ

(1)

. والحديث لفظه: [قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: سألت عائشة أم المؤمنين بأي شء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السموات والأرض عالمَ الغيب والشَّهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"

(2)

. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والظاهر أنه يشير إلى تفرد عكرمة بن عمار

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 796.

(2)

أخرجه مسلم صحيح مسلم 1/ 534 ح 770، وأبو داود السنن 1/ 487 ح 767، والترمذي الجامع 5/ 451 ح 3420، والنسائي السنن 3/ 212 ح 1624، وفي الكبرى 1/ 417 ح 1322، وابن ماجه السنن 1/ 431 ح 1357، وابن خزيمة 2/ 185 ح 1153، وابن حبان 6/ 335 ح 2600 كلهم من طريق عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار به، وأخرجه أحمد المسند 42/ 127 ح 25225، وكذلك أبو داود برقم 768 من طريق قراد أبي نوح ـ وهو عبد الرحمن بن غزوان ـ، وأبو عوانة 2/ 304 - 305، والمروزي في قيام الليل مختصر قيام الليل ص 113 كلاهما من طريق النضر بن محمد، وكذلك أخرجه أبو عوانة وابن عدي الكامل 5/ 1912 من طريق عاصم بن علي، وابن المنذر الأوسط 3/ 84 ح 1272 من طريق أبي حذيفة كلهم عن عكرمة به. وعمر بن يونس ثقة، وكذلك كل من عبد الرحمن بن غزوان، والنضر بن محمد ـ وهو الجرشي ـ ثقة له أفراد. وأما عاصم بن علي، وأبو حذيفة موسى بن مسعود فقد تكلم في حفظهما وكل واحد منهما صدوق انظر تراجمهم جميعاً في تقريب التهذيب.

ص: 330

به، وهو وجه علة الحديث، إذ لم يوجد لعكرمة متابع عن يحيى.

قال الحافظ أبو الفضل ابن عمار الشهيد: "هو حديث تفرد به عكرمة بن عمار عن يحيى، وهو مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، يقال: إنه ليس عنده كتاب، وحدثني أحمد بن أبي الفضل المكي: حدثنا صالح بن أحمد، ثنا علي، قال: سألت يحيى ـ يعنى القطان ـ عن أحاديث عكرمة بن عمار ـ يعني عن يحيى بن أبي كثير ـ فضعفها وقال: ليست بصحاح"، ثم ذكر ما رواه أبو زرعة الدمشقي عن أحمد في هذا المعنى

(1)

.

وكلام ابن عمار في هذا الحديث موافق لإنكار الإمام أحمد للحديث، وفيه انتقاد للإمام مسلم في تخريجه للحديث في الأصول، ولعل وجه إخراج الإمام مسلم له اجتماع عدد من الرواة ـ وهم خمسة ثلاثة منهم ثقات ـ على رواية الحديث على وجه واحد، مما يدل على عدم اضطراب عكرمة في رواية هذا الحديث وضبطه له. وكونه يضطرب عن يحيى بن أبي كثير لا يدل على عدم إصابته مطلقاً فيما رواه عنه، إنما يدل على اجتناب ما ظهر خطؤه فيه، وأما ما ظهرت فيه ملامح الإصابة فإنه مقبول، ولا مطعن له فيه. ويؤيد ذلك أن الإمام النسائي أيضاً لما أخرج الحديث سكت عليه، مما يقتضي أنه لا علة له عنده كما ذكر ذلك ابن حجر من منهجه

(2)

.

2.

وذكر ابن رجب أيضاً أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن يحبى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور"

(3)

.

(1)

علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج ص 82 - 83.

(2)

نتائج الأفكار 1/ 413.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 796.

ص: 331

هذا الحديث رواه أبو حذيفة

(1)

، وغسان بن عبيد

(2)

كلاهما عن عكرمة ابن عمار، عن يحيى به.

ولم يذكر ابن رجب هنا وجه إعلال الحديث عند الإمام أحمد، وإنما ذكره في أول شرحه على الترمذي. واختلف العقيلي وابن عدي في وجه إعلال الحديث، فقال العقيلي: لا يتابع عليه عكرمة، ثم أسند من طريق سليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي حازم وغيرهما عن كثير بن زيد، عن وليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا أصلح من حديث عكرمة

(3)

. وحديث سليمان بن بلال وابن أبي حازم أخرجهما أبو عوانة

(4)

.

وأما ابن عدي فأعل الحديث بأن غير اللذين رويا الحديث على هذا الوجه عن عكرمة أوقفوه على أبي هريرة

(5)

، فجعل العلة ممن دون عكرمة. ولم أقف على رواية الوقف التي أشار إليها.

ومتن الحديث معروف من حديث ابن عمر عند مسلم

(6)

، ومن حديث أبي المليح عن أبيه عند أبي داود وغيره

(7)

، وصحح ابن حجر حديث أبي المليح

(8)

.

(1)

أخرجه من طريقه أبو عوانة مسند أبي عوانة 1/ 200 ح 640، والعقيلي في الضعفاء 3/ 1079.

(2)

أخرجه من طريقه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 2037.

(3)

الضعفاء للعقيلي 3/ 1079 - 1080.

(4)

مسند أبي عوانة 1/ 199 ح 640.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2037.

(6)

صحيح مسلم 1/ 204 ح 224.

(7)

سنن أبي داود 1/ 48 ح 59، وسنن النسائي 5/ 56 ح 2524، وسنن ابن ماجه 1/ 100 ح 271.

(8)

فتح الباري 1/ 278.

ص: 332

‌عمر بن إبراهيم العبدي، أبو حفص البصري:

وثقه أحمد في رواية حرب بن إسماعيل، وقال: ثقة، لا أعلم إلا خيراً

(1)

. وكذلك وثقه ابن معين، وعبد الصمد بن عبد الوارث

(2)

. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به

(3)

.

وقد تكلم الإمام أحمد في حديثه عن قتادة، قال العقيلي: قال أبو عبد الله: يروي عن قتادة أحاديث مناكير ويخالف

(4)

، ورواه عن أحمد يعقوب بن شيبة

(5)

.

وكذلك قال ابن عدي

(6)

، وابن حبان

(7)

.

أما يحيى بن معين فوثقه في قتادة. قال عثمان بن سعيد الدارمي: فعمر ابن إبراهيم في قتادة؟ قال: ثقة

(8)

.

وذكر العقيلي عن الإمام أحمد أن عباد بن العوامّ روى عن عمر بن إبراهيم حديثاً منكراً. قال العقيلي: وهذا الحديث حدثناه محمد بن أيوب، وجعفر بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخِّروا المغربَ حتى تشتبك النُّجومُ"

(9)

.

(1)

الجرح والتعديل 6/ 98.

(2)

تهذيب الكمال 21/ 271.

(3)

الجرح والتعديل الموضع نفسه.

(4)

الضعفاء للعقيلي 3/ 893.

(5)

تهذيب الكمال 21/ 270.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1701.

(7)

المجروحين 2/ 89.

(8)

الجرح والتعديل الموضع نفسه.

(9)

الضعفاء للعقيلي الموضع نفسه.

ص: 333

والحديث رواه من هذا الوجه ابن ماجه

(1)

، وابن خزيمة

(2)

، والطبراني

(3)

والبيهقي

(4)

.

ووجه نكارة الحديث أنه لا يرويه عن قتادة بهذا الإسناد إلا عمر بن إبراهيم. قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم رواه عن قتادة بهذا الإسناد غير عمر ابن إبراهيم

"

(5)

. أما المتن فقد روي بأسانيد أصلح منه كما قال العقيلي.

ومن تلك الأسانيد ما رواه أبو داود

(6)

، وأحمد

(7)

، وابن خزيمة

(8)

، والطبراني

(9)

، والحاكم

(10)

، والبيهقي

(11)

من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي أيوب الأنصاري بمثل هذا اللفظ. وصححه الحاكم

(12)

، والألباني

(13)

. إلا أنه معلول، فقد رواه حيوة ابن شريح، وابن لهيعة، وعبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران التجيبي، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بادروا بصلاة المغرب طلوع النجوم". ذكره ابن أبي حاتم من طريق حيوة وابن لهيعة

(14)

. وأخرجه

(1)

السنن 1/ 225 ح 689.

(2)

صحيح ابن خزيمة 1/ 175 ح 340.

(3)

المعجم الأوسط 2/ 214 ح 1770.

(4)

السنن الكبرى 1/ 448.

(5)

الكامل في ضعفاء الرجال الموضع نفسه.

(6)

السنن ح 418.

(7)

المسند 28/ 565 ح 17329.

(8)

صحيح ابن خزيمة 1/ 174 ح 339.

(9)

المعجم الكبير 4/ 183 ح 4083.

(10)

المستدرك 1/ 190.

(11)

السنن الكبرى 1/ 370.

(12)

الموضع نفسه.

(13)

صحيح الجامع الصغير 7285.

(14)

علل ابن أبي حاتم 1/ 177.

ص: 334

أحمد

(1)

، والطبراني

(2)

، والدارقطني

(3)

من طريق ابن لهيعة. وأخرجه الطبراني من طريق عبد الحميد بن جعفر، وحيوة بن شريح

(4)

، لكن لفظ حديث حيوة: كنا نصلي المغرب حين تجب الشمس. قال أبو زرعة الرازي: "حديث حيوة أصح"

(5)

. وهذه العلة ليست قادحة، فإن غايتها إبدال راوٍ ثقة بآخر ثقة مثله، فإن كلاً من مرثد بن عبد الله اليزني الراوي عن أبي أيوب في إسناد ابن إسحاق، وأسلم أبي عمران الراوي في إسناد حيوة ومن معه، كل منهما ثقة

(6)

.

وروي الحديث من حديث السائب بن يزيد أيضاً، أخرجه أحمد

(7)

، والطبراني

(8)

، والبيهقي

(9)

، ولفظه:"لا نزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجوم". وفي سنده عبد الله بن الأسود القرشي، قال أبو حاتم: لا أعلم روى عنه غير ابن وهب

(10)

، فهو في حكم المجهول.

وكلا الإسنادين أصلح من إسناد عمر بن إبراهيم العبدي عن قتادة.

وذكر ابن عدي والعقيلي أحاديث أخرى لعمر بن إبراهيم عن قتادة مما لم يوافقه عليها أحد

(11)

.

(1)

المسند 38/ 503 ح 23521.

(2)

المعجم الكبير 4/ 176 ح 4058.

(3)

السنن 1/ 260.

(4)

المعجم الكبير ح 4057، 4059.

(5)

علل ابن أبي حاتم الموضع نفسه.

(6)

انظر: تقريب التهذيب 408، 6591.

(7)

المسند 24/ 493 ح 15717.

(8)

المعجم الكبير ح 6671.

(9)

السنن الكبرى 1/ 448.

(10)

الجرح والتعديل 5/ 2.

(11)

انظر: الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1700، والضعفاء للعقيلي 3/ 894.

ص: 335

‌عمرو بن الحارث المصري

(1)

:

أثنى عليه الإمام أحمد في رواية أبي داود.

قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: ليس فيهم ـ يعني أهل مصر ـ أصح حديثاً من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه"

(2)

.

وقال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله يقول: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث بن سعد، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكير"

(3)

.

والمقصود بالمناكير هي في روايته عن قتادة.

قال الأثرم: "عمرو بن الحارث حمل عليه ـ يعني الإمام أحمد ـ حملاً شديداً، قال: يروي عن قتادة أحاديث يضطرب فيها ويخطئ"

(4)

.

ونقل العيني عن الإسماعيلي أنه قال: "تكلم أحمد في حديث عمرو، عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمُحَصَّب، ثم ركب إلى البيت فطاف به"

(5)

.

والحديث رواه البخاري

(6)

، من طريق عمرو بن الحارث، عن قتادة به، ثم قال البخاري:"تابعه الليث: حدثني خالد، عن سعيد، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، فلم ينفرد عمرو بن الحارث به عن قتادة، فهو مما يدفع

(1)

روى له الجماعة، وهو ثقة فقيه حافظ. مات قبل الخمسين ومائة تقريب التهذيب 5039.

(2)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 373 رقم 591.

(3)

تاريخ بغداد 13/ 12.

(4)

تهذيب الكمال 21/ 573.

(5)

عمدة القاري 10/ 95.

(6)

صحيح البخاري 3/ 585 ح 1756.

ص: 336

الإنكار عنه في روايته له عن قتادة.

قال الدكتور صالح الرفاعي: "وما تقدم عن الإمام أحمد في رواية عمرو بن الحارث عن قتادة إنما هو من قبيل التضعيف النسبي، وذلك أن الإمام أحمد كان يرى أن عمرو بن الحارث أثبت المصريين كما تقدم، ثم لما رأى له بعض الأخطاء قدّم الليث بن سعد عليه، فذكر ما تقدم في مجال تِعداد أخطاء عمرو التي جعلته يقدم الليث بن سعد عليه"

(1)

.

‌قبيصة بن عُقبة السُّوائي الكوفي ت (215) هـ:

تلكم الإمام أحمد في حديثه عن سفيان الثوري.

قال حنبل بن إسحاق: "قال أبو عبد الله: كان يحيى بن آدم أصغر من سمع من سفيان عندنا، قال: وقال يحيى: قبيصة أصغر مني بستنين. قلت له: فما قصة قبيصة في سفيان؟ فقال أبو عبد الله: كان كثير الغلط قلت له: فغير هذا؟ قال: كان صغيراً لا يضبط. قلت له: فغير سفيان؟ قال: كان قبيصة رجلاً صالحاً ثقة، لا بأس به في بدنه، وأي شيء لم يكن عنده في الحديث، يذكر أنه كثير الحديث"

(2)

.

فذكر وجهين لطعنه في حديثه عن الثوري: استصغاره حين سمع منه، وكثرة غلطه في حديثه عنه. والظاهر أن الإمام أحمد ذكر صغر سنه للتعليل به لكثرة غلطه في حديثه عن الثوري، وإلا فسماعه من الثوري كان بعد سن التمييز، فذكر هارون بن عبد الله الحمَّال أنه سمع قبيصة يقول:"جالست الثوري وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاثَ سنين"

(3)

.

(1)

الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 109.

(2)

تاريخ بغداد 12/ 474، وانظر: تهذيب الكمال 23/ 484.

(3)

تهذيب الكمال 23/ 488.

ص: 337

وقد ردّ محمد بن عبد الله بن نمير على من استصغر قبيصة في الثوري، فقال أبو زرعة الدمشقي:"حدثني أحمد بن أبي الجواري قال: قلت للفريابي: رأيت قبيصة عند سفيان؟ قال: نعم، رأيته صغيراً. قال أبو زرعة: فذكرته لمحمد بن عبد الله بن نمير فقال: لو حدثنا قبيصة عن النخعي لقبلنا منه"

(1)

.

وممن تكلم في حديث قبيصة عن الثوري يحيى بن معين؛ قال في رواية ابن أبي خيثمة: "قبيصة ثقة في كل شيء إلا في حديث سفيان، ليس بذاك القوي"

(2)

.

وقال يعقوب بن شيبة: "كان ثقة صدوقاً فاضلاً، تكلموا في روايته عن سفيان خاصة، وكان ابن معين يضعف روايته عن سفيان"

(3)

.

وقال صالح بن محمد الحافظ: "كان رجلاً صالحاً إلا أنهم تكلموا في سماعه من سفيان"

(4)

.

وقد ذكر الإمام أحمد بعض ما غلط فيه قبيصة من حديثه عن الثوري، منها:

قال عبد الله: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال حدثنا قبيصة، قال أخبرنا سفيان، عن عمران بن مسلم، عن سُويْد بن علقمة، قال سمعت عمر يقول: لو استطعت الأذان مع الخِلِّيفِي

(5)

لفعلتُ. فحدثت أبي هذا الحديث، فقال: ليس هذا من حديث عمران بن مسلم إنما هو من حديث إسماعيل أو بيان عن قيس، توهمَّه قبيصة"

(6)

.

(1)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 580 رقم 1625، 1626.

(2)

الجرح والتعديل 7/ 126.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 812.

(4)

تهذيب الكمال 23/ 486.

(5)

قال ابن الأثير: الخليفى ـ بالكسر والتشديد والقصر ـ الخلافة، كالرِّمِّيا والدِّلِّيلا مصدر يدل على معنى الكثرة، يريد به كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها النهاية 2/ 69.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 317 رقم 5415.

ص: 338

هذا الأثر رواه محمد بن فُضيل، عن بيان بن بشر، عن قيس، عن عمر؛ ورواه يزيد بن هارون، ووكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن عمر. أخرج الطريقين ابن أبي شيبة

(1)

. فخطّأ الإمام أحمد رواية قبيصة، حيث وهِم على الثوري فذكر الحديث من طريق عمران بن مسلم، وليس بصحيح.

ومنها:

قال أبو داود: "سمعت أحمد سئل عن حديث قبيصة، عن سفيان، عن سلمة بن كُهيل، عن مسلم البطّين، عن أبي العُبيدَين، عن عبد الله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] قال: السَّفّاكين الدماء. قال أحمد: ليس من هذا شيء، يُنكره على قبيصة"

(2)

.

أبو العبيدين هو معاوية بن ميسرة السوائي الكوفي، سمع ابن مسعود، روى عنه مسلم البطين، ويحيى بن الجزار

(3)

. والأثر أخرجه البخاري في ترجمته

(4)

.

ولم يتبين لي وجه إنكار الإمام أحمد لهذه الرواية إلا أن يكون قبيصة تفرد بها عن الثوري، وليس ممن يقبل تفرده عن الثوري. وهذا التفسير قد روي من أوجه أخرى عن مجاهد بن جبر

(5)

.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة 1/ 203 ح 2334، 1/ 204 ح 2345.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 410 رقم 1926.

(3)

التاريخ الكبير 7/ 329. ووثقه ابن معين، والعجلي الجرح والتعديل 8/ 378، معرفة الثقات 2203، تهذيب الكمال 28/ 173.

(4)

الموضع نفسه.

(5)

انظر: جامع البيان 24/ 69.

ومن أخطائه في حديثه عن الثوري ما ذكره الإمام مسلم في: كتاب التمييز ص 189 - 190 قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عياض، عن أبي سعيد قال:[كنا نورثه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الجد]. قال الإمام مسلم: هذا خبر صحف فيه قبيصة، وإنما كان الحديث بهذا الإسناد عن عياض، قال:[كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الطعام وغيره في زكاة الفطر]، فلم يقر قراءته فقلب قوله إلى أن قال: نورثه، ثم قلب له معنى فقال: يعني الجد.

ص: 339

وكثرة غلط قبيصة في روايته عن الثوري أمر نسبي، وليس تضعيفاً مطلقاً لروايته عن الثوري، فقد ذكر للإمام أحمد كما في رواية ابنه عبد الله قبيصة وأبا حذيفة فقال:"قبيصة أثبت منه جداًّ ـ يعني في حديث سفيان ـ أبو حذيفة شبه لا شيء، وقد كتبتُ عنهما جميعاً"

(1)

. فكثرة غلطه لم يوصله إلى حد التضعيف في الثوري الذي يفهم من قول أحمد في أبي حذيفة: شبه لا شيء، فيحمل ذلك على كثرة الغلط بالنسبة للحفاظ من أصحاب الثوري مثل يحيى القطان، وابن مهدي، ووكيع، وقد سمع أحمد منهم جميعاً

(2)

.

وقد كان قبيصة من الحفاظ، قال أبو حاتم:"لم أر من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قبيصة، وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحماني في حديث شريك، وعلي بن الجعد في حديثه"

(3)

.

وقال الفضل بن سهل الأعرج: "كان قبيصة يحدث بحديث الثوري على الولاء درساً درساً حفظاً"

(4)

. فمن كان بهذه المثابة في تحديثه من حفظه، لا يستبعد أن يقع في بعض الأغلاط بالنسبة لغيره ممن هو أحفظ منه، لا سيما وقد كان كثير الحديث عن الثوري. فذكر الحافظ ابن حجر عن الحسن بن معاوية بن هشام أنه كان عند قبيصة عن الثوري سبعة آلاف حديث

(5)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 386 رقم 758.

(2)

انظر: هدي الساري ص 436، وتحرير الدكتور صالح الرفاعي: الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 92 - 93.

(3)

الجرح والتعديل 7/ 126.

(4)

تهذيب الكمال 23/ 487.

(5)

تهذيب التهذيب 10/ 218، واهتديت إلى هذا النقل بواسطة د/صالح الرفاعي الثقات ص 93.

ص: 340

وقد أخرج الشيخان لقبيصة عن الثوري، لكن قال الحافظ ابن حجر:"أخرج عنه البخاري أحاديث عن سفيان الثوري وافقه عليها غيره"

(1)

.

محمد بن عبد الله بن الزبير، أبو أحمد الزبيري ت (203) هـ:

قال أحمد: "يأتي بما لا يرويه عامة الناس، وما به بأس"

(2)

.

وتكلم في حديثه عن الثوري:

قال حنبل بن إسحاق: "قال أبو عبد الله: أبو أحمد الزبيري كان كثير الخطأ في حديث الثوري"

(3)

.

ومع ذلك فقد قدّمه الإمام أحمد في سفيان الثوري على معاوية بن هشام القصّار، وزيد بن الحُباب، وكل واحد منهما ثقة لكن موصوف بكثرة الخطأ

(4)

.

وقد وثق أبا أحمد الزبيري ابن معين وقال فيه أبو زرعة وابن خراش: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس

(5)

، وقد أخرج له الشيخان عن الثوري، لكن قال ابن حجر: ما أظن البخاري أخرج له شيئاً من أفراده عن سفيان

(6)

.

ولم أقف على ما أعله الإمام أحمد من حديثه عن الثوري.

(1)

هدي الساري الموضع نفسه.

(2)

بحر الدم 902.

(3)

تاريخ بغداد 5/ 403.

(4)

انظر: تهذيب الكمال 28/ 220، سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 432، تهذيب التهذيب 10/ 218، 3/ 403 - 404.

(5)

تهذيب الكمال 25/ 480.

(6)

هدي الساري ص 440.

ص: 341

أبو معاوية محمد بن خازم التميمي الضرير ت (195) هـ

(1)

:

كان من شيوخ الإمام أحمد. وقال أحمد: أبو معاوية من أحفظ أصحاب الأعمش

(2)

.

وتكلم الإمام أحمد في حديثه عن هشام بن عروة.

قال أبو داود: "قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم"

(3)

.

ومما أخطأ فيه من حديثه عن هشام بن عروة:

قال عبد الله: "ذكرت لأبي حديث أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر صلاة الصبح بمكة. قال أبي: فذكرت ذلك ليحيى بن سعيد فقال: هشام قال: أخبرني أبي مرسلاً، وقال: تُوافي، لأن أبا معاوية قال: توافيه، وأخطأ فيه، فقال لي يحيى: سَل عبد الرحمن، فسألته، فحدثني، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه مرسلاً، وقال: تُوافي مثل ما قال يحيى عن هشام، وابن عيينة مثل يحيى وعبد الرحمن، وأخطأ وكيع فيه: قال: توافي بمنى، أخطأ لأن الحديث قال: توافي يوم النحر، فقال وكيع: بمنى، وأخطأ فيه"

(4)

.

وروى الأثرم قريباً من هذا، قال: "قال لي أبو عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا أبو معاوية، عن هِشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة أن رسول الله

(1)

أخرج له الجماعة. وقال الحافظ ابن حجر فيه: ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حدث غيره تقريب التهذيب 5878.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 541 رقم 1281.

(3)

مسائل الإمام أحمد بن حنبل ـ برواية أبي داود ص 301.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 368 رقم 2637.

ص: 342

صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة، ولم يُسند ذلك، وهو خطأ، قال أحمد: وقال وكيع، عن هشام، عن أبيه مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة

(1)

أو نحو هذا، قال: وهذا أيضاً عجيب، ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة، قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد القطان فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي ليس فيه هاء. قال أحمد: وبين هذين فرق قال: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن، هو ابن مهدي، فسألته فقال: هكذا عن سفيان، عن هشام، عن أبيه: توافي. ثم قال لي أبو عبد الله: رحم الله يحيى، ما كان أضبطه، وأشدّه، كان محدثاً، وأثنى عليه فأحسن الثناء عليه"

(2)

.

رواية أبي معاوية أخرجها مسلم

(3)

، وإسحاق

(4)

، والطحاوي

(5)

، والطبراني

(6)

، والبيهقي

(7)

، وذكرها البخاري تعليقاً

(8)

، كلهم عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:[أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة]. وذكر الإمام أحمد أن أبا معاوية أخطأ في روايته هذه عن هشام بن عروة في موضعين: الأول في وصلها، والثاني في لفظها حيث قال: [توافيه يوم النحر صلاة الصبح

(1)

كذا وقع، وإنما هو: بمنى، كما أفاد ذلك رواية أبي عبد الله، وهكذا روى وكيع هذا الحديث عن هشام. أخرجه ابن أبي شيبة المصنف 3/ 234 ح 13756، ومسلم التمييز ص 187، والبخاري تعليقاً التاريخ الكبير 1/ 75.

(2)

شرح معاني الآثار 2/ 221، وانظر: فتح الباري 3/ 487.

(3)

كتاب التمييز ص 186.

(4)

مسند إسحاق بن راهويه 1/ 62 ح 10.

(5)

شرح معاني الآثار 2/ 219.

(6)

المعجم الكبير 23/ 343 ح 799.

(7)

السنن الكبرى 5/ 133. ولم يقل البيهقي في روايته: معه. ولعل سقطت من الناسخ.

(8)

التاريخ الكبير 1/ 74.

ص: 343

بمكة]. وإنما حكم الإمام أحمد على روايته بالخطأ لأن غيره ممن هو أحفظ منه في هشام قد خالفه، فرواه يحيى القطان، عن هشام عن أبيه مرسلاً، وقال في لفظه:[توافي يوم النحر صلاة الصبح بمكة]. ذكر الإمام أحمد هذه الرواية، وذكرها مسلم أيضاً تعليقاً، وذكر أنها رواية عبدة بن سليمان عن هشام

(1)

. وكذلك روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي، عن الثوري، عن هشام فيما ذكره الإمام أحمد. ورواه ابن عيينة، عن هشام. أخرج روايته مسلم

(2)

. ورواه حماد بن سلمة

(3)

، وعبد العزيز الدراوردي

(4)

، وعبد الله بن جعفر الزهري

(5)

كلهم عن هشام، عن أبيه قال:[دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح، وكان يومها فأحب أن توافقه]، وفي لفظ حماد بن سلمة:[فرمت جمرة العقبة وصلت الفجر بمكة].

وهناك وجه من النظر قاض بخطأ رواية أبي معاوية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في حجته يوم النحر بالمزدلفة، وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وهو حينئذ يصلي بالمزدلفة؟

(6)

.

فهذا مثال لما أخطأ فيه أبو معاوية في حديثه عن هشام بن عروة.

وحديث أبي معاوية عن هشام مخرج عند الجماعة

(7)

، لكن قال ابن حجر: لأبي معاوية عند البخاري عن هشام بن عروة عدة أحاديث توبع عليها

(8)

.

(1)

التمييز الموضع نفسه.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

أخرج حديثه الطحاوي 2/ 218.

(4)

أخرج حديثه البيهقي السنن الكبرى 5/ 133.

(5)

أخرج حديثه ابن أبي شيبة مصنف ابن أبي شيبة 2/ 209.

(6)

انظر: التمييز ص 186.

(7)

انظر: تهذيب الكمال 25/ 125.

(8)

هدي الساري ص 438.

ص: 344

والظاهر أن الإمام مسلماً أيضاً تجنب تلك الأحاديث التي أخطأ فيها عن هشام، بدليل ما ذكره في "كتاب التمييز" من خطئه في حديث هشام بن عروة، والعلم عند الله.

وتكلم الإمام أحمد أيضاً في حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر العمري.

قال أحمد: "هو يضطرب في أحاديث عبيد الله ـ يعني ابن عمر"

(1)

.

قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: كان أبو معاوية يخطئ في غير شيء عن عبيد الله، ذكر منها في المطلقة والمتوفى عنها في العدة، قال أحمد: ليس أحد يقول المطلقة غيره"

(2)

.

وهذا الأثر الذي ذكره الإمام أحمد لم أهتد إليه، وقد روى أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المرأة يطلقها زوجها ثم يموت عنها قال:[عدتها من يوم طلقها، ومن يوم يموت عنها]. أخرجه ابن أبي شيبة

(3)

. فلعله يقصده.

ولم أقف على مثال آخر عن الإمام أحمد لما أخطأ فيه أبو معاوية عن عبيد الله العمري

(4)

.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 812.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 301.

(3)

مصنف ابن أبي شيبة 4/ 160 ح 18917.

(4)

وقد ذكر ابن أبي حاتم قال: سألت أبا زرعة عن حديث رواه أبو معاوية عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لايلبس المحرم ثوباً مسه الورس ولا الزَّعفران إلا ان يكون غسيلاً" قال أخطأ أبو معاوية في هذه اللفظة إلا ان يكون غسيلا علل ابن أبي حاتم 1/ 271 ح 798.

وانظر أيضاً مثالاً آخر عند الدارقطني: علل الدارقطني 2/ 13 - 14، 2/ 51.

ص: 345

معمر بن راشد الأزدي ت (154) هـ:

تكلم الإمام أحمد في حديثه عن الأعمش، قال:"أحاديث معمر عن الأعمش التي يغلط فيها، ليس هو من عبد الرزاق، إنما هو من معمر، يعني الغلط"

(1)

.

وأما غير الإمام أحمد كابن معين، والأثرم، الدارقطني، فذكروا أنه سيئ الحفظ جداًّ عن الأعمش

(2)

.

وقد روى الفسوي ما يدل على سبب ذلك: قال: سمعت زيد بن المبارك، يذكر عن محمد بن ثور، عن معمر قال: سقطت مني صحيفة الأعمش، فإنما أتذكر حديثه، وأحدث من حفظي"

(3)

. فمن هذا السبب وقعت الأخطاء في روايته عن الأعمش. ولم يخرج الأئمة الستة شيئاً من حديثه عن الأعمش

(4)

. قال ابن حجر: لم يخرج له البخاري من روايته عن الأعمش شيئاً

(5)

.

‌مُغيرة بن مِقسَم ت (136) هـ:

قال عبد الله: وسمعته ـ أبا عبد الله ـ وذكر مُغيرة بن مِقسَم الضبي، فقال: كان صاحب السنة ذَكِيًّا حافظاً، وعامة حديثه عن إبراهيم مدخول، عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد ومن يزيد بن الوليد والحارث العكلي وعن عبيدة وعن غيره، وجعل يضعف حديث المغيرة عن إبراهيم وحده

(6)

.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 720.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

المعرفة والتاريخ 3/ 29.

(4)

لم يرمز المزي لأحد من الأئمة الستة أنه أخرج لمعمر عن الأعمش تهذيب الكمال 28/ 304، وقد أخرج له ابن ماجه حديثاً ح 1094.

(5)

هدي الساري ص 444.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 207/218.

ص: 346

كان أحمد يضعف حديث مغيرة بن مِقسَم عن إبراهيم النخعي وحده

(1)

. ونقل ابن حجر عن أحمد أنه قال: كان يدلسها كان سمعها من حماد

(2)

.

أبو بكر بن عياش:

قال أحمد: قد اختلفوا في اسمه وغلبت عليه كنيته

(3)

.

وقد وثقه أحمد في رواية ابنه صالح فقال: صدوق ثقة صاحب قرآن وخير

(4)

. وقال في رواية عبد الله: ثقة ربما غلط

(5)

.

يشير بهذا إلى أنه دون الحفاظ المتقنين، ومن أجل ذلك قال: ليس هو مثل زائدة، وزهير، وسفيان

(6)

يعني من الحفاظ الكوفيين ممن هم في طبقته. وكذلك قدم عليه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق.

قال مهنا بن يحيى: سألت أحمد بن حنبل أيهما أحب إليك: إسرائيل أو أبو بكر ابن عياش؟ فقال: إسرائيل. قلت لم؟ قال: لأن أبا بكر كثير الخطأ جداً. قلت: كان في كتبه خطأ؟ قال: لا، كان إذا حدّث من حفظه

(7)

.

وهذه الرواية تشير إلى أن أبا بكر بن عياش عند الإمام أحمد كان كثير الخطأ إذا حدّث من حفظه، وأما كتابه فهو صحيح، ومع ذلك فقد جعله مقارب الحديث عن بعض الشيوخ، وجعله عن البعض الآخر مضطرب الحديث،

(1)

تهذيب الكمال 28/ 399.

(2)

هدي الساري ص 445.

(3)

تاريخ بغداد 14/ 372.

(4)

الجرح والتعديل 9/ 342.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 480/3155.

(6)

المعرفة والتاريخ 2/ 172.

(7)

تاريخ بغداد 14/ 379.

ص: 347

فجعله مضطرب الحديث عن:

1.

صغار الشيوخ دون كبارهم:

قال الفسوي: حدثني الفضل ـ يعني ابن زياد ـ قال: سألت أبا عبد الله قلت: "الأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم تُحبس ـ أو تردّ ـ الشمسُ على أحد إلا يوشع بن نون" قال: نعم هكذا أو نحو هذا. قلت: رواه غير الأسود عن أبي بكر؟ قال: لم أسمعه إلا من الأسود. ثم قال أبو عبد الله: أبو بكر يضطرب في حديث هؤلاء الصغار، فأما حديثه عن أولئك الكبار ما أقربه، عن أبي حصين، وعاصم، وإنه يضطرب عن أبي إسحاق أو نحو ذا"

(1)

.

فذكر أن من كبار شيوخه أبي حَصين ـ عثمان بن عاصم ـ وعاصم ابن أبي النجود، ومن صغارهم هشاماً وهو ابن حسّان القردوسي البصري. وأبو حصين وعاصم من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة عند خليفة بن خياط

(2)

، وفي هذه الطبقة من شيوخ أبي بكر بن عياش يوجد: حصين بن عبد الرحمن السلمي

(3)

، وأبو إسحاق السبيعي

(4)

، وعبد العزيز بن رُفيع

(5)

، وكذلك سفيان

(1)

المعرفة والتاريخ 2/ 172، وانظر: تاريخ بغداد 14/ 379، والمنتخب من علل الخلال ص 181/ 101.

(2)

طبقات خليفة بن خياط ص 159. وهما في الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة عند ابن سعد الطبقات الكبرى 6/ 320، 321. وقد اعتمدت هذين الكتابين في تصنيف شيوخ أبي بكر بن عياش على الطبقات لأن الكتابين كليهما جعلا أساس تقسيم الطبقات ـ فيما عدا الصحابة ـ قائماً على اعتبار اللقي بين الصحابة والتابعين انظر: علم الرجال نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع ص 70.

(3)

المصدر نفسه ص 160، وهو في الثالثة عند ابن سعد الطبقات الكبرى 6/ 324.

(4)

طبقات خليفة بن خياط ص 162، الطبقات الكبرى 6/ 313.

(5)

الطبقات الكبرى 6/ 323. وجعله خليفة في الطبقة الخامسة ص 165، والظاهر أن تصنيف ابن سعد له في الطبقة الثالثة أولى فإنه قد روى عن ابن عمر، وابن عباس، وروى عنه حصين بن عبد الرحمن السلمي انظر: تهذيب الكمال 18/ 134.

ص: 348

ابن دينار التّمّار

(1)

، وغيرهم.

وفي طبقة الصغار: حميد الطويل

(2)

، والأعمش

(3)

، وإسماعيل بن أبي خالد

(4)

، وأبو إسحاق الشيباني

(5)

وغيرهم.

وبناء على ما ذهب إليه الإمام أحمد من تضعيف حديث أبي بكر بن عياش عن صغار شيوخه فقد أنكر بعض ما تفرد به عن هؤلاء الشيوخ أو خالف فيه غيره ممن هو أولى منه. فمما أنكره مما تفرد به عن بعض صغار شيوخه ما تقدم ذكره في رواية الفضل بن زياد عن الإمام أحمد أنه أنكر الحديث الذي رواه بلفظ: "لم تُحبس ـ أو تردّ ـ الشمسُ على أحد إلا يوشع بن نون".

وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند

(6)

، والطحاوي

(7)

، والخطيب

(8)

كلهم من طريق الأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش، عن هشام بن حسان،

(1)

فقد أدرك محمد بن الحنفية، وسعيد بن جبير، والشعبي، وأبي صالح السمان وطائفة ممن روى عنهم أهل هذه الطبقة، وذكر المزي عن أبي بكر بن عياش أنه قال: قال لي سفيان التمار: أتتني أم الأعمش بالأعمش فأسلمته إلي وهو غلام، قال: فذكرت ذلك للأعمش فقال: ويل أمه، ما أكبره! تهذيب الكمال 11/ 144.

(2)

ذكره خليفة مع هشام بن حسان في الطبقة السادسة من أهل البصرة ص 219، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة 7/ 252.

(3)

جعله خليفة رأس الطبقة الخامسة من أهل الكوفة ص 164، وهو في الطبقة الرابعة عند ابن سعد 6/ 342.

(4)

جعله خليفة في الطبقة السادسة من أهل الكوفة ص 167، وهو عند ابن سعد في الطبقة الرابعة طبقة الأعمش 6/ 344.

(5)

جعله خليفة في الطبقة الخامسة من أهل الكوفة ص 165، وجعله ابن سعد في الطبقة الرابعة منهم 6/ 345.

(6)

المسند 14/ 65 رقم 8315.

(7)

شرح مشكل الآثار برقم 1069، 1070.

(8)

تاريخ بغداد 9/ 89.

ص: 349

عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليُوشع لياليَ سار إلى بيت المقدس". وقد أعله الإمام أحمد في هذه الرواية عن الفضل بن زياد بأنه من رواية أبي بكر بن عياش عن هشام بن حسان، وهو من صغار شيوخه وروايته عنهم فيها اضطراب.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

والذي يظهر أن ذلك راجع إلى تفرد أبي بكر بن عياش برواية الحديث من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة بهذا اللفظ الذي تضمن ذكر يوشع بن نون، فالحديث قد روي من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة بغير هذا اللفظ. أخرجه الشيخان من هذا الوجه بلفظ: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعْني رجل ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يَبنِ بها، ولا أحدٌ بنى بيوتاً لم يرفع سقوفها، ولا آخر اشترى غنماً أو خَلِفات وهو ينتظر وِلادَها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريباً من ذلك فقال للشمس: إنكِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحُبست حتى فتح الله عليهم

"

(1)

.

وروي أيضاً من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؛ رواه النسائي

(2)

، وأبو عوانة

(3)

، وابن أبي عاصم

(4)

وابن حبان

(5)

كلهم من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه عن قتاة، عن سعيد به بمثل لفظ حديث همام بن منبه. فليس في الروايتين تسمية النبي الذي حبست له الشمس، وإنما ورد هذا من

(1)

صحيح البخاري مع فتح الباري 6/ 220 برقم 3124، صحيح مسلم 3/ 1366 رقم 1747.

(2)

السنن الكبرى 5/ 277 رقم 8878.

(3)

مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم 4/ 227 رقم 6605.

(4)

الجهاد برقم 11.

(5)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 11/ 135 رقم 4807.

ص: 350

رواية أبي بكر بن عياش، عن هشام، عن ابن سيرين، وكذلك ورد في حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة لكنه من قول كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني

(1)

، والحاكم

(2)

بمثل حديث همام وابن المسيب وفيه في آخر الحديث: [فقال كعب ـ وهو عند أبي هريرة ـ: صدق الله ورسوله، هكذا في كتاب الله يا أبا هريرة، هل حدثكم نبي الله صلى الله عليه وسلم أي نبي كان؟ قال: لا، قال كعب: يوشع بن نون، صاحب موسى، فأخبركم أي مدينة هي؟ قال: لا، قال: هي مدينة أَريحا]. فإضافة تسمية النبي صاحب القصة إلى كعب الأحبار أولى من إضافتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرد ذلك من طريق سالم من العلة، فأبو بكر بن عياش وإن كان ثقة، فإنه يضطرب في حديثه عن صغار شيوخه مثل هشام بن حسان شيخه في هذا الحديث ولا يضطبه جيداً، فلا يقبل ما يتفرد به، وخاصة أن ما ذكره معروفٌ من وجه آخر أنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في نظري هو وجه إعلال الإمام أحمد لحديث أبي بكر بن عياش، حيث جعل ما كان أصله قولاً لكعب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد اعتمد الحافظ ابن حجر إسناد أبي بكر بن عياش هذا فقال: وقد ورد أصل تسمية هذا النبي من طريق مرفوعة صحيحة، وقال: رجال الإسناد محتج بهم في الصحيح

(3)

، ومن قبله قال ابن كثير عن الإسناد: هو على شرط البخاري

(4)

. والحديث ليس على شرط البخاري، لأن البخاري ما أخرج لأبي بكر بن عياش عن هشام بن حسان، وليس الإسناد من شرط الصحيح، لأن

(1)

المعجم الأوسط 6/ 352 رقم 6600.

(2)

المستدرك 2/ 139.

(3)

فتح الباري 6/ 221.

(4)

البداية والنهاية 2/ 236.

ص: 351

رجاله وإن كانوا محتجاً بهم في الصحيح لكن ليس ذلك على صورة الاجتماع.

وكذلك صحح الشيخ الألباني هذا الإسناد

(1)

، واعتمد على التفصيل الذي ذكره ابن حبان في حالة أبي بكر بن عياش حيث قال ابن حبان: "كان أبو بكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، يروى عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد روى عنه ابن المبارك وأهل العراق، وكان يحيى القطان وعلى بن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر سنه ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر فلو كثر خطؤه حتى كان الغالب على صوابه لا يستحق مجانبة رواياته، فأما عند الوهم يهم أو الخطأ يخطئ لا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته وصحة سماعه

والصواب في أمره مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم لأنه داخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق القدح ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بالجرح وهكذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتبين خطاؤه"

(2)

. فقوله: الاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم، يدل على قبول ما تفرد به، لكن الإمام أحمد بسبره لحديث أبي بكر بن عياش عن شيوخه قد ذكر جرحاً مفسراً، فيقدم على هذا التعديل المبهم.

وكذلك لم يقبل الإمام أحمد حديثاً آخر لأبي بكر بن عياش عن بعض صغار شيوخه لتفرده به فذكر الخلال عن الفضل بن زياد:

قال الفضل بن زياد: قلت: الحديث الذي رواه أبو بكر بن عيّاش، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: [أن رجلاً جاء إلى بيته، فرأى ما بهم من

(1)

سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 348.

(2)

الثقات لابن حبان 6/ 669 - 670.

ص: 352

الحاجة، فخرج إلى الصحراء، فلما رأتْ ذلك امرأتُه قامتْ إلى الرّحى فوضعتها، وإلى التَّنُّور فسجرتْه، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، وذهبت إلى التنور فوجدته مُمتلئاً، فلما جاء الزوج قال: أصبتُم بعدي شيئاً؟ قالت امرأتُه: نعم، من ربِّنا. قال: قام إلى الرحى فرفعها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إنه لو لم يرفعها لم تزل إلى يوم القيامة". قال: ما أدري أيش هذا، أبو بكر يضطرب عن هؤلاء

(1)

.

هذا الحديث أخرجه أحمد

(2)

عن الأسود بن عامر عن أبي بكر بن عياش به، وأخرجه البزار

(3)

، والطبراني

(4)

، والعقيلي

(5)

، والبيهقي

(6)

كلهم من طرق عن أحمد ين يونس، عن أبي بكر بن عياش به.

قال البزار: لا نعلم رواه عن هشام إلا أبو بكر بن عياش. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن سيرين إلا هشام بن حسّان، ولا عن هشام بن حسان إلا أبو بكر بن عياش، تفرد به: أحمد بن يونس. ا. هـ.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بقوله: ما أدري أيش هذا، أبو بكر يضطرب عن هؤلاء. ا. هـ. هذا يدل على عدم قبوله للحديث لتفرد أبي بكر بروايته عن شيخ يضطرب في حديثه، وهو هشام بن حسّان. وقد وافق الإمام أحمد على إنكار هذا

(1)

المنتخب من علل الخلال ص 182.

(2)

المسند 16/ 384 رقم 10658.

(3)

كشف الأستار 4/ 267 رقم 3687.

(4)

المعجم الأوسط 5/ 370 رقم 5588.

(5)

كتاب الضعفاء 2/ 568.

(6)

شعب الإيمان 2/ 116 رقم 1339، وفي دلائل النبوة 6/ 105.

ص: 353

الحديث العقيلي فقال بعد روايته للحديث: يروي أبو بكر عن البصريين، عن حميد وهشام، غير حديث منكر. ا. هـ

(1)

. وقد أوضح العقيلي وجه علة هذا الحديث فروى عن محمد بن إسماعيل ـ هو الصائغ ـ قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا خالد بن عبد الله، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة [أن رجلاً مؤمناً كانت تحته امرأة مؤمنة، وذلك في بني إسرائيل، وأنهم أصبحوا يوماً وليس عندهم طعام، فغسلت الخواز وغسلت الجفنة، وسجرت التنور وجعلت تعلل زوجها حتى نام، فقامت إلى جفنتها فوجدتها ملآة تدفق عجيناً قد اختمر، فذهبت إلى التنور فإذا فيه حنب لحم، فقال زوجها: من تصدق علينا؟ فقالت: الرب تبارك وتعالى تصدق علينا]. قال العقيلي: وهذا أولى من حديث أبي بكر بن عياش

(2)

. أي ليس فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فتبين بهذا أن أصل الحديث موقوف على أبي هريرة وأنه من الإسرائيليات، وليس فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه أبو بكر بن عياش بزيادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث، وأُسند الخطأ إليه لأنه معروف بقلة ضبطه لحديث هشام بن حسان

(3)

.

(1)

كتاب الضعفاء 2/ 568.

(2)

كتاب الضعفاء 2/ 569، وأفاد المحقق بأن هذا مأخوذ من النسخة الناقصة. ا. هـ. وليس موجوداً في بعض نسخ الضعفاء المطبوعة.

(3)

وقد روى الإمام أحمد الحديث من طريق عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة بمثل رواية أبي بكر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة وفيه: قال أبو هريرة: [فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد صلى الله عليه وسلم: "لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة"]. المسند 15/ 276 رقم 9464.

وفيه شهر بن حوشب وقد تركوه انظر: تهذيب الكمال 12/ 582، لكن رواية عبد الحميد ابن بهرام عنه مقاربة كما قال الإمام أحمد الموضع السابق.

ورواه البيهقي في دلائل النبوة 6/ 105 - 106 من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة بنحوه. قال ابن كثير: وهذا الحديث غريب سنداً ومتناً البداية والنهاية 6/ 119. وعبد الله بن صالح وإن كان صدوقاً لكن له مناكير كثيرة وأحاديث يخالف فيها انظر: المجروحين 2/ 40، تهذيب التهذيب 5/ 260

ص: 354

وقال الذهبي: هذا حديث منكر

(1)

.

ومن صغار شيوخ أبي بكر بن عياش الذين تكلم الإمام أحمد في أحاديثه عنهم: إسماعيل بن أبي خالد، فروى أبو داود في مسائله قال: سمعت أحمد حدّث عن أبي بكر بن عياش، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي في المفقود قال: ليس هذا من حديث إسماعيل

(2)

.

ولم أقف على هذه الرواية التي ذكرها الإمام أحمد، لكن روى سعيد بن منصور عن هشيم، نا إسماعيل بن أبي خالد، والشيباني، عن الشعبي أنه قال في امرأة المفقود:[إذا تزوجت فحملت من زوجها الآخر ثم بلغها أن زوجها الأول حي يفرق بينها وبين زوجها الآخر، فإن مات زوجها الأول فإنها تعتد من هذا الآخر بقية حملها فإذا وضعت اعتدتْ من الأول أربعة أشهر وعشراً وورثته]

(3)

. فرواه من قول الشعبي وليس عن علي، فلعل هذا ما يقصده الإمام أحمد في كلامه على رواية أبي بكر بن عياش، حيث جعل الحديث من قول علي، ببينما هو من قول الشعبي، والمعروف عن علي في المفقود هو ما رواه سعيد بن منصور أيضاً، عن جرير الضبي، عن منصور، عن الحكم قال: قال علي: [إذا فقدت المرأة زوجها فلا تتزوج حتى تستبين أمره]

(4)

. ورواه عبد الرزاق عن الثوري، عن منصور به

(1)

سير أعلام النبلاء 8/ 506.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ رواية أبي داود 433 رقم 1998.

(3)

سنن سعيد بن منصور 1/ 403 رقم 1762، ورواه ابن حزم من طريقه. المحلى 10/ 138 - 139.

(4)

سنن سعيد بن منصور 1/ 402 رقم 1758.

ص: 355

نحوه

(1)

. ورواه ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش، عن الحكم عن علي

(2)

نحوه، وهذا منقطع، أبو بكر لم يلق الحكم. فالمعروف عن علي في المفقود هو رواية الحكم، وأما حديث إسماعيل بن أبي خالد فهو عن الشعبي قوله، وهذا وجه إنكار الإمام أحمد لرواية أبي بكر بن عياش، والعلم عند الله.

وقد أخرج البخاري لأبي بكر بن عياش من حديثه عن صغار شيوخه حديثه عن حميد الطويل، فإنه من صغار شيوخه كما تقدم، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً، وهو حديث أنس في الشفاعة مختصراً

(3)

، وهو معروف لأنس من وجوه أخرى مطولاً

(4)

. ولم أقف على غيره. وكذلك أخرج له من حديثه عن أبي إسحاق الشيباني، وهو حديثه عن عبد الله بن أبي أوفى:"إذا رأيت الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم"

(5)

، وهو متابع

(6)

. ولم أقف على غيره.

2.

وممن ذكره الإمام أحمد أن أبا بكر بن عياش يضطرب في حديثه أبو إسحاق السبيعي، وهو في طبقة كبار شيوخه، فقال كما تقدم في رواية الفضل ابن زياد عنه: إنه يضطرب عن أبي إسحاق

(7)

.

ومما أنكره الإمام أحمد من حديثه عن أبي إسحاق، ونسبه إلى الوهم فيه ما ذكره عبد الله:

(1)

مصنف عبد الرزاق 7/ 90 رقم 12331.

(2)

مصنف ابن أبي شيبة 3/ 521 رقم 16709.

(3)

انظر: فتح الباري 13/ 475 رقم 7509.

(4)

انظر: الحديث الذي بعده.

(5)

فتح الباري 4/ 198 رقم 1958.

(6)

انظر: فتح الباري 4/ 179 رقم 1941.

(7)

المعرفة والتاريخ 2/ 172.

ص: 356

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي قال حدثنا أبو بكر بن عياش، قال حدثنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال ذكر عند عبد الله امرأة فقالوا إنها تغتسل يا أبا عبد الرحمن وتتوضأ. فقال:[أما إنها لو كانت عندي لم تفعل ذلك]. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان يحيى بن سعيد ينكر هذا الحديث جداً. قال أبي: لم يروه عن أبي إسحاق غير أبي بكر بن عياش، نراه وهم إنما هذا يرويه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة

(1)

.

فأشار في هذه الرواية إلى وهم أبي بكر بن عياش في هذا الحديث لتفرده به عن أبي إسحاق ومخالفة الأعمش له، حيث رواه عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. فلم يقبل الإمام أحمد هذا التفرد منه بل عدّه وهماً.

ومما ذكره الإمام أحمد من أوهامه في روايته عن أبي إسحاق ما رواه عبد الله أيضاً:

قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدثنا أبو إسحاق، عن سعد بن إياس البجلي قال: [رأيت عبد الله يُخرج النساء من المسجد يومَ الجمعة ويقول: أخرجن، فإن هذا ليس لكُنّ. سمعت أبي يقول: سعد بن إياس هو أبو عمرو الشيباني، ولكن أبا بكر قال: البجلي كأنه يرى أنه وهم

(2)

.

فذكر الإمام أحمد أن أبا بكر وهم في نسبة سعد بن إياس، حيث ذكر أنه بجلي بينما هو شيباني.

وقد وافق الإمام أحمد أبو حاتم في نسبة أبي بكر بن عياش إلى الاضطراب عن أبي إسحاق السبيعي، فأعل حديثاً لأبي بكر عن أبي إسحاق أخطأ فيه ثم

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 470/3080 - 3081.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 470/3082 - 3083.

ص: 357

قال: وسماع أبي بكر من أبي إسحاق ليس بذاك القوي

(1)

. ولم يخرج الإمام البخاري لأبي بكر بن عياش شيئاً من حديثه عن أبي إسحاق.

وهؤلاء الأعلام ذكروا على سبيل المثال لا الحصر للرواة الثقات الذين تكلم الإمام أحمد في حفظهم لحديث بعض شيوخهم واقتضى ذلك إعلال مروياتهم عن أولئك الشيوخ.

(1)

علل ابن أبي حاتم 1/ 34/69. وقد ذكر أبو حاتم وأبو زرعة غير حديث لأبي بكر بن عياش أخطأ فيه عن أبي إسحاق انظر: علل ابن أبي حاتم: 1/ 56/144، 1/ 88/234، 1/ 139/386، 2/ 42/1606، 2/ 177/2026.

ص: 358

‌المطلب الرابع: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي عن أهل بعض البلدان، والإعلال به عند الإمام أحمد

.

ومن مجال غوامض علل الحديث الذي كشفه النقاد ما يقع لبعض رواة الأخبار من أوهام واضطراب في رواياتهم عن أهل بعض البلدان مع كونهم في أنفسهم ثقات، لكنهم بسبب من الأسباب لم يضبطوا أحاديث شيوخ تلك البلدان ووصفوا بسوء الحفظ فيهم، فيكون ذلك من دواعي التمييز والتمحيص فيما رووا، فلا يصحح لهم بإطلاق، بل إضافة على حالهم من حيث الجرح والتعديل ينظر إلى بلد من رووا عنه من الشيوخ، فيصحح أحاديثهم عن أهل البلدان الذين هم فيهم ضابطون ويتوقف في مروياتهم عمن وصفوا بسوء الحفظ فيهم، فلا يقبل ما تفردوا به أو ما خالفوا فيه غيرهم، وبهذا يجتنب مواطن الوهم والغلط في مروياتهم.

والإمام أحمد رحمه الله من النقاد الذين انبروا لكشف هذه العلة في أحاديث هذا الصنف من الرواة، فميّزهم وأعلّ بعض مروياتهم بهذه العلة، منهم:

1.

‌ إسماعيل بن عيّاش بن سُليم العنسي الحمصي:

وصفه الإمام أحمد بأنه هو والوليد بن مسلم أروى الناس لحديث الشاميين

(1)

.

ولما سأل عن حفظه فأُخبر بذلك عجب من حفظه وجعله مثل وكيع في سعة الحفظ، فروى الخطيب من طريق عبد الله بن الإمام أحمد قال: "قال أبي لداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: يا أبا سليمان، كان يحدثكم إسماعيل بن عياش

(1)

تاريخ بغداد 6/ 222.

ص: 359

هذه الأحاديث بحفظه؟ قال: نعم! ما رأيت معه كتاباً قط. فقال له: لقد كان حافظاً، كم كان يحفظ؟ قال: شيئاً كثيراً. قال له: كان يحفظ عشرة آلاف؟ قال: عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف، فقال له أبي: هذا كان مثل وكيع"

(1)

.

وقد صحح الإمام أحمد أحاديث إسماعيل بن عيّاش عن الشاميين خاصة، وضعّف حديثه عن غيرهم من أهل المدينة، وأهل العراق، لأنه يغلط فيهم وله عنهم مناكير.

قال أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "إسماعيل بن عياش، ما روى عن الشاميين فهو صحيح، وما روى عن أهل المدينة وأهل العراق ففيه ضعف يغلط"

(2)

.

وقال في رواية أبي طالب: "إسماعيل بن عيّاش، ما روى عن الشاميين صحيح، وما روى عن أهل الحجاز فليس بصحيح"

(3)

.

وقال أبو حاتم: "سألت أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن عيّاش فقال: في روايته عن أهل العراق وأهل الحجاز بعض الشيء، وروايته عن أهل الشام كأنه أثبت وأصح"

(4)

.

وقال في رواية أبي داود: "ما حدّث عن مشايخهم، قلت: الشاميين؟ قال: نعم، فأما حديث غيرهم عنده مناكير"

(5)

.

وأما في رواية المروذي فحسّن حديثه عن أهل الشام، فكأن حديثه عنهم

(1)

تاريخ بغداد 6/ 224.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 289.

(3)

المصدر نفسه 1/ 288.

(4)

الجرح والتعديل 2/ 192.

(5)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد 264/ 300 ج.

ص: 360

متردد بين الصحيح والحسن عنده

(1)

. قال المروذي: "سألته يعني أبا عبد الله عن إسماعيل بن عيّاش، فحسّن روايته عن الشاميين وقال: هو فيهم أحسن حالاً مما روى عن المدنيين وغيرهم"

(2)

.

وقد أجمع على هذا القول في إسماعيل بن عياش جمعٌ من الأئمة الحفاظ، منهم يحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو زرعة، وابن عدي، وروي أيضاً عن علي بن المديني

(3)

.

ما أعله من حديث إسماعيل بن عياش عن غير أهل الشام:

1.

قال عبد الله: سألت أبي عن حديث حدّثناه الفضل بن زياد الذي يقال له: الطسّي قال: حدثنا إسماعيل بن عيّاش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقرأ الجُنْب والحائض شيئاً من القرآن" فقال أبي: هذا باطل أنكره على إسماعيل بن عيّاش، يعني أنه وهمٌ من إسماعيل بن عيّاش

(4)

.

هذا الحديث رواه الترمذي

(5)

، وابن ماجه

(6)

، والطحاوي

(7)

، والدارقطني

(8)

، والبيهقي

(9)

، من طرق عن إسماعيل بن عياش به.

(1)

قال الذهبي: حديث إسماعيل عن الحجازيين والعراقيين لا يحتج به، وحديثه عن الشاميين صالح من قبيل الحسن، ويحتج به إن لم يعارضه أقوى منه سير أعلام النبلاء 8/ 321.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 141.

(3)

انظر أقوالهم في تاريخ بغداد 6/ 224 - 227، وتهذيب الكمال 176 - 180، وكذلك شرح علل الترمذي 2/ 773.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 381 رقم 5675، وكذا العقيلي عن عبد الله الضعفاء 1/ 105، وكذا الخلال عن عبد الله ذكره ابن دقيق العيد في الإمام 3/ 71.

(5)

الجامع 1/ 236 ح 131.

(6)

السنن 1/ 195 ح 595.

(7)

شرح معاني الآثار 1/ 88.

(8)

السنن 1/ 117.

(9)

السنن الكبرى 1/ 89، 309.

ص: 361

أنكره الإمام أحمد على إسماعيل بن عيّاش، مما يدل على أنه علة الحديث، وفسر عبد الله وجه النكارة بأن الحديث وهمٌ من إسماعيل، وشيخه في هذا الحديث هو موسى بن عقبة إمام المغازي، وهو حجازي من ثقات أهل المدينة. وهذا الوهم يحتمل أحد وجهين: الأول: أن يكون ذلك راجعاً إلى تفرد إسماعيل ابن عياش عن موسى بن عقبة بهذه الرواية، وهو ممن لا يحتمل تفرده لعدم ضبطه لحديث أهل الحجاز، وهذا وجه إعلال الإمام البخاري للحديث.

قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: "إن إسماعيل بن عيّاش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعف روايته عنهم فيما ينفرد به"

(1)

. ونقل عنه أيضاً أنه قال: "لا أعرفه من حديث ابن عقبة، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق"

(2)

. وممن نص على تفرد إسماعيل عن موسى بن عقبة بهذه الرواية الترمذي

(3)

، والبزار

(4)

.

الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعاً إلى ما ذكره أبو جاتم قال: "هذا خطأ، إنما هو عن ابن عمر قوله"

(5)

، فيكون الوهم في رفعه للحديث. ولم أقف على رواية الوقف إلا ما ذكره أبو حاتم هنا.

وقد يقال إن إسماعيل بن عياش لم ينفرد بهذا عن موسى بن عقبة بدليل ما رواه الدارقطني من ثلاث طرق أخرى عن موسى بن عقبة، وعليه فلا يستقيم

(1)

الجامع 1/ 237.

(2)

علل الترمذي الكبير 1/ 190.

(3)

الجامع الموضع السابق.

(4)

نقل ابن دقيق العيد عن البزار أنه قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن موسى بن عقبة إلا إسماعيل بن عياش، ولا نعلم يُروى عن ابن عمر من وجه إلا من هذا الوجه، ولا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض إلا من هذا الوجه الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 1/ 70.

(5)

علل ابن أبي حاتم 1/ 49 ح 116.

ص: 362

الإعلال بالوجه الذي ذكره الإمام البخاري من توهيم إسماعيل بن عياش من أجل التفرد، وهذه الطرق هي:

1.

طريق عبد الملك بن مسلمة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى ابن عقبة به

(1)

.

2.

طريق أبي معشر، عن موسى بن عقبة به. رواه الدارقطني أيضاً من طريق محمد بن إسماعيل الحساني، عن رجل عنه

(2)

.

3.

طريق إبراهيم بن العلاء، وسعيد بن يعقوب الطالقاني كلاهماعن إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عمر، وموسى بن عقبة، عن نافع به

(3)

.

أما الطريق الأول ففيه عبد الملك بن مسلمة، قال ابن حبان: شيخ يروي عن أهل المدينة المناكير الكثيرة. وقال ابن يونس: منكر الحديث

(4)

. وأما المغيرة ابن عبد الرحمن المخزومي فقيه أهل المدينة، فوثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، وقال أبو زرعة: لا بأس به

(5)

. واغتر به ابن سيد الناس فصحح الحديث من أجله، وذهل عن وجود عبد الملك بن مسلمة في السند، فخطّأه ابن حجر

(6)

.

وأما الطريق الثاني ففيه رجل مبهم في السند، وفيه أيضاً أبو معشر نجيح ابن عبد الرحمن المديني، قال أحمد: كان صدوقاً، لكنه لا يقيم الإسناد، ليس بذاك

(7)

(1)

سنن الدارقطني 1/ 117.

(2)

سنن الدارقطني 1/ 118.

(3)

أخرج الطريقين الدارقطني السنن 1/ 117، وأخرج ابن عدي طريق إبراهيم بن العلاء الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 294، وذكر ابن عدي طريق الطالقاني تعليقاً.

(4)

المجروحين 2/ 134، المغني في الضعفاء 2/ 408.

(5)

تهذيب الكمال 28/ 382.

(6)

تلخيص الحبير 1/ 138.

(7)

الجرح والتعديل 6/ 494.

ص: 363

وقال ابن معين: ضعيف، يكتب من حديثه الرقاق، وكان رجلاً أميا، يتقى أن يروى من حديثه المسند

(1)

. وقال البخاري: منكر الحديث

(2)

. فمثل هذا لا يعتبر به في غير الرقاق من المسند، والأمر الآخر هو أن الرجل المبهم يحتمل أن يكون مجروحاً جرحاً شديداً. وبهذا ينتفي صحة متابعة إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة.

وأما الطريق الثالث، ففيه إبراهيم بن العلاء أبو هارون الغنوي، لم يحدث عنه يحيى القطان وابن مهدي

(3)

، لكن قال عنه الذهبي: بصري صدوق

(4)

، إلا أن الراوي عنه، وهو محمد بن جعفر بن رزين لم أجد له ترجمة. وإبراهيم بن العلاء مقرون بسعيد بن يعقوب الطالقاني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، والذهبي

(5)

. وهذا السند ظاهره الصحة، إلا أنه معلول، فإن الشيخ الثاني لإسماعيل ابن عيّاش، وهو عبيد الله بن عمر حجازي أيضاً فروايته عنه ضعيفة أيضاً، ولذلك قال ابن عدي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث عبيد الله

(6)

، يشير إلى تفرد إسماعيل بن عيّاش به عن عبيد الله، وهو ممن لا يحتمل منه هذا التفرد.

وقد ضعف الحافظ ابن حجر هذا الحديث من جميع طرقه

(7)

.

2.

قال أبو طالب: سألت أحمد عن حديث ابن عياّش، عن ابن جُريج، عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاء، أو رعَف، أو أَحدث

(1)

تهذيب الكمال 29/ 326.

(2)

التاريخ الكبير 8/ 114.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 212.

(4)

ميزان الاعتدال 1/ ترجمة 152.

(5)

تهذيب الكمال 11/ 123، الكاشف 1/ 447 ترجمة 1983.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 294.

(7)

فتح الباري 1/ 409.

ص: 364

في صلاته فلْيذهب فلْيتوضأ، ثم ليَبْنِ على صلاته" فقال: هكذا رواه ابن عيّاش، إنما رواه ابن جريج فقال: عن أبي، إنما هو عن أبيه، ولم يُسنده عن أبيه، ليس فيه ذكر عائشة

(1)

.

وفي رواية أبي داود:

"سمعت أحمد قيل له: حديث ابن عيّاش ـ وهو إسماعيل ـ عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في البناء ـ يعنى من الحدث في الصلاة؟ قال: ليس هذا بشيء، إنما هو عن ابن جريج، عن أبيه، ولم يسمعه أيضاً من أبيه، قلت: يجمعهما ـ أعني إسماعيل بن عياش؟ قال: ليس هذا بشيء"

(2)

.

هذا الحديث أخرجه ابن ماجة

(3)

، وابن عدي

(4)

، والدارقطني

(5)

، والبيهقي

(6)

من طرق عن ابن عياش، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة به مرفوعاً.

وقد رواه ابن عيّاش بإسناد آخر فقال: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو الربيع موسى بن عامر، عن الوليد بن مسلم، عن إسماعيل به

(7)

،

(1)

السنن الكبرى للبيهقي 1/ 142. رواه من طريق ابن عدي، والذي في أصل الرواية كما في الكامل لابن عدي 1/ 288: عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، والصواب ما ذكره البيهقي من طريق ابن عدي بذكر عائشة مكان ابن عباس، لأن الحديث حسب مصادر التخريج إنما ورد عن عائشة، وليس عن ابن عباس، وأيضاً نسخة الكامل المطبوعة معروفة بكثرة الأخطاء فيها.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 399/ 1889.

(3)

سنن ابن ماجة 1/ 385 ح 1221.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 292، 5/ 1928.

(5)

سنن الدارقطني 1/ 154 ح 15.

(6)

السنن الكبرى 1/ 142، 2/ 255.

(7)

أخرجه البيهقي من هذا الوجه السنن الكبرى 2/ 255. والوليد بن مسلم ثقة معروف، وإنما عيب عليه كثرة التدليس التقريب 7506.

ص: 365

وتابعه مروان بن محمد الطاطري عن إسماعيل به

(1)

.

ورواه داود بن رُشيد، عن إسماعيل، عن ابن جريج، عن أبيه، وعن عبد الله ابن أبي مليكة، عن عائشة به

(2)

.

وقد أعلّ الإمام أحمد الإسناد الأول كما في هذه الرواية من طريق أبي طالب عنه، ووجه ذلك أن الحفاظ من أصحاب ابن جريج رووا الحديث عنه، عن أبيه مرسلاً. رواه كذلك: عبد الرزاق

(3)

، وأبو عاصم النبيل، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبد الوهاب ابن عطاء الخفاف

(4)

. فهؤلاء مقدّمون على إسماعيل ابن عياش في ابن جريج وخاصة أن إسماعيل معروف بعدم ضبطه لحديث شيوخه الحجازيين، وابن جريج منهم.

وقد وافق الإمام أحمد على إعلال الحديث من هذا الوجه محمد بن يحيى الذهلي ـ وقد روى الحديث بالوجهين مسنداً من طريق ابن عياش، ومرسلاً من طريق أبي عاصم النبيل ـ فقال:"هذا هو الصحيح عن ابن جريج، وهو مرسل، وأما حديث ابن جريج، عن ابن أبي ملكية، عن عائشة الذي يرويه إسماعيل بن عياش فليس بشيء"

(5)

.

وتبعهما البيهقي، قال: "وهذا الحديث أحد ما أنكر على إسماعيل بن عياش، والمحفوظ ما رواه الجماعة عن ابن جريج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم

"

(6)

.

(1)

أخرجه من هذا الوجه ابن عدي الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1928. ومروان بن محمد الطاطري ثقة انظر: تهذيب الكمال 27/ 401 - 402.

(2)

أخرجه الدارقطني 1/ 153 ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 255. وداود بن رُشيد ثقة التقريب ترجمة 1794.

(3)

انظره في منصنفه 2/ 341 ح 3671.

(4)

والأربعة رواياتهم عند الدارقطني في السنن 1/ 155.

(5)

سنن الدارقطني 1/ 155.

(6)

السنن الكبرى 2/ 255 - 256.

ص: 366

وأما أبو حاتم وأبو زرعة فرجحا أيضاً رواية الإرسال لكن من وجه آخر فقالا: "الصحيح عن ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل"

(1)

. وهذه الرواية لم أقف عليها، والظاهر أنها غريبة، ومن أجل ذلك قال ابن دقيق العيد:"هذا لون آخر ينبغي أن يتتبع بالكشف"

(2)

.

وقد يعترض على هذا الإعلال بثلاثة أمور، سأوردها مع الجواب عليها.

الأول: أن إسماعيل بن عياش توبع عن ابن جريج: تابعه سليمان بن أرقم قال: حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث

(3)

. قال الدارقطني: "تابعه سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وأصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج، عن أبيه مرسلاً، والله أعلم"

(4)

، يشير إلى أنه مع هذه المتابعة، حتى ولو صلحت، فإنها لا تقارن برواية أصحاب ابن جريج الحفاظ.

الثاني: أن بعض الرواة روى الحديث عن إسماعيل بن عيّاش، عن عباد ابن كثير، وعطاء بن عجلان، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بمثله مرفوعاً. رواه الدارقطني، وقال: عباد بن كثير، وعطاء بن عجلان ضعيفان

(5)

. وعباد بن كثير الذي يروي عنه إسماعيل بن عياش هو الثقفي البصري

(6)

، وهو أسوأ حالا من الرملي، فقد قال فيه غير واحد: لا يكتب حديثه

(7)

، وقال الإمام أحمد: روى

(1)

علل ابن أبي حاتم 1/ 31 ح 57، و 1/ 179 ح 512.

(2)

الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 2/ 345.

(3)

أخرجه الدارقطني 1/ 155.

(4)

سنن الدارقطني 1/ 154.

(5)

الموضع نفسه.

(6)

انظر: تهذيب الكمال 3/ 163 - 164.

(7)

تهذيب الكمال 14/ 147 - 148.

ص: 367

أحاديث كاذبة لم يسمعها

(1)

. وأما عطاء بن عجلان فمتروك أيضاً، وأطلق عليه ابن معين والفلاس وغيرهما الكذب

(2)

. فروايته ساقطة أيضاً كالتي قبلها.

الثالث: أن إسماعيل بن عياش قد روى الحديث من وجهين: مرسلاً كما رواه الجماعة، ومسنداً بذكر عائشة؛ رواه عنه بالإسنادين معاً: محمد بن المبارك، ومحمد بن الصباح، والربيع بن نافع

(3)

. وهذا يُشعر بأنه ضابط للحديث، فتقبل روايته المسندة ولا تعلّ، وهذا الذي مال إليه ابن دقيق العيد، وتبعه ابن التركماني. قال ابن دقيق العيد:"وهذه الروايات التي جمع فيها إسماعيل بن عيّاش بين الإسنادين جميعاً ـ أعني المرسل والمسند في حالة واحدة ـ مما يبعد الخطأ على إسماعيل، فإنه لو اقتصر على رفع ما وقفه الناس لتطرّق الوهم إلى خطئه تطرقاً قريباً، فأما وقد وافق الناس في روايتهم المرسل، وزاد عليهم بالمسند، فهذا يُشعر بتحفظ وتثبت فيما زاده عليهم، وإسماعيل قد وثقه يحيى بن معين، وقال يزيد بن هارون: ما رأيب شامياً ولا عراقياً أحفظ من إسماعيل بن عيّاش"

(4)

.

والجواب على هذا أن إسماعيل قد روى الحديث من وجه آخر عن ابن جريج غير الوجهيْن المذكوريْن، وهو: عن ابن جريج، عن أبيه، عن عائشة، ولم يتابع على هذا الوجه كما لم يتابع على الرواية المسندة من طريق ابن أبي مليكة من وجه معتبر. والذين رووا الحديث عنه من هذه الوجوه الثلاثة كلهم ثقات، واختلافهم عليه يدل على اضطرابه لا على مزيد تثبت، فالوجه الذي توبع عليه من قبل ثقات

(1)

الجرح والتعديل 6/ 84.

(2)

قاله الحافظ في التقريب 678 ترجمة 4627.

(3)

ورواياتهم كلهم عند الدارقطني في سننه 1/ 154. وكلهم ثقات انظر: التقريب: 1912، 6004، 6302.

(4)

الإمام في معرفة أحاديث الأحكام 2/ 345، وانظر: الجوهر النقي بحاشية السنن الكبرى حيث نقل كلام ابن دقيق العيد بدون عزو 1/ 142.

ص: 368

أصحاب شيخه ابن جريج يكون هو المحفوظ والوجهان الآخران يكونان غير محفوظيْن، وهذا ما ذكره ابن عدي عن الوجهين المسندين

(1)

، والله أعلم.

وقد ردّ الإمام أحمد على احتجاج أبي داود برواية إسماعيل للحديث من الوجهين ـ أعني مسنداً ومرسلاً ليدل على قبوله عنده ـ فقال: ليس هذا بشيء

(2)

.

2.

‌ سفيان بن عيينة:

ذكر الإمام أحمد أن حديثه عن الكوفيين فيه غلط كثير، فقال كما جاء في رواية الفضل بن زياد:"كان سفيان بن عيينة حافظاً، إلا أنه كان إذا صار في حديث الكوفيين كان له غلط كثير، وقد غلط في حديث الحجازيين في أشياء"

(3)

.

ولا يدل هذا في الحقيقة على سوء حفظ سفيان لحديث الكوفيين، وذلك أن كلام الإمام أحمد ورد في معرض مقارنة حفظ الثوري بابن عيينة، فالرواية كما جاءت عن الفضل بن زياد هي:

"سئل أحمد بن حنبل، قيل له: سفيان الثوري كان أحفظ أو ابن عيينة؟ فقال: كان الثوري أحفظ وأقل الناس غلطاً، وأما ابن عيينة فكان حافظاً، إلا أنه إذا صار في حديث الكوفيين كان له غلط كثير، وقد غلط في حديث الحجازيين في أشياء. قيل له: فإن فلاناً يزعم أن سفيان بن عيننة كان أحفظهما؟ فضحك ثم قال: فلان حسن الرأي في ابن عيينة فمن ثَمّ"

(4)

.

والأمر الآخر أن هذه الرواية أشارت إلى غلط ابن عيينة في حديث الحجازيين أيضاً، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه بدليل أن شيخ الإمام أحمد وهو

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 293.

(2)

تقدم في صدر المسألة ص 293.

(3)

تاريخ بغداد 9/ 170.

(4)

تاريخ بغداد 9/ 170.

ص: 369

عبد الرحمن بن مهدي قد قال في ابن عيينة: إنه من أعلم الناس بحديث أهل الحجاز

(1)

. فكثرة الغلط المشار إليها في رواية ابن عيينة عن الكوفيين هي بالمقارنة برواية الثوري عنهم، فالثوري أحفظ لحديث الكوفيين من ابن عيينة وأقل غلطاً، وأما بالنسبة لرواية ابن عيينة عن الحجازيين فإنما يقصد به الغلط الذي لا يسلم منه أحد حتى وإن كان ثقة، والله أعلم.

ولم يجتنب أصحاب الصحاح رواية ابن عيينة عن الكوفيين كالأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر الأحمسي، وأبي إسحاق الشيباني وغيرهم

(2)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 482 رقم 6062.

(2)

تهذيب الكمال 7/ 179 - 182.

ص: 370

‌المطلب الخامس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي إذا جمع الشيوخ في الإسناد، والإعلال به عند الإمام أحمد

.

ومن العلل التي تعلّ بها الروايات في حالة دون أخرى أن يكون الراوي ليس له من الضبط ما يقبل منه أن يروي حديثاً واحداً عن عدد من الشيوخ ثم يسوقه سياقاً واحداً، وذلك أن الحديث الواحد إذا رواه عدد من الشيوخ فلا بد أن يقع بطبيعة الحال بعض الاختلافات في ألفاظهم بين شيخٍ وآخر لتصرفهم في لفظ الحديث، فإذا جاء راوٍ وروى الحديث عنهم ولم يميز لفظ هذا من ذاك، فإن ذلك مشعر بأنه قد حمل لفظ بعضهم على بعض، وبالتالي يقع في الخطأ والوهم لا محالة، ولكن هذا ليس في جميع الرواة، ولا هو في جميع الحالات، فبعض الرواة قد يكون له من الحفظ والإتقان ما يجعله يميز الألفاظ فيقبل من مثله جمع الشيوخ، كما أن في حالة الرواية بالمعنى ممن توفرت فيه شروطها، يسوغ له أن يروي عن عدد من الشيوخ ما اتحد فيه معنى حديثهم وإن اختلفت ألفاظهم.

وقد بيّن الحافظ ابن رجب هذا الوجه من الإعلال فقال: "ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة، وساق الحديث سياقة واحدة، فالظاهر أن لفظهم لم يتفق، فلا يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه، يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره"

(1)

.

والمسئلة في الحقيقة ذات شقين:

الشق الأول: أن يروي الراوي الحديث عن عدد من الشيوخ اختلفوا في

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 816.

ص: 371

اللفظ لكن المعنى واحد، فيروي عنهم بلفظ واحد ولا يشير إلى اختلاف ألفاظهم اعتماداً على اتحاد المعنى، فهذا يرجع إلى مبحث الرواية بالمعنى، فيتقيد جواز هذا الصنيع بشروط الرواية بالمعنى. لكن الاتقان يقتضي من الراوي أن يبين صاحب اللفظ، وفي حالة عدم علمه بما يميز لفظ بعضهم عن البعض، يبين كذلك

(1)

. وقد كان الإمام أحمد حريصاً على تمييز الألفاظ في السند والمتن، ومنه أخذ الإمام مسلم هذا الصنيع كما قال السخاوي

(2)

. فإن قيل إن هذا يقتضي حمل حديث بعض الشيوخ على البعض، يجاب بأن المحذور في هذا حيث كان بين الأحاديث اختلاف في المعنى، أو بالزيادة والنقصان، وهو خارج عن صورة المسألة.

الشق الثاني: أن يكون متن الحديث مجموعه من جماعة من الشيوخ ملفقاً بأن يكون عن كل شيخ قطعة منه، فيخلط ألفاظهم ويسوق الحديث سياقاً واحداً بلا تمييز لما عند كل واحد منهم

(3)

، فهذا لا يقبل إلا من حافظ متقن لحديثه عارف بمواضع الاتفاق والاختلاف بين شيوخه كما تقدمت إشارة ابن رجب لصنيع الإمام الزهري في روايته لحديث الإفك، فإنه رواه عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقّاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم عن عائشة رضي الله عنها، قال: "وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصاً، وقد وعيْتُ عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضاً، وإن كان بعضهم

(1)

انظر: فتح المغيث 3/ 181.

(2)

المصدر السابق 3/ 183. وانظر المثال الذي ذكره عن الإمام أحمد في المسند 19/ 339: قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض ـ قال حجاج: رجل من بني عامر ـ عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء محلقة".

(3)

انظر: فتح المغيث 3/ 211 - 212.

ص: 372

أوعى له من بعض"

(1)

. فذكر أنهم اختلفوا في الحديث، وكل واحد حدثه بجزء منه، وأنه حافظ لرواية كل واحد منهم على حدة، فلم يؤثر ذلك في الجمع بين ألفاظهم. على أنه قد انتقد على الإمام الزهري هذا الصنيع منه، كما نقله القاضي عياض قال:"انتقدوا على الزهري ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفقاً عن هؤلاء الأربعة، وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الاخر"

(2)

.

ويزاد على هذا شرط آخر، وهو أن يكون الشيوخ كلهم ثقات، وأما حيث كان بعضهم يُستضعف فإنه يقع احتمال اختصاص الضعيف بشيء من الحديث عن الآخرين، ولأجل هذا المحذور كان يكره الإمام أحمد أن يروي الراوي حديثاً عن رجلين أحدهم مجروح، فيسقط اسم المجروح من السند ويقتصر على حمل الحديث عن الثقة وحده، فقد روى الخطيب من طريق الخلال عن حرب الكرماني أن أبا عبد الله قيل له:"فإذا كان الحديث عن ثابت وأبان عن أنس، يجوز أن أسمي ثابتاً وأترك أباناً؟ قال: لا، لعل في حديث أبان شيئاً ليس في حديث ثابت، وقال: إن كان هكذا فأحب أن يسميهما"

(3)

.

وهناك صورة أخرى لهذا الشق، وهي ما إذا كان بين أولئك الشيوخ تباين في أوجه رواية الحديث، كأن يكون عند بعضهم مرفوعاً وعند الآخرين موقوفاً، أو يكون عند بعضهم بزيادة رجل في الإسناد، ولا يكون كذلك عند الآخرين، أو غير ذلك من أوجه الاختلاف في السند، فالجمع بينهم في هذه الحالة أيضاً لا يكون مقبولاً إلا من حافظ متقن. وقد ذكر ابن رجب عن يعقوب بن شيبة أنه قال: "كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عن اثنين، فيسند الكلام عن

(1)

صحيح البخاري 7/ 431 ح 4141 - مع فتح الباري.

(2)

لم أقف عليه في الإلماع في تقييد السماع للقاضي عياض ونقلته بواسطة فتح الباري 8/ 456.

(3)

الكفاية في علم الرواية ص 537.

ص: 373

أحدهما، فإذا حدث به عن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله"

(1)

.

وحيث لم يكن لدى الراوي من الحفظ والاتقان ما يجعله يميز الألفاظ أو أوجه الرواية فجمعه للشيوخ في الإسناد يكون موضع الانتقاد لما يقع من حمل حديث بعضهم على بعض، وإدخال حديث في آخر.

ومما تقدم تتلخص الصور المحذورة لجمع الشيوخ في الإسناد عند رواية الحديث الواحد في ثلاث صور:

1.

أن لا يكون لدى الراوي من الحفظ والمعرفة ما يؤهله للرواية بالمعنى، في حالة روايته لحديث تتفاوت ألفاظ شيوخه فيه مع اتحاد معنى ما رووه.

2.

أن لا يكون الراوي من الحفاظ المتقنين العارفين بمواضع الاتفاق والاختلاف في مرويات شيوخه.

3.

أن يكون بعض الشيوخ ضعيفاً، فإنّ جمع الشيوخ في هذه الصورة يؤدي إلى حمل حديث الضعيف على حديث الثقة.

وقد كان الإمام أحمد ينتقد على الرواة جمعهم بين الشيوخ في الأسانيد، وتكلم فيهم من أجل ذلك، والظاهر أن ذلك راجع إلى هذه المحاذير. وهذا أحد أوجه جرحه لمحمد بن عمر الواقدي وتركه لحديثه. قال إبراهيم الحربي:"سمعت أحمد ـ وذكر الواقدي ـ فقال: ليس أُنكر عليه شيئاً إلا جمعه الأسانيد ومجيئه بمتن واحد على سياقة واحدة عن جماعة، وربما اختلفوا. قال إبراهيم: ولم؟ وقد فعل هذا ابن إسحاق، كان يقول: حدثنا عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، وفلان، وفلان، والزهري أيضاً قد فعل هذا"، وفي رواية أخرى ذكر معهم حماد بن سلمة أيضاً

(2)

. وما ذكره الحربي من الاستدراك

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 866.

(2)

تاريخ بغداد 3/ 16.

ص: 374

بمحمد بن إسحاق وحماد بن سلمة، فقد ورد عن الإمام أحمد إنكاره عليهم بالعلة نفسها كما سيأتي، وأما الزهري فقد تقدم أنه بلغ من الحفظ والاتقان ما يسوغ له ذلك.

ومن هؤلاء الرواة أيضاً محمد بن إسحاق إمام المغازي. قال المروذي: "سألته يعني الإمام أحمد عن محمد بن إسحاق، كيف هو؟ قال: هو حسن الحديث، ولكنه إذا جمع عن رجليْن. قلت: كيف؟ قال: يحدّث عن الزهري ورجل آخر، فيحمل حديث هذا على هذا "

(1)

. فإذا جمع بين الرجلين فقد يكون الرجل الآخر ضعيفاً، أو يكون في نفسه ثقة لكن بين حديثه وحديث الزهري مثلاً تفاوتاً فيحمل حديث أحدهما على الآخر بلا تمييز، ويقع بسبب ذلك في الوهم والغلط.

وروى الخطيب من طريق أيوب بن إسحاق بن سافري قال: "سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله! ابن إسحاق إذا انفرد بحديثه تقبله؟ قال: لا والله! إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا"

(2)

.

وقال ابن هانئ عن الإمام أحمد أنه سمعه يقول: "إبراهيم بن سعد من أحسن الناس حديثاً عن محمد بن إسحاق، فإذا جمع بين رجلين، يقول: حدثني فلان وفلان، لم يحكمه"

(3)

. يقصد ابن إسحاق إذا جمع بين رجلين، ولا يقصد إبراهيم بن سعد، إذ لم يرد عن الإمام أحمد تضعيفه بحال. وقوله:"لم يحكمه" يدل بمفهومه على أن من يُحكم هذا الجمع لما له من مزيد الضبط والاتقان يكون ذلك منه مقبولاً.

فهذه من الأمور التي اعتمدها الإمام أحمد لتقرير خفة ضبط ابن إسحاق

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره 61 رقم 55.

(2)

تاريخ بغداد 1/ 230.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 225 رقم 2226.

ص: 375

عنده، حيث لم يكن يحكم أن يميز بين ألفاظ الشيوخ إذا اشتركوا في رواية حديث واحد، فمن أجل ذلك لم يكن يحتج به إذا انفرد بالحديث، وإنما يحتج به في المغازي، ولم يكن يحتج به في السنن كما قال عبد الله

(1)

.

ولم أقف على حديث لابن إسحاق أعله من أجل جمعه للشيوخ في الإسناد.

وذكر منهم أيضاً أبا بكر بن عبد الله أبي مريم الحمصي الغساني:

قال عبد الله: "سئل أبي عن حريز وأبي بكر بن أبي مريم، فقال: أبو بكر ضعيف، كان يجمع فلان وفلان"

(2)

.

قال ابن هانئ: "وسئل: أيما أحب إليك: صفوان أو أبو بكر بن أبي مريم؟ قال: صفوان أحب إليّ، وهو صالح الحديث، وأبو بكر ضعيف، كان يجمع الرجال فيقول: حدثني فلان، وفلان، وفلان"

(3)

.

فضعفه الإمام أحمد من أجل جمعه للشيوخ لأنه ليس له من الحفظ ما يضبط هذا.

وكذلك قال في حماد بن سلمة، مع أنه ثقة عنده كما تقدم، فقال كما في رواية الأثرم:"في حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، وقتادة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم في آنية المشركين: قال أحمد: هذا من قبل حماد، كان لا يقوم على مثل هذا يجمع الرجال، ثم يجعله إسناداً واحداً، وهم يختلفون"

(4)

.

وهذا الحديث عن حماد بن سلمة رواه الترمذي من طريق عبيد الله بن محمد القرشي، عن حماد، عن أيوب وقتادة به، ولفظه: "قال أبو ثعلبة الخشني:

(1)

تاريخ بغداد 1/ 230، وانظر: الجرح والتعديل 7/ 193.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 39 رقم 1484.

(3)

المصدر السابق 2/ 229 رقم 2258.

(4)

شرح علل الترمذي 2/ 815.

ص: 376

[يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قُدورهم ونشرب في آنيتهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجدوا غيرها فارحَضوها بالماء" ثم قال: يا رسول الله! إنا بأرض صيدٍ فكيف نصنع؟ قال: "إذا أرسلتَ كلبَك المُكلَّب وذكرت اسم الله فقتل فكُلْ، وإن كان غير مُكلّب فذُكِّي فكُلْ، وإذا رميت بسهمك وذكرتَ اسم الله فقتل فكُل"، وقال الترمذي: حسن صحيح

(1)

. ورواه الطبراني

(2)

، والدارقطني في العلل

(3)

. ورواه حماد بن سلمة عن أيوب وحده، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة به. أخرجه أحمد

(4)

، وابن أبي عاصم

(5)

، والحاكم

(6)

. ولم أر من تابع حماداً عن قتادة إلا ما ذكره الدارقطني في العلل تعليقاً أن أبا حنيفة رواه عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة ـ ليس بينهما أبو أسماء

(7)

.

وقد خولف حماد بن سلمة عن أيوب: خالفه شعبة

(8)

، ومعمر

(9)

، وحماد ابن زيد

(10)

، وسعيد بن أبي عروبة

(11)

، وابن جريج

(12)

، وعبد الوهاب الثقفي

(13)

،

(1)

الجامع 4/ 255 ح 1797.

(2)

المعجم الكبير 22/ 217 ح 580.

(3)

علل الدارقطني 6/ 321.

(4)

المسند 29/ 284 ح 17750.

(5)

الآحاد والمثاني 5/ 89 ح 2631.

(6)

المستدرك 1/ 144 بذكر الآنية فقط.

(7)

علل الدارقطني 6/ 322.

(8)

وحديثه عند الترمذي الجامع 4/ 109 ح 1560، وأحمد المسند 29/ 266 ح 17731، وابن الجعد ص 184 ح 1193، والحاكم المستدرك 1/ 143.

(9)

وحديثه عند عبد الرزاق المصنف 4/ 471 ح 8503، وأحمد المسند 29/ 273 ح 17737.

(10)

وحديثه عند أبي داود الطيالسي مسند الطيالسي ص 136 ح 1014، والحاكم المستدرك 1/ 143.

(11)

وحديثه عند الطبراني المعجم الكبير 22/ 230 ح 604.

(12)

وحديثه عند الطبراني أيضاً المعجم الكبير 22/ 231 ح 605.

(13)

ذكره الدارقطني تعليقاً علل الدارقطني 6/ 321.

ص: 377

وابن عيينة

(1)

، فكلهم رووه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، لم يذكروا فيه أبا أسماء.

وتابع هشيمٌ حمادَ بن سلمة في ذكر أبي أسماء، فرواه عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة. أخرج حديثه الحاكم، والبيهقي

(2)

. ولكن الثوري خالفه، فرواه عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، كرواية الجماعة عن أيوب. أخرجه الطبراني

(3)

، والحاكم

(4)

.

ورجح الدارقطني قول من أرسل الحديث عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة بدون ذكر أبي أسماء.

ووجه إعلال الإمام أحمد للحديث هو من حيث جمع حماد بن سلمة للإسنادين، الأول عن أيوب، والثاني عن قتادة، فجعلهما إسناداً واحداً وحمل أحدهما على الآخر، والواقع أنهما مختلفان، فإسناد حديث أيوب وقع عنده بذكر أبي أسماء، وأما إسناد قتادة فتدل رواية أبي حنيفة أنه بدون ذكر أبي أسماء، فحيث جعل الإسنادين واحداً وقع في الغلط فحمل إسناد قتادة على إسناد أيوب والواقع أن بينهما اختلافاً، فلذلك قال أحمد:"كان لا يقوم على مثل هذا يجمع الرجال ثم يجعله إسناداً واحداً وهم يختلفون"، كما تقدم.

وهذا يدل على أن الجمع بين الرواة في الأسانيد لا يقبله الإمام أحمد من كل أحد، حتى ولو كان ثقة.

وقد ذكر الخليلي أن سبب تجنب البخاري لحديث حماد بن سلمة هو من

(1)

ذكره الدارقطني تعليقاً أيضاً الموضع نفسه.

(2)

المستدرك 1/ 144، والسنن الكبرى 1/ 33.

(3)

المعجم الكبير 22/ 230 ح 603.

(4)

المستدرك 1/ 143.

ص: 378

أجل هذه العلة ـ أعني جمعه للرجال في إسناد واحد. قال الخليلي: "ذاكرتُ يوماً بعضَ الحفاظ فقلت: البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في الصحيح، وهو زاهد ثقة؟ فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، وربما يخالف في بعض ذلك! فقلت: أليس ابنُ وهب اتفقوا عليه، وهو يجمع بين أسانيد فيقول: حدثنا مالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، والأوزاعي بأحاديث، ويجمع بين جماعة غيرهم

(1)

؟ فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه، وأحفظ له"

(2)

.

وحتى كبار الحفاظ البارزين في الحفظ والاتقان قد يقعون في الخطأ والغلط من جراء هذا الصنيع، ومن ذلك ما ذكره الترمذي عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، وشعبة ـ غير مرة ـ عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"

(3)

. فحكم الحفاظ على يحيى القطان بالوهم في هذا الحديث. قال ابن عدي: "وذِكرُ سعد بن عبيدة في هذا الإسناد عن الثوري غيرُ محفوظ، وإنما يُذكر هذا عن يحيى القطان، جمع بين الثوري وشعبة فذكر عنهما جميعاً في الإسناد في هذا الحديث: سعد بن عبيدة، وسعد إنما يذكره شعبة،

(1)

وقد يجمع بين الثقة والضعيف كما روى البخاري من طريقه في كتاب الاعتصام عن عبد الرحمن بن شريح وغيره، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عبد الله بن عمرو حديث:"إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً" الحديث. فالغير هنا هو عبد الله بن لهيعة، أبهمه البخاري لضعفه فتح الباري 13/ 282 - 283. ونبه الحافظ على أنه ليس بين معنى حديثهما كبير أمر، وهو ما يسوغ مثل هذا الصنيع. وذكر السخاوي عدة أمثلة أخرى للجمع بين الثقة والضعيف خصوصاً عن ابن وهب انظر: فتح المغيث 3/ 210.

(2)

الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/ 417 - 418.

(3)

الجامع 5/ 160.

ص: 379

والثوري لا يذكره، فحمل يحيى حديث شعبة على حديث الثوري، فذكر عنهما جميعاً سعداً، ويقال: لا يُعرف ليحيى بن سعيد خطأ غيره"

(1)

.

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1234، وانظر: فتح الباري 9/ 75. واهتديت إلى هذا المثال من كتاب الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات للشيخ طارق بن عوض الله ص 265.

ص: 380

‌المطلب السادس: سوء الحفظ المقيد برواية الراوي حين يروي بالمعنى

.

درج كثير من رواة الآثار من لدن عهد الصحابة على رواية الأحاديث بالمعنى، ولم يروا ضرورة الالتزام باللفظ المسموع في الرواية إذا كان المعنى المؤدّى صحيحاً، قال الإمام الشافعي:"وقد قال بعض التابعين: لقيت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في المعنى، واختلفوا عليّ في اللفظ، فقلت لبعضهم ذلك، فقال: لا بأس ما لم يُحيل المعنى"

(1)

، أي يُعدله عن وجهه. وعن ابن سيرين بإسناد صحيح قال:"كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد واللفظ مختلف"

(2)

.

وذهب معظم أهل العلم إلى جواز ذلك، لكن اشترطوا في الذي يروي بالمعنى أن يكون عالماً بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، وما يحيل معناها

(3)

. قال الإمام الشافعي في بيان من تقوم بخبره الحجة: "إذا حدّث به أي الحديث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام"

(4)

.

وكان الإمام أحمد ممن ذهب إلى جواز الرواية بالمعنى، ويستدل لذلك بفعل السلف، قال:"ما زال الحفاظ يحدّثون بالمعنى، وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب، بصير بالمعاني، عالم بما يحيل المعنى وما لا يحيله"

(5)

. ومما يدل على تقريره للرواية بالمعنى إذا لم تحصل الإحالة في المعنى ما ذكره أبو داود في مسائله قال: "سمعت أحمد بن محمد بن حنبل قال: قال عبد الرحمن: سألت سفيان عنه ـ يعني عن حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "للفارس

(1)

الرسالة ص 275/ 755.

(2)

جامع بيان العلم وفضله 1/ 344 رقم 464، 465.

(3)

انظر: شرح علل الترمذي 1/ 427، وفتح المغيث 3/ 137 - 138.

(4)

الرسالة ص 370 - 371.

(5)

شرح علل الترذي 1/ 427.

ص: 381

ثلاثة أسهم" فقال: خالفوني فيه. قال أحمد: وإنما قالوا: للفرس سهمان، أي بأنه ليس اختلاف، لأن للفرس سهمين، ولفارسه سهم فذلك ثلاثة أسهم"

(1)

. فلم ير هناك اختلافاً بين من روى الحديث بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً]

(2)

، وباللفظ الذي رواه سفيان والذي وقع السؤال عليه، لأن المعنى واحد.

وكذلك قال لما سأله الأثرم عن حديث ابن أبي زائدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "بادروا الصبح بالوِتر"

(3)

، قال:"هذا أُراه اختصره من حديث "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة"

(4)

، وهو بمعناه. قال: فقلت له: رواه أحد غيره؟ قال: لا"

(5)

.

ومع تجويزه للرواية بالمعنى فقد كان يفضل اتباع اللفظ والتقيد به، ويقدم رواية من كان يلتزم اللفظ على رواية من كان يروي بالمعنى، لأن احتمال دخول الخطأ والغلط في الرواية بالمعنى أقوى منه من الرواية باللفظ إذا قورنت بها. وهذا الاعتبار كان أحد أوجه تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر عند الإمام

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 444/ 2029. وحديث سفيان رواه ابن حبان الإحسان 11/ 139 - 140 ح 4811، والدارقطني 4/ 102، والبيهقي 6/ 325 كلهم من طرق عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر به بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ثلاثة أسهم، للرجل سهم ولفرسه سهمان]. ولم أقف على رواية ابن مهدي عن الثوري.

(2)

رواه غير واحد عن عبيد الله. انظر: صحيح البخاري 6/ 67 ح 2863، 7/ 484 ح 4228 مع فتح الباري، صحيح مسلم 3/ 1383 ح 1762، ومسند الإمام أحمد 8/ 11 ح 4448. وقد وافق أبو معاوية سفيان في اللفظ الذي رواه بعض الرواة عنه كما في مسند الإمام أحمد.

(3)

أخرجه أبو داود ح 1436، والترمذي الجامع 2/ 331 ح 467، وأحمد المسند 9/ 17 ح 4952، وابن خزيمة 2/ 146 ح 1087، وابن حبان 6/ 198 ح 2445، والحاكم المستدرك 1/ 301.

(4)

هذا حديث عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر. أخرجه مسلم 1/ 517 ح 148 وغيره.

(5)

فتح الباري لابن رجب 6/ 237.

ص: 382

أحمد كما سيأتي في موضعه إن شاء الله، فإن الاعتماد على الكتاب في التحمل والأداء من أفضل أسباب التزام الراوي باللفظ دون المعنى عند الرواية، ومن ثمّ يقل أوجه احتمال دخول الخلل عليه في مروياته. ومن أجل هذا أيضاً كان رحمه الله يقدّم عبد الرحمن بن مهدي على وكيع عند اختلافهما. قال صالح بن أحمد: "قلت لأبي: عبد الرحمن أثبت عندك أو وكيع؟ قال: عبد الرحمن أقل سقطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها

"

(1)

.

قال حنبل بن إسحاق: قال أبو عبد الله: "إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فعبد الرحمن أثبت، لأنه أقرب عهدٍ بالكتاب"

(2)

.

وقال الأثرم: "قيل لأبي عبد لله: كان عبد الرحمن حافظاً؟ فقال: كان حافظاً، وكان يتوقى كثيراً، وكان يحب أن يحدث بالألفاظ"

(3)

.

وأما وكيع فلم يكن صاحب كتاب حتى قال الإمام أحمد: "ما رأيت مع وكيع كتاباً قط ولا رقعة"

(4)

. وقال أيضاً: "من حدّث من كتاب لا يكاد يكون سقط كثير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! "

(5)

.

وقد كان الإمام أحمد حريصاً على التزام باللفظ في خاصة نفسه عند الرواية حتى إنه ليميز اختلاف الرواة في حرف من متن الحديث وإن كان لا

(1)

الجرح والتعديل 5/ 289.

(2)

تاريخ بغداد 10/ 243.

(3)

الكفاية في علم الرواية ص 259.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 152 رقم 58.

(5)

المعرفة والتاريخ 2/ 197.

ص: 383

يتغير به المعنى، وما ذكر عن الإمامين مسلم وأبي داود من عنايتهما باللفظ والتزامهما به فعن الإمام أحمد أخذا ذلك، فإنه كان شيخهما، ومن أمثلة ذلك ما ذكره السخاوي

(1)

من صنيعه رحمه الله في المسند أنه قال: حدثنا يزيد، وعباد بن عباد، قالا: أخبرنا هشام بن أبي هشام ـ قال: عباد: ابن زياد ـ عن أمه، عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة، فيذكرها، وإن طال عهدُها ـ قال: عباد: قدُم عهدُها ـ فيُحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدّد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها"

(2)

. فلا فرق في المعنى بين: "طال عهدُها"، و"قدُم عهدُها"، لكنه رحمه الله اعتنى بذكر الاختلاف بين اللفظين اتباعاً للفظ، ولم يكتف بالإشارة بناءً على حصول التوافق في المعنى.

والرواية بالمعنى أحد أسباب دخول الخلل في أحاديث الثقات، خاصة في متونها، ويكون ذلك من أحد وجهين:

الأول: أن يقع الخطأ عند الرواية بالمعنى بسبب حمل ألفاظ الأحاديث على آراء فقهية للراوي، وهذا في الغالب يقع من الفقهاء المعتنين بالرأي، فإنهم يروون الأحاديث بالمعنى ويخالفون في ألفاظه حتى يغلب على الظن أنهم يحملون ألفاظ الأحاديث على الألفاظ الفقهية المتداولة بينهم.

الثاني: أن يتصرف الراوي في اللفظ فيخطئ المعنى، وهذا غالباً ما يقع بسبب نوع من الخفاء في المعنى ولا يهتدي إليه الراوي ـ كما سيأتي من خلال

(1)

فتح المغيث 3/ 141.

(2)

المسند 3/ 256 ح 1734، وهو حديث ضعيف، فإن هشام بن أبي هشام، وهو هشام بن زياد ضعيف الحديث عند الإمام أحمد وغيره العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 508 رقم 3344، تهذيب الكمال 30/ 202. وأمه مجهولة.

ص: 384

الأمثلة التي ذكرها الإمام أحمد ـ وكثيراً ما يقع من الرواة الذين لم يشتهروا بالفقه وإن كانوا حفاظاً عندما يتركون الرواية باللفظ إلى المعنى.

فالوجه الأول: هو الذي أشار إليه الحافظ ابن رجب رحمه الله في القاعدة التي ذكرها ضمن قواعده في العلل حيث قال: "الفقهاء المعتنون بالرأي حتى يغلب عليهم الاشتغال به لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيراً، ويروون المتون بالمعنى، ويخالفون الحفاظ في ألفاظه، وربما يأتون بألفاظ تشبه ألفاظ الفقهاء المتداولة بينهم"

(1)

. وأشار إليه ابن حبان من قبل في الجنس الخامس من أجناس أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، لكن قصر وجه رد الأحاديث في أخطائهم في الأسماء والأسانيد فقال: "الفقيه إذا حدث من حفظه وهو ثقة في روايته لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأنه إذا حدث من حفظه فالغالب عليه حفظ المتون دون الأسانيد

فإذا حدث الفقيه من حفظه ربما صحّف الأسماء، وقلب الأسانيد، ورفع الموقوف، وأوقف المرسل، وهو لا يعلم لقلة عنايته به، وأتى بالمتن على وجهه، فلا يجوز الاحتجاج بروايته إلا من كتاب، أو يوافق الثقات في الأسانيد"

(2)

. فاستدرك عليه ابن رجب فقال: "هذا إن كان الفقيه حافظاً للمتن، فأما من لا يحفظ متون الأحاديث بألفاظها من الفقهاء، وإنما يروي الحديث بالمعنى فلا ينبغي الاحتجاج بما يرويه من المتون، إلا بما يوافق الثقات في المتون، أو يحدث به من كتاب موثوق به"

(3)

.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 834.

(2)

المجروحين 1/ 93 - 94.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 836.

ص: 385

فهذه القاعدة التي ذكرها ابن رجب تقتضي أن الراوي الفقيه الذي لا يحفظ متون الأحاديث بألفاظها وإنما يروي بالمعنى فإنه يوصف بسوء الحفظ في حالة روايته بالمعنى، فيتوقف عن الاحتجاج بما يرويه من المتون حتى يوجد له موافق أو يثبت أنه حدّث من كتاب لا من حفظ. ولم أجد من كلام الإمام أحمد سواء في الرجال أو في الأحاديث ما يصلح أن يستنبط له منهجاً في هذا. وموقفه من معلى بن منصور أبي يعلى الرازي قد يصلح أن يكون من أدلة هذه القاعدة، فإنه قال عنه:"كان يحدث بما وافق الرأي، وكان كل يوم يخطئ في حديثين أو ثلاثة"

(1)

. وكان معلى فقيهاً من أصحاب الرأي، وكان من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد بن الحسن

(2)

، فأشار الإمام أحمد إلى أنه كان يحمل الأحاديث على ما يوافق رأيه في الفقه، وهذا إنما يحصل بسبب الرواية بالمعنى.

وموقف الإمام أحمد من سائر أصحاب الرأي من عدم الرواية عنهم، يحتمل أن يكون ناتجاً عن هذا السبب، فيكون دليلاً آخر على هذه القاعدة وبالتالي يعتبر مقتضى تلك القاعدة منهجاً للإمام أحمد، لكن ذكر ابن هاني عن أحمد أنه قال: "تركنا أصحاب الرأي، وكان عندهم حديث كثير، فلم نكتب عنهم، لأنهم معاندون للحديث

"

(3)

، فهذا يدل على أن تركه لأحاديث أهل الرأي هو من أجل معاندتهم للحديث عنده، أي مخالفتهم له. وحمله القاضي أبو يعلى على أهل الرأي من المتكلمين كالقدرية وغيرهم، ورده أبو المحاسن والد شيخ الإسلام

(1)

تاريخ بغداد 13/ 189.

(2)

المصدر نفسه 13/ 188، 191. وقد وثق معلى بن منصور ابن معين ـ في رواية الدارمي ـ ويعقوب بن شيبة، وقال عنه ابن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم: صدوق. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس بحديثه لأني لم أجد له حديثاً منكراً فأذكره الجرح والتعديل 8/ 334، الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2372، تهذيب الكمال 28/ 294 - 295.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابن هانئ 2/ 168 رقم 1930.

ص: 386

ابن تيمية فذكر أنه نوع من الهجر، بدليل أنه قد صرّح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه ـ يعني من أصحاب الرأي ـ كأبي يوسف ونحوه

(1)

، يعني إن ترك الإمام أحمد لأحاديث أهل الرأي كان من أجل هجرة المخالف للسنة، وليس من أجل ضعف حديثهم، وعليه فلا يؤخذ من موقفه هذا دليل على سوء حفظ أهل الاختصاص بالفقه والرأي

(2)

.

وأما من حيث الأحاديث التي أعلها الإمام أحمد بهذا الوجه من وجهي دخول الخطأ من أجل الرواية بالمعنى، فلم أقف إلا على حديث واحد ذكره ابن رجب في شرحه على صحيح البخاري

(3)

عند الكلام على حديث هشام ابن عروة، عن أبيه عن عائشة في حديثها عن حجها وفيه: قالت عائشة: وكنت أنا ممن أهلّ بعمرةٍ، فأدركني يومُ عرفةَ وأنا حائضٌ فشكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"دعي عمرتَك وانقُضي رأسَك وامتَشِطي وأهلِّي بحَجٍّ"

(4)

فقال أحمد: "من رواه [انقُضي عمرتَك] فقد أخطأ، ورواه بالمعنى الذي فهمه".

ولم أقف على تلك الرواية التي أشار إليها الإمام أحمد، لكن الظاهر أنه من بعض من يرى رأي أهل الكوفة. قال ابن رجب: وذلك أن قول أبي حنيفة

(1)

المسودة في أصول الفقه ص 239.

(2)

وحتى موقف الإمام أحمد من معلى بن منصور الذي ذُكر أنه يصلح مثالاً أو دليلاً عن أحمد لهذه القاعدة قد ورد ما يدل على أن تركه له كان أيضاً من باب هجران المخالف لا من باب الضعف في الرواية، فقد روى أبو زرعة الرازي قال: رحم الله أحمد بن حنبل، بلغني أنه كان في قلبه غصص من أحاديث ظهرت عن المعلى بن منصور، كان يحتاج إليها، وكان المعلى أشبه القوم ـ يعني أصحاب الرأي ـ بأهل العلم، وذلك أنه كان طلابة للعلم، ورحل وعُني به فتصبّر أحمد عن تلك الأحاديث، ولم يسمع منه حرفاً، وأما علي بن المديني وأبو خيثمة وعامة أصحابنا فسمعوا منه، المعلى صدوق تاريخ بغداد 13/ 189.

(3)

فتح الباري لابن رجب 1/ 478.

(4)

أخرجه البخاري صحيح البخاري 1/ 417 ح 317، ومسلم 2/ 872 ح 1211.

ص: 387

والكوفيين أن المرأة الحائض إذا أهلت بعمرة وخافت فوات الحج فإنها ترفُض العمرة، ثم تُحرم بالحج، ثم تقضي العمرة بعد الحج، وتأولوا حديث عائشة على ذلك. ا. هـ

(1)

.

ومثل ابن رجب لتلك الأحاديث برواية شريك القاضي لحديث أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ برطلين من ماء]. أخرجه أبو داود

(2)

ـ واللفظ له ـ والترمذي

(3)

، وأحمد

(4)

، وابن أبي شيبة

(5)

. قال ابن رجب: رواه بالمعنى الذي فهمه، فإن لفظ الحديث:[أنه كان يتوضأ بالمد] والمد عند أهل الكوفة رطلان

(6)

. يشير إلى رواية الجماعة لحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، أخرجاه من حديث عبد الله بن عبد الله بن جبر عن أنس

(7)

.

الوجه الثاني: وهو الذي يقع بسبب تصرف الراوي في اللفظ وفيه نوع من الخفاء في المعنى فيروي الراوي بالمعنى الذي فهمه فيقلبه، فهذا لم يسلم منه حتى الرواة الثقات، حتى إن ابن حبان اعتبر هذا جنساً من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، قال رحمه الله: "الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأن الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون

فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهاً

(1)

انظر: فتح الباري لابن رجب الموضع نفسه.

(2)

سنن أبي داود 1/ 72 ح 95.

(3)

الجامع 2/ 507 ح 609.

(4)

المسند 20/ 216 ح 12839، 20/ 218 ح 12843.

(5)

مصنف ابن أبي شيبة 1/ 68 ح 735.

(6)

شرح علل الترمذي 2/ 834.

(7)

صحيح البخاري 1/ 304 ح 201 - مع فتح الباري، صحيح مسلم 1/ 258 ح 325 (51).

ص: 388

وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغيّر المعنى حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلي شيء ليس منه وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار"

(1)

. وهذا لا يؤخذ على إطلاقه كما قال ابن رجب، وإنما يختص بمن عرف منه عدم حفظ المتون وضبطها، لأن الظاهر من حال الحافظ المتقن حفظ الإسناد والمتن، إلا أن يوقف منه على ذلك

(2)

، أي فلا يقبل منه إلا ما وافقه الثقات على لفظه أو كان تحديثه به من كتابه.

والنماذج التي وقفت عليها من إعلال الإمام أحمد للأحاديث من أجل الرواية بالمعنى ترجع إلى هذا الوجه الثاني، وهي كما يلي:

1.

قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال: حدثني عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عَسال قال: قال رجل من اليهود: انطلق بنا إلى هذا النبي، قال: لا تقل النبي، فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين

وقصّ الحديث، فقالا: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت أبي يقول: خالف يحيى بن سعيد غيرُ واحدٍ، قالوا: نشهد أنك نبي. قال أبي: لو قالوا: نشهد أنك رسول الله كانا قد أسلما، ولكن يحيى أخطأ فيه خطأً قبيحاً

(3)

.

حديث يحيى بن سعيد هذا أخرجه أحمد في المسند

(4)

، والطحاوي

(5)

، عنه عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلِمة، عن صفوان بن عسَال، ولفظه

(1)

المجروحين 1/ 93.

(2)

شرح علل الترمذي 2/ 837.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 83 - 84 رقم 4286.

(4)

المسند 30/ 22 ح 18097.

(5)

شرح مشكل الآثار ح 63.

ص: 389

كما في المسند: [قال رجل من اليهود لآخر: انطلِق بنا إلى هذا النبي، قال: لا تقل هذا، فإنه لو سمعها كان له أربعة أعين، قال: فانطلقا إليه فسألاه عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] قال: "لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تَسرِقوا، ولا تَزنوا، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، ولا تسحَروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تُدلُوا ببريءٍ إلى ذي سُلطان ليقتُلَه، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السَّبت"، فقال: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم].

وخالف يحيى بنَ سعيد غيرُ واحد من أصحاب شعبة، والذين وقفت عليهم هم:

1.

غندر محمد بن جعفر، وحديثه عند أحمد

(1)

، ومن طريقه الحاكم

(2)

، والمقدسي

(3)

، ورواه الطبري أيضاً من طريق غندر

(4)

.

2.

عبد الرحمن بن مهدي، وحديثه عند الطبري في التفسير

(5)

.

3.

يزيد بن هارون، وحديثه عند أحمد

(6)

، والترمذي

(7)

.

4.

أبو داود الطيالسي

(8)

، وأخرج الحديث من طريقه الترمذي

(9)

، والطبري

(10)

، والطحاوي

(11)

، والبيهقي

(12)

.

(1)

المسند 30/ 12 ح 18092.

(2)

المستدرك 1/ 9.

(3)

الأحاديث المختارة 8/ 29.

(4)

جامع البيان 15/ 172.

(5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن 15/ 173.

(6)

الموضع السابق مقروناً بغندر.

(7)

الجامع 5/ 286 ح 3144 مقروناً بغير يزيد.

(8)

والحديث في مسنده ص 160 ح 1164.

(9)

الموضع السابق.

(10)

جامع البيان 15/ 173.

(11)

شرح معاني الآثار 3/ 215.

(12)

السنن الكبرى 8/ 166.

ص: 390

5.

أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وحديثه عند الترمذي

(1)

، وابن أبي عاصم

(2)

، وابن قانع

(3)

، والعقيلي

(4)

، والطبراني

(5)

، ومن طريقه المقدسي

(6)

.

6.

عبد الله بن إدريس، وحديثه عند الترمذي

(7)

، والنسائي

(8)

.

7.

أبو أسامة حماد بن أسامة، وحديثه عند الترمذي

(9)

.

8.

وهب بن جرير، وحديثه عند الحاكم

(10)

.

9.

آدم بن أبي إياس، وحديثه عند الحاكم أيضاً

(11)

.

10.

عمرو بن مرزوق، وحديثه عند الطحاوي

(12)

.

11.

حجاج بن محمد المصيصي، وحديثه عند الطحاوي أيضاً

(13)

.

12.

سهل بن يوسف، وحديثه عند الطبري

(14)

.

وكلهم قالوا: [نشهد أنك نبي]. وقال الطحاوي: هذا الحرف: [نشهد أنك رسول الله] لم يقله أحد من أصحاب شعبة إلا يحيى بن سعيد. ا. هـ

(15)

.

(1)

الموضع السابق، مقروناً بأبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون.

(2)

الآحاد والمثاني 4/ 414 ح 2465.

(3)

معجم الصحابة 2/ 11.

(4)

الضعفاء 2/ 657.

(5)

المعجم الكبير 8/ 69 ح 7396.

(6)

الأحاديث المختارة 8/ 28 وقال: إسناده صحيح.

(7)

الجامع 5/ 72 ح 2733.

(8)

السنن 7/ 111، وفي الكبرى 2/ 306 ح 3541، 5/ 198 ح 8656.

(9)

الجامع 5/ 72 ح 2733.

(10)

المستدرك 1/ 9.

(11)

الموضع نفسه، مقروناً بوهب بن جرير.

(12)

شرح معاني الآثار 3/ 215.

(13)

الموضع نفسه.

(14)

جامع البيان 15/ 173.

(15)

شرح مشكل الآثار 1/ 64.

ص: 391

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بأن يحيى القطان قد أخطأ في رواية الحديث حيث رواه بالمعنى، وذلك أنه قال مكان "نبي":"رسول الله"، واللفظان يختلف مدلولهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية "النبى هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أُنبأ به فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليُبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسله هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول"

(1)

.

فأوضح الإمام أحمد بأنهم لو قالوا: [نشهد أنك رسول الله] كما قال يحيى كانا قد أسلما، لأن ذلك يتضمن شهادتهم بصدق بعثته وقبول رسالته، بخلاف ما لو قالوا: نشهد أنك نبي، فإن ذلك لا يدل إلا على شهادتهم بأنه منبَّأ ومُوحى إليه، ولا يقتضي إقرارهم برسالته، ولا يدخلون في الإسلام بمجرد ذلك. وفي الحديث أنهما لم يُسلما، لأنه ورد في رواية الجماعة:"فما يمنعكما أن تتبعاني؟ " قالا: إن داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبيٌّ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن يقتلَنا يهود

(2)

، فدل على خطأ لفظة:[نشهد أنك رسول الله] التي ذكرها القطان، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد. وفي هذا الإعلال من الإمام أحمد نكتة بديعة، وهي أن الشخص لا يحكم بدخوله في الإسلام بالإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك الإقرار برسالته عليه الصلاة والسلام، ولم أهتد إلى مزيد بيان حول هذه المسئلة في كتب العقيدة، وهي تحتاج إلى مزيد بحث في مسائل العقيدة.

واستبدال النبي بالرسول في هذا الموضع ليس مثل ما وقع في حديث

(1)

النبوات 2/ 714.

(2)

المسند 30/ 13.

ص: 392

البراء بن عازب في الصحيحين

(1)

: "وبرسولك الذي أرسلت"، فرده عليه الصلاة والسلام على البراء فقال:"لا، وبنبيك الذي أرسلت"، لأن الحكمة في رده عليه الصلاة والسلام استبدال أحد اللفظين بالآخر هنا هي كون ألفاظ الأذكار توقيفية

(2)

، وأما في حديث يحيى هذا فالرد كان من أجل اختلاف مدلول اللفظين وما يقتضي كل واحد منهما من الأحكام، فلا يسوغ معه الاستبدال والحالة هذه عند الرواية بالمعنى.

وهذا الحديث قد صححه الترمذي، والحاكم، والضياء

(3)

. وقال النسائي: هذا حديث منكر، وذكر أنه حكي عن شعبة أنه قال: سألت عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة فقال: تعرف وتنكر. ا. هـ

(4)

. وقال أحمد عن عبد الله بن سلمة هذا رواية عن شعبة أنه قال: كان قد كبر، فكان يحدثنا فتعرف وتنكر

(5)

. وقال البخاري: عبد الله بن سلمة أبو العالية الهمداني، ولا يتابع في حديثه

(6)

، وذكر

(1)

صحيح البخاري 11/ 109 ح 6311 - مع فتح الباري، وصحيح مسلم 4/ 2081 ح 2710.

(2)

انظر: فتح الباري 11/ 112.

(3)

انظره في مواضع التخريج.

(4)

السنن الكبرى 2/ 307. وذهب النسائي إلى أن عبد الله بن سلمة في هذا الحديث هو الأفطس، وقال أنه متروك، والصواب أنه غيره. فالذي روى هذا الحديث هو عبد الله بن سلمة الهمداني أبو العالية. قال أحمد: عبد الله بن سلمة كنيته أبو العالية، ما أعلم حدّث عنه غير عمرو بن مرة، وأبي إسحاق الهمداني العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 482 رقم 1106. وقد جعل غير الإمام أحمد عبد الله بن سلمة الذي روى عنه عمرو بن مرة غير الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي، أجمل ابن حجر ذكر هذا الاختلاف في تهذيب التهذيب 5/ 342، وانظر أيضاً: موضح أوهام الجمع والتفريق 1/ 332 - 335. والذي يهم في هذا الموقع أن الذي روى هذا الحديث هو الراوي عن عمرو بن مرة، وهو الذي قال فيه شعبة هذا القول الذي ذكره النسائي.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 147 رقم 1824.

(6)

التاريخ الكبير 5/ 99.

ص: 393

العقيلي أنه يقصد هذا الحديث

(1)

. وقد وثقه العجلي ويعقوب بن شيبة

(2)

. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به

(3)

. فالحديث ضعيف لحالة عبد الله بن سلمة، فإنه وإن كان صدوقاً إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وقد تفرد بالحديث، والله أعلم.

2.

في حديث عمران بن حصين: [دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبَلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أنْ لم يَقبلْها بنوا تميم"، قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرَه وكان عرشُه على الماءِ، وكَتب في الذِّكر كلَّ شيء، وخلق السماوات والأرضَ"

(4)

، رواه الطبراني من طريق محمد ابن عبيد، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه:"وخلق الذكر". قال أبو القاسم: هذا الحرف كان محمد بن عبيد يخطئ فيه وينهاه أحمد بن حنبل أن يحدث به، والصواب ما روى أبو بكر بن عياش وغيره:"وكتب الذكر". ا. هـ

(5)

.

هذا الحديث سيأتي في مطلب الإعلال باختلاط الراوي

(6)

، وكل من رواه من أصحاب الأعمش قال:"وكتب في الذكر كلَّ شيء"، وجاءت رواية محمد ابن عبيد ـ وهو الطنافسي ـ عن الأعمش فقال:"وخلق الذكر"، فأنكره عليه الإمام أحمد وكان ينهاه عنه كما نقل ذلك الطبراني، ووجه ذلك أنه رواه بالمعنى

(1)

الضعفاء 2/ 657.

(2)

تهذيب الكمال 15/ 52.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1487.

(4)

هذا لفظ البخاري صحيح البخاري مع فتح الباري 6/ 286 ح 3191، 13/ 403 ح 7418.

(5)

المعجم الكبير للطبراني 18/ 204.

(6)

ص 355.

ص: 394

وأخطأ فيه، فإن قوله: خلق الذكر، يختلف في المعنى عن: كتب الذكر، لأن الأول يقتضي أن القرآن مخلوق، لأن القرآن هو الذكر، وقد احتج بهذه الرواية على خلق القرآن بعضُ من ناظر الإمام أحمد أمام المعتصم زمن المحنة، فقال أحمد: هذا خطأ، حدثنا غير واحد:"إن الله كتب الذكر". ا. هـ

(1)

.

3.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حُميد، عن أنس أن بني سلِمة أرادوا أن يتحولوا من ديارهم إلى قُرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعرى المسجدُ، فقال:"يا بني سلِمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ " فأقاموا. قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: أخطأ فيه يحيى بن سعيد، وإنما هو: أن تُعرى المدينةُ، فقال يحيى: المسجد، وضرب عليه أبي هاهنا، وقد حدثنا به في كتاب يحيى بن سعيد

(2)

.

هذا الحديث رواه الإمام أحمد من غير حديث يحيى بن سعيد القطان، فرواه من حديث محمد بن أبي عدي

(3)

، ومن حديث عبد الله بن بكر السهمي

(4)

، وهو عند البخاري

(5)

، وابن ماجه

(6)

، وابن أبي شيبة

(7)

، والبيهقي

(8)

، كلهم بلفظ:"فكره أن تُعرى المدينة".

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعلّ الإمام أحمد رواية شيخه يحيى بن سعيد القطان لهذا الحديث حيث

(1)

حلية الأولياء 9/ 199، سير أعلام النبلاء 11/ 245.

(2)

المسند 20/ 238 - 239 ح 12876. وذكر عبد الله هذه الرواية في العلل أيضاً 3/ 82 - 83 رقم 4280، 4283.

(3)

المسند 19/ 90 ح 12033.

(4)

المسند 21/ 296 ح 13770.

(5)

صحيح البخاري مع فتح الباري 2/ 139 ح 655، 656، 4/ 99 ح 1887.

(6)

سنن ابن ماجه 1/ 258 ح 784.

(7)

مصنف ابن أبي شيبة 2/ 22 ح 6007.

(8)

السنن الكبرى 3/ 64.

ص: 395

قال: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعرى المسجد" مكان: "أن تعرى المدينة"، وهذا يحتمل أن يكون الخطأ يرجع إلى الرواية بالمعنى، فإن معنى كراهية أن تعرى المدينة هو أن تُترك خالية، لأن العراء هي الفضاء من الأرض

(1)

، فكأنه حرص أن تبقى جهات المدينة عامرة بساكنها

(2)

. وهذا المعنى لا يوجد في "أن يعرى المسجد". ويحتمل أن يكون هذا مجرد وهم من يحيى في لفظ الحديث حيث قال: المسجد مكان: المدينة، وليس من أجل الرواية بالمعنى، والله أعلم.

اختصار الحديث:

وهو رواية بعض الحديث الواحد دون بعض

(3)

، وهو من فروع الرواية بالمعنى، فمَن منعها أطلق المنع على الاختصار، ومن أجازها أجازه بالشرط الذي اشترطه في الرواية بالمعنى. قال الخطيب:"وإن كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واعٍ محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك"

(4)

. ومن أجل الإخلال بهذا الشرط يقع بعض الرواة في الخطأ عند اختصار الحديث، فيكون ذلك سبباً لإعلال حديثهم، وقد أنكر إسماعيل بن علية على شعبة اختصاره للحديث الذي رواه عنه، قال إسماعيل بن علية: "روى عني شعبة حديثاً واحداً، فأوهم فيه، حدثتُه عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل

(5)

، فقال

(1)

النهاية 3/ 226.

(2)

فتح الباري 2/ 140.

(3)

تدريب الراوي 2/ 103.

(4)

الكفاية في علم الرواية ص 293.

(5)

أخرجه مسلم 3/ 1663 ح 2101، وأبو داود 4/ 404 ح 4179، والنسائي 5/ 141 ح 2705، وأحمد المسند 19/ 40 ح 11978.

ص: 396

شعبة: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر

(1)

"

(2)

، فشعبة لماّ اختصر الحديث أوهم أن النهي فيه عام، والواقع أنه خاص بالرجال، ووقع في هذا الوهم من أجل الاختصار. وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن شعبة اختصر الحديث، لكنه جوز أن يكون ابن علية اختصره لما حدّثه به

(3)

، ولعله لم يستحضر إنكار ابن علية على شعبة، وهو ينفي هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ.

ووجه دخول الخطأ على الاختصار هو عين وجه دخوله على الرواية بالمعنى، أي التصرف في اللفظ الذي يؤدي إلى تخطئة المعنى بسبب نوع من الخفاء فيه.

قال إسحاق بن هانئٍ: وسئل عن حديث وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قصة الحيض؟ قال: هذا باطل

(4)

.

وحديث عائشة الذي رواه وكيع أخرجه ابن ماجه في "باب الحائض كيف تغتسل" قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها، وكانت حائضاً:"انقضي شعرك واعتسلي"

(5)

، وهو عند ابن أبي شيبة

(6)

.

(1)

أخرجه النسائي 5/ 141 ح 2706، وفي الكبرى 2/ 341 ح 3687، والترمذي 5/ 112، وابن حبان الإحسان 12/ 278 ح 5464، وأبو عوانة مسند أبي عوانة 5/ 271 ح 8700، والطحاوي شرح معاني الآثار 2/ 128،

(2)

المحدث الفاصل ص 389، والكفاية في علم الرواية ص 260.

(3)

فتح الباري 10/ 304.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ رواية ابن هانئ 2/ 240 رقم 2331.

(5)

سنن ابن ماجه 1/ 210 ح 641.

(6)

مصنف ابن أبي شيبة 1/ 78 ح 865.

ص: 397

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

جاء توضيح ذلك في رواية المروذي كما نقلها ابن رجب، قال:"وقد ذُكر هذا الحديث للإمام أحمد، عن وكيع فأنكره، قيل له: كأنه اختصره من حديث الحج؟ قال: ويحل له أن يختصر؟ نقله عنه المروذي"

(1)

. قال ابن رجب: هذا الحديث يوهم أنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك في غسلها من الحيض، وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه البخاري. ا. هـ

(2)

.

وحديث عائشة في الحج أخرجه غير واحد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ:[خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحبّ أن يُهلّ بعمرةٍ فليُهلّ، ومن أحبّ أن يُهلّ بحجةٍ فليُهلّ، فلولا أني أهديتُ أهللت بعمرة". قالت: فمنهم من أهلّ بعمرة، ومنهم من أهل بحجة، وكنت ممن أهلّ بعمرة، فحِضتُ قبل أن أدخل مكة، فأدركني يومُ عرفة وأنا حائضٌ، فشكوْتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعي عمرتَك وانقُضي رأسَك وامتشطي، وأهَلّي بالحج" ففعلتُ، فلما كانت ليلةُ الحَصبة أَرسلَ معي عبدَ الرحمن إلى التّنعِيم فأَردفها فأهلّت بعمرة مكانَ عمرتها فقضى الله عز وجل حجَّها وعمرتَها ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ ولا صومٌ ولاصدقةٌ]. هكذا رواه يحيى القطان عن هشام، أملاه عليهم هشام إملاءً

(3)

. والحديث عند الشيخين وغيرهما من طرق عن هشام به

(4)

.

(1)

فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن رجب 1/ 476.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

المسند 42/ 376 ح 25587. وإنما سقت هذه الرواية لتنصيص القطان على أن تحملهم للحديث عن هشام كان بإملاء منه، لأنه أرفع أقسام طرق تحمل الحديث عند الجماهير كما قال النووي التقريب مع تدريب الراوي 2/ 8.

(4)

انظر: صحيح البخاري 1/ 417 ح 317 مع فتح الباري، وصحيح مسلم 2/ 872 ح 1211 (115).

ص: 398

ولما اختصره وكيع أوهم أن يكون قال لها ذلك في غسلها من الحيض، بينما قال لها ذلك وهي في الحيض، ولماّ ينقطع عنها، ولكن أمرها أن تغتسل للإحرام في حال الحيض، فأخل الاختصار بمعنى أصل الحديث، واستدل به على حكم لا يدل عليه، وهو امتشاط المرأة ونقضها شعرها عند غسلها من الحيض. فالإمام أحمد أنكر مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى أويحيله، قال الخلال:"إنما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يُخل بالمعنى، لا أصل الاختصار"

(1)

.

والدليل على أن وكيعاً هو الذي اختصر الحديث وليس أبو بكر بن أبي شيبة الراوي عنه كما ذهب إليه أبو بكر الخلال

(2)

، كون ابن أبي شيبة قد توبع عن وكيع بمثل هذا اللفظ المختصر، فتابعه علي بن محمد وهو الطنافسي عند ابن ماجه كما تقدم، وتابعه أيضاً إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في "كتاب الطهور" كما قال ابن رجب

(3)

. وقد رواه الإمام أحمد، وأبو كريب كلاهما عن وكيع بدون اختصار

(4)

. وكذلك نقل المروذي عن الإمام أحمد يدل على أن إنكاره هذا الاختصار كان موجهاً إلى وكيع.

فهذا الاختصار المخل بالمعنى هو وجه بطلان الحديث عند الإمام أحمد وإنكاره على راويه، وإنما وقع فيه الراوي بتصرفه في اللفظ وحمله على المعنى الذي فهمه. فالإمام أحمد رحمه الله يعتبر مثل هذا الاختصار سببا من أسباب إعلال الأحاديث.

فالخلاصة أن الرواية بالمعنى أحد أسباب وقوع العلل في الروايات، وإنما

(1)

فتح الباري لابن رجب 1/ 477.

(2)

انظر: الموضع السابق.

(3)

الموضع السابق.

(4)

مسند الإمام أحمد 42/ 378 ح 25588، صحيح مسلم 2/ 872 ح 1211 (117).

ص: 399

يقع ذلك عند وجود الاختلاف في الألفاظ، فإن لم يؤد ذلك الاختلاف إلى اختلاف في المعنى، دل على أن بعض الرواة تصرف في الألفاظ فروى بالمعنى، وأنه قد أصاب فلا وجه لإعلال ما رواه، مثل ما وقع من الاختلاف بين الثوري ومن خالفه في حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر في سهم الفارس والراجل من الغنيمة كما تقدم. وإن أدى الاختلاف إلى اختلاف في المعنى كان ذلك مورداً من موارد الإعلال، فينظر في الذي ينفرد بلفظ مخالف لرواية أكثر أو أحفظ الرواة فيحكم عليه بالخطأ، ويُرجع سبب الخطأ إلى الرواية بالمعنى إن وجدت قرائن تدل عليها

(1)

، ثم إن كان المتفرد من الفقهاء المعتنين بالرأي فيقوى الظن بأنه حمل لفظ الحديث على رأيه الفقهي، أو كان ممن يحدث من حفظه لا سيما إذا لم يشتهر بالفقه، يقوى الظن بأنه تصرف في اللفظ فأخطأ وأحال المعنى. ولا شك أن الذي يكثر منه الوقوع في الخطأ من أجل الرواية بالمعنى تتأثر بذلك منزلته في الجرح والتعديل من حيث الضبط، وعليه يحمل ترك الإمام أحمد لمعلى بن منصور الذي كان يحدث بما يوافق الرأي ويقع في الأخطاء. وأما ما ورد عن أهل الإتقان من الخطأ بسبب الرواية بالمعنى كيحيى القطان، ووكيع فيحمل على الأوهام والأخطاء التي لا يسلم منها أحد مهما بلغ في الحفظ والإتقان إلا المعصوم، ولا يحكم عليهم بسوء الحفظ، والله أعلم.

(1)

قد يقع الاختلاف في اللفظ والمعنى ولا يكون ذلك بسبب الخطأ في الرواية بالمعنى، ويكون بسبب مجرد الوهم أو مطلق سوء الحفظ حيث بدل الراوي لفظة بأخرى، كما يحتمله حديث يحيى القطان في كراهية أن يعرى المسجد بدل أن تعرى المدينة.

ص: 400

‌المبحث الثاني: الإعلال بسوء الحفظ الطارئ على الراوي

.

‌المطلب الأول: الإعلال باختلاط الراوي لكبر سِنِّه

.

الاختلاط في اللغة فساد العقل. قال ابن المنظور: واختلط فلان أي فسد عقله، ورجل خِلْطٌ بيّن الخَلاطة: أحمق مخالِط العقل

وقد خُولط في عقله خِلاطاً واختلط، ويقال: خُولط الرجل فهو مخالِط، واختلط عقله فهو مختلِط إذا تغير عقله

(1)

.

وهو في عرف المحدثين سوء الحفظ الطارئ على الراوي إما لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عدمها بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء

(2)

.

فالاختلاط إذاً من أسباب الطعن في رواية الراوي الراجع إلى خلل في الضبط، وعليه فلا يعلّ من روايته إلا ما تُحقّق عدم ضبطه فيه أو اشتبه الأمر فيه، فحديث المختلط لا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: ما ثبت أنه حدّث به قبل الاختلاط، وله صورتان:

الأولى: ما جاء من طريق مَن تحمّل عنه قبل الاختلاط فقط كقدماء أصحابه والرواة الذين لم يدركوا زمن اختلاطه، أو أدركوه ولم يرووا عنه في تلك الحالة.

الثانية: ما جاء من طريق من تحمّل عنه في الحالتين ـ قبل الاختلاط وبعده ـ لكنهم ميزوا هذا من ذاك.

(1)

لسان العرب 7/ 294 - 295 مادة "خلط".

(2)

نزهة النظر ص 51.

ص: 401

الحالة الثانية: ما ثبت أنه حدّث به بعد الاختلاط.

الحالة الثالثة: ما اشتبه الأمر فيه، وهو ما رواه من طريق من لم يُعرف زمنُ تحمّله عنه، أهو قبل الاختلاط أم بعده، وكذلك مَن تحمّل عنه في الحالتين ولم يتميز هذا من ذاك.

وإنما تُردّ روايةُ المختلط في الحالتين الثانية والثالثة دون الأولى، وهذا أيضاً بشرط ألا يوجد له متابع أو شاهد معتبر. قال ابن حبان:"وأما المختلطون في أواخر أعمارهم مثل الجُريري، وسعيد بن أبي عروبة وأشباههما فإنا نروي عنهم في كتابنا هذا ونحتج بما رووا إلا أنا لا نعتمد من حديثهم إلا على ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، أو ما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى، لأن حكمهم ـ وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحُمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدّم عدالتهم ـ حكمُ الثقة إذا أخطأ أن الواجب ترك أخطائه إذا علم والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء: الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء"

(1)

.

وأما في الحالة الأولى ـ بكلا صورتيها ـ فلا وجه لردها. وقد قال يحيى ابن معين لوكيع بن الجراح: "تحدّث عن سعيد بن أبي عروبة وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ قال: رأيتَني حدّثت عنه إلا بحدث مستوٍ؟ "

(2)

.

وقال وكيع: كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحاً طرحناه

(3)

.

(1)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 1/ 161.

(2)

الكفاية في علم الرواية ص 217.

(3)

تهذيب الكمال 11/ 10.

ص: 402

فهذا يوضّح أن حديث المختلط عندهم إذا كان معروفاً ومستوياً فهو مقبول وإن حدّث به في حال الاختلاط. ولذلك قال السخاوي ـ بعد أن ذكر قول وكيع المتقدم ـ إذا حدّث في حال اختلاطه بحديث واتفق أنه كان حدّث به في حال صحته فلم يخالفه أنه يقبل، فليحمَل أطلاقهم عليه

(1)

.

ولتمييز هذه الحالات اهتمّ الأئمة الحفاظ بمعرفة زمن اختلاط المختلط بالتحديد لكي يجعلونه ضابطاً يميِّزون به بين التحمّل في الصحة والتحمّل بعد الاختلاط، فقسموا الرواة عن المختلط أقساماً:

1.

من كان سماعه قبل الاختلاط.

2.

من كان سماعه بعد الاختلاط.

3.

من كان سماعه قبل الاختلاط وبعده وتميّز الأول من الثاني.

4.

من كان سماعه قبل الاختلاط وبعده ولم يتميّز الأول من الثاني.

5.

من لا يعرف زمن تحمله عنه.

وكذلك اهتم الحفاظ في هذا الباب بأمور أخرى منها:

1.

التفريق بين الاختلاط والتغيّر: قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي قال: سألتُ ابن عليّة عن الجُريري فقلت له: يا أبا بِشر أكان الجُريري اختلط؟ قال: لا، كبر الشيخ فرقّ

(2)

. وجاء ما يدل على اعتماد الإمام أحمد هذا فقد ذكر له علة حديث بأن سماع راويه من الجريري بعد الاختلاط فلم يجب، وقال: لا أدري

(3)

. وهذا يدل على أن الاختلاط والتغير أمران متباينان، فالتغير

(1)

فتح المغيث 4/ 371.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 302/5342.

(3)

المنتخب من العلل للخلال ص 166.

ص: 403

هو رقة في الحفظ كما يحصل من أجل الشَّيْخُوخة وكِبَر السِّن، ولازم هذا التفريق أن الذي أصابه التغير لا يعامل معاملة المختلط، ووجه ذلك أن التغير لا يؤثِّر على مرويات الرَّاوي لقلة ما يحصل بسببه من الأوهام والأغلاط، حاله حال الثقة الذي قد يهم، فيُتَجنَّب ما تُحُقِّق أنه وهِم فيه وأخطأ، ويقبل باقي حديثه ولا يتوقف في قبولها، بخلاف الاختلاط الذي يجعل المتصف به لا يعقل ما يحدّث به، فيُجيب فيما سُئل، ويحدِّث كيف شاء فيختلط حديثه الصحيح بحديثه السقيم

(1)

. وقال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة: "أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكِبَر تناقَص حفظُه، ولم يختلط أبداً، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطّان من أنه وسُهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا، نعم الرجلُ تغيّر قليلاً ولم يبق حفظُه كهو في حال الشَّبيبة فنسِيَ بعضَ محفوظِه أو وهم فكان ماذا؟ أهو معصوم من النسيان؟ ولما قدم العراق في آخر عمره حدّث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك، ولشعبة، ولوكيع، ولكبار الثقات، فدعْ عنك الخَبْط وذَرْ خَلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمُخلِّطين"

(2)

وكأن الإمام أحمد لاحظ هذا الفرق واعتمده في الجريري فلم يهتمّ بتمييز الرواة عنه ولا بذكر ضابطٍ للسَّماع الصَّحيح من السماع المختلط كما فعل مع سائر المختلطين.

2.

قد يختلط الراوي ولا يؤثر ذلك على مروياته، وذلك لأحد أمرين:

الأول: أن يكون لم يحدّث بشيء حال اختلاطه، كما حصل لعبد الوهاب الثقفي، وجرير بن حازم. قال أبو داود:"جرير بن حازم وعبد الوهاب الثقفي تغيرا فحُجِب الناس عنهما"

(3)

.

(1)

انظر: ما ذكره ابن حبان عن المختلطين المجروحين 1/ 68.

(2)

ميزان الاعتدال 5/ 426 - 427 النص 9233.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 749.

ص: 404

الثاني: أن لا يُؤْثَر عنه حديثٌ منكرٌ، كما قال ابن عدي في أبان بن صمعة أنه مع اختلاطه لم يجد له حديثاً منكراً

(1)

وأشار الإمام أحمد إلى أن أبان بن صمعة وإن تغير بأخرة فهو صالح الحديث كما سيأتي في آخر المطلب.

وسأذكر في هذا المطلب جمعاً من الرواة نص الإمام أحمد على أنهم اختلطوا، وحيث وجد أذكر ما أعلّه من حديثهم، وهم كأنموذج يتبين من خلاله أن الإمام أحمد يعتبر الاختلاط في الأحوال التي ترد بها الرواية علةً يُعتلّ بها ما يستنكر من رواية المختلطين، وأقتصر في هذا المطلب على من اختلط لكبر سنّه وذلك لكثرتهم، وأما من كان اختلاطه لأسباب أخرى كالعمى، واحتراق الكتب وغيرهما فسأفردهم بالذكر في مطلب خاص إن شاء الله.

1 -

‌ صالح مولى التوأمة ت (125) هـ

:

هو صالح بن نبهان مولى التوأمة بنت أمية بن خلف أبو محمد المدني قال عنه الإمام أحمد: صالح الحديث

(2)

.

وقد وردت عن الإمام أحمد روايات تشير إلى اختلاط صالح، منها:

قال عبد الله: قلت لأبي إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالك بن أنس عن صالح مولى التوأمة فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك كان قد أدرك صالحاً وقد اختلط أو هو كبير، ما أعلم به بأساً من سمع قديماً وقد روى عنه أكابر أهل المدينة

(3)

.

وقال عبد الله أيضاً: قال أبي: صالح مولى التوأمة ما أرى به بأساً من سمع

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 750.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 391/3234.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 311/2382.

ص: 405

منه قديما

(1)

.

وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن صالح مولى التوأمة فقال: قال مالك: قد رأيته مختلِطاً، ولم يحمل عنه. ثم قال: من سمع قبل الاختلاط فكأنه

(2)

.

وقال البخاري: كان أحمد يقول: من سمع من صالح قديما فسماعه حسن ومن سمع منه أخيراً فكأنه يضعف سماعه

(3)

.

وقال أبو داود: قلت لأحمد: صالح مولى التَّوْأَمة؟ قال: لقيه مالك ـ زعموا ـ بعد ما كبر. قلت لأحمد: هو مُقارِب الحديث؟ قال: أما أنا فأحتمله وأروي عنه، وأما أن يقوم موضع مجد فلا؟

(4)

.

فهذه الرويات عن الإمام أحمد أثبتت أن صالح مولى التوأمة كان قد اختلط، وذكرت التمييز بين سماع من سمع منه قديماً ومن سمع منه بأخرة، وهذا التفصيل لا يكون إلا في راوٍ مختلطٍ. ولم تبين الروايات زمن الاختلاط ولم تنص على أعيان من سمع منه قبله، ولكن نصت على أن الإمام مالكاً ممن سمع منه بعد الاختلاط. ولا يمكن أن يؤخذ من هذا ضابطاً للسماع الصحيح من السماع في حالة الاختلاط.

ما أعله الإمام أحمد من حديثه:

وقد ورد عن الإمام أحمد إعلال حديث رواه صالح مولى التوأمة، إلا أنه لم يتبين تماماً هل أعله بإختلاط صالح فيكون شاهداً للباب، أو أعله بأمر آخر.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 115/4479.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 69/ 69.

(3)

علل الترمذي الكبير بترتيب القاضي 1/ 34 ط بيروت بتحقيق صبحي سامرائي وليس هذا النص في طبعة دار الأقصى بتحقيق حمزة ديب مصطفى.

(4)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 208 - 209/م 159.

ص: 406

فروى ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلّى على جنازة في المسجد فليس له شيءٌ"

(1)

.

قال عبد الله: سألت أبي عن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" فقال: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد ثم قال: حتى يثبت حديث صالح مولى التوأمة، كان عنده ليس يثبت أو ليس صحيحاً

(2)

.

وهذه الرواية ليست صريحة في إعلال الحديث باختلاط صالح، إذ غاية ما فيها التنصيص على عدم ثبوت الحديث، ويحتمل أن يكون الحديث قد رواه قبل الاختلاط لكنه تفرد به وهو ممن لا يحتمل تفرده خاصة مع مخالفته لحديث عائشة رضي الله عنها. ويؤيد هذا الوجه ما نقله الحافظ ابن عبد البر قال: وسئل أحمد بن حنبل ـ وهو إمام أهل الحديث والمتقدم في معرفة علل النقل فيه ـ عن الصلاة على الجنازة في المسجد فقال: لا بأس بذلك، وقال بجوازه، فقيل: فحديث أبي هريرة؟ فقال: لا يثبت أو قال: حتى يثبت. ثم قال: رواه صالح مولى التوأمة، وليس بشيء فيما انفرد به. ا. هـ

(3)

. وذكر النووي عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف

(4)

. واعتمد ابن عبد الهادي

(1)

رواه أبو داود السنن 3/ 531/3191، وابن ماجه السنن 1/ 486/1517، وأبو داود الطيالسي 304/ 2131، وعبد الرزاق المصنف 3/ 527/6579، وأحمد المسند 2/ 444 - 15/ 454/9730، 2/ 455 - 15/ 535/9865، 2/ 505 - 16/ 330/10561، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 493، والبيهقي السنن الكبرى 4/ 52 بألفاظ متقاربة، إلا أبا دواد رواه بلفظ: فلا شيء عليه.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية عبد الله 2/ 481 - 482.

(3)

الاستذكار 8/ 273.

(4)

شرح صحيح مسلم 7/ 40.

ص: 407

هذا النقل عن النووي

(1)

، واعتماد ابن عبد الهادي هذا النقل عن النووي يدل على عدم وقوفه على رواية عن الإمام أحمد في المسئلة من طريق أصحابه.

ويؤيد أن علة الحديث هو اختلاط صالح ما ذكره أبو الحسن ابن القطان قال: "حكى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيراً وروى عنه منكراً"

(2)

. وهذا الحديث من رواية محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة، فحيث كان سماعه من صالح أخيراً تحمل نكارته على اختلاط صالح. لكن هذا النقل مخالف لما في نسخة "علل الترمذي الكبير" التي بأيدينا وما نقله البيهقي من الكتاب نفسه، وفيه:"قال قلت كيف صالح مولى التوأمة؟ قال ـ أي البخاري ـ قد اختلط في آخر أمره، من سمع منه قديماً سماعه مقارب وابن أبي ذئب ما أرى أنه سمع منه قديماً يروي عنه مناكير"

(3)

. وفي موضع آخر: قال: "قال محمد: وابن أبي ذيب سماعه منه أخيراً، يروي عنه مناكير"

(4)

. فالظاهر أن القائل بأن سماع ابن أبي ذيب في زمن الاختلاط هو البخاري ولم ينسبه إلى الإمام أحمد، ولذلك استغرب الحافظ ابن حجر نقل ابن القطان هذا

(5)

. وقد نص جمع من الأئمة على أن سماع ابن أبي ذيب من صالح مولى التوأمة قبل الاختلاط

(6)

، ولم يَرِد عن الإمام أحمد شيءٌ عن سماع ابن أبي ذيب من صالح إلا هذا النقل من ابن القطان، والله أعلم.

(1)

تنقيح التحقيق 2/ 144.

(2)

بيان الوهم والإيهام 4/ 257. ونقله ابن حجر في تهذيب التهذيب 4/ 406. وقال الحافظ ابن حجر: حكاه ابن القطان عن الترمذي هكذا.

(3)

علل الترمذي بترتيب القاضي 1/ 292.

(4)

علل الترمذي بترتيب القاضي 1/ 34. وانظر: نقل البيهقي في معرفة السنن والآثار 5/ 319 - 320.

(5)

انظر: تهذيب التهذيب 4/ 406.

(6)

انظر: الكواكب النيرات ص 261.

ص: 408

فإيراد هذا الحديث مما أعله الإمام أحمد بعلة اختلاط صالح مولى التوأمة هو على الاحتمال فقط.

2 -

‌ عطاء بن السائب ت (126) هـ:

هو عطاء بن السائب بن مالك الثقفي أبو السائب الكوفي.

قال عبد الله: سمعت أبي يقول: عطاء بن السائب ثقة ثقة رجل صالح

(1)

.

وقال المروذي: قيل له ـ أي أحمد بن حنيل: عطاء بن السائب أحب إليك أو حصين؟ فقال: كلاهما ثبتان

(2)

.

وقال عبد الله: سألته عن عطاء بن السائب فقال: صالح، من سمع منه يعني قديماً وقد تغير فإنه ليس بذاك إنه ليرفع إلى بن عباس

(3)

.

وقال أبو طالب: سألت أحمد يعني ابن حنبل عن عطاء بن السائب قال: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة، وسفيان، وسمع منه حديثاً جرير، وخالد بن عبد الله، وإسماعيل يعني ابن علية، وعلي بن عاصم، فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها، وقال وهيب: لما قدم عطاء البصرة قال: كتبتُ عن عَبيدة ثلاثين حديثاً ولم يسمع من عَبيدة شيئاً، فهذا اختلاط شديد

(4)

.

وقال أبو داود: قلت لأحمد: عطاء بن السائب ـ أعني كيف حديثه؟ قال: من سمع منه بالبصرة فسماعه مضطرب، قلت: وُهيْب؟ قال: نعم

(5)

.

(1)

الجرح والتعديل 6/ 334.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 51/ 33. وحصين هو ابن عبد الرحمن السلمي.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 414/882.

(4)

الجرح والتعديل 6/ 333 - 334.

(5)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 383/ 1851.

ص: 409

فهذه النصوص عن الإمام أحمد أثبتت الأمور التالية:

1.

إن عطاء بن السائب قد تغيّر في الآخر، وأن هذا التغيّر ليس بتغيّر خفيف، بل هو اختلاط شديد، حيث إنه يزعم أنه سمع من عَبيدة ثلاثين حديثاً والواقع أنه لم يسمع منه شيئاً، وبالتالي اعتبر الإمام أحمد سماع من سمع منه في زمن التغيّر لا شيء.

2.

إن عطاءَ بن السائب قبل التغيّر ثقةٌ صالحٌ صحيحُ الحديث عند الإمام أحمد.

3.

ضابط التمييز بين السماع قبل الاختلاط وبعده: الظاهر من رواية أبي داود عن أحمد أن ذلك يرجع إلى مكان السماع، فمن سمع منه بالكوفة فهو قبل الاختلاط، ومن سمع منه بالبصرة فهو بعد الاختلاط

(1)

. فكأن قدومه البصرة كان في آخر حياته.

4.

ذكرُ من سمع من عطاء قبل الاختلاط ومن سمع منه بعده، فذكر ممن سمع منه قبل الاختلاط: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري. ومما يدل على صحة سماعهما ما ذكره أبو داود قال: قلت لأحمد: يُشاكل أحدٌ سفيانَ وشعبةَ في عطاء؟ قال: لا، قلما يختلف عنه سفيان وشعبة

(2)

. وهذا يدل على ضبط عطاء لحديثه حال الصحة حيث قل أن يختلف عنه هذان الحافظان.

ومنهم أيضاً سفيان بن عيينة:

قال أبو داود: سمعتُ أحمد قال: سماعُ ابن عيينة عنه مقاربٌ ـ يعني من

(1)

وانظر أيضاً: شرح علل الترمذي لابن رجب 2/ 737. وممن وافق الإمام أحمد على هذا الحافظ أبو حاتم الرازي، فيرى أن حديث البصريين عن عطاء فيه تخاليط كثيرة لأنه قدم عليهم في آخر عمره الجرح والتعديل 6/ 334.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1849.

ص: 410

عطاء بن السائب، سمع بالكوفة

(1)

.

وذكر ممن سمع منه بعد الاختلاط: جرير بن عبد الحميد الضبي، وخالد ابن عبد الله الطحان، وإسماعيل بن عُليّة، وعلي بن عاصم، ووُهيْب بن خالد.

وذكر أن أبا عوانة ممن سمع منه قبل وبعد الاختلاط، فقال أبو داود: سمعت أحمد قال: أبو عوانة سمع منه بالكوفة وبالبصرة جميعاً ـ يعني من عطاء

(2)

، والظاهر أنه لم تتميز أحدها عن الآخر كما قال هو في نفسه أن ذلك اختلط عليه

(3)

.

5.

إن من مظاهر العلة في حديث عطاء بن السائب والناشئة من الاختلاط رفعه أشياء إلى ابن عباس وهي في الواقع موقوفة على سعيد بن جبير. قال أبو داود: قال أحمد: هذا الذي يروي خالد الطحّان، عن سعيد، عن ابن عباس في التفسير إنما هو عن سعيد ـ يعني خالد عن عطاء بن السائب

(4)

.

وقال عبد الله: سئل أبي عن عطاء بن السائب وسماك قال: ما أقربَهما وسماك يرفعها عن عكرمة عن ابن عباس، وعطاء عن سعيد عن ابن عباس، ما أقربَهما

(5)

.

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1847.

وفي المعرفة والتاريخ للبسوي 2/ 708 قال سفيان في حديث ابن عمر مرفوعاً: "إن استلام الركنين يحط الخطايا كما تتحات ورق الشجر" قال سفيان: حدثني بهذا عطاء وأنا وهو في الطواف قال: فكأنه لم يرني أعجبت به فقال: أتزهد في هذا يا ابن عيينة؟

وقال أيضاً: سمعت عطاء يكثر التلبية في الطواف، وكان يحرم من الكوفة، وسمعت منه قديماً ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث بعض ما كنت سمعت منه فيخلط فيه فاتقيته واعتزلته. ا. هـ. فلعل سماعه القديم كان بالكوفة كما قال الإمام أحمد ولما قدم عطاء مكة كان قد اختلط ومن أجل ذلك لم يعجب ابن عيينة بما حدثه به من حديث ابن عمر، والله أعلم.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 383/ 1850.

(3)

قال أبو عوانة: كتبت عن عطاء قبل وبعد فاختلط علي كتاب الضعفاء للعقيلي 3/ 1095.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1848.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 395/792.

ص: 411

ما أعله الإمام أحمد من حديث عطاء بن السائب بالاختلاط:

قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرَم الُمزني أن أبا عبد الله سُئل عن حديث شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحى، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]، قال:[بينهن نبيٌّ كنبيكم، ونوحٌ كنوحكم، وآدمُ كآدمِكم]. قال أبو عبد الله: هذا رواه شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس لا يذكر هذا، إنما يقول:[يتنزّل العلمُ والأمرُ بَيْنهنّ] وعطاء بن السائب اختلط، وأنكر أبو عبد الله الحديث. وعن قتادة قال:[في كل سماءٍ وكل أرضٍ خلقٌ من خلقه، وأمر من أمره، وقضاءٌ من قضائه]

(1)

.

هذا الأثر رواه الحاكم

(2)

، ومن طريقه البيهقي

(3)

، وقد أنكره الإمام أحمد وجعل علته اختلاط عطاء بن السائب، والراوي عنه شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، ولم ينص على زمن سماعه من عطاء، وإعلال الإمام أحمد الحديث باختلاط عطاء يدل على احتمال أن يكون شريك عنده ممن سمع من عطاء بعد الاختلاط، أو ممن لم يعرف وقت سماعه منه، أو ممن سمع منه قبل وبعد الاختلاط، إذ هذه هي حالات الإعلال بالاختلاط.

وقد قوّى إعلاله للحديث بأن شعبة خالفه، فرواه عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس بغير هذا اللفظ، وبما رُوي عن قتادة في تفسير الآية. وهذا التفسير عن قتادة رواه ابن جرير في التفسير

(4)

.

ولم أقف على رواية شعبة هذه التي أعل بها الإمام أحمد رواية عطاء بن السائب،

(1)

المنتخب من العلل للخلال 125/ 58.

(2)

المستدرك 2/ 493، وصححه ووافقه الذهبي.

(3)

الأسماء والصفات 389.

(4)

جامع البيان 28/ 154.

ص: 412

وصحة الإعلال باختلاط عطاء متوقف على ثبوت تلك الرواية عن شعبة.

وقد روى ابن جرير من طريق غندر، والحاكم من طريق آدم بن أبي إياس، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله عز وجل:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]. قال: [في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق]. وقال ابن المثنى عن غندر: في كل سماء إبراهيم

(1)

. فهذا اللفظ ظاهره نحو لفظ عطاء بن السائب، مما يدل على أنه توبع من قبل شعبة، وقد صحح البيهقي الإسناد إلى ابن عباس وقال: إلا أنه شاذ بمرة ولا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً والله أعلم اه

(2)

والظاهر من صنيع البيهقي أنه لا يرى أن العلة فيه اختلاط عطاء بن السائب لمتابعة شعبة له، كأنه لم يقف على رواية شعبة التي ذكرها الإمام أحمد المخالفة لروايةِ عطاء والمخالفة لروايةِ غندر وآدم بن أبي إياس عن شعبة التي ذكرت آنفاً.

3 -

‌ أبو إسحاق السَّبِيعي ت (126) هـ:

وهو عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني، أبو إسحاق السَّبِيعي. قال أحمد: أبو إسحق رجل ثقة صالح، لكن هؤلاء الذين حملوا عنه بأخرة

(3)

.

فهذه إشارة إلى أن أبا إسحاق تغير بأخرة. وأصرح من ذلك ما رواه الميموني:

(1)

جامع البيان 28/ 153، المستدرك 2/ 493.

(2)

الأسماء والصفات 390. وقد اعتمد السيوطي كلام البيهقي هذا فذكر هذا الحديث مثالاً للحديث الشاذ عند الحاكم ـ وهو ما سماه بما انفرد به ثقة وليس له أصل بمتابع وينقدح في نفس الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل عليه ـ تدريب الراوي 1/ 233. ولمحمد بن عبد الحي اللكنوي رسالة في تصحيح الحديث سماها: "زجر الناس عن إنكار أثر ابن عباس" ذكرها الشيخ أبو غدة في تحقيقه على الرفع والتكميل ص 188. ولم أطلع عليها.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 363/2611، الجرح والتعديل 6/ 243.

ص: 413

قال: قلت: لأبي عبد الله: وكان أبو إسحاق قد تأخّر؟ قال: إي والله، هؤلاء الصغار زهير وإسرائل يزيدون في الإسناد وفي الكلام

(1)

.

فذكر من آثار هذا التغيرّ الزيادة في الإسناد، وذلك برفع الموقوف، ووصل المرسل، وزيادة رجل في الإسناد، وبمثل هذا ينحط الثقة عن رتبة الاحتجاج به كما قال الذهبي

(2)

. إلا أن هذا الصنيع ليس من قبل هؤلاء الرواة عن أبي إسحاق، بل كان من قبل أبي إسحاق نفسه، وهو دليل على اختلاطه.

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: زهير، وزكريا، وإسرائيل ما أقربهم في أبي إسحاق، في حديثهم عنه لين، ولا أراه إلا من أبي إسحاق، هو السَّبيعي. قال: قلت لأحمد: شريك منهم؟ قال: شريك سمع قديماً

(3)

.

وقال صالح عن أحمد: زهير، وإسرائيل، وزكريا في حديثهم عن أبي إسحاق لين، سمعوا منه بأخرة، وشريك كان أثبت في أبي إسحاق منهم، سمع قديماً. وزهير فيما روى عن المشايخ ثبت بخ بخ

(4)

.

وقال أبو داود أيضاً: قلت لأحمد: إسرائيل أحب إليك أو زهير في أبي إسحاق؟ قال: ما فيهما بحمد الله إلا يُخطئ، وما أراه إلا من أبي إسحاق

(5)

.

وقال في رواية عبد الله: وفي حديث إسرائيل اختلاف عن أبي إسحاق، أحسب ذاك من أبي إسحاق

(6)

.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 710.

(2)

سير أعلام النبلاء 13/ 513.

(3)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل ص 310/ 405 أ.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 2/ 457/1158.

(5)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل ص 310/ 405 ب.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 559/1335.

ص: 414

فنصّ رحمه الله في هذه الروايات على أن ما في حديث هؤلاء الحفاظ عن أبي إسحاق ـ وهم زهير بن معاوية الجعفي، وزكريا بن أبي زائدة، وإسرائيل ابن يونس بن أبي إسحاق ـ من الخطأ والاختلاف إنما هو من قبل أبي إسحاق وليس من قبلهم، وأن ذلك راجع إلى كونهم سمعوا منه بأخرة. وقدّم شريكاً عليهم في أبي إسحاق مع أنه دونهم في الحفظ والإتقان، لأنه أقدم سماعاً منهم.

وقد أنكر الذهبي أن أبا إسحاق اختلط، وقال: كبر وتغيَّر حفظُه تغيُّرَّ السن، ولم يختلط

(1)

.

ومما يدل على أن أبا إسحاق اختلط ما رواه أبو زرعة الدمشقي قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن عبيد الله بن عمرو قال: جئت محمد بن سوقة معي شفيعاً عند أبي إسحاق فقلت لإسرائيل: استأذن لنا الشيخ، فقال لنا: صلى بنا الشيخ البارحةَ فاختلط قال: فدخلنا عليه، فسلمنا وخرجنا

(2)

.

وقال الفسوي: قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو إسحاق في مسجده، ليس معنا ثالث. فقال بعض أهل العلم: كان قد اختلط فإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن زهير بن معاوية فقال: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط

(4)

.

وقال الذهبي: ما اختلط أبو إسحاق أبداً، وحمل كلام أبي زرعة هذا على التغيُّر ونقص الحفظ

(5)

. وقد تقدم من كلام الإمام أحمد أن تغير أبي إسحاق كان

(1)

سير أعلام النبلاء 5/ 395.

(2)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 469.

(3)

المعرفة والتاريخ 3/ 75.

(4)

الجرح والتعديل 3/ 589.

(5)

انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 233.

ص: 415

من آثاره أن وقعت أخطاء في مرويات من روى عنه بأخرة من زيادة في الأسانيد والمتون، والتغير إذا تضمن مثل هذا فلا يقال فيه إنه تغير يسير، بل الظاهر أنه من الاختلاط. وقد تقدم مثل هذا عن عطاء بن السائب أن من آثار اختلاطه أنه كان يرفع إلى ابن عباس ما كان موقوفاً على سعيد بن جبير

(1)

. وذكر ابن حبان عن عبد الله بن عبد العزيز الليثي أنه كان ممن اختلط بأخرة حتى كان يقلب الأسانيد وهو لا يعلم، ويرفع المراسيل من حيث لا يفهم

(2)

.

وإذا ثبت أن أبا إسحاق اختلط، فقد سمع منه قبل الاختلاط على ما ذكره أحمد: سفيان، وشعبة، وشريك. قال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من أكبر في أبي إسحاق؟ قال: ما أجد في نفسي أكبر من شعبة فيه، ثم الثوري، وشعبة أقدم سماعاً من سفيان

(3)

.

وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: قال شريك عن أبي إسحاق فقال: كان ثبتاً فيه

(4)

. وقد تقدم أنه قال إنه قديم السماع من أبي إسحاق.

وذكر الإمام أحمد أربعة ممن سمع من أبي إسحاق بأخرة، وهم: زهير، وزكريا، وإسرائيل، وزائدة بن قدامة. قال في حديث زائدة عن أبي إسحاق: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق

(5)

.

ولم يرد عن الإمام أحمد ضابط التمييز بين السماع القديم والسماع المتأخر.

(1)

انظر: ص 411. وانظر: العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 414/882.

(2)

المجروحين 2/ 8.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 710.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 251/348.

(5)

الكواكب النيرات ص 350.

ص: 416

ما أعله من حديث أبي إسحاق بالاختلاط:

قال أبو داود: قلت لأحمد: كُدير الضبي له صحبة؟ فقال: لا، قلت: زهير يقول: إنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو إن أعرابياًّ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أعني في حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن كدير الضبي؟ فقال: زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة

(1)

.

هذا الحديث سيأتي في مسئلة ما يقدح في ثبوت الصحية، وسيأتي هناك أن رواية زهير عن أبي إسحاق، عن كُدير الضبي أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: [يا رسول الله، ألا تحدّثني عما يُقربّني من الجنة ويُباعدني من النار؟ قال:"تقول العدلَ، وتُعطي الفضلَ"

] الحديث. أخرجه أبو القاسم البغوي

(2)

، وعنه ابن قانع

(3)

. وظاهر هذه الرواية أن لكُدير الضبي وفادةً على النبي صلى الله عليه وسلم فتَثبُتُ له صحبة، وأنكر الإمام أحمد أن تكون له صحبة، لأن الرواية التي تفيد ذلك جاءت من طريق زهير بن معاوية الجعفي، عن أبي إسحاق، وسماعه من أبي إسحاق كان بأخرة، فرد الرواية من أجل هذا.

وقد روى الحديث القدماء من أصحاب أبي إسحاق مخالفاً لرواية زهير، فروى شعبة عن أبي إسحاق، سمعت كدير الضبي منذ خمسين سنة قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابي فذكر الحديث. أخرجه أبو داود الطيالسي

(4)

. وهذه الرواية لا تقتضي أن لكدير الضبي صحبةً. وتابع شعبةَ الثوري، والأعمش، ومعمر، وفطر ابن خليفة، وإسرائيل، وزيد بن أبي أنيسة كلهم عن أبي إسحاق كما سيأتي. ومخالفة زهير لهؤلاء ليست من أجل عدم ضبطه لحديث أبي إسحاق فإنه كان ثقة ثبتاً متقناً،

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 410/ 1925.

(2)

معجم الصحابة 5/ 164.

(3)

معجم الصحابة 2/ 384.

(4)

مسند أبي داود الطيالسي 194/ 361.

ص: 417

بل ذلك راجع إلى اختلاط أبي إسحاق، فسمع هذا الحديث منه على الوجه الخطأ.

فقد ظهر من هذا المثال أن لسماع زهير من أبي إسحاق أثراً في وقوع الخطأ في روايته عن أبي إسحاق، وذلك الخطأ تضمن وصل حديث مرسل، واقتضى ذلك اعتبارَ منْ ليس بصحابي صحابياًّ، وهذا مما يقوي أن إبا إسحاق كان قد اختلط، ولم يكن ما أصابه من قبل التغير اليسير، وأن الاختلاط من أسباب ردّ رواية الراوي.

4 -

‌ سعيد بن أبي عروبة ت (156) هـ:

هو سعيد بن أبي عروبة ـ واسمه مهران ـ العدوي مولاهم البصري، يكنى أبا النضر.

قال أحمد: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتب

(1)

، إنما كان يحفظ ذلك كله

(2)

، وذكر عن سعيد أنه كان يقول: دقَّك بالمنحاز حبَّ الفُلْفُل، وذلك لما قدم الكوفة، قال أحمد: يعني بذلك شدة الحفظ

(3)

.

وأثبت الإمام أحمد أن سعيد اختلط. قال عبد الله: قلت لأبي: كان سعيد اختلط؟ قال: نعم

(4)

وكذلك روى المروذي عنه

(5)

.

(1)

أي لم يكن يكتب حديثه، وإلا فقد كان له مصنفات رويت عنه. قال الذهبي: كان أول من صنف السنن النبوية سير أعلام النبلاء 6/ 412. وكان الإمام أحمد يعلل بعض أحاديثه بأنها مخالفة لما في كتبه انظر على سبيل المثال مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 400/ 1893. وقال الذهبي عن ابن عدي: روى جميع مصنفات سعيد بن أبي عروبة عبد الوهاب الخفاف سير أعلام النبلاء 6/ 417.

(2)

الجرح والتعديل 4/ 65.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 438/978، 3/ 148/4653. والمنحاز هو ما يدقّ فيه، وهذه العبارة مثل يضرب في الإلحاح على الشحيح لسان العرب، مادة: "نحز" 5/ 415، القاموس المحيط، المادة نفسها ص 677، فكأن سعيد بشدة إحاحه على الحفظ ما كان يترك شيئاً إلا حفظه.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 163/86.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 57 - 58/ 47.

ص: 418

وأما حالته قبل الاختلاط فعلى ما ذكر من قوة حفظه.

ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط:

وأما ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط فقد كان الإمام أحمد يحدد ذلك بالهزيمة، ويعني بها هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي خرج على أبي جعفر، وكانت سنة خمس وأربعين ومائة.

قال عبد الله: قال أبي: كانت الهزيمة في سنة خمس وأربعين ومائة، قال: ومن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه جيد، ومن سمع بعد الهزيمة كان أبي ضعّفهم

(1)

.

وكان هذا مذهب يحيى بن سعيد القطان أيضاً قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان يحيى بن سعيد يوقِّت فيمن سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الهزيمة فسماعه صالح، والهزيمة كانت سنة خمس وأربعين ومائة. قال: قال أبي: وهذه هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن الذي كان خرج على أبي جعفر

(2)

.

وقال المروذي: قال أحمد: أما يحيى فكان يقول: من سمع قبل سنة خمس وأربعين

(3)

.

ولعل الإمام أحمد أخذ هذا الضابط عن يحيى بن سعيد فإنه كان شيخَه وكان قد لقي ابن أبي عروبة.

من سمع من ابن عروبة قبل الاختلاط:

ذكر الإمام أحمد أن من سمع من سعيد بالكوفة فسماعه جيد.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 163/86.

(2)

المصدر نفسه 1/ 355/677.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 59/ 47.

وانظر الخلاف في ضابط السماع الجيد من السماع بعد الاختلاط في فتح المغيث 4/ 376.

ص: 419

قال المروذي: قلت: سعيد بن أبي عروبة حين قدم الكوفة سمعوا منه وهو مختلط؟ قال: لا، سماعهم جيد، لم يكن مختلطاً

(1)

.

قال عبد الله: قال أبي: من سمع منه ـ يعني سعيد بن أبي عروبة ـ بالكوفة مثل محمد بن بشر وعبْدَة فهو جيد، ثم قال: قدم سعيد الكوفة مرتين قبل الهزيمة

(2)

.

وقال المروذي: قد كان ابن بشر جيد الكتاب عن سعيد، سماعهم متقدم

(3)

.

فذكر ممن سمع منه بالكوفة محمد بن بشر العبدي أبو عبد الله الكوفي

(4)

، وعبدة بن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي

(5)

.

وذكر منهم أيضاً أسباط بن محمد القرشي مولاهم أبو محمد الكوفي

(6)

.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي: أسباط بن محمد أحب إليك في سعيد أو الخفاف

(7)

؟ فقال: أسباط أحب إليّ، لأنه سمع منه بالكوفة

(8)

.

وذكر منهم أيضاً عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي

(9)

.

قال أبو داود: قلت لأحمد: سماع عيسى من ابن أبي عروبة؟ قال: سماعه جيد بالكوفة

(10)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 143/ 254.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 163/86.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 57/ 47.

(4)

ثقة حافظ ع تقريب التهذيب 5792.

(5)

ثقة ثبت ع تقريب التهذيب 4297.

(6)

ثقة، ضعف في الثوري، ع تقريب التهذيب 322.

(7)

هو عبد الوهاب بن عطاء الخفاف البصري.

(8)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 302/5343.

(9)

ثقة مأمون ع تقريب التهذيب 5376.

(10)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1745.

ص: 420

ومن أهل البصرة يحيى بن سعيد، وهذا ظاهر لاعتماد الإمام أحمد على ما ذكره من ضابط التمييز بين السماع الصحيح من السماع بعد الاختلاط، فلو لم يكن يحيى سمع منه قبل الاختلاط لما أدرك هذا الضابط.

ومنهم يزيد بن زريع. قال أبو طالب عن أحمد بن حنيل: كل شيء رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة فلا تُبال أن لا تسمعه من أحدٍ، سماعُه من سعيد قديم، وكان يأخذ الحديث بنية

(1)

.

وقال ابن رجب عن الإمام أحمد: قد أكثر الأئمة السماع منه ـ يعني سعيد بن أبي عروبة ـ قبل الاختلاط منهم يزيد بن زريع

(2)

.

ومنهم محمد بن بكر البرساني البصري

(3)

.

قال عبد الله: قال أبي: قلت لمحمد بن بكر البرساني: متى سمعتَ من سعيد بن أبي عروبة؟ قال: قبل الهزيمة

(4)

.

ومنهم إسماعيل بن عليّة. قال عبد الله: حدثني أبي قال: قلت لإسماعيل ابن علية: متى جالستَ سعيداً؟ أو سمعت من سعيد قبل الطاعون وبعده؟ قال: نعم. قلت: وقبل الهزيمة؟ قال: نعم، قلت: وبعد الهزيمة؟ ثم قال: لا أدري لا أدري، إلا أني كنت آتيه أنا وأصحاب لي فيُملي علينا أو عليّ، وكان لا يفعل ذلك بكل أحد. قال أبي:"والطاعون قبل الهزيمة بأربع عشرة سنة، فسماع ابن علية من سعيد قديم"

(5)

.

(1)

تهذيب الكمال 30/ 127 - 128، وانظر: الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1230.

(2)

شرح علل الترمذي 2/ 743.

(3)

صدوق قد يخطئ ع تقريب التهذيب 5797.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 148/4653.

(5)

المصدر نفسه 3/ 295/5314.

ص: 421

ومنهم عبد الله بن بكر بن حبيب السَّهمي البصري

(1)

. قال عبد الله: حدثني أبي: قال: قلت للسَّهمي: متى جالستَ سعيد بن أبي عروبة؟ قال: قبل الهزيمة بسنتين أو ثلاث

(2)

.

وذكر ابن رجب عن الإمام أحمد أنه قال: السهمي فوق هؤلاء، يعني فوق محمد بن بكر وغيره في سماعه من سعيد

(3)

.

ومنهم روح بن عبادة. قال عبد الله: وجدتُ في كتاب أبي بخط يده قال: قلت لروح بن عبادة: متى سمعت التفسير من سعيد، قبل الهزيمة؟ قال: إي والله

(4)

. وقال ابن رجب عن الإمام أحمد قال: وروح حديثه عنه صالح

(5)

.

ومنهم محمد بن سواء السدوسي، فقد سأل عبد الله الإمام أحمد عن محمد ابن سواء وروح بن عبادة في سعيد بن أبي عروبة فقال: ما أقربهما

(6)

، مما يدل على أن سماعه من ابن عروبة قريب من سماع روح بن عبادة عنه، أي كان ذلك قبل الهزيمة.

فهؤلاء الذين وقفت على تنصيص الإمام أحمد على سماعهم من سعيد قبل الاختلاط.

من سمع من ابن عروبة بعد الاختلاط:

فمنهم شعيب بن إسحاق البصري ثم الدمشقي

(7)

. قال أبو داود:

(1)

ثقة حافظ ع تقريب التهذيب 3251.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 296/5315.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 744.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 321/5427. وكذلك قال أبو داود إن سماع روح من سعيد قبل الهزيمة سؤالات الآجري أبا داود السجستاني ص 224.

(5)

شرح علل الترمذي 2/ 744.

(6)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 472 رقم 3093.

(7)

ثقة رمي بالإرجاء خ م د س ق تقريب التهذيب 2808.

ص: 422

ذكرت لأحمد عن شعيب بن إسحاق، عن ابن أبي عروبة، قال: شعيب سمع منه بآخر رمق

(1)

.

ومنهم محمد بن أبي عدي وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي أبو عمرو البصري

(2)

. قال عبد الله: قال أبي: كان يحيى بن سعيد يقول: جاء ابن أبي عدي إلى سعيد بن أبي عروبة ـ يعني وهو مختلط

(3)

.

من سمع من ابن عروبة في الحالتين أو توقف الإمام أحمد في زمن سماعه منه:

فمنهم يزيد بن هارون الواسطي، قال عبد الله: قال أبي: سماع يزيد بن هارون من سعيد بن أبي عروبة في الصحة إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة

(4)

وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله ذكر سماع يزيد بن هارون من سعيد بن أبي عروبة فضعفه وقال: كذا وكذا حديث خطأ

(5)

.

والظاهر أن عبد الوهاب بن عطاء الخفّاف

(6)

ممن سمع قبل الاختلاط عند

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1744. وخالفه في هذا ابن حبان فقال: كان سماع شعيب بن إسحاق منه سنة أربع وأربعين ومائة قبل أن يختلط بسنة الثقات 6/ 360. ويؤيد ما ذكره ابن حبان ما رواه هشام بن عمار عن شعيب بن إسحاق أنه قال: سمعت من سعيد بن أبي عروبة سنة أربع وأربعين ومائة التقييد والإيضاح ص 399. وجمع بينهما العراقي بأن ابتداء سماعه من سعيد قبل الاختلاط ثم إنه سمع منه بآخر رمق الموضع نفسه. ويؤيد هذا الجمع أن وكيعاً لما سئل عن شعيب بن إسحاق عرفه فقال: الأشقر الضخم، رأيته عند ابن عروبة الجرح والتعديل 4/ 341. وسماع وكيع من ابن عروبة كان بعد الاختلاط. قاله ابن عمار الموصلي انظر: فتح المغيث 4/ 377. فدل على أن شعيب بن إسحاق قد سمع من سعيد في حال الاختلاط.

والرمق ـ محركة ـ بقية الحياة القاموس المحيط الرمق ص 1146.

(2)

ثقة ع تقريب التهذيب 5733.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 353/671.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 302/5341.

(5)

تاريخ بغداد 14/ 338، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 746.

(6)

صدوق ربما أخطأ عخ م 4 تقريب التهذيب 4290.

ص: 423

الإمام أحمد. سئل أبو داود عن السهمي والخفاف في حديث ابن أبي عروبة فقال: عبد الوهاب أقدم، فقيل له عبد الوهاب سمع في زمن الاختلاط فقال: من قال هذا؟ سمعت أحمد بن حنيل سئل عن عبد الوهاب في سعيد بن أبي عروبة فقال: عبد الوهاب أقدم

(1)

. فظاهر هذا أنه سمع قبل الاختلاط.

وأما ما ورد عنه أنه سُئل عن الموازنة بين أسباط بن محمد والخفاف في سعيد بن أبي عروبة فقال: أسباط أحب إليّ، لأنه سمع منه بالكوفة

(2)

حيث قدم أسباطاً لأن سماعه بالكوفة ينفي احتمال كونه سمع من سعيد في حال الاختلاط بخلاف الخفاف الذي كان سماعه بالبصرة، فإنه يحتمل أن يكون سمع في الصحة والاختلاط، فلو تمحض سماع الخفاف قبل الاختلاط لما قدّم الإمام أحمد أسباطاً عليه، وخاصة أنه كان يقول في الخفاف: كان من أعلم الناس بحديث سعيد بن أبي عروبة

(3)

، فهذا يقوّي احتمال كون الخفاف سمع من سعيد في الصحة والاختلاط عند الإمام أحمد، ويتعارض مع الرواية الصريحة المتقدمة والتي تنفي سماعه في الاختلاط. وهناك احتمال آخر للجمع بين القولين، وهو أقوى الاحتمالين، وهو أن تقديم الإمام أحمد لأسباط بن محمد في سعيد على الخفاف مبنى على مطلق قدم سماعه من سعيد، فإن قدم سماع الراوي من شيخه من عوامل تقديم الرواة بعضهم على بعض عند الأئمة، فهذا يجمع بين القولين وهو أولى من ترجيح الرواية الثانية على الرواية الأولى الصريحة في نفي الإمام أحمد لسماع الخفاف من ابن أبي عروبة في الاختلاط، والله أعلم.

وتوقف الإمام أحمد في سماع خالد بن الحارث أبي عثمان البصري

(4)

. فروى

(1)

سؤلات الآجري أبا داود ص 223.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 302/5343.

(3)

تاريخ بغداد 11/ 22 ذكره من رواية أبي طالب عن أحمد.

(4)

ثقة ثبت ع تقريب التهذيب 1629.

ص: 424

ابن رجب: قيل لأحمد: يقولون سماع خالد منه بعد الاختلاط قال: لا أدري

(1)

.

وكذلك توقف في سماع عباد بن العوام الكلابي مولاهم أبو سهل الواسطي

(2)

. قال أبو داود عن أحمد قال: عند عباد عن سعيد غير حديث خطأ، فلا أدري سمعه منه بآخرة أم لا؟

(3)

.

ما أعله الإمام أحمد من حديث سعيد بن أبي عروبة بالاختلاط:

قال أبو داود: سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنّا نمسح ونحن مع نبينا؟ قال: أسأل الله العافية. فقلت: شعيب بن إسحاق؟ قال: شعيب سمع بآخر رمق. قال الحسين: يعني أن شعيب بن إسحاق سمع من سعيد بن أبي عروبة هذا الحديث بآخر رمق

(4)

.

لم أقف على رواية شعيب بن إسحاق هذه، وقد روى ابن ماجه

(5)

، وابن خزيمة

(6)

، كلاهما من طريق محمد بن سواء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه [رأى سعد بن مالك وهو يمسح على الخُفين فقال: إنكم لتفعلون ذلك؟ فاجتمعا عند عمر فقال سعدٌ لعمر: أفتِ ابن أخي في المسح على الخفيْن فقال عمر: كنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نمسح على خِفافنا لا نرى بذلك بأساً، فقال ابن عمر: وإن جاء من الغائط؟ قال نعم].

ورواه أحمد عن عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به، وعنده:

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 744.

(2)

ثقة ع تقريب التهذيب 3155.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 400/ 1893.

(4)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد م 2.

(5)

السنن 1/ 181/546.

(6)

صحيح ابن خزيمة 1/ 93/184.

ص: 425

[فقال ابن عمر: وإن جاء من الغائط والبول؟ قال عمر: نعم، وإن جاء من الغائط والبول. قال نافع: فكان ابن عمر بعد ذلك يمسح عليهما ما لم يَخلعْهما، وما يوقِّت لذلك وقتاً. قال عبد الرزاق: فحدثتُ به معمراً فقال: حدثنيه أيوب عن نافع مثله"

(1)

. وهو في مصنف عبد الرزاق

(2)

. فهذه متابعة قاصرة لمحمد بن سواء.

ورواه مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدم الكوفة على سعد بن أبي وقاص وهو أميرها فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه، فقال له سعد: سل أباك إذا قدمت عليه، فقدم عبد الله فنسي أن يسأل عمرَ عن ذلك حتى قدم سعد، فقال: أسألت أباك؟ فقال: لا، فسأله عبد الله، فقال عمر: إذا أدخلت رجليك في الحفين وهما طاهرتان فامسح عليهما. قال عبد الله: وإن جاء أحدنا من الغائط؟ فقال عمر: نعم، وإن جاء أحدكم من الغائط

(3)

. هكذا رواه غير مرفوع عند عمر.

وقول الإمام أحمد في سؤال أبي داود: "أسأل الله العافية" نوع إنكار منه للحديث، ووجه ذلك أن رواية شعيب بن إسحاق جعلت الحديث من مسند ابن عمر، فأنكر الإمام أحمد ذلك، إذ كيف يكون عند ابن عمر علم بأنهم كانوا يمسحون مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينكر المسح على سعد كما جاءت بذلك بقية الروايات؟ ثم علّل ذلك رحمه الله بأن شعيب بن إسحاق سمع من ابن عروبة في آخر حياته ـ يعني في حال اختلاطه، وهو مظان أن يروي الخطأ منْ تحمّل عن شيخه في تلك الحالة، ومما يؤكد أن شعيب بن إسحاق روى الخطأ أنه قد خولف عن شيخه سعيد بن أبي عروبة:

(1)

المسند 1/ 357/237.

(2)

مصنف عبد الرزاق 1/ 1976/763، ووقع فيه: عن عبد الله بن عمر مكان عبيد الله بن عمر، فإن لم يكن خطأ من الناسخ فالأولى ما في المسند لأن أحمد مقدم في عبد الرزاق على الدبري راوية المصنف المطبوع، الله أعلم.

(3)

الموطأ 1/ 36/42.

ص: 426

خالفه محمد بن سواء بن عنبر السدوسي. قال فيه الإمام أحمد: هو أحلى من الخفاف ـ يعني عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ـ إلا أن الخفاف أقدم سماعاً

(1)

، وسأله عبد الله عن محمد بن سواء وروح بن عبادة في سعيد بن أبي عروبة، فقال: ما أقربهما

(2)

. وقد تقدم عن الإمام أحمد أن روح كتب التفسير عن ابن أبي عروبة قبل الهزيمة، أي قبل الاختلاط، وأن حديثه عن سعيد صالح، فهذا يدل على أن سماع محمد بن سواء أيضاً قبل الهزيمة، فروايته عن سعيد مقدمة على رواية شعيب ابن إسحاق. ثم إنه قد توبع محمد بن سواء متابعة قاصرة كما تقدم: تابعه عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، وعن معمر، عن نافع، كما تابعه مالك عن نافع.

ففي هذه المسألة إعلال الإمام أحمد الحديث بسماع الراوي عن المختلط في حال اختلاطه.

حديث آخر:

قال أبو داود: ذكرتُ لأحمدَ حديثَ عباد بن العواّم، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس:[أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه] فلم يعرفْه، وقال: عند عباد عن سعيد غير حديث خطأ، فلا أدري سمعه منه بآخرة أم لا؟ يعني عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قصة أم سليم، وإنما هي في كتب سعيد، عن عكرمة، يعني عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة. ويحدث عكرمة، عن الفضل بن عباس

(3)

، وذكر شيئاً، وإنما هو في كتب سعيد: عن رجل، عن الحكم

(4)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 356/2576.

(2)

المصدر نفسه 2/ 472/3093.

(3)

هكذا ذكره، وهكذا هو في نسخة مطبعة المنار ص 299، ولعل الصواب: وبحديث حتى تستقيم الجملة، والله أعلم.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 400 رقم 1893.

ص: 427

ذكر في هذه المسألة ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه.

هذه رواية عباد بن العوام، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس. رواه النسائي

(1)

، والترمذي في الشمائل

(2)

، وأبو يعلى

(3)

، وأبو الشيخ

(4)

من طريق محمد بن عيسى بن الطباع، عن عباد به. ورواه ابن عبد البر

(5)

من طريق موسى بن داود، عن عباد به، وزاد:[ونقشه: محمد رسول الله].

وقد رُوي عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن سعيد بن أبي عروبة به مثله. رواه عنه ابنه محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، أخرجه ابن عدي

(6)

. وقال: هذا إنما يعرف من رواية عباد بن العوام، عن سعيد، ويرويه عن عباد موسى بن داود، وأما عن خالد، عن سعيد فمنكر، لا يرويه عن خالد غيرُ محمد ابنه هذا. ا. هـ

(7)

، ومحمد بن خالد بن عبد الله الواسطي قال عنه ابن معين: لا شيء، وأنكر روايته عن أبيه، عن ابن أبي عروبة، والأعمش

(8)

. وقال أبو حاتم: هو على يديْ عدلٍ، أي قريب من الهلاك

(9)

.

(1)

السنن 8/ 193/5298، وفي الكبرى 5/ 451/9519.

(2)

مختصر الشمائل برقم 83.

(3)

المسند 3/ 284/3107.

(4)

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ص 132.

(5)

التمهيد 17/ 110.

(6)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2276.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2276.

(8)

التاريخ الكبير 1/ 74. وانظر: تهذيب الكمال 25/ 142.

(9)

تهذيب التهذيب 9/ 142.

ص: 428

وجه علة الحديث:

ذكر الإمام أحمد أنه لم يعرف الحديث، وهذه إشارة إلى تفرد عباد بن العوام بالحديث عن سعيد، ثم ذكر أن عند عباد عن سعيد غيرَ حديث خطأ، وهي إشارة منه إلى خطأ هذه الرواية، وهذا الخطأ يرجع عند الإمام إلى عدم معرفة هل كان سماع عباد بن العوام من سعيد بآخرة أم لا؟ وهذا أحد أوجه عدم قبول رواية الراوي عن المختلط. وبالرجوع إلى رواية سائر الرواة عن سعيد لهذا الحديث يتبين وجه الخطأ بوضوح. فقد روى الحديث جمعٌ من الرواة عن سعيد، منهم من سمع منه قديماً قبل الاختلاط، ومنهم من سمع في الحالتين. فممن رواه وكان سماعه من سعيد قبل الاختلاط:

1.

يزيد بن زريع: أخرج روايته البخاري في الصحيح

(1)

. وقد نص الإمام أحمد كما تقدم

(2)

على أن سماع يزيد بن زريع من سعيد قديم وقبل الاختلاط.

2.

عيسى بن يونس بن أبي إسحاق: أخرج روايته أبو داود

(3)

، وابن حبان

(4)

. وقال الإمام أحمد: سماع عيسى بن يونس من سعيد جيد بالكوفة

(5)

.

3.

محمد بن بشر العبدي: أخرج روايته أحمد

(6)

. وتقدم أن الإمام أحمد قال: سماع محمد بن بشر من سعيد متقدم

(7)

.

(1)

صحيح البخاري مع فتح الباري 10/ 323/5872.

(2)

ص 421.

(3)

السنن 4/ 423/4214.

(4)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 14/ 303/6392.

(5)

انظر: ص 420.

(6)

المسند 20/ 342/13046.

(7)

ص 420.

ص: 429

4.

محمد بن بكر البرساني: أخرج روايته أحمد

(1)

. تقدم أيضاً عن الإمام أحمد أنه سمع من سعيد قبل الهزيمة

(2)

.

ورواه ممن سمع من سعيد في الحالتين، أو لا يعرف وقت سماعه جمعٌ أيضاً، منهم:

1.

عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: أخرج روايته ابن سعد

(3)

، والطحاوي

(4)

، وابن عبد البر

(5)

. وسماع عبد الوهاب الخفاف من سعيد في الحالتين كما تقدم عن الإمام أحمد

(6)

.

2.

خالد بن الحارث: أخرج روايته أبو يعلى

(7)

. وقد تقدم أن الإمام أحمد ذكر أنه لا يدري عن وقت سماعه من سعيد

(8)

. وذكر غيره أنه سمع منه في الصحة

(9)

.

3.

محمد بن عبد الله الأنصاري: أخرج روايته ابن سعد

(10)

لم أجد التنصيص على وقت سماعه من سعيد.

4.

محمد بن جعفر غندر: أخرج روايته أحمد

(11)

. لم أجد عن الإمام أحمد التنصيص على وقت سماعه من سعيد. وقد ذكر ابن مهدي أن سماعه منه بعد

(1)

المسند 20/ 151/12738.

(2)

ص 421.

(3)

الطبقات 1/ 471.

(4)

شرح معاني الآثار 4/ 264.

(5)

التمهيد 17/ 105.

(6)

انظر: ص 423.

(7)

المسند 3/ 293/3142.

(8)

انظر: ص 424.

(9)

انظر: فتح المغيث 4/ 376.

(10)

الطبقات 1/ 471.

(11)

المسند 20/ 151/12738.

ص: 430

الاختلاط، وأنكر ذلك الفلاس

(1)

.

5.

خالد بن عبد الله الطحان الواسطي: أخرج روايته أبو داود

(2)

. ولم أجد من نص على وقت سماعه.

6.

عبد الرحمن بن حماد

(3)

: أخرج روايته ابن عبد البر

(4)

.

فهؤلاء ـ وعددهم عشرة، منهم أربعة سمعوا من سعيد قبل الاختلاط ـ كلهم رووا الحديث بلفظ:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى ناس من الأعاجم فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتَماً من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله. فكأني أنظر إلى بصيصه أو وبيصه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هكذا رووه بدون تعيين اليد التي فيها الخاتم.

وتابعهم شعبة وهشام الدستوائي، عن قتادة به. رواه البخاري

(5)

ومسلم

(6)

من حديث شعبة، ومسلم

(7)

من حديث هشام الدستوائي. ولفظ حديث شعبة كما رواه البخاري: [لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرءوا كتابك إذا لم يكن مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقشه: محمد رسول الله. فكأنما أنظر إلى بياضه في يده]. ولفظ حديث هشام: [أن نبي الله صلى الله عليه وسلم

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 744.

(2)

السنن 4/ 424/4215. جاء في السنن: عن خالد، مهملاً وصرح المزي بأنه الطحان. انظر: تحفة الأشراف 1/ 312.

(3)

قال عنه الحافظ: صدوق ربما أخطأ تقريب التهذيب 3870. أخرج له البخاري مقدمة فتح الباري ص 417.

(4)

التمهيد 17/ 106.

(5)

صحيح البحاري - مع فتح الباري 1/ 155/65، 6/ 108/2938، 10/ 325/5876.

(6)

صحيح مسلم 3/ 1657/ 2092 (56).

(7)

صحيح مسلم 3/ 1657/2092 (57).

ص: 431

كان أراد أن يكتب إلى العجم، فقيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم، فاصطنع خاتماً من فضة. قال: كأني أنظر إلى بياضه في يده]. وهؤلاء الثلاثة

ـ سعيد، وشعبة، وهشام ـ هم الحفاظ من أصحاب قتادة. قال البرديجي: إذا أردت أن تعلم صحيح حديث قتادة فانظر إلى رواية شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي، فإذا اتفقوا فهو صحيح، وإذا اختلفوا في حديث واحد فإن القول فيه قول رجلين من الثلاثة إلخ

(1)

. فرواية شعبة، وهشام، وكذلك رواية الجماعة عن سعيد بن أبي عروبة ليس فيها ذكر موضع الخاتم من يده، هل كان في يده اليسرى أو اليمني كما أفادت رواية عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة، وتفرده عنهم يقضي بخطئه، ولو جوزنا أن يكون ممن يحتمل منه التفرد عن الحافظيْن المكثريْن ـ أعني ابن عروبة، وقتادة ـ إلا أن عدم ثبوت كون سماعه من سعيد في حال الصحة يقضي بعدم صحة روايته.

ولا يعترض على هذا بأنه روي عن شعبة أيضاً بتعيين اليد، فتكون متابعة قاصرة لعباد، لأن تلك الرواية خطأ. قال ابن عدي: "وقد روي عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، يرويه عن شعبة سلم بن قتيبة، وعن سلم الحسن بن عيسى البسطامي، وقد اختلف على الحسين بن عيسى، عن سلم بن قتيبة في هذا الحديث، فرواه عنه الجرجانيون فحدثناه عنه أبو زرعة محمد بن عبد الوهاب فقال فيه:[فكأني أنظر إلى بياض خاتمه في يده اليسرى]، وثناه عبد الرحمن بن سليمان بن عدي

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 695، 697.

وقد تابعهم عن قتادة: خالد بن قيس عند مسلم 3/ 1657/2092 (58)، وسعيد بن بشير عند ابن عبد البر في التمهيد 17/ 105، وقرة بن خالد عند النسائي في الكبرى 5/ 451/9522، كلهم بمثل لفظ الجماعة إلا أن سعيد بن بشير زاد:[ولبس أبو بكر خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فلما توفي أبو بكر لبس الخاتم عمر، فلما توفي عمر لبس الخاتم عثمان فسقط من عثمان في بئر بالمدينة].

ص: 432

الجرجاني بمكة عن الحسين بن عيسى فلم يقل فيه يسار ولا يمين، وهو الصواب، وقال الجرجاني علي بن أحمد رواه عن الحسين بن عيسى فقال:[كان النبي صلى الله عليه وسلم بتختم في يمينه]

(1)

فنص ابن عدي على أن الصواب عدم تعيين اليد كما رواه غير واحد عن سعيد، وشعبة، وهشام، وغيرهم عن قتادة".

الحديث الثاني: قصة أم سليم، وقد روى المروذي المسألة بأصرح من هذا:

قال المروذي: وذكرتُ حديثَ عباد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس أن صفية حاضت بعد ما طافت، فقال: أخطأ فيه عباد، إنما هو عن قتادة، عن عكرمة

(2)

.

هذا الحديث رواه أبو يعلى

(3)

من هذا الوجه، قال: حدثنا زهير، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أم سُليم أنها حاضت بعد ما أفاضتْ يومَ النحر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفر. رواه الطحاوي عن ابن أبي داود، عن سعيد بن سليمان به

(4)

.

وجه علة الحديث:

قال الإمام أحمد في رواية المروذي: أخطأ فيه عبّاد، إنما هو عن قتادة، عن عكرمة. وقال في رواية أبي داود: إنما هو في كتب سعيد، عن عكرمة، يعني عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة. أي إن الرواية الصحيحة عن سعيد كما هي في أحاديثه المحفوظة في كتب أصحابه: عن قتادة، عن عكرمة، وليس عن قتادة عن أنس. هكذا رواه روح بن عبادة ـ وهو ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط كما

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 882.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 149/ 265.

(3)

مسند أبي يعلى 3/ 275/3071.

(4)

شرح معاني الآثار 2/ 233.

ص: 433

تقدم عن الإمام أحمد ـ وكذلك محمد بن جعفر غندر ـ وهو ممن سمع من سعيد قبل الاختلاط عند الفلاس. أخرج حديثهما الإمام أحمد قال: حدثنا محمد بن جعفر، وورح المعنى قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة أنه كان بين ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة تحيض بعدما تطوف يومَ النحر مقاولةٌ في ذلك، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخرُ عهدِها بالبيت، وقال ابن عباس: إذا طافت يوم النحر وحلّت لزوجها نفرَتْ إن شاءت، ولا تنتظر. فقالت الأنصار: يا ابنَ عباس إنك إذا خالفت زيداً لم نتابعك فقال ابن عباس: سلُوا أم سليم، فسألوها عن ذلك فأخبرت أن صفية بنت حُييّ ابن أخطب أصابها ذلك فقالت عائشة: الخيبة لك حبستنا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تنفر، وأخبرت أم سليم أنها لقيت ذلك فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنفر

(1)

ورواه البيهقي من حديث روح وحده

(2)

.

وتابعهما عبدة بن سليمان عن سعيد عند إسحاق بن راهويه

(3)

. وسماع عبدة بن سليمان من سعيد كان جيداً، سمع منه بالكوفة

(4)

وذكر الحافظ ابن حجر أن عبد الأعلى ـ وهو بن عبد الأعلى السامي ـ أيضاً رواه عن سعيد بن أبي عروبة هكذا، وهو في كتاب المناسك من طريق محمد بن يحيى القطعي

(5)

.

وقد تابعهم هشام الدستوائي متابعة قاصرة عن قتادة، عن عكرمة بمثله. رواه أحمد

(6)

، والطحاوي

(7)

. كما تابعهم أيوب، وخالد الحذاء عن عكرمة به.

(1)

المسند 45/ 415/27427.

(2)

السنن الكبرى 5/ 164.

(3)

مسند إسحاق بن راهوية 1/ 79؟

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 163/86.

(5)

فتح الباري 3/ 588.

(6)

المسند 45/ 419/27432.

(7)

شرح معاني الآثار 2/ 233.

ص: 434

رواه البخاري

(1)

وغيره.

وقد نسب الإمام أحمد عباد بن العوام إلى الخطأ في روايته لهذا الحديث مخالفاً لما ثبت في كتب سعيد، وهذا من القرائن الدالة على قوة احتمال كون سماعه من سعيد بآخرة. وتردد الإمام أبو حاتم الرازي فقال لما سأله ابنه: الخطأ ممن هو؟ قال: لا أدري من عباد هو أو من سعيد

(2)

. وحكم على خطأ الرواية بناء على رواية هشام، ولعله لو استحضر رحمه الله رواية من رواه عن سعيد بمثل رواية هشام كما فعل الإمام أحمد لما تردد في نسبة الخطأ إلى عباد، والله أعلم.

الحديث الثالث: حديث عكرمة عن الفضل بن عباس، وقال: وإنما هو في كتب سعيد: عن رجل، عن الحكم.

لم أهتد إلى هذا الحديث، ولم أقف على رواية لسعيد عن عكرمة، عن الفضل بن العباس، ولعل سقطاً وقع هنا عند قوله: وذكر شيئاً.

وقد اختلف على سعيد في حديث رواه عن رجل عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي:"أردتُ أن أفرّق بين امرأة وولدها ـ وفي لفظ: أن أبيع غلامين أخوين ـ فنهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك". أورده الدارقطني، إلا أنه لم يذكر لعباد بن العوام رواية لهذا الحديث عن سعيد

(3)

، لعل الإمام أحمد عنى هذا الحديث، وأن عباد بن العوام كان ممن رواه عن سعيد، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى بدون واسطة، وهو مخالف لما في كتب سعيد، لأن عبد الوهاب الخفاف ـ وكان راوية لكتب سعيد بن أبي عروبة ـ رواه عن سعيد، عن رجل، عن الحكم به. أخرجه أحمد في المسند

(4)

.

(1)

صحيح البخاري مع فتح الباري 3/ 586/1758، 1759.

(2)

علل ابن أبي حاتم 1/ 274/809.

(3)

علل الدارقطني 3/ 272.

(4)

المسند 2/ 308/1045.

ص: 435

وهذه الأخطاء ـ وغيرها ـ من عباد بن العوام في حديثه عن سعيد ابن أبي عروبة هي التي جعلت الإمام أحمد يقول في رواية الأثرم: عباد بن العوام مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة

(1)

. وهذا يوحي في ظاهره أن عباد كان ضعيفاً في سعيد بن أبي عروبة لعدم ضبطه لحديثه فيكون الاضطراب من قبله هو لا من قبل سعيد وهو أمر محتمل، لكن رواية أبي داود المتقدمة التي ذكر فيها الإمام أحمد عدم معرفة وقت سماع عباد من سعيد تقوي احتمال كون ذلك الضعف راجعاً إلى عدم معرفة هل كان سماعه من سعيد في الصحة أو في الاختلاط. ولم يخرج الشيخان شيئاً من رواية عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة

(2)

.

5 -

‌ عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي (160) هـ:

هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أبي عُميس

(3)

والمسعودي أيهما أحب إليك؟ قال: كلاهما ثقة، المسعودي عبد الرحمن أكثرهما حديثاً

(4)

.

قال الميموني: قال أبو عبدالله: المسعودي صالح الحديث ومن أخذ عنه أولُ فصالح الأخذ

(5)

.

وقال الميموني أيضاً عن أبي عبد الله أنه قال: والمسعودي من سمع منه بأخرة يُطعن في سماعهم منه

(6)

.

فهذا إشارة منه رحمه الله إلى أن المسعودي اختلط.

(1)

الجرح والتعديل 6/ 83.

(2)

تهذيب الكمال 14/ 141، هدي الساري ص 412.

(3)

هو أخوه، واسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 134/13.

(4)

تهذيب الكمال 17/ 222.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره 204/ 372.

(6)

المصدر نفسه 245/ 490.

ص: 436

وأما ضابط التمييز بين السماع الجيد والسماع بعد الاختلاط فعن الإمام أحمد كما رواه عبد الله قال: سمعت أبي يقول: كل من سمع المسعودي بالكوفة فهو جيد، مثل وكيع وأبي نعيم، وأما يزيد بن هارون وحجاج ومن سمع منه ببغداد وهو في الاختلاط إلا من سمع منه بالكوفة

(1)

.

وقال عبد الله أيضاً: سمعت أبي يقول: سماع وكيع من المسعودي بالكوفة قديماً، وأبو نعيم أيضا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد

(2)

.

فهذا يدل على أن سماع من سمع منه ببغداد كان بعد الاختلاط، وأما من سمع قبل ذلك بالكوفة أو بالبصرة فهو قبل الاختلاط. وقد قدِم المسعودي بغداد في آخر حياته وبها كانت وفاته

(3)

.

ونصّ الإمام أحمد على أن وكيعاً وأبا نعيم سمعا منه قبل الاختلاط، وأن يزيد بن هارون، وحجاج بن محمد المصيصي سمعا منه بعد الاختلاط.

وسمع منه بعد الاختلاط أيضاً عاصم بن علي، وأبو النضر هاشم بن القاسم البغدادي. قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول سماع أبي النضر وعاصم وهؤلاء من المسعودي بعد ما اختلط إلا أنهم احتملوا السماع منه فسمعوا

(4)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 50/4114.

(2)

المصدر نفسه 1/ 325/575.

(3)

تاريخ بغداد 10/ 218.

(4)

تهذيب الكمال 17/ 223.

ص: 437

ما أعله من حديث المسعودي بالاختلاط:

قال عبد الله: سألت أبي عن حديث عمرانَ بن حُصين أن قوماً قدِموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: [قد بشّرتنا فأعْطِنا

] فإن الأعمش، وسفيان جميعاً يقولان عن جامع بن شدّاد، عن صَفوان بن مُحرز، عن عمران بن حُصين، ورواه يزيد ابن هارون، عن المسعودي، عن جامع، عن ابن بُريدة بن حُصيب، عن أبيه. قلت: أيما الصواب؟ فقال: الصواب ما رواه الأعمش وسفيان، وسماع يزيد من المسعودي بأخرة. قال أبي: وقال يحيى بن معين: لم أسمعه من أبي معاوية. قال أبي: وإنما حدثناه أبو معاوية ببغداد، وكان يحيى ربما فاته الشيء

(1)

.

هذا الحديث رواه البخاري من حديث سفيان الثوري من طريق محمد ابن كثير، وأبي نعيم الفضل بن دُكين كلاهما عن الثوري، عن جامع بن شداد، عن أبي ضمرة صفوان بن مُحرِز، عن عمران بن حُصين، ولفظه:[جاء نفرٌ من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني تميم أبشروا"، فقالوا: بشّرتَنا فأعطنا، فتغيّر وجهُه. فجاءه أهلُ اليمن، فقال: "يا أهلَ اليَمن اقبَلوا البُشرى إذْ لم يقبلْها بنو تميم". قالوا: قبِلنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّث بدء الخلق والعرش، فجاء رجل فقال: يا عمران، راحلتك تفلّتتْ، ليتني لم أقم]

(2)

. ورواه الترمذي

(3)

وأحمد

(4)

، وابن حبان

(5)

من طرق عن الثوري به.

ورواه الإمام البخاري أيضاً من حديث الأعمش من طريق حفص بن غياث،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 302/5345 - 5347.

(2)

صحيح البخاري - مع فتح الباري 6/ 286/3190، و 8/ 83/4365.

(3)

الجامع 5/ 688/3951.

(4)

المسند 33/ 116/19886، 33/ 141/19910.

(5)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 16/ 281/7292.

ص: 438

وأبي حمزة السكري كلاهما عن الأعمش، عن جامع بن شداد به

(1)

ورواه أحمد

(2)

عن أبي معاوية، وابنُ حبان

(3)

من طريق شيبان النحوي، وأبو الشيخ في العظمة

(4)

عن أبي كريب، عن أبي معاوية، والطبراني من طريق أبي بكر ابن عياش

(5)

، ومن طريق محمد بن عبيد

(6)

، ومن طريق أبي إسحاق الفزاري

(7)

، والطبري من طريق أبي معاوية

(8)

، والبيهقي من طريق شيبان النحوي

(9)

كلهم عن الأعمش به. ولفظه كما هو في البخاري عن عمران بن حصين: [دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: "اقبَلوا البشرى يا بني تميم"، قالوا: بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أنْ لم يَقبلْها بنوا تميم"، قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان اللهُ ولم يكن شيءٌ غيرَه وكان عرشُه على الماءِ، وكَتب في الذِّكر كلَّ شيء، وخلق السماوات والأرضَ"، فنادى منادٍ: ذهبتْ ناقتُك يا ابن الحُصين، فانطلقتُ فإذا هي يقطع دونها السرابُ، فوالله لَوَدِدتُ أني كنتُ تركتُها].

(1)

صحيح البخاري - مع فتح الباري 6/ 286 ح 3191، 13/ 403 ح 7418.

(2)

المسند 33/ 107/19876.

(3)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 14/ 10 ح 6142.

(4)

العظمة 2/ 571 ح 18.

(5)

المعجم الكبير 18/ 203 ح 497.

(6)

المعجم الكبير 18/ 204 ح 498.

(7)

المعجم الكبير 18/ 204 ح 500.

(8)

التاريخ 1/ 31.

(9)

السنن الكبرى 9/ 2.

ص: 439

وجه علة الحديث:

ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في هذه المسألة أن يزيد بن هارون روى الحديث عن المسعودي، عن ابن بريدة بن حصيب، عن أبيه. رواه أبو الشيخ من هذا الوجه

(1)

. فأعل الإمام أحمد هذه الرواية بأنها خطأ، وأنها مما روى المسعودي بعد الاختلاط، وذلك أن راويها عنه ـ وهو يزيد بن هارون ـ كان سماعه منه بأخرة كما تقدم.

ومما يؤيد أن علة هذا الإسناد هو اختلاط المسعودي أن القدماء من أصحاب المسعودي رووا الحديث عنه بمثل رواية سفيان والأعمش التي حكم عليها الإمام أحمد بأنها الصواب. وهذا يدل إلى أن المسعودي كان يُحدِّث بالحديث في الصحة على الصواب، وإنما حدّث بالخطأ لما أصابته علة الاختلاط. فروى خالد بن الحارث البصري، عن المسعودي، عن جامع بن شدّاد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن الحصين ـ بمثل رواية الثوري والأعمش. أخرج حديثه النسائي

(2)

من طريق محمد بن عبد الأعلى عنه به. وكذلك رواه النضر بن شُميل البصري، عن المسعودي بمثل رواية خالد بن الحارث. أخرج حديثَه الطبري في التفسير

(3)

عن خلاد بن أسلم عنه به. وقد نصّ الإمام أحمد فيما تقدم على أن من سمع من المسعودي بالبصرة والكوفة فسماعُه جيد، وكلٌّ من خالد بن الحارث، والنضر بن شميل بصري، ولم يُذكر لهما ترجمةٌ في تاريخ بغداد، مما يدل على عدم دخولهما مدينة السلام حيث طرأ الاختلاط على المسعودي، فيكون احتمال سماعهما منه بالبصرة قوياًّ جداً، وقد ذكرهما الأبناسي

(1)

كتاب العظمة 2/ 575 ح 19.

(2)

السنن الكبرى 6/ 363 ح 1124.

(3)

جامع البيان 12/ 4.

ص: 440

من الذين سمعوا من المسعودي بالبصرة

(1)

.

وقد روى الحديث بمثل رواية يزيد بن هارون ـ التي حُكم بخطئها ـ عبد الله بن يزيد المقرئ، عن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن رجل، عن بريدة ابن الحصيب، فذكره، فقال في موضع "ابن بريدة الأسلمي":"رجل". أخرج روايته أبو الشيخ

(2)

. ورواه روح بن عبادة، عن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز عن بريدة الأسلمي. أخرج روايته ابن خزيمة

(3)

والحاكم

(4)

. وكل من عبد الله بن يزيد المقرئ، وروح بن عبادة لم يتميز وقتُ سماعهما من المسعودي، ويغلب على الظن أن سماعهما بعد الاختلاط، أما روح بن عبادة فهو من أهل البصرة، وقدم بغداد وحدث بها مدة طويلة، ثم انصرف إلى البصرة ومات بها كما قال الخطيب

(5)

. وأما المقرئ فأصله بصري ثم انتقل إلى مكة. ولم يذكرهما ابن الكيال في الكواكب النيرات، وروايتهما لهذا الحديث على الوجه المعلول قرينة على احتمال كون تحملهما من المسعودي بعد الاختلاط، إذ لو كان الاضطراب من المسعودي في وقت الصحة لما رواه القدماء من أصحابه على الصواب كما تقدم في رواية خالد بن الحارث والنضر بن شميل، والله أعلم.

(1)

الكواكب النيرات 293 - 295.

(2)

العظمة 2/ 577 ح 22.

(3)

كتاب التوحيد 2/ 884. وتصرف المحقق حفظه الله، فقال موضع بريدة: عمران بن الحصين، مع أن في النسخ الخمس التي اعتمد عليها في تحقيق الكتاب والمطبوع من الكتاب قديما ص 376: بريدة بن الحصيب، ولم يذكر مستنده في التصحيح. والخطأ في ذكر بريدة ليس من الناسخ، بل هو من الرواية، والحديث معلول. وقد ذكر الحديث الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة 2/ 562 في مسند بريدة وذكر أنه معلول، وأن الصواب عن صفوان، عن عمران بن حصين، وهذا أيضاً يدل على أن المثبت في كتاب التوحيد هو بريدة بن الحصيب.

(4)

المستدرك 2/ 341.

(5)

تاريخ بغداد 8/ 401.

ص: 441

6 ـ‌

‌ أبان بن صمعة البصري ت (153) هـ

ـ:

قال عبد الله: سألته ـ أي أبا عبد الله ـ عن أبان بن صمعة فقال: صالح، فقلت له: أليس تغير بأخرة؟ قال نعم

(1)

.

فهذا يدل على أن الإمام أحمد يرى أن أبان بن صمعة كان قد تغيّر، ولم يرد عنه تحديد زمن اختلاطه

(2)

، ولا ضابط التمييز بين السماع الصحيح من السماع بعد الاختلاط، وقد أخرج حديثه في المسند من رواية وكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وروح بن عبادة عنه

(3)

.

ويحتمل أن يكون اختلاط أبان بن صمعة لم يؤثر في روايته، وهو وجه يحتمله سؤال عبد الله للإمام أحمد وردّه له، فكأنه يقول: أبان بن صمعة وإن تغيّر بآخره فهو مع ذلك صالح الحديث. ويؤيد هذا الوجه ما ذكره ابن عدي من أن أحاديث أبان، وهي قليلة، كلها مستقيمة غير منكرة

(4)

، وكذلك لم أقف على إعلال من الإمام أحمد لشيء من حديثه. وهذا الوجه إن ثبت يدل على أن الراوي قد يختلط ثم لا يؤثر ذلك في شيء من روايته.

وهناك أمر متعلق بالإعلال بالاختلاط وهو فرع لهذا المطلب:

‌فرع: إذا كان الراوي صحيحَ السماع من المختلط ووجد الخطأ في روايته عنه كان وجهُ الخطأ سبباً آخر غير الاختلاط

.

يدل على هذا الضابط ما رواه أبو بكر الأثرم عن الإمام أحمد:

قال أبو بكر الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله أجد في حديث سعيد عن قتادة عن

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 498/3292.

(2)

وجاء عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قبل موته بزمان الجرح والتعديل 2/ 297.

(3)

انظر: المسند 33/ 14، 43/ 254.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 383، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 750.

ص: 442

أبي المليح عن أبيه أن رجلاً أعتق شِقصاً قال فيه أحد: عن أبيه فقال: قاله السهمي وما أُراه محفوظاً، روى عدةٌ منهم إسماعيل وغيره ليس فيه عن أبيه، وأظن هذا من حفظ سعيد، وأثنى أبو عبد الله على السهمي خيراً، قيل لأبي عبد الله: أين سماعُه عندك من سماع محمد بن بكر عن سعيد؟ فقال أبو عبد الله: هو عندي فوق هؤلاء كلِّهم، قلت لأبي عبد الله: السهمي فوق هؤلاء؟ فقال: نعم، قال أبو عبد الله: قال السهمي: سمعتُ من سعيد سنة اثنتين أو إحدى وأربعين

(1)

.

هذا الحديث الذي وقع عليه سؤال الأثرم أخرجه الإمام أحمد

(2)

، ومن طريقه وأبو نعيم

(3)

، والمقدسي

(4)

عن عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أبي المليح، عن أبيه أن رجلاً من قومه أعتَقَ شَقيصاً له من مملوكٍ فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خَلاصَه عليه في ماله وقال:[ليس لله شريكٌ].

وأعلّ الإمام أحمد هذه الروايةَ بأنها غيرُ محفوطة، واعتلّ برواية من روى الحديث مرسلاً، منهم إسماعيل بن عليّة وغيره، فرووه عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيه: عن أبيه. ورواية إسماعيل بن عليّة أخرجها النسائي

(5)

، والطحاوي

(6)

. وتابعه عباد بن العوّام عن سعيد، أخرج روايته ابن أبي شيبة

(7)

، والبيهقي

(8)

.

(1)

تاريخ بغداد 9/ 421، وانظر: تهذيب الكمال 14/ 343.

(2)

المسند 34/ 314 رقم 20709.

(3)

معرفة الصحابة برقم 776.

(4)

الأحاديث المختارة 4/ 194 رقم 1409.

(5)

السنن الكبرى 3/ 186 رقم 4971.

(6)

شرح مشكل الآثار برقم 5373.

(7)

المصنف 4/ 329 رقم 20704.

(8)

السنن الكرى 10/ 274.

ص: 443

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

حكم الإمام أحمد على رواية السهمي عن سعيد الموصولة بأنها خطأ، وأن الصحيح رواية ابن علية وغيره عن سعيد المرسلة، وجعل هذا الخطأ من حفظ سعيد وليس من السهمي، بمعنى أن سعيداً لما كان يعتمد على حفظه ولم يكن له كتاب يسهل عليه أن يقع في الخطأ، ووجه ذلك أن كلاً من ابن علية وعبد الله بن بكر السهمي ممن سمع من سعيد في الصحة، فانتفى أن يكون الخطأ راجعاً إلى اختلاط سعيد، وكلاً منهما ثقة، فإذا اختلافا توجه أن يكون الخطأ من شيخهما إذ المترجّح أن كلاً منهما حافظٌ لما رواه لثقته فتعين أن يكون من حدّثهما هو المخطئ، وإن ترجّح أن الخطأ من سعيد فرواية السهمي ليست بأولى بالخطأ من رواية ابن علية، فما وجه ترجيح رواية ابن علية إذاً؟ أشار الإمام أحمد إلى ذلك بأن غير ابن علية روى الحديث بالإرسال وأنهم عدةٌ، والظاهر أنه لا يقصد عباد بن العوام الذي روى الحديث عن سعيد، فإن روايته لا تؤثر في الترجيح لكونها عن سعيد نفسه، وإنما عنا بذلك رواية هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية بهز بن أسد، ومحمد بن كثير كلاهما عن همام، عن قتادة به مرسلاً أيضاً. فرواية هشام الدستوائي أخرجها النسائي من طريق أبي عامر العقدي عنه

(1)

، ورواية بهز بن أسد عن همام أخرجها الإمام أحمد في المسند

(2)

، وأخرج أبو داود

(3)

رواية محمد بن كثير عن همام. فهتان الروايتان عن قتادة ترجحان رواية سعيد الموافقة لهما. وقد وافق الإمامَ أحمد على ترجيح رواية الإرسال الإمامُ النسائي

(4)

.

(1)

السنن الكبرى للنسائي 3/ 186 رقم 4972.

(2)

المسند 34/ 315 رقم 20710

(3)

السنن 4/ 251 رقم 3933.

(4)

انظر: السنن 4/ 195.

ص: 444

فالشاهد أن عبد الله بن بكر السهمي لو كان ممن سمع من سعيد بعد الاختلاط لكان المتبادر إلى الذهن أن الخطأ راجع إلى سماعه من سعيد بعد الاختلاط، وأما حيث إنه ممن سمع قبل الاختلاط توجه أن يكون الخطأ راجعاً إلى سبب آخر غير اختلاط شيخه، وذلك السبب هو حفظ شيخه، وقد قيل للإمام أحمد: روى الكوفيون عن سعيد غيرَ شيءٍ خلافِ ما روى عنه البصريون، فقال: هذا من حفظ سعيد، كان يحدّث من حفظه

(1)

.

مثال آخر:

قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عَرفَجة قال كنا عند عُتبة بن فَرقَد فذكروا شهرَ رمضانَ فقال: ما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح فيه أبواب الجنة وتُغلق فيه أبوابُ النار وتُغلُّ فيه الشياطيُن ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير هلمَّ، ويا باغيَ الشر أَقصِر". سمعت أبي يقول: كان سفيان يخطئ في هذا الحديث لم يسمعه عُتبة من النبي صلى الله عليه وسلم، رجل حدّث عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

هذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد رواه النسائي

(3)

، وعبد الرزاق

(4)

، ومن طريقه الطبراني

(5)

. والرواية التي أشار أنها هي الصحيحة رواها النسائي أيضاً: أخبرنا محمد بن بشّار، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عَرفَجة قال: كنتُ في بيتٍ فيه عُتبة بن فَرقَد فأردتُّ أن أحدّث بحديث وكان

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 746.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 165 رقم 4738.

(3)

السنن 4/ 129 رقم 2106.

(4)

المصنف 4/ 176 رقم 7386.

(5)

المعجم الكبير 17/ 132 رقم 325.

ص: 445

رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أولى بالحديث مني، فحدّث الرجلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رمضان: تُفتح فيه أبوابُ السماء وتُغلق فيه أبوابُ النار ويُصفّد فيه كلُّ شيطانٍ مَريدٍ ويُنادي منادٍ كلَّ ليلة: يا طالبَ الخير هلمَّ، ويا طالبَ الشر أَمسك

(1)

. ورواه في الكبرى أيضاً

(2)

، ورواه أحمد

(3)

، وابن أبي شيبة

(4)

وتابع شعبة على رواية الحديث من هذا الوجه:

1.

إسماعيل بن علية فقال: أخبرنا عطاء، عن عرفجة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

.

2.

حماد بن سلمة، رواه عن عطاء بن السائب، عن عرفجة: كنا عند عتبة بن فرقد وهو يحدثنا عن رمضان إذ دخل علينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان

(6)

.

3.

محمد بن فضيل، أخرج حديثه ابن أبي شيبة

(7)

وابن أبي عاصم

(8)

.

4.

إبراهيم بن طهمان، أخرج حديثه الحارث في مسنده

(9)

.

5.

عبيدة بن حُميد، عن عطاء بن السائب، عن عرفجة: كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدّثنا عن فضل رمضان فدخل علينا رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسكت

(1)

السنن 4/ 130 رقم 2107.

(2)

السنن الكبرى 2/ 67 رقم 2418.

(3)

المسند 31/ 91 رقم 18794.

(4)

المصنف 2/ 270 رقم 8868.

(5)

المسند 38/ 476 رقم 23491.

(6)

3/ 302 رقم 3601.

(7)

المصنف 2/ 270 رقم 8868.

(8)

الآحاد والمثاني 5/ 305 رقم 2928.

(9)

بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث 1/ 411 رقم 320.

ص: 446

عتبة وكأنه هابه

الحديث. أخرجه أحمد

(1)

.

وتابع ابن عيينة على روايته عبد السلام بن حرب، وهو وإن وُثق إلا أنه له ما ينكر. قال أحمد: كنا ننكر من عبد السلام شيئاً

(2)

أخرج حديثه الطبراني

(3)

.

وجه علة الحديث:

حكم الإمام أحمد على رواية سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب بأنها خطأ، حيث جعل الحديث من مسند عتبة بن فرقد، وإنما هو من رواية رجلٌ من الصحابة حدّث به في مجلس فيه عتبة بن فرقد، وقد خالف ابن عيينة جمعاً من الرواة عن عطاء بن السائب ومن بينهم من كان حديثه عن عطاء مقدماً على حديث غيره، وهما شعبة، وحماد بن سلمة

(4)

، والعدد أولى بالحفظ من واحد، ثم إن ابن عيينة بروايته الحديث على الوجه الذي رواه قد سلك الجادة ـ وهي رواية الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية غيره زيادة علم يدلّ على ضبطهم للحديث.

ولما كان سماع ابن عيننة من عطاء في زمن الصحة

(5)

لم يحمّل الإمام أحمد الخطأ على اختلاط عطاء وإنما حمّله ابنَ عيينة، وهو الأمر المطلوب الاستشهاد له في ذكر هذا المثال.

(1)

المسند 31/ 93 رقم 18795.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 3/ 485/6075. وقال ابن حجر: ثقة حافظ له مناكير تقريب التهذيب ص 608.

(3)

المعجم الكبير 17/ 132 رقم 326.

(4)

قاله ابن معين انظر: شرح علل الترمذي 2/ 735.

(5)

تقدم هذا عن الإمام أحمد ص 311، وانظر: مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود 382/ 1847.

ص: 447

‌فرع آخر: ما حدث به المختلط من كتاب لا يدخله الإعلال بالاختلاط:

إن الذي يعل من حديث المختلط هو ما حدّث به المختلط حفظاً من غير كتاب، أما ما ثبت أنه في كتبه فلا يدخله الإعلال بالاختلاط، مثل ما جاء من طريق من أجاز له رواية أصوله المضبوطة

(1)

لأن الخلل الذي يأتي بسبب الاختلاط لا يؤثر إلا فيما حدث به المختلط حفظاً دون ما في كتابه. ويدل على ذلك أن الإمام أحمد يعتمد رواية الراوي المختلط الثابتة في كتبه، ويخطأ بها ما خالفها مما رواه عنه الراوي الثقة عنه وإن كان ممن سمع منه قبل الاختلاط، مما يدل على اعتمادها عنده.

قال عبد الله: قرأت على أبي: عبدة بن سليمان الكلابي قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر قال:[عدة الأمة إذا طُلّقت حيضتان، فإن كانت لا تحيض فشهر ونصف]، قرأت على أبي: عبدة قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن علي مثله. سمعت أبي يقول: هذا خطأ، إنما هو سعيد، عن حبيب، عن عطاء، عن عمر، وحبيب، عن الحسن عن علي، في الكتب كذا هو يعني كتب سعيد بن أبي عروبة

(2)

.

روى عبدة هذا الأثر عن ابن عمر، وعن علي، كلاهما من طريق سعيد ابن أبي عروبة، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة

(3)

، عن عبدة، عن سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر به. فحكم الإمام أحمد بخطأ عبدة لأن أثر ابن عمر هو في كتب سعيد بن أبي عروبة عن حبيب المعلم، عن عطاء عن عمر، وليس هو عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر؛ وأثر علي هو عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن

(1)

الحافظ الذهبي يرى أن الراوي إذا اختلط وخرف فإنه يمتنع من أخذ الإجازة منه، ولا بأس بذلك حال تغيره قبل اختلاطه، لأن أصوله ما تغيرت، وإنما فقد وعي ما أجاز الموقظة ص 66.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 428 رقم 2891، 2892.

(3)

مصنف ابن أبي شيبة 4/ 146 ح 18774.

ص: 448

علي، وليس هو عن قتادة، عن الحسن، عن علي كما رواه عبدة في الموضعين. وقد تابع سعيداً أبو إسحاق الشيباني في رواية أثر علي، فرواه الشيباني عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي: رواه ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عنه

(1)

. وخطّأ الإمام أحمد رواية عبدة بن سليمان عن سعيد مع أن سماع عبدة من سعيد كان جيداً وقبل اختلاط سعيد

(2)

لمخالفته لما في كتب سعيد بن أبي عروبة.

وهذا يدل على أن حديث المختلط الثابت روايته في كتابه لا يدخله الإعلال بالاختلاط.

(1)

المصدر السابق 4/ 146 ح 18768.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 163 رقم 86.

ص: 449

‌المطلب الثاني: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب بصر الراوي

هناك أمورٌ أخرى غيُر كبر السن تكون سبباً لطروءِ سوء الحفظ على الراوي الثقة فيقع تخليط في حديثه، فيلتحق من هذا الوجه بالمختلطين لكبر السن الذين طرأ عليهم سوء الحفظ. وهؤلاء الرواة صنفان:

الصنف الأول: من عمي في آخر عمره.

الصنف الثاني: من ذهبت كتبه باحتراق أو غيره.

وفي هذا المطلب ستتناول الدراسة الصنف الأول، ويأتي الصنف الثاني في المطلب الذي بعده إن شاء الله.

مما يطرأ على الراوي الثقة من أسباب سوء الحفظ ذهاب بصره، حيث كان قبل ذلك يعتمد على كتابه ولا يحفظ جيداً فيحدّث بعد تلك العلة من حفظه فيغلط، أو يُلقّن فيتلقّن، فمثل هذا يجري في حديثه الذي حدّث به بعد العلة مثل ما يجري في حديث المختلِط بكبر السن: يُقبل ما حدّث به قبل ذَهاب بصره، ويُتوقف عما حدّث به بعد ذلك أو أشكل أمره. فهو إذاً سبب يُعلّ به حديث المتصِّف به لاقتضائه وجود خللٍ في ضبطه.

ولا يَدخل في هذا الصنف من ذهب بصرُه ولكنه كان قبل ذلك يحفظ مثل وُهيب بن خالد الباهلي مولاهم، أحد ثِقات البصريين. قال ابن سعد: كان وُهيب قد سُجن فذهب بصرُه، وكان ثقة كثير الحديث حجة، وكان يُملي حفظاً

(1)

. وكذلك من كان له شخص أمين يعتني بمسموعاته فيلقّنه إياها من كتابه مثل يزيد بن هارون، فقد قال أبو خيثمة: كان يُعاب على يزيد حيث ذهب

(1)

الطبقات الكبرى 7/ 287.

ص: 450

بصره أنه ربّما سُئل عن الحديث لا يعرفه فيأمرُ جاريةً له تُحفِّظه إياه من كتابه

(1)

. قال الذهبي: ما بهذا الفعل بأسٌ مع أمانة من يُلقِّنه، ويزيد حجّة بلا مثْنَويَّة

(2)

.

ومن الرواة الذين تكلم الإمامُ أحمد فيهم ممن ذهب بصرُه وأعلّ حديثَهم بهذه العلة:

عبد الرزاق بن همام الصنعاني:

أحد أئمة الحديث المشهورين وعالم اليمن.

قال إسحاق بن هاني: سألت أبا عبد الله: من سمع من عبد الرزاق سنةَ ثمانٍ؟ ـ يعني سنة ثمانٍ ومائتين ـ قال: لا يُعبأُ بحديث من سمِع منه وقد ذهب بصرُه، كان يُلقّن أحاديثَ باطلةً، وقد حدّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو يَنظُر جاءو بخلافها. ا. هـ

(3)

.

وقال أبو زرعة الدمشقي: أخبرني أحمد بن حنبل قال: "أتينا عبدَ الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصرُه فهو ضعيفُ السَّماع"

(4)

.

ونقل الحافظ ابن حجر عن الأثرم عن أحمد: "من سمع من عبد الرزاق بعد ما عمِي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يُلقّن فيَتلقَّن"

(5)

.

وقيل لأحمد إن معمراً روى عن ابن أخي عمرو بن دينار فسأل من رواه

(1)

تاريخ بغداد 14/ 337 - 338، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 752.

(2)

سير أعلام النبلاء 9/ 363.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية إسحاق بن هاني 2/ 233 رقم 2285.

(4)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 457 رقم 1160.

(5)

هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 419.

ص: 451

فقيل له عبد الرزاق فقال: ليس بشيء كانوا يلقنونه بعد ما ذهب بصره

(1)

.

فهذه الأقوال عن الإمام أحمد تدل على أمرين:

1.

أن عبد الرزاق قد كفّ بصره وأصبح يقبل التَّلقين، وسماع من سمع منه بعد ذلك لا شيء.

2.

يتميز حديثه الصحيح من الذي فيه علة بأحد أمرين:

الأول: أن يكون من رواية من سمع منه قبل ذهاب بصره، وضابطه أن يكون سماعه منه قبل سنة مائتين.

الثاني: أن يكون الحديث ثابتاً في أصل كتبه

(2)

.

ما أعله الإمام أحمد من حديثه بكونه من رواية من سمع منه بعد ما عمي

قال الأثرم: سمعت أبا بعد الله يُسال عن حديث: النار جبار، فقال: هذا باطل، ليس من هذا شيء، ثم قال: من يُحدِّث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حدثني أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا بعد ما عمي، كان يُلقّن فلقِّنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه، كان يُلقَّنُها بعد ما عمي

(3)

.

(1)

مسائل الإمام ـ برواية إسحاق بن هانئ 2/ 204 رقم 2106.

(2)

وهذا وجه التفصيل الذي ذكره ابن حجر في حديث الدبري عن عبد الرزاق، وكان سماعه منه بعد الاختلاط قال: المناكير الواقعة في حديث الدبري إنما سببها أنه سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه، فما يوجد من حديث الدبري عن عبد الرزاق في مصنفات عبد الرزاق فلا يلحق الدبري منه تبعة إلا إن صحّف أو حرّف، وقد جمع القاضي محمد بن أحمد بن مفرج القرطبي الحروف التي أخطأ فيها الدبري وصحفها في مصنف عبد الرزاق، إنما الكلام في الأحاديث التي عند الدبري في غير التصانيف فهي التي فيها المناكير، وذلك لأجل سماعه منه في حال اختلاطه فتح المغيث 4/ 383، فمفاده أن الأحاديث التي في تصانيف عبد الرزاق ليس فيها الكلام، وهذا ما أفاده قول الإمام أحمد: ما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يلقّن فيتلقّن.

(3)

تهذيب الكمال 18/ 57، وانظر: سير أعلام النبلاء 9/ 568، وشرح علل الترمذي 2/ 752.

ص: 452

وقال ابن هانئ: وسمعت أبا عبد الله يقول: حديث عبد الرزاق حديث أبي هريرة: [النار جُبار] إنما هو: [البئر جُبار] وإنما كتبنا كتبه على الوجه، وهؤلاء الذين كتبوا عنه سنة ست ومائتين، إنما ذهبوا إليه وهو أعمى فلقِّن فقبله ومرّ فيه

(1)

.

وقال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق في حديث أبي هريرة: والنار جبار، ليس بشيء لم يكن في الكتب، باطل ليس هو بصحيح

(2)

.

حديث [النار جبار] رُوي عن عبد الرزاق مِن حديث معمر، عن همام ابن مُنبِّه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الأثرم أنه حدّث به عن عبد الرزاق على هذا الوجه أحمدُ بن شبُّوَيه، وهو أحمد بن محمد بن ثابت الخزاعي المروزي، وثقه النسائي وغيره

(3)

. ولم أقف على من أخرج الحديث من طريقه من أصحاب الكتب المصنفة.

ورواه غير أحمد بن شبُّوَيه من هذا الوجه عن عبد الرزاق، منهم: الحسن بن أبي الربيع الجرجاني

(4)

، وأحمد بن يوسف السلمي

(5)

كلاهما رواه بلفظ: "العَجْماء جُرحها جبار، والمَعْدِن جبار، والنَّار جبار، وفي الرِّكاز الُخمس".

ورواه مختصراً عن عبد الرزاق أيضاً: محمد بن المتوكِّل العسقلاني

(6)

،

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية إسحاق بن هاني 2/ 202 رقم 2101.

(2)

سنن الدارقطني 3/ 153، السنن الكبرى للبيهقي 8/ 344.

(3)

انظر: تهذيب الكمال 1/ 435، تهذيب التهذيب 1/ 71.

(4)

وحديثه عند أبي عوانة في مسنده 4/ 158 رقم 6365 مقرونا بأحمد بن يوسف السلمي.

(5)

وحديثه عند أبي عوانة الموضع نفسه، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 344. وقال أبو عوانة: لم يذكر السلمي: النار وهي مثبتة عند البيهقي.

(6)

حديثه عند أبي داود في السنن 4/ 716 رقم 4594.

ص: 453

وأحمد بن منصور الرمادي

(1)

، وأحمد بن سعيد الرباطي أبو عبد الله المروزي

(2)

، وأبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري

(3)

، ومحمد بن إسحاق بن شبويه

(4)

، وزهير بن محمد بن قُمير المروزي

(5)

، محمد بن عبيد الله الماسوراباذي

(6)

، ولفظه عند هؤلاء كلهم:[النار جبار]، إلا أحمد بن سعيد المروزي وأبا الأزهر ـ عند ابن ماجه ـ فزادا:[والبئر جبار].

وفيما يلي تراجم هؤلاء الرواة العشرة:

أحمد بن محمد بن شبويه، وثقه النسائي وغيره كما تقدم، وتوفي سنة (229) هـ

(7)

. ونص الإمام أحمد على أنه سمع من عبد الرزاق سنة (206) هـ يعني بعد ما عمي.

الحسن بن أبي الربيع الجرجاني، سكن بغداد، قال عنه أبو حاتم: شيخ، وقال ابنه: صدوق. وتوفي سنة (263) هـ. وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة

(8)

.

أحمد بن يوسف السلمي أبو الحسن النيسابوري، وثقه مسلم، وأخرج حديثه عن عبد الرزاق، وكذلك وثقه الدارقطني، وقال عنه النسائي: ليس به بأس. وتوفي سنة (264) هـ، وقيل (263) هـ. وقد جاوز الثمانين

(9)

. وهو راوية

(1)

حديثه عند الدارقطني في السنن 3/ 152، ومن طريقه البيهقي السنن الكبرى 8/ 344.

(2)

حديثه عند النسائي في السنن الكبرى 3/ 413 رقم 5789.

(3)

وحديثه عند ابن ماجه في السنن 2/ 892 رقم 2676، وأبي عوانة في مسنده 4/ 158 رقم 6366 مقروناً بغيره.

(4)

حديثه عند أبي عوانة مقروناً بأبي الأزهر مسند أبي عوانة 4/ 158 رقم 6366.

(5)

حديثه عند الدارقطني مقروناً بالرمادي السنن 3/ 152.

(6)

حديثه في تاريخ جرجان 1/ 378 رقم 632.

(7)

تهذيب الكمال 1/ 435.

(8)

الجرح والتعديل 3/ 44، تهذيب الكمال 6/ 335.

(9)

تهذيب الكمال 1/ 523 - 525.

ص: 454

صحيفة همام بن منبه المطبوعة، والحديث في الصحيفة بهذا اللفظ

(1)

.

محمد بن المتوكل العسقلاني، هو ابن أبي السري. وثقه ابن معين

(2)

. وقال عنه أبو حاتم: لين الحديث

(3)

. وقال ابن عدي: كثير الغلط

(4)

، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات سنة (238) هـ

(5)

. وقال الذهبي: له أحاديث تستنكر

(6)

.

أحمد بن منصور الرَّمادي، هو أحمد بن منصور بن سيار البغدادي، كان أبو حاتم يوثقه

(7)

، وكذلك وثقه الدارقطني. وقال ابن حبان: مستقيم الأمر في الحديث. وتوفي سنة (265) هـ، وقد استكمل (83) سنة

(8)

. وذكر الرمادي في تاريخه أنه سمع من عبد الرزاق سنة (204) هـ

(9)

.

أحمد بن سعيد الرباطي أبو عبد الله المروزي: وثقه النسائي، وابن خراش، والخطيب. مات سنة (243) هـ

(10)

.

أبو الأزهر أحمد بن الأزهر بن منيع النيسابوري، قال عنه أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي والدارقطني: لا بأس به، وتوفي سنة (261) هـ. وقيل بعد ذلك

(11)

. وفي ترجمة عبد الرزاق في "سير أعلام النبلاء"

(12)

حكاية تدلّ على أن أبا الأزهر

446 الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه

(1)

صحيفة همام بن منبه 679 رقم 138.

(2)

تهذيب الكمال 26/ 358.

(3)

الجرح والتعديل 8/ 105.

(4)

تهذيب الكمال 26/ 358.

(5)

الثقات 9/ 88.

(6)

ميزان الاعتدال 5/ 149 ترجمة 8114.

(7)

الجرح والتعديل 2/ 78.

(8)

انظر: الثقات لابن حبان 8/ 41، تاريخ بغداد 5/ 153، تهذيب الكمال 1/ 493.

(9)

سير أعلام النبلاء 12/ 390.

(10)

تهذيب الكمال 1/ 311 - 312.

(11)

انظر: الجرح والتعديل 2/ 41، تهذيب الكمال 1/ 258.

(12)

9/ 576.

ص: 455

أدركه وهو بصير.

محمد بن إسحاق بن شبويه السجزي. قال ابن أبي حاتم: صدوق من العُبَّاد

(1)

. قال ابن عدي: ضعيف، يُقلِّب الأحاديث ويَسرقها، وذكر له أحاديث عن عبد الرزاق، عن معمر والثوري وقال: كلها غير محفوظة

(2)

. وذكر ابن حجر أنه روى صحيفة همّام بن مُنبّه

(3)

.

زهير بن محمد بن قُمير المروزي، وثقه السرّاج، والخطيب، وقال ابن أبي حاتم: كان صدوقاً، مات سنة (250) هـ

(4)

.

محمد بن عبيد الله الماسوراباذي، له ترجمة في تاريخ جرجان

(5)

ولم أقف على حاله من حيث الجرحُ والتعديلُ.

وقد خالف هؤلاء كلَّهم الإمامُ أحمدُ بن حنبل فرواه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همَّام بن منبِّه، عن أبي هريرة ـ وهو آخر حديث في صحيفة همام بن منبه كما رواها الإمام أحمد عن عبد الرزاق ـ بلفظ:"العجماء جُرحها جُبار، والمعدن جُبار، والبئر جُبار، وفي الرِّكاز الخمس"

(6)

، ليس فيه ذكر:[النار جبار].

وجه علة الحديث:

أعل الإمام أحمد هذا الحديث من وجهين:

الأول: أن الذين رووه عن عبد الرزاق إنما سمعوا منه سنة (206) هـ بعد ما عمي فلقّنوه وقبل ومرّ في الحديث. وقد بيّن رحمه الله كيف وقع التلقين، فروى

(1)

الجرح والتعديل 7/ 260.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2283 - 2284.

(3)

لسان الميزان 5/ 67.

(4)

تهذيب الكمال 9/ 410 - 411.

(5)

تاريخ جرجان 1/ 378 رقم 632.

(6)

المسند 13/ 547 رقم 8252.

ص: 456

الدارقطني عن محمد بن مخلد، عن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار: النير، ويكتبون البير يعني مثل ذلك، وإنما لقن عبد الرزاق النار جبار

(1)

. قال البيهقي: يعني فهو تصحيف

(2)

.

الثاني: أن الحديث ليس في أصل كتب عبد الرزاق، ودليل ذلك أن الإمام أحمد كتب كتب عبد الرزاق على الوجه وهو بصير، فحيث جاء شيءٌ مخالفٌ لما عنده فلا بد أن يكون مما أُدخل على عبد الرزاق وليس هو من حديثه. ويؤيد ذلك أن الحديث لا يوجد في مصنفه المطبوع، فالدبري ـ وهو راوية كتابه المصنف ـ روى الحديث من طريق آخر عن عبد الرزاق، عن معمر وابن جريج، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماءُ جبار والبئر جبار، والمعدن جرحه جبار، وفي الرِّكاز الخمس"

(3)

. وتابعه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن عبد الرزاق، عن معمر وحده، عن الزهري، به

(4)

وليس فيه "النار جبار". وإسحاق بن إبراهيم ـ وهو ابن راهويه ـ ممن سمع من عبد الرزاق قبل الاختلاط

(5)

.

وأولئك الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عبد الرزاق منهم من لا يعتد بروايته لضعفه، كمحمد بن المتوكل الذي كان يغلط وله من الحديث ما يستنكر، وكمحمد بن إسحاق بن شبويه الذي وصفه ابن عدي بأنه يسرق الحديث وأن

(1)

سنن الدارقطني 3/ 153.

(2)

السنن الكبرى 8/ 344.

(3)

المصنف 10/ 66 رقم 18373.

(4)

أخرجه النسائي في السنن 5/ 45 رقم 2494.

(5)

الكواكب النيرات ص 276. واعتمده الشيخان فيما روياه عن عبد الرزاق. انظر: تهذيب الكمال 18/ 54.

ص: 457

أحاديثه عن عبد الرزاق غير محفوظة؛ ومنهم من ثبت أن سماعه من عبد الرزاق كان بعد ذهاب بصره كأحمد بن شبويه، وأحمد بن منصور الرمادي؛ والباقون لم يتبيّن زمنُ تحمّلهم من عبد الرزاق فيتوقف فيما رووه، إلا أن كون الحديث ليس في أصول عبد الرزاق مما يُرجِّح جانبَ الردّ، فردَّه الإمامُ أحمد وقال: هو باطل وليس بصحيح.

وقد يُقال إن عبد الرزاق قد تُوبع عن معمر في رواية هذا اللفظ. قال الخطابي: "لم أزل أسمعُ أصحابَ الحديث يقولون غلِط فيه عبدُ الرزاق: إنما هو البئر جبار حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك الصنعاني عن معمر، فدل على أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق"

(1)

، يشير إلى رواية أبي داود للحديث عن زيد ابن المبارك، حدثنا عبد الملك الصنعاني ـ مقروناً بعبد الرزاق ـ عن معمر به بلفظ: النار جبار

(2)

. وعبد الملك الصنعاني هو عبد الملك بن محمد الصنعاني الحميري من صنعاء الشام. قال عنه أبو حاتم: يُكتب حديثه

(3)

. وقال ابن حبان: كان يُجيب فيما يُسأل عنه ينفرد بالموضوعات لا يجوز الاحتجاج بروايته

(4)

. وقال الأزدي: ليس بالمرضي في حديثه

(5)

. وقال الذهبي: ليس بحجة

(6)

. وقال ابن حجر: ضعيف

(7)

.

فهذا الراوي ممن يصح الاعتبارُ به، فيستفاد من ذلك أن الخطأ وقع ممن فوق عبد الرزاق. ولعل هذا مستند ابن معين حيث قال: إن الذي صحّف هذا الحرف

(1)

معالم السنن بهامش سنن أبي داود 4/ 716.

(2)

سنن أبي داود 4/ 716 رقم 4594.

(3)

الجرح والتعديل 5/ 369.

(4)

المجروحين 2/ 136.

(5)

تهذيب التهذيب 6/ 422.

(6)

الكاشف 1/ 669.

(7)

فتح الباري 11/ 544.

ص: 458

هو معمر. نقله ابن عبد البر عنه

(1)

. لكن قد بيّن معمر أن هذا الحرف وهم، فروى الدارقطني

(2)

من طريق أحمد بن منصور الرمادي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همّام بن منبِّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النار جبار". قال الرمادي: قال عبد الرزاق: قال معمر: لا أراه إلا وهماً. فهذا يدل على أمرين:

1.

إن صح هذا فنسبة التصحيف إلى معمر ضعيف.

2.

فيه تأييد لما قاله الإمام أحمد أن عبد الرزاق لُقَّن هذا الحرف، وإلا فكيف يرويه وعنده علم بأنه وهم! وهذا ما يبين وجه عدم وجود الحديث في أصول عبد الرزاق كما رواها الإمام أحمد.

إذا ثبت هذا فيقال في الجواب على الاعتراض برواية عبد الملك بن محمد الذي تابع عبد الرزاق: إن معمراً قد حدث بالحديث لكنه نصّ على أنه يراه وهماً، وحفظ ذلك عبد الرزاق، فلم يذكر الحديث في كتبه كما رواها القدماء من أصحابه، ولم يحفظه عبد الملك بن محمد إما لضعفه أو لقلة ملازمته لمعمر. فمن روى الحديث عن عبد الرزاق على أنه من حديثه من دون بيان أنه وهم كما فعله الرمادي يتعين أنه أخطأ، والله أعلم.

حديث آخر:

جاء في حديث محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق: أنا ابنُ جُريْج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا طلعَ الفجرُ فقد ذهب كلُّ صلاةِ الليل والوِترُ، فأَوتِروا قبل طلوعِ الفجر"

(3)

:

فقال المرّوذي عن أحمد أنه قال: لم يسمعه ابن جريج من سليمانَ بن موسى

(1)

التمهيد 7/ 26.

(2)

السنن 3/ 153.

(3)

الجامع 2/ 332 رقم 469.

ص: 459

إنما قال: "قال سليمان" قيل له: إن عبد الرزاق قد قال: عن ابن جريج: أنا سلميان؟ فأنكره وقال: نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق، ولم يكن بها، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة

(1)

.

الحديث أخرجه الترمذي من هذا الوجه، وهو في المصنف لعبد الرزاق

(2)

، ورواه ابن حزم

(3)

من طريق الدبري عن عبد الرزاق، ورواه أيضاً ابن عدي من طريق محمد بن مسعود العجمي عن عبد الرزاق به

(4)

.

وجه علة الحديث:

أنكر الإمام أحمد رواية من روى هذا الحديث بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وشيخه سليمان بن موسى، واعتلّ لذلك بأن تلك الرواية لم تكن في كتب عبد الرزاق، والذين رووها عن عبد الرزاق من هذا الوجه إنما كتبوا عنه بأخرة، يعني في زمن الاختلاط بعد ذهاب بصره. ولم أقف على هؤلاء الرواة الذين أشار إليهم الإمام أحمد، فرواية الترمذي جاءت بالعنعنة، وكذلك الرواية التي في المطبوع من مصنف عبد الرزاق، وفي المحلى من طريق الدبري عن عبد الرزاق، وفي الكامل لابن عدي كما تقدم، فلعلّ الإمامَ أحمد يشير إلى غير هؤلاء ممن روى عن عبد الرزاق أيضاً بأخرة.

وقد جاءت رواية عن عبد الرزاق فيها التصريح بالتحديث بين ابن جريج وسليمان بن موسى، لكنّ لفظها مغاير للفظ هذا الحديث. فروى الإمام أحمد عن عبد الرزاق وابن بكر ـ وهو محمد بن بكر البرساني ـ قالا: أخبرنا ابن جريج،

(1)

فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن رجب 6/ 237 - 238.

(2)

مصنف عبد الرزاق 3/ 13 رقم 4613.

(3)

المحلى 3/ 101.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1116.

ص: 460

حدثني سليمان بن موسى، حدثنا نافع أن ابن عمر كان يقول: من صلى بالليل فليجعل آخرَ صلاته وِتراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فإذا كان الفجرُ فقد ذهبتْ كلُّ صلاة لليل والوترُ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أَوْتِروا قبلَ الفجر"

(1)

. وتابعه محمد بن رافع عن عبد الرزاق وحده عند ابن خزيمة

(2)

. ومحمد بن رافع هو النيسابوري، وثقه مسلم والنسائي وغيرهم،

(3)

وقال أبو رزعة: كان رَحَلَ مع أحمد ابن حنيل. ا. هـ

(4)

. يعني إلى عبد الرزاق فقد كان هو وأحمد، وإسحاق بن راهويه عند عبد الرزاق في وقت واحد

(5)

.

ورواه عن ابن جريج على هذا الوجه حجاج بن محمد المصيصي، وهو عند أبي عوانة في مسنده

(6)

، وابن الجارود في المنتقى

(7)

، والحاكم

(8)

، والبيهقي

(9)

كلهم من طرق عن حجاج قال: قال ابن جريج: حدثني سليمان بن موسى: نا نافع به بمثل هذا اللفظ.

فهذه الرواية تفيد أن قوله: "إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" قول ابن عمر، وليس بمرفوع، وأما قوله:"أوتروا قبل الفجر" فمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فرواية ابن جريج عن سليمان بن موسى بالعنعنة أدخلت الموقوف في

(1)

المسند 10/ 438 رقم 6372.

(2)

صحيح ابن خزيمة 2/ 148 رقم 1091.

(3)

تهذيب التهذيب 9/ 161 - 162.

(4)

الجرح والتعديل 7/ 254.

(5)

انظر: القصة التي رواها الحاكم في سير أعلام النبلاء 12/ 216، وفيها قال محمد بن رافع: كنت مع أحمد بن حنبل وإسحاق عند عبد الرزاق.

(6)

مسند أبي عوانة 2/ 310.

(7)

المنتقى 1/ 240 رقم 274 غوث المكدود.

(8)

المستدرك 1/ 302.

(9)

السنن الكبرى 2/ 478.

ص: 461

المرفوع، بينما هذه الرواية التي فيها التصريح بالتحديث بينهما قد ميّزتْ بين اللفظيْن: الموقوف والمرفوع، فهي أولى لأمور:

1.

من رواها عن عبد الرزاق كان من قدماء الرواة عنه.

2.

تابع عبدَ الرزاق حجاجُ بن محمد المصيصي، وكان يقال إنه أثبت أصحاب ابن جريج

(1)

.

3.

التمييز بين الموقوف والمرفوع يشعر بزيادة علم راويها وحفظه.

فبالنظر في هاتين الروايتين وكلام الإمام أحمد يظهر أن الرواية التي جاءت بالعنعنة والتي فيها إدخال الموقوف في الموفوع مدلّسة ـ لأن ابن جريج معروف بالتّدليس عن المجهولين ـ ومن أجل ذلك أنكر الإمام أحمد على من روى الحديث من هذا الوجه بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وسليمان بن موسى، فإن مقتضى ذلك أن يلتصق الخطأ بسليمان دون الواسطة ـ المُسقَطة بالتَّدليس ـ بينه وبين ابن جريج، والرواية التي ميّزت بين الموقوف والمرفوع، قد برّأت ساحة سليمان بن موسى من الخطأ

(2)

، لأن ابن جريج قد صرح بالتحديث من سليمان.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 682.

(2)

وقد لمّح ابن رجب بأن الخطأ من سليمان بن موسى لأنه مختلف في توثيقه كما قال ابن رجب فتح الباري لابن رجب 6/ 238.

وسليمان بن موسى هو الأشدق القرشي الشامي. وثقه ابن معين في الزهري. ووثقه دحيم مطلقاً. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب. وقال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال ابن عدي: هو عندي ثبت صدوق. وقال الذهبي: والغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها. وقال ابن حجر: صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخولط قبل موته بقليل. انظر: الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1119، تهذيب الكمال 12/ 96 - 97، ميزان الاعتدال ترجمة 3521، تقريب التهذيب ص 415 ترجمة 2631. =

ص: 462

فالشاهد من هذا أن الإمام أحمد أنكر على من روى هذا الحديث ـ في الرواية التي جعلت قول ابن عمر مرفوعاً ـ بالتصريح بالخبر بين ابن جريج وشيخه سليمان بن موسى بناء على كون سماعهم من عبد الرزاق بأخرة بعد ما عمي، وبناء على عدم وجود تلك الرواية في كتب عبد الرزاق كما رواها من رواها عنه إذ كان بصيراً، وهذا مما يدل على أن الأخطاء وقعت في المرويات التي رُويت عن عبد الرزاق وهي ليست في كتبه كما رواها القدماء من أصحابه، بل جاءت من طريق من تحمّل عنه بعد ذهاب بصره.

وقد تقدم في مطلب إثبات الوضع بقرائن تعود إلى حال المروي أن الإمام أحمد أنكر حديث علي الذي روي من طريق عبد الرزاق بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجبائر"، وقال: إنه باطل، وسأل عمّن حدّث به عن عبد الرزاق ـ منكِراً عليه ـ فقيل له: محمد بن يحيى الذهلي

(1)

، وقد قال الإمام أحمد في الذهلي: إنه قدم على عبد الرزاق مرتين: إحداهما بعدما عمي

(2)

. فلعل هذا مما سمعه في القدمة الثانية.

= وأما أحمد شاكر فقال: يحتمل أن يكون سليمان بن موسى وهم فأدخل الموقوف من كلام ابن عمر في المرفوع، ويتحمل أن يكون حفظ، وأن ابن عمر يذكره مرة هكذا ومرة هكذا تعليقه على جامع الترمذي 2/ 333.

والاحتمال الأول الذي ذكره رحمه الله بعيد، فكيف ينسب سليمان بن موسى إلى الوهم في إدخال الموقوف في المرفوع وقد ميّز بينهما في الرواية التي صرّح ابن جريج بالسماع منه، إلا إذا حكمنا برجحان الرواية التي ليس فيها التمييز، وقد تقدم وجه كونها مرجوحة. ثم حتى وإن حكمنا برجحانها فكونها وردت بالعنعنة من مدلس يقوي احتمال وجود واسطة بين سليمان وابن جريج وأن تلك الواسطة هي التي لم تميز بين اللفظين، فبرأ سليمان بن موسى، والله أعلم.

وأما الاحتمال الثاني فإنما يقبل لو صحت الرواية التي جعلت اللفظ الموقوف مرفوعاً، لأن الجمع فرع عن التصحيح، وحيث لم تصح فلا وجه لهذا الجمع.

(1)

انظر: ص 140.

(2)

شرح علل الترمذي 2/ 752.

ص: 463

ومن الرواة الذين ذهب بصرهم فأثّر ذلك في ضبطهم لحديثهم:

علي بن مسهر:

وهو القرشي الكوفي أبو الحسن قاضي الموْصل. قال عنه الإمام أحمد: صالح الحديث صدوق

(1)

. وروى العقيلي بإسناده عن الأثرم أنه قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أما علي بن مسهر فلا أدري كيف أقول، ثم قال: إن علي بن مسهر قد ذهب بصره وكان يحدثهم من حفظه

(2)

.

وذكر الحافظ ابن رجب

(3)

أن الإمام أحمد أنكر عليه حديثه عن هشام عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن يتشهد قال: "وأنا وأنا". وقال: "إنما هو عن هشام، عن أبيه مرسل. وقال: علي بن مسهر له مفاريد".

وهذا الحديث أخرجه أبو داود

(4)

، عن إبراهيم بن مهدي، عن علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. ومن طريقه أخرجه البيهقي

(5)

، وابن عبد البر

(6)

. ولم أقف على رواية الإرسال التي أعلّ بها الإمام أحمد روايةَ الوصل. ولم ينفرد علي بن مسهر برواية الحديث موصولاً، فقد تابعه حفص بن غياث عند ابن حبان

(7)

، والحاكم

(8)

، وأبي الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان

(9)

، والقزويني

(10)

. وتابعه أيضاً أبو معاوية ووكيع

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 477/3132.

(2)

الضعفاء للعقيلي 2/ 971 رقم 1252. وذكره ابن رجب في شرح علل الترمذي 2/ 755.

(3)

شرح علل الترمذي الموضع نفسه.

(4)

السنن 1/ 361 رقم 526.

(5)

السنن الكبرى 1/ 409.

(6)

التمهيد 10/ 141.

(7)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 4/ 580 رقم 1683.

(8)

المستدرك 1/ 321.

(9)

2/ 120.

(10)

التدوين في أخبار قزوين 2/ 28.

ص: 464

كلاهما عند ابن أبي شيبة

(1)

. فهؤلاء الثلاثة ثقات أثبات، إلا أبا معاوية فقد تكلّم الإمامُ أحمدُ في حديثه عن غير الأعمش، وخاصةً في أحاديثه عن هشام بن عروة فقال ـ لما سئل عنها: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ

(2)

. وكلهم رووا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة موصولاً كما رواه علي بن مسهر. ولم أقف على رواية الإرسال حتى يظهر وجه إعلال الإمام أحمد للحديث بعد الموازنة بين الروايتين ـ الموصولة والمرسلة.

ومن هؤلاء‌

‌ الرواة الذين كُف بصرهم فتأثّر ضبُطهم:

‌أبو حمزة السكري:

وهو محمد بن ميمون المرزوي. قال ابن رجب: ثقة مشهور من أهل مرو

(3)

.

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: من سمع من أبي حمزة السكري ـ وهو مروزي ـ قبل أن يذهب بصره فهو صالح، سمع منه علي بن الحسن قبل أن يذهب بصره، وسمع عتاب بن زياد بعد ما ذهب بصره

(4)

.

وقال في رواية ابن هانئ: كان قد ذهب بصرُه، وكان ابنُ شقيق قد كتب عنه وهو بصير، قال: وابن شقيق أصح حديثاً ممن كتب عنه مِن غيره

(5)

.

ولم أر له حديثاً أنكره الإمام أحمد.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة 1/ 206 رقم 2362.

(2)

تهذيب التهذيب 9/ 139.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 754.

(4)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد 1/ 359 رقم 561.

(5)

انظر: شرح علل الترمذي 2/ 754.

وقد ذكر النسائي أيضاً مثل ما ذكره أحمد في أبي حمزة السكري، فقال في السنن الكبرى 2/ 122: محمد بن ميمون مروزي لا بأس به إلا أنه كان ذهب بصره في آخر عمره فمن كتب عنه قبل ذلك فحديثه جيد. ا. هـ. وذكر الحافظ ابن حجر أن البخاري لم يخرج له إلا من رواية عبدان عنه وهو من قدماء أصحابه هدي الساري ص 442.

ص: 465

‌المطلب الثالث: ما يلحق بالاختلاط من أسباب سوء الحفظ الطارئ على الراوي ـ ذهاب كتب الراوي بسبب من الأسباب

هؤلاء قوم ثقات ذهبت أصولهم التي كانوا يحدثون منها، فحدثوا من حفظهم فوقعت الأخطاء في مروياتهم بسبب ذلك، أو تلقنوا ما لقّن لهم مما ليس من حديثهم، وهذا خلل طرأ عليهم في ضبطهم أُعلّ بسببه بعضُ مروياتهم.

قال أبو حاتم ابن حبان تحت أنواع الجرح في الضعفاء: "ومنهم من كتب الحديث ورحَل فيه إلا أن كتبه قد ذهبت، فلما احتيج إليه صار يحدث من كتب الناس من غير أن يحفظها كلها أو يكون له سماع فيها كابن لهيعة وذويه"

(1)

.

فهؤلاء أمرهم يجري على تفصيل ما سبق في الصنف الذي قبل هذا: من سمع منهم قديماً قبل ذهاب كتبهم فحديثه صحيح، ومن سمع منهم بعد ذلك فحديثه ليس بذاك.

ومن هذا الصنف من ذهبت كتبه عن جميع المشايخ، ومنهم من ذهبت كتبه عن بعض المشايخ، فذكر الإمام أحمد من الصنف الأول: عبد الله بن لهيعة، ومحمد ابن عبد الله ابن المثني الأنصاري، وعبد الله بن رجاء المكي. ومن الصنف الثاني: الإمام الأوزاعي.

1 -

‌ عبد الله بن لهيعة الغافقي المصري ت (174) هـ:

أثنى عليه الإمام أحمد وقال: من كان بمصر يشبه ابن لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه

(2)

.

ونقل الإمام أحمد خبر احتراق كتبه ومتى كان ذلك.

(1)

المجروحين 1/ 75.

(2)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 246.

ص: 466

قال عبد الله: حدثني أبي قال: حدثنا إسحاق بن عيسى الطَّبَّاع قال: أُحرقتْ كتبُ ابن لهيعة سنةَ تسعٍ وستين، قال: ولقيتُه أنا سنةَ أربع وستين يعني ابن لهيعة. قال إسحاق: ومات ابن لهيعة في سنةِ أربعٍ وسبعين أو ثلاثٍ وسبعين

(1)

.

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: قال ابن المبارك سنةَ تسع وسبعين: من سمع ابن لهيعة منذ عشرين سنة فإن سماعه صالح. وسمعته قال: احترقتْ كتبُ ابن لهيعة ـ زعموا ـ في سنة أربع وستين

(2)

.

فهذا اختلاف في تحديد زمن احتراق كتبه

(3)

.

وقد اعتمد الإمام أحمد حادثة احتراق كتب ابن لهيعة

(4)

فأصبح يُميّز بين حديثه القديم وحديثه بعد الاحتراق، فقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله وسئل عن ابن لهيعة فقال: من كتب عنه قديماً فسماعه صحيح

(5)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 67 - 68 رقم 1572.

(2)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 170

(3)

وقال البخاري عن ابن بكير: احترق منزل ابن لهيعة وكتبه سته سبعين ومائة التاريخ الكبير 5/ 183. وهذا ما ذهب إليه ابن حبان المجروحين 2/ 11، وهو قريب من قول إسحاق ابن الطباع الذي ذكره الإمام أحمد.

(4)

وقد أنكر بعض الناس أن تكون كتب ابن لهيعة احترقت، وهو سعيد بن أبي مريم، تهذيب الكمال 15/ 493. لكن ابن مريم كان سيئ الرأي في ابن لهيعة كما قال يحيى بن معين تهذيب الكمال 15/ 498. ولعله هو الذي عناه يحيى بن معين حين قال: قال أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، وما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين رقم 499، وكأن يحيى اعتمد هذا فاعتبر سماع القدماء والآخرين من ابن لهيعة سواء، وضعفه مطلقاً سؤالات ابن الجنيد رقم 502، وانطر: تهذيب الكمال 15/ 498 - 499 الموضع نفسه.

ويعارض هذا ما رواه العقيلي عن كتاب أبي الوليد بن أبي الجارود عن ابن معين قال: ابن لهيعة يكتب عنه ما كان قبل احتراق كتبه ضعفاء العقيلي 2/ 696.

وكذلك أنكر عثمان بن صالح السهمي أن تكون أصوله احترقت وقال: إنما احترق بعض ما كان يقرأ منه تهذيب الكمال 15/ 496.

(5)

المعرفة والتاريخ 1/ 185.

ص: 467

وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن ابن لهيعة فليّن أمرَه وقال: من سمع منه متقدماً

(1)

.

وإنما ميّز الإمام أحمد بين حديث ابن لهيعة القديم من حديثه المتأخر لأنه كان بعد احتراق كتبه يقبل التلقين. قال أبو داود: سمعت أحمد قال: احترقت كتب ابن لهيعة ـ زعموا ـ كان رشدين بن سعد قد سمع منه كتبه، فكانوا يأخذون كتبه، فلا يأتونه بشيء إلا قرأ

(2)

.

وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: ابن لهيعة كانوا يقولون احترقت كتبه فكان يؤتى بكتب الناس فيقرأها

(3)

.

وروي عن الإمام أحمد أنه قال: سماع العبادلة من ابن لهيعة عندي صالح، عبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرئ، وعبد الله بن المبارك

(4)

.

وممن نصّ الإمام أحمد على صحة حديثه عن ابن لهيعة عبد الله بن يزيد المقرئ. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يقول: ما أصحَّ حديثه ـ يعني المقرئ ـ عن ابن لهيعة

(5)

.

ومنهم قتيبة بن سعيد. قال جعفر بن محمد الفريابي: سمعت بعض أصحابنا يذكر أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح. قال: قلت: لأنَّا كنَّا نكتب من كتاب عبد الله بن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة

(6)

. وهذا الإسناد فيه جهالة الواسطة بين الفريابي وقتيبة. على أنه

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره ص 71 رقم 76.

(2)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 256.

(3)

كتاب الضعفاء للعقيلي 2/ 696.

(4)

شرح علل الترمذي 1/ 420.

(5)

المعرفة والتاريخ 2/ 192.

(6)

تهذيب الكمال 15/ 494.

ص: 468

قد ذكر الأثرم عن الإمام أحمد أن قتيبة هو آخر من سمع من ابن لهيعة

(1)

. فإن ثبت ما نقله الفريابي دل ذلك على أن صحة حديث قتيبة عن ابن لهيعة كان من أجل اعتماده على كتاب ابن وهب فلم يتأثر باختلاط ابن لهيعة.

وقد قال حنبل بن إسحاق سمعت أبا عبد الله يقول: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضُه ببعض

(2)

.

وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: سألت أحمد بن حنبل عن ابن لهيعة فضعفه

(3)

.

وهذا محمول على ما جاء من طريق من سمع منه بأخرة، بدليل أنه صحح حديث بعض تلاميذ ابن لهيعة كقتيبة بن سعيد. وأيضاً لما ليّن أمر ابن لهيعة كما في رواية المروذي استثنى من سمع منه متقدماً.

ومما يدل على أن حديثه في الآخر قد دخله تخليط ما رواه عبد الله عن الإمام أحمد:

قال عبد الله: حدثني أبي قال حدثنا خالد بن خداش قال: قال لي ابن وهب ـ ورآني لا أكتب حديث ابن لهيعة ـ إني لستُ كغيري في ابن لهيعة فأكتبَها، وقال لي: حديثه عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان القرآن في إهاب ما مسَّتْه النَّارُ" ما رفعه لنا ابن لهيعة قط أوَّلَ عُمُرِهِ

(4)

.

هذا الحديث أخرجه أحمد

(5)

، والدارمي

(6)

،

(1)

تهذيب الكمال 23/ 528، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 756.

(2)

تهذيب الكمال 15/ 493.

(3)

الجرح والتعديل 5/ 147.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 2/ 131 رقم 1784.

(5)

المسند 28/ 627 رقم 17409.

(6)

سنن الدارمي 2/ 522 رقم 3310.

ص: 469

وأبو يعلى

(1)

، وجعفر الفريابي في فضائل القرآن

(2)

كلهم من طريق عبد الله ابن يزيد المقرئ

(3)

؛ وأبو عبيد في "فضائل القرآن"

(4)

، ومن طريقه القزويني في أخبار قزوين

(5)

عن أبي الأسود المصري

(6)

، وأحمد

(7)

عن أبي سعيد

(8)

؛ والفريابي

(9)

، ومن طريقه ابن عدي

(10)

عن قتيبة بن سعيد

(11)

؛ والطبراني

(12)

من طريق يحيى بن كثير الناجي

(13)

، وسعيد بن عفير

(14)

؛

(1)

المسند 2/ 307 رقم 1739.

(2)

كتاب فضائل القرآن وما جاء فيه من الفضل وفي كم يقرأ والسنة في ذلك ص 110 رقم 2.

(3)

عبد الله بن يزيد القرشي أيو عبد الرحمن المقرئ. ثقة كثير الحديث، وثقه غير واحد انظر: تهذيب الكمال 16/ 323. وقال الإمام أحمد: إلا أنه كان يحدث من كتب الناس المعرفة والتاريخ 2/ 192. وتقدم عن الإمام أحمد أنه قال في حديثه عن ابن لهيعة: ما أصحَّهُ.

(4)

كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي ص 54.

(5)

التدوين في أخبار قزوين 1/ 225.

(6)

النضر بن عبد الجبار المرادي مولاهم أبو الأسود المصري. ثقة التقريب رقم 1002 رقم 7193. وقال ابن معين: كان راوية عن ابن لهيعة تهذيب الكمال 29/ 392. وقال أحمد بن صالح المصري: ظننت أن أبا الأسود كتب ـ يعني حديث ابن لهيعة ـ من كتاب صحيح فحديثه صحيح يشبه حديث أهل العلم المعرفة والتاريخ 2/ 184 - 185.

(7)

المسند 28/ 595 رقم 17365.

(8)

هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد، أبو سعيد مولى بني هاشم. وثقه أحمد وابن معين. وعن أحمد: كان كثير الخطأ. وقال ابن حجر: صدوق ربما أخطأ الجرح والتعديل 5/ 254، ضعفاء العقيلي 2/ 751، التقريب ص 586 رقم 3943.

(9)

كتاب فضائل القرآن ص 109 رقم 1.

(10)

الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2460.

(11)

وثقه غير واحد. وتقدم أن الإمام أحمد قال هو آخر من سمع من ابن لهيعة، وأنه رأى حديثه عن ابن لهيعة وقال إنها صحيحة انظر: تهذيب الكمال 23/ 528.

(12)

المعجم الكبير 17/ 308 رقم 850.

(13)

لم أقف عليه.

(14)

هو سعيد بن كثير بن عفير ـ بالمهملة والفاء. قال الدارقطني: كان من الحفاظ الثقات العلل 1/ 182. وقال أبو حاتم: لم يكن بالثبت، كان يقرأ من كتب الناس، وهو صدوق الجرح والتعديل 4/ 56. وقال ابن حجر: صدوق التقريب 386 رقم 2395.

ص: 470

والروياني

(1)

من طريق موسى بن داود

(2)

، وأبو الشيخ

(3)

من طريق مجاشع ابن عمرو

(4)

، كلهم عن ابن لهيعة، عن مِشْرَح بن هاعان

(5)

، عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.

فهؤلاء الرواة ـ وعددهم ثمانية ـ كلهم رووا الحديث عن ابن لهيعة على هذا الوجه مرفوعاً. وقال ابن وهب: ما رفع ابنُ لهيعة الحديثَ قط أول عمره. فهذه علة هذا الحديث، لأن كون ابن وهب حفظ أن ابن لهيعة كان لا يرفع الحديث في أول عمره دليل على قدم سماعه من ابن لهيعة، وقد قال أحمد: من سمع منه قديماً فسماعه صحيح. وقال أحمد عن ابن وهب: كان صحيح الكتب عن مشايخه الذين روى عنهم

(6)

، وكان هو وابن المبارك يتتبعان أصول ابن لهيعة

(1)

مسند الروياني 1/ 172 رقم 216.

(2)

الضبي أبو عبد الله الطرسوسي الحُلْقاني. وثقه ابن نمير، وابن سعد، وابن عمار الموصلي، والعجلي، والذهبي. وقال أبو حاتم: شيخ في حديثه اضطراب. وقال ابن حجر: صدوق فقيه زاهد له أوهام انظر: تهذيب الكمال 29/ 59 - 60، الكاشف 2/ 303 رقم 5692، التقريب ص 979 رقم 7008.

(3)

طبقات المحدثين بأصبهان 3/ 594.

(4)

قال ابن معين: قد رأيته، أحد الكذابين. قال العقيلي: حديثه منكر غير محفوظ الضعفاء 4/ 1403. قال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويروي الموضوعات عن قوم ثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه

المجروحين 3/ 18.

(5)

مشرح بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وتخفيف الراء وفتحها الإكمال لابن ماكولا 7/ 194. وهو مشرح بن هاعان المعافري أبو مصعب المصري. حدث عن عقبة بن عامر، وروى عنه الليث، وابن لهيعة، والوليد بن المغيرة. قال الإمام أحمد: معروف. ووثقه ابن معين في رواية الدارمي وكذلك الذهبي. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. قال ابن حبان: عداده في أهل مصر يروي عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير لا يتابع عليها روى عنه ابن لهيعة والليث وأهل مصر والصواب في أمره ترك ما انفرد من الروايات والاعتبار بما وافق الثقات. وقال ابن حجر: مقبول الكامل في ضعفاء الرجال 6/ 2460، المجروحين 3/ 28، تهذيب الكمال 28/ 7، الكاشف 2/ 265 رقم 5456، التقريب ص 944 رقم 6724.

(6)

المعرفة والتاريخ 2/ 183.

ص: 471

فيكتبان منه كما قال أبو زرعة الرازي

(1)

. فالصحيح في رواية الحديث أنه موقوف، وهذا يدل على اعتماد ما رواه ابن لهيعة في أول عمره وتقديمه على غيره. وإن قيل إن ممن رواه عن ابن لهيعة مرفوعاً عبد الله بن يزيد المقرئ، وقتيبة بن سعيد، وأبا الأسود المصري وقد قيل بصحة حديث كل واحد منهم عن ابن لهيعة، فالجواب أن ابن وهب حفظ وجه الحديث عند ابن لهيعة في أول عمره، وأما أولئك الرواة فيحتمل أن يكون سماعهم للحديث كان في أخر عمر ابن لهيعة خارج كتبه الأصول، فلا يترك حفظُ من حفِظ لأمر محتمل.

2 -

‌ محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري

(2)

.

ذكر الإمام أحمد أن كتبه ذهبت فكان بعدُ يحدِّث من كتب غلامه، وعدّ رحمه الله هذا سبباً للوهم الذي وقع فيه فأدخل إسناد حديث في حديث آخر.

قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله ذكر الحديث الذي رواه الأنصاري ـ محمد

ابن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك ـ عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، عن

ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" فضعفه وقال: كانت ذهبتْ للأنصاري كتبٌ فكان بعدُ يحدّث من كتب غلامه أبي حكيم، أُراه قال: فكان هذا من تلك

(3)

.

هذا الحديث رواه الترمذي

(4)

، والنسائي

(5)

، وأحمد

(6)

، والطحاوي في

(1)

الجرح والتعديل 5/ 147.

(2)

وثقه ابن معين، وأبو حاتم وغيرهما. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: تغير تغيراً شديداً. وقال الساجي: رجل جليل عالم لم يكن عندهم من فرسان الحديث مثل يحيى القطان ونظرائه، غلب عليه الرأي الجرح والتعديل 7/ 305، تهذيب الكمال 25/ 542.

(3)

تاريخ بغداد 5/ 410.

(4)

الجامع 3/ 147 رقم 776.

(5)

السنن الكبرى 2/ 235 رقم 3231 بلفظ: هو محرم صائم.

(6)

المسند 5/ 68 رقم 2888 بلفظ: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

ص: 472

شرح معاني الآثار

(1)

، والطبراني

(2)

، والخطيب

(3)

كلهم من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري بالإسناد الذي ذُكر في السؤال. وقال الخطيب: لم يروه عن حبيب هكذا غير الأنصاري.

إنما روي بهذا الإسناد حديث آخر، فأخرج أبو داود

(4)

، وأحمد

(5)

، والدارمي

(6)

، وابن الجارود

(7)

، وأبو يعلى

(8)

، والطحاوي

(9)

، وابن حبان

(10)

، والطبراني

(11)

، والدارقطني

(12)

، والبيهقي

(13)

كلهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة قالت:"تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلال بعد ما رجعنا من مكة". وهذا لفظ أحمد. وقد روى الأنصاري هذا الحديث أيضاً من هذا الوجه بهذا الإسناد، قاله الخطيب

(14)

، والذهبي

(15)

.

(1)

شرح معاني الآثار 2/ 101.

(2)

المعجم الأوسط 3/ 48 رقم 2434.

(3)

تاريخ بغداد 5/ 409.

(4)

السنن 2/ 422 رقم 1843.

(5)

المسند 44/ 395 رقم 26815 و 44/ 419 رقم 26841.

(6)

السنن 2/ 38.

(7)

المنتقى 1/ 117 رقم 445، 1/ 174 رقم 695.

(8)

مسند أبي يعلى 6/ 321 رقم 7070.

(9)

شرح معاني الآثار 2/ 269.

(10)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 9/ 443 رقم 4137.

(11)

المعجم الكبير 24/ 20 رقم 44، وفي المعجم الأوسط 8/ 372 رقم 8907.

(12)

السنن 3/ 261.

(13)

السنن الكبرى 7/ 310.

(14)

تاريخ بغداد 5/ 410

(15)

ميزان الاعتدال 5/ 47 ترجمة 7765.

ص: 473

وتابعه سفيان بن حبيب

(1)

، عن حبيب بن الشهيد به، إلا أنه أرسله عن يزيد بن الأصم بدون ذكر ميمونة. أخرجه النسائي في الكبرى

(2)

.

فالأنصاري أراد أن يحدث بحديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة فحدث بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احجم وهو صائم محرم، وركب إسناد الحديث الأول له، فدخل عليه هذا في ذاك، وبيّن الإمام أحمد السبب في ذلك، وهو كون الأنصاري قد ذهبت كتبه فصار يعتمد على كتب غلامه، وليس ذلك عن سوء الحفظ. ولم يرد عن الإمام أحمد ولا عن غيره من الأئمة ما يدل على اطّراح الأنصاري بهذا السبب، والظاهر أن ذلك راجع إلى قلة ما وقع له من الخطأ بسبب هذه الآفة، فيقتصر على ردّ ما تبين أنه أخطأ فيه من الأحاديث

(3)

.

وقد وافق الإمامَ أحمدَ غيرُه من الأئمة على إعلال هذا الحديث وإنكاره على الأنصاري وبيان أنه دخل عليه حديث في حديث، منهم معاذ بن معاذ، ويحيى القطان، فروى عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال أبي وقال أبو خيثمة أنكر معاذ ـ يعني ابن معاذ العنبري ـ ويحيى بن سعيد ـ يعني القطان ـ حديث الأنصاري ـ يعني محمد بن عبد الله ـ عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران،

(1)

البصري. وثقه الفلاس، وأبو حاتم. وقال يعقوب بن شبية والنسائي: ثقة ثبت تهذيب الكمال 11/ 138.

(2)

السنن الكبرى 2/ 236 رقم 3232. وليس هذا مجال الكلام حول الاختلاف على حبيب ابن الشهيد بالوصل والإرسال في رواية هذا الحديث.

(3)

قال الذهبي: ما ينبغي أن يتكلم في مثل الأنصاري لأجل حديث تفرد به فإنه صاحب حديث.

وروى الفسوي عن الأنصاري أنه قال: كتبت عن داود بن أبي هند أحاديث كثيرة وسمع مني بعض أصحابنا وأخذ كتابي أو غاب عني غيبة طويلة، فلم أر أن أحدث منها بشيء المعرفة والتاريخ 2/ 653. ولم يذكر المزي داود بن أبي هند ضمن شيوخ الأنصاري، مما يقوي ما ذكر من أنه لم يحدث عنه بعد ما ذهبت كتبه بشيء، وهذا يدل على تثبته. ولعل ما ذكره الإمام أحمد من ذهاب كتبه وتحديثه من كتب غلامه كان في آخر عمره ولأجل ثقته بغلامه ذاك. ولم أر لغلامه أبي حكيم ترجمة فيما وقفت عليه من الكتب.

ص: 474

عن بن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم وصائم

(1)

.

وقال مهنّا: وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم"، فقال: ليس بصحيح، قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري

(2)

، إنما كانت أحاديث ميمون ابن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثاً

(3)

.

وقال يعقوب الفسوي: سُئل علي بن المديني عن حديث الأنصاري عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، قال: ليس من ذاك شيء، إنما أراد حديث حبيب عن ميمون عن يزيد بن الأصم: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة محرماً. ا. هـ

(4)

.

وقال النسائي ـ بعد روايته لحديث الأنصاري في الحجامة: هذا منكر، ولا أعلم رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة

(5)

.

3 -

‌ عبد الله بن رجاء المكي

(6)

:

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية عبد الله 1/ 320 رقم 556.

(2)

كذا قال، وإنما هو القطان كما تقدم في رواية عبد الله.

(3)

زاد المعاد 2/ 59.

(4)

المعرفة والتاريخ 3/ 7 - 8. وهكذا جاءت الرواية: محرماً، وهكذا وقتعت في تاريخ بغداد 5/ 410 من طريق الفسوي، وأما الذهبي فرواها من طريق الفسوي فلم يذكر هذه اللفظة، وهو يشعر بأنها وقعت عنده أيضاً هكذا وأن ذكرها خطأ، لأن حديث يزيد بن الأصم في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة وهو حلال.

(5)

السنن الكبرى 2/ 236.

(6)

هو أبو عمران البصري سكن مكة. حسّن الإمام أحمد أمره ووثقه ابن معين، والفسوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة: شيخ صالح. وقال الساجي: عنده مناكير، اختلف أحمد ويحيى فيه، قال أحمد: زعموا أن كتبه ذهبت فكان يكتب من حفظه فعنده مناكير. مات في حدود التسعين ومائة انظر: تاريخ ابن معين ـ رواية الدوري ـ 2/ 306، المعرفة التاريخ 3/ 52، 140، الجرح والتعديل 5/ 54 - 55، تهذيب التهذيب 5/ 211.

ص: 475

عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بيِّنٌ والحَراَم بيِّنٌ

"؟ فقال: هذا حديث منكر، ما أرى هذا بشيء، وقال لي أبو عبد الله: ابن رجاء هذا زعم أن كتبه كانت ذهبت فجعل يكتب من حفظه، ولعله توهَّم هذا

(1)

.

هذا الحديث أخرجه الطبراني

(2)

، والعقيلي

(3)

، والرامهرمزي

(4)

، كلهم من طريق إبراهيم بن محمد بن الشافعي

(5)

، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله ابن عمر به. وأخرجه البيهقي

(6)

من طريق أحمد بن شبيب بن سعيد

(7)

عن عبد الله ابن رجاء به. قال الطبراني: لم يروه عن عبيد الله بن عمر إلا عبد الله بن رجاء، وقد رواه عبد الله بن رجاء عن عبد الله بن عمر. ورواية عبد الله بن رجاء عن عبد الله ابن عمر ـ وهو العمري ـ رواها أيضاً أحمد بن شبيب بن سعيد. قال ابن أبي حاتم:"سمعت أبي حدثنا عن أحمد بن شبيب بن سعيد، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين والحرام بين

" الحديث. قال أبي: ثم كتب إلينا أحمد بن شبيب بن سعيد: اجعلوا هذا الحديث عن عبد الله بن عمر"

(8)

. وقال أبو زرعة في هذا الحديث: هكذا حدثنا أحمد من حفظه، ثم رجع أحمد بن شبيب عنه فقال: عن عبد الله بن عمر،

(1)

الضعفاء للعقيلي 2/ 648، وانظر: ميزان الاعتدال 3/ 135 ترجمة 4308.

(2)

المعجم الصغير 1/ 41 رقم 32.

(3)

كتاب الضعفاء للعقيلي 2/ 648.

(4)

أمثال الحديث 1/ 16 رقم 4.

(5)

أحسن الإمام أحمد الثناء عليه، ووثقه النسائي، والدارقطني، والذهبي تهذيب التهذيب 1/ 154، الكاشف 1/ 221 رقم 191.

(6)

كتاب الزهد الكبير 2/ 321 رقم 866.

(7)

قال عنه أبو حاتم: ثقة الجرح والتعديل 2/ 55. وقال ابن حجر: صدوق التقريب ص 90 ترجمة 46. وقال الأزدي: منكر الحديث غير مرضي. ورد عليه الذهبي بتوثق أبي حاتم له ميزان الاعتدال 1/ 103 ترجمة 404. وذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته.

(8)

علل ابن أبي حاتم 2/ 132 رقم 1887.

ص: 476

وهو الصحيح. ا. هـ

(1)

.

فعاد الحديث إلى حديث عبد الله بن عمر العمري وضعفه مشهور، وتفرده بالحديث عن حافظ مكثر مثل نافع مما يزيد الحديث ضعفاً.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أنكر الإمام أحمد هذا الحديث أن يكون من رواية عبيد الله بن عمر، وحمّل الخطأ على عبد الله بن رجاء لذهاب كتبه واعتماده على حفظه. ويؤيد هذا الإعلال رجوع أحمد بن شيبب عن ذكر عببيد الله بن عمر في الإسناد، واستبداله بعبد الله بن عمر العمري، وأن ذلك كان لأجل تحديثه بالحديث في أول الأمر من حفظه. وإنما لم يُحمَّل أحمدُ بن شيبب هذا الخطأَ لأن إبراهيم بن محمد الشافعي قد تابعه على ذكر عبيد الله بن عمر، فدل على أن عبد الله بن رجاء كان هو الذي حدث به هكذا، ثم رجع أحمد بن شيبب إلى الكتب فتبين له الخطأ فعاد إلى الصواب، وهذا يدل أيضاً على أن عبد الله بن رجاء قد حدث به سابقاً على الصواب ـ والظاهر أن الصواب كان هو المثبت في كتبه ـ ثم لما حدّث بالحديث من حفظه وقع في الخطأ، وهذا ما أشار إليه الإمام أحمد من أن كتبه قد ذهبت فصار يحدث من حفظه فتوهمّ.

وممن ذهبت كتبه عن بعض مشائخه فتُكلِّم في حديثه عن أولئك المشايخ:

4.

‌ عبد الرحمن بن عمروالأوزاعي الإمام ت (157) هـ:

ذهبت كتبُه عن يحيى بن أبي كثير فتكلم الإمام أحمد في حديثه عنه.

قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: زعموا أن كتبه ـ يعني الأوزاعي ـ عن يحيى بن أبي كثير ضاعت"

(2)

.

(1)

المصدر نفسه 2/ 142 رقم 1923.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 419 رقم 1952. وكان ضياعها بسبب احتراق. قال أبو عوانة: حدثنا محمد بن عوف، قال: سمعت هاشم بن عمار يقول: سمعت الوليد بن مسلم يقول: احترقت كتب الأوزاعي من الرجفة ثلاث عشر قنداقاً مسند أبي عوانة 1/ 321. وقال الفسوي: سمعت عباس بن الوليد بن مزيد يذكر عن شيوخهم قالوا: قال الأوزاعي: فجالسته ـ أي يحيى بن أبي كثير ـ وكتبت عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر فاحترق كله المعرفة والتاريخ 2/ 409.

ص: 477

وقال مهنّا: "سألت أحمد عن حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال أحمد: كان كتاب الأزواعي عن يحيى بن أبي كثير قد ضاع منه، فكان يحدّث عن يحيى بن أبي كثير حفظاً"

(1)

.

وقال يعقوب بن شيبة: "قال أحمد بن حنبل: حديث الأوزاعي عن يحيى مضطرب"

(2)

.

وكلام الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير لا يعني تضعيفه في يحيى، ولا يعني إلحاقه بسائر من ذهبت كتبه عن شيخه فضعِّف بسببه عن ذلك الشيخ، بل كلام الإمام أحمد كان لبيان أن له أحاديث عن يحيى ابن أبي كثير أخطأ فيها بسبب ذهاب كتبه، وهو أمر غير مستغرب، لأن الأوزاعي كان من المكثرين عن يحيى بن أبي كثير، فلا يستغرب أن تقع بعض الأخطأ في حديثه عنه

(3)

. والدليل على ما ذكرت أن الإمام الأوزاعي كان يحفظ، وذهاب كتب الراوي عن شيخ معين إنما يؤثر على حديثه عن ذلك الشيخ إذا كان ممن لا يحفظ وكان جلّ اعتماده عليها قبل ذهابها أو أصبح بعد ذهابها يقبل التلقين، وكلا الأمرين منفي عن الأوزاعي. قال ابن عدي عن الإمام أحمد ـ وذَكر أصحابَ يحيى بن أبي كثير ـ فقال:"هشام يرجع إلى كتاب، والأوزاعي حافظ"

(4)

. وقد

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 799.

(2)

مسند يعقوب بن شيبة ص 68 بواسطة كتاب الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 64.

(3)

انظر ما ذكره د. صالح بن حامد الرفاعي في الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 65.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 100.

ص: 478

قال الوليد بن مسلم: "احترقتْ كتبُ الأوزاعي فقيل له: يا أبا عمرو، نسختُها عند ابن الأسود؟ فقال: نتحدّث بما حفِظنا منها"

(1)

.

وإذا كان الأمر كذلك فكلام الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير محمول على ما عرف من منهجه من تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر كما سيأتي، ومن أجل ذلك جعل أثبت الناس في يحيى بن أبي كثير هشام الدستوائي وأخّر الأوزاعي، فقال كما روى أبو داود:"ليس أحدٌ أثبت في يحيى ابن أبي كثير من هشام الدَّستوائي"

(2)

. وقال أبو زرعة الدمشقي: "سألت أحمد ابن حنبل عن أصحاب يحيى بن أبي كثير فقال: هشام، قلت: ثم من؟ قال: ثم أبان، قلت: ثم من؟ فذكر آخر، قلت: له فالأوزاعي؟ قال: الأوزاعي إمام"

(3)

. وقال صالح: قال أحمد: "وحرب بن شداد، وأبان، وشيبان ثبت في كل المشايخ، وهمام. قلت: الأوزاعي؟ قال: هؤلاء أثبت من الأوزاعي"

(4)

. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: "شيبان أحب إلي من الأوزاعي في يحيى بن أبي كثير وهو صاحب كتاب صحيح، حديثه صالح"

(5)

.

وعلى هذا فيجتنب تلك المواضع التي أخطأ فيها الأوزاعي في حديث يحيى بن أبي كثير، وإذا خالفه غيره ممن هو أثبت منه في يحيى فإنه يُقدم عليه

(6)

.

وممن اتخذ مثل موقف الإمام أحمد في حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 419 - 420، وانظر: مسند أبي عوانة 1/ 321.

(2)

سؤالات أبي داود السجستاني للإمام أحمد بن حنبل ص 334 رقم 489.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 100.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 3/ 42 م 1298، 1299.

(5)

الجرح والتعديل 4/ 356.

(6)

وهذا صنيع الشيخين في إخراجهما لحديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير كما يظهر للمتتبع لها.

ص: 479

الإمام أبو زرعة الرازي فقال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة قلت: في حديث يحيى بن أبي كثير من أحب إليك، هشام أو الأوزاعي؟ قال: هشام أحب إليّ، لأن الأوزاعي ذهبت كتبه"

(1)

.

ولم يتميّز من سمع من الأوزاعي حديثه عن يحيى قبل احتراق كتبه من الذين سمعوا منه بعد ذلك حتى يعامل حديثه معاملة حديث مَنْ تقدم من الرواة من هذا الصنف فيقبل حديث من سمع قبل ذهاب الكتب ويتوقف في حديث من سمع بعد ذلك، ومقتضى عدم هذا التمييز أن ينزل جميع الرواة عن الأوزاعي منزلة واحدة من حيث زمن السماع منه، وهو الذي يظهر من صنيع الإمام أحمد في إعلاله لحديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، من دون تفصيل بين حالة الراوي عنه، والله أعلم.

ما أعله الإمام أحمد من حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير.

قال المرُّوذي: قلتُ له: فتعرف عن الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "متى كنتَ نبياًّ؟ "، قال: هذا منكر، هذا من خطأ الأوزاعي، هو كثيراً ما يخطئ عن يحيى بن أبي كثير، كان يقول: أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلّب

(2)

.

حديث "متى كنتَ نبياًّ" أخرجه الترمذي

(3)

، وابن حبان في مقدمة كتابه الثقات

(4)

، والحاكم

(5)

، وأبو نعيم

(6)

، والخطيب البغدادي

(7)

من طرق عن

(1)

الجرح والتعديل 9/ 61.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ رواية المروذي وغيره ص 150 - 151 رقم 268.

(3)

الجامع 5/ 545 رقم 3609. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وأما المزي فقال عن الترمذي: حديث حسن غريب تحفة الأشراف 11/ 74.

(4)

الثقات 1/ 47.

(5)

المستدرك 2/ 609.

(6)

أخبار إصبهان 2/ 197.

(7)

تاريخ بغداد 3/ 70، 10/ 146.

ص: 480

الوليد بن مسلم به. ولفظه كما عند الترمذي: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد"

(1)

.

والحديث أنكره الإمام أحمد وجعله من خطأ الأوزاعي. والظاهر إنما أنكره من حديث يحيى بن أبي كثير، إذ لم يروه عنه غيره

(2)

، كأنه لم يعتدّ بتفرد الأوزاعي بالحديث عن يحيى بن أبي كثير للعلة التي تقدم ذكرها من احتراق كتبه عن يحيى واعتماده على حفظه.

وأما ما ذكره الإمام أحمد من خطأ الأوزاعي في اسم أبي المهلب حيث يقول فيه: أبو المهاجر فقد وقع ذلك في عدة أحاديث. قال الإمام البخاري: "وروى الأوزاعي أيضاً أحاديث عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، ولا يصح من أبي قلابة عن أبي المهاجر شيء"

(3)

. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأحاديث في ترجمة أبي المهاجر في تهذيب التهذيب

(4)

فقال: "أبو المهاجر عن بريدة الأسلمي حديث: "بكّروا بالصلاة في الغيم"

(5)

، وعن عمرو بن أمية الضمري حديث: "انتظروا

(1)

قال إسحاق بن راهويه: أي قبل أن تنفخ فيه الروح السنة للخلال 1/ 188.

(2)

ولما سأل الترمذي الإمام البخاري عن الحديث لم يعرفه. وأما الترمذي فاستغربه من حديث الوليد بن مسلم، وقال: رواه رجل واحد من أصحاب الوليد علل الترمذي الكبير 2/ 926. وقد رواه أربعة آخرين عن الوليد، فزالت الغرابة عن الوليد.

(3)

التاريخ الكبير 6/ 449.

(4)

تهذيب التهذيب 12/ 248 - 249. وانظر أصل الكلام للمزي في تهذيب الكمال 34/ 325 - 326.

(5)

حديث بريدة أخرجه ابن ماجه في السنن 1/ 227 رقم 694، وأحمد في المسند 38/ 157 رقم 23055، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 301 رقم 3449، 2/ 46 رقم 6290، 6/ 167 رقم 30399، وابن المنذر في الأوسط 2/ 381 رقم 1067، 2/ 366 رقم 1026، وابن حبان في صحيحه 4/ 332 رقم 1470، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 444 من طرق عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكّروا بالصلاة في اليوم الغيم، فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله". هذا لفظ ابن ماجه ووقع في تفسير الطبري 2/ 567 من طريق أيوب بن سويد فقال: عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة فذكر الحديث. فظاهر هذه الرواية وجود متابع للأوزاعي، وليس كذلك فإن الإسناد وقع فيه سقط حيث أسقط الأوزاعي، ويحيى بن أبي كثير، فإن أيوب بن سويد معروف بالرواية عن الأوزاعي، ولا يمكن أن يروي عن أبي قلابة الجرمي انظر: تهذيب الكمال 3/ 474 - 477. وللحديث علة أخرى سيأتي ذكرها إن شاء الله.

ص: 481

الغداء"

(1)

، وعن عمران بن الحصين حديث الجهنية التي أقرت بالزنا

(2)

، وعنه أبو قلابة الجرمي، كذا يقول الأوزاعي في هذه الأحاديث الثلاثة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة، فأما حديث بُريدة فرواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة، وهو المحفوظ، وأما حديث أبي أمية فاختلف فيه على الأوزاعي

(3)

، وأما حديث عمران فرواه هشام وغير واحد عن يحيى بن أبي كثير،

(1)

أخرجه النسائي في السنن 4/ 179 رقم 2268، 2269، وفي الكبرى 2/ 102 رقم 2578، 2579، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 3/ 155 رقم 1486، 1487، والطبراني في المعجم الكبير 22/ 361 رقم 907 من طرق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن أبي أمية الضمري قال:"قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فسلمت عليه فلما ذهبت لأخرج قال: "انتظر الغداء يا أبا أمية"، قلت: إني صائم يا نبي الله، قال: "تعال أخبرك عن المسافر، إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة". هذا لفظ النسائي.

(2)

أخرجه من هذا الوجه ابن ماجه في السنن 2/ 854 رقم 2555، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 286 رقم 7188، 7195، وابن حبان في صحيحه الإسحان 10/ 250 - 251 رقم 4403 وقال فيه: عن أبي قلابة عن عمه، وابن عبد البر في التمهيد 24/ 129 كلهم من طرق عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن عمران بن الحصين قال: اشتكت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه عليه

الحديث إلى آخره.

(3)

ذكر هذا الاختلاف على الأوزاعي النسائيُ في السنن وفي الكبرى المواضع السابقة. والذين اختلفوا عليه ثقات، وهم: محمد بن شعيب شابور قال أبو داود: هو ثبت في الأوزاعي. تهذيب الكمال 25/ 374، والوليد بن مسلم، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني وثقه العجلي والدارقطني، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال 18/ 239، ومحمد بن حرب الخولاني وثقه النسائي وغيره. تهذيب الكمال 25/ 46. واختلاف الثقات على الراوي مشعر باضطرابه في تلك الرواية.

ص: 482

عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران

(1)

، وهو المحفوظ".

وممن ذكر أن الإمام الأوزاعي أخطأ على يحيى بن أبي كثير في قوله أبي المهاجر، يحيى بنُ معين، فقال:"الذي يروي الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر إنما هو أبو المهلب، ولكن الأوزاعي قلب كنيته، والذي يروي عن أبي المهلب أثبت من الأوزاعي"

(2)

.

وقال النسائي: "لا نعلم أحداً تابع الأوزاعي على قوله: عن أبي المهاجر، إنما هو أبو المهلب"

(3)

. وقال أيضاً: "أبو المهاجر خطأ، والصواب أبو المهلب"

(4)

.

وقال ابن حبان: "وهم الأوزاعي في كنية عم أبي قلابة، إذ الجواد يعثر فقال: عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهاجر، وإنما هو أبو المهلب، اسمه عمرو ابن معاوية بن زيد الجرمي من ثقات التابعين وسادات أهل البصرة"

(5)

.

وقد أعلّ الإمام أحمد الحديث الأول من تلك الأحاديث التي قال فيها الأوزاعي عن أبي المهاجر من وجه آخر في الإسناد والمتن، والحديث هو

(1)

أخرجه من هذا الوجه مسلم 3/ 1324 رقم 1696 من طريق هشام الدستوائي عن يحيى، ومن طريق أيان بن يزيد العطار عن يحيى مثله. وأخرجه أبو داود في السنن 4/ 587 رقم 4440 من طريق هشام وأبان مقرونين، والنسائي في السنن 4/ 63 رقم 1956 من طريق هشام، والترمذي في الجامع 4/ 33 رقم 1435 من طريق معمر، وأحمد في المنسد 33/ 93 رقم 19861 من طريق معمر، وفي 33/ 152 رقم 19926 من طريق هشام، وفي 33/ 173 رقم 19954 من طريق أبان العطار، والدارقطني في السنن 3/ 102 من طريق علي بن المبارك، أربعتهم ـ وهم هشام الدستوائي، ومعمر، وأبان العطار، وعلي بن المبارك ـ عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين.

(2)

التاريخ - برواية الدوري 4/ 467.

(3)

السنن الكبرى 4/ 284.

(4)

المصدر السابق 4/ 285.

(5)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 10/ 252.

ص: 483

حديث بريدة السالف الذكر، حيث رواه الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكّروا بالصلاة في اليوم الغيم، فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله" ورواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيمٍ فقال: بكّروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك العصر فقد حبط عمله"

(1)

.

فقال الإمام أحمد في رواية مهنّا عن هذا الحديث ـ كما قال ابن رجب: "هو خطأ من الأوزاعي، والصحيح حديث هشام الدستوائي، وذكر أيضاً أن أبا المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة، كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأً، وذِكرُه في هذا الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من رواية أبي المليح، كذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله"

(2)

.

ثم قال ابن رجب: "وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المليح كما رواه هشام عن يحيى. وخرجه من هذا الوجه الإسماعيلي في "صحيحه". وقيل عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة. وقيل عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن بُريدة بغير واسطة بينهما. وهذا كله يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه للحديث. وأما متنه فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: "بكّروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاتته صلاةُ العصر فقد حبط عملُه". كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والإسماعيلي وغيرهم. فخالف هشاماً في ذلك، فإن هشاماً

(1)

أخرجه البخاري 2/ 31 رقم 553 مع فتح الباري، والنسائي السنن 1/ 236 رقم 473، وأحمد في المسند 38/ 54 رقم 22957.

(2)

فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن رجب 3/ 126.

ص: 484

قال في روايته: إن أبا المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك صلاة العصر فقد حبط عملُه". فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتبكير بصلاة العصر هو بُريدة، وهو الصحيح"

(1)

.

وقد تابع هشام الدستوائي على ذكر أبي المليح ورفع القدر المذكور من الحديث كل من شيْبان النحوي

(2)

، ومعمر

(3)

.

وممن ذهبت كتبه يوسف بن أسباط بن واصل الشيباني الكوفي من خيار أهل زمانه من عباد أهل الشام وقرائهم

(4)

. قال شعيب بن حرب: ما أقدّم على يوسف بن أسباط أحداً

(5)

.

قال أبو داود: "قلت لأحمد: يوسف بن أسباط؟ قال: ثقة. قلت: فدفن كتبه؟ قال: قد علمت يُقال، ثم قال: ومن مثل يوسف! "

(6)

.

وذكر غيرُ واحد خبرَ دفنِ كتبه

(7)

.

وله أحاديث أخطأ فيها

(8)

، وحُمل سببُ وقوع تلك الأخطاء على ذهاب كتبه. ولم أقف على كلام الإمام أحمد في حديثه بل أطلق القول بتوثيقه وأثنى عليه ثناء حسناً، وهذا الثناء راجع إلى فضله في زهده وعبادته، والله أعلم.

(1)

المصدر السابق 3/ 127.

(2)

وحديثه عند أحمد في المسند 38/ 57 رقم 22959.

(3)

وحديثه عند أحمد أيضاً المسند 38/ 152 رقم 23045. لكن زاد معمر: متعمداً.

(4)

الثقات لابن حبان 7/ 638.

(5)

سير أعلام النبلاء 9/ 170.

(6)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 286 رقم 330.

(7)

انظر: التاريخ الكبير 2/ 265، الجرح والتعديل 9/ 218، الكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2614، كتاب الضعفاء للعقيلي 4/ 1556.

(8)

انظر: علل ابن أبي حاتم 2/ 285، والضعفاء للعقيلي 4/ 1556، والكامل في ضعفاء الرجال 7/ 2614.

ص: 485

‌المبحث الثالث: الإعلال بالطعن في الراوي بشدة الغفلة وعدم التيقظ

.

هذا الصنف من الرواة هم الذين كان الغالب على حديثهم المنكر والغلط، وذلك لشدة غفلتهم، فليس لهم من التيقط ما يميزون به الصواب من الخطأ. وقد عرف الحميدي الغفلة التي ترد بها حديث الرضا الذي لا يعرف بكذب فقال:"هو أن يكون في كتابه غلط فيقال له في ذلك فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا، أو يغيره في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك، أو يصحف ذلك تصحيفاً فاحشاً يقلب المعنى لا يعقل ذلك، فيكف عنه"

(1)

.

وقد قال الإمام أحمد في أبي قتادة الحراني عبد الله بن واقد: "ما كان به بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك والخير، إلا أنه ربما أخطأ"، فقيل له: إنهم يقولون: لم يكن يفصل بين سفيان ويحيى بن أبي أُنيسة. فقال: "باطل، لعله اختلط، أما هو فكان ذكياً"

(2)

فنفى الإمام أحمد الغفلة لفطنته، فدل على أن الغفلة سببها قلة الفطنة.

وقد كان الإمام أحمد لا يرى الكتابة عمن هذا حاله. قال لأبي طالب أحمد بن حميد: "لا تكتب عن أبان بن أبي عياش شيئاً، فقال له: كان له هوى؟ قال: كان منكر الحديث"

(3)

وأبان بن عياش كما قال أحمد في موضع آخر: "متروك الحديث، ترك الناس حديثه مُذ دهر من الدهور"

(4)

.

(1)

الكفاية في علم الرواية ص 233.

(2)

الجرح والتعديل 5/ 191.

(3)

الجرح والتعديل 2/ 295.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 412 رقم 872.

ص: 487

وقال أبو طالب: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: "الحسن بن عمارة متروك الحديث، قلت: كان له هوى؟ قال: لا، ولكن كان منكر الحديث، أحاديثه موضوعة ولا يُكتب حديثه"

(1)

وقوله أحاديثه موضوعة ليس بمعنى أنه كذاب، بل هو من إطلاق الموضوع على حديث المتروك لثبوت الخطأ فيه كما تقدم توضيح ذلك في مصطلحات الإمام أحمد في مبحث الإعلال بكذب الراوي

(2)

، فالغالب على حديث الحسن بن عمارة مناكير، وقد قال شعبة:"أفادني الحسن بن عمارة عن الحكم ـ قال: أحسب ـ سبعين حديثاً فلم يكن لها أصل"

(3)

.

فأحاديث هؤلاء الرواة عند الإمام دوماً معلولة، لأن الغالب على حديثهم الخطأ والغلط، فمن أجل ذلك كان ينهى عن الرواية عنهم والتحديث بحديثهم. وقد ذكر الإمام أبو عيسى الترمذي قال:"سمعت أحمد بن الحسن يقول: كنا عند أحمد بن حنبل فذكروا من تجب عليه الجُمعة، فذكروا فيه عن بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم، فقلت: فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث. فقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا حجاج بن نُصير، حدثنا المبارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبُري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجُمعة على من آواه الليل إلى أهله". قال: فغضب أحمد بن حنبل وقال: استغفر ربَّك، استغفر ربَّك، مرتين"

(4)

.

قال الترمذي: "وإنما فعل هذا أحمد بن حنبل لأنه لم يصدِّق هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده، لأنه لم يعرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والحجاج بن نُصير يضعّف في

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 700.

(2)

ص 212.

(3)

المصدر نفسه 2/ 698.

(4)

جامع الترمذي كتاب العلل، 5/ 697.

ص: 488

الحديث، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً"

(1)

.

وقول أحمد في عبد الله بن سعيد هو أنه منكر الحديث، متروك الحديث

(2)

.

فلما كان الحديث مما تفرد به هذا الراوي، ولم يسمع به أحمد إلا بهذا الإسناد، عظُم ذلك عنده واشتد نكيره على الذي حدثه به، فدل على أن ما تفرد به الراوي الموصوف بشدة الغفلة لا يجوز الاحتجاج به ولا يجوز التحديث به.

قال الترمذي معلِّقاً على هذا الموقف من الإمام أحمد: "فكل من رُوي عنه حديث ممن يتهم، أو يضعّف لغفلته وكثرة خطئه، ولا يُعرف ذلك الحديثُ إلا من حديثه فلا يُحتج به"

(3)

.

(1)

الموضع نفسه.

(2)

الجرح والتعديل 5/ 71.

(3)

جامع الترمذي الموضع نفسه.

ص: 489

‌المبحث الرابع: ما يُخل بضبط الراوي بسبب طريقته في التحمّل

.

أرفع أقسام طرق نقل الحديث السماع من لفظ الشيخ، وهو أن يملي الشيخ أو يحدث من غير إملاء سواء من حفظه أو من كتابه، وتليه القراءة على الشيخ وهو المسمى عرضاً، وهذا بناء على ما صححه ابن الصلاح من تقديم السماع على العرض

(1)

. وكل ما عدا هذين الطريقين من طرق التحمل ـ من إجازة، ومناولة، ومكاتبة، وإعلام، ووصية، ووِجادة ـ لا تخلو من دخول الخلل على مرويات من اعتمدها في الرواية، وكلام من تكلم من الأئمة في بعض الرواة بسبب طرق تحملهم عائد إلى ذلك الخلل. قال الذهبي:"ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه الخلل، ولا سيما في ذلك العصر حيثُ لم يكن بعدُ نقطٌ ولا شكلٌ فتتصحَّف الكلمة بما يُحيلُ المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال"

(2)

. وقد تكلم الإمام أحمد في بعض الرواة بسبب طريقة نقلهم لأحاديث بعض شيوخهم أذكرهم على اختلاف طرق تحملهم:

‌من روى عن شيخه بالإجازة:

الإجازة إذن في الرواية لفظاً أو كتابة تفيد الإخبار الإجمالي في العرف

(3)

، وأرفعها أن يجيز لمعين في معين، كأن يقول: أجزت لك الكتاب الفلاني، وهذا في الإجازة المجردة عن المناولة، ومع كونها دون السماع والعرض لأنهما أبعد منها عن التصحيف والتحريف

(4)

، يتوقف الاحتجاج بها على ثقة المجيز وإتقانه

(1)

انظر: علوم الحديث ص 140، 142.

(2)

سير أعلام النبلاء 7/ 114.

(3)

فتح المغيث 2/ 214.

(4)

فتح المغيث 2/ 216.

ص: 491

وتثبته، وضبط الكتاب المجاز وإتقانه، وثقة الراوي المجاز له

(1)

. وقد تكلم الإمام أحمد في بعض الرواة رووا عن شيوخهم بالإجازة واحتج بروايتهم لبعض الاعتبارات. فمن ذلك:

‌من روى عن شيخه بالإجازة ولم يكن من أهل الحديث

، ومنهم:

‌بشر بن شعيب عن أبيه:

تقدم أن الإمام أحمد روى عن بشر بن شعيب نحواً من سبعين حديثاً مع أنه لم يكن بصاحب حديث، ولا كان سماعه من أبيه أمراً محَقّقاً لدى الإمام أحمد، والمنقول عن الإمام أحمد أن روايته عن أبيه كانت بالإجازة.

قال أبو حاتم الرازي: ذُكر لي أن أحمد بن حنبل سأله ـ يعني بشر ابن شعيب ـ سمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا، قال فقرئ عليه وأنت حاضر؟ قال: لا، قال: فقرأت عليه؟ قال: لا، قال: فأجاز لك؟ قال نعم. وكتب عنه على معنى الاعتبار ولم يحدث عنه"

(2)

. هكذا ذكرها أبو حاتم بصيغة التمريض. فهذه الرواية تفيد أن بشر بن شعيب أخذ عن أبيه إجازة، وأن رواية الإمام أحمد عنه كان للاعتبار به ولم يكن يحدث عنه. لكن قال الذهبي: هذه القصة ليست بصحيحة، فإن أبا حاتم رواها بلا سماع من أحمد بل قال: ذُكر لي أن أحمد سأله. ا. هـ

(3)

. وتعقب الحافظ ابن حجر قول أبي حاتم أن الإمام أحمد لم يحدث عنه وإنما كتب عنه على معنى الاعتبار بأن حديثه عنه ثابت في المسند

(4)

.

(1)

أشار إلى هذه الشروط الحافظ الذهبي سير أعلام النبلاء 7/ 190.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 359.

(3)

ميزان الاعتدال 1/ 318.

(4)

تهذيب التهذيب 1/ 452.

ص: 492

وقال أبو زرعة الرازي: قال لي محمد بن عوف الحمصي

(1)

: "قال لي أحمد ابن حنبل عند ما قدم علينا: تأتي بشر بن شعيب فتسأله أن يخرج إلي كتب أبيه، فأتيته فعرفته مكان أحمد، وعظّمت مكانه عنده فقلت له: إنه يسألك أن تخرج إليه كتب أبيك للنظر فيها. فقال لي: أنا لم أسمع من أبي شيئاً، فأتيت أحمد فأخبرته فردّني إليه وقال: هؤلاء يرون الإجازة سماعاً ويروونه، فأنا أرى احتماله والسماع منه. فأتيت بشراً فسألته أن يخرج ذلك إليه وأعلمته أني قد أعلمته أنك لم تسمع من أبيك شيئاً. فقال لي بشر: فليس الرجل إذاً كما وصفت، ولو كان كما وصفت لم ير الكتابة عني لأني لم أسمع من أبي شيئاً، فأعلمته ما احتج به أحمد وذهبت إليه حتى نظر في كتبه وسمع منه"

(2)

.

فالإمام أحمد تبين عنده أن تحمل بشر من أبيه كان بالإجازة ومع ذلك اعتمدها، وذلك بناء على أمرين:

الأول: ما ذكره في رواية أبي زرعة هذه من أن عادة أهل الشام أنهم يرون الإجازة سماعاً فلا يتهاونون بها.

الثاني: ما ذكره الإمام أحمد في رواية أبي داود: "كتبت عنه قدر سبعين حديثاً، ولم يكن صاحب حديث ولكن كتب أبيه كانت عنده"

(3)

، فذكر علة روايته عنه، وهي كون كتب أبيه كانت عنده، وما دام المقصود من الرواية العلم بصحة نسبة المروي إلى المروي عنه فبأي صفة من صفات الأداء حصل هذا العلم حصل المطلوب، وكتب شعيب كانت معروفة ومضبوطة وكانت عند بشر كما قال الإمام أحمد: نظرت في كتب شعيب، كان ابنه يخرجها إليّ .... ا. هـ

(4)

.

(1)

أبو جعفر الحمصي. قال عنه الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ تقريب التهذيب 6242.

(2)

سؤالات البرذعي ضمن كتاب "أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية" 2/ 747 - 748.

(3)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 266 رقم 306 ج.

(4)

تهذيب الكمال 12/ 518.

ص: 493

وموقف الإمام أحمد هذا من أن رواية بشر عن أبيه كانت بالإجازة موافق لما قاله يحيى بن معين

(1)

، وأبو زرعة الرازي. وقال أبو زرعة: سماع بشر بن شعيب بن أبي حمزة كسماع أبي اليمان إنما كان إجازة

(2)

.

وأما ما ذكره أبو اليمان، من أن بشر بن شعيب قد سمع من أبيه كتبه، وذلك بشهادة أبيه كما رواه أبو زرعة الدمشقي:"أخبرني الحكم بن نافع قال: كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة قال: هذه كتبي قد صححتها فمن أراد أن يأخذها فليأخذها، ومن أراد أن يعرض فليعرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فليسمعها فقد سمعها مني"

(3)

، وقريب منه ما رواه الفسوي عن أبي اليمان أيضاً

(4)

، فيمكن أن يجاب عنه بما ذكره الإمام أحمد من أن أهل الشام كانوا يرون الإجازة سماعاً، فتعبير شعيب عن تحمل ابنه بأنه سماع محمول على هذا جمعاً بينه وبين ما تقدم عن الإمام أحمد عن سماع بشر من أبيه.

من روى عن شيخه بالإجازة مع عدم إحضار الكتاب المجاز، منهم:

أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي وروايته عن شعيب بن أبي حمزة:

قال أحمد عن أبي اليمان: صالح، وقد أكثر عنه

(5)

. واختلفت أقوال الإمام أحمد في طريقة تحمله عن شيخه شعيب بن أبي حمزة، وهي راجعة إلى ثلاث روايات:

(1)

ذكره عنه العلائي في جامع التحصيل ص 146.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 359.

(3)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 434 رقم 1055.

(4)

انظره في سير أعلام النبلاء 7/ 190.

(5)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 277 رقم 306/أ.

ص: 494

الأولى: قال المروذي: "قال أبو عبد الله: شعيب بن أبي حمزة كان لا يكاد يحدث، فلما حضرته الوفاة قال: اجمعوا لي فلاناً وفلاناً، فاجتمع بقية، ويقولون أبو اليمان، وقد ذكروا علي بن عياش، فلا أدري كان أم لا؟ فقال: هذه كتبي ارووها عني، فكان أبو اليمان يقول: حدثني شعيب، ولا أدري كان معهم أم لا؟ "

(1)

.

ومثل هذا رواية ابنه عبد الله

(2)

. وفي رواية أخرى لعبد الله: "قلت كيف سماع أبي اليمان منه؟ قال: كان يقول: أخبرنا شعيب. قلت: فسماع ابنه؟ قال: كان يقول: حدثني أبي. قلت سماع بقية؟ قال شيء يسير

"

(3)

.

فهتان الروايتان تفيدان أن شعيباً أجاز للجماعة الحاضرين رواية كتبه الحاضرة وقت الإجازة، وهذه أعلى أنواع الإجازة المجردة من المناولة ـ أي إجازة لمعين في معين

(4)

ـ إلا أن الإمام أحمد نفى علمه بكون أبي اليمان مع هؤلاء الجماعة أم لا، كأنه لم يثبت عنده نقل الذين ذكروا أن أبا اليمان حضر ذلك المجلس. واختلف عنه في الصيغة التي يذكرها أبو اليمان عند الرواية عن شعيب: هل هي حدثنا أو أخبرنا؟

الثانية: قال أبو بكر الأثرم: "سمعت أبا عبد الله وسُئل عن أبي اليمان، وكان الذي سأله قد سمع منه، فقال له: أي شيء تنبش على نفسك؟ ثم قال أبو عبد الله: هو يقول أخبرنا شعيب، واستحل ذلك بشيء عجيب. قال أبو عبد الله: كان أمر شعيب في الحديث عسراً جداًّ، وكان علي بن عيّاش سمع منه، وذكر

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 132 رقم 233.

(2)

المصدر نفسه 1/ 99 رقم 229.

(3)

المصدر نفسه 2/ 496 رقم 3277.

(4)

علوم الحديث ص 151.

ص: 495

قصة لأهل حمص أُراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه، فقال لهم: لا ترووا هذه الأحاديث عني. قال أبو عبد الله: ثم كلموه وحضر ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارووا تلك الأحاديث عني. قلت لأبي عبد الله: مناولة؟ فقال: لو كان مناولة، لم يعطهم كتباً ولا شيئاً، إنما سمع هذا فقط، فكان ابن شعيب يقول: إن أبا اليمان جاءني فأخذ كتب شعيب مني بعد، وهو يقول: أخبرنا، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لقوم ارووه عني"

(1)

.

فهذه الرواية تفيد أن أهل حمص كلموا شعيباً في أن يأذن لهم أن يرووا عنه كتبه في مجلسين، وحضور أبي اليمان كان في المجلس الثاني، حيث أذن لهم، وليس هناك مناولة للكتب وإنما أحال على كتبه التي سألوه في المجلس الأول الذي لم يحضره أبو اليمان، لكن لما كانت الكتب معروفة أخذها أبو اليمان من بشر بن شعيب فكان يرويها بالإجازة، وهذه الإجازة ظاهرها أنها في غير معين في حق أبي اليمان، وهذا وجه إنكار الإمام أحمد على أبي اليمان، فإن قوله: واستحل ذلك بشيء عجيب قاله على وجه الإنكار كما قال ابن رجب

(2)

.

الثالثة: قال صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت إبراهيم بن الحسين ـ وهو ابن ديزيل ـ يقول: "سمعت أبا اليمان الحكم بن نافع يقول: قال لي أحمد بن حنبل كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأه عليّ، وبعضه أجازه لي، وبعضه مناولة، فقال: قل في كله: أخبرنا شعيب"

(3)

.

(1)

تهذيب الكمال 7/ 149.

(2)

شرح علل الترمذي 1/ 524.

(3)

الكفاية ص 476، تهذيب الكمال 7/ 150. ورواها الخطيب من وجه آخر عن إبراهيم ابن الحسين بن ديزيل.

ص: 496

فهذه الرواية تفيد أن الإمام أحمد شافه أبا اليمان بالسؤال عن كيفية سماعه لكتب شعيب، فذكر أنه سماع، وعرض، وإجازة، ومناولة. ويؤيدها ما رواه أبو زرعة الدمشقي قال:"أخبرني الحكم بن نافع قال: كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة قال: هذه كتبي قد صححتها فمن أراد أن يأخذها فليأخذها، ومن أراد أن يعرض فليعرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني فليسمعها فقد سمعها مني"

(1)

.

وهذه الرواية تقضي على بقية الروايات لأنها من صاحب القصة، وغيرها أخذها الإمام أحمد بواسطة عن صاحب القصة، ثم إنها في الظاهر هي المتأخرة بدليل أنه لا يستقيم من الإمام أحمد سؤاله لأبي اليمان عن كيفية سماعه من شعيب إلا وقد تقدم منه عدم علمه بذلك، وقد كان يقول لا يدري هل كان أبو اليمان حاضراً في مجلس إجازة شعيب أم لا؟ كما في الرواية الأولى فناسب أن تتأخر هذه ـ أي الثالثة ـ عنها. وكذلك ما ورد عنه في الرواية الثانية من إنكاره لأبي اليمان قوله: أخبرنا فيما تحمله من شعيب بإجازة مع عدم حضور الكتب المجازة، وكونه ما أخذ الكتب إلا من بشر بن شعيب، إنما جاء ذلك قَبل مشافهته أبا اليمان بالسؤال عن كيفية سماعه من شعيب أيضاً.

فاتضح أن إنكار الإمام أحمد حين أنكر على أبي اليمان موجه إلى روايته عن شعيب بالإجازة التي لم يصحبها إحضار الكتاب المجاز، ثم تبين له بعدُ أن أبا اليمان قد كان بعض تحمله من شعيب سماعاً، وبعضه عرضاً إلخ كما تقدم.

وأما الحافظ ابن رجب فأجاب بأن حديث شعيب كان معروفاً عندهم، وأذن لهم في روايته عنه، فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته، وحديث أبي اليمان عن

(1)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 434 رقم 1055.

ص: 497

شعيب متفق على تخريجه في الصحيحين

(1)

، فظاهر ما ذهب إليه ابن رجب أن أبا اليمان لم يسمع من شعيب، كأنه لم يعتبر ما رواه ابن ديزيل عن أحمد من أن أبا اليمان قد سمع بعض حديث شعيب منه سماعاً وبعضه عرضاً، ويؤيد كونه سمع منه تصريح أبي اليمان بالتحديث في بعض ما يرويه عن شعيب

(2)

.

من روى عن شيخه مكاتبة:

والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه أو يأذن لمن يثق به بكتبه ويرسله بعد تحريره إلى الطالب أو يكتب له ذلك وهو حاضر، وقد تكون مقرونة بالإجازة وقد تكون مجردة عنها، وأما الأولى فتشبه المناولة المقرونة بالإجازة ـ أي لا يتقدمها من صفات التحمل إلا السماع والعرض، وأما الثانية فقد أجازها كثير من المتقدمين والمتأخرين والقول بالجواز هو المشهور عند أهل الحديث

(3)

. وهذه الصفة في التحمل يدخلها الخلل من الجهة التي يدخل على سائر صفات التحمل ما عدا السماع والعرض، وهو كثرة وقوع التصحيف بها، لأن الكتب كانت في الأولى غير منقوطة ولا مشكولة. ثم هي وإن قيل فيها إنها تشبة المناولة إلا أنها دونها في الحقيقة لأن اليقين غير حاصل في المكتابة بكون الكتاب كتاب المحدث، فقد يكون الخط غير خط المحدث ولا خط من كتبه بحضرته، لأن الخطوط تتشابه، فكلما قوي اليقين بكون الخط خطَ المحدث قوي اعتمادها، وكلما ضعُف هذا اليقين ضعُف الاعتماد. ومن ثم اشترط لصحة الرواية بها معرفة المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان بمعرفة خط الكاتب تحقيقاً أو

(1)

شرح علل الترمذي 1/ 524.

(2)

انظر أمثلة ذلك فيما حرره د. صالح الرفاعي في مسئلة سماع أبي اليمان من شعيب الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 132 - 133.

(3)

علوم الحديث ص 165، فتح الباري 1/ 154، فتح المغيث 3/ 3 - 6.

ص: 498

على الظن الراجح

(1)

.

وقد روى الإمام أحمد بالمكاتبة خارج المسند

(2)

، أما في المسند فلم أقف عليه واحتج أصحاب أحمد لصحة الرواية بها بأن أبا مسهر وأبا توبة كتبا إليه بأحاديث وحدث بها

(3)

. وقد أشار إلى بعض الرواة بأن سماعهم من شيوخهم بالمكاتبة من غير سماع، وجعل هذا سبب وقوع المنكرات في مرويات بعض هؤلاء.

‌وممن ذكر الإمام أحمد أنه روى عن شيخه بالمكاتبة بلا سماع:

1.

‌ يزيد بن أبي حبيب عن الزهري:

قال عبد الله: قال أبي: ولم يسمع يزيد بن أبي حبيب من الزهري، إنما كتب إليه بكتاب، وكان يقول: كَتَب إليّ الزهري

(4)

. وقال أحمد أيضاً: يزيد بن أبي حبيب عن الزهري كتاب، إلا ما سمى بينه وبين الزهري

(5)

أي إلا ما رواه عنه بواسطة.

وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث يزيد بن أبي حبيب عن الزهري، وهو حديث كعب بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يُسافر، لا يسافر إلا يوم الخميس"

(6)

، وقد تابعه يونس عن الزهري

(7)

. ولم أقف على غيره.

وقد أخرج مسلم ليزيد بن أبي حبيب من حديثه عن الزهري، ولم يخرج له البخاري

(8)

.

(1)

المسودة ص 259، شرح الكوكب المنير 2/ 517.

(2)

انظر من أمثلة ذلك في العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله رقم 1143، 1695.

(3)

شرح الكوكب المنير 2/ 516.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 151 رقم 4671.

(5)

المصدر نفسه 1/ 538 رقم 1273.

(6)

المسند 45/ 159 ح 27178.

(7)

انظر: المسند 25/ 59 ح 15781. وهو عند البخاري فتح الباري 6/ 113 ح 2949.

(8)

انظر: تهذيب الكمال 32/ 104.

ص: 499

ولم أقف عن الإمام أحمد أنه نسب يزيد بن أبي حبيب إلى رواية المناكير عن الزهري، فأثر تنصيص الإمام أحمد أنه روى عن الزهري مكاتبة يظهر عند الاختلاف بينه وبين سائر أصحاب الزهري، فرواية من روى عنه سماعاً أو عرضاً مقدمة على روايته

(1)

.

2.

‌ محمد بن كثير المصيصي

(2)

عن معمر:

قال صالح بن أحمد بن حنبل: "قال أبي: محمد بن كثير لم يكن عندي ثقة، بلغنى أنه قيل له: كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إلي إنسان من اليمن"

(3)

.

وقال عبد الله: ذكر أبي محمد بن كثير المصيصي، فضعّفه جداًّ وقال: سمع من معمر ثم بعث إلى اليمن فأخذها فرواها، وضعف حديثه عن معمر جداًّ، وقال: هو منكر الحديث أو قال: يروى أشياء منكرة"

(4)

.

وأنكر الإمام البخاري له حديثاً وقال: "وكان أحمد بن حنبل يحمل على

(1)

وقد خطّأ أبو زرعة رواية ليزيد بن أبي حبيب عن الزهري خالف فيها رواية ابن المبارك عن يونس عن الزهري، فرجح رواية ابن المبارك عليه انظر: علل ابن أبي حاتم 1/ 130.

(2)

ضعفه أحمد، وضعفه في معمر جداً، وقال البخاري: لين جداً، وقال أبو داود: لم يكن يفهم الحديث. ووثقه ابن معين، وابن سعد. وقال ابن عدي: له روايات عن معمر والأوزاعي خاصة عداد لا يتابعه عليها أحد تهذيب الكمال 26/ 331 - 333. وذكر أبو زرعة الرازي أنه دُفع إليه كتاب الأزواعي في كل حديث كان مكتوب حدثنا محمد بن كثير، فقرأه إلى آخره يقول: حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، وهو محمد بن كثير الجرح والتعديل 8/ 70. علق الذهبي على هذه الحكاية فقال: هذا تغفيل يسقط الراوي به ميزان الاعتدال 5/ 144.

وقال الذهبي: مختلف فيه صدوق اختلط بآخره الكاشف 2/ 212 رقم 5126. وقال ابن حجر: صدوق كثير الغلط تقريب التهذيب 6291.

(3)

الجرح والتعديل 8/ 69.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 251 رقم 5109.

ص: 500

محمد بن كثير، ويقول: كتب إلى اليمن حتى حُمل إليه كتاب معمر فرواه"

(1)

.

وعن أحمد أيضاً: "ليس بشيء، يحدث بأحاديث مناكير ليس لها أصل"

(2)

.

فهذه الروايات عن أحمد تدل على أن المصيصي سمع من معمر، ثم اعتمد في الرواية عنه ما بعث إليه من حديث معمر مكاتبة، فالنظر فيمن كتب له كُتب معمر، وهل صُححت بعد نقلها، وهل الذي حملها إليه ثقة يعتمد عليه في عدم العبث بها بالزيادة أو التغيير؟ وحيث إنه ليس له من الحفظ ما يجعله يميز صحيح حديث معمر فقد وقعت له مناكير وروايات لا أصل لها من حديث معمر، وذلك بسبب اعتماده على المكاتبة في نقله لحديث معمر مع ضعف اعتمادها في مثل هذه الحالة بسبب عدم معرفة الناقل والواسطة، والله أعلم.

ولم أقف عن الإمام أحمد على إعلال لحديث رواه المصيصي عن معمر.

‌من روى عن شيخه بالوصية:

والرواية بها غير جائزة لأنها ليست بتحديث لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ولا تتضمن الإعلام لا صريحاً ولا كناية

(3)

، إلا أن يروي بها على سبيل الوِجادة ـ يقول وجدت بخط فلان ـ أو يكون تقدمت من العالم إجازة لمن صارت الكتب له بالوصية

(4)

. ومن الرواة الذين ذكر الإمام أحمد أنهم رووا عن بعض شيوخهم بالوصية:

(1)

علل الترمذي الكبير 2/ 818، وانظر: التاريخ الكبير 1/ 218.

(2)

تهذيب الكمال 26/ 331.

(3)

فتح المغيث 3/ 19 - 20.

(4)

الكفاية في علم الرواية ص 504.

ص: 501

‌عبد العزيز بن أبي حازم فيما رواه عن سليمان بن بلال:

وصفه الإمام أحمد بالفقه وقال: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، ولم يكن يعرف بطلب الحديث إلا كتب أبيه فإنهم يقولون إنه سمعها

(1)

، وقال عنه: أرجو أنه لا بأس به، وقيل له: هو أحب إليك أو الدراوردي؟ فقال: لا، بل هو أحب إليّ، ولكن الدراوردي أعرف منه. ا. هـ

(2)

.

أما ما يتعلق بروايته بالوصية فقال أبو داود: قال أحمد: "له بلية أخرى ـ يعني ابن أبي حازم ـ لم يكن بكثير الحديث، فلما مات سليمان بن بلال أوصى إليه فدفعت كتبه إليه، فأخرج أحاديث كثيرة للناس"

(3)

. وقال في رواية أبي طالب: يقال إن كتب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها، وقد روى عن أقوام لم يكن يعرف أنه سمع منهم. ا. هـ

(4)

.

وقال العقيلي عن الأثرم: "قال سمعت أبا عبد الله يُسأل عن عبد العزيز ابن أبي حازم فقيل: كيف هو؟ قال: أما روايته فيرون أنه سمع من أبيه، وأما هذه الكتب التي عن غير أبيه فيقولون: إن كتب سليمان بن بلال صارت إليه. قلت: وكان يُدلّسها؟ قال: ما أدري أخبرك"

(5)

.

فتلخص من هذه الروايات أن عبد العزيز بن أبي حازم إنما عرف بالسماع من أبيه، أما غير أبيه فلم يكن يعرف بالسماع منه لأنه لم يكن معروفاً بطلب الحديث، فلما أخذ يحدث عن شيوخ لم يكن معروفاً بالسماع منهم، وكان سليمان بن بلال قد

(1)

تهذيب الكمال 18/ 123.

(2)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 221 رقم 197.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

الجرح والتعديل 5/ 382 - 383. وانظر: المعرفة والتاريخ 1/ 429.

(5)

الضعفاء للعقيلي 3/ 774.

ص: 502

أوصى إليه كتبه دلّ ذلك على أنه روى عنهم من تلك الكتب الموصاة له، والرواية بالوصية غير صحيحة، فمن هذا الوجه وصف الإمام أحمد أمره بأنه بلية. لكن مستند الإمام فيما ذكره عن ابن أبي حازم هو بلاغ، ولذلك أجاب بلا أدري لسؤال الأثرم: هل كان ابن أبي حازم يروي تلك الأحاديث على سبيل التدليس؟

والسماع الذي نفاه الإمام أحمد قد أثبته غيره، والمثبت مقدّم على النافي. فروى ابن أبي خيثمة:"قيل لمصعب الزبيري: ابن أبي حازم ضعيف إلا في حديث أبيه؟ فقال: أو قد قالوها؟ أما هو فسمع مع سليمان بن بلال، فلما مات سليمان أوصى إليه بكتبه، فكانت عنده فقد بال عليها الفأر، فذهب بعضها فكان يقرأ ما استبان له ويدَع ما لا يعرف منها، أما حديث أبيه فكان يحفظه"

(1)

. فهذا مصعب الزبيري وهو بلدي ابن أبي حازم يثبت أن ابن أبي حازم سمع مع سليمان بن بلال من المشايخ، فحديثه عنهم بعد موت سليمان بن بلال مما سمع معه من هؤلاء الشيوخ لكن حفظه من كتب سليمان، فروايته لهذه الكتب ليست رواية لما لم يسمع، وحالته كحالة أيوب مع كتب أبي قلابة، فإنه أوصى بها له فجيئ بها إليه فسأل ابن سيرين: هل يرويها؟ قال له نعم، ثم قال بعد ذلك: لا آمرك ولا أنهاك

(2)

قال الخطيب: إن أيوب كان قد سمع تلك الكتب غير أنه لم يحفظها فلذلك استفتى محمد بن سيرين عن التحديث منها. ا. هـ

(3)

.

وقد احتج الجماعة برواية ابن أبي حازم عن غير أبيه كما قال ابن حجر

(4)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 8/ 363، ميزان الاعتدال 3/ 340.

(2)

الكفاية في علم الرواية ص 503 - 504.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

هدي الساري ص 430.

ص: 503

من روى عن شيخه بالوجادة:

وهو رواية الراوي ما وجده من كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه هو أو لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده، ولا له منه إجازة ولا نحوها. قال ابن الصلاح: وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان. ا. هـ

(1)

. فالرواية بها يدخلها ما يدخل المنقطعات من الآفة، ثم قد يكون ما وجده في كتاب الشيخ بخطه ليس هو من حديثه، وإنما ذوكر به ولو أخذ منه سماعاً لتبين له هل هو من حديثه أم لا؟ وقد أنكر يحيى بن معين مرة على علي بن عاصم حديثاً، وقال: ليس هذا من حديثك، إنما ذوكرت به فوقع في قلبك فظننت أنك سمعته ولم تسمعه، وليس هو من حديثك

(2)

. وقال وكيع: لا ينظر الرجل في كتاب لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه

(3)

، أي فيظنه من حديثه.

وقد أعلّ الإمام أحمد حديثاً رواه راوٍ ثقة وعلته كونه أخذه الراوي من كتاب شيخه بلا سماع.

قال الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة؟ فقال: كتبوه من كتاب معاذ ولم يسمعوه منه. قلت: ههنا إنسان يزعم أنه قد سمعه من معاذ، فأنكر ذلك. قال: من هو؟ قلت: إبراهيم بن عرعرة، فتغير وجهُه ونفض يدَه، وقال: كذب وزور، سبحان الله ما سمعوه منه! إنما قال فلان: كتبناه من كتابه، ولم يسمعه، سبحان الله واستعظم ذلك منه"

(4)

.

(1)

علوم الحديث ص 168.

(2)

شرح علل الترمذي 1/ 534.

(3)

الكفاية في علم الرواية ص 505.

(4)

تاريخ بغداد 6/ 149، تهذيب الكمال 2/ 180.

ص: 504

هذا الحديث رواه الطبراني

(1)

من طريق المعمري، والرامهرمزي

(2)

من طريق سليمان بن أيوب الكحال، كلاهما عن إبراهيم بن عرعرة ثنا معاذ بن هشام قال: وجدت في كتاب أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى. وهو حديث غريب من حديث قتادة.

وقد أعله الإمام أحمد بأن الذين رووا الحديث عن معاذ بن هشام رووه وجادة من كتاب معاذ بن هشام، ولم يسمعوه، ومن هذا الوجه دخلته النكارة، واعتُرض على هذا الإعلال بأن إبراهيم بن عرعرة قد رواه عن معاذ سماعاً، كما صرّح بالتحديث في رواية الطبراني والرامهرمزي، فلم يقبل الإمام أحمد هذا الاعتراض لأن غير ابن عرعرة قد خالفه وقال: كتبناه من كتاب معاذ أي من غير سماع، ولم يسم هذا الغير ولم أقف على من رواه عن معاذ على الوجه الذي ذكره الإمام أحمد.

وقد مال علي بن المديني إلى نحو هذا الإعلال قال: "روى قتادة حديثاً غريباً لا يحفظ عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ وهو حاضر، لم أسمعه منه عن قتادة. وقال لي معاذ: هاته حتى أقرأه، قلت: دعه اليوم، قال: حدثنا أبو حسان، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى. قال: وما رأيت أحداً واطأه عليه. قال علي بن المديني: هكذا هو في الكتاب"

(3)

.

فذكر أنه نسخه من كتاب معاذ وهو حاضر، ولم يسمعه، وأشار إلى غرابته، ولعل ابن المديني لم يحرص على سماعه من معاذ لأن معاذاً نفسه إنما رواه

(1)

المعجم الكبير 12/ 205 رقم 12904.

(2)

المحدث الفاصل ص 499 في باب من قال: وجدت في كتاب فلان.

(3)

تاريخ بغداد 6/ 149.

ص: 505

عن أبيه وجادة، فإنه يقول: وجدت في كتاب أبي، ولم يذكر سماعاً.

وقد اعترض الخطيب على إنكار عدم سماع ابن عرعرة لهذا الحديث من معاذ قال: وما الذي يمنع أن يكون إبراهيم بن محمد بن عرعرة سمع هذا الحديث من معاذ مع سماعه منه غيره؟

(1)

. ووافقه الذهبي وقال: صدق أبو بكر، وإبراهيم من كبار طلبة الحديث المعنيين به

(2)

.

ويندفع هذا الاعتراض ويتأيد ما ذهب إليه الإمام أحمد بأن البيهقي قد روى عن المعمري ـ أحد من روى الحديث عن ابن عرعرة ـ من غير طريق الطبراني، فقال فيه: ثنا ابن عرعرة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً، وقال: سمعته من أبي ولم يقرأه قال: فكان فيه عن قتادة

فذكره

(3)

. فظهر أن ابن عرعرة لم يسمع الحديث من معاذ، وإنما أخذه من كتابه كما قال الإمام أحمد، فاستقام وجه إعلاله للحديث، والله أعلم.

وقد روي مثلُ متنِ الحديث من مرسل طاووس، رواه ابن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة

(4)

، وذكره البيهقي أنه في جامع الثوري عن ابن طاووس به مرسلاً أيضاً

(5)

. وقد رواه الطبراني من طريق عمر بن رياح، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، ثم يطوف ويصلي ركعتين لطوافه، ويرجع إلى منى قبل أن يدركه الصبح]

(6)

.

(1)

الموضع نفسه.

(2)

سير أعلام النبلاء 11/ 482.

(3)

السنن الكبرى 5/ 146.

(4)

مصنف ابن أبي شيبة 3/ 288 ح 14284.

(5)

الموضع السابق.

(6)

المعجم الأوسط 6/ 197 ح 6176.

ص: 506

وعمر بن رياح قال فيه الفلاس دجال، وقال ابن عدي: يروي عن ابن طاووس بالبواطيل ما لا يتابعه أحد عليه

(1)

. فالصحيح أنه مرسل.

ومثال آخر ما تقدم عن الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو زرعة الدمشقي:

قال أبو زرعة: قلت له ـ يعني أحمد بن حنبل ـ: فحديث عطاء بن يسار، عن ميمونة ـ حدثت به أبا عبد الله ـ أعني في المسح أيضاً؟ قال: ذاك من كتاب. قلت لأبي عبد الله: أي شيء ذهب أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاث ويوم وليلة؟ قال: لهم فيه أثر، وقال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل: حديث خُزيمة بن ثابت مما لعله أن يدل على ـ يعني حجة لهم، قوله: ولو استزدته لزادني"

(2)

.

وحديث عطاء بن يسار رواه أبو بكر الحنفي، عن عمر بن إسحاق بن يسار

ـ أخي محمد بن إسحاق بن يسار ـ قال: قرأت كتاباً لعطاء بن يسار مع عطاء بن يسار قال: سألت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح، قالت: قلت: يا رسول الله! كل ساعة يمسح الإنسان على الخُفين ولا يخلعهما؟ قال: "نعم". أخرجه الدارقطني

(3)

.

وهذا الحديث لم يقبله الإمام أحمد لأنه من كتاب، أي هو وجادة، وإن كان قرئ بحضرة صاحب الكتاب، لكن ليس فيه أنه أجازه له، فقد يكون أصل الحديث أخذه مذاكرة فلم ير أن يجيز للحاضرين روايته. ففي صنيع الإمام أحمد هذا رد لما رواه الراوي بطريق الوجادة، وهو الشاهد.

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1707.

(2)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 631 رقم 1824، 1826 - 1827. وانظر: الإمام في أحاديث الأحكام 2/ 194، تنقيح التحقيق 1/ 188 - 189. وتقدم في ص 131.

(3)

السنن 1/ 199.

ص: 507

‌وممن تكلم في حديثه عن شيخه بأنه كتاب بلا سماع:

1.

‌ الحكم بن عُتيبة عن مِقسم:

جعله الإمام أحمد أثبت الناس في إبراهيم

(1)

، وفي سماعه من مِقسم مولى ابن عباس كلام. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: "الذي يصحح الحكم عن مقسم أربعة أحاديث ثم ذكرها. قال عبد الله: فما روى غير هذا؟ قال: الله أعلم، يقولون كتاب، أرى حجاجاً روي عنه عن مقسم عن ابن عباس نحواً من خمسين حديثاً"

(2)

.

وقال أبو داود: "ثنا أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: لم يسمع الحكمُ حديثَ مِقسم في الحجامة في الصيام ـ يعني حديث شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم"

(3)

. قلت لأحمد: رواية الحكم عن مِقسم عمّن أخذه؟ قال: يقولون عن كتاب"

(4)

.

وقال عبد الله: "حدثني أبي قال: سمعت يحيى قال: قال شعبة: لم يسمع

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 352 رقم 5557.

(2)

المصدر نفسه 1/ 536 رقم 1269.

(3)

أخرجه النسائي السنن الكبرى 2/ 234 - 235 ح 3226، 3227، والطيالسي ص 353 ح 2698، وابن الجعد مسند ابن الجعد 62 ح 318، وأحمد المسند 4/ 71 ح 2186، 4/ 324 ح 2536، 4/ 358 ح 2594، 5/ 279 ح 3211، وابن أبي شيبة 2/ 308 ح 9314،

وابن الجارود 2/ 37 ح 388. وتابعه يزيد بن أبي زياد عن مقسم، عن ابن عباس به. رواه النسائي السنن الكبرى 2/ 234 ح 3225، 3226، وأحمد المسند 4/ 256 ح 2589، والطحاوي شرح معاني الآثار 2/ 101، والطبراني المعجم الكبير 11/ 402 ح 12137. قال النسائي: يزيد بن أبي زياد لا يحتج به والحكم لم يسمعه من مقسم. وفي بعض الروايات عن الحكم وعن يزيد زيادة: محرم، أي وهو صائم محرم.

ولفظ الحديث ثابت من طريق آخر عن ابن عباس: أخرجه البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس فتح الباري 4/ 174 ح 1938، 1939.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 446 رقم 2030.

ص: 508

الحكم حديث مِقسم في الحجامة في الصيام عن مِقسم"

(1)

.

فهذا الحديث رواه الحكم عن مِقسم من كتاب، ولم يسمعه منه. وله عنه غير هذا الحديث كلها أخذها من كتاب ما عدا الأربعة التي ذكرها شعبة

(2)

، وقد تقدم عن الإمام أحمد أن حجاج بن أرطاة روى عن الحكم عن مقسم نحواً من خمسين حديثاً، وخرّج عدداً منها أحمد في المسند

(3)

من طريق حجاج ومن طريق غيره عن الحكم.

ومع رواية الحكم لها وجادة فقد قدمه الإمام أحمد على يزيد بن أبي زياد في مِقسم لثقته وإتقانه.

قال أبو داود: "قلت لأحمد: يزيد ـ يعني ابن أبي زياد أحب إليك عن مِقسم أو الحكم؟ قال: الحكم في كل شيء. قلت لأحمد: ذكرتَ أن الحكم في

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 93 رقم 4333.

(2)

وقد ذكرها الإمام أحمد العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 536 رقم 1269. وذكر علي بن المديني، عن القطان، عن شعبة قال: لم يسمع الحكم من مِقسم إلا خمسة أحاديث جامع الترمذي 2/ 406.

(3)

انظر: ح 1959: ذكر الأرنؤوط ما يشهد له، ح 1966: تفرد به من طريق حجاج عنه، وضعفه الأرنؤوط، ح 2051: توبع عن ابن عباس متابعة قاصرة، ح 2079: تابعه منصور عن مقسم، ح 2099: توبع عن ابن عباس متابعة قاصرة، ح 2185: له طرق عن ابن عباس ذكرها الأرنؤوط، ح 2227: توبع عن ابن عباس أيضاً، ح 2230: تفرد به وضعفه الأرنؤوط، ح 2231: وله شواهد، ح 2232: ولم يتابع، ح 2253: له شاهد، ح 2255: تابع الحكم فيه ميمون بن مهران عن مقسم، ح 2284: تابع الحكم حسين بن عبد الله الهاشمي عن عكرمة عن ابن عباس ح 2357، ح 2306: توبع من طريق عطاء عن ابن عباس ح 2701، ح 2316: وله شواهد، ح 2507: توبع الحكم في بعضه من طريق سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس ح 2082، وفي رواية الحكم هذه تصحيف وهو من آثار الرواية من الصحف، ح 2620: وله شاهد، ح 2899: توبع الحكم انظر: ح 2095، ح 3286، ح 3288: وكلا الإسنادين مقرون بغيرهما، ح 3347: توبع في ح 2639.

ص: 509

مقسم أحب إليك منه ـ يعني من يزيد، والحكم سمع من مِقسم أحاديث؟ قال: أربعةً سمع منه. قلت: فكيف تختار الحكم عليه؟ فقال: الحكم لا يُقاس إليه، يزيد يختلف عنه جداًّ"

(1)

.

ولعل وجه تقديم الإمام أحمد للحكم على يزيد بن أبي زياد في مقسم مع كون روايته عنه كتاب وليست بسماع أن معظم أحاديث الحكم عن مِقسم لها أصل عن ابن عباس أو غيره، وما ذلك إلا لثقته وإمامته.

ولم يخرج الشيخان شيئاً من حديث الحكم بن عتيبة عن مقسم

(2)

.

2.

‌ أبو الأحوص سلاّم بن سُليم الحنفي عن أبي إسحاق السبيعي:

وأبو الأحوص وثقه الإمام أحمد، قال عبد الله: كان أبي إذا رضي عن إنسان وكان عنده ثقة حدّث عنه وهو حي، فحدثنا عن أبي الأحوص وهو حي. ا. هـ

(3)

. وربما قال: هو أثبت من عبد الرحمن بن مهدي في حديث شعبة

(4)

.

وذكر الأثرم: "قلت لأبي عبد الله: وروى ـ أي محمد بن معاوية المكي ـ عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً" فتبسّم كالمتعجب، ثم قال: إنما هذا زعموا أن حفصاً رواه عن الأعمش، عن أبي إسحاق، وأرى الأعمش أخطأ فيه، وأبو الأحوص إنما هو كتاب عن أبي إسحاق، من أين يحتمل مثل هذا؟ "

(5)

.

هذا الحديث رواه حفص بن غياث عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن

(1)

الموضع نفسه.

(2)

انظر: تهذيب الكمال 7/ 115.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 238 رقم 310.

(4)

المصدر نفسه 2/ 362 رقم 2607.

(5)

تاريخ بغداد 3/ 272 - 273.

ص: 510

أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، عن عبد الله بن مسعود. أخرجه الترمذي

(1)

، وابن ماجه

(2)

، وأحمد

(3)

، وابن أبي شيبة

(4)

، والدارمي

(5)

، وأبو يعلى

(6)

، والبزار

(7)

، والطبراني

(8)

وغيرهم من طرق عن حفص به، ولفظه:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"، قيل ومن الغرباء؟ قال "النزاع من القبائل".

وقال أحمد في رواية حنبل إن هذا الحديث منكر

(9)

، ولم يبين وجه النكارة. والرواية المسوقة هنا عن الأثرم وضحت ذلك حيث قال:"وأُرى الأعمش أخطأ فيه"، فجعل الخطأ من الأعمش، وذلك أنه تفرد به من بين أصحاب أبي إسحاق، وليس من المعروفين بكثرة الرواية عنه، وقد قال ابن المديني: الأعمش يضطرب في حديث أبي إسحاق

(10)

.

وإنما جعل الإمام أحمد الخطأ من الأعمش ولم يجعله من حفص بن غياث، لأن حفصاً قد توبع عن الأعمش: تابعه أبو خالد الأحمر

(11)

، ويوسف بن خالد على ما ذكره البزار. قال البزار: هذا الحديث لا نعلم رواه عن أبي إسحاق، عن

(1)

الجامع 5/ 18 ح 2629.

(2)

السنن 2/ 1320 ح 3988.

(3)

المسند 6/ 325 ح 3784.

(4)

مصنف ابن أبي شيبة 7/ 83 ح 34366.

(5)

سنن الدارمي 2/ 311.

(6)

مسند أبي يعلى 5/ 8 ح 4954.

(7)

مسند البزار 5/ 433 ح 2069.

(8)

المعجم الكبير 10/ 99 ح 10081.

(9)

المنتخب من العلل للخلال ص 57 رقم 11.

(10)

شرح علل الترمذي 2/ 711.

(11)

أخرجه ابن عدي الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1130، والسهمي تاريخ جرجان 1/ 216.

ص: 511

أبي الأحوص مسنداً إلا الأعمش، ورواه عن الأعمش أبو خالد ويوسف بن خالد وغيرهما. ا. هـ

(1)

.

وأما رواية أبي الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق فهي متابعة للأعمش، لكن أعلها الإمام أحمد بأن رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق إنما هي كتاب، فدل على أن التحمل من كتاب بدون سماع قد يعتبر علة عند الإمام أحمد. وهذا الإعلال إنما يستقيم على فرض صحة الرواية عن أبي الأحوص، فإن الراوي عنه ـ وهو محمد بن معاوية النيسابوري المكي سئل الإمام أحمد عنه فقال:"نعم الرجل يحيى بن يحيى"، يُورِّي ولا يريد التصريح بالطعن. وعن الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذُكر محمد بن معاوية النيسابوري فقال: رأيت أحاديثه أحاديث موضوعة. ا. هـ

(2)

.

والشاهد أن الإمام أحمد نص على أن رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق إنما هي كتاب، وأن هذه قضية يمكن أن تعلّ بها الروايات التي جاءت من هذا الطريق. ولم أر هذا لغير الإمام أحمد، بل في صحيح البخاري تصريح أبي الأحوص بالتحديث من أبي إسحاق

(3)

.

وقد أخرج الشيخان حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق كما رمز لذلك المزي

(4)

.

3.

‌ عمرو بن شعيب عن أبيه:

وقال عبد الملك بن عبد الحميد: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: عمرو

(1)

مسند البزار 5/ 433.

(2)

الجرح والتعديل 8/ 103 - 104.

(3)

انظر: صحيح البخاري 13/ 462 ح 7488، 6/ 160 ح 3034 - مع فتح الباري.

(4)

تهذيب الكمال 12/ 283.

ص: 512

ابن شعيب له أشياء مناكير، إنما نكتب من حديثه نعتبره، فأما أن يكون حجة فلا"

(1)

.

وقال البخاري: "رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه"

(2)

.

وقال أبو داود: "سمعت أحمد قال: ما أعلم أحداً ترك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قلت لأحمد: يُحتج بحديث عمرو بن شعيب ما كان عن غير أبيه؟ قال: لا أدري"

(3)

.

فنفى الإمام أحمد الاحتجاج به، ثم نقل عنه ما يفيد الاحتجاج به، وهذا يدل على تردده فيه، وقد جاء هذا التردد صريحاً في رواية الأثرم:

قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن عمرو بن شعيب فقال: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه، ومالك يروي عن رجل عنه"

(4)

. فالتردد في الاحتجاج به واضح، وفي هذه الرواية تقوية الإمام أحمد لعمرو بن شعيب بدليل رواية مالك عن رجل عنه، وهو من قرائن تقوية الرواة عنده

(5)

.

وقال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر له عمرو بن شعيب فقال: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاؤوا تركوه"

(6)

.

(1)

الضعفاء للعقيلي 3/ 991.

(2)

التاريخ الكبير 6/ 342 - 343.

(3)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 231 رقم 218.

(4)

الجرح والتعديل 6/ 238.

(5)

شرح علل الترمذي 1/ 977.

(6)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 230 رقم 216.

ص: 513

قال الذهبي معلقاً على هذه الرواية: هذا محمول على أنهم يترددون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على التشهي. ا. هـ

(1)

.

وأما ما يتعلق بسماعه من أبيه فروي عن الإمام أحمد روايتين:

أولاهما: قال أبو داود: "قلت لأحمد: عمرو بن شعيب عن أبيه، يقال كتاب؟ قال: نعم"

(2)

. فهذه تفيد أن روايته عن أبيه وجادة.

الثانية: قال محمد بن علي الجوزجاني الورّاق: "قلت لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئاً؟ قال: يقول: حدثني أبي. قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أُراه سمع منه"

(3)

. فهذه تفيد أنه قد سمع من أبيه، ولكنها لا تنفي أن بعض حديثه عن أبيه وجادة. فيجمع بين الروايتين بأن حديثه عن أبيه بعضه سماع وبعضه وِجادة، فحيث صرّح بالتحديث فهو مما سمع، وحيث روى بـ "عن" احتمل أن يكون من الصحيفة

(4)

.

وهذا الجمع هو ما ذهب إليه أبو زرعة الرازي حيث قال: "روى عنه الثقات مثل أيوب السخيتاني، وأبي حازم، والزهري، والحكم بن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، وقال: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر، وعامة هذه المناكير الذي كذا يروى عن عمرو بن شعيب إنما هي عن المثنى بن الصباح، وابن لهيعة والضعفاء"

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 5/ 168.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 447 رقم 2033.

(3)

تهذيب الكمال 22/ 68 - 69.

(4)

انظر: تهذيب التهذيب 8/ 51.

(5)

الجرح والتعديل 6/ 239. وتعقب الذهبي كلامه الأخير بأنه يأتي الثقات عنه أيضاً بما ينكر سير أعلام النبلاء 5/ 169.

ص: 514

وقد ذهب جمع من الحفاظ إلى أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه وجادة، منهم: ابن معين في رواية عباس عنه قال: إذا حدّث ـ أي عمرو بن شعيب ـ عن أبيه عن جده فهو كتاب، ويقول أبي عن جدي فمن هنا جاء ضعفه أو نحو هذا القول فإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو عن سليمان بن يسار، أو عن عروة فهو ثقة عن هؤلاء أو قريب من هذا الكلام

(1)

. لكن روى عنه ابن أبي خيثمة أنه أثبت له السماع بدليل حديث رواه أيوب عنه

(2)

.

ومنهم علي بن المديني: قال ابن أبي شيبة: وسألت علياً عن عمرو بن شعيب، فقال: ما روى عنه أيوب، وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو، عن أبيه، عن جده فذلك كتاب وجده، فهو ضعيف

(3)

.

ومع كون روايته عن أبيه وجادة إلا أنهم ذكروا أن كتابه صحيح، وهو كتاب عبد الله بن عمرو بن العاص المسمي الصحيفة الصادقة

(4)

، فقد روى الساجي عن ابن معين:"عمرو بن شعيب ثقة في نفسه، وما روى عن أبيه، عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف من قبيل أنه مرسل، وجَد شعيب كتب عبد الله بن عمرو فكان يرويها عن جده إرسالاً، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو غير أنه لم يسمعها"

(5)

. وما نفاه من سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو قد أثبته الإمام أحمد في رواية محمد بن علي الجوزجاني حيث

(1)

تاريخ ابن معين ـ برواية الدوري 2/ 446.

(2)

انظر: تهذيب التهذيب 8/ 53.

(3)

سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني ص 104.

(4)

انظر: سير أعلام النبلاء 5/ 176.

(5)

تهذيب التهذيب 8/ 54.

ص: 515

قال: أُراه سمع منه. وقد جاءت أحاديث ووقائع صريحة في أن شعيب قد سمع جده عبد الله، ذكرها الذهبي

(1)

، وابن حجر

(2)

. لكن الخلاف قائم في هل سمع منه جميع ما روى عنه أم سمع بعضه والباقي صحيفة، والوجه الثاثي هو الذي أظهره ابن حجر

(3)

.

وممن ذكر أن كتابه صحيح علي بن المديني. قال ابن حجر: فإذا ثبت أن كتبه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة وهو أحد وجوه التحمل والله أعلم. ا. هـ

(4)

.

ومع صحة كتبه واعتبار تحمله وجادة صحيحة فقد انحط حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده لدى الحفاظ عن ربتة مطلق الاحتجاج من أجل الوجادة، لأن الرواية بالوجادة بلا سماع يدخلها التصحيف فإن الصحف في ذلك العصر لم تكن مشكولة ولا منقوطة، بخلاف الأخذ من أفواه الرجال، وقد تكون المناكير التي أشار إليها الإمام أحمد في حديثه راجعة إلى هذا أيضاً، والله أعلم.

ولم أقف على حديث لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أعله الإمام أحمد من أجل الوجادة، كما لم أقف على شيء من مناكيره التي أشار إليها.

مخرمة بن بكير عن أبيه:

قال أبو طالب: "سألته ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن مخرمة بن بكير بن عبد الله ابن الأشج، قال: هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما روى من كتاب أبيه"

(5)

.

(1)

سير أعلام النبلاء 5/ 170 - 174.

(2)

تهذيب التهذيب 5/ 51 - 52.

(3)

المصدر نفسه 5/ 52.

(4)

الموضع نفسه.

(5)

المراسيل 831.

ص: 516

فروايته عن أبيه وِجادة، أو على أرفع الأحوال وصية. ولم أقف على حديث له عن أبيه أعله الإمام أحمد بأن سماعه من أبيه وجادة

(1)

.

إذا كان الشيخ يحدث من كتاب غيره وهو غير حافظ لحديثه:

الأصل في المحدث إذا رام أداء شيء مما تحمله بالسماع أو القراءة أو غيرهما أن يروي من أصله الذي تحمل منه أو من الفرع المقابَل المقابَلَة المتقَنَة

(2)

، وأما إذا حدث من كتاب غيره وهو غير حافظ لحديثه فقد اختلفوا، فروي عن أيوب أن جرير بن حازم كان يقرأ عليه كتاباً لأبي قلابة، والنسخة ليست نسخة أيوب بل هي لجرير، وكان أيوب يقول: فيه ما أحفظه وفيه ما لا أحفظه؛ ولما أخذ اللصوص كتب محمد بن بكر البرساني نسخ كتب محمد بن عمرو بن جبلة، وكذلك روي عن ابن جريج والإسماعيلي جوازه

(3)

. وذكر الخطيب أن عامة أصحاب الحديث يمنعون من ذلك وإن كان كتاب الغير أصلاً لشيخه لكن ليس فيه سماعه، أو كان نسخة تسكن نفسه إلى صحتها. وذهب الخطيب إلى جوازه إذا

(1)

لكن وقع عند النسائي في السنن الكبرى 2/ 166 حديثاً أخطأ فيه، والخطأ راجع إلى نوع من التصحيف، وهو من آثار الرواية من الكتب.

قال النسائي: بلغني عن ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت سليمان بن يسار أنه سمع الحكم الزرقي يقول: حدثتني أمي "أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فسمعوا راكباً يصرخ يقول: ألا، لا يصومنّ أحدٌ فإنها أيام أكْلٍ وشُربٍ". قال أبو عبد الرحمن: ما علمت أن أحداً تابع مخرمة على هذا الحديث: عن الحكم الزُّرَقي والصواب: مسعود بن الحكم. ثم قال النسائي: أنبأ أحمد بن الهيثم، قال: حدثنا حرملة، قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو، أن بكيراً حدثه عن سليمان بن يسار، أن مسعود بن الحكم حدثه عن أمه أنها قالت: "مرّ بنا راكب ونحن بمنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس: لا تصومن هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، فقالت أختي: هذا علي بن أبي طالب قلت أنا: بل هو فلان].

(2)

فتح المغيث 3/ 134.

(3)

الكفاية في علم الرواية ص 377 - 378.

ص: 517

عرف الراوي أن الأحاديث التي تضمنتها النسخة هي التي سمعها من الشيخ وسكنت نفسه إلى صحة النقل بها وسلامتها من دخول الوهم فيها

(1)

.

أما الإمام أحمد فقد رُوي عنه أنه قال: ينبغي للناس أن يتقوا هذا

(2)

.

وقد أنكر على بعض الرواة تحديثهم من كتب غيرهم، من ذلك ما ذكره المروذي:"سمعت أبا عبد الله قال: ما بالكوفة مثل هنّاد بن السّري، وهو شيخهم، فقيل له: هو يحدث من كتب وراّقه. فحعل يسترجع ثم قال: إن كان هكذا لم يُكتب عن هنّاد شيء"

(3)

.

وكذلك أنكر على عبد العزيز الدراوردي تحديثه من كتب الناس:

قال أبو طالب: "سُئل أحمد بن حنبل عن عبد العزيز الدراوردي فقال: كان معروفاً بالطلب، وإذا حدّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدّث من كتب الناس وهِم، كان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قلَب حديث عبد الله العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر"

(4)

. ويظهر أن هذا الذي وقع منه من قلب حديث عبيد الله العمري منشأه تحديثَه من كتب غيره، فإن تصحيف عبد الله بعبيد الله سهل، فهذا من الآثار السيئة للتحديث من كتب الغير.

وكذلك ترك حفص بن سليمان الأسدي المقرئ، لأنه كان يستعير كتب الناس فينسخها. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان ـ يعني أبا عمرو القارئ ـ متروك الحديث

(5)

. وروى حنبل مثل ذلك عنه

(6)

. ويظهر أن دليل تركه

(1)

الموضع نفسه.

(2)

الموضع نفسه، وانظر: شرح علل الترمذي 1/ 513.

(3)

شرح علل الترمذي 1/ 513.

(4)

الجرح والتعديل 5/ 395 - 396، المعرفة والتاريخ 1/ 429.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 380 رقم 2698.

(6)

تاريخ بغداد 8/ 187.

ص: 518

لحديثه هو ما رواه عن يحيى بن سعيد أن شعبة أخبره قال: أخذ مني حفص ين سليمان كتاباً فلم يرده، قال: وكان يأخذ كتب الناس فينسخها

(1)

.

تتمة:

قد يكون الراوي موصوفاً بسوء الأخذ عن مشايخه لكن لعدم وجود المناكير في أحاديثه لا يؤثر ذلك في حديثه ولا في ضبطه فلا تعل مروياته بسبب طريقته في التحمل، وموقف الإمام أحمد من عبد الله بن وهب ومن حديثه يعتبر نموذجاً لهذا الأمر، فقد كان عبد الله بن وهب موصوفاً بسوء الأخذ، يدل على ذلك عدة أمور، منها:

1.

أنه كان يعرض له على ابن عيينة وهو نائم، فمن أجل ذلك تركه الإمام أحمد ولم يكتب عنه. وهذا النوع من التساهل في التحمل يجعل رواية المتصف به غير مقبولة

(2)

. قال عبد الله: "قال أبي: ورأيت عبد الله بن وهب بمكة رأيته رجلاً خفيفَ اللحية، قال أبي: فذكرتُ أنه كان يعرض له على ابن عيينة وهو نائم فتركته. قال أبي: وبلغني أنه كان لا يدخل في مصنفه من ذاك العرض شيئاً قال أبي: ثم كتبت بعدُ عن رجل عنه"

(3)

.

وقد روى الحميدي مثل هذا في طريقة أخذ ابن وهب عن جرير بن حازم الرازي فقال الحميدي: "رأيت ابن وهب عند جرير الرازي وجرير يحتبي نائم مثقل، وابن وهب نائم مثقل، وكاتبه الأصبغ بن فرج يقرأ على جرير ويمر مر السهم في القراءة وجرير نائم وابن وهب نائم"

(4)

.

(1)

الجرح والتعديل 1/ 140، وانظر: العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 77 رقم 4257.

(2)

انظر: فتح المغيث 2/ 99.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 130 رقم 4556.

(4)

المعرفة والتاريخ 2/ 183.

ص: 519

2.

أنه كان يروي بالإجازة بدون إحضار الكتاب المجاز وبدون اطلاع المجيز على المجاز. قال أبو داود: "سمعت أحمد يقول: بلغني أن ابن وهب جاء إلى ابن عيينة فقال: يا أبا محمد! ما عرض عليك ابن أختي أول من أمس هو لي سماع"

(1)

. ومثله للمروذي: قال أحمد: "وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى ابن وهب عند ابن عيينة فقال له: الكتب التي عرضها عليك ابن أخي أرويها عنك؟ "

(2)

.

والذي أخبر الإمام أحمد هو يحيى بن معين، فقد ذكر أنه حضر القصة

(3)

، وذكر ابن أبي يحيى أنه سمع رجلاً يقول ليحيى بن معين: إن أحمد حدث عنك أنك رأيت ابن عيينة أتاه ابن وهب بكتب فقال: أحدث بها عنك؟ فقال برأسه أي نعم ولم يتكلم. وفي رواية: قال له: يا أبا محمد الذي عرض عليك أمس فلان أجزها لي قال: نعم. وفي رواية أخرى أن ابن معين قال: يا شيخ هذا والريح بمنزلة، ادفع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه. ا. هـ

(4)

.

3.

أنه كان يأخذ الكتاب مما لم يسمعه، قاله المروذي عن أحمد

(5)

. وهذه إذا كان هناك إذن بالرواية فهي إجازة وإلا فهي وجادة.

فهذه الروايات عن أحمد وغيره تدل على نماذج من طريقة ابن وهب في التحمل والتي عيبت عليه، والتساهل واضح في مثل هذا التحمل، وهذا الذي أدّى الإمام أحمد إلى عدم الرواية عن ابن وهب، ثم لما تبين له أمره واستقامة حديثه، وأنه في هذا التساهل كان ماشياً على مذهب أهل بلده في تجويزهم قول:

(1)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 245 رقم 255.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 49 رقم 27.

(3)

التاريخ له ـ برواية الدوري 2/ 336.

(4)

أخرج الروايات كلها ابن عدي في الكامل 4/ 1518.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 162 رقم 281.

ص: 520

ثنا من غير صحة السماع

(1)

روى عن رجل عنه.

وقال أحمد في رواية أبي طالب الفضل بن زياد: "عبد الله بن وهب صحيح الكتب عن مشايخه الذين روى عنهم، يفصل السماع من العرض، ما أصح حديثه وأثبته! قيل له: أليس كان يسيء الأخذ؟ قال: كان سيءَ الأخذ الحق، ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحاً"

(2)

.

فهذا يدل على أن طريقته في التحمل لم تؤثر في حديثه حيث لم توجد مناكير عنه، ولعل ذلك راجع إلى كونه لم يُدخل في مصنفه من العرض السيئ شيئاً كما ذكره أحمد بلاغاً، قال عبد الله:"قال أبي: وبلغني أنه كان لا يدخل في مصنفه من ذاك العرض شيئاً"

(3)

. وأيضاً كان يقول فيما لم يسمعه: قال حيوة، قال فلان

(4)

، فيميزه من السماع.

وفي هذا المعنى يقول الحافظ الذهبي في ترجمة ابن وهب: "وقد تمَعقَل بعضُ الأئمة على ابن وهب في أخذه للحديث، وأنه كان يترخص في الأخذ، وسواء ترخص ورأى ذلك سائغاً، أو تشدّد، فمن يروي مئة ألف حديث ويَندُر المنكرُ في سعة ما روى فإليه المتنهى في الإتقان"

(5)

. وذلك أن أبا زرعة قال: نظرت في نحو ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر فلا أعلم أني رأيت حديثاً له لا أصل له

(6)

. وقال ابن عدي: لا أعلم له حديثاً منكراً إذا حدث عنه ثقة من الثقات

(7)

.

(1)

قاله الإسماعيلي عن أهل مصر فتح الباري لابن رجب 5/ 480، وانظر: فتح المغيث 2/ 99.

(2)

المعرفة والتاريخ 2/ 183، الجرح والتعديل 5/ 189.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله الموضع نفسه

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره الموضع نفسه.

(5)

سير أعلام النبلاء 9/ 228.

(6)

الجرح والتعديل 5/ 190.

(7)

الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 1521.

ص: 521

‌المبحث الخامس: الإعلال بالطعن في الراوي بما يخل بضبطه لكتابه

.

‌المطلب الأول: أهمية حفظ الكتاب وتقديمه على حفظ الصدر عند الإمام أحمد

.

حرص رواة الحديث على كتابة مروياتهم وعولوا على تدوينها في الصحف خشية ضياعها ونسيانها خاصة بعد أن انتشرت الروايات وطالت الأسانيد، وكثرت أسماء الرجال وكناهم وأنسابهم، واختلفت ألفاظ الروايات، فاشتدت حاجتهم إلى تقييد هذه الأمور لصعوبة حفظها على القلوب

(1)

، فشاعت لديهم الكتابة، وشجعوا تلاميذهم على تقييد المرويات وتدوينها، وحثوهم على ضبط ما دونوه وتحقيقه بما يُؤمَن معه اللبس وحثوها على صيانته من أن يدخله تغيير، كل هذا عناية بالسنن والآثار وحرصاً على حفظها من الضياع أو التبديل. ولحفظ المرويات في الكتاب أهمية أخرى، وهي أنه يتمكن معه صاحبه من معاهدة محفوظه بمطالعة الكتاب والنظر فيه، كما يمنعه من الوقوع في الوهم والغلط عند التحديث إذا كان يحدث منه ويعتمده وقت التحديث.

ولهذا الاعتبار كان من منهج الإمام أحمد تقديم حفظ الكتاب على حفظ الصدر، سواء في حالة التحمل أو الأداء، فالرواة الذين يضبطون مسموعاتهم في الكتاب وقت التحمل مقدمون عنده على الذين يعتمدون على حفظ صدورهم. قال محمد بن مسلم بن وارة:"قلت لأحمد بن حنبل: أبو الوليد أحب إليك في شعبة أو أبو النضر؟ قال: إن كان أبو الوليد يكتب عند شعبة فأبو الوليد"

(2)

. فلم يقدم الإمام أحمد أبا الوليد على أبي النضر إلا بشريطة أن يكون ممن يكتب عند شعبة

(1)

هذا تعليل الخطيب لإباحة كتابة العلم انظر: تقييد العلم ص 64.

(2)

تهذيب الكمال 30/ 229.

ص: 523

مع أنه قد قال في أبي الوليد: إنه أتقن حديث شعبة

(1)

، لأن أبا النضر كان قد كتب عن شعبة إملاءً كما قال الإمام أحمد

(2)

، فلا يتقدم عليه أبو الوليد مع مزيد إتقانه إلا إذا كان يضبط ما تحمله عن شعبة في كتاب كما كان يفعله أبو النضر، فحيث استويا في الوصفين يحق لأبي الوليد التقدم لما له من مزيد الإتقان، وأما حيث كانت المسئلة الإتقان في مقابل حفظ الكتاب فلا يحق في هذه الحالة تقديم الإتقان على حفظ الكتاب.

وقال حنبل: قال أبو عبد الله: "إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فعبد الرحمن أثبت، لأنه أقرب عهد بالكتاب"

(3)

. فكلٌ من وكيع وعبد الرحمن من الحفاظ المتقنين، بل إن وكيعاً أحفظ من عبد الرحمن عند الإمام أحمد، فقد قال في وكيع: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع

(4)

، لكنه قدم عليه عبد الرحمن بن مهدي لأنه كان يتعاهد كتابه، لأنه صاحب كتاب.

ووجه تقديم الإمام أحمد لحفظ الكتاب على حفظ الصدر أن صاحب الكتاب أسلم من الوقوع في الغلط والوهم من الذي يعتمد على حفظه مهما بلغ في الحفظ. قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله يقول: كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئاً قليلاً، وربما وهم في الشيء"

(5)

، فكأنه يجعل علة وهمه اعتماده على الحفظ وكونه لم يكتب من حديثه إلا شيئاً قليلاً.

وكان يرُجع سبب أوهام بعض الرواة إلى كونهم لم يكونون يكتبون عند

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 369 رقم 2641.

(2)

تاريخ بغداد 14/ 65.

(3)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص 11.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 323 رقم 567.

(5)

تاريخ بغداد 9/ 259.

ص: 524

التحمل، وإنما كانوا يحفظون.

قال الميموني: سئل أحمد عن الحكم بن عطية فقال: لا أعلم إلا خيراً، فقال له رجل: حدثني فلان عنه، عن ثابت، عن أنس قال:[كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم]

(1)

، فأقبل أبو عبد الله يتعجب، وقال: هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، إنما كانوا يحفظون، ونُسبوا إلى الوهم، أحدهم يسمع الشيء فيتوهمّ فيه

(2)

.

وقد ذكر الأثرم هذا الحديث للإمام أحمد فقال: "هؤلاء الشيوخ يخطئون على ثابت، وإنما يريد الحديث الذي رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ابن عمر بن أبي سلمة، فقلت له: نعم، وسليمان أيضاً يرويه، فقال: نعم، ولكن حماد بن سلمة أحسن له حديثاً، قلت: وأسنده حماد ولم يسنده سليمان. قال: نعم"

(3)

. ولم أقف على حديث ابن عمر بن أبي سلمة الذي أشار إليه أحمد. فهذا الراوي أخطأ في هذا الحديث، وروى حديثاً آخر عن ثابت أنكره الإمام

(1)

هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن الحكم بن عطية ص 270 ح 2023، ومن طريق أبي داود رواه الطبراني المعجم الكبير 23/ 247 ح 498، وابن عدي الكامل 2/ 673، والخطيب موضح أوهام الجمع والتفريق 1/ 213.

وهذا مما عناه الإمام أحمد حيث قال في الحكم بن عطية: لا بأس به إلا أن أبا داود الطيالسي روى عنه أحاديث منكرة الجرح والتعديل 3/ 126. وقال في رواية الأثرم: صالح حتى وجدت له غرائب عن ثابت عن أنس فذكر هذا الحديث موضح أوهام الجمع والتفريق 1/ 218.

وقد وثق الحكم بن عطية يحيى بن معين، وقال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه وليس بمنكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وضعفه أبو الوليد الطيالسي ولا يحتج به، وكذلك ضعفه الخطيب البغدادي انظر: الجرح والتعديل، والكامل لابن عدي، وموضح أوهام الجمع والتفريق ـ المواضع السابقة من الكتب.

(2)

تهذيب التهذيب 2/ 436.

(3)

موضح أوهام الجمع والتفريق 1/ 218، ورواها العقيلي أيضاً لكن وقع نقص في النسخة المخطوطة، أشار إلى ذلك محقق الكتاب الضعفاء للعقيلي 1/ 279.

ص: 525

أحمد أيضاً

(1)

، وذكر أن سبب وقوع هذه المنكرات في رواياته كونه يعتمد على الحفظ ولم يكن يكتب.

وهناك وجه آخر لتقديمه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر، وهو كون صاحب الكتاب يأتي بالحديث أتم، ولا يقع منه الخلل الذي يقع ممن يكون تحمل من شيوخه حفظاً ويضطر آحياناً إلى حفظ المعنى دون اللفظ أو عدم ذكر الإخبار في موضعه، وإن كان صاحب الكتاب دونه في الحفظ. قال عبد الله: "كان أبي يتبع حديث قطبة بن عبد العزيز

(2)

، وسليمان بن قرم

(3)

، ويزيد بن عبد العزيز بن سياه

(4)

وقال: هؤلاء قوم ثقات، وهم أتم حديثاً من سفيان وشعبة، هم أصحاب كتب، وإن كان سفيان وشعبة أحفظ منهم"

(5)

.

وكان الإمام أحمد يقدم من كان يعتمد على كتابه وقت التحديث على من كان يحدث حفظاً، ولم يكن يُحمد فعل من كان يحدث من غير كتاب، والأفضل أن يكون المحدث أصله بيده أو بيد ثقة ضابط وقت التحديث وإن كان حافظاً لما

(1)

وهو حديث [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل المسجد وفيه المهاجرون والأنصار ما منهم أحد يرفع رأسه ولا يحل حبوته إلا أبو بكر وعمر، يتبسم إليهم ويتبسمان إليه] موضح أوهام الجمع والتفريق 1/ 218.

(2)

وثقه أحمد في رواية عبد الله العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 473 رقم 3099. ووثقه ابن معبن، والترمذي تهذيب الكمال 25/ 608. وقال البزار: صالح وليس بالحافظ تهذيب التهذيب 8/ 379.

(3)

قال أحمد: لا أرى به بأساً، ولكنه كان يفرط في التشيع الضعفاء للعقيلي 2/ 502. وضعفه ابن معين، والنسائي. وقال أبو زرعة: ليس بذاك. وقال أبو جاتم: ليس بالمتين. وقال ابن حجر: سيء الحفظ يتشيع تهذيب التهذيب 4/ 213، تقريب التهذيب 2615.

(4)

وثقه أحمد أيضاً وجعله في التثبت مثل قطبة الموضع السابق. ووثقه ابن معين، وأبو داود، وابن حجر وغيرهم تهذيب التهذيب 11/ 347، تقريب التهذيب 7801.

(5)

تهذيب الكمال 25/ 609 - 610.

ص: 526

يحدث به، وكان الإمام أحمد قد وصّى يحيى بن معين عندما طلب منه الوصية:"لا تحدّث المسند إلا من كتاب"

(1)

.

ومن النصوص المنقولة عنه في هذا المعنى ما رواه الفضل بن زياد قال: قال أحمد بن حنبل: "ما كان أقلَّ سقطاً من ابن المبارك، كان رجلاً يحدّث من كتابه، ومن حدّث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كثير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل! "

(2)

.

وقال الميموني للإمام أحمد: قد كره قوم كتاب الحديث بالتأويل، قال:"إذاً يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث، وقال: حدثونا قوم من حفظهم، وقوم من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن"

(3)

.

ولم يُحمد الإمام أحمد على أمية بن خالد الأزدي تحديثه من غير كتاب. قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يُسأل عن أمية بن خالد فلم يُحمده في الحديث، وقال: إنما كان يُحدث من حفظه، لا يخرج كتاباً"

(4)

.

وإذا روى الراوي الثقة عن شيخه ما يخالف ما في كتاب الشيخ فالمرجح عند الإمام أحمد هو ما ثبت في كتاب الشيخ، وهذا وجه آخر لتقديمه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر.

قال عبد الله: قرأت على أبي: عبدة بن سليمان الكلابي قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر قال:[عدة الأمة إذا طُلّقت حيضتان، فإن كانت لا تحيض فشهر ونصف]، قرأت على أبي: عبدة قال: حدثنا سعيد، عن

(1)

تهذيب الكمال 1/ 165.

(2)

المعرفة والتاريخ 2/ 197.

(3)

تقييد العلم ص 115.

(4)

الضعفاء للعقيلي 1/ 146.

ص: 527

قتادة، عن الحسن، عن علي مثله. سمعت أبي يقول: هذا خطأ، إنما هو سعيد، عن حبيب، عن عطاء، عن عمر، وحبيب، عن الحسن عن علي، في الكتب كذا هو يعني كتب سعيد بن أبي عروبة

(1)

.

روى عبدة هذا الأثر عن ابن عمر، وعن علي، كلاهما من طريق سعيد ابن أبي عروبة، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة

(2)

، عن عبدة، عن سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر به. فحكم الإمام أحمد بخطأ عبدة لأن أثر ابن عمر هو في كتب سعيد بن أبي عروبة عن حبيب المعلم، عن عطاء، عن عمر، وليس هو عن مطر، عن عطاء، عن ابن عمر؛ وأثر علي هو عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي، وليس هو عن قتادة، عن الحسن، عن علي كما رواه عبدة في الموضعين. وقد تابع سعيداً أبو إسحاق الشيباني في رواية أثر علي، فرواه الشيباني عن حبيب المعلم، عن الحسن، عن علي: رواه ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عنه

(3)

. وخطّأ الإمام أحمد رواية عبدة بن سليمان عن سعيد مع أن سماع عبدة من سعيد كان جيداً وقبل اختلاط سعيد

(4)

لمخالفته لما في كتب سعيد بن أبي عروبة، مما يدل على ترجيحه لحفظ الكتاب على حفظ الصدر.

وقد كان الإمام أحمد ينكر دفن الكتب وكان يرى عدم جدواها، قال رحمه الله:"لا أعلم لدفن الكتب معنى"

(5)

.

ومع تقديم الإمام أحمد لحفظ الكتاب على حفظ الصدر، فقد كان يعل بعض

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 428 رقم 2891، 2892. وتقدم مثله في آخر مطلب الإعلال بالاختلاط ص 364.

(2)

مصنف ابن أبي شيبة 4/ 146 ح 18774.

(3)

المصدر السابق 4/ 146 ح 18768.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 163 رقم 86.

(5)

تقييد العلم ص 63.

ص: 528

أحاديث الرواة أصحاب الكتب إذا وجد ما يخل بضبطهم لكتابهم، فمن ذلك:

1.

أن يكون الكتاب غير منقوط ولا مشكول.

2.

أن يوقف على لحق في الكتاب.

3.

أن يترك الراوي كتابه عند الأداء ويحدث من حفظه.

4.

أن يسافر الراوي إلى بلد آخر ولا يصطحب معه كتبه فيحدث في ذلك البلد من حفظه.

فهذه الأمور يأتي بحثها في المطالب الآتية.

ص: 529

‌المطلب الثاني: من كانت كتبه غير منقوطة ولا مشكولة

.

إن من تمام ضبط الراوي لكتابه عنايته بضبط ما كتبه شكلاً ونقطاً وبخاصة في الملتبس من الألفاظ والأسماء، ويتأكد ذلك في الأسماء بالذات لأنها لا تستدرك بالقياس ولا بالسياق. قال ابن الصلاح:"ثم إن على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلاً ونقطاً، يؤمن معهما الالتباس، وكثيراً ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيُّقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان مُعرَّض للنسيان، وأول ناسٍ أول الناس، وإعجام المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله"

(1)

. وصاحب الكتاب الذي لا يعتني بهذا الجانب من الضبط لا يسلم من الوقوع في الأخطاء، وأكثر الأخطاء التي تعقب مثل هذا التفريط هو التصحيف.

وقد كان الإمام أحمد يقدّم الرواة أصحاب الشكل والتقييد لكتبهم على غيرهم، ويلحقهم بأهل الضبط والإتقان، كما تكلم في بعض الرواة الذين كانت كتبهم غير منقوطة ولا مشكولة، وكلامه فيهم وإن لم يقتض تضعيفاً لهم أو لمروياتهم إلا أنه جعلهم دون غيرهم من أهل الإتقان، وهذا يقتضي تأخيرهم عند الاختلاف والترجيح.

فمن ذلك رفعه لأمر شعيب بن أبي حمزة كما روى أبو زرعة الدمشقي قال: "وأخبرني أحمد بن حنبل قال: رأيت كتب شعيب، فرأيت كتباً مضبوطة مقيّدة، ورفع من ذكره، فقلت: فأين هو من يونس بن يزيد؟ قال: فوقه، قلت، فأين هو من عقيل بن خالد؟ قال: فوقه. قلت: فأين هو من الزَّبيدي؟ قال: مثله"

(2)

.

(1)

علوم الحديث ص 171 وانظر أيضاً عن ضبط الكتاب وتحقيقه: فتح المغيث 3/ 40 - 47، تدريب الراوي 2/ 68 - 70.

(2)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 433 رقم 1052.

ص: 530

وقال الأثرم: "قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: نظرت في كتب شعيب، أخرجها إليّ ابنه، فإذا بها من الحسن والصحة والشكل ونحو هذا"

(1)

.

وقال أبو زرعة: "حدثني أحمد بن حنبل قال: رأيت كتب شعيب بن أبي حمزة كتباً مقيدة مضبوطة، ورفع من ذكره"

(2)

.

فقد جعل الإمام أحمد شعيب بن أبي حمزة مع أهل الإتقان من أصحاب الزهري، وهو محمد بن الوليد الزبيدي، وقدمه على يونس وعقيل، وكلاهما من أهل المعرفة بحديث الزهري، وما ذلك إلا لصحة كتبه وجودتها.

ومن أجل صحة كتب شعيب وإتقانها صحح المحققون الرواية عنه بالإجازة. قال الذهبي: "ومن روى شيئاً من العلم بالإجازة عن مثل شعيب بن أبي حمزة في إتقان كتبه وضبطه فذلك حجة عند المحققين، مع اشتراط أن يكون الراوي بالإجازة ثقة ثبتاً أيضاً، فمتى فُقد ضبطُ الكتاب المُجاز وإتقانُه وتحريره، أو إتقان المجيز أو المجاز له، انحط المروي عن رتبة الاحتجاج به، ومتى فقدت الصفات كلُّها لم تصح الرواية عند الجمهور"

(3)

. بل قال الذهبي رواية كتب شعيب بالوجادة كافٍ في الحجة، لأنها بالغة في الحسن والإتقان والإعراب.

وهذا وجه كتابة الإمام أحمد عن بشر بن شعيب بن أبي حمزة لأحاديث أبيه مع أنه لم يكن عنده بصاحب حديث، ولا كان سماعُه من أبيه بأمر متحقّق عنده، ولكنّه كتب عنه لأن كتُبَ أبيه كانت عنده، وحسن ضبطها وجودتها كافيان في جبر هذا النقص الواقع في صفة تحمّله لها. قال أبو داود: "سألت أحمد عن بشر مرة أخرى فقال: كتبت عنه قدر سبعين حديثاً، لم يكن صاحب حديث، ولكن

(1)

الجرح والتعديل 4/ 345، وانظر: سير أعلام النبلاء 7/ 189.

(2)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي 2/ 715 رقم 2277.

(3)

سير أعلام النبلاء 7/ 190.

ص: 531

كتب أبيه كانت عنده، وسمعت أحمد سئل عن كتب شعيب، هل سمعها بشر من أبيه؟ قال: ما يدريني؟ "

(1)

.

وقد أكثر الأمام أحمد أيضاً عن أبي اليمان كما قال لأبي داود أيضاً

(2)

، وأبو اليمان اختلف في طريقة تحمّله عن شعيب هل هو بالإجازة أم مناولة. قال المروذي:"قال أبو عبد الله: شعيب بن أبي حمزة كان لا يكاد يحدث، فلما حضرته الوفاة قال: اجمعوا لي فلاناً وفلاناً، فاجتمع بقية، ويقولون أبو اليمان، وقد ذكروا علي بن عياش، فلا أدري كان أم لا؟ فقال: هذه كتبي ارووها عني، فكان أبو اليمان يقول: حدثني شعيب، ولا أدري كان معهم أم لا؟ "

(3)

. فقد أجاز شعيب الجماعة الحاضرين له في هذه الحادثة، فروايتهم عنه مناولة مقرونة بالإجازة، والإمام أحمد يتوقف في كون أبي اليمان معهم أم لا، ومع ذلك يروي عنه ويكثر من حديثه عن شعيب، وما ذلك إلا لجودة الكتب وإتقانها.

وكذلك اعتبر جماعة من محدثي أهل البصرة في درجة أهل التثبت لأن كتبهم كانت منقوطة ومشكولة.

قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يقول: "من يُفلت من التصحيف؟ كان يحيى بن سعيد يُشكل الحرف إذا كان شديداً، وغير ذاك لا، وكان هؤلاء أصحاب الشكل والتقييد: عفان، وبهز، وحبان"

(4)

.

وهؤلاء الثلاثة هم أهل التثبت عند الإمام أحمد. قال حنبل: "سألت أبا عبد الله عن عفان، فقال: عفان، وحبان، وبهز، هؤلاء المتثبِّتون

قلت له:

(1)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 266 رقم 306. وانظر تعليق المحقق على سماع بشر بن أبيه واختلاف النقل عن أحمد مع ترجيحه في الحاشية رقم 7 من الصفحة.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 132 رقم 233.

(4)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 270.

ص: 532

فإذا اختلفوا في الحديث يرجع إلى من منهم؟ قال: إلى قول عفان، هو في نفسي أكبر، وبهز أيضاً، إلا أن عفان أضبط للأسامي، ثم حبان"

(1)

. وقال في بهز: "بهز بن أسد إليه المنتهى في التثبت"

(2)

. وقال في حبان أيضاً: "حبّان بن هلال إليه المنتهى في التثبت بالبصرة"

(3)

. وجعلهم الإمام أحمد من أهل التثبت لصحة كتبهم وحسن تقييدهم لها.

وعلى العكس من ذلك لما قيل لأبي عبد الله: "كان أبو الوليد ثبتاً؟ قال: لا، ما كان كتابه منقوطاً ولا مشكولاً، ولكنه في حديث شعبة متقن، وقال مرة: أتقن حديث شعبة"

(4)

. وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، لم يجعله الإمام أحمد في طبقة أهل التثبت لأن كتبه لم تكن منقوطة ولا مشكولة، إلا في حديث شعبة الذي كان قد أتقنه لقدرته على الحفظ، ومع ذلك لم يقدمه الإمام أحمد في حديثه عن شعبة على أبي النضر الذي كان يكتب عن شعبة إملاء، إلا بشرط أن يكون ممن يكتب عند شعبة كما تقدم

(5)

، وقد ثبت أن أبا الوليد لم يكن يكتب عند شعبة؛ شهد بذلك ابن وارة للإمام أحمد قال:"سمعت أبا الوليد يقول: بينا أكتب عند شعبة إذ بصُر بي فقال: وتكتب؟ فوضعت الألواح من يدي وجعلت أنظر إليه".

ولعدم تشكيل كتبه وتنقيطه أُثر عن أبي الوليد تصحيف في غير شيء وبخاصة في حديثه عن شيخه أبي عوانة. قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: هما كثيرا الكتاب عن أبي عوانة: يحيى بن حماد، وهشام بن عبد الملك، إلا أن يحيى بن حماد كان أروى منه. قلت له: هشام كان ثبتاً؟ قال: في حديث شعبة، وقال: هشام

(1)

تاريخ بغداد 12/ 273.

(2)

الجرح والتعديل 2/ 431.

(3)

الجرح والتعديل 3/ 297.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 369 رقم 2641.

(5)

المطلب الأول من هذا المبحث ص 523.

ص: 533

صحّف في شيء من حديث أبي عوانة"

(1)

. وقد حدث أبو الوليد لجماعة فيهم الإمام أحمد فأخطأ أو صحّف، قال أحمد:"فرددنا عليه فرجع إلى ما قلنا له"

(2)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 315 رقم 2396، ووقع فيه: هشام صح في شيء

والتصويب من طبعة مؤسسة الكتب الثقافية بعناية محمد حسام بيضون 1/ 307 رقم 2306.

(2)

انظر: المصدر نفسه 2/ 369 رقم 2642.

ص: 534

‌المطلب الثالث: من وُقف على لحق في كتابه

.

اللَّحَق ـ بفتح الحاء ـ هو تخريج الساقط في الحواشي

(1)

. فإذا كان الإلحاق لما كان معلوماً جاز، كأن يكون في الأصل حديثٌ محفوظ معروف وقد سقط من إسناده رجل جاز أن يلحق بمكانه ويكتب في موضعه، لكن مع كلمة يعني ليشعر بالإلحاق، وعليه حُمل ما رواه الإمام أحمد عن وكيع: أنا أستعين على الحديث بـ "يعني"

(2)

. وكذلك يجوز إلحاق ما درس من كتابه من بعض الإسناد أو المتن من كتاب غيره إذا عرف صحته وسكنت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط من كتابه، لكن من المحدثين من لا يستجيز ذلك وإن كان ما درس معروفاً ومحفوظاً

(3)

. فيفهم من هذا أن المستنكر من اللحق هو إلحاق الراوي في أصله ما ليس منه مما لم يكن معروفاً ولا محفوظاً، فإن ذلك ينبئ عن إخلال الراوي بضبطه لكتابه، لأن معنى ضبط الكتاب صيانته لديه منذ سمع منه وصحّحهُ إلى أن يُؤدِّي منه

(4)

.

والذي ورد عن الإمام أحمد من إنكاره اللحق على الراوي وتضعيفه لحديثه من أجله هو من قبيل هذا اللحق المستنكر. قال عبد الله: "سئل عن محمد بن جابر، وأيوب بن جابر فقال: محمد بن جابر يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، يقولون: رأو في كتُبهِ لحقاً، حديثه عن حماد فيه اضطراب"

(5)

. وقال في رواية

(1)

علوم الحديث ص 177.

(2)

الكفاية في علم الرواية ص 371 - 372، علوم الحديث الموضع نفسه.

(3)

الكفاية في علم الرواية ص 373، وعلوم الحديث الموضع نفسه.

(4)

ضوابط الجرح والتعديل ص 13.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 62 رقم 4176.

ص: 535

ابن هانئ: "أحاديثه عن حماد مضطربة، في كتبه لحوق"

(1)

. ويشهد لهذا ما رواه

ابن حبان بإسناده عن محمد بن عيسى بن الطباع قال: قال لي أخي إسحاق بن عيسى: "ذاكرتُ محمد بن جابر ذات يوم بحديث شريك، عن أبي إسحاق فرأيتُه في كتابه قد ألحقه بين السطرين كتاباً طرياًّ"

(2)

. فهذا يدل على أن إلحاقه كان لأحاديث ليست في أصوله ولا هي من حديثه.

ولما أنكر الإمام أحمد حديث جرير بن عبد الله البجلي: "تبنى مدينة بين دجلة والدُّجَيل"

(3)

قال له ابنه عبد الله: إن لُويناً حدثناه عن محمد بن جابر، فقال:"كان محمد بن جابر ربما ألحق في كتابه أو يلحق في كتابه ـ يعني الحديث وقال: هذا حديث ليس بصحيح، أو قال: كذب"

(4)

.

والظاهر أن هذا الصنيع يُسقط الراوي، ولعل هذا وجه ترك عبد الرحمن ابن مهدي لمحمد بن جابر، فقد قال الإمام أحمد: كان عبد الرحمن بن مهدي يُحدث عن محمد بن جابر ثم تركه بعدُ

(5)

. وفي هذا المعنى يقول الخطيب: إسحاق بن الحسن الحربي كتب الناس عنه ثم كرهوه لإلحاقات بين السطور في المراسيل ظاهرة الصنعة لطراوتها. ا. هـ

(6)

.

ومثل هذا في الرد من غُير كتبه ولم يكن له علمٌ بذلك واستمر يحدث منها، فقد قال الإمام أحمد في الوليد بن محمد المُوقَّري

(7)

: ما أظنه، أي بثقة، ولم أره

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 230 رقم 2262.

(2)

المجروحين 2/ 270.

(3)

تقدم في الوضع ص 197 - 198.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 370 رقم 2644.

(5)

المصدر نفسه 2/ 60 رقم 4170.

(6)

تاريخ بغداد 6/ 382.

(7)

قال ابن حجر: متروك تقريب التهذيب 7503.

ص: 536

يحمده

(1)

. وبليته أنه غُيّر له في كتبه ولم يكن يعلم بذلك فهو يحدث بأحايث مناكير وهو لا يعلم، قال أبو بكر الأثرم:"سمعت أبا عبد الله سئل عن الوليد بن محمد الموقري فقال: ما أُخبره، إلا أنهم زعموا أن العسكر لما دخل الشام أتاه قوم فأفسدوا حديثه، فهو يروي أحاديث، كأنه يريد مناكير. قلت لأبي عبد الله: المُوقّري يكتب حديثه؟ فقال: ما أدري أخبرك، إلا أنه له أحاديث مناكير وما أخبره"

(2)

.

وقال حنبل بن إسحاق: "سألت أبا عبد الله أحمد عن المُوقري قال: ما رأيت أحداً يحدث عنه، قلت له: كيف حديثه؟ قال: لا أدري. قلت: فهو في بدنه؟ قال: لا أدري، إلا أن رجلاً قدم عليه فغير كتبه وهو لا يعلم فمن ذلك"

(3)

.

وقال عبد الله: قلت لأبي: المُوقري يجيء عنه ـ يعني عن الزهري ـ بعجائب؟ قال: ليس ذاك بشيء. ا. هـ

(4)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 486 رقم 3197.

(2)

تهذيب الكمال 31/ 78.

(3)

المصدر نفسه 31/ 77.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 349 رقم 2543.

ص: 537

‌المبحث السادس: من لا يحدّث من كتابه فيَهِم في حديثه

.

مما يخل بضبط الراوي لكتابه أن يدع الكتاب عند الأداء ويحدث من حفظه، وتوضيح ذلك أن الراوي عند الأداء إما أن يملي أو يحدث من حفظ أو من كتاب، أو يقرأ عليه غيرُه من حفظ أو من كتاب وهو يسمع، سواء كان حافظاً أم لا إذا كان كتابه بيده أو بيد ثقة عنده، والأرجح أن يحدث من كتاب ولا يتكل على حفظه لأن الحفظ خوّان

(1)

، ولذلك قال الخطيب:"الاحتياط للمحدث والأولى به أن يروي من كتابه ليسلم من الوهم والغلط ويكون جديراً بالبعد من الزلل"

(2)

. وقال علي بن المديني: "عهدي بأصحابنا وأحفظهم أحمد بن حنبل، فلما احتاج أن يحدث لا يكاد يحدث إلا من كتاب" وقال ابن المديني أيضاً: "قال لي سيدي أحمد: لا تحدثني إلا من كتاب"

(3)

. وقد حدث بعض المحدثين وهم أصحاب كتب، واتكلوا على حفظهم ولم يراجعوا كتبهم فوقعوا في أوهام، ودخل الخلل في بعض مروياتهم وضُعفت بسبب ذلك تلك المرويات. وقد كشف الإمام أحمد عن هذا الجنس من الرواة وذكر بعض الأحاديث التي وهموا فيها بسبب روايتهم لها من حفظهم دون كتابهم، فمنهم:

1.

‌ إبراهيم بن سعد الزهري أبو إسحاق المدني:

أحد الأعلام، وثقه أحمد في عدة روايات

(4)

، وأنكر على يحيى بن سعيد

(1)

وهذان طريقان من طرق تحمل الحديث، وهما السماع والعرض انظر: تدريب الراوي 2/ 8، 12، فتح المغيث 3/ 127.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 10.

(3)

المصدر نفسه 2/ 12.

(4)

انظر: مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 3/ 155 رقم 1551، سؤالات أبي داود للإمام أحمد ص 224 رقم 202، تاريخ بغداد 6/ 83، تهذيب الكمال 2/ 90.

ص: 539

القطان تضعيفه له

(1)

. لكن قال مهناّ عن أحمد: إبراهيم إنما كان يخطئ إذا حدّث من حفظه، فأما كتبه فكانت صحيحة

(2)

. وذكر ابن رجب عن أحمد أنه قال: كان يحدث من حفظه فيخطئ، وفي كتابه الصواب

(3)

.

وقد أنكر عليه الإمام أحمد بعض الأحاديث وجعل سبب خطئه فيها روايته لها من حفظه دون كتابه. وفيما يلي ذكرها:

ما أعله الإمام أحمد من حديثه:

1.

قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الأئمة من قُريش" قال: ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصلٌ

(4)

.

هذا الحديث رواه ثلاثة من الرواة عن إبراهيم بن سعد، وهم:

1.

أبو داود الطيالسي، وهو في مسنده

(5)

، ومن طريقه البزار

(6)

، وأبو نعيم

(7)

.

2.

الحسنُ بن إسماعيل، رواه من طريقه أبو يعلى

(8)

، وعنه الضياء المقدسي

(9)

.

3.

عمرو بن مرزوق، رواه من طريقه البيهقي

(10)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 519 رقم 3422.

(2)

المنتخب من العلل للخلال ص 197.

(3)

شرح علل ابن رجب 2/ 763.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 386 رقم 1860، والكامل في ضعفاء الرجال 1/ 246، ونقله المقدسي في الأحاديث المختارة 6/ 143.

(5)

مسند أبي داود الطيالسي ص 284 رقم 2133.

(6)

كشف الأستار 2/ 228 رقم 1578.

(7)

حلية الأولياء 3/ 171.

(8)

مسند أبي يعلى 3/ 459 رقم 3632.

(9)

الأحاديث المختارة 6/ 143 رقم 2138.

(10)

السنن الكبرى 8/ 144.

ص: 540

وقد رواه البخاري تعليقاً

(1)

عن إبراهيم بن سعد.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد من حديث إبراهيم بن سعد، ونفى أن يكون له أصل من حديثه، واستدل لذلك بعدم وجوده في كتب إبراهيم، مما يدل على أنه ما حدث به إلا من حفظه، ومن هذا الوجه دخل الخطأ عليه، لأنه كان يحدث من حفظه فيخطئ، فما حدث به ولم يوجد له أصل في كتابه يغلب على الظن أنه مما أخطأ فيه، خاصة مع التفرد. وقد أشار البزار إلى تفرد سعد به عن أنس، قال البزار: لا نعلم أسند سعد عن أنس إلا هذا. ا. هـ

(2)

، وقال أبو نعيم: لم يروه عن سعد إلا ابنه إبراهيم. ا. هـ

(3)

.

وقد روي الحديث من وجوه أخرى عن أنس وغيره من الصحابة، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في مصنف خاص

(4)

، وإنما أنكر الإمام أحمد الحديث من طريق إبراهيم بن سعد، ومعنى هذا أن الطريق لا تصلح للاعتبار بها في المتابعات والشواهد.

2.

قال صالح بن أحمد بن حنبل: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في الأمم محدّثون، فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب، كان يُلهم الشيء من الحق". وقوله: "السكينة تنطق على لسان عمر"، إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وابن عجلان يقول: عن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة فقال: هو في كتابه عن أبيه مرسل، وإنما حدّث به من حفظه، وهو عن عائشة

(5)

.

(1)

التاريخ الكبير 2/ 112.

(2)

كشف الأستار 2/ 228.

(3)

حلية الأولياء 3/ 171.

(4)

سماه لذة العيش بطرق الأئمة من قريش، ذكره في فتح الباري 6/ 530.

(5)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 3/ 161 - 162 رقم 1571.

ص: 541

هذا الحديث اختلف على إبراهيم بن سعد فيه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة

(1)

، عن أبي هريرة: رواه من هذا الوجه البخاري عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي

(2)

، وعن يحيى ابن قزعة

(3)

كلاهما عن إبراهيم بن سعد. وتابعهما: أبو داود الطيالسي

(4)

، وسليمان ابن داود الهاشمي عند النسائي

(5)

، وفزارة بن عمر عند أحمد

(6)

، ومحمد بن عثمان أبو مروان العثماني عند القطيعي في زياداته على فضائل الصحابة

(7)

، ويعقوب ابن حميد عند ابن أبي عاصم في السنة

(8)

، وأبو مصعب الزهري عند العقيلي في الضعفاء

(9)

، وإبراهيم بن حمزة عند البغوي

(10)

، وعباس بن الفضل البصري، ذكره الدارقطني في العلل

(11)

، وعبد الله بن وهب من طريق ابن أخيه أحمد ابن عبد الرحمن بن وهب عنه، وهو عند الطحاوي

(12)

، فكل هؤلاء ـ وعددهم أحد عشر ـ رووه عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

ويؤيد هذا الوجه ما رواه زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم

(13)

، ووصله

(1)

وسقوطه في سؤال صالح خطأ، فإنه ثابت كما في مصادر التخريج.

(2)

صحيح البخاري 6/ 512 ح 3469 - مع فتح الباري.

(3)

صحيح البخاري 7/ 42 ح 3689 - مع فتح الباري.

(4)

مسند الطيالسي ص 308 ح 3248. وأخرجه من طريقه اللاكائي في كرامات الأولياء 98 ح 41.

(5)

السنن الكبرى 5/ 40 ح 8120، وفي فضائل الصحابة له ص 8 ح 19.

(6)

المسند 14/ 176 ح 8468.

(7)

فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 361 ح 529.

(8)

السنة لابن أبي عاصم 2/ 583 ح 1261.

(9)

كتاب الضعفاء للعقيلي 2/ 651.

(10)

شرح السنة ح 3873.

(11)

علل الدارقطني ج 5 ق 85.

(12)

شرح مشكل الآثار ح 1650.

(13)

صحيح البخاري 7/ 42 - مع فتح الباري.

ص: 542

الحافظ ابن حجر من طريق أبي بكر الإسماعيلي، وأبي نعيم

(1)

. وقد اختلف على هذا الطريق بالوصل الإرسال أيضاً

(2)

.

الوجه الثاني: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة: رواه الإمام مسلم

(3)

من هذا الوجه عن أبي الطاهر أحمد بن أبي سرح، عن عبد الله ابن وهب، عن إبراهيم بن سعد به. وتابعه: يزيد بن عبد الله بن الهاد برواية شعيب ابن الليث بن سعد عن أبيه عنه، عن إبراهيم بن سعد به، الطحاوي

(4)

، والحاكم

(5)

. وتابعه أيضاً الحكم بن أسلَم، ذكره الدراقطني في العلل

(6)

. ورواه من هذا الوجه أيضاً عبد الله بن زياد بن سمعان، عن إبراهيم بن سعد، وهو عند العقيلي

(7)

، لكن ابن سمعان متهم فلا يعتبر بروايته

(8)

. وفي هذه المتابعات استدراك لما قاله أبو مسعود: لا أعلم أحداً تابع ابن وهب في قوله: عن إبراهيم ابن سعد عن عائشة، والمشهور من رواية إبراهيم بن سعد، عن أبي هريرة. ا. هـ

(9)

.

ويؤيد هذا الوجه ما رواه مسلم

(10)

من طريق محمد بن عجلان، عن سعد بن إبرهيم، عن أبي سلمة عن عائشة. وللحديث أصل من حديث عائشة من

(1)

تغليق التعليق 4/ 64.

(2)

ذكره الدارقطني في علله ج 5 ق 75. فرواه موصولاً: داود بن عبد الحميد، ورواه مرسلاً يزيد بن هارون، وإسحاق الأزرق.

(3)

صحيح مسلم 4/ 1864 ح 2398.

(4)

شرح مشكل الآثار ح 1652.

(5)

معرفة علوم الحديث ص 220.

(6)

علل الدراقطني الموضع السابق.

(7)

كتاب الضعفاء 2/ 651.

(8)

تقريب التهذيب 3246.

(9)

هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 366، وانظر: فتح الباري 7/ 50.

(10)

صحيح مسلم الموضع السابق. وهو عند الإمام أحمد المسند 40/ 329 ح 24285 وغيره.

ص: 543

وجه آخر عن ابن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة. أخرجه ابن أبي عاصم

(1)

، والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة

(2)

. وفي الإسناد عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو صدوق لكن تغير حفظه لما قدم بغداد

(3)

، ولا يضر هذا في الاعتبار به.

الوجه الثالث: إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: رواه الإمام أحمد

(4)

من هذا الوجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد به. وذكر الدارقطني

(5)

أن ابن الهاد، ويعقوب وسعد أبناء إبراهيم، وأبو صالح كاتب الليث وغيرهم رووه عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. ولم أقف على هذه الطرق غير طريق يعقوب ابن إبراهيم بن سعد.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

ذكر الإمام أحمد أن الحديث في كتاب إبراهيم بن سعد عن أبيه مرسل، وأن تحديثه للحديث عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة إنما كان ذلك من حفظه، وأما الوجه الأول من رواية الحديث ـ وهو إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ـ فلعله داخل أيضاً في الإعلال حيث إنه مخالف لما في كتاب إبراهيم بن سعد، فيكون قد أعل كلا الوجهين ـ الأول والثاني ـ بالإرسال، وصنيعه هذا مثل صنيع الدارقطني حيث استدرك على الشيخين اللذين رويا الحديث ـ البخاري من حديث أبي هريرة، وهو الوجه الأول، ومسلم من حديث عائشة، وهو الوجه الثاني ـ بالرواية المرسلة وقال: المشهور عن

(1)

السنة 2/ 569 ح 1262.

(2)

فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 355 ح 518.

(3)

تفريب التهذيب 3887.

(4)

المسند 14/ 177 ح 8469.

(5)

الإلزامات والتتبع ص 167.

ص: 544

إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة مرسلاً. والإمام أحمد تفرد بالإشارة إلى وجه هذه العلة حيث أوضح أن رواية الإرسال هي الثابتة في أصل إبراهيم، وأما رواية الوصل فهي مما حدث به من حفظه. وقد ثبت أن لرواية الوصل أصلاً من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، ولذلك لم يتردد كل واحد من صاحبا الصحيح من إخراج إحداهما. وكلام الإمام أحمد ليس صريحاً في الإعلال، وإن كان ذكر أن إبراهيم إذا حدث من حفظه فإنه كان يخطئ، أما كتبه فهي صحيحة، فقد يحدث من حفظه ويكون صحيحاً خاصة إذا لم يخالف، وهنا لم يخالف، فقد وافقه على ذكر أبي هريرة زكريا بن أبي زائدة، ووافقه على ذكر عائشة محمد بن عجلان، كما وافقه أيضاً على رواية الإرسال اثنان من أصحاب زكريا بن أبي زائدة كما تقدم، فلعل الحديث كان يحدث به سعد أو أبو سلمة على هذه الأوجه الثلاثة، والله أعلم.

3.

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: شهدتُ إبراهيم بن سعد وذَكر عن الزهري: {الْمَاعُونَ} : المال بلسان قريش، قيل له: إنك حدثتنا به عن الزهري، عن سعيد، قال: لا، وأنكره، إنما هو عن الزهري، قال أحمد: رواه عنه غير واحد عن سعيد، قال أحمد: ربما حدّث بالشي من حفظه

(1)

.

هذه المسئلة روى عبد الله مثلها قال: "حدثني أبي قال: سمعت إبراهيم ابن سعد يُحدث عن ابن شهاب قال: الماعون بلسان قريش المالُ، فقال له ابنُه سعدٌ: كنتَ حدّثت عن سعيد ـ يعني ابن المسيّب، فأبى وقال: لا، كأنه مِن رأي ابن شهاب. قال أبي: وهو الصواب"

(2)

.

وهذا التفسير رواه ابن جرير الطبري في التفسير

(3)

من طريق موسى

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 405 رقم 1908.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 2/ 533 رقم 3522.

(3)

جامع البيان 30/ 319.

ص: 545

ابن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب. وتقدم عن الإمام أحمد أنه قال: رواه عنه غير واحد على هذا الوجه، وأن الصواب في هذا التفسير أنه من رأي الزهري، وهي الرواية التي استقر عليها بأخرة وأنكر غيرها. وقد رواه ابن أبي ذئب عن الزهري، أخرجه ابن أبي شيبة

(1)

، والطبري

(2)

كلاهما من طريق وكيع، عن ابن أبي ذئب عن الزهري.

وفي قول الإمام أحمد: إن إبراهيم ربما حدث بالشيء من حفظه، إشارة إلى وجه دخول الخطأ في روايته لهذا التفسير عن سعيد بن المسيب، أي حينما رواه عن الزهري عن ابن المسيب ربما حدث به من حفظه فوقع في الخطأ، وهو وجه إيراد الأثر في هذا المطلب.

ولم أر لغير الإمام أحمد الكلام في حفظ إبراهيم بن سعد إذا حدث من حفظه دون كتابه.

2.

‌ عبد الله بن يزيد القرشي، أبو عبد الرحمن المقرئ:

أثنى الإمام أحمد على حديثه عن بعض شيوخه، فقال الفضل بن زياد:"سمعت أبا عبد الله يقول: كان حديث المقرئ حسناً عن سعيد بن أبي أيوب، وعن حيوة بن شُريح، ولكن كان يحدث من كتب الناس، وكان يحفظ حديث موسى ابن أيوب الغافقي، وحرملة بن عمران، وحبان، وما أصح حديثه عن ابن لهيعة"

(3)

.

لكنه تلكم في حفظه وقال: كان حفظ المقرئ رديئاً وكنت لا أسمع منه إلا من كتاب، رواه ابنه عبد الله عنه

(4)

.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة 2/ 421 رقم 10635.

(2)

جامع البيان 30/ 319.

(3)

المعرفة والتاريخ 2/ 192.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 474 رقم 6026.

ص: 546

وذكر الإمام أحمد أثراً رواه من طريقه وعقّب عليه بأنه حدث به من حفظه خلافاً لما في كتابه.

قال عبد الله: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: حدثنا حيوة، قال: أخبرني الحجاج بن راشد الصنعاني، أن أبا صالح سعيد ابن عبد الرحمن الغفاري أخبره أن سُليم بن عتر التجيبي كان يقصُّ على الناس وهو قائم. فقال له صلة بن الحارث الغفاري: وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

قال أبي: كان عندنا فيما قرأ علينا أبو عبد الرحمن من كتابه: سليمان بن عتر، فقال من حفظه: سُليم بن عتر

(1)

.

هذا الأثر رواه البخاري في ترجمة صلة بن الحارث الغفاري

(2)

، والطبراني

(3)

، ومن طريقه الضياء المقدسي

(4)

، وفيه ذكر تكملة قول صلة بن الحارث:[ما تركنا عهد نبينا ولا قطعنا أرحامنا حتى قمتَ أنت وأصحابك بين أظهرنا]، يشير رضي الله عنه إلى بني أمية، فإن سُليم بن عتر كان قاضياً لأهل مصر في ولاية عمرو بن العاص

(5)

. وذكر الحافظ ابن حجر أن البغوي، ومحمد بن الربيع الجيزي، وابن السكن رووه أيضاً من طريق سعيد بن عبد الرحمن الغفاري

(6)

.

وسُليم بن عتر من تابعي أهل مصر وقضاتهم، وكان من النساك، وسمع أبا الدرداء، وقد ترجم له الإمام البخاري

(7)

، وابن أبي حاتم

(8)

،

(1)

المصدر نفسه 3/ 474 رقم 6028.

(2)

التاريخ الكبير 4/ 321.

(3)

المعجم الكبير 8/ 74.

(4)

الإحاديث المختارة 8/ 52.

(5)

مسند إسحاق بن راهويه 1/ 347 رقم 344.

(6)

الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 193.

(7)

التاريخ الكبير 4/ 125.

(8)

الجرح والتعديل 4/ 211.

ص: 547

والعجلي

(1)

، وابن حبان

(2)

، والأمير ابن ماكولا

(3)

، والحافظ الذهبي

(4)

، ولم يشر أحد منهم إلى أن اسمه سليمان كما ذكر الإمام أحمد أنه هو المثبت في كتاب المقرئ. وقد تابع المقرئ على تسميته سُليماً عددٌ من الرواة المصريين منهم عبد الله بن وهب، ورشدين بن سعد في أثر عند نعيم بن حماد الخزاعي في الفتن

(5)

، وكذلك عبد الله ابن المبارك في كتاب الزهد له

(6)

. فكأن ما حدث به المُقرئ من حفظه هنا أصح مما في كتابه، ولعل هذا وجه عدم تصريح الإمام أحمد بخطأ المقرئ في قوله: سُليم، واكتفى بالإشارة إلى الاختلاف بين ما كان في كتابه وما حدث به من حفظه، والله أعلم.

ولم أر لغير الإمام أحمد إشارة إلى هذه العلة في أحاديث أبي عبد الرحمن المقرئ إلا ما ذكره الخليلي أنه ثقة مخرج في الصحيح، وحديثه عن الثقات يحتج به ويتفرد بأحاديث

(7)

، والتفرد إذا كثر فهو مظنة لوقوع العلل في حديث الراوي، والله أعلم.

3.

‌ عبد الرزاق بن همام الصنعاني:

تقدم في مطلب الاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي أن عبد الرزاق، وكان أحد الثقات الأعلام، بعد ذهاب بصره كان يلقن فيتلقن، وأدى ذلك إلى وجود المناكير في مروياته عن طريق من سمع منه في تلك الفترة. وهناك وجه آخر لدخول المناكير في مروياته، وهو تحديثه من حفظه دون كتابه. وليس هناك عن الإمام أحمد التصريح بإطلاق التضعيف فيما حدث به عبد الرزاق من حفظه

(1)

معرفة الثقات 1/ 425 رقم 658.

(2)

كتاب الثقات 4/ 329.

(3)

الإكمال 6/ 293.

(4)

سير أعلام النبلاء 4/ 131.

(5)

الفتن 2/ 474 رقم 1332.

(6)

كتاب الزهد ص 133.

(7)

الإرشاد 1/ 383.

ص: 548

دون كتابه، لكن أعل بعض أحاديثه بسبب هذه العلة، ومن تلك الأحاديث:

1.

قال أبو داود: سمعتُ أحمد ذكر حديثَ عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً جديداً قال: "لبست جديداً

"؟ فقال: كان يحدث به عبد الرزاق من حفظه، فلا أدري هو في كتابه أم لا؟ وجعل أبو عبد الله ينكره. قال أبو عبد الله: وكان حديث أبي الأشهب عنده ـ يعني عبد الرزاق ـ عن سفيان، وكان يغلط فيه يقول: عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب

(1)

.

هذا الحديث ذكر الإمام أحمد أن عبد الرزاق رواه بإسنادين، وكلاهما منكران:

الأول: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه؛ وهو في منصف عبد الرزاق

(2)

، ورواه النسائي

(3)

، وابن ماجه

(4)

، وأحمد

(5)

، وعبد ابن حميد

(6)

، والبخاري

(7)

، والترمذي

(8)

، والبزار

(9)

، وأبو يعلى

(10)

، وابن حبان

(11)

، والطبراني

(12)

، وابن عبد البر

(13)

، وابن حجر

(14)

من طرق عن عبد الرزاق،

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 435 رقم 2004.

(2)

مصنف عبد الرزاق 11/ 223 ح 20382.

(3)

السنن الكبرى 6/ 85 ح 15143، وعمل اليوم والليلة ص 275 ح 311.

(4)

سنن ابن ماجه 2/ 1178 ح 3558.

(5)

المسند 9/ 440 ح 5620.

(6)

المنتخب من مسنده ص 237 ح 723.

(7)

تعليقاً في التاريخ الكبير 3/ 356، وفي التاريخ الأوسط 2/ 33.

(8)

علل الترمذي الكبير 2/ 937.

(9)

كشف الأستار 3/ 175 ح 2504.

(10)

مسند أبي يعلى 9/ 402 ح 5545.

(11)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 15/ 320 ح 6897.

(12)

المعجم الكبير 12/ 283 ح 13127، وفي الدعاء ح 399.

(13)

الاستيعاب 3/ 1157.

(14)

تنائج الأفكار 1/ 135.

ص: 549

ولفظه كما عند أحمد: رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوباً أبيض فقال: "أجديد ثوبك أم غسيل؟ " فقال: لا أدري ما رد عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الْبَسْ جديداً، وعِشْ حميداً، ومُتْ شهيداً" أظنه قال: "ويرزقك الله قُرّة عينٍ في الدُّنيا والآخرة".

وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الطريق: أنكر الإمام أحمد الحديث من هذا الطريق، وعلّل ذلك بأن عبد الرزاق حدّث به من حفظه، وأنه لا يدري هل هو في كتابه أم لا؟ والذي يُجزم به أن عبد الرزاق قد حدّث به قبل ذهاب بصره بدليل رواية أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه

(1)

للحديث عنه، وكلاهما ممن سمع منه قبل ذهاب بصره، فعلى هذا لا يكون سبب علة الحديث قبول عبد الرزاق للتّلقين والذي سبق بحثه في الاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي، وتعين السبب الذي ذكره الإمام أحمد وهو تحديث عبد الرزاق بالحديث من حفظه دون كتابه، بغض النظر عن كون الحديث في أصل كتابه أو لا

(2)

.

الثاني: عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب. هكذا ذكره الإمام أحمد عن عبد الرزاق، ولم أره لغيره، ورواه حفص بن عمر المهرقاني

(3)

، وأبو مسعود الرازي

(4)

، وزهير بن محمد المروزي

(5)

ثلاثتهم عن

(1)

رواه أبو يعلى من طريقه.

(2)

وقد جزم الشيخ ياسر بن فتحي المصري في تخريجه لأحاديث كتاب "الذكر والدعاء والعلاج بالرقى من الكتاب والسنة" ص 81 - 82 أن هذا الحديث لم يكن في كتاب عبد الرزاق مستنداً إلى قول الإمام أحمد في رواية الأثرم أنه قال: هذا كان يحدث به من حفظه ولم يكن في الكتب. ا. هـ، ثم أحال على مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود في موضع هذا السؤال نفسه، والذي ورد في هذا الموضع هو ما تقدم نقله أن الإمام أحمد قال: لا أدري أهو في كتابه أو لا؟ وهو من رواية أبي داود، وأما ما ذكره الإمام أحمد في رواية الأثرم فهو في حديث آخر لعبد الرزاق، وهو حديث [النار جبار] الذي سبق وأن ذكرته في مطلب الاختلاط بسبب ذهاب بصر الراوي انظر: ص 452.

(3)

قال فيه أبو زرعة وأبو حاتم: صدوق الجرح والتعديل 3/ 184.

(4)

أحمد بن الفرات ثقة حافظ تقريب التهذيب ترجمة 88.

(5)

هو ابن قُمير المروزي، وثقه السراج تهذيب الكمال 9/ 411.

ص: 550

عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه الطبراني

(1)

، وذكره الإمام البخاري تعليقاً عن عبد الرزاق

(2)

.

أما الطريق الذي ذكره الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فذكر أنه كان يغلط فيه، ولم يبين وجه الغلط، وأما الطريق الذي رواه الطبراني فقال: وهم فيه عبد الرزاق، وحدث به بعد أن عمي، والصحيح عن معمر، عن الزهري، ولم يحدث به عن عبد الرزاق هكذا إلا هؤلاء الثلاثة. ا. هـ

(3)

. والصحيح عن الثوري هو ما رواه أبو نعيم، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي الأشهب، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوباً جديداً مرسل. قاله البخاري

(4)

، وقال: وهذا أصح بإرساله. ا. هـ

(5)

، فإن أبا نعيم مقدم على عبد الرزاق في الثوري

(6)

، وقد تابعه ابن سعد، عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد به

(7)

.

وجه علة هذا الطريق عند الإمام أحمد:

لم يبين الإمام أحمد وجه غلط عبد الرزاق في هذا الحديث ولا وجه دخول الغلط عليه، فأما وجه الغلط فظاهر في مخالفته لأبي نعيم عن الثوري وكذلك لرواية ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، وأما دخول الغلط عليه فذكر الطبراني أنه وهم فيه لأنه حدّث به بعد ما عمي، يعني حين كان يقبل التلقين، والذي يظهر لي أن هذا ليس وجه دخول الخطأ عليه، لأن الإمام أحمد أثبت أن

(1)

كتاب الدعاء ح 400.

(2)

التاريخ الكبير 3/ 356، والتاريخ الأوسط 2/ 33.

(3)

تنائج الأفكار 1/ 138.

(4)

علل الترمذي الكبير 2/ 938.

(5)

التاريخ الكبير 3/ 356.

(6)

شرح علل الترمذي 2/ 722.

(7)

الطبقات الكبرى 3/ 329.

ص: 551

الحديث عنده عن سفيان، وسماع أحمد من عبد الرزاق كان قبل ذهاب بصره، فليست العلة من أجل قبوله التلقين، وإنما دخل الوهم عليه لأنه كان يضطرب في بعض أحاديثه عن الثوري، وهي التي سمعها بمكة، قال أحمد في رواية الأثرم:"سماع عبد الرزاق بمكة من سفيان مضطرب جداً"

(1)

، فلذلك روي عنه هذا الحديث عن الثوري من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكره أحمد، عن الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن أبي الأشهب؛ والثاني ما رواه الطبراني عنه عن الثوري، عن عاصم، عن سالم عن أبيه؛ والثالث: أشار إليه ابن حبان بعد روايته للحديث من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، قال: قال عبد الرزاق: وزاد فيه الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد:"ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والآخرة"

(2)

. فهذا التلون في رواية الحديث الواحد يدل على الاضطراب مما يقوي الظن بأنه من سماع مكة، والله أعلم.

وقد وافق الإمام أحمد على إنكار هذا الحديث على عبد الرزاق من كلا الطريقين عدد من الحفاظ، فيما يلي أقوالهم:

قال الإمام البخاري: وكلا الحديثين لا شيء، ورجح أن حديث أبي الأشهب من رواية أبي نعيم عن الثوري هو أصح مع إرساله.

قال الإمام أبو حاتم: هذا حديث ليس له أصل من حديث الزهري، ولم يرض عبد الرزاق حتى أتبع هذا بشيء أنكر من هذا فقال: حدثنا الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وليس لشيء من هذين أصل

وإنما هو معمر عن الزهري مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 770. وانظر: الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم ص 87.

(2)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 15/ 321.

(3)

علل ابن أبي حاتم 1/ 487 - 488. وانظر الكتاب نفسه 1/ 490.

ص: 552

وقال الإمام النسائي: هذا حديث منكر، أنكره يحيى بن سعيد القطان على عبد الرزاق، لم يروه عن معمر غير عبد الرزاق

(1)

.

وقال حمزة الكناني: لا أعلم أحداً رواه عن معمر، وما أحسبه بالصحيح

(2)

.

2.

ومما ذكره الإمام أحمد من الأحاديث التي حدث بها عبد الرزاق من حفظه خارج كتابه فوهم فيها:

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: حديث عُكافٍ

(3)

: كان عند عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، قال: قال عبد الرزاق ـ من حفظه ـ قال: ثنا مَكحول، يعني عن سليمان بن موسى قال: ثنا مكحول، فلما أخرج ـ يعني الكتاب ـ لم يكن فيه:"حدثنا" قال: عن مكحول، عن رجل، عن أبي ذر

(4)

.

هذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وهو من رواية الدبري عنه

(5)

، عن محمد بن راشد: قال سمعت مكحولاً يحدث عن رجل، عن أبي ذر قال: [دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقال له عكاف بن بشر التميمي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من زوجة؟ " قال: لا، قال:"ولا جارية؟ " قال: ولا جارية، قال:"وأنت موسرٌ بخير؟ " قال: وأنا موسر بخير، قال: "أنت إذا من أخوان الشياطين، لو كنت من النصارى كنت من رهبانهم، إن سنتنا النكاح، وشراركم عزّابكم، وأراذل موتاكم

(1)

السنن الكبرى 5/ 86.

(2)

مصباح الزجاجة 4/ 82.

(3)

عكاف بن وداعة الهلالي، ويقال: ابن بسر التميمي، ذكره ابن قانع في الصحابة، قال ابن عبد البر: يعد في الشاميين، روى عن عطية بن بسر المازني حديثه في الترغيب في النكاح ولا يعرف إلا به، وفي سنده مقال وهو مشهور عند أهل الشام معجم الصحابة 2/ 283، الاستيعاب 3/ 1244، تعجيل المنفعة ص 191.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 450 رقم 2047.

(5)

كتاب النكاح من المصنف المطبوع من رواية الدبري عن عبد الرزاق انظر: المصنف 6/ 133.

ص: 553

عزّابكم، بالشياطين تتمرسون؟ ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجين، أوليك المطهّرون المبرّؤون من الخَنا، ويحك، ياعكاف! إنهن صواحب أيّوب، وداود، وكُرسف، ويوسف". فقال له بشر بن عطية: ومن كُرسف يا رسول الله؟ قال: "رجل كان يعبد الله من سواحل البحر ثلاث مئة عام، يصوم النهار ويقوم الليل، ثم إنه كفر بالله العظيم في سبب امرأة عشقها، وترك ما كان عليه من عبادة ربه، ثم استدركه الله ببعض ما كان منه فتاب عليه، ويحك يا عكاف، تزوج! وإلا أنت من المذبذبين، " قال: زوجني يا رسول الله، قال:"فزوجه كريمة ابنةَ كُلثوم الحميري"

(1)

. فوقع في الإسناد التصريح بالسماع بين محمد بن راشد ومكحول كما ذكر أبو داود في سؤاله هذا للإمام أحمد، وورواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق بالعنعنة بين محمد بن راشد ومكحول

(2)

. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن مندة رواه من طريق محمد بن أبي السري عن عبد الرزاق، لكن لم يسق الإسناد حتى تتبين صيغة التحمل فيه، وفيه التصريح بأن الرجل المبهم في الإسناد هو غضيف بن الحارث

(3)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بأن ذكر السماع في الإسناد بين محمد بن راشد ومكحول لم يكن في كتاب عبد الرزاق، وإنما حدث به من حفظه فوهم، ولذلك لما روى الإمام

(1)

مصنف عبد الرزاق 6/ 171 رقم 10387. وورد في الإسناد في سؤال أبي داود أن محمد بن راشد يروي الحديث عن سليمان بن موسى، وذكر سليمان بن موسى هنا خطأ، فلم يذكر في إسناد عبد الرزاق في هذا الموضع ولا في مسند أحمد الذي رواه من طريق عبد الرزاق كما سيأتي، ولا في إتحاف المهرة 14/ 232. وإنما ورد ذكره في إسناد الحديث كما رواه الشاميون: بقية بن الوليد، ووليد بن مسلم انظر: مسند أبي يعلى 12/ 260 ح 6856، تاريخ واسط ص 213.

(2)

مسند الإمام 35/ 355 ح 21450.

(3)

القول المسدد ص 73.

ص: 554

أحمد الحديث من طريق عبد الرزاق رواه على الوجه كما هو في أصل عبد الرزاق، لأنه كان لا يأخذ عنه إلا ما كان في أصل كتابه، فهذا يمثل ما كان عليه عبد الرزاق من الوقوع في الوهم إذا حدث من حفظه.

وهذا الحديث رواه أهل الشام من طرق أخرى، وقال الحافظ ابن حجر عن طرق هذا الحديث: كلها لا تخلو من ضعف واضطراب

(1)

.

4.

‌ عبد العزيز بن محمد الدراوردي:

قال أبو طالب: "سئل أحمد بن حنبل عن عبد العزيز الدراوردي؟ فقال: كان معروفاً بالحديث والطلب، وإذا حدّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس أوهم، وكان يقرأ على الناس من كتبهم فكان يخطئ، وربما قلب حديث عبد الله العمرى يرويه عن عبيد الله بن عمر، قيل له: لعل قد رواها عبيد الله؟ قال: عبيد الله كان أثبت من ذلك، وإذا قرأ في كتبه كان صحيحاً"

(2)

.

ذكر الإمام أحمد في هذه الرواية صحة حديث الدراوردي إذا روى من كتابه، وأنه معروف بطلب الحديث، وذكر وجهين آخرين يدخل الضعف في حديثه منهما، وهما: تحديثه من كتب الناس، وأن أحاديثه عن عبيد الله بن عمر مقلوبة.

وأما يتعلق بما حدّث به الدراوردي من حفظه فقال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر الدراوردي فقال: كتابه أصح من حفظه"

(3)

.

وعن أحمد قال: "كان الدراوردي إذا حدّث من حفظه يهم، ليس هو

(1)

الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 496، وانظر: الضعفاء للعقيلي 3/ 1060، الاستيعاب 3/ 1244، العلل المتناهية 2/ 609 - 610، تعجيل المنفعة ص 192.

(2)

المعرفة والتاريخ 1/ 429، والجرح والتعديل 5/ 395.

(3)

سؤالات أبي داود للإمام أحمد بن حنبل 221 رقم 198.

ص: 555

بشيء، وإذا حدث من كتابه فنعم"

(1)

.

ومما أعله الإمام أحمد من حديث الدراوردي لكونه حدّث به من حفظه وليس في كتابه:

قال أبو داود: "سمعت أحمد ذكر حديث الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُستعذب له الماءَ من بيوت السُّقيا؟ فقال: هذا أُواه ريح، وسمعت أحمد ذكر هذا الحديث فقال: ليس هذا ـ يعني هذا الحديث ـ في كتاب الدراوردي، وكان يحدّثه حفظاً، فقال أحمد: كتابُه أصح من حفظه

(2)

.

هذا الحديث رواه أبو داود

(3)

، وابن سعد

(4)

، وأحمد

(5)

، وإسحاق ابن راهويه

(6)

، وعمر بن شبة

(7)

، وابن حبان

(8)

، وأبو الشيخ

(9)

، والحاكم

(10)

، وأبو نعيم

(11)

، والبيهقي

(12)

، والخطيب

(13)

، والبغوي

(14)

كلهم من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به.

(1)

سير أعلام النبلاء 8/ 366.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 418 رقم 1948.

(3)

سنن أبي داود 4/ 119 ح 3735.

(4)

الطبقات الكبرى 1/ 506.

(5)

المسند 41/ 223 ح 24693، 41/ 288 ح 24770.

(6)

مسند إسحاق بن راهويه 2/ 317 ح 298، 2/ 364 ح 362، 3/ 1001 ح 1192.

(7)

تاريخ المدينة 1/ 158.

(8)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 12/ 149 ح 5332.

(9)

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ص 227.

(10)

المستدرك 4/ 138.

(11)

تاريخ إصبهان 2/ 89 في ترجمة الدراوردي.

(12)

شعب الإيمان 5/ 120 ح 6032.

(13)

تاريخ بغداد 3/ 130.

(14)

شرح السنة 11/ 384 ح 3049.

ص: 556

وزاد أبو داود في روايته تفسير قتيبة بن سعيد لبيوت السقيا بأنها عين بينها وبين المدينة يومان. وقال غيره إنها بئر بالمدينة

(1)

.

وجه إعلال الإمام أحمد للحديث:

أعله الإمام أحمد بقوله: هذا أُراه ريح، وهو إشارة إلى إنكاره للحديث وأنه ليس بشيء عنده، وجعل علة ذلك كون الحديث ليس في كتاب الدراوردي وإنما كان يحدث به من حفظه، وإذا حدث من غير كتابه فإنه ليس بشيء عنده.

وقد توبع الدراوردي عن هشام بن عروة: تابعه عامر بن صالح بن عبد الله ابن عروة بن الزبير عند أبي الشيخ

(2)

، وابن عدي

(3)

، والبيهقي

(4)

. وعامر بن صالح متروك الحديث

(5)

، وقال ابن عدي: هذا الحديث يعرف بعبد العزيز الدراوردي. ا. هـ. وخاصة وقد رماه ابن عدي بسرقة الحديث فلا يعتبر به.

وتابعه أيضاً محمد بن المنذر

(6)

، عند

(1)

معجم البلدان 3/ 228.

(2)

أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ص 227.

(3)

الكامل 5/ 1737.

(4)

شعب الإيمان 5/ 120 ح 6033.

(5)

هكذا قال الحافظ ابن حجر فيه وتبع في ذلك الدارقطني. وقد كان يحيى بن معين يرميه بالكذب وكان أحمد يروي عنه، ويقول فيه: ثقة، لم يكن صاحب كذب. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ما أرى به بأساً. قال الدارقطني: أساء ابن معين القول فيه، ولم يتبين أمره عند أحمد، وهو مدني يترك عندي. وقال ابن عدي: عامة حديثه مسروق من الثقات، وأفراد ينفرد بها. وقال أبو نعيم: روى عن هشام بن عروة مناكير لا شيء.

انظر: الجرح والتعديل 6/ 324، تاريخ بغداد 12/ 234، الكامل لابن عدي 5/ 1738، كتاب الضعفاء لأبي نعيم ص 124 ترجمة 181، تقريب التهذيب 3113.

(6)

هو ابن عبيد الله، وليس محمد بن المنذر بن الزبير بن العوام، فإن كل واحد منهما يروي عن هشام، إلا أن الأول يروي عنه عتيق بن يعقوب الزبيري، وهو الراوي عنه في هذا الحديث. وقد قال عنه ابن حبان: كان ممن يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات، لا يحل كتابة حديثه إلا علي سبيل الاعتبار المجروحين 2/ 259.

ص: 557

البغوي

(1)

، ومحمد بن المنذر أيضاً لا يصلح للاعتبار. قال عنه الحاكم: يروي عن هشام أحاديث موضوعة

(2)

، وقال أبو نعيم: روى عن هشام بن عروة أحاديث منكرة

(3)

.

وقد روى هذا الحديث عن الدراوردي نحو أربعةَ عشرَ راوياً من غير اختلاف فيما بينهم، مما يقوي جانب حفظ الدراوردي للحديث وإن كان حدّث به من حفظه، ولعل هذا ما جعل الحافظ ابن حجر يجوّد إسناد الحديث

(4)

. أما الإمام أحمد فلم ير قبول تفرد الدراوردي بهذا الحديث لضعفه بسبب العلة التي ذكرها، وقد ذكر يعقوب الحموي بإسناده عن صالح جزرة عن أحمد أنه قال: "عبد العزيز بن محمد الدراوردي ضعيف الحديث، روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

" فذكر هذا الحديث

(5)

.

وقد كان يحيى بن معين يذهب إلى مثل ما ذهب إليه الإمام أحمد في الدراوردي، فمع أنه كان يقول فيه: لا بأس به

(6)

، فقد قال في رواية أبي خالد الدقاق: الدراوردي ما روى من كتابه فهو أثبت من حفظه

(7)

، وأعل الحديث الذي رواه ـ أي الدراوردي ـ عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، "عن أبي هريرة"

(8)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: "تقتلك فئة باغية"، قال ابن معين: "لم يُوجد في كتاب

(1)

شرح السنة 11/ 384 ح 3050.

(2)

لسان الميزان 5/ 394.

(3)

كتاب الضعفاء ص 139 ترجمة 211.

(4)

فتح الباري 10/ 74.

(5)

معجم البلدان 3/ 228.

(6)

تاريخ ابن معين ـ برواية الدارمي ص 174.

(7)

من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال ـ رواية أبي خالد الدقاق ص 93.

(8)

سقطت هذه الجملة من كتاب ابن طهمان، وهي مثبتة عند ابن رجب في شرح علل الترمذي حيث روى القصة عن ابن معين 2/ 758، وكذلك في مواضع تخريج الحديث.

ص: 558

الدراوردي، وأخبرني من سمع كتاب العلاء ـ يعني من الدراوردي ـ إنما كانت صحيفة، ليس هذا فيها، وكانت قصة واحدة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

، والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح"

(1)

.

ومن الرواة الذين يجزم بأن سماعهم من الدراوردي كان من أصل كتابه الحميدي عبد الله بن الزبير، صاحب ابن عيينة، فقد روى الفضل بن زياد عن الحميدي قال:"قدمت المدينة فبدأت بعبد العزيز بن محمد الدراوردي فجاء في جماعة من أهل المدينة يلومنني يقولون: تركت شيخنا أن تبدأ به وتأتيه. قال: تلومونني فيما فعلت، إنما أتيت الدراوردي لأسلم عليه وأكتب عنه شيئاً، ويكون اعتمادي على ابن أبي حازم إن شاء الله، وبلغ الدراوردي اجتماع من اجتمع إليّ فلما رجعتُ إليه قال: يا قرشي، قد بلغني الذي كان، وقد عزمتُ أن أُخرج إليك كتبي وأصولي لتكتبها وأقرأها عليك. قال: فأخرج إليّ أصوله، وإذا هي كتبٌ صحاح وأحاديث مستقيمة. قال: وقد كان يُؤتى بالأحاديث فتُقرأ عليه، فإن كان في حديثه الذي حملوا عنه خللاً فإنما جاء مما أعلمتكم أنه كان يقرأ من كتبه الناس، وقد كان يذاكر بالحديث مما ليس عنده فيتهاونون به ويقولون: هذا مما لم يكن في كتبه، ويذاكر بالشيء المرفوع فيقولون: هذا في أصل كتابه منقطع"

(2)

. فيؤخذ من هذا أن ما رواه الحيمدي عن الدراوردي فهو من صحيح حديثه.

5.

‌ عبد الأعلى بن عبد الأعلى السَّامي:

قال أبو داود: "سمعت أحمد قيل له: عبد الأعلى السامي؟ قال: ما كان من حفظه ففيه تخليط، وما كان من كتابه فلا بأس به، وكان يحفظ حديث يونس

(1)

من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال ـ رواية أبي خالد الدقاق ص 113 - 114.

(2)

المعرفة والتاريخ 1/ 428.

ص: 559

مثل سورة من القرآن"

(1)

.

ولم أقف على حديث أعلّه الإمام أحمد من هذا الوجه يصلح بأن يكون مثالاً لما ذكره رحمه الله. ولعل تضعيف من ضعف عبد الأعلى نسبياً هو من هذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد، والعلم عند الله.

6.

‌ محمد بن بشر العبدي:

قال الإمام أحمد في رواية أبي داود: "محمد بن بشر كان صحيح الكتاب، وربما حدث من حفظه"

(2)

. فصحح حديثه إذا حدث من كتابه، وقوله: وربما حدث من حفظه، إشارة أن أنه قد يترك التحديث من الكتاب ويحدث من حفظه، وعليه فيحمل ما وقع في حديثه من الأوهام على أنه كان بسبب اعتماده على الحفظ. وقريب من هذا قول عثمان بن أبي شيبة فيه:"محمد بن بشر ثقة ثبت إذا حدث من كتابه"

(3)

، فإن مفهومه أنه إذا حدث من حفظه فليس بثقة ثبت. ولا يوجد في كلام الإمام أحمد ولا في كلام عثمان بن أبي شيبة ما يدل على تضعيفه مطلقاً إذا حدث من حفظه، بل الذي يفهم من كلامهما أن هذا الراوي أوثق وأثبت حين يحدث من كتابه.

وقد أشار الإمام أحمد إلى حديث حدّث به محمد بن بشر من حفظه خلافاً لما في كتابه، وهو يدل على ما ذكره أحمد عنه:

قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: محمد بن بشر كان صحيحَ الكتاب، وربما حدث من حفظه، فذكرت له: أنه حُدّث عنه بحديث علي بن صالح، عن أبي بكر، أعني حديث علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جُحيْفة: قال

(1)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد ص 346 رقم 530.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 393 رقم 1878.

(3)

تهذيب التهذيب 9/ 75.

ص: 560

أبو بكر: أراك قد شِبتَ يا رسول الله، فقال:"شيّبتْني هودٌ وأخواتُها"؟ فقال: قد كتبُه، يعني: عن ابن بشر، عن علي بن صالح، عن أبي جحيفة، وليس فيه: عن أبي بكر، وهو عندي وهمٌ، إنما هو أبو إسحاق، عن عكرمة

(1)

.

هذا الحديث رواه محمد بن بشر من الطريق الذي ذكره أبو داود ـ علي ابن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة، عن أبي بكر ـ واختلف عليه فيه:

فرواه شهاب بن عباد

(2)

، ومحمد بن المهاجر القاضي

(3)

، عن محمد بن بشر، فذكرا فيه: أبا بكر الصديق، ذكر روايتهما الدارقطني بإسناده في العلل

(4)

.

ورواه الإمام أحمد من كتابه كما قال في رواية أبي داود هذه، وكذلك حميد ابن الربيع عند الدارقطني في العلل

(5)

؛ ومحمد بن عبد الله بن نمير عند أبي يعلى

(6)

، والطبراني

(7)

، والدارقطني

(8)

، وأبي نعيم

(9)

، فلم يتجاوزا به أبا جحيفة ولم يذكروا أبا بكر الصديق. وذكر الإمام أحمد أنه كتب الحديث على هذا الوجه عن محمد بن بشر، فدل على أنه لما حدث به على الوجه الآخر حدّث به من حفظه

(1)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود الموضع نفسه.

(2)

العبدي أبو عمر الكوفي، أخرج له الشيخان، ووثقه أبو حاتم وغيره تهذيب الكمال 12/ 573 - 574. وفي الإسناد إليه القاسم بن محمد بن حميد الدلال، ضعفه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات 9/ 19. وانظر: ميزان الاعتدال 4/ 298 ترجمة 6835.

(3)

ذكر الحافظ ابن حجر أن الخطيب ذكره في المتفق، وهو ضعيف، وهو غير محمد بن المهاجر الطالقاني فذاك وضاع لسان الميزان 5/ 396 - 397.

(4)

علل الدراقطني 1/ 207.

(5)

علل الدارقطني 1/ 206.

(6)

مسند أبي يعلى 2/ 184 ح 880.

(7)

المعجم الكبير 22/ 123 ح 318.

(8)

علل الدارقطني 1/ 206 - 207.

(9)

حلية الأولياء 4/ 350.

ص: 561

فأخطأ فزاد في الإسناد.

وذكر الإمام أحمد أن الحديث من رواية أبي جحيفة وهم، وأن الصواب: عن أبي إسحاق، عن عكرمة مرسلاً.

7.

‌ همام بن يحيى العَوْذي:

وثقه الإمام أحمد مطلقاً، فقال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: همام ثبت في كل المشايخ

(1)

.

وسأله الأثرم: أي شيء تقول في همام؟ فقال: كان عبد الرحمن بن مهدي يرضاه

(2)

.

وكان يحيى بن سعيد القطان يعترض على همام في كثير من حديثه، فلما قدم معاذ بن هشام نظروا في كتبه فوجدوه يوافق هماماً في كثير مما كان يحيى ينكره، فكف يحيى بعدُ عنه. قاله عمر بن شبة

(3)

.

لكن أشار الإمام أحمد إلى أن هماماً كان يخطئ إذا حدّث من حفظه، وأما إذا كان قريبَ عهدٍ بكتابه فقلما كان يخطئ. وكان في آخر أمره يقرب عهده بالكتاب، فسماع من سمع منه بأخرة أجود من غيره.

قال عبد الله: "سمعت أبي يقول: قال عفان حدثنا يوماً همام، قال: فقلت له: إن يزيد بن زريع حدثنا عن سعيد عن قتادة ذكر خلاف ذلك الحديث، قال: فذهب فنظر في الكتاب، ثم جاء فقال: يا عفان، ألا تراني أخطئ وأنا لا أعلم. قال عفان: وكان همام إذا حدثنا بقرب عهده بالكتاب فقل ما كان يخطئ. قال أبي: ومن سمع من همام بآخره فهو أجود، لأن هماماً كان في آخر عمره أصابته

(1)

الجرح والتعديل 9/ 108.

(2)

الموضع نفسه.

(3)

الجرح والتعديل 9/ 108.

ص: 562

زمانة

(1)

فكان يقرب عهده بالكتاب، فقل ما كان يخطئ"

(2)

.

وذكر في رواية أبي داود بعض من سمع منه بأخرة.

قال أبو داود: "سمعت أحمد قال: همام يضبط ضبطاً جيداً. سمعت أحمد يقول سماع من سمع من همام بآخرة هو أصح، وذلك أنه أصابته مثل الزمانة فكان يحدثهم من كتابه، فسماع عفان، وحبان، وبهز أجود من سماع عبد الرحمن، لأنه كان يحدثهم يعني لعبد الرحمن ـ أي أيامهم ـ من حفظٍ. سمعت أحمد قال: قال عفان: ثنا همام يوماً بحديث، فقيل له فيه، فدخل فنظر في كتابه فقال: ألا أراني أخطئ وأنا لا أدري، فكان بعد يتعاهد كتابه"

(3)

.

وقد أخرج الجماعة لهمام من حديث عفان وحبان بن هلال عنه، وأخرج له مسلم فقط دون البخاري من حديث عبد الرحمن بن مهدي عنه

(4)

.

وقد وافق الإمام أحمد على مثل هذا التفصيل في حديث همام بعض الحفاظ، فقال يزيد بن زريع: همام حفظه ردئ وكتابه صالح

(5)

.

وسئل أبو حاتم عن همام وأبان العطار من يقدم منهما؟ قال: همام أحب إليّ ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط

(6)

. فأشارا إلى أنه إذا حدث من كتابه فهو أوثق منه إذا حدث من حفظه.

(1)

الزمانة العاهة، يقال: زمِن يزمَن زَمَناً وزُمنة وزَمانة لسان العرب، مادة:"ز م ن" 13/ 199.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 357 رقم 682 - 683.

(3)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 1/ 335 - 336.

(4)

انظر: تهذيب الكمال 30/ 303، 304.

(5)

الجرح والتعديل 9/ 108.

(6)

الجرح والتعديل 9/ 109.

ص: 563

8.

‌ أبو عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي:

قدّمه الإمام أحمد إذا حدّث من كتابه على جرير الرازي

(1)

.

وقال الفضل بن زياد: "سئل ـ يعني أحمد بن حنبل ـ أبو عوانة أثبت أو شريك؟ فقال: إذا حدّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدّث من غير كتابه ربما وهِم"

(2)

.

وقال أيضاً: "أبو عوانة كتابه صحيح

وفي جميع حاله أصح حديثاً عندنا من هشيم، إلا أنه بأخرة كان يقرأ من كتب الناس فيقرأ الخطأ، فأما إذا كان من كتابه فهو ثبت"

(3)

.

وهذا أيضاً ليس فيه تضعيف لأبي عوانة فيما حدّث به من حفظه، إنما يدل على أن ما حدث به من كتابه أصح مما حدث به من حفظه.

مثال لما حدث به أبو عوانة من حفظه فأخطأ فيه:

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حديثُ أبي صادقٍ، عن ربيعة بن ناجِذ. رواه أبو عوانة ـ يعني عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادقٍ، عن ربيعة بن ناجذ، عن عليٍّ أنه قيل له:[بما ورِثت ابنَ عمِّك؟] قال أبو عبد الله: وهذا مما أخطأ فيه، وقال لنا موسى بن إسماعيل: هكذا حدثنا به أبو عوانة من حفظه، وأخطأ فيه، وحدثنا به من كتابه، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن ميسرة الكندي، عن علي

(4)

.

(1)

قال ذلك في رواية ابن هانئ مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 208 رقم 2134، والفضل بن زياد المعرفة والتاريخ 2/ 167.

(2)

المعرفة والتاريخ 2/ 168.

(3)

الموضع نفسه.

(4)

المنتخب من العلل للخلال ص 207 رقم 119.

ص: 564

هذا الحديث رواه النسائي

(1)

، وأحمد

(2)

، وابن جرير

(3)

، والمقدسي

(4)

، والمزي

(5)

كلاهما من طريق أحمد كلهم من طريق عفان بن مسلم قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين لم ورثتَ ابنَ عمك دون عمِّك، قال:[جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب فصنع لهم مداًّ من طعام، قال: فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يُمسّ، ثم دعا بغُمَرٍ فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يُمسّ أولم يُشرب، فقال: "يا بني عبد المطلب! إني بُعِثتُ إليكم بخاصة، وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما قد رأيتم، فأيُّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي"، فلم يَقُم إليه أحدٌ، فقمتُ إليه وكنتُ أصغرَ القومِ، فقال: "اجلِس"، ثم قال: ثلاثَ مراتٍ كلَّ ذلك أقوم إليه، فيقول: "اجلس" حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي، ثم قال: "أنت أخي وصاحبي ووارثي ووزيري"، فبذلك ورثت ابنَ عمي دون عمي] وهذا لفظ النسائي وابن جرير. وليس عند أحمد: ووارثي، ولا قوله: لم ورثت ابن عمك دون عمك، وانتهى الحديث عنده بقوله: ضرب بيده على يدي.

وفي هذا الإسناد ربيعة بن ناجذ، قال عنه الذهبي: لا يكاد يعرف

(6)

، ووثقه العجلي، وابن حجر، وذكره ابن حبان

(7)

، وليس له راوٍ سوى

(1)

المسند 2/ 465 ح 1371، وفي فضائل الصحابة 2/ 712 ح 1220.

(2)

السنن الكبرى 5/ 125 ح 8451.

(3)

تاريخ الطبري 1/ 543.

(4)

الأحاديث المختارة 2/ 71 - 72.

(5)

تهذيب الكمال 9/ 146.

(6)

ميزان الاعتدال 2/ 235.

(7)

انظر: معرفة الثقات 1/ 359، وثقات ابن حبان 4/ 229،

ص: 565

أبي صادق

(1)

، واسم أبي صادق مسلم بن يزيد الأزدي، وثقه يعقوب بن شيبة، وقال عنه أبو حاتم: مستقيم الحديث

(2)

.

وأما الإسناد الذي ذكره الإمام أحمد أن موسى بن إسماعيل حدث به عن أبي عوانة من كتابه، فلم أقف عليه. وميسرة الكندي في هذا الإسناد هو ميسرة أبو صالح مولى كندة، روى عن علي وشهد معه قتل الخوارج بالنهروان

(3)

، وذكره ابن حبان في الثقات

(4)

.

وقد قال الذهبي عن حديث ربيعة بن ناجذ هذا إنه منكر

(5)

، وقول علي بن المديني: روى عثمان بن المغيرة أحاديث نكرة من حديث أبي عوانة

(6)

لعله يشير إلى هذا الحديث.

والشاهد أن أبا عوانة حدث بالحديث من حفظه خلافاً لما في كتابه وأخطأ.

9.

‌ يونس بن يزيد الأيلي:

وثقه الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، وذكر كثرة حديثه عن الزهري. قال أحمد: يونس أكثر حديثاً عن الزهري من عُقيل، وهما ثقتان

(7)

.

وقال أحمد في رواية أبي داود: عُقيل ويونس يُؤديان الألفاظ

(8)

. وهذا ثناء عليهما في حسن الأداء.

(1)

انظر: الكاشف 1/ 394 رقم 1557.

(2)

الجرح والتعديل 8/ 199، تهذيب الكمال 33/ 412.

(3)

تهذيب الكمال 29/ 197.

(4)

الثقات 5/ 426، وقال عنه ابن حجر: مقبول تقريب التهذيب 7089.

(5)

ميزان الاعتدال 2/ 235.

(6)

الضعفاء للعقيلي 1/ 123.

(7)

تهذيب الكمال 32/ 555.

(8)

سؤالات أبي دواد للإمام أحمد 269 رقم 310.

ص: 566

لكن ذكر ابن رجب عن أحمد أن يونس إذا حدث من حفظه يخطئ

(1)

، ومفهوم ذلك أنه إذا حدث من كتاب فهو أصح. وقد نص على ذلك اثنان من شيوخ الإمام أحمد، وهما ابن المبارك وابن مهدي. قال ابن المديني: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن يونس بن يزيد الأيلي فقال: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح، قال ابن مهدي: وأقول أنا: كتابه صحيح. ا. هـ

(2)

، وذكر ابن رجب عن ابن مهدي أنه قال: لم يكتب حديث يونس بن يزيد إلا عن ابن المبارك، فإنه أخبرني أنه كتبها عنه من كتابه

(3)

.

وأعلّ الإمام أحمد حديثاً ليونس، وجعل سبب علته احتمال كونه حدّث به من حفظه.

قال أبو داود: سمعت أحمد ذُكر له حديثُ محمد بن بكر البرساني، عن يونس، عن الزهري، عن أنس بن مالك:"أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة"؟ فقال: هذا ـ يعني الوهم ـ من يونس، لعله حدثه حفظاً

(4)

.

هذا الحديث رواه الترمذي

(5)

من طريق محمد بن بكر البرساني، ورواه ابن ماجه

(6)

، وأبو يعلى

(7)

، والطحاوي

(8)

كذلك. وأعله الإمام أحمد بأن يونس وهم فيه، وذلك حيث جعله من حديث أنس، وإنما هو من حديث الزهري

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 765.

(2)

الجرح والتعديل 9/ 248.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 765.

(4)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 408 رقم 1920.

(5)

الجامع 3/ 331 ح 1010.

(6)

سنن ابن ماجه 1/ 475 ح 1483.

(7)

مسند أبي يعلى 6/ 291 ح 3608.

(8)

شرح معاني الآثار 1/ 483.

ص: 567

مرسلاً. رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم أن عبد الله بن عمر كان يمشي أمام الجنائز، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وأبو بكر وعمر وعثمان بن عفان. أخرجه الطحاوي

(1)

، وتابعه شبيب بن سعيد من طريق ابنه أحمد بن شبيب، عن يونس به عند الخطيب

(2)

. والقائل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

هو الزهري، وقد بين ذلك الإمام أحمد في رواية عبد الله كما ذكره عنه الطبراني

(3)

قال: هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر .... ا. هـ. وهكذا رواه الثقات من أصحاب الزهري ـ مالك، ومعمر، وعقيل، وغيرهم. وفيه اختلاف آخر على الزهري في الحديث سيأتي بحثه إن شاء الله في الكلام على الإدراج.

فذِكر أنس في هذا الحديث وهم، وجعل الإمام أحمد الوهم من يونس، وأرجع السبب إلى احتمال كونه حدّث به من حفظه، بدليل أن ابن وهب، وشبيب رواياه عنه على الوجه الصحيح.

أما الإمام البخاري فجعل الواهم في هذا الحديث محمد بن بكر البرساني الراوي عن يونس. قال الترمذي ـ بعد روايته للحديث ـ سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر، وإنما يُروى هذا الحديث عن يونس، عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. قال الزهري: وأخبرني سالم: أن أباه كان يمشي أمام الجنازة. قال محمد: هذا أصح"

(4)

.

(1)

شرح معاني الآثار 1/ 479.

(2)

الفصل للوصل المدرج 1/ 335.

(3)

المعجم الكبير 12/ 286.

(4)

الجامع 3/ 331، وانظر: علل الترمذي الكبير 1/ 406.

ص: 568

والصواب ما ذهب إليه الإمام أحمد من أن الواهم هو يونس بن يزيد، بدليل أن البرساني قد توبع على هذه الرواية عن يونس: تابعه أبو رزعة وهب الله بن راشد المؤذن

(1)

، وبكر بن مضر

(2)

، وأيوب بن سويد

(3)

. فانتفى أن يكون الواهم هو البرساني لمتابعة غيره له عن يونس، وتعين أن يكون يونس هو الواهم.

10.

‌ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج:

كان الإمام أحمد يقول: كان ابن جريج من أوعية العلم

(4)

، لكن تكلم فيما حدث به من حفظه. قال محمد بن موسى بن مشيش: قال أحمد بن حنبل: "كان ابن جريج الذي يحدث من كتاب أصح، وكان في بعض حفظه إذا حدّث حفظاً شيء"

(5)

.

وقريب من هذا قول يحيى بن سعيد القطان: "لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريج فيما كتب"

(6)

. فجعله أثبت الناس في نافع لكن مقيداً بما تحمله كتابة لا حفظاً. وقال يحيى القطان أيضاً: "وإن لم يحدثك ابن جريج من كتابه لم ينتفع به"

(7)

.

(1)

قال أبو حاتم: محله الصدق. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وذكر ابن يونس أن النسائي لم يكن يرضاه الجرح والتعديل 9/ 27، الثقات 9/ 229، لسان الميزان 6/ 235.

وحديثه عند الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 484.

(2)

المصري، ثقة ثبت تقريب التهذيب 759. وحديثه عند الطبراني في الأوسط 1/ 40 ح 106، وقال: لم يرو هذا الحديث عن بكر بن مضر إلا محمد بن سفيان، وهو الحضرمي، ولم أجد له ترجمة.

(3)

هو الرملي، قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ تقريب التهذيب 620.

وحديثه عند ابن حبان في المجروحين 2/ 304.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره 241 رقم 479.

(5)

تاريخ بغداد 10/ 405.

(6)

الموضع نفسه.

(7)

المصدر نفسه 10/ 404 - 405.

ص: 569

ووافق قول الإمام أحمد فيه ما نقله ابن أبي مريم عن ابن معين: "ابن جريج ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب"

(1)

.

ولم أقف على حديث يصلح أن يكون مثالاً لما ذكره الإمام أحمد عن ابن جريج.

(1)

الموضع السابق.

ص: 570

‌المبحث السابع: من حدّث في مكان لم تكن معه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط

.

من أسباب دخول الأوهام على أحاديث الرواة الذين ضبطوا مروياتهم في الكتب عدم اصطحابهم لكتبهم أو فقدانهم لها في بعض رحلاتهم، فيضطرون للتحديث اعتماداً على الذاكرة، فيقع الوهم بسبب ذلك في مرويات من سمع منهم في تلك الأماكن، والحفاظ لا يحتجون بهذا الضرب من الأحاديث إلا ما توبع رواتها عليها، والفرق بين هذا الصنف من الرواة والذين تقدموا في المطلب السابق ـ وهم من لا يحدث من كتابه فيَهم في حديثه ـ أن هذا الصنف يمكن تحديد الذين سمعوا منهم في الأماكن التي ضعِّف حديثهم فيها بضابط، بخلاف الصنف الآخر الذي لا يمكن الوقوف عليهم إلا بتنصيص من إمام مطلع على من أخذ عن الراوي من حفظه دون كتابه، أو بقرينة أخرى تدل على ذلك.

وقد نبه الإمام أحمد على عدد من الرواة هم أهل حفظ وإتقان لكن حدثوا في بعض البلدان من حفظهم دون كتاب فوقعوا في أوهام، فمنهم:

1.

‌ معمر بن راشد الأزدي:

وكان أصله بصرياً ونزل اليمن، وأقام بها عشرين سنة

(1)

.

قال أحمد في رواية الميموني: "لا تضم إلى معمر أحداً إلا وجدته يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم"

(2)

.

وسأله المروذي عن معمر، كيف هو في الحديث؟ فقال: "هو ثبت إلا أن

(1)

سير أعلام النبلاء 7/ 5، 8.

(2)

تهذيب الكمال 28/ 307.

ص: 571

في بعض حديثه شيئاً"

(1)

.

ومن ذلك ما حدث به بالبصرة، فقد جاء في رواية أبي داود قال:"قلت لأحمد: ما حدّث معمرٌ بالبصرة؟ قال: أخطأ بالبصرة في أحاديث"

(2)

.

والسبب في ذلك أن كتبه لم تكن معه بالبصرة كما ذكر الأثرم عن الإمام أحمد: "حديث عبد الرزاق عن معمر أحبّ إليّ من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر، يعني باليمن، وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة"

(3)

.

وذلك أنه كان يحدثهم بالبصرة من حفظه. قال عبد الله: حدثني أبي قال: "قلت لإسماعيل بن علية: كان معمر يحدثكم من حفظه؟ قال: كان يحدثنا بحفظه"

(4)

. وكان إسماعيل بن علية بصرياً. وذكر الذهبي السبب في ذلك وهو أنه قدم البصرة لزيارة أمه بعد أن استقر باليمن، فلم تكن معه كتبه فحدث من حفظه فوقع للبصريين عنه أغاليط

(5)

.

وقد ذكر الإمام أحمد أن البصريين الذين سمعوا من معمر بالبصرة هم الغرباء الذين استوطنوها.

قال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله قيل له: عبد الله ـ يعني

ابن المبارك ـ سمع من معمر؟ قال: سمع منه بمكة. قيل له: فلم يسمع منه بالبصرة شيئاً؟ قال: لا، لم يكتب عن معمر بالبصرة إلا الغرباء، مثل إسماعيل بن علية، ويزيد بن زريع"

(6)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 49 رقم 25.

(2)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 409 رقم 1921.

(3)

تهذيب الكمال 18/ 57، شرح علل الترمذي 2/ 767.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 305 رقم 513.

(5)

سير أعلام النبلاء 7/ 12.

(6)

المعرفة والتاريخ 2/ 199.

ص: 572

فذكر إسماعيل بن علية وكان كوفي الأصل

(1)

، ويزيد بن زريع وكان أبوه والياً على الأبلة

(2)

، فلعله نشأ بها ثم استوطن البصرة.

ووافق الإمام أحمد على إعلال حديث معمر بالبصرة عددٌ من الحفاظ:

قال يعقوب بن شيبة: "سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب، لأن كتبه لم تكن معه"

(3)

.

وقال أبو حاتم: "ما حدث معمر بالبصرة فيه أغاليط"

(4)

.

قال الذهبي: "ومع كون معمر ثقة ثبتاً فله أوهام، لا سيما لما قدم البصرة لزيارة أمه، فإنه لم يكن معه كتبه، فحدّث من حفظه، فوقع للبصريين عنه أغاليط، وحديث هشام ـ يعني ابن يوسف ـ وعبد الرزاق عنه أصح، لأنهم أخذوا عنه من كتبه، والله أعلم"

(5)

.

مثال لما أعله الإمام أحمد من حديث معمر بالبصرة:

قال صالح بن أحمد بن حنبل: حديث غيلان: أنه أسلم وله عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعاً"، معمر أخطأ فيه بالبصرة في هذا الإسناد، ورجع باليمن جعله منقطعاً

(6)

.

هذا الحديث رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان بن سلمة

(1)

انظر: سير أعلام النبلاء 7/ 107.

(2)

بالموحدة، بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة وهي أقدم من البصرة معجم البلدان 1/ 77.

(3)

شرح علل الترمذي 2/ 767.

(4)

الجرح والتعديل 8/ 257.

(5)

سير أعلام النبلاء 7/ 12.

(6)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابنه صالح 3/ 179 رقم 1601، وانظر: شرح علل الترمذي 2/ 768.

ص: 573

الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اختر منهنّ أربعاً". هكذا حدث به معمر بالبصرة، ورواه عنه جماعة من أهل البصرة منهم: سعيد بن أبي عروبة

(1)

، وإسماعيل بن علية

(2)

، ومحمد بن جعفر غندر

(3)

، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي

(4)

، ويزيد بن زريع

(5)

. وكذلك رواه عنه جماعة من غير أهل البصرة منهم: سفيان الثوري

(6)

، وعيسى بن يونس

(7)

، وعبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي

(8)

، ومروان بن معاوية الفزاري

(9)

وأربعتهم من أهل الكوفة؛ ويحيى ابن أبي كثير

(10)

، وهو يمامي، والفضل بن موسى

(11)

، وهو خراساني.

وتابع معمراً على هذه الرواية عن الزهري: بحر السقاء

(12)

، وهو

(1)

روي من طرق عنه: أخرجه الترمذي الجامع 3/ 435 ح 1123، وأحمد المسند 9/ 392 ح 5558، والدارقطني سنن الدراقطني 3/ 269، والحاكم المستدرك 2/ 192، والبيهقي السنن الكبرى 7/ 149.

(2)

أخرج حديثه الإمام أحمد المسند 8/ 220 ح 4609، 8/ 253 ح 4632، وابن أبي شيبة مصنف ابن أبي شيبة 4/ 3 ح 17182، وأبو يعلى مسند أبي يعلى 9/ 325 ح 5437، ومن طريقه ابن حبان الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 9/ 463 ح 4156، والبيهقي السنن الكبرى 7/ 181.

(3)

أخرج حديثه ابن ماجه سنن ابن ماجه 1/ 628 ح 1953، وأحمد المسند 9/ 69 ح 5027، ومقروناً بإسماعيل بن علية: 8/ 253 ح 4632، والبيهقي مقروناً أيضاً بابن علية السنن الكبرى 7/ 181.

(4)

أخرج حديثه الروياني في مسنده 2/ 400 ح 1399، والطحاوي شرح معاني الآثار 3/ 252.

(5)

ذكره ابن أبي حاتم تعليقاً علل ابن أبي حاتم 1/ 401، والحاكم المستدرك 2/ 192.

(6)

أخرج حديثه البيهقي السنن الكبرى 7/ 182، وابن عبد البر التمهيد 12/ 55.

(7)

أخرج حديثه ابن حبان الإحسان 9/ 466 ح 4158، والحاكم المستدرك 2/ 193.

(8)

أخرج حديثه الحاكم المستدرك 2/ 192.

(9)

أخرج حديثه ابن أبي شيبة مصنفه 4/ 3 ح 17182، والدارقطني السنن 3/ 269.

(10)

أخرج حديثه الحاكم المستدرك 2/ 193. وفي سنده أحمد بن محمد بن عمر بن يونس، وهو كذاب، قاله الذهبي في تلخيص المستدرك بهامش المستدرك 2/ 193.

(11)

أخرج حديثه ابن حبان الإحسان 9/ 465 ح 4157، والحاكم المستدرك 2/ 193.

(12)

أخرج حديثه الطبراني المعجم الكبير 18/ 213 ح 658، المعجم الأوسط 7/ 278 ح 7494.

ص: 574

ضعيف، وعامة ما يرويه أسانيدها ومتونها مما لا يتابعه عليها أحد

(1)

. وتابعه أيضاً يحيى بن سلام

(2)

، عن مالك، عن الزهري

(3)

. قال ابن عبد البر: "أخطأ فيه يحيى بن سلام على مالك، ولم يتابع عنه على ذلك"

(4)

.

وتابعه أيضاً سرار بن مجسّر العنزي

(5)

عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر به

(6)

، رواه عنه سيف بن عبيد الله الجرمي

(7)

. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلا سرار تفرد به سيف. ا. هـ. قال ابن القيم: ومعلوم أن تفرد سيف بهذا مانع من الحكم بصحته، بل لو تفرد به من هو أجل من سيف لكان تفرده علة

(8)

. ا. هـ. يشير رحمه الله إلى أن التفرد عن علَم كثير الحديث مثل أيوب علة يعل الحديث بسببها. فيتلخص أن المتابعات لمعمر في هذا الحديث لا يصح منها شيء.

ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً

(9)

. لكن رواه أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق بمثل رواية أهل البصرة، أخرجه

(1)

الكامل في ضعفاء الرجال 2/ 487، تهذيب الكمال 4/ 13 - 14.

(2)

قال عنه أبو حاتم: صدوق، وقال أبو زرعة: ليس به بأس ربما وهم. وضعفه الدارقطني. الجرح والتعديل 9/ 155، سؤالات البرذعي لأبي زرعة ص 340، ميزان الاعتدال 6/ 54.

(3)

ذكره ابن عبد البر في التمهيد 12/ 54.

(4)

الموضع نفسه.

(5)

وثقه أحمد وغيره الجرح والتعديل 4/ 325، تهذيب التهذيب 3/ 455.

(6)

أخرجه الطبراني المعجم الأوسط 2/ 190 ح 1680، والدارقطني السنن 3/ 271، والبيهقي السنن الكبرى 7/ 183.

(7)

ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما خالف 8/ 300، ووثقه عمرو بن يزيد الجرمي تهذيب الكمال 12/ 323.

(8)

تهذيب السنن 6/ 235.

(9)

رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/ 162 ح 12621، وأبو داود في المراسيل ص 198 ح 234، والطحاوي شرح معاني الآثار 3/ 253، والدارقطني السنن 3/ 270، والبيهقي السنن الكبرى 7/ 182 من طرق عن عبد الرزاق.

ص: 575

ابن مندة في معرفة الصحابة

(1)

. قال الحافظ ابن حجر: استنكره أبو نعيم وقال: الأثبات رووه عن عبد الرزاق مرسلاً. ا. هـ. ويؤيده ما ذكره ابن عبد البر عن يعقوب بن شيبة عن أحمد بن شبويه، عن عبد الرزاق قال: لم يسند لنا معمر حديث غيلان بن سلمة أنه أسلم وعنده عشر نسوة. ا. هـ

(2)

. وسماع عبد الرزاق من معمر كان باليمن.

وتابع عبدَ الرزاق ابنُ عيينة عن معمر به

(3)

. وهكذا رواه مالك عن الزهري

(4)

.

ورواه يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري: بلغني عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان

الحديث

(5)

وروايتهم وكذلك رواية مالك تؤيد الرواية المرسلة عن معمر.

وجه إعلال الإمام أحمد لهذا الحديث:

أعل الإمام أحمد الرواية الموصولة عن معمر بأنها مما أخطأ معمر فيها بالبصرة، وحكم للرواية المرسلة لأنها هي التي رجع إليها باليمن، بدليل أن عبد الرزاق ذكر أن معمراً لم يكن يسند لهم هذا الحديث، ومعلوم أن سماعه من معمر كان باليمن. وهذا مثال لما ذكره الإمام أحمد أن معمراً كان يحدث بخطأ بالبصرة،

(1)

ذكره الحافظ ابن حجر عنه الإصابة 3/ 191.

(2)

التمهيد 12/ 55.

(3)

أخرجه الطحاوي شرح معاني الآثار 3/ 253.

(4)

الموطأ 2/ 586 ح 1218، وانظر: التمهيد 12/ 54.

(5)

رواه الدارقطني من حديث يونس السنن 3/ 270، والطحاوي شرح معاني الآثار 3/ 253، والبيهقي السنن الكبرى 7/ 182 من حديث عقيل، والبخاري تعليقاً التاريخ الكبير 6/ 249 ـ وتصحف شعيب إلى شعبة، وهو خطأ، وانظر أيضاً: جامع الترمذي 3/ 435 من حديث شعيب بن أبي حمزة، لكن قال: عن محمد بن سويد الثقفي. وهكذا قال عثمان بن عمر، عن يونس السنن الكبرى للبيهقي 7/ 182. الرواية الأولى عن يونس جاءت من رواية ابن وهب، والليث.

ص: 576

وحديثه باليمن كان أحب إليه لأنه كان يتعاهد كتبه وينظر فيها.

وقد وافق الإمام أحمد على إعلال هذا الحديث بهذه العلة عدد من الحفاظ، منهم: الإمام البخاري، قال: هذا حديث غير محفوظ، إنما روى هذا معمر بالعراق، وقد روي عن معمر، عن الزهري، هذا الحديث مرسلاً، ثم ذكر رواية شعيب بن أبي حمزة المرسلة عن الزهري وقال: وهذا أصح

(1)

. وكذلك رجح أبو زرعة وأبو حاتم الرواية المرسلة

(2)

.

وقال الإمام مسلم فيما رواه البيهقي بإسناده عنه من كتابه "التمييز": "أهل اليمن أعرف بحديث معمر من غيرهم، فإنه حدث بهذا الحديث عن الزهري، عن سالم، عن أبيه بالبصرة، وقد تفرد بروايته عنه البصريون، فإن حدث به ثقة من غير أهل البصرة صار الحديث صحيحاً، وإلا فالإرسال أولى"

(3)

. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن حبان، والحاكم، والبيهقي بنوا على قول الإمام مسلم فأخرجوا الحديث من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان، وأهل اليمامة، ثم رده بقوله: "ولا يفيد ذلك شيئاً، فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وإن كانوا من غير أهلها، وعلى تقدير تسليم أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدّث به في غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدّث من حفظه بأشياء وهم فيها

"

(4)

.

(1)

علل الترمذي الكبير 1/ 447، وانظر: الجامع 3/ 435.

(2)

علل ابن أبي حاتم 1/ 400 رقم 1119، 1200.

(3)

السنن الكبرى 7/ 182.

(4)

تلخيص الحبير 3/ 168.

ص: 577

مثال آخر:

قال عبد الله: حدثني أبي: قال حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"توضئوا مما غيرت النار". حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: قرأت في كتاب معمر، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة، عن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما غيرت النار

(1)

.

هذا الحديث لم يحكم فيه الإمام أحمد بشيء، وإنما أشار إلى الاختلاف على معمر بين عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي البصري، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، حيث رواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن خارجة بدون واسطة، ورواه عبد الرزاق من أصل كتاب معمر، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن خارجة. وبعد تتبع طرق الحديث ظهر أن عبد الأعلى قد وافقه أهل البصرة عن معمر، فرواه يزيد بن زريع

(2)

، وإسماعيل بن علية

(3)

كلاهما عن معمر بمثل رواية عبد الأعلى ليس فيه عبد الملك بن أبي بكر.

وأما عبد الرزاق فنص الإمام أحمد على أن روايته للحديث من كتاب معمر، ومعلوم أن كتب معمر لم تكن معه في البصرة وإنما حدث بها من حظفه فرواية هي المرجحة على رواية أهل البصرة. ثم إن أصحاب الزهري رووا الحديث عن الزهري بمثل رواية عبد الرزاق عن معمر؛ فرواه عقيل بن خالد

(4)

،

(1)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 3/ 288 رقم 5281 - 5282. وحديث عبد الأعلى عند أحمد في المسند 35/ 512 ح 21655، وحديث عبد الرزاق عنده أيضاً المسند 35/ 507 ح 21647.

(2)

وحديثه عند الطبراني في المعجم الكبير 5/ 129 ح 4839.

(3)

وحديثه عند ابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 54 ح 553.

(4)

وحديثه عند مسلم 1/ 272 ح 351، وأحمد المسند 35/ 504 ح 21642، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 62، والطبراني المعجم الكبير 5/ 128 ح 4836.

ص: 578

والزبيدي

(1)

، وشعيب بن أبي حمزة

(2)

، ويونس بن يزيد الأيلي

(3)

، ومحمد ابن عبد الرحمن بن أبي ذئب

(4)

، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر

(5)

، والأوزاعي

(6)

كلهم عن الزهري، قال: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره، أن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. واجتماع هؤلاء ـ وهم من أثبت أصحاب الزهري ـ على موافقة معمر في الوجه الذي رواه عبد الرزاق عنه يقضي بصوابه وخطأ ما يخالفه، وبخاصة أن الوجه المخالف جاء من الوجه الذي تدخل الأوهام على مرويات معمر، وهي رواية أهل البصرة عنه.

وقد أخرج البخاري لمعمر من رواية جماعة من أهل البصرة منهم: عبد الأعلى ابن عبد الأعلى، ومحمد بن جعفر غندر، ويزيد بن زريع، ومسلم من رواية ابن علية، وعبد الأعلى، ويزيد بن زريع

(7)

. قال ابن حجر: لم يخرج له ـ يعني البخاري ـ من رواية أهل البصرة عنه إلا ما توبعوا عليه عنه

(8)

.

2.

‌ هشام بن عروة:

وهو مدني ودخل العراق ومات ببغداد. قال وهيب: قدم علينا هشام ابن عروة، فكان فينا مثل الحسن وابن سيرين

(9)

.

(1)

وحديثه عند النسائي السنن 1/ 107 ح 179، والطبراني المعجم الكبير 5/ 129 ح 4840.

(2)

وحديثه عند أحمد المسند 35/ 523 ح 21699، والطبراني المعجم الكبير 5/ 127 ح 4834.

(3)

وحديثه عند الطبراني المعجم الكبير 5/ 128 ح 4837.

(4)

وحديثه عند أحمد المسند 35/ 476 ح 21598، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 62، والطبراني المعجم الكبير 5/ 127 ح 4833.

(5)

وحديثه عند الطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 62، والطبراني المعجم الكبير 5/ 128 ح 4835.

(6)

وحديثه عند الطبراني المعجم الكبير 5/ 128 ح 4838.

(7)

تهذيب الكمال 28/ 306 - 307.

(8)

هدي الساري ص 445، ويشهد لذلك أن الإمام البخاري لما خرج حديث يزيد بن زريع عن معمر في قصر الصلاة، قال: تابعه عبد الرزاق عن معمر فتح الباري 7/ 267 - 268.

(9)

تاريخ بغداد 14/ 38.

ص: 579

قال أحمد في رواية الأثرم: كأن رواية أهل المدينة عنه أحسن، أو قال: أصح. ا. هـ

(1)

يعني من رواية أهل العراق عنه. وحمل ذلك ابن رجب على أن كتبه لم تكن معه في العراق فيرجع إليها

(2)

.

وذكر ابن خراش أنه بلغه عن مالك أنه نقم على هشام حديثه لأهل العراق

(3)

.

ولم أقف على حديث أعله الإمام أحمد مما حدث به هشام بالعراق.

ومما يصلح أن يكون مثالاً لما يقع في حديث العراقيين عن هشام ما رواه أهل العراق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرِها" رواه مسلم

(4)

من حديث عبد الله بن نمير، ووكيع، وعبدة بن سليمان، وأبي أسامة كلهم عن هشام. ورواه الدارمي

(5)

، وأبو عوانة

(6)

، والبيهقي

(7)

من حديث جعفر بن عون؛ وأبو داود

(8)

من حديث وهيب بن خالد؛ والطحاوي

(9)

من حديث شعبة؛ وهؤلاء كلهم من أهل العراق.

وخالفهم مالك، فرواه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ثم ينصرف، فإذا سمع النداء

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 678، 769.

(2)

شرح علل الترمذي 2/ 769.

(3)

تاريخ بغداد 14/ 40.

(4)

صحيح مسلم 1/ 508 ح 737.

(5)

سنن الدارمي 1/ 371.

(6)

مسند أبي عوانة 2/ 325.

(7)

السنن الكبرى 3/ 27.

(8)

سنن أبي داود 2/ 39 ح 1338.

(9)

شرح معاني الآثار 1/ 284.

ص: 580

بالصبح ركع ركعتين خفيفتين] أخرجه في الموطأ

(1)

، ومن طريق مالك أخرجه البخاري

(2)

، وأبو داود

(3)

، والنسائي

(4)

. فلم يذكر مالك الوتر بخمس ركعات لا يجلس في شيء إلا في آخرها.

فذكر ابن رجب أنه قد تَكلم في حديث هشام هذا غيرُ واحد

(5)

. قال ابن عبد البر عن الرواية المخالفة لرواية مالك: "إنما حدث به عن هشام أهل العراق، وما حدث به هشام بالمدينة قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم، ولقد حكى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال: رأيت مالك بن أنس في النوم فسألته عن هشام بن عروة، فقال: أما ما حدّث به عندنا ـ يعني بالمدينة قبل خروجه، فكأنه يصححه، وأما ما حدث به بعد خروجه من عندنا فكأنه يوهنه"

(6)

.

ولعل تخريج الإمام البخاري لحديث هشام من طريق مالك وإعراضه عما يخالفه من رواية أهل العراق عن هشام مبني على هذا الاعتبار.

لكن قد روى الحديث جماعة ممن سمع من هشام بالمدينة بمثل رواية أهل العراق، منهم الليث بن سعد، وحديثه عند أحمد

(7)

، والطحاوي

(8)

؛ ويحيى بن سعيد القطان، وحديثه عند أحمد

(9)

، وابن خزيمة

(10)

، وكان سماعه من هشام

(1)

الموطأ 1/ 221 ح 264، وانظر: التمهيد 22/ 119.

(2)

فتح الباري 3/ 46 ح 1170.

(3)

السنن 2/ 39 ح 1339.

(4)

السنن الكبرى 1/ 166 ح 420.

(5)

فتح الباري لابن رجب 6/ 194.

(6)

التمهيد 22/ 119 - 120.

(7)

المسند 40/ 417 ح 24357.

(8)

شرح معاني الآثار 1/ 284.

(9)

المسند 40/ 285 ح 24239.

(10)

صحيح ابن خزيمة 2/ 141 ح 1077.

ص: 581

بالمدينة

(1)

؛ ومحمد بن إسحاق، وحديثه عند أحمد

(2)

، فهؤلاء منهم من كان من أهل المدينة ـ وهو ابن إسحاق ـ ومنهم من كان من غير أهلها لكن سماعه من هشام بها. فبناء على هذا تزول العلة التي أعل بها الحديث من أنه من رواية أهل العراق عن هشام، فلم يبق إلا الترجيح برواية الأحفظ على رواية الأكثر من حيث العدد، فترجح رواية مالك لمزيد حفظه وإتقانه، على رواية العدد الكثير وخاصة أن معظمهم ممن سمع من هشام بالعراق. وأيضاً لمعارضة روايتهم لحديث ابن عمر مرفوعاً:"صلاة الليل مثنى مثنى". قال ابن عبد البر: هذا من الأحاديث التي لم يختلف في إسنادها ومتنها، وهو حديث ثابت مجمتع على صحته، وهو قاض في الباب على ما كان ظاهره خلافه. ا. هـ

(3)

.

وأما الأثرم فأنكر الحديث من وجه آخر، وهو مخالفة هشام لما روي عن عائشة، قال الأثرم: وقد روى هذا الحديث عن عائشة غيرُ واحد، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه من سرد الخمس. ا. هـ

(4)

.

وقد يعترض عليه بمتابعة محمد بن جعفر بن الزبير

(5)

كما رواه ابن إسحاق عنه، عن عروة عن عائشة: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتيه

(1)

هذا مفاد الحكاية التي وردت في المعرفة والتاريخ 2/ 150 عن يحيى قال: جرى بيني وبين مالك في حديث نافع شيء، فبلغ ذلك هشام بن عروة، فلما جئت قال: هيه يا عراقي! أي شيء وقع بينك وبين مالك؟ وكان ما بينهما ليس بذاك، فقلت: ما وقع بيني وبينه شيء. ا. هـ. لكن لا يمنع أن يكون سمع منه يحيى بالعراق أيضاً عند ما صار إليها هشام، والله أعلم.

(2)

المسند 43/ 377 ح 26358 من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن هشام ومحمد بن جعفر بن الزبير عن عروة به، والظاهر أنه حمل لفظ حديث هشام على حديث محمد بن جعفر. انظر: لفظ حديث محمد بن جعفر سنن أبي داود 2/ 96 ح 1359، السنن الكبرى للبيهقي 3/ 28. وبين اللفظين مخالفة ظاهرة، كما سيأتي.

(3)

التمهيد 22/ 119.

(4)

فتح الباري لابن رجب 6/ 194.

(5)

وثقه النسائي وغيره تهذيب الكمال 24/ 580.

ص: 582

قبل الصبح، يصلي ستاً مثنى مثنى، ويوتر بخمس لا يقعد بينهن إلا في آخرهن"

(1)

. لكن يحتمل أن ابن إسحاق دلسه عن شيخه، وهي على كل حال علة لا تمنع من الاعتبار بالحديث.

وكذلك تابعه عمر بن مصعب بن الزبير، عن عروة، عن عائشة [كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس، لا يقعد بينهن]

(2)

. وعمر بن مصعب بن الزبير ذكره البخاري، وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً

(3)

، وذكره ابن حبان في الثقات

(4)

، وقال الذهبي: جاء في إسناد مظلم فيحرر أمره

(5)

. فمثل هذا لا بأس به في المتابعات، والله أعلم.

3.

‌ يزيد بن هارون:

قال أحمد في رواية الفضل بن زياد: "ما كان أجمع أمر يزيد! صاحب صلاة، حافظ متقن للحديث، صرامة وحسن مذهب "

(6)

.

وقال أحمد في رواية صالح: "يزيد بن هارون من سمع منه بواسط هو أصح ممن سمع ببغداد، لأنه كان بواسط يلقن فيرجع إلى ما في الكتب"

(7)

.

وذلك أن يزيد بن هارون ساء حفظه لما كفّ بصره، فلذلك كان يأمر

(1)

أخرجه أبو داود السنن 2/ 96 ح 1359، والطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 284، والبيهقي السنن الكبرى 3/ 28. ولم يصرح ابن إسحاق بالسماع عندهم، لكن رواه أحمد من طريقه قال: حدثني هشام بن عروة، ومحمد بن جعفر بن الزبير

فيحتمل أنه يكون سمع منهما جميعاً ويحتمل أنه سمع من هشام بن عروة فقط وهو الظاهر، والله أعلم.

(2)

أخرجه الطبراني المعجم الأوسط 7/ 355 ح 7714، والخطيب تاريخ بغداد 1/ 388.

(3)

التاريخ الكبير 6/ 196، الجرح والتعديل 6/ 134.

(4)

الثقات 5/ 146.

(5)

المغني في الضعفاء 2/ 474.

(6)

تاريخ بغداد 14/ 340.

(7)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية صالح 3/ 181 رقم 1605.

ص: 583

جارية له فتُلقّنه من كتبه ويحفظ عنها

(1)

، ويفهم من كلام أحمد في رواية صالح أن كتبه لم تكن معه ببغداد حتى يحفظ منها، فمن أجل ذلك قدّم من سمع منه بواسط على من سمع منه ببغداد.

ولم أقف على حديث يصلح أن يكون مثالاً لهذه العلة التي ذكرها الإمام أحمد في حديث شيخه يزيد بن هارون.

4.

‌ جزير بن حازم:

من أجلة أهل البصرة، ووثقه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله

(2)

، وقال في رواية ابن هانئ: كان يحفظ عن العلماء

(3)

. وقال في رواية المروذي: كان حافظاً، وقال مرة: كان في بعض حديثه شيء

(4)

.

ونقل ابن حجر عن الساجي عن الأثرم عن أحمد أنه قال عن جرير: حدث بمصر أحاديث وهم فيها، ولم يكن يحفظ. ا. هـ

(5)

.

وكان جرير قد ارتحل إلى مصر في الكهولة فسمع من المصريين وكتبوا عنه

(6)

، فأوهامه بمصر محمولة على أن كتبه لم تكن معه إذ أغلب أسباب دخول الأوهام على حديث الراوي إذا حدث في غير بلده ترجع إلى عدم وجود كتبه معه.

(1)

ذكر أبو خيثمة أنه كان يعاب على يزيد بن هارون حيث ذهب بصره أنه ربما سئل عن الحديث لا يعرفه فيأمر جارية له فتحفظه من كتابه. ا. هـ تاريخ بغداد 14/ 338.

وأجاب عنه الذهبي بأن هذا الفعل لا بأس به مع أمانة من يلقنه سير أعلام النبلاء 9/ 363، وانظر: الكفاية في علم الرواية ص 379، فتح المغيث 3/ 132.

(2)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية عبد الله 1/ 512 رقم 1197.

(3)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية ابن هانئ 2/ 228 رقم 2250.

(4)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره 95 رقم 143.

(5)

هدي الساري ص 395.

(6)

المعرفة والتاريخ 2/ 666، وسير أعلام النبلاء 7/ 100.

ص: 584

مثال لما أعله الإمام أحمد من حديث جرير بمصر:

ذكر الحافظ ابن حجر عن الإسماعيلي أنه قال عن أحمد في حديث عبد الله ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن سلمان بن عامر الضبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى" قال: حديث جرير بن حازم كأنه على التوهم.

فهذا الحديث أخرجه البخاري

(1)

من رواية جرير بن حازم تعليقاً بصيغة الجزم، ووصله الطحاوي

(2)

. ورواه البخاري

(3)

مسنداً من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب به موقوفاً على سلمان بن عامر، ورواه أحمد

(4)

عن يونس، عن حماد به موقوفاً أيضاً. فخالف جرير بن حازم حماد بن زيد في رفع الحديث عن أيوب، وهذا وجه توهيم الإمام أحمد لجرير، لأن الراوي عنه هو عبد الله بن وهب، وهو ممن سمع من جرير بمصر، قد خالف حماد بن زيد في رفع الحديث عن أيوب، وقد قال أحمد: ما عندي أحد أعلم بحديث أيوب من حماد بن زيد

(5)

. لكن قد وافق جرير غيرُه على رفع الحديث عن أيوب، فرواه حماد بن سلمة، عن أيوب، وقتادة، وهشام، وحبيب، عن ابن سيرين، عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم. علقه البخاري

(6)

، ووصله النسائي

(7)

، وأحمد

(8)

. لكن حماد بن سلمة إذا جمع الشيوخ فإنه يضغف كما

(1)

صحيح البخاري 9/ 590 ح 5472 مع فتح الباري.

(2)

شرح مشكل الآثار ح 1049، وانظر تغليق التعليق 4/ 491.

(3)

الموضع السابق.

(4)

المسند 26/ 174 ح 16238.

(5)

العلل ومعرفة الرجال ـ برواية المروذي وغيره ص 218 رقم 415 من رواية الميموني عن أحمد.

(6)

الموضع نفسه.

(7)

المجتبى 7/ 164 ح 4225، والكبرى 3/ 175 ح 4540.

(8)

المسند 26/ 172 ح 16236. ورواه أيضاً من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وقتادة وحدهما

ص: 585

تقدم

(1)

. ورواه الدبري عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، فخالف أصحاب أيوب في روايته عن حفصة بدل محمد، وهذا يحتمل أن يكون خطأ من الدبري، فإن سماعه من عبد الرزاق بأخرة، وهذه الرواية ليست عند أحمد، وهو ممن كتب عن عبد الرزاق على الوجه، وقد روى حديث سلمان من طريق عبد الرزاق من وجه آخر

(3)

.

وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن جرير بن حازم تفرد بذكر التحديث بين محمد بن سيرين، وسلمان بن عامر، لأن الذين رووا الحديث رووه بالعنعنة بينهما، وهذا وجه آخر لوهم جرير بن حازم، ولم أقف على من روى الحديث عن جرير من غير أهل مصر حتى نتيقن وهم جرير في هذا الحديث.

وقد ثبت رفع الحديث من طرق أخرى عن سلمان بن عامر. قال البخاري: وقال غير واحد: عن عاصم، وهشام، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

. ثم إن الاختلاف على محمد بن سيرين بالرفع والوقف ليس يضر، لأن ابن سيرين كان يقف الأحاديث كثيراً ولا يرفعها والناس كلهم يخالفونه ويرفعونها

(5)

.

مثال آخر:

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ تحفظه عن يحيى، عن

= عن ابن سيرين به المسند 26/ 175 ح 16239.

(1)

انظر: ص 376.

(2)

مصنف عبد الرزاق 4/ 329 ح 7959، ومعجم الطبراني الكبير 6/ 273 ح 6200.

(3)

المسند 26/ 169 ح 16232.

(4)

صحيح البخاري 9/ 595 - مع فتح الباري.

(5)

شرح علل الترمذي 2/ 700.

ص: 586

عمرة، عن عائشة: أصبحت أنا وحفصة صائمتين؟ فأنكره، وقال: من رواه؟ قلت جرير بن حازم، فقال: جرير كان يحدث بالتوهم

(1)

.

هذا الحديث رواه النسائي

(2)

، والطحاوي

(3)

، وابن حبان

(4)

، والطبراني

(5)

من طرق عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوِّعتين، فأُهديَتْ لنا هديةٌ، فأكلناها فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فبدرتني حفصة ـ وكانت بنتَ أبيها ـ فسألتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما، صُوما يوماً مكانَه" وهذا لفظ الطبراني، وهو عند الباقين بأخصر منه. وقال الطبراني: لم ير هذا الحديث عن يحيى ابن سعيد إلا جريرُ بن حازم، تفرد به ابن وهب. ا. هـ

(6)

.

وأنكره الإمام أحمد على جرير بن حازم لتفرده به عن يحيى بن سعيد من هذا الوجه، وعلّل ذلك بأنه كان يحدث بالتوهم. وقد ذكر الذهبي هذه القصة عن الأثرم فزاد: قلت القائل الأثرم: أكان يحدثهم بالتوهم بمصر خاصة أو غيرها؟ قال: في غيرها وفيها. وقال أبو عبد الله: أشياء يسندها عن قتادة باطل. ا. هـ

(7)

. فظاهر هذه الرواية أن أوهام جرير عند أحمد تعم حديثه بمصر وبغيرها، فإن ثبتت هذه الزيادة في رواية الأثرم فلا اختصاص لرواية أهل مصر

(1)

السنن الكبرى للبيهقي 4/ 281.

(2)

السنن الكبرى 2/ 248 ح 3299. ووقع في المطبوع: عن عروة مكان عمرة، وهو خطأ، والتصويب من تحفة الأشراف 12/ 427، وكذلك رواية ابن عبد البر للحديث من طريق السنائي التمهيد 12/ 71.

(3)

شرح معاني الآثار 2/ 109.

(4)

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 8/ 284 ح 3517.

(5)

المعجم الأوسط 6/ 286 ح 6433.

(6)

الموضع السابق.

(7)

سير أعلام النبلاء 7/ 103.

ص: 587

عن جرير بوقوع الأوهام فيها، ويكون وجه علة هذا الحديث مطلق وهم جرير.

ومما يدل على وهم جرير في هذا الحديث مخالفة حماد بن زيد له فيه، حيث رواه عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن عائشة ليس فيه عمرة، وجعله منقطعاً بين الزهري وعائشة

(1)

. أخرجه من هذا الوجه الطحاوي

(2)

، والبيهقي

(3)

من طريق الرمادي عن علي بن المديني، عن حماد بن زيد. وقد اعتمد علي بن المديني هذه الرواية في إنكار رواية جرير، قال الرمادي:"قلت لعلي بن المديني: يا أبا الحسن، تحفظ عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: قلت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين؟ فقال لي: من روى هذا الحديث؟ قلت ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، قال: فضحك، فقال: مثلك يقول مثل هذا! حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين"

(4)

.

وأما الإمام مسلم فأنكره على جرير من وجه آخر، وهو عدم ضبطه لحديث يحيى بن سعيد الأنصاري، قال الإمام مسلم: "وأما حديث يحيى ابن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، فلم يسنده عن يحيى إلا جرير بن حازم، وجرير لم يُعنَ في الرواية عن يحيى، إنما روى من حديثه نزر، ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة، وقد يكون من ثقات المحدثين من يضعف روايته عن بعض رجاله الذي حمل عنهم للتثبت يكون له في وقت

"

(5)

.

وممن وافق الإمام أحمد في توهيم رواية جرير بمصر الإمام النسائي، قال

(1)

وقد اختلف أصحاب الزهري في هذا الحديث وأن الصواب عن الزهري مرسلاً عن عائشة، وقد تقدم في جعفر بن برقان عن الزهري في مطلب من ضعف في بعض شيوخه.

(2)

شرح معاني الآثار الموضع السابق.

(3)

السنن الكبرى الموضع السابق.

(4)

السنن الكبرى للبيهقي 4/ 281.

(5)

التمييز ص 217.

ص: 588

الحافظ ابن حجر في الاختلاف على حديث علي بن أبي طالب: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستقيظ" بالرفع والوقف، بعد ذكر رواية الرفع من طريق جرير بن حازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها. ا. هـ

(1)

.

وذكر الذهبي أن أوهام جرير بن حازم اغتفرت له في سعة ما روى

(2)

، وقد روى له من كبار المصريين غير ابن وهب يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب الغافقي، وعبد الله بن لهيعة، ولم يخرج الشيخان من حديث أهل مصر عنه إلا من طريق ابن وهب عنه

(3)

.

5.

‌ الوليد بن مسلم:

قال أحمد: ليس أحد أروى لحديث الشامين من إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم

(4)

. وقال ابن رجب: طاهر كلام الإمام أحمد أنه إذا حدث بغير دمشق ففي حديثه شيء

(5)

، ثم ذكر ما رواه أبو داود عن أحمد:

سمعت أحمد سئل عن حديث الأوزاعي، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالباءة" قال: هذا من الوليد، نخاف أن يكون ليس بمحفوظ عن الأوزاعي، لأنه حدث به الوليد بحِمص، ليس هو عند أهل دمشق

(6)

.

(1)

فتح الباري 12/ 121. وحديث جرير بن حازم من رواية ابن وهب عنه انظر: السنن الكبرى للبيهقي 8/ 268. وقد رواه شعبة، ووكيع، وجرير بن عبد الحميد الضبي عن الأعمش موقوفاً.

(2)

سير أعلام النبلاء 7/ 100.

(3)

انظر: تهذيب الكمال 4/ 527.

(4)

المعرفة والتاريخ 2/ 165.

(5)

شرح علل الترمذي 2/ 772.

(6)

مسائل الإمام أحمد ـ برواية أبي داود ص 413 رقم 1936.

ص: 589

ولم أقف على هذا الحديث.

وذكر ابن رجب عن أحمد أيضاً أنه تكلم فيما حدث به الوليد من حفظه بمكة

(1)

.

(1)

شرح علل الترمذي الموضع السابق.

ص: 590

‌المبحث الثامن: من لم يضبط أهل إقليم حديثه

.

المقصود بهم الرواة الذين روى عنهم أهل بلد أو إقليم فلم يقيموا حديثهم. وهؤلاء الرواة أمرهم قريب من أمر الرواة الذين حدّثوا في مكان لم تكن معهم كتبهم فوقعوا في الأوهام، والفرق بينهم أن أولئك عرف في أمرهم مصدر الخطأ، وهو كون كتبهم لم تكن معهم، وأما هؤلاء فقد يكون الخطأ غير راجع إليهم بل إلى تلاميذهم حيث لم يضبطوا عنهم.

فمن هؤلاء الرواة زهير بن محمد الخراساني.

وثقه الإمام أحمد ووصفه بأنه مستقيم الحديث

(1)

.

وتكلم في رواية أهل الشام عنه. قال الأثرم: "سمعت أبا عبد الله وذكر رواية الشاميين عن زهير بن محمد قال: يروون عنه أحاديث مناكير هؤلاء، ثم قال لي: ترى هذا زهير بن محمد الذي يروون عنه أصحابنا؟ ثم قال: أما رواية أصحابنا عنه فمُستقيمة: عبد الرحمن بن مهدي، وأبو عامر، أحاديث مستقيمة صحاح، وأما أحاديث أبي حفص ذاك التِّنِّيسيّ فتلك بواطيل موضوعة أو نحو هذا، فأما بواطيل فقد قاله"

(2)

.

وهنا يستفهم الإمام أحمد استفهام تعجب: هل هذا الذي يروي عنه أهل الشام هو زهير بن محمد الذي روى عنه ابن مهدي وغيره؟ وقد روى البخاري مثل هذا عن أحمد، قال: قال أحمد: كأن الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر فقُلب اسمُهُ. ا. هـ

(3)

. وقال الترمذي: قال ابن حنبل: "كأن زهير بن محمد الذي

(1)

الجرح والتعديل 3/ 590، تهذيب الكمال 9/ 416.

(2)

تهذيب الكمال 9/ 417.

(3)

التاريخ الكبير 3/ 427 - 428.

ص: 591

وقع بالشام ليس هو الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يروون عنه من المناكير"

(1)

.

وهذا الذي قاله الإمام أحمد من أن زهير بن محمد قد يكون رجلاً آخر انقلب اسمه على أهل الشام له ما يشهد له، فروى ابن أبي حاتم قال: سألت أبي عن حديث رواه معاذ بن خالد العسقلاني، عن زهير بن محمد، عن شرحبيل بن سعد، عن جبار ابن صخر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا" قال أبي: هذا الحديث بعينه حدثنا معاذ بن حسّان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن شرحبيل عن جبار بن صخر. ا. هـ

(2)

. ومعاذ بن خالد العسقلاني قال فيه أبو حاتم: شيخ تُشبه أحاديثه عن زهير بن محمد أحاديث إبراهيم بن أبي يحيى

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم أيضاً: سمعت أبي وحدثنا عن محمد بن علي بن عمر العسقلاني، عن معاذ بن خالد، عن زهير بن محمد، عن صفوان بن سليم، عن خشيم بن جبير، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تُسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا" قال أبي: أخاف أن يكون أراد إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى بدل زهير بن محمد. ا. هـ

(4)

.

فهذا أحد الرواة الشاميين يرى أبو حاتم أنه ربما قلب عليه إبراهيم بن أبي يحيى فجعله زهير بن محمد، فلا يبعد أن ما يخافه الإمام أحمد من هذا القبيل.

فهذا أحد الاحتمالات في سبب وقوع المناكير في حديث الشاميين عن زهير ـ أي أنه رجل آخر رووا عنه فقلبوا اسمه وجعلوه زهير بن محمد. والاحتمال الآخر

(1)

جامع الترمذي 5/ 373.

(2)

علل ابن أبي حاتم 2/ 276 ح 2327.

(3)

الجرح والتعديل 8/ 250.

(4)

علل ابن أبي حاتم 2/ 201 ح 2093.

ص: 592

هو ما ذكره أبو حاتم أن العلة من زهير نفسه، فإنه وصفه بسوء الحفظ وجعله سبب نكارة حديث بالشام وقال: ما حدث من كتبه فهو صالح، وما حدث من حفظه ففيه أغاليط

(1)

. فهذا يلحقه بالنوع الذي تقدم وهو: من حدث في مكان لم تكن معه كتبه فوهم. وهناك احتمال ثالث ذكره ابن عدي، وهو أن أهل الشام لما رووا عنه أخطأوا عليه

(2)

، فجعل الخطأ من الرواة عنه، وهذا يحتمل أن يكون خطؤهم في قلبهم رجلاً آخر به كما قاله أحمد على الاحتمال، ويحتمل أن يكون خطؤهم أنهم لم يحفظوا حديثه، لكن يبعد أن يتطابق أهل إقليم أجمع على عدم الضبط لحديث راوٍ معين، والعلم عند الله.

وممن ذهب إلى إنكار أحاديث أهل الشام عن زهير بن محمد وتصحيح أحاديث أهل العراق عنه الإمام البخاري. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: "أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة"

(3)

. وعن البخاري أيضاً: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح. ا. هـ

(4)

.

ولما قال أحمد للأثرم: أحاديث التنيسي عن زهير بواطيل، ذكر له الحديث رواه في التسليمة الواحدة فقال: مثل هذا

(5)

، أي في كونه من بواطيل فهذا منه إنكار للحديث. والحديث هو ما أخرجه الترمذي

(6)

من طريق عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيّ، عن زُهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

(1)

الجرح والتعديل 3/ 590.

(2)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1078.

(3)

جامع الترمذي 5/ 373.

(4)

تهذيب الكمال 9/ 418.

(5)

فتح الباري لابن رجب 5/ 209.

(6)

جامع الترمذي 2/ 90 ح 296.

ص: 593

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلِّم في الصلاة تسليمة واحدة تِلقاءَ وجهه يَميل إلى الشق الأيمن شيئاً"

(1)

، وتابعه عبد الملك بن محمد الصنعاني، رواه ابن ماجه

(2)

، وابن عدي

(3)

. وخالفهما الوليد بن مسلم، فرواه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة موقوفاً رواه العقيلي

(4)

، وقال الوليد: فقلت لزهير بن محمد: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة. ا. هـ.

وله أصل عن عائشة موقوفاً، رواه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسلّم في الصلاة تسليمة واحدة قِبَل وجهها:"السلام عليكم"

(5)

.

ورجح الحفاظ رواية الوقف منهم أبو حاتم، قال:"هذا حديث منكر، هو عن عائشة موقوف"

(6)

. وقال العقيلي: رواية الوليد ـ أي الموقوفة ـ أولى

(7)

. وقال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وهم

(8)

. وقال الطحاوي: "هذا حديث أصله موقوف على عائشة رضي الله عنها، هكذا رواه الحفاظ، وزهير بن محمد وإن كان ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعّف جداً"

(9)

.

(1)

ورواه الطحاوي شرح معاني الآثار 1/ 270، وابن حبان 5/ 335 ح 1995 الإحسان، والدارقطني السنن 1/ 357، والحاكم المستدرك 1/ 230، والبيهقي السنن الكبرى 2/ 179.

(2)

السنن 1/ 297 ح 919.

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال 3/ 1075.

(4)

الضعفاء للعقيلي 3/ 990.

(5)

السنن الكبرى 2/ 179.

(6)

علل ابن أبي حاتم 1/ 148 ح 414.

(7)

الموضع السابق.

(8)

انظر: فتح الباري لابن رجب 5/ 210، وتلخيص الحبير 1/ 270.

(9)

شرح معاني الآثار 1/ 270.

ص: 594

وكون رواية الوليد بن مسلم لهذا الحديث عن زهير هي المحفوظة، والوليد شامي لا يدل على أن المناكير لا تقع إلا في رواية بعض أهل الشام عن زهير، بل المناكير تقع في رواية الوليد بن مسلم عنه كما تقع في رواية غيره من أهل الشام. قال البخاري:"روى عن زهير بن محمد الوليدُ بن مسلم، وعمرُو بن أبي سلمة مناكير عن ابن المنكدر، وهشام بن عروة، وأبي حازم"

(1)

.

ولزهير بن محمد غير هذا الحديث من رواية أهل الشام أنكره عليه الحفاظ

(2)

(1)

شرح علل الترمذي 2/ 778.

(2)

وعند ابن أبي حاتم عدد من ذلك، ذكرها في علله بإعلال كل من أبيه وأبي زرعة انظرها: ح 895، 1381، 2093، 2167، 2327، 2375 كلها من رواية أهل الشام عن زهير.

ص: 595