المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المملكة العربية السعودية جامعة الملك سعود كلية التربية قسم الثقافة الإسلامية شعبة (التفسير والحديث)   منهج - منهج القرطبي في دفع ما يتوهم تعارضه من الآيات في كتابه الجامع لإحكام القرآن

[عبد الرحمن السحيم]

فهرس الكتاب

المملكة العربية السعودية

جامعة الملك سعود

كلية التربية

قسم الثقافة الإسلامية

شعبة (التفسير والحديث)

منهج القرطبي في دفع ما يُتَوهَّم تَعارضه من الآيات في كتابه: الجامع لأحكام القرآن

قدَّمَت هذه الرِّسالة استِكمالًا لِمُتَطَلبات الحصول على درجة الماجستير في الآداب في التفسير والحديث

كلية التربية - جامعة الملك سعود

أعدها الباحث: عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم

إشراف فضيلة الدكتور: ناصر بن محمد المنيع

نوقشت هذه الرسالة وتم إجازتها يوم السبت 25/ 4/ 1428 هـ

أعضاء لجنة المناقشة:

1 -

د ناصر بن محمد المنيع مقررًا

2 -

د صالح بن ناصر الناصر عضوًا

3 -

د. عادل بن علي الشدي عضوًا

العام الدراسي 1427 - 1428 هـ

ص: 1

‌المقدمة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)[الأنعام: 1] و (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان: 1]، والصلاة والسلام على مَنْ بَعَثَه رَبُّه هَادِيا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا. أزَال بِه كُلّ غُمَّة، وكَشَف بِه كُلّ مُدْلَهِمَّة، وأبَان بِه وَجْه صُبْح الْحَقّ أبْيَض نَيِّرا؛ حَتى تَرَك أمَّتَه على الْمَحَجَّة البَيْضَاء، لَيْلُهَا كَنَهَارِها، لا يَزِيغُ عَنها إلَّا هالِك.

أمَّا بعد:

فإنَّ العِلْم يَشْرُف بِشَرَف مُتَعَلِّقِه، وإنَّ أفْضَل العُلُوم مَا تَعَلَّق بِكِتَاب رَبِّ العَالَمِين، كيف لا؟ وكِتَاب الله فِيه نَبأ مَا قَبْلَنا، وخَبَر مَا بَعْدَنا، وحُكْم مَا بَيْننا، هو الفَصْل ولَيس بالْهَزْل، وهو حَبْل الله الْمَتِين، والذِّكْر الْحَكِيم، والصِّرَاط الْمُسْتَقِيم.

وَلَمَّا كَان "كِتَاب الله هو الكَفِيل بِجَمْع عُلُوم الشَّرْع الذي اسْتَقَل بِه السُّنَّة والفَرْض، وَنَزَل بِه أمِين السَّمَاء إلى أمِين الأرْض، رَأيْتُ أن أشْتَغِل بِه مَدَى عُمُرِي، وأسْتَفْرِغ فِيه مُنَّتِي"

(1)

.

فَقَد اسْتَخَرْتُ الله تبارك وتعالى أن أُقدِّم شَيئًا لَه تَعَلُّق بِكِتَاب الله وتَفْسِيرِه، ولَمَّا كان تَفْسير أبي عبد الله القرطبي الْمُسَمَّى "الْجَامِع لأحْكَام القُرآن والْمُبِين لِمَا تَضَمَّن مِنْ السُّنَّة وآي الفُرْقَان"

(2)

، مِنْ التَّفَاسِير الْمُعْتَمَدَة الْمَشْهُورَة لَدَى أهْل العِلْم، مَع سَعَة العِبَارَة، وتَنَوُّع الْمَعَارِف فيه، وعَدَم اقْتِصَارِه على آيات الأحْكَام -وإن كان أوْلَاهَا عِنَايَة خَاصَّة- فهو سِفْر جَلِيل، وكِتَاب نَفيس؛ وكَان ذَلك السِّفْر مِنْ أجَلّ كُتُب التَّفْسِير، رَأيتُ أن أدْرُس جَانِبًا مِنْ جَوَانِب ذلك الكِتَاب، أذبّ مِنْ خِلالِه عن كِتَابِ رَبّ العَالَمِين، وأُبِين للقَارِئ الكَرِيم عِنايَة القرطبي بِهذا الشأن، وهو دَفْعُ وَهُّم التَّعارُض.

(1)

من كلام القرطبي في مقدمة تفسيره المسمى "الجامع لأحكام القرآن"(1/ 29) ومعنى "مُنَتِي" قوتي. "والمنة بِالضَّم: القُوة" لسان العرب، ابن منظور (13/ 415).

(2)

ذَكَره بهذا الاسم: القرطبي في المقدمة، وفي "كشف الظنون"، حاجي خليفة (1/ 534): جامع أحكام القرآن والْمُبِين لِمَا تَضَمَّن مِنْ السُّنَّة وآي الفُرْقَان.

ص: 2

وقَدَّمْتُ لِهذا البَحْث بِمُقَدِّمَة، وتتضمن هذه الْمُقَدِّمَة:

‌أهَمِّيَّة البَحْث،

وأسْبَاب اخْتِيَارِه، والدِّرَاسَات السَّابِقَة، وأهداف البحث، وأسئلة البحث، وإجراءات البحث ومنْهَج البَاحِث.

أهمية البحث:

1 -

تَعَلُّق هَذا البَحْث والْمَوضُوع بِأجَلِّ العُلُوم وأشْرَفِها، وهو كِتَاب الله تَعَالى.

2 -

الانْتِصَار لِدِين الله عز وجل الدِّين الْحَقّ - في زَمَان كَثُر فِيه التَّآمُر على هذا الدِّين العَظِيم، ومِن ذلك مَا يُزْعَم - قَديمًا وحَدِيثًا - مِنْ وُجُود تَعَارُض وتَنَاقُض بَيْن آيَات الكِتَاب العَزِيز.

ولا يَخْفَى أنَّ إزَالَة مَا يَعْلَق بالأذْهَان مِنْ شُبُهَات هو مِنْ تَثْبِيت دين الإسْلام.

3 -

كَون هذا الْمَوْضُوع لَم يُفْرَد بِبَحْث مُسْتَقِلّ - فيمَا أعْلَم -، رَغْم أهَمِّيَّة تفسير القرطبي "الْجَامِع لأحْكَام القرآن" لَدى العُلَمَاء قَدِيمًا وحَدِيثًا، ورَغْبة في إبْرَاز هذا الْجَانِب للإفَادَة مِنه في دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض.

4 -

مَا تَضَمَّنَه تَفْسِير القُرْطبي "الْجَامِع لأحْكَام القرآن" مِنْ إجَابَات عن إشْكَالات، ومِن جَمْع بَيْن الآيَات التي ظَاهِرُها التَّعَارُض، أو التي يَبْدو أنَّ فِيها تَعَارُضًا.

5 -

أنَّ تَفْسير "الْجَامِع لأحْكَام القرآن" قد يُظَنّ أنه مِنْ تَفَاسِير الأحْكَام فَحَسْب وقد لا يَرْجِع إليه البَاحِث في إزَالَة إشْكَال، أوْ طَلَب وَجْه جَمْع بَيْن الآيَات، في حِين أنه اشْتَمَل على عُلُوم مُخْتَلِفَة مُتَنَوِّعَة، بَلْ هو مِنْ التَّفَاسِير الْمَوْسُوعِيَّة.

و "يَظْهر أنَّ تَفْسِيره - رحمه الله تَعالى - ليس تَفْسِيرًا لآيَات الأحْكَام فَحَسْب، وإنَّمَا لِجَمِيع آيَات القُرْآن، وإن كان أوْلَى آيَات الأحْكَام تَفْصِيلًا كاد يُغْنِي عن كُتُب الفِقْه الْمُقَارَن، لِمَا فيه مِنْ عَرْض للآرَاء الفِقْهِيَّة وسَوْق الأدِلَّة"

(1)

.

6 -

أنَّ الله تَكَفَّل بِحِفْظ كِتَابِه، وتَكْذِيب أعْدَائه، ومن ذلك فَضْح مَنْ زَعَم أنَّ القرآن فِيه تَعَارُض أوْ تَنَاقُض.

(1)

منهج المدرسة الأندلسية في التفسير: صفاته وخصائصه، فهد الرومي (ص 13، 14).

ص: 3

ومِن حِفْظِ الله لِكِتَابِه أنْ تَكَفَّل سُبْحَانه بِرَدِّ كُلّ فِرْيَة، ودَحْضِ كُلّ شُبْهَة؛ بِحُجَجٍ عقلية، وبَرَاهِين قطعية - يَحْسُن بِطَالِب العِلْم أن يَتَزَوّد مِنها لِتَكُون عَوْنا له - بعد الله في مَوَاجَهَة الشُّبُهَات التي يَقْذِف بها خُصُوم الإسْلام وأعْدَاؤه.

قال سبحانه وتعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)[الفرقان: 33].

ومِن ذلك الْحِفْظ أن قَيَّض الله لِهَذا الدِّين أئمَّة أعْلاها يَنْفُون عنه تَحْرِيف الغَالِين، وانْتِحَال الْمُبْطِلين، وتَأوِيل الْجَاهِلِين.

‌أسباب اختيار المَوضُوع:

1 -

أهَمِّيَّة هَذا الفَنّ، وضَرُورَة دِرَاسَته وتَعَلُّمَه. قال النَّووي: هَذا فَنّ مِنْ أهم الأنْوَاع، ويُضْطَرّ إلى مَعْرِفَتِه جَمِيع العُلَمَاء مِنْ الطَّوائف

(1)

.

وقال ابن تيمية: تَعَارُض دَلالات الأقْوَال وتَرْجِيح بَعْضها على بَعْض بَحْرٌ خِضَم

(2)

.

2 -

أهَمِّيَّة دِرَاسَة هَذا الْجَانِب نَظَرًا لاسْتِغْلالِه مِنْ بَعْض أعْدَاء الْمِلَّة للتَّشْكِيك في صدق القُرْآن، وأنه ليس من عند الله.

3 -

تَجْلِيَة هَذا الْجَانِب، وإبْرَاز أنَّ بَعْض مَا يُعْتَبَر تَنَاقُضًا أوْ تَعَارُضًا إنَّمَا هو من مَحَاسِن التَّعْبِير القُرْآني.

4 -

الذَّبّ عن دِين الإسْلام.

فإنَّ الذَّب عن دِين الله عز وجل إمَّا أن يَكُون بِجِلاد أوْ بِجِدَال.

فَـ "أمَّا الْمُعَارِضُون الْمُدَّعُون للحَقّ فَنَوْعَان:

نَوْع يُدْعَون بِالْمُجَادَلة بِالتي هي أحْسَن، فإن اسْتَجَابُوا، وإلَّا فَالْمُجَالَدَة؛ فهؤلاء لا بُدّ لَهم مِنْ جِدَال أوْ جِلاد، ومَن تأمَّل دَعْوة القُرْآن وَجَدَها شَامِلَة لِهَؤلاء الأقْسَام،

(1)

قاله النووي فيما يتعلق بـ (مُخْتَلَف الْحَدِيث). انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 175)، والْجَامِع بيْن الْفَنين: دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض في نُصُوص الوَحْيَيْن.

(2)

رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية (ص 39).

ص: 4

مُتَنَاوِلَة لَها كُلّها، كَمَا قَال تَعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].

فَهَؤلاء الْمَدْعُوُّون بِالكَلام، وأمَّا أهْل الْجِلاد فَهم الذِين أمَرَ الله بِقِتَالِهم حتى لا تَكُون فِتْنَة، ويَكُون الدِّين كُلّه لله"

(1)

.

6 -

زِيَادَة ثِقَة الْمُسْلِمِين بِكِتَاب رَبّ العَالَمِين، خَاصَّة في هذا الوَقْت، الذي كَثُرَت فِيه وَسَائل الاتِّصَال، وأصْبَح الطَّعْن والتَّشْكِيك في الإسْلام والقُرْآن عَلانِيَة، سَوَاء مِنْ قِبَل أعْدَائه، أوْ مِنْ قِبَل بعض أدْعِيَائه! مِمَّا يُؤكَّد ضَرُورَة بَيَان تَهَافُت دَعَاوَى تَنَاقُض القُرْآن، وإزَالَة مَا يَعْلَق بِالذِّهْن مِنْ تَعَارُض مُتَوَهَّم.

وبَيَان أنَّ طَرِيقَة أهْل العِلْم في الْجَمْع بَيْن الآيَات هي أحْسَن الطُّرُق، بَلْ هِي الشَّافِيَة الكَافِيَة.

7 -

رَغْبَتِي في خِدْمَة كِتَاب الله وتَفْسِيرِه، فإنَّ مِنْ خِدْمَتِه الذَّبّ والْمُنَافَحَة عنه، وإحْقَاق الْحَقّ، وإبْطَال البَاطِل الذِي أُلصِق بِكِتَاب الله عز وجل.

ورَغْبَتِي في الانْتِظَام في سِلْك أهْل العِلْم الذِين يَنْفُون عن كِتَاب الله وسُنَّة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم تَحْرِيف الغَالِين، وانْتِحَال الْمُبْطِلين، وتَأوِيل الْجَاهِلِين، فَقَد وَرَدَ في الْحَدِيث:"يَحْمِل هذا العِلْم مِنْ كُلّ خَلَفٍ عُدُولُه؛ يَنْفُون عنه تَحْرِيف الغَالِين، وانْتِحَال الْمُبْطِلِين، وتَأوِيل الْجَاهِلِين"

(2)

.

(1)

من كلام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(1/ 517).

(2)

رواه الطبراني في مسند الشاميين (ح 599) من حديث أبي هريرة، ورواه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص 11) من حديث معاذ.

ورواه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة.

ورواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(2/ 17)، وابن حبان في "الثقات"(1607)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59)، والبيهقي في الكبرى (ح 20700) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وقال ابن حبان في "الثقات" (1607) عن العذري هذا: يَرْوى المراسيل. وقال الذهبي في "الميزان"(1/ 167): تابعي مُقِلَ، ما علمته واهيًا، أرْسَل حديث "يَحْمِل هذا العِلْم ....

وقد أشار الحافظ بن حجر إلى تخريجه في "الإصابة"(1/ 225)، وفي لسان الميزان (1/ 175) في ترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. وقال فيه: وقال مهنأ: قلت لأحمد: حديث معان بن رفاعة كأنه كلام موضوع قال: لا، بل هو صحيح. ويُنظر تخريجه في "مفتاح دار السعادة"، ابن القيم (1/ 497 - 500)، وتعليقات مُحقق الكتاب - علي بن حسن الحلبي - عليه.

ص: 5

8 -

أنَّ الإمَام القُرْطُبي رَغْم خِدْمَتِهِ للعِلْم إلَّا أنَّ تَفْسِيره لَم يُخدَم - فِيمَا أعْلَم - مِنْ هَذا الْجَانب، وهو جَمْع وإبْرَاز الْمَوَاضِع التي جَمَع فِيها بَيْن الآيَات التي يُتَوَهَّم فِيها التَّعَارُض.

‌الدراسات السابقة

حَظِي تفسير القرطبي بِدِرَاسَات كَثِيرَة، وسوف أقْتَصِر على ذِكْر أرْبَعة أنْواع مِنها، وهي على النحو التالي:

دِرَاسَات عقائدية، وفيها:

مَنْهَج الإمام القرطبي في أُصُول الدِّين - البَاحِث: أحمد بن عثمان بن أحمد المزيد - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ردود القرطبي على الشيعة، تأليف: مشهور بن حسن بن سلمان. مطبوع.

القرطبي والتصوف، تأليف: مشهور بن حسن بن سلمان. مطبوع.

دِرَاسَات منهجية، وفيها:

القرطبي ومنهجه في التفسير - الباحث: يوسف بن عبد الرحمن الفرت - جامعة القاهرة.

القرطبي مُفسِّرا - الباحث: علي بن سليمان العبيد - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

تفسير القرطبي: تحقيق ودراسة في المصادر التفسيرية - الباحث: رشاد أحمد يوسف - جامعة القاهرة.

القرطبي ومنهجه في التفسير - الباحث: مفتاح السنوسي أحمد بلعم.

ص: 6

دِرَاسَات فِقْهِيَّة، وفيها:

كشاف تحليلي للمسائل الفقهية في تفسير القرطبي، تأليف: مشهور بن حسن بن سلمان، وجَمَال عبد الطيف. مطبوع.

دِرَاسَات لُغَوَية، وفيها:

القرطبي نحويًا من خلال تفسيره الجامع لأحكام القرآن - الباحثة: فاطنة لمحرش - جامعة محمد الأول.

أبو عبد الله القرطبي وجهوده في اللغة في كتابه الجامع لأحكام القرآن - الباحث: عبد القادر رحيم الهيتي.

الإعراب والاحتجاج للقراءات في تفسير القرطبي - الباحث: سيدي عبد القادر بن محمد الطفيل - كلية الدعوة - ليبيا.

المعنى والإعراب في تفسير القرطبي - الباحث: محمد سعد محمد السيد.

القضايا النحوية في تفسير القرطبي - الباحث: كاظم إبراهيم كاظم.

‌أهداف البحث:

1 -

درء التعارض، وإزالة توهّم الاختلاف، ودحض دعاوى التناقض بين آيات الكتاب العزيز.

2 -

إبراز جهود العلماء السابقين واللاحقين في دراسة تلك الجوانب، وما أولوها من عناية بالغة.

3 -

دراسة الطرق والأساليب التي اتّبعها القرطبي في الجمع بين الآيات التي ظاهرها التعارض.

4 -

التأكيد على أن الله تكفّل بِحفظ كتابه، ودرء التعارض المُتَوهَّم في القرآن.

5 -

زيادة ثقة المسلمين بِكتاب رب العالمين، وترسيخ الإيمان بالقرآن.

ص: 7

‌أسئلة البحث:

1 -

ما هو التعارض؟ وما حقيقته؟ وما هي أسباب التعارض؟

2 -

بيان حقيقة التَّعَارُض الْمُتَوهَّم في القرآن؟

3 -

كيف جَمَع القرطبي بين الآيات التي يُتوهَّم فيها التعارُض؟

4 -

ما هي الطّرق التي يتبعها القرطبي للجمع بين الآيات؟

5 -

هل أفاد القرطبي ممن سبقوه، وهل أفاد منه من أتى بعده؟

6 -

ما هي خلاصة الجمع بين الآيات؟

‌إجراءات البحث:

أ- دراسة كاب "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي، واستخلاص منهجه في الجمع بين الآيات التي تُوهّم التَّعارض.

ويتضمّن ذلك ما يلي:

دراسة حقيقة التعارض، وهل هو تَوهّم وارد فِعلًا؟ أو هو تَوهّم ناشئ عن تَوهّم؟ أو هو نتيجة مُقَرر سابق؟ وهل هذا التوهّم متأثّر بِمُعْتَقَد الْمُفَسِّر؟

ب- إجراء مُقارنة في بعض المواطن بين أسلوب القرطبي وغيره من المفسِّرين ممن سَبقوه أو ممن أتوا بعده فتأثّروا بطريقته، ويُقتصَر في الدراسة على خمسة أمثلة في كل مبحث.

ويُبرِز الباحث في الأمثلة التي يدرسها ما يلي:

جواب القرطبي باختصار.

مُقارنة جوابه وجَمْعه بجَمْع غيره من العلماء.

‌رأي الباحث.

‌منْهَج الباحث:

أولًا: جَعَلتُ البحث في ثلاثة فُصُول هي على النحو التالي:

ص: 8

الفصل الأول:

في طُرق دفع توهّم التعارض بين الآيات، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: من خلال النَّسْخ.

المبحث الثاني: فيما يتعلّق بالخصوص والعموم.

المبحث الثالث: مِنْ خلال القول بالتقديم والتأخير.

المبحث الرابع: فيما يتعلّق باختلاف المناسبة.

وقد تَضَمَّن هذا الفَصْل عشرين مِثَالًا في كُلّ مَبْحَث خَمْسَة أمْثِلَة.

والفصل الثاني:

في منهج الإمام القرطبي في دفع التعارض، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: الجمع بين الآيات بالاستدلال بالأحاديث المرفوعة.

المبحث الثاني: الجمع بين الآيات من خلال إيراد أقوال السلف.

المبحث الثالث: الاحتكام إلى اللغة العربية وقواعدها لِدفع التعارض المتوهّم.

المبحث الرابع: منهجه في إيراد الآية وما يُتوهّم تعارضه معها، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الجمع بين الآيات بإيراد الآية وما يُعَارِضُها في الظاهر.

المطلب الثاني: الجمع بين الآيات والاكتفاء بالإشارة إلى معنى الآية المقابِلة.

وقد تَضَمَّن هذا الفَصْل تِسْعَة عَشَر مِثَالًا.

والفصل الثالث:

في عناية الإمام القرطبي بِالْجَمْع بين الآيات وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: إفادة القرطبي ممن سَبقوه، وإفادته لمن أتوا بعده، وموافقة غيره له.

المبحث الثاني: الفَرْق بين كشف معنى الآية بإكثار الأقوال والعناية بِدفع توهّم التعارض، ومظانّ الجمع بين الآيات.

المبحث الثالث: أثر عقيدة القرطبي في توهّم التعارض.

ص: 9

وقَدَّمْتُ بِتَمْهِيد تَضَمَّنَ:

- ترجمة الإمام القرطبي، وبيان عقيدته باختصار.

- أهمية تفسير القرطبي بين التفاسير، وما تميّز به.

- معنى التعارض، وحقيقته، وأهمية دفعه.

وخَتَمْت البحث بِخاتِمَة وفيها أبْرَز النَّتَائج وأهَمّ التَّوْصِيَات.

ثم أعْقَبْتُ ذلك بالفهارس العامة للبحث.

وطَرِيقَتِي في أمْثِلَة هَذا البَحْث أن أُورِد في الْمِثَال مَا يُتَوهَّم تَعَارُضه مِنْ آيات - مِنْ غير حَصْرٍ للآيَات في المثال الواحِد -، فقد يَتَكرَّر وُرُود الآيات في أكْثَر مِنْ مَوْضِع، فأُورِد مَوْضِعًا أو مَوْضِعَين، إذْ بِهما يَتَحقَّق الْمَقْصُود.

ثم أُوَضِّح صُورَة التَّعَارُض، وأُعْقِبه بجَمْع القرطبي بَيْن الآيَات وطَرِيقتِه في دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض، ثم أُلَخَّص جَوَاب القرطبي في نُقَاط مُحَدَّدَة مُخْتَصَرَة.

وأُجْرِي مُقارَنَة بَيْن جَمْعِه وجَمْع غيره مِنْ العُلَمَاء، وحَرَصْتُ على أن تَكُون تِلك الْمُقَارَنَة بَيْن مَنْ سَبَقُوه وبَيْن مَنْ أتَوا بَعْدَه.

وأخْتِم كُلّ مِثَال بِـ "رَأي البَاحِث"، أُوَضِّح فيه مَا تَبَيَّن لي مِنْ خِلالِ مُعَايَشَة أقْوَال الْمُفَسِّرِين، مع ما يَعِنّ مِنْ رَأي مُدَعَّم بِدَلِيل نَقْليّ أو عَقْلِيّ.

وعندما أذْكُر أسْمَاء الأئمَّة الأعْلام فإني أذْكُرَها مُجَرَّدَة عن الأوْصَاف، مُتَّبِعًا مَنْهَجًا عِلْمِيًّا صِرْفًا، وليس لِحَاجَة في النَّفْس! ثم إن أكابر أتْبَاع الأَئمة أصْحَاب الْمَذَاهِب الْمَتْبُوعَة يَذْكُرُون أسْمَاء الأئمة مُجَرَّدَة عن كُلّ وَصْف

(1)

.

(1)

انظر: "الاستذكار"، ابن عبد البر (1/ 13، 16، 21) ومواضع أُخرى كثيرة، و"الجامع لأحكام القرآن"، مرجع سابق (1/ 10، 88 ومواضع أُخرى)، و"المغني" ابن قدامة (1/ 23، 25، 28 ومواضع أُخرى كثيرة).

ص: 10

كَمَا أني لم أُتَرْجِم للأعلام أثْنَاء بَحْثِي، واعْتَضْتُ عن ذلك بفوائد ومُلَح لُغَويَّة وحديثية رأيت أنها تُفيد القارئ أكثر مِنْ مُجرّد ترجمة في سطر أو سطرين.

وفي التَّخْرِيج لَم ألْتَزِم اسْتِيعَاب التَّخْرِيج؛ لأنه ليس مَقْصدًا أصلِيًّا في البَحْث، واكْتَفَيت بالعَزو بِرَقْم الْحَدِيث، خاصَّة مع توفَّر طَبَعَات الكُتُب وتَرْقِيمها، وهو أسْهَل في الرُّجوع إلى رقم الْحَدِيث.

وأذكُر خُلاصَة الْحُكْم على الْحَدِيث مُسْتَفِيدًا مِنْ تَخْرِيجات أصْحَاب الشَّأن.

وأسْتَثْنِي مِنْ ذلك مَا إذا كان الْحَدِيث مُخَرَّجًا في الصَّحِيحَين أو في أحَدِهما، فإنَّ شُهْرَة الصَّحِيح أغْنَت عن الْحُكْم على الْحَدِيث.

كَمَا أني لَم الْتَزِم عَزْو كُلّ قَوْل إلى قَائِله، خَاصَّة في أقْوَال أئمة مُفَسِّرِي السَّلَف مِنْ الصحابة والتابعين؛ لأنَّ مِنْ شأن ذلك إطالة البَحْث وإتْخَامه بِالْحَوَاشِي.

واسْتَثْنَيتُ مِنْ ذلك مَا دَعَت الْحَاجَة إلى تَخْرِيجه وعَزْوِه؛ كأن يَكون القَوْل لا يَصِح عن ذلك الإمَام، أو وُجِد اخْتِلاف في الْمَنْقُول عنه، ونحو ذلك.

ومِثْلُه مَا يَتَعَلَّق بأقْوَال الْمُفَسِّرِين في كُتُبهم؛ فإني لا أعْزُوها في الغَالِب إلى مَوَاضِع الكُتُب، إلَّا ما دَعَتِ الْحَاجَة إليه؛ فإذا نَقَل الْمُتَأخِّر عن الْمُتَقَدِّم قَولًا فإني أتْرك عَزوه قَصْدًا، إلَّا بِقَدْر الْحَاجَة؛ لِوُجُود اخْتِلاف ونحوه.

وقد أَطَلْتُ في إيرَاد أقْوَال بعْض الْمُفَسِّرِين، وعُذْرِي في ذلك أنهم أطَالُوا في الأصْل فقد يَكُون الْمُفَسِّر قَرَّر مسألةً مَا في عَشْر صَفَحَات، فإذا اخْتَصَرْتُ ذلك في صَفْحَة واحِدة، فإني أرَى أني اخْتَصَرْت، وعُذْر آخَر، وهو أنه لا يَسْتَبِين وَجْه وقُوَّة جَوَاب العَالم إذا مَا اخْتَصَرْتُه جدًّا.

هذا ولَم أسْتَوْعِب جَمِيع الْمَواضِع التي دَفَع عنها القرطبي تَوَهُّم التَّعَارُض؛ لِكَون هذا البَحْث ليس اسْتِقْرَائيًّا، وقد رَأت لجْنَة مَسَار التفسير الاكْتِفاء بِخَمْسَة أمثِلة في كل مَبْحَث، والْتَزَمْتُ ذلك في الْغَالِب إلَّا مَا رَأيتُ أنَّ مَا سَبَقَه مِنْ مَبَاحِث خَدَم ذلك الْمَبْحَث، فَزِيَادَة الأمْثِلَة إطَالَة وتِكْرَار.

ص: 11

وأتقَدَّم بِجزِيل شُكْرِي إلى أستاذي الفاضل وشيخي الكَرِيم د. ناصر بن محمد المنِيع - حفظه الله - فهو الْمُشْرِف على هذا البَحْث، وقد أسْعَدَني بِحِرْصِه الذي كان دَفِعًا لإنْهَاء هَذا البَحْث، كَمَا أتحَفَني بِملْحُوظَاته، وأفادَنِي بِتَوْجِيهَاتِه.

فَشَكَرَ الله سَعْيَه، ويَسَّر له أمْرَه، وجَزَاه عَنِّي خَيْر الْجَزَاء وأوْفَاه وأَوْفَرَه.

كَمَا أتقَدَّم بِالشُّكْر لِكُلّ مَنْ أفادني بِفَائدَة، وأخُصّ أسَاتِذَتِي في هَذِه الدِّرَاسَة العُلْيَا وكُلّ مَنْ وَجَّه وأقَام الاعْوِجَاج.

وأعْتَذِر عن كُل تَقصِير يَرَاه قارئ هذا البَحْث؛ إذ "لو عُورِض كِتَاب سَبْعِين مَرَّة لَوُجِد فيه خَطأ، أبَى الله أن يَكُون كِتَاب صَحِيحًا غَير كِتَابِه"

(1)

.

وعُذْري كَثْرَة الشَّواغِل والصَّوَارِف، مَع قِصَر البَاع، وتَحْدِيد زَمَن البَحْث.

"فَمَنْ وَقَف على هذا الكِتاب مِنْ أهْل العِلْم، ورَأى فِيه شيئًا مِنْ الْخَلل فلا يَعْجَل بِالْمُؤَاخَذَة! فأني تَوَخَّيْتُ فيه الصِّحَّة حَسْب مَا ظَهَر لي، مع أنه كَمَا يُقَال: أبَى الله أن يَصِحّ إلَّا كِتَابه. لكن هذا جُهْد الْمُقِلّ، وبَذْل الاسْتِطَاعَة، ولا يُكَلِّف الله نَفْسًا إلَّا وُسْعَها، ولا يُكَلِّف الإنْسَان مَا لا تَصِل قُدْرَته إليه، وفُوْق كُلّ ذِي عِلْم عَليم"

(2)

.

كَمَا أنَّ النَّاظِر في الكِتَاب أبْصَر بمواقِع الْخَلل، فقد راجَعْتُ هذا البحث أكثر مِنْ أربع مرّات، وفي كُلّ مرة يَظهر مِنْ الْخَطَأ ما لَم يَظهر في السابق، وهذا هو شأن أي عَمل بشري أنه لا يَخلو من نَقص وخَلل.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: عَارَضْتُ بِكِتَابٍ لأَبِي ثلاث عشرة مَرَّة، فَلَمَّا كان في الرَّابِعَة

(3)

خَرَج فيه خطأ! فَوَضَعَه مِنْ يَدِه، ثم قال: قد أَنْكَرْتُ أن يَصِحّ غَير كِتَاب الله عز وجل

(4)

. والله الْهَادي إلى سَوَاء السَّبِيل.

كتبه/ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم.

(1)

قاله: إسماعيل بن يحيى المزني. (موضح أوهام الجمع والتفريق، الخطيب البغدادي 1/ 14).

(2)

مُقْتَبَس مِنْ: مرآة الجنان، اليافعي (4/ 196).

(3)

أي: الرابعة عشرة.

(4)

موضح أوهام الجمع والتفريق، مرجع سابق (1/ 14).

ص: 12

‌التمهيد

ويَتضَمَّن هذا التَّمْهيد:

- تَرْجَمَة الإمَام القرطبي، وبَيَان عَقِيدَتِه بِاخْتِصَار.

- أهَمِيَّة تَفْسِير القُرْطُبي بَيْنَ التَّفَاسِير، ومَا تَمَيّز به.

- مَعْنَى التَّعَارُض، وحَقِيقَته، وأهَمِّيَّة دَفْعِه.

‌أولًا: تَرْجَمَة الإمام القرطبي، وبَيَان عَقِيدَتِه بِاخْتِصَار.

تَتَلَخَّص تَرْجَمَة القرطبي في النُّقَاط الآتِيَة بِاخْتِصَار:

‌اسمه:

محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح

(1)

.

‌نَسَبه:

الأنْصارِي الْخَزْرَجِي.

‌نسبته:

الْمَالِكِيّ

(2)

القُرْطُبي.

‌كنيته:

أبو عبد الله

(3)

.

‌مولده ونشأته:

وُلِد القرطبي بِقُرْطُبة، ونُسِب إليها، بل أصْبح أشْهَر عَلَمٍ مِنْ أعلامِها

(4)

.

(1)

وقع عند السيوطي في "طبقات المفسرين"(ص 92): محمد بن أحمد بن أبي فَرْح. فلعل فيه سَقْط.

(2)

نِسْبة للمذْهَب.

(3)

يُنْظَر لمَا تَقَدَّم: الوافي بالوفيات، الصفدي (2/ 87)، و"طبقات المفسِّرين"، الداودي (ص 246)، و"طبقات المفسرين"، السيوطي (ص 92).

(4)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مشهور حسن (ص 14).

ص: 13

‌رحلاته:

تَلَقَّى القرطبي في قرطبة "ثَقَافَة وَاسِعَة مِنْ الفِقْه والنَّحْو والقِرَاآت وغَيْرِها على جَمَاعة مِنْ العُلَمَاء الْمَشْهُورِين"

(1)

.

ثم انْتَقَل القرطبي إلى مِصْر، "واسْتَقَرّ بِها، وأخَذ عن عُلَمَائها، يُؤكِّد هذا أنه أَخَذ في "الإسْكَندرية" عن شيخه أبي محمد عبد المعطي اللخمي (المتوفَّى سنة 638) "

(2)

.

وقد رَحَل إلى الْمُدُن المصرية التالية:

الإسكندرية.

المنصورة.

القاهرة.

منية بني خصيب: وهي تلك المدينة التي اسْتَقَرّ بها الإمام القرطبي، ومات بها"

(3)

.

ونَزَل القرطبي مرّة "الفَيُّوم" بِرِفْقَة القَرافي"

(4)

.

‌مشايخه:

‌أ- مِنْ أبُرَزِهم في الأنْدَلس:

1 -

ابن أبي حجة، وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن القيسي. من أهل قرطبة

(5)

.

"وقد اسْتَفَاد إمامُنا مِنْ شَيْخِه هذا كثيرًا، لا سِيما إذا عَلِمْنا أنَّ ابن أبي حجة كان نَحويًا ومُحدِّثًا وفَقِيها، بالإضَافَة إلى كَونه مُقْرِئا

(6)

.

2 -

أبو سليمان ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن أُبيّ الأشعري. وهو مِنْ أهل قُرطبة أيضًا، وآخِر قُضَاتِها

(7)

.

(1)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 15).

(2)

المرجع السابق (ص 17).

(3)

المرجع السابق (ص 38 - 40).

(4)

انظر: الوافي بالوفيات، مرجع سابق (2/ 87) فقد ذَكَر قصة تَدُلّ على ذلك.

(5)

الإعلام الزركلي (1/ 219)، و"الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير"، مرجع سابق (ص 63).

(6)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 64).

(7)

انظر: الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 65).

ص: 14

3 -

أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري. "ذَكَرَه القرطبي، ونَعَتَه بـ "الشيخ الفقيه الإمام الْمُحدِّث القاضي"

(1)

. وقال الذهبي عنه: القرطبي صَاحِب التَّصَانِيف الكَلامِيَّة، ووَالِد الْمُتَكَلِّم أبي الحسين محمد، تُوفِّي بِمَالقة

(2)

.

4 -

أبو الحسن علي بن قُطْرَال. "هو القاضي العَلامَة القُدْوة أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأنْصَاري القُرطبي الْمَالِكِيّ"

(3)

.

5 -

أبو محمد بن حَوْط الله. "هو الحافظ الإمام مُحدِّث الأندلس، أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حَوْط الله الأنصاري الحارثي الأندلسي"

(4)

.

‌ب- مِنْ أبرزهم في مصر:

1 -

أبو العباس القرطبي، صَاحِب "الْمُفْهِم في شَرح مُسلم" وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري الْمَالِكِيّ الفَقِيه، الْمُحَدِّث الْمُدَرِّس الشَّاهِد بِالإسكندرية وُلِد بِقُرْطُبة سنة 578، وسَمِع الكثير هنالك، ثم انْتَقَل إلى الْمَشْرِق واشْتَهَر وطَارَ صِيتُه، وأخَذ النَّاس عنه، وانتفعوا بِكُتُبِه، وقَدِم مِصر وحَدَّث بِها، واخْتَصَر الصَّحِيحَين، وكان بَارِعًا في الفِقْه والعَرَبِيَّة، عَارِفًا بِالْحَدِيث، ومِمَّن أخَذَ عنه القرطبي صَاحِب التَّذْكِرَة

(5)

.

وقد أكثر القرطبي الْمُفَسِّر النقل عن أبي العباس القرطبي في تَفْسِيرِه، ويَنْعَتُه كَثِيرًا بـ "شيخنا أبي العباس" وبـ "الإمام أبي العباس"، ويَتَرضَّى عنه كَثِيرًا.

وقال مَرَّة: قال شَيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه

(6)

.

(1)

المرجع السابق (ص 66).

(2)

سير أعلام النبلاء الذهبي (23/ 80).

(3)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 68).

(4)

المرجع السابق (ص 69).

(5)

نفح الطيب، التلمساني (2/ 615)، وانظر:"الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير"، مرجع سابق (ص 70).

(6)

الجامع لأحكام القرآن

، القرطبي (6/ 275).

ص: 15

وقال أخرى: شيخنا الإمام أبو العباس ....

(1)

.

وقال ثَالِثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كِتاب "الْمُفْهِم" له

(2)

.

2 -

أبو محمد بن رَوَاج، وهو رشيد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن رَواج

(3)

، واسمه ظافر بن علي بن فتوح بن حسين الأزْدِي القُرشي حَلِيفهم، الإسْكَنْدَرَاني الْمَالِكِيّ الْجَوْشَنِيّ"

(4)

.

و"أسمع مِنْ ابنِ رواج، ومِن الجميزي، وعِدّة"

(5)

.

3 -

أبو محمد عبد المعطي بن أبي الثناء اللخمي، وهو عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي بن عبد الخالق، الإسكندري، ثم الْمَكِّيّ، الفقيه الصَّوفي

(6)

.

أوْرَده في غير موضع من التَّفْسِير، فمن ذلك قوله:

ذَكَر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الأسكندراني رضي الله عنه

(7)

.

وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية

(8)

.

وقد ذَكَر شيخنا الإمام أبو محمد عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي اللخمي

(9)

.

4 -

أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي، المعروف بـ "ابن الجمّيزي". "هو شَيخ الدِّيَار المصرية العَلامَة المفتي المقرئ بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن سَلامة بن الْمُسَلَّم اللخمي المصري الشافعي"

(10)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (5/ 44)، (11/ 38، 39)، (14/ 202).

(2)

المرجع السابق (13/ 211).

(3)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 74).

(4)

سير أعلام النبلاء، الذهبي (23/ 237).

(5)

طبقات المفسِّرين، الداودي (ص 246)، وانظر:"طبقات المفسرين"، السيوطي (ص 92).

(6)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 76).

(7)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 211).

(8)

المرجع السابق (10/ 366).

(9)

المرجع السابق (9/ 42).

(10)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 80).

ص: 16

وقد رَوى الكثير عن ابن الجميزي، وسَمِع منه

(1)

.

‌تلاميذه:

رَوى عنه بِالإجَازة ولَده الشِّهاب أحمد

(2)

.

ومِن تلاميذه:

"أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن إبراهيم بن الزبير العاصمي الغرناطي.

و"إسماعيل بن محمد بن عبد الكريم الخراستاني".

و"أبو بكر محمد بن الإمام الشهيد كمال الدين أبي العباس أحمد بن أمين الدين الميموني القسطلاني المصري الفَقِيه المالكي".

و"ضياء الدين أحمد بن أبي السعود بن أبي المعالي البغدادي"

(3)

.

ومحمد بن إبراهيم بن عبد الملك الأزدي، من أهل قيجاطة، يُعْرَف بالقَارجي، سَمِع بِالقاهرة أبا عبد الله القرطبي

(4)

.

"وسَمِع مِنْ الخشوعي وغيره، وبِمِصْر مِنْ أبي عبد الله القرطبي، ثم رجع وأخذ القراءات عن أبي جعفر الحصار، وأقْرَأ بِمَرْسية، توفي في المحرم سنة ثلاث وأربعين وسِتّ مِئة"

(5)

.

‌وفاته:

توفي القرطبي بمنية بني خَصيب مِنْ الصعيد الأدنى سنة إحدى وسبعين وستمائة

(6)

وذلك "بعد أن اسْتَقَرّ القرطبي بِمِصْر قُرَابة ثَمَانية وثلاثين عَامًا .... تَوفَّاه الله .... وكان

(1)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 40).

(2)

طبقات المفسِّرين، الداودي (ص 246)، وانظر:"طبقات المفسرين"، السيوطي (ص 92).

(3)

يُنظر: الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 91 - 94).

(4)

التكملة لكتاب الصلة، القضاعي (2/ 148).

(5)

معرفة القراء الكبار، الذهبي (2/ 646).

(6)

انظر: طبقات المفسرين، الداودي (ص 246)، و"طبقات المفسرين"، السيوطي (ص 92).

ص: 17

ذلك ليلة الاثنين، التاسع من شوّال، سنة إحدى وسبعين وسِتمائة. وهذا يَكَاد يَكون مَوْضِع اتِّفاق بين الكُتُب التي تَرْجَمَت له"

(1)

.

‌آثاره:

أشهر مؤلَّفات القرطبي:

1 -

كِتاب "الجامع لأحكام القرآن"، وهو "التفسير الْمَشْهُور الذي سَارَتْ به الرُّكبان"

(2)

.

2 -

كتاب "التذكرة في أحوال الموتى وأمُور الآخرة"

(3)

.

"وهو كِتاب مَشْهُور في مُجَلَّد ضَخْم

(4)

.

3 -

كِتاب "الأسْنَى في أَسمَاء الله الْحُسْنَى"

(5)

.

4 -

كتاب "التِّذْكَار في أفْضَل الأذْكَار"

(6)

.

5 -

كتاب "قَمْع الْحِرْص بِالزُّهْد والقَنَاعَة وَرَدّ ذُلّ السُّؤالِ بِالكَسْب والصِّنَاعَة

(7)

. والصِّنَاعَة".

(1)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 45).

(2)

طبقات المفسرين، السيوطي، مرجع سابق (ص 79)، وانظر: الدِّيباج المذَهَّب، ابن فرحون (ص 317).

(3)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317)، وطبقات المفسِّرين، الداودي، مرجع سابق (ص 246)، وانظر:"طبقات المفسرين"، السيوطي، مرجع سابق (ص 92)، وسَمَّاه حاجي خليفة في كَشف الظنون (1/ 390): تذكرة القرطبي.

وأشار إليه القرطبي في التفسير في غير موضع، فمن ذلك:(1/ 282)، و (2/ 77)، و (14/ 202).

(4)

كشف الظنون، حاجي خليفة (1/ 390).

(5)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317)، والوافي بالوفيات، مرجع سابق (2/ 87)، وذَكَره القرطبي وأحال عليه في غير موضع من التفسير، فمن ذلك (1/ 91، 303، 367) وسَمَّاه "الكِتاب الأسْنَى في شَرْح أسْمَاء الله الحسنى"، وستأتي الإشارة إليه.

وذَكَره مشهور حَسَن في "الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير"(ص 146) ضمن الكتب المخطوطة والمفقودة، وقال البراك: طُبِع مُحققًا، ويَنْقُص مِنه الجزء الأول (تحقيق كِتاب العُلُو 2/ 1376).

(6)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317)، وكشف الظنون، مرجع سابق (1/ 383).

(7)

ذَكَره القرطبي في الجامع (13/ 18)، وذكره باخْتِصَارِ عُنْوَانِه في (5/ 158)، (17/ 41)، وانظر: الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

ص: 18

قال ابن فرحون: لم أقِف على تَأليف أحْسَن مِنه في بَابِه

(1)

.

6 -

كتاب "الإعلام بِما في دِين النَّصَارَى مِنْ الْمَفَاسِد والأوْهَام وإظْهَار مَحَاسِن دِين الإسلام"

(2)

.

7 -

كتاب "منهج العُبَّاد ومَحَجَّة السَّالِكين والزُّهَّاد"

(3)

.

8 -

كتاب "الْمُقْتَبس في شرح موطأ مالك بن أنس"

(4)

.

9 -

كتاب "الأعلام في معرفة مَولِد المصطفى عليه الصلاة والسلام"

(5)

.

10 -

"أرْجُوزَة جَمَع فِيها أسْمَاء النبي صلى الله عليه وسلم"

(6)

.

‌ثناء العلماء عليه:

قال عنه الصَّفَدِي: أمام مُتَفَنِّن مُتَبَحِّر في العِلْم، له تَصانيف مُفيدة تَدُلّ على كثرة اطِّلاعه، ووفُور فَضْله

(7)

.... وقد سارتْ بِتفسيره الرُّكبان، وهو تفسير عظيم في بَابِه، وله كتاب "الأسْنَى في أسماء الله الْحُسْنَى"، وكتاب التذكرة وأشياء تَدُلّ على إمَامَتِه، وكَثْرة اطِّلاعِه

(8)

.

(1)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

(2)

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مرجع سابق (ص 142).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 190).

(4)

المرجع السابق (3/ 13) وفي مواضع أُخَر.

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (ص 317).

(6)

الِّديباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

(7)

هذا القَدْر من النّص نُسِب إلى الذهبي في طبقات المفسِّرين، الداودي (ص 246)، وفي "طبقات المفسرين"، السيوطي (ص 92).

(8)

الوافي بالوفيات، مرجع سابق (2/ 87).

ص: 19

وقال عنه ابن فرحون: الشَّيْخ الإمَام أبو عبد الله الأنصاري الأنْدَلُسي القرطبي، الْمُفَسِّر، كان مِنْ عِبَاد الله الصَّالِحِين، والعُلَمَاء العَارِفِين الوَرِعِين الزَّاهِدِين في الدُّنيا الْمَشْغُولِين بِمَا يَعْنِيهم مِنْ أمُور الآخِرَة، أوْقَاتُه مَعْمورَة مَا بَيْن تَوَجُّه وعِبَادَة وتَصْنِيف

(1)

وتَصْنِيف

(2)

.

وقال: جَمَع في تَفْسِير القُرْآن كِتَابًا كَبِيرًا في اثْنَي عَشَر مُجَلَّدًا، سَمَّاه كِتاب "جَامِع أحْكَام القرآن والْمُبِين لِمَا تَضَمَّن مِنْ السُّنَّة وآي القُرآن" وهو مِنْ أجَلّ التَّفَاسِير وأعْظَمها نَفْعًا، أسْقَط مِنه القَصَص والتَّوَارِيخ وأثْبَت عِوَضَها أحْكَام القرآن واسْتِنْبَاط الأدِلَّة، وذَكَر القِرَاءات والإعْرَاب، والنَّاسِخ والْمَنْسُوخ

(3)

.

قال ابن فَرْحُون وهو يَذْكُر مُؤلَّفَات القرطبي: وكِتاب "التِّذْكَار في أفْضَل الأذْكَار" وَضَعَه على طَرِيقَة "التِّبْيَان" للنووي، لكن هذا أتَم مِنه، وأكْثَر عِلْمًا

(4)

.

وقال عن كتاب "قَمْع الْحِرْص بِالزُّهْد والقَنَاعَة وَرَدّ ذُلّ السُّؤالِ بِالكَسْب والصِّنَاعَة": لَم أقِف على تَألِيف أحْسَن مِنه في بَابِه

(5)

.

وقد أحْسَن ابن تيمية الثَّنَاء على القرطبي، حيث سُئل ابن تيمية "أيّ التَّفَاسِير أقْرَب إلى الكِتَاب والسُّنَّة؟ الزمخشري، أم القرطبي، أم البغوي أوْ غير هؤلاء؟ "

فكان مِمَّا أجَابَ بِه - مُقَارِنًا بين تفسير القرطبي وبين تفسير الزمخشري: وتَفْسِير القرطبي خَيْر مِنه بِكَثِير، وأقْرَب إلى طَرِيقَة أهْل الكِتَاب والسُّنَّة وأَبْعَد عن البِدَع

(6)

.

(1)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

(2)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

(3)

المرجع السابق (ص 317).

(4)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(5)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(6)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 385 - 387).

ص: 20

‌بيان عقيدة القرطبي باخْتِصَار:

ويَتَلَخَّص القَوْل فيها في النُّقَاط التَّالِية أيضًا:

إثْبَات الأسْمَاء والصِّفَات في الغَالِب:

إثْبَات صِفَة الاسْتِوَاء:

فقد قَرَّر القرطبي مَسْألَة الاسْتِوَاء على طَرِيقَة السَّلَف بِحيث نُقِلَ عنه ذلك التَّقْرِير، فقد نَقَله غَير وَاحد مِنْ العُلَمَاء الْمُحقِّقِين، ومِمَّن نَقَله:

ابن تَيمية في "دَرْء تَعَارُض العَقْل والنَّقْل"

(1)

حيث قال: وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي - لَمَّا ذَكَر اخْتِلاف النَّاس في تَفْسِير الاسْتِوَاء - قال: وأظْهَر الأقْوَال مَا تَظَاهَرَتْ عليه الآي والأخْبَار والفُضَلاء الأخيار أنَّ الله على عَرْشِه كَمَا أخْبَر في كِتَابِه وعلى لِسَان نَبِيِّه بِلا كيف، بَائن مِنْ جَمِيع خَلْقِه. هذا مَذْهَب السَّلَف الصَّالِح فيما نَقَل عنهم الثِّقَات

(2)

.

ثم ذَكَر ابن تيمية مَا قَرَّرَه القرطبي في تَفْسير آية "الأعراف"

(3)

.

وابن القيم ضَمْن أقْوَال أئمَّة التفسير في مَسْألَة الاسْتِوَاء، حيث ذَكَر "قول أبي عبد الله القرطبي الْمَالِكي صَاحِب التفسير الْمَشْهُور، رحمه الله"

(4)

.

ونَقَلَه الذهبي في مَقَالات الأئمَّة في إثْبَات العُلُوّ

(5)

.

ونَقَلَه مَرْعي الحنبلي في "أقاويل الثِّقَات"

(6)

.

كَمَا نَقَلَه الْحَازِمِيّ في "كِتَاب الصِّفَات"

(7)

.

(1)

(6/ 258).

(2)

هذا النَّقل عن القرطبي خِلاف مَا جَاء في كِتَاب "الأسْنَى" مِنْ زِيَادة عِبَارَة: وإن كُنْتُ لا أقولُ به ولا أخْتَاره. وستأتي مناقشة هذه العِبَارَة.

(3)

دَرْء تَعَارُض العَقْل والنَّقْل (6/ 260)، و"بيان تلبيس الجهمية"(2/ 36)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 261).

(4)

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (ص 166)، و"الصواعق الْمُرْسَلَة على الْجَهْمِيَّة والْمُعَطِّلَة"(4/ 1292)، حيث نَقَل عنه ما قَرَّره في كتاب "الأسْنَى".

(5)

العُلُوّ للعَلِي العظيم، وإيضَاح صحيح الأخبار من سَقيمها (ص 266، 267).

(6)

(ص 132).

(7)

(ص 119).

ص: 21

وأمَّا مَا جاء عنه في كِتاب "الأسْنَى في شَرْح أسْمَاء الله الْحُسْنَى"

(1)

مِنْ عِبَارة: أظْهَر الأقْوَال - وإن كُنْتُ لا أقُول بِه ولا أخْتَارُه - مَا تَظَاهَرَتْ عليه الآيُ والأخْبَار والفُضَلاء الأخْيَار؛ أنَّ الله سُبحانه على عَرْشِه كَمَا أخْبَر في كِتَابِه بِلا كيف، بَائن مِنْ جَمِيع خَلْقِه؛ هذا جُمْلَة مَذْهَب السَّلَف الصَّالِح.

فهذه الْجُمْلَة - وإن كُنْتُ لا أقُول بِه ولا أخْتَارُه - مُحْتَمِلة لأمْرين:

الاحْتِمَال الأول: أن تَكُون مُتَقَدِّمَة على تَقْرِير عَقِيدَة السَّلَف في الاسْتِوَاء، كَمَا قَرَّرَها في التفسير.

وكِتَاب "الأسْنَى" مُتَقَدِّم على التفسير، فَهو يُحِيل عليه في التفسير كَثِيرا، فقد أحَال عليه في أكْثر مِنْ ثَلاثين مَوْضِعًا

(2)

.

فَعَلى افْتِرَاض ثُبُوت تلك الْجُمْلَة عن القرطبي فهي في كِتاب مُتقدِّم، وتَقْرِير عَقيدة السَّلَف في التفسير، وهو كِتَاب مُتأخِّر، والْمُتأخِّر يَقْضِي على الْمُتَقَدِّم إذا تَعَارَضَ كَلام العَالِم.

الاحْتِمَال الثاني: أن تَكُون مُقْحَمة في الكِتَاب؛ وهذا أرجَح، لِعِدَّة اعْتِبَارَات:

الأوَّل: أن ابن تيمية نَقَل عنه قوله دُون تِلك الْجُمْلَة

(3)

، وابن تيمية يُعتبر مُعاصِرًا للقرطبي، إذ أنَّ وِلادَة ابن تيمية سنة 661 هـ

(4)

ووفاة القرطبي سنة 671 هـ، وعلى هذا يُعْتَبَر ابن تيمية أقْدَم مَنْ نَقَل عِبَارة القرطبي، وأقْرَب النَّاس إلى زَمَانِه.

(1)

(2/ 122).

(2)

انظر على سبيل المثال: (1/ 91)، (1/ 303)، (1/ 367)، (2/ 82)، (2/ 125).

(3)

انظر: دَرْء تَعَارُض العَقْل والنَّقْل (6/ 258)، و"بيان تلبيس الجهمية"(2/ 36)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 261).

(4)

انظر: البداية والنهاية، ابن كثير (17/ 451).

ص: 22

الثَّاني: أن عِبَارَة القرطبي لا تستقيم بِتلك الْجُمْلَة، إذ قَرَّر أن "أظْهَر الأقْوَال" في تِلك الْمَسْألَة، هو "مَا تَظَاهَرَتْ عليه الآيُ والأخْبَار والفُضَلاء الأخْيَار"، وأنَّ "هذا جُمْلَة مَذْهَب السَّلَف الصَّالِح"، ثم يُناقِضه بِتِلك الْجُمْلَة! فهذا لا يَسْتَقِيم.

الثَّالث: أنَّ مَنْهَج القرطبي يَرُدّ تِلك الْجُمْلَة؛ إذ لا يُعْرَف عنه رَدّ الأحَادِيث الصَّحِيحَة بِغَير تَأويل. ومن تَتبَّع تفسيره عَرَف ذلك، فهو لا يَتَرَدَّد أن يَقول بِمَا يَدُلّ عليه الْحَديث إذا كان صَحِيحًا عنده، وإن ضَعَّفه غيره، ومِثَال ذلك: أنه لَمَّا نَقَل عن ابن العربي تَضْعِيف حَديث مَنْ قَتَل عَبْدَه قَتَلْنَاه، تَعَقَّبَه بِقوله: هذا الْحَدِيث الذي ضَعَّفَه ابن العربي، وهو حَدِيث صَحِيح، أخْرَجَه النسائي وأبو داود

(1)

. فَيَبْعُد أن يَعْلَم القرطبي تَظَاهُر الآي والأخْبَار ثم يَعْمَد إلى مُخالَفتِها.

الرَّابع: أنَّ مَجْمُوع عبَارَة القرطبي لا يُشْعِر بسياق من يُريد رَدّ الكَلام، إذ حشَد الدَّلائل على قوله مما تقَدَّم في عِبَارَته.

الْخَامِس: أنَّ عِبَارة "لا أقُول بِه" لَم تَرِد في تفسير القرطبي إطْلاقًا! لا في هذه الْمَسْألَة ولا في غَيرها.

وهذه الْجُمْلَة نَقَلها مَرْعِي الحنبلي وتَعَجَّب منها، إذ يَقُول: والعَجَب من القرطبي حَيث يَقُول: وإن كُنْتُ لا أقُول بِه ولا أخْتَارُه. ولعله خَشِي مِنْ تَحْرِيف الْحَسَدَة، فَدَفَع وَهمَهم بِذَلك

(2)

.

ومَا اعْتَمَده "عبد الله البَرَّاك" في تحقيق كِتَاب "العُلو"

(3)

أنَّ القرطبي يَمِيل إلى مَذْهَب الأشَاعِرَة في كَثير مِنْ مَسَائل الاعْتِقَاد، فَهو يُثبِت عُلُوّ القَدْر والقَهْر، لا عُلُوّ الذَّات

ورَبَط "البَرَّاك" بَيْن صِفَة العُلُو وبَيْن صِفَة الاسْتِواء، إذ يَقُول عن القرطبي: وقال عَنْ العُلُو - وهو وثيق الصِّلَة بالاسْتِوَاء -: فَعلُوّ الله تَعَالَى وارْتِفَاعُه عِبَارَة عن عُلُوّ مَجْده، وصِفَاتِه، ومَلَكوتِه.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 244).

(2)

أَقَاوِيل الثِّقَات، مرجع سابق (ص 132).

(3)

(2/ 1377) حاشية (6).

ص: 23

ومَا اعْتَمَده "عبد الله البَرَّاك" في تحقيق كِتَاب "العُلُو"

(1)

أنَّ القرطبي يَمِيل إلى مَذْهَب الأشَاعِرَة في كَثير مِنْ مَسَائل الاعْتِقَاد، إذْ يُثبِت عُلُوّ القَدْر والقَهْر، لا عُلُوّ الذَّات .... ورَبَط البَرَّاك بَيْن صِفَة العُلُو وبَيْن صِفَة الاسْتِواء، إذ يَقُول عن القرطبي: وقال عَنْ العُلُو - وهو وثيق الصِّلَة بالاسْتِوَاء -: فَعُلُوّ الله تَعَالَى وارْتِفَاعُه عِبَارَة عن عُلُوّ مَجْده، وصِفَاتِه، ومَلَكوتِه - ليس دَقيقا، لِكون القرطبي مُضطرِبًا في بعض مسائل الاعتقاد.

وكُنتُ قَدِيما سَألْتُ شَيْخَنا عبد الكريم الْخضير عن عَقِيدَة القُرْطُبِيّ، وأنه ليس مُتَأوِّلًا بإطلاق، فقال: هو مُضْطَرِب في العَقِيدَة.

وقال شيخنا زيد بن عمر عن الْمَدْرَسَة الأنْدَلُسِيَّة في التَّفْسِير: ويُمكِنُنا القَوْل بأنَّ رأي الْمَدْرَسَة مِنْ صِفَات الأفْعَال كان مُضْطَرِبًا

(2)

.

فَعَلَى هذا لا يَصِحّ أن يُصَنَّف القرطبي على أنه مُسَايِر لأهل التَّأوِيل.

والإنْصَاف يَقْتَضِي أن يُثبَت ما أثْبَتَه مُوَافِقًا للسَّلَف فيه، ويُبَيَّن مَا وَقَع في تَأوِيلِه.

كَمَا أثْبَت القرطبي رُؤية الْمُؤمِنِين لِربِّهم يَوْم القِيَامَة، وسَيَأتي تَفْصِيل هَذه الْمَسْألَة في الفَصْل الثَّالث.

وأثْبَت صِفَة "الْمَكْر" مُسْتَدِلًّا بِقَولِه عليه الصلاة والسلام: "وامْكُر لي ولا تَمْكُر عليّ"

(3)

، إذ يَقُول: فَعَلَى هَذا جَائز أن يُقال: يَا خَيْر الْمَاكِرِين امْكُر لِي ولا تَمْكُر عليّ

(4)

.

(1)

(2/ 1377) حاشية (6).

(2)

المدرسة الأندلسيَّة في التفسير، رسالة "دكتوراه"(2/ 643)، وانظر:(2/ 638) وما بعدها من الرسالة.

(3)

رواه أحمد (ح 1997)، وأبو داود (ح 1510)، والترمذي (ح 3551)، وابن ماجه (ح 3830)، وقال مُحَقِّقُو الْمُسْنَد: إسْنَادُه صَحِيح.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 287)، وانظر:(4/ 99، 100).

ص: 24

وقال بإثْبَات مَعاني الصِّفَات، حيث يَقُول: وثَبَت بِنَصّ هذه الآيَة

(1)

القُوَّة لله بِخِلاف قَوْل الْمُعْتَزِلة في نَفْيِهم مَعَانِي الصِّفَات القَدِيمة

(2)

، تَعَالى الله عن قَوْلِهم

(3)

.

فليس يَصِحّ أن يُقَال عنه: "لَم يُثْبِت لله سِوَى الصِّفَات السَّبْع"

(4)

.

كَمَا أنَّ القَوْل بأنَّ القرطبي في "الأسْمَاء والصِّفَات

قد ذَهَب إلى مَا ذَهَب إليه الأشاعرة في هذا البَاب، فَجَمِيع الصِّفَات الوَارِدَة في تَفْسِيرِه أوَّلَها، ونَقَل أقْوَال الْمُؤوِّلَة فيها، إلَّا الاسْتِوَاء"

(5)

ليس قَوْلًا فاحِصًا، ولا مُنْصِفًا.

وقد تأوَّل القرطبي بَعض صِفَات الله عز وجل، تأثُّرًا بِمَدْرَسَة الأشاعِرَة، وليس أشْعَرِيًّا، وقد تأثَّر القرطبي كَثيرًا بِابن عطِيَّة، إلَّا أنه لَم يَكُنْ مُقَلِّدًا له.

"والقرطبي كان مُتَأوِّلًا، وإن خَالَف ابن عطية في بعض الْمَعَانِي الْمُؤوَّل إليها"

(6)

.

ومِمَّا تأوَّله القرطبي مِنْ صِفَات البَارِي عز وجل:

صِفَة الوَجْه، تَأوَّلَها بالوُجُود، إذ يَقُول:"فَالوَجْه عِبَارَة عن وُجُودِه وذَاتِه سُبْحَانه"

(7)

، بينما أثْبَت صِفَة الوَجْه لله تبارك وتعالى في مَوَاضِع أُخْرَى

(8)

.

وسيأتي مَزِيد بَيَان في الفَصْل الثَّالِث.

وصِفَة الْمَجيء، إذ يَقول في قوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)[البقرة: 29]: والقَاعِدَة في هَذه الآيَة ونَحْوها مَنْع الْحَرَكَة والنُّقْلَة

(9)

.

(1)

يعني قوله تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[البقرة: 165].

(2)

انظر: العلو للعَلِي العظيم، مرجع سابق (ص 243).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 201).

(4)

هذا ما قاله أحمد المزيد. انظر: منهج الإمام القرطبي في أصول الدِّين، رسالة ماجستير (ص 115).

(5)

من قول المغرَّاوي في "الْمُفسِّرُون بين التأويل والإثْبَات في الصِّفَات"(1/ 289).

(6)

المدرسة الأندلسيَّة في التفسير، مرجع سابق (2/ 643).

(7)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (17/ 143).

(8)

انظر: المرجع السابق (17/ 22)، (17/ 167).

(9)

المرجع السابق (1/ 296).

ص: 25

وفي قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ)[البقرة: 210] نَقَل أقْوَالًا في مَعْنَى الْمَجِيء، وخَتَم تَفْسِير الآيَة بقَولِه: ولا يَجُوز أن يُحْمَل هذا ومَا أشْبَهَه مِمَّا جَاء في القُرْآن والْخَبَر على وَجْه الانْتِقَال والْحَرَكَة والزَّوَال؛ لأنَّ ذلك مِنْ صِفَات الأجْرَام والأجْسَام، تَعَالى الله الكَبير الْمُتَعَال ذو الْجَلال والإكْرَام عن مُمَاثَلَة الأجْسَام عُلُوًّا كَبِيرًا

(1)

.

ويَقُول في مَوْضِع آخَر: والقَاعِدة تَنْزِيهه جَلَّ وعَزّ عن الْحَرَكَة والانْتِقَال وشَغْل الأمْكِنَة

(2)

.

وسيأتي مَزِيد بَيَان وتفصيل في الفَصْل الثَّالِث.

وتأوّل صِفَة النُّزُول، حيث أوْرَد القرطبي في تفسير سورة الْمُزَّمِّل مَا جَاء عنه عليه الصلاة والسلام في النُّزُول الإلهي، ثم أوْرَد لَفْظ رِوايَة النسائي

(3)

"إنَّ الله عز وجل يُمْهِل حتى يَمْضِي شَطْر الليل الأوَّل، ثم يَأمُر مُنَادِيًا يَقُول: هل مِنْ دَاع يُسْتَجَاب له؟ هل مِنْ مُسْتَغْفِر يُغْفَر له؟ هل مِنْ سَائل يُعْطَى؟

(4)

ثم قال: صَحَّحَه أبو محمد عبد الحق. فَبَيَّن هذا الْحَدِيث - مَع صِحَّتِه - مَعْنَى النُّزُول"

(5)

.

وسيأتي مَزِيد بَيَان في الفَصْل الثَّالِث.

وقَرَّر أنه لا يَجُوز الابْتِدَاء بِشَيء مِنْ صِفَات الله عز وجل، كَالْيَدِ والرِّجْل والأصْبع والْجَنْب والنُّزُول إلى غير ذلك إلَّا في أثْنَاء قِرَاءة كِتَابِه أوْ سُنَّةَ رَسُولِه صلى الله عليه وسلم

(6)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 28).

(2)

المرجع السابق (6/ 359).

(3)

انظر: السنن الكُبْرَى (الأحاديث مِنْ 10309 إلى 10321).

(4)

أصْل الْحَدِيث ثَابِت في الصَّحِيحَين. وهو بِهذا اللفظ ضعيف. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والْمَوضُوعَة، الألباني (8/ 399).

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (19/ 34، 35).

(6)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 227)، وسيأتي تحقيق هذه المسألة في المثال الثاني من المبحث الثالث مِنْ الفصل الثالث.

ص: 26

كَمَا أوَّل صِفَة كَفّ الرحمن ويَمِينه

(1)

.

وأوَّل العَجَب

(2)

بِعِدَّة تَأوِيلات

(3)

، مِنها:

"بِمَعْنَى وُقُوع ذلك العَمَل عند الله عَظِيمًا".

وبمعنى: "جَازَيْتُهم على التَّعَجُّب".

"ويَجُوز أن يَكُون إخْبَار الله عن نَفْسِه بِالعَجَب مَحْمُولًا على أنه أظْهَر مِنْ أمْرِه وسَخَطِه على مَنْ كَفَر بِه مَا يَقُوم مَقَام العَجَب مِنْ الْمَخْلُوقِين، كَمَا يُحْمَل إخْبَارُه تَعَالى عن نَفْسه بالضَّحِك لِمَنْ يَرْضَى عَنه

(4)

.

"ويُقَال: مَعْنَى: "عَجِب رَبُّكُمْ"

(5)

، أي: رَضِي وأثَاب، فَسَمَّاه عَجَبًا وليس بِعَجَب في الْحَقِيقَة"

(6)

.

وكَان قَبْل ذلك نَقَل عن الفراء قَوْلَه: العَجَب إن أُسْنِد إلى الله عز وجل فَلَيس مَعْنَاه مِنْ الله كَمَعْنَاه مِنْ العِبَاد، وكَذلك قَوْله:(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)[البقرة: 15]، ليس ذلك مِنْ الله كَمَعْنَاه مِنْ العِبَاد

(7)

.

(1)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 229، 230)، وسيأتي الكلام على ما يتعلّق باليمين واليدين.

(2)

وقَارِن بـ جامع البيان (13/ 432 وما بعدها) و (19/ 513، 514) فقد أثْبَتَ صِفَة العَجَب لله عز وجل.

(3)

وقد تَعَقّبه أحمد الْمَزِيْد في رِسَالتِه: "منهج الإمام القرطبي في أصُول الدِّين"(ص 184 وما بعدها)، فلْتُنْظَر.

(4)

وهذا تَأوِيل لِصِفَة الضَّحِك! وقد بَنَى تأويلا على تَأويل!

(5)

رواه أبو نُعيم في تاريخ أصبهان (2/ 24) بلفظ: عَجِب رَبُّكُمْ.

وقد جاءت أحاديث في إثْبَات العَجَب لله عز وجل، وهو عَجَب يَليق به سبحانه وتعالى. فمن ذلك ما رواه البخاري:(ح 2848): عَجب الله مِنْ قَوم يَدْخُلُون الْجَنَّة في السَّلاسِل.

ومِمَّا جاء في العَجَب قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طلحة وَزَوْجِه: عَجِب الله مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا الليلة.

رواه البخاري (ح 4607) ومسلم (ح 2054)، وانظر: السنة، ابن أبي عاصم، بابٌ في تَعَجُّبِ رَبّنا مِنْ بَعْض مَا يَصْنَع عِبَاده مِمَّا يُتَقَرَّب بِه إليه (1/ 249 وما بعدها)، و"صِفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة"، علوي السقاف (ص 175 - 177).

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 64).

(7)

المرجع السابق، الموضع السابق.

ص: 27

وهذا الْمَعْنَى صَحِيح، لِقَوْلِه تَعَالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)[الشورى: 11]؛ إلَّا أنَّ هذا مِنْ القرطبي ليس نَفْيًا صَرِيحًا للصِّفَة.

وقد قال فِي تفسير آيَة "البقرة": (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ): أي: يَنْتَقِم مِنهم ويُعَاقِبُهم، ويَسْخَر بِهم ويُجَازِيهم على اسْتِهْزَائهم؛ فَسَمَّى العُقُوبَة بِاسْم الذَّنْب. هذا قَوْل الْجُمْهُور مِنْ العُلَمَاء.

وقال: وليس مِنه سُبْحَانه مَكْر ولا هُزْء ولا كَيد، إنَّمَا هو جَزَاء لِمَكْرِهم واسْتِهْزَائهم، وجَزَاء كَيْدِهم

(1)

.

وسَبَق أنَّ القرطبي أثْبَت صِفَة الْمَكْر، فَلعلَّه هنا أثْبَتَها بِقَيْد الْمُقَابَلَة.

لأنَّ مِنْ الأسْمَاء "مَا يَجُوز أن يُسَمَّى به ويُدْعَى، ومَا يَجُوز أن يُسَمَّى به ولا يُدْعَى، ومَا لا يَجُوز أن يُسَمَّى بِه ولا يُدْعَى"

(2)

.

وفي إثْبَات اليَد لله تَعالى ذَكَر القرطبي عِدَّة مَعَانٍ، مِنها:

"اليَد في كَلام العَرَب تَكُون للجَارِحَة، كَقَوْلِه تَعَالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) [ص: 44]، وهذا مُحَال على الله تَعالى"، "وتَكُون للنِّعْمَة".

"وتَكُون للقُوَّة. قَال الله عز وجل: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 17]، أي: ذَا القُوَّة"، "وتَكُون للمِلْك والقُدْرَة. قَال الله تَعالى:(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)[آل عمران: 73]"، "وتَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة، قال الله تعالى:(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا)[يس: 71] أي: مِمَّا عَمِلْنَا نَحْن"، "وتَكُون بِمَعْنَى التَّأيِيد والنُّصْرَة"

(3)

.

ورُدَّ تأوِيل اليَد في قَوله تَعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)[المائدة: 64] بأنَّ "نِعَم الله تَعالى أكْثَر مِنْ أن تُحْصَى، فَكَيف تَكُون: بَلْ نِعْمَتَاه مَبْسُوطَتَان".

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 253).

(2)

المرجع السابق (7/ 288)، وقارِن بـ "فائدة جليلة في قواعِد الأسْمَاء الْحُسْنَى"، مُسْتَلّة من "بدائع الفوائد"، ابن القيم.

(3)

المرجع السابق (6/ 225). وانظر: (16/ 275).

ص: 28

ثم دَافَع القرطبي عن هذا التَّأويل بِقوله:

وأُجيب بِأنه يَجُوز أن يَكُون هَذا تَثْنِيَة جِنْس لا تَثْنِيَة وَاحِد مُفْرَد

فَأحَد الْجِنْسَين نِعْمَة الدُّنيا، والثَّاني نِعْمَة الآخِرَة. وقِيل: نِعْمَتَا الدُّنيا: النِّعْمَة الظَّاهِرَة والنِّعْمَة البَاطِنَة.

وقال: ويَجُوز أن تَكُون اليَد في هَذه الآيَة بِمَعْنَى القُدْرَة، أي: قُدْرَتُه شَامِلَة، فإن شَاء وَسَّع، وإن شَاء قَتَّر

(1)

.

فانْظُر كَيْف تَحَاشَى إثْبَات مَا أثْبَتَه اللهِ لِنَفْسِه مِنْ صِفَة اليَد، وأثْبَت لَه صِفَة "التَّقْتِير"، بِقَوْلِه:"وإن شَاء قَتَّر"

(2)

.

فـ "القرطبي قد تَابَع ابن عطية، فأوَّل هذه الصِّفَات - أعنِي: الوَجْه واليَدَين والأعْيُن - فَخَرَج بذلك عن مذهب السَّلَف"

(3)

.

وأمَّا تَأويل صِفَة العُلُو، فهو مِمَّا فُهِم مِنْ قَوْلِه، وصَرَّح به في مَوْضِع واحِد، وهو مع ذلك لا يَقُول بِما تَقُولُه "الْجَهْمِيَّة والقَدَرِيَّة والْمُعْتَزِلَة: هو بِكُلّ مَكَان"

(4)

.

فإنَّ القرطبي قَرَّر أنَّ "عُلُوّ الله تَعَالى وارْتِفَاعُه عِبَارَة عن عُلُو مَجْدِه وصِفَاتِه ومَلَكُوته، أي: ليس فَوْقَه فِيمَا يَجِب له مِنْ مَعَاني الْجَلال أحَد، ولا مَعَه مَنْ يَكون العُلُوّ مُشْتَرَكًا بَيْنَه وبَيْنَه، لكنه العَلِيّ بِالإطْلاق سُبحانه"

(5)

.

فالقرطبي يُثْبِت عُلُوّ الله بِذَاتِه؛ لأنه يَنْفِي وُجُودَه سبحانه وتعالى في كُلّ مَكَان.

حيث قال بـ "إثْبَات ذَات غَير مُشَبَّهَة بِالذَّوَات، ولا مُعَطَّلَة عن الصِّفَات

(6)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 226).

(2)

ولا يُوصَف الله عز وجل إلَّا بِما وَصَف به نفسه، ولم يَرِد وَصْف التقتير في كِتاب ولا في سُنة.

(3)

المدرسة الأندلسيَّة في التفسير، مرجع سابق (2/ 640)، وانظر:"منهج الإمام القرطبي في أصول الدِّين".

مرجع سابق ص (103 وما بعدها).

(4)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 360).

(5)

المرجع السابق (7/ 197) بِتَصَرُّف يسير.

(6)

المرجع السابق (7/ 288).

ص: 29

إلَّا في تفسير آيَة الكُرْسي، فإنه قال: والعَلِيّ يُرَاد بِه عُلُو القَدْر والْمَنْزِلَة لا عُلُوّ الْمَكَان؛ لأنَّ الله مُنَزَه عن التَّحَيُّز"

(1)

.

وهذا هو الْمَوْطِن الوَحِيد الذي وَجَدْت فيه تَصْرِيح القرطبي بِنَفْي عُلُو الْمَكَان. ولَم أجِد له في نَفْي عُلُوّ الذَّات نَفْيًا ولا إثْبَاتًا.

وهذا يُؤكِّد ما تقدَّم مِنْ اضطرابه في بعض مسائل الاعتقاد.

ومِمَّا أَفَادَه القرطبي وأجَاد به:

الرَّدّ على الفِرَق الْمُخَالِفة:

اعْتَنَى القرطبي بِالرَّدّ على الفِرَق الْمُخالِفَة؛ كَالرَّافِضَة والصُّوفِيَّة والْمُعتَزِلة، والْجَهْمِيَّة، والُمُرْجِئة، والْخَوَارِج.

فقد جَاء ذِكْر الرَّافِضة في أحَد عَشَر مَوْضِعا من تفسير القرطبي، فقد رَدّ على الرافضة والصُّوفِيَّة في مسألة إثْبَات الوِلايَة والكَرَامة، إذ يَقُول: قال عُلَمَاؤنا رحمة الله عليهم: ومَن أظْهَر اللهُ تَعَالى على يَدَيْه مِمَّنْ لَيس بَنَبِيّ كَرَامَات وخَوَارِق للعَادَات فَلَيس ذَلك دَالًّا على وِلايَتِه، خِلافًا لِبعض الصُّوفِيَّة والرَّافِضَة حيث قَالُوا: إنَّ ذلك يَدُلّ على أنه وَلِيّ، إذ لَو لَم يَكُنْ وَلِيًّا مَا أظْهَر الله على يَديه مَا أظْهَر

(2)

.

وَرَدّ عليهم في مَسْألَة تَواتُر نَقْل القرآن، فقال: وقد طَعَن الرَّافِضة - قَبَّحَهُم الله تَعَالى - في القُرْآن، وقَالُوا: إنَّ الوَاحِد يَكْفِي في نَقْل الآيَة والْحَرْف ....

(3)

.

وفي مَسْألَة الإمَامَة رَدّ القرطبي على الرافضة، فقد أوْرَد حَدِيث "أمَا تَرْضَى أن تَكُون مِنِّي بِمَنْزِلَة هَارُون مِنْ مُوسَى، إلَّا أنه لا نَبِيَّ بَعْدِي"

(4)

، ثم قال: فَاسْتَدَلَّ بِهَذا الرَّوَافِض والإمَامِيَّة

(5)

وسَائر فِرَق الشِّيعة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَف عَلِيًّا على جَمِيع الأمَّة حتى كَفَّر الصَّحَابَةَ الإمَامِيَّةُ - قبحهم الله - لأنَّهم عِندهم تَرَكُوا

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 266).

(2)

المرجع السابق (1/ 339).

(3)

المرجع السابق (1/ 91).

(4)

رواه البخاري (ح 3503)، ومسلم (ح 2404).

(5)

الإمامية فِرْقَة من فِرَق الرَّافِضَة، وهي تُسَمَّى "الجعفرية" و"الاثنا عشرية"، فإما أن تكون (واو) العطف - بين الروافض والإمامية - زائدة، وإما أنه مِنْ عَطْف الخاص على العام.

ص: 30

العَمَل الذي هو النَّصّ على اسْتِخْلاف عليّ، واسْتَخْلَفُوا غيره بِالاجْتِهَاد مِنهم، ومِنهم مَنْ كَفَّر عَلِيًّا إذْ لَم يَقُم بِطَلَب حَقِّه، وهؤلاء لا شَكَّ في كُفْرِهم، وكُفْر مَنْ تَبِعَهم على مَقَالَتِهم، ولَم يَعْلَمُوا أنَّ هَذا اسْتِخْلاف في حَيَاة، كَالْوِكَالَة

(1)

التي تَنْقَضِي بِعَزْل الْمُوَكِّل أوْ بمَوْتِه، لا يَقْتَضِي أنه مُتَمَادٍ بَعد وَفَاتِه؛ فَيَنْحَلّ على هَذا مَا تَعَلَّق بِه الإمَامِيَّة وغَيرهم، وقد اسْتَخْلَف النبي صلى الله عليه وسلم على الْمَدِينَة ابن أمِّ مَكْتُوم وغيره، ولَم يَلْزَم مِنْ ذَلك اسْتِخْلافه دَائمًا بِالاتِّفَاق، على أنه قد كَان هَارُون شُرِّك مَع مُوسَى في أصْل الرِّسَالَة، فلا يَكُون لَهم فِيه على مَا رَامُوه دَلالَة. والله الْموَفِّق للهِدَايَة

(2)

.

ونَقَل عن الشعبي قَوْله: تَفَاضَلَت اليَهُود والنَّصَارَى على الرَّافِضَة بِخَصْلَة: سُئِلتِ اليَهُود: مَنْ خَيْر أهْل مِلَّتِكُم؟ فَقَالُوا: أصْحَاب مُوسى. وسُئِلَتِ النَّصَارَى مَنْ خَيْر أهْل مِلَّتِكُم؟ فَقَالُوا: أصْحَاب عِيسى. وسُئِلَتِ الرَّافِضَة: مَنْ شَرّ أهْل مِلَّتِكُم؟ فَقَالُوا: أصْحَاب محمد! أُمِرُوا بِالاسْتِغْفَار لَهم فَسَبَّوهُم؛ فَالسَّيْف عَلَيهم مَسْلُول إلى يَوْم القِيَامَة، لا تَقُوم لَهم رَايَة، ولا تَثْبُت لَهم قَدَم، ولا تَجْتَمِع لَهم كَلِمَة؛ كُلَّمَا أوْقَدُوا نَارًا للحَرْب أطْفَأها الله بِسَفْكِ دِمَائِهم، وإدْحَاض حُجَّتِهم، أعاذنا الله وإيَّاكُم مِنْ الأهْوَاء الْمُضِلَّة

(3)

.

ونَقَل القرطبي عن ابن العربي قَوْله: تَعَلَّق الرَّافِضَة - لعنهم الله - بِهَذه الآيَة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

(4)

.

ونَقَل عن ابن الجوزي تَضْعِيف رَدّ الشمس لِعَلِيّ رضي الله عنه، ثم بَيَّن ضَعْف الْحَديث مَعْنى ومَبْنى، فقال: وهَذا مِنْ حَيْث النَّقْل مُحَال، ومِن حَيْث الْمَعْنَى؛ فإنَّ الوَقْت قَدْ فَات، وعَوْدُها طُلُوع مُتَجَدِّد لا يَرُدّ الوَقْت

(5)

.

(1)

في القاموس (ص 1381): والاسْم: الوَكَالَة، ويُكْسَر.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 245، 246).

(3)

المرجع السابق (18/ 32).

(4)

المرجع السابق (14/ 160) ويَقْصِد بِالآيَة قَوله تَعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه)[الأحزاب: 33].

(5)

المرجع السابق (15/ 175).

ص: 31

وبَيَّن القرطبي أُصُول الفِرَق الْمُنْتَسِبَة إلى الإسْلام، وهي بإجْمَال سِتّ فِرَق انْقَسَمَتْ كُلّ فِرْقَة إلى اثْنَتِي عشرة فِرْقَة، على النحو التالي:

"انْقَسَمَتِ الْحَرُورِيَّة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(1)

.

و "انْقَسَمَت القَدَرِيَّة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(2)

.

و "انْقَسَمَت الْجَهْمِيَّة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(3)

.

و "انْقَسَمَت الْمُرْجِئة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(4)

.

و "انْقَسَمَت الرَّافِضَة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(5)

.

و "انْقَسَمَت الْجَبْرِيَّة اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة"

(6)

.

وذَكَر أصُول الفِرَق عُمومًا، إذ يَقُول: "فقد ظَهَر لَنَا مِنْ أصُول الفِرَق: الْحَرُورِيَّة والقَدَرِيَّة والْجَهْمِيَّة، والْمُرْجِئَة، والرَّافِضَة، والْجَبْرِيَّة.

وقال بَعض أهْل العِلْم: أصْل الفِرَق الضَّالَّة هذه الفِرَق السِّتّ، وقد انْقَسَمَت كُلّ فِرْقَة مِنها اثْنَتِي عَشْرَة فِرْقَة، فَصَارَت اثْنَتَيْن وسَبْعِين فِرْقَة"

(7)

.

ورَدّ القرطبي على الصُّوفِيَّة في مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْ تفسيره، وبَيَّن الفَاسِد مِنْ أقْوَالِهم ومُعْتَقَدَاتِهم، فمن ذلك:

رَدّه على الصُّوفِيَّة فِيمَا يَتَعَلَّق بالتَّوَكُّل، إذ يَقول في قَوْلِه تَعَالى:(آتِنَا غَدَاءَنَا)[الكهف: 62]: فيه مَسْألَة وَاحِدَة، وهو اتِّخَاذ الزَّاد في الأسْفَار، وهو رَدّ على الصُّوفِيَّة الْجَهَلَة الأغْمَار! الذِين يَقْتَحِمُون الْمَهَامِه والقِفَار زَعْمًا منهم أنْ ذلك هو

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 158).

(2)

المرجع السابق (4/ 159).

(3)

المرجع السابق (4/ 159).

(4)

المرجع السابق (4/ 159).

(5)

المرجع السابق (4/ 160).

(6)

المرجع السابق (4/ 160).

(7)

المرجع السابق (4/ 158).

ص: 32

التَّوَكُّل على الله الوَاحِد القَهَّار! هذا مُوسَى نَبِيّ الله وكَلِيمه مِنْ أهْل الأرْض قد اتَّخَذ الزَّاد مَع مَعْرِفَتِه بِرَبِّه وتَوَكُّلِه على رَبِّ العِبَاد

(1)

.

وفي قَوْله تَعالى حِكَايَة عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)[إبراهيم: 37] قال القرطبي: لا يَجُوز لأحَد أن يَتَعَلَّق بِهَذا في طَرْح وَلَدِه وعِيَالِه بِأرْض مَضْيَعَة اتِّكَالًا على العَزِير الرَّحِيم واقْتِدَاء بِفِعْل إبْراهيم الْخَلِيل، كَمَا تَقُول غُلاة الصُّوفِيَّة في حَقِيقَة التَّوَكُّل! فإنَّ إبراهيم فَعَل ذلك بِأَمْر الله، لِقَوْلِه في الْحَدِيث

(2)

: آلله أمَرَك بِهَذا؟ قال: نعم

(3)

.

وقال في مَسْأَلَة طَلَب الْوَلَد: وفي هَذا رَدّ على بَعْض جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة، حَيْث قَال: الذي يَطْلُب الوَلَد أحْمَق، ومَا عَرَف أنه هُو الغَبِيّ الأخْرَق! قَال الله تَعالى مُخْبِرًا عن إبْراهيم الْخَلِيل:(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء: 84]، وقال:(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)[الفرقان: 74]. وقَد تَرْجَم البُخاري

(4)

على هذا: بَاب بَاب طَلَب الوَلَد

(5)

.

وفي التَّفَكُّر رَدّ على الصَّوفِيَّة قَوْلَهم، إذ يَقُول: فأمَّا طَرِيقَة الصَّوفِية أن يَكُون الشَّيخ مِنهم يَوْمًا ولَيْلَة وشَهْرًا لا يَفْتُر؛ فَطَرِيقَة بَعِيدَة عن الصَّوَاب غير لائقَة بِالبَشَر، ولا مُسْتَمِرَّة على السُّنَن

(6)

.

وتَعقّب اسْتِدْلال الشِّبْلِي وغيره مِنْ الصُّوفيَّة على جَوَاز "تَقْطِيع ثِيَابِهم وتَخْرِيقِها بِفِعْل سُليمان هَذا

(7)

. قال: وهو اسْتِدْلال فَاسِد؛ لأنه لا يَجُوز أن يُنْسَب إلى نَبِيّ مَعْصُوم أنه فَعَل الفَسَاد"

(8)

. ثم بَيَّن الْمَقْصُود بِمَسْح السُّوق والأعْنَاق.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 15).

(2)

أخرجه البخاري (ح 3184)، وهذا القدْر مِنه موقوف على ابن عباس، وله حُكم المرفُوع.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 315).

(4)

الصحيح (5/ 2008).

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 80).

(6)

المرجع السابق (4/ 306).

(7)

يَقْصِد مَا جَاء في قَوْله تعالى: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ)[ص: 33].

(8)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 174).

ص: 33

ورَدّ على الصُّوفِيَّة مَا زَعَمُوه تَزَهّدًا، إذ يَقول القرطبي: وقد كَرِه بَعض الصُّوفِيَّة أكْل الطَّيِّبَات، واحْتَجَّ بِقَول عُمر رضي الله عنه: إيّاكُم واللحْم، فإنَّ لَه ضَرَاوَة كَضَرَاوَة الْخَمْر. والْجَوَاب: أنَّ هَذا مِنْ عُمر قَوْل خَرَج عَلى مَنْ خَشِي مِنه إيثَار التَّنَعُّم في الدُّنيا والْمُدَاوَمَة على الشَّهَوات، وشِفَاء النَّفْس مِنْ اللذَّات، ونِسْيَان الآخِرَة والإقْبَال على الدُّنيا؛ ولِذَلك كَان يَكْتُب عُمَر إلى عُمَّالِه: إيّاكُم والتَّنَعُّم وزِيّ أهْل العَجَم، واخْشَوْشِنُوا. ولَم يُرِد رضي الله عنه تَحْرِيم شَيء أحَلَّه الله، ولا تَحْظِير مَا أبَاحَه الله تَبَارَك اسْمُه، وقَوْل الله عز وجل أوْلَى مَا امْتُثِل واعْتُمِد عليه. قال الله تعالى:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الأعراف: 32]

(1)

.

ويقُول في هذا الْمِضْمَار: ولَيس لِمَنْ مَنَع نَفْسَه قَدْر الْحَاجَة حَظّ مِنْ بِرّ ولا نَصِيب مِنْ زُهْد؛ لأنَّ مَا حَرَمَها مِنْ فِعْل الطَّاعَة بِالعَجْز والضَّعْف أكْثَر ثَوَابًا وأعْظَم أجْرًا

(2)

.

وقال في تَفْسِير الْمُكَاء والتَّصْدِيَة: فِيه رَدّ على الْجُهَّال مِنْ الصُّوفِيَّة الذِين يَرْقُصُون ويُصَفِّقُون ويُصْعَقُون! وذلك كُلّه مُنْكَر يَتَنَزَّه عن مِثْله العُقَلاء، ويَتَشَبَّه فَاعِلُه بِالْمُشْرِكين فيمَا كَانُوا يَفْعَلُونَه عِند البَيْت

(3)

.

ولَه رُدُود على كثير مِنْ الفِرَق، إلَّا أنَّ سَرْد ذلك يَطُول.

وقد اخْتَصَرتُ القَوْل في بَيَان عَقِيدَة القرطبي؛ لأنَّ هذا الْمَقْصِد لَيس مَقْصِدًا للبَاحِث، كَمَا أنه سبقتْ دِرَاسَة مُتَخَصِّصَة في عَقِيدة القُرْطبي، وهي رِسَالة "أحمد الْمَزْيَد"، والتي بِعُنْوَان:"مَنْهَج القرطبي في أُصُول الدِّين"، وستأتي الإشَارَة إليها في الدِّرَاسَات السَّابِقَة.

(1)

المرجع السابق (7/ 178).

(2)

المرجع السابق (7/ 170).

(3)

المرجع السابق (7/ 351).

ص: 34

‌ثانيًا: أهمية تفسير القرطبي بين التفاسير، وما تميّز به

تَمَيَّز تفسير القرطبي الْمُسَمَّى بـ "الْجَامِع لأحْكَام القُرْآن" بأنه مَوْسُوعَة شَامِلَة لِكَثِير مِنْ الفُنُون والعُلُوم، ولا عَجَب فهو "التَّفْسِير الْمَشْهُور الذي سَارَت بِه الرُّكْبَان، وفي أسَامِي الكُتُب، وكان تَفْسِيره الْمَذْكُور مُسَمَّى بِجَامِع أحْكَام القُرْآن، وهو كِتَاب مِنْ أجَلّ الكُتُب"

(1)

.

ومِمَّا تَمَيَّز به تَفْسِير القرطبي مَا يَلِي:

1 -

العِنَايَة بِتَفْسير القُرْآن بِالقُرْآن، وبِتِبْيَان الكِتَاب بِالسُّنَّة

(2)

.

2 -

العِنايَة بِأقْوَال السَّلَف في تفسير القرآن

(3)

، وهو "يَنْقُل عن السَّلَف كَثِيرًا، مِمَّا أُثِر عنهم في التَّفْسِير والأحْكَام، مَع نِسْبَة كُلّ قَوْل إلى قَائِلِه .... كَمَا يَنْقُل عَمَّن تَقَدَّمَه في التَّفْسير، خُصُوصًا مَنْ ألَّف منهم في كُتُب الأحكَام، مع تَعْقِيبِه على ما يَنْقُل مِنها

(4)

.

3 -

الرُّجُوع إلى لُغَة القرآن، والإفَادَة مِنْ أقْوَال أهْل اللغَة وأساطِينها

(5)

.

4 -

دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض في مَوَاطِن كَثِيرَة، رَبَتْ على الْمِائة مَوْضِع.

5 -

الرَّدّ على الفِرَق الْمُخالِفَة، ودَحْض شُبُهَات أرْبَابِها

(6)

، ويُنْكَر البِدَع، ويُبَيِّن عَوَارَها.

6 -

تفسير القرآن الكَرِيم كَامِلًا، ولَم يَقْتَصِر على آيَات الأحْكَام فَحَسْب.

(1)

طبقات المفسِّرين، الداودي (ص 246) باختصار.

(2)

انظر: مقدِّمة الْجَامِع لأحكام القرآن (1/ 6674).

(3)

انظر: المرجع السابق (1/ 69)، والْمَبْحَث الثاني مِنْ الفصل الثاني من هذا البحث.

(4)

التفسير والمفسِّرون، محمد الذهبي (2/ 459).

(5)

انظر: مُقَدِّمَة الْجَامِع لأحكام القرآن (1/ 68)، والْمَبْحَث الثالث مِنْ الفصل الثاني من هذا البحث.

(6)

سَبَقَت الإشَارَة إلى شيء مِنْ ذلك في "بَيَان عقيدة القرطبي" مِنْ هذا التَّمْهِيد.

ص: 35

7 -

العِناية بآيَات الأحْكَام عِنَاية بالِغة، إذ هي الْمَقْصِد الأوَّل مِنْ التألِيف، وهو يَسُوق في الْمَبْحَث الواحِد مِنْ الآيَة - أحيانًا - أكثر مِنْ خمسين مَسْألَة

(1)

.

8 -

قِلَّة الإسْرَائِيلِيَّات في تفسيره مُقارَنَة بِتفاسِير الْمُتأخِّرين. فقد صَان القرطبي "كِتابَه عن الإكْثَار مِنْ ذِكْر الإسْرَائِيلِيَّات، والأحَادِيث الْمَوْضُوعَة، كَمَا أنه إذا ذَكَرَ بعض الإسْرَائِيلِيَّات والْمَوضُوعَات مِمَّا يُخِلّ بِعِصْمَة الْمَلائكَة أو الأنبِياء، أو يُخِلّ بالاعْتِقَاد؛ فإنه يَكُرّ عليها بالإبْطَال، أو يُبيِّن أنها ضَعِيفَة .... غير أنه وُجِد فيه بعض الإسْرَائِيلِيَّات والْمَوْضُوعَات، على قِلَّة

وقد تَنَوَّعت أساليب القرطبي في إبطال الإسْرَائِيلِيَّات، فَتَارَة يَذْكُرُها بإسْنَادِها كَامِلًا، ثم يُطيل في نَقْدِها، والرَّدّ عليها، مُسْتَعِينًا بأقْوَال الْمُفَسِّرِين والعُلَمَاء الذين ذَكَرُوها، وتَارَة يَخْتَصِرُها بِتَجْرِيدِها مِنْ أسَانِيدِها، ويَكْتَفِي بِرَدِّهَا وإبطَالِها والإشَارَة إليها"

(2)

.

وقد "أسْقَط مِنه القَصَص والتَّوَارِيخ وأثْبَت عِوَضَها أحْكَام القرآن واسْتِنْبَاط الأدِلَّة، وذَكَر القِرَاءات والإعْرَاب، والنَّاسِخ والْمَنْسُوخ"

(3)

.

وهذا ما نَصّ عليه القرطبي في مُقَدِّمَة تفسيره، إذ يَقُول: وأضْرِب عن كَثِير مِنْ قَصَص الْمُفَسِّرِين، وأخْبَار الْمُؤَرِّخِين إلَّا مَا لا بُدّ مِنه ولا غِنَى عنه للتَّبْيِين، واعْتَضْتُ مِنْ ذلك تَبْيِين آي الأحْكَام بِمَسَائل تُسْفِر عن مَعْنَاها، وتُرْشِد الطَالِب إلى مُقْتَضَاهَا

(4)

.

أمَّا لِمَاذا أعْرَضَ عنها؟

فلأنَّ "الإسْرَائيلِيَّات مَرْفُوضَة عند العُلَمَاء على البَتَات؛ فأعْرِض عن سُطُورِها بَصَرَك، وأصْمِم عن سَمَاعِها أُذُنَيْك، فإنَّها لا تُعْطِي فِكْرَك إلَّا خَيَالا، ولا تَزِيد فُؤادَك إلَّا خَبَالا"

(5)

.

(1)

انظر على سبيل المثال (3/ 358 - 386) فقد ذَكَر في آية الدَّين في البقرة اثنتان وخمسين مسألة.

(2)

الإسرائيليات والموضوعات في كُتُب التفسير، محمد أبو شهبة (ص 137).

(3)

الدِّيباج المذَهَّب، مرجع سابق (ص 317).

(4)

مُقَدِّمَة الْجَامِع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 29).

(5)

نَقَله القرطبي عن ابن العربي. الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 186).

ص: 36

والْمَقْصُود بِالْمَرْفُوض على البَتَات مَا تَعلَّق بِعِصْمَة الأنبياء والقَدْح فيهم؛ لأنه سَاق هذا القَوْل في قِصَّة أيوب عليه الصلاة والسلام، إلَّا أنَّ القرطبي لَم يَلْتَزَم بذلك، ولَم يُعْرِض عن سُطُورِها، بَلْ أَوْرَد في قِصَّة سُليمان عليه الصلاة والسلام ما كَان الواجِب الإعْرَاض عنه

(1)

.

كَيْف وهو القَائل: "وفي الإسْرَائيلِيَّات كَثِير لَيس لَها ثَبَات، فلا يُعَوِّل عَليها مَنْ لَه قَلْب"

(2)

.

ومِمَّا تَمَيَّز به تَفْسِير القرطبي:

9 -

عدم تَعَصُّب القرطبي لِمَذْهَبِه، فهو وَاسِع الأُفُق، لا يَضِيق بِالْمُخالِف ذَرْعًا! فهو يُورِد الأقْوَال ويُرجِّح مَا يَرَاه أقْرَب على الدَّلِيل وأقْوَى في التَّعْلِيل دُون النَّظر إلى الْمَذْهَب.

بل إنه يَتعقَّب ابن العربي في مَوَاضِع مِنْ تَفْسِيرِه، خاصَّة فيما يُشَنِّع فيه ابن العربي على مُخَالِفيه.

ومِثَاله:

ما شَنَّع بِه ابن العربي على مُخَالِفِيه في مَسْألة فَرْعِيَّة، حيث قال: فَأمَّا إذا تَضَمَّن الْخَبَر حُكْمًا شَرْعِيًّا فَالأحْكَام تَتَبَدَّل وتُنْسَخ، جَاءَت بِخَبَر أوْ أمْر، ولا يَرْجِع النَّسْخ إلى نَفْس اللفْظ، وإنَّما يَرْجِع إلى مَا تَضَمَّنَه، فإذا فَهِمْتُم هَذا خَرَجْتُم عن الصِّنْف الغَبِيّ الذي أخْبَر الله عن الكُفَّار فِيه بِقَولِه:(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[النحل: 101]. الْمَعْنَى: أنَّهم جَهِلُوا أنَّ الرَّبّ يَأمُر بِمَا يَشَاء، ويُكَلِّف مَا يَشَاء، ويَرْفَع مِنْ ذَلك بِعَدْلِه مَا يَشَاء، ويُثْبِت مَا يَشَاء، وعِندَه أمّ الكِتَاب.

فَتَعَقَّبَه القرطبي بِقَولِه: قلتُ: هذا تَشْنِيع شَنِيع! حتى يُلْحَق فِيه العُلَمَاء الأخْيَار في قُصُور الفَهْم بِالكُفَّار، والْمَسْألَة أصُولِيَّة، وهي أنَّ الإخْبَار عن الأحْكَام الشَّرْعيَّة هل

(1)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 176 - 178) وتعَقَّبه بِتَضْعِيف ضَعيف.

(2)

المرجع السابق (7/ 296).

ص: 37

يَجُوز نَسْخُها أم لا؟ اخْتُلِف في ذَلك، والصَّحِيح جَوَازُه لِهَذِه الآيَة ومَا كَان مِثْلُها، ولأنْ الْخَبَر عن مَشْروعِيَّة حُكْمٍ مَا يَتَضَمَّن طَلَب ذَلك الْمَشْرُوع، وذلك الطَّلَب هو الْحُكْم الشَّرْعِي الذِي يُسْتَدَلّ على نَسْخِه. والله أعلم

(1)

.

"وكان يَنْتَقِد مَوقِف ابن العَرَبي مِنْ مُخَالِفِيه، ويُدافِع عنهم، ويَرُدّ عليه"

(2)

.

"وخَيْر مَا في الرَّجُل

(3)

أنه لا يَتَعَصَّب لِمَذْهَبِه الْمَالِكِي، بل يَمْشِي مع الدَّلِيل حَتَّى يَصِل إلى مَا يَرَى أنه الصَّوَاب أيًّا كَان قَائلُه"

(4)

.

"وقد الْتَزَم الْمَذْهَب الْمَالِكِيّ إلَّا أنه لَم يَتَعَصَّب له، بل يُرَجِّح مَا يَرَى صَوابَه أيًّا كان قَائلُه"

(5)

.

"وعلى الْجُمْلَة، فإنَّ القرطبي رحمه الله في تَفْسِيرِه هذا حُرّ في بَحْثِه، نَزِيه في نَقْدِه، عَفّ في مُناقَشَتِه وجَدَلِه، مُلِمّ بالتَّفْسِير مِنْ جَمِيع نَواحِيه، بَارِع في كُلّ فَنّ اسْتَطْرَد إليه وتَكَلَّم فِيه"

(6)

.

‌ثالثًا: مَعْنَى التَّعَارُض، وحَقِيقَته، وأهَمِّيَّة دَفْعِه

‌مَعْنَى التَّعَارُض:

في اللغة: هو الْمُقَابَلة.

قال ابن منظور: وعَارَض الشَّيء بِالشَّيء مُعَارَضَة: قابَلَه، وعَارَضْتُ كِتَابِي بِكِتَابِه، أي: قَابَلْتُه

(7)

.

(1)

الْجَامِع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 116).

(2)

منهج المدرسة الأندلسية في التفسير: صفاته وخصائصه، مرجع سابق (ص 14).

(3)

يَعْنِي: القرطبي.

(4)

التفسير والمفسِّرون، مرجع سابق (2/ 459).

(5)

منهج المدرسة الأندلسية في التفسير: صفاته وخصائصه، مرجع سابق (ص 14).

(6)

التفسير والمفسِّرون، مرجع سابق (2/ 464).

(7)

لسان العرب (7/ 167).

ص: 38

وقال البَعليّ: التَّعَارُض: مَصْدَر تَعَارَض الشَّيئان إذا تَقَابَلا، تَقُول: عَارَضْته بِمِثْل مَا صَنع، أي: أتَيْتُ بِمِثْل مَا أَتَى، فَتَعَارُض البيِّنَتَين أن تَشْهَد إحْدَاهُما بِنَفْي مَا أثْبَتَتْه الأُخْرَى، أوْ بِإِثْبَات مَا نَفَتْه

(1)

.

وفي الاصْطِلَاح اخْتُلِف في تَعْرِيفِه بِحَسَب أغْرَاض دَارِسِيه، والذي يَهُمّ البَاحِث هو تَعْرِيف الْمَعْتَنِين بالدِّرَاسات القُرآنية.

قال الزركشي في أنْوَاع عُلُوم القُرْآن: النَّوْع الْخَامِس والثَّلاثُون: مَعْرِفَة مُوهِم الْمُخْتَلِف: وهو مَا يُوهِم التَّعَارُض بَيْن آيَاتِه، وكَلام الله جل جلاله مُنَزَّه عن الاخْتِلاف، كَمَا قَال تَعالى:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]

(2)

.

وحَقِيقَته مَا "قَدْ يَقَع للمُبْتَدِئ مَا يُوهِم اخْتِلافًا ولَيس بِه، فاحْتِيج لإزَالَتِه"

(3)

.

"وقد تَكَلَّم فيه الصَّدْر الأوَّل، ابن عباس وغيره"

(4)

وأزَال ما أشْكَل على السائل

(5)

.

ويُقْصَد بِالتَّعَارُض الذِّهْنِي الذي قد يَبْدُو للقَارِئ عند مُحَاوَلَة الْجَمْع بَيْن آيَتَين. إذ لَيس في القُرْآن تَعَارُض، ولا هو مِنْ قَبِيل الْمُتَشَابِه، وإنَّمَا هو مِمَّا تَتَوَهَّمُه العُقُول.

قال الأسْتاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إذا تَعَارَضَتْ الآي وتَعَذَّر فِيها التَّرْتِيب والْجَمْع طُلِب التَّارِيخ وتُرِك الْمُتَقَدِّم مِنْهُما بِالْمُتَأخِّر، ويَكُون ذَلك نَسْخًا لَه، وإن لَم يُوجَد التَّارِيخ وكان الإجْمَاع على اسْتِعْمَال إحْدَى الآيَتَين عُلِم بِإجْمَاعِهم أنَّ النَّاسِخ مَا أجْمَعُوا على العَمَل بِها.

قال: ولا يُوجَد في القُرْآن آيَتَان مُتَعَارِضَتَان تَعْرَيَان عن هَذَين الوَصْفَيْن

(6)

.

(1)

المطلع على أبواب المقنع (ص 405).

(2)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 45).

(3)

المرجع السابق (2/ 45). وقول الزركشي هذا نَقَله السيوطي في "الإتقان"(ص 361 تهذيبه).

(4)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 45).

(5)

وستأتي أمثلة ذلك في الفصل الأول من هذا البَحْث.

(6)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 48).

ص: 39

قال الشاطبي: الْمُتَشَابِهَات ليست مِمَّا تُعَارِض مُقْتَضَيَات العُقُول، وإن تَوَهَّم بَعْض النَّاس فِيها ذلك، لأنَّ مَنْ تَوَهَّم فِيها ذلك فَبِنَاء على اتِّبَاع هَوَاه، كَمَا نَصَّت عَليه الآيَة قوله تعالى:(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)[آل عمران: 7] لا أنه بِنَاء على أمْرٍ صَحِيح، فإنه إن كَان كَذلك فالتَّأوِيل فيه رَاجِع إلى مَعْقُول مُوَافِق لا إلى مُخَالِف

(1)

.

وقال ابن تيمية: عَامَّة مَوَارد التَّعَارُض هي من الأمُور الْخَفيَّة الْمُشْتَبهة التي يَحَار فيها كثير مِنْ العُقلاء، كَمَسَائل أسْمَاء الله وصِفاته وأفْعاله، ومَا بَعد الْمَوْت مِنْ الثَّوَاب والعِقاب، والجنة والنار، والعَرْش والكُرْسي، وعَامَّة ذلك مِنْ أنْبَاء الغَيب التي تَقْصُر عُقول أكثر العُقلاء عن تَحقيق مَعرفتها بِمُجَرَّد رَأيهم، ولهذا كان عامَّة الْخَائضِين فيها بِمُجَرَّد رَأيهم إمَّا مُتَنَازِعين مُخْتَلِفين، وإمَّا حَيَارَى مُتَهَوِّكِين

(2)

.

ولإيهَام الاخْتِلاف والتَّعَارُض أسْبَاب

(3)

، ولَهُم مُرجِّحَات عند التَّعَارُض

(4)

.

ويَتَطَرَّق هَذا البَحْث إلى مَا يُسَمِّيه العُلَمَاء "مُشْكِل القُرْآن"، أوْ "مُوهِم الاخْتِلاف والتَّنَاقُض".

وهذا مَبْحَث نَفِيس، وفَنّ لَطِيف يَحْتَاج إليه طَالِب العِلْم في حَيَاته العِلْمِيَّة الشَّامِلَة بَاب "التَّعَارُض والتَّرْجِيح"، وهو بَاب يُفِيد في الْحَيَاة العِلْمِيَّة والعَمَلِيَّة"

(5)

.

و "تَعَارُض دَلالات الأقْوَال وتَرْجِيح بَعْضِها على بَعض بَحْرٌ خِضَم"

(6)

.

(1)

الموافقات، الشاطبي (3/ 31).

(2)

درء تعارض العقل والنقل، مرجع سابق (1/ 151).

(3)

انظر: البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 54 وما بعدها)، و"الموافقات" مرجع سابق (4/ 299 وما بعدها)، و "مُعْتَرَك الأقران"، السيوطي (1/ 100 وما بعدها) فقد نَقل ما قَرَّره الزركشي في "البرهان".

(4)

انظر: البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 48).

(5)

ضوابط الترجيح عند وقوع التعارض، بِنْيُوس الولي (ص 9).

(6)

رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية (ص 39).

ص: 40

‌أهَمِّيَّة دِراسَتِه:

1 -

بَيَان وُجُوه إعْجَاز القُرْآن

(1)

مِمَّا قد يُظَنّ أنّه تَعارُض وهو وَجْه مِنْ وُجوه بَيَان القرآن، وأمْثِلَتُه كَثِيرَة، فمن ذلك: التَّعْبِير بِحَرْف دُون آخَر، في مَوْضِع دُون آخَر، كَالتَّعْبِير عن "مَكَّة" مرّة بِالبَاء:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)[آل عمران: 96] ومَرَّة بِالْمِيم: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)[الفتح: 24]، وذلك أنَّ البَّكّ مأخُوذ مِنْ الزِّحَام

(2)

، فالتَّعْبِير جَاء بِالبَاء (بَكَّة) في ذِكْر الْحَجّ، وهو أشَدّ ما يَكُون مِنْ الزَّحَام فيها، وبِالْمِيم (مكَّة) في غير ذلك. وقِيل غير ذلك

(3)

.

والأمْثِلَة على ذَلك كَثيرة جِدًّا، وقد اعْتَبَرَها بَعض الْجَهَلَة مِنْ أعدَاء الإسْلام مِنْ قَبِيل التَّناقُض! وهي وَجْه مِنْ وُجُوه إعْجَاز القُرْآن وكَمَال بَيَانِه.

2 -

دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض، وإزَالَة مَا قد يَعْلَق بِبعض الأذْهَان من إشْكَال، ودَحْض كُلّ شُبْهَة تَتعَلَّق بالقرْآن ورسْمِه وبَيَانِه.

"وإنَّمَا سُمِّيَت الشُّبْهَة شُبْهَة؛ لاشْتِبَاه الْحَقّ بِالبَاطِل فِيها، فَإنَّها تَلْبَس ثَوْب الْحَقّ على جِسْم البَاطِل! وأكْثَر النَّاس أصْحَاب حُسْنِ ظَاهِرٍ، فَيَنْظُر النَّاظِر فِيمَا أُلْبِسَتْه مِنْ اللبَاس فَيَعْتَقِد صِحَّتها"

(4)

.

ولذلك "ألَّف النَّاس في رَفْع التَّنَاقُض والاخْتِلاف عن القُرْآن والسُّنَّة كَثِيرًا"

(5)

.

3 -

إيضَاح أوْجُه الْجَمْع بَيْن الآيَات، وبَيَان فُنُون الكِتَاب العَزيز، مِنْ عَامّ وخَاصّ، ومُحْكَم ومُتشَابِه، ونَاسِخ ومَنْسُوخ، وتَقْدِيم وتَأخِير، ومَا يَتَعلَّق باخْتِلاف الْمُناسَبَات والأحْوَال؛ إلى غير ذلك مِمَّا يُزِيل اللبْس الذي قد يَنْشَأ عند كَثِير مِنْ النَّاس.

(1)

انظر: مُعْتَرَك الأقران، مرجع سابق (1/ 94).

(2)

انظر: لسان العرب، مرجع سابق (10/ 402).

(3)

انظر: مُعْتَرَك الأقران، مرجع سابق (1/ 623).

(4)

مفتاح دار السعادة، مرجع سابق (1/ 443).

(5)

الموافقات، مرجع سابق (3/ 33).

ص: 41

4 -

زِيَادَة الإيمان، وتَرْسِيخ اليَقِين، بأنَّ هذا القُرْآن (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، وبأنَّ الله تَكَفَّل بِحِفْظِه، ولَم يَجْعَل حِفْظَه إلى أحَدٍ مِنْ خَلْقِه.

وهذا مَطْلَب مُلِحّ، وأمْر مُهِمّ، خاصَّة في زَمَنِ الانفِتَاح الثَّقَافِي، ومَا تُوَاجِهه الأمَّة الإسْلامِيَّة مِنْ حُرُوب على شَتَّى الْمَيَادِين، إذ تُوجَد قُنَوَات فَضَائية ووَسَائل إعْلامِيَّة، ومَوَاقِع إلِكْتُرُونِيَّة، تَهْدِف إلى تَشْكِيك الْمُسْلِم بِدِينِه، وأوَّل ما يُسْعَى لِهَدْمِه هو: إسْقَاط الثِّقَة بأعْظَم كِتَاب، وهو القُرْآن؛ لأنه الدُّسْتُور الذي تَسْتَمِدّ مِنه الأمَّة قُوَّتها، وهو مَصْدَر عِزَّتِها، وسَبِيل نُصْرَتِها.

فإذا تَمّ التَّشْكيك بالقُرْآن هَان سَلْخ الْمُسْلِم مِنْ دينه، وتَجْرِيدِه مِنْ إيمانِه.

ومِن هُنا تَبْرُز أهَمِيَّة دِراسَة دَرْء التَّعَارُض، ودَفْع تَوَهُّم التَعَارُض بَيْن آيات الكِتَاب.

ص: 42

‌الفصل الأول طُرق دفع توهّم التعارض بين الآيات

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: من خلال النَّسْخ

المبحث الثاني: فيما يتعلّق بالخصوص والعموم.

المبحث الثالث: مِنْ خلال القول بالتقديم والتأخير.

المبحث الرابع: فيما يتعلّق باختلاف المناسبة.

ص: 43

طُرق دفع توهّم التعارض بين الآيات

سَلَك الإمَام القُرْطُبي في تَفْسِيره "الْجَامِع لأحْكَام القُرآن" عِدّة طُرُق لِدَفْع التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم بين آيات الكِتَاب العَزِيز.

ومِن تِلك الطُّرُق القَوْل بالنَّسْخ، والنَّسْخ "شَرْعًا أن يَرِد دَليل شَرعِي مُتَرَاخِيا عن دَليل شَرعي مُقْتَضِيًا خِلاف حُكْمه، فهو تَبديل بالنَّظَر إلى عِلْمِنا، وبيان لِمُدّة الْحُكْم بالنَّظَر إلى عِلْم الله"

(1)

.

وعُرِّف بأنه: رَفْع الْحُكْم الثَّابِت بِطَرِيق شَرْعي بِمِثْلِه مُتَرَاخٍ عنه

(2)

.

وفِي مَبْحَث دَفْع تَوهّم التَّعارُض مِنْ خِلال النَّسْخ لن أتَطَرق لِكُلّ نَسْخ في القُرآن، ولا لِكُلّ قَول بالنَّسْخ، لأنه ليس كل نَسْخ يُتَوهَّم معه التَّعَارُض، فإن نَسْخ التِّلاوَة لا يَظْهَر مَعه تَعَارُض، إذ لا بَقَاء للنَّصّ مع نَسْخ التِّلاوَة.

ومِن مَسَائل النَّسْخ في القُرآن ما أُثبِت فيها الناسِخ دُون الْمَنْسُوخ، وهَذه الْمَسَائل لا يَظْهَر فِيها وَجْه التَّعَارُض، كَنَسْخِ القِبْلَة مِنْ بَيْت الْمَقْدِس إلى الْمَسْجِد الْحَرَام، فإنَّ أصْل التَّشْرِيع لم يَكن بِقُرآن يُتْلى.

قال القرطبي في قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)[البقرة: 142]: في هَذه الآية دَلِيل وَاضِح على أن في أحْكَام الله تعالى وكِتابِه نَاسِخًا ومَنْسُوخًا، وأجمعت عليه الأمة إلَّا مَنْ شَذّ.

وأجْمَع العُلَماء على أن القِبْلة أوَّل ما نُسِخ مِنْ القُرآن .... ودَلَّت أيضًا على جَواز نَسْخ السُّنة بالقُرآن، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْو بَيْتِ الْمَقْدِس وليس في ذلك قُرآن، فلم يَكن الْحُكْم إلَّا مِنْ جِهَة السُّنَّة، ثم نُسِخ ذلك بالقُرآن

(3)

.

وهذا أوَان بَيَان مَنْهَج القرطبي في دَفْعِ توهّم التَّعارُض مِنْ خِلال القَوْل بالنَّسْخ:

(1)

التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي (ص 697)، وانظر: التعريفات، الجرجاني (ص 309).

(2)

المدخل، ابن بدران (ص 214).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 147) باختصار يسير.

ص: 44

‌المبحث الأول: من خلال النَّسْخ

مِنْ الطُّرُق التي سَلَكَها الإمَام القُرْطُبي في دَفْع التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم تَرْجِيح أحَد القَولَين على الآخَر مِنْ خِلال الْقَوْل بِالنَّسخ، وذلك مَسْلَك مَعْرُوف عِنْد أهْل العِلْم، فالقَول بالنَّسخ وَجْه مِنْ وُجُوه الْجَمْع بَيْن الآيَات، "لأنَّ النَّصّ يَقْبَل التَّخْصِيص والتَّأوِيل والنَّسْخ"

(1)

، و "النَّسخ إنّمَا يَكُون عِند عَدَم الْجَمْع"

(2)

.

والعلماء يشترطون للقول بالنسخ شروطًا ثلاثة:

أحَدُها: عَدَم إمْكَانِيَّة الْجَمْع بَيْن القَولَين.

الثاني: مَعْرِفَة الْمُتَقَدِّم مِنْ الْمُتَأخِّر.

الثالث: تَكَافُؤ الأَدِلَّة

(3)

.

أمَّا إذا أمْكَن الْجَمْع بين القَولَين فَلَيْس أحَدُهُمَا أوْلى بالقَبول والعَمَل مِنْ الآخَر.

قال ابنُ جَرير: لا يُحْكَم لِحُكْمٍ في آيَة بِالنَّسْخ إلَّا بِخَبَرٍ يَقْطَع العُذْر، أوْ حُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا

(4)

.

وقَال ابنُ حَزْم: القَوْلَين إذا تَعَارَضَا وأمْكَن أن يُستَثْنَى أحَدُهما مِنْ الآخَر فيُسْتَعْمَلان جَمِيعًا، لم يَجُز غَير ذَلك، وسَوَاء أيْقَنَّا أيُّهُمَا أوّل أوْ لَم نُوقِن، ولا يَجُوز القَول بالنَّسْخ في ذَلك إلَّا بِبُرْهَان جَلِيّ مِنْ نَص، أو إجْمَاع، أو تَعَارُض لا يُمْكِن مَعَه اسْتِثْنَاء أحَدِهما مِنْ الآخَر

(5)

.

وقال الشنقيطي: الْجَمْع وَاجِب إذا أمْكَن، وهو مُقَدَّم عَلى التَّرجِيح بَيْن الأَدِلَّة كَمَا عُلِم في الأُصُول

(6)

.

(1)

إرشاد الفُحُول إلى تحقيق علْم الأصول، الشوكاني (ص 468).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 154).

(3)

يُنظر لذلك: المصفَى بأكفّ أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ، ابن الجوزي (ص 12).

(4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن (20/ 526).

(5)

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم (4/ 470)، ويُنظر: شرح مختصر الروضة، الطوفي (2/ 340).

(6)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 304).

ص: 45

وهم يَطرِدُون ذَلك في أدِلَّة الوَحْيَيْن. قال أحْمَد شَاكِر: إذا تَعَارَض حَدِيثَان ظَاهِرًا، فإن أمْكَن الْجَمْع بَيْنَهُما فلا يُعْدَل عَنه إلى غَيْرِه بِحَالٍ، ويَجِب العَمَل بِهما

(1)

.

‌المثال الأول: الوَصِيَّة للوَارِث:

من أول المواضِع التي دَفَع عنها القُرْطبي التَّعَارُض بالقَول بالنَّسْخ:

مَا جَاء في قَوله تَعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين)[البقرة: 180] مَع قَسْم الْمَوَارِيث في سُورَة النِّسَاء.

‌صورة التعارض:

في آية "البَقَرَة" جَوَاز الوَصِيَّة للوَالِدَين والأقْرَبِين، وفي آيات سُورَة النِّسَاء إعْطَاء كل ذي حَقٍّ مِنْ الوَرَثة حقَّه.

‌قال القرطبي:

اخْتَلَف العُلَمَاء في هَذه الآيَة: هَلْ هِي مَنْسُوخَة أو مُحْكَمَة؟

فقيل: هي مُحْكَمَة ظَاهِرها العُمُوم ومَعْنَاهَا الْخُصُوص في الوَالِدَين اللذين لا يَرِثَان كَالْكَافِرَين والعَبْدَين، وفي القَرَابَة غَير الوَرَثَة، قَالَه الضحاك وطاوس والحسن واختاره الطبري .... وقَال ابن المنذر: أجْمَع كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنه مِنْ أهْل العِلْم على أنَّ الوَصِيَّة للوَالِدَين اللذين لا يَرِثَان والأقْرِبَاء الذين لا يَرِثُون - جَائزَة.

وقال ابن عباس والحسن أيضًا وقتادة: الآيَة عَامَّة، وتَقَرَّرَ الْحُكْم بِهَا بُرْهَة مِنْ الدَّهْر، ونُسِخَ مِنْها كُلّ مَنْ كَان يَرِث بآية الفَرَائض.

وقد قيل: إن آية الفَرائض لم تَسْتَقلّ بنَسْخها، بل بضَميمَة أُخْرى، وهي قَوله عليه السلام:"إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّه، فَلا وَصِيَّة لِوَارِث". رَواه أبو

(1)

البَاعِث الْحَثِيث شَرْح اخْتِصَار عُلُوم الْحَدِيث (2/ 482).

ص: 46

أُمَامَة، أخْرَجَه التِّرْمِذِي

(1)

وقال: هَذا حَدِيث حَسَن صَحِيح. فَنَسْخُ الآية إنَّمَا كَان بالسُّنَّة الثَّابِتَة لا بالإرْث على الصَّحِيح مِنْ أقْوَال العُلَمَاء، ولَوْلا هَذا الْحَدِيث لأمْكَن الْجَمْع بَيْن الآيَتَين بأن يَأخُذُوا الْمَال عَنْ الْمُوَرِّث بِالوَصِيَّة، وبِالْمِيرَاث إنْ لَم يُوصِ، أوْ ما بَقِي بعد الوصية، لكن مَنَعَ من ذلك هذا الحديث والإجْمَاع .... فقد ظَهر أن وُجوب الوصية للأقْرَبين الوارِثين مَنْسُوخ بالسُّنَّة، وأنها مُسْتَنَد الْمُجْمِعين، والله أعلم.

وقَال ابنُ عَباس والْحَسَن: نُسِخَت الوَصِيَّة للوَالِدَين بالفَرْض في سُورَة النِّسَاء، وثَبَتَتْ للأقْرَبين الذِين لا يَرِثُون. وهو مَذْهَب الشافعي وأكْثَر الْمَالِكِيِّين

(2)

، وجَمَاعَة مِنْ أهْل العِلْم.

وفي البُخاري

(3)

عَنْ ابنِ عباس قَال: كَان الْمَال للوَلَد، وكَانَتِ الوَصِيَّة للوَالِدَين فَنَسَخَ [الله]

(4)

مِنْ ذَلك مَا أحَبّ، فَجَعَلَ للذَّكَرِ مِثْل حَظّ الأُنْثَيَين، وجَعَلَ للأبَوَين لِكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا السُّدُس، وجَعَلَ للمَرْأة الثُّمُن والرُّبُع، وللزَّوج الشَّطْر والرُّبُع.

وقال ابنُ عُمر وابنُ عَباس وابنُ زَيد: الآيَة كُلّها مَنْسُوخَة، وبَقِيَتِ الوَصِيَّة نَدْبًا

(5)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ آيَة "البَقَرة" في الوَصِيَّة للوَالِدَين والأقْرَبِين مَنْسُوخَة بِفَرْض الْمَوَارِيث في سُورَة النِّسَاء وبِالْحَدِيث.

(1)

ح (2120) وقال: وفي الباب عن عمرو بن خارجة وأنس، وهو حديث حسن صحيح، وقد رُوي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هَذا الوَجْه.

ورواه أحمد (ح 22294) وأبو داود (ح 2870)، وابن ماجه (ح 2713)، ورواه أيضًا (ح 2714) من حَدِيث أنس. وله شَواهِد، ويُنْظَر تخريجه في "إرْواء الغَليل في تَخْريج أحَادِيث مَنَار السَّبِيل"، الألباني (ح 1655) وقال: صحيح.

(2)

يُنْظَر: موطأ مَالِك بِرِواية يحيى بن يحيى الليثي (2/ 765).

(3)

ح (2596).

(4)

زيادة مِنْ صَحِيح البُخَارِي، الموضع السابق.

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 258، 259) باختصار يسير.

ص: 47

2 -

أن النَّسْخ ثابِت في حَقّ الوارِثِين، والوَصِيَّة بَاقِيَة على النَّدْب لِغَيْر ذَوي الفُرُوض.

3 -

الآيَة كُلّها مَنْسُوخَة، وبَقِيَتِ الوَصِيَّة نَدْبًا.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء:

أوْرَد ابنُ جَرير سُؤالًا في آيَة "البَقَرَة" قَال فِيه: فإن قَال قَائل: قَدْ عَلِمْتَ أنَّ جَمَاعة مِنْ أهْل العِلْم قَالُوا: الوَصِيَّة للوَالِدَين والأقْرَبِين مَنْسُوخة بِآيَة الْمِيرَاث؟

قِيلَ لَه: وخَالَفَهم جَمَاعَةٌ غَيرُهم فَقَالُوا: هي مُحْكَمَة غَيرُ مَنْسُوخَة. وإذا كَان في نَسْخ ذلك تَنَازُع بَيْن أهْل العِلْم، لم يَكُنْ لَنَا القَضَاءُ عَليه مَنْسُوخ إلَّا بِحُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَهَا، إذْ كَان غَير مُسْتَحِيل اجْتِمَاع حُكْم هَذه الآيَة وحُكْم آيةِ الْمَوَارِيث في حَال وَاحِدةٍ على صِحَّةٍ، بِغير مُدَافَعةِ حُكْم إحْدَاهُما حُكْمَ الأخْرَى - وكَان النَّاسِخ والْمَنْسُوخ هُمَا الْمَعنَيَان اللذَان لا يَجوز اجْتِماع حُكْمِهما على صِحَّةٍ في حَالة واحِدة، لنَفْي أحَدهما صَاحبَه.

ثُمَّ ذَكَر الْخِلاف في ذَلك فَقَال:

واخْتَلَف أهْل العِلْم في حُكْم هَذه الآيَة؛ فَقَال بَعْضُهم: لم يَنْسَخِ اللهُ شَيْئًا مِنْ حَكْمِها، وإنَّمَا هِي آيَة ظَاهِرُهَا ظَاهِر عُمُوم في كُلّ والِد ووالِدة وقَرِيب، والْمُرَاد بِهَا في الْحُكْم البَعْض مِنْهم دُون الْجَمِيع، وهو مَنْ لا يَرِث مِنْهُم الْمَيِّتَ دُون مَنْ يَرِث.

وقال آخَرُون: بَلْ هِي آيَة قَدْ كَان الْحُكْم بِهَا وَجَب، وعُمِل به بُرْهة، ثم نَسَخَ اللهُ مِنْها بِآيَة الْمَوَارِيث الوَصِيَّة لِوالِدَيّ الْمُوصِي وأقْرِبَائه الذِين يَرِثُونَه، وأقَرّ فَرْض الوَصِيَّة لِمَنْ كَان مِنْهُم لا يَرِثَه.

ص: 48

وقال آخَرُون: بل نَسَخَ الله ذَلك كُلّه بِآيَة الفَرَائض والْمَوَارِيث، فَلا وَصِيَّة تَجِب لأحَدٍ عَلى أحدْ قَرِيب ولا بَعِيد

(1)

.

واحْتَجّ السَّمرقندي بِمَا "رَوَى ابنُ أبي نجيح عن عَطاء قَال: كَان ابنُ عَباس يَقول: كَان الْمِيرَاث للوَلَد، وكَانَتِ الوَصِيَّة للوالِدين والأقْرَبين، فَنَسَخَ الله مِنْ ذَلك مَا أحَبّ، فَجَعَل للذَّكَر مِثْل حَظّ الأنْثَيَيْن، وجَعَلَ للوالِدين لِكُلّ واحِد مِنْهُمَا السُّدُس، وللمَرْأة الثُّمُن أوْ الرُّبُع، وللزَّوْج النِّصْف أوْ الرُّبُع"

(2)

.

وقال السَّمْعَاني وهو يَذْكُر أوْجُه النَّسْخ:

ومِنْه مَا يُوجِب رَفْع الْحُكْم دُون التِّلاوَة، مِثْل آيَة الوَصِيَّة للوَالِدَين والأقرَبين

(3)

.

وقال في مَوْضِع آخَر: وذَلك أنَّ الوَصِيَّة كَانَتْ وَاجِبَة في ابْتِدَاء الإسْلام للوَالدَين والأقْرَبِين، ثم صَار مَنْسُوخًا بآيَة الْمِيرَاث

(4)

.

في حين احْتَجَّ الثعلبي بِآيَة الْمَوَارِيث وبِالْحَدِيث، فَقَال: فآية الْمَوَارِيث هِي لَنَا حُجَّة، وقَول رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو الْمُبيِّن

(5)

.

ومِمَّن قَال بالنَّسْخ البَغَوي حَيث قَال: كَانَتِ الوَصِيَّة فَرِيضَة في ابْتِدَاء الإسْلام للوالِدَين والأقْرَبِين عَلى مَنْ مَات ولَه مَال، ثم نُسِخَتْ بِآيَة الْمِيرَاث

(6)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (3/ 124 - 131) باختصار.

(2)

بحر العلوم (1/ 310)، وسبق تخريج رواية البخاري عن ابن عباس، وهي مِنْ طرِيق ابن أبي نجيح عن عَطاء.

(3)

تفسير القرآن (1/ 121).

(4)

المرجع السابق (1/ 175).

(5)

الكشف والبيان (2/ 57).

(6)

مَعَالم التَّنْزِيل (1/ 147).

ص: 49

وأمَّا الرَّازي فإنه ذَكَر في الآيَة وَجْهَين، فَنَقَل الوَجْه الأول عن الأصمّ، وهو:

أنهم كانوا يُوصُون للأبْعَدِين طَلَبًا للفَخْر والشَّرف، ويَتْرُكون الأقارب في الفَقر والْمَسْكَنة، فأوْجَب الله تعالى في أوّل الإسلام الوَصِية لهؤلاء مَنْعًا للقوم عما كانوا اعتادوه؛ وهذا بَيِّن.

ونَقَل الوجه الثاني عن آخرين، وهو: أن إيجاب هذه الوَصية لَمَّا كان قبل آية المواريث جَعَل الله الْخِيار إلى الْمُوصِي في مَالِه، وألزمه ألا يتعدَّى في إخْرَاجه مَاله بعد مَوته عن الوالدان والأقربين، فيكون واصِلًا إليهم بِتَمْليكه واخْتياره، ولذلك لَمَّا نَزَلَت آية المواريث قال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لِوَارِث

(1)

.

فَبَيَّن أن ما تَقدم كان واصِلًا إليهم بعَطِية الْمُوصِي، فأما الآن فالله تعالى قَدَّر لكل ذي حق حقه، وأن عَطِية الله أوْلى مِنْ عَطية الْمُوصِي، وإذا كان كذلك فلا وَصية لوارث ألبتة؛ فعلى هذا الوجه كانت الوصية مِنْ قبل وَاجِبة للوالدين والأقربين

(2)

.

ومُقْتضى قَول الرازي، القَول بأن الآية مَنْسُوخة.

وقال الزمخشري: والوَصِيّة للوَارِث كَانَتْ في بَدْء الإسْلام، فنُسِخَتْ بِآيَة الْمَوَارِيث، وبِقَولِه عليه الصلاة والسلام:"إنَّ اللهَ أعْطَى كُلّ ذِي حَقّ حَقَّه، ألَا لَا وَصِيَّة لِوارِث"

(3)

وبِتَلَقِّي الأمّة إيَّاه بالقَبول حتى لَحِقَ بالْمُتَواتِر

(4)

.

ثم ذَكَر وَجْهًا آخَر في الْجَمْع بين الآيات، فقال: وقيل: لم تُنْسَخ، والوَارِث يُجْمَع لَه بَيْن الوَصيَّة والْمِيرَاث بِحُكْم الآيَتَين. وقِيل: مَا هي بِمُخَالِفة لآيةِ الْمَوَارِيث، مَعْنَاهَا: كُتِبَ عَلَيْكُم مَا أوْصَى بِه الله مِنْ تَورِيث الوَالِدين والأقْرَبِين مِنْ قَوله تَعالى

(1)

سبق تَخْرِيجُه (ص 47).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (5/ 52).

(3)

سبق تخْريجُه (ص 47).

(4)

الكشاف (ص 111).

ص: 50

(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)[النساء: 11]، أوْ كُتِبَ عَلى الْمُحْتَضَر أن يُوصِي للوَالِدَين والأقْرَبِين بِتَوفِير مَا أوْصَى بِه الله لَهُمْ عَليهم، وألا يُنْقَص مِنْ أنْصِبَائهم

(1)

.

ورجّح ابن جُزي القَول بالنَّسْخ، فَقَال:(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) كانت فَرْضًا قَبْل الْمِيرَاث، ثُمّ نَسَخَهَا آيَة الْمِيرَاث مَع قَوْلِه صلى الله عليه وسلم:"لا وَصِيَّة لِوَارِث" وَبَقِيَتِ الوَصِيَّة مَنْدُوبَة لِمَنْ لا يَرِث مِنْ الأقْرَبين. وقِيل: مَعْنَاهَا الوَصِيَّة بِتَوْرِيث الوَالِدَين والأقْرَبِين عَلى حَسَب الفَرَائض، فلا تَعَارُض بَيْنَها وبَيْن الْمَوَارِيث ولا نَسْخ، والأوَّل أشْهَر

(2)

.

ونَقَل ابنُ كَثير عن ابن أبي حَاتم رِوايته عن ابنِ عباس في قَولِه: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال: نَسَخَتْها هَذه الآيَة: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)[النساء: 7].

ثم قال ابن كثير: والعَجَب مِنْ أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كَيف حَكَى في تَفْسِيرِه الكَبير عَنْ أبي مُسْلِم الأصْفَهَاني أنَّ هَذه الآيَة غَير مَنْسُوخَة، وإنَّمَا هِي مُفسَّرَة بآيَة الْمَوَارِيث

(3)

.

ثم ذَكَر التَّفْصِيل في هَذه الْمَسْألَة، وخَرَّج الْمَسْألَة عَلى قَول مَنْ يَقُول: إنَّ الوَصِيَّة مَنْدُوب إِلَيْها في أوَّل الأمْر، وعَلى قَول مَنْ يَقول: كَانَتْ وَاجِبَة.

ثم قال: وهو الظَّاهِر مِنْ سِيَاق الآيَة، فَيَتَعَيَّن أن تَكُون مَنْسُوخَة بِآيَة الْمِيرَاث، كَمَا قَاله أكْثَر الْمُفَسِّرِين والْمُعْتَبَرين مِنْ الفُقَهاء

(4)

.

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 111)، والقول الأخير فيه ضعف، لأن غاية ما فيه تحصيل حَاصِل.

(2)

التسهيل لعلوم التنْزيل (1/ 71).

(3)

تفسير القرن العظيم (2/ 168).

(4)

المرجع السابق (2/ 168).

ص: 51

ولم يُشِر القَاسِمي في تَفْسِير هَذه الآيَة إلى حُكْم الوَصِيَّة

(1)

.

وقال الشنقيطي: التَّحْقِيق أنَّ النَّسْخ وَاقِع فِيها يَقينًا في البَعْض، لأنَّ الوَصِيَّة للوَالِدَين الوَارِثَين والأقَارِب الوَارِثِين رُفِع حُكْمُهَا بَعْد تَقَرُّرِه إجْمَاعًا، وذَلك نَسْخ في البَعْض لا تَخْصِيص قَصْر العَامِّ عَلى بَعْض أفْرَادِه لِدَلِيل

(2)

، أمَّا رَفْع حُكْمٍ مَعَيَّن بَعْد تَقَرُّرِه فهو نَسْخ لا تَخْصِيص، كَمَا هو ظَاهِر، وقد تَقَرر في عِلْم الأصُول إنّ التَّخْصِيص بَعْد العَمل بالعَامِّ نَسْخ

(3)

.

‌رأي الباحث:

1 -

آيَة "البَقَرَة" مَنْسُوخَة، ومما يُقوّي القَول بالنَّسْخ:

أ- آيَات الْمَوَارِيث، وحَدِيث:"لا وَصِية لِوَارِث".

ب- أنّ مِنْ شُروط القَول بالنَّسْخ تَعَارُض النّصُوص وتَعَذّر الْجَمع بينها

(4)

، و "النَّسخ إنّمَا يَكُون عِند عَدَم الْجَمْع"

(5)

.

وهُنا تَعَذّرَت الوَصِيّة للوَالِدَين مَع الفَرْض والنَّصّ، فنُسِختِ الوَصِيَّة في حَقِّ الوَالِدَين، ونُسِخ وُجُوبُها في حَقِّ غَيْرِهم.

2 -

أنَّ "مِنْهم مَنْ قَال: إنَّهَا مَنْسُوخَة فِيمَن يَرِث، ثَابِتَة فِيمَن لا يَرِث

ولَكِن عَلى قَول هَؤلاء لا يُسَمَّى هَذا نَسْخًا في اصْطِلَاحِنَا الْمُتَأخِّر، لأنَّ آيَة الْمَوَارِيث إنَّمَا رَفَعَت حُكْم بَعْض أفْرَاد مَا دَلّ عَلَيه عُمُوم آيَة الوصَايَة، لأنَّ الأقْرَبِين أعَمَّ مِمَّنْ يَرِث ومَن لا يَرِث، فَرُفِع حُكْم مَنْ يَرث بِمَا عُيِّن لَه، وَبَقِيَ الآخَر عَلى مَا دَلَّتْ عَليه

(1)

محاسن التأويل (3/ 49 - 51).

(2)

في المطبوع: قصر العام على بعض أفراده الدليل.

(3)

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب - مُلْحَق بتفسير "أضواء البيان"(ص 26).

(4)

يُنظر ما تقدّم حول تقرير هذه المسألة (ص 45).

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 154).

ص: 52

الآيَة الأُولى، وهَذا إنَّمَا يَتَأتَّى عَلى قَول بَعْضِهم أنَّ الوِصَايَة

(1)

في ابْتِدَاء الإسْلام إنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا حَتَّى نُسِخَتْ، فأمَّا مَنْ يَقُول: إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَة - وهو الظَّاهِر مِنْ سِيَاق الآيَة - فَيَتَعَيَّن أن تَكُون مَنْسُوخَة بِآيَة الْمِيرَاث، كَمَا قَالَه أكْثَر الْمُفَسِّرِين والْمُعْتَبَرِين مِنْ الفُقَهَاء"

(2)

.

3 -

مَا يَتَعَلَّق بِالأَقْرَبين غَير الوَارِثين، فَهو بَاقٍ عَلى النَّدْب مَع الْحَاجَة وكَثْرَة الْمَال، ومَا يَتَعَلَّق بالنَّفَقَة عَلى الوَالِدَين بَاقٍ عَلى الإيجاب إذَا لَم يَقْوَيا عَلى التَّكَسُّب والْمِلْك.

"وإنَّمَا ذُكِر في الآيَة مَنْ ذُكِر عَلى وَجْه التَّنْبِيه عليهم؛ لأنهم مِنْ أهَمّ مَنْ يُدْفَع إلَيه قال الزَّجَّاج مُحْتَجًّا لِمَالِك: قَال اللهُ عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[البقرة: 215]، وللرَّجُل - جَائزٌ بإجْمَاع العُلَمَاء - أن يُنْفِق في غَيْر هَذه الأصْنَاف إذا رَأى ذَلك

(3)

.

‌المثال الثاني:

في عِدَّة الْمُتَوفَّى عَنها زَوْجُها:

قَولُه تَعَالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234] مع قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)[البقرة: 240].

(1)

في اللسان (15/ 394): والاسْم الوَصَاة، والوَصَايَة الوِصَايَة والوَصِيَّة أيضًا: مَا أوْصَيْت به.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 168).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 14) ونَقله الشنقيطي في "أضواء البيان"(2/ 65).

ص: 53

‌صورة التعارض:

"قَوله تَعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة: 234] هَذِه الآيَة يَظْهَر تَعَارُضها مَع قَوله تَعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) [البقرة: 240] "

(1)

.

وهَاتَان الآيَتَان مِمَّا سَأل عَنْهُما ابنُ الزُّبَير رضي الله عنه عُثْمَانَ بنَ عَفَّان رضي الله عنه، واسْتَشْكَل كَون النَّاسِخ قَبْل الْمَنْسُوخ.

رَوَى البُخَاري عن ابنِ الزُّبير قال: قُلْتُ لِعُثْمَان بن عفان: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا)[البقرة: 240] قَال: قد نَسَخَتْها الآيَة الأُخْرَى

(2)

، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أو تَدَعُهَا؟ قَال: يا ابْن أخِي لا أُغَيِّر شَيئًا مِنْه مِنْ مَكَانِه

(3)

.

‌جَمْع القرطبي:

قَال القُرطبي في الآيَة الأُولى: وأكْثَر العُلَمَاء عَلى أنَّ هَذه الآيَة نَاسِخَة لِقَولِه عز وجل: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)[البقرة: 240]؛ لأنَّ النَّاس أقَامُوا بُرْهة مِنْ الإسْلام إذا تُوفِّي الرَّجُل وخَلَّف امْرَأته حَامِلًا أوْصَى لَهَا زَوْجُها بِنَفَقَة سَنَة، وبالسُّكْنَى مَا لَم تَخْرُج فَتَتَزَوّج، ثم نُسِخَ ذلك بأرْبَعَة أشْهُر وعَشْر وبالْمِيرَاث

(4)

.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 31).

(2)

أي الآية ذات الرقم (234).

(3)

رواه البخاري (ح 4256).

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 165).

ص: 54

وقَال في مَوْضِع آخَر: قَوله تَعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا)[البقرة: 240] ذَهَب جَمَاعة مِنْ الْمُفَسِّرين في تَأوِيل هَذه الآيَة أنَّ الْمُتَوفَّى عَنْها زَوْجُها؛ كَانَتْ تَجْلِس في بَيْت الْمُتَوفَّى عَنْها حَوْلًا، ويُنْفَق عَليها مِنْ مَالِه مَا لَم تَخْرُج مِنْ الْمَنْزِل، فَإنْ خَرَجَتْ لَم يَكُنْ عَلى الوَرَثَة جُنَاح في قَطْع النَّفَقَة عَنْها، ثم نُسِخ الْحَول بالأرْبَعَة الأشْهُر والعَشْر، ونُسِخَتِ النَّفَقَة بالرُّبُع والثُّمُن في سُورَة النَّسَاء

(1)

.

ونَقَل عَنْ ابنِ عَطية قَوله: وهَذا كُلّه قَدْ زَال حُكْمه بالنَّسْخ الْمُتَّفَق عَليه، إلّا مَا قوّله الطبريُّ

(2)

مُجاهدًا رَحمَهُمَا الله تَعالى، وفي ذَلك نَظَر عَلى الطَّبَري.

وقَال القَاضِي عِيَاض: والإجْمَاع مُنْعَقِد عَلى أنَّ الْحَوْل مَنْسُوخ، وأنَّ عِدّتها أرْبَعَة أشْهُر وعَشْر.

قَال غَيْرُه: مَعْنَى قَولِه: (وَصِيَّةً)، أي: مِنْ اللهِ تَعالى تَجِب عَلى النِّسَاء بَعْد وَفَاة الزَّوْج بِلُزُوم البُيُوت سَنَة، ثم نُسِخ

(3)

.

وقَال: وكَذلك سَائر الآيَة، فَقَوله عز وجل:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)[البقرة: 240] مَنْسُوخ كُلّه عِنْد جُمْهُور العُلَمَاء، ثُم نُسِخ الوَصِيَّة بالسُّكْنَى للزَّوْجَات في الْحَوْل، إلَّا رِواية شَاذَّة مَهْجُورة جَاءت عن ابن أبي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد لَم يُتابَع عَلَيها

(4)

، ولا قَال بِهَا فِيما زَادَ على الأرْبَعَة الأشْهُر والعَشْر

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 226) ط. الشعب (3/ 215) ط. دار الكتاب العربي.

(2)

تَعْصِيب الْجِنَايَة بالطَّبَري لَيْس بِجَيِّد، فَلَم يَنْفَرِد الطَّبَري بهذه الرِّوَايَة، فقد رَوَاها البخاري (ح 4257)، وسيأتي تَعقّب البخاري لها.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 216).

(4)

قال عقبها البخاري (ح 4257): زَعَم ذَلك عَنْ مُجَاهِد، وقال عَطاء: قال ابن عباس: نَسَخَتْ هَذه الآيَة عدّتَها عِنْدَ أهْلِها فَتَعْتَد حَيْث شَاءَت، وهو قَول الله تَعالى:(غَيْرَ إِخْرَاجٍ). قال عَطاء: إن شَاءت اعْتَدَّتْ عِنْد أهْلِه وسَكَنَتْ في وَصِيَّتِها، وإن شَاءَت خَرَجَتْ، لِقَول الله تعالى:(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ). قال عطاء: ثُمّ جَاءَ الْمِيرَاث فَنَسَخ السُّكْنَى فَتَعْتَدّ حَيْث شَاءَت ولا سُكْنَى لَها. وعن محمد بن يوسف حدثنا ورقاء عن ابن أبي نَجيح عن مُجاهد بهذا. وع ابن أبي نَجيح عن عَطاء عن ابن عباس قال: نَسَخَتْ هَذه الآيَة عِدَّتها في أهْلِها فَتَعْتَدّ حَيْثَ شَاءَت. لِقَول الله: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ). نَحْوَه.

ص: 55

أحَد مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِين مِنْ الصَّحَابة والتابعين ومَن بَعدهم فِيمَا عَلِمْتُ. وقد رَوى ابن جُريج عن مُجاهد مِثل ما عَليه الناس، فانْعَقَد الإجماع، وارْتَفع الْخِلاف

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ الآيَة الثَّانِيَة نَزَلتْ في أوَّل الأمْر، وأقَام النَّاس عَليها بُرْهة مِنْ الزَّمَن ثُم نُسِخَتْ.

2 -

أنَّ أكْثَر العُلَمَاء عَلى القَول بالنَّسْخ، وأنَ الآيَة الأُولى نَاسِخَة للآيَة الثَّانِيَة.

3 -

يَرَى أخِيرًا: انْعِقَاد الإجْمَاع عَلى القَول بالنَّسْخ وارْتِفَاع الْخِلاف.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بِجَمْع غيره من العلماء:

رَجَّح ابنُ جرير قِراءَة مَنْ قَرأ (وَصِيَّةً) بالرَّفْع، وعَلَّل ذَلك بِدَلالة "ظَاهِر القُرْآن عَلى أنَّ مُقَام الْمُتَوفَّى عَنها زَوْجُها في بَيْت زَوجِها الْمُتَوَفَّى حَوْلًا كَامِلًا كَان حَقًّا لها قَبْل نُزُول قَوله:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، وقبل نُزول آيَة الْمِيرَاث، ولِتَظَاهُر الأخْبَار عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِنَحْو الذي دَلّ عَليه الظَّاهِر مِنْ ذلك؛ أوْصَى لَهُنَّ أزْوَاجُهنَّ بِذلك قَبْل وَفَاتِهنّ

(2)

أوْ لم يُوصُوا لَهُنّ بِه

(3)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 217). والقول الأخِير بِحُرُوفِه في "الاستذكار"، ابن عبد البر (6/ 235).

(2)

هكذا في المطبوع، والصواب: قَبْلَ وَفَاتِهم.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 398).

ص: 56

ثم ذَكَر "بَعْض مَنْ قَال إنَّ سُكْنَى حَوْل كَامِل كَان حَقًّا لأزْواج الْمُتَوَفَّين بَعْد مَوْتِهِم عَلى مَا قُلْنا، أوْصَى بِذلك أزْوَاجُهن لَهُنّ أوْ لَم يُوصُوا لَهُنّ بِه، وأنَّ ذَلك نُسِخ بما ذَكَرْنا مِنْ الأرْبَعَة الأشْهُر والعَشْر والْمِيرَاث"

(1)

.

كَمَا ذَكَر "مَنْ قَال كَان ذَلك يَكُون لَهُنّ بِوَصِيَّة مِنْ أزْوَاجِهن لَهُنَّ بِه"

(2)

.

وأعقَبَه بِذِكْر "مَنْ قَال نَسَخ ذَلك مَا كَان لَهُنّ مِنْ الْمَتَاع إلى الْحَوْل مِنْ غَيْر تَنْبيهٍ على أيّ وَجْه كَان ذَلك لَهُنّ"

(3)

.

ونَقَل عن آخَرِين قَولهم: "هَذه الآيَة ثَابِتَة الْحُكْم لَم يَنْسَخ مِنها شَيء"

(4)

.

ثم ذَكَر اخْتِيَارَه بِقوله: وأوْلى هَذه الأقْوال عِندي في ذَلك بالصَّوَاب أن يُقَال: إنَّ الله تعالى ذِكْرُه كان جَعَل لأزْواج مَنْ مَات مِنْ الرِّجَال بَعد مَوتِهم سُكْنَى حَوْل في مَنْزِلِه، ونَفَقَتَها في مَال زَوجِها الْمَيِّت إلى انْقِضَاء السَّنَة، وَوَجَب عَلى وَرَثة الْمَيِّت أنْ لا يُخْرِجُوهنّ قَبْل تَمَام الْحَوْل مِنْ الْمَسْكَن الذي يَسْكُنُه، وإنْ هُنَّ تَرَكْن حَقَّهُنّ مِنْ ذَلك وخَرَجْن لم تَكُنْ وَرَثة الْمَيِّت مِنْ خُرُوجهن في حَرَج، ثم إنَّ اللهَ تَعالى ذِكْرُه نَسَخَ النَّفَقَة بِآيَة الْمِيرَاث، وأبْطَل مِمَّا كَان جَعَل لَهُنّ مِنْ سُكْنَى حَوْلٍ سَبْعةَ أشْهر وعِشْرِين لَيْلَة

(5)

، وَرَدَّهُنَّ إلى أرْبَعَة أشْهُر وعَشْر، عَلى لِسَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

وأبَان السمرقندي أن الاعْتَداد بالسَّنَة كَان في أوَّل الشَّرِيعَة، إذْ "كَانَتْ العِدَّة حَوْلًا، وهَكَذا كَان في الْجَاهِلِيَّة

ثم نُسِخ مَا زَاد عَلى الأرْبَعَة أشْهُر وعَشْرا،

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 400).

(2)

المرجع السابق (4/ 403).

(3)

المرجع السابق (4/ 404).

(4)

المرجع السابق (4/ 405).

(5)

يعني الفَرْق بين السَّنَة والأرْبعة أشْهر وعَشْر (12 شهرا - 4 أشهر و 10 ليال = 7 أشْهُر و 20 ليلة).

(6)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 406).

ص: 57

ونُسِخَت الوَصِيَّة للأزْوَاج بِقَول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: لا وَصِيَّة لِوَارِث

(1)

.

ويُقال: نُسِخَ بآية الْمِيرَاث"

(2)

.

ومِمّن رجّح القَول بالنَّسْخ:

السمعاني، فَإنه قَال: وقَوله: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)[البقرة: 240] وحَرم على الوَارِث إخْرَاج الْمُعْتَدَّة مِنْ البَيْت قَبْل تَمَام الْحَوْل، لَكِن إذَا خَرَجَتْ بِنَفْسِها سَقَطت نَفَقَتُها، فنُسِخ ذَلك بِآيَة عِدَّة الوَفَاة

(3)

.

والبَغوي حَيث قَال: وكَانَت عِدَّة الوَفَاة في الابْتِدَاء حَوْلًا كَامِلًا، لِقوله تَعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)[البقرة: 240]، ثُمّ نُسخَتْ بأرْبَعَة أشْهُر وعَشْرا

(4)

.

وقَال في الآيَة الثَّانِيَة: وكَانَت عِدَّة الوَفاة في ابْتِدَاء الإسْلام حَوْلًا كَامِلًا، وكَان يَحْرُم عَلى الوَارِث إخْرَاجُها مِنْ الْبَيْت قَبْل تَمَام الْحَوْل، وكَانَت نَفَقَتها وسَكَنها وَاجِبَة في مَال زَوْجِها تِلك السَّنَة مَا لَم تَخْرُج، ولَم يَكُنْ لَهَا الْمِيرَاث، فَإن خَرَجَتْ مِنْ بَيْت زَوْجِها سَقَطَت نَفَقَتها، وكَان عَلَى الرَّجُل أن يُوصِي بِهَا، فَكَان كَذَلك حَتى نَزَلَتْ آيَة الْمِيرَاث، فَنَسَخ اللهُ تَعالى نَفَقَة الْحَوْل بالرُّبُع والثُّمُن، ونَسَخ عِدَّة الْحَوْل بِأرْبَعَة أشْهُر وعَشْرا

(5)

.

وكذلك الثعلبي

(6)

، والثعالبي

(7)

.

(1)

سبق تخريجه (ص 47).

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 184).

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 244).

(4)

معالم التَّنْزِيل، مرجع سابق (1/ 213).

(5)

المرجع السابق (1/ 222).

(6)

الكشف والبيان، مرجع سابق (2/ 201).

(7)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 187).

ص: 58

وقال الزمخشري في التَّربُّص سَنَة: وكَان ذَلك في أوَّل الإسْلام، ثم نُسِخَتْ الْمُدَّة بِقَوله:(أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234]. وقِيل: نُسِخَ مَا زَاد مِنه عَلى هَذا الْمِقْدَار، ونُسِخَتِ النَّفَقَة بالإرْث الذي هُو الرُّبُع والثُّمُن.

ثُم قَال: فإن قُلْتَ: كَيْف نَسَخَتِ الآيَة الْمُتَقَدِّمَة الْمُتَأخِّرة؟ قُلت: قَدْ تَكُون الآيَة مُتَقَدِّمَة في التِّلاوَة وهي مُتَأخِّرَة في التَّنْزِيل، كَقَولِه تَعالى:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ)[البقرة: 142]، مَع قَوله:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)[البقرة: 144]

(1)

.

وذَكَر ابن عطية مَعْنَى الآيَة، ورَجَّح أنَّ التَّرَبُّص لمُدّة سَنَة مَنْسُوخ، فَقَال: ومَعْنَى هَذه الآيَة أنَّ الرَّجُل إذا مَات كَان لِزَوْجَتِه أن تُقيم في مَنْزِله سَنَة ويُنْفَق عَليها مَنْ مَالِه، وذَلك وَصِيَّة لَها.

واخْتَلَف العُلَمَاء مِمَّنْ هي هَذه الوَصِيَّة؟ فَقَالَت فِرْقة: كَانَتْ وَصِيَّة مِنْ اللهِ تَعالى تَجِب بَعْد وَفَاة الزَّوج

ثم نُسِخ مَا في هَذه الآيَة مِنْ النَّفَقة بالرُّبع أوْ بالثُّمُن الذي في سُورة النِّسَاء، ونُسِخ سُكْنَى الْحَول بالأرْبَعَة الأشْهُر والعَشْر

(2)

.

أما الرازي فقد ذَكَر أنَّ "في هَذه الآيَة ثَلاثَة أقْوَال:

الأوَّل - وهو اخْتِيَار جُمْهُور الْمُفَسِّرِين -: أنَّهَا مَنْسُوخَة.

القَول الثَّاني - وهو قَول مُجَاهِد -: أنَّ الله تعالى أنْزَل في عِدَّة الْمُتَوفَّى عَنها زَوْجها آيَتَين: أحَدُهما: ما تَقَدَّم، وهو قَوله:(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234]، والأخْرَى هَذه الآيَة، فَوَجَب تنْزيل هَاتَين الآيَتَين عَلى حَالَتَين؛ فَنَقُول: إنَّهَا إن لَم تَخْتَر السُّكْنى في دَار زَوْجِها، ولَم تأخُذ النَّفَقَة مِنْ مَالِ زَوْجِها كَانَتْ عِدّتها أرْبَعَة أشْهُر وعَشْرا، عَلى مَا في تِلك الآيَة الْمُتَقَدِّمَة، وأمَّا إن اخْتَارَتْ السُّكْنَى في دار

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 140).

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 326).

ص: 59

زَوْجِها والأخْذ مِنْ مَالِه وتَرِكَتِه فَعِدَّتها هي الْحَوْل، وتَنْزِيل الآيَتَين عَلى هَذين التَّقْدِيرَين أوْلى، حَتى يَكون كُلّ واحِد مِنهما مَعْمُولًا بِه.

القَول الثَّالِث - وهو قَول أبي مُسلم الأصفهاني -: أنَّ مْعَنَى الآيَة: مَنْ يُتَوفَّى مِنْكُم ويَذَرُون أزْوَاجًا وقَد وَصَّوا وَصِيَّة لأزْواجِهم بِنَفَقَةِ الْحَوْل وسُكْنى الْحَوْل، فَإن خَرَجْنَ قَبل ذَلك وخَالَفْنَ وَصِيَّة الزَّوج بَعْد أن يُقِمْنَ الْمُدَّة التي ضَرَبَها الله تَعالى لَهُنّ فَلا حَرَج فِيمَا فَعلن في أنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوف، أي: نِكَاح صَحِيح؛ لأنَّ إقَامَتَهن بِهَذِه الوَصِيَّة غَيْر لازِمَة. قال: والسَّبب أنَّهُم كَانُوا في زَمَان الْجَاهِلِيَّة يُوصُون بالنَّفَقَة والسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وكَان يَجِب عَلى الْمَرْأة الاعْتِدَاد بالْحَوْل، فَبَيَّن الله تَعالى في هَذه الآيَة أنَّ ذَلك غَير وَاجِب، وعَلى هَذا التَّقْدِير فالنَّسْخ زَائل، واحْتَجَّ عَلى قَولِه بوُجُوه:

أحَدها: أنَّ النَّسْخ خِلاف الأصْل، فَوَجَب الْمَصِير إلى عَدَمه بِقَدْرِ الإمْكَان.

الثَّانِي: أن يَكون النَّاسِخ مُتَأخِّرًا عَنْ الْمَنْسُوخ في النُّزُول، وإذا كَان مُتَأخِّرًا عَنه في النُّزُول كَان الأحْسَن أن يَكُون مُتَأخِّرًا عَنه في التِّلاوَة أيضًا، لأنَّ هَذا التَّرْتِيب أحْسَن، فأمَّا تَقَدُّم النَّاسِخ على الْمَنْسُوخ في التِّلاوة فَهو وإن كَان جَائزًا في الْجُمْلَة إلَّا أنه يُعَدّ مِنْ سُوء التَّرْتِيب، وتنْزِيه كَلام الله تَعالى عَنه وَاجِب بِقَدْرِ الإمْكَان، ولما كانت هذه الآية مُتأخِّرَة عَنْ تِلك [في]

(1)

التِّلاوَة كَان الأوْلى أن لا يُحْكَم بِكَونِها مَنْسُوخَة بِتِلْك"

(2)

.

وقال ابن جُزيّ: هذه الآية مَنْسُوخة، ومَعْنَاهَا أنَّ الرَّجُل إذا مَات كَان لِزَوْجَتِه أن تُقِيم في مَنْزِله سَنَة، ويُنفَق عَليها مِنْ مَالِه، وذَلك وَصِيَّة لَها، ثم نَسِخ إِقامَتها سَنَة

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (6/ 134، 135) باختصار، وسيأتي تعقّب قول أبي مسلم هذا في "رأي الباحث".

ص: 60

بالأرْبَعة الأشْهُر والعَشْر، ونُسِخَتِ النَّفَقَة بالرُّبُع أوْ الثُّمُن الذي لَها في الْمِيرَاث، حَسْبَما ذُكِرَ في سُورة النِّسَاء

(1)

.

ونَصّ النَّسَفي عَلى أنَّ ذَلك كَان مَشْرُوعًا في أوَّل الإسْلام ثم نُسِخ بِقَوله تَعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إلى قَوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234]، والنَّاسِخ مُتَقَدِّم عليه تِلاوَة، ومُتأخِّر نُزُولًا"

(2)

.

ورَجَّح ابنُ كَثير أنَّ الآيَة الثَّانِية مَنْسُوخَة بالآيَة الأُولى، فَقَال: قَال الأكْثَرُون: هَذِه الآيَة مَنْسُوخَة بالتي قَبْلَها، وهِي قَوله:(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234].

ثم ذَكَر رِواية البخاري وقَول ابن الزبير لِعثمان بِشَأن النَّسْخ، ثم قَال: ومَعْنَى هَذا الإشْكَال الذي قَالَه ابن الزبير لِعثمان: إذا كَان حُكْمها قَدْ نُسِخ بالأرْبَعَة الأشْهُر فَمَا الْحِكْمَة في إبْقاء رَسْمِها مَع زَوَال حُكْمِها؟ وبَقاء رَسْمِها بَعْدَ التي نَسَخَتها يُوهِم بَقَاء حُكْمِها. فأجَابه أمِير الْمُؤمِنين بأنَّ هَذا أمْر تَوقِيفي، وأنا وَجَدْتُها مُثْبَتَة في الْمُصْحَف كَذلك بَعْدَها، فأثْبَتها حَيث وجَدْتُها

(3)

.

ونَقَل القاسمي القَول بالنَّسْخ عن جُمْهُور الْمُفَسِّرين، فقال: لِيُعلَم أنَّ اخْتِيَار جُمْهُور الْمُفَسِّرين أنَّ هَذه الآيَة مَنْسُوخَة بالتي قَبْلَها، وهي قَوله تَعالى:(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234]

(4)

.

(1)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 86).

(2)

مَدَارِك التَّنْزِيل وحَقائق التَّأويل (1/ 117) بتصرّف يسير.

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 409، 410).

(4)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 212).

ص: 61

ورجّح الشنقيطي أن الآية الأوْلى نَاسِخة للثَّانِية، وإنْ كَانت قَبْلَها في الْمُصْحَف لأنَّها مُتأخِّرة عَنها في النُّزُول

(1)

.

‌رأي الباحث:

1 -

أنَّ الآيَة الأُولى نَاسخَة للآيَة الثَّانيَة، وجَاء النَّصّ في رَوَايَة البخَاري عَلى ذَلك.

2 -

أنه لا يُمْكِن الْجَمْع بين الآيَتَين، لأنَّ الأوْلى حَدَّدتْ العِدّة بِعَام كَامِل، والثَّانِيَة بأرْبَعَة أشْهُر وعَشْرا.

3 -

أنه لا يُنْكَر كَون النَّاسِخ مُتَقَدِّم على الْمَنْسُوخ في تَرْتِيب الْمَصَاحِف، وذَلك في غيرِ مَوضع مِنْ كِتَاب الله، بل إنَّ تَقْدِيم السُّوَر الْمَدَنِيَّة في التَّرْتِيب عَلى السُّوَر الْمَكِّيَّة أمْر ظَاهِر لا إشْكَال فِيه.

وقَول أبي مُسْلِم: "ولَمَّا كَانَتْ هَذه الآيَة مُتَأخِّرَة عن تِلك [في] التِّلاوة، كَان الأَوْلى ألا يُحْكَم بِكَوْنِها مَنْسُوخَة بِتِلك" واحْتِجَاجه لِقولَه هذا مُتعقَّب مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: مَا تَقَدَّم مِنْ قَول ابن الزبير لعثمان: إنَّهَا مَنْسُوخَة، ولم يُنكِر عَليه قَولَه، وإنما أجَاب بأنَّ هَذا فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: دفع إيهام الاضطراب (ص 31) ونَصّ على أنه ليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف ناسخة لآية بعدها إلا في موضعين، أحدهما هذا الموضع، والثاني آية:(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ)[الأحزاب: 50] هي الأولى في المصحف، وهي ناسخة لقوله:(لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)[الأحزاب: 52] الآية، لأنها وإن تَقَدَّمَتْ في المصحف فهي مُتأخّرة في النُّزول، وهذا على القول بالنَّسْخ. اهـ.

وزاد البغوي مثالًا ثالثًا، فقال:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)[البقرة: 144] هذه الآية وإن كانت مُتأخِّرة في التلاوة فهي مُتَقَدِّمَة في المعنى، فإنها رأس القِصَّة، وأمْر القِبلة أول ما نُسِخَ من أمُور الشَّرع. اهـ.

وقال الزمخشري: قد تكون الآية مُتَقَدِّمة في التلاوة وهي متأخِّرة في التَّنْزيل، كقوله تعالى:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ)[البقرة: 142]، مع قوله:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)[البقرة: 144]. وقد تقدّم هذا النقل عنه.

وقال ابن حجر (فتح الباري 8/ 194): وقد ظَفِرْتُ بمواضع أخرى. اهـ. فتُنظر عِنده في تفسير الآية.

ص: 62

الثَّاني: أنَّ تَرْتِيب النُّزُول غَير تَرْتِيب التِّلاوة. قَالَه البَغوي، ونَقَله السّيوطي

(1)

، "ولا يَضُرّ كَوْن الآيَة الْمَنْسُوخَة - في تَرتيب الْمُصْحَف في الْخَطّ والتِّلاوَة - مُتقدِّمَة في أوَّل السُّورَة، أوْ في سُورَة مُتقدِّمَة في التَّرْتِيب، وتَكُون النَّاسِخَة لَها في السُّورَة أوْ في سُورَة مُتأخِّرَة في التَّرْتِيب؛ لأنَّ القُرْآن لم تُرتّب آيَاته وسُوَره عَلى حَسَب نُزُول ذَلك، لَكِن كَمَا شاء ذُو الْجَلال والإكْرَام مُنَزِّلُه .... ومُرتِّبُه الذي لم يَكِل تَرْتِيبه إلى أحَدٍ دُوْنه

فلا يَجُوز مُرَاعَاة رُتْبَة التَّأليف في مَعْرفَة النَّاسخ والْمَنْسُوخ البتة"

(2)

.

الثالث: أنّ تَرتيب سُوَر القُرْآن لَيس على حَسَب النُّزُول، فلا يَمْنع أن يَكُون تَرْتِيب الآيَات دَاخِل السُّورَة كَذلك.

قال القرطبي: وقد عَارَض بَعْض فُقَهَاء الكُوفيين، فَقَال: مُحَال أن تَنْسَخ هَذه الآيَة، يَعْني (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) [الأحزاب: 51] (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)[الأحزاب: 52] وهي قَبْلَها في الْمُصْحَف الذي أجْمَع عَليه الْمُسْلِمُون، ورَجَّح قَول مَنْ قَال نُسِخَتْ بالسُّنّة. قال النَّحَّاس: وهَذِه الْمُعَارَضَة لا تَلْزَم، وقَائلها غَالِط؛ لأنَّ القُرآن بِمَنْزِلَة سُورَة وَاحِدَة، كَمَا صَحَّ عَنْ ابنِ عباس

(3)

.

الرَّابِع: أن جُمْهُور الْمُفَسِّرِين عَلى أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة، بل نَقَل الإجْماع على ذلك غير واحِد؛ فقد نَقَله ابن عبد البر

(4)

، وابن حَزم

(5)

، ونَفَى القُرْطبي مَعْرِفَة الْمُخَالِف في أنَّ النَّاسِخ مُتَقدِّم عَلى الْمَنْسُوخ في آيَتِي البَقَرَة

(6)

.

الْخَامِس: أن قَوْل مُجاهِد - في عَدَم النَّسْخ - عُدّ قَوْلًا شاذًّا، كما تقدَّم.

(1)

الإتقان (1/ 176) وحول الترتيب يُنظر:

التبيان في آداب حملة القرآن، النووي (ص 49، 50)، و"الإتقان"، السيوطي (1/ 176 - 179).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم (1/ 505).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (14/ 194).

(4)

الاستذكار، مرجع سابق (6/ 234، 235).

(5)

الإحكام في أصول الأحكام، مرجع سابق (1/ 506).

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (14/ 194).

ص: 63

‌المثال الثالث:

القتال في الأشهر الْحُرُم بين الْمَنْع والإبَاحَة:

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)[البقرة: 217] مع قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)[التوبة: 36].

‌صورة التعارض:

في الآيَة الأُولى تَحْرِيم القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم، وهو كَقَولِه تَعالى:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)[التوبة: 5]، وفي الآيَة الثَّانِيَة الأمْر بِقِتَال الْمُشْرِكين بِعَامَّة.

‌جَمع القرطبي:

قال القرطبي: واخْتَلَف العُلَمَاء في نَسْخ هَذه الآيَة؛ فالْجُمْهُور على نَسْخِها، وأنَّ قِتَال الْمُشْرِكِين في الأشْهُر الْحُرُم مُبَاح، واخْتَلَفُوا في نَاسِخِها.

فَذَكَر أقوالًا ثم قال:

وذَكَر البيهقي

(1)

عن عُروة بن الزَّبير مِنْ غَير حديث محمد بن إسحاق في أثَر قِصَّة الْحَضْرَمِي

(2)

، فأنْزَل الله عز وجل:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية، قَال: فَحَدَّثَهم الله في كِتَابِه أنَّ القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام كَمَا كَان، وأنَّ الذي يَسْتَحِلّون مِنْ الْمُؤمِنِين هُو أكْبَر مِنْ ذَلك؛ مِنْ صَدِّهم عَنْ سَبِيل الله حين يَسجُنونهم ويُعَذِّبُوهم ويَحْبِسُونهم أن يُهَاجِرُوا إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وكُفْرِهم بالله، وصَدِّهم الْمُسْلِمِين عَنْ الْمَسْجد الْحَرَام في الْحَجّ والعُمْرَة والصّلاة فيه، وإخْرَاجهم أهْل الْمَسْجِد الْحَرَام - وهُم سُكَّانه مِنْ الْمُسْلِمِين - وفِتْنَتهم إيّاهم عَنْ الدِّين؛ فَبَلَغَنَا أنَّ

(1)

السنن الكبرى (ح 17524).

(2)

تُنْظَر قصة قَتْل ابن الحضرمي في: "جامع البيان"(3/ 650 - 660).

ص: 64

النبي صلى الله عليه وسلم عَقَل ابن الْحَضْرَمِي، وحَرَّم الشَّهْر الْحَرَام كَمَا كَان يُحَرِّمه، حَتى أنْزَل اللهُ عز وجل:(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[التوبة: 1].

وكَان عَطاء يَقُول: الآيَة مُحْكَمَة، ولا يَجُوز القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم، ويَحْلِف على ذَلك، لأنَّ الآيَات التي وَرَدَتْ بَعْدَها عَامَّة في الأزْمِنة، وهَذا خَاصّ، والعَامَّ لا يَنْسَخ الْخَاصّ باتِّفَاق. ورَوى أبو الزبير عن جابر قَال: كَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يُقَاتِل في الشَّهْر الْحَرَام إلَّا أن يُغْزَى

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة عِنْد جُمْهُور الْمُفَسِّرِين، وهو ما اخْتَارَه القُرْطبي.

2 -

اخْتُلِف في النَّاسِخ لَها عَلى أقْوال ثَلاثَة، ضَعَّف الثَّالِث مِنها، وهو أنه "نَسَخَها بَيْعَة الرِّضْوَان على القِتَال في ذِي القَعْدَة".

3 -

أنَّ الآيَة مُحْكَمَة في قَول عَطاء.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء:

رَوَى ابن جَرير الطَّبَرِي بإسْنَادِه إلى الليث قال: ثَنا أبو الزَّبير عن جَابر قال: لَم يَكُنْ رَسُول الله يَغْزُو في الشَّهْر الْحَرَام إلَّا أن يُغْزَى، أوْ يَغْزُو حَتى إذا حَضَر ذلك أقَام حتى يَنْسَلِخ

(2)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 43، 44)، وسيأتي قول جابر رضي الله عنه عند ابن جرير.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (3/ 648، 649)، والحديث رواه أحمد (ح 14583) من طريق الليث به.

وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير - وهو محمد بن مُسْلِم بن تَدْرُس - فَمِنْ رجال مسلم، والراوي عنه هو ليث - وهو ابن سعد - وهو لا يَروي عن أبي الزبير إلّا مَا عَلِم أنه سَمِعه مِنْ جَابر.

ص: 65

وأشَارَ إلى الْخِلاف بِقَوله: اخْتَلَف أهْل التَّأوِيل في قَوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)

(1)

؛ هَلْ هُو مَنْسُوخ أم ثَابِت الْحُكْم؟ فَقَال بَعْضُهم: هُو مَنْسُوخ بِقَول اللهِ جَلّ وعزَّ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)، وبِقَولِه:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5].

ثم رَوَى بإسْنَادِه إلى عَطَاء بن مَيْسَرة أنه قَال: أَحَلّ القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام في "بَرَاءة" قَوله: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) يَقُول: فِيهِنّ وفي غَيْرِهِنّ.

وحَكَى ابنُ جَرير عن آخَرِين قَولَهم: بَلْ ذَلك حُكْمٌ ثَابِت لا يَحِلّ القِتَال لأحَد في الأشْهر الْحُرُم بِهَذِه الآيَة، لأنَّ اللهَ جَعَل القِتَال فِيه كَبِيرًا.

ثم رجّح ابنُ جَرير القَوْل بالنَّسْخ، فَقَال:

والصَّواب مِنْ القَوْل في ذَلك مَا قَاله عَطاء بن مَيْسَرة مِنْ أنَّ النَّهْي عن قِتَال الْمُشْرِكين في الأشْهُر الْحُرُم مَنْسُوخ بِقَول اللهِ جَلَّ ثَنَاؤه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)[التوبة: 36]. وإنما قُلْنا ذَلك نَاسِخ لِقَولِه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) لِتَظَاهُر الأخْبَار عَنْ رَسُول الله أنَّه غَزَا هَوازن بِحُنين، وَثَقِيفًا بِالطَّائف، وأرْسَل أبَا عَامِر إلى أوْطاس لِحَرْب مَنْ بِها مِنْ الْمُشْرِكِين في بَعْض الأشْهُر الْحُرُم، وذَلك في شَوَّال وبَعْض ذِي القَعْدَة، وهُمَا مِنْ الأشْهُر الْحُرُم، فَكَان مَعْلُومًا بِذَلك أنه لَو كَان القِتَال فِيهنَّ حَرَامًا وفِيه مَعْصِيَة كَان أبْعَد النَّاس مِنْ فِعْلِه.

ثم ذَكَر حُجَّة أخْرى تَعْضُد القَول بالنَّسْخ، وهي "أنَّ جَمِيع أهْل العِلْم بِسِيَرِ رَسُول الله لا تَتَدَافَع أن بَيعَة الرِّضْوان على قِتَال قُرَيش كَانت في أوَّل ذِي القَعْدَة"

(2)

.

(1)

وقع في طبعة دار هجر: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ) بَدَل أول الآية، وأوّل الآية في القتال في الأشهر الْحُرُم هو المقصود بالنَّسخ. وما أثْبَتَه هو ما في طبعة دار الفِكر.

(2)

يعني: وهو من الأشْهر الْحُرُم.

ص: 66

ثم قَال: فَإذا كَان ذَلك كَذلك، فَبَيِّنٌ صِحَّة مَا قُلْنا في قَولِه:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) وأنه مَنْسُوخ

(1)

.

"وأكْثَر الأقَاويل عَلى أنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَولِه: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة: 5] "

(2)

.

وضَعَّف ابنُ عَطية قَوْل عَطَاء في أنَّ الآيَة مُحْكَمَة، فَقَال: وقَال الزُّهْرِي ومُجَاهِد وغَيْرُهما: قَوله: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) مَنْسُوخ بِقَولِهِ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)[التوبة: 36] وبِقَولِه: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5].

وقال عَطَاء: لم تُنْسَخ، ولا يَنْبَغِي القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم؛ وهَذا ضَعِيف

(3)

.

وذَكَر ابن الجوزي القَولَين، فَقَال: اخْتَلَف العُلَمَاء في تَحْريم القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم، هَلْ هُو بَاقٍ أم نُسِخ؛ على قولين:

أحدهما: أنه بَاقٍ.

والثاني: أنه مَنْسُوخ.

وهذا قَول فُقَهَاء الأمْصَار

(4)

.

في حين اقْتَصَر على القَوْل بالنَّسْخ في "الْمُصَفَّى بأكُفّ أهْل الرّسُوخ مِنْ عِلْم النَّاسِخ والْمَنْسُوخِ"

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (3/ 662 - 664) باختصار.

(2)

قاله الزمخشري في الكشاف (ص 126) وقد ذَكَر بقية الأقوال في المسألة.

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 290).

(4)

زاد المسير (1/ 237) باختصار.

(5)

(ص 18).

ص: 67

وحَكَى الرَّازِي الاتِّفَاق عَلى حُكْم الآيَة والاخْتِلاف في بَقَائه، فَقَال: اتَّفَق الْجُمْهُور عَلى أنَّ حُكْم هَذه الآيَة حُرْمة القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام، ثم اخْتَلَفُوا أنَّ

(1)

ذلك الْحُكْم هل بَقي أم نُسخ؟ فَنُقِل عن ابنِ جُريج أنه قَال: حَلَفَ لي عَطَاء بِالله أنه لا يَحِلّ للنَّاس الغَزْو في الْحَرَم ولا في الأشْهُر الْحُرُم إلَّا عَلى سَبِيل الدَّفْع.

رَوَى جَابِر قَال: لم يَكُنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَغْزو في الشَّهْر الْحَرَام إلَّا أن يُغْزَى

(2)

. وسُئل سَعيد بن المسيب: هل يَصْلُح للمُسْلِمِين أن يُقَاتِلُوا الكُفَّار في الشَّهْر الْحَرَام؟ قَال: نَعَم. قال أبو عُبيد: والنَّاس بالثُّغُور اليَوم جَمِيعًا عَلى هَذا القَوْل، يَرَون الغَزو مُبَاحًا في الشُّهور كُلّها، ولم أرَ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاء الشَّام والعِرَاق يُنكِره عَليهم، كَذلك حَسب قَوْل أهْل الْحِجَاز.

والْحُجَّة في إبَاحَته قَوله تَعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْث وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، وهَذِه الآية نَاسِخَة لِتَحْرِيم القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام.

ثم رجّح الرَّازي عَدَم القَول بالنَّسْخ، إذ يَرى أنَّ الآية في سِيَاق الإثْبَات، فَتَتَنَاول الشَّهْر الْحَرَام الْمُعيَّن والْمُشَار إلَيه في الآيَة، فَقَال:

والذي عِنْدي أنَّ قَوله تَعالى: (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) هذا نَكِرَة في سِيَاق الإثْبَات، فَيَتَنَاول فَرْدًا وَاحِدًا، ولا يَتَنَاول كُلّ الأفْرَاد، فَهَذِه الآيَة لا دَلالَة فِيها عَلى تَحْرِيم القِتَال مُطْلَقا في الشَّهْر الْحَرَام، فلا حَاجَة إلى تَقْدير النَّسْخ فيه

(3)

.

وإلى القول بالنَّسْخ ذَهَب ابن جُزيّ، إلَّا أنَّه نازَع في النَّاسِخ، حَيْث قَال:(قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي: مَمْنُوع، ثم نَسَخَه:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، وذَلك

(1)

هكذا في المطبوع، ولعل العبارة: في ذلك الْحُكْم ....

(2)

سبق تخريجه.

(3)

التفسير الكبير (6/ 28) باختصار. ومعنى قوله هَذا، مَا سَيأتي في قَول الألُوسي "الْمُرَاد بالأشْهر الْحُرُم أشْهُر مُعَيَّنة أُبِيح للمُشْرِكين السِّيَاحَة فِيها".

ص: 68

بَعِيد، فإن (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) عُمُوم في الأمْكنة لا في الأزْمِنة، ويَظْهَر أنَّ نَاسِخَه:(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) بَعْد ذِكْر الأشْهُر الْحُرُم، فَكَان التَّقْدِير: قَاتِلُوا فِيها، ويَدُلّ عَليه:(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). ويُحتَمَل أن يَكُون الْمُرَاد وُقُوع القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام، أي إبَاحَته حَسبما اسْتَقَرّ في الشَّرع، فلا تَكُون الآيَة مَنْسُوخَة، بل نَاسِخَة لِمَا كَان في أوَّل الإسْلام مِنْ تَحْرِيم القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم

(1)

.

وقال الألوسي: والأكْثَرُون على أنَّ هَذا الْحُكْم مَنْسُوخ بِقولِه سُبْحَانَه: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، فإنَّ الْمُرَاد بالأشْهر الْحُرُم أشْهر مُعَيَّنة أُبِيح للمُشْرِكين السِّيَاحَة فيها بقولِه تَعالى:(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)[التوبة: 21]، ولَيْس الْمُرَاد بها الأشْهُر الْحُرم مِنْ كُلّ سَنَة، فالتَّقْيِيد بها يُفِيد أنَّ قَتْلَهم بعد انْسلاخها مَأمُور به في جَمِيع الأمْكِنَة والأزْمِنَة

(2)

.

في حين اقتصر الثعالبي على ذِكر النَّسْخ، فَحَكى عن الزهري ومجاهد وغيرهما في قوله تعالى:(قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أنه مَنْسُوخ

(3)

.

وفَرَّق القاسمي بين حُكْم القِتَال دَفعًا وبَيْن ابْتِدَاء القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام، فَقَال: ولا خِلاف في جَواز القِتَال في الشَّهْر الْحَرَام دَفْعًا، وإنما الْخِلاف أن يُقاتَل فيه ابتداء؛ فالْجُمْهُور جَوَّزُوه، وقالوا: تَحْريم القِتَال فيه مَنْسُوخ، وهو مَذْهَب الأئمَّة الأرْبَعَة

(4)

.

(1)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 78).

(2)

روح المعاني (2/ 108).

(3)

انظر: الجواهر الحسان (1/ 167).

(4)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 148).

ص: 69

‌رأي الباحث:

أنَّ آيَة "البَقَرة" مَنْسُوخَة، وأنَّ القِتَال في الأشْهُر الْحُرُم لا يَحْرُم دفعًا وابْتِداءً.

وأن تَحْرِيم ذَلك كَان في أوَّل الأمْر، ثم نُسِخ، وأُبِيح القِتَال في جَمِيع الأزْمِنَة.

وهو قَول جَمَاهِير العُلَمَاء مِنْ الْمُفَسِّرين والفُقَهَاء

(1)

، فقد أخْرَج ابن أبي شيبة

(2)

وعبدُ بن حُميد

(3)

وأبو داود في ناسِخِه عن قَتادة أنَّ قَوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[البقرة: 191]، وقَولَه:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)[البقرة: 217]، فَكان كَذلك حَتى نَسَخ هَاتين الآيَتَين جَمِيعًا في "بَرَاءة" قَوله:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) و (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)

(4)

.

ورَوَى البيهقي مِنْ طريق أبي إسحاق قال: سَألتُ سُفيان عن قَولِ الله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) قال: هَذا شَيء مَنْسُوخ، وقد مَضَى، ولا بَأس بالقِتَال في الشَّهْر الْحَرَام وغَيره

(5)

.

قَال الشنقيطي في قَوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا)[البقرة: 190] مَا نَصّه:

هذه الآية تَدُلّ بِظاهِرِها على أنَّهُم لم يُؤمَروا بِقتَال الكُفَّار إلَّا إذا قَاتَلوهُم، وقَد جَاءت آيَات أُخَر تَدُلّ عَلى وُجوبِ قِتَال الكُفَّار مُطْلَقًا؛ قَاتَلُوا أم لا، كَقوله تَعالى:

(1)

وإن كان ابن القيم نَصَر القول بِعَدم النَّسْخ وأنّ الآية مُحكمة، وذلك في مَوضِعَين من "زاد المعاد"(3/ 341، 391).

(2)

المصنَّف (ح 36652).

(3)

لم أقِف عليه. وكذلك الذي يَليه.

(4)

فتح القدير، الشوكاني (1/ 192).

(5)

السنن الكبرى (ح 17526).

ص: 70

(وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)[البقرة: 193]، قَوله:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)[التوبة: 5]، وقَوله تَعالى:(تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)[الفتح: 16].

والْجَوَاب عن هَذه بأمُور:

الأوَّل: - وهو مِنْ أحْسَنها وأقْرَبها - أنّ الْمُرَاد بِقَوله: (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) تَهْيِيج الْمُسْلِمِين، وتَحْرِيضهم على قِتَال الكُفَّار، فَكأنَّه يَقُول لَهُمْ: هَؤلاء الذين أمَرْتُكم بِقِتَالِهِم هُمْ خُصُومُكم وأعْدَاؤكم الذين يُقَاتِلُونَكم. ويَدُلّ لِهَذا الْمَعْنَى قَوله تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)[التوبة: 36]، وخَيْر مَا يُفَسّر بِه القُرْآن القُرآن.

الوَجْه الثَّاني: أنها مَنْسُوخَة بِقَوله تَعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين حَيْثُ وَجْدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، وهَذا مِنْ جِهَة النَّظَر ظَاهِر حَسَن جِدًّا.

الوَجهُ الثَّالِث: - وهو اخْتِيَار ابن جرير - ويَظهر لي أنه الصَّواب: أنّ الآية مُحْكَمة، وأنّ مَعْنَاهَا: قَاتِلُوا الذين يُقَاتِلونكم، أي: مَنْ شَأنهم أن يُقَاتِلُوكم، أمَّا الكَافِر الذي لَيس مِنْ شأنه القِتَال كالنِّساء، والذَّراري، والشّيوخ الفانية، والرُّهبان، وأصْحَاب الصَّوامِع، ومَن ألْقَى إلَيْكُم السَّلَم؛ فلا تَعْتَدُوا بِقِتَالِهم؛ لأنهم لا يُقَاتِلُونَكُم، ويَدلّ لِهذا الأحَادِيث الْمُصَرَّحَة بالنَّهْي عن قِتَال الصَّبي، وأصْحَاب الصَّوامِع، والْمَرْأة، والشَّيْخ الْهَرِم إذا لم يُستَعَن بِرأيه

(1)

، أمَّا صَاحِب الرَّأي فيُقْتَل كَدُرَيدِ بن الصِّمَّة، وقَد فَسَّرَ هذه الآية بهذا الْمَعْنَى عُمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري

(2)

(1)

مِنْ ذلك مَا رَوَاه مسلم (ح 1731) وفيه: كان رَسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جَيْش أوْ سَرِيَّة أوْصَاه في خَاصَّتِه بتَقْوَى الله ومَن مَعه مِنْ الْمُسْلِمِين خَيرًا، ثم قال: اغْزُوا بِاسْم الله في سبيل الله، قَاتِلوا مَنْ كَفَرَ بِالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تُمثّلُوا ولا تَقْتُلُوا وَليدًا. ومَا رَواه البخاري (ح 2852)، ومسلم (ح 1744) أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن قَتْل النِّسَاء والصِّبْيَان.

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 27، 28) باختصار يسير.

ص: 71

‌المثال الرابع:

الإكْرَاه في الدِّين وقِتَال الكَافِرِين:

قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256] مع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 73].

‌صورة التعارض:

أنَّ آيَة "البقرة" فِيها عَدم الإكْرَاه، وآيَة التَّوبَة فيها الإكْرَاه والإغْلاظ.

و "لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أكْرَه العَرب على دِين الإسْلام وقَاتَلَهم، ولم يَرضَ مِنهم إلَّا بالإسْلام"

(1)

.

‌جَمْع القرطبي:

قال القرطبي: اخْتَلَف العُلَمَاء في مَعْنَى هَذه الآيَة على سِتَّة أقْوال:

الأوَّل: قِيل: إنها مَنْسُوخَة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أكْرَه العَرَب على دِين الإسْلام، وقَاتَلهم ولَم يَرضَ مِنهم إلَّا بالإسْلام، قَاله سُليمان بن موسى. قَال نَسَخَتْها:(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)[التوبة: 73]، ورُوي هَذا عَنْ ابنِ مَسعود وكَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِين.

الثَّاني: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَة، وإنما نَزَلَتْ في أهْل الكِتَاب خَاصَّة، وأنهم لا يُكْرَهُون على الإسْلام إذا أدَّوا الْجِزْية، والذين يُكْرَهُون أهل الأوْثَان، فلا يُقْبَل مِنْهم إلَّا الإسْلام، فَهُمْ الذين نَزَل فِيهم:(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) .... والْحُجَّة لهذا القَول مَا رَواه زَيد بن أسْلَم عن أبيه قال: سَمِعْتُ عُمر بن الخطاب يَقُول لِعَجُوز نَصْرَانِيَّة:

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 268). والمراد بالإكراه عدم قبول غير الإسلام، وقتالهم على ذلك. وسيأتي في تفسير الآية ما يُوضِّح المراد.

ص: 72

أسْلِمي أيتها العَجُوز تَسْلَمِي، إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بالْحَقّ. قَالتْ: أنا عَجُوز كَبِيرَة والْمَوت إليّ قَرِيب! فَقَال عُمر: اللهم اشْهَد

(1)

، ولا:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).

الثَّالِث: مَا رَوَاه أبو دَاود

(2)

عَنْ ابن عباس قَال: نَزَلَتْ هذه في الأنْصَار، كَانَتْ تَكُون الْمَرْأة مِقْلاتًا، فَتَجْعَل على نَفْسِها إن عَاش لها وَلَد أن تُهَوِّده، فلما أُجْلِيتْ بَنَو النَّضِير كَان فِيهم كَثير مِنْ أبْنَاء الأنْصَار، فَقَالُوا: لا نَدَع أبْنَاءنَا، فأنْزَل اللهُ تَعالى:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). قَال أبو دَاود: والْمِقْلات التي لا يَعِيش لَها وَلَد.

قال النَّحَّاس: قَول ابنِ عَباس في هَذه الآيَة أوْلى الأقْوال لِصِحَّة إسْنَادِه، وأنَّ مِثْلَه لا يُؤخَذ بالرَّأي.

الرابع: قال السُّدّي: نَزَلَتْ الآيَة في رَجُل مِنْ الأنْصَار يُقَال لَه أبو حصين

(3)

، كَان له ابْنَان، فَقَدِم تُجَّار مِنْ الشَّام إلى الْمَدِينَة يَحْمِلُون الزَّيْت، فَلَمَّا أرَادُوا الْخُرُوج أتَاهُم ابْنَا الْحُصَين فَدَعَوهما إلى النصرانية فَتَنَصَّرا ومَضَيا مَعَهم إلى الشَّام، فأتى أبُوهما رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مُشْتَكِيًا أمْرَهما، ورَغِبَ في أن يَبْعَثَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يَرُدّهما، فَنَزَلَتْ:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)

(4)

، ولم يُؤمر يَومَئذٍ بِقِتَال أهْل الكِتَاب، ثم إنه نُسِخَ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، فأُمِرَ بِقِتَال أهْل الكِتَاب في سُورة بَراءة.

الْخَامِس: وقِيل: مَعْنَاها: لا تَقُولُوا لِمَنْ أسْلَم تَحْت السَّيْف مُجْبَرًا مُكْرَهًا.

(1)

إلى هنا رواه الدارقطني في (السنن (ح 63، 64).

(2)

(ح 2682)، ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(3/ 14).

(3)

في الإصابة، ابن حجر (7/ 77): أبو حُصَين الأنْصَارِي السَّالِمِي. وَقَع ذِكْرُه في كتاب "أحْكَام القُرْآن" لإسْمَاعِيل القَاضِي مِنْ طَرِيق أسْبَاط بن نصر عن السدي، أسْنَدَه إلى رَجُل مِنْ قَومِه أنَّ أبا الْحُصَين كان له ابنان فَقَدِم تُجَّار مِنْ الشَّام إلى الْمَدِينَة فَتَنَصَّرَا ولَحِقَا مَعهم بالشَّام .... فَذَكَرَه. ويُنظَر (2/ 82، 83) مِنْه.

(4)

قال عبد الرزاق المهدي: أخرجه ابن جرير عن السُّدّي، وهذا مُعْضَل لا حُجّة فيه. وَفَاتَه أنَّ ابن جرير رَوَاه قَبْل ذلك (3/ 14) عن ابن عباس مُخْتَصَرًا.

ص: 73

السَّادِس: أنها وَرَدَتْ في السَّبْي مَتَى كَانُوا مِنْ أهْل الكِتَاب لَم يُجْبَرُوا إذا كَانُوا كِبَارًا، وإن كَانُوا مَجُوسًا

(1)

صِغَارًا أو كِبَارًا، أوْ وَثَنِيِّين فَإنهم يُجْبَرُون عَلى الإسْلام .... فأمَّا سَائر أنْوَاع الكُفْر مَتى بَذَلُوا الجِزْيَة لم نُكْرِههم على الإسْلام، سَواء كَانُوا عَرَبًا أم عَجَمًا، قُرَيْشًا أوْ غَيرهم

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ آيَة "البقرة" مَنْسُوخَة ورُوي هَذا عَنْ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِين.

2 -

أنها خَاصَّة في أهْل الكِتَاب.

3 -

أنها نَزَلتْ في الأنْصَار، وأنهم أرَادُوا إكْرَاه أوْلادَهم الْمُسْتَرْضَعِين في اليَهُود.

4 -

نَزَلتْ في رَجُل مِنْ الأنْصَار.

5 -

لا تَقُولُوا لِمَنْ أسْلَم تَحْت السَّيف مُجْبَرًا مُكْرَهًا.

6 -

أنها وَرَدَتْ في سَبْي أهْل الكِتَاب، وأنهم لا يُجْبَرُون.

(1)

قال قتادة: ولا يُكْرَه اليَهُودي ولا النَّصْرَاني ولا الْمَجُوسِيّ إذا أعْطَوا الجزية (تفسير عبد الرزاق 1/ 102) وروى مالك في الموطأ (ح 616) ومن طريقه الشافعي في مُسنده (ص 209)، وفي الأم (4/ 174) عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن عُمر بن الخطاب ذَكَرَ الْمَجُوس، فقال: ما أدري كَيف أصْنَع في أمْرِهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشْهَد لَسَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سُنُّوا بِهم سُنَّة أهْل الكِتَاب.

قال في الأم (4/ 174): إن كان ثابتًا فَنُفْتِي في أخْذ الْجِزْية؛ لأنهم أهْل كِتَاب، لا أنه يُقال: إذا قَال: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكِتاب - والله تعالى أعلم - في أن تُنكح نساؤهم، وتُؤكَل ذبائحهم. اهـ.

والحديث ثابت كما في صحيح البخاري (ح 2987)؛ فالشافعي إذًا يُفْتي به.

وقال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 172): وهذا الأثر المشهور عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب، فَحَمَله أهل العلم مع الاستدلال برواية بِحَالة على الجزية، فهم مُلْحَقون بهم في حَقْن الدّم بالْجِزْية دون غيرها. ويُنظَر:"الاسْتِذْكَار"، ابن عبد البر (3/ 241) وما بعدها، و"تفسير ابن كثير"(5/ 80)، و "أحْكَام أهْل الذِّمَّة"، ابن القيم (1/ 81) وما بعدها.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 269) باختصار.

ص: 74

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء

أطَال ابنُ جرير في تَقْرِير حُكْم آية "البقرة"، فَقَال - بَعْد أنْ ذَكَر الأقْوَال فِيها -: وأوْلى هَذه الأقْوَال بالصَّوَاب: قَوْل مَنْ قَال: نَزَلَتْ هَذه الآيَة في خَاصٍّ مِنْ النَّاس، وقَال: عَنَى بِقَولِه تَعالى ذِكْرُه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أهْل الكِتَابَين والْمَجُوس، وكُلّ مَنْ جاء إقْرَاره عَلى دِينِه الْمُخَالِف دِين الْحَقّ، وأَخْذ الْجِزْيَة مِنه.

وأَنْكَرُوا أن يَكُون شَيء مِنْها مَنْسُوخًا.

وإنما قُلْنا هَذا القَوْل أوْلى الأقْوال في ذلك بالصَّوَاب لِمَا قَدْ دَلَّلْنا عَليه ..... مِنْ أنَّ النَّاسِخِ غَير كَائن نَاسِخًا إلَّا مَا نَفَى حُكْم الْمَنْسُوخ، فلم يَجُز اجْتِمَاعُهما.

فأمَّا مَا كَان ظَاهِره العُمُوم مِنْ الأمْرِ والنَّهي، وبَاطِنه الْخُصُوص فَهو مِنْ النَّاسِخ والْمَنْسُوخ بِمَعْزِل

(1)

.

وإذْ كَان ذَلك كَذَلك وكَان غَير مُسْتَحِيل أن يُقَال: لا إكْرَاه لأحَد مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنه الْجِزْية في الدِّين، ولم يَكُنْ في الآيَة دَلِيل عَلى أنَّ تَأوِيلَها بِخِلاف ذَلك، وكَان الْمُسْلِمُون جَمِيعًا قَدْ نَقَلوا عَنْ نَبِيِّهم أنه أَكْرَه عَلى الإسْلام قَوْمًا فَأبَى أن يَقْبَل مِنهم إلَّا الإسْلام، وحَكَم بِقَتْلِهم إن امْتَنَعُوا مِنه، وذَلك كَعَبَدَةِ الأوْثَان مِنْ مُشْرِكي العَرَب، وكالْمُرْتَدّ عَنْ دِينه دِين الحقّ إلى الكُفْر، ومَن أشْبَههم، وأنه تَرَك إكْرَاه آخَرِين عَلى الإسْلام بقَبولِه الْجِزْية مِنه، وإقْرَاره عَلى دِينِه البَاطِل، وذلك كَأهْلِ الكِتَابَيْن ومَن أشْبَهَهم؛ كان بَيِّنًا بذلك أنّ مَعنى قَوله:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) إنما هو: لا إكْرَاه في الدِّين لأحَد مِمَّنْ حَلّ قَبول الْجِزْية مِنه بأدَائه الْجِزْية، ورِضَاه بِحُكْم الإسْلام.

ولا مَعْنَى لقَوْل مَنْ زَعَم أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة الْحُكم بالإذْن بالْمُحَارَبَة

(2)

.

(1)

يُنظر لهذه المسألة الأصُولِيَّة: شرح مُخْتَصَر الرَّوْضة، مرجع سابق (2/ 584 - 587).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 553، 554) باختصار.

ص: 75

في حِين اخْتَصَر السَّمَرْقَندي الْجَوَاب بِقَولِه: يَعْنِي: لا تُكْرِهُوا في الدِّين أحَدًا بَعْد فَتْح مَكَّة، وبَعْد إسْلام العَرَب. (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) يَعْنِي: قَدْ تَبَيَّن الْهُدَى مِنْ الضَّلالَة ويقال: قَدْ تَبيّن الإسْلام مِنْ الكُفْر، فَمَنْ أسْلَم وإلَّا وُضِعتْ عليه الْجِزْية، ولا يُكْرَه على الإسْلام

(1)

.

فهو لم يَذكر نَسْخًا في الآية، وإنما ذَكَر تَخْصِيصًا لِمَعْنَاهَا.

وأما السَّمعاني فَذَكَر قَول ابن عباس في سَبَب نُزُول الآيَة

(2)

، ونَقَل عن الشَّعبي قَوله: هَذا في أهْل الكِتَاب، لا يُجْبَرُون على الإسْلام إذا بَذَلُوا الْجِزْيَة. ثم قَال: وفِيه قَول ثَالِث: أنه كَان في الابْتِدَاء، ثم صَار مَنْسُوخًا بآيَة القِتَال

(3)

.

وذَكَر الثعلبي أقوالًا في الآية، فَذَكَر قول مُجاهِد: وكان هذا قَبل أن يُؤمَر رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِقِتَال أهل الكِتَاب، ثم نُسِخ قوله:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وأُمِر بِقِتَال أهْل الكِتَاب في سُورة بَراءة.

ثم قال الثعلبي: وهَكذا قَال ابن مسعود وابن زيد إنها مَنْسُوخَة بآيةِ السَّيف، وقَال البَاقُون: هي مُحْكَمَة

(4)

.

"ومَعْنَى الآيَة: لا تَقُولُوا لِمَنْ دَخَل بعد الْحَرْب في الإسْلام أنه دَخَل مُكْرَها، ولا تَنْسِبُوا مَنْ

(5)

دَخَل في الإسْلام إلى الكُرْه"

(6)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 195).

(2)

تقدّم قول ابن عباس رضي الله عنهما، وتقدم تخريجه.

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 260).

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (2/ 234).

(5)

في المطبوع: (فَمَنْ) وهو خطأ فيما يظهر.

(6)

الكشف والبيان، مرجع سابق (2/ 236).

ص: 76

وذَكَر البَغَوي في الآيَة ثَلاثَة أقْوَال، وكأنه ضَعَّف القَوْل بِالنَّسْخ، فإنه قَال بَعْد سِيَاق الأقْوَال في الآيَة: وقِيل: كَان هَذا في الابْتِدَاء قَبْل أن يُؤمَر بالقِتَال، فَصَارَتْ مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيف، وهَو قَول ابن مسعود رضي الله عنه

(1)

.

وقال ابن عطية: ويَلْزَم عَلى هَذا أنَّ الآيَة مَكِّيَّة، وأنها مِنْ آيَات الْمُوادَعَة التي نَسَخَتْها آيَة السَّيف. وقال قَتادة والضحاك بن مُزاحم: هَذه الآيَة مُحْكَمَة خَاصَّة في أهْل الكِتَاب الذين يَبْذُلُون الْجِزْيَة ويُؤدُّونها عن يَدٍ صُغرة. وذَكَر قَول ابن عباس وقول السُّدّي

(2)

.

وقال النسفي: أي: لا إجْبَار عَلى الدِّين الْحَقّ، وهو دِين الإسْلام. وقِيل: هو إخْبَار في مَعْنَى النَّهْي

(3)

.

وأبَان ابنُ جُزي الْمَعْنَى بِقَولِه: الْمَعْنَى أنَّ دِين الإسْلام في غَاية الوُضُوح، وظُهُور البَرَاهِين عَلى صِحَّتِه، بِحَيث لا يَحْتَاج أن يُكْرَه أحَد عَلى الدُّخُول فِيه، بل يَدْخُل فِيه كُلّ ذِي عَقل سَليم مِنْ تِلْقَاء نَفْسِه دُون إكْرَاه، ويَدُلّ عَلى ذَلك قَوله:(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، أي: قَدْ تَبَيَّن أنَّ الإسْلام رُشْد، وأنّ الكُفْر غَيّ، فلا يَفْتَقِر بَعد بَيَانِه إلى إكْرَاه.

وضَعَّفَ القَول بالنَّسْخ، حيث قَال: وقِيل: مَعْنَاها الْمُوادَعَة، وأنْ لا يُكْرَه أحَد بالقِتَال عَلى الدّخُول في الإسْلام، ثم نُسِخَتْ بالقِتَال، وهذا ضَعِيف لأنها مَدَنية، وإنما آيَة الْمُسَالَمَة وتَرْك القِتَال بِمَكَّة

(4)

.

(1)

معالم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 240).

(2)

الْمُحرَّر الوجيز، مرجع سابق (1/ 343).

(3)

مدارك التنْزيل، مرجع سابق (1/ 125).

(4)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 90).

ص: 77

وبِنَحْو الْمَعْنَى الأوَّل الذي ذَكَره ابن جُزيّ قال ابن كثير، ورَجَّح عُمُوم الْحُكْم لا اخْتِصَاصه بِسَبب النُّزُول، فَقَال: وقَد ذَكَرُوا أنّ سَبَب نُزُول هَذه الآيَة في قَوم مِنْ الأنْصار، وإنْ كَان حُكْمها عَامًّا

(1)

.

وقال بَعد ذِكْر الرِّوَايات في سَبَب نُزُول الآيَة مَا نَصّه: وقد ذَهَب طَائفَة كَثِيرَة مِنْ العُلَمَاء أنَّ هَذه مَحْمُولَة على أهْل الكِتَاب، ومَن دَخَلَ في دِينِهم قَبْل النَّسْخ والتَّبْدِيل، إذا بَذَلُوا الْجِزْية.

وقَال آخَرُون: بل هي مَنْسُوخَة بِآيَة القِتَال، وأنه يَجِب أن يُدْعَى جَميع الأمَم إلى الدُّخول في الدِّين الْحَنِيف - دِين الإسْلام - فإن أَبَى أحَدٌ مِنهم الدُّخُول فيه، ولم يَنْقَد لَه أو يَبذُل الْجِزْيَة قُوتِل حتى يُقْتَل، وهذا مَعْنَى الإكْرَاه

(2)

.

ونَبّه القاسمي عَلى أنّ "سَيْف الْجِهَاد الْمَشْرُوع في الإسْلام، والذي لا يُبْطِله عَدْل عادِل، ولا جَوْر جَائر؛ لم يُسْتَعْمَل للإكْرَاه عَلى الدُّخول في الدِّين، ولَكِن لِحِمَايَة الدَّعْوة إلى الدِّين، والإذْعَان لِسُلْطَانِه، وحُكْمِه العَدْل"

(3)

.

‌رأي الباحث:

أن آية "البقرة" مُحْكَمَة، وهو قَول كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرين، وهو اخْتِيَار ابن جرير.

والْجَوَاب عن التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم:

أن يُقَال:

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 444).

(2)

المرجع السابق (2/ 446).

(3)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 236).

ص: 78

"هَذه الآيَة في خُصُوص أهْل الكِتَاب، والْمَعْنَى أنهم قَبْل نُزُول قِتَالِهِم لا يُكْرَهُون عَلى الدِّين مُطْلقًا، وبَعد نُزُول قِتَالِهم لا يُكْرَهُون عَليه إذا أعْطَوا الجزية عن يَدٍ وهُم صَاغِرُون، والدَّليل على خُصُوصِها بِهم

(1)

قَول ابن عباس رضي الله عنهما.

ومَعْنَى الآيَة دَالّ عَلى ذلك، كَمَا تقدّم.

ويُمْكِن أن يُقَال في آيَة "البَقَرة": لا إكْرَاه في الدِّين مِنْ نَاحِية إدْخَال الإيمَان إلى القُلُوب، لِمَّا عُلِّل به الْحُكْم في قَولِه تَعالى:(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256]، وهذا كَقَولِه تَعالى لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم:(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[القصص: 56]، مَع كَوْنِه تبارك وتعالى أثْبَتَ لَه نَوعًا مِنْ الْهِدَاية في قَوله:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52]. ومِمَّا يُبَيِّنْ الْمَعْنى الْمُرَاد قَوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99].

فالنَّهْي هُنا عَنْ الإكْرَاه عَلى الإيمَان لِمَنْ لَم يَدْخُل قَلْبه الإيمان، كأنه يُقَال: إذا تَبيّن الرُّشْد مِنْ الغَيّ فَلا يَتَنَكَّب الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم إلَّا شَقِيّ.

‌المثال الخامس:

حَقّ التَّقْوى، أو التَّقْوى مَع الاسْتِطَاعَة:

قَوله تَعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عمران: 102] مع قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16].

‌صورة التعارض:

أنَّ الآيَة الأُولى أمَرَ الله فِيها بالتَّقْوَى حَقّ التَّقْوى، وفي الآيَة الثَّانِيَة الأَمْر بِالتَّقْوَى حَسب الاسْتِطَاعَة.

(1)

قاله الشنقيطي في "دفع إيهام الاضطراب"(ص 32).

ص: 79

‌جَمْع القرطبي:

قال القُرْطُبي: وذَكَر الْمُفَسِّرون أنه لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة قَالُوا: يَا رَسُول الله مَنْ يَقْوَى عَلى هَذا؟ وشَقّ عَليهم، فأنْزَل اللهُ عز وجل:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16] فَنَسَخَتْ هَذه الآيَة؛ عن قتادة والربيع وابن زيد

(1)

. قال مُقَاتِل: ولَيس في آلِ عِمْرَان مِنْ الْمَنْسُوخ شَيء إلَّا هَذه الآيَة.

وقيل: إنَّ قَوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16] بَيَان لِهَذه الآيَة، والْمَعْنَى: فاتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِه مَا اسْتَطَعْتُم، وهَذا أصْوَب؛ لأنَّ النَّسْخ إنما يَكُون عِنْد عَدَم الْجَمْعِ، والْجَمع مُمْكِن، فهو أوْلى. وقَد رَوَى عَلي بن أبي طلحة عن ابن عباس قَال: قَوله عز وجل: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عمران: 102] لم تُنْسَخ، ولَكِن حَقّ تُقَاتِه أن يُجَاهِد في سَبِيل الله حَقَّ جِهَادِه، ولا تأخُذْكم في اللهِ لَومَة لائم، وتَقُومُوا بالقِسْط ولَو على أنْفُسِكُم وأبْنَائكُم. قال النحاس: وكُلَّما ذُكِر في الآيَة وَاجِب عَلى الْمُسْلِمِين أن يَسْتَعْمِلُوه ولا يَقَع فيه نَسْخ

(2)

.

وقال في تَفْسِير سُورة التغابن:

ذَهَب جَمَاعَة مِنْ أهْل التَّأوِيل إلى أنَّ هَذه الآيَة نَاسِخَة لِقَولِه تَعَالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عمران: 102].

وقيل: هي مُحْكَمَة لا نَسْخَ فيها.

ثم ذَكَرَ قول ابن عباس السابق.

وذَكَر إشْكَالًا في الْجَمْع بين الآيَتَين، فَقَال: فإن قِيل: فإذا كَانَتْ هَذه الآيَة مُحْكَمَة غير مَنْسُوخة، فَمَا وَجْه قَوله في سُورَة التغابن:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16]؟ وكَيف يَجُوز اجْتِمَاع الأمْر باتِّقَاء الله حَقّ تُقَاتِه والأمْر باتِّقَائه مَا

(1)

انظر هذه الأقوال في "جامع البيان"(5/ 642، 643).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 154، 155).

ص: 80

اسْتَطَعْنا؟ والأمْر باتِّقَائه حَقّ تُقَاته إيجَاب القُرْآن بِغَير خُصُوص ولا وُصِلَ بِشَرْط، والأمْر باتِّقائه مَا اسْتَطَعْنَا أمْر باتِّقائه مَوْصُولًا بِشَرْط؟

قِيل لَه: قَوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16] مِمَّا دَلّ عَليه قَوله تَعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عمران: 102]، وإنما عَنَى بِقَولِه:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فَاتَّقُوا الله أيُّهَا النَّاس ورَاقِبُوه فِيمَا جَعَل فِتْنَة لَكُمْ مِنْ أمْوَالِكُم وأوْلادِكُم أن تَغْلِبكُم فِتْنَتُهم وتَصُدّكُم عن الوَاجِب لله عَليكم مِنْ الْهِجْرَة مِنْ أرْض الكُفْر إلى أرْض الإسْلام، فَتَتْرُكُوا الْهِجْرَة (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بِمَعْنَى: وأنتم للهِجْرة مُسْتَطِيعين

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ آيَة "آلِ عِمْران" لَيْسَتْ مَنْسُوخَة، وإن كَان قَدْ قِيل بالنَّسْخ؛ لأنَّ النَّسْخ إنما يَكُون عِند عَدَم الْجَمْع، والْجَمْع مُمْكِن؛ فهو أوْلى

(2)

.

2 -

أنَّ الأمْر بَتَقْوَى الله حَقّ تُقَاتِه لا يُعَارِضُه الأمْر بالتَّقْوى حَسب الاسْتِطَاعة، لأنَّ الآيَة الثَّانِيَة في سِيَاق الفِتْنَة بالْمَال والأهْل والوَلد، فَقَد تَقَدَّمَها قَوله تَعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التغابن: 14، 15]، ثم إنَّ الْمُسْلِم مَأمُور أن يَأتي مِنْ العَمَل مَا يَسْتَطِيع، ولا يُكَلَّف إلَّا مَا يَسْتَطِيع.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء:

مِمَّنْ حَكَى القَولين - النَّسْخ والإحْكَام -: ابن جرير الطبري، فإنه قَال في آيَة "آل عمران": اخْتَلَف أهْل التأويل في هَذه الآيَة: هَلْ هي مَنْسُوخَة أم لا؟

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (18/ 129).

(2)

وإليه ذهب الشوكاني في "فتح القدير"(1/ 367).

ص: 81

فَقَال بَعْضُهم: هي مُحْكَمة غير مَنْسُوخَة.

وقال آخَرُون: هي مَنْسُوخَة، نَسَخَها قَوله:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

(1)

.

وكأنه رَجَّح القَوْل بالنَّسْخ حَيث أكْثَر مِنْ الرِّوَاية عن القَائِلين بالنَّسْخ، في حِين اقْتَصَر عَلى رِوايَتَين فِيما يَتَعَلَّق بالقَوْل الأوَّل، وهو أنها مُحْكَمَة.

وأَلْمَحَ أبو الليث السمرقندي إلى القَول بالنَّسْخ، فَقَال: قَوله تَعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) يَقُول: أطِيعُوا الله حَقّ طَاعَته، وحَقّ طَاعَته أن يُطَاع فلا يُعْصَى طَرْفَة عَين، وأن يُشْكَر فَلا يُكْفَر طَرْفَة عَين، وأن يُذكَر فلا يُنْسَى طَرْفَة عَين، فَشَقّ ذلك على الْمُسْلِمِين، فأنْزَل اللهُ تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فَنَسَخَتْ هَذه الآيَة ....

وقال بَعْضُهم: لا يَجُوز أن يُقَال هَذه الآيَة مَنْسُوخة؛ لأنه لا يَجُوز أن يأمُرَهم بشَيء لا يُطِيقُونَه بل إنهم يُطِيقُونَه ولَكِن تَلْحُقُهم مَشَقَّة شَدِيدَة، وكَان ذَلك مَجْهُود الطَّاقَة، ولا يَسْتَطِيعون الدَّوَام عَليه، واللهُ تَعالى لا يُكَلِّف عِبَادَة إلَّا دُون ما يُطِيقُونَه، فَخَفَّفَ عنهم بِقوله تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ولم يُنْسَخ آخِر الآيَة، وهو قَوله تعالى:(وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يَعني: اثبُتُوا عَلى الإسْلام، وكُونُوا بِحَالِ يَلْحَقكم الْمَوت، وأنْتم عَلى الإسْلام

(2)

.

وجَمَع السمعاني بَيْن آية "آل عِمْران" وآيَة "الطَّلاق" بِأنَّ إحْدَى الآيَتَين مُوافِقَة للأخْرَى ودَفَعَ القَول بالنَّسْخ، فأوْرَد قول قتادة: الآين مَنْسُوخَة بِقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، ثُم قَال:

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 641) باختصار.

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 259).

ص: 82

قَال أهْل الْمَعَاني: لا يَسْتَقِيم النَّسْخ فِيه، وقَوله:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تَفْسِير لِهَذِه الآيَة؛ لأنَّ مَنْ أطَاع الله في وَقت وُجُوب الطَّاعة، وذَكَرَه في وَقت وُجوب الذِّكْر، وشَكَرَه في مَوضِع وُجُوب الشُّكر، فقد اتَّقَى الله حَقّ تُقَاتِه. وهَذا لم يَصِرْ مَنْسُوخًا.

وقَوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) مُوافِق لَه، لأنَّ التَّقْوَى إن كَان في مَوْضِع الأمْر والوُجُوب والأوَامِر والوَاجِبَات عَلى قَدْر الاسْتِطاعة؛ فَتَكُون إحْدَى الآيَتَين مُوافِقَة للأُخْرَى، فَلا يَسْتَقِيم فِيه النَّسْخ

(1)

.

وأشَار الثعالبي إلى النَّسْخ فَحَكَى عَنْ الزَّجَّاج قَوله: أي: اتَّقُوا فِيمَا يَحِقّ عَليكم أن تَتَّقُوه، واسْمَعُوا وأطِيعُوا.

ثم قَال: قَال الْمُفَسِّرُون: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة قَالُوا

(2)

: يا رَسُول الله ومَن يَقْوى على هَذا؟ وشَقّ عَليهم، فأنزل الله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فَنَسَخَتْ هذه الآية.

قال مُقَاتِل: ولَيس في "آل عمران" مِنْ الْمَنْسُوخ إلَّا هَذا. (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قَال طَاوس: مَعْنَاه: اتَّقُوا الله حَقّ تُقَاتِه، وإن لَم تَفْعَلُوا ولَم تَسْتَطِيعُوا فَلا

(3)

تَمُوتن إلَّا وأنْتُم مُسْلِمُون

(4)

.

في حين اقتَصَر البَغوي على ذِكر القَول بالنَّسْخ، حيث قَال: قَال أهْل التَّفْسِير: لَمَّا نَزَلَت هَذه الآيَة شَقَّ ذلك عَليهم، فَقَالُوا: يا رَسُول الله ومَن يَقْوَى عَلى هَذا؟

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 345).

(2)

يَعني الصَّحَابَة.

(3)

في المطبوع (ولا) والتصحيح من جامع البيان (5/ 641).

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 161).

ص: 83

فأنْزَل اللهُ تَعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فَنَسَخَتْ هَذه الآيَة. وقَال مُقَاتِل: لَيْس في "آل عِمران" مِنْ الْمَنْسُوخ إلَّا هَذه الآيَة

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة "الطَّلاق" مَا نَصّه:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي أطَقْتُم. هَذِه الآيَة نَاسِخَة لِقولِه تَعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)

(2)

.

ورجّح ابنُ عَطية عَدَم النَّسْخ، حَيْث قَال: واخْتَلَف العُلَمَاء في قَوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ)، فَقَالَتْ فِرْقَة: نَزَلَتْ الآيَة عَلى عُمُوم لَفْظِها، وأُلْزِمَت الأُمَّة أن تَتَّقِي الله غَايَة التَّقْوَى حَتَّى لا يَقَع إخْلال في شَيء مِنْ الأشْيَاء، ثُمّ إنَّ الله نَسَخَ ذلك عَنْ الأمَّة بِقَوله تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وبِقَولِه:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286].

وقَالَت جَمَاعَة مِنْ أهْل العِلْم: لا نَسْخ في شَيء مِنْ هَذا، وهَذه الآيَات مُتَّفِقَات، فَمَعْنَى هَذِه: اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتَه فِيمَا اسْتَطَعْتُم، وذَلك أن حَقّ تُقَاتِه هو بِحَسب أوَامِره ونَوَاهيه، وقد جَعَل تَعالى الدِّين يُسْرًا؛ وهَذا هُو القَول الصَّحِيح، وألّا يَعْصِي ابن آدَم جُمْلَة لا في صَغِيرَة ولا في كَبِيرَة، وألَّا يَفْتُر في العِبَادَة أمر مُتَعَذِّر في جِبِلّة البَشَر، ولَو كَلَّف الله هَذا لَكَان تَكلِيف مَا لا يُطَاق، ولم يَلْتَزِم ذلك أحَد في تَأويل هَذه الآيَة، وإنما عَبَّرُوا في تَفْسِير هَذه الآيَة بأنْ قَال ابن مسعود رضي الله عنه: حَق تُقَاتِه: هو أن يُطَاع فلا يُعْصَى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر، ويُذْكَر فلا يُنْسَى. وكَذلك عَبَّر الربيع بن خثيم وقتادة والحسن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مَعْنَى قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج: 78] ولا نَسْخ في الآيَة.

وقال طَاوس في مَعْنَى قَوله تَعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ): يَقُول تَعالى: إن لَم تَتَّقُوه ولَم تَسْتَطِيعُوا ذَلك فَلا تَمُوتُنّ إلَّا وأنْتُم

(1)

معالم التنزيل، مرجع سابق (1/ 333).

(2)

المرجع السابق (4/ 354).

ص: 84

مُسْلِمُون). وقَوله تَعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مَعْنَاه: دُومُوا عَلى الإسْلام حَتى يُوافِيكُم الْمَوْت وأنْتم عليه. هَكَذا هُو وَجْه الأمْر في الْمَعْنَى

(1)

.

وأمَّا الرَّازي فَقَد أطَال النَّفَس في رَدّ دَعْوى النَّسْخ، فَقَال: قَال بَعْضُهم: هَذه الآيَة مَنْسُوخَة، وذَلك لِمَا يُرْوَى عَنْ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه قَال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة شَقّ ذَلك عَلى الْمُسْلِمِين؛ لأنَّ حَقّ تُقَاتِه: أن يُطَاع فلا يُعْصَى طَرْفَة عَيْن، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر، وأن يُذْكَر فَلا يُنْسَى، والعِبَاد لا طَاقَة لَهُمْ بِذَلك، فَأنْزَل الله تَعَالى بَعْد هَذه:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، ونَسَخَتْ هَذه الآيَة أوَّلَها ولَم يُنْسَخ آخِرها، وهو قَوله:(وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وزَعَم جُمْهُور الْمُحَقِّقِين أنَّ القَول بِهَذا النَّسْخ بَاطِل، واحْتَجُّوا عَليه مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: مَا رُوي

(2)

عن مُعَاذ أنه عليه السلام قَال له: هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الله على العِبَاد؟ قَال: الله ورَسُوله أعْلَم. قال: هُو أن يَعْبُدُوه ولا يُشْرِكُوا به شَيئًا

(3)

. وهَذا لا يَجُوز أن يُنْسَخ

(4)

.

الثَّاني: أنَّ مَعْنَى قَوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: كَما يَحِقّ أن يُتّقَى، وذَلك بِأن يَجْتَنِب جَمِيع مَعَاصِيه، ومِثْل هَذا لا يَجُوز أن يُنْسَخ؛ لأنه إبَاحَة لِبَعْض الْمَعَاصِي، وإذا كَان كَذلك صَارَ مَعْنى هذا، ومَعْنَى قَوله تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وَاحِدًا، لأنَّ مِنْ اتَّقَى الله مَا اسْتَطَاع فَقَد اتَّقَاه حَقّ تُقَاته، ولا يَجُوز أن يَكُون الْمُرَاد بِقَولِه:(حَقَّ تُقَاتِهِ)

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 482، 483) باختصار، ويُنظر:(5/ 321) مِنه.

(2)

"يُنْكَر على المصنِّف قوله في الحديث: (ورُوي) بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح" قاله النووي في المجموع (1/ 15) - ومَقْصُوده بالمصنِّف هو الشيرازي صاحِب المهذّب -.

(3)

أوْرَد الرازي الحديث بِمعناه، وهو مُخرّج في الصحيحين. رواه البخاري (ح 2701)، ومسلم (ح 30).

(4)

لأن النَّسْخ لا يكون في العقائد والأخبار. قال ابن حزم في "الإحكام"(1/ 476): والنَّسْخ لا يَقَع في الأخْبَار.

وقال القرطبي: النسخ في الأخبار يَستحيل (الجامع لأحكام القرآن 5/ 245، 246).

وقال الشاطبي: والأخْبار لا يَدخلها النَّسْخ (الموافقات 3/ 345).

ص: 85

مَا لا يُسْتَطَاع مِنْ التَّقْوى، لأنَّ اللهَ سُبْحَانَه أخْبر أنه لا يُكَلِّف نَفْسًا إلَّا وُسْعَها، والوُسْع

(1)

دُون الطَّاقة، ونَظِير هَذه الآيَة قَوله:(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[الحج: 78] أمَّا الذِين قَالوا: إنّ الْمُرَاد هُو أن يُطَاع فلا يُعْصَى؛ فَهَذا صَحِيح، والذي يَصْدُر عن الإنْسَان عَلى سَبِيل السَّهْو والنِّسْيان فَغَير قَادِح فِيه، لأنَّ التَّكْليف مَرْفوع في هَذه الأوْقَات، وكَذلك قَوله:"أن يُشْكَر فلا يُكْفَر"، لأنَّ ذلك واجِب عليه عند خُطُور نِعم الله بالبَال، فأمَّا عِنْد السَّهْو فلا يَجِب، وكَذلك قَوله:"أن يُذْكَر فلا يُنْسى"، فإنَّ هَذا إنما يَجِب عِنْد الدُّعَاء والعِبَادَة، وكُلّ ذَلك مِمَّا [لا]

(2)

يُطَاق، فَلا وَجْه لِمَا ظَنُّوه أنه مَنْسُوخ.

فـ "قَوله تَعالى: (حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: كَمَا يَجِب أن يُتّقَى، يَدُلّ عَليه قَوله تَعالى: (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة: 95]، ويُقَال: هُو الرَّجُل حَقًّا"

(3)

.

وذَكَرَ ابن كثير القَوْلَين، فَنَقَلَ عن جَمَاعَة "أنَّ هَذه الآيَة مَنْسُوخَة بِقوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

وقَال عَلي بن أبي طَلحة عَنْ ابن عباس في قَوله تَعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قَال: لَمْ تُنْسَخ، ولَكِن (حَقَّ تُقَاتِهِ) أن يُجَاهِدُوا في سَبِيلِه حَقّ جِهَادِه، ولا تَأخُذْهم في الله لَومَة لائم، ويَقُومُوا بالقِسْط ولَو عَلى أنْفسِهم وآبَائهم وأبْنَائهم"

(4)

.

(1)

في اللسان (8/ 392): والْوُسْع والوُسْع والسَّعة: الْجِدَة والطَّاقَة.

(2)

هكذا في المطبوع، ويظهر أنها مُقحَمة، لأنه لو كان مما لا يُستَطاع لقيل بالنسخ قبل وُقوع التكليف، وهو يُريد أنَّ ما ذَكَره مما يُستَطاع فلا وَجْه للنسخ.

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 141) باختصار.

(4)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 130) باختصار.

ص: 86

ويَظهر أنه يَرى أنَّ الآيَة مُحْكَمَة، وأنَّه لا نَسْخ، حَيث قَال في تَفْسِير سُورة الحج مَا نَصّه: وقَوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[الحج: 78] أي: بِأمْوالِكُم وألْسِنَتِكُم وأنْفُسِكم، كَمَا قَال تَعالى:(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)

(1)

.

أمَّا في تَفسِير سُورَة التَّغَابُن فَقَد ذَكَر القَولَين، فَقَال: وقَوله تَعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: جُهْدَكم وطَاقَتكم، كَمَا ثَبَت في الصَّحِيحين

(2)

عن أَبي هُريرة رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمَرْتُكُم بأمْر فأتُوا مِنْه مَا اسْتَطَعْتُم، ومَا نَهَيتُكُم عَنه فاجْتَنِبُوه. وقَد قَال بَعْض الْمُفَسِّرِين .... : إنَّ هَذه الآيَة نَاسِخَة للتي في "آل عمران"، وهي قَوله تَعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(3)

ثم ذَكَر سبب نُزُول الآيَة عن سعيد بن جبير، وأنَّ آية "آل عمران" مَنْسُوخَة بآيَة "التغابن"

(4)

.

ورجّح الثعالبي عَدم النَّسْخ، فَقَال بَعْد أنْ حَكَى القَوْل بالنَّسْخ: وقَالَتْ جَمَاعَة: لا نَسْخ هُنا، وإنما الْمَعْنى: اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاته في مَا اسْتَطَعْتُم؛ وهَذا هو الصَّحِيح

(5)

.

كما نَبَّه القاسمي إلى أنَّ مَنْ زَعَم النَّسْخ لم يُصِب الْمَحَزّ، فقال: زَعَم بَعْضُهم أنَّ هَذه الْجُمْلَة مِنْ الآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) مُتأوِّلًا (حَقَّ تُقَاتِهِ) بأن يَأتي العَبْد بِكُلّ مَا يَجِب لله ويَسْتَحِقّه، قَال: وهَذا يَعْجَز العَبْد عَنْ الوَفَاء [بِه]

(6)

، فَتَحْصِيله

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 99).

(2)

رواه البخاري (ح 6858)، ومسلم (ح 1337).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (14/ 24).

(4)

انظر: المرجع السابق، الموضع السابق.

(5)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 294)، (4/ 309).

(6)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 87

مُمْتَنِع. وهَذا الزَّعْم لَم يُصِب الْمَحَزّ، فإنَّ كُلًّا مِنْ الآيَتَين سِيقَ في مَعْنَى خَاصٍ بِه، فلا يُتَصَوَّر أن يَكُون في هَذه الْجُمْلَة طَلَب مَا لا يُسْتَطَاع مِنْ التَّقْوَى، بل الْمُرَاد مِنْها دَوَام الإنَابَة لَه تَعالى وخَشيته وعِرْفَان جَلالِه وعَظَمَته قَلْبًا وقَالَبا. وهَذا مِنْ الْمُسْتَطَاع لِكُلّ مُنِيب. وقَوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أمْرٌ بِعِبَادَته قَدْر الاسْتِطَاعَة بِلا تَكْلِيف لِمَا لا يُطَاق؛ إذْ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا)[البقرة: 286]، وظاهِرٌ أنّ مَنْ أتَى بِمَا يَسْتَطِيعه مِنْ عِبَادَته تَعالى، وأنَابَ لِجَلالِه، وأخْلَص في أعْمَالِه، وكان مُشْفِقًا في طَاعَتِه؛ فَقَد اتَّقَى الله حَقَّ تُقَاتِه

(1)

.

وأمَّا الشنقيطي فَقَد اقْتَصَر عَلى قَوله: قَوله تَعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) الآية. هَذه الآية تَدُلّ عَلى التَّشْدِيد البَالِغ في تَقْوَى الله تَعالى، وقَد جَاءت آيَة أخْرَى تَدُلّ على خِلاف ذَلك، وهي قَوله تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، والْجَواب بأمْرَين:

الأوَّل: أنَّ آيَة (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) نَاسِخَة لِقَولِه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).

الثاني: أنَّهَا مُبيِّنةٌ للمَقْصُود بِهَا. والعِلْم عِند الله تعالى

(2)

.

‌رأي الباحث:

الصَّحيح أن الآيات مُحْكَمَة، وأنه لا تَعَارُض بَيْن الآيَتَين، والْجَمْع بَيْنَهُما مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: أنَّ (حَقَّ تُقَاتِهِ): أن يُطَاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه

(3)

.

(1)

محاسن التأويل، مرجع سابق (4/ 418).

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 46) باختصار.

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(ح 34553)، وابن جرير في "جامع البيان"(5/ 637).

ص: 88

وذلك لا يَقْتَضِي الْعِصْمَة، ولا أنَّ لا يَقَع العَبْد في الذَّنْب، وإنما يَعْنِي أن يَخَاف الله فلا يُصِرّ على ذَنْب، وأن يَشْكُر الله فَلا يَكْفره.

قال ابن جرير: يَعْنِي بِذلك جلّ ثناؤه: يا مَعْشَر مَنْ صَدَّق اللهَ ورَسوله (اتَّقُوا اللَّهَ)[آل عمران: 102]: خَافُوا الله ورَاقِبُوه بِطَاعَتِه واجْتِنَاب مَعَاصيه. (حَقَّ تُقَاتِهِ): حَقَّ خَوْفه، وهو أن يُطَاع فلا يُعْصَى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر، ويُذْكَر فلا يُنْسَى

(1)

.

وقال ابن الجوزي: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ذَهَب كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِين إلى أنها نُسِخَتْ بِقَولِه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) والصَّحِيح أنها مُحْكَمة، وأنَّ (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بَيَان لِـ (حَقَّ تُقَاتِهِ)، فإنَّ القَوْم ظَنُّوا أن (حَقَّ تُقَاتِهِ) مَا لا يُطَاق، فَزَال الإشْكَال. ولَو قَال: لا تَتَّقُوه حقّ تُقَاتِه؛ كان نَسْخًا

(2)

.

الوَجْه الثَّاني: أنَّ آية "التغابن"(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لا تُعَارِض آية "آل عمران"(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، وذَلك لأنَّ آيَة "التغابن" جَاءت بَعْد ذِكْر الأهْل والْمَال والوَلَد، والإخْبَار بِأنَّ الْمَال والوَلَد فِتْنَة، ولِمَا جُبِلتْ عليه النَّفُوس مِنْ حُب الْمَال والوَلَد، جَاء الأمْر بِتَقْوَى الله حَسب الاسْتِطَاعَة.

وبَيَان ذَلك: أنَّ الإنْسَان قَدْ يَشْغله الْمَال أوْ الوَلَد عَنْ طَاعَة الله، فإذا كَان ذلك فَلْيَتَّق الله مَا اسْتَطَاع، وذَلك بأن يُسَدِّد ويُقَارِب.

فَفِي سِيَاق آيَات "التغابن" قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، ثم قَال جَلّ ذِكْرُه:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 637).

(2)

المصفّى بأكفّ أهل الرسوخ، مرجع سابق (ص 22، 23).

ص: 89

فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم، لأنه مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيء فَإنَّ في الْمَال والوَلَد فِتْنَة.

ويَدُلّ عَلى ذلك مَا جَاء في حَدِيث حُذَيفة رضي الله عنه أنه قَال: سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: فِتْنة الرَّجُل في أهْلِه ومَالِه ونَفْسِه وولَدِه وجَارِه؛ يُكَفِّرها الصِّيَام والصَّلاة والصَّدَقة والأمْر بِالْمَعْرُوف والنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر

(1)

.

قال الزَّين بن الْمُنَيِّر: الفِتْنة بِالأهْل تَقَع بالْمَيْل إلَيْهِنّ، أوْ عَلَيْهِنّ في القِسْمَة والإيثَار حَتى في أوْلادِهِنّ، ومِن جِهَة التَّفْرِيط في الْحُقُوق الوَاجِبَة لَهُنّ، وبِالْمَال يَقَع الاشْتِغَال بِه عَنْ العِبَادَة، أوْ بِحَبْسِه عَنْ إخْرَاج حَقّ الله، والفِتْنَة بِالأوْلاد تَقَع بالْمَيْل الطَّبِيعِي إلى الوَلَد، وإيثارِه عَلى كُلّ أحَد

(2)

.

"والْمُرَاد بِالفِتْنة مَا يَعْرِض للإنْسَان مَع مَنْ ذُكِر مِنْ البَشَر، أوْ الالْتِهَاء بِهِم، أوْ أنْ يَأتِي لأجْلِهم بِمَا لا يَحِلّ لَه، أوْ يُخِلّ بِمَا يَجِب عَلَيه"

(3)

.

قال ابن بَطَّال: فِتْنَة الرَّجُل في أهْله: أن يَأتي مِنْ أجْلِهم مَا لا يَحِلّ لَه مِنْ القَوْل أوْ العَمَل مِمَّا لَم يَبْلُغ كَبِيرة. وقال الْمُهَلَّب: يُرِيد مَا يَعْرِض لَه مَعَهنّ مِنْ شَرٍّ أوْ حُزْن أوْ شِبْهة.

قَوله: "ومَالِه" فِتْنَة الرَّجُل في مَالِه أن يَأخُذه مِنْ غَير مأخَذِه ويَصْرفه في غَير مَصْرفه، أوْ التَّفْريط بِمَا يَلْزَمه مِنْ حُقُوق الْمَال، فَتَكْثُر عَليه الْمُحَاسَبة.

قَوله: "ووَلِده" فِتْنَة الرَّجُل في وَلَدِه فَرْط مَحَبَّتِهم، وشُغْله بِهم عَنْ كَثِير مِنْ الْخَيْر، أوْ التَّوغَّل في الاكْتِسَاب مِنْ أجْلهم مِنْ غَير اكْتِرَاثٍ مِنْ أن يَكُون مِنْ حَلال أوْ حَرَام

(4)

. فلأَجْل هَذا جَاءَ في آيَة "التغابن"(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) والله أعلم.

أمَّا آيَة "آل عمران" فإنها جَاءَت في سِيَاق النَّهْي عَنْ طَاعَة أهْل الكِتَاب، والأمْر بالاعْتِصَام بالله، والتَّمَسُّك بِحَبْلِه الْمَتِين؛ وذلك يَقْتَضِي الأمْر بالاتِّقَاء حَقّ التَّقْوى.

(1)

رواه البخاري (ح 1368)، ومسلم (ح 144).

(2)

فتح الباري، ابن حجر العسقلاني (6/ 605).

(3)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

(4)

عمدة القاري، العيني (5/ 9) وقول ابن بطال والمهلّب عنده في الموضع نفسه.

ص: 90

فَفِي سِيَاق آيَات "آل عمران": (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)) ثم قال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فيَظْهَر أنَّ الأمْر بالتَّقْوى هُنَا حَقّ التَّقْوَى عَلى ظَاهِره، إذْ لا مَصْلَحَة في طَاعَة أهْل الكِتَاب، وأنّ طَاعَتهم مُفْضِية إلى النَّكُوص على الأعْقَاب، ولذا خُتِمت الآية بـ (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، ومِمَّا يُؤكّد هَذا القَوْل ويُؤيِّد هَذا الْمَذْهَب أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم يَكُنْ يُعْمِل العُموم في هاتين الآيَتَين في الْوَصِيَّة بالتَّقْوى، كمَا أعْمل غيرهما

(1)

.

وبهذا تَكُون كُلّ آيَة في سِيَاقِها لَهَا دَلالَتها، ولا تَعَارُض بَيْن الآيَات.

وقَد تَقرَّر أنه إذا وَرَد التَّرْغِيب في القُرْآن "قارَنَه التَّرْهِيب في لَواحِقه أوْ سَوابقه أوْ قَرائنِه، وبالعَكْس، وكَذلك التَّرْجِيَة مَع التَّخْويف .... وقد يُغَلَّب أحَد الطَّرَفَين عَلى الآخَر بِحَسب الْمَوَاطِن ومُقْتَضَيات الْحَال .... ولَمَّا كَان جَانِب الإخْلال مِنْ العِبَاد أغْلَب؛ كَان جَانِب التَّخْويف أغْلَب، وذَلك في مَظانِّه الْخَاصَّة لا عَلى الإطْلاق"

(2)

.

الوَجْه الثَّالِث: أنَّ مِنْ مَعاني التَّقْوَى "أدَاء مَا افْتَرض الله، وتَرْك مَا حَرَّم الله"

(3)

.

وأنّ أدَاء الفَرَائض عَلى حَسب الاسْتِطَاعَة، لِحَدِيث أبي هُريرة الْمُتَقَدِّم، وفِيه:"إذا أمَرْتُكُم بأمْرٍ فأتُوا مِنه مَا اسْتَطَعْتُم"

(4)

، ولِقَوْل النبي صلى الله عليه وسلم لِعُمْرَان بن حُصِين: صَلِّ قائمًا، فإن لم تَستطع فَقَاعِدا، فإن لم تستطع فَعَلى جَنْب

(5)

.

فإذا أدَّى الْمُؤمِن مَا يَجِب عَليه حَسب اسْتِطَاعَته في مثل هذه الْحَالَة، فقد اتَّقَى الله حقّ تُقَاتِه، ولا تَثْرِيب عَليه.

(1)

انظر: خُطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُها أصحابه؛ الألباني.

(2)

الموافقات، الشاطبي (4/ 167 - 171).

(3)

ذَكَره ابن رجب في "جامع العلوم والْحِكَم"(1/ 96) عن عمر بن عبد العزيز.

(4)

سبق تخريجه، وهو مُخرّج في الصحيحين.

(5)

رواه البخاري (ح 1066).

ص: 91

وبِهَذا يَجْتَمِع مَعْنَى الآيَتَين، ويَنْدَفِع التَّعَارُض، ويَزُول الإشْكَال، ولا حَاجَة للقَوْل بِالنَّسْخ مَا أمْكَن الْجَمْع.

ص: 92

‌المبحث الثاني: فيما يتعلّق بالخصوص والعموم

"لا بُدّ مِنْ مُقَدِّمَة تُبَيِّن الْمَقْصُود مِنْ العُمُوم والْخُصُوص"

(1)

وذلك بِتَعْرِيف العَامّ والخاصّ.

أمَّا العَامّ فهو: لَفْظ يَسْتَغْرِق الصَّالِح لَه مِنْ غَير حَصْر

(2)

.

وقال المناوي: العَامّ - بِشِدَّة الميم - لَفْظ وُضِع وَضْعًا واحِدًا لكثير غير مَحْصُور مُسْتَغْرِق لِجَميع ما يَصْلُح له

(3)

.

وأما الْخَاصّ فهو تَفَرُّد بَعْض الشَّيء بِمَا لا يُشَارِكُه في الْجُمْلَة، وذَلك خِلاف العُمُوم والتَّعمُّم والتَّعْمِيم

(4)

.

وعُرِّف الْخَاصّ بِأنه "لَفْظ يَخْتَصّ بِبَعْض الأفْرَاد الصَّالِحَة لَه، والتَّخْصِيص قَصْر العَامّ على بعض أفْرَادِه"

(5)

.

و "العَامّ عَلى ثَلاثة أقْسَام:

الأوَّل: البَاقِي عَلى عُمُومِه.

الثَّاني: العَامّ الْمُرَاد به الْخُصُوص.

الثَّالِث: العَامّ الْمَخْصُوص

(6)

.

(1)

الموافقات، مرجع سابق (4/ 7).

(2)

شرح مختصر الروضة، مرجع سابق (2/ 448)، والإتقان، مرجع سابق (3/ 43)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن، له (1/ 207)، والحدود الأنيقة، زكريا الأنصاري (ص 82).

(3)

التوقيف على مهمات التعاريف. مرجع سابق (ص 498).

(4)

المفردات، الراغب (ص 155).

(5)

الحدود الأنيقة، مرجع سابق (ص 82).

(6)

يُنظر هذا التقسيم وتتمة الكلام عليه في "الإتقان"(3/ 44 وما بعدها)، وفي "معترك الأقران"(1/ 208) وما بعدها.

وقد أطال الشاطبي في تفصيل العموم والخصوص في "الموافقات"(4/ 7 وما بعدها).

ص: 93

والْمَخْصُوص أمْثِلَته كَثيرة جِدًّا، وهي أكْثَر مِنْ الْمَنْسُوخ، إذْ مَا مِنْ عَامّ فِيه إلَّا وقَد خُصّ، ثم الْمُخَصِّص إمّا مُتَّصِل، وإما مُنْفَصِل

(1)

.

وقَد تَرِد الآيَة عَامَّة ويُرَاد بِهَا الْخُصُوص، ويَكُون التَّخْصِيص في آيَة أخْرَى، فَيَقَع الوَهْم بالتَّعَارُض بَيْن العَامّ والْخَاصّ، ومما دَفَع به القُرطبي تَوهّم التَّعَارُض حَمْل العَامّ عَلى الْخَاصّ.

ومِن أمثلة ذلك:

‌المثال الأول:

القُرآن بَيْن كَونِه هُدى للنَّاس عَامَّة، وبين كَونِه هُدًى للمُؤمِنين:

قَوله تَعالى في وَصْف القُرْآن: (هُدًى لِلمُتَّقِين)[البقرة: 2]، مَع قَوله تَعالى:(هُدًى لِلنَّاسِ)[البقرة: 185].

‌صورة التعارض:

"قَوله تَعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِين) خَصَّص في هُدى هَذا الكِتَاب بالْمُتَّقِين، وقَد جَاء في آيَة أُخْرَى مَا يَدُلّ عَلى أنَّ هُدَاه عَام لِجَمِيع النَّاس، وهي قَوله تَعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيه الْقُرْآنُ هُدًى للنَّاسِ) الآية"

(2)

.

(1)

يُنظر: معترك الأقران، مرجع سابق (1/ 211) وقد ذَكَر أمثلة وأحوال المُتّصِل والْمُنْفَصِل.

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 6).

ص: 94

‌جَمْع القرطبي:

قَوله تَعالى: (لِلْمُتَّقِينَ) خَصّ الله تَعَالى الْمُتَّقِين بِهِدَايَته، وإنْ كَان هُدى للخَلْق أجْمَعِين تَشْرِيفًا لَهُم؛ لأنهم آمَنُوا وصَدَّقُوا بِمَا فِيه. ورُوي عن أبي رَوق أنه قَال:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أي: كَرَامَة لَهُمْ. يَعني أنما أضَاف إلَيهم أجْلالًا لَهُم، وكَرَامَة لَهُم، وبَيَانًا لِفَضْلِهم

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

القُرْآن هُدًى للخَلْق أجْمَعِين، وخَصَّ الله الْمُتَّقِين بِالْهِدَاية تَكْرِيمًا لَهُمْ.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء:

رَوى ابنُ جرير - بإسْنَادِه - إلى مُرة الهمداني عن ابن مسعود وعَن نَاسٍ مِنْ أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) يقول: نُور للمُتَّقِين.

ثم قال ابن جرير: والْهُدَى في هذا الْمُوضِع مَصْدَر مِنْ قَولك: هَدَيت فُلانا الطريق، إذا أرْشَدته إليه، ودَلَلته عليه، وبَيَّنْتَه له؛ أهْديه هُدى وهِداية.

فَإن قَال لَنا قَائل: أوَ مَا كِتَاب الله نُورًا إلَّا للمُتَّقِين، ولا رَشَادا إلَّا للمُؤمِنِين؟ قِيل: ذَلك كَمَا وَصَفه رَبُّنَا عز وجل، ولَو كَان نُورًا لِغَيْر الْمُتَّقِين ورَشَادًا لِغَيْر الْمُؤمِنِين لم يَخْصُص الله عز وجل الْمُتَّقِين بأنه لَهُمْ هُدى، بل كَان يَعُمُّ بِه جَمِيعِ الْمُنْذَرِين، ولَكِنَّه هُدى للمُتَّقِين، وشِفَاء لِمَا في صُدُور الْمُؤمِنِين، وَوَقْرٌ في آذَان الْمُكَذِّبين، وعَمًى لأبْصَار الْجَاحِدين، وحُجّة لله بَالِغَة على الكَافِرِين، فالمؤمِن به مُهْتَد، والكَافِر بِه مَحْجُوج

(2)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 206).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 234).

ص: 95

وقال السمرقندي: فَهذا القُرْآن بَيَان لَهُمْ مِنْ الضَّلالَة، وبَيَان لَهُمْ مِنْ الشُّبُهَات، وبَيَان الْحَلال مِنْ الْحَرَام. فَإن قِيل: فيه بَيان لِجَمِيع النَّاس، فَكَيف أضَاف إلى الْمُتَّقِين خَاصَّة؟ قِيل لَه: لأنَّ الْمُتَّقِين هُمْ الذين يَنْتَفِعُون بالبَيَان، ويَعْمَلُون بِه، فَإذا كَانُوا هُمْ الذين يَنْتَفِعُون به صَار في الْحَاصِل البَيَان لَهُمْ

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورَة الأنْعَام: واسْم الْهُدَى يَقَع على التَّوحِيد والشَّرَائِع

(2)

.

أمَّا السمعاني فَقَد قَال: فإن قَال قائل: لِمَ خَصّ الْمُتَّقِين بالذِّكْر، وهو هُدى لِجَمِيع الْمُؤمِنِين؟ قِيل: إنما خَصَّهُم بالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، أوْ لأنهم هُمْ الْمُنْتَفِعُون بالْهُدَى حَيث نَزَلُوا مَنْزِل التَّقْوَى دُون غَيْرِهم

(3)

.

واقْتَصَر البَغَوي عَلى قَولَه: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أي: هو هُدى، أي: رُشْد وبَيَان لأهْل التَّقْوَى .... وتَخْصِيص الْمُتَّقِين بالذِّكْر تَشْرِيف لَهُم، أوْ لأنهم هُمْ الْمُنْتَفِعُون بالْهُدَى

(4)

.

وفَصَّل ابن عطية فقال: وقَال هُنا: (لِلنَّاسِ)[آل عمران: 4] وقَال في القُرْآن (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) وذَلك عِنْدي لأنَّ هَذا خَبَر مُجَرَّد، وقَوله:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) خَبر مُقْتَرِن بِه الاسْتِدْعَاء والصَّرْف إلى الإيمان، فَحَسُنَت الصِّفَة لِيَقَع مِنْ السَّامِع النَّشَاط والبِدَار

(5)

.

في حين ذَهب ابن الجوزي إلى أنَّ الآية تَشْمَل الْمُؤمِنِين والكَافِرِين، فَقَال: فَإن قِيل: فالْمُتَّقِي مُهْتَدٍ، فما فَائدَة اخْتِصَاص الْهِدَاية بِه؟

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 48).

(2)

المرجع السابق (1/ 485).

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 42).

(4)

معالم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 45) باختصار.

(5)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 399).

ص: 96

فالْجَوَاب مِنْ وَجْهَين:

أحَدُهما: أنه أرَاد الْمُتَّقِين والكَافِرين، فاكْتَفَى بِذِكْرِ أحَد الفَرِيقَين، كَقَولِه تَعَالى:(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)[النحل: 81] أرَاد: والبَرْد.

والثَّاني: أنه خَصّ الْمُتَّقِين لانْتِفَاعِهم بِه، كَقَولِه:(إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)[النازعات: 45]، وكَان مُنْذِرًا لِمَنْ يَخْشَى ولِمَن لا يَخْشَى

(1)

.

وذَهَب الرَّازي إلى أنَّ الآيَة الأُولى في تَشْرِيف الْمُتَّقِين، وأنَّ الْمُتَّقِين هُمْ كُلّ النَّاس! فَقَال: وَلو لَم يَكُنْ للمُتَّقِي فَضِيلَة إلَّا مَا في قَولِه تَعَالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) كَفَاه؛ لأنه تَعالى بَيَّن أنَّ القُرْآن هُدى للنَّاس في قَولِه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)، ثم قَال هَهنا في القُرْآن إنه (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فهذا يَدُلّ عَلى أنَّ الْمُتَّقِين هُمْ كُلّ النَّاس، فَمَنْ لا يَكُون مُتَّقِيًا كأنه لَيْس بإنْسَان!

(2)

.

وقال في مَوْضِع آخَر: إنما قَال: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم هُمْ الْمُنْتَفِعُون به، فَصَار مِنْ [هذا]

(3)

الوَجْه هُدى لَهُمْ لا لِغَيْرِهم

(4)

.

ويَرى ابن جُزيّ أن الْهُدى في هَذه الآية خَاصّ بِمَعْنَى الإرْشَاد، فَقَال:(هُدًى) هُنا بِمَعْنى الإرْشَاد، لِتَخْصِيصه بالْمُتَّقِين، ولَو كَان بِمَعْنى البَيَان لَعَمَّ، كَقَولِه:(هُدًى لِلنَّاسِ)

(5)

.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (1/ 24).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (2/ 20).

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

(4)

المرجع السابق (7/ 139).

(5)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 35).

ص: 97

وأمَّا ابن كَثير فإنه يَرَى "اخْتِصَاص الْمُؤْمِنين بالنَّفْع بالقُرْآن، لأنه هُو في نَفْسِه هُدى، ولَكِن لا يَنَاله إلَّا الأبْرَار"

(1)

.

ثم نَقَل الأقْوَال في مَعْنَى (هُدًى)، ثم ذَكَر اخْتِيَارَه في الآيَة، فَقَال: واخْتِيَار ابن جرير أنَّ الآيَة تَعُمّ ذَلك كُلّه، وهُو كَمَا قَال

(2)

.

ونَقَل القاسمي عن ابن الْمُنيِّر قَوله: الْهُدى يُطْلَق في القُرْآن عَلى مَعْنَيين:

أحَدُهما: الإرْشَاد وإيضَاح سَبِيل الْحَقّ، ومِنه قَوله تَعالى:(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)[فصلت: 17]، وعَلى هَذا يَكُون الْهُدَى للضَّال باعْتِبَار أنه رشد إلى الْحَقّ سَواء حَصَل لَه الاهْتدَاء أوْ لا.

والآخَر: خَلْق الله تَعالى الاهْتِدَاء في قَلْب العَبْد

(3)

، ومِنْه:(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90]، فإذا ثَبَت وُرُوده عَلى الْمَعْنَيَين فهو في هَذه الآيَة يُحْتَمَل أن يُرَاد به الْمَعْنَيَان جَميعًا. وعَلى الأوَّل فَتَخْصِيص الْهُدَى بالْمُتَّقِين للتَّنْويه بِمَدْحِهم حَتى يَتَبَيَّن أنهم هُمْ الذِين اهْتَدَوا وانْتَفَعُوا به

(4)

.

‌رأي الباحث:

أن الْهُدَى الْمُثْبَت للمُتَّقين مُختَلف عَنْ كَوْن القُرآن هُدى لجَميع النَّاس.

"وَوَجْه الْجَمْع بينهما أنَّ الْهُدى يُسْتَعْمَل في القُرْآن اسْتِعْمَالَين:

أحَدُهما: عَامّ، والثَّاني: خَاصّ.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 260).

(2)

المرجع السابق (1/ 261).

(3)

في اعتقاد الإمام الْمُبجَّل أحمد بن حنبل (1/ 302) أنه "أمْسَك عن القَول في خَلْق الإيمان". وسيأتي بَسْطه.

(4)

محاسن التأويل، مرجع سابق (1/ 270) وأصْل القَول في حاشية الكشاف (ص 36).

ص: 98

أمَّا الْهُدَى العَامّ فَمَعْناه إبَانَة طَرِيق الْحَقّ وإيضَاح الْمَحَجَّة، سَواء سَلَكَها الْمُبيَّن له أمْ لا، ومِنه بهذا المعنى قوله تعالى:(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)[فصلت: 17] أي بَيَّنَّا لهم طَريق الْحَقّ على لِسَان نَبِيِّنا صالح - عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاة والسلام - مع أنهم لم يَسْلُكوها، بِدَلِيل قَوله عز وجل:(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)، ومِنه أيضًا قَوله تَعالى:(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)[الإنسان: 3]، أي: بَيَّنَّا لَه طَرِيق الْخَيْر والشَّر، بِدَليل قَوله:(إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

وأما الْهُدَى الْخَاصّ فهو تَفَضُّل الله بالتَّوْفِيق عَلَى العَبد، ومِنه بِهَذا الْمَعْنَى قَوله تَعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)[الأنعام: 90] الآيَة. وقَوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ)[الأنعام: 125]، فإذا عَلِمْتَ ذلك فاعْلَم أنَّ الْهُدَى الخَاصّ بالْمُتَّقين هو الْهُدَى الْخَاصّ، وهو التَّفَضُّل بالتَّوفِيق عَليهم، والْهُدَى العَامّ للنَّاس هُو الْهُدَى العَامّ، وهو إبَانة الطَّرِيق وإيضَاح الْمَحَجَّة"

(1)

.

كَمَا أنَّ هَذا الاخْتِلاف الذي وَرَد في أقْوَال الْمُفَسِّرِين، هو مِنْ اخْتِلاف التَّنَوّع

(2)

لا اخْتِلاف التَّضَادّ، فالآيَات تَحْتَمِل هَذه الْمَعَاني، ولا تَعَارُض بينها.

فالآيَات تَحْتَمِل أنَّ القُرْآن هُدى للمُتَّقِين، وتَخْصِيصُهم بالذِّكْر للتَّشْرِيف، أوْ لأنهم أوْلى مَنْ انْتَفَع واهْتَدى بِه.

والقُرْآن هُدى للمُتَّقِين عَلى وَجْه الْخُصُوص، وهو هُدى لِجَميع النَّاس على وَجْه العُمُوم، فهو بِهَذا الاعْتِبار مِنْ بَاب العَامّ والْخَاصّ.

وهو مُحْتَمِل لِقول ابن الجوزي أيضًا، في أنه "أرَاد الْمُتَّقِين والكَافِرِين، فاكْتَفَى بِذِكْرَ أحَد الفَريقين" إذْ لَيس في الآية مَا يَنْفِي هَذا الْمَعْنَى.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 7).

(2)

يُنظر لذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جَمْع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم (13/ 333، 337، 369، 370). ورسالة "اخْتِلاف التَنوّع واخْتِلاف التَّضَادّ في تفسير السَّلَف"، عبد الله بن عبد الله الأهدل (1/ 238 وما بعدها).

ص: 99

وهذا كَقَولِه: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا)[يس: 12]، والْمُرَاد مَا قَدَّمُوا وأخَّرُوا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أحَدِهما، كَما في قَوله تَعالى:(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)، والْمُرَاد: والبَرْد أيضًا

(1)

.

وكَقَولِه تَعالى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارَ)[الأنعام: 13] أي: اسْتَقَرّ. قِيل: أرَاد مَا سَكَن ومَا تَحَرَّك، كَقَولِه:(سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي: الْحَرّ والبَرْد. وقِيل: إنما خَصّ السُّكون بالذِّكْر لأنَّ النِّعْمَة فيه أكْثَر

(2)

.

‌المثال الثاني:

نَفْي انْتِفَاع الكُفَّار بالإنْذَار

قَوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[البقرة: 6]، مَع قَوله تَعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[البقرة: 119] وقَوله تَعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، الآية [الأنفال: 38]، مَع الآيَات الوَارِدَة في الْحَثّ عَلى دَعْوة الكُفَّار، ومَع إسْلام مَنْ أسْلَم مِنْ الكُفَّار قَدِيمًا وحَدِيثًا.

‌صورة التعارض:

أنَّ الكُفَّار لا تَنْفعهم النِّذَارَة، في حِين أنَّ مُهِمَّة الأنْبِيَاء هي البِشَارَة والنِّذارة.

كما أنَّ "هَذه الآيَة تَدُلّ بِظَاهِرها عَلى عَدم إيمان الكُفَّار، وقَد جَاء في آيَات أُخَر ما يَدُلّ عَلى أنَّ بَعض الكُفَّار يُؤمِن بالله ورَسُولِه، كَقَولِه تَعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (26/ 43) باختصار.

(2)

معالم التنزيل، مرجع سابق (2/ 87).

ص: 100

لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) الآيَة [الأنفال: 38]. وكَقَولِه: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)[النساء: 94] وكَقَولِه: (وَمِنْ هَؤْلَاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)[العنكبوت: 47]

(1)

.

‌جَمْع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "البقرة":

اخْتَلَف العُلَمَاء في تَأوِيل هَذه الآيَة؛ فَقِيل: هي عَامَّة ومَعْنَاها الْخُصُوص فِيمن حَقَّت عَليه كَلِمَة العَذَاب، وسَبق في عِلْم الله أنه يَمُوت على كُفْرِه، أرَاد الله تَعالى أن يُعْلَم أنَّ في النَّاس مَنْ هَذه حَاله دُون أن يُعَيِّن أحَدًا.

وقال ابن عباس والكلبي: نَزَلَتْ في رُؤسَاء اليَهُود، مِنهم حُيي بن أخطب وكَعب بن الأشْرف ونُظراؤهما.

وقال الربيع بن أنس: نَزَلَتْ فيمن قُتل يوم بَدْر مِنْ قادَة الأحْزاب، والأول أصَحّ، فإن مَنْ عَيَّنَ أحدًا فإنما مَثَّل بِمَنْ كُشِفَ الغَيب عَنْه بِمَوتِه على الكُفْر، وذلك دَاخِل في ضِمْن الآيَة

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

الآية عَامَّة ومَعناها الْخُصُوص فيمن حَقَّت عليه كَلِمة العَذَاب.

2 -

أنها نَزَلَتْ في قَوم مَخْصُوصِين، والعِبرة بِعموم اللفظ لا بِخصُوص السَّبَب.

3 -

رَجَّح القَول الأوَّل.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجَمْع غيره من العلماء:

قال ابن جرير في آية "البقرة": اخْتَلَف أهْل التَّأوِيل فِيمَن عَنَى بِهَذِه الآيَة، وفِيمَن نَزَلَتْ.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 7).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 231).

ص: 101

وكَان ابن عباس يَرَى أنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في اليَهُود الذين كَانُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَة على عَهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَوبِيخًا لهم في جُحُودِهم نُبُوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتَكْذِيبِهم به مَع عِلْمِهم به، ومَعْرِفَتهم بأنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى النَّاس كَافَّة.

وقد رُوي عن ابن عباس في تَأوِيل ذلك قَول آخَر

قَال: كَان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحْرِص عَلى أن يُؤمِن جَميع النَّاس ويُتَابِعُوه عَلى الْهُدَى، فَأَخْبَرَه الله جَلَّ ثَناؤه أنه لا يُؤمِن إلَّا مَنْ سَبَقَ لَه مِنْ الله السَّعَادَة في الذِّكْر الأوَّل، ولا يَضِلّ إلّا مَنْ سَبَقَ لَه مِنْ الله الشَّقاء في الذِّكْر الأوَّل.

وذَكَرَ ابن جرير بَقِيَّة الأقْوَال ثم قَال: وإن كَان لِكُلّ قَوْل مِمَّا قَالَه الذين ذَكَرْنا قَولهم في ذَلك مَذْهَب.

وأمَّا عِلَّتُنا في اخْتِيارِنا مَا اخْتَرْنا مِنْ التَّأوِيل في ذَلك، فهي أنَّ قَول الله جَلَّ ثَنَاؤه:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَقيب خَبَر الله جَلَّ ثَنَاؤه عن مُؤمِني أهْل الكِتَاب، وعَقيب نَعْتِهم وصِفَتهم، وثَنَائه عَليهم بإيمانِهم بِه وبِكُتُبه ورُسُله، فَأوْلى الأمُور بِحِكْمَة الله أن يُتْلِيَ ذلك الْخَبر عن كُفَّارِهم ونُعُوتِهم، وذَمّ أسبَابَهم وأحْوَالِهم، وإظْهار شَتْمِهم والبَرَاءة منهم؛ لأن مُؤمنيهم ومُشْرِكِيهم - وإن اخْتَلَفَتْ أحْوَالهم بِاخْتِلاف أدْيَانهم - فإنَّ الْجِنْس يَجْمَع جَمِيعهم بِأنهم "بَنو إسرائيل".

ومما يُنْبئ عن صحَّة ما قُلْنا من أنَّ الذين عَنَى الله تَعالى ذكْرُه بقَوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) هُمْ أحْبَار اليَهُود الذين قُتِلُوا على الكُفْر ومَاتُوا عليه اقْتِصَاص الله تَعالى ذِكْرُه نَبأهم، وتَذْكِيره إيّاهم مَا أخَذَ عَليهم مِنْ العُهود والْمَوَاثِيق في أمْرِ محمد عليه الصلاة والسلام بَعْد اقْتِصَاصِه تَعالى ذِكْرُه مَا اقْتَصَّ مِنْ أمْرِ الْمُنَافِقِين.

وأمَّا مَعْنَى الكُفْر في قَوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنه الْجُحُود، وذلك أنّ الأحْبار مِنْ يَهُود الْمَدِينَة جَحَدُوا نُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وسَتَرُوه عَنْ النَّاس، وكَتَمُوا أمْرَه، وهُم يَعْرِفُونه كما يَعْرِفُون أبْناءهم.

ص: 102

فَكَذَلك الأحْبَار مِنْ اليَهُود غَطَّوا أمْر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه النَّاس، مع عِلْمِهم بنُبوّته ووجُودهم صِفَته في كُتُبِهم

(1)

.

وقال النحَّاس في آية "البقرة": هُمْ الكُفَّار الذي ثَبتَ في عِلْم الله تعالى أنهم كُفَّار، وهو لَفظ عَامّ يُرَاد به الْخَاصّ

(2)

.

في حين ذَكَر السمرقندي جَوابَين:

أحَدهما: أنّ آية "البقرة" نَزَلَتْ في مُشْرِكي قُريش؛ مِنهم عُتبة بن ربيعة وشَيبة بن ربيعة وأبو جَهل وغيرهم. هذا قَول مُقَاتِل. وقَال الكَلبي: نَزَلَتْ في رُؤسَاء اليَهُود؛ منهم كَعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب وأبو يَاسِر بن أخطب.

والثَّاني: أنَّ الآية خَاصَّة ولَيْستْ بِعَامَّة، وإنما أرَاد به بَعض الكُفّار الذين ثَبَتُوا على كُفْرِهم

(3)

.

ويَرى السمعاني أنها في قَوم مَخْصُوصِين، حيث قال: وَرَدَتْ هذه الآيَة في قَوْم بأعْيَانِهم عَلِم الله تعالى أنهم لا يُؤمِنُون

(4)

.

وذَكَر الثعلبي الأقْوَال في الآيَة، ثم قَال: وهَذه الآيَة خَاصَّة فِيمَن حَقَّتْ عليه كَلِمَة العَذَاب في سَابِق عِلْم الله، وظَاهِرها إنْشَاء، ومَعْنَاهَا إخْبَار

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 258 - 262) باختصار.

(2)

معاني القرآن (1/ 87).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 50، 51) باختصار.

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 46).

(5)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 150).

ص: 103

واقْتَصِر البغوي على قوله في آية "البقرة": وهَذه الآيَة في أقْوَام حَقَّتْ عَليهم كَلِمة الشَّقاوة في سَابِق عِلْم الله

(1)

.

ونقل ابن عطية "الاتِّفَاق على أنها غَير عَامَّة لِوُجُود الكُفَّار [الذين]

(2)

قد أسْلَمُوا بَعدها"

(3)

.

ويَرى الزمخشري أن آية "البقرة" في "العُتَاة الْمَرَدَة مِنْ الكُفَّار، الذين لا يَنْفَع فيهم الْهُدَى، ولا يُجْدِي عليهم اللُّطْف، وسَواء عليهم وُجُود الكِتاب وعَدَمه، وإنْذَار الرَّسُول وسُكُوته"

(4)

.

أمَّا الرازي فَقَال: اخْتَلَف أهْلُ التَّفْسِير في الْمُرَاد هَهنا بِقَولِه: (الَّذِينَ كَفَرُوا)؛ فَقَال قَائلُون: إنهم رُؤسَاء اليَهُود الْمُعَانِدُون الذين وَصَفهم الله تَعالى بأنهم يَكْتُمون الْحَقّ وهُم يَعْلَمُون، وهو قَول ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال آخَرُون: بل الْمُرَاد قَوْم مِنْ الْمُشْرِكين، كَأبي لَهب وأَبي جَهل والوَليد بن الْمُغيرة وأضْرَابهم، وهُم الذين جَحَدُوا بَعد البَيِّنَة، وأنْكَرُوا بَعد الْمَعْرفة، ونَظيره مَا قَال الله تَعالى:(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) [فصلت: 4، 5]، وكَان عليه السلام حَريصًا عَلى أن يُؤمِن قَومه جَمِيعًا، حَيث قَال الله تَعالى لَه:(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6]، وقال:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99]، ثم إنه سبحانه وتعالى بَيَّن له عليه السلام

(1)

معالم التنزيل، مرجع سابق (1/ 49).

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 87).

(4)

الكشاف، مرجع سابق (ص 40).

ص: 104

أنهم لا يُؤمِنون لِيَقْطَع طَمَعَه عَنهم، ولا يَتَأذَّى بِسَبَب ذَلك، فإنَّ اليَأس إحْدَى الرَّاحَتين

(1)

.

وفَصَّل ابنُ جُزي في الآيَة بِنَاء على الْمُرَاد بالضَّمِير الْمُنْفَصِل، فَقَال:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فِيمَن سَبَق القَدَر أنه لا يُؤمِن كَأبي جهل، فإنْ كَان (الَّذِينَ) للجِنْس فَلَفْظُها عَامّ يُرَاد به الْخُصُوص، وإنْ كَان للعَهْد فَهو إشَارَة إلى قَوْم بأعْيَانِهم

(2)

. ثم ذَكَر الْخِلاف.

في حين نَقَل ابنُ كثير القولين: الأوَّل الْمَرْويّ عن ابن عباس في حِرْصِه صلى الله عليه وسلم على هِدَايَة قَومِه، والقَول الثَّاني الْمَرْوي عن أبي العَالِية في أنها في قَتادَة الأحْزَاب، ثم رَجَّح القَوْل الأوَّل بِقَولِه: والْمَعْنَى الذي ذَكرناه أوّلًا - وهو الْمَرْويّ عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة - أظْهَر، ويُفَسَّر بِبَقِية الآيات التي في مَعناها

(3)

.

ونقل الثعالبي قول ابن عطية السَّابِق، فقال: اخْتُلِف فيمن نَزَلَتْ هَذه الآيَة بَعْد الاتِّفَاق عَلى أنها غَير عَامَّة لِوُجُود الكُفَّار [الذين]

(4)

قد أسْلَمُوا بَعدها

(5)

. ثم ذَكَر الْخِلاف.

ونَقَل الشوكاني قول القرطبي في الآية، وارْتَضَاه

(6)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (2/ 37).

(2)

التسهيل لعلوم التنْزيل)، مرجع سابق (1/ 37).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 277).

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 31) وهذا هو نصّ قول ابن عطية السابق، إلَّا أنَّ الثعالبي لم يُشِر إليه.

(6)

فتح القدير، الشوكاني (1/ 39).

ص: 105

‌رأي الباحث:

أن الآية عَامَّة يُرَاد بها الْخُصُوص في حَق مَنْ سَبَق في عِلْم الله أنه لا يُؤمِن، كَأَبِي لَهَب، وقد أنْزَل الله فيه ما أنْزَل.

ومَن ذَكَر أمْثِلَة أو أشْخَاصًا بأعْيَانِهم، فهم لا يَخْرُجُون عن هذا القيد.

قال الشنقيطي: هذه الآية تَدُلّ بِظاهرها على عَدم إيمان الكُفَّار، وقد جاء في آيات أُخَر ما يَدُلّ على أن بعض الكفار يُؤمن بالله ورَسوله، كَقوله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، الآية [الأنفال: 38]. وكَقوله: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)[النساء: 94] وكَقوله: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)[العنكبوت: 47]. وَوَجْه الْجَمْع ظَاهِر وهو أنّ الآية مِنْ العَامّ الْمَخْصُوص؛ لأنه في خُصُوص الأشْقِياء الذين سَبَقَت لهم في عِلْم الله الشَّقَاوة، الْمُشَار إليهم بقوله:(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 96، 97]. ويَدُلّ لهذا التَّخْصِيص قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) الآية. وأجَاب البعض بأن الْمَعْنَى: لا يُؤمنون ما دَام الطَّبْع على قُلُوبهم وأسْمَاعِهم، والغِشاوة على أَبْصَارِهم، فإن أزَال الله عنهم ذلك بِفَضْلِه آمَنُوا

(1)

.

‌المثال الثالث:

نِكاح الكتابية بين الجواز والْمَنْع:

قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)[البقرة: 221] مع قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[المائدة: 5].

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 7).

ص: 106

‌صورة التعارض:

الآية الأولى في تَحْرِيم نِكَاح الْمُشْرِكَات، والآية الثانية تُبيح نِكَاح الْمُحْصَنَات مِنْ نِساء أهْل الكِتَاب، مع كَونِهنّ مُشْرِكَات. وكان ابن عمر إذا سُئل عن نِكَاح النَّصْرانيَّة واليهودية قال: إن الله حَرّم الْمُشْرِكات على المؤمنين، ولا أعْلَم مِنْ الإشْراك شيئًا أكْبر مِنْ أن تَقول الْمَرْأة: رَبها عيسى. وهو عَبْدٌ مِنْ عِباد الله

(1)

.

‌جَمْع القرطبي:

قال القرطبي في آية "البقرة":

اخْتَلَف العُلَماء في تَأويل هذه الآية؛ فقالت طَائفَة: حَرّم الله نِكَاح الْمُشْرِكَات في سورة البقرة، ثم نَسَخ مِنْ هذه الجملة نِساء أهل الكتاب فأحَلَّهن في سُورة المائدة، ورُوي هذا القول عن ابن عباس

وقال قتادة وسعيد بن جبير: لَفْظ الآية العُموم في كُلّ كَافِرة، والمرَاد بها الْخُصُوص في الكِتَابِيَّات، وبَيَّنَتِ الْخُصُوص آية "المائدة"، ولم يَتناول العُموم قط الكِتابيات

وعلى القول الأول يَتَناوَلهن العُمُوم ثم نَسَخَتْ آية "المائدة" بعض العموم

وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذَهَب قَوم فَجَعَلُوا الآية التي في "البقرة" هي النَّاسِخَة، والتي في "المائدة" هي الْمَنْسُوخَة؛ فَحَرَّمُوا نِكاح كُل مُشْرِكة كِتابية أو غير كِتابية

(2)

.

ثم نقل عن النحّاس قوله: وهذا قول خارِج عن قول الجماعة الذين تَقُوم بهم الْحُجَّة؛ لأنه قد قال بِتَحْلِيل نِكَاح نِسَاء أهل الكِتَاب مِنْ الصَّحَابة والتابعين جَمَاعة

وفُقَهاء الأمْصَار عَلَيْه، وأيضًا فَيَمْتَنِع أن تَكون هذه الآية من سُورة "البَقَرة" نَاسِخَة للآية التي في سُورة "المائدة""؛ لأن "البقرة" مِنْ أوَّل ما نَزَل بالمدينة "والمائدة" مِنْ آخِر مَا نَزَل وإنما الآخِر يَنْسَخ الأول

(3)

. وأما حديث ابن عمر فلا حُجة فيه لأن ابن عمر رحمه الله

(1)

رواه البخاري (ح 4981).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (3/ 64).

(3)

سبق في أول مبحث "النسخ" جواز العَكْس، وقَرَّره القرطبي، ولَعَلَّه هُنا يُرِيد أنَّ هذه هي الجادَّة.

ص: 107

كان رَجُلًا مُتَوَقِّفًا، فلمَّا سَمع الآيتين في واحدة التَّحْلِيل، وفي أخْرى التَّحْرِيم، ولم يَبلغه النَّسْخ تَوقَّف، ولم يؤخذ عنه ذِكْر النَّسْخ، وإنما تُؤوِّل عليه، وليس يُؤخَذ الناسِخ والْمَنْسُوخ بالتأويل

وقال ابن عباس في بعض ما رُوي عنه: إن الآية عَامَّة في الوَثَنيات والْمَجُوسِيات والكِتَابِيَّات، وكلّ مَنْ على غَير الإسْلام - حَرَام؛ فَعَلَى هذا هي نَاسِخَة للآية التي في "المائدة".

ونَقَل القرطبي عن ابن المنذر قَوله: ولا يَصِحّ عن أحَد مِنْ الأوائل أنه حَرَّم ذلك.

وقال بعض العلماء: وأمّا الآيتان فلا تَعَارُض بينهما، فإن ظَاهِر لَفْظ الشِّرْك لا يَتَنَاول أهْل الكِتَاب، لقوله تعالى:(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ)[البينة: 1] فَفَرَّق بينهم في اللفظ، وظَاهِر العَطْف يَقْتَضِي مُغَايرة بين الْمَعْطُوف والْمَعْطُوف عليه، وأيضًا فَاسْمُ الشِّرْك عُمُوم وليس بِنَصّ، وقوله تعالى:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: أوتُوا الكِتَاب مِنْ قَبْلِكم وأسْلَمُوا، كقوله:(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)[آل عمران: 199] الآية، وقوله:(مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ)[آل عمران: 113] الآية.

قيل له: هذا خِلاف نَصّ الآية في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وخِلاف ما قَالَه الجمهور، فإنه لا يُشْكِل على أحَد جَواز التَّزْوِيج ممن أسْلَم وصَار مِنْ أعْيان الْمُسْلِمين. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فَجَعَل العِلَّة في تَحْرِيم نِكَاحِهنّ الدُّعَاء إلى النَّار. والجواب أن ذلك عِلة لِقوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)، لأن الْمُشْرِك يَدعو إلى النَّار، وهذه العِلَّة مُطَّرِدَة في جَميع الكُفَّار، فالْمُسْلِم خَير مِنْ الكافِر مُطْلَقًا، وهذا بَيِّن.

ص: 108

وأما نِكَاح أهْل الكِتَاب إذا كَانُوا حَرْبًا

(1)

فلا يَحِلّ، وسُئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لا يَحِلّ، وتَلا قَول الله تعالى:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (صَاغِرُون)[التوبة: 29]

وكَرِه مالك تَزَوّج الْحَرْبِيَّات لِعِلَّة تَرْك الوَلَد في دار الحرْب، ولِتَصَرُّفِها في الْخَمْر والْخِنْزير

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

تَحْرِيم نِكَاح الْمُشْرِكَات في أوّل الأمْر في سُورة البقرة ثم نُسِخ منه تَحْرِيم نِكَاح نِساء أهل الكِتاب، وذلك في سورة المائدة، وهذا مِنْ باب الْخُصُوص والعُمُوم.

فيكون لفظ آية "البقرة" العُمُوم ويُرَاد به الْخُصُوص في الكِتَابِيَّات.

2 -

عَكْس القَول الأوّل؛ فَجَعلوا آية "المائدة" هي المنْسُوخَة، وآية "البقرة" هي النَّاسِخَة.

وهذا رَدَّه القرطبي مُعلِّلًا ردّه بِتَأخُّر نُزُول المائدة، وإنما الآخِر يَنْسَخ الأول.

3 -

للجَمْع بين الآيتين: فَرَّق بين إطلا لفظ "المشرِكين" ولفظ "أهل الكِتاب".

4 -

لفظ "الشِّرْك" عُمُوم وليس بِنَصّ، والآية في حِلّ نِساء أهْل الكِتاب نَصّ.

‌مُقارنة جوابه وجَمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أطال ابن جرير النّفَس في تفسير آية "البقرة"، فَكَان مما قَاله: اخْتَلَف أهْل التَّأويل في هذه الآية هل نَزَلَتْ مُرَادًا بها كل مُشْرِكَة، أم مُرَاد بِحُكْمها بعض الْمُشْرِكات دُون بعض؟ وهل نُسِخ منها بَعد وُجُوب الْحُكم بها شَيء أم لا؟

(1)

يعني مُحَارِبِين.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 65، 66) باختصار. وقد أطَال القرطبي في المسألة، وأطَلْتُ في بعض ما نَقَلْتُه عنه - مع الاختصار - لأن المقصود بَيان مَنْهَجِه في "دَفْع توهّم التعارُض".

ص: 109

فقال بعضهم: نَزَلَتْ مُرَادًا بها تَحْريم نِكَاح كُلّ مُشْرِكَة على كل مُسْلِم مِنْ أيّ

(1)

أجْنَاس الشِّرك؛ كانت عَابِدة وَثَن، أو كانت يَهودية، أو نَصرانية، أو مَجوسية، أو مِنْ غيرهم مِنْ أصْناف الشِّرك، ثم نُسِخ تَحْرِيم نِكَاح أهْل الكِتَاب بِقولِه:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

وقال آخرون: بل أُنْزِلَتْ هذه الآية مُرَادًا بِحُكْمِها مُشْرِكَات العَرَب، لم يُنْسَخ منها شيء، ولم يُسْتَثْنَ، إنما هي آية عامٌّ ظَاهِرها، خَاصٌّ تأويلها.

وقال آخرون: بل أُنْزِلَت هذه الآية مُرَادًا بها كل مُشْرِكة من أي أصْناف الشِّرك كانت، غير مَخصوص منها مُشْركة دون مُشْرِكة، وثَنية كانت، أو مَجوسية، أو كِتابية، ولا نُسِخَ منها شيء.

ثم رجّح ابن جرير أنه لا نَسْخ، وأنّ الآيتين بَينهما عُمُوم وخُصُوص، فقال: وأوْلى هذه الأقْوال بِتأويل الآية مَا قَاله قَتادة مِنْ أنّ الله تعالى ذِكْرُه عَنَى بِقولِه: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) مَنْ لم يكن مِنْ أهل الكِتاب مِنْ الْمُشْرِكات، وأنّ الآية عامٌّ ظاهرها، خَاصٌّ باطِنها، لم يُنْسَخ منها شيء، وأن نِسَاء أهْل الكِتاب غَير دَاخِلات فيها، وذلك أن الله تعالى ذِكْرُه أحَلَّ بِقَولِه:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) للمؤمنين مِنْ نِكاح مُحْصَنَاتِهِنّ مثل الذي أبَاحَ لهم مِنْ نِسَاء المؤمِنَات

(2)

.

(1)

في بعض النُّسَخ: مِنْ أنّ.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (3/ 711 - 715) باختصار.

ص: 110

في حين اقْتَصَر البغوي على ذِكْر سَبب النُّزول، وعلى قولَه: وقِيل: الآية مَنْسُوخَة في حَقّ الكِتابيَّات، لِقولِه تعالى:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وبِخَبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجْمَاع الأمَّة

(1)

.

ولم يَذْكُر السمرقندي في هذه الآية سِوى سَبَب النُّزول والْمَعْنَى العَامّ

(2)

.

أما السمعاني فَنَقل عن ابن عباس قوله: لا يَجُوز نِكَاح الكَوافِر أبَدًا إلى يوم القيامة بِحُكْم هذه الآية.

وقَرَّر السَّمْعاني أن "سَائر الْمُفَسِّرين والعُلَماء مِنْ الصَّحَابة وغيرهم على أنَّ الآية مَنْسُوخَة في الكِتابِيَّات بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) "

(3)

.

وأما الزمخشري فيُفهَم مِنْ كَلامِه أنَّ الآية مُحْكَمَة لم يُنْسَخ منها شيء، وبأن آية "البقرة" في حقّ الْمُشْرِكَات الْحَرْبِيَّات. وعَضَد قَوْله بأنَّ "سُورة المائدة كُلها ثَابِتَة لم يُنْسَخ منها شَيء قَطّ"

(4)

.

ونَقَل ابن عطية عن قتادة وسعيد بن جبير قولهما: لَفْظ الآية العُمُوم في كُلّ كَافِرَة والْمُرَاد بها الْخُصُوص في الكِتَابِيَّات. ثم قال: وبَيَّنَت الْخُصُوص آية "المائدة"، ولم يَتَنَاول قَطّ الكِتابيَّات.

كما نَقَل عن ابن عباس والحسن قولهما: تَنَاولَهنّ العُمُوم ثم نَسَخَت آية سُورة المائدة بَعض العُمُوم في الكِتَابيَّات.

(1)

معالم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 195).

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 173).

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 222).

(4)

الكشّاف، مرجع سابق (ص 129).

ص: 111

ثم أورَد قول ابن عباس - في بعض ما رُوي عنه -: إن الآية عَامَّة في الوَثَنِيَّات والْمَجُوسِيَّات والكِتَابِيَّات، وكُلّ مَنْ كَان على غَير الإسْلام حَرَام.

ورجّح ابن عطية النَّسْخ، فقال: فَعَلى هذا هي نَاسِخَة للآية التي في سُورة المائدة.

ورُوي عن عُمر أنه فَرَّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كِتَابِيَّتَين، وقالا: نُطَلِّق يا أمير المؤمنين ولا تَغْضَب! فقال: لو جَاز طَلاقكما لَجَاز نِكَاحَكما، ولكن أُفَرِّق بينكما صُغْرة قمأة

(1)

.

ثم عَقّب عليه بِقولِه: وهذا لا يَسْتَنِد جَيِّدًا، وأسْنَد مِنه أنَّ عُمَر أرَاد التَّفْرِيق بَينهما، فقال له حُذيفة: أتَزْعُم أنها حَرَام؟ فأُخْلِي سَبيلها يا أمير المؤمنين. فقال: لا أزْعُم أنَّها حَرَام، ولكني أخاف أن تَعَاطَوا المومِسَات مِنْهُنّ. ورُوي عن ابن عباس نحو هذا

(2)

.

أما الرازي فقال: واعْلَم أنَّ الْمُفَسِّرين اخْتَلَفُوا في أنّ هذه الآية ابْتِدَاء حُكْم وَشَرْع، أوْ هُو مُتَعَلِّق بِمَا تَقَدَّم؛ فالأكْثَرُون على أنه ابْتِدَاء شَرْع في بَيَان مَا يَحِلّ ويَحْرُم.

ثم قال: اخْتَلَفُوا في أنَّ لَفْظ الْمُشْرِك هل يَتَنَاول الكُفَّار مِنْ أهْل الكِتَاب؟ فأنْكَر بعضهم ذلك، والأكْثَرُون مِنْ العُلَمَاء على أنَّ لَفْظ الْمُشْرِك يَنْدَرِج فيه الكُفَّار مِنْ أهْل الكِتَاب، وهو الْمُخْتَار، ويَدُلّ عليه وُجُوه - ثم ذَكَرَها -

(3)

.

كما قال: واحْتَجّ مَنْ أبَاه بأنَّ الله تعالى فَصَل بين أهْل الكِتَاب وبين الْمُشْرِكِين في الذِّكْر

(4)

.

(1)

قَمْأة وقَمَاءة وقُمْأة، بالضم والكسر: ذَلّ وصَغَّر، فهو قمئ (القاموس المحيط ص 62).

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 296، 297) وقول عمر: رواه سعيد بن منصور في سُننه (ح 716)، وابن أبي شيبة (ح 16163)، والبيهقي (ح 13762)، وصححه الألباني في (الإرواء 6/ 301).

(3)

يُنظر تفصيل ذلك في "التفسير الكبير"(6/ 48).

(4)

ليس هذا على إطلاقه، بل في المسألة تَفْصِيل في خِطَاب أهْل الكِتَاب في القُرآن. يُنظر لذلك: مجموع فتاوى ابن تيمية، مرجع سابق (16/ 488 - 516)، و"مفتاح دار السعادة"، مرجع سابق (1/ 351 وما بعدها).

ص: 112

وذلك يَدُلّ على أنَّ أهْل الكِتَاب لا يَدْخُلون تَحْت اسْم الْمُشْرِك

(1)

.

وقال في تَفْسِير قَوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)[النساء: 25] ما نَصّه:

مِنْ النَّاس مَنْ قَال: إنه لا يَجُوز التَّزَوّج بالكِتَابيَّات ألبتة، واحْتَجُّوا بهذه الآيات فَقَالُوا: إنه تَعالى بَيَّن أنَّ عند العَجْز عن نِكَاح الْحُرَّة الْمُسْلِمَة يَتَعَيَّن له نِكَاح الأمَة الْمُسْلِمَة، ولو كان التَّزَوّج بالْحُرَّة الكِتَابيَّة جَائزًا لَكَان عند العَجْز عن الْحُرَّة الْمُسْلِمَة لم تَكُنْ الأمَة الْمُسْلِمَة مُتَعَيِّنَة، وذلك يَنْفِي دَلالة الآية، ثم أكَّدُوا هذه الدَّلالة بِقولِه تعالى:(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، وقد بَيَّنَّا بالدَّلائل الكَثِيرَة في تَفْسير هذه الآية أنَّ الكِابية مُشْرِكَة

(2)

.

وخَلص إلى تَرْجِيح قَول الأكْثَرين مِنْ الأئمة الذين قَالُوا: إنه يَجُوز للرَّجُل أن يَتَزَوّج بالكِتَابِيَّة، وحُجّة الْجُمْهُور قوله تعالى في سورة المائدة:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وسُورة المائدة كُلّها ثابِتة لم يُنْسَخ مِنها شَيء قَطّ

(3)

.

ونَفَى ابن جُزي التَّعارُض فَقَال: ولا تَعَارُض بَين هَذه الآية وبَين قَولِه: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)؛ لأنَّ هَذه في الكِتَابِيَّات، والأخْرى في الْمُشْرِكَات. وقد جَعَلَ بَعض النَّاس هذه نَاسِخَة لِتِلْك، وقيل: بالعكس

(4)

.

ورَجَّح ابن كثير أنَّ آية "البقرة" عَامَّة مَخْصُوصَة بآية "المائدة"، فقال: هَذا تَحْرِيم مِنْ الله عز وجل على الْمُؤْمنين أنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُشْرِكَات من عَبَدَة الأوْثَان، ثم إنْ

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (6/ 49).

(2)

المرجع السابق (10/ 48).

(3)

المرجع السابق (6/ 50)، ويُنظر (11/ 116).

(4)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 170).

ص: 113

كان عُمُومها مُرَادًا، وأنه يَدخل فيها كُلّ مُشْرِكَة مِنْ كِتَابِيَّة ووَثَنِيَّة، فَقَد خَصّ مِنْ ذلك نِسَاء أهْل الكِتَاب بِقولِه:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ).

وقيل: بل الْمُرَاد بذلك الْمُشْرِكُون مِنْ عَبَدة الأوْثَان، ولم يُرِد أهْل الكِتَاب بالكُلِّيَّة، والْمَعْنى قَرِيب مِنْ الأوَّل

(1)

.

وقد تَزَوَّج جَمَاعة مِنْ الصَّحَابة مِنْ نِسَاء النَّصَارى ولم يَرَوا بذلك بَأسًا، أَخْذًا بِهَذِه الآية الكَرِيمة:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فَجَعَلُوا هذه مُخَصِّصَة للتي في سورة البقرة:(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، إن قِيل بِدُخُول الكِتَابِيَّات في عُمُومِها، وإلَّا فلا مُعَارَضَة بَينها وبَينها؛ لأن أهْل الكِتَاب قد انْفَصَلُوا في ذِكْرِهم عن الْمُشْرِكِين في غير مَوْضِع

(2)

.

في حين ذَكَر الثَّعَالبي ثَلاثَة أقْوَال اخْتَصَرها بقوله: قالتْ طَائفة: الْمُشْرِكَات هُنا مَنْ يُشْرِك مَع الله إلَهًا آخَر.

وقال قتادة وابن جبير: الآية عَامَّة في كُلّ كَافِرة، وخَصَّصَتْها آية "المائدة"، لم يَتَنَاول العُمُوم قَطّ الكِتَابِيَّات.

وقال ابن عباس والحسن: تَنَاوَلهن العُمُوم، ثم نَسَخَتْ آية المائدة بَعضَ العُمُوم في الكِتَابِيَّات

(3)

.

ونَقَل القاسمي قَول ابن كثير، وأشَار إلى تَفصيل الرَّازي ثم قال: والتَّحْقِيق أنَّ الْمُشْرِك لا يَتَنَاول الكِتَابِيّ، لأنَّ آيات القُرآن صَرِيحَة في التَّفْرِقة بينهما، وعَطْف أحدِهِما

(1)

تفسير القرآن العظيم (2/ 296) باختصار يسير.

(2)

المرجع السابق (5/ 83).

(3)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 170).

ص: 114

على الآخَر في مثل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)[البينة: 6]، وسِرّ ذلك أنَّ الْمُشْرِك هو مَنْ يَتَدَيَّن بالشِّرك، أي يَكُون أصْل دِينه الإشْراك، والكِتَابي - وإنْ طَرَأ في دِينه الشِّرْك - فلم يَكن مِنْ أصْله وجَوهَرِه

(1)

.

‌رأي الباحث:

1 -

آية "البقرة" جَاءت في تَحريم نِكَاح الْمُشْرِكَات، وهي عَامَّة.

2 -

آية "المائدة" جَاءت في جَواز نِكَاح الكِتَابِيَّات الْمُحْصَنَات.

فلا تَعَارُض بين الآيات، فالآية الأولى عامّة في كل كافِرة ومُشْرِكة، والثانية مُخصِّصَة للكِتابِيَّات.

قال الشنقيطي:

قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، هذه الآية تَدُلّ بِظَاهِرِها على تَحْرِيم نِكَاح كُلّ كَافِرَة، ويَدُلّ لِذلك أيضًا قَوله تَعالى:(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، وقد جَاءت آية أُخْرى تَدُلّ على جَواز نِكَاح بَعض الكَافِرَات؛ وهُنّ الْحَرَائر الكِتَابِيَّات، وهي قوله تعالى:(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).

والجواب: أن هذه الآية الكَرِيمة تُخَصِّص قَوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)، أي: مَا لَمْ يَكُنَّ كِتَابِيَّات، بِدَلِيل قوله:(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، وحَكَى ابن جرير الإجْماع على هذا، وأمَّا مَا رُوي عن عُمر مِنْ إنْكَارِه على طلحة تَزويج يَهودية، وعلى حُذيفة

(1)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 157).

ص: 115

تَزويج نَصرانية؛ فإنه إنّمَا كَرِهَ نِكَاح الكِتَابِيَّات لئلا يَزْهَد النَّاس في الْمُسْلِمَات، أوْ لِغير ذلك مِنْ الْمَعَاني، قاله ابن جرير

(1)

.

ولِمعنى آخر، وهو خَشْية عُمر تَعَاطِي البَغَايا مِنْهُنّ، وقد تَقَدَّم هذا الْمَعْنَى.

‌المثال الرابع:

عِدَد الْمُطَلَّقَات:

قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة: 228] مع قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)[الأحزاب: 49] وقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)[الطلاق: 4].

‌صورة التعارض:

قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، هَذه الآية الكَرِيمة تَدُلّ بِظَاهِرِها على أنَّ كُلّ مُطَلَّقَة تَعْتَدّ بالأقْرَاء، وقد جَاء في آيات أُخَر أنَّ بعض الْمُطَلَّقَات يَعْتَدّ بِغير الأقْرَاء؛ كالعَجَائز والصَّغائر الْمَنْصُوص عليها بِقولِه:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) إلى قوله: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)، وكالْحَوامِل الْمَنْصُوص عليها بِقولِه:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(2)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي: والْمُطَلَّقَات لَفْظُ عُمُوم، والْمُرَاد به الْخُصُوص في الْمَدْخُول بِهِنّ، وخَرَجَتِ المطَلَّقَة قَبْل البِنَاء بآية الأحْزاب:(فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، وكذلك

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 30).

(2)

المرجع السابق (ص 31).

ص: 116

الْحَامِل بِقولِه: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، والْمَقْصُود مِنْ الأقْرَاء الاسْتِبْرَاء، بِخِلاف عِدَّة الوَفَاة التي هي عِبادَة، وجَعَل الله عِدّة الصَّغِيرة التي لم تَحِض والكبيرة التي قد يَئِسَتْ: الشُّهور. وقال قَوم: إنَّ العُمُوم في الْمُطَلَّقَات يَتناول هؤلاء ثم نُسِخْنَ، وهو ضَعيف، وإنما الآية فيمن تَحِيض خَاصَّة، وهو عُرْف النِّسَاء، وعليه مُعْظَمُهنّ

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

الْمُطَلَّقَات لَفْظ عَام، ويُرَاد به في هذه الآية الْخُصُوص في الْمَدْخُول بهن.

2 -

أن الآيسَة والصَّغيرة والْحَامِل والْمُتَوفَّى عنها زوجها غير دَاخِلة في آية "البقرة".

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير: القَول في تأويل قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) يَعني تعالى ذِكْرُه: والْمُطَلَّقَات اللواتي طُلِّقْنَ بعد ابْتِنَاء أزْوَاجِهن بهن وإفْضَائهم إليهن إذا كُنَّ ذَوات حَيض وطُهْر؛ يَتَرَبَّصْن بأنْفُسِهنَّ عن نِكَاح الأزْواج ثَلاثة قُرُوء

(2)

.

وأورَدَ البَغوي أنْواع العِدَد، فقال: وجُمْلَة الْحُكْم في العِدَد أنَّ الْمَرْأة إذا كانت حَامِلًا فَعِدّتها بِوَضْع الْحَمْل، سَواء وَقَعَتِ الفُرْقَة بَينها وبَين الزَّوج بالطَّلاق أو بِالْمَوت، لِقوله تَعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

فإن لم تكن حَامِلا نُظِر إن وَقَعَتِ الفُرْقَة بَينهما بِمَوت الزَّوج، فَعَلَيها أنْ تَعْتَدّ بأرْبعة أشْهر وعَشْر، سَواء مَات الزَّوج قَبْل الدّخُول أو بَعْدَه، وسَواء كَانَتِ الْمَرْأة

(1)

الجامع لأحكام القرآن (3/ 108) باختصار يسير.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 87).

ص: 117

مِمَّنْ تَحِيض أوْ لا تَحِيض، لِقول الله عز وجل:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).

وإن وَقَعَتِ الفُرْقَة بَينهما بالطَّلاق في الْحَياة نُظِر إنْ كان قَبْل الدّخُول بها فلا عِدَّة عليها، لِقول الله تعالى:(إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، وإنْ كان بَعْد الدُّخُول نُظِر إن كانت الْمَرْأة لم تَحِض قَطّ، أوْ بَلَغَتْ في الكِبَر سِنّ الآيسَات؛ فَعِدّتُها ثَلاثة أشْهر، لِقول الله تعالى:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)، وإن كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيض فَعِدَّتُها ثَلاثة أقْرؤ، لِقولِه تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)

(1)

.

ثم قال: وهذا كُلّه في عِدَّة الطَّلاق، أمَّا الْمُتَوفَّى عنها زَوجُها فَعِدّتُها أرْبَعة أشهر وعشر، سَواء كَانت مِمَّنْ تَحِيض أوْ لا تَحِيض، وأمَّا الْحَامِل فَعِدّتُها بِوَضْع الْحَمْل، سَواء طَلَّقَها زَوجُها، أوْ مَات عنها، لِقوله تَعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(2)

.

وقال الزمخشري: والْمُطَلَّقَات: أرَاد الْمَدْخُول بِهِنّ مِنْ ذَواتِ الأقْرَاء. فإن قُلْت: كيف جَازَتْ إرَادَتهن خَاصَّة، واللفْظ يَقْتَضِي العُمُوم؟ قُلْت: بل اللفظ مُطْلَق في تَنَاول الْجِنْس، صَالِح لِكُلِّه وبَعْضِه، فَجَاء في أحَدِ مَا يَصْلُح له كَالاسْمِ الْمُشْتَرَك. فإن قُلْت: فما مَعْنى الإخْبَار عَنْهُنّ بالتَّربُّص؟ قُلْت: هوَ خِبْر في مَعْنى الأمْر، وأصْل الكَلام: لِيَتَرَبَّص الْمُطَلَّقَات. وإخْرَاج الأمْر في صُورة الْخَبَر تَأكِيد للأمْر، وإشْعَار بأنه مِمَّا يَجب أن يُتَلَقَّى بِالْمُسَارَعَة إلى امْتِثَالِه.

(1)

معالم التنْزيل، مرجع سابق (4/ 204).

(2)

المرجع السابق (4/ 358).

ص: 118

وقوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)، فَأقَام الأشْهُر مَقَام الْحَيض دُون الأطْهَار، ولأنَّ الغَرَض الأصِيل في العِدَّة اسْتِبْرَاء الرَّحِم، والْحَيض هو الذي تُسْتَبْرَأ بِه الأرْحَام دُون الطُّهْر

(1)

.

وصرّح ابن عطية بأنَّ آية "الأحزاب" خَصَّصَت آيتي "البقرة" و"الطلاق"، فقال في آية الأحزاب:(إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا):

وهذه الآية خَصَّصَتْ آيَتَين: إحْدَاهما: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) فَخَصَّصَتْ هذه الآية مَنْ لم يُدْخَل بها، وكذلك خَصَّصَت مِنْ ذَواتِ الثَّلاثة الأشْهُر، وهُنّ مَنْ قَعَدْنَ عن الْمَحِيض، ومَن لَم يَحِضْن مِنْ صِغَر

(2)

.

وعقد ابن الجوزي فَصْلًا قال فيه: اخْتَلَف العُلَمَاء في هذه الآية هَلْ تَدْخُل في الآيات الْمَنْسُوخَات أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنها تَدْخُل في ذلك.

والقول الثاني: أن الآية كُلّها مُحْكَمة؛ فأوَّلها عَامّ، والآيات الوَارِدَة في العِدَد خَصَّتْ ذلك مِنْ العُمُوم، وليس بِنَسْخ

(3)

.

وأطال الرازي النَّفس في هذه الآية، وما يَتَعَلَّق بها مِنْ أحْكَام، فكان مما قَالَه عن الْمَدْخُول بها:

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 132) باختصار.

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 390).

(3)

زاد المسير، مرجع سابق (1/ 262).

ص: 119

فهي إمَّا أنْ تَكون حَائلًا أو حَامِلًا؛ فإن كانت حَامِلًا فَعِدَّتُها بِوضْع الْحَمْل لا بالأقْرَاء، قال الله تعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وأمَّا إنْ كَانت حَائلًا، فأمَّا أن يَكون الْحَيض مُمْكِنًا في حَقِّها، أوْ لا يَكُون، فإن امْتَنَع الْحَيض في حَقِّها إمَّا للصِّغَر الْمُفْرط، أو للكِبَر الْمُفْرِط، كَانَتْ عِدَّتُها بالأشْهُر لا بالأقْرَاء، قال الله تعالى:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ)، وأمَّا إذا كَان الْحَيْض في حَقِّها مُمْكِنًا، فإمَّا أنْ تَكون رَقِيقَة، وإما أنْ تَكُون حُرّة .... أمَّا إذا كَانَتْ الْمَرْأة مَنْكُوحَة، وكانَت مُطَلَّقة بَعد الدُّخُول، وكَانت حَائلًا، وكَانَت مِنْ ذَوات الْحَيض، وكَانت حُرّة، فَعِنْد اجْتِمَاع هذه الصِّفَات كانت عِدَّتها بالأقْراء الثَّلاثة، على مَا بَيَّن الله حُكْمَها في هذه الآية.

ثم بيَّن أن:

غير الْمَدْخُول بها تُخْرِجُها القَرينَة؛ لأنَّ الْمَقْصُود مِنْ العِدّة بَرَاءة الرَّحِم، والْحَاجَة إلى البَرَاءة لا تَحْصُل إلَّا عِند سَبْق الشّغْل، وأمَّا الْحَامِل والآيسَة فَهُما خَارِجَتَان عن اللفْظ، لأن إيجَاب الاعْتِدَاد بالأقْرَاء إنّمَا يَكُون حَيث تَحْصُل الأقْرَاء، وهَذان القِسْمَان لم تَحْصُل الأقْرَاء في حَقِّهما، وأمَّا الرَّقِيقَة

(1)

فَتَزْويجها كالنَّادِر؛ فَثَبَتَ أنَّ الأعَمّ الأغْلَب بَاقٍ تَحْت هذا العُمُوم

(2)

.

وبَيَّنَ ابنُ كَثير ما خَرَج عن عُمُوم قَولِه تَعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) فقال: هَذا أمْر مِنْ الله سبحانه وتعالى للمُطَلَّقَات الْمَدْخُول بِهِنّ مِنْ ذَوات الأقْرَاء، بأنْ يَتَرَبَّصْن بأنْفُسِهِنّ ثَلاثة قُرُوء، أي: بأن تَمْكُث إحْدَاهُنّ بَعد طَلاق زَوجِها لها ثَلاثة قُرُوء ثم تَتَزَوَّج إنْ شَاءت، وقَد أخْرَج الأئمة الأرْبَعة مِنْ هَذا العُمُوم الأمَة إذا طُلِّقَتْ، فإنها

(1)

أي: الأمَة المملوكة.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (6/ 74) باختصار.

ص: 120

تَعْتَدّ عِندهم بِقُرْءين، لأنها على النّصْف مِنْ الْحُرَّة، والقُرْء لا يَتَبَعَّض، فَكَمُل لها قُرْءان

(1)

.

وقال القاسمي في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ): هَذا أمْر للْمُطَلَّقات بأن يَتَرَبَّصْن بأنْفُسِهِنَّ ثَلاثة قُرُوء، أي: بأن تَمْكُث إحْدَاهن بَعد طِلاق زَوجِها لها ثَلاثة قُروء، ثم تَتَزَوَّج إن شَاءت

(2)

، وأُريد بالْمُطَلَّقَات: الْمَدْخُول بِهِنّ مِنْ ذَوات الأقْرَاء، لِما دَلَّتْ الآيات والأخْبَار أنَّ حُكْم غَيرهن خِلاف ما ذُكِر.

أمَّا غَيْر الْمَدْخُولَة فلا عِدَّة عَليها، لقوله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ)، وأمَّا التي لم تَحِض فَعِدَّتها ثَلاثة أشْهُر، لِقوله تعالى:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)

وأمَّا الْحَامِل فَعِدَّتها وَضْع الْحَمْل، لقوله تعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فَهذه الآية مِنْ العَامِّ الْمَخْصُوص

(3)

.

‌رأي الباحث:

آية "البقرة" في الْمُطَلَّقَات الْمَدْخُول بِهِنّ مِنْ ذَواتِ الأقْرَاء، ولَيْسَتْ عَامَّة في كُلّ مُطَلَّقَة، فَقد جَاءت آيات أُخْرى في الْمُطَلَّقَات مِنْ غَير ذَوات الأقْرَاء. وهذه الآية لَفْظُها عَامّ إلَّا أنه يُرَاد به الْخُصُوص.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 334).

(2)

وهذا نصّ قول ابن كثير السابق.

(3)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 174).

ص: 121

قال الشنقيطي:

قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن كل مطلقة تعتد بالأقراء، وقد جاء في آيات أُخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء؛ كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) إلى قوله: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)، وكالحوامل المنصوص عليها بقوله:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، على أنه جاء في آية أخرى أن بعض المطلقات لا عدة عليهن أصلا، وهن المطلقات قبل الدخول، وهي قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّنَهَا) الآية.

والجواب عن هذا ظاهر، وهو: أن آية المطلقات عامة، وهذه الآيات المذكورة أخص منها، فهي مُخَصِّصَة لها، فهي إذًا من العام المخصوص

(1)

.

‌المثال الخامس:

عدة المتوفى عنها زوجها:

قوله تعالى: (وَالًّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[البقرة: 234] مع قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)[الطلاق: 4].

‌صورة التعارض:

أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، بينما في الآية الثانية أن أجل الحوامل إلى وضع الحمل من غير تحديد بمدة معينة.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 31).

ص: 122

‌جَمْع القرطبي:

قال القرطبي في آية "البقرة":

هذه الآية في عِدَّة المتوفَّى عنها زَوجها، وظَاهِرها العُمُوم ومَعْنَاها الْخُصُوص.

وحَكى المهدوي عن بَعض العُلَماء أنَّ الآية تَنَاولَت الْحَوامِل ثم نُسِخَ ذلك بقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(1)

.

ثم ذَكَر الخِلاف في عِدّة الْحَامِل الْمُتَوفَّى عنها زَوجُها، فقال: عِدَّة الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنها زَوجها وَضْع حَمْلِها عند جُمْهُور العُلَماء. ورُوي عن علي بن أبي طالب وابن عباس

(2)

أنَّ تَمَام عِدّتِها آخِر الأجْلَين

وقد روي عن ابن عباس أنه رَجَع عن هذا. والْحُجَّة لِمَا رُوي عن علي وابن عباس رَوْم

(3)

الْجَمْع بَين قَولِه تَعَالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) وبين قَوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وذلك أنَّها إذا قَعَدَتْ أقْصَى الأجَلَين فَقَد عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الآيتين، وإنْ اعْتَدَّتْ بِوَضْع الْحَمْل فَقَد تَرَكَتِ العَمَل بآية عِدَّة الوَفَاة، والْجَمْع أوْلى مِنْ التَّرْجِيح باتِّفَاق أهْل الأصُول، وهذا نَظَر حَسَن لَولا مَا يُعَكِّر عليه مِنْ حَديث سُبيعة الأسلمية، وأنَّها نُفِسَتْ

(4)

بَعْد وَفَاة زَوجها بِلَيَال، وأنَّها ذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَها أنْ تَتَزَوَّج. أخْرَجه في الصَّحِيح

(5)

، فَبَيَّنَ الْحَدِيث أنَّ قَولَه تعالى:

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 165).

(2)

الْمَرْوي عن ابن عباس مُخرَّج في الصحيحين: البخاري (ح 4626)، ومسلم (ح 1485)، وفيه: فبَعثُوا كُرَيبًا مَولى ابن عباس إلى أمّ سَلَمة يَسألها عن ذلك، فَجَاءهم فأخْبَرهم أنّ أمّ سلمة قالت: إن سُبَيعة الأسْلَمية نُفِسَتْ بَعد وَفَاة زَوجها بِلَيَالٍ، وإنها ذَكَرَتْ ذلك لِرَسول الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَها أن تَتَزَوَّج.

وسُكوت ابن عباس يُفهَم مِنه الرُّجُوع إلى هذا القول.

(3)

أي: قَصَد.

(4)

قال النووي في "المنهاج"(10/ 111): بِضَمّ النّون على الْمَشْهُور؛ وفي لُغة بِفَتْحِها؛ وهما لُغَتان في الوِلادة.

(5)

رواه البخاري (ح 3770)، ومسلم (ح 1484).

ص: 123

(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) مَحْمُول على عُمُومِه في الْمُطَلَّقَات والْمُتَوفَّى عَنهن أزْواجهن، وأنَّ عِدّة الوَفَاة مُخْتَصَّة بالْحَائل مِنْ الصِّنْفَيْن

(1)

.

ثم ذَكَر خُلاصَة القَول، فَقال: وقَد أجْمَع الْجَمِيع بِلا خِلاف بَينهم أنَّ رَجُلًا لَو تُوفِّي وتَرَك امْرَأة حَامِلًا فانْقَضَتْ أرْبَعة أشْهر وعَشر، أنها لا تَحِلّ حتى تَلِد، فَعُلِم أنَّ الْمَقْصُود الوِلادَة

(2)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الطَّلاق مَا نَصّه: وَضْعِ الْحَمْل - وإن كان ظَاهِرًا في الْمُطَلَّقَة، لأنه عليها عُطِف وإليها رَجَع عَقب الكَلام - فإنه في الْمُتَوفَّى عنها زَوجها كذلك، لِعُمُوم الآية، وحَدِيث سُبَيْعَة

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أن ظَاهِر الآية العُمُوم في كُلّ مُعتدَّة عِدَّة وَفَاة، ومَعْنَاها الْخُصُوص في غير الْحَوامِل.

2 -

أنه وَرَد الْخِلاف عن بعض الصحابة، والْحُجَّة لِذلك هو قَصْد الْجَمْع بَين الآيتين، والْجَمْع بَين الآيَتَين، أنَّ آية "البقرة" في غَيْر الْحَوامِل، وآية "الطَّلاق" في الْحَوامِل.

3 -

أنَّ الْحَامِل لَو مَرَّ عليها أربعة أشهر وعشر، لا تَحِلّ حتى تَلِد.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير: وأمَّا قوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأُنْفُسِهِنَّ)[البقرة: 234] فإنَّه يَعْني بِه يَحْتَبِسْن بأنْفُسِهِنّ مُعْتَدَّات عَنْ الأزْوَاج والطِّيب والزِّينة والنُّقْلَة عن الْمَسْكَن الذي كُنَّ يَسْكُنَّه في

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 166).

(2)

المرجع السابق (3/ 167).

(3)

المرجع السابق (18/ 148). وحديث سُبيعة مُخرّج في الصحيحين، وسبق تخريجه.

ص: 124

حَياة أزْوَاجِهن، أرْبعة أشْهر وعَشرا، إلَّا أن يَكُنّ حَوامِل، فَيَكُون عَليهن مِنْ التَّرَبّص كَذلك إلى حِين وَضْع حَمْلِهن، فإذا وَضَعْن حَمْلَهُن انْقَضَت عِدَدهن حِينئذ

(1)

.

وقال السمعاني: وقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) هذا الْحُكْم مُتَّفَق عليه في الْمُطَلَّقَات الْحَوامِل، فأمَّا المتوفَّى عنها زَوجها [فقد]

(2)

اخْتَلَف الصَّحَابة في ذلك، فقال علي وابن عباس: إنّ عِدّتها أبْعَد الأجَلَين. وقال عمر وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة: إنّ عِدّتها بِوَضْع الْحَمْل، وهذا هو القَول الْمُخْتَار

(3)

.

وأوْجَز الثعلبي وأوْضَح أنَّ: عِدَّة الْمُتَوفَّى عنها زَوجها ضَرْبَان: إنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدّتها أنْ تَضَع حَمْلها، وإلَّا فَعِدّتها أرْبَعة أشْهُر وعَشرة

(4)

.

وقال في التَّرَبُّص: إلَّا أن يَكُنْ حَوامِل فَيَتَرَبَّصْن إلى أنْ يَضَعْن حَمْلَهن، فإذا وَلَدْن انْقَضَتْ عِدّتُهنّ

(5)

.

وقال في قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ): في الْمُطَلَّقَات والْمُتَوفَّى عنهن أزْواجُهنّ

(6)

.

وقال البغوي: وجُمْلَة الْحُكم في العِدَد أنّ الْمَرْأة إذا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدّتها بِوَضْع الْحَمْل، سَواء وَقَعَتِ الفُرْقَة بينها وبين الزّوج بالطَّلاق أوْ بِالْمَوت، لِقوله تعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(7)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (4/ 248).

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (5/ 463).

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (2/ 171).

(5)

المرجع السابق (2/ 184).

(6)

المرجع السابق (9/ 339).

(7)

معالم التنزيل، مرجع سابق (1/ 204).

ص: 125

كما قال في تَفسير سُورة الطلاق: أمَّا الْمُتَوفَّى عنها زَوجها فَعِدَّتها أرْبعة أشْهر وعَشر، سَواء كانَت مِمَّنْ تَحِيض أوْ لا تَحِيض، وأمَّا الْحَامِل فَعِدَّتها بِوَضْع الْحَمْل، سَواء طَلَّقَها زَوجها، أوْ مَاتَ عنها، لقوله تعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

(1)

.

في حين قال ابن الجوزي في آية "البقرة": فأمَّا التي نَحن في تَفْسِيرها فقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتها (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، والصَّحِيح أنها عَامَّة دَخَلَها التَّخْصِيص؛ لأنَّ ظَاهِرَها يَقْتَضِي وُجُوب العِدَّة على الْمُتَوفَّى عَنها زَوجها أرْبعة أشْهر وعَشرا، سَواء كانت حَامِلًا أوْ غَير حَامِل، غَيْر أنَّ قَوله تعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) خَصّ أوْلات الْحَمْل، وهي خَاصَّة أيضًا في الْحَرَائر، فإنَّ الأمَة عِدّتها شَهْرَان وخَمْسَة أيَّام؛ فَبَان أَنَّها مِنْ العَامِّ الذي دَخَلَه التَّخْصِيص

(2)

.

وهذا الذي قَالَه القُرْطُبي قَال بِه مِنْ قَبله ابن عطية، فإنه قال ما نَصّه: وهذه الآية هي في عِدَّة الْمُتَوفَّى عَنها زَوجها، وظَاهِرُها العُمُوم ومَعْنَاها الْخُصُوص في الْحَرَائر غَير الْحَوامِل، ولم تَعْنِ الآية لِمَا يَشِذّ مِنْ مُرْتَابَة ونحوها.

قال: وحَكَى الْمَهْدَوي عن بَعض العُلَمَاء أنَّ الآية تَنَاوَلَتِ الْحَوامِل ثم نُسِخ ذلك بِقَولِه: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وعِدَّة الْحَامِل وَضْع حَمْلها عند جُمْهُور العُلَمَاء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أنَّ تَمَام عِدَّتِها آخِر الأجَلين

(3)

.

(1)

معالم التنْزيل، مرجع سابق (4/ 358).

(2)

زاد المسير، مرجع سابق (1/ 275).

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 314).

ص: 126

وبِقَول ابن عطية والقُرطبي قال ابن جُزي أيضًا، فإنه قال: الآية عُمُوم في كُلّ مُتَوفَّى عنها، سَواء تُوفِّي زَوجها قَبْل الدّخُول أوْ بَعْدَه إلَّا الْحَامِل فَعِدَّتُها وَضْع حَمْلها، سَواء وَضَعَتْه قَبْل الأَرْبَعة الأشْهر والعَشْر أو بَعْدَها؛ عند مالك والشافعي وجُمْهُور العُلَمَاء. وقال علي بن أبي طالب: عِدّتُها أبْعَد الأجَلَين

(1)

.

وقال ابن كثير: وهذا الْحُكْم يَشْمَل الزَّوجَات الْمَدْخُول بِهِنّ وغَير الْمَدْخُول بِهِنّ بالإجْمَاع

ولا يَخْرُج مِنْ ذَلك إلَّا المُتَوفَّى عَنها زَوجها وهي حَامِل، فإنَّ عِدَّتها بِوَضْع الْحَمْل، ولو لَمْ تَمْكُث بَعْده سِوى لَحْظَة، لِعُمُوم قوله:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). وكان ابن عباس يَرى أنَّ عَليها أن تَتَرَبَّص بأبْعَد الأجَلَين مِنْ الوَضْع، أو أرْبَعة أشْهر وعَشر للجَمْع بَين الآيَتين، وهذا مأخَذ جَيِّد ومَسْلَك قَوي، لولا مَا ثَبَتَتْ بِه السُّنَّة في حَديث سُبَيْعة الأسلمية الْمُخَرَّج في الصحيحين

(2)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الطَّلاق: وقوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) يقول تعالى: ومَن كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتها بِوَضْعِه ولو كَان بَعْد الطَّلاق أوْ الْمَوت بِفَوَاق نَاقَة

(3)

في قَول جُمْهُور العُلَمَاء مِنْ السَّلَف والْخَلَف، كما هو نَصّ هذه الآية الكريمة، وكما وَرَدَتْ به السُّنَّة النَّبَويَّة

(4)

.

وقال الثعالبي في قَوله تعَالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ): وهو لَفْظ يَعُمّ الْحَوامِل الْمُطَلَّقَات والْمُعْتَدَّات مِنْ الوَفَاة

(5)

.

(1)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 84).

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 377، 378) باختصار وحديث سُبيعة الأسلمية سبق تخريجه.

(3)

في اللسان (10/ 316): فواق ناقة: وهو قَدْر ما بين الْحَلْبَتَين من الرَّاحة. تُضَمّ فاؤه وتُفْتح.

(4)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (14/ 35).

(5)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (4/ 312).

ص: 127

وممن قال بِتَخْصِيص الْحَامِل مِنْ عُمُوم الآية: القاسمي، فإنه قَال في آية "البقرة" ما نَصّه: خُصّ مِنْ عُمُوم الآية الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنها زَوجها، فإنَّ عِدَّتها بِوَضْع الْحَمْل لِقَولِه تَعالى:(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ولِمَا في الصَّحِيحَين

(1)

عَنْ سُبَيعَة الأسْلَمِية

(2)

.

‌رأي الباحث:

لَفْظ آية "البقرة عَامّ يُرَاد بِه الْخُصُوص في الْمُطَلَّقَات ذَوَاتِ الأقْرَاء، وخُصَّ مِنه الْحَامِل، فإنَّها تَعْتَدّ بِوَضْعِ الْحَمْل، سواء كانت مُطلّقة أو مُعْتَدة عِدّة وفاة.

فآية "البقرة" عَامَّة، وآية "الطَّلاق" خَاصَّة، والعَامَّ يُحْمَل على الْخَاصَّ، فلا تَعَارُض بَين الآيَات.

وقد دَلَّتِ السُّنَّة على ذلك.

قالت سُبيعة: جَمَعْتُ عَليّ ثِيابي حِين أمْسَيْتُ فَأتَيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَألْتُه عن ذلك، فأفْتَانِي بأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِين وَضَعْتُ حَمْلِي، وأمَرَنِي بالتَّزَوّج إنْ بَدَا لي. قال ابن شهاب: فلا أرَى بأسًا أنْ تَتَزَوَّج حِين وَضَعَتْ، وإنْ كَانَتْ في دَمِها غَير أنْ لا يَقْرَبها زَوجها حَتى تَطْهُر

(3)

.

وهذا الْحُكم وإن كان في خُصوص الْمُتوفَّى عنها زوجها، إلَّا أنه عام في كلّ حامل، فتَعْتَدّ بِوضْع حَمْلها، "ولا خِلاف في ذلك إلَّا ما رُوي عن علي وابن عباس في الْمُتَوفَّى عنها زوجها أنه لا يُبْرأها مِنْ عِدّتها إلَّا آخر الأجلين. وقالت به فِرقة ليست مَعدودة في أهل السنة"

(4)

.

(1)

سبق تخريجه، وهو مُخرّج في الصحيحين.

(2)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 197).

(3)

الحديث سبق تخريجه، وهو مُخرّج في الصحيحين، وهذه رواية مسلم (ح 1484).

(4)

الاستذكار، مرجع سابق (6/ 212).

ص: 128

‌المبحث الثالث: من خلال القول بالتقديم والتأخير

التَّقْدِيم والتَّأخِير "هُو أحَدُ أسَالِيب البَلاغَة؛ فَإنَّهُم أتَوا بِه دَلالة عَلى تَمَكُّنِهم في الفَصَاحَة، ومَلَكَتِهم في الكَلام وانْقِيادِه لهم. ولَه في القُلُوب أحْسَن مَوقِع، وأعْذَب مَذَاق"

(1)

.

و "هو بَاب كَثير الفَوائد، جَمّ الْمَحَاسِن، واسِع التَّصَرَّف، بَعِيد الغَاية لا يَزال يَفتر لك عن بَدِيعَة، ويُفْضِي بك إلى لَطِيفة، ولا تَزال تَرى شِعْرًا يَرَوقُك مَسْمَعه، ويَلْطُف لَدَيك مَوقِعه، ثم تَنْظُر فَتَجِد سَبَب أنْ رَاقَكَ ولَطُفَ عندك أن قُدِّم فيه شيء وحُوِّل اللفظ عن مَكَان إلى مَكَان"

(2)

.

ولقد خَاطَب الله "العَرَب بِلُغَتِها ومَا تَعْرِف مِنْ أفَانِين خِطَابها ومُحَاوَرَتها، فَلَمَّا كَانَ فَنّ مِنْ كَلامِهم مَبْنِيًّا على تَقْدِيم الْمُؤخَّر وتأخِير الْمُقَدَّم؛ خُوطِبُوا بِهَذا الْمَعْنَى في كِتَابِ الله تَعالى، الذي لو فَقَدُوه مِنْ القُرآن لَقَالُوا مَا بَاله عَرِي مِنْ هَذا البَاب الْمَوْجُود في كَلامِنا الْمُسْتَحْلَى مِنْ نِظَامِنا"

(3)

.

والقاعِدَة في التَّقْدِيم والتَّأخِير: "أنَّ كُلّ فِعْلَين تَقَارَبا في الْمَعْنَى جَاز تَقْدِيم أيهما شِئت"

(4)

.

وسَبَب التَّقْدِيم والتَّأخِير "إمَّا لِكَون السِّيَاق في كُلّ مَوْضِع يَقْتَضِي مَا وَقَع

وإمَّا لِقَصْد البَدَاءة بِه والْخَتْم بِه للاعْتِنَاء بِشَأنِه .... وإمَّا لِقَصْد التَّفَنُّن في الفَصَاحَة، وإخْرَاج الكَلام عَلى عِدَّة أسَالِيب"

(5)

.

(1)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (3/ 233).

(2)

دلائل الإعجاز، الجرجاني (ص 96).

(3)

قاله ابن الأنباري. نَقْلًا عن مُقَدِّمَة "الجامع لأحكام القرآن"(1/ 98، 99).

(4)

الجامع لأحكام القرآن - المقدمة - (1/ 121).

(5)

مُعْتَرَك الأقْرَان، السيوطي (1/ 171).

ص: 129

والتَّقْدِيم والتَّأخِير قِسْمَان:

الأوَّل: ما أشْكَل مَعْنَاه بِحَسب الظَّاهِر، فَلَمّا عُرِف أنه مِنْ بَاب التَّأخِير والتَّقْدِيم اتّضَح.

وقد تَعَرَّض السَّلَف لِذلك في آيات، فأخْرَج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[التوبة: 55] قال: هذا مِنْ تَقَادِيم الكَلام، يَقول: لا تُعجِبك أمْوالهم ولا أوْلادهم في الْحَياة الدُّنيا، إنما يُرِيد الله ليُعذِّبَهم بها في الآخِرَة.

الثاني: ما لَيْس كَذلِك. وقد ألَّف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كِتَابه "المقدِّمَة في سِرّ الألْفَاظ الْمُتَقَدِّمة"

(1)

، قال فيه: الْحِكْمَة الشَّائعَة الذَّائعَة في ذَلك الاهْتِمَام كما قال سِيبَويه في كِتَابِه، كأنَّهم يُقدِّمون الذي بَيَانه أهَمّ، وهُم بِبَيَانِه أعْنَى

(2)

أمَّا أسْبَاب التَّقْدِيم والتَّأخِير فَيَرَى ابن الصَّائغ أنها تَدُور عَلى عَشَرة أسْبَاب:

1 -

التَّبَرُّك، كَتَقْدِيم اسْم الله في الأمُور ذَوات الشَّأن.

2 -

التَّعظِيم.

3 -

التَّشْرِيف.

4 -

الْمُنَاسَبَة؛ وهي إمَّا مُنَاسَبة الْمُتَقَدِّم لِسِيَاق الكَلام، وإمَّا مُنَاسَبَة لَفْظ هو مِنْ التَّقدّم أو التَّأخُّر.

5 -

الْحَثّ عليه والْحَضّ على القِيام بِه حَذَرًا مِنْ التَّهَاون به، كَتَقْدِيم الوَصِيَّة على الدَّين.

6 -

السَّبْق، وهو إمَّا في الزَّمَان باعْتِبَار الإيجاد، كَتَقْدِيم الليل على النَّهار، والظُّلُمَات على النُّور، وآدَم على نُوح

أَوْ باعْتِبَار الإنْزَال، أو بِاعْتِبَار الوُجُوب والتَّكْلِيف، أو بالذَّات.

(1)

وذَكَرَه حَاجِي خَليفة بِاسْم: "مُقَدِّمَة في سِرّ الألْفَاظ الْمُتَقَدِّمَة" قال: لابن الصائغ محمد بن عبد الرحمن الحلبي، سنة 772 اثنتين وسبعين وسبعمائة. (كشف الظنون 2/ 1803).

(2)

مُعْتَرَك الأقْرَان، مرجع سابق (1/ 171 - 173).

ص: 130

7 -

السَّبَبِيَّة؛ كَتَقْدِيم "العَزِيز" عَلى "الْحَكِيم"، لأنه عَزَّ فَحَكَم. و"العليم" عليه

(1)

لأن الإحْكَام والإتْقَان نَاشِئ عَنْ العِلْم. وأمَّا تَقْدِيم "الْحَكِيم" عليه في سورة الأنْعَام؛ فلأنَّه مَقَام تَشْرِيع الأحْكَام.

8 -

الكَثْرَة. قِيل: ولهذا قُدِّم السَّارِق على السَّارِقة؛ لأن السَّرِقة في الذُّكُور أكْثَر. والزَّانِيَة على الزَّاني؛ لأنَّ الزِّنا فيهن أكْثَر.

ومنه تَقْدِيم الرَّحْمَة على العَذَاب، حيث وَقَع في القُرآن غَالبًا.

9 -

التَّرَقِّي مِنْ الأدْنى إلى الأعْلَى، ومِن هَذا النَّوع تَأخِير الأبْلَغ، وقد خُرِّج عليه تَقْدِيم "الرَّحمن" عَلى "الرَّحيم"، و"الرَّءوف" على "الرَّحيم"، و"الرَّسُول" على "النبيّ".

10 -

التَّدَلِّي مِنْ الأعْلى إلى الأدْنى.

"هذا مَا ذَكَره ابن الصَّائغ، وزَاد غَيره أسْبابًا أُخَر؛ مِنها كَوْنه أدَلّ عَلى القُدْرَة وأعْجَب .... ومنها رِعَاية الفَواصِل"

(2)

.

وأمَّا أنْواعُه فـ "إمَّا أنْ يُقَدَّم والْمَعْنَى عَلَيه، أو يُقَدَّم وهو في الْمَعْنَى مُؤَخَّر، أو بالعَكْس"

(3)

.

ومِن أمْثِلَة دَفْع تَوَهّم التَّعَارُض بِالقَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير عند القرطبي ما يلي:

(1)

أي: تَقْدِيم اسْم "العَليم" على اسْم "الْحَكِيم".

(2)

مُعْتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 174 - 180)، ويُنظر: البُرْهَان في عُلُوم القرآن، الزركشي (3/ 233 - 236)، فقد ذَكَر سبعة أسباب.

(3)

البُرْهان في عُلوم القرآن، مرجع سابق (3/ 238)، ويُنظَر تفصيل ذلك عنده.

ص: 131

‌المثال الأول:

الْمَلَكين بِبابِل:

قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)[البقرة: 102] مع قوله تعالى في الآية نفسها: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ومع قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)[الإسراء: 95] ومع قوله تعالى عن الملائكة: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء: 26، 27].

‌صورة التعارض:

وَصْف السِّحْر بأنه كُفْر، وأنَّ الشَّياطِين هي التي تُعلِّمه، ثم وَصْفُه بأنه مِمَّا أُنْزِل على الْمَلَكَين، مَع كَون الملائكة عِبَاد مُكْرَمُون، وهُم مِنْ العَالَم العُلْوي.

ولذلك قال الْحَسَن: عِلْجَان، لأنَّ الملائكة لا يُعَلِّمُون السِّحْر

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)"مَا" نَفِي، والوَاو للعَطْف على قَولِه:(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)، وذلك أنَّ اليَهُود قَالُوا: إنَّ الله أنْزَل جِبْرِيل ومِيكَائيل بالسِّحْر؛ فَنَفَى الله ذلك، وفي الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير، التَّقْدِير: ومَا كَفَر سُلَيمَان ومَا أُنْزِل على الْمَلَكَين، ولكِنَّ الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت؛ فَهَارُوت

(1)

ذَكَره البغوي في "معالم التنزيل"(1/ 99)، وذَكَره غيره ممن أتَى بَعْدَه.

ص: 132

ومَارُوت بَدَل مِنْ الشَّياطين في قَوله: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) هذا أوْلَى ما حُمِلَتْ عليه الآية من التَّأويل، وأصَحّ ما قِيل فيها، ولا يُلْتفَت إلى سِواه؛ فالسِّحْر مِنْ اسْتِخْرَاج الشَّياطِين لِلَطَافَة جَوْهَرِهم ودِقّة أفْهَامِهم

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

أن اليَهود زَعَمتْ أن الله أنْزَل جِبريل وميكَائيل بالسِّحْر. فَرَدّ الله ذلك.

وتَقْدِير الآية: وما كَفَر سُلَيمَان وما أُنْزِل على الملكين مِنْ سِحْرٍ.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

روى ابن جرير - بإسناده - إلى ابن إسْحَاق أنَّ رَسُول الله لما ذَكَر سُلَيمَان بن دَاود في الْمُرْسَلِين. قال بعض أحْبَار اليَهود: ألَا تَعْجَبُون مِنْ مُحَمد يَزْعُم أنَّ ابن دَاود كان نَبِيًّا، والله ما كان إلَّا سَاحِرًا؛ فأنْزَل الله في ذلك مِنْ قَولهم:(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)، أي: باتِّبَاعِهم السِّحْر وعَمَلِهم بِه، وما أُنْزِل على الْمَلَكَين بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت.

ثم قال ابن جرير: فإذا كان الأمْر في ذَلك على مَا وَصَفْنا وتَأويل قَوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) مَا ذَكَرْنا، فَبَيِّنٌ أنَّ في الكَلام مَتْرُوكًا تُرِك ذِكْره اكْتِفَاء بما ذُكِر مِنه، وأنَّ مَعْنَى الكَلام: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِين مِنْ السِّحْر على مُلْك سُلَيمَان، فتُضِيفه إلى سُلَيمان، ومَا كَفَر سُلَيمَان فَيَعْمَل بالسِّحْر، ولكن الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمون النَّاس السِّحْر.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 50).

ص: 133

وقد كان قتادة يتأوَّل قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) على ما قُلْنا

(1)

.

كما رَوى ابن جرير - بإسْناده - إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). قال: لم يُنْزِل الله السِّحْر.

وروى أيضًا عن الربيع بن أنس (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال: ما أنْزَل الله عليهما السِّحْر

(2)

.

ثم قال ابن جرير: فَتَأويل الآيَة عَلى هَذا الْمَعْنَى الذي ذَكَرْنَاه عن ابن عباس والرَّبِيع مِنْ تَوجِيهِهما مَعْنَى قَوله: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) إلى: "ولم يُنْزِل على الْمَلَكَين".

واتَّبَعُوا الذي تَتْلُوا الشَّياطِين عَلى مُلْك سُلَيمَان مِنْ السِّحْر، وما كَفَر سُلَيمَان ولا أَنْزَل الله السِّحْر على الْمَلَكَين، ولكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت، فَيَكُون حِينئذ قوله:(بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) مِنْ الْمُؤخَّر الذي مَعْنَاه التَّقْدِيم.

فإن قَال لنا قائل: وكَيف وَجْه تَقْديم ذَلك؟ قيل: وَجْه تَقْدِيمه أن يُقَال: واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِين عَلى مُلْك سُلَيمَان، ومَا كَفَر سُلَيمَان، وما أُنْزِل على الْمَلَكَين، ولكن الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر بِبَابِلَ هَارُوت ومَارُوت؛ فيكون مَعنيًا بـ (الْمَلَكَيْنِ) جِبْرِيل ومِيكَائيل؛ لأن سَحَرَة اليَهود - فيما ذُكِر - كانت تَزْعُم أنَّ الله أنْزَل السِّحْر على لِسَان جِبْرِيل ومِيكَائيل إلى سُلَيمَان بن دَاود، فأكْذَبها الله بِذلك، وأخْبَر نَبِيَّه مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أنَّ جِبْرِيل ومِيكَائيل لم يَنْزِلا بِسِحْرٍ قَطّ، وبَرّأ سُلَيمَان مما نَحَلُوه مِنْ السِّحْر، فأخْبَرَهم أنَّ السِّحْر مِنْ عَمَل الشَّياطين، وأنها تُعَلِّم النَّاس ذَلك بِبَابِل، وأنَّ الذين يُعَلِّمُونهم ذلك رَجُلان؛ اسْمُ أحَدِهما هَارُوت، واسْم الآخَر مَارُوت؛ فيكن هَارُوت ومَارُوت على هذا التَّأويل تَرْجَمَةً على النَّاس ورَدًّا عَليهم

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 328).

(2)

سيأتي تخريج هذه الروايات.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 331، 332).

ص: 134

ثم ذَكَر بَقِيَّة الأقْوال في مَعْنَى الآية، ورَجَّح قَول مَنْ وَجَّه "مَا" في الآية إلى مَعْنَى "الذي" دُون مَعْنى "مَا" التي هِي بِمَعْنَى الْجَحْد

(1)

.

وهذا التّرْجِيح لم يَرْتَضِه ابن كثير حَيث قال: ثم شَرَع ابن جرير في رَدِّ هَذا القَول وأنَّ "مَا" بِمَعْنَى "الذي"، وأطَال القَول في ذَلك، وادَّعَى أن هَارُوت ومَارُوت مَلَكَان أنْزَلَهُما الله إلى الأرض، وأذِن لهما في تَعْلِيم السِّحْر اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وامْتِحَانًا بَعْد أن بَيَّن لِعِبَادِه أنَّ ذلك مِمَّا يَنْهَى عنه على ألْسِنَة الرُّسُل، وادَّعَى أنَّ هَارُوت ومَارُوت مُطِيعَان في تَعْلِيم ذلك؛ لأنَّهُما امْتَثَلا مَا أُمِرَا بِهِ. وهَذا الذي سَلَكَه غَرِيب جِدًّا! وأغْرَب مِنه قَول مَنْ زَعَم أنَّ هَارُوت ومَارُوت قَبِيلان مِنْ الْجِنّ، كَمَا زَعَمَه ابن حَزْم

(2)

.

وأما السمرقندي فقد أطَال في ذِكْر الرِّوَايات في سَبَب نُزُول الْمَلَكَين، وفِتْنَتهما بالزّهْرَة

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 337).

(2)

تفسير القرآن العظيم (1/ 521)، وقول ابن حزم المشار إليه في: الفصل (3/ 145).

(3)

لا يَصِحّ في هذا الباب شيء.

قال البيهقي بعد أن ساق روايات في هذا الصَّدَد: ورويناه من وَجْه آخر عن مُجاهد عن ابن عمر مَوقوفًا عليه، وهو أصَحّ، فإن ابن عمر إنما أخَذَه عن كَعب (شُعب الإيمان 1/ 181).

وقال ابن عطية بعد سياق الروايات: وهذا كُلّه ضَعيف. (المحرر الوجيز 1/ 187).

وقال القرطبي: لا يَصِحّ منه شيء، فإنه قَول تُدْفَعه الأصُول في الملائكة الذين هُمْ أمَناء الله على وَحْيِه، وسُفَراؤه إلى رُسُله.

(الجامع لأحكام القرآن 2/ 52).

وقال ابن كثير: وقد رُوِيَ في قِصة هارُوت ومَاروت عن جماعة من التابعين

وحَاصِلها رَاجِع في تَفْصِيلها إلى أخْبَار بني إسْرائيل، إذْ ليس فيها حَديث مَرفوع صَحيح مُتَّصِل الإسْناد إلى الصَّادِق المصدوق المعصوم الذي لا يَنطق عن الهوى، وظاهِر سياق القرآن إجمال القِصَّة من غير بَسْط ولا إطْناب، فنحن نُؤمن بما وَرَد في القرآن على ما أرَادَه الله تعالى، والله أعلم بِحَقيقَة الْحَال.

(تفسير القرآن العظيم 1/ 532).

ويُنظر لذلك أيضًا: تفسير القرآن العظيم (1/ 524، 528، 530، 532).

وقال القاسمي: وللقُصّاص في هَارُوت ومَارُوت أحَادِيث عَجيبة! ثم ذَكَرَ أنَّ هذا في التلمود ثم قال: وجَارَاه جَهَلَة القُصَّاص مِنْ المسلمين، فأخَذُوها منه. ثم نَقَلَ عن الرازي وجوه بُطلان تلك القصة.

(محاسن التأويل 1/ 406، 407).

ص: 135

ثم أشَار إلى مَا قِيل في قَوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) حيث قال: قال بعضهم: "مَا" للنَّفْي، فَكَأنه يَقول: ولم يُنْزِل على الْمَلَكَين السِّحْر

(1)

.

وذَكَر السَّمعاني القَولين في الآية، ورَجَّح مَا رَجَّحَه ابن جرير، فقال: قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قُرِئ على النَّفْي، وهو مَحْكِيّ عن عَطية بن عوف. فَعَلَى هذا في الآية تَقْدِيم وتَأخِير، تَقْدِيره: ومَا كَفَرَ سُلَيمَان ومَا أُنْزِل على الْمَلَكَين بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت، ولكِنَّ الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر ومَا يُعَلِّمَان مِنْ أحَد. وهَذا قَول غَريب. والصحيح أن "ما" بمعنى "الذي" يَعني: والذي أُنْزِل على الْمَلَكَين

(2)

.

وكذلك قال الثعلبي، فإنه ذَكَر القولين، ثم رجَّح ما رجَّحه ابن جرير والسمعاني قبلَه

(3)

.

وهذا القَول هو الذي رَجَّحه البغوي أيضًا، فإنه قال: فإن قيل: كيف يَجُوز تَعْلِيم السِّحْر مِنْ الْمَلائكَة؟ قيل: له تأويلان:

أحَدُهما: أنهما لا يَتَعَمّدان التَّعْلِيم لَكِن يَصِفَان السِّحْر، ويَذْكُران بُطْلانِه، ويأمُرَان باجْتِنَابِه. والتَّعْلِيم بِمَعْنى الإعْلام، فالشَّقِي يَتْرُك نَصِيحَتهما ويَتَعَلَّم السِّحْر مِنْ صَنْعَتهما.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 106).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق 1/ 116).

(3)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 245).

ص: 136

والتأويل الثاني - هو الأصحّ -: أنَّ الله تعالى امْتَحَن النَّاس بالْمَلَكَين في ذَلك الوَقْت، فَمَنْ شَقِي يَتَعَلَّم السِّحْر مِنْهُما فَيَكْفُر بِهِ، ومَن سَعُد يَتْرُكْه فَيَبْقَى على الإيمان، ويَزْدَاد الْمُعَلِّمَان بالتَّعْلِيم عَذَابًا، فَفِيه ابْتِلاء للمُعَلِّم والْمُتَعَلِّم، ولله أنْ يَمْتَحِن عِبَادَه بِمَا شَاء، فَلَه الأمْر والْحُكْم

(1)

.

ولابن عطية تَفْصِيل آخَر، فإنه قال:"ما" عُطِف على السِّحْر، فَهْي مَفْعُولَة، وهذا على القَول بأنَّ الله تَعالى أنْزَل السِّحْر عَلى الْمَلَكَين فِتْنَة للنَّاس؛ لِيَكْفُر مَنْ اتَّبَعَه، ويُؤمِن مَنْ تَرَكَه، أوْ على قَول مُجاهِد وغَيره: إنَّ الله تعالى أنْزَل على الْمَلَكَين الشيء الذي يُفَرَّق بِه بَين الْمَرْء وَزَوْجِه دُون السِّحْر، أوْ على القَول: إنه تعالى أنْزَل السِّحْر عَليهما ليُعْلَم على جِهَة التَّحْذِير مِنه، والنَّهْي عنه.

ثم قال: والتَّعْلِيم عَلى هَذا القَول إنّما هو تَعْرِيف يَسِيرٌ بِمَبَادِئه.

وقيل: إن "ما" عُطِف على "ما" في قوله: (مَا تَتْلُو).

وقيل: "ما" نافية، رَدّ على قوله:(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)، وذَلك أنَّ اليَهود قَالوا: إنّ الله أنْزَل جِبْرِيل ومِيكَائيل بالسِّحْر؛ فَنَفَى الله ذلك

(2)

.

وأطال الرازي في معنى "ما"، وفَرّع عليه تَفْرِيعَات، فَذَكَر في قَوله تعالى:(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) مَسَائل، منها:

الأولى: "ما" في قوله: (وَمَا أُنْزِلَ)، وفِيه وَجْهَان:

الأول: أنه بِمَعْنَى "الذي". وذَكَر أنَّ الذين قَالوا بهذا القَول اخْتَلَفُوا فيه على ثلاثة أقوال، وذَكَر ضِمنها احتجاج أبي مُسلم، وأطَال في رَدّ احْتِجَاجِه.

الثاني: أن يكون "ما" بِمَعْنَى الْجَحْد.

(1)

مَعَالم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 99، 100)، والتأويل الثاني بِحُرُوفِه في "الكشف والبيان"(1/ 245).

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 186).

ص: 137

وخَتَم ذلك بِقَولِه: واعْلَم أنَّ هَذه الأقْوال وإنْ كانَتْ حَسَنَة، إلَّا أنَّ القَول الأول أحْسَن منها؛ وذلك لأن عطف قوله:(وَمَا أُنْزِلَ) على ما يَلِيه أوْلى مِنْ عَطْفِه عَلى ما بَعُدَ عنه إلَّا لِدَلِيل مُنْفَصِل

(1)

.

وأطال أيضًا في تَقْرِير مَسْأَلة مَا إذا كان هَارُوت ومَارُوت مَلَكَين، وفي الاخْتِلاف في سَبَب نُزُولِهِما

(2)

.

وقال ابن جُزي: (وَمَا أُنْزِلَ) نَفْي، أو عَطْف على السِّحْر عَلَيهما، إلَّا أنَّ ذلك يَرُدّه آخِر الآية، وإنْ كانت مَعْطُوفَة بِمَعْنَى "الذي"، فالْمَعْنَى أنَّهُما أُنْزِل عَلَيهما ضَرْب مِنْ السِّحْر ابْتِلاء مِنْ الله لِعِبَادِه، أوْ لِيُعْرَف فيُحْذَر. وقُرئ الْمَلِكِين بِكَسْر اللام، وقال الْحَسَن: هُمَا عِلْجَان؛ فَعَلَى هَذا يَتَعَيَّن أنْ تَكون "ما" غير نافِيَة

(3)

.

وقد أطال ابن كثير في ذِكْر الرّوايات في نُزُول الْمَلَكَين، ونَقَل عن ابن جرير قوله ورِوايته، ثم قال: وذَهَب كَثير مِنْ السَّلَف إلى أنهما كانا مَلَكَين مِنْ السَّمَاء، وأنَّهُمَا أُنْزِلا إلى الأرْض، فَكَان مِنْ أمْرِهما مَا كَان

(4)

.

ثم أجَاب عَمَّا يَرِد مِنْ إشْكَال، فقال: وعلى هذا فَيَكُون الْجَمْع بَيْن هَذا وبَيْن مَا وَرَد مِنْ الدَّلائل على عِصْمَة الْمَلائكَة - أنَّ هَذَين سَبَق في عِلْم اله لَهُما هَذا، فيَكُون تَخْصِيصًا لهما، فلا تَعَارُض حِينئذ، كما سَبَق في عِلْمِه مِنْ أمْر إبْليس مَا سَبَق، وفي قولٍ: إنه كَان مِنْ الْمَلائكَة، لقَوله تعالى:(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (3/ 197، 198) باختصار.

(2)

المرجع السابق (3/ 198 - 200).

(3)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 55).

(4)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 522).

ص: 138

[البقرة: 34]. إلى غير ذلك من الآيات الدَّالّة على ذلك، مَع أنّ شَأن هَارُوت ومَارُوت على ما ذُكِر أخَفّ مما وَقَع مِنْ إبْلِيس لَعَنَه اللهُ تعالى

(1)

.

ورجّح القاسمي كون "ما" نافية، وأنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح. فقال: اعْلَم أنَّ للعُلَمَاء في هذه الآية وُجُوهًا كَثيرة، وأقْوالًا عَديدة؛ فمنهم مَنْ ذَهَب فيها مَذْهب الأخْبَارِيين نَقَله الغَثّ والسَّمِين، ومِنهم مَنْ وَقَفَ مَع ظَاهِرِها البَحْت وتَمَحَّل لِمَا اعْتَرَضَه بِمَا الْمَعْنَى الصَّحِيح في غِنى عَنه، ومِنهم مَنْ ادَّعَى فِيها التَّقْدِيم والتَّأخِير، ورَدّ آخِرَها على أوّلها، بِمَا جَعَلها أشبَه بالألْغَاز والْمُعَمَّيَات، التي يَتَنَزَّه عنها بَيان أبْلَغ كَلامِهم، إلى غير ذلك مما يَرَاه المُتَتَبِّع لِمَا كُتِب فيها.

والذي ذَهَب إليه الْمُحَقِّقُون أنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح والتَّقْوى في بَابِل .... وكانا يُعلِّمان النَّاس السِّحْر. وبَلَغ حُسْن اعْتِقَاد النَّاس بِهِما أنْ ظَنُّوا أنَّهُما مَلَكَان مِنْ السَّمَاء، وما يُعلِّمَانِه للنَّاس هو بِوحْي مِنْ الله، وبَلَغ مَكْر هَذَين الرَّجُلَين ومُحَافَظتهما على اعْتِقَاد النَّاس الْحَسَن فِيهما أنهما صَارَا يَقُولان لِكُلّ مَنْ أرَاد أن يَتَعَلَّم مِنهما:(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)، أي: إنما نَحْن أُولو فِتْنَة نَبْلُوك ونَخْتَبِرُك، أتَشْكُر أمْ تَكْفُر، ونَنْصَح لَك ألَّا تَكْفُر. يقولان ذلك لِيُوهِما النَّاس أنَّ عُلومَهما إلَهِيَّة، وصِنَاعَتهما رَوْحَانِيَّة، وأنهما لا يَقْصِدَان إلَّا الْخَير

فـ "ما" هنا نافية على أصَحَّ الأقْوال، ولفظ (الْمَلَكَيْنِ) هنا وارِد حَسب العُرْف الْجَارِي بَيْن النَّاس في ذلك الوَقْت.

ثم خَلَص القاسمي إلى: "أنَّ مَعْنَى الآية مِنْ أوَّلها إلى آخِرها هكذا:

أن اليَهود كَذَّبُوا القُرآن ونَبَذُوه وَرَاء ظُهورِهم، واعْتَاضُوا عَنه بالأقَاصِيص والْخُرَافَات التي يَسْمَعُونَها مِنْ خُبَثَائهم عن سُلَيمَان ومُلْكِه، وزَعَمُوا أنه كَفَر، وهُو لَمْ

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 522، 523) وهذا لا يَتَعَارَض مع مَا سَبَق نَقْله عنه في رَدّ قول ابن جرير، فإنه إنما ردّ إنزال السِّحْر عليهما، والإذْن بِتَعْلِيمِه.

ص: 139

يَكْفُر، ولكن شَياطِينهم هُمْ الذين كَفَرُوا، وصَارُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر، ويَدّعُون أنه أُنْزِل على هَارُوت ومَارُوت، اللذين سَمَّوهما مَلَكَين، ولم يَنْزِل عَليهما شَيء

فأنْتَ تَرَى أنَّ هَذا المقَام كُله ذَمّ، فلا يَصِحّ أن يَرِد فيه مَدْح هَارُوت ومَارُوت. والذي يَدُلّ على صِحَّة مَا قُلْنَاه فِيهما أنَّ القُرآن أنكَر نُزُول أيّ مَلَك إلى الأرْض لِيُعَلِّم النَّاس شَيئًا مِنْ عِند الله، غَير الوَحْي إلى الأنْبِيَاء، ونَصَّ نَصًّا صَرِيحًا أنّ الله لَم يُرْسِل إلَّا الإنْس لِتَعْلِيم بَنِي نَوْعِهم، فقال:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الأنبياء: 7]، وقال مُنكِرًا طَلَب إنْزَال الْمَلَك:(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ)[الأنعام: 8]، وقال في سورة الفرقان:(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) إلى قَولِه: (فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا)[الآيات: 7 - 9]

(1)

.

‌رأي الباحث:

الآية تَحْتَمِل أكْثَر مِنْ وَجْه:

فالوَجْه الأوّل: أنَّ "ما" نافية، وهو مَا رجَّحَه القُرطبي دُون غيره مِنْ الأقْوال، وهو مَا ذَهَبَ إليه القاسمي.

فيكون مَعنى قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ):

ومَا كَفَر سُلَيمَان ومَا أُنزِل على الْمَلَكَين، فَتَكُون جُمْلَة (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) جُملة مُعْتَرِضَة، وبهذا يَسْتَقِيم الْمَعْنى، ولا يَكُون هُناك تَكَلُّف في القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير.

(1)

محاسن التأويل، مرجع سابق (1/ 405، 406) باختصار يسير.

ص: 140

وهذا القَول لا يَحْتَاج إلى تَكَلُّف الْجَوَاب في إنْزَال الْمَلائكَة، ولا في إنْزَال السِّحْر وتَعْلِيمه.

وعلى قول القاسمي في حَمْل الْمَلَكين على أنه "وارِد حَسب العُرْف الْجَارِي بَيْن النَّاس في ذلك الوَقْت" يَزُول الإشْكَال في ذِكْر الْمَلَكَين.

وعلى القَول بأنَّ الْمَقْصُود بـ (الْمَلَكَيْنِ) جِبْرِيل ومِيكَائيل، فإنه تَأكِيد للنَّفْي، أي: ولم يُنَزِّل الله على جِبْرِيل ومِيكَائيل مِنْ سِحْر.

وقد أخْرَج سعيد بن منصور من طريق الأعمش عن يحيى بن وثاب أنه كان يقرأ: وجِبْرِيل ومِيكَايِيل

(1)

.

وأخرج البخاري في تاريخه

(2)

وابن المنذر

(3)

عن ابن عباس: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ): جِبْرِيل ومِيكَائيل.

وما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما

(4)

والرَّبيع بن أنس

(5)

؛ مِنْ أنَّ الله لم يُنَزِل السِّحْر

(6)

؛ فيه ضَعْف، إلَّا أنَّ مَجموع الرِّوايات يَدُل على أنَّ لها أصْلًا.

والوَجْه الثاني: أنَّ هَارُوت ومَارُوت كانا مَلَكَين مِنْ مَلائكَة السَّمَاء، وأنهما أُنْزِلا إلى الأرْض، وهذا عزاه ابن كثير إلى كثير مِنْ السَّلَف.

وعلى هذا القول لا يَلزَم أن يَكون السِّحر أُنزِل عَليهما.

(1)

السُّنن (2/ 574).

(2)

التاريخ الكبير (7/ 168).

(3)

ذَكَره السيوطي في الدر المنثور (1/ 504، 505).

(4)

الرواية عن ابن عباس من طريق محمد بن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن جدّه، وهذا "إسناد مُسلسل؛ عطية العوفي - الراوي عن ابن عباس - فمن دونه ضعفاء"(مقدمة تحقيق جامع البيان ص 189).

(5)

قال ابن حبان في ترجمته: والناس يَتَّقُون حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن فيها اضطرابًا كثيرًا (الثقات 4/ 228) وتُنظر مقدمة تحقيق جامع البيان ص (190).

(6)

جامع البيان (2/ 331) وقد تقدّم ذلك عن ابن جرير.

ص: 141

وكَونهما أُنزِلا إلى الأرْض لا يَتَعَارَض مَع إنْكَار نُزُول الْمَلائكَة، ذلك أنَّ مَا جَاء في الآيات التي أوْرَدَها القاسمي مِنْ نَفْي إنْزَال الْمَلائكَة لِتَعْلِيم النَّاس، أي لإنْذَارِهم ودَعْوَتِهم.

ويَدُلّ على هذا أنَّ الله أنْزَل الملائكة بالوَحي، وبالعَذَاب، وهي تَنْزِل لِحُضُور مَجَالِس الذِّكْر، ولِكِتَابَة أعْمَال بَني آدَم، كما في صحيح السنة النبوية

(1)

.

‌المثال الثاني:

هل ماتَ عيسى ابن مريم؟

قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَّفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)[آل عمران: 55] مع قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)[النساء: 159].

‌صورة التعارض:

"هذه الآية الكريمة يُتَوَهَّم مِنْ ظَاهِرها وَفَاة عِيسَى عليه السلام، وقد جَاء في بَعض الآيَات ما يَدُلّ على خِلاف ذلك، كقوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) "

(2)

.

(1)

من ذلك: قَوله عليه الصلاة والسلام: "يَتَعَاقَبُون فِيكم مَلائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويَجتمعون في صَلاة الفَجْر وصَلاة العَصْر"

الحديث. رواه البخاري (ح 530)، ومسلم (ح 632).

وقَوله عليه الصلاة والسلام: إن لله مَلائكَة يَطُوفُون في الطّرُق يَلْتَمِسُون أهْل الذّكْر رواه البخاري (ح 6045)، ومسلم (ح 2689).

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 36) بتصرف يسير.

ص: 142

‌جَمع القرطبي:

قال القرطبي:

وقال جَمَاعة مِنْ أهْل الْمَعَاني - منهم الضَّحَّاك والفَرَّاء - في قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) على التَّقْدِيم والتَّأخِير؛ لأنَّ الواو لا تُوجِب الرُّتْبَة، والْمَعْنى: إني رَافِعُك إليَّ ومُطَهِّرك مِنْ الذِين كَفَرُوا ومُتَوفِّيك بعد أن تَنْزِل مِنْ السَّمَاء، كَقوله:(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)[طه: 109]، والتَّقْدِير: ولَولا كَلِمَة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك وأجَل مُسَمّى لَكَانِ لِزَامًا. قال الشاعر:

ألا يا نَخْلَة مِنْ ذَات عِرق عليكِ ورَحمة الله السَّلام

أي: عليك السَّلام ورحمة الله.

وقال الْحَسَن وابن جريج: معنى (مُتَوَفِّيكَ) قَابِضُك ورَافِعُك إلى السَّمَاء مِنْ غَيْر مَوت، مثل: تَوفَّيتُ مَالِي مِنْ فُلان: أي قَبَضْته.

وقال وَه بن مُنَبِّه: تَوَفَّى الله عِيسى عليه السلام ثَلاث سَاعَات مِنْ نَهَار، ثم رَفَعَه إلى السَّمَاء. وهذا فيه بُعْد، فإنه صَحّ في الأخْبَار عن النبي صلى الله عليه وسلم نُزولُه وقَتْلُه الدَّجال

(1)

......

وقال ابن زيد: (مُتَوَفِّيكَ) قَابِضُك، ومُتَوَفِّيك ورَافِعُك واحِد، ولم يَمُتْ بَعْد.

ورَوى ابن طلحة

(2)

عن ابن عباس: معنى (مُتَوَفِّيكَ) مُمِيتُك. الرَّبِيع بن أنس: وهي وَفَاة نَوم. قال الله تعالى: 0 وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام: 60] أي: يُنِيمكم، لأنَّ

(1)

يَعني في آخر الزمان، كما في الصحيحين: البخاري (ح 2109)، ومسلم (ح 155).

(2)

هكذا في المطبوع، وهو عليّ بن أبي طلحة، كما في "جامع البيان"(5/ 450)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(2/ 661)، وقَول ابنِ عَباس هذا عَلَّقَه البخاري (4/ 1690).

ص: 143

النَّوم أخُو الْمَوت، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أَفِي الْجَنَّة نَوم؟ قال: لا، النَّوم أخُو الْمَوت، والْجَنَّة لا مَوْت فيها

(1)

أخرجه الدارقطني

(2)

.

والصَّحِيح أنَّ الله تعالى رَفَعَه إلى السَّمَاء مِنْ غير وَفَاة ولا نَوم، كما قال الْحَسَن وابن زيد، وهو اخْتِيَار الطَّبري، وهو الصَّحِيح عن ابن عباس، وقَاله الضَّحَّاك

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ في الآية تَقْدِيمًا وتَأخِيرًا، ومَعناها: إني رَافِعُك إليَّ ومُطَهِّرك مِنْ الذين كَفَرُوا ومُتَوَفِّيك بَعد أنْ تَنْزِل مِنْ السَّمَاء.

2 -

أن الله تَعالى رَفَعَه إلى السَّمَاء مِنْ غَير وَفَاة ولا نَوم. وهذا لا يَتَعَارَض مَع القَول بالتَّقْدِم والتَّأخِير.

‌مُقارنة جوابه وجَمْعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

حَكَى ابن جرير اخْتِلاف أهْل التأويل في مَعنى الوَفَاة التي ذَكَرَها الله عز وجل في آية "آل عمران"؛ فَحَكى قول بعضهم: هي وَفَاة نَوم، وكان مَعنى الكَلام على مَذهبهم: إني مُنِيمُك ورَافِعُك في نَومِك.

وقَول آخَرِين: مَعنى ذلك إني قَابِضُك مِنْ الأرْض فَرَافِعُك إِلَيّ. قالوا: وَمَعْنى الوَفَاة القَبْض، كما يُقال: تَوَفَّيتُ مِنْ فُلان مَا لِيَ عليه، بمعنى: قَبَضْته واسْتَوْفَيته.

(1)

رواه الطبراني في الأوسط (ح 919)، والصيداوي في معجم الشيوخ (ص 73)، والبيهقي في الشعب (ح 4745) قال الهيثمي في المجمع (10/ 415): رواه الطبراني في الأوسط والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح.

ورواه ابن المبارك في الزهد (ح 279) مُرسلًا.

وأورده ابن كثير في تفسير سورة الدخان (12/ 354)، وسَاق إسْناد ابن مردويه في تفسيره، ثم ذَكَره.

والحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1087).

(2)

لم أجده في سُنن الدارقطني، ولا ذَكَره مَنْ خرَّجُوه.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 100، 101).

ص: 144

قَالوا: فَمَعْنَى قَوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي: قَابِضُك مِنْ الأرْض حَيًّا إلى جِوارِي، وآخِذُك إلى مَا عِنْدِي بِغَير مَوت، ورَافِعُك مِنْ بَين الْمُشْرِكِين وأهْل الكُفْرِ بك.

وقَول آخَرين: مَعْنَى ذلك: إنِّي مُتَوفِّيك وَفَاة مَوْت.

وقَول آخَرِين: مَعْنَى ذلك: إذْ قَال الله يا عِيسى إني رَافِعُك إليَّ ومُطَهِّرُك مِنْ الذين كَفَرُوا، ومُتَوَفِّيك بَعد إنْزَالي إيّاك إلى الدُّنْيا.

وقَالوا: هَذا مِنْ الْمُقَدَّم الذي مَعْناه التَّأخِير، والْمُؤخَّر الذي مَعْناه التَّقْدِيم.

ثم ذَكَر ابن جرير القَول الرَّاجِح عنده، فقال:

وأوْلى هذه الأقْوال بالصِّحَّة عِنْدَنا قَول مَنْ قَال: مَعْنَى ذلك: إني قَابِضُك مِنْ الأرْض ورَافِعُك إليَّ؛ لِتَواتُر الأخْبَار

(1)

عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَال: يَنْزِل عِسى ابن مَريم فيَقتُلُ الدَّجَّال، ثم يَمْكُث في الأرْض مُدَّة - ذَكَرَها، اخْتَلَفَتِ الرِّواية في مَبْلَغِها - ثم يَمُوت، فيُصَلِّي عليه الْمُسْلِمُون ويَدْفُنُونَه

(2)

.

وممن قال بالتقديم والتأخير: أبو الليث السمرقندي، فإنه قال: قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه: إني رافعك من الدنيا إلى السماء ومتوفيك بعد أن تَنْزِل من السماء على عهد الدجال

(3)

.

(1)

سبقت الإشارة إلى الحديث، وهو مُخرَّج في الصحيحين.

وقال ابن عطية: وأجْمَعَت الأمّة على ما تَضَمَّنه الْحَدِيث الْمُتَواتِر من أنَّ عيسى عليه السلام في السَّمَاء حَيّ، وأنه يَنْزِل في آخِر الزَّمان؛ فيَقْتُل الْخِنْزِير، ويَكْسر الصَّليب، ويَقْتُل الدَّجَّال، ويَفِيض العَدْل، ويُظهِر هذه الملة مِلّة محمد، ويَحُجّ البيت ويَعْتَمِر، ويَبْقَى في الأرْض أرْبَعًا وعِشْرِين سَنة، وقيل: أربعين سَنة، ثم يُمِيتُه الله تعالى.

(المحرر الوجيز 1/ 444).

ويُنظر لذلك: كتاب "قصة المسيح الدجّال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام"، محمد ناصر الدين الألباني، فقد أثْبَت تَواتُر الرِّوايات بِنُزُول عِيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، خِلافًا لمن زَعَمَ أنها أحَادِيث آحَاد، فَنَفَاها! ويُنْظَر أيضًا كتاب "أشراط الساعة"، عبد الله بن سليمان الغفيلي.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 447 - 451) بتصرّف.

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 243).

ص: 145

وأجَاب السمعاني عن سُؤال قد يَنْشَأ: ما مَعْنى التَّوَفِّي وعِيسى في الأحْيَاء؟ فَقال: فيه أقْوال:

قال الْحَسَن البَصْري: مَعْنَاه: إني قَابِضُك مِنْ الأرْض. وهو صَحِيح عند أهْل اللغَة فيُقَال: تَوَفّيتُ حَقّي مِنْ فُلان، أي قَبَضْتُ.

وقال الفرّاء: فِيه تَقْدِيم وتَأخِير، وتَقْدِيره: إن رَافِعُك إليّ ومُتَوفِيك، أي بَعْد النُّزُول مِنْ السَّمَاء.

ثم قال: وهذا التَّقْدِيم والتَّأخِير الذي ذَكَرْنا في الآية مَحْكِيّ عن ابن عباس، ولَه قَول آخَر: أنَّ الآية على حَقِيقَة الْمَوت، وأنَّ عِيسى قد مَات، ثم أحْيَاه الله تَعالى ورَفَعَه إلى السَّمَاء.

قال وهب بن منبه: أمَاتَه الله ثَلاث سَاعات مِنْ النَّهَار ثم أحْيَاه الله ورَفَعه إليه.

وقال الرَّبيع بن أنس: التَّوَفِّي هو النَّوم، وكان عِيسى قد نَام فَرَفَعَه الله نَائمًا إلى السَّمَاء.

ثم أشَار إلى الرَّاجِح فَقَال: والْمَعْرُوف القَولان الأوّلان

(1)

.

واسْتَدَلّ الثعلبي بآيات أُخَر على مَعْنَى التَّوَفِّي، فَقَال:

اخْتَلَفُوا في مَعْنَى التَّوَفِّي ههنا:

فقال كعب والْحَسَن والكَلبي ومَطر الورَّاق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريج وابن زيد: مَعْنَاه: إني قَابِضُك ورَافِعُك مِنْ الدُّنيا إليَّ مَنْ غَيْر مَوت. يَدُلّ عليه قَوله: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي)[المائدة: 117]، أي: قَبَضْتَنِي إلى السَّمَاء وأنا حَيّ؛ لأنَّ قَومَه إنَّمَا تَنَصَّرُوا بَعْد رَفْعه لا بَعْد مَوتِه.

وعلى هذا القول للتَّوَفِّي تَأويلان:

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 323، 324).

ص: 146

أحَدُهما: إني رَافِعُك إليَّ وَافِيًا لن يَنَالُوا مِنك. مِنْ قَولِهم: تَوَفَّيتُ كذا واسْتَوفَيته، أي أخَذْته تَامًّا.

والآخر: إني مُسَلِّمُك. مِنْ قَولِهم: تَوَفَّيت مِنه كَذا أي سَلَّمْته.

وقال الرَّبيع بن أنس: مَعْنَاه أني مُنِيمُك ورَافِعُك إليّ مِنْ قَومِك. يَدُلّ عليه قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)[الأنعام: 60]، أي: يُنِيمكم؛ لأنَّ النَّوم أَخو الْمَوت، وقوله:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[الزمر: 42].

ورَوى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إني مُمِيتُكم، يَدُلّ عليه:(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)[السجدة: 11] وقوله: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)[يونس: 46]، وله على هذا القول تأويلان:

أحَدهما: ما قال وَهْب

(1)

تَوَفَّى الله عِيسى ثَلاث سَاعَات مِنْ النَّهار، ثم أحْيَاه ورَفَعَه.

والآخَر: ما قَاله الضَّحَّاك وجَمَاعَة مِنْ أهْل الْمَعَاني: إنّ في الكلام تَقْديمًا وتَأخِيرًا.

مَعْنَاه: إني رَافِعُك إليَّ ومُطَهِّرُك مِنْ الذين كَفَرُوا ومُتَوفِّيك بَعْد إنْزَالِك مِنْ السَّمَاء، كَقَوله عز وجل:(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)[طه: 109]

وقال الشاعر:

ألا يا نَخْلَة مِنْ ذاتِ عِرْق عَليك ورَحمة الله السَّلام

أي عليك السلام ورحمة الله

وقال آخر:

جَمَعْتَ وَعَيْبًا نَخْوَة ونَمِيمَة ثلاث خِصَال لَسْن من تَرعوي

أي: جَمَعْتَ: نَخْوة ونَميمة وعيبًا

(2)

.

(1)

يعني: ابن مُنَبِّه.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 80 - 82)، وهو في "معالم التنْزيل"(1/ 308).

ص: 147

وذَهَب الزمخشري إلى أنَّ التَّوفِّي مِنْ اسْتِيفَاء الأجَل، فقال:(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: مُسْتَوفِي أجَلَك. مَعْنَاه: إني عَاصِمُك مِنْ أنْ يَقْتُلَك الكُفَّار، ومُؤَخِّرك إلى أجَل كَتَبْتُه لَك، ومُمِيتُك حَتْف أنْفِك لا قَتِيلًا بأيدِيهم.

وقيل: (مُتَوَفِّيكَ) قَابِضُك مِنْ الأرْض، مِنْ تَوَفَّيتُ مَا لِي عَلى فُلان إذا اسْتَوفَيته.

وقيل: مُميتُك في وَقْتك بَعد النُّزُول مِنْ السَّمَاء، ورَافِعُك الآن. وقيل: مُتَوَفِّي نَفْسك بالنَّوم

(1)

.

ونَقَل ابن عَطية عن الفَرّاء قَوله: هي وَفَاة مَوْت، ولكِنّ الْمَعْنَى: إني مُتَوَفِّيك في آخِرِ أمْرِك عِند نُزُولِك وقَتْلِك الدَّجَال؛ فَفِي الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير.

وضَعّف قَول من قال: إنَّ مَعْنَى مُتَوفِّيك: مُتَقَبِّل عَمَلك، فقال: وهذا ضَعيف مِنْ جِهة اللَّفْظ.

ثم وَجّه ابن عطية قَول ابن عباس الْمَرْوي في أنَّ الوَفَاة هي الْمَوت، فقَال: فَقَول ابن عباس رضي الله عنه: هي وَفَاة مَوت. لا بُدّ أن يُتَمَّم؛ إمَّا على قَول وَهْب بن مُنبه

(2)

، وإمَّا على قَول الفرّاء

(3)

.

وقال الرَّازي في قَوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)، وفي قَوله تعالى:(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي)[المائدة: 117]:

واخْتَلَف أهْل التأويل في هاتين الآيتين على طَريقَين:

أحَدُهما: إجْراء الآية على ظَاهِرها مِنْ غَير تَقْدِيم ولا تَأخِير فيها.

والثاني: فَرْض التَّقْدِيم والتَّأخِير فيها.

(1)

الكشاف، مرجع سابق (1/ 394)، ويُنظر:(4/ 133) باختصار.

(2)

نَقَل عن وهب بن منبِّه قوله: تَوَفَّاه الله بالْمَوت ثَلاث سَاعات ورَفَعه فيها، ثم أحْياه الله بَعد ذلك عنده في السَّمَاء.

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 444).

ص: 148

ثم ذَكَر في بَيان الطَّرِيق الأوْلى - إجْراء الآية على ظَاهِرها - تِسْعَة أوْجه، منها على سَبيل الاخْتِصَار:

1 -

مُتَمِّم عُمُرك، فحينئذ أتَوَفَّاك فَلا أتْرُكُهم حتى يَقْتلوك، بل أنا رَافِعُك إلى سَمَائي. قال: وهذا تَأويل حَسَن.

2 -

مُمِيتُك، وهو مَروي عن ابن عباس ومحمد بن إسْحاق.

3 -

الوَاو في قوله: (مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) تُفِيد التَّرْتِيب، فالآية تَدُلّ على أنه تعالى يَفْعَل به هذه الأفْعال، فأمَّا كَيف يَفْعَل؟ ومَتَى يَفْعَل؟ فالأمْر فيه مَوقُوف على الدَّلِيل، وقد ثَبَت الدَّلِيل أنه حَيّ.

4 -

أنَّ التَّوفِّي أخْذ الشَّيء وَافِيًا، وهُو دَالّ عَلى أنه رُفِع بِرُوحِه وجَسَده، أي تَامًّا.

5 -

أجْعَلُك كَالْمُتَوفَّى؛ لأنه إذا رُفِع إلى السَّمَاء وانْقَطَع خَبَرُه وأثَرُه عن الأرْض، كان كَالْمُتَوفَّى.

6 -

أنَّ التَّوفِّي هو القَبْض.

وقال في الطريق الثاني: "وهُوَ قَول مَنْ قَال: لا بُدّ في الآية مِنْ تَقْدِيم وتَأخِير مِنْ غير أن يَحْتَاج فيها إلى تَقْدِيم أوْ تَأخِير. قالوا: إنَّ قَوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) يَقْتَضِي أنه رَفَعَه حَيًّا، والواو لا تَقْتَضي التَّرْتيب، فلم يَبْقَ إلَّا أن يَقول فيها تَقْديم وتَأخير، والْمَعْنى: إنِّي رَافِعُك إليَّ ومُطَهِّرُك مِنْ الذين كَفَرُوا، ومُتَوفِّيك بَعد إنْزَالي إياك في الدّنيا، ومِثْله في التَّقْدِيم والتَّأخِير كَثير في القُرآن.

ثم أشَار إلى الرَّاجِح، فقال: واعْلَم أنَّ الوُجُوه الكَثيرة التي قَدَّمْنَاها تَغْنِي عن الْتِزَام مُخَالَفَة الظَّاهِر

(1)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 60، 61) باختصار وتَصَرّف، وتَركتُ ذِكْر طَرِيقين، لأن أحَدهما ضَعيف، كما قال ابن عطية، والثاني إشَارِيّ!

ص: 149

وذَكَر ابن تيمية مَعَاني التَّوَفِّي وزَاد مَعْنَى آخَر، وفَائدة أُخْرى، فَقَال: وَلَفْظُ التَّوَفِّي في لُغَة العَرَب مَعْنَاه: الاسْتِيفَاء والقَبْض، وذلك ثَلاثة أنْوَاع:

أحَدُها: توفِّي النَّوم.

والثاني: توفِّي الْمَوْت.

والثالث: توفِّي الرَّوح والبَدَن جَمِيعًا، فإنه بِذلك خَرَج عن حَال أهْل الأرْض الذين يَحْتَاجُون إلى الأكْل والشُّرْب واللِّبَاس والنَّوم، ويَخْرُج منهم الغَائط والبَول، والْمَسِح عليه السلام توفّاه الله وهُو في السَّمَاء الثَّانِية إلى أن يَنْزِل إلى الأرْض، لَيْسَتْ حَاله كَحَالَة أهْل الأرْض في الأكْل والشُّرْب واللِّبَاس والنَّوم والغَائط والبَول، ونَحْو ذلك

(1)

.

ولم يُرجِّح ابن جُزَي في الآية شَيئا، فإنه ذَكَر الأقْوال في الآية وصَدَّرَها كُلها بـ: قِيل

(2)

.

إلَّا أنه قَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[الزمر: 42] الآية: ومَعْنَاها: إن الله يَتوفَّى النُّفُوس على وَجْهين:

أحَدها: وَفَاة كَامِلَة حَقِيقِيَّة، وهْي الْمَوْت.

والآخَر: وَفَاة النَّوم؛ لأنَّ النَّائم كَالْمَيِّت في كَونِه لا يُبْصِر ولا يَسْمَع، ومِنْه قَوله:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)[الأنعام: 60]

(3)

.

وذَكَر ابن كثير القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير، ونَسَبه إلى قتادة، وذَكَر القَول الْمَرْويّ عن ابن عباس في أنها حَقِيقَة الوَفَاة، وذَكَر القَول بأنه رَفْع، ثم قَال:

(1)

الجواب الصحيح لمن بَدَّل دين المسيح (2/ 285).

(2)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 108) وهذه الصِّيغَة صِيغَة تَضْعِيف.

(3)

المرجع السابق (3/ 196).

ص: 150

وقال الأكْثَرُون: الْمُرَاد بِالوَفَاة ها هُنا النَّوم، كما قال تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)[الأنعام: 60]، وقَال تَعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[الزمر: 42] الآية

(1)

.

وممن نَقَل القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير: الثعالبي، فإنه أوْرَد قَول الفَرَّاء: هِي وَفَاة مَوْت، ولكنَّ الْمَعْنَى: إِنِّي مُتَوَفِّيك في آخِر أمْرِك عِند نُزُولِك وقَتْلِك الدَّجَّال. فَفِي الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير

(2)

.

واخْتَار القَاسمي أنَّ مَعْنى (مُتَوَفِّيكَ) أي: مُسْتَوفِي مُدّة إقَامَتك بَين قَومِك. والتَّوفِّي كما يُطلَق على الإمَاتة، كَذلك يُطْلَق على اسْتِيفَاء الشَّيء. كما في كُتُب اللُّغَة

(3)

.

وأشَارَ إلى الأقْوال الأُخْرَى، وذَكَر تَرْجِيحَه، فَقَال: في قَوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وُجُوه في التَّأويل كَثِيرة، إلَّا أنَّ الذي فَتَح الْمَولَى بِه مما أسْلَفْنا هُو أرْجَح التَّأويلات

(4)

.

‌رأي الباحث:

الآية تَحْتَمِل أكْثَر مِنْ وَجْه، فـ:

الوَجْه الأوَّل: القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير، وهو مَرويّ عن ابن عباس، وبِه قال غَير واحِد مِنْ الْمُفَسِّرِين.

والْمَعْنَى عَلى هَذا القَول: إنِّي رَافِعُك إليّ ومُتَوفِّيك بَعْد إنْزَالِك إلى الأرْض، أي في آخِر الزَّمَان.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 69، 70).

(2)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 272).

(3)

محاسن التأويل، مرجع سابق (4/ 370).

(4)

المرجع السابق (4/ 371، 372).

ص: 151

والوَجْه الثَّانِي: إنِّي مُسْتَوفٍ مُدَّة إقَامَتِك، وقَابِضُك مِنْ الأرْض، ورَافِعُك إليّ.

والوَجْه الثَّالِث: أنَّ عِيسى عليه السلام رُفِع حَال كَونه نَائمًا، فَعَلَى هَذا تَكُون الوَفَاة بِمَعْنَى النَّوم، إذْ النَّوم وَفَاة صُغْرَى، والنَّوْم أخوْ الْمَوْت، كَمَا في الْحَدِيث.

ولا تَعَارُض بَين هَذه الأوْجُه، إذْ يَجُوز أن يَكُون رُفِع حَال كَونه نائمًا، ويَكون قَدْ اسْتَوفَى أجَلَه عَلى الأرْض في دَعْوَة مَنْ بُعِثَ إلَيهِم، ثم إنَّ الله سَوف يَتَوفَّاه بَعْد نُزُولِه وقَتْلِه الدَّجَّال في آخِر الزَّمَان؛ وبِهَذا يَزُول التَّعَارُض، وتَجْتَمِع الأقْوال في الآية.

والذي رَجَّحَه غَير واحِد من المفسِّرين، كابْن جَرير والثعلبي والقرطبي وغيرهم: أنه قُبِض مِنْ غير نَوْم ولا وَفَاة.

"والصحيح أنَّ الله تعالى رَفَعَه إلى السَّماء مِنْ غَير وَفَاة ولا نَوم، كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك"

(1)

.

أمَّا عَلى القَول بأنّ الْمَقْصُود بِالوَفَاة هنا: الْمَوْت، فلا بُدّ مِنْ حَمْلِه على الوَفَاة بَعد نُزُولِه إلى الأرْض، لأنَّ الْمَرْوي عن ابن عباس في ذلك مُحْتَمِل لِذَلك، فَقد رَوى ابن جرير - بإسناده - إلى ابن عباس في قوله:(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يقول: إني مُمِيتُك

(2)

، وليس فيه التَّصْرِيح بالإمَاتة عِند رَفْعِه، فإنَّ الفِعْل الْمُضَارِع يَدُلّ "على التّجَدّد والْحُدُوث، وهو الْمَشْهُور عِند البَيَانِيين"

(3)

، وقول ابن عباس:"مُمِيتُك" مُحْتَمِل للتَّأخِير، أي بَعْد إنْزَالِه في آخر الزَّمان.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 101).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 450).

(3)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (4/ 72).

ص: 152

أمَّا قَول وَهْب بن مُنبِّه فهو صَريح في ذلك، إلَّا أنه لا حُجَّة فيه، لأنه مِمَّا تَلَقَّاه عَنْ أهْل الكِتَاب، ووهب بن مُنبِّه ممن عُرِف عنه ذلك، كما أنَّ الرِّواية عن وَهْب فيها ضَعْف

(1)

.

ولِذلك فإنَّ ابن جرير لَمَّا رَوى قول وهب بن مُنبِّه أعقَبَه بالرواية عن ابن إسحاق مِنْ أنَّ النَّصَارَى يَزْعُمُون أنَّ الله تَوفَّاه سَبْع سَاعَات مِنْ النَّهَار

(2)

.

ومما يُضعِّف هذا القول أيضًا أنَّ "في إنْجِيل مُرْقس في الفصل السادس عشر التَّصْرِيح بِرَفْع الْمَسِيح عليه السلام إلى السَّمَاء"

(3)

.

والآية الثانية: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه) تُضَعِّفه، فَهْي دَالَّة على أنَّ هُناك مَنْ يُؤمِن بِه قَبْل مَوْتِه، وهَذا دَالّ عَلى أنه لَم يَمُت، إذْ أنَّ مَنْ مَات لا يَرجِع إلى الدُّنيا، ويَدلّ عليه قَوله تعالى عن الحياة الدنيا:(أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)[يس: 31]، وقوله تبارك وتعالى: إنه سَبَق مِنِّي أنَّهم إليها لا يَرْجِعُون

(4)

.

وفي رواية: إني قَضَيْتُ الْحُكْم أنَّهُم إليها لا يَرْجِعُون

(5)

.

ولَولا هذه الأدِلَّة والبَرَاهِين لأمْكَن تَكَلُّف حَمْل الوَفَاة عَلى حَقِيقَتِها، وذلك بأن يُقَال: هذه الوَفَاة لَيْسَتْ هي وَفَاة الْمَوْت بانْتِهَاء الأجَلَ التي مَنْ قُضِيَتْ عَليه لا يَرْجِع إلى الدُّنيا، بل هِي وَفَاة ما دُون الأجَل، ونَظِيرُها وَفَاة عُزَير، ووفَاة مَنْ تَوَفَّاه اللهُ مِنْ بَني إسْرائيل؛ فَفِي خَبَر عُزَير: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ

(1)

رواها ابن جرير في "جامع البيان"(5/ 450) من طريق ابن إسحاق عمّن لا يَتّهِم، ففيها جهالة الراوي الذي لم يُسَمّ، وفيها تَدليس ابن إسحاق. وتُنظر: ترجمة ابن إسحاق في تهذيب التهذيب، ابن حجر (5/ 26).

(2)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (5/ 450).

(3)

نقلًا عن: محاسن التأويل، مرجع سابق (10/ 455).

(4)

رواه الترمذي (ح 3010)، وابن ماجه (ح 2800).

(5)

رواها الإمام أحمد (ح 14881)، وقال مُحَقِّقُوه: إسْنَادُه حَسَن.

ص: 153

عَامٍ) [البقرة: 259]، وفي خَبَر بَنِي إسرائيل:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)[البقرة: 243].

قال ابن العربي: أمَاتَهم الله تَعالى مُدّةً عُقُوبَة لَهُم، ثم أحْيَاهُم، ومِيتَةُ العُقُوبَة بَعْدَها حَيَاة، ومِيتَة الأجَل لا حَيَاة بَعْدَها

(1)

.

‌المثال الثالث:

الْخَتْم على القُلُوب والأسْمَاع:

قوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الأنعام: 110] مع قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[البقرة: 7].

‌صورة التعارض:

آية البقرة "تَدُلّ بِظَاهِرِها على أنهم مَجْبُورُون، لأنَّ مَنْ خُتِمَ على قَلْبِه وجُعِلَتْ الغِشَاوَة على بَصَرِه؛ سُلِبَتْ مِنه القُدْرَة على الإيمان. وقد جَاء في آيَات أُخَر ما يَدُلّ على أنَّ كُفْرَهم واقِع بِمَشِيئتِهم وإرَادَتِهِم"

(2)

.

واعتَبَر القرطبي آية "الأنعام" آية مُشْكِلة

(3)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

هذه آية مُشْكِلة، ولا سِيَّما وفيها:(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 220).

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 8).

(3)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 59).

ص: 154

قِيل الْمَعْنَى: ونُقَلِّبُ أفْئدَتَهم وأنْظَارَهم يَوْم القِيامَة عَلى لَهَب النَّار وحَرِّ الْجَمْر، كَمَا لَم يُؤمِنُوا في الدُّنْيا، (وَنَذَرُهُمْ) في الدُّنْيا، أيْ: نُمْهِلُهم وَلا نُعَاقِبهم، فَبَعْض الآية في الآخِرة وبَعْضها في الدُّنيا، ونَظِيرُها:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ)[الغاشية: 2]، فَهذا في الآخِرة. (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) [الغاشية: 3] في الدُّنيا.

وقيل: (وَنُقَلِّبُ) في الدُّنيا، أي نَحُولُ بَيْنَهم وبَين الإيمان لَو جَاءتهم تلك الآية، كما حُلْنَا بَيْنَهم وبَين الإيمان أوَّل مَرَّة لَمَّا دَعَوتَهُم وأظْهَرْتَ الْمُعْجِزَة، وفي التَّنْزِيل:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الأنفال: 24]، والْمَعْنَى: كَان يَنْبَغِي أن يُؤمِنُوا إذا جَاءتهم الآية فَرَأوها بأبْصَارِهم وعَرَفُوهَا بِقُلُوبِهم، فإذا لَم يُؤمِنُوا كَان ذَلك بِتَقْلِيبِ الله قُلُوبَهم وأبْصَارَهم (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). وَدَخَلَتِ الكَاف على محذوف، أي: فَلا يُؤمِنُون كَمَا لَم يُؤمِنُوا بِه أوَّل مَرَّة، أي: أوَّل مَرَّة أتَتْهُم الآيَات التي عَجِزُوا عَنْ مُعَارَضَتِها مِثْل القُرآن وغيره.

وقيل: ونُقَلِّبُ أفْئدَة هَؤلاء كَيْلًا يُؤمِنُوا، كَمَا لم تُؤمِن كُفَّار الأُمَم السَّالِفَة لَمَّا رَأوا ما اقْتَرَحُوا مِنْ الآيَات.

وقِيل: في الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير، أي: أنَّها إذا جَاءتْ لا يُؤمِنُون كَمَا لَم يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة، ونُقَلِّبُ أفْئدَتَهم وأبْصَارَهم. (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يَتَحَيَّرُون

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة البَقَرة مَا نَصّه:

فالْخَتْمُ على القُلُوب عَدَم الوَعْي عَنْ الْحَقّ سُبْحَانه مُخَاطَبَاتِه والفِكْر في آيَاتِه، وعَلى السَّمْعِ عَدَم فَهْمِهم للقُرْآن إذا تُلِيَ عَلَيهم، أوْ دُعُوا إلى وَحْدَانِيَّتِه، وعَلى الأبْصَار عَدَم هِدَايَتِها للنَّظَر في مَخْلُوقَاتِه وعَجَائب مَصْنُوعَاتِه. هَذا مَعْنَى قَول ابن عباس وابن مَسعود وقادة وغيرهم

وكان فِعْل الله ذَلك عَدْلًا فِيمَن أضَلَّه وخَذَلَه، إذْ لَم

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 59، 60).

ص: 155

يَمْنَعْه حَقًّا وَجَب له فَتَزُول صِفَة العَدْل، وإنّما مَنَعَهُم مَا كَان لَه أن يَتفَضَّل به عَليهم لا مَا وَجَبَ لهم

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ بَعض الآية في الآخِرة، وبَعْضَها في الدُّنيا، أي: نَذَرهم في الدُّنيا في طُغْيانهم ويوم القيامة نُقَلِّبُ أفئدتهم وأبْصَارَهم على حَرِّ النَّار.

2 -

نَحُولُ بَينهم وبَين الإيمان لو جَاءتهم تلك الآية، كما حُلْنَا بَينهم وبَين الإيمان أوَّل مَرّة لَمَّا دَعَاهُم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأظْهَر لهم الْمُعْجِزَة.

3 -

ونُقَلِّبُ أفْئدَة هَؤلاء كَيلا يُؤمِنوا.

4 -

في الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير، أي: أنها إذا جَاءتْ لا يُؤمنون كَمَا لم يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

ذَكَر ابن جرير الأقْوال في مَعْنَى قوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[البقرة: 15] ثم قال: وأوْلى هَذه الأقْوال بالصَّواب في قَوله: (وَيَمُدُّهُمْ) أن يَكُون بِمَعْنى يَزِيدهم عَلى وَجْهِ الإمْلاء والتَّرْك لهم في عُتُوِّهم وتَمَرُّدِهم، كَمَا وَصَف رَبّنا أنه فَعَل بِنُظَرَائهم في قَولِه:(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، يَعْنِي نَذَرُهم ونَتْرُكهم فِيه، ونُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا إلى إثْمِهم

(2)

.

وقال في آية "الأنعام":

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 233).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 319، 320).

ص: 156

وأوْلى التَّأوِيلات في ذلك عِندي بالصَّواب أن يُقَال: إنَّ الله جَلّ ثَناؤه أخْبَر عَنْ هَؤلاء الذين أقْسَمُوا بالله جَهْد أيْمَانِهم لئن جَاءَتْهُم آيَة لَيُؤمِنن بها؛ أنه يُقَلِّبُ أفْئدَتهم وأبْصَارَهم ويُصَرِّفُها كَيف شَاء، وأنَّ ذلك بِيَدِه يُقِيمُه إذا شَاء، ويُزِيغُه إذا أرَاد، وأنَّ قَولَه:(كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) دَليل على مَحْذُوف مِنْ الكَلام، وأنَّ قَولَه:(كَمَا) تَشْبِيه مَا بَعْدَه بِشَيء قَبْلَه.

وإذْ كان ذلك كَذلك، فالوَاجِب أن يَكُون مَعْنى الكَلام: ونُقَلِّبُ أفْئدَتهم فَنُزِيغُها عن الإيمان، وأبْصَارَهم عن رُؤية الْحَقّ ومَعْرِفَة مَوْضِع الْحُجَّة، وإن جَاءتْهم الآية التي سَألُوها فلا يُؤمِنُوا بالله ورَسُولِه ومَا جَاء بِه مِنْ عِنْد الله، كَمَا لم يُؤمِنُوا بِتَقْلِيبِنا إياها قَبل مَجِيئها مَرَّة قَبْل ذلك.

وإذا كان ذلك تأويله، كانت "الهاء" مِنْ قَولِه:(كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) كنايةَ ذِكْرِ التَّقْلِيب

(1)

.

وقال السمرقندي: قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) يعني نَتْرُك قُلُوبَهم وأبْصَارَهم مُعَلَّقَة كَما هِي ولا نُوفِّقهم كَمَا لم يُؤمِنُوا بِه أوَّل مَرَّة قَبْل نُزُول الآيات.

ويُقال: عِند انْشِقَاق القَمَر

(2)

لَمَّا لم يَعْتَبِرُوا به ولم يُؤمِنُوا فَعَاقَبَهم الله تَعالى وَخَتَم عَلى قُلُوبِهم، فَثَبَتُوا على كُفْرِهم. (وَنَذَرُهُمْ) يَقول: ونَدَعُهم في طُغْيَانِهم، يَعْنِي في ضَلالٍ. (يَعْمَهُونَ)، يَعْني: يَتَرَدَّدُون ويَتَحَيَّرُون فِيه.

ويُقال: كما لم يُؤمِنوا به أوَّل مَرَّة، يَعْنِي: كَمَا لم يُؤمِن بِه أوَائلُهم مِنْ الأُمَم الْخَالِية لَمَّا سَألُوا الآية مِنْ أنْبِيائهم عليهم السلام

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 491، 492).

(2)

أي: عندما انْشَقّ القَمَر وأرَاهم إيّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُؤمِنُوا، بل قالوا: سَخرنا محمد.

كما في مسند أحمد (ح 16750)، وجامع الترمذي (ح 3289)، وأصل الحديث مُخرَّج في الصحيحين من حديث ابن مسعود: البخاري (ح 3437)، ومسلم (ح 2800).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 493، 494).

ص: 157

واختار الثعلبي أنَّ مَعْنى آية "البقرة": طَبَعَ الله عَلى قُلُوبِهم وأغْلَقَها وأقْفَلَها فَلَيْستْ تَعِي خَبرًا ولا تَفْهَمه. يَدُلّ عَليه قوله: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]

(1)

.

وفي تَفسير آية "الأنعام" ذَكَرَ قَول ابن عباس وابن زَيد: يَعْنِي: نَحُول بَيْنه وبَين الإيمان ولَو جِئنَاهُم بالآيات التي سَألُوا مَا آمَنُوا بِها كَمَا لم يُؤمِنُوا بالتي قَبْلَها مِثل انْشِقَاق القَمَر وغيره؛ عُقُوبَة لهم على ذلك.

وقِيل: كَما لم يُؤمِنُوا به في الدُّنيا قَبْلَ مَمَاتهم، نَظِيره قَوله تعالى:(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)[الأنعام: 23]

(2)

.

ونَفَى الزمخشري - جريا على عقيدته - كَوْن الْخَتْم والتَّغْشِيَة على الحقيقة! فأوْرَد سؤالًا قال فيه: فإن قُلْت: مَا مَعْنَى الْخَتْم على القُلُوب والأسْمَاع وتَغْشِيَة الأبْصَار؟

قلت: لا خَتْم ولا تَغْشِيَة ثَمَّ على الْحَقِيقَة، وإنما هُوَ مِنْ بَاب الْمَجَاز، ويُحْتَمَل أن يَكُون مِنْ كِلا نَوْعَيه، وهما: الاسْتِعَارَة والتَّمْثِيل

(3)

.

كما أوْرَد سؤالًا آخر قال فيه: فإن قُلْت: فَلِم أسْنَد الْخَتْم إلى الله تَعالى وإسْنَادُه إليه يَدُلّ على الْمَنْع مِنْ قَبُول الْحَقّ والتَّوَصّل إليه بِطُرُقِه، وهو قَبِيح، والله يَتَعالى عَنْ فِعْل القَبِيح عُلُوًّا كَبِيرًا، لِعِلْمِه بِقُبْحِه وعِلْمِه بِغِنَاه عنه. وقد نَصَّ على تَنْزِيه ذَاتِه .... إمَّا إسْنَاد الْخَتْم إلى الله عز وجل فَليُنَبِّه على أنَّ هَذه الصِّفَة في فَرْط تَمَكُّنِها وثَبَات قَدَمِها، كالشَّيء الْخَلْقِي غَير العَرَضِيّ .... وكَيف يَتَخَيّل مَا خُيِّل إليك، وقَد وَرَدَت الآية نَاعِيَة على الكُفَّار شَنَاعَة صِفَتِهم وسَمَاجَة حَالِهم، ونِيطَ بِذلك الوَعِيد بِعَذابٍ عَظِيم؟

(4)

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 150).

(2)

المرجع السابق (4/ 181).

(3)

الكشاف، مرجع سابق (ص 41). وسيأتي تعقّب ابن كثير لهذا القَول.

(4)

المرجع السابق (ص 42).

ص: 158

وقد تَعَقّبَه ابن المنيِّر في قوله هذا، فقال: هذا أوّل عَشْواء خَبَطَها! في مَهْوَاة هَبَطَها، حيث نَزَل مِنْ منصَّة النَّصّ إلى حَضِيض تَأويلِه ابتغاء الفِتْنَة اسْتِبْقَاء لِمَا كُتِب عليه مِنْ الْمِحْنَة، فنْطَوَى كَلامُه هذا على ضَلالاتٍ أعُدّها وأرُدّها

(1)

. ثم شَرَع في ذِكْرِها ورَدّ قول الزمخشري وتأويله.

وأطال ابن عطية النَّفَس في هَذه الآية، فَقال: الْمَعْنى على مَا قَالتْ فِرْقَة: ونُقَلِّب أفْئِدَتهم وأبْصَارَهم في النَّار وفي لَهِيبِها في الآخِرَة لَمّا لَم يُؤمِنُوا في الدُّنيا، ثم استأنف على هذا:(وَنَذَرُهُمْ) في الدنيا (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

(2)

.

وقَالَتْ فِرْقَة: إنما الْمُرَاد بالتَّقْلِيب: التَّحْويل عَنْ الْحَقّ والْهُدَى، والتَّرْك في الضَّلالَة والكُفْر. ومَعْنى الآية: أنَّ هَؤلاء الذين أقْسَموا أنَّهُم يُؤمِنُون إنْ جَاءت آيَة، نَحْنُ نُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهم أنْ لَو جَاءت فلا يُؤمِنُون بِها كَمَا لَو يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة بِمَا دُعُوا إليه مِنْ عِبَادَة الله؛ فأخْبر الله تَعالى على هذا التَّأويل بِصُورة فِعْلِه بهم.

وقَالَتْ فِرْقَة: قَوله: (كَمَا) في هَذه الآية إنما هي بِمَعْنى الْمُجَازَاة، أي: لَمّا لَمْ يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة نُجَازِيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدَتهم عن الْهُدَى ونَطْبَع على قُلُوبِهم، فَكَأنه قَال: ونَحْنُ نُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصَارَهم جَزَاء لما لَم يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة بما دُعُوا إليه مِنْ الشَّرع، والضَّمير في:(بِهِ) يُحْتَمَل أن يَعُود على الله عز وجل، أوْ على القُرآن، أوْ على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.

(وَنَذَرُهُمْ) مَعْنَاه: نَتْرُكُهم

(3)

.

(1)

حاشية الكشاف، مرجع سابق (ص 42).

(2)

فيكون على القول بالتقديم والتأخير.

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 334) باختصار يسير.

ص: 159

واستدلّ الرازي بالآية على أنَّ "الكُفْر والإيمان بِقَضَاءِ الله وقَدَرِه"

(1)

، وضَعَّف القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير، فقال:

ومَعْنى تَقْلِيب الأفْئدَة والأبْصَار: هو أنه إذا جاءتهم الآيات القَاهِرَة التي اقْتَرَحُوها وعَرَفُوا كَيْفِيَّة دَلالَتها على صِدْق الرَّسُول - إلَّا أنه تَعالى إذا قَلّب قُلُوبَهم وأبْصَارَهم عن ذلك الوَجْه الصَّحِيح - بَقُوا على الكُفْر، ولَم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات. والْمَقْصُود مِنْ هذه الآية تَقْرير مَا ذَكَرْنَاه في الآية الأولى مِنْ أنَّ تِلك الآيات القَاهِرة لَو جَاءتهم لَمَا آمَنُوا بها، ولَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِها البتة.

وأوْرَد أجْوِبَة الْمُعْتَزِلَة وضَعَّفَها

(2)

.

ثم اخْتَارَ أنَّ قَوله تَعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) "مَحْمُول على هذا الْمَعْنى الظَّاهِر الْجَلِيّ الذي يَشْهَد بِصِحَّتِه كُلّ طَبْع سَلِيم وعَقْل مُسْتَقِيم، فلا حَاجَة البتة إلى ما ذَكَرُوه منَ التَّأوِيلات الْمُسْتَكْرَهَة، وإنما قَدَّم الله تَعالى ذِكْرَ تَقْلِيب الأفْئدَة عَلى تَقْلِيب الأبْصَار لأنَّ مَوضِع الدَّواعِي والصَّوَارِف هوَ القَلْب، فإذا حَصَلَتِ الدَّاعِية في القَلْب انْصَرَف البَصَر إليه شَاء أم أبَى، وإذا حَصَلَتِ الصَّوَارِف في القَلْبِ انْصَرَف البَصَر عنه، فَهو وإن كان يُبْصِرُه في الظَّاهِر إلَّا أنه لا يَصير ذلك الإبْصَار سَببًا للوُقُوف عَلى الفَوائد الْمَطْلُوبة. وهذا هو الْمُرَاد مِنْ قوله تعالى:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)[الأنعام: 25]، فَلَمَّا كَان الْمَعْدِن هو القَلْب وأمَّا السَّمْع والبَصَر فَهُمَا آلَتَان للقَلْب كَانَا لا مَحَالة تابِعَين لأحْوال القَلْب؛ فَلِهَذا السَّبَب وَقَع الابْتِدَاء بِذِكْرِ تَقْلِيب القُلُوب في هذه الآية، ثم أتْبَعَه بِذِكْرِ تَقْلِيب البَصَر، وفي الآية الأخْرَى وَقَع الابْتِدَاء بِذِكْرِ تَحْصِيل الكِنَان

(3)

في القَلْب ثم أتْبَعَه بِذِكْر السَّمْع، فَهذا هُو الكَلام

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (13/ 120). أي أن وُقُوع الكُفْر والإيمان إنما يَكُون بِقضَاء الله وقَدَرِه ويُراجَع لهذا المسألة:"العقيدة الأصفهانية"، ابن تيمية (ص 29)، و "شِفَاء العَلِيل في مسائل القَضَاء والقَدَر والْحِكْمَة والتَّعْلِيل"، ابن القيم (1/ 91 وما بعدها).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (13/ 120) باختصار.

(3)

في اللسان (13/ 360): الكِنَان وِقَاء كلّ شَيء وسِتْره، والْكَنّ البَيْت أيضًا، والْجَمْع: أكْنَان وأكِنَّة ومُراد الرازي مَا جَاء في الآية التي ذَكَرها قبل قليل (آية الأنعام 25).

ص: 160

القَوي العَقْلِيّ البُرْهَاني الذي يَنْطَبِق عليه لَفْظ القُرآن. فَكَيف يَحْسُن مَع ذلك حَمْل هَذا اللَّفْظ على التَّكَلُّفَات التي ذَكَرُوها"

(1)

. ثم شَرَع في إبطال الأقوال الضعيفة وَرَدّها.

واخْتَار ابنُ جُزي أنَّ مَعْنى قَوله تَعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) أنه الطَّبْع على الأفْئدَة، والصَّدّ عَنْ الْفَهْم فلا يَفْهَمُون.

(كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا): الكَاف للتَّعْلِيل، أي: نَطْبَع على أفْئدَتهم وأبْصَارِهم عُقُوبة لهم على أنَّهم لا يُؤمِنُون بِه أوَّل مَرَّة، ويُحْتَمل أن تَكُون للتَّشْبِيه، أي: نَطْبَع عليها إذا رَأوا الآيات مِثْل طَبْعِنا عَليها أوَّل مَرَّة

(2)

.

وضَعَّف ابن كثير ما ذَهَب إليه الزَّمَخْشَري مِنْ تَكَلُّف تَأوُّل الطَّبْع والْخَتْم عَلى القُلُوب، فَقَال ابنُ كَثير: وتأوّل

(3)

الآية مِنْ خَمْسَة أوْجُه

(4)

وكُلّها ضَعِيفَة جِدًّا، وَمَا جَرّأه على ذلك إلَّا اعْتِزَاله، لأنَّ الْخَتْمَ على قُلُوبِهم ومَنْعها مِنْ وُصُول الْحَقّ إليها قَبِيح عِنده - يَتَعَالى الله عنه في اعْتِقَادِه - ولَو فَهِم قَوله تعالى:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)[الصف: 5]، وقوله:(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، وما أشْبَه ذَلك مِنْ الآيات الدَّالَّة عَلى أنه تعالى إنما خَتَم عَلى قُلُوبِهم وحَالَ بَيْنَهم وبَيْن الْهُدَى جَزاءً وِفَاقًا على تَمَادِيهم في البَاطِل وتَرْكِهم الْحَقّ؛ وهَذا عَدْلٌ مِنْه تعالى حَسَن ولَيْس بِقَبِيح، فلو أحَاط عِلْمًا بِهَذا لَمَا قَال مَا قَال، والله أعلم. قال

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (13/ 121).

(2)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (2/ 19).

(3)

يعني الزمخشري.

(4)

الكشاف، مرجع سابق (ص 41، 42) وقد ردّه ناصر الدين ابن الْمُنيِّر في حاشية الكشّاف (الموضع السابق).

ص: 161

القرطبي

(1)

: وأجْمَعَتِ الأُمَّة على أن الله عز وجل قَدْ وَصَفَ نَفْسَه بِالْخَتْم والطَّبْع عَلى قُلُوب الكَافِرين مُجَازَاة لِكُفْرِهم

(2)

.

وأطال في ذِكْر الأقْوال في مَعْنَى آية "الأنعام"

(3)

.

واخْتَار القاسمي أنَّ الْمُرَاد: إحْدَاث حَالَة تَجْعَل القُلُوب - بِسَبَب تَمَادِيهم في الْغَيّ وانْهِمَاكِهم في التَّقْلِيد، وإعْرَاضِهم عن مَنْهَج النَّظَر الصَّحِيح - بِحَيث لا يُؤثِّر فِيها الإنْذَار، ولا يَنْفُذ فِيها الْحَقّ أصْلًا

(4)

.

‌رأي الباحث:

أنَّ الْخَتْم والطَّبْع إنما هُو بِسَبَب مَا كَسَبَتْه أيْدِيهم، لا أنه خُتِم عليها ابْتِدَاء، وقد دَلَّتْ آية "الأنعام" على أن تَقْلِيب أفْئدَة هَؤلاء الْمُعَانِدِين كَيلا يُؤمِنُوا. وهَذا مِنْ بَاب الْجَزَاء عَلى كُفْرِهم عِنَادًا، كَما قَال تَعالى:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 86].

وكما قَال الله تَعالى عن اليَهُود: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)[الأنعام: 146].

وكَما قَال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[الصف: 5].

فيَكُون قَوله تَعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) مِنْ بَاب العُقُوبَة، "أي: ونُعَاقِبهم إذا لم يُؤمِنُوا أوَّل مَرَّة يَأتيهم فِيها الدَّاعِي، وتَقُوم عليهم الْحُجَّة بِتَقْلِيب القُلُوب والْحَيْلُولَة بَيْنَهم وبَيْن الإيمان، وعَدَم التَّوفِيق لِسُلُوك

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 187).

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 278).

(3)

انظر: المرجع السابق (6/ 136).

(4)

محاسن التأويل، مرجع سابق (1/ 273)، وانظر:(6/ 477، 478) مِنْه.

ص: 162

الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم، وهَذَا مِنْ عَدْل الله وحِكْمَتِه بِعِبَادِه، فَإنَّهُم الذين جَنَوا على أنْفُسِهم وفَتَح لهم البَاب فَلم يَدْخُلُوا، وبَيَّن لهم الطَّرِيق فَلَم يَسْلُكُوا؛ فَبَعْدَ ذَلك إذا حُرِمُوا التَّوفِيق كَان مُنَاسِبًا لأحْوَالِهم، وكَذَلك تَعْلِيقُهم الإيمان بإرَادَتِهم ومَشِيئتِهم وحْدَهم وعَدَم الاعْتِمَاد على الله مِنْ أكْبَر الغَلَط؛ فإنَّهم لَو جَاءتْهم الآيات العَظِيمَة مِنْ تَنْزِيل الْمَلائكَة غليهم يَشْهَدُون للرَّسُول بالرِّسَالة، وتَكْلِيم الْمَوتى، وبَعْثِهم بَعْد مَوْتِهم (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) حتى يُكَلِّمَهم (قُبُلًا) وَمُشَاهَدَة ومُبَاشَرَة بِصِدْق مَا جَاء به الرَّسُول؛ مَا حَصَل لَهم الإيمان إذا لَم يَشَأ الله إيمانهم"

(1)

.

ويَدلّ عليه قَوله تعالى بَعد هذه الآية: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)[الأنعام: 111].

وقَوله تَعالى: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الأعراف: 186].

كما أنَّ هذا الفِعْل بهم مِنْ بَاب الْمُقَابَلَة على فِعْلِهم، كَما قَال تَعالى:(فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ)[السجدة: 14].

وكَمَا قَال جل جلاله: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)[الجاثية: 34].

فإن هذا ليس نِسْيَانًا مِنْ الله، فإنَّ النَّاسِي غَير مُؤاخَذ، "والنِّسْيَان هُنا بِمَعْنَى التَّرْك"

(2)

، وفي الحديث أنّ الله يقول لِعبْدِه: إني أنْسَاك كَمَا نَسِيتَنِي

(3)

.

والطَّبْع والْخَتْم والتَّغْلِيف عُقُوبَات تَقَع على القُلُوب القَاسِيَة

(4)

.

(1)

تيسير الكريم الرحمن، السعدي (ص 269).

(2)

التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جُزي (3/ 130) ويُنظر لذلك: شِفَاء العليل، مرجع سابق (1/ 342).

(3)

رواه مسلم، وسيأتي بتمامه، ويأتي تخريجه هناك.

(4)

ويُنظر لذلك: شِفَاء العليل، مرجع سابق (1/ 225 وما بعدها).

ص: 163

رَوى ابنُ جَرير بإسْنَادِه إلى أبي هُرَيرة قَالك قَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الْمُؤمِن إذا أذْنَب ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَة سَوْدَاء في قَلْبِه، فإن تَابَ ونَزَع واسْتَغْفَر صُقِلَ قَلْبُه، فإن زَاد زَادَت حَتى تُغْلِق

(1)

قَلْبَه؛ فَذلك الرَّان الذي قال الله جل ثناؤه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14]

(2)

. فأخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أنَّ الذُّنُوب إذا تَتَابَعَتْ عَلى القُلُوب أغْلَقَتْها

(3)

، وإذا أغْلَقَتْها أتَاها حِينئذٍ الْخَتْم مِنْ قِبَلِ الله عز وجل والطَّبْع، فلا يَكُون للإيمان إليها مَسْلَك، ولا للكُفْرِ مِنْها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبْع والْخَتْم الذي ذَكَرَه الله تبارك وتعالى في قَوله:(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)[البقرة: 7] نَظِير الطَّبْع والْخَتْم عَلى مَا تُدْرِكه الأبْصَار مِنْ الأوْعِية والظُّرُوف التي لا يُوصَل إلى مَا فِيها إلَّا بِفَضّ ذلك عَنها ثم حَلّها، فَكَذَلك لا يَصِل الإيمان إلى قُلُوب مَنْ وَصَفَ الله أنه خَتَم على قُلُوبِهم إلَّا بَعْد فَضّه خَاتَمه، وحَلّه رِباطَه عنها

(4)

.

أوْ يَكُون مِنْ بَاب التَّقْدِيم والتَّأخِير، فَيَكُون تَقْلِيب الوُجُوه في النَّار، وتَرْكُهم في الدُّنيا يَعْمَهُون، وهذا يَدُلّ عَليه قوله تعالى:(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)[الأحزاب: 66] فإن وُجُوه الكُفَّار تُقَلَّب في النَّار، والتَّوبِيخ وَارِد فِيها أيضًا.

قال جلّ ثناؤه في تَوبِيخ أهْل النَّار في النَّار: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون: 105 - 108].

(1)

في بعض النُّسَخ (يُغْلِف) بالفاء بدل القاف، وعند الترمذي (ح 3334)(تعلُو).

(2)

ورواه الترمذي (ح 3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجه (ح 4244) ومعناه في صحيح مسلم (ح 144) من حديث حذيفة، وقال الألباني (صحيح سنن ابن ماجه 2/ 417) عن حديث أبي هريرة: حسن.

(3)

في بعض النُّسَخ: أغلفتها بالفاء بدل القاف.

(4)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 267) ونقله عنه ابن كثير في التفسير (1/ 280).

ص: 164

"ولَو عَذَّب الله عِبَادَه أجْمَعِين كَان غَيْر ظَالِم لَهُم، كَمَا أنه إذا هَدَى ووَفَّق مَنْ شَاء مِنْهم، وأضَلّ وخَذَل مَنْ شَاء مِنْهم، كَان غَير ظَالِم لَهُم، وإنّمَا الظَّالَم مَنْ فَعَل غَير مَا أُمِرَ بِه، والله تَعالى غَيْر مَأمُور لا شَرِيك لَه"

(1)

.

كَمَا أنَّ الله لا يُعَذِّب أحَدًا حَتى يُقِيم عَليه الْحُجَج والبَرَاهِين والآيَات البَيِّنَات.

روى الأئمة: أحمد

(2)

وعبدُ بن حُميد

(3)

وأبو داود

(4)

وابن ماجه

(5)

وابن حبان

(6)

والبيهقي

(7)

من طريق ابن الديلمي قال: أتيت أُبيّ بن كَعْب، فَقُلْتُ له: وَقَعَ في نَفْسِي شَيء مِنْ القَدَر، فَحَدِّثْنِي بِشَيء لَعَلَّه أن يَذْهَبَ مِنْ قَلْبِي، فَقَال: إنَّ الله لَو عَذَّب أهْل سَمَاواته وأهْل أرْضِه عَذَّبهم غَير ظَالِم لَهم، ولَو رَحِمَهم كَانَتْ رَحْمَته خَيرًا لهم مِنْ أعْمَالِهم. قال: ثم أتَيتُ عبد الله بن مسعود فَقَال مِثْل قَوله، ثم أتَيتُ حذيفة بن اليمان فَقَال مِثْل قَوله، ثم أتَيتُ زَيد بن ثابت فَحَدَّثَني عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْل ذلك.

"فإن قِيل: كَيف تَقُوم حُجَّتُه عَليهم وقَد مَنَعَهم مِنْ الْهُدَى، وحَال بَيْنَهم وبَيْنَه؟ قِيل: حُجَّتُه قَائمَة عَليهم بِتَخْلِيَتِه بَيْنَهم وبَيْن الْهُدَى، وبَيَان الرُّسُل لَهُم، وإرَاءَتِهِم الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم حَتَّى كَأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونه عَيَانا، وأقَام لَهُمْ أسْبَاب الْهِدَاية ظَاهِرًا وبَاطِنًا، ولم يَحُل بَيْنَهم وبَيْن تِلك الأسْبَاب، وَمَنْ حَالَ بَيْنَه وبَيْنَها مِنْهم بِزَوَال عَقْل، أوْ صِغَر لا تَمْيِيزَ مَعه، أوْ كَوْنه بِنَاحِيَة مِنْ الأرْض لَم تَبْلُغْه دَعْوة رُسلِهِ، فإنه لا يُعَذِّبه حتى يُقِيم عَليه حُجَّتَه، فَلَم يَمْنَعْهم مِنْ هَذا الْهُدَى، ولم يَحُل بَيْنَهم وبَيْنَه"

(8)

.

(1)

الاستذكار، مرجع سابق (3/ 40)، وانظر: شرح السُّنَّة، البربهاري (ص 89).

(2)

(ح 21611) وقال مُحققوه: إسْنَادُه قَوِي.

(3)

(ح 247).

(4)

(ح 4699)، وقال الألباني: صحيح (صحيح سُنن أبي داود 3/ 890).

(5)

(ح 77).

(6)

(ح 727 إحسان).

(7)

(ح 20663).

(8)

شِفاء العليل، مرجع سابق (1/ 212).

ص: 165

‌المثال الرابع:

الْخَلْق بين الطِّين والْمَاء:

قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الأعراف: 11] مع قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 34] وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)[الأنعام: 2] وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون: 12، 13] الآيات.

‌صورة التعارض:

(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) بِلَفْظِ الْجَمْع، أي أنَّ الْخَلْق خُلِقُوا جَمِيعًا، في حِين تَدُلّ الآيات الأخْرَى عَلى أنَّ آدَم خُلِق وَحِيدًا مُفرَدًا، ثم جَعَل لَه زَوجة وذُرِيَّة.

وخُلِق آدم من طين، وجُعِل نَسْله مِنْ مَاء مَهين.

‌جَمع القرطبي:

قال القرطبي: (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أي: خَلَقْنَاكُم نُطَفًا، ثم صَوَّرْنَاكُم، ثم إنا نُخْبِرُكم أنا قُلْنا للمَلائكَة: اسْجُدُوا لآدَم.

وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: الْمَعْنى: خَلَقنا آدَم ثم صَوَّرْنَاكُم في ظَهْرِه.

قال الأخفش: "ثُمَّ" بمعنى "الواو".

ص: 166

وقيل: الْمَعْنَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) يَعْني آدَم عليه السلام، ثم قُلْنا للمَلائكَة: اسْجُدُوا لآدَم، ثم صَوَّرْنَاكُم على التَّقْدِيم والتَّأخِير.

وقيل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)، يعني آدَم، ذُكِر بِلَفْظ الْجَمْع لأنه أبو البَشَر، ثم صَوَّرْناكُم رَاجِع إليه أيضًا، كَمَا يُقَال: نَحْن قَتَلْنَاكُم، قَتَلْنَا سَيِّدَكُم.

(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وعلى هذا لا تَقْدِيم ولا تَأخِير، عن ابن عباس أيضًا.

وقِيل: الْمَعْنَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) يُرِيد آدَم وحَواء، فآدَم مِنْ التُّرَاب وحَوَّاء مِنْ ضِلع مِنْ أضْلاعِه، ثم وَقَع التَّصْوير بَعْد ذَلك، فَالْمَعْنَى: ولَقَد خَلَقْنَا أبَويكُم ثُمّ صَوَّرْنَاهُما، قَالَه الْحَسَن.

وقِيل: الْمَعْنَى: خَلَقْنَاكُم في ظَهْر آدَم ثُمّ صَوَّرْناكُم حِين أخَذْنَا عَليكُم الْمِيثَاق. هذا قَول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح.

قال النحاس: وهذا أحْسَن الأقْوال: يَذهب مُجَاهِد إلى أنه خَلَقَهم في ظَهْر آدم، ثم صَوَّرَهم حين أخَذ عَليم الْمِيثَاق، ثم كَان السُّجُود [لآدَم]

(1)

بَعْدُ.

ويُقَوِّي هذا: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)[الأعراف: 172] والْحَدِيث: أنه أخْرَجَهم أمْثَال الذَّر فَأخَذَ عليهم الْمِيثَاق

(2)

.

(1)

ما بين المعكوفتين زيادة من "مَعاني القرآن".

(2)

معاني القرآن (3/ 13)، ويُشير النّحّاس إلى الحديث الذي رواه مالك (ح 1593) عن مُسلم بن يَسار الجهني أنَّ عُمَر بن الخطاب سُئل عن هذه الآية:(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله عز وجل خَلَق آدَم ثُمّ مَسَحَ ظَهْرَه بِيَمِينِه، فاسْتَخْرَج مِنه ذُرّية، فقال: خَلَقْتُ هَؤلاء للجنَّة وبِعَمَلِ أهل الجنة يَعْمَلُون، ثم مَسَحَ ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خَلَقْتُ هؤلاء للنَّار وبِعَمَلِ أهْل النَّار يَعْمَلُون .... الحديث.

ومن طريق مالك رواه أحمد (ح 311)، وأبو داود (ح 4703)، والترمذي (ح 3075)، والنسائي في الكبرى (ح 11190). قال الترمذي: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا مجهولًا. وقال محققو المسند: صحيح لغيره.

وروى الترمذي (ح 3076) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: لَمَّا خَلَق الله آدَم مَسَح ظَهْرَه فَسَقَطَ مِنْ ظهره كُلّ نَسَمَة هُو خَالِقها مِنْ ذُريتِه إلى يَوم القيامة .... الحديث. وسيأتي تخريجه.

ص: 167

وقيل: ثُمّ للإخْبَار، أي: ولَقَد خَلَقْنَاكُم، يَعني في ظَهْر آدَم صلى الله عليه وسلم ثم صَوَّرْناكُم، أي: في الأرْحَام. قال النحاس: هذا صَحِيح عن ابن عباس. قلت: كُل هَذه الأقْوال مُحْتَمَل، والصَّحِيح مِنها ما يَعْضده التَّنْزِيل، قال الله تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ)[المؤمنون: 12] يَعني آدَم، وقال:(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)[النساء: 1]، ثُم قال:(جَعَلْنَاهُ)[المؤمنون: 13]، أي جَعَلْنا نَسْلَه وذُرِّيَّتَه (نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون: 13] الآية، فآدَم خُلِقَ مِنْ طِين، ثم صُوِّرَ وأُكْرِم بالسُّجُود، وذُرّيِتَه صُوِّرُوا في أرْحَام الأُمَّهَات بَعد أن خُلِقُوا فِيها، وفي أصْلاب الآبَاء

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

خَلَقْنَاكُم نُطَفًا، ثم صَوَّرْنَاكُم.

2 -

خَلَقنا آدَم ثم صَوَّرْنَاكُم في ظَهْرِه.

3 -

خَلَقْنا آدَم عليه السلام، ثم قُلْنا للمَلائكَة اسْجُدُوا لآدَم، ثُمّ صَوَّرْنَاكُم؛ على التَّقْدِيم والتَّأخِير.

4 -

الْخَلْق ذُكِر بلَفْظ الْجَمْع لأن آدَم أبُو البَشَر.

5 -

خَلَقْنَاكُم في ظَهْر آدَم ثُمّ صَوَّرْناكُم حِين أخَذْنا عَليكم الْمِيثَاق، وهَذا قَول مُجاهِد.

6 -

أنَّ الله خلَق آدَم مِنْ سُلالَة مِنْ طِين، وجَعَل نَسْلَه وذُرِّيَتَه مِنْ نُطَف. وهذا مَا رَجَّحَه القُرطبي.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 151، 152).

ص: 168

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير: اخْتَلَفَ أهْل التَّأويل في تَأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تَأويل ذلك: ولَقَد خَلَقْنَاكُم في ظَهْر آدَم أيها النَّاس، ثم صَوَّرْنَاكُم في أرْحَام النِّسَاء خَلْقًا مَخْلُوقًا، ومِثَالًا مُمَثَّلًا في صُورَة آدَم.

ثم رَوى - بإسْنَادِه - عن ابن عباس في قَولِه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قَولَه: (خَلَقْنَاكُمْ) يَعني آدَم، وأمَّا (صَوَّرْنَاكُمْ) فَذُرِّيَّتَه.

ورَوى - بإسْنَادِه - عن الرَّبيع بن أنس في قَوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) يَقول: (خَلَقْنَاكُمْ) خَلْق آدَم، (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) في بُطُون أمَّهَاتِكُم.

وقال آخَرُون: بل مَعْنَى ذلك: ولَقَد خَلَقْنَاكُم في أصْلاب آبائكُم، ثم صَوَّرْناكُم في بُطُونِ أمَّهَاتِكُم.

وقال آخَرُون: بل مَعْنَى ذلك: (خَلَقْنَاكُمْ)، يَعْني، آدَم. (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)، يَعْني في ظَهْرِه.

وقال آخَرُون: مَعْنى ذلك: ولَقَد خَلَقْناكُم في بُطُون أمَّهَاتِكُم، ثُمّ صَوَّرْناكُم فِيها ثم ذَكَر ابن جرير اخْتِيَارَه فَقَال:

وأوْلَى الأقْوَال بالصَّواب قَول مَنْ قَال: تَأوِيله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) ولَقَد خَلَقْنا آدَم، (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) بِتَصْوِيرِنا آدَم، فَقَوله:(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) مَعْنَاه: ولَقَد خَلَقْنا أبَاكُم آدَم ثُمَّ صَوَّرْناه.

ثم عَلَّل اخْتِيَارَه بِقَولِه:

وإنما قُلنا هَذا القَول أوْلى الأقْوال في ذلك بالصَّواب لأنَّ الذي يَتْلُو ذلك قَوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)[الأعراف: 11]، ومَعْلُوم أنَّ الله تبارك وتعالى قَدْ أمَرَ الْمَلائكَة بالسُّجُود لآدَم قَبْل أنْ يُصَوِّر ذُرِّيَتَه في بُطُون أُمَّهَاتِهم، بَلْ قَبْل أنْ يَخْلُق أُمَّهَاتِهم، و (ثُمَّ)

ص: 169

في كَلام العَرَب لا تَأتي إلَّا بإيذَان انْقِطَاع مَا بَعْدَها عَمَّا قَبْلَها، وذَلك كَقَول القَائل: قُمْتُ ثم قَعَدّتُ، لا يَكُون القُعُود إذْ عُطِف به بِـ (ثُمّ) عَلى قَوله: قُمْتُ، إلَّا بَعْد القِيَام وكَذلك ذَلك في جَمِيع الكَلام.

ثم رَدّ ابنُ جرير القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير، بِقَولِه: وقَد وَجَّه بَعْض مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَته بِكَلام العَرَب ذَلك إلى أنه مِنْ الْمُؤخَّر الذي مَعْنَاه التَّقْدِيم، وزَعَم أنَّ مَعْنى ذَلك ولَقَد خَلَقْنَاكُم ثُم قُلْنا للمَلائكَة اسْجُدُوا لآدَم ثُمَّ صَوَّرْناكُم.

وذَلك غَير جَائز في كَلام العَرَب، لأنها لا تُدْخِل (ثُمَّ) في الكَلام وهِي مُرَاد بِهَا التَّقْدِيم عَلى مَا قَبْلها مِنْ الْخَبر، وإن كَانُوا قَدْ يُقَدِّمُونها في الكَلام إذا كان فيه دَليل عَلى أنَّ مَعْنَاها التَّأخِير .... غَير جائز أن يَكُون أمْر الله الْمَلائكَة بالسُّجُود لآدَم كَان إلَّا بَعْد الْخَلْق والتَّصْوير لِمَا وَصَفْنَا قَبْل

(1)

.

وبالتَّقدِيم والتَّأخِير قال السمرقندي، إذْ يَقول:

قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) يَعْني خَلَقْنَا آدَم وأنْتُم مِنْ ذُرِّيَّتِه، ثم (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) يَعْنِي ذُرِّيَّتِه. ويُقال:(خَلَقْنَاكُمْ) يَعْني آدَم خَلَقَه مِنْ تُرَاب (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)، يَعْنِي آدَم صَوَّرَه بَعْد مَا خَلَقَه من طين. ويُقَال:(خَلَقْنَاكُمْ) نُطَفًا في أصْلاب الآبَاء (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)، يَعْنِي في أرْحَام الأمَّهَات. (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) على وَجْه التَّقْدِيم، يَعْنِي: وقُلْنا للمَلائكَة: اسْجُدُوا لآدَم، (ثم) بمعنى (الواو)، ويُقَال: مَعْنَاه خَلَقْنَاكُم وَصَوَّرْناكُم، وَقُلْنا للمَلائكَة اسْجُدُوا لآدَم

(2)

.

أما السمعاني فإنه أوْرَد في الآية قَول أهْل التَّفْسِير وقَول أهْل اللُّغَة، وجَعَل القَول بالتَّقْديم والتَّأخِير وَجْهًا في إزَالَة الإشْكَال، فَقال:

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 75 - 81) باختصار وتصرّف يسير.

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 521).

ص: 170

قَوله تَعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قال ابن عباس: خَلَقْنَاكُم في صُلْب آدَم، ثُمّ صَوَّرْناكُم في أرْحَام الأمَّهَات.

وقال مجاهد: خَلَقْناكُم في ظَهْر آدَم، ثُمّ صَوَّرْناكُم يَوم الْمِيثَاق حِين أخْرَجَهم كالذَّرِّ

(1)

.

وقِيل: هَذا في حَقّ آدَم - صلوات الله عليه - يَعْني: خَلَقْنَا أصْلَكُم آدَم ثُمّ صَوَّرْناه، فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْع والْمُرَاد به الوَاحِد.

وقال الأخْفَش - وهو أحَد قَولي قُطْرب -: إنَّ (ثُم) بمعنى (الواو)، أي وَصَوَّرْناكُم، (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

فإن قال قائل: الأمْر بِسُجُود الْمَلائكَة كَان قَبْل خَلْقِ بَنِي آدَم، فَمَا مَعْنى قَوله:(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) عَقيب ذِكْر الْخَلْق والتَّصْوير؟

والْجَوَاب:

أمَّا على قول مجاهد وقَول مَنْ صَرَفَه إلى آدَم يَسْتَقِيم الكَلام.

وأما على قول ابن عباس يَرِدُ هَذا الإشْكَال.

والْجَوَاب عنه مِنْ وُجُوه:

أحَدُها

(2)

: أنَّ الْمُرَاد به: ثم أُخْبِرُكُم أنا قُلْنا للمَلائكَة اسْجُدُوا لآدَم.

وقِيل: فِيه تَقْدِيم وتَأخِير، وتَقْدِيرُه: ولَقَد خَلَقْنَاكُم، ثُمّ قُلْنَا للمَلائكَة اسْجُدُوا، ثُمّ صَوَّرْناكُم.

وقِيل: (ثم) بمعنى (الواو)، أي: وَقُلْنا للمَلائكَة اسْجُدُوا، و (الواو) لا تُوجِبُ التَّرْتِيب، وهْو قَول الأخْفَش وأحَد قَولي قُطْرب، ولم يَرْضَوا

(3)

مِنْهم ذَلك، فإنَّ كَلِمَة (ثُم) لا تَرِد بِمَعْنى (الواو)، وهي للتَّعْقِيب

(4)

.

(1)

سيأتي فيه حديث مرفوع، ويأتي تخريجه.

(2)

قال: (أحدها) ولم يَذكُر (ثانيها) وإنما ذَكَر بقية الأوجه بصيغة التمريض (قيل).

(3)

أي أهل اللغة.

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 167، 168).

ص: 171

وبِنحو ذلك قال الثعلبي

(1)

.

ونَقَل الثعالبي الْخِلاف في الآية، فَقَال:

واخْتَلَف العُلَمَاء في تَرْتِيب هَذه الآية، لأنَّ ظَاهِرَها يَقْتَضِي أنَّ الْخَلْق والتَّصْوير لِبَنِي آدَم قَبْل القَول للمَلائكَة أنْ يَسْجُدُوا، وقَد صَحَّحَتِ الشَّرِيعَة أنَّ الأمْر لَم يَكُنْ كَذلك.

فَقَالَتْ فِرْقَة: الْمُرَاد بِقَولِه سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) آدَم، وإنْ كَان الْخِطَاب لِبَنِيه.

وقال مجاهد: الْمَعْنى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) في صُلْبِ آدَم، وفي وَقْت اسْتِخْرَاج ذُرِّيَّة آدَم مِنْ ظَهْره أمْثَال الذَّرِّ في صُورَة البَشَر.

ويَتَرتَّب في هَذَين القَولَين أنْ تَكُون (ثُمّ) على بَابِهَا في التَّرْتِيب والْمُهْلَة.

وقال ابن عباس والرَّبيع بن أنس: أمَّا (خَلَقْنَاكُمْ) فآدَم، وأمَّا (صَوَّرْنَاكُمْ) فَذُرِّيَّته في بُطُون الأمَّهَات.

وقال قَتادة وغَيره: بَلْ ذَلك كُلّه في بُطُون الأمَّهَات مِنْ خَلْقٍ وتَصْوير.

وخَلص الثعالبي إلى أنَّ " (ثُمَّ) لِتَرْتِيب الإخْبَار بِهَذه الْجُمَل، لا لِتَرْتِيب الْجُمَل في أنْفُسِها"

(2)

.

واكْتَفَى القاسمي بِنقْل قَول أبي السُّعود، فإنه قال: وإنما نُسِبَ الْخَلْق والتَّصْوير إلى الْمُخَاطَبِين مَع أنَّ الْمُرَاد بِهِما خَلْق آدَم عليه السلام وتَصْويره حَتْمًا، تَوْفِيةً لِمَقَام الامْتِنَان حَقَّه، وتَأكِيدًا لِوُجُوب الشُّكْر عَليهم، بالرَّمْزِ إلى أنَّ لهم حَظًّا مِنْ خَلْقِه عليه السلام وتَصْويره، لِمَا أنهما لَيْسَا مِنْ الْخَصَائص الْمَقْصُورَة عَليه عليه السلام

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (4/ 218).

(2)

لجواهر الحسان، مرجع سابق (2/ 5).

ص: 172

كَسُجُود الْمَلائكَة لَه عليه السلام بل مِنْ الأمُور السَّارِية إلى ذُرِّيَّتِه جَمِيعًا، إذْ الكُلّ مَخْلُوق في ضِمْن خَلْقِه عَلى نَمَطِه، ومَصْنُوع عَلى شَاكِلَتِه، فَكَأنهم الذي تَعَلَّق به خَلْقه وتَصْويره، أي: خَلَقْنا أَبَاكُم آدَم طِينًا غَير مُصَوَّر، ثم صَوَّرْناه أبْدَع تَصْوير وأحْسَن تَقْويم؛ سَارَ إليكُم جَمِيعًا

(1)

.

‌رأي الباحث:

آدَم خُلِق مِنْ طِين - كما هو معلوم - ثم صُوِّرَ وأُكْرِم بالسُّجُود، وذُرِّيَّته صُوِّرُوا في أرْحَام الأمَّهَات.

وأمَّا إخْرَاج ذُرِّيَّة آدم مِنْ ظَهْرِه أمْثَال الذَّرّ، فهذا بَعْد خَلْقِه، وبعد سُجُود الملائكة، ويَدُلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: لَمَّا خَلَق اللهُ آدَم مَسَحَ ظَهْرَه فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِه كُلّ نَسَمَة هُو خَالِقُها مِنْ ذُرِّيَّتِه إلى يَوم القِيامَة، وجَعَل بَيْن عَيْنَيّ كُلّ إنْسَان مِنْهم وَبِيصًا مِنْ نُور، ثم عَرضَهم على آدَم، فقال: أيْ رَبّ! مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذُرِّيَّتُك، فَرَأى رَجُلًا منهم فأعْجَبَه وَبِيص مَا بَين عَينَيه، فقال: أيْ رَبّ! مَنْ هَذا؟ فقال: هذا رَجُل مِنْ آخِر الأمُم مِنْ ذُرِّيَّتِك يُقَال له: دَاود، فقال: رَبّ كَمْ جَعَلْتَ عُمُرَه؟ قال: سِتِّين سَنَة. قال: أيّ رَبّ! زِدْه مِنْ عُمُري أرْبَعين سَنَة، فلما قَضَى عُمُر آدَم جَاءه مَلَك الْمَوْت، فقال: أوَ لَم يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أرْبَعُون سَنَة؟ قال: أوَ لَم تُعْطِها ابْنَك دَاود؟ قال: فَجَحَد آدَم فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُه، ونَسِي آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُه، وخَطِئ آدَم فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُه

(2)

.

(1)

تفسير أبي السعود (3/ 214، 215)، ومحاسن التأويل، مرجع سابق (7/ 13).

(2)

رواه الترمذي (ح 3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي مِنْ غَير وَجْه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أحمد (ح 2270) من حديث ابن عباس. وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع 5208).

ص: 173

ويَدُلّ على أنَّ هَذا كَان بَعْد خَلْق آدَم ما جَاء في الرِّوَاية الثَّانِية، وفيها: لَمَّا خَلَق اللهُ آدَم ونَفَخَ فِيه الرُّوح عَطَس، فقال: الْحَمْد لله، فَحَمِد الله بإذْنِه، فقال له رَبُّه: رَحِمَك الله يا آدَم. اذْهَب إلى أولَئك الْمَلائكَة - إلى مَلإٍ مِنْهم جُلُوس - فَقُلْ السَّلام عَليكم، قَالُوا: وعَليك السَّلام ورَحْمَة الله، ثم رَجَع إلى رَبِّه، فَقال: إنَّ هَذِه تَحِيَّتُك وتَحِيَّة بَنِيك بَيْنَهم، فَقَال اللهُ لَه، ويَدَاه مَقْبُوضَتَان: اخْتَر أيهُمَا شِئت. قال: اخْتَرْتُ يَمِين رَبِّي، وكِلْتا يَدَيّ رَبِّي يَمِين مُبَارَكة، ثم بَسَطَها فإذا فِيها آدَم وذُرِّيَّتُه، فقال: أيْ رَبّ! ما هؤلاء؟ فقال: هَؤلاء ذُرِّيَّتُك

(1)

.

والقَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير مُتَّجِه، أي أنَّ الْمَعْنى: أنَّ الله خَلَق آدَم عليه السلام، ثُمَّ قَال للمَلائكَة: اسْجُدُوا لآدَم، ثُمّ صَوَّر بَنِي آدَم.

والقول بأنَّ (ثُم) تَأتي بِمَعْنى (الواو) لَه حَظّ مِنْ النَّظَر.

قال الفَيّومي: (ثم) حَرْف عَطْف، وهي في الْمُفْرَدَات للتَّرْتِيب بِمُهْلَة. وقَال الأخْفَش: هي بِمَعْنى (الواو)، لأنها اسْتُعْمِلَتْ فيما لا تَرْتِيب فِيه، نَحو: وَالله ثُمَّ وَالله لأفْعَلَنّ .... وأمَّا في الْجُمَل فلا يَلْزَم التَّرْتِيب، بَلْ قَدْ تَأتي بِمَعْنى (الواو)، نَحْو قَوله تَعالى:(ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ)[يونس: 46] أي: والله شَاهِد عَلى تَكْذِيبِهم وعِنَادِهم، فإنَّ شَهادَة الله تعالى غير حَادِثة، ومِثْله:(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)[البلد: 17]

(2)

.

(1)

رواه الترمذي (ح 3368). وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع 5209).

(2)

المصباح المنير (1/ 84) بتصرّف يسير.

ص: 174

‌المثال الخامس:

تِكْرَار السُّؤَال عن السَّاعة:

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الأعراف: 187].

‌صورة التعارض:

في نَفْس الآية، حَيث زُعِم أنَّ فِيها تِكْرَارًا، والتِّكْرَار يُعَارِض الفَصَاحَة.

في الْمَوْضِعِ الأوَّل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ)، وفي الْمَوْضِع الثَّاني:(يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).

وفي الْمَوْضِع الأوَّل: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، وفي الْمَوْضِع الثَّاني:(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ).

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

(يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أيْ: عَالِم بها كَثير السُّؤال عنها. قال ابن فارِس: الْحَفِيّ العَالِم بِالشَّيء، والْحَفِيّ الْمَسْتَقْصِي في السُّؤال.

قال الأعشى:

فإن تَسْألي عَنِّي فيا رُبّ سَائل حَفِيّ عن الأعْشى به حَيث أصْعَدَا

يُقال: أحْفَى في الْمَسْألة وفي الطَّلَب فَهو مُحْفٍ، وحَفِيّ على التَّكْثِير، مِثْل مُخْصِب وخَصِيب.

قال محمد بن يزيد: الْمَعْنى: يَسْألُونَك كَأنَّك حَفِي بالْمَسْألة عَنها، أي مُلِحّ. يَذْهَب إلى أنه لَيس في الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير.

وقال ابن عباس وغيره: هُو عَل التَّقْدِيم والتَّأخِير.

والْمَعْنى: يَسْألُونَك عَنها كَأنك حَفِيّ بهم، أي حَفِيّ بِبِرّهم، وفَرِحٌ بِسُؤالِهِم، وذَلك لأنهم قَالُوا: بَيْنَنا وبَيْنَك قَرَابة فأسِرَّ إلَيْنَا بِوَقْتِ السَّاعَة. (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا

ص: 175

عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لَيْس هَذا تَكْرِيرًا، ولَكِنّ أحَد العِلْمَينِ لِوُقُوعِها، والآخَر لِكُنْهِها

(1)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

الْمَعْنَى: يَسْألُونَك كَأنك حَفِيّ بالْمَسْألة عنها.

2 -

على التَّقْدِيم والتَّأخِير: والْمَعْنَى: يَسْألُونك عَنها كَأنك حَفِيّ بهم.

3 -

ليس في الآية تِكْرَار، لأنَّ قَولَه:(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) لِوُقُوعِها، وقوله:(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) لكُنْهِها وحَقِيقَتِها.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال قتادة: قَالَتْ قُريش للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: نَحْن أقْرِباؤك فأسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَة، فأنْزَل الله جَلَّ وَعَزَّ:(يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: حَفِيّ بهم. والْمَعْنَى عَلى هذا: التَّقْدِيم والتَّأخِير، أي: يَسْألُونَك عَنها كَأنك حَفِيَّ لهم، أي: فَرِحٌ لِسُؤالِهم

(2)

.

قال ابن جرير: يَقول تَعالى ذِكْرُه: يَسألُك هَؤلاء القَوم عن السَّاعَة كَأنك حَفِيّ عنها.

فقال بَعضهم: يَسْألُونَك عنها كَأنك حَفِيّ بهم، وقَالُوا: مَعْنى قَوله: (عَنْهَا) التَّقْدِيم، وإن كَان مُؤَخَّرًا.

وقال آخَرُون: بل مَعْنى ذَلك كَأنك قَدْ اسْتَحْفَيْتَ الْمَسألة عَنها، فَعَلِمْتَها.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 294).

(2)

معاني القرآن، مرجع سابق (3/ 112).

ص: 176

ثم قال: وأوْلى القَولين في ذلك بالصَّواب قَول مَنْ قَال: مَعْنَاه كَأنك حَفِيّ بالْمَسْأَلَة عنها، فَتَعْلَمها. فإن قَال قَائل: وكَيف قِيل: (حَفِيٌّ عَنْهَا) ولم يَقُل: حَفِيّ بها، إنْ كَان ذلك تَأوِيل الكَلام؟ قِيل: إنَّ ذَلك قِيل كَذلك، لأنَّ الْحَفَاوة إنما تَكُون في الْمَسْألة، وهي البَشَاشَة للمَسْؤول عِند الْمَسْألة، والإكْثَار مِنْ السُّؤال عنه، والسُّؤال يُوصِل بـ (عن) مُرّة وبـ (الباء) مَرّة، فيُقَال: سَألْتُ عنه، وسَألْتُ به، فَلَمَّا وَضِع قَوله حَفِيّ مَوْضِع السُّؤال وُصِل بأغْلَب الْحَرْفَين اللَّذَين يُوصَل بِهِما السُّؤال، وهْو (عن) كما قال الشَّاعر:

سُؤال حَفِيّ عن أخِيه كَأنه بِذِكْرَتِه وَسْنَانُ أوْ مُتَوَاسِنُ

وأمَّا قَوله: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ)، فإنَّ مَعْنَاه: قُلْ يا مُحَمَّد لِسَائلِيك عَنْ وَقْت السَّاعَة، وحِين مَجِيئها: لا عِلْمَ لي بِذَلك، ولا يَعْلَم بِه إلَّا الله الذي يَعْلَم غَيْب السَّمَاوات والأرْض

(1)

.

وقال السمرقندي: قَوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) يَعني عَنْ قِيام السَّاعة. (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) يَعني مَتى حِينها وقِيامها. ويُقال: هَذا الكَلام على الاخْتِصَار، وَمَعْنَاه: أي أَوَان قيامها. ثم قال: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) يَعني علْم قيَام السَّاعَة عند رَبي، ومَا لِي بِها مِنْ عِلْم .... ثم قال:(يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) قال مُقاتل: كَأنك اسْتَخْفَيْتَ عنها السُّؤال حتى عَلِمْتَها.

وقال القَتَبي: أي كَأنك حَفِيّ تَطْلُب عِلْمها، ومِنه يُقَال: تَحَفّى فُلان بالقَوم، إذا بَالَغ في البِرّ. ويُقَال:(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) يَعْني كَأنك جَاهِل بها. ويُقال: في الآية تَقْدِيم، ومَعْنَاه: يَسْألُونَك عَنْها كَأنك عَالِم بها (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) .... ثم قال:

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 610 - 615) باختصار.

ص: 177

(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) يَعني عِلْم قِيامِها عِنْد الله، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنها كَائنَة، ولا يُصَدِّقُون بها

(1)

.

وقال السمعاني: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: كَأنك مَسْرُور بِسُؤالِهِم عنها.

يُقَال: تَحَفَّيْتُ فُلانًا في الْمَسْألة، إذا سَألْته وأظْهَرْت السُّرُور في سُؤالِك، فَعَلَى هَذا تَقْدير الآية: يَسْأَلُونَك عَنها كَأنك حَفِيّ بِسُؤالِهِم. وقِيل: مَعْنَاه: يَسْألُونَك كَأنك حَفِيّ عَنها، أي عَالِم بها. يُقال: أحْفَيْت فُلانًا، إذا مَا بَالَغْتُ في الْمَسْألة عَنه حَتَّى عَلِمْتَ، فَعَلى هذا مَعْنى الآية: كَأنك حَفِيّ عَنها، أي: كَأنك بَالَغْتَ في السُّؤال عَنها حتى عَلِمْتَ

(2)

.

وبالقَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير قال الثعلبي، فإنه قال:(يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) قَال أهْل التَّفْسِير: في الآية تَقْدِيم وتَأخِير، تَقْدِيرُها: يَسْألُونَك عَنها كَأنك حَفِيّ، أي بَارّ فِيهم، صَدِيق لَهُمْ قَرِيب، قاله ابن عباس وقتادة. وقال مجاهد والضحاك: كَأنك عَالِم بِهَا. وقد يُوضع (عن) موضع مع

(3)

الياء

(4)

.

واخْتَار ابن عَطِيَّة أنَّ التِّكْرَار في الآية للتَّأكِيد، فَقَال: أمَرَهُ ثَانِية بأن يُسْلِم العِلْم تَأكِيدًا للأمْر وتَهَمُّمًا به .... وقِيل: العِلْم الأوَّل عِلْم قِيَامِهَا، والثَّاني عِلْم كُنْهِها وحَالِها

(5)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 585) باختصار يسير.

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 237، 238).

(3)

كذا في المطبوع، ويظهر أنّ صوابه:(وقد يُوضَع (عن) موضع الباء).

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (4/ 313).

(5)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 485) باختصار يسير.

ص: 178

وبِمِثْل ذَلك قال النَّسَفيّ: وكَرَّرَ (يَسْأَلُونَكَ) و (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) للتَّأكِيد، ولِزِيَادَة (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)، وعَلى هذا تَكْرِير العُلَمَاء في كُتُبِهم لا يَخْلُوَنَّ الْمُكَرَّرُ مِنْ فَائدَة

(1)

.

وبِمِثْلِه قال الشوكاني: أمَرَه اللهُ سُبحانه بأن يُكَرِّر مَا أجَاب بِه عَليهم سَابِقا، لِتَقْرِير الْحُكْمِ وتَأكِيدِه. وقِيل: لَيْس بِتَكْرِير، بَلْ أحَدُهُما مَعْنَاه الاسْتِئْثَار بِوُقُوعِها، والآخَر الاسْتِئْثَار بِكُنْهِها نَفْسِها

(2)

.

ورَجَّح ابن كثير أنَّ مَعْنى الآيَة: كَأنك بِها عَالِم.

فإنه ذَكَر الأقْوَال في الآية ثم قَال: وقال عَبد الرحمن بن زَيد بن أسْلم: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا): كَأنك بِهَا عَالِم، وقَد أخْفَى الله عِلْمَها عَلى خَلْقِه، وقَرأ (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] الآيَة. وهَذا القَول أرْجَح في الْمَعْنى مِنْ الأوَّل

(3)

.

‌رأي الباحث:

لَيْس في الآيَة تِكْرَار، لأنَّ قَولَه:(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) لِوُقُوعِها، وقَولَه:(قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) لكُنْهِها وحَقِيقَتِها.

أوْ أنَّ التِّكْرَار في الآية للتَّأكِيد.

وأنَّ في الآية تَقْدِيمًا وتَأخِيرًا: والْمَعْنَى: يَسْأَلونَك عَنها كَأنك حَفِيّ بِهِمْ.

(1)

مَدَارِك التَّنْزِيل وحَقائق التَّأْويل، مرجع سابق (2/ 50).

(2)

فتح القدير، مرجع سابق (2/ 273).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 471).

ص: 179

‌المبحث الرابع: اختلاف المناسبة

"الْمُنَاسَبَة في اللُّغَة: الْمُشَاكَلَة والْمُقَارَبَة، ومَرْجِعُها في الآيات ونَحْوها إلى مَعْنَى رابِط بَيْنَهما عَامّ أوْ خَاصّ، عَقليّ، أوْ حِسِّيّ، أوْ خَيَالِيّ، أوْ غَير ذلك مِنْ أنْوَاع عِلاقَات التَّلازُم الذِّهْني، كالسَّبَب والْمُسَبَّب، والْعِلّة والمعلُول، والنَّظِيرين والضِّدّين ونحوه"

(1)

.

"وفَائدَته: جَعْل أجْزَاء الكَلام بَعْضها آخِذًا بأعْنَاق بَعْض، فَيَقْوَى بذلك الارْتِبَاط ويَصِير التَّألِيف حَاله حَال البِنَاء الْمُحْكَم الْمُتَلائم الأجْزَاء"

(2)

، فَنَقُول: ذِكْر الآيَة بَعْد الأخْرَى إمَّا أن يَكُون ظَاهِر الارْتِبَاط لِتَعَلّق الكَلِم بَعْضه بِبَعْض وعَدَم تَمَامه بِالأُولى؛ فَوَاضِح، وكَذلك إذا كَانت الثَّانية للأولى عَلى وَجْه التَّأكِيد، أوْ التَّفْسِير، أوْ الاعْتِراض، أوْ البَدَل، وهَذا القِسْم لا كَلام فِيه"

(3)

.

"وعِلْم الْمُنَاسَبَة عِلْم شَرِيف قَلّ اعْتِنَاء الْمُفَسِّرِين بِه لِدِقَّتِه، ومِمَّن أكْثر مِنْه الإمَام فَخْر الدِّين، وقال في تَفْسِيره: أكْثر لَطَائف القُرآن مُودَعَة في التَّرْتِيبَات والرَّوَابط"

(4)

.

"وقَال الشَّيخ عِزّ الدِّين بن عبد السلام: الْمُنَاسَبة عِلْم حَسَن، لَكِن يُشتَرَط في حُسْن ارْتِبَاط الكَلام أن يَقَع في أمْر مُتَّحِد أوّله بآخِره، فإن وَقَع على أسْبَاب مُخْتَلِفَة لَم يَقَع فيه ارْتِبَاط، ومَن رَبَط ذَلك فَهو مُتَكَلِّف بِمَا لا يَقْدِر عليه إلَّا بِربْطٍ رَكيك، يُصَان

(1)

مُعتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 57)، و"الإتقان"، مرجع سابق (3/ 323، 324)، وأصْل هذا القول للزركشي في "البرهان"(1/ 36).

(2)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (1/ 37) مُعتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 57)، والإتقان، مرجع سابق (3/ 323).

(3)

مُعتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 57)، و"الإتقان"، مرجع سابق (3/ 323).

(4)

مُعتَرك الأقران مرجع سابق (1/ 55)، و"الإتقان"(3/ 322)، وأصْل هذا القَول للزركشي في "البرهان"(1/ 36)، والمقصود بـ "فخر الدين" هو الرازي ولم أقِف على هذا القَول في تَفْسيره.

ص: 180

عن مِثْله حَسَن الْحَدِيث، فَضْلًا عن أحْسَنه، فإنَّ القُرآن نَزَل في نَيِّف وعِشْرِين سَنَة، في أحْكَام مُختلِفَة، ومَا كان كَذلك لا يَتَأتّى رَبْط بَعْضِه بِبَعْض"

(1)

.

وقال الشيخ وليّ الدين الملوي: قَدْ وَهِم مَنْ قَال: لا يُطلَب للآية الكَرِيمة مُناسَبَة؛ لأنها على حَسَب الوَقَائع الْمُتَفَرِّقَة، وفَصْل الْخِطَاب أنها على حَسَب الوَقَائع تَنْزِيلًا، وعلى حَسَب الْحِكْمَة تَرْتِيبًا وتَأصِيلًا

(2)

.

وتقدَّم في الْمَبْحَث السَّابِق أنَّ مِنْ أسْبَاب التَّقْدِيم والتَّأخِر: الْمُنَاسَبَة؛ وهي إمَّا مُنَاسَبة الْمُتَقَدِّم لِسِيَاق الكَلام، وإمَّا مُنَاسَبة لَفْظ هُو مِنْ التَّقَدُّم أوْ التَّأخُّر

(3)

.

والذي يَظْهَر أنه يُقْصَد بـ (الْمُنَاسَبَة) أمْرَان:

الأول: مُناسَبة الآي والسُّوَر، وهو ما يُعَبَّر عنه - أحيانًا - بـ (التَّنَاسُب)

(4)

.

الثاني: مُناسَبة ذلك اللَّفْظ، أوْ تِلك العِبَارة لِذَلك الْمَوْضِع دُون غيره

(5)

، وهو مَا يَعْنِي البَاحِث في هَذا الْمَبْحَث.

وقد يُتوَهَّم التَّعَارُض بِسَبَب اخْتِلاف الْمُنَاسَبة، وقد أشْكَلَتْ مَواضِع منها على بَعْض التَّابِعين - كما سَيأتي في هَذا الْمَبْحَث -.

(1)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (1/ 37)، "مُعتَرك الأقران"، مرجع سابق (1/ 57)، و"الإتقان"، مرجع سابق (3/ 323).

(2)

مُعتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 55، 56)، و"الإتقان"(3/ 322، 323)، ويُنظَر:"البرهان"، مرجع سابق (1/ 37).

(3)

مُعتَرك الأقران، مرجع سابق (1/ 174 - 180).

(4)

وفيه أُلّف البقاعي كتابه "نَظم الدُّرَر في تناسُب الآيات والسُّوَر"، والسيوطي "أسْرَار القرآن".

(5)

وفيه مؤلّفات، منها:"درّة التَّنْزِيل وغرّة التأويل"، الخطيب الإسكافي، و"البرهان في مُتَشَابه القرآن"، الكِرماني، و "كَشْف الْمَعَاني في الْمُتَشَابِه والْمَثَاني"، ابن جماعة، و"التعبير القرآني"، فاضِل السَّامُرائي.

ص: 181

وقد بيّن القرطبي أثَر الْمُنَاسَبَة مِنْ خِلال جَمْعِه بَين الآيَات التي ظَاهِرُها التَّعَارُض، فمن ذلك:

‌المثال الأول:

خَلْق السَّمَاوات والأرْض؛ أيُّهُما أوَّلًا؟

قَوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)[البقرة: 29] وقوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 9 - 12]، مَع قَوله تعالى:(أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [النازعات: 27 - 30].

‌صورة التعارض:

آية "البقرة""تَدُلّ على أنَّ خَلْق الأرْض قَبل خَلْق السَّمَاء، بِدَلِيل لَفْظَة (ثُمَّ) التي هي للتَّرتِيب والانْفِصَال، وكذلك آية "حم السجدة"

(1)

تَدُلّ أيضًا عَلى خَلْق الأرْض قَبْل خَلْق السَّمَاء

مع أنّ آية "النازعات" تَدُلّ على أنَّ دَحْو الأرْض بَعْد خَلْقِ السَّمَاء"

(2)

.

(1)

يعني سورة "فُصِّلَتْ".

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 11).

ص: 182

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

رَوَى البُخَاري

(1)

عن سَعيد بن جُبير قَال: قَال رَجُل

(2)

لابْنِ عباس: إني أجِدُ في القُرْآن أشْيَاء تَخْتَلِف عَليَّ. قال: مَا هُو؟

(3)

قال: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)[المؤمنون: 101]، وقال:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27]، وقال:(وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء: 42]، وقال:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23] فَقَد كَتَمُوا في هَذه الآية. وفي "النازعات": (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) إلى قوله: (دَحَاهَا)، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاء قَبْل الأرْض، ثم قال:(أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى (طَائِعِينَ)، فَذَكَرَ في هذا خَلْقَ الأرْض قَبْل خَلْق السَّمَاء

فقال ابن عباس: - وَذَكَر أجْوِبَة

(4)

- قال: وخَلَقَ اللهُ الأرْض في يَومَين، ثُمّ اسْتَوى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُنّ سَبْع سَمَاوَات في يَومَين، ثُمّ دَحَا الأرْض، أي بَسَطَها، فأخْرَج مِنْها الْمَاء والْمَرْعَى، وخَلَق فيها الْجِبَال والأشْجَار والآكَام ومَا بَيْنَها في يَومَين آخَرَين، فَذَلك قَوله:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، فَخُلِقَتِ الأرْض ومَا فِيها في أرْبَعة أيام، وخُلِقَتِ السَّمَاء في يَومَين

(5)

.

وقال في تَفْسير "فُصِّلتْ": (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تَتِمَّة أرْبَعة أيام، ومِثَاله قَول القائل: خَرَجْتُ مِنْ البصْرة إلى بَغْدَاد في عَشرَة أيام، وإلى الكُوفة في خَمْسَةَ عَشَر يَومًا، أي: في تَتِمَّة خَمْسَةَ عَشَرَ يَومًا. قال مَعْنَاه ابن الأنباري وغيره

(6)

وظَاهِر هَذه الآية يَدُلّ

(1)

الصحيح (4/ 1815) وصُورته صُورة التَّعْليق. قال العيني (عمدة القارئ 19/ 150): ذَكَرَ ما عَلَّقَه عن الْمِنْهَال أوَّلًا، ثم أسْنده عقيبه.

(2)

روى الطبري (5/ 94) من طريق الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس - فَذَكَرَه -.

(3)

هذا السؤال لم أره في المطبوع من صحيح البخاري.

(4)

ذَكَرَها القرطبي، وحذَفْتُها اختصارًا، ولأنها سوف تأتي في مواضع أُخَر.

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 12).

(6)

المرجع السابق (15/ 343).

ص: 183

على أنَّ الأرْض خُلِقَتْ قَبْل السَّمَاء. وقال في آية أخرى: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) ثُمّ قَال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، وهَذا يَدُلّ على خَلْق السَّمَاء أوَّلًا. وقال قَوم: خُلِقَتِ الأرْض قَبْل السَّمَاء. فأمَّا قَوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، فالدَّحْو غير الْخَلْق، فاللهُ خَلَق الأرْض، ثُمّ خَلَق السَّمَاوَات، ثم دَحَا الأرْض، أي مَدَّها وبَسَطَها. قاله ابن عباس

(1)

.

وقال في تفسير "النَّازِعَات": وَذَكَر بَعض أهْل العِلْم أنَّ بَعْد في مَوضِع (مَعَ)، كَأنّه قال: والأرْضَ مَع ذلك دَحَاهَا، كَمَا قَال تَعالى:(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[القلم: 13] .... وقِيل: (بَعْد) بِمَعْنى (قَبْل)، كَقَوله تَعالى:(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)[الأنبياء: 105] أي: مِنْ قَبْل الفُرْقَان.

وقيل: (دَحَاهَا) حَرَثها وشَقّها. قاله ابن زيد.

وقيل: (دَحَاهَا) مَهّدَها للأقْوَات. والْمَعْنى مُتَقَارِب

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

خَلَق اللهُ الأَرض في يَومَين، ثم اسْتَوى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُنّ سَبْع سَمَاوَات في يَومَين، ثُمّ دَحَا الأرْض في يَومَين؛ فَهذِه سِتَّة أيام.

2 -

قوله تعالى: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ثُمّ قَال: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)، أي: في تَتِمَّة أرْبَعَة أيام.

3 -

أنَّ الدَّحْو غَير الْخَلْق، فالله خَلَق الأرْض، ثم خَلَق السَّمَاوَات، ثم دَحَا الأرْض.

4 -

أنَّ بَعْد بِمَعْنى مَع، أي: مَع ذلك دَحَاهَا.

5 -

نَقَل قَولًا لم يُعوِّل عليه، وهو أنَّ السَّمَاء خُلِقَتِ قَبْل الأرْض.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 346).

(2)

المرجع السابق (19/ 179) بتصرف يسير.

ص: 184

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

الإجْمَاع مُنعقِد بين المفسِّرِين عَلى أنَّ السَّمَاوات والأرْض خُلِقَتْ في سِتَّة أيام.

قال السَّمعاني: وأجْمَعُوا عَلى أنَّ خَلْق الكُلّ كَان في سِتَّة أيام لا في ثَمَانِية أيام، بل أرَاد به أرْبَعة أيام مَع اليَومَين

(1)

.

ورَوى ابنُ جَرير بإسْناده إلى عليّ عن ابْنِ عباس في قَوله

(2)

حَيث ذَكَرَ خَلْق الأرْض قَبْل السَّماء، ثم ذَكَر السَّمَاء قَبْل الأرْض، وذَلك أنَّ الله خَلَق الأرْض بأقْوَاتِهَا مِنْ غَير أنْ يَدْحُوها قَبْل السَّمَاء، ثم اسْتَوى إلى السَّمَاء فَسَوّاهن سَبْع سَمَاوَات، ثم دَحَا الأرْض بَعْد ذلك؛ فَذلك قوله:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا).

وتَسَاءَل ابنُ جرير فَقال: فإن قَال لَنا قَائل: فما صِفَة تَسْوية الله جل ثناؤه السَّمَاوات التي ذَكَرَها في قوله: (فَسَوَّاهُنَّ)، إذْ كُنَّ قد خُلقْنَ سَبْعًا قَبْل تَسْوِيَتِه إياهُنّ؟ ومَا وَجْه ذِكْرِ خَلْقِهن بَعْد ذِكْر خَلْق الأرْض؟ أَلَانها خُلِقَتْ قَبْلها أمْ بمعنى غير ذلك؟

(3)

ثم قال بَعْد أنْ سَاق الرِّوَايات في هذا البَاب: فَمَعْنَى الكَلام إذًا: هُو الذي أنْعَم عَليكم، فَخَلَقَ لَكُمْ مَا في الأرْض جَمِيعًا، وسَخَّرَه لَكُمْ تَفَضُّلًا مِنه بِذلك عَليكم، ليكون لَكُمْ بَلاغًا في دُنْياكُم، ومَتَاعًا إلى مُوَافاة آجَالِكم، ودَلِيلًا لَكُمْ عَلى وَحْدَانِيَّة رَبّكم، ثم عَلا إلى السَّمَاوات السَّبْع وهي دُخَان، فَسَوّاهن وحَبَكَهُنّ، وأجْرَى في بَعْضِهن شَمْسَه وقَمَرَه ونُجُومَه، وقَدَّر في كُلّ وَاحِدة مِنْهُنّ مَا قَدَّر مِنْ خَلْقِه

(4)

.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 354)، وكأنه لم يَلتَفت إلى قَول من قال بخلاف ذلك، لضعفه وشذوذه.

(2)

هكذا في طبعة دار هجر، وفي تفسير "النازعات" (24/ 92): عن ابن عباس قولَه .....

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 461).

(4)

المرجع السابق (1/ 465).

ص: 185

وأمَّا في تَفْسِير "فُصِّلت" فَقال: وقَال بَعْض نَحْويي البَصْرَة: قال: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)، ثم قَال:(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)؛ لأنه يَعني أنَّ هَذا مَع الأوَّل أرْبَعَة أيام، كَمَا تَقُول: تزوّجْت أمسِ امْرَأة، واليَوم اثْنَتَين، وإحْدَاهُما التي تَزَوّجْتها أمْس

(1)

.

وذَكَر الاخْتِلاف في مَعْنَى "الدّحْو"، فَقَال في قَوله تَعالى:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا): اخْتَلَف أهْل التَّأويل في مَعْنَى قَوله: (بَعْدَ ذَلِكَ)؛ فَقَال بَعْضُهم: دُحِيَت الأرْض مِنْ بَعْد خَلْق السَّمَاء - ثم ذَكَر مَنْ قَال ذَلك -.

وقال آخَرُون: بل مَعْنَى ذَلك: والأرْض مَع ذَلك دَحَاهَا. وقَالُوا: الأرْض خُلِقت ودُحِيَت قَبْل السَّمَاء، وذلك أنَّ الله قَال:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، قَالوا: فأخْبَر الله أنه سَوّى السَّمَاوات بَعْد أنْ خَلَق مَا في الأرْض جَمِيعًا. قَالوا: فَإذا كَان ذَلك كَذلك، فَلا وَجْه لِقَوله:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) إلَّا مَا ذَكَرْنا مِنْ أنه: مَع ذَلك دَحَاهَا. قَالوا: وذَلك كَقَول الله عز وجل: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)، بِمَعْنى: مَع ذَلك زَنِيم

وكَمَا قَال جلّ ثَناؤه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: مِنْ قَبْلِ الذِّكْر - ثم ذَكَر مَنْ قال ذلك -

ورَجَّح قَول ابن عباس، فقال: والقَول الذي ذَكَرْناه عَنْ ابن عباس مِنْ أنّ الله تَعالى خَلَق الأرْض، وقَدَّر فِيها أقْوَاتَها، ولم يَدْحُها، ثم اسْتَوى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُنّ سَبْع سَمَاوَات، ثم دَحَا الأرْض بَعْد ذَلك؛ فأخْرَجَ منها مَاءها ومَرْعَاهَا، وأرْسَى جِبَالَهَا؛ أشْبَه بِمَا دَلّ عليه ظَاهِر التَّنْزِيل، لأنه جَلّ ثَناؤه قَال:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، والْمَعْرُوف مِنْ مَعْنى (بَعْدَ) أنه خِلاف مَعْنَى (قَبْل)، ولَيس في دَحوِّ الله الأرْض بَعْد تَسْوِيَتِه السَّمَاوَات السَّبْع، وإغْطَاشِه لَيْلها، وإخْرَاجِه ضُحَاهَا، ما يُوجِب أنْ تَكُون

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (20/ 389) باختصار.

ص: 186

الأرْض خُلِقَت بَعْد خَلْق السَّمَاوَات، لأنَّ الدَّحْوّ إنَّمَا هُو البَسْط في كَلام العَرَب والْمَدّ، يُقال مِنه: دَحَا يَدْحُو دَحْوا، ودَحيْتُ أدْحى دَحْيا، لغتان.

وبِنَحْوِ الذي قُلْنَا في مَعْنى قَوله: (دَحَاهَا) قال أكْثَر أهْل التَّأويل

(1)

.

وأما السمرقندي فَقال في قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ):

اللفظ لَفْظ الاسْتفْهَام، والْمُرَاد به الزَّجْر، يَعني: أئنكُم لَتُكَذِّبُون بالْخَالِق الذي خَلَق الأرْض في يَومَين، يَعْني في يَوم الأحَد ويَوم الاثْنين؛ فَبَدَأ خَلْقَها في يَوم الأحَد، وبَسَطَها في يَوم الاثْنين.

ثم قال: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يَعْني: مِنْ أيام الآخِرة. ويُقَال: مِنْ أيام الدُّنيا. (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يَعْنِي: لِمَنْ سَأل الرِّزْق، ومَن لَم يَسْأل

(2)

.

وقال الثعلبي: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يَعْني: أنَّ هَذا مَع الأوَّل أرْبَعة أيام، كَمَا يَقول

(3)

: تَزَوّجْتُ أمْس امْرَأة واليَوم اثْنَتَين، وأحَدُهما التي تَزَوَّجْتها أمْس. ويُقال: أتَيت وَاسِط في خَمْسَة والبَصْرَة في عَشَرة، فالْخَمْسَة مِنْ جُمْلَة العَشَرة، فَرَدّ الله سبحانه الآخِر على الأوَّل، وأجْمَلَه في الذِّكْر

(4)

.

وقال في مَوْضِع آخَر: و (بَعْد) بِمَعْنى (قَبْل)، كَقَولِه:(وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)[الكهف: 79] أي: أمَامَهم، وقوله:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي: قَبْل ذلك

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (24/ 92 - 95) باختصار.

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (3/ 208، 209).

(3)

هكذا في المطبوع، ولعل صَواب العِبَارَة: كَمَا تَقُول ....

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (8/ 287).

(5)

المرجع السابق (6/ 313).

ص: 187

وقال ابن عطية: وقَوله تَعالى: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يُرِيد: باليَومَين الأوَّلَين، وهَذا كَمَا تَقول: بَنَيْتُ جِدَار دَارِي في يَوْم وأكْمَلْتُ جَمِيعَها في يَومَين، أي: بِالأوَّل

(1)

.

وقَوله: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أفْصَح وأبْلَغ.

قال الزمخشري: لَو قِيل: (فِي يَومَيْنِ) في مَوْضِع (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً) لم يُعْلَم أنهما يَومَان كَامِلان أوْ نَاقِصَان.

فإن قلت: فَلَو قِيل: خَلَق الأرْض في يَومَين كَامِلَين وقَدَّر فِيها أقْواتها في يَومَين كَامِلَين، أوْ قِيل - بَعْدَ ذِكْرِ اليَومَين - تِلك أرْبَعة سَوَاء؟ قُلْت: الذي أوْرَدَه

(2)

سُبْحَانه أخْصَر وأفْصَح، وأحْسَن طِبَاقًا لِمَا عَليه التَّنْزِيل مِنْ مُغَاصَاة

(3)

القَرَائح ومُصَاكّ الرُّكَب، لِيَتَمَيَّز الفَاضِل مِنْ النَاقِص، والْمُتَقَدِّم مِنْ النَّاكِص، وتَرْتَفِع الدَّرَجَات، ويَتَضَاعَف الثَّوَاب؛ أمَرَها مَا أمَرَ بِه فِيها، ودَبَّرَه مِنْ خَلْق الْمَلائكَة والنَّيِّرَات وغَير ذلك، أوْ شَأنها ومَا يُصْلِحُها

(4)

.

وقال في مَوْضِع آخَر: جُرْم الأرْض تَقَدَّم خَلْقُه خَلْق السَّمَاء، وأمَّا دَحْوُها فَمُتَأخِّر

(5)

.

ويَرى ابْنُ كَثير أنَّ آيات سُورة "فُصِّلت" فَصَّلتْ ما أُجْمِل في "البقرة"، فقال في قوله تعالى:(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): وهو قَوله تَعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ

(1)

المحرَّر الوجيز، مرجع سابق (5/ 6).

(2)

لعل هذا هُروبًا من قول: "الذي قالَه الله"؛ لأن المعتزِلة يَقولون بِخَلْق القُرآن.

(3)

لعل المعنى مِنْ "الغَوص" وإخْرَاج مَكْنُون القرائح بقدحها.

(4)

الكشاف، مرجع سابق (4/ 196).

(5)

المرجع السابق، (1/ 153).

ص: 188

اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، فَفِي هَذا دَلالَة عَلى أنه تَعالى ابْتَدَأ بِخَلْق الأرْض أوَّلًا ثم خَلَق السَّمَاوات سَبْعًا، وهَذا شَأن البِنَاء أنْ يُبْدَأ بِعِمَارَة أسَافِلِه ثم أعَالِيه بَعْد ذَلك، وقد صَرَّح الْمُفَسِّرُون بِذلك ....

فأمَّا قَوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)، فَقَد قِيل إنَّ (ثُمَّ)

(1)

هاهنا إنما هِي لِعَطْف الْخَبَر عَلى الْخَبَر، لا لِعَطْف الفِعْل عَلى الفِعْل، كما قال الشاعر:

قُلْ لِمَنْ سَاد ثُمّ سَادَ أبُوه ثم قَدْ سَاد قَبل ذلك جَدّه

وقيل: إن الدَّحْي كَان بَعْد خَلْق السَّمَاوات والأرْض

(2)

.

وقَال أيضًا في الْجَمْع بين آية "البقرة" وآيات "فُصِّلت": فَهَذِه وهَذه دَالَّتَان على أنَّ الأرْض خُلِقَت قَبْل السَّمَاء، وهَذا مَا لا أعْلَم فِيه نِزَاعًا بَيْن العُلَمَاء، إلَّا مَا نَقَلَه ابن جَرير عن قَتادة أنه زَعَم أنَّ السَّمَاء خُلِقَت قَبْل الأرْض، وقَد تَوقّف في ذلك القُرْطُبي

(3)

في تَفْسِيره لِقوله تَعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا).

قَالوا: فَذَكَر خَلْقَ السَّمَاء قَبْل الأرْض.

(1)

هكذا في المطبوع، فإما أراد (ثُمّ) التي في آية "فُصِّلَت"، أوْ أرَاد (بَعْد) التي في آية "النازعات"؛ لأنه ليس في آيات "النازعات" التي ذكرها ثُمّ.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 332، 333).

(3)

لا يظهر توقّف القرطبي، بل أحَال على ما بيّنه في تَفْسِير سُورة البقرة.

ص: 189

وفي صحيح البخاري

(1)

أنَّ ابنَ عَباس سُئل عَنْ هَذا بِعَيْنِه فأجَاب بِأنَّ الأرْض خُلِقَت قَبْل السَّمَاء، وأنَّ الأرض إنما دُحِيتْ بَعْد خَلْق السَّمَاء، وكَذلك أجَاب غَير واحِد مِنْ عُلَمَاء التَّفْسِير قَدِيمًا وحَدِيثًا، وقد حَرَّرْنا ذلك في سُورة النازعات، وحَاصِل ذلك أن الدَّحْي مُفَسَّرٌ بِقَولِه تَعالى:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)، فَفَسَّر الدَّحْي بإخْرَاج مَا كَان مُودَعًا فِيها بالقُوَّة إلى الفِعْل لَمَّا أُكْمِلَت صُورَة الْمَخْلُوقَات الأرْضِيَّة، ثمّ السَّمَاوِيَّة، دَحَا بَعْد ذَلك الأرْض، فأخْرَجَتْ مَا كَان مُودَعًا فِيها مِنْ الْمِيَاه، فَنَبَتَتْ النَّبَاتَات عَلى اخْتِلاف أصْنَافِها وصِفَاتِها وألْوَانِها وأشْكَالِها، وكَذلك جَرَتْ هَذه الأفْلاك فَدَارَتْ بِمَا فِيها مِنْ الكَواكِب الثَّوابِت والسَّيَّارَة، والله سبحانه وتعالى أعلم

(2)

.

وقال القاسمي: وقَد اسْتُدِلّ بِقَوله: (ثُمَّ اسْتَوَى) على أنَّ خَلْق الأرْض مُتَقَدِّم على خَلْق السَّمَاء، وكَذلك الآية التي في "حم السجدة"، وقَوله تَعالى في سُورة النازعات:(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) إنما يُفِيد تَأخُّر دَحْوها، لا خَلْق السَّمَاء، فإنَّ خَلْق الأرْض وتَهْيئتِها - لِما يُرَاد مِنها - قَبْل خَلْق السَّمَاء، ودَحْوها بَعْد خَلْق السَّمَاء. الدَّحْو هُو البَسْط، وإنْبَات العُشْب مِنها، وغَير ذَلك، مما فَسَّرَه قَوله تَعالى:(أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)، وكَانت قَبْل ذلك خَرِبَة وخَالِيَة، على أنَّ (بَعْد) تَأتي بِمَعْنى (مَع)، كَقَولِه:(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) أي: مَع ذَلك. فَلا إشْكَال، وتَقْدِيم الأرض - هُنا - لأنها أدَلّ لِشِدّة الْمُلابَسَة والْمُبَاشَرة

(3)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 335) باختصار.

(3)

محاسن التأويل، مرجع سابق (1/ 311).

ص: 190

‌رأي الباحث:

لا خلَاف - يُذْكَر - أنَّ خَلْق الأرض قَبْل خَلْق السَّمَاوات، إلَّا أنَّ الأغْلَب في الْخِطَاب القُرآني تَقْدِيم ذِكْر السَّمَاوات على ذِكْر الأرْض، لِعِظَم السَّمَاوات ومَا فِيها، ولِكَونها أعْلى مِنْ الأرْض، وهَذا جَارٍ على عَادَة وأسْلُوب العَرَب في تَقْدِيم الأهَمّ.

ولِلْجَمْع بين الآيات يُقال:

إن دَحْو الأرْض كَان بَعْد خَلْق السَّمَاوات، وخَلْق الأرْض كَان في أربعة أيام؛ يَومَين قَبْل خَلْق السَّمَاوات، ويَومين بَعْد خَلْق السَّمَاوات، وهُمَا مَا يَتَعَلَّق بِبَسْط الأرْض ودَحْوِها.

وأمَّا قَوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 29]، فهذا ذِكْرٌ على سَبِيل الإجْمَال، لا عَلى سَبِيل التَّفْصِيل، ومَا في سُورة فُصِّلت و "النازعات" هو على سَبِيل التَّفْصِيل، وهَذا أيضًا جَارٍ على عَادَة العَرَب في تَقْدِيم الإجْمَال على التَّفْصِيل، ألَا تَرى أنَّ سُورة الفاتحة جاءت مُجْمَلة مُتَضَمِّنَة لِمَا في الكِتَاب العَزِيز، ثم جَاء تَفْصِيل ذَلك فِيما بَعْد، فالْهِدَاية - مَثَلًا - جَاءت مُجْمَلة في "الفَاتحة" ثم جَاءت مُفَصَّلَة فيما بَعْد في التَّنْزِيل.

رَوَى الشَّعبي عن ابنِ عباس أنه سَمَّاهَا أسَاس القُرآن. قال: وأسَاسُها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم

(1)

.

قال ابن جرير عن "الفَاتحة": وإنما قِيل لها - بِكونها كَذلك - أمَّ القُرآن، لِتَسْمِيَة العَرَب كُلّ جَامِع أمْرًا، أوْ مُقَدِّمٍ لأمْر - إذا كَانَتْ لَه تَوابِعُ تَتْبَعُه، هُو لَها إمَام جَامِع - "أمًّا"

(2)

.

وقِيل: إنما سُمِّيَتْ بِذلك لِرُجُوع مَعَاني القُرآن كُلّه إلى مَا تَضَمَّنَتْه

(3)

.

(1)

ذَكَره ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 152).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 105).

(3)

ذَكَره ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 153).

ص: 191

وجَوَاب آخَر أنَّ " (ثم) هنا لِتَرْتِيب الأخْبَار، لا لِتَرْتِيب الوُقُوع، ولا يَلْزَم مِنْ تَرتِيب الأخْبَار تَرْتِيب الوُقُوع، كَقَولِه تَعالى:(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) [الأنعام: 153، 154]، ولا رَيْب في تَقَدُّم إيتَاء مُوسى الكِتَاب عَلى وَصِيَّتِه لِهَذه الأُمَّة

(1)

.

وقد أشْكَل عَلى بَعْض الْمُفَسِّرين مَا رَواه مُسْلِم مِنْ حَدِيث أبي هُرَيرة قال: أخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَقال: خَلَق اللهُ عز وجل التُّرْبَة يَوم السَّبْت، وخَلَق فِيها الْجِبَال يَوم الأحَد، وخَلَق الشَّجَر يَوْم الاثْنِين، وخَلَق الْمَكْرُوه يَوم الثُّلاثَاء، وخَلَق النُّور يَوم الأربعاء، وبَثَّ فِيها الدَّوَاب يَوْم الْخَمِيس، وخَلَق آدَم عليه السلام بَعْد العَصْر مِنْ يَوم الْجُمُعة في آخِر الْخَلْق في آخِر سَاعَة مِنْ سَاعَات الْجُمُعة، فيما بَين العَصْر إلى الليل

(2)

.

حَيث يُوهِم ظَاهِر الْحَدِيث أنَّ خَلْق الأرْض كَان في سبعة أيام، وليس كَذلك، لأنه لَيْس فِيه التَّصْرِيح بِخَلْق الأرْض في سِتَّة أيام، بل فِيه ذِكْر تَفَاصِيل خَلْق أجْزاء الأرْض وبَعْض مَا عَلَيها؛ مِنْ خَلْقِ التُّرْبة والْجِبَال والشَّجَر والْمَكْرُوه والنُّور والدَّوَاب وخلْق آدم؛ في سِتَّة أيام.

والذي يَظْهَر أنَّ هَذه الأيام غَير الْمَذْكُورَة في الآيَات مِنْ خَلْق الأرْض في أرْبَعَةِ أيام، بِدَلِيل أنَّ آدَم عليه الصلاة والسلام خُلِق في اليوم الذي يَلِي هَذه الأيَّام، وهو اليَوم السَّابِع، وخَلْق آدَم مُتأخِّر عَنْ خَلْق الأرْض، بِدَلالة قَوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 30]، فذُكِرت الأرْض قَبْل خَلْق آدَم، مِمَّا دَلَّ على تقدُّم خَلْق الأرْض.

(1)

قاله ابن جماعة، "كَشْف المعاني في الْمُتَشَابِه والْمَثَاني"(97، 98).

(2)

الصحيح (ح 2789)، ويُنظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، مرجع سابق (18/ 18 وما بعدها).

ص: 192

فإن قِيل: قَال تَعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) [النازعات: 30، 31]، وقال عز وجل:(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)[فصلت: 10]، فَالْجَوَاب أنَّ إخْرَاج الْمَرْعَى وإرْسَاء الْجِبَال كَان بَعْد خَلْق الأرْض، ولا تَعَارُض بَيْنَها وبَيْن الْحَدِيث، لأنَّ مَا في الْحَدِيث تَفصِيل دَقِيق، ومَا في الآيَات عَلى سَبِيل الإجْمَال.

‌المثال الثاني:

كِتْمَان الكافِرين:

في الْمِثَال الأوَّل ذَكَر القرطبي مَوْضِعَين آخَرَين:

أحدهما: قَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء: 42]، مع قَوله تَعالى:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23].

‌صورة التعارض:

أنَّ الآيَة الأُولى تَدُلّ عَلى أنَّ الكُفَّار لا يَكْتَمُون الله حَدِيثًا يَوم القِيَامَة، والثَّانِيَة تَدُلّ على أنهم كَتَمُوا.

رَوى البُخاري مِنْ طَرِيق سَعيد بن جُبير قال: قَال رَجُل لابْن عَباس: أني أَجدُ في القُرآن أشْيَاء تَخْتَلِف عَليَّ - فَذَكَر مِنْها هَذَين الْمَوْضِعَين - قالك فَقَد كَتَمُوا في هَذه الآيَة

(1)

.

(1)

الصحيح (4/ 1815)؛ وسبق تخريجه في المثال الأول من هذا المبحث.

ص: 193

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

(وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) قَال الزَّجَّاج: قال بَعضُهم: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) مُسْتَأنَف؛ لأنَّ مَا عَمِلُوه ظَاهِر عِنْد الله لا يَقْدِرُون عَلى كِتْمَانِه.

وقال بَعْضُهم: هو مَعْطُوف، والْمَعْنَى: يَوَدّ لَو أنَّ الأرْض سُوِّيتْ بِهِمْ وأنهم لَم يَكْتُمُوا الله حَدِيثًا؛ لأنه ظَهَر كَذِبهم.

وسُئل ابن عباس عن هَذه الآية، وعَن قَوله تعالى:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَقال: لَمَّا رَأوا أنه لا يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا أهْل الإسْلام قَالُوا: والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين، فَخَتَم الله على أفْوَاهِهم، وتَكَلَّمَتْ أيدِيهم وأرْجُلهم، فلا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا.

وقال الْحَسَن وقَتَادَة: الآخِرَة مَوَاطِن؛ يَكُون هَذا في بَعْضِها وهَذا في بَعْضِها.

ومَعْنَاه: أنهم لَمَّا تَبَيَّن لَهُمْ وحُوسِبُوا لم يَكْتُموا

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الأنْعَام مَا نَصّه:

قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)[الأنعام: 23] الْفِتْنَة الاخْتِبَار، أي: لَم يَكُنْ جَوَابهم حِين اخْتُبِرُوا بِهَذا السُّؤال ورَأوا الْحَقَائق وارْتَفَعَتِ الدَّوَاعِي (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23]، تَبَرّءوا مِنْ الشِّرْك وانْتَفَوا مِنه لِمَا رَأوا مِنْ تَجَاوُزِه ومَغْفِرَتِه للمُؤمِنِين.

قال ابن عباس: يَغفر الله تَعالى لأهْل الإخْلاص ذُنُوبَهم ولا يَتَعَاظُم عليه ذَنْب أن يَغْفِرَه، فإذا رَأى الْمُشْرِكُون ذلك قَالوا: إنَّ رَبَّنَا يَغْفِر الذُّنُوب ولا يَغْفِر الشِّرْك، فَتَعَالَوا نَقُول: إنا كُنّا أهْل ذُنُوب ولم نَكُنْ مُشْرِكِين! فَقال الله تعالى: أَما إذْ كَتَمُوا الشّرْك فَاخْتِمُوا عَلى أفواههم، فَيُخْتَم على أفْوَاهِهم، فَتَنْطِق أَيدِيهم وتَشْهَد أرْجُلُهم بِمَا

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 192).

ص: 194

كَانُوا يَكْسِبُون، فَعِنْد ذَلك يَعْرِف الْمُشْرِكُون أنَّ الله لا يُكْتَم حَدِيثًا، فَذلك قَوله:(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء: 42]

(1)

.

وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج: تَأوِيل هَذه الآية لَطِيف جِدًّا؛ أخْبَر الله عز وجل بِقَصَص الْمُشْرِكِين وافْتِتَانِهم بِشِرْكِهم، ثم أخْبَر أن فِتْنَتَهم لم تَكُنْ حِين رَأوا الْحَقَائق إلَّا أن انْتَفَوا مِنْ الشِّرْك، ونَظِير هَذا في اللُّغَة أنْ تَرَى إنْسَانًا يُحِبّ غَاويًا فإذا وَقَع في هَلَكَة تَبَرَّأ مِنه، فيُقَال: مَا كَانَتْ مَحَبَّتُك إياه إلَّا أن تَبَرَّأت مِنه

(2)

.

وقال الْحَسَن: هذا خَاصَّ بالْمُنَافِقِين جَرَوا على عَادَتِهم في الدُّنيا، ومَعْنَى (فِتْنَتُهُمْ) عَاقِبَة فِتْنَتِهم، أي: كُفْرِهم.

وفي صحيح مسلم

(3)

من حَدِيث أبي هُريرة قَال: فَيَلْقَى

(4)

العَبدَ فيَقُول: أي فُل!

(5)

أَلَمْ أُكْرِمْك وأُسَوّدْك وأُزَوِّجْك، وأُسَخِّرْ لك الخيل والإبل، وأَذَرْك تَرْأس وتَرْبَع؟ فَيَقُول: بَلى، أيْ رَبّ. فَيَقُول: أفَظَنَنْتَ أنك مُلاقِيّ؟ فَيَقُول: لا. فَيَقُول: إني أنْسَاك كَمَا نَسِيتَنِي. ثم يَلْقَى الثَّاني [فَيَقُول له، ويَقُول هُو مِثْل ذَلك بِعَينِه]

(6)

، ثم يَلْقَى الثَّالِث له مِثْل ذلك، فَيَقُول: يَا رَبّ آمَنْتُ بِك وبِكِتَابِك وبِرُسُلِك

(7)

(1)

في صحيح البخاري (4/ 1816): وأما قوله: (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فَخُتمَ على أفْواههم فَتَنْطِق أيْديهم، فعند ذلك عُرِفَ أنَّ الله لا يُكْتَم حديثًا، وعنده (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

(2)

وهذا الجواب هو المسألة الثانية عند الرازي (التفسير الكبير 12/ 151).

(3)

ح (2968) ضمن حديث طويل أوّله في رُؤية الله سبحانه وتعالى.

(4)

يَعني: ربّ العزة سُبْحانه.

(5)

قال النووي (المنهاج 18/ 103): هو بضم الفاء وإسكان اللام، ومعناه: يا فلان. وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل: هي لغة بمعنى "فلان" حكاها القاضي.

(6)

ما بين المعكوفتين من تصرف القرطبي، وإلا فهو مفصل في صحيح مسلم كسؤال الأول وقول رب العالمين له.

(7)

هكذا في "الجامع لأحكام القرآن"، وفي صحيح مسلم [وبِرَسُولِك] على الإفْرَاد.

ص: 195

وصَلّيت وصُمْتُ وتَصَدّقتُ، ويُثْنِي بِخَير مَا اسْتَطَاع. قَال فَيُقَال: هَا هُنَا إذًا

(1)

. ثم يُقَال له: الآن نَبْعَث شَاهِدًا عَليك. ويَتَفَكّر في نَفْسِه: مَنْ ذَا الذي يَشْهَد عَليّ؟ فَيُخْتَم عَلى فِيه، ويُقَال لِفَخذِهِ ولَحْمِه وعِظَامِه: انْطِقِي، فَخِذُه ولَحْمُه وعِظَامُه بِعَمَلِه، وذلك لِيُعْذِر مِنْ نَفْسِه. وذَلك الْمُنَافِق، وذَلك الذي سَخِطَ الله عليه.

وقال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[الأنعام: 24]:

(كَذَبُوا) بِمَعْنى يَكذِبُون، فَعَبَّر عَنْ الْمُسْتَقْبَل بالْمَاضِي، وجَاز أن يُكَذِّبُوا في الآخِرَة لأنه مَوْضِع دَهَش وحَيْرة وذُهُول عَقْل.

وقيل: لا يَجُوز أن يَقع مِنْهم كَذِب في الآخِرة؛ لأنها دَار جَزاء عَلى مَا كَان في الدُّنيا، وَعَلى ذلك أكْثَر أهْل النَّظَر، وإنما ذلك في الدُّنيا؛ فَمَعْنى (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عَلى هَذا: مَا كُنَّا مُشْرِكِين عِنْد أنْفُسِنَا. وعَلى جَواز أن يَكْذِبوا في الآخِرة يُعَارِضُه قَوله: (وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، ولا مُعَارَضة ولا تَنَاقُض؛ لا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا في بَعض الْمَواطِن إذا شَهِدَتْ عَليهم ألْسِنَتُهم وأيْدِيهم وأرْجُلُهم بِعَمَلِهم، ويَكْذِبون على أنْفُسِهم في بَعض الْمَواطِن قَبْل شَهَادَة الْجَوارِح عَلى ما تَقَدّم. والله أعلم.

وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أي عَلِمْنَا أنَّ الأحْجَار لا تَضُرّ ولا تَنْفَع. وهَذَا وإن كَان صَحِيحًا مِنْ القَول فَقَد صَدَقُوا ولم يَكْتُموا، ولَكِن لا يُعْذَرُون بِهَذا، فإنَّ الْمُعَانِد كَافِر غَير مَعْذُور

(2)

.

(1)

في صحيح مسلم [فيَقول: هاهنا إذًا]. قال النووي (المنهاج 18/ 104): معناه: قف هاهنا حتى يشهد عليك جَوَارِحُك إذْ قَدْ صِرْتَ مُنْكِرا.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 370) باختصار.

ص: 196

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ الْمُشْرِكِين تَبَرَّءُوا مِنْ الشِّرْك وانْتَفَوا مِنه لَمَّا رَأُوا مِنْ تَجَاوُزِ الله ومَغْفِرَتِه للمُؤمِنِين.

2 -

أنَّ الْمُشْرِكِين كَتَموا الشِّرْك واعْتَرَفُوا بالذُّنُوب فِيما دُون الشِّرْك، فَقَالُوا: إنا كُنَّا أهْل ذُنُوب ولم نَكُنْ مُشْرِكِين!

3 -

أن ذلك بِحسَب مَواطِن الآخِرَة، فَيَكُون هَذا في بَعْضِها وهَذا في بَعْضِها.

4 -

أنَّ هَذا خَاصّ بالْمُنَافِقِين جَرَوا عَلى عَادَتِهم في الدُّنيا في الْخِداع والكَذِب.

5 -

أنَّ ذلك يَكُون مِنْ بَعض الْمُشْرِكِين دُون بَعْض، فَبَعْضُهم يَعْتَرِف، فيُنْسَى، وبَعْضُهم يَجْحَد شِرْكَه، فيُشْهَد عَليه.

6 -

أنَّ مَعْنَى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي: ما كُنّا مُشْرِكِين عِند أنْفُسِنَا.

7 -

أنَّ مَعْنى قَولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عَلِمْنَا أنَّ الأحْجَار لا تَضُرّ ولا تَنْفَع.

وهذا ضَعَّفَه القرطبي.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير: وأمَّا قُوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، فإنَّ أهْل التَّأويل تَأوَّلُوه بِمَعْنَى: ولا تَكْتُم الله جَوَارِحُهم حَدِيثًا وإنْ جَحَدَتْ ذلك أفْوَاهُهم

(1)

.

ثم رَوى بإسْنَاده إلى سعيد بن جبير قال: أتَى رَجُلٌ ابنَ عباس فَقَال: سَمِعْتُ الله يقول: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقَال في آيَة أخْرى:(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 42).

ص: 197

فَقال ابن عباس: أمَّا قَوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؛ فإنهم لَمَّا رَأوا أنه لا يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا أهْل الإسْلام قَالوا: تَعَالَوا فَلنَجحَد، فَقَالُوا:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَخَتَم الله على أفْوَاهِهم وتَكَلَّمَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم، فَلا يَكْتُمُون الله حَديثًا

(1)

.

ورَوى بإسْناده أيضًا

(2)

إلى سعيد بن جبير قال: جَاء رَجُلٌ إلى ابنِ عباس، فقال: أشْيَاء تَخْتَلِف عَليّ في القُرآن. فَقَال: مَا هُو؟ أشَكّ في القُرآن؟ ليس بالشَّكّ، ولَكِنَّه اخْتِلاف.

قال: فَهَات ما اخْتَلَف عَليك.

قال: أسْمَع الله يَقُول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقَال:(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، وقَد كَتَمُوا، فَقَال ابنُ عباس: أمَّا قَوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَإنهم لَمَّا رَأوا يَوم القِيَامَة أنَّ الله يَغْفِر لأهْل الإسْلام ويَغْفِر الذُّنُوب ولا يَغْفِر شِرْكًا، ولا يَتَعَاظَمُه ذَنْب أنْ يَغْفِرَه؛ جَحَدَ الْمُشْرِكُون فَقَالُوا:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) رَجَاء أنْ يَغْفر لهم، فَخَتَم عَلى أفْوَاهِهم وتَكَلَّمَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون، فَعِنْد ذَلك:(يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)

(3)

.

ثم قال: فَتأوِيل الآية على هذا القَول الذي حَكَيْنَاه عَنْ ابنِ عباس: يَومَئذٍ يَوَدّ الذين كَفَرُوا وعَصَوا الرَّسُول لَو تُسَوَّى بِهم الأرْض ولَم يَكْتُمُوا الله حَدِيثًا. كَأنهم تَمَنّوا أنهم سُوُّوا مَع الأرْض، وأنهم لم يَكُونُوا كَتَمُوا الله حَدِيثًا.

ونَقَل عن آخَرِين قَولهم: مَعْنى ذَلك: يَومَئذٍ لا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا، ويَودُّون لَو تُسَوى بهم الأرْض.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 42).

(2)

وفي إسناده رجل مُبهم، لم يُسَمّ.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 43).

ص: 198

ولَيْس بِمُنْكَتِم عن الله شَيء مِنْ حَديثهم، لِعِلْمِه جَلَّ ذِكْرُهُ بِجَميع حَدِيثِهم وأمْرِهم وإنْ هُمْ كَتَمُوه بألْسِنَتِهم فَجَحَدُوه، لا يَخْفَى عَليه شَيء منه

(1)

.

وأثبَتَ ابنُ جَرير أنَّ الكُفَّار يَكْذِبُون في الآخِرَة، فَقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى:(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[الأنعام: 24] مَا نَصّه: يَقول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: انْظُر يا مُحَمَّد، فاعْلَم كَيْف كَذَب هَؤلاء الْمُشْركُون العَادلُون بِرَبِّهم الأوْثَان والأصْنَام في الآخِرَة عِند لِقَاء الله على أنْفُسِهم بِقِيلِهم: والله يَا رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين. واسْتَعْمَلُوا هُنالِك الأخْلاق التي كَانوا بِهَا مُتَخَلِّقِين في الدُّنيا مِنْ الكَذب والفِرْيَة

(2)

.

ثم رَوَى ما تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأوْرَد أبُو جَعفر النَّحَّاس أجْوِبَة، فَقَال في قَوله تَعالى:(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا): فيُقَال ألَيس قَدْ قَالُوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَفِي هَذا أجْوِبَة، مِنْها:

أن يَكُون دَاخِلًا في التَّمَنِّي، فَيَكُون الْمَعْنَى: أنهم يَتَمَنَّون ألَّا يَكْتُمُوا الله حَدِيثًا، فَيَكُون مِثْل قَولك: لَيْتَنِي ألْقَى فُلانًا وأكَلِّمه.

وقال قتادة: هي مَواطِن في القِيامَة؛ يَقَع هذا في بَعْضِها.

وقال بَعْض أهْل اللُّغَة: هُمْ لا يَقْدِرُون على أن يَكْتُمُوا؛ لأنَّ الله عَالِم بِمَا يُسِرُّون وقيل: قَولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عِنْدَهم أنهم قَدْ صَدَقُوا في هَذا، فَيَكُون عَلى هذا (وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) مُسْتَأنَفا

(3)

.

وفي تَفْسِير سُورة الأنْعَام أوْرَد قول الزجّاج، ثم قَال: فأمَّا مَعْنَى قَولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقَال في مَوضِع آخَر:(وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، مَعْطُوف عَلى مَا قَبْلَه،

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 44، 45) باختصار وتصَرّف.

(2)

المرجع السابق (9/ 193).

(3)

معاني القرآن، مرجع سابق (2/ 92، 93).

ص: 199

والمعنى وَوَدّوا أن لا يَكْتُمُوا الله حديثًا. والدليل على صحة هذا القول أنه روي عن سعيد بن جبير في قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) قال: اعْتَذَرُوا وحَلَفُوا. وكَذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة. ورُوي عن مُجاهد أنه قَال: لَمَّا رَأوا الذُّنُوب تُغْفَر إلَّا الشِّرك، والنَّاس يُخْرَجُون مِنْ النَّار إلَّا الْمُشْرِكِين قال

(1)

(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

(2)

.

وقال السمعاني في قَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) فإن قِيل: قَدْ أَخْبَر هَاهُنا أنهم لا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا، وذَكَرَ في مَوْضِع آخَر قَولهم:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَقَد كَتَمُوا فَكَيف وَجْه الْجَمْع؟

قِيل: قَال الْحَسَن البَصْري: وهَذا في مَوْطِن وذَاك في مَوْطِن آخَر، وفي القِيَامَة مَوَاطِن، وهَذا جَواب مَعْرُوف أوْرَدَه القَتيبي في مُشْكِل القُرآن.

وقِيل: مَعْنَاه يَوَدُّون ألا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا، وذَلك أنهم يَقُولُون:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، ونَحْو ذَلك، فَيَخْتِم اللهُ عَلى أفْوَاهِهم ويُنْطِق جَوَارِحَهم فَيَودُّون أنهم لم يَكْتُمُوا الله حَدِيثًا، فَهو رَاجِع إلى قَوله:(يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقِيل: مَعْناه: لا يَقْدِرُون أن يَكْتُمُوا اللهَ حَدِيثًا

(3)

.

وقال في قَوله تَعالى: (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا)[الأنعام: 30]، فَيُقِرُّون بها. قال ابن عباس: هذا في مَوْقِف، وقَوله:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) في مَوقِف آخَر، وفي القِيَامَة مَوَاقِف، فَفِي مَوْقِف يُنْكِرُون، وفي مَوْقِف يُقِرُّون

(4)

.

(1)

كذا في الأصل، والصواب: قالوا.

(2)

معاني القرآن، مرجع سابق (2/ 408) وقول مجاهد هذا هو قول ابن عباس كما تقدّم.

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 430).

(4)

المرجع السابق (2/ 98).

ص: 200

وأوْرَد الثعلبي في الآية أقْوالًا، منها:

قَول عَطاء: وَدُّوا لو تُسَوَّى بهم الأرْض وإنهم لَم يَكُونُوا كَتَمُوا أمْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا نَعْتَه.

وقَول آخَرِين: بَلْ هو كَلام مُسْتَأنَف، يَعْنِي: ويَكْتُمُون الله حَدِيثًا

(1)

؛ لأنَّ مَا عَمِلُوا لا يَخْفَى على الله عز وجل، ولا يَقْدِرُون عَلى كِتْمَانِه.

ثم أورَد قَول ابن عباس في الآية.

وقَول الْحَسَن عن الآخِرَة: إنها مَوَاطِن؛ فَفِي مَوْطِن لا يَتَكَلَّمُون ولا يُسْمَع إلَّا هَمْسًا، وفي مَوَاطِن يَتَكَلَّمُون ويَكْذِبُون، ويَقُولُون: مَا كُنَّا مُشْرِكِين، ومَا كُنَّا نَعْمَل مِنْ سُوء، وفي مَوْطِن يَعْتَرِفُون عَلى أنْفُسِهم، وهو قوله عز وجل:(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)[الملك: 11]، وفي مَوْضِع آخَر يَسْأَلُون الرَّحْمَة، وإنَّ آخِر تِلك الْمَوَاطِن أنَّ أفْوَاهَهم تُخْتَم وجَوَارِحُهم تَتَكَلَّم، وهو قَوله تَعالى:(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)

(2)

.

ورَبَط الزمخشري بَين أوَّل الآية وبَين آخِرِها، فَقَال:(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا): ولا يَقْدِرُون عَلى كِتْمَانِه، لأنَّ جَوَارِحَهم تَشْهَد عَليهم.

وقِيل: الوَاو للحَال، أي: يَوَدُّون أن يُدْفَنُوا تَحْتَ الأرْض وأنهم لا يَكْتُمُون الله حَدِيثًا ولا يَكْذِبُون في قَولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؛ لأنهم إذا قَالُوا ذلك وَجَحَدُوا شِرْكَهم خَتَم الله على أفْوَاهِهم عِند أفْوَاهِهم عِند ذلك وتَكَلَّمَت أيْدِيهم وأرْجُلُهم بِتَكْذِيبِهم، والشَّهَادة عليهم بالشَّرك، فَلِشِدّة الأمْر عليهم يَتَمَنَّون أنْ تُسَوّى بهم الأرْضِ

(3)

.

(1)

لا يَظهر استقامة المعنى على كونه مُستَأنفًا، إذ لو كان مُستأنفًا لكان المعنى: ولا يكتمون الله حَديثًا. أمَّا على مَا حَمَله عليه الثعلبي مِنْ مَعنى غَير مُسْتَأنف، لارْتِبَاط الْمَعْنى بأوَّل الآية، أي يَوَدُّون لو كَتَمُوا الله حَديثًا وسُوّيت بهم الأرْض.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 311) باختصار.

(3)

الكشاف، مرجع سابق (ص 237).

ص: 201

وقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[الأنعام: 24] ما نصّه:

فإن قُلْت: كَيف يَصِحّ أن يَكْذِبوا حِين يَطَّلِعُون عَلى حَقَائق الأُمُور، على أنَّ الكَذِب والْجُحُود لا وَجْه لِمَنْفَعَتِه؟ قُلْت: الْمُمْتَحَن يَنْطِق بِمَا يَنْفَعُه وبِمَا لا يَنْفَعُه مِنْ غَير تَمْيِيز بَيْنَهُما حَيْرَة ودَهَشًا، ألَا تَرَاهُم يَقُولُون:(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 107]، وقَد أيْقَنُوا بالْخُلُود ولَم يَشُكُّوا فِيه:(وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف: 77]، وقَد عَلِمُوا أنه لا يُقْضَى عَليهم؟

وأمَّا قَول مَنْ يَقول: مَعْنَاه: مَا كُنَّا مُشْرِكِين عِند أنْفُسِنَا، ومَا عَلِمْنا أنا عَلى خَطَأ في مُعْتَقَدِنا. وحَمَلَ قوله:(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)[الأنعام: 24] يَعْني في الدُّنيا، فَتَمَحُّل وتَعَسُّف وتَحْرِيف لأفْصَح الكَلام إلى مَا هُو عِيّ وإقْحَام؛ لأنَّ الْمَعْنَى الذي ذَهَبُوا إليه لَيس هَذا الكَلام بِمُتَرْجِم عَنه، ولا مُنْطَبِق عَليه، وهو نَابٍ

(1)

عَنه أشَدّ النّبْو ومَا أدْرِي مَا يَصْنَع مِنْ ذَلك تَفْسِيره بِقَوله تَعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[المجادلة: 18] بَعْد قَوله: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ)[المجادلة: 14]، فَشَبَّ كَذِبهم في الآخِرَة بِكَذِبهم في الدُّنيا؟

(2)

وقَال في تَفْسير قَوله تَعالى: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)[الأنعام: 130]: فإن قُلت: مَا لَهُمْ مُقِرِّين في هَذه الآية جَاحِدِين في قَوله:

(1)

قال في الفائق في غريب الحديث (3/ 403): وقد نبا يُنْبُو: إذا ارتفع.

(2)

الكشاف، مرجع سابق (ص 323)، ورجّح ابن كثير (6/ 20) أن آية "المجادلة" هذه نزلت في المنافقين، وأن آية "الأنعام" نزلت في شأن الكفار، لأنها مكية، و"المجادلة" مدنية.

قال القاسمي (محاسن التأويل 6/ 340): والقول المذكور، والحمل الذي ناقش فيه، أصله لأبي علي الجبائي والقاضي، فإنهما ذهبا إلى أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب، واعتلا بوجوه واهية ساقها الرازي، فلتنظر ثمت، فإنا لا نسود وجوه صحائفنا بما فيه تحكيم العقل على النقل.

والزمخشري أثبت كذب الكفار في الآخرة، وسيأتي تصريحه بذلك.

ص: 202

(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ قُلت: تَتَفَاوَت الأحْوَال والْمَوَاطِن في ذلك اليَوم الْمُتَطَاوِل، فَيُقِرُّون في بَعْضِها ويَجْحَدُون في بَعْضِها، أو أُرِيد شَهَادَة أيْدِيهم وأرْجُلِهم وجُلُودِهم حين يُخْتَم على أفْوَاهِهم

(1)

.

وقال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[المجادلة: 18]: وقَد اخْتَلَف العُلَمَاء في كَذِبِهم في الآخِرة، والقُرآن نَاطِق بِثَبَاتِه نُطْقًا مَكْشُوفًا، كَمَا تَرى في هذه الآية، وفي قوله تعالى:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 23، 24]

(2)

.

وقال ابن عطية في تَفْسِير آية "النِّسَاء": قَالت طَائفَة: مَعْنَى الآية: أنَّ الكُفَّار لِمَا يَرَونَه مِنْ الْهَول وشِدَّة الْمَخَاوَف يَوَدُّون أن تُسَوَّى بِهم الأرْض، فلا يَنَالُهم ذَلك الْخَوف، ثم اسْتَأنَف الكَلام فأَخْبَر أنهم لا يَكْتُمُون حَدِيثًا لِنُطْقِ جَوَارِحِهم بِذلك كُلّه، حِين يَقول بَعضهم:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَيَقُول الله: كَذَبْتُم، ثم يُنْطِق جَوَارِحَهم فَلا تَكْتُم حَدِيثًا؛ وهذا قَول ابن عباس، وقَال فِيه: إنَّ الله إذا جَمَعَ الأوَّلِين والآخِرِين ظَنَّ بَعْض الكُفَّار أنَّ الإنْكَار يُنْجِي، فَقَالُوا:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فَيَقُول الله: كَذَبْتُم، ثم يُنْطِق جَوَارِحَم فلا تَكْتُم حَدِيثًا. وهَكذا فَتَحَ ابن عباس على سَائل أشْكَلَ عليه الأمْر وقَالَتْ طَائفَة مِثْل القَول الأوَّل، إلَّا أنها قَالَتْ: إنما اسْتَأنَفَ الكَلام بِقَولِه: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، لِيُخْبِر عَنْ أنَّ الكَتْم لا يَنْفَع وإنْ كَتَمُوا؛ لأنَّ الله تَعالى يَعْلَم جَمِيع أسْرَارَهم وأحَادِيثهم، فَمَعْنى ذَلك: ولَيس ذَلك الْمَقَام الْهَائل مَقَامًا يَنْفَع فِيه الكَتْم.

(1)

الكشاف، مرجع سابق ص 346).

(2)

المرجع السابق ص (1091).

ص: 203

ثم ذَكَر ابن عطية الفَرْق بَين القَولَين، فَقَال: الفَرْق بَين هَذين القَولَين: أنَّ الأوَّل يَقْتَضِي أنَّ الكَتْم لا يَنْفَع بِوَجْه، والآخَر يَقْتَضِي أنَّ الْكَتْم لا يَنْفَع، وَقَع أوْ لَم يَقَع، كَمَا تَقُول: هَذا مَجْلِس لا يُقَال فِيه بَاطِل، وأنْتَ تُرِيد لا يُنْتَفَع بِه ولا يُسْتَمع إلَيه.

ثم ذَكَر أقوالًا أخرى في الآية، فَقَال: وقَالَتْ طَائفَة: الكَلام كُلّه مُتَّصِل، ومَعْنَاه: يَوَدّ الذين كَفَرُوا لو تُسَوّى بهم الأرْض ويَوَدُّون أن لا يَكْتُمُوا الله حَدِيثًا، وَوِدُّهم لِذلك إنما هو نَدَم على كَذِبِهم حِين قَالُوا:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقَالَتْ طَائفَة: هِي مَواطِن وفِرَق.

وقَالَتْ طَائفَة: مَعْنَى الآية: يَوَدّ الذين كَفَرُوا أن تُسَوّى بِهم الأرْض وأنهم لَم يَكْتُمُوا اللهَ حَدِيثًا؛ وهَذا على جِهة الفِدَاء، أي يَفْدُون كِتْمَانَهم بأن تُسَوَّى بِهم الأرْض

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الأنْعَام: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) مَعْنَاه: جُحُود إشْرَاكِهم في الدُّنيا. فَرُوي أنهم إذا رَأوا إخْرَاج مَنْ في النَّار مِنْ أهْل الإيمان ضَجُّوا فَيُوقَفُون، ويُقَال لهم: أينَ شُرَكَاؤكُم: فيُنكِرُون طَمَاعِيَة مِنْهم أن يُفْعَل بِهِمْ ما فُعِلَ بأهْل الإيمان

(2)

.

ثم أوْرَد السُّؤال الذي وَرَد على ابن عباس رضي الله عنهما، وأوْرَد جَوَاب ابن عباس.

وقال في تَفْسِير سُورة الأعْراف: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)[الأعراف: 37]: وهَذه الآية ومَا شَاكَلَها تُعَارِض في الظَّاهِر قَوله تعالى حِكَاية عنهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 55، 56).

(2)

المرجع السابق (2/ 278).

ص: 204

واجْتِمَاعهما، إمَّا أن يَكُون في طَوائف مُخْتَلِفَة، أوْ في أوْقَات مُخْتَلِفَة؛ يَقُولُون في حَالٍ كَذا، وحَالٍ كَذا

(1)

.

أمَّا الرَّازي فَقد أورَد قَول الزجّاج الْمُتَقَدِّم، ثم أوْرَد قَول الْمُعْتَزِلَة مُتمثِّلًا بِقَول القَاضي وأبي عليّ الجبائي، - وهو القَول الأوَّل في الْمَسْألَة - ثُمَّ خَتَمَه بِقَولِه: هَذا جُمْلَة كلام القاضي في تَقْرِير القَول الذي اخْتَارَه أبو علي الجبائي

(2)

.

ثم أعْقَبَه بِالقَول الثَّاني وعَزَاه إلى جُمْهُور الْمُفَسِّرين، فقال: والقَول الثَّاني، وهو قَول جُمْهُور الْمُفَسِّرِين: أنَّ الكُفَّار يَكْذِبُون في هَذا القَول، قَالُوا: والدَّلِيل عَلى أنَّ الكُفَّار قَدْ يَكْذِبُون في القِيَامَة وُجُوه:

الأوَّل: أنه تَعالى حَكَى عَنهم أنهم يَقُولُون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 107]، مَع أنه تَعالى أخْبَرَ عَنْهم بِقَولِه:(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)[الأنعام: 28].

والثَّاني: قَوله تَعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[المجادلة: 18]، بَعْد قَولِه:(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ)[المجادلة: 14]، فَشَبَّه كَذِبَهم في الآخِرَة بِكَذِبِهِم في الدُّنيا.

والثَّالِث: قَوله تَعالى حِكَاية عَنهم: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)[الكهف: 19]، وكُلّ ذَلك يَدُلّ عَلى إقْدَامِهم في بَعْض الأوْقَات عَلى الكَذِب.

والرَّابِع: قَوله حِكَاية عَنهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف: 77]، وقَد عَلِمُوا أنه تَعَالى لا يَقْضِي عَليهم بالْخَلاص.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 398).

(2)

وقد سَبَقَ تَعَقُّب قَول القَاضِي، فأغْنَى عن إعَادَتِه.

ص: 205

والْخَامِس: أنه تَعالى في هَذه الآية حَكَى عنهم أنهم قَالُوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23].

وَحَمْلُ هَذا عَلى أن الْمُرَاد: مَا كُنَّا مُشْرِكِين في ظُنُونِنَا وعَقَائدِنا مُخَالفة للظَّاهِر، ثم حَمْل قَوله بَعد ذلك:(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)[الأنعام: 24] على أنهم كَذَبُوا في الدُّنيا يُوجِب فَكَّ نَظْم الآية، وصَرْف أوَّل الآيَة إلى أحْوال القِيَامَة، وصَرْف آخِرها إلى أحْوال الدُّنيا، وهو في غَاية البُعْد

(1)

.

ثم نَقَض ما حكاه عن أبي عليّ الجبائي.

وأوْرَد ابنُ جُزَيّ الإشْكَال، وأجَاب عنه مِنْ وَجْهَين، فَقَال: فإن قِيل: كَيف هَذا مَع قَولِهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟

فالْجَوَاب مِنْ وَجْهَين:

أحَدُهُما: أنَّ الْكَتْم لا يَنْفَعُهم، لأنهم إذا كَتَمُوا تَنْطِق جَوَارِحُهم فَكَأنهم لَم يَكْتُمُوا والآخَر: أنهم طَوَائف مُخْتَلِفَة، ولَهُم أوْقَات مُخْتَلِفَة.

وقِيل: إنَّ قَوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) عَطْف على (تُسَوَّى)[النساء: 42]، أي يَتَمَنّون أن لا يَكْتُمُوا، لأنهم إذا كَتَمُوا افْتَضَحُوا

(2)

.

وأوْرَد الإشْكال نَفْسه في تفسير سُورة الأنْعام، وزَاد في الْجَواب، فَقَال: فإن قيل: كَيف يَجْحَدُونه، وقَد قَال الله:(وَلَا يَكْتَمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)؟

فالْجَوَاب: أنَّ ذَلك يَخْتَلِف باخْتِلاف طَوَائف النَّاس، واخْتِلاف الْمَواطِن، فَيَكْتُم قَوْم، ويُقِرُّ آخَرُون، ويَكْتُمُون في مَوْطِن، ويُقِرُّون في مَوْطِن آخَر؛ لأنَّ يَوْم القِيَامَة

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (12/ 152، 153).

(2)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 142).

ص: 206

طَويل. وقَد قَال ابن عباس - لما سُئل عَنْ هَذا السُّؤال -: إنهم جَحَدوا طَمَعًا في النَّجَاة فَخَتَم الله على أفْوَاهِهم وتَكَلَّمَتْ جَوَارِحُهم، فَلا يَكْتُمُون اللهَ حَدِيثًا

(1)

.

وقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)[النحل: 28]، أي: قَالُوا ذَلك، ويَحْتَمِل قَولهم لِذلك أن يَكُونُوا قَصَدُوا الكَذِب اعْتِصَامًا بِه، كَقَولِهم:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أوْ يَكُونُوا أخْبَرُوا على حَسب اعْتِقَادِهم في أنْفُسِهم، فَلَم يَقْصِدُوا الكَذِب، ولَكِنَّه كَذِب في نَفْس الأمْر

(2)

.

ويَرَى ابن كثير أنَّ قَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا): إخْبَار عَنهم بأنهم يَعْتَرِفُون بِجَمِيع مَا فَعَلُوه ولا يَكْتُمُون مِنه شَيئًا

(3)

.

ثم أورَد ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال في قَوله تَعالى: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) [غافر: 73، 74]: أي: جَحَدُوا عِبَادَتَهم، كَقَولِه جَلَّتْ عَظَمَتُه:(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

(4)

.

وفي تَفْسِير سُورة فُصِّلت

(5)

أوْرَد الْحَدِيث الْمَرْفُوع في شَهَادَة الْجَوَارِح، كمَا أوْرَد مَا أجَاب بِه ابن عباس مما تقدّم ذِكْرُه.

ونَقَل الثعالبي أقْوالًا في الآية، فَقال: وقَوله تعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا):

(1)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (2/ 6).

(2)

المرجع السابق (2/ 152).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (4/ 58).

(4)

المرجع السابق (12/ 210).

(5)

المرجع السابق (12/ 299).

ص: 207

قالت فِرقة: معناه تنشق الأرض فيحصلون فيها، ثم تَتَسَوّى هي في نفسها عليهم وبِهِم.

وقالت فِرقة: معناه لو تَستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم.

وقوله تعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) معناه عند طائفة: أن الكفار لِمَا يرونه من الهول وشدة المخاوف يَوَدّون لو تُسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف.

ثم اسْتَأنَف الكلام، فأخْبَر أنهم لا يَكتمون الله حديثًا لِنُطْقِ جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فيقول الله سبحانه: كَذَبْتُم، ثم تَنْطِق جوارحهم فلا تَكْتُم حديثًا؛ وهذا قول ابن عباس.

وقالت طائفة: الكلام كلّه مُتَّصِل؛ وودّهم أن لا يَكتموا الله حديثًا؛ إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

(1)

.

واقتصر القاسمي على القول بأنهم "يَعترفون بِجميع ما فعلوه، لا يَقدِرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم. أو (الواو) للحال: أي يَودّون أن يُدْفَنوا في الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثًا، ولا يَكْذِبونه بقولهم:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)

(2)

.

واختار ابن سعدي قولًا واحدًا، وجَمَع بين الأقوال بأن الكفّار "يَعترفون له بما عَمِلُوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دِينهم: جزاءهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين

(3)

. فأما ما وَرَدَ مِنْ أن الكفار

(1)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 375، 376).

(2)

محاسن التأويل (5/ 120).

(3)

يُشير إلى ما وَرَد في قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 24، 25].

ص: 208

يَكْتُمُون كُفْرَهم وجُحُودَهم، فإنَّ ذلك يَكون في بَعْض مَوَاضِع القِيَامَة حِين يَظُنُّون أنْ جُحُودَهم يَنْفَعُهم مِنْ عَذَاب الله، فإذا عَرَفُوا الْحَقَائق وشَهِدَتْ عليهم جَوَارِحُهم حِينَئذٍ يَنْجَلِي الأمْر، ولا يَبْقَى للكِتْمَان مَوْضِع، ولا نَفْع ولا فَائدَة"

(1)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَين الآيَات، وذَلك أنَّ الكُفَّار إنما يَقُولُون:(وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عِند مُعَايَنَة فَضْل الله ورَحْمَته ولُطْفه بأهْل الإيمان طَمَعًا في السَّلامَة والنَّجَاة، وإلَّا فإنهم قَدْ أيقَنُوا بِصِدْق الرُّسُل، وعَلِمُوا أنَّ الله لا تَخْفَى عَليه خَافِية، ولِذَا يَتَمَنَّى الكُفّار أنَّ تُسَوَّى بِهم الأرْض ولا يَكْتُمُون اللهَ حَدِيثًا، ويَزِيد هَذا اليَقِين عِند إنْكَار بَعْضِهم لِمَا كَان مِنهم في الدُّنيا - رَغْبَة في النَّجَاة - فَيَخْتِم الله عَلى ألْسِنَتِهِم ويُشْهِد عَلَيهم جَوَارِحَهم.

فهذا يَدُلّ عَلى أنَّ الكَذِب والكِتْمَان وَاقِع مِنْ الكَافِرِين والْمُنَافِقِين في بَعْض الأحْوَال دُونَ بَعض، ومِن بَعْض الأشْخَاص دُونَ بَعض.

ونُكْتَة الْمَسْأَلَة التي قَلَّ مَنْ نَبَّه عَليها أنَّ قَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) لا يَنْفَكَّ عن السِّياق، وذلك أنَّ مَا قَبل هَذه الآية في الْخَبَر عَنْ قِيَام الأشْهَاد، وشُهُود الرُّسُل على أُمَمِهم، وذَلك قَوله تَعالى:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]، ثم قَال سبحانه وتعالى:(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء: 42]؛ فَهَذا حين مَجيء الرُّسُل، وحين يَشْهَدُون عَلى أُمَمِهم فَكَيف يَكُون الْحَال حِينَئذٍ؟ "كَيْف تَكُون تِلك الأحْوَال، وكَيْف يَكُون ذَلك الْحُكْم العَظِيم الذي جَمَع أنَّ مَنْ حَكَمَ به كَامِل العِلْم، كَامِل العَدْل، كَامِل الْحِكْمَة، بِشَهَادَة أزْكَى الْخَلْق، وهُم الرُّسُل على أُمَمِهم، مَع إقْرَار الْمَحْكُوم عَليه؛ فَهَذا - والله - الْحُكْم الذي هو أعَمّ الأحْكَام وأعْدَلِها وأعْظَمِها، وهُناك يَبْقَى الْمَحْكُوم عَليهم مُقِرِّين

(1)

تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص 208).

ص: 209

لَه لِكَمَال الفَضْل والعَدْل والْحَمْد والثَّنَاء، وهُناك يَسْعَد أقْوَام بالفَوْز والفَلاح والعِزّ والنَّجَاح، ويَشْقَى أقْوَام بالْخِزْي والفَضِيحَة والعَذَاب الْمُبِين"

(1)

.

وقَد جَاء في صَحِيح السُّنَّة الاسْتِدْلال بِقَوله تَعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) عَلى أنَّ ذَلك في يَوم القِيامة في حَال الْجَزَاء والْمُسَاءَلة.

رَوَى مُسْلِم

(2)

مِنْ حَدِيث حُذَيفة قال: أُتِيَ الله بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِه آتَاه الله مَالًا، فَقَال لَه: مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنيا؟ قَال: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). قَال: يَا رَبّ آتَيْتَنِي مَالَك، فَكُنْتُ أُبَايِعِ النَّاس، وكَان مِنْ خُلُقِي الْجَوَاز، فَكُنْتُ أتَيَسَّر

(3)

على الْمُوسِر، وأُنْظِر الْمُعْسِر. فَقَال الله: أنا أحَقّ بِذَا مِنْك، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فقال عُقْبَة بن عَامِر الْجُهْنَي وأبُو مَسْعُود الأنْصَارِي: هكذا سَمِعْنَاه مِنْ فِيِّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

ورَوَى

(4)

مِنْ حدِيثِ أنس بن مَالِك قَال: كُنَّا عِنْد رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَضَحِك، فَقَال: هَلْ تَدْرُون مِمَّ أضْحَك؟ قَال: قُلْنا: الله ورَسُولُه أعْلَم. قَال: مِنْ مُخَاطبة العَبْدِ رَبِّه، يَقول: يا رَب! ألم تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْم؟ قَال: يَقُول: بَلَى. قَال: فَيَقُول: فَأنِّي لا أُجِيزُ عَلى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي. قَال: فَيَقُول: كَفَى بِنَفْسِك اليَوم عَلَيك شَهِيدًا، وبالكِرَام الكَاتِبِين شُهُودًا. قال: فيُخْتَم عَلى فِيهِ، فيُقَال لأرْكَانِه: انطِقِي. قَال: فَتَنْطِق بأعْمَالِه. قَال: ثم يُخَلَّى بَيْنَه وبَيْن الكَلام. قال: فَيَقُول بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِل.

فَفِيه أنَّ العَبْد قَدْ يَقُول خِلاف الْحَقِّ وخِلاف مَا يَعْلَم دِفَاعًا عَنْ نَفْسِه، ومُدَافَعَة للعَذَاب، فإذا شَهِدَتْ عَليه جَوَارِحُه أقَرَّ بِمَا جَحَد، وشَهِد بما كَتَم، وعَرَف أنَّ اللهَ لا يُكْتَم حَدِيثًا.

(1)

تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص 207).

(2)

(ح 29). والحديث رواه البخاري أيضًا (ح 1971) دُون موضع الشاهد منه، وهو الاستدلال بالآية.

(3)

في رواية: أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. وفي رواية:"فكنت أقبل الميسور، وأتجاوز عن المعسور".

(4)

(ح 2969).

ص: 210

ومِن ذلكَ مَا أخْبَر اللهُ بِه عَنْ الكُفَّار أنهم يَقُولُون عِند مُعَايَنَة العَذَاب: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)[الدخان: 12] أي: يَقُول الكَافِرُون إذا عَايَنُوا عَذَاب الله وعِقَابه سَائِلين رَفْعَه وكَشْفَه عَنهم"

(1)

.

"وعَلَم الله تعالى أنَّ قَوْلَهم في حَال الشِّدَّة (إِنَّا مُؤْمِنُونَ)، إنما هُو عَنْ غَيْر حَقِيقَة مِنْهُم"

(2)

.

‌المثال الثالث:

ذِكْر اليَهُود والنَّصَارَى والْمَجُوس والصَّابِئة:

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 62]

(3)

مع قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[الحج: 17].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى تَدُل عَلى أنَّ الطَوائف الْمَذْكُورَة لَهُمْ أجْرُهم عِنْد رَبِّهم، والآيَة الثَّانِيَة تَدُلّ عَلى أنَّ الله يَفْصِل بَيْنَهُم يَوْم القِيَامَة.

(1)

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (12/ 339).

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (5/ 70) ويُنظَر الْخلاف على كَون ذلك في الدنيا أو في الآخرة: صحيح البخاري. باب (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)(4/ 1823)، وتَفسير القرآن، السمعاني (5/ 123).

(3)

وفي آية المائدة (69): (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ص: 211

‌جمع القرطبي:

قال القُرطبي: قَوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: صَدّقُوا بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. وقَال سُفْيان: الْمُرَاد الْمُنَافِقُون، كَأنه قَال: الذين آمَنُوا في ظَاهِر أمْرِهِم، فَلِذَلِكَ قَرَنَهم باليَهُود والنَّصَارَى والصَّابِئين، ثم بَيَّن حُكْم مَنْ آمَن بالله واليَوم الآخِر مِنْ جَمِيعِهم

(1)

.

وقال القُرطبي أيضًا: قَوله تَعَالى: (مَنْ آمَنَ) أي: صَدَّق

(2)

.

كما قال: رُوي عن ابن عباس أنَّ قَولَه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا)[الحج: 17] الآية، مَنْسُوخ بِقَوله تَعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[آل عمران: 85] الآية.

وقال غَيره: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَة، وهِي فِيمَن ثَبَتَ على إيمانِه مِنْ الْمُؤمِنِين بالنَّبِيِّ عليه السلام

(3)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الحج: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: يَقْضِي ويَحْكُم؛ فللكَافِرِين النَّار، وللمُؤمِنين الْجَنَّة.

وقيل: هذا الفَصْل بأن يُعَرِّفهم الْمُحِقّ مِنْ الْمُبْطِل بِمَعْرِفَةٍ ضَرُورِيَّة، واليَوْم يَتَمَيَّز الْمُحِقّ عَنْ الْمُبْطِل بالنَّظَر والاسْتِدْلال

(4)

.

‌مُلخص جواب القرطبي:

1 -

آيَة "البَقَرة" في حَقّ مَنْ آمَن بالله واليَوم الآخِر، فَلا خَوْف عَليهم وَلا هُمْ يَحْزَنُون.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 471).

(2)

المرجع السابق (1/ 473).

(3)

المرجع السابق (1/ 474).

(4)

المرجع السابق (12/ 24).

ص: 212

2 -

آيَة "الْحَجّ" في حَقّ مَنْ لم يُؤمِن بالله ولا باليَوم الآخِر، وحِينَئذٍ يَكُون الفَصْل بَيْن الْخَلائق.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير: أمَّا الذين آمَنُوا فَهُمْ الْمُصَدِّقُون رَسُولَ الله فِيمَا أَتَاهُم بِهِ مِنْ الْحَقّ مِنْ عِنْد الله، وإيمانهم بِذلك تَصْدِيقُهم بِه

(1)

.

ثم ذَكَر مَعَانِي الطَّوَائف الْمَذْكُورَة في الآية، ثم قَال: تَأويل قَوله تَعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ): يَعْنِي بِقَولِه: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) مَنْ صَدَّق بِالله وأقَرَّ بالبَعْثِ بَعْد الْمَمَات يَوْم القِيَامَة، وعَمِلَ صَالِحًا فَأطَاع الله (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَعْنِي بِقَولِه:(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فَلَهُم ثَوَاب عَمَلَهُم الصَّالِح عِند رَبِّهم

(2)

.

ثم أوْرَد سُؤالًا، وهْو: إنْ قَال قَائل: "ومَا مَعْنَى هَذا الكَلام؟ قِيل: إنَّ مَعْنَاه: إنَّ الذين آمَنُوا والذين هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئين مَنْ يُؤمِن بِالله واليَوْم الآخِر فَلَهُم أجْرُهُم عِنْد رَبِّهم.

فإن قَال: وَكَيْف يُؤمِن الْمُؤمِن؟ قِيل: لَيس الْمَعْنَى في الْمُؤمِن الْمَعْنَى الذي ظَنَنْتَه مِنْ انْتِقَالٍ مِنْ دِين إلى دِين، كَانْتِقَال اليَهُودِي والنَّصْرَاني إلى الإيمان، وإن كَان قَدْ قِيل: إنَّ الذين عُنُوا بِذلك مَنْ كَان مِنْ أهْل الكِتَاب عَلى إيمانه بِعِيسَى وبِمَا جَاء بِه حَتى أدْرَك مُحَمَّدًا فآمَن بِه وصَدَّقَه؛ فَقِيل لأولئك الذين كَانُوا مُؤمِنِين بِعِيسَى وبِمَا جَاء بِه إذْ أدْرَكُوا مُحمدًا صلى الله عليه وسلم: آمِنُوا بِمُحَمَّد وبِمَا جَاء بِه، ولَكِن مَعْنَى إيمان الْمُؤمِن في هَذا الْمَوْضِع ثَبَاتُه عَلَى إيمانِه وتَرْكه تَبْدِيله.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 32).

(2)

المرجع السابق (2/ 37، 38).

ص: 213

وأمَّا إيمان اليَهُود والنَّصَارَى والصَّابئين فَالتَّصْدِيق بِمُحَمَّد وبِمَا جَاء بِه، فَمَنْ يُؤمِن مِنْهم بِمُحَمّد وبِمَا جَاء بِه واليَوْم الآخِر ويَعْمَل صَالِحًا فَلَم يُبَدِّل ولَم يُغَيّر حَتى تُوفِّي عَلى ذَلك كُلّه، فَلَه ثَوَاب عَمَلِه وأجْرُه عِنْد رَبِّه، كَمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤه

(1)

.

ثم ذَكَر مَنْ قَال: عُنِي بِقَولِه: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ): مُؤمِنُو أهْل الكِتَاب الذين أدْرَكُوا رَسُولَ الله.

كما ذَكَر ابن جرير سَبَب نُزُول الآية.

ورَوَى بإسْنَادِه إلى ابن عباس رضي الله عنهما القَول بالنَّسْخ، ورَجَّح القَول الأوَّل فَقَال: والذي قُلْنَا مِنْ التَّأوِيل الأوَّل أشْبَه بِظَاهِر التَّنْزِيل؛ لأنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه لم يَخْصُص بالأجْر عَلى العَمَل الصَّالِح مَع الإيمان بَعْض خَلْقِه دُون بَعْضٍ مِنْهُم، والْخَبَر بِقَولِه:(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ) عن جَمِيع مَا ذُكِرَ في أوَّل الآية

(2)

.

وذَكَر السمرقندي أقْوالًا في الآيَة، فَقَال:(مَنْ آمَنَ) مِنْ هَؤلاء. (بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَعْنِي ثَوَابهم.

وقال مُقَاتِل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يَعْنِي: صَدَّقُوا بِتَوحِيد الله، ومَن آمَن مِنْ الذين هَادُوا ومِن النَّصَارى والصَّابِئين فَلَهُم أجْرُهم.

وقال القَتبي: قَوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هُمْ قَوْم آمَنُوا بألْسِنَتِهِم ولَم يُؤمِنُوا بِقُلُوبِهِم، فَكَأنه قَال: إنَّ الْمُنَافِقِين والَّذين هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئين

(3)

.

ثم ذَكَر السمرقندي الْمَعْنَى العَام، فَقَال: وقَوله تَعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) ولم يَذْكُر في الآية الإيمان بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لَمَّا ذَكَر الإيمان بالله تعالى فَقَد

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 38، 39).

(2)

المرجع السابق (2/ 40 - 46).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 86).

ص: 214

دَخَل فِيه الإيمان بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يَكُون مُؤمِنًا بِالله تَعالى مَا لَم يُؤمِن بِجَمِيع مَا أنْزَل اللهُ تَعالى عَلى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وعَلى جَمِيع أنْبِيَائه عَليهم الصلاة والسلام، فَكَأنه قَال: مَنْ آمَن بِالله وبِمَا أنْزِل عَلى جَمِيع أنْبِيَائه وصَدَّق بِاليَوم الآخِر وعَمِل صَالِحًا، أي: أدَّى الفَرَائض، فَلَهم أجْرُهم عِنْد رَبِّهم، يَعْنِي: لَهُمْ ثَوَاب أعْمَالِهم في الآخِرَة

(1)

.

ونَقَل السَّمعاني عن سِيبويه قَوله: في الآيَة تَقْدِيم وتَأخِير، وتَقْدِيرُه: إنَّ الذين آمَنُوا والَّذين هَادُوا والنَّصَارَى مَنْ آمَن بِالله والَّذين هَادُوا والنَّصَارَى مَنْ آمَن بِالله واليَوْم الآخِر وعَمِل صَالِحًا فَلا خَوْف عَليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، والصَّابِئون كَذلك.

ثم قال السمعاني: قَوله: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ): يَعْنِي: الذين آمَنُوا باللِّسَان، مَنْ آمَن مِنْهم بالقَلْب.

قال: وقِيل: إنَّ الذين آمَنُوا عَلى حَقِيقَة الإيمان.

وقَوله: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) أي: مَنْ ثَبَت عَلى الإيمان بِالله، وأمَّا في حَقِّ اليَهُود والنَّصَارَى والصَّابِئين فَهو مَحْمُول عَلى حَقِيقَة الإيمان

(2)

.

ونَقَل الثعلبي الاخْتِلاف في حُكْم الآيَة، ومَعْنَى قَوله تَعالى:(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فَقَال: ولَهُم فِيها طَرِيقَان:

أحَدُهما: إنه أرَادَ بقَولِه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) على التّحْقِيق وعَقْد التَّصْدِيق، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في هَؤلاء الْمُؤمِنِين مَنْ هُم؟

فَقَال قَوْم: هُمْ الذين آمَنُوا بِعِيسَى ثُمَّ لَم يَتَهَوَّدُوا ولَم يَتَنَصَّرُوا ولم يصْبِئوا، وانْتَظِرُوا خُرُوج مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 86).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (7/ 54).

ص: 215

وقال آخَرُون: هُمْ طُلَّاب الدِّين مِنْهم حَبِيب النَّجَّار وقَيس

(1)

بن ساعدة وزَيد بن عَمرو بن نُفيل ووَرَقَة بن نَوفل والبَراء السندي وأبو ذَرّ الغِفَاري وسَلْمان الفَارِسي ويَحْيى

(2)

الرَّاهب ووَفْد النَّجَاشي؛ آمَنُوا بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، بَلْ مَبْعَثِه، فَمِنْهُم مَنْ أدْرَكَه وتَابَعه، ومِنْهُم مَنْ لَم يُدْرِكْه.

وقِيل: هُمْ مُؤمِنُو الأُمَم الْمَاضِيَة.

وقِيل: الْمُؤمِنُون مِنْ هَذه الأمَّة.

والذين هَادُوا: يَعْنِي الذين كَانُوا عَلى دِين مُوسى عليه السلام، ولم يُبَدِّلُوا ولَم يُغَيِّرُوا.

والنَّصَارَى: الذين كَانُوا عَلى دِين عِيسَى عليه السلام ولم يُبَدِّلُوا ومَاتُوا عَلى ذلك والطَّرِيق الآخَر

(3)

: إن الْمَذْكُورِين في أوَّل الآية بالإيمان إنما هُو عَلَى طَرِيق الْمَجَاز والتَّسْمِيَة دُون الْحُكْم والْحَقِيقَة، ثُم اخْتَلَفُوا فِيه:

فَقَال بَعْضُهم: إنَّ الذين آمَنُوا بالأنْبِيَاء الْمَاضِين والكُتُب الْمُتَقَدِّمَة ولَم يُؤمِنُوا بكَ ولا بِكِتَابِك.

وقال آخَرُون: يَعْنِي بِه الْمُنَافِقِين، أرَادَ: إنَّ الذين آمَنُوا بِألْسِنَتِهِم ولَم يُؤمِنُوا بِقُلُوبِهم، ونَظِير هَذه الآية قَوله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[النساء: 136].

ثم خَتَمَ ذَلك بِقَولِه: وفِيه اخْتِصَار وإضْمَار، تَقْدِيرُه: مَنْ آمَن مِنْهُم بِالله واليَوم الآخِر؛ لأنَّ لَفْظ (مَنْ) يَصْلُح للوَاحِد والاثْنَين والْجَمْع والْمُذَكَّر والْمُؤنَّث

(وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فِيمَا قَدَّمُوا.

(1)

هكذا في المطبوع، والأشهر: قسّ بن ساعدة.

قال ابن ماكولا (الإكمال 7/ 93): وأما قُس - بِضَمّ القَاف - فهو قُس بن ساعدة الإيادي، أحَد حُكماء العرب ومتألهيهم.

وله ترجمة في الإصابة (5/ 412).

(2)

هكذا في المطبوع! والذي يظهر أنه تحريف لـ "بُحَيْرَى".

(3)

هذا الطريق الثاني في الجمع بين الآيات فإنه قَال في أوَّل الكَلام: "وَلَهُمْ فيها طريقان".

ص: 216

(وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) عَلى مَا خَلَّفُوا.

وقيل: لا خَوْف عَليهم بالْخُلُود في النَّار، ولا يَحْزَنُون بِقَطِيعَة الْمَلِك الْجَبَّار.

ولا خَوْف عَليهم مِنْ الكَبَائر وإني أغْفِرُها، ولا هُمْ يَحْزَنُون عَلى الصَّغَائر فَأني أُكَفِّرُها.

وقِيل: لا خَوف عَليهم فِيمَا تَعَاطَوا مِنْ الإجْرَام، ولا هُمْ يَحْزَنُون عَلى مَا اقْتَرَفُوا مِنْ الآثَام لِمَا سَبَق لَهم مِنْ الإسْلام

(1)

.

واخْتَار الزمخشري أنَّ الْمُرَاد بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) في آية "البقرة" هُمْ الْمُنَافِقُون، فَقَال:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بأَلْسِنَتِهِم مِنْ غَير مُوَاطَأة القُلُوب، وهُم الْمُنَافِقُون

(2)

.

ومَعْنَى (مَنْ آمَنَ) عِنْدَه: مِنْ هَؤلاء الكَفَرة إيمانًا خَالِصًا، وَدَخَل في مِلّة الإسْلام دُخُولًا أصِيلًا

(3)

.

وأمَّا الرَّازي فَقد ذَكَر غَير وَجْه في الْجَوَاب عن الإشْكَال الْمُتَوهَّم في آية "البقرة"، حيث ذَكَر ثَلاثَة أوْجُه في مَعْنى الآيَة، وذَكَر سَبَب الاخْتِلاف، فَقَال: واخْتَلَف الْمُفَسِّرُون في الْمُرَاد مِنْه، وسَبَب هَذا الاخْتِلاف قَوله تَعالى في آخر الآية:(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ)، فإنَّ ذَلك يَقْتَضِي أن يَكُون الْمُرَاد مِنْ الإيمان في قَوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) غَير الْمُرَاد مِنْه في قَولِه تَعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، ونَظِيرُه في الإشْكَال قَوله تَعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)[النساء: 136]، فَلأجْل هَذا الإشْكَال ذَكَرُوا وُجُوهًا:

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 209، 210) باختصار.

(2)

الكشاف، مرجع سابق (ص 80).

(3)

المرجع السابق، الموضع السابق.

ص: 217

أحَدُها - وهو قَول ابن عباس -: الْمُرَاد: الذين آمَنُوا قَبل مَبْعَث مُحَمَّد بِعِيسَى عليهما السلام، مَع البَرَاءة عَنْ أبَاطيل اليَهُود والنَّصَارَى، مِثل قُسّ بن ساعدة وبُحَيْرَى الرَّاهب وحَبِيب النَّجَّار وزَيد بن عَمرو بن نُفيل ووَرَقَة بن نَوفل وسَلمان الفَارِسي وأَبي ذَرّ الغِفَارِي ووَفْد النَّجَاشي، فَكأنه تَعالى قَال: إنَّ الذين آمَنُوا قَبْل مَبْعَث مُحَمَّد، والذين كَانوا عَلى الدِّين البَاطِل الذين لليَهُود، والذين كَانُوا عَلى الدِّين البَاطِل الذي للنَّصَارَى؛ كُلّ مَنْ آمَن مِنهم بَعْد مَبْعَث مُحَمَّد عليه السلام بِالله واليَوم الآخِر وبِمُحَمَّد فَلَهُم أجْرُهُم عِنْد رَبِّهِمْ.

وثَانِيها: أنه تَعالى ذَكَر في أوَّل هَذه السُّورة طَرِيقَة الْمُنَافِقِين، ثُم طَرِيقَة اليَهُود؛ فَالْمُرَاد مِنْ قَوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هُمْ الذين يُؤمِنون باللِّسان دُون القَلْب، وهُم الْمُنَافِقُون، فَذَكَر الْمُنَافِقِين ثُم اليَهُود والنَّصَارَى والصَّابِئين؛ فَكَأنه تَعالى قَال: هَؤلاء الْمُبْطِلُون كُلّ مَنْ أتَى مِنْهُم بالإيمان الْحَقِيقِي صَارَ مِنْ الْمُؤمِنِين عِنْد الله، وهُو قَول سُفْيان الثَّورِي.

وثَالِثها: الْمُرَاد مِنْ قَوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هُمْ الْمُؤمِنُون بِمُحَمَّد عليه الصلاة والسلام في الْحَقِيقَة، وهو عَائد إلى الْمَاضِي، ثُم قَوله تَعالى:(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَل، فَالْمُرَاد: الذين آمَنُوا في الْمَاضِي وثَبَتُوا عَلى ذَلك، واسْتَمَرُّوا عَليه في الْمُسْتَقْبَل، وهُو قَول الْمُتَكَلِّمِين.

ثم خَم الرازي الْمَبْحَث بِقَولِه: ثُم إنه سُبْحَانه بَيَّن في هَذه الفِرَق الأرْبَعَة أنهم إذا آمَنُوا بِالله فَلَهُم الثَّواب في الآخِرَة، لِيُعْرَف أنَّ جَمِيع أرْبَاب الضَّلال إذا رَجَعُوا عَنْ ضَلالِهم وآمَنُوا بالدِّين الْحَقّ فإنَّ الله سبحانه وتعالى يَقْبَل إيمانَهم وطَاعَتهم ولا يَرُدّهم عَنْ حَضْرَتِه ألبتة. واعْلَم أنه قَدْ دَخَل في الإيمان بِالله الإيمان بِمَا أوْجَبَه، أعْنِي: الإيمان بِرُسُلِه، ودَخَل في الإيمان باليَوْم الآخِر جَمِيع أحْكَام الآخِرَة، فَهَذَان القَولان قَدْ جَمَعا كُلّ مَا يَتَّصِل بالأدْيَان في حَال التَّكْلِيف، وفي حَال الآخِرَة مِنْ ثَوَاب وعِقَاب

(1)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (3/ 97، 98) باختصار.

ص: 218

وذَكَر ابن جُزي القَول بالنَّسْخ، وأقْوَالًا أخْزَى، ضَعَّف بَعْضَهَا بِقَولِه: وقِيل: مَعْنَاهَا أنَّ هَؤلاء الطَوَائف مَنْ آمَن مِنْهم إيمانًا صَحِيحًا فَلَه أجْرُه؛ فَيَكُون في حَقِّ الْمُؤْمِنِين الثَّبَات إلى الْمَوْت، وفي حَقّ غَيْرِهم الدُّخُول في الإسْلام، فلا نَسْخ. وقِيل: إنها فِيمَن كَان قَبْل بَعْث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فلا نَسْخ

(1)

.

بَيْنَمَا قَال في تَفْسِير سُورة الْحَجّ: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هَذه الْجُمْلَة هي خَبَر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا) الآية، وكُرِّرَتْ مَع الْخَبَر للتَّأكِيد، وفَصْل الله بَيْنهم بأن يُبَيِّنْ لَهُمْ أنَّ الإيمان هُو الْحَقّ وسَائر الأدْيان بَاطِلَة، وبأن يُدْخِل الذين آمَنُوا الْجَنَّة، ويُدْخِل غَيْرَهم النَّار

(2)

.

وأشَارَ ابنُ كَثير إلى السِّيَاق في آيَات "البقرة"، فقال: لَمَّا بَيَّن تَعالى حَال مَنْ خَالَف أوامِرَه، وارْتَكَب زَوَاجِرَه، وتَعَدَّى في فِعْل مَا لا إذْنَ فِيه، وانْتَهَك الْمَحَارِم، ومَا أحَلَّ بِهم مِنْ النَّكَال، نَبَّه تَعالى عَلى أنَّ مَنْ أحْسَن مِنْ الأُمَم السَّالِفَة وأطَاع، فإنَّ لَه جَزَاء الْحُسْنَى، وكَذَلك الأمْر إلى قِيَام السَّاعَة؛ كُلّ مَنْ اتَّبَع الرَّسُول النَّبِيّ الأُمِّي فَلَه السَّعَادَة الأبَدِيَّة، ولا خَوْف عَليهم فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَه، ولا هُمْ يَحْزَنُون عَلى مَا يَتْرُكُونَه ويُخَلِّفُونَه

(3)

.

ثم ذَكَر سَبَب نُزُول الآيَة، وذَكَر مَا جَاء عن ابنِ عَباس مِنْ القَول بالنَّسْخ، ثم عَرَّف بِتلك الأصْنَاف الْمَذْكُورَة في الآيَة، ثم قَال: فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَاتِمًا للنَّبِيِّين، ورَسُولًا إلى بَني آدَم على الإطْلاق، وَجَبَ عَليهم تَصْدِيقُه فِيمَا أخْبَر، وطَاعَتُه فِيمَا أمَر، والانْكِفَاف عَمَّا عَنه زَجَر؛ وهَؤلاء هُمْ الْمُؤمِنُون حَقًّا

(4)

.

(1)

التسهيل لِعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 49).

(2)

المرجع السابق (3/ 37، 38).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 430).

(4)

المرجع السابق (1/ 432).

ص: 219

وقَال في تَفْسِير آيَة الْحَجّ: يُخْبِر تَعالى عَنْ أهْل هَذِه الأدْيَان الْمُخْتَلِفَة مِنْ الْمُؤمِنِين ومَن سِوَاهم مِنْ اليَهُود والصَّابِئين

والنَّصَارَى والْمَجُوس والذين أشْرَكُوا، فَعَبَدُوا غَيْر الله مَعَه، فَإنَّه تَعالى (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ويَحْكُم بَيْنَهم بِالعَدْل؛ فيُدْخِل مَنْ آمَن به الْجَنَّة، ومَن كَفَرَ بِهِ النَّار، فَإنه تَعالى شَهِيد عَلى أفْعَالِهم، حَفِيظ لأقْوَالِهم، عَلِيم بِسَرَائِرِهِم، ومَا تُكِنّ ضَمَائرُهم

(1)

.

ونَقَل الثعالبي الْخِلاف في الآيَة، فقال: اخْتُلِف في الْمُرَاد بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) في هَذه الآية؛ فَقَالتْ فِرْقَة: (الَّذِينَ آمَنُوا) هُمْ الْمُؤمِنُون حَقًّا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وقَوله:(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) يَكون فِيهم بِمَعْنى: مَنْ ثَبَت ودَام، وفِي سَائر الفِرَق بِمَعْنَى: مَنْ دَخَل فِيه.

وقال السّدي: هُمْ أهْل الْحَنِيفِيَّة مِمَّنْ لَم يَلْحَق مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

والذين هَادُوا ومَن عُطِف عَليهم كَذلك مِمَّنْ لَم يَلْحَق مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال في تَفْسِير سُورَة المائدة: (الَّذِينَ آمَنُوا) لَفْظ عَامّ لِكُلّ مُؤمِن مِنْ مِلَّة نَبِيِّنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ومِن غَيرها مِنْ الْمِلَل، فَكَأن ألْفَاظ الآية حُصِر بِها النَّاس كُلّهم وبُيِّنَتِ الطَّوَائف عَلى اخْتِلافِها، وهَذا هو تَأوِيل الْجُمْهُور

(3)

.

ويَرَى القاسمي أنَّ مَعْنَى (الَّذِينَ آمَنُوا)"أي: الذين آمَنُوا بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وصَارُوا مِنْ جُمْلَة أتْبَاعِه. قَال في "فَتْح البَيَان": كَأنه سُبْحَانه أرَاد أن يُبَيِّنْ أنَّ حَال هَذه الْملَّة الإسْلامِيَّة، وحَال مَنْ قَبْلها مِنْ سَائر الْمِلَل، يَرجِع إلى شَيء وَاحِد، وهو أنَّ مَنْ آمَن مِنْهم بِالله واليَوْم الآخِر وعَمِل صَالِحًا اسْتَحَقّ مَا ذَكَرَه الله مِنْ الأجْر، ومَن فَاتَه ذلِك فَاتَه الْخَيْر كُلّه، والأجْر دِقّه وجِلّه. والْمُرَاد بالإيمان هَهُنَا هُو مَا بَيَّنَه

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1024).

(2)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 72).

(3)

المرجع السابق (1/ 477).

ص: 220

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ قَولِه لِمَّا سَألَه جِبْرِيل عليه السلام عَنْ الإيمان فَقَال: "أن تُؤمِن بِالله ومَلائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه

(1)

والقَدَر

(2)

خَيْرِه وشَرِّه"

(3)

. ولا يَتّصِف بِهَذا الإيمان إلَّا مَنْ دَخَل في الْمِلَّة الإسْلامِيَّة، فَمَنْ لَم يُؤمِن بِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ولا بِالقُرآن؛ فَلَيْس بِمُؤمِن. ومَن آمَن بِهِما صَار مُسْلِمًا مُؤمِنًا، ولم يَبْق يَهُودِيًّا ولا نَصْرَانِيًّا ولا مَجُوسِيًّا. انتهى

(4)

.

ثم نَقَل القاسمي عن الرَّاغِب تَوْجِيه قَول ابنِ عَباس في النَّسْخ، وأقَرَّه، فَقَال: وقَول ابنِ عباس: إنَّ هَذا مَنْسُوخ بِقَولِه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[آل عمران: 85] يَعْنُون أنَّ هَذه الأدْيَان كُلّها مَنْسُوخَة بِدِين الإسْلام، وأنَّ الله عز وجل جَعَل لَهُمْ الأجْر قَبْل وَقْت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فأمَّا في وَقْتِه فالأدْيَان كُلّها مَنْسُوخَة بِدِينِه

(5)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَات، فآيَة "البَقَرة" في حَقّ مَنْ آمَن بِالله واليَوْم الآخِر وعَمِل صَالِحًا، فَلَه أجْرُه عِند رَبِّه، وهَذا أمْر مُتَكَرِّر في القُرْآن، كَما في قَوله تَعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)[الكهف: 30].

وأمَّا عَطْف (مَنْ آمَنَ) عَلى (الَّذِينَ آمَنُوا) فَهو مِنْ بَاب التَّأكِيد في حَقّ الْمُؤمِنِين، كَقَولِه تَعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[النساء: 136].

(1)

في الحديث ذَكر الإيمان باليوم الآخر هنا (صحيح مسلم ح 8) من حديث عمر رضي الله عنه، وفي حديث أبي هريرة:"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر". وسيأتي تخريجه.

(2)

الذي في الصحيح: وتؤمن بالقدر ....

(3)

ورواه بنحوه من حديث أبي هريرة: البخاري (ح 4499)، ومسلم (ح 9).

(4)

محاسن التأويل، مرجع سابق (1/ 349).

(5)

المرجع السابق (1/ 350).

ص: 221

أوْ هُو في حَقّ الْمُنَافِقِين، فإنَّ اللهَ أخْبَر أنه يَقْبَل تَوْبَة الْمُنَافِق إذا تَاب، فَقَال سبحانه وتعالى:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 145، 146].

وأمَّا مَا في آية "الْحَجّ" فهو في الفَصْل بَيْن الأُمَم يَوْم القِيَامَة، وهو في حَقّ مَنْ لَم يُؤمِن، أمَّا مَنْ آَمَن فَلا يَبْقَى لَه نِسْبَة ولا انْتِسَاب إلى تِلك الْمِلَل.

ألَا تَرَاهُم إذا ذَكَرُوا مَنْ كَان مَجُوسِيًّا ثم أسْلَم قَالُوا: كَان مَجُوسِيًّا. ومِثْله يُقَال في حَقّ مَنْ كَان عَلى مِلّة غَيْر الإسْلام ثُمّ أسْلَم، فإنه لا يَبْقَى لَه إلَّا أنه "كَان كَذَا".

‌المثال الرابع:

التَّسَاؤل يَوْم القِيَامَة بين الإثبات والنَّفْي:

قَوله تَعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)[المؤمنون: 101]، مَع قَوله تَعالى:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27].

‌صورة التعارض:

قَوله تَعالى: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) هَذه الآيَة الكَرِيمة تَدُلّ عَلى أنهم لا أنْسَاب بَيْنَهم يَومَئذٍ، وأنهم لا يَتَسَاءَلُون يَوْم القِيَامة؛ وقَد جَاءَت آيَات أُخَر تَدُلّ على ثُبُوت الأنْسَاب بَيْنَهم، كَقَولِه:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ)[عبس: 34] الآية .... وآيَات أُخَر تَدُلّ عَلى أنهم يَتَسَاءَلُون، كَقَولِه تَعالى:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)

(1)

.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 145، 146).

ص: 222

‌جمع القرطبي:

نَقَل القرطبي عَنْ ابن عباس قَوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) في النَّفْخَة الأُولَى، ثم يُنْفَخ في الصُّوْر فَصَعِق مَنْ في السَّمَاوَات ومَن في الأرْض ومَن في الأرْض إلَّا مَنْ شَاء الله. فلا أنْسَاب بَيْنَهم عِند ذَلك ولا يَتَسَاءَلُون، ثُمّ في النَّفْخَة الآخِرَة أقْبَل بَعْضُهم عَلى بَعْض يَتَسَاءَلُون

(1)

.

وقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)[يونس: 45]: وهَذا التَّعَارُف تَعَارُف تَوبِيخ وافْتِضَاح، يَقُول بَعْضُهم لِبَعْض: أنْتَ أضْلَلْتَنِي وأغْوَيْتَنِي وحَمَلْتَنِي عَلى الكُفْر، ولَيْس تَعَارُف شَفَقَة ورَأفَة وعَطْف، ثم تَنْقَطِع الْمَعْرِفَة إذَا عَايَنُوا أهْوَال يَوْم القِيَامَة، كَما قَال:(وَلَا يَسْأَلٌ حَمِيمٌ حَمِيمًا)[المعارج: 10].

وقِيل: يَبْقَى تَعَارُف التَّوبِيخ، وهو الصَّحِيح، لِقَولِه تَعالى:(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ) إلى قَوله: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا)[سبأ: 31 - 33]، وقَوله:(رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا)[الأحزاب: 67] الآية.

فأمَّا قَوله: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)[المعارج: 10]، وقَوله:(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، فَمَعْناه: لا يَسْألُه سُؤَال رَحْمَة وشَفَقَة. والله أعلم.

وقِيل: القِيَامَة مَوَاطِن.

وقِيل: مَعْنَى (يَتَعَارَفُونَ) يَتَسَاءَلُون، أي: يَتَسَاءَلُون كَمْ لَبِثْتُم؟ كَمَا قَال: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، وهَذا حَسَن.

وقَال الضَّحَّاك: ذَلك تَعَارُف تَعَاطُف الْمُؤْمِنِين، والكَافِرُون لا تَعَاطُف عَليهم، كَما قَال:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ)، والأوَّل أظْهَر، والله أعلم

(2)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 15).

(2)

المرجع السابق (8/ 312).

ص: 223

وذَكَر أقْوالًا في الآيَة، وأشَارَ إلى الْجَمْع بَيْن الآيَات، وذلك في تَفْسِير سُورة الْمُؤْمِنُون، فَقَال: قَوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الْمُرَاد بِهَذا النَّفْخ النَّفْخَة الثَّانِيَة (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). قال ابن عباس: لا يَفْتَخِرُون بالأنْسَاب في الآخِرَة كَمَا يَفْتَخِرُون بِها في الدُّنيا، ولا يَتَسَاءَلُون فِيها كَمَا يَتَسَاءَلُون في الدُّنيا، مِنْ أيّ قَبِيلَة أنْت؟ ولا مِنْ أيّ نَسَب؟ ولا يَتَعَارَفُون لِهَوْل مَا أذْهَلَهم.

وعن ابن عباس: أنَّ ذَلك في النَّفْخَة الأُولى حِين يُصْعَق مَنْ في السَّمَاوات وَمَنْ في الأرْض إلَّا مَنْ شَاء الله (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر: 68]، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) [الطور: 25]

(1)

.

وسَألَ رَجُلٌ ابنَ عَباس عَنْ هذه الآيَة

(2)

، وقَولِه:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، فَقَال: لا يَتَسَاءَلُون في النَّفْخَة الأُولى، لأنه لا يَبْقَى عَلى وَجْه الأرْض حَيّ، فلا أنْسَابَ ولا تَسَاؤل، وأمَّا قَوله:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) فَإنهم إذا دَخَلُوا الْجَنَّة تَسَاءَلُوا.

وقَال ابنُ مسعود: إنما عَنى في هَذه الآية النَّفْخَة الثَّانِيَة.

وأورَد القرطبي قَولًا آخَر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو أنه "يُؤخَذ بِيَدِ العَبْد أوْ الأمَة يَوْم القِيَامَة فيُنْضَب على رُؤوس الأوَّلِين والآخِرِين، ثم يُنادِي مُنَادٍ: هذا فُلان بن فُلان، مَنْ كَان لَه حَقّ فَلْيَأتِ إلى حَقِّه؛ فَتَفْرَح الْمَرْأة أن يَدُور لَهَا الْحَقّ عَلى أبِيهَا، أوْ عَلى زَوْجِها، أوْ عَلى أخِيهَا، أوْ على ابْنِهَا، ثُمّ قَرأ ابنُ مَسْعُود:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)

(3)

.

(1)

آية "الطور" في تَحَاور أهْل الْجَنَّة.

(2)

آية الْمُؤْمِنُون.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (12/ 136).

ص: 224

وأمَّا في تَفْسِير "الصَّافَّات"، فَقَال:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يَعْنِي: الرُّؤَسَاء والأتْبَاع (يَتَسَاءَلُونَ) يَتَخَاصَمُون

(1)

.

وذَكَر فِيها وَجْهًا آخَر في الْجَمْع، فَقَال في قَوله تَعالى:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ): إنما هُو لا يَتَسَاءَلُون بالأرْحَام، فَيَقُول أحَدُهم

(2)

: أسْألُك بالرَّحِم الذي بَيْن وبَيْنَك لَمَا نَفَعْتَنِي، أوْ أسْقَطْت لِي حَقًّا لَك عَليّ، أوْ وَهَبْتَ لي حَسَنَة؛ وهَذا بَيِّن لأنَّ قَبْلَه:(فَلَا أَنْسَابَ)، أي: لَيس يَنْتَفِعُون بالأنْسَاب التي بَيْنَهم

و (يَتَسَاءَلُونَ) هَا هُنا إنما هَو أن يَسْأل بَعْضُهم بَعْضًا ويُوَبِّخَه في أنه أضَلَّه، أوْ فَتَح لَه بَابًا مِنْ الْمَعْصِيَة، يُبَيِّنْ ذلك أنَّ بَعْدَه (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات: 28].

قال مجاهد: هو قَول الكُفَّار للشَّيَاطِين.

قتادة: هو قُول الإنْس للجِنّ.

وقيل: هُو مِنْ قَول الأتْبَاع للمَتْبُوعِين. دَلِيله قَوله تَعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ)[سبأ: 31] الآية

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

لا يَتَسَاءَلُون إذا نُفِخ في الصُّور النَّفْخَة الأُولى، وأمَّا بَعْد النَّفْخَة الآخِرَة فيُقْبِل بَعْضُهم عَلى بَعْض يَتَسَاءَلُون.

2 -

لا يَسْأل بَعْضُهم بَعْضًا رَحْمَة وشَفَقَة، بل سُؤال تَوبِيخ.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 68).

(2)

أي في الدُّنيا حِينما كَانُوا يَتَسَاءَلُون بالأرْحَام، كما قال تعالى:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)[النساء: 1]، وأمَّا في الآخِرَة فلا يَتَسَاءَلُون بِهَا. أو أن في الكَلام سَقْطًا، فتَكُون العِبَارة: فَلا يَقُول أحَدُهم

بَدَل من "فَيَقُول أحَدُهم" لأنه عَنى أنهم لا يَتَسَاءَلُون بالأرْحَام.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 68).

ص: 225

3 -

أنَّ القِيَامَة مَوَاطِن، فَفِي بَعْضِها يَكُون السُّؤال، وفي بعضها لا يَكون.

4 -

يَتَسَاءَلُون كَمْ لَبِثْتُم؟

5 -

لا يَفْتَخِرُون بالأنْسَاب في الآخِرَة كَمَا يَفْتَخِرُون بِهَا في الدُّنيا.

6 -

لا يَتَسَاءَلُون بالأنْسَاب كَمَا يَتَسَاءَلُون بِهَا في الدُّنيا.

7 -

لا يَتَسَاءلون في حَال النَّفْخَة الأُولى، فإذا دَخَلُوا الْجَنَّة تَسَاءَلُوا.

8 -

هو قُول الكُفَّار للشَّيَاطِين.

9 -

هو قَول الإنْس للجِنّ.

10 -

هو مِنْ قَول الأتْبَاع للمَتْبُوعِين.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أشَار ابنُ جَرير إلى الاخْتِلاف في تَفْسِير الآيَة، فَقَال: اخْتَلَف أهْل التَّأويل في الْمَعْنِيّ بِقَولِه: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) مِنْ النَّفْخَتَين أيتُهما عُنِيَ بِها. فَقَال بَعْضُهم: عُني بِهَا النَّفْخَة الأُولى - ثم ذَكَر مَنْ قَال بِهَذا القَول - وأسْنَد إلى ابن عباس جَوابه لِمَنْ سَألَه عَمَّا أشْكَل عَليه - مِمَّا تَقَدَّم - ورَوَى بإسْنَادِه عن ابن عباس في قَولِه: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ): فَذَلكَ حِين يُنْفَخ في الصُّور، فلا حَيّ يَبْقَى إلَّا الله، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) [الصافات: 27] فَذَلِك إذا بُعِثُوا في النَّفْخَة الثَّانِيَة.

قَال: فَمَعْنَى ذَلك عَلى هَذا التَّأويل: فإذا نُفِخ في الصُّور، فَصَعِق مَنْ في السَّمَاوات وَمَنْ في الأرْض إلَّا مَنْ شَاء الله، فَلا أنْسَاب بَيْنَهم يَومَئذٍ يَتَواصَلُون بِهَا، ولا يَتَسَاءَلُون، ولا يَتَزَاوَرُون؛ فَيَتَسَاءَلُون عَنْ أحْوَالِهم وأنْسَابِهم.

وقال آخَرُون: بَلْ عُنِي بِذلك النَّفْخَة الثَّانِيَة

(1)

.

ثم أسْنَد الأقْوَال إلى قَائِليها.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (17/ 111، 112).

ص: 226

ورَوَى مِنْ طَرِيق الْحُسَين قَال: ثَنِي حَجَّاج: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) قَال: لا يَسْأل أحَد يَومئِذ بِنَسَبٍ شيئًا، ولا يَتَسَاءَلُون، ولا يَمُتُّ إلَيه بِرَحِم

(1)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ): اقْتَصَر عَلى قَول وَاحِد، حَيث قَال: قِيل: مَعْنَى ذَلك: وأقْبَل الإنْس عَلى الْجِنّ يَتَسَاءَلُون.

ثم ذَكَرَ مَنْ قَال بِذلك

(2)

.

وقَال النَّحَّاس: وَهَذه الآية مُشْكِلَة، لأنه قَال جَلَّ وَعَزّ:(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وقَال في مَوْضِع آخَر:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27].

والْجَوَاب عَنْ هَذا - وهو مَعْنَى قَول عبد الله بن عباس وإن خَالَف بَعْض لَفْظِه، والْمَعْنَى واحِد - أنه إذا نُفِخَ في الصُّور أوَّل نَفْخَة تَقَطَّعتِ الأرْحَام وصُعِقَ مَنْ في السَّمَاوات ومَن في الأرْض وشُغِل بَعْض النَّاس عَنْ بَعْض بأنْفُسِهم، فَعِنْد ذَلك لا أنْسَاب بَيْنَهم يَومَئذٍ ولا يَتَسَاءَلُون.

قال: ومَعْنَى (يَوْمَئِذٍ) في قَوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) كَمَا تَقُول: أنا اليَوْم كَذا. أي في هَذا الوَقْت، لا تُريد وَقْتًا بِعَيْنِه

(3)

.

واقْتَصَر السمرقندي على قَوله: قَولُه عز وجل: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ)[المؤمنون: 101] يَعْنِي: النَّفْخَة الأخِيرَة.

(فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ)، يَعْنِي: لا يَنْفَعُهم يَومَئذٍ

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (17/ 113).

(2)

المرجع السابق (19/ 524).

(3)

معاني القرآن، مرجع سابق (4/ 487).

ص: 227

النَّسَب، ولا يَتَسَاءَلُون عَنْ ذلك؛ فَهَذِه حَالات لا يَتَسَاءَلُون في مَوْضِع، ويَتَسَاءَلُون في مَوْضِع آخَر

(1)

.

وأوْضَح السمعاني الْمُرَاد بانْقِطَاع الأنْسَاب، فَقَال: قَوله تَعالى: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي: لا أنْسَاب يَتَفَاخَرُون ويَتَوَاصَلُون بِهَا، وأمَّا أصْل الأنْسَاب فَبَاقِيَة.

وأمَّا قَوله عليه الصلاة والسلام: كُلّ سَبَبٍ ونَسَبٍ يَنْقَطِع إلَّا سَبَبِي ونَسَبِي

(2)

.

أي: لا يَنْفَع سَبَب ولا نَسَب يَوم القِيَامَة إلَّا سَبَبِي ونَسَبِي.

ويُقَال: سَبَبُه القُرْآن، ونَسَبه الإيمان

(3)

.

وقَوله: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، أي: لا يَسْأَل بَعْضُهم بَعْضًا سُؤَال تَوَاصُل.

فإن قِيل: ألَيْس أنَّ الله تَعالى قَال: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)

(4)

؟

الْجَوَاب: مَا رُوي عن ابنِ عباس أنه قَال: يَوْم القِيَامَة مَوَاطِن وتَارَات، فَفِي مَوْطِن يَشْتَدّ عَليهم الْخَوْف فَتَذْهَل عُقُولُهم فَلا يَتَسَاءَلُون، وفي مَوْضِع يُفِيقُون إفَاقَة فَيَتَسَاءَلُون

(5)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 490).

(2)

رواه من حديث عُمر: عبد الرزاق (ح 10354)، والطبراني (ح 2633)، وفي الأوسط (5606)، ومن طريقه الضياء في المختارة (ح 101)، ورواه البيهقي في الكبرى (ح 13171)، وقال الهيثمي المجمع (9/ 173): رواه الطبراني في الأوسط، والكبير باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير الحسن بن سهل، وهو ثقة. وقال الألباني (الصحيحة 5/ 58): صحيح بمجموع طرقه.

وله شواهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن حديث المسور بن مخرمة.

(3)

قال الأزهري: النسب يكون بالولادة، والسبب بالتزويج. (غريب الحديث، ابن الجوزي 1/ 451).

وينظر: لسان العرب، مرجع سابق (1/ 459).

(4)

هكذا في المطبوع، (فَأَقْبَلَ) [الصافات: 50] الآية، وهذه الآية في تحاور أهل الجنة، كما هو واضح من السياق. وأما التي في تساؤل الكفار يوم القيامة، فهي بالواو في أولها (وَأَقْبَلَ) [الصافات: 27] الآية.

(5)

تفسير القرآن، مرجع سابق (3/ 491).

ص: 228

وذَكَر الثعلبي قَول ابن عباس: "لا يَفْتَخِرُون بالأنْسَاب في الآخِرَة كَمَا كَانُوا يَفْتَخِرُون"، وقَول أبي العالية: هو كَقَولِه: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)[المعارج: 10]، وقَوْل ابن جُريج: مَعْنَى الآيَة: لا يَسْأل أحَد يَوْمَئذٍ شَيئًا بِنَسَبٍ، (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) لا يَمُتّ إليه بِرَحِم.

ثم قال الثعلبي: واخْتَلَف الْمُفَسِّرُون في الْمُرَاد بِقَولِه: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) أي النَّفْخَتَين عَنَى؟

فقال ابن عباس: هي النَّفْخَة الأُولى

(1)

.

وقال ابن مسعود: هي النَّفْخَة الثَّانِيَة

(2)

.

واقتصر الزمخشري على ذِكر جَوَابَيْن، فَقَال مُتَسَائلًا: فإن قُلْتَ: قَدْ نَاقَضَ

(3)

هَذا ونَحو قَوله: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمَا)[المعارج: 10] قَوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27]، وقَوله:(يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)[يونس: 45] فَكَيف التَّوْفِيق بَيْنَهُما؟

قُلْتُ: فِيه جَوَابَان:

أحَدُهما: أنَّ يَوْم القِيَامَة مِقْدَارُه خَمْسُون ألْفَ سَنَة، فَفِيه أزْمِنَة وأحْوَال مُخْتَلِفَة؛ يَتَسَاءَلُون ويَتَعَارَفُون في بَعْضِها، وفي بَعْضِها لا يَفْطُنُون لِذلك لِشِدَّة الْهَول والفَزَع.

والثَّاني: أن التَّنَاكُر يَكُون عِنْد النَّفْخَة الأُولى، فَإذا كَانَتِ الثَّانِيَة قَامُوا فَتَعَارَفُوا وتَسَاءَلُوا

(4)

.

(1)

ثم رَوى بإسْنَاده إلى ابن عباس قوله في ذلك. وأسْند إلى ابن مسعود قوله أيضًا.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (7/ 56، 57).

(3)

تَعقّبه الناصر في حاشيته على الكشاف (ص 715) حول هذا الأسلوب. فليُنظَر.

(4)

الكشاف، مرجع سابق (ص 715).

ص: 229

وأوْجَز ابنُ عَطية الأقْوَال، فَقَال: اخْتَلَف الْمُتَأَوِّلُون في صِفَة ارْتِفَاع الأنْسَاب؛ فَقَال ابن عباس وغيره: هَذا في النَّفْخَة الأُولى. وذَلك أنَّ النَّاس بأجْمَعِهم يَمُوتُون فَلا يَكُون بَيْنَهم نَسَب في ذَلك الوَقْت وهُم أمْوَات.

ثم قَال: وهَذا التَّأوِيل يُزِيل مَا في الآيَة مِنْ ذِكْر هَوْل الْحَشْر.

وقال ابن مسعود وغَيره: إنَّما الْمَعْنَى: أنه عِنْد النَّفْخَة الثَّانِيَة وقِيَام النَّاس مِنْ القُبُور فَهُمْ حِينَئذٍ لِهَول الْمَطْلَع واشْتِغَال كُلّ امْرِئ بِنَفْسِه قَدْ انْقَطَعَت بَيْنَهم الوَسَائل، وزَال انْتِفَاع الأنْسَاب؛ فَلِذَلك نَفَاها. فَالْمَعْنَى: فَلا أنْسَاب.

ورُوي عن قَتادة أنه قَال: لَيْس أحَد أبْغَض إلى الإنْسَان في ذَلك اليَوْم مِمَّنْ يَعْرِف، لأنه يَخَاف أنْ تَكُون لَه عِنْدَه مَظْلَمَة. وفي ذَلك اليَوم يَفِرّ الْمَرْء مِنْ أخِيه وأُمِّه وأبِيه وصَاحِبَتِه وبَنِيه، ويَفْرَح كُلّ أحَدٍ يومَئذٍ أنْ يَكُون لَه حَقّ عَلى ابْنِه وأَبِيه، وقد وَرَدَ بِهَذَا حَدِيث.

وكَذلك ارْتِفَاع التَّسَاؤل والتَّعَارُف لِهَذِه الوُجُوه التي ذَكَرْنَاهَا، ثم تَأتِي في القِيَامَة مَوَاطِن يَكُون فِيها السُّؤَال والتَّعَارُف.

واسْتَحْسَن ابنُ عَطية هذا القول بقَوله: وهَذا التَّأوِيل حَسَن، وهو مَرْوِيّ الْمَعْنَى عن ابنِ عباس

(1)

.

وذَكَر الرازي وُجُوهًا في الْجَمْع بَيْن الآيَات، فَقَال في قَوله تَعالى:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27]: الآيَة تَدُلّ عَلى أنَّ الْمَسْألَة الْحَاصِلَة بَيْنَهم إنّما كَانَتْ عَلى سَبِيل أنَّ بَعْضَهم يَلُوم بَعْضًا، والدَّلِيل عَليه قَوله:(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[القلم: 30]

(2)

، وقَوله: (فَلا

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 156).

(2)

وهذا الاستدلال مُتعقّب من حيث إن الآية في قِصّة أصْحَاب الْجَنَّة، وليْسَتْ في الآخِرَة.

ص: 230

أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون: 101]، مَعْنَاه: أنه لا يَسْأل بَعْضُهم بَعْضًا عَلى سَبِيل الشَّفَقَة واللُّطْف؛ لأنَّ النَّسَب يُوجِب الْمَيْل والرَّحْمَة والإكْرَام

(1)

.

ولَه جَوَاب آخَر، وهو "أنَّ يَوْم القِيَامَة يَوْم طَوِيل ومَوَاقِفها كَثِيرَة، فأخْبَر عَنْ بَعْض الأوْقَات بِحُصُول السُّؤَال، وعَن بَعْضِها بِعَدم السُّؤَال"

(2)

.

كَمَا ذَكَر وُجُوهًا أُخَر في تَفْسِير سُورة الْمُؤمِنُون، فَقَال: أمَّا قَوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، فَمِنْ الْمَعْلُوم أنه سُبْحَانه إذَا أعَادَهم فَالأنْسَاب ثَابِتَة؛ لأنَّ الْمُعَاد هُو الوَلَد والوَالِد، فَلا يَجُوز أن يَكُون الْمُرَاد نَفْي النَّسَب في الْحَقِيقَة، بَلْ الْمُرَاد نَفْي حُكْمه وذَلك مِنْ وُجُوه:

أحَدها: أنَّ مِنْ حَقّ النَّسَب أن يَقَع بِه التَّعَاطُف والتَّرَاحُم، كَما يُقَال في الدُّنيا: أسْألُك بِالله والرَّحِم أن تَفْعَل كَذا، فَنَفَى سُبْحَانه ذَلك مِنْ حَيث إنَّ كُلّ أحَد مِنْ أهْل النَّار يَكُون مَشْغُولًا بِنَفْسِه، وذَلك يَمْنَعه مِنْ الالْتِفَات إلى النَّسَب.

وثَانِيها: أن يَحْصُل بِه التَّفَاخُر في الدُّنيا، وأن يَسْأل بَعْضُهم عَنْ كَيْفِيَّة نَسَب البَعْض، وفي الآخِرَة لا يَتَفَرَّغُون لِذلك.

وثَالِثها: أن يُجْعَل ذَلك اسْتَعَارَة عَنْ الْخَوف الشَّدِيد، فَكُلّ امْرِئ مَشْغُول بِنَفْسِه عَنْ بَنِيه وأخِيه وفَصِيلَتِه التي تُؤويه، فَكَيف بِسَائر الأُمُور؟

(3)

ثم أوْرَد مَا جَاء عَنْ ابنِ مسعود رضي الله عنه، وقَولَ قتادة: لا شَيء أبْغَض إلى الإنْسَان يَوْم القِيَامَة مِنْ أن يَرى مَنْ يَعرفه مَخَافَة أن يَثْبُت لَه عَليه شَيء

(4)

.

كما اسْتَشْهَد بِمَا في الْحَدِيث الْمَرْفُوع، وهو مَا جَاء عَنْ عَائشة رضي الله عنها حَيْث سَأَلَتْ: يا رَسُول الله! أمَا نَتَعَارَف يَوْم القِيَامَة؟ أسْمَع الله تعالى يَقُول: (فَلَا أَنْسَابَ

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (14/ 21) بتصرف يسير.

(2)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(3)

المرجع السابق (23/ 106).

(4)

المرجع السابق، الموضع السابق.

ص: 231

بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). فَقال عليه الصلاة والسلام: ثَلاث مَوَاطِن تَذْهَل فِيها كُلّ نَفْس: حِين يُرمَى إلى كُلّ إنْسَان كِتَابه، وعِنْد الْمَوَازِين، وعَلى جِسْر جَهَنَّم

(1)

.

وَرَدًّا عَلى الْمَلاحِدَة الذين طَعَنُوا في القُرْآن، وزَعَمُوا فِيه التَّنَاقُض بَيْن هَذه الآيَات فَقَال في الْجَمْع بَينها: مِنْ وُجُوه

(2)

:

أحَدها: أنَّ يَوْم القِيَامة مِقْدَاره خَمْسُون ألْفَ سَنَة، فَفِيه أزْمِنَة وأحْوَال مُخْتَلِفَة، فَيَتَعَارَفُون ويَتَسَاءَلُون في بَعْضِها، ويَتَحَيَّرون في بَعْضِها لِشِدَّة الفَزَع.

وثَانِيها: أنه إذا نُفِخَ في الصُّور نَفْخَة وَاحِدَة شُغِلُوا بأنْفُسِهم عَنْ التَّسَاؤل، فَإذا نُفِخَ فيه أُخْرَى أقْبَل بَعْضُهم عَلى بَعْض، وقَالُوا:(يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ)[يس: 52].

وثَالِثها: الْمُرَاد: لا يَتَسَاءَلُون بِحُقُوق النَّسَب.

ورَابِعها: أنَّ قَوله: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، صِفَة للكُفَّار، وذَلك لِشِدَّة خَوْفِهم. أمَّا قوله:(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، فهو صِفة أهْل الْجَنَّة إذا دَخَلُوها

(3)

.

واخْتَار ابن جُزيّ أنَّ مَعْنَى الآيَة (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ): أنه يَنْقَطِع يَومئِذٍ التَّعَاطُف والشَّفَقَة التي بَيْن القَرَابَة؛ لاشْتِغَال كُلّ أحَدٍ بِنَفْسِه، كَقَولِه:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس: 34، 35]، فَتَكُون الأنْسَاب كَأنّها مَعْدُومَة.

(وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، أي: لا يَسْأل بَعْضُهم بَعْضًا، لاشْتِغَال كُلّ أحَدٍ بِنَفْسِه.

ثم أوْرَد سُؤالًا قال فيه:

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (23/ 106)، وسيأتي تخريج الحديث (ص 237، 238).

(2)

وبعضها قَدَّمه أولًا ثم كَرَّرَه بعد ذلك.

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (23/ 106، 107).

ص: 232

فَإن قِيل: كَيف الْجَمْع بَيْن هَذا وبَيْن قَوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27]؟

فالْجَوَاب: أنَّ تَرْك التَّسَاؤل عِنْد النَّفْخَة الأُولى ثُمَّ يَتَسَاءَلُون بَعْد ذَلك، فَإنَّ يَوْم القِيَامَة يَوْم طَوِيل، فِيه مَوَاقِف كَثِيرَة

(1)

.

وفي تَفْسِير سُورَة النِّساء أوْرَد ابنُ كَثير قَول ابن مسعود رضي الله عنه

(2)

.

وقَال في تَفْسِير سُورَة الْمُؤمِنُون: يُخْبِر تعالى أنه إذا نُفِخَ في الصُّور نَفْخَة النُّشُور وقَام النَّاس مِنْ القُبُور (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، أي لا تَنْفَع الإنْسَان يَومئِذ ولا يَرْثِي وَالِد لِولَده ولا يَلوي عَليه. قَال الله تَعالى:(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)[المعارج: 10]، أي: لا يَسْأل القَرِيب قَرِيبَه وهو يُبْصِره، ولَو كَان عَليه مِنْ الأوْزَار مَا قَدْ أثْقَل ظَهْرَه، وهو كَان أعَزّ النَّاس عَليه في الدُّنيا مَا الْتَفَتَ إليه، ولا حَمَل عَنه وَزْن جَنَاح بَعُوضَة.

قَال الله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34، 37]

(3)

.

ثم أورَد ابن كثير قَول ابن مسعود رضي الله عنه في فَرَح القَرِيب أن يَكُون لَه الْحَقّ على قَرِيبِه، وأورَد أحَادِيث مَرْفُوعَة، مِنها:

قوله عليه الصلاة والسلام: مَا بالُ رِجَال يَقُولُونَ: إنَّ رَحِم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا تَنْفَع قَومَه؟ بَلَى والله، إنَّ رَحِمِي مَوْصُولَة في الدُّنيا والآخِرَة، وإني أيها

(1)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (3/ 56، 57).

(2)

المرجع السابق (4/ 51) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)[النساء: 40].

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 148).

ص: 233

النَّاس فَرَط لَكُمْ

(1)

إذا جِئتُم قَال رَجُل: يَا رَسُول الله أنا فُلان بن فُلان، فأَقول لَهم: أمَّا النَّسَب فَقَد عَرَفْتُ، ولَكِنَّكُم أحْدَثْتُم بَعْدِي، وارْتَدَدْتم القَهْقَرى

(2)

.

وقوله عليه الصلاة والسلام: كُلّ سَبَب ونَسَب فإنّه مَنْقَطِع يَوْم القِيَامَة إلَّا سَبَبِي ونَسَبِي

(3)

. رواه الطبراني

(4)

والبزار

(5)

والهيثم بن كليب

(6)

والبيهقي

(7)

والحافظ الضياء في ((المختارة))

(8)

(9)

.

وفي "مَحَاسِن التَّأوِيل": (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) أي: لِشِدَّة الْهَوْل مِنْ هُجُوم مَا شَغَل البَال حَتى زَال بِه

(10)

التَّعَاطُف والتَّآلُف، إذ (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ

(1)

هكذا في تفسير ابن كثير، وفيه سَقط، ففي المسند (ح 11138): وأني أيها الناس فرط لكم على الحوض، فإذا جِئتُم قَال رَجُل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقَال أخوه: أنا فلان بن فلان.

وفي المسند (ح 11345): تزعمون أن قرابتي لا تنفع قومي، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة؛ إذا كان يوم القيامة يرفع لي قوم يؤمر بهم ذات اليسار، فيقول الرجل: يا محمد أنا فلان بن فلان، ويقول الآخر: أنا فلان ابن فلان، فأقُول: أما النسب قد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي، وارتددتم على أعقابكم القهقرى.

(2)

قال القاسمي محاسن التأويل (11/ 318): رَوَى هنا بعض المفسرين أخبارًا في نفع النسب النبوي. وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين، أو في مسانيد من التزم الصحة. اهـ.

وهذا الحديث عزاه ابن كثير إلى مسند أحمد، وقال محققو المسند (17/ 221) عن هذا الحديث: صحيح لغيره.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

(ح 2633) و (ح 2634) و (ح 2635)، وفي الأوسط (ح 5606).

(5)

ح (274).

(6)

وهو "الحافظ المحدث الثقة: أبو سعيد الهيثم بن كليب بن شريح بن معقل المعقلي الشاشي، محدث ما وراء النهر، ومؤلف المسند الكبير"(تذكرة الحفاظ، الذهبي 3/ 848). ولم أجد الحديث في مسنده، إذ لم يطبع مسنده كاملًا.

(7)

(ح 13171) وقال: وهو مرسل حسن، وقد روي من أوجه أخر موصولًا ومرسلًا، ورواه أيضًا (ح 13172) و (ح 13438).

(8)

(ح 101) من طريق الطبراني، كما سبق.

(9)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 150).

(10)

أي بما هجم من الهول فأشغل البال.

ص: 234

مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37]، ونَفْي نَفْع السَّبَب إذا دَهَم مِثْل هَذا مَعْرُوف

(1)

.

ثم أورَد القَاسمي مَعْنَى (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، فَقَال: لا يَسْأل بَعْضُهم بَعْضًا، لِعِظَم الْفَزَع، وشِدَّة مَا بِهِمْ مِنْ الأهْوَال، وذُهُولِهم عَمَّا كَان بَيْنَهم مِنْ الأحْوَال، فَتَنْقَطِع العَلائق والوُصَل التي كَانَتْ بَيْنَهم، وجَلِيّ أن نَفْي التَّسَاؤل إنّما هو وَقْت النَّفْخ، كَمَا دَلّ عَليه قَوله:(فَإِذَا) أي: فَوَقْت القِيَام مِنْ القُبُور، وهَوْل الْمَطْلَع، يَشْتَغِل كُلٌّ بِنَفْسِه. وأمَّا مَا بَعْدَه فَقَد يَقَع التَّسَاؤل، كَمَا قَال تَعالى:(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)[الصافات: 27]؛ لأنَّ يَوْم القِيَامة يَوْم مُمْتَدّ، فَفِيه مَشَاهِد ومَوَاقِف، فَيَقَع في بَعْضِها تَسَاؤل، وفي بَعْضِها دَهْشَة تَمْنَع مِنه

(2)

.

واخْتَار الشنقيطي "أنَّ الْمُرَاد بِنَفْي الأنْسَاب انْقِطَاع فَوَائِدها وآثَارِها التي كَانت مُتَرَتِّبَة عَليها في الدُّنيا مِنْ العَوَاطِف والنَّفْع، والصِّلات والتَّفَاخُر بالآبَاء، لا نَفْي حَقِيقَتِها"

(3)

.

وأمَّا نَفْي السُّؤال عَنه مِنْ ثَلاثَة أوْجُه، هي:

الأوَّل: أنّ نَفْي السُّؤَال بَعْد النَّفْخَة الأُولى وقَبْل الثَّانِيَة، وإثْبَاته بَعْدَهما مَعًا.

الثَّاني: أنَّ نَفْي السُّؤال عِنْد اشْتِغَالِهم بِالصَّعْق والْمُحَاسَبَة والْجَوَاز عَلى الصِّرَاط، وإثْبَاته فِيما عَدا ذَلك.

الثَّالِث: أنَّ السُّؤال الْمَنْفِي سُؤال خَاصّ، وهو سُؤَال بَعْضِهم العَفْو مِنْ بَعْض فِيمَا بَيْنَهم مِنْ الْحُقُوق لِقُنُوطِهم مِنْ الإعْطَاء، ولَو كَان الْمَسْؤول أبًا أوْ ابْنًا أوْ أمًا أوْ زَوْجَة.

(1)

(11/ 317).

(2)

محاسن التأويل، مرجع السابق (11/ 317).

(3)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 145، 146).

ص: 235

قَال: ذَكَرَ هذِه الأوْجُه الثَّلاثَة أَيضًا صَاحِب الإتْقَان

(1)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَات، ومَا تُوهِّم مِنْ تَعارض يُجَاب عَنه بأنَّ نَفْي السُّؤال في قَوله تَعالى:(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)"جَلِيّ أنَّ نَفْي التَّسَاؤل إنّمَا هو وَقْت النَّفْخ"

(2)

يَعني في الصُّور.

ووَقْت النَّفْخ في الصُّور - النَّفْخَة الأُولى - هو وَقْت الزَّلْزَلَة، وذَلك حِين (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2].

"قَال تَعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج: 1] أي: أمْرٌ كَبِير، وخَطْبٌ جَلِيل، وطارِق مُفْظِع، وحَادِث هَائل، وكَائن عَجِيب. والزِّلْزَال هُو مَا يَحْصُل للنُّفُوس مِنْ الرُّعْب والفَزَع"

(3)

.

وذَلك الذُّهُول وانْقِطَاع السُّؤال حِين "يَقُول الله: يَا آدَم، فَيَقُول: لَبَّيْك وسَعْدَيك، والْخَيْر في يَدَيك. قَال: يَقُول: أخْرِج بَعْثَ النَّار. قَال: ومَا بَعْثُ النَّار؟ قَال: مِنْ كُلّ ألف تِسْعُمائة وتِسْعَة وتِسْعِين؛ فَذَاك حِين يَشِيب الصَّغِير، وتَضَع كُلّ ذَاتِ حَمْل حَمْلها، وتَرَى النَّاس سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، ولَكِنَّ عَذَاب الله شَدِيد"

(4)

.

وفي أخْبَار آخِر الزَّمَان: "ثم يُنْفخ في الصُّور فَلا يَسْمَعه أحَد إلَّا أصْغَى لَيْتًا ورَفَع لَيْتًا

(5)

. قَال: وأوَّل مَنْ يَسْمَعه رَجُل يَلُوط حَوْض إبِلِه. قَال: فيُصْعَق ويُصْعَق النَّاس،

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 145، 146). ويُنظر: الإتقان (2/ 73، 74).

(2)

كما قال القاسمي في محاسن التأويل، مرجع السابق (11/ 317).

(3)

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (10/ 11).

(4)

رواه البخاري (ح 6165)، ومسلم (ح 222).

(5)

قال النووي (المنهاج 18/ 76): الليْت: صَفْحَة العُنُق، وهي جانبه. وأصْغَى: أمَال.

ص: 236

ثم يُرْسِل الله - أوْ قَال: يُنْزِل الله - مَطَرًا كَأنّه الطَّلّ - أوْ الظِّل - فَتَنْبُت مِنه أجْسَاد النَّاس، ثم يُنْفَخُ فِيه أُخْرى، فَإذَا هُمْ قِيَام يَنْظُرُون، ثم يُقَال: يَا أيّها النَّاس هَلُمّ إلى رَبِّكُم، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات: 24]. قَال: ثم يُقَال: أخْرِجُوا بَعْثَ النَّار. فيُقال: مِنْ كَم؟ فيُقَال: مِنْ كُل ألْف تِسْعُمِائة وتِسْعَة وتِسْعِين. قَال: فَذَاك يَومَ يَجْعَلُ الوِلْدَان شِيْبًا، وذَلك يَومَ يُكْشَف عن سَاق"

(1)

.

وقد الْتَقَم إسْرَافِيل القَرْن، وأحْنَى جَبْهَتَه؛ يَنْتَظِر مَتَى يُؤمَر بالنَّفْخ، وهذا مِمَّا أهَمّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في الدُّنيا، حَيْث قَال عليه الصلاة والسلام: كَيف أنْعَم وصَاحِب القَرْن قَدْ الْتَقَم القَرْن، واسْتَمَع الإذْن مَتَى يُؤمَر بِالنَّفْخ، فَيَنْفُخ

(2)

.

ويَكون انْشِغَال كُلّ إنْسَان بِنَفْسِه في مَوَاطِن في يَوْم القِيَامَة، وقَد دَلَّتِ السُّنَّة عَلى ذَلك.

فَعَن عَائشة أنّها ذَكَرَتِ النَّار فَبَكَتْ، فَقَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيك؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّار فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرون أهْلِيكُم يَوْم القِيَامَة؟ فَقَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا في ثَلاثَة مَوَاطِن فَلا يَذْكُر أحَدٌ أحَدا: عِنْد الْمِيزَان حَتَّى يَعْلَم أيخِفّ مِيزَانه أوْ يَثْقُل، وعِنْد الكِتَاب حِين يُقَال:(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة: 19] حتى يَعْلَم أين يَقَع كِتَابه، أفِي يَمِينه أمْ في شِمَاله أمْ مِنْ وَرَاء ظَهْره؟ وعِنْد الصِّرَاط إذا وُضِعَ بَيْن ظَهْرَي جَهَنَّم

(3)

.

(1)

رواه البخاري (3170)، ومسلم (ح 2940).

(2)

رواه من حديث أبي سعيد: أحمد (ح 11039)، والترمذي (ح 2431)، وقال: هذا حديث حسن. وقال مُحققو المسند: حديث صحيح.

ورواه من حديث ابن عباس: ابن أبي شيبة (ح 29587)، وأحمد (ح 3008) وقال مُحققو المسند: حسن لغيره.

(3)

رواه أبو داود (ح 4755)، والحاكم (8722) وقال: هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين، لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صَحّت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة. اهـ فالحديث ضعيف لانقطاعه؛ لأنه من رواية الحسن عن عائشة رضي الله عنها.

ولعنعنة الحسن، وهو مدلس، وضعف ابن حجر حديثًا آخر بسبب رواية الحسن عن عائشة، حيث قال في "فتح الباري"(8/ 522) الحسن لم يسمع من عائشة، فهو ضعيف.

ورواه أسد بن موسى في "الزهد"(ص 51) من طريق الشعبي عن عائشة، وفيه انقطاع.

قال ابن معين: ما روى الشعبي عن عائشة فهو مرسل. "تاريخ ابن معين رواية الدوري"(3/ 485).

ص: 237

وفي رِوَاية مُخْتَصَرَة: قَالَتْ عَائشة: يَا رَسول الله هَلْ تَذْكُرُون أهْلِيكُم يَوْم القِيَامَة؟ قَال: أمَّا في مَوَاطِن ثَلاثَة فَلا: الكِتَاب، والْمِيزَان، والصِّرَاط

(1)

.

وفي رواية: قَالَتْ: قُلْت: يَا رَسُول الله هل يَذْكُر الْحَبِيب حَبِيبَه يَوْم القِيَامَة؟ قَال: يَا عَائشة أمَّا عِنْد ثَلاث فَلا: أمَّا عِنْد الْمِيزَان حَتى يَثْقُل أوْ يَخِفّ؛ فَلا، وأمَّا عِنْد تَطَايُر الكُتُب، فَإمَّا أن يُعْطَى بِيَمِينِه أوْ يُعْطَى بِشِمَاله؛ فَلا، وحِين يَخْرُج عُنُق مِنْ النَّار فَيَنْطَوي عَلَيهم ويَتَغَيَّظ عَليهم

(2)

.

فَهذه مَوَاطِن لا يَذكُر فيها أَحَدٌ أحَدًا، ولا يَسْأل فِيها حَمِيم عَنْ حَمِيمِه، ولا وَالِد عَنْ وَلَده.

وأمَّا قَوله تَعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) [طه: 102 - 104] فَهَذا مَحْمُول عَلى مَا بَعْد النَّفْخَة الثَّانِيَة، لأنَّ الْحَشْر يَكُون بَعْد النَّفْخَة الثَّانِيَة، وتَهَامُس القَوْم ومُخافَتَتهم في الْمَحْشَر، وهو في الْمَوَاطِن التي يَكُون فيها سُؤَال ومُرَاجَعَة.

ويَتَسَاءَل أهْل الْجَنَّة في الْجَنَّة عَمَّا كَان في الدُّنيا، ويَسْألُون عَنْ أقْوَام كَادُوا أن يُضِلُّوهُم، وهَذا يَدُلّ عَليه قَوْلُه تَعالى حِكَايَة عن تَحَاوُر أهْل الْجَنَّة:(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا

(1)

رواه أحمد (ح 24696)، وهي كسابقتها من رواية الحسن عن عائشة.

(2)

رواه أحمد (ح 24793) وفي إسناده: ابن لهيعة، وهو ضعيف، إلا أنها تشهد للرواية السابقة.

والحديث ورواه الحاكم (ح 8722) وقال: هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين لولا إرْسَال فيه بين الْحَسَن وعَائشة، على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل - وهو صبي - منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة.

وقال الهيثمي (المجمع 10/ 359): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة؛ وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقال الحسيني (البيان والتعريف 1/ 162): وفي سند أحمد بن لهيعة، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 238

أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 50 - 57].

وأمَّا قوله عليه الصلاة والسلام: "كُلّ سَبَبٍ ونَسَبٍ يَنْقَطِع إلَّا سَبَبِي ونَسَبِي" فهو لا يَتَعَارَض مَع مَا تَقَدَّم من نَفْي نَفْع النَّسَب في الآخِرَة، ولا مَع قَوْلِه صلى الله عليه وسلم: يا بَنِي عَبْد مَنَاف لا أُغْنِي عَنْكم مِنْ الله شَيْئا، يَا عَبَّاس بن عبد المطلب لا أُغْنِي عَنْك مِنْ الله شَيْئا، ويَا صَفِيَّة عَمَّة رَسُول الله لا أُغْنِي عَنْك مِنْ الله شَيْئًا، ويَا فَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد سَلِينِي مَا شِئتِ مِنْ مَالِي لا أُغْنِي عَنْك مِنْ الله شَيئا

(1)

.

فإنَّ النَّسَب لا يَنْفَع وحْدَه، فإذا لَم يَكُنْ ثَمَّت عَمَل صَالِح لَم يَنتَفِع صَاحِب النَّسَب الشَّرِيف بِنَسَبِه.

ويَدُلّ عَلى هَذا قَولُه صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَطَّأ بِه عَمَله لَم يُسْرِع بِه نسَبه

(2)

.

"فَلَو كَان الله نَافِعًا أحَدًا بِقَرَابَتِه مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِغَيْر طَاعَة لَنَفَع أبَاه وأمَّه"

(3)

.

وأمَّا إذا وُجِد النَّسَب الشَّرِيف مَع الْعَمَل الصَّالِح فَهَذا يَنْفَع، ولا يَنْقَطِع مَعَه النَّسَب ولا السَّبَب، وهذا مَا حَمَل عُمر رضي الله عنه على التَّزوُّج بابنَة عليّ رضي الله عنه، مُعلِّلًا ذلك بما سَمِعَه مِنْ النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِه:"كُلّ سَبَبٍ ونَسَبٍ يَنْقَطِع إلَّا سَبَبِي ونَسَبِي"

(4)

.

(1)

رواه البخاري (ح 2602)، ومسلم (ح 203).

(2)

رواه مسلم (ح 2699).

(3)

هذا مِنْ قَوْل الْحَسَن بن الْحَسَن. (سير أعلام النُّبَلاء، الذهبي (4/ 486).

(4)

سَبَق تخريج هذا الحديث، وفي طرقه سبب حرص عمر رضي الله عنه على مصاهرة علي رضي الله عنه.

ص: 239

‌المثال الخامس:

اسْتِبْعَاد زَكَريا عليه الصلاة والسلام أن يُرْزَق بِوَلَد:

قَوله تَعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آل عمران: 38]، مَع قَوله تَعالى:(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)[آل عمران: 40] وقَوله تَعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)[مريم: 8].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى: تَدُلّ عَلى أنَّ زَكَرِيَّا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لَيْس لَه شَك في قُدْرَة الله عَلى أن يَرْزُقه الوَلَد عَلى مَا كَان مِنه مِنْ كِبَر السِّن، وقَد جَاء في آيَة أُخْرَى مَا يُوهِم خِلاف ذَلك، وهي قَوله تَعالى:(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) الآيَة

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في مُبتَدَأ ذلك، وهو سَبَب الدُّعَاء، ومَا كَان مِنْ كَفَالة زَكَرِيّا عليه الصلاة والسلام لِمَرْيَم عليها السلام: وكَان زَكَرِيّا إذا دَخَل عليها يَجِدْ عِنْدَها فَاكِهَة الشِّتَاء في القَيْظ، وفَاكِهَة القَيْظ في الشِّتَاء، فَقَال: يَا مَرْيم أنَّى لَكِ هَذا؟ فَقَالَتْ: هُو مِنْ عِنْد الله، فَعِنْد ذَلك طَمِع زَكَرِيّا في الوَلَد، وقَال: إنَّ الذي يَأتِيها بِهَذا قَادِر أن يَرْزُقني وَلَدًا

(2)

.

وقَال: دَلَّتْ هَذه الآيَة على طَلَب الوَلَد، وهي سُنَّة الْمُرْسَلِين والصِّدِّيقِين. قَال الله تَعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38].

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 35).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 72).

ص: 240

وفي صَحِيح مُسْلِم

(1)

عن سَعد بن أبي وَقَّاص قال: أرَادَ عُثْمَان

(2)

أن يَتَبَتَّل، فَنَهَاه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولَو أجَازَ لَه ذَلك لاخْتَصَينَا.

وخَرَّج ابنُ مَاجَه

(3)

عن عَائشة قالَت: قَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: النِّكَاح مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَم يَعْمَل بِسُنَّتِي فَلَيْس مِنِّي، وتَزَوَّجُوا فَإني مُكَاثِر بِكُمْ الأُمَم، ومَن كَان ذَا طَوْل فَلْيَنْكِح، ومَن لَم يَجِد فَعَلَيْه بالصَّوْم، فَإنه لَه وِجَاء.

وفي هَذا رَدّ عَلى بَعْض جُهَّال الْمُتَصَوِّفَة، حَيْث قَال: الذي يَطْلُب الوَلَد أحْمَق، ومَا عَرَفَ أنه هُو الغَبِيّ الأخْرَق! قَال الله تَعالى مُخْبِرًا عن إبْراهيم الْخَلِيل:(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)[الشعراء: 84]، وقَال:(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)[الفرقان: 74]. وقَد تَرْجَم البُخاري

(4)

على هذا: بَاب طَلَب الوَلَد.

وقَال في قَوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ): وفي مَعْنَى هَذَا الاسْتِفْهَام وَجْهَان:

أحَدُهما: أنّه سَأل هَلْ يَكُون لَه الوَلَد وهو وامْرَأته عَلى حَالَيْهِما أوْ يُرَدَّان إلى حَال مَنْ يَلِد؟

الثَّاني: سَأل هَلْ يُرْزَق الوَلَد مِنْ امْرَأته العَاقِر، أوْ مِنْ غَيْرِها؟

وقِيل: الْمَعْنَى: بِأيّ مَنْزِلة أسْتَوْجِب هَذا، وأنا وامْرَأتي عَلى هَذه الْحَال؟ عَلى وَجْه التَّوَاضُع.

ويُرْوَى أنه كَان بَيْن دُعَائه والوَقْت الذي بُشِّرَ فِيه أرْبَعُون سَنَة، وكَان يَوْم بُشِّرَ ابن تِسْعِين سَنَة، وامْرَأته قَرِيبَة في السِّنّ مِنْه.

(1)

(ح 1402)، ورواه البخاري (ح 4786).

(2)

هو ابن مظعون رضي الله عنه. وقد جاء مُصرّحًا به في الرِّواية.

(3)

(ح 1846). وقال ابن حجر (التلخيص 3/ 116): وفي إسناده عيسى بن ميمون، وهو ضعيف. وقد صحَّحه الألباني بمجموع طُرُقه. (الصحيحة ح 2383) وآخِر الحديث مُخرَّج في الصحيحين من حديث ابن مسعود. البخاري (ح 1806)، ومسلم (ح 1400).

(4)

الصحيح (5/ 2008).

ص: 241

وقال ابن عباس والضحاك: كَان يَوْم بُشِّرَ ابن عِشْرِين ومِائة سَنَة، وكَانت امْرَأته بِنْت ثَمَان وتِسْعِين سَنَة؛ فَذَلك قَوله:(وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) أي: عَقِيم لا تَلِد

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورَة مَرْيم:

لَيْس عَلى مَعْنَى الإنْكَارِ لِمَا أخْبَر الله تَعالى بِه، بَلْ على سَبِيل التَّعَجُّب مِنْ قُدْرَة الله تَعالى أن يُخْرِج وَلَدًا مِنْ امْرَأة عَاقِر وشَيْخ كَبِير

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

مَشْرُوعِيَّة طَلَب الوَلَد، وأنَّ زَكَرِيّا عليه السلام سَأل الله ذُرِّيَّة طَيِّبَة قَبْل أن يُبَشَّر بِمُدّة طَويلَة.

2 -

في مَعْنَى هَذا الاسْتِفْهَام في قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) وجْهَان:

أحَدَهما: سَأل هَلْ يَكُون لَه الوَلَد وهو وامْرَأته عَلى حَالَيْهِمَا أوْ يُرَدَّان إلى حَال مَنْ يَلِد؟

الثَّاني: سَأل هَلْ يُرْزَق الوَلَد مِنْ امْرأته العَاقِر، أوْ مِنْ غَيْرِها؟

فلا يَكُون الاسْتِفْهَام عَلى الشَّكّ في القُدْرَة.

3 -

الْمَعْنَى: بأيّ مَنْزِلة أسْتَوْجِب هَذا، وأنا وامْرَأتي عَلى هَذه الْحَال؟

4 -

لَيْس عَلى مَعْنَى الإنْكَار لِمَا أَخْبَر الله تَعالى بِه، بَلْ عَلى سَبِيل التَّعَجُّب مِنْ قُدْرَة الله.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أوْرَد ابن جرير الإشْكَال على صِيغَة سُؤَال، فَقَال: فَإن قَال قَائل: وكَيف قَال زَكَرِيّا - وهو نَبِيّ الله -: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)، وقَد بَشَّرَتْه

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 80).

(2)

المرجع السابق (11/ 80).

ص: 242

الْمَلائكَة بِمَا بَشَّرَتْه بِه عَنْ أمْر الله إيَّاها بِه؟ أشَكّ في صِدْقِهِم؛ فَذَلك مَا لا يَجُوز أن يُوصَف بِه أهْل الإيمان بالله، فَكَيف الأنْبِيَاء والْمُرْسَلُون؟ أمْ كَان ذَلك مِنه اسْتِنْكَارًا لِقُدْرَة رَبِّه؛ فَذَلك أعْظَم في البَلِيَّة؟

قِيل: كَان ذَلك مِنه صلى الله عليه وسلم على غَير مَا ظَنَنْتَ، بَلْ كَان قِيلِه مَا قَال مِنْ ذَلك

(1)

.

ثم رَوى بإسْناده إلى السُّدّي أنه قَال: لَمَّا سَمِع نِدَاء الْمَلائكَة بالبِشَارَة بِيَحْيَى جَاءَه الشَّيْطَان، فَقَال لَه: يَا زَكَرِيّا إنَّ الصَّوت الذي سَمِعْت لَيْس هو مِنْ الله، إنّما هُو مِنْ الشَّيْطَان يَسْخَرُ بِك، ولَو كَان مِنْ الله أوْحَاه كَمَا يُوحِي إلَيك في غَيْرِه مِنْ الأمْر، فَشَكّ مَكَانَه، وقَال:(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ذَكَر، يَقُول: ومِن أين: (وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)؟

ورَوَى بإسْنَادِه إلى عِكْرِمَة أنّه قَال: فَأتَاه الشَّيْطَان فأرَاد أن يُكَدِّر عَليه نِعْمَة رَبِّه، فَقَال: هَلْ تَدْرِي مَنْ نَادَاك؟ قَال: نَعَم، نَادَتْنِي مَلائكَة رَبِّي. قَال: بَلْ ذَلك الشَّيْطَان لَو كَان هذا من ربك لأخْفَاه إلَيك كَمَا أخْفَيتَ نِدَاءك. فَقَال: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)[آل عمران: 41]، [مريم: 10].

فَكَان قَوله مَا قَال مِنْ ذَلك، ومُرَاجَعَته رَبِّه فِيمَا رَاجَع فِيه بِقَولِه:(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) للوَسْوَسَة التي خَالَطَتْ قَلْبَه مِنْ الشَّيْطَان حَتَّى خَيَّلَتْ إلَيه أنَّ النِّدَاء الذي سَمِعَه كَان نِدَاء مِنْ غَير الْمَلائكَة، فَقَال:(رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) مُسْتَثْبِتًا في أمْرِه لِيَتَقَرَّرَ عِنْدَه بآيَةٍ يُرِيه الله في ذَلك أنّه بِشَارَة مِنْ الله عَلى ألْسُن مَلائكَته، ولِذَلك قَال:(رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً).

وقَد يَجُوز أن يَكُون قِيلُه ذَلك مَسْألة مِنْه رَبَّه، مِنْ أيّ وَجْه يَكُون الوَلَد الذي بُشّرَ بِه، أمِن زَوْجَتِه؟ فَهي عَاقِر، أمْ مِنْ غَيْرِها مِنْ النِّسَاء؟ فَيَكُون ذَلك عَلى غَيْر الوَجْه الذي قَاله عِكْرِمة والسُّدّي، ومَن قَال مِثْل قَوْلهما

(2)

.

(1)

أي أنَّ قَول زَكريا عليه السلام لم يَكن مِنْ هَذا القَبيل، وإنما مِنْ قَبِيل مَا سَيَرْويه عقبه.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 382، 383).

ص: 243

واخْتَار السمرقندي أنَّ زَكَرِيا عليه السلام قَال ذَلك عَلى وَجْه التَّعَجُّب لا عَلى وَجْه الشَّك

(1)

.

وفي تَفْسِير سُورَة مَرْيم قَال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ): يَعْنِي: مِنْ أيْن يَكُون لِي وَلَد؟ ويُقَال: إنّمَا قَال ذَلك عَلى وَجْه الدُّعَاء لله تَعالى، فَقَال: يَا رَبّ مِنْ أيْن يَكُون لِي وَلَد وكَانَت امْرَأتِي عَاقِرا مِنْ الوَلَد، وقَد بَلَغْتُ مِنْ الكِبَر عِتِيّا؟ يَقُول: تَحَوَّل العَظْم مِنِّي يَابِسًا

ولم يَكُنْ زَكَرِيّا شَاكًّا في بِشَارَة الله عز وجل، ولَكِن أحَبّ أن يَعْلَم مِنْ أيّ وَجْهَ يَكُون؟

(2)

واقتصر السمعاني في تَفْسِير "آل عمران" عَلى جَوَاب مُخْتَصَر، فَقَال: فَإن قِيل: كَان شَاكًّا في وَعْد الله تَعالى حِين قَال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ)؟

قِيل: إنّمَا قَالَه عَلى سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْني: مِثْلِي عَلَى هَذا الكِبَر مِنْ مِثْل هَذِه العَجُوز يَكُون لَه الوَلَد؟

وقِيل: مَعْنَاه: كَيف يَكُون لي هَذا الغُلام؟ أتَرُدّني لِحَالَة الشَّبَاب، أمْ يَكُون الغُلام عَلى حَال الكِبَر؟

(3)

وأمَّا في سُورة مَرْيم فأوْرَد قَوْلَين في الآيَة، وضَعَّف أحَدَهما، فَقَال: وقِيل: كَيف سَأل الله الوَلَد، فَلَمَّا أُجِيب قَال:(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ)؟

والْجَوَاب عَنه مِنْ وَجْهَين:

أحَدهما: أنّه كَان قَال حَال الشَّبَاب، ثُمّ إنّه أُجِيب في حَال الكِبَر، وهَذا قَوْل ضَعِيف.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 236).

(2)

المرجع السابق (2/ 369).

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 316).

ص: 244

القَول الثَّاني: أنَّ مَعْنَاه: أَنّى يَكُون لي غُلام؟ يَعْنِي: كَيف يَكُون لي غُلام، أفَتَرُدّني إلى حَال الشَّبَاب، أوْ تَهَب لي الغُلام وأنا شَيْخ؟

وقِيل: إنه سَأل الوَلَد مُطْلَقًا لا مِنْ هَذه الْمَرْأة، فَقَال: كَيف يَكُون لي الغُلام أمِن هَذِه الْمَرْأة أوْ مِنْ غَيْرها؟

(1)

وأورَد الثعلبي إشْكَالًا، ثم أجَاب عَنه، فَقَال: فَإن قِيل: لِمَ تَنَكّر زَكَرِيّا ذَلك، وسَأل الآيَة بَعْدَمَا بَشَّرَتْه بِه الْمَلائكَة؟ أكَان ذَلك شَكّ في صِدْقِهم، أمْ أنَّ ذَلك مِنْه اسْتِنْكَارًا لِقُدْرَة رَبّه؟ وهَذا لا يَجُوز أن يُوصَف بِه أهْل الإيمان، فَكَيف الأنْبِيَاء عليهم السلام؟

قِيل: إنَّ الْجَواب عَنه مَا رَوَى عِكْرِمَة والسُّدّي أنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِع نِدَاء الْمَلائكَة جَاءه الشَّيْطَان، فَقَال: يَا زَكَرِيّا إنَّ الصَّوت الذي سَمِعْتَه لَيْس مِنْ الله، إنّما هُو مِنْ الشَّيْطَان يَسْخَرُ بِك، ولَو كَان مِنْ الله لأوْحَاه إليك خَفِيّا، كَمَا نَادَاك خَفِيّا

(2)

، وكمَا يُوحِي إليك في سَائر الأمُور. فَقَال ذَلك دَفْعًا للوَسْوَسَة.

والْجَوَاب الثَّاني: إنه لَم يَشُكّ في الوَلَد، وإنّمَا شَكّ في كَيْفِيَّتِه، والوَجْه الذي يَكُون مِنه الوَلَد، فَقَال: أنَّى يَكُون لي وَلَد؟ أي: فَكَيْف يَكُون لي وَلَد؟ أتَجْعَلني وامْرَأتي شَابَّيْن؟ أم تَرْزُقنا وَلَدًا عَلى كِبَرِنا؟ أمْ تَرْزُقني مِنْ امْرَأتي أوْ غَيْرها مِنْ النِّسَاء؟ قَال ذَلك مُسْتَفْهِمًا لا مُنْكِرًا؛ وهَذا قَول الْحَسَن وابن كَيْسَان

(3)

.

واقْتَصَر الزمخشري على قَولِه: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ): اسْتِبْعَاد مِنْ حَيْث العَادَة، كمَا قَالَتْ مَرْيم.

(وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) كَقَولِهم: أدْرَكَتْه السِّن العَالِية.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (3/ 1280).

(2)

في رواية ابن جرير: كما أخفيت نداءك.

(3)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (3/ 66).

ص: 245

والْمَعْنَى: أثَّر فيَّ الكِبَر فأضْعَفَني، وكَانَت لَه تِسْع وتِسْعُون سَنَة، ولامْرَأته ثَمَان وتِسْعُون

(1)

.

وذَكَرَ ابنُ عطية الْخِلاف بَيْن الْمُفَسِّرِين، فأوْرَد قَول عكرمة والسدي في قَول الشَّيْطان لِزَكَرِيّا عليه السلام، ورَجَّح مَا ذَهب إليه ابن جرير، فَقَال: وذَهَب الطَّبَرِي وغَيره إلى أنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأى حَال نَفْسِه وحَال امْرَأته، وأنَّهَا لَيْسَت بِحَال نَسْل، سَأل عَنْ الوَجْه الذي بِه يَكُون الغُلام: أتُبَدَّل الْمَرْأة خِلْقَتها، أم كَيف يَكُون؟

واسْتَحْسَن هذا بِقَولِه: وهَذا تَأوِيل حَسَن يَلِيق بِزَكَرِيَّا عليه السلام.

وقَال مَكّي: وقِيل: إنَّمَا سَأل لأنَّه نَسِي دَعَاءه لِطُول الْمُدَّة بَيْن الدُّعَاء والبِشَارَة، وذَلك أرْبَعُون سَنَة.

وضَعَّف ابن عطية هذا بقولِه: وهَذا قَول ضَعِيف الْمَعْنَى

(2)

.

وكَرَّر هذه الأقْوَال في تَفْسِير سُورَة مَرْيم.

وأوْرَد الرازي في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) سُؤالات:

السُّؤال الثَّاني

(3)

: لَمَّا كَان زَكَرِيّا عليه السلام هُو الذي سَأل الوَلَد ثُم أجَابَه الله تَعالى إليه، فَلِمَ تَعَجَّب مِنه، ولِمَ اسْتَبْعَده؟

الْجَوَاب: لمَ يَكُنْ هَذا الكَلام لأجْل أنّه كَان شَاكًّا في قُدْرَة الله تَعالى عَلى ذلك، والدَّلِيل عَليه وَجْهَان:

الأوَّل: أنَّ كُلّ أحَد يَعْلَم أنَّ خَلْق الوَلَد مِنْ النُّطْفَة إنّمَا كَان عَلى سَبِيل العَادَة.

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 171).

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 431).

(3)

السُّؤال الأوّل لا عِلاقَة له بِهَذا المبحث.

ص: 246

والوَجْه الثَّاني: أنَّ زَكَرِيا عليه السلام طَلَب ذَلك مِنْ الله تَعالى، فَلَو كَان ذَلك مُحَالًا مُمْتَنِعًا لَمَا طَلَبَه مِنْ الله تَعالى، فَثَبَتَ بِهَذين الوَجْهَين أنَّ قَولَه:(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) لَيْس للاسْتِبْعَاد، بَلْ ذَكَر العُلَمَاء فِيه وُجُوهًا:

الأوَّل: أنَّ قَوله: (أَنَّى) مَعْنَاه: مِنْ أين؟ ويُحْتَمَل أن يَكُون مَعْنَاه: كَيف تُعْطِي وَلَدًا على القِسْم الأوَّل، أمْ على القِسْم الثَّاني؟

(1)

وذلك لأنَّ حُدُوث الوَلَد يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يُعِيد الله شبابه ثم يُعْطِيه الولد مع شيخوخته.

والثاني: أنَّ مَنْ كَان آيِسًا مِنْ الشيء مُسْتَبْعِدًا لِحُصُولِه ووقُوعِه إذا اتّفَق أنْ حَصَل لَه ذلك الْمَقْصُود فَرُبّمَا صَار كالْمَدْهُوش مِنْ شِدّة الفرح، فَيَقُول: كَيف حَصَل هَذا؟ ومِن أين وَقَع هذا؟

(2)

الثَّالِث: أنَّ الْمَلائكَة لَمَّا بَشَّرُوه بـ (يَحْيَى) لَم يَعْلَم أنه يُرْزَق الوَلَد مِنْ جِهَة أُنْثَى أوْ مِنْ صُلْبِه، فَذَكَر هَذا الكَلام لِذَلك.

الاحْتِمَال الرَّابِع: أنَّ العَبْد إذا كَان في غَايَة الاشْتِيَاق إلى شَيء فَطَلَبَه مِنْ السَّيِّد ثُم إنَّ السَّيِّد يَعِدُه بأنّه سَيُعْطِيه بَعْد ذَلك فالْتَذّ السَّائل بِسَماع ذَلك الكَلام فَرُبَّمَا أعَاد السُّؤَال لِيُعِيد ذَلك الْجَوَاب، فَحِينَئذ يَلْتَذّ بِسَمَاع تِلك الإجَابَة مَرَّة أُخْرَى؛ فَالسَّبَبَ في إعَادَة زَكَرِيّا هَذا الكَلام يُحْتَمل أن يَكُون مِنْ هَذا البَاب.

الْخَامِس: نَقَل

(3)

سُفيان بن عُيينة أنه قَال: كَان دُعَاؤه قَبْل البِشَارَة بِسِتِّين سَنَة حَتَّى كَان قد نَسِي ذلك السُّؤال وَقْت البِشَارَة، فَلَمَّا سَمِع البِشَارَة زَمَان الشَّيْخُوخَة لا جَرَم اسْتَبْعَد ذلك عَلى مَجْرَى العَادَة لا شَكًّا في قُدْرَة الله تَعالى، فَقَال مَا قَال.

(1)

القسم الأول: السؤال بـ (أين) والقسم الثاني: السؤال بـ (كيف).

(2)

كفرح الواجد لدابته وقد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح". (رواه مسلم ح 2747)، ورواه البخاري مُخْتَصَرًا (ح 5950).

(3)

هكذا في المطبوع، ولعلها: نُقِل عن سُفيان بن عيينة.

ص: 247

السَّادِس: نُقِل أنَّ زَكَريا عليه السلام جَاءه الشَّيْطَان عِنْد سَمَاع البِشَارَة، فَقَال: إنَّ هَذا الصَّوْت مِنْ الشَّيْطَان، وقَد سَخِر مِنْك، فَاشْتَبَه الأمْر عَلَى زَكَرِيّا عليه السلام فَقَال:(رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ)، وكَان مَقْصُوده مِنْ هَذا الكَلام أن يُرِيه الله تَعالى آيةً تدُلّ عَلى أنَّ ذَلك الكَلام مِنْ الوَحْي والْمَلائكَة لا مِنْ إلْقَاء الشَّيْطَان.

قال القاضي: لا يَجُوز أن يَشْتَبِه كَلام الْمَلائكَة بِكَلام الشَّيْطَان عِنْد الوَحْي

(1)

عَلى الأنْبِيَاء عَليهم الصَّلاة والسَّلام، إذْ لَو جَوَّزْنا ذَلك لارْتَفَع الوُثُوق عَنْ كُلّ الشَّرَائع ويُمْكِن أن يُقَال: لَمَّا قَامَت الْمُعْجِزَات عَلى صِدْق الوَحْي في كُلّ مَا يَتَعَلَّق بالدِّين لا جَرَم حَصَل الوُثُوق هُنَاك بِأنَّ الوَحْي مِنْ اللهِ تَعالى بِوَاسِطَة الْمَلائكَة، ولا مَدْخَل للشَّيْطَان فِيه، أمَّا مَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِح الدُّنْيا وبِالوَلَد

(2)

فَرُبَّمَا لَم يَتَأكَّد ذَلك الْمُعْجِز فَلا جَرم بَقِي احْتِمَال كَوْن ذَلك مِنْ الشَّيْطَان، فَلا جَرَم رَجَع إلى اللهِ تَعالى في أن يُزِيل عَنْ خَاطِرِه ذَلك الاحْتِمَال

(3)

.

ويَرَى ابنُ جُزَيّ أن الاسْتِفْهَام في قَولِه: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) تَعجُّبٌ واسْتِبْعَاد أن يَكُون لَه وَلَد مَع شَيْخُوخَتِه وعِقَم امْرَأته. ويُقَال: كَان لَه تِسْع وتِسْعُون سَنَة، ولامْرَأته ثَمَان وتِسْعُون سَنَة؛ فاسْتَبْعَد ذَلك في العَادة، مَع عِلْمِه بِقُدْرَة الله تَعالى عَلى ذَلك، فَسَألَه مع عِلْمِه بِقُدْرَة الله واسْتَبْعَدَه لأنَّه نَادِر في العَادَة، وقِيل: سَأله وهو شَاب، وأُجِيب وهو شَيخ، ولِذَلك اسْتَبْعَده

(4)

.

(1)

هذا لو كان وحيًا يجب تبليغه، أما هذا فليس من الوحي المبلغ.

(2)

وهنا حصل لزكريا عليه السلام إن صَحّ - فهو من هذا الباب، وللشيطان مدخل على الأماني، يُبيِّن هذا قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحج: 52] ولفظ الآية على العموم في الأنبياء والرسل. وذكر ابن جرير أكثر من معنى لـ (أمنيته)، فلتنظر.

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 34، 35) باختصار.

(4)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 106)، (3/ 2، 3).

ص: 248

في حِين اقْتَصَر ابن كَثير في تَفْسِير "آل عمران" عَلى بَيَان الْمَعْنَى إلَّا أنّه وَقَف مَع الإشْكَال في تَفْسِير سُورَة مَرْيم، حَيْث قَال في قَوله تَعالى:(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): هذا تَعَجُّب مِنْ زَكَرِيَّا عليه السلام حِين أُجِيب إلى مَا سَأل، وبُشِّرَ بِالوَلَد، فَفَرِح فَرَحًا شَدِيدًا، وسَأل عَنْ كَيْفِيَّة مَا يُولَد لَه، والوَجْه الذي يَأتيه مِنْه الوَلَد، مَع أنَّ امْرَأته كَانَتْ عَاقِرًا لَم تَلِد مِنْ أوَّل عُمُرها مَع كِبَرِها، ومَع أنَّه قَدْ كَبُر وَعَتَا - أي عَسَا

(1)

عَظْمُه ونَحُل، ولَم يَبْق فِيه لِقَاح ولا جِمَاع

(2)

.

وقال الثعالبي في تَفْسِير قَوله تَعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ): الآيَة.

ذَهَبَ الطَّبَري وغَيره إلى أنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا رَأى حَال نَفْسِه وحَال امْرَأته وأنّها لَيْسَت بِحَالِ نَسْل، سَأل عَنْ الوَجْه الذي بِه يَكُون الغُلام؛ أتُبَدَّل الْمَرْأة خِلْقَتها؟ أمْ كَيف يَكُون؟ قال ع

(3)

: وهذا تَأويل حَسَن لائق بِزَكَرِيَّا عليه السلام: و (أَنَّى) مَعْنَاهَا: كَيْف، ومِن أيْن؟ وحَسن في الآيَة (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) مِنْ حَيْث هِي عِبَارَة وَاهِن مُنْفَعِل

(4)

.

واخْتَصَر القاسمي الْجَوَاب، فَقَال في قَوله تَعالى:(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): أي: حَالَة لا سَبِيل إلى إصْلاحِها ومُدَاوَاتِها. وقِيل: إلى رِيَاضَتِه

(5)

.

(1)

في اللسان (15/ 54): عَسَا الشيخ يعسو عسوًا، وعسوًا وعسيًا: مثل عتيًا، وعساء وعسوة وعسي عسى كله: كبر، مثل عتي. ويقال للشيخ إذا ولى وكبر: عتا يعتو عتيًا وعسا يعسو مثله.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (9/ 218).

(3)

هو ابن عطية، وسبق نقل قوله هذا.

(4)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 264).

(5)

محاسن التأويل، مرجع سابق (11/ 90)، ولم يتطرق إلى شيء من ذلك في تفسير آل عمران.

ص: 249

أمَّا الشَّنْقِيطي فَقَد ذَكَر ثَلاثَة أوْجُه في الْجَمْع بَيْن الآيَات، فَقَال:

الْجَوَاب عن هَذا بِأمُور:

الأوَّل: مَا أخْرَجَه ابنُ جَرير عن عِكرمة والسُّدّي مِنْ أنَّ زَكَرِيّا نَادَتْه الْمَلائكَة وهو قَائم يُصَلِّي في الْمِحْرَاب: أنَّ الله يُبَشِّرُك بِيَحْيَى، قَال لَه الشَّيْطَان: لَيْس هَذا نِدَاء الْمَلائكَة، وإنّمَا هُو نِدَاء الشَّيْطَان، فَدَاخَل زَكَرِيّا الشَّك في أنَّ النِّدَاء مِنْ الشَّيْطَان، فَقَال عنْد ذَلك الشَّك النَّاشئ عَنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان قَبْل أن يَتَيَقّن أنّه من الله:(أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ولِذَا طَلَب الآيَة

(1)

مِنْ الله عَلى ذَلك بِقَولِه: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) الآية.

الثاني: أنّ اسْتِفْهَامَه اسْتِفْهَام اسْتِعْلام واسْتِخْبَار؛ لأنّه لا يَدْرِي هَلْ الله يَأتِيه بالوَلَد مِنْ زَوْجِه العَجُوز، أوْ يَأْمُرَه أن يَتَزَوَّج شَابَّة، أوْ يَرُدّهما شَابَّيْن؟

الثالث: أنَّه اسْتِفْهَام اسْتِعْظَام وتَعَجُّب مِنْ كَمَال قُدْرَةِ الله تعالى

(2)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُضَ بَيْن الآيَات، فَزَكَرِيّا عليه الصلاة والسلام لَم يَشُكّ في قُدْرَة الله تَعالى، كَمَا لَم يَشُكّ إبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام حِينَمَا سَأل الله أن يُرِيَه كَيف يُحْيِي الْمَوْتَى.

وسُؤال زَكَرِيّا سُؤال تَعجُّب، وهو سُؤَالٌ عن الكَيْفِيَّة - ورُبّمَا والزَّمَان -.

والسُّؤال كَان في مُنَاسَبَتِه حِينَمَا رَأى فَضْل الله وعَطَاءه ورِزْقَه لِمَرْيم عليها السلام، والبُشْرَى كَانَتْ بَعْد ذَلك.

ولا إشْكَال في تَأخُّر إجَابَة دَعَوَات الأنْبِيَاء. قَال ابنُ جُريج عَنْ دَعْوَة مُوسَى عليه الصلاة والسلام على فِرْعَون: يَقُولُون: إنَّ فِرْعَون مَكَثَ بعد هَذه الدَّعْوة أرْبَعِين سَنَة.

وقال محمد بن كَعب وعلي بن الحسين: أرْبَعِين يَوْمًا

(3)

.

(1)

أي: العلامة.

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 35).

(3)

نقلها ابن كثير في التفسير.

ص: 250

ودَعَا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فَكَانَت إجَابَة دَعْوتَه بِمَبْعَث نَبِيِّنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

سُئل عليه الصلاة والسلام: مَا كَان أوَّل بَدْء أمْرِك؟ قال: دَعْوَة أَبِي إبْرَاهِيم وبُشْرَى عِيسَى

(1)

.

وقَد أشْكَل عَلى بَعْض الْمُتَكَلِّمِين "أنَّ دُعَاء الأنْبِيَاء والرُّسُل عليهم الصلاة والسلام لا يَكُون إلَّا بَعْد الإذْن لاحْتِمَال ألا تَكُون الإجَابَة مَصْلَحَة، فَحِينَئذٍ تَصِير دَعْوتُه مَرْدُودَة، وذَلك نُقْصَان في مَنْصِب الأنْبيَاء عليهم الصَّلاة والسَّلام"

(2)

.

وقد أذن تَعَالى في الدُّعَاء مُطْلَقًا، وبَيَّن أنّه تَارَة يُجِيب وأُخْرَى لا يُجِيب، فَلِلرَّسُول أن يَدْعُو كُلَّمَا شَاء وأرَادَ مِمَّا لا يَكُون مَعْصِيَة، ثُم إنّه تَعَالى تَارَة يُجِيب وأُخْرَى لا يُجِيب، وذَلك لا يَكُون نُقْصَانًا بِمَنْصِب الأنْبِيَاء عَليهم الصَّلاة والسَّلام

(3)

.

وفي صَحيح مُسْلِم

(4)

قَوله عليه الصلاة والسلام: سَألْتُ رَبِّي ثَلاثًا، فَأعْطَاني ثِنْتَين ومَنَعَنِي واحِدَة: سَألْتُ رَبِّي ألا يُهْلِك أُمَّتِي بالسَّنَة، فَأَعْطَانِيها، وسَألتُهُ ألا يُهْلِك أُمَّتِي بالغَرق، فَأعْطَانِيها، وسَألْتُه ألا يَجْعَل بأَسهَم بَيْنَهم، فَمَنَعَنِيها.

والذي يَظْهَر ضَعْف القَوْل بِأنَّ الشَّيْطَان خَاطَب زَكَرِيّا عليه الصلاة والسلام، وأنه أدْخَل الشَّكّ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ إثْبَات مِثل هَذا يَحْتَاج إلى إسْنَاد عَنْ الْمَعْصُوم صلى الله عليه وسلم، وهو مُتَعَذِّر هُنا.

كَمَا أنه مُتَضَمِّن للتَّقْلِيل مِنْ شَأن الأنبِيَاء عَليهم الصَّلاة والسَّلام.

والأَوْلى الإعْرَاض عَنْ مِثْل هَذه الرِّوَايات التي لم تَصِحّ، ولَعَلَّها مِمَّا يُتَنَاقَل عَنْ بَنِي إسْرَائيل. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه أحمد (ح 22261) من حديث أبي أمامة. وقال محققو المسند: صحيح لغيره.

ورواه من حديث العرباض بن سارية (ح 17150) و (ح 17163) بمعناه.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 30).

(3)

المرجع السابق، الموضع السابق، بتصرف يسير.

(4)

(ح 2890).

ص: 251

‌الفصل الثاني منهج الإمام القرطبي في دفع التعارض

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: الجمع بين الآيات بالاستدلال بالأحاديث المرفوعة

المبحث الثاني: الجمع بين الآيات من خلال إيراد أقوال السلف

المبحث الثالث: الاحتكام إلى اللغة العربية وقواعدها لدفع التعارض المتوهم

المبحث الرابع: منجه في إيراد الآية وما يتوهم تعارضه معها، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الجمع بين الآيات بإيراد الآية وما يُعارضها في الظاهر

المطلب الثاني: الجمع بين الآيات والاكتفاء بالإشارة إلى معنى الآية المقابلة

ص: 252

منهج الإمام القرطبي دفع التعارض:

تَقَدَّم في الفَصْل الأوَّل بَيَان طَرِيقَة الإمام القُرْطُبي في دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض مِنْ خِلال أرْبَعَة مَبَاحِث، تَضَمَّنَتْ أرْبع طُرُق، ومِن خِلال هَذا الفَصْل نَتَبَيَّن مَنْهَجه أيضًا مِنْ خلال طُرُق أُخْرَى، وإن كان بَيْن تِلك الطُّرُق وهَذه الطُّرُق تَدَاخُل، إلَّا أنَّ بَعضها أخَصّ ببعض الْجَوَانِب مِنْ بَعضها الآخَر.

وأوَّل هَذه الطُّرُق الْجَمْع بَيْن الآيَات بالإكْثَار مِنْ الأحَادِيث الْمَرْفُوعة، وهو:

‌المبحث الأول: الجمع بين الآيات بالإكثار من الأحاديث المرفوعة

مِمَّا يَعْتَمِد عَليه الْمُفَسِّر في الْجَمْع بَيْن الآيَات: الأحَادِيث النَّبَوِيَّة، إذْ هي الْمَصْدَر الثَّاني مِنْ مَصَادِر التَّفْسِير بَعد تَفْسِير القُرْآن بِالقُرْآن، و "لأنَّ قَولَه عليه السلام مُقَدَّم على أقْوَال النَّاس"

(1)

.

وقد اعْتَنَى القرطبي بهذا الْجَانِب فَأوْرَد "مَا يَزِيد عَلى (6500) رِوَاية، وهَذا العَدَد غَيْر يَسِر، مِمَّا يَدُلّ عَلى اهْتِمَامِه بِالْحَدِيث الشَّرِيف، وقَد تَكَلَّم في بَعض الأحْيان عَلى بَعض الأحَادِيث بالضَّعْف، تارَة مِنْ قِبَل نَفْسِه، وتَارَة نَقْلًا عَنْ غَيْره"

(2)

.

وقد عَقَد القرطبي في مُقَدِّمَة تَفْسِيره بَابًا بِعُنْوان: تَبْيِين الكِتَاب بالسُّنَّة ومَا جَاء في ذَلك

(3)

.

و "سُنَّة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هي الْمَرْتَبَة الثَّانِيَة بَعْد القُرآن الكريم مِنْ حَيث السَّنَد والْمَتْن"

(4)

.

(1)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 7).

(2)

من مقدمة عبد الرزاق المهدي في تقديمه لتحقيق الجامع لأحكام القرآن (ص 7) بتصرف يسير.

(3)

مقدمة الجامع لأحكام القرآن (ص 72).

(4)

اختلاف المفسرين - أسبابه وآثاره -، سعود الفنيسان (ص 26).

ص: 253

"وأصَحّ الطُّرُق أن يُفَسَّر القُرآن بالقُرآن فَمَا أُجْمِل في مَكان فإنَّه قد بُسِطَ في مَوضع آخَر، فإن أعْيَاك ذَلك فَعَليك بالسُّنَّة، فإنّها شَارِحَةٌ للقُرآن ومُوَضِّحَةٌ له

والغَرَض أنك تَطْلُب تفسير القرآن مِنه، فإن لم تَجِدْه فَمِنْ السُّنَّة"

(1)

.

وجَمَع فيها القرطبي بين الآيات بهذه الطريقة، فـ:

‌المثال الأول:

وَسْوَسَة إبْلِيس لآدم في الْجَنَّة:

قَوله تَعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)[البقرة: 36] وقوله تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 21]، مَع قَوله تَعالى:(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)[الأعراف: 18].

‌صورة التعارض:

آية "الأعْراف" تَدُلّ على أنَّ إبليس قد طُرِد مِنْ الْجَنَّة، وأُخْرِج مِنها، بَينما يُفهَم مِنْ آيَة "البقرة" وآية الأعراف أن إبْليس دَخَل الْجَنَّة، فَوَسْوَس لآدم.

وإشْكَال آخَر، وهو أنَّه "لا شَكّ أنَّ الله سبحانه وتعالى طَرَد إبليس حِين امْتَنَع مِنْ السُّجُود عَنْ الْحَضْرة الإلَهِيَّة، وَأمَرَه بالْخُرُوج عَنها والْهُبُوط مِنها، وهَذا الأمْر ليس مِنْ الأوَامِر الشَّرْعِيَّة بِحَيث يُمْكن مُخَالَفَته، وإنّما هو أمْر قَدَرِيّ لا يُخَالَف ولا يُمَانَع"

(2)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 6).

(2)

البداية والنهاية، ابن كثير (1/ 177).

ص: 254

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في الوَسْوَسَة:

واخْتُلِف في الكَيْفِيَّة؛ فَقال ابن مسعود وابن عباس وجُمهور العُلَمَاء: أغْوَاهُما مُشَافَهة، ودَلِيل ذَلك قَوله تَعالى:(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، والْمُقَاسَمَة ظَاهِرُها الْمُشَافَهَة.

وقال بَعضهم - وذَكَرَه عبد الرزاق عن وَهْب بن مُنَبّه

(1)

-: دَخَل الْجَنَّة في فَمِ الْحَيَّة وهي ذَات أرْبع كالبُخْتِيّة، مِنْ أحْسَن دَابَّةٍ خَلَقَها الله تعالى، بَعْد أن عَرَضَ نَفْسَه على كَثِير مِنْ الْحَيَوان فَلم يُدْخِلْه إلَّا الْحَيَّة، فَلَمَّا دَخَلَتْ به الْجَنَّة خَرَجَ مِنْ جَوفِها إبليس

(2)

، فَأخَذ مِنْ الشَّجَرة التي نَهَى الله آدَم وزَوْجَه عَنها، فَجَاء بِها إلى حَوّاء، فَقَال: انْظُري إلى هذه الشَّجَرة مَا أطْيَب طَعْمها وأحْسَن لَوْنها، فَلم يَزَل يُغْويها حتى أخَذَتْها حَوَّاء فأكَلَتْها، ثم أغْوى آدَم، وقَالَت له حَوَاء: كُلْ، فإني قَدْ أكَلْتُ فَلم يَضُرّني

(3)

، فأكَلَ مِنها، فَبَدَتْ لَهُما سَوءاتهما، وحَصَلا في حُكْم الذَّنْب، فَدَخَل آدَم في جَوْف الشَّجَرة فَنَادَاه رَبّه: أين أنت؟ فَقَال: أنا هَذا يَا رَبّ. قال: ألا تَخْرُج؟ قالك أسْتَحْي منْك يَا رَبّ. قال: اهْبط إلى الأرْض التي خُلقْتَ منها. ولُعِنَتِ الْحَيَّة وَرُدّتْ قَوَائمها في جَوْفِها، وجُعِلَتِ العَدَاوة بَيْنَها وبَيْن بَنِي آدَم، ولذلك أُمِرْنا بِقَتْلِها - على ما يأتي بيانه -.

وقِيل لِحَوَّاء: كَمَا أدْمَيْتِ الشَّجَرَة فَكَذلك يُصِيبُك الدَّم كُل شَهْر وتَحْمِلِين وتَضَعِين كُرْها تُشْرِفِين بِه على الْمَوْت مِرَارًا - زاد الطبري والنقاش -: وتَكُون سَفِيهَة وقَد كُنْتِ حَلِيمَة.

(1)

ورواه ابن جرير (1/ 561) عن وَهْب، ورواه عن ابن عباس (1/ 566) وعن ابن مسعود (1/ 563).

(2)

هذا يستلزم خَفاء هذا الأمر على الله، ومعلوم بَداهة أن الله لا تَخفى عليه خافية، إلا أن يُقال: إن الله مَكَن إبليس مِنْ الدُّخُول بِهَذِه الطَّرِيقَة من بَاب الإمْلاءِ. هذا لو صحّ الخبر.

(3)

هذا يَدلّ عليه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة مَرْفُوعًا بِلفظ: لَولا حَوَاء لم تَخُن أنثى زوجها الدَّهر. البخاري (ح 3218)، ومسلم (ح 1470).

ص: 255

وقَالَت طَائفَة: إنَّ إبْليس لم يَدْخُل الْجَنَّة إلى آدَم بَعْدَ مَا أُخْرِج منها، وإنّما أغْوَى بِشَيْطَانِه وسُلْطَانه ووُسْوَاسِه التي

(1)

أعْطَاه الله تَعالى، كما قَال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ ابن آدَم مَجْرَى الدَّم

(2)

.

ثم قَال: يُذْكَر أنَّ الْحَيَّة كَانت خَادِم آدَم عليه السلام في الْجَنَّة فَخَانَتْه بأن مَكَّنَتْ عَدُوّ الله مِنْ نَفْسِها، وأظْهَرَت العَدَاوَة لَه هُنَاك، فَلَمَّا أُهْبِطُوا تَأكَّدَت العَدَاوة وجُعِل رِزْقُها التُّرَاب، وقِيل لَها: أنتِ عَدُو بَني آدَم، وهُم أعْدَاؤك، وحَيث لَقِيَكِ منهم أحَد شَدَخَ رَأسَك

(3)

.

رَوَى ابنُ عمر عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خَمْسٌ يَقْتُلُهن الْمُحْرِم - فَذَكَرَ الْحَيَّة فِيهِنّ

(4)

.

ورُوي أنَّ إبليس قال لَها: أدْخِلِيني الْجَنَّة وأنْتِ في ذِمَّتِي، فَكان ابن عباس يَقُول: أخْفِرُوا ذِمَّة إبليس!

ورَوَتْ سَاكِنَة بنت الْجَعْد عن سَرَّاء بنت نَبهان الغَنوية

(5)

قالت: سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقول:

(1)

قال عبد الرزاق المهدي في تحقيق الجامع لأحكام القرآن: كذا وقع في الأصل، ولعل الصواب الذي.

(2)

رواه البخاري (ح 6750)، ومسلم (ح 2175).

(3)

هذا احْتِمَال وَارِد في سَبَب العَدَاوة، إذ قد جَاء في سَبَب عَداوة الوَرَع وسَبَب قتْلِه أنه كان يَنْفُخ على إبراهيم عليه السلام.

رواه البخاري (ح 3180)، ورواه مسلم (ح 2237) مختصرًا.

(4)

رواه البخاري (ح 1731)، ومسلم (ح 1200) بمعناه، وفي صحيح مسلم (ح 1200) من طريق زيد بن جبير قال: سأل رجلٌ ابنَ عمر ما يَقْتُل الرجل من الدّواب وهو مُحْرِم؟ قال: حدّثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمُر بِقَتْل الكَلْب العَقُور والفَأرَة والعَقْرَب والْحُدَيَا والغُرَاب والْحَيَّة. قال: وفي الصلاة أيضًا.

فَذَكَر ستّا. ولعل ذلك لكَون العقرب في معنى الحيَّة، بجَامِع العلَّة بينهما.

وأما بلفظ خَمْسٌ يَقْتُلُهن الْمُحْرِم. فلم أرَه من حديث ابن عمر بِذِكْر الْحَيَّة، وإنما هو من حديث عائشة.

(5)

في الكاشف (2/ 509): سَراء بنت نبهان الغنوية، صحابية: عنها: سبطها ربيعة بن عبد الرحمن، وساكنة بنت الجعد. ويُنظر: الطبقات الكبرى (8/ 310)، والاستيعاب (4/ 1860)، والإصابة (8/ 175).

ص: 256

اقْتُلُوا الْحَيَّات صَغِيرها وكَبِيرها، وأسْوَدها وأبْيَضها، فإنَّ مَنْ قَتَلَها كَانت له فِدَاء مِنْ النَّار، ومَن قَتَلَتْه كَان شَهِيدًا

(1)

.

قال عُلَمَاؤنا: وإنّما كَانت له فِدَاء مِنْ النَّار لِمُشَارَكَتِها إبْليس وإعَانَتَه على ضَرَر آدَم وولَده؛ فَلِذَلك كان مَنْ قَتَل حَيَّة فَكأنّما قَتَل كَافِرًا، وقد قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَجْتَمِع كافرٌ وقَاتِله في النَّار أبَدا. أخْرَجه مُسلم

(2)

وغيره

(3)

.

ثم عَزَز القُرطبي هَذا الاسْتِدْلال بالأحَادِيث الوَارِدَة في قَتْل الْحَيَّات، فأوْرَد حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غارٍ وقَد أُنْزِلَت عَليه (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)[المرسلات: 1]، فَنَحْن نَأخُذُها مِنْ فِيه رَطِبَة، إذ خَرَجَتْ علينا حَيَّة، فَقال: اقْتُلُوها. فأبْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَها، فَسَبَقَتتْنا، فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقَاهَا الله شَرّكُم كَمَا وَقَاكُم شَرَّها

(4)

. أي لَسْعَها

(5)

.

ثم قال: الأمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّات مِنْ بَاب الإرْشَاد إلى دَفْع الْمَضَرّة الْمَخُوفَة مِنْ الْحَيَّات فَما كَان مِنها مُتَحَقّق الضَّرَر وَجَبَتِ الْمُبَادَرَة إلى قَتْلِه، لِقَولِه: اقْتُلُوا الحيات، واقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَين

(6)

والأبْتَر، فإنَّهما يَخْطِفان البَصَر، ويُسْقِطَان الْحَبَل

(7)

. فَخَصَّهما بالذِّكْر مَع أنّهما دَخَلا في العُمُوم، ونَبَّه على ذَلك بِسَبَب عِظَم ضَرَرِهما، ومَا لَم يَتَحَقَّق ضَرَره فَمَا كَان مِنها في غَير البُيُوت قُتِل أيْضًا لِظَاهِر الأمْر العَامّ، ولأنَّ نَوْع

(1)

رواه الطبراني في الكبير (ح 779) وقال الهيثمي في المجمع (4/ 45): رواه الطبراني في الكبير، وفيه أحمد بن الحارث الغساني، وهو متروك.

(2)

(ح 1890).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 353).

(4)

رواه البخاري (ح 3139)، ومسلم (ح 2234).

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 355).

(6)

قال ابن عبد البر (التمهيد 16/ 23): يُقال: إنَّ ذا الطُّفْيَتين حَنَش يَكُون على ظَهْره خَطَان أبيضان.

ويُقال: إن الأبْتَر الأفْعى. وقيل: إنه حَنَش أبْتَر، كأنه مقطوع الذنب. وقال النضر بن شُميل: الأبتر من الحيات صنف أزرق مقطوع الذنب، لا ننظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها.

(7)

رواه البخاري (ح 3123)، ومسلم (ح 2233) بنحوه. زاد مسلم: قال الزهري: ونرى ذلك من سُمّيهِما. والله أعلم. اهـ. والحبل: هو الحمل.

ص: 257

الْحَيَّات غَالِبُه الضَّرَر فيُسْتَصْحَب ذَلك فِيه، ولأنَّه كُلّه مُرَوِّع بِصُورَتِه وبِمَا في النُّفُوس مِنْ النُّفْرَة عَنه

(1)

.

وقال: فَالْحَيَّة أبْدَتْ جَوهَرها الْخَبِيث حَيْث خَانَتْ آدَم بأنْ أدْخَلَتْ إبْلِيس الْجَنَّة بَيْن فَكَّيْها، ولَو كَانَتْ تُبْرِزُه ما تَرَكَها رِضْوَان

(2)

تَدْخُل بِه، وقَال لَها إبْليس: أنْتِ في ذِمّتي، فَأمَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِها، وقَال: اقْتُلُوها ولَو كُنْتُم في الصَّلاة

(3)

. يَعْني الْحَيَّة والعَقْرَب. والوَزَغَة نَفَخَتِ على نَارِ إبراهيم عليه السلام مِنْ بَيْن سَائر الدَّوَاب

(4)

، فَلُعْنَتْ.

وهذا مِنْ نَوع مَا يُرْوى في الْحَيَّة.

ورُوي

(5)

عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَال: مَنْ قَتَل وَزَغَة فَكَأنما قَتَل كَافِرًا

(6)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 355، 356).

(2)

لم يَثْبُت في تسميته حديث. وينظر لذلك: العلل المتناهية، ابن الجوزي (2/ 533)، وتخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف، الزيلعي (3/ 169)، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي (1/ 438، 4/ 32)، ولسان الميزان، ابن حجر (1/ 461، 3/ 232)، والمجروحين، ابن حِبان (1/ 182)، والكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي (1/ 405).

(3)

تقدمتْ الإشارة إلى ذلك في حديث ابن عمر في قَتل الفواسق، وفيه: قال: وفي الصلاة أيضًا. (مسلم ح 1200)، وفي المسند (ح 7373)، وسُنَن أبي دَاود (ح 921)، والترمذي (ح 390)، والنسائي (ح 1202)، وابن ماجه (ح 1245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْتُلُوا الأسْوَدَين في الصَّلاة: الْحَيَّة والعَقْرَب.

(4)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(5)

هذه صيغة تمريض تُشعِر بتضعيف الحديث. وسيأتي تخريجه في الحاشية التالية.

(6)

رواه أحمد (ح 3746)، والبزار (ح 1985)، وأبو يعلى (ح 5320)، والشاشي في مسنده (ح 736)، والطبراني في الكبير (ح 10109) كلهم بلفظ:"من قتل حية .... "

وقال الهيثمي (4/ 46): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بنحوه، والطبراني في الكبير مرفوعًا وموقوفًا.

قال البزار في حديثه وهو مرفوع: من قتل حية أو عقربًا. وهو في موقوف الطبراني. ورجال البزار رجال الصحيح.

ورواه موقوفًا على ابن مسعود: معمر بن راشد في الجامع (ح 19621).

وقال محققو مسند أحمد (6/ 291): إسناده ضعيف مرفوعًا، وسيرد في التخريج موقوفًا بإسناد صحيح.

ص: 258

وفي صَحِيح مُسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَتَل وَزَغة في أوَّل ضَرْبة كُتِبَتْ له مِائة حَسَنَة، وفي الثَّانِية دُون ذلك، وفي الثَّالثة دُون ذلك

(1)

. وفي رِوَاية أنه قال: في أوَّل ضَرْبَة سَبْعُون حَسَنَة

(2)

.

والفأرَة أبْدَت جَوْهَرَها بأنْ عَمِدَتْ إلى حِبَال سَفِينَة نُوح عليه السلام فَقَطَعَتْها

(3)

واسْتَيْقَظ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقَد أخَذَتْ فَتِيلة لِتُحرِق البَيْت، فأمَرَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِها

(4)

.

والغُرَاب أبْدَى جَوْهَرَه حَيْث بَعَثَه نَبِيّ الله نُوح عليه السلام مِنْ السَّفِينَة لِيَأتِيه بِخَبَر الأرْض، فَتَرَك أمْرَه وأقْبَل عَلى جِيفَة

(5)

.

هذا كُلّه في مَعْنَى الْحَيَّة؛ فَلذلك ذَكَرْنَاه

(6)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أغْوَاهُما مُشَافَهَة، وتَوَصَّل إلَيهما عن طَرِيق الْحَيَّة.

2 -

أغْوَى بِشَيْطَانِه وسُلْطَانه وَوسْوَاسِه مِنْ غَير دُخُول إلى الْجَنَّة.

وقد أورَد في هَذا الْمَبْحَث والاسْتِدْلال ثَلاثة وعِشْرِين حَدِيثًا، كَرَّر بَعْضَها.

(1)

رواه مسلم (2240).

(2)

هي لِمُسْلِم في الموضع نفسه.

(3)

هذا مما يحتمل التحديث عن الأمم الماضية.

(4)

في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال: إذا نمتم فأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا، فتحرقكم. رواه أبو داود (ح 5247). وقال الألباني: صحيح. (الصحيحة 3/ 413).

(5)

وهذا مما يحتمل التحديث أيضًا.

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 360، 361). وأصْل هذا القول للحَكِيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 13، 14).

ص: 259

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

دَافَع ابنُ جرير عن قَول وَهْب بن مُنبِّه، فَقَال: فأمَّا سَبَب وُصُولِه

(1)

إلى الْجَنَّة حَتى كَلَّم آدَم بَعْد أن أخْرَجَه الله منها وطَرَدَه عَنها، فَلَيس فيما رُوي عن ابن عباس ووَهْب بن مُنَبِّه في ذلك مَعْنَى يَجوز لِذي فَهْم مُدَافَعَته إذْ كَان ذلك قَولًا لا يَدْفَعه عَقُل ولا خَبر يَلزَم تَصْدِيقه مِنْ حُجَّة بِخِلافِه، وهو مِنْ الأمُور الْمُمكِنَة.

والقَول في ذلك أنه قَدْ وَصَل إلى خِطَابِهما على ما أخْبَرَنا الله جَلّ ثَناؤه. ومُمْكِن أن يَكُون وَصَل إلى ذلك بنَحْو الذي قَالَه الْمُتَأوِّلُون - بَلْ ذلك إن شَاء الله كَذلك - لِتَتَابُع أقْوَال أهْل التَّأويل عَلى تَصْحِيح ذلك - وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك -: الله أعْلَمُ أكَمَا قال ابن عباس وأهْل التَّوْرَاة، أمْ خَلص إلى آدَم وزَوْجَته بِسُلْطَانِه الذي جَعَل الله لَه لِيَبْتَلِي به آدَم وذُرِّيَّتَه؟ وأنه يَأتي ابن آدَم في نَوْمَته وفي يَقَظَتِه، وفي كُلّ حَال مِنْ أحْوَاله حتى يَخْلُص إلى مَا أرَاد مِنه حتى يَدْعُوه إلى الْمَعْصِيَة، ويُوقِع في نَفْسِه الشَّهوَة وهو لا يَرَاه، وقد قال الله:(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)[الأعراف: 20]، (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) [البقرة: 36]

قال ابن إسحاق: وإنما أمْرُ ابن آدم فِيمَا بَيْنَه وبَيْن عَدُوّ الله كأمْرِه فِيمَا بَيْنَه وبَيْن آدم.

قال ابن جرير: ولَيْس في يَقِين ابن إسحاق - لَو كَان قَدْ أيْقَن في نَفْسِه - أن إبْليس لم يَخْلُص إلى آدَم وزَوْجَته بالْمُخَاطَبَة بِمَا أخْبَر الله عنه أنه قَال لَهُما وخَاطَبَهُمَا بِهِ - مَا يَجُوز لذي فَهْم الاعْتِرَاض بِه عَلى مَا وَرَد مِنْ القَول مُسْتَفِيضًا مِنْ أهْل العِلْم مَع دَلالَة الكِتَاب عَلى صِحَّة مَا اسْتَفَاض مِنْ ذَلك بَيْنَهم، فَكَيف بِشَكّه؟ والله نَسأل التَّوفيق

(2)

.

(1)

يَعني "إبليس".

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 568، 570) باختصار يسير.

ص: 260

وكان ابن جرير أوْرَد رِوَايَات

(1)

في كَوْن إبليس دَخَل الْجَنَّة في فَمِ الْحَيَّة، ثم قال: وقد رُوِيَت هَذه الأخْبَار عَمَّن رَوَيْناها عَنه مِنْ الصَّحَابة والتَّابِعين وغَيرهم في صِفَة اسْتِزْلال إبْليس - عَدُوّ الله - آدمَ وزَوْجَته حتى أخْرَجَهما مِنْ الْجَنَّة.

وأوْلى ذلك بِالْحَقّ عِنْدنَا مَا كَان لِكِتَاب الله مُوَافِقًا

(2)

.

وذَكَر السمعاني الْخِلاف، وأوْرَد في الْمَسْألَة ثَلاثَة أقْوَال، فَقَال: الوَسْوَسَة حَدِيث يُلْقِيه الشَّيْطَان في قَلْب الإنْسَان.

واخْتَلَفُوا كَيف وَسْوَس لَهُما وهُمَا في الْجَنَّة وهو في الأرض؟

فَقِيل: وَسْوَس لَهُما مِنْ الأرض، لأنَّ الله تعالى أعْطَاه قُوَّة بِذلك حتى وَسْوَس لَهُما بِتِلْك القُوَّة مِنْ الأرْض إلى الْجَنَّة.

وقِيل: حِين وَسْوَس لَهُما كَان في السَّمَاء، فالْتَقَيا على بَاب الْجَنَّة هو وآدَم، فَوَسْوَس.

وقيل: إنَّ الْحَيَّة خَبَّأته في أنْيَابِها وأدْخَلَتْه الْجَنَّة، فَوَسْوَس مِنْ بَيْن أنْيَابِها، فَمُسِحَتْ

(3)

الْحَيَّة، وأُخْرِجَتْ مِنْ الْجَنَّة

(4)

.

وأوْرَد الثعلبي إشْكَالًا آخَر أوْرَدته القَدَرِيَّة حَيث "احْتَجُّوا بأنَّ مَنْ دَخَل الْجَنَّة يَسْتَحِيل الْخُرُوج مِنها، قَال الله تعالى:(وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)[الحجر: 48].

قال: والْجَوَاب عنه:

(1)

سبقت الإشارة إليها في نقل كلام القرطبي.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 568).

(3)

لعلها: فَمُسِخَتْ - بالخاء -.

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 170).

ص: 261

أنَّ مَنْ دَخَلَها للثَّواب لا يَخْرُج مِنها أبَدا، وآدَم لم يَدْخُلْها للثَّوَاب، ألَا تَرَى أنَّ رِضْوَان

(1)

خَازِن الْجَنَّة ثم يَخْرُج مِنها، وإبْليس أيضًا كان دَاخِل الْجَنَّة وأُخْرِج مِنها"

(2)

.

وقَالَت القَدَرِيَّة: إنَّ الْجَنَّة التي أَسْكَنَها الله آدَم وحَوَّاء لم تكُن جَنَّة الْخُلْد، وإنَّما كَان بُسْتَانا مِنْ بَسَاتِين الدُّنيا، واحْتَجُّوا بأنَّ الْجَنَّة لا يَكون فيها ابْتِلاء وتَكْلِيف

(3)

.

والْجَوَاب: إنا قَدْ أجْمَعْنَا على أنَّ أهْل الْجَنَّة مَأمُورُون فِيها بالْمَعْرِفة ومُكَلَّفُون بِذلك.

وجَوَاب آخَر: إنَّ الله تَعالى قَادِر على الْجَمْع بَيْن الأضْدَاد، فأَرَى آدَم الْمِحْنَة في الْجَنَّة، وأرَى إبْراهيم النِّعْمَة في النَّار؛ لئلا يَأمَن العَبْد رَبّه، ولا يَقْنَط مِنْ رَحْمَتِه، ولِيَعْلَم أنَّ له

(4)

أن يَفْعَل مَا يَشَاء

(5)

.

ثم أوْرَد ما رُوي مِنْ دُخُول إبْليس في فَمِ الْحَيَّة

(6)

.

وأوْرَد الزمخشري الإشْكال - كَعَادَتِه - على صِيْغَة سُؤال، فَقَال: فإنْ قُلْتَ: كَيف تَوَصَّل إلى إزْلالِهما وَوَسْوَسَتِه لَهُمَا بَعْدَمَا قِيل لَه: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)[الحجر: 34]، [ص: 77]؟

قُلْتَ:

يَجُوز أن يُمْنَع دُخُولَها عَلى جِهَة التَّقْرِيب والتَّكْرِمَة كَدُخُول الْمَلائكَة، ولا يُمْنَع أن يَدْخُل على جِهَة الوَسْوَسَة ابْتِلاء لآدَم وحَوَّاء.

(1)

تقدّم أنه لا يَصِح في تسميته حديث.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 182).

(3)

"وهذا القول هو نَصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب". البداية والنهاية ابن كثير (1/ 176) وقد أحال مُحققو الكتاب على "سِفْر التكوين"، الإصحاح الثاني (8 - 22).

(4)

الضَّمير عائد على رب العزة سبحانه وتعالى.

(5)

الكشف والبيان، مرجع سابق (1/ 182).

(6)

المرجع السابق (1/ 183).

ص: 262

وقيل: كَان يَدنُو مِنْ السَّمَاء فَيُكَلِّمهما.

وقيل: قَام عِند البَاب فَنَادَى.

ورُوي أنّه أرَاد الدُّخُول فَمَنَعَتْه الْخَزَنة، فَدَخَل في فَمِ الْحَيَّة حتى دَخَلَتْ بِه وَهُمْ لا يَشْعُرُون

(1)

.

ورَجَّح ابنُ عطية كَوْن الوَسْوَسَة مُشَافَهَة، فَقَال: واخْتُلِف في الكَيْفِيَّة؛ فَقَال ابن عباس وابن مسعود وجُمهور العُلَمَاء: أغْوَاهُمَا مُشَافَهَة، ودَلِيل ذَلك قَوله تَعالى:(وَقَاسَمَهُمَا)، والْمُقَاسَمَة ظَاهِرُها الْمُشَافَهَة.

وقال بَعْضُهم: إنَّ إبْليس لَمَّا دَخَل إلى آدَم كَلَّمَه في حَالِه، فَقَال

(2)

آدَم: مَا أحْسَن هَذا لو أنَّ خُلْدًا كَان، فَوَجَد إبْلِيس السَّبِيل إلى إغْوائه، فقال: هَلْ أدُلُّك على شَجَرَة الْخُلْد؟

وقال بَعضهم: دَخَل الْجَنَّة في فَمِ الْحَيَّة .... - فَذَكَر القصة -.

وقالتْ طَائفة إنَّ إبْليس لَم يَدْخُل الْجَنَّة إلى آدَم بَعد أن أُخْرِج مِنها، وإنّما أغْوَى آدَم بِشَيْطَانِه وسُلْطَانِه وَوَسَاوسِه التي أعْطَاه الله تَعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ ابن آدَم مَجْرَى الدَّم

(3)

،

(4)

.

وعَدّ الرَّازي قَول وَهْب بن مُنبّه من أقْوال القُصّاص، واعْتَبَره فَاسِدًا: فَقَال حَاكِيًا الْخِلاف في الْمَسْألَة: اخْتَلَفُوا في أنه كَيف تَمَكَّن إبْليس مِنْ وَسْوَسَة آدَم عليه السلام، مَع أن إبليس كَان خَارِج الْجَنَّة وآدَم كَان في الْجَنَّة؟

وذَكَرُوا فيه وُجُوهًا:

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 72).

(2)

في المطبوع: "فقال: يا آدم ما أحسن هذا لو أن خُلْدًا كان" وصواب العبارة: فقال آدم: ما أحسن هذا.

(3)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(4)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 128). وهذه الأقوال نقلها القرطبي دون الإشارة إلى مصدرها.

ص: 263

أحَدُها - قَول القُصَّاص - وهُو الذي رَوَوه عن وَهْب بن مُنَبِّه اليَمَاني والسُّدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره - فَذَكَر مَا تَقَدَّم مِنْ دُخُول إبْليس في فَمِ الْحَيَّة - وثَانِيها: أنَّ إبْليس دَخَل الْجَنَّة في صُورَة دَابَّة، وهَذا القَول أقَلَّ فَسَادًا مِنْ الأوَّل.

وثَالِثها: قَال بَعْض أهْل الأُصُول: إنَّ آدَم وحَوَّاء عليهما السلام لَعَلَّهُما كَانَا يَخْرُجَان إلى بَاب الْجَنَّة، وإبليس كان بِقُرْب البَاب ويُوَسْوس إلَيْهِما.

ورَابِعها: هُو قَول الْحَسَن - أنَّ إبْليس كَان في الأرْض وأوْصَل الوَسْوَسَة إليهما في الْجَنَّة. قَال بَعضهم: هذا بَعِيد لأنَّ الوَسْوَسَة كَلام خَفِيّ، والكَلام الْخَفِيّ لا يُمْكِن إيصَاله مِنْ الأرْض إلى السَّمَاء.

واخْتَلَفُوا مِنْ وَجْه آخَر: وهو أنَّ إبْليس هل بَاشَر خِطَابَهما، أوْ يُقَال: إنه أوْصَل الوَسْوَسَة إليهما على لِسَان بَعض أتْبَاعِه؟

فَذَكَر حُجَج الفَرِيقَين، ثم قَال:

حُجَّة القَول الأوَّل: قَوله تَعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 21]، وذلك يَقْتَضِي الْمُشَافَهَة، وكَذا قَوله:(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)[الأعراف: 22].

وحُجَّة القَول الثَّاني: أنَّ آدَم وحَوَّاء عليهما السلام كانا يَعْرِفَانِه ويَعْرِفَان مَا عِنْدَه مِنْ الْحَسَد والعَدَاوة، فَيَسْتَحِيل في العَادَة أن يَقْبَلا قَوله

(1)

، وأن يَلْتَفِتَا إليه، فلا بُدّ وأن يَكُون الْمُبَاشِر للوَسْوَسَة مِنْ بَعض أتْبَاع إبْليس

(2)

.

(1)

لم يتوصّل إبليس إلى مُرادِه إلا بحيل، منها:

الأيمان الكاذبة (وَقَاسَمَهُمَا)، فَهما لم يقبلا منه بادئ ذي بدء، والوُعُود بالملك والخلود:(أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). وقِيل: لما حلف له إبليس صدقه، لأنه ظن أنه لا يحلف أحدٌ كذبًا.

التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 45). وينظر لذلك: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن القيم (ص 120) وما بعدها، والصواعق المرسلة، ابن القيم (1/ 375).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (3/ 15، 16) بتصرف واختصار.

ص: 264

وقَال الرازي في قَوله تَعَالى: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[الأعراف: 20]: يُمْكِن أن يَكُون هَذا الكَلام ذَكَره إبْليس بِحَيث خَاطَبَ بِه آدَم وحَوَّاء، ويُمْكِن أيضًا أن يَكُون وَسْوَسَة أوْقَعَها في قُلُوبِهما. والأمْرَان مَرْوِيَّان إلَّا أنَّ الأغْلَب أنه كان ذلك على سَبِيل الْمُخَاطَبَة

(1)

.

وقال في جَواب عن سُؤال طَرَحه: كَيف وَسْوَس إليه وآدَم كَان في الْجَنَّة وإبْلِيس أُخْرِج منها؟

والْجَوَاب:

قال الْحَسَن: كَان يُوَسْوِس مِنْ الأرْض إلى السَّمَاء، وإلى الْجَنَّة بالقُوَّة الفَوقِيَّة التي جَعَلها الله تَعالى له.

وقال أبو مُسلم الأصْفهاني: بَلْ كَان آدَم وإبليس في الْجَنَّة؛ لأنَّ هَذه الْجَنَّة كَانَتْ بَعض جَنَّات الأرْض

(2)

، والذي يَقُولُه بَعْض النَّاس مِنْ أنَّ إبْليس دَخَل في جَوْف الْحَيَّة ودَخَلَت الْحَيَّة في الْجَنَّة، فَتِلْك القِصَّة الرَّكِيكَة مَشْهُورَة

(3)

.

وقال آخَرُون: إنَّ آدَم وحَوَّاء رُبَّمَا قَرُبا مِنْ بَاب الْجَنَّة وكَان إبليس واقِفًا مِنْ خَارِج الْجَنَّة عَلى بَابِهَا فَيَقْرُب أحَدُهما مِنْ الآخَر، وتَحْصُل الوَسْوَسَة هُناك

(4)

.

وقال ابن كثير في تَفْسير سُورة البقرة: وقد ذَكَر الْمُفَسِّرُون مِنْ السَّلَف كالسُّدّي بأسَانِيده وأبي العالية ووَهْب بن مُنَبِّه وغيرهم هاهنا أخْبَارًا إسْرَائيلِيَّة عن قِصَّة الْحَيَّة

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (14/ 39).

(2)

أطال ابن القيم النَّفَس في مُناقشة هذه المسألة. يُنظر: مفتاح دار السعادة (1/ 125 وما بعدها).

قال ابن كثير (1/ 363): وقد اخْتُلِف في الجنة التي أُسْكِنها آم أهي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون على الأول، وحَكِي القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض.

وينظر: صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق. باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3/ 1183).

(3)

تقدّم انتصار ابن جرير لهذه القصة.

(4)

التفسير الكبير، مرجع سابق (14/ 38).

ص: 265

وإبليس، وكَيف جَرَى مِنْ دُخُول إبْليس إلى الْجَنَّة وَوَسْوَسَتِه، وسَنَبْسُط ذلك إن شاء الله في سُورة الأعراف، فَهُناك القِصَّة أبْسَط منها هَا هنا، والله الموفق

(1)

.

إلَّا أنه لَم يَتَطَرَّق إلى مَا يُتَوهَّم مِنْ إشْكال أوْ تَعارُض في تَفسير سورة الأعراف

(2)

.

وكذلك القاسمي لم يَتَطَرَّق إلى مَا يُتَوهَّم مِنْ إشْكَال أوْ تَعَارُض بَيْن الآيات

(3)

.

ومِثْله الشنقيطي في "أضواء البيان"

(4)

.

ومِمَّن رَجَّح أنَّ الْمُقَاسَمَة مُشَافَهة الثعالبي، حيث قَال: والْمُقَاسَمَة ظَاهِرُها الْمُشَافَهَة.

وقال طائفة: إنَّ إبليس لَم يَدْخُل الْجَنَّة بَعْد أن أُخْرِج مِنها، وإنّما أغْوَى آدَم بِشَيْطَانِه وسُلْطَانِه ووَسَاوسِه التي أعْطَاه الله تَعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ ابن آدَم مَجْرَى الدَّم

(5)

. وإلى هَذا القَول نَحَا الْمَازِري في بعض أجْوِبَتِه

(6)

.

وعَرَّف الوَسْوَسَة فَقَال: الوَسْوَسَة الْحَدِيث في إخْفَاء، هَمْسًا وإسْرَارًا مِنْ الصَّوت والوُسْوَاس صَوْت الْحُلِيّ، فَشُبِّه الْهَمْس به، وسُمِّي إلْقَاء الشَّيْطَان في نَفْس ابن آدَم وسْوَسَة، إذْ هي أبْلَغ الإسْرَار وأخْفَاه، هَذا في حَال الشَّيْطَان مَعَنا الآن، وأمَّا مَع آدَم فمُمْكِن أن تَكُون وَسْوَسَة بِمُحَاورة خَفِيَّة، أوْ بإلْقَاء في نَفْس

(7)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 366).

(2)

المرجع السابق (6/ 272 - 274).

(3)

يُنظَر: محاسن التأويل (1/ 324، 325)، (7/ 27، 28).

(4)

(2/ 222).

(5)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(6)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 51). والقول الثاني بِحُروفه في "الْمُحرَّر الوجيز"، وقد تقدَّم.

(7)

المرجع السابق (2/ 8، 9).

ص: 266

‌رأي الباحث:

لم يَتَطَرَّق القُرطبي إلى إشْكَال قد يَرِد، وهو: إذا كان إبْليس قد طُرِد مِنْ الْجَنَّة، وأُخْرِج منها مَذمُومًا صَاغِرًا، فَكَيْف دَخَلها؟

والْجَوَاب "مِنْ وُجُوه:

أحَدها: أنه أُخْرِجَ مِنها ومُنِع مِنْ دُخُولِها عَلى وَجْه السُّكْنَى والكَرَامَة واتِّخَاذِها دَارًا .... ويَكُون هَذا دُخُولًا عَارِضًا كَما يَدْخُل الشُّرَط دَار مَنْ أُمِرُوا بِابْتِلائه ومِحْنَتِه، وإن لم يَكُونُوا أهْلًا لِسُكْنَى تِلك الدَّار.

الثَّاني: أنه كَان يَدْنُو مِنْ السَّمَاء فيُكَلِّمُهما ولا يَدْخُل عَليهما دَارَهما.

الثَّالِث: أنه لَعَلَّه قَام عَلى البَاب فَنَادَاهُما وقَاسَمَهُمَا ولم يَلِج الْجَنَّة.

الرَّابِع: أنه قد رُوي أنه أرَاد الدُّخُول عَليهما فَمَنَعَتْه الْخَزَنَة، فَدَخَل في فَمِ الْحَيَّة حتى دَخَلَتْ بِه عَليهما، ولا يَشْعُر الْخَزَنَة بذلكَ"

(1)

.

وكَون إبْليس دَخَل الْجَنَّة لا يَتَعَارَض هَذا مَع طَرْدِه وإبْعَادِه، لأنه لم يَدْخُل الْجَنَّة دُخُول الْمُكْرَمِين، ولا دَخَلَها دُخُولًا يُخِلّ بِوَعْد الله، فلَم يَدْخُل الْجَنَّة دُخُول خَالِدٍ فِيها، ولا دُخُول مُكَرَّم.

وهذا كَما قَال العُلَمَاء في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: لا يَدْخُل الْجَنَّة قَاطِع

(2)

ومثل قَوله عليه الصلاة والسلام: لا يَدْخُل الْجَنَّة قَتَّات

(3)

.

وكَقَولِه صلى الله عليه وسلم: لا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ لا يَأمَن جَارُه بَوَائقَه

(4)

.

(1)

مفتاح دار السعادة، مرجع سابق (1/ 139).

(2)

رواه البخاري (ح 5638)، ومسلم (ح 2556).

(3)

رواه البخاري (ح 5709)، ومسلم (ح 105).

(4)

رواه مسلم (ح 46).

ص: 267

فإنَّهم حَمَلوه - فِيما حَمَلُوه عَليه - على أنَّ "مَعْنَاه: جَزَاؤه أنْ لا يَدْخُلَها وَقْت دُخُول الفَائزِين إذا فُتِحَتْ أبْوَابُها لَهُم، بَلْ يُؤَخَّر"

(1)

، وأنّه لا يَدْخُلَها دُخُول الفَائزِين

(2)

.

وفَات القُرطبي أيضًا الاسْتِدْلال بِحَدِيث: مَنْ تَرَك الْحَيّات مَخَافة طَلبهن فَلَيس مِنَّا؛ مَا سَالَمْنَاهُنّ مُنْذ حَارَبْنَاهُنّ

(3)

.

وهذه العَدَاوة مَحْمُولَة على ذلك الأمْر الأوَّل.

قال يَحيى بن أيُّوب: سُئل أحْمد بن صالح عن تَفْسِير: "مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذ عَادَينَاهُنّ" فَقِيل له: مَتَى كَانَتْ العَدَاوة؟ قال: حين أُخْرِج آدَم مِنْ الْجَنَّة

(4)

.

‌المثال الثاني:

بَيْن الْمُسَارَعة والْمُسَابَقَة:

قَوله تَعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)[البقرة: 148]، مع قَوله تعالى:(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 113، 114] وقَوله تَعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90].

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، مرجع سابق (2/ 17).

(2)

المرجع السابق (2/ 113)، وعمدة القاري، مرجع سابق (22/ 130).

(3)

رواه من حديث ابن عباس: أحمد (ح 2037)، وأبو داود (ح 5250)، وقال محققو مسند أحمد (3/ 477): إسناده صحيح ومن حديث أبي هريرة: أحمد (ح 9586)، وأبو داود (ح 5248) وقال محققو مسند أحمد (15 م 360): إسناده جيد.

(4)

التمهيد، مرجع سابق (16/ 25)، ويُنظر: عون المعبود (14/ 109).

ص: 268

‌صورة التعارض:

آية "البقرة" مَعْنَاها" أي: بَادِرُوا مَا أمَرَكُم الله عز وجل مِنْ اسْتِقْبَال البَيْت الْحَرَام"

(1)

، وهو خَاصَّ بِهَذه الأُمَّة، بَيْنَما آية "آل عمران" في مُسَارَعة أهْل الكِتَاب إلى الْخَيْرَات، وآيَة الأنْبِيَاء في الثَّنَاء على مَنْ ذُكِر مِنْ الأنْبِيَاء بِالْمُسَارَعَة في الْخَيْرَات.

فَهل الْمُسَارَعة مِنْ جِنْس الْمُسَارَعَة؟

وهل هُنَاك فَرْق بَيْن الْمُسَارَعَة والْمُسَابَقَة؟

‌جمع القرطبي:

ذَكَر القرطبي أنَّ مَعْنَى الآيَة "أي: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات لِكُلّ وِجْهَة ولاكُمُوهَا ولا تَعْتَرِضُوا فِيمَا أمَرَكم بَيْنَ هَذه وهَذه، أي: إنّمَا عَليكم الطَّاعَة في الْجَمِيع".

وقَال: قَوله تَعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: إلى الْخَيْرَات - فَحَذَف الْحَرْف - أي: بَادِرُوا مَا أمَرَكم الله عز وجل مِنْ اسْتِقْبَال البَيْت الْحَرَام، وإن كان يَتَضَمَّن الْحَثّ عَلى الْمُبَادَرَة والاسْتِعْجَال إلى جَمِيع الطَّاعَات بِالعُمُوم، فَالْمُرَاد مَا ذُكِر مِنْ الاسْتِقْبَال لِسِياقِ الآي، والْمَعْنى الْمُرَاد الْمُبَادَرَة بِالصَّلاة أوَّل وَقْتِها. والله تعالى أعلم

(2)

.

ثم ذَكَر مِنْ الأحَادِيث مَا يَدُلّ عَلى فَضْل الْمُبَادَرَة إلى الصَّلاة، فأوْرَد أحَد عَشَر حَدِيثًا في ذَلك

(3)

.

وقَال في قَوله تَعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)[آل عمران: 133] مَعْنَاه إلى تَكْبِيرَة الإحْرَام.

وقال عَليّ بن أبي طَالب: إلى أدَاء الفَرَائض. عثمان بن عفان: إلى الإخْلاص. الكَلبي: إلى التَّوبة من الرِّبا. وقيل: إلى

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 160).

(2)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(3)

المرجع السابق (2/ 160 - 162).

ص: 269

الثَّبَات في القِتَال. وقِيل: غير هذا. والآيَة عَامَّة في الْجَمِيع، ومَعْنَاها مَعْنَى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)

(1)

.

وقال في تَفسير قَوله تَعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[المائدة: 48]: أي: سَارِعُوا إلى الطَّاعَات، وهَذا يَدُلّ على أنَّ تَقْدِيم الوَاجِبَات أفْضَل مِنْ تَأخِيرِها، وذَلك لا اخْتِلاف فِيه في العِبَادَات كُلّها إلَّا في الصَّلاة في أوَّل الوَقْت، فإنَّ أبا حنيفة يَرَى أنَّ الأَوْلى تَأخِيرها، وعُمُوم الآيَة دَلِيل عَليه. قَالَه الكيَا. وَفيه دَلِيل عَلى أنَّ الصَّوم في السَّفَر أَوْلَى مِنْ الفِطْر

(2)

.

وقال في تَفْسير سُورة الأنبياء مَا نَصّه: (إِنَّهُمْ) يَعْنِي: الأنْبِيَاء الْمُسَمَّيْن في هَذه السُّورَة (كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) قِيل: الكِنَايَة رَاجِعَة إلى زَكَرِيا وامْرَأته ويَحْيَى

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ مَعْنَى آيَة "البقرة" فاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات لِكُلّ وِجْهَة ولَّاكُمُوها رَبُّكم عز وجل.

2 -

أنَّ الْمُرَاد الْمُبَادَرَة إلى اسْتِقْبَال الكَعْبَة.

3 -

سَارِعُوا إلى الطَّاعَات.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير في تَفْسير آية "البقرة": يَعْنِي بِقَولِه تَعالى ذِكْرُه: (وَلِكُلٍّ) ولِكُلّ أهْل مِلَّة، فَحَذَف "أهْل الْمِلَّة" واكْتَفَى بِدَلالَة الكَلام عَليه.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 200).

(2)

المرجع السابق (6/ 199، 200).

(3)

المرجع السابق (11/ 294)، وهذا القول ذكره ابن جرير (16/ 389) وسيأتي.

ص: 270

ثم ذَكَر مَنْ قَال بِذلك، وخَتَمَه بِقَولِه: فَتَأوِيل أهْل هَذه الْمَقَالَة في هَذه الآيَة: ولِكُلّ أهْل مِلَّة قِبْلةٌ هُو مُسْتَقْبِلُها، ومُوَلٍّ وَجْهَه إلَيْهَا.

وذَكَر القَول الثَّاني، ثم قَال: وتَأويل قَائل هَذه الْمَقَالَة: ولِكُلّ نَاحِية وَجَّهَك إلَيْهَا رَبُّك يَا مُحَمَّد قِبْلَة، اللهُ عز وجل مُوَلِّيها عِبَادَه.

واخْتَار أنَّ مَعْنَى قَوله: (هُوَ مُوَلِّيهَا) أنّه يَعْنِي: هُو مُوَلِّ وَجْهَه إلَيْها ومُسْتَقْبِلها.

فَمَعْنَى الكَلام إذًا: ولِكُلّ أهْلِ مِلّة وِجْهَة، الكُلُّ مِنْهم مُوَلُّوها وُجُوهَهم

(1)

.

أمَّا قَوله تَعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) فَمَعْنَاه عند ابن جرير: فَبَادِرُوا وسَارِعُوا، مِنْ الاسْتِبَاق، وهو الْمُبَادَرَة والإسْرَاع.

وإنّما يَعْنِي بِقَوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: قد بَيّنْتُ لَكم أيّها الْمُؤمِنُون الْحَقَّ، وهَدَيْتُكم للقِبْلَة التي ضَلَّت عَنْها اليَهُود والنَّصَارَى وسَائرُ أهْل الْمِلَل غَيركم، فَبَادِرُوا بالأعْمَال الصَّالِحَة، شُكْرًا لِرَبِّكُم، وتَزَوَّدُوا في دُنْيَاكم لآخِرَتِكم، فَإني قَدْ بَيّنْتُ لَكم سُبُل النَّجَاة، فَلا عُذْر لَكم في التَّفْرِيط، وحَافِظُوا عَلى قِبْلَتِكم، فَلا تُضَيِّعوها كَمَا ضَيَّعَتْها الأُمَم قَبْلَكم، فَتَضِلُّوا كَمَا ضَلَّتْ

(2)

.

وخَتَم الْمَبْحَث بِقَولِه: وإنّما حَضَّ الله عز وجل الْمُؤمِنِين بِهَذه الآيَة عَلى طَاعَتِه والتَّزَوُّد في الدُّنْيا للآخِرَة، فَقَال جَلّ ثَنَاؤه لَهم: اسْتَبِقُوا أيّها الْمُؤمِنُون إلى العَمَل بِطَاعَة رَبِّكم، ولُزُوم مَا هَدَاكم لَه مِنْ قِبْلَة إبْراهيم خَلِيله وشَرَائع دِينِه، فإنَّ الله تَعالى ذِكْرُه يَأتي بِكُمْ وبِمَن خَالَفَ قَبْلَكُم ودِينَكُم وشَرِيعَتَكُم جَمِيعًا يَوْم القِيَامَة، مِنْ حَيث كُنْتُمْ مِنْ

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (2/ 674 - 677).

(2)

أي اليهود والنصارى والملل السابقة. وإنما أضلهم الله جزاء ضلالهم، جزاء وفاقا، كما قال تعالى:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[الصف: 5]، ومثله ما ضلت به اليَهُود والنَّصَارى عن يوم الجمعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: نحن الآخَرون السَّابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فُرِض عليهم فاختلفوا فيه، فَهَدَانا الله، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد. رواه البخاري (ح 836)، ومسلم (ح 855).

ص: 271

بِقَاع الأرْض، حتى يوفِّيَ الْمُحْسِنَ مِنْكم جَزَاءه بإحْسَانِه، والْمُسِيء عِقَابه بِإسَاءَتِه، أوْ يَتَفَضَّل فَيَصْفَح

(1)

.

وقال: وقَوله: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يَقُول تَعالى ذِكْرُه: هَؤلاء الذين هَذه الصِّفَات صِفَاتُهم يُبادِرُون في الأعْمَال الصَّالِحَة ويَطْلُبُون الزُّلْفَة عِنْد الله بِطَاعَتِه.

وقال: وقَوله: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) كَان بَعْضُهم يَقول: مَعْنَاه: سَبَقَتْ لهم مِنْ الله السَّعَادَة، فَذَلك سُبُوقُهم الْخَيْرَات التي يَعْمَلُونَها.

وَعَزا هَذا القَول إلى ابن عباس رضي الله عنهما.

ثم قال: وكان بَعْضُهم يَتَأوَّل ذَلك بِمَعْنى وهُم إلَيها سَابِقُون.

وتَأوَّله آخَرُون: وهُم مِنْ أجْلِها سَابِقُون.

وأَوْلى الأقْوَال في ذَلك عِنْدي بالصَّوَاب القَول الذي قاله ابن عباس مِنْ أنّه سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ الله السَّعَادَة قَبْل مُسَارَعَتْهم في الْخَيْرَات، ولِمَا سَبَق لهم مِنْ ذَلك سَارَعُوا فِيها.

قَال: وإنّما قُلْتُ ذَلك أَوْلَى التَّأوِيلَين بالكَلام لأنَّ ذَلك أظْهَر مَعْنَيَيه، وأنّه لا حَاجَة بِنَا إذَا وَجَّهْنَا تَأوِيل الكَلام إلى ذلك إلى تَحْوِيل مَعْنى اللام التي في قوله:(وَهُمْ لَهَا) إلى غَير مَعْنَاها الأغْلَب عَليها

(2)

.

وقَال في مَوْضِع آخَر: وقَوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يَقُول الله: إنَّ الذين سَمّيْنَاهُم - يَعْني زَكَريّا وزَوْجَه ويَحْيى - كَانُوا يُسَارعُون في الْخَيْرَات في طَاعَتِنَا، والعَمَل بِمَا يُقَرِّبُهم إلَينا

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 679 - 681).

(2)

المرجع السابق (17/ 72، 73).

(3)

المرجع السابق (16/ 389).

ص: 272

واخْتَار السمرقندي أنَّ مَعْنَى قَوله تَعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يَعْنِي: يُبادِرُون في الطَّاعَات - يَعْنِي زَكَرِيا وامْرَأته ويَحْيَى عليهما السلام ويُقَال: الأنْبِيَاء الذين سَبَقَ ذِكْرُهم

(1)

.

وقال: قَوله عز وجل: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يَعْنِي: يُبادِرُون في الطَّاعَات مِنْ الأعْمَال الصَّالِحَة. (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) يَعْنِي: هُمْ لَها عَامِلُون، يَعْنِي: الْخَيْرَات.

وقال الزَّجَّاج: فيه قَوْلان:

أحدَهما: مَعْنَاه: هُمْ إلَيها سَابِقُون، كَقَولِه عز وجل:(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)[الزلزلة: 5] يَعْنِي: إليها. ويَجُوز: هُمْ لَهَا سَابِقُون، أي: لأجْلِها، أي: مِنْ أجْل اكْتِسَابِها، كَقَولِك: أنا أُكْرِم فلانًا لَك: أي: مِنْ أجْلِك

(2)

.

واخْتَار السَّمعاني أنَّ قَوله تَعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) يَنْصَرِف إلى جَمِيع الأنْبِيَاء الذين ذَكَرَهم

(3)

.

وَرَجَّحَ أنَّ مَعْنَى (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) أي: إلَيها سَابِقُون

(4)

.

وبيَّن الثعلبي مَعْنى مُولِّيها، فَقَال:(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) أي: وَلِكُلِّ أهْل مِلَّة قِبْلَة، و (هُوَ مُوَلِّيهَا) مُسْتَقْبِلها ومُقْبِل إلَيها. يُقَال: وَلَيْته ووَلَيْت إليه: إذا أقْبَلْت إليه، وَولَّيْت عنه إذا أدْبَرْت عَنه. وأصْل التَّولِية الانْصِرَاف. وقرأ ابن عباس وابن عامر وأبو رجاء وسليمان بن عبد الملك: هو مُوَلَّاهَا. أي: مَصْرُوف إلَيها

(5)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 440).

(2)

المرجع السابق (2/ 484).

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (3/ 405).

(4)

المرجع السابق (3/ 481).

(5)

الكشف والبيان، مرجع سابق (2/ 13).

ص: 273

وقال في تَفْسير قَوله تَعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا): يَعْني إلَيها سَابِقُون، كَقَولِه:(لِمَا نُهُوا عَنْهُ)[الأنعام: 28] و (لِمَا قَالُوا)[المجادلة: 3] ونَحوهما. وكان ابن عباس يقول في مَعْنَى هَذه الآيَة: سَبَقَتْ لهم مِنْ الله السَّعَادَة، ولِذلك سَارَعُوا في الْخَيْرَات

(1)

.

وفي تَفْسير قَوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) قال: (إِنَّهُمْ) يَعْنِي الأنْبِيَاء الذين سَمَّاهُم في هذه السُّورَة كَانوا يُسَارِعُون في الْخَيْرَات، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) خَوْفًا وطَمَعًا، رَغَبًا في رَحْمَة الله، ورَهَبًا مِنْ عَذَاب الله

(2)

.

وأمَّا الرَّازي فَقَد أشَار إلى مَعْنَى (وَلِكُلٍّ)، وعَلَّلَ ذَلك بِأنه "مَعْرُوف الْمَعْنَى عِنْدَهم فَلَم يَضُرّ حَذْف الْمُضَاف إليه، وهو كَثير في كَلامِهم

(3)

.

ثم ذَكَر مَنْ يَتناوله لَفْظ العُمُوم في (كلّ)، فَقَال: فِيه أرْبَعة أوْجُه:

أحَدها: أنه يَتَناول جَمِيع الفِرَق، أعْنِي الْمُسْلِمِين واليَهُود والنَّصَارى والْمُشْرِكِين وهو قَول الأصَمّ. قال: لأنَّ في الْمُشْرِكِين مَنْ كَان يَعْبُد الأصْنَام، ويَتَقَرّب بِذلك إلى الله تعالى، كَمَا حَكَى الله تَعالى عَنهم في قَوله:(هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)[يونس: 18].

وثَانِيها: - وهو قَول أكْثر عُلَمَاء التَّابِعِين - أنَّ الْمُرَاد أهْل الكِتَاب، وهُم الْمُسْلِمُون واليَهُود والنَّصَارَى، والْمُشْرِكُون غَير دَاخِلِين فِيه.

وثَالِثها: قال بَعْضُهم: الْمُرَاد لِكُلّ قَوم مِنْ الْمُسْلِمِين وِجْهَة، أي: جِهَة مِنْ الكَعْبَة يُصَلِّي إلَيها؛ جَنُوبِيَّة، أوْ شَمَالِيَّة، أوْ شَرْقِيَّة، أوْ غَرْبِيَّة.

ورَابعُها: قال آخَرُون: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) أي: لِكُلّ وَاحِد مِنْ الرُّسُل وأصْحَاب الشَّرَائع جِهَة قِبْلَة.

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (7/ 51).

(2)

المرجع السابق (6/ 305).

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (4/ 119) باختصار.

ص: 274

فَقِبْلَة الْمُقَرَّبِين العَرْش، وقِبْلَة الرَّوحَانِيِّين الكُرْسِي، وقِبْلَة الكَرُوبِيِّين

(1)

البَيْت الْمَعْمُور، وقِبْلَة الأنْبِيَاء الذين قَبْلَك بَيْت الْمَقْدِس، وقِبْلَتُك الكَعْبَة

(2)

.

ومَعْنَى (هُوَ مُوَلِّيهَا) عِنْد الرَّازي: أي: هُو مُوَلِّيها وَجْهَه، فاسْتَغْنَى عن ذِكْرِ الوَجْه.

قال الفَرَّاء: أي: مُسْتَقْبِلها. وقال أبو معاذ: مُوَلِّيها على مَعْنَى مُتَوَلِّيها، يُقال: قد تَولَّاها ورَضِيَها واتَّبَعَها.

ثم قال الرازي: أمَا قَوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) فَمَعْنَاه: الأمْر بالبِدَار إلى الطَّاعَة في وَقْتِها

(3)

.

واكْتَفَى في تَفسير سُورة الأنْبياء بالإشَارَة إلى الْمَعْنَى العَامّ، فَقَال: والْمُسَارَعَة في طَاعَة الله تَعالى مِنْ أكْبَر مَا يُمْدَح الْمَرْء بِه؛ لأنه يَدُلّ على حِرصٍ عَظِيم عَلى الطَّاعَة

(4)

.

وقال ابنُ جُزي: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) والضَّمِير للأنْبِياء الْمَذْكُورِين.

(1)

قال الخطابي في "غريب الحديث"(1/ 440): وقوله: كَرُب، أي: قارب الإدراك، ومنه الملائكة الكروبيون، وهم المقربون، وقال بعضهم: إنما سموا كروبيين لأنهم يدخلون الكرب على الكفار، وليس هذا بشيء.

وفي "غريب الحديث" لابن الجوزي (2/ 284): قال أبو العالية: الكروبيون سادة الملائكة. وقال الليث: يقال لكل شيء من الحيوان إذا كان وثيق المفاصل: إنه لمكرب المفاصل.

وقال ابن تيمية (بغية المرتاد- ص 230): ذَكَرَ مَنْ ذَكَر مِنْ الْمُفَسِّرين أن الملائكة الْمُقَرَّبِين هُمْ حَمَلَة العَرْش والكَرُوبِيُّون مِنْ الْمَلائكَة مُشْتَقّون من كَرُب إذا قَرُب، فالْمُرَاد وصفُهم بالقُرب لا بالكَرْب الذي هو الشِّدّة، كما يَظُن ذلك طوائف من هَؤلاء ويُفَرِّقُون بين الكروبيين والرَّوْحانِيِّين، بأنَّ أولئك في عَالم الجلال، وهؤلاء في عالم الْجَمَال، فإن هذا توهم وخيال لم يقله أحد من علماء أهل الملل المتلقين ما يقولونه عن الرُّسُل صلى الله عليهم وسلم أجمعين.

ويُنظر: كتاب العرش، ابن أبي شيبة العبسي (ص 65)، ولسان العرب، مرجع سابق (1/ 714)، وتفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (12/ 171)، وفتح الباري، ابن حجر (6/ 354).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (4/ 119).

(3)

المرجع السابق (4/ 120).

(4)

المرجع السابق (22/ 188).

ص: 275

وقال في مَوْضِع آخَر: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) فيه مَعْنَيانِ:

أحَدهما: أنّهم يُبَادِرُون إلى فِعْل الطَّاعَات.

والآخَر: أنّهم يَتَعَجَّلُون ثَوَاب الْخَيْرَات، وهَذا مُطَابِق للآية الْمُتَقَدِّمَة

(1)

، لأنه أثْبَت فيهم مَا نُفِيَ عَنْ الكُفَّار مِنْ الْمُسَارَعَة. (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) فِيه الْمَعْنَيَان الْمَذْكُورَان في (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).

وقِيل: مَعْنَاه: سَبَقَتْ لَهم السَّعَادة في الأزَل

(2)

.

وبَيَّن القَاسِمي مَعْنى "لِكلّ وِجْهَة"، ثم نَبَّه إلى أنَّ الآيَة تُشِير إلى "أنَّ النَّاس على مَذَاهِب عَدِيدَة وأدْيَان مُتَنَوِّعَة، وأنَّ عَلى العَاقِل أن يَسْتَبِق إلى مَا كَان خَيْرها وأرْقَاها.

وقد اتَّفَق العُقَلاء قَاطِبَة والفَلاسِفَة أنَّ دِين الإسْلام أرْقَى الأدْيَان كُلّها لِما حَوى مِنْ حَاجِيَّات الكَمَال البَشَرِي، وَوَفَّى بشُؤون الاجْتِمَاع، وأسْبَاب العُمْرَان، وذَرَائع الرُّقيّ وطُرُق السَّعَادَتَين"

(3)

.

كَمَا بَيَّن أنَّ قَوله تَعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) تَعْلِيل لِمَا فَصَّل مِنْ فُنُون إحْسَانِه تَعالى، الْمُتَعَلِّقَة بالأنْبِيَاء الْمَذْكُورِين، أي: كَانُوا يُبَادِرُون في كُلّ بَاب مِنْ الْخَيْر، وإيثَار (في) عَلى (إلى) للإشارَة إلى ثَبَاتِهم واسْتِقْرَارِهم في أصْل الْخَيْر؛ لأنَّ (إلى) تَدُلّ على الْخُرُوج عَنْ الشَّيء والتَّوَجُّه إلَيه

(4)

.

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) قال: أي: في نَيْل الْخَيْرَات التِي مِنْ جُمْلَتِها الْخَيْرَات العَاجِلَة الْمَوْعُودَة عَلى الأعْمَال الصَّالِحَة

(5)

.

(1)

يَعني قَوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون: 60].

(2)

التسهيل لِعلُوم التنْزِيل، مرجع سابق (3/ 53).

(3)

محاسن التأويل، مرجع سابق (2/ 474).

(4)

المرجع السابق (11/ 230).

(5)

المرجع السابق (11/ 307).

ص: 276

‌رأي الباحث:

الاسْتِبَاق هُو الْمُبَادَرَة والإسْراع، كَما قَال ابن جرير

(1)

.

والأمْر بالْمُسَارَعَة إلى الْخيْرَات والاسْتِبَاق إليها - كَمَا في سُورة البقرة - أمْر لِهَذه الأُمَّة، وهو أَخَصّ بِالصَّلاة، إذ هو في سِياق آياتٍ الْحَدِيث فِيها عن اسْتِقْبَال الكَعْبَة.

والأمْر بِالْمُسَارَعَة في الْخَيْرَات في حَقّ الأُمَم الْمَاضِيَة والأنْبِيَاء السَّابِقِين؛ هو في عُمُوم أبْوَاب الْخَيْر.

‌المثال الثالث:

صَرْف الصَّدَقَات لِلكُفَّار:

قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[البقرة: 272] وقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، مع قوله تعالى:(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 60].

‌صورة التعارض:

آيَة "البقرة" مَع آيَة "الْمُمتحنة" تُفِيد جَوَاز صَرْف الصَّدَقَات إلى الكُفَّار جُمْلَة، وآية "التوبة" تَدلّ على حَصْر الصَّدَقَات في الْمُؤْمِنِين بِدَلالة سِياق الآيات، وبِدَلالة تَخْصِيص "الْمُؤلَّفَة قُلوبهم" من جُمْلَة الكُفَّار.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 679).

ص: 277

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي: قَوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) هَذا الكَلام مُتَّصِل بِذِكْرِ الصَّدَقَات؛ فكأنه بَيَّن فِيه جَوَاز الصَّدَقة على الْمُشْرِكِين.

رَوَى سَعيد بن جبير مُرْسَلا

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم في سَبَب نُزُول هذه الآيَة أنَّ الْمُسْلمين كَانُا يَتَصَدَّقُون على فُقَرَاء أهْل الذِّمَّة، فَلَمَّا كَثُر فُقَرَاء الْمُسْلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَتَصَدّقوا إلَّا عَلى أهْل دِينِكم. فَنَزَلَتْ هذه الآية مُبِيْحَة للصَّدَقة على مَنْ لَيس مِنْ دِين الإسْلام.

وذكر النَّقَّاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بِصَدَقات فَجَاءَه يَهُودِي فَقَال: اعْطِنِي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لَيس لكَ مِنْ صَدَقة الْمُسْلِمِين شَيء. فَذَهَب اليَهُودِي غَير بَعيد، فَنَزَلَتْ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، فَدَعَاه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأعْطَاه، ثم نَسَخَ الله ذلك بآيَة الصَّدَقَات

(2)

.

ورَوَى ابن عباس أنه قال: كَان نَاس مِنْ الأنْصَار لهم قَرَابَات مِنْ بَنِي قُرَيظَة والنَّضير، وكَانُوا لا يَتَصَدَّقُون عَليهم رَغْبَة مِنْهم في أن يُسْلِمُوا إذا احْتَاجُوا، فَنَزَلَتْ الآيَة بسَبَب أولئك

(3)

.

وحَكى بَعْض الْمُفَسِّرِين أنَّ أسْمَاء ابنة أبي بَكر الصِّدِّيق أرَادَتْ أن تَصِلَ جَدّها أبا قُحَافَة ثم امْتَنَعَتْ مِنْ ذلك لِكَوْنِه كَافِرًا

(4)

، فَنَزَلَتْ الآيَة في ذَلك.

(1)

المرسل من أقسام الحديث الضعيف. قال مسلم بن الحجاج (مقدمة الصحيح 1/ 30): والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة. اهـ. والحديث رواه ابن جرير (5/ 21) من طريق الحماني، وهو متهم بسرقة الحديث. انظر: الكامل، ابن عدي (7/ 237 وما بعدها)، والتقريب، ابن حجر (ترجمة 7591)، ورواه أيضًا من طريق جرير بن عبد الحميد، وهو ممن اخْتَلَط. انظر: الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الثقات، ابن الكيال ص (120 وما بعدها)، فهذه الروايات ضعيفة من أكثر من وجه.

(2)

في هذا المعنى آثار ذكرها السيوطي في الدر المنثور (2/ 86، 87).

(3)

رواه ابن جرير (5/ 20).

(4)

أي: آنذاك، وإلَّا فقد أسْلَم عام الفتح. انظر: مسند أحمد (ح 12635).

ص: 278

وحَكى الطَّبَري

(1)

أن مَقْصد النبي صلى الله عليه وسلم بِمَنْع الصَّدقة إنّما كَان ليُسْلِمُوا ويَدْخُلوا في الدِّين، فَقَال الله تعالى:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ).

وقيل: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) ليس مُتَّصِلًا بِمَا قَبْل فَيكُون ظَاهِرًا في الصَّدَقَات وصَرْفها إلى الكُفَّار، بل يَحْتَمِل أن يَكُون مَعْناه ابْتدَاء كَلام

(2)

.

قال القرطبي:

قال عُلَمَاؤنا: هذه الصَّدَقة التي أُبِيحَتْ لهم حَسب مَا تَضَمَّنَتْه هَذه الآثار هي صَدَقَة التَّطَوُّع، وأمَّا الْمَفْرُوضَة فَلا يُجْزِئ دَفعها لِكَافِر، لقَوله عليه السلام: أُمِرْت أن آخُذ الصَّدَقة مِنْ أغْنيائكم وأرُدّها في فُقَرَائكم

(3)

.

قال ابن المنذر: أجْمَع

(4)

كُل مَنْ أحْفَظ عَنه مِنْ أهْل العِلْم أنَّ الذَّمِّي لا يُعْطَى من زَكَاة الأمْوال شَيئا.

وقال المهدوي: رُخِّص للمُسْلِمِين أن يُعْطُوا الْمُشْرِكِين مِنْ قَرَابَاتهم مِنْ صَدَقَة الفَرِيضَة لِهَذه الآيَة.

قال ابن عطية

(5)

: وهذا مَرْدُود بالإجْمَاع، والله أعلم.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 19).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 319، 320) وهذا الكلام بحروفه في المُحرَّر الوجيز، مرجع سابق (1/ 367).

(3)

لم أرَه بهذا اللفظ مسندًا. وفي الصحيحين: البخاري (ح 1331)، ومسلم (ح 19) من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ: فأعْلِمْهُم أن الله افتَرَض عَليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدّ على فقرائهم.

ورواه الإمام أحمد (ح 23176)، والبخاري في الأدب المفرد (ح 1084) من طريق ربعي بن حراش قال: حدثني رجل من بني عامر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه -: وتأخُذُوا مِنْ مَال أغنيائكم فَتَرَدُّوها على فقرائكم.

(4)

وممن حكى الإجماع ابن عبد البر، وسيأتي في رأي الباحث.

(5)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 367) وابن عطية نقل ما ذكره القرطبي عن ابن المنذر وعن المهدوي ثم قال: وها مردود عندي.

ص: 279

واسْتَدَلّ القرطبي بِقولِه تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان: 8] قال: والأسير في دَار الإسْلام لا يَكُون إلَّا مُشْرِكًا.

وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)[الممتحنة: 8] فَظَوَاهِر هذه الآيَات تَقْتَضِي جَوَاز صَرْف الصَّدَقات إليهم جُمْلَة إلَّا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَصّ منها الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، لِقوله عليه السلام لِمُعاذ: خُذْ الصَّدَقَة مِنْ أغْنيائهم ورُدّها على فُقَرَائهم

(1)

. واتَّفَق العُلَمَاء على ذَلك عَلى مَا تَقَدم فَيُدْفَع إليهم مِنْ صَدَقَة التَّطَوُّع إذا احْتَاجُوا. والله أعلم.

قال ابن العربي: فأمَّا الْمُسْلِم العَاصِي فلا خِلاف أنَّ صَدقَة الفِطْر تُصْرَف إليه إلَّا إذا كَان يَتْرُك أرْكَان الإسْلام مِنْ الصَّلاة والصِّيام فلا تُدْفَع إليه الصَّدقة حتى يَتُوب، وسَائر أهْل الْمَعَاصِي تُصْرَف الصَّدَقَة إلى مُرْتَكِبِيها لِدُخُولِهم في اسْم الْمُسْلِمِين. وفي صَحِيح مُسْلِم

(2)

أنّ رَجُلًا تَصَدَّق على غَنِيّ وسَارِق وزَانِية، وتُقُبِّلَتْ صَدَقَته

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

آية "البقرة" الكَلام فيها مُتَّصِل بِذِكْر الصَّدَقَات؛ فكأنه بَيَّن فيه جَوَاز الصَّدَقَة على الْمُشْرِكِين.

2 -

الصَّدَقَة التي أُبِيْحَ دَفْعها إلى الكُفَّار هي صَدَقَة التَّطَوّع، وأمَّا الْمَفْرُوضَة فَلا يُجْزئ دَفْعها لِكَافِر.

3 -

أنَّ مَنْع الصَّدَقَة على الكُفَّار ابْتِدَاء كان رَغْبَة في إسْلامِهم، وقَد أذِن الله فيها.

(1)

الحديث مخرج في الصحيحين بمعناه، وقد تقدم.

(2)

الحديث الذي يشير إليه: رواه البخاري (ح 1355)، ومسلم (ح 1022)، وهو قد أورده بالمعنى اختصارًا.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 320، 321).

ص: 280

4 -

ظَواهِر الآيَات تَقْتَضِي جَوَاز صَرْف الصَّدَقَات إلى الكُفَّار جُمْلَة إلَّا أن النبي صلى الله عليه وسلم خَصّ مِنها الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فلا تُدْفَع إليهم.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

ابْتَدَأ ابن جرير بِذِكْر مَعْنَى آيَة "البقرة"، فَقَال: يَعْنِي تَعالى ذِكْرُه بذلك: لَيس عَليك يا محمد هُدى المشركين إلى الإسلام فتمنعهم صدقة التطوع ولا تُعطيهم منها ليَدْخُلوا في الإسْلام حَاجَة مِنهم إلَيها، ولَكِنَّ الله هو يَهدي مَنْ يَشَاء مِنْ خَلْقِه إلى الإسْلام فيُوفِّقهم له، فلا تَمْنَعهم الصَّدَقَة.

ثم روى بإسْناده إلى شُعبة قال: كَان النبي صلى الله عليه وسلم لا يَتَصَدّق على الْمُشرِكِين، فَنَزَلَتْ:(وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)، فَتَصَدَّق عليهم.

وروى بإسْناده إلى ابن عباس قال: كَانُوا لا يَرْضَخُون

(1)

لِقَرَابَاتهم مِنْ الْمُشْرِكين فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).

وروى آثارًا عن ابن عباس وغيره في هذا الْمَعْنَى

(2)

.

وقد بيَّن السمعاني نَوع الْهِدَاية الْمَنْفِيّة هنا، فَقال: قَوله تَعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) ليس الْمُرَاد به هِدَاية الدَّعْوة فَإنّها عَليه حَتْم، وإنّمَا الْمُرَاد به هِدَاية التَّوْفِيق

(3)

.

ثم ذَكَر ما رُوي عن سعيد بن جبير - مما تقدّم - واخْتَار أنَّ مْعَنى الآيَة "لَيْس عَليك هُدَاهُم بِأن تُلْجِئهم وتَحْمِلْهم عَلى الدُّخُول في الإسْلام (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي: يُوفِّق مَنْ يَشَاء ويَخْذُل مَنْ يَشَاء"

(4)

.

(1)

قال ابن الأثير (النهاية 2/ 228): الرَّضْخ العَطِية القليلة. ويُنظر: لسان العرب (3/ 19).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 19 - 22) باختصار.

(3)

مسألة الْهُدى الْمُثْبَت والْمَنْفِي لها مَبْحَث آخَر.

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 276).

ص: 281

وأوْرَد السمرقندي سَبَب النُّزُول، فَقال: قَوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكة لِعُمْرَة القَضَاء، وخَرَجَتْ مَعه أسْمَاء بنت أبي بكر، فَجَاءتْها أمُّها وَجَدَّها أبو قُحَافة فَسألا مِنها حَاجَة، فقالت: لا أُعْطِيكُما شَيئًا حتى أسْتَأمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّكُمَا لَسْتُمَا عَلى دِيني، فاسْتَأمَرَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هذه الآية:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يَعْنِي: يُوفِّق مَنْ يَشَاء لِدِينِه

(1)

.

فإن قِيل: قَدْ قَال في آية أُخْرَى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52] وقال هاهنا: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)؟

قِيل لَه: إنّما أرَاد بِه هُناك الدَّعْوة، وهَاهنا أرَاد بِه الْهُدَى خَاصَّة، وهو التَّوْفِيق إلى الْهُدَى

(2)

.

(1)

الذي ذكره غير واحد من المفسرين أن جد أسماء وجدتها رغبا في أن تعطيهما.

وأما قصة أسماء مع أمها فهي في المدينة في زمن صلح الحديبية، وليست في الحج. وقد رواها البخاري (ح 2477)، ومسلم (ح 1003)، وفيها: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قدمت عليّ أمي وهي راغبة أفأصل أمّي؟ قال: نعم، صلي أمّك.

وهذا ما ذكره الزمخشري بمعناه في تفسير سورة الممتحنة (ص 1099).

وأما ما رواه أحمد في المسند (ح 16111): من قدوم قتيلة - أم أسماء - بهدايا، وأنها أبت أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها

فهو حديث ضعيف، في إسناده مصعب بن ثابت. "وقد أخرجه ابن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير.

وأخرجه أيضًا الطبراني كأحمد، وفي إسنادهما مصعب بن ثابت، ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبان"، نيل الأوطار، الشوكاني (6/ 106).

ثم هو مخالف لما في الصحيحين من أن أم أسماء قدمت وهي راغبة في صلة ابنتها. والمعنى أنها قدمت طالبة في بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة، هكذا فسره الجمهور. (فتح الباري ابن حجر 5/ 234).

(2)

لبيان أنواع الهداية ومراتبها وموانعها ينظر: شِفاء العليل (1/ 181 وما بعدها)، ومفتاح دار السعادة (1/ 307 وما بعدها).

ص: 282

ثم قَال تَعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) يَعْنِي مَا تُنْفِقُوا مِنْ مَالٍ فَثَوابُه لأنْفُسِكم إذا تَصَدَّقْتُم على الكُفَّار أوْ عَلى الْمُسْلِمِين.

ورُوي عن عُمر بن الخطاب أنه رَأى رَجُلًا مِنْ أهْل الذِّمَّة يَسأل على أبْوَاب الْمُسْلِمِين، فَقَال: مَا أنْصَفْنَاك، أخَذْنا مِنْك الْجِزْيَة مَا دُمْتَ شَابًا ثُم ضَيَّعْنَاك بَعْد مَا كَبِرْت وَضَعُفْت، فأمَر بِأن يُجْرَى عليه قُوته مِنْ بَيْت الْمَال

(1)

.

في حين ذَكَر الزمخشري سبب النُّزُول بِصِيغَة تَمرِيض، فَقال: وقِيل: حَجَّتْ أسْمَاء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فأتَتْهَا أُمُّها تَسْألها وهي مُشْرِكَة، فأبَتْ أن تُعْطِيها، فَنَزَلَتْ.

وذَكَر الزمخشري مَا جَاء عن سعيد بن جبير. ثم قال: ورُوي أنَّ نَاسًا مِنْ المسلمين كانَت لَهم أصْهَار في اليَهُود ورضَاع، وقَد كَانوا يُنْفقُون عليهم قَبل الإسْلام فَلَمَّا أسْلَمُوا كَرِهُوا أن يُنْفِقُوهم

(2)

.

وعن بعض العُلَمَاء: لَو كان شَرّ خَلْق الله لَكَان لك ثَوَاب نَفقَتِك

(3)

.

وأمَّا ابن عطية فأكْثر نَقْل القرطبي الْمُتَقَدِّم عنه، إلَّا أن ابن عطية زاد بِقوله: والْهُدَى الذي لَيس على مُحمد صلى الله عليه وسلم هو خَلْق الإيمان

(4)

في قُلُوبِهم،

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 205).

(2)

هكذا في المطبوع. وفي "معالم التنزيل"(1/ 258): فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم.

(3)

الكشاف، مرجع سابق ص (152).

(4)

هذا اللفظ مما أنكره الإمام أحمد، ففي اعتقاد الإمام أحمد، ابن أبي يعلى (1/ 302): وسئل عن الإيمان أمخلوق أو غير معلوق؟ فقا: من قال إن الإيمان مخلوق فقد كفر؛ لأن في ذلك إيهامًا وتعريضًا بالقرآن. ومن قال إنه غير مخلوق فقد ابتدع؛ لأن في ذلك إيهامًا وتعريضًا أن إماطة الأذى عن الطريق وأفعال الأركان غير مخلوقة. فكأنه أنكر على الطائفتين.

وأصله الذي بنى عليه مذهبه أن القرآن إذا لم يَنْطِق بشيء، ولا رُوي في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وانقرض عصر الصحابة ولم يُنقل فيه عنهم قول.

الكلام فيه حدث في الإسلام، فلأجل ذلك أمْسَك عن القول في "خلق الإيمان"، وألا يُقْطَع على جَواب في أنه مخلوق أو غير مخلوق، وفسق الطائفتين وبدعهما

ص: 283

وأمَّا الْهُدى الذي هُو الدُّعَاء فَهو عَليه، وليس بِمُرَادٍ في هَذه الآيَة. ثم أخْبَر تَعالى أنه هو يَهدي مَنْ يَشَاء، أي: يُرْشده .... ثم بَيَّن تعالى أنَّ النَّفَقَة الْمُعْتَدّ بِها الْمَقْبُولة إنّما هِي مَا كَان ابْتِغَاء وَجْه الله؛ هذا أحَد التَّأويلات في قَوله تَعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ).

وفِيه تَأويل آخَر، وهو أنّها شَهَادَة مِنْ الله تَعالى للصَّحَابة أنّهم إنّما يُنْفِقُون ابْتِغَاء وَجْه الله، فهو خَبَر مِنْه لَهُمْ فِيه تَفْصِيل، وعلى التَّأويل الآخَر هو اشْتِرَاط عَليهم، ويَتَنَاول الاشْتِراط غَيرهم مِنْ الأُمَّة

(1)

.

وقال الرازي: هذا هُو الْحُكْم الرَّابِع مِنْ أحْكَام الإنْفَاق، وهو بَيَان أنَّ الذي يَجُوز الإنْفَاق عَليه مَنْ هُو؟

ثم ذَكَر في سبب النُّزُول ثَلاث رِوايات

(2)

.

وأشَار إلى حِرصِه صلى الله عليه وسلم على هِدَاية النَّاس، فَقال: أنه صلى الله عليه وسلم كَان شَدِيد الْحِرْص عَلى إيمانهم .... فأعْلَمَه الله تعالى أنه بَعثه بَشِيرًا ونَذِيرًا، ودَاعِيًا إلى الله بإذْنه وسِرَاجًا مُنِيرا، ومُبَيِّنًا للدَّلائل، فأمَّا كَونهم مُهْتَدِين فليس ذلك مِنْك ولا بِك؛ فالْهُدَى هاهنا بِمَعْنَى الاهْتِدَاء، فَسَواء اهْتَدَوا أوْ لَم يَهْتَدُوا فلا تَقْطَع مَعُونَتك وبِرَّك وصَدَقَتك عَنهم.

وفيه وَجْه آخَر: ليس عَليك أن تُلْجِئهم إلى الاهْتِدَاء بِوَاسِطة أن تُوقِف صَدَقَتك عَنهم على إيمانهم، فإنَّ مِثْل هَذا الإيمان لا يَنْتَفِعُون بِه، بل الإيمان الْمَطْلُوب مِنهم الإيمان على سَبيل التَّطَوُّع والاخْتِيَار

(3)

.

واخْتَار أنَّ "ظَاهِر قَوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) خِطَاب مَع النبي صلى الله عليه وسلم، ولَكِنَّ الْمُراد بِه هُو وأُمّته، ألَا تَرَاه قَال:(إِنْ تُبْدُو الصَّدَقَاتِ)[البقرة: 271]، وهَذا خِطَاب

(1)

المُحَرَّر الوجيز، مرجع سابق (1/ 367، 368).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (7/ 67).

(3)

المرجع السابق (7/ 68)، والوجه الأخير مُتعقَب بِما كان مِنْ إسْلام المُؤلّفَة قُلُوبُهم، ومِن إسْلام الأسْرَى.

ص: 284

عَامّ، ثم قال:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، وهُو في الظَّاهِر خَاصّ، ثم قال بَعْدَه:(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) وهذا عَامَّ، فَيُفْهَم مِنْ عُمُوم مَا قَبْل الآية وعُمُوم مَا بَعْدَها عُمُومها أيضا"

(1)

.

وَرَجَّح أنَّ "الْمَنْفِي بِقَولِه: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) هو حُصُول الاهْتِدَاء على سَبِيل الاخْتِيَار"

(2)

.

وصَدّر ابن جُزي تَفْسير آية "البقرة" بِقَولِه: قِيل: إنَّ الْمُسْلِمِين كَانُوا لا يَتَصَدّقون على أهْل الذِّمَّة، فَنَزَلَتْ الآية مُبِيحَة للصَّدَقَة على مَنْ لَيس عَلى دِين الإسْلام، وذلك في التَّطَوُّع، وأمَّا الزَّكَاة فلا تُدْفَع لِكَافِرٍ أصْلا. فالضَّمِير في (هُدَاهُمْ) على هَذا القَوْل للكَافِر.

وقِيل: لَيس عَليك أن تَهْدِيهم لِمَا أُمِرُوا بِه مِنْ الإنْفَاق وتَرْك الْمَنّ والأذَى والرِّيَاء والإنْفَاق مِنْ الْخَبِيث، إنّما عَليك أن تُبَلِّغهم، والْهُدَى بِيَدِ الله، فَالضَّمِير على هذا للمُسْلِمِين

(3)

.

وأوْرَد ابن كَثير مَا رَواه النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في سَبب النُّزُول، وأوْرَد أيضًا مَا رَوَاه ابن أبي حاتم مِنْ حَديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كَان يَأمُر بأن لا يُتَصَدّق إلَّا عَلى أهْل الإسْلام حتى نَزَلَتْ هَذه الآية:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) إلى آخِرِها، فأمَرَ بالصَّدَقَة بَعْدَها عَلى كُلّ مَنْ سَألَك مِنْ كُلِّ دِين

(4)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (7/ 68).

(2)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(3)

التسهيل لِعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 93).

(4)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 476).

ص: 285

وفي تَفْسير سورة الممتحنة ذَكَر حَدِيث أسْمَاء

(1)

، وقَد ذَكَر رِوايات للإمام أحمد ولابن جَرير، ولم يُشِر إلى تَخْريج الْحَدِيث في الصحيحين.

وقال الثعالبي: وقَوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) الآية. وَرَدَتْ آثَار أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَنَعَ فُقَرَاء أهْل الذِّمَّة مِنْ الصَّدَقَة، فَنَزَلَتْ الآية مُبِيحَة لهم.

قال: وذَكَر الطَّبري أنَّ مَقْصِد النبي صلى الله عليه وسلم بِمَنْع الصَّدَقَة إنّما كَان ليسْلِمُوا لِيَدْخُلُوا في الدِّين، فَقَال الله سُبحانه:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)

(2)

.

ثم نَقَل ما ذَكَره ابن عطية مما تَقَدَّم.

واخْتَار أبو السعود أنَّ مَعْنَى قَوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي لا يَجِب عَليك أن تَجْعَلهم مَهْدِيِّين إلى الإتْيَان بِمَا أُمِرُوا بِه مِنْ الْمَحَاسِن، والانْتِهَاء عَمَّا نُهُوا عَنْه مِنْ القَبَائح الْمَعْدُودَة، وإنّما الوَاجِب عَليك الإرْشَاد إلى الْخَير والْحَثّ عليه، والنَّهْي عن الشَّرّ والرَّدْع عَنه بِمَا أُوحِي إليك مِنْ الآيَات والذِّكْر الْحَكِيم

(3)

.

ونَقَل القاسمي عن أبي السّعود قَوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ): والْجُمْلَة مُعْتَرِضَة جِيء بِها عَلى تَلْوين الْخِطَاب وتَوْجِيهه إلى رَسول الله صلى الله عليه وسلم مَع الالْتِفَات

(4)

إلى الغَيْبَة فِيمَا بَيْن الْخِطَابَات الْمُتَعَلِّقَة بِالْمُكَلَّفِين مُبَالَغَة في حَمْلِهم على الامْتِثَال، فَإنَّ

(1)

المرجع السابق (13/ 518)، وحديث أسماء مخرج في الصحيحين، وسبق تخريجه.

(2)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 220).

(3)

تفسيره (1/ 264).

(4)

انظر: "البرهان في علوم القرآن"، مرجع سابق (3/ 314 وما بعدها)، و "مُعتَرَك الأقران" مرجع سابق (1/ 377) وقد عَدّ السيوطي الالتفات مِنْ وُجُوه إعْجَاز القُرْآن.

ص: 286

الإخْبَار بِعَدَم وُجُوب تَدَارُك أمْرِهم على النبي صلى الله عليه وسلم مُؤذِن بِوُجُوبِه عليهم حَسْبَما يَنْطِق بِه مَا بَعْدَه مِنْ الشَّرْطِيَّة

(1)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَات، إذْ أنّ آية "البقرة" في عُمُوم الصَّدَقَات، وجَوَازِها على الكُفَّار، ويُسْتَثْنَى مِنْ ذَلك الزَّكَاة الوَاجِبة، لِمَا جَاء في السُّنَّة.

وآية "الممتحنة" في جَوَاز صِلَة وبِرّ مَنْ لَم يَكن مُحَارِبا مِنْ الكُفَّار، ومَن لم يَكُنْ مُعَادِيا، وصِلَته أيضًا لا تَكون مِنْ الزَّكَاة الوَاجِبَة.

وهذا يَكَاد يَكون إجْمَاعا، ومِمَّن حَكَى الإجْمَاع ابن عبد البر، حَيث قَال: ولَم يَخْتَلِف العُلَماء في الصَّدَقة التَّطَوُّع أنّها جَائزة مِنْ الْمُسْلِم على الْمُشْرِك قَرِيبًا كَان أوْ غَيره

وإنّمَا اخْتَلَفُوا في كَفَّارَة الأيْمَان وزكاة الفِطْر؛ فَجُمْهور العُلَماء على انه لا تَجُوز لِغير الْمُسْلِمِين، لقَوله صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أن آخذ الصدقة مِنْ أغنيائكم وأرُدّها على فُقَرائكم. وكَذلك كُل مَا يَجِب أن يُؤخَذ منهم فَواجِب أن يُرَدّ على فُقَرَائهم. وأجْمَعُوا أنَّ الزَّكاة الْمَفْرُوضَة لا تَحِلّ لِغَير الْمُسْلِمين، فَسَائر مَا يَجِب أدَاؤه عَليهم مِنْ زَكاة الفِطْر وكَفَّارَة الأيْمَان والظِّهار، فَقِياس على الزَّكاة عِندنا، وأمَّا التَّطَوع بالصَّدَقَة فَجَائز على أهْل الكُفْر مِنْ القَرَابات وغَيرهم، لا أعْلم في ذَلك خِلافًا. والله أعلم

(2)

.

والقرطبي جَمَع بين الآيَات بِما جَاء في السُّنّة.

وفَاتَ القرطبي الاسْتِدْلال بِمَا جَاء في الصحيحين

(3)

أنَّ عُمر بن الخطاب رَأى حُلّة سِيَرَاء عِند بَاب الْمَسْجِد، فَقَال: يا رسول الله لو اشْتَرَيْت هَذه فَلَبِسْتَها يَوْم الْجُمُعَة

(1)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 254، 255).

(2)

التَّمْهِيد، مرجع سابق (14/ 263).

(3)

البخاري (ح 846)، ومسلم (ح 2068).

ص: 287

وللوَفْد إذا قَدِمُوا عَليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّما يَلْبَس هَذه مَنْ لا خَلاق لَه في الآخِرَة، ثم جَاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْها حُلَل فَأعْطَى عُمر بن الخطاب رضي الله عنه مِنها حُلّة، فقال عُمر: يا رسول الله كَسَوْتَنِيها وقَد قُلْتَ في حُلّة عَطَارِد مَا قُلْت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لَم أكْسُكَها لِتَلْبَسها، فَكَسَاها عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أَخًا لَه بِمَكَّة مُشْرِكًا.

‌المثال الرابع:

الدِّين هو الإسلام:

قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[آل عمران: 19]، مع قوله تعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى يُفْهَم مِنها أنَّ الدِّين الْمَقْبُول هو الذي بَعث الله به رُسُلَه وهُو الإسْلام، بَيْنَما الآيَة الثَّانية يُفْهَم مِنها أنه لا يُقْبَل إلَّا دِين الإسْلام الذي جَاء به مُحمد صلى الله عليه وسلم، بِدَلالَة سِيَاق الآيَات.

‌جَمع القرطبي:

قال القرطبي في الْمَوضِع الأَوَّل: الدِّين في هذه الآيَة الطَّاعَة والْمِلّة، والإسْلام بِمَعْنَى الإيمان والطَّاعَات، قاله أبو العالية، وعليه جُمْهُور الْمُتَكَلِّمِين.

ص: 288

والأصْل في مُسَمَّى الإيمان والإسْلام التَّغَايُر لِحَدِيث جِبْرِيل

(1)

، وقد يَكُون بِمَعْنَى الْمُرَادَفَة، فيُسَمّى كُلّ واحِد مِنهما باسْمِ الآخَر، كَمَا في حَديث وَفْدِ عَبد القَيس

(2)

، وأنَّه أمَرَهم بالإيمان بِالله وَحْدَه، وقَال: هَلْ تَدْرُون مَا الإيمان؟ قَالوا: الله ورَسوله أعْلم قال: شَهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رَسول الله، وإقَام الصَّلاة، وإيتَاء الزَّكاة، وصَوْم رَمَضَان، وأن تُؤَدُّوا خُمْسًا مِنْ الْمَغْنَم

الْحَديث. وكذلك قَوله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بِضْع وسَبْعُون بَابًا، فأدْنَاها إمَاطَة الأذَى، وأرْفَعها قَول لا إله إلا الله. أخْرَجَه الترمذي

(3)

، وزاد مسلم

(4)

: والْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الإيمان.

ويَكُون أيضًا بِمَعْنَى التَّدَاخُل، وهو أن يُطْلَق أحَدُهما ويُرَاد به مُسَمَّاه في الأصْل ومُسَمَّى الآخَر كَمَا في هذه الآية

(5)

، إذ قد دَخَلَ فيها التَّصْدِيق والأعْمَال.

(1)

رواه البخاري (ح 4499)، ومسلم (ح 9) من حديث أبي هريرة. وهو مَشهُور مِنْ حديث عمر: رواه مسلم (ح 8).

(2)

رواه البخاري (ح 4110)، ومسلم (ح 17). وبوّب البخاري (1/ 27): باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعِلم الساعة وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يُعلّمكم دينكم؛ فجعل ذلك كله دِينًا، وما بَيّن النبي صلى الله عليه وسلم لِوفْدِ عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[آل عمران: 85].

(3)

رواه البخاري (ح 9) إلا أن في روايته: الإيمان بضع وستون شعبة. ورواه مسلم (ح 35) في رواية على الشكّ "بِضْع وسَبْعُون أو بضْع وسِتُّون"، وفي روايته على غير الشكّ. والحديث مُخرّج في السّنن، وهو عند الترمذي بِرقم (2614).

(4)

هذه الزيادة في الصحيحين، في الموضعين السابقين.

(5)

عَقَدَ السعدي قاعدة، وهي أنّ (بعض الأسْمَاء الواردة في القُرآن الكريم إذا أُفْرِد دَلّ على الْمَعْنَى العَامَّ الْمُنَاسِب له، وإذا قُرِن مع غَيره دَلّ على بَعض الْمَعْنَى، ودَلّ ما قُرِن مَعه على بَاقِيه). (القَواعد الْحِسَان ص 47).

ص: 289

ومِنه قَوله عليه السلام: الإيمان مَعْرِفَة بِالقَلْب، وقَوْل بِاللسَان، وعَمَل بِالأرْكَان.

أخْرَجَه ابن مَاجه

(1)

. والْحَقِيقَة هُو الأوَّل وَضْعًا وشَرْعًا، ومَا عَدَاه مِنْ بَاب التَّوسُّع. والله أعلم

(2)

.

وأمَّا في تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): فَاقتَصَر على ذِكْر سَبَب النُّزُول، فَنَقَل عَنْ مجاهد والسّدي: نَزَلَتْ هذه الآيَة في الْحَارِث بن سُويد أخو الْجُلاس بن سُويد، وكان مِنْ الأنْصَار، ارْتَدَّ عن الإسْلام هو واثْنا عَشَر معه ولَحِقُوا بِمَكَّة كُفَّارًا، فَنَزَلَتْ هذه الآيَة، ثم أرْسَل إلى أَخِيه يَطْلُب التَّوْبَة.

ونَقَل عن ابن عباس قوله في الْحَارِث: وأسْلم بَعْد نُزُول الآيَات

(3)

.

وأشَار إلى أنَّ هَذه الآية نَاسِخَة لِقَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا)[البقرة: 62] الآيَة.

مَنْسُوخ بِقَولِه تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية. وقَال غيره: لَيْسَت بِمَنْسُوخَة، وهي فِيمَن ثَبَت على إيمانه مِنْ الْمؤمِنين بِالنَّبِيّ عليه السلام

(4)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

الدِّين في الآيَة الأُولى الطَّاعة والْمِلّة، والإسْلام بِمعناه العَامّ، وهو دِين الرُّسُل.

(1)

(ح 65)، والْحَدِيث مَوْضُوع. قال ابن الجوزي (الموضوعات 1/ 185 - 187): هذا حَديث موضوع لم يَقُلْه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الدارقطني: المتهم بوضع هذا الحديث أبو الصلت الهروي، وابن عبد السلام بن صالح. قال أبو حاتم الرازي: لم يكن عندي بصدوق، وضرب أبو زرعة على حديثه، وقال ابن عدي: متهم، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وحكم عليه الألباني بالوضع (ضعيف سنن ابن ماجه ح 11).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 47، 48).

(3)

المرجع السابق (4/ 126).

(4)

المرجع السابق (1/ 474).

ص: 290

2 -

أشَار إلى أنَّ مَعْنَى الإسْلام في الآيَة الثَّانِية هو الْمَعْنَى الْخَاصّ، وهو مَا بَعَث الله به نَبِيَّه مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وذلك بإيْرَاد سبَبَ النُّزُول.

3 -

أنَّ الآيَة الثَّانِية نَاسِخَة لِما جَاء في قَبُول الأدْيان إلَّا لِمَنْ آمَن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

ابْتَدَأ ابنُ جرير تَفْسِير قَوله تَعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) بِبَيَان مَعْنَى الدِّين في هذا الْمَوْضِع، وأنّه الطَّاعة والذِّلَّة

(1)

.

قال: وكَذلك الإسْلام، وهو الانْقِيَاد بِالتَّذَلُّل والْخُشُوع، والفِعْل مِنه: أسْلَم، بِمَعْنَى دَخَل في السِّلْم، كَمَا يُقَال: أقْحَط القَوم إذا دَخَلُوا في القَحْط، وأرْبَعُوا إذا دَخَلُوا في الرَّبِيع، فَكذلك أسْلَمُوا إذا دَخَلُوا في السِّلْم، وهو الانْقِيَاد بِالْخُضُوع وتَرْك الْمُمَانَعة، فإذا كان ذلك كَذلك فَتَأوِيل قَوله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) بِبَيَان مَعْنَى الدِّين في هذا الْمَوْضِع، وأنّه الطَّاعة لله - التي هي الطَّاعَة عِنْدَه - الطَّاعَة لَه، وإقْرَار الألْسُن والقُلُوب لَه بِالعُبُودِيَّة والذِّلَّة، وانْقِيَادها لَه بِالطَّاعَة فيما أمَرَ ونَهَى، وتَذَلُّلها لَه بِذلك مِنْ غَير اسْتِكْبَار عَليه، ولا انْحِرَاف عَنه، دُون إشْرَاك غَيره مِنْ خَلْقِه مَعَه في العُبُودِيَّة والأُلُوهِيَّة

(2)

.

ثم روى ابن جرير بأسَانِيدِه مَنْ قَال بذلك.

وروى عن ابن جُريج قَوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)[آل عمران: 70] أن الدِّين عِند الله الإسْلام لَيس لله دِين غَيره

(3)

.

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (5/ 280).

(2)

المرجع السابق (5/ 281).

(3)

المرجع السابق (5/ 492).

ص: 291

وفي تَفسير قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) قال: يَعْنِي بِذلك جَلّ ثَناؤه: ومَن يَطْلُب دِينًا غير دِين الإسْلام ليَدِين بِه فَلَنْ يَقْبَل اللهُ مِنه

وذُكِرَ أنَّ أهْل كُلّ مِلَّة ادَّعَوا أنّهم هم الْمُسْلِمُون لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة، فَأمَرَهم الله بِالْحَجّ إن كَانوا صَادِقِين؛ لأنَّ مِنْ سُنَّة الإسْلام الْحَجّ، فَامْتَنَعُوا، فأدْحَض الله بذلك حُجَّتَهم

(1)

.

ثم ذَكَر مَنْ قَال بذلك، وذَكَر مَا قِيل سَبب نُزُول هذه الآية.

وبيَّن السمرقندي أنَّ مَعْنَى قَوله تَعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) أنَّ الدِّين الْمَرْضِيّ عنْد الله الإسْلام

(2)

.

وذَكَر سَبَب النُّزُول، ونَقَل عن الضَّحَّاك قَوله: يَعْنِي: لا يَقْبَل الله مِنْ جَميع الْخَلْق مِنْ أهْل الأدْيان دِينا غير الإسْلام، ومَن تَدَيّن بِدِين غَير الإسْلام فَلن يُقْبَل مِنه

(3)

.

وقال السمعاني: وحُقّ لِمن يَبْتَغِي غَير دِين الإسْلام أن يُصْبِح غَدًا مِنْ الخاسرين

(4)

وكذلك ذَكَر الثعلبي سَبَب النُّزُول

(5)

، وذَكَر مَعْنَى الدِّين، وأنه الطَّاعَة والْمِلّة.

ونَقَل عن قَتادة قولَه في قولِه تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ). قال: شَهادَة أن لا إله إلَّا الله، والإقْرَار بِأنّها مِنْ عِند الله، وهو دِين الله الذي شَرَع لِنَفْسِه، وبَعَث بِه رُسُلَه، ودَلّ عَليه أوْلَياءَه، ولا يَقْبَل غَيره، ولا جَزى إلَّا بِهِ

(6)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 555).

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 226).

(3)

المرجع السابق (1/ 253).

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 338).

(5)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 107).

(6)

المرجع السابق (3/ 34).

ص: 292

وفي قَوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) أشَار الزمخشري إلى صِلَة هَذه الآيَة بِمَا قَبْلَها، وأنَّ التَّأكِيد بـ (إنَّ) في أوَّل هَذه الآيَة مُؤكِّد للجُمْلَة الأُولى، "آذَنَ أنَّ الإسْلام هو العَدل والتَّوحِيد

(1)

، وهو الدِّين عِند الله، ومَا عَدَاه فليس عِنده في شَيء مِنْ الدِّين"

(2)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) قال: يَعني: التَّوْحِيد وإسْلام الوَجْه لله تَعالى

(3)

.

وبيَّن ابن عَطية مَعْنَى الدِّين في الآيَة، فَقَال: الدِّين في هذه الآية الطَّاعَة والْمِلَّة، والْمَعْنَى: أنَّ الدِّين الْمَقْبُول، أوْ النَّافِع، أوْ الْمُقَرَّر. والإسْلام في هذه الآيَة هو الإيمان والطَّاعَة. قَاله أبو العالية، وعليه جُمْهُور الْمُتَكَلِّمِين، وعَبّر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان.

قال أبو محمد رحمه الله: ومُرَادُهما أنه مَع الأعْمَال

(4)

.

(1)

للمعتزلة اصطلاح خاص بهذا التعبير، بل يسمون أنفسهم: أهل العدل والتوحيد. وهذا أصل من أصولهم الخمسة. وقد تكرر هذا الوصف في "الكشاف" وينظر لذلك: الملل والنحل، الشهرستاني (1/ 43)، "الصواعق المرسلة"، ابن القيم (3/ 949)، و"شرح العقيدة الطحاوية"، ابن أبي العز (ص 589)، و"فتح الباري"، ابن حجر (13/ 344).

(2)

الكشاف، مرجع سابق (ص 164)، ثم ذكر أن من أجاز رؤية الله، أو ذهب إلى الجبر، أنه ليس على دين الإسلام! وقد تعقبه ابن المنير في الحاشية، فقال: هذا تعريض بخروج أهل السنة من ربقة الإسلام، بل تصريح وما ينقم إلا أن صدقوا وعد الله عباده المكرمين على لسان نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم أنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر .... اهـ. وسيأتي مبحث الرؤية لاحقًا.

وقال ابن القيم (الصواعق المرسلة 3/ 949) عن المعتزلة: سموا أنفسهم "أهل العدل والتوحيد" وسموا من أثبت صفات الرب وأثبت قدره وقضاءه "أهل التشبيه والجبر".

(3)

الكشاف، مرجع سابق (ص 180).

(4)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 413).

ص: 293

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3] قال: والإسْلام في هذه الآيَة هو الذي في قَوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، هو الذي تَفَسَّر في سُؤال جِبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان والأعْمال والشُّعَب

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة الحجرات: والإسْلام يُقال بِمَعْنَيين:

أحَدُهما: الدِّين يَعُمّ الإيمان والأعْمَال، وهو الذي في قوله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) والْمَعْنى الثَّاني لِلَفْظ الإسْلام: هو الاسْتِسْلام والإظْهَار الذي يُسْتَعْصَم به ويَحْقِن الدَّم، وهذا هو الإسْلام في قَوله:(وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)[الحجرات: 14]

(2)

.

ثم ذَكَر ابن عطية سَبَب النُّزُول، وأشَار إلى النَّسْخ

(3)

.

وقد نَفَى الرازي التَّغَاير بَين الإيمان والإسْلام، فَقال: فالإسْلام مَعْنَاه إخْلاص الدِّين والعَقِيدة لله تعالى، هَذا ما يَتَعَلق بِتَفْسِير لَفْظ الإسْلام في أصْل اللغة، أمَّا في عُرْف الشَّرع فالإسْلام هو الإيمان، والدليل عليه وجهان:

الأول: هَذه الآية، فإنَّ قَوله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) يَقْتَضِي أن يَكُون الدِّين الْمَقْبُول عند الله ليس إلَّا الإسْلام، فلو كان الإيمان غير الإسلام وَجَبَ ألا يَكُون الإيمان دِينًا مَقْبُولًا عند الله، ولا شَك في أنه بَاطِل.

الثاني: قَوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فَلو كان الإيمان غَير الإسْلام لَوَجَبَ ألا يَكُون الإيمان دينا مَقْبُولًا عند الله تعالى

(4)

.

(1)

المرجع السابق (2/ 155).

(2)

المُحرِّر الوجيز، مرجع سابق (5/ 153).

(3)

المرجع السابق (1/ 467).

(4)

التفسير الكبير، مرجع سابق (7/ 181)، والتفريق بين الإسلام والإيمان جاء في نصوص الوحيين، وسيأتي تعقّب هذا القول في "رأي الباحث".

ص: 294

وقَال في قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): بَيَّن في هَذه الآيَة أنَّ الدِّين لَيس إلَّا الإسْلام، وأنَّ كُل دِين سِوى الإسْلام غَير مَقْبُول عِنْد الله؛ لأنَّ القَبُول للعَمَل هو أن يَرْضَى الله ذلك العَمَل، ويَرْضَى عَنْ فَاعِلِه، ويُثِيبه عَليه

(1)

.

وفي قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) قال ابنُ كَثير: إخْبَارٌ مِنه تَعالى بأنّه لا دِين عِنده يَقْبَله مِنْ أحَدٍ سِوى الإسْلام، وهو اتِّبَاع الرُّسُل فِيمَا بَعَثَهم الله بِه في كُلّ حِين حَتى خُتِمُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سَدّ جَمِيع الطُّرُق إليه إلَّا مِنْ جِهَة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لَقِيَ الله بَعْد بِعْثَة محمد صلى الله عليه وسلم بِدِين على غَير شَرِيعَتِه فَلَيس بِمُتَقَبَّل، كَمَا قَال تَعالى:(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية. وقَال في هَذه الآية مُخْبِرًا بانْحِصَار الدِّين الْمُتَقَبّل مِنه عِنده في الإسْلام: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)

(2)

.

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) قال: يَقول تعالى مُنْكِرًا على مَنْ أرَاد دِينًا سِوى دِين الله الذي أنْزَل به كُتُبه، وأرْسَل به رُسُله؛ وهو عِبادَة الله وحْده لا شَريك له، الذي له أسْلَم مَنْ في السَّمَاوات والأرْض، أي: اسْتَسْلَم له مَنْ فِيهمَا طَوْعا وكَرْها

فالْمُؤمِن مُسْتَسْلِم بِقَلْبِه وقَالَبِه لله، والكَافِر مُسْتَسْلِم لله كَرْها، فإنه تَحْت التَّسْخِير والقَهْر والسُّلْطَان العَظِيم الذي لا يُخَالَف ولا يُمَانَع

(3)

.

وقال الثعالبي: ثم حَكَمَ تعالى في قَوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا) الآية. بأنّه لا يَقْبَل مِنْ آدَمي دِينا غَير دِين الإسْلام، وهو الذي وَافَق في مُعْتَقَدَاته دِين كُلّ مَنْ سَمَّى مَنْ الأنْبِيَاء عليهم السلام، وهو الْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة

(4)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 110).

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 36).

(3)

المرجع السابق (3/ 102).

(4)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 286).

ص: 295

ثم ذَكَرَ سَبب النّزول عازيًا إيَّاه إلى بَعض الْمُفَسِّرِين.

واخْتَار القاسمي أنَّ جُمْلَة (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) مُؤكِّدَة للأوْلى، ومَعْنَاها عِنْده - كَمَا عند أبي السعود -: أي: لا دِين مَرْضِيًّا لله سِوى الإسْلام، الذي هو التَّوحِيد، والتَّدَرُّع بالشَّرِيعَة الشَّرِيفَة.

قال: وفي الآيَة الأُخْرى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا)

(1)

.

وقال في تَفْسِيرها: (وَمَنْ يَبْتَغِ) أي: يَطْلُب (غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا) أي: غَير التَّوحِيد والانْقِياد لِحُكْم الله تَعالى، كَدَأب الْمُشْرِكِين صَرِيحًا

(2)

، والْمُدَّعِين للتَّوحِيد مَع إشْرَاكِهم، كأهْل الكِتَابَيْن (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ لأنه لم يَنْقَد لأمْرِ الله

(3)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَتَين، فالإسْلام يُطلَق على مَعْنَيَيْن:

أحَدهما: مَعْنَاه العَامّ، ويُطلَق على الدِّين الْمُتَقَبَّل عِند الله، وهو الذي بَعَث الله بِه رُسُلَه، "وقَد دَلّ قَوله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) على أنه دِين جَمِيع أنْبِيَائه ورُسُلِه وأتْبَاعِهم مِنْ أوَّلِهم إلى آخِرِهم، وأنّه لم يَكُنْ لله قَطّ ولا يَكُون له دِين سِواه"

(4)

.

(1)

محاسن التأويل، مرجع سابق (4/ 342).

(2)

أي الذي شرْكهم واضح جلي. والنوع الثاني الذي يدعون أنهم على التوحيد، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)[الزمر: 3].

(3)

المرجع السابق (4/ 392).

(4)

مدارج السالكين، ابن القيم (3/ 476).

ص: 296

والثاني: يُطلَق ويُرَاد بِه الدِّين الْخَاتَم، الذي بَعَث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نُسِخَتْ به الأدْيان والشَّرَائع السَّابِقَة، فلا يَقْبَل اللهُ غَيره بَعد بِعْثَة محمد صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا نَفْي التَّغَايُر بَيْن الإسْلَام والإيمان الذي ادَّعاه الرازي، فهو مُتَعَقّب بأنَّ التَّفْرِيق بَيْنَهما جَاء في نُصُوص الوَحْيَيْن، مِنْ ذلك قوله تعالى:(فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات: 35، 36] وقَوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)[الحجرات: 14]، ومِن السُّنّة:

حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وفيه: أنَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أعْطَى رَهْطًا وسَعْدٌ جَالِس، فَتَرَك رَسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا هو أعْجُبُهم إليّ، فقلت: يا رسول الله مَالَكَ عن فلان؟ فوالله إني لأَرَاه مُؤمِنا. فقال: أوْ مُسْلِمًا؟ فَسَكَت قليلًا، ثم غَلَبني ما أعلم منه فَعُدْتُ لمقالتي، فقلت: مَالَكَ عن فلان؟ فَوالله إني لأَرَاه مُؤمِنا. فَقَال: أوْ مُسْلِمًا؟ .... الحديث

(1)

.

‌المثال الخامس:

الاقْتِرَاع عَلى كَفَالَة مَرْيم:

قَوله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)[آل عمران: 37]، مَع قَوله تَعالى:(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران: 44].

(1)

رواه البخاري (ح 27)، ومسلم (ح 237).

وقال البخاري في الصحيح (1/ 18): باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى:(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكر:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ).

ويُنظر في تفصيل هذه المسألة: كتاب الإيمان، ابن تيمية. وجَامِع العُلُوم والحِكَم، ابن رجب، شرح الحديث الثاني "حديث جبريل"(1/ 30)، وزاد المهاجِر، ابن القيم (ص 71).

ص: 297

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى يُفهَم مِنها أنَّ الله كَفَّل زَكَريا بِمريم، والثَّانِية يُفْهَم مِنْها أنّهم عَمِلُوا بالقُرْعَة في كَفَالَة مَرْيم.

‌جمع القرطبي:

ذَكَر القرطبي الْمَعْنَى أوَّلًا، فَقَال: أي: ومَا كُنْتَ يَا محمد لَدَيهم، أي: بِحَضْرَتِهم وعِنْدَهم. (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) جَمْع قَلَم. وقِيل: قِدَاحهم وسِهَامهم. وقِيل: أقْلامهم التي كَانوا يَكْتُبُون بها التَّوْرَاة، وهُو أَجْوَد، لأنَّ الأزْلام قد نَهَى الله عنها. إلَّا أنه يَجُوز أن يَكُونُوا فَعَلُوا ذلك على غَير الْجِهَة التي كانت عليها الجاهلية تَفْعَلها.

(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي يَحْضنها، فقال زَكَرِيّا: أنا أحَقّ بِهَا، خَالَتها عِنْدي. وقال بَنو إسْرائيل: نَحْن أحَقّ بِها، بِنْت عَالِمِنا، فاقْتَرَعُوا عَليها، وجَاء كُلّ واحِد بِقَلَمِه، واتَّفَقُوا أن يَجْعَلُوا الأقْلام في الْمَاء الْجَارِي، فَمَنْ وَقَفَ قَلَمُه ولَم يُجْرِه الْمَاء فهو حَاضِنُها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فَجَرَتِ الأقلام وعَالَ قَلَمُ زكريا

(1)

. وكَانَت آيَة له لأنّه نَبِيّ تَجْرِي الآيَات عَلى يَدَيه. وقِيل غَير هَذا.

ونَقَل القرطبي عن أبي عبيد قَوله: وقَد عَمِلَ بالقُرْعَة ثَلاثَة مِنْ الأنْبِيَاء: يُونُس وزَكَرِيّا ونَبِيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.

كما نَقَل عن ابن المنذر قَوله: واسْتِعْمَال القُرْعَة كَالإجْمَاع مِنْ أهْل العِلْم فِيمَا يُقْسَم بَيْن الشُّرَكَاء، فلا مَعْنَى لِقَول مَنْ رَدَّها.

(1)

علقه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (2/ 954) باب القرعة في المشكلات، ووصله ابن جرير (5/ 404)، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ح 21191) عن ابن عباس وعن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق البيهقي رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (70/ 80).

ورواه ابن جرير (5/ 348)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 649) من قول عكرمة. ويُنظر: جامع البيان (5/ 348 وما بعدها، 403 وما بعدها).

ص: 298

ثم أوْرَد مِنْ الأحَادِيث الْمَرْفُوعَة مَا يَدلّ على مَشْرُوعِيَّة القُرْعَة

(1)

.

وفي قَوله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) قال: أي ضَمّها إليه. أبو عبيدة: ضَمِنَ القِيَام بِهَا.

والتَّقْدِير: وكَفّلها رَبُّها زَكَرِيَّا، أي ألْزَمَه كَفَالَتها، وقَدَّر ذَلك عَليه ويَسَّرَه لَه

(2)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

ذَكَرَ الْمَقْصُود بالأقْلام، ورَجَّح أنّها أقْلامهم التي كَانوا يَكْتُبُون بِها التَّورَاة.

2 -

مَعْنَى الكَفَالَة، وأنّها الْحَضَانَة.

3 -

اقْتَرَعُوا، أيّهم يَكفُل مَريم، وكَانَت الكَفَالة مِنْ نَصِيب زَكَرِيّا عليه الصلاة والسلام.

4 -

أن كَفَالة زَكَرِيا لِمَرْيم كَانَتْ بعد إلْقَاء الأقْلام.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أشَار ابن جرير الطَّبري إلى مَا لَم يُشِر إليه القرطبي مِنْ حَيث مَعْنَى (أَقْلَامَهُمْ)، فَرَوى عن الرَّبِيع قَوله: ألْقَوا أقْلامهم، يَقول: عِصِيَّهم

(3)

.

كما ذَكَر ابن جرير قَوْلًا آخَر في كَفَالَة مَريم، وأنّها كَانَتْ بِغَير اسْتِهام ولا اقْتِراع بَادِئ الأمْر، ومُلَخَّص القَوْل: كَان زَكَرِيّا بَعْد وِلادَة حَنّة ابْنَتها مَرْيم كَفَلها بِغَير اقْتِراع ولا اسْتِهَام عَليها، ولا مُنَازَعَة أحَدٍ إياه فِيها، وإنّما كَفَلها لأنَّ أُمّها مَاتت بَعْد مَوْت أبِيها وهي طِفْلَة، وعِنْد زَكَرِيّا خَالَتها.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 87 - 79).

(2)

المرجع السابق (4/ 71).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 348).

ص: 299

ونَقَل عن أصْحَاب هَذا القَوْل أنَّ "الاقْتِراع فِيها بالأقْلام إنّما كَان بَعْد ذَلك بِمُدَّة طَوِيلَة؛ لِشِدَّة أصَابَتْهم، ضَعُفَ زَكَرِيّا عَنْ حَمْل مُؤنَتِها، فَتَدَافَعُوا حَمْل مُؤْنَتِها، لا رَغْبَة مِنهم، ولا تَنافُسًا عَليها وعَلى احْتِمَال مُؤْنَتِها"

(1)

.

ورَجَّح القَوْل الأوَّل بِقَوله: غير أنَّ القَوْل مُتَظَاهِر مِنْ أهْل التَّأْوِيل بالقَول الأوَّل، أنَّ اسْتِهَام القَوْم فِيها كَان قَبْل كَفَالَة زَكَرِيّا إيّاها، وأنَّ زَكَرِيا إنّما كَفَلَها بإخْرَاج سَهْمه منها فالِجًا عَلى سِهَام خُصُومه فِيها

(2)

.

وذَكَر ابنُ جَرير في الْمَوْضِعِ الثَّاني عَنْ قَتَادة أنَّ بَني إسرائيل تَشَاحُّوا

(3)

عَلى مَريم، فاقْتَرَعُوا فِيها بِسِهَامِهِم أيّهم يَكْفُلها، فَقَرَعَهم زَكَرِيّا فَكَفَلها

(4)

.

وذَكَر السمرقندي سَبَب ذَلك التَّشَاحّ في حِين كَان زَكَرِيّا أحَقّ بِكَفَالَتِها؛ لأنَّ خَالَتَها عِنْده؛ فقال: إنَّ حَنّة لَفُّتْها في خِرَق ثم وَضَعَتْها في بَيْت الْمَقْدِس عِند الْمِحْرَاب، واجْتَمَعَتِ القُرَّاء - أي الزُّهَّاد - فَقَال زَكَرِيَّا: أنَا أحَقّ بِهَا لأنَّ خَالَتَها عِنْدي، فَقَال القُرَّاء: إنَّ هَذِه مُحَرَّرَة، فلو تُرِكَتْ لِخَالَتِها لَكَانَت أمّها أحَقّ بِها، ولَكِن نَتَسَاهَم

(5)

.

أما السمعاني فَقد ذَكَر سَبَبْ اخْتِصَاص زَكَرِيّا بِكَفَالَة مَرْيم، فَقَال: ومِن الأسْبَاب التي خُصّ بِهَا زَكَرِيّا بِكَفَالَة مَرْيم أنَّ خَالَتَها كَانت تحته، وهي أخْت حَنَّة امْرأة عِمران

(6)

.

(1)

المرجع السابق (5/ 352) ثم روى قصة طويلة في ذلك؛ رواها عن ابن إسحاق (5/ 358)، وفيها أن زكريا ضعُف عن حملها، فاقترعوا، وكفلها نجار يُقال له: جريج. وهذا من أخبار بني إسرائيل التي تُخالف النصوص فإن النص صريح في أن الله كفلها زكريا، وضمن رزقها، وفي الآية ثلاثٌ على نسق، وهي قوله تعالى:(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا).

(2)

المرجع السابق (5/ 353).

(3)

في مختار الصحاح (ص 139): تشاحّ الرجلان على الأمْر: لا يُريدان أن يفوتهما.

(4)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (5/ 404).

(5)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 234).

(6)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 313).

ص: 300

ورَجَّح أنَّ الْمَقْصُود بِالسِّهَام هي الأقْلام، فَقَال: فالأقْلام السِّهَام، وإنّما سُمِّي قَلَمًا لأنه يُقْطَع ويُبْرَى، وأصْل القَلْم القَطْع، ومِنه قَلْم الظِّفر

(1)

.

وذَكَر الثعلبي ما ذكره قبله السمرقندي مِنْ تشاحّ بني إسرائيل على كفالة مريم، وزاد أنهم كانوا تسعة وعشرين رجلًا

(2)

.

وقال في قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): في كَفَالَتِها

(3)

.

واقْتَصَر الزمخشري على بَيَان الْمَعْنَى في كِلْتَا الآيَتَين

(4)

.

ونَقَل ابن عطية عن قتادة وغَير واحِد مِنْ أهْل العِلْم: أنهم كَانُوا في ذَلك الزَّمَان يَتَشَاحّون في الْمُحَرَّر عِند مَنْ يَكُون مِنْ القَائِمِين بأمْرِ الْمَسْجِد، فَيَتَسَاهَمُون عَليه، وأنهم فَعلوا في مَريم ذلك. فَرُوي أنّهم ألْقَوا أقْلامَهم التي كَانُوا يَكْتُبُون بِها التَّوْرَاة في النَّهْر.

وقيل: أقْلامًا بَرَوهَا مِنْ عُود كالسِّهام والقِدَاح.

وقيل: عِصِيًّا لهم، وهَذه كُلا تُقْلم

(5)

.

ثم أشَار إلى ما ذَكَره ابن جرير عن ابن إسْحَاق مِنْ الاسْتِهَام، وفَرَّق بيْن الاسْتَهامِين بِقَولِه: وهذا الاسْتِهَام غَير الأوَّل، هَذا الْمُرَاد مِنه دَفْعها، والأوَّل الْمُرَاد مِنْه أخْذها، ومُضُمَّن هَذه الرِّوَاية أن زَكَرِيّا كَفَلها مِنْ لَدُن طُفُولَتِها دُون اسْتِهَام، لَكِن أمّها هَلَكَت، وقَد كَان أبُوها هَلَك وهي في بَطْن أمّها، فَضَمّها زَكَرِيا إلى نَفْسِه لِقَرَابَتِها

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 318).

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 57).

(3)

المرجع السابق (3/ 68).

(4)

الكشاف، مرجع سابق (ص 170، 172).

(5)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 425).

ص: 301

مِنْ امْرَأته، وهَكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه النَّاس أنَّ زَكَرِيّا إنّما كَفَل بالاسْتِهَام لِتَشَاحّهم حِينَئذٍ فِيمن يَكْفُل الْمُحَرَّر

(1)

.

وقال في قَوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ): وجُمْهُور العُلَمَاء عَلى أنه اسْتِهام لأخْذِها والْمُنَافَسَة فِيها.

وقال ابن إسحاق: إنّما كَان اسْتِهَامهم حِين نَالَتْهم الْمَجَاعَة دَفْعًا مِنها

(2)

لِتَحَمّل مَؤونَتِها. و (يَخْتَصِمُونَ) مَعْنَاه: يَتَرَاجَعُون القَوْل الْجَهِير في أمْرِها.

وفي هَذه الآيَة اسْتِعْمَال القُرْعَة، والقُرْعَة سُنّة

(3)

.

وذَكَر الرَّازِي في الآيَة مَسَائل، مِنْها:

الْمُرَاد بالأقْلام، وأنّها التي كَانُوا يَكْتُبُون بِها التَّوْرَاة، وعَزَا هَذا القَوْل إلى الأكْثَرِين.

وبَيَّن أنَّ "ظَاهِر الآيَة يَدُلّ على أنّهم كَانُوا يُلْقُون أقْلامَهم في شَيء عَلى وَجْه يَظْهَر بِه امْتِيَاز بَعْضِهم عن البَعْض في اسْتِحْقَاق ذَلك الْمَطْلُوب، وإنّمَا

(4)

ليس فِيه دَلالة عَلى كَيفِيَّة ذَلك الإلْقَاء، إلَّا أنّه رُوي في الْخَبَر أنّهم كَانُوا يُلْقُونَها في الْمَاء".

وذَكَر الرَّازي سَبَب الاخْتِصَام، فَقَال: اخْتَلَفُوا في السَّبَب الذي لأجْلِه رَغِبُوا في كَفَالَتِها حَتى أدَّتْهُم تِلك الرَّغْبَة إلى الْمُنَازَعَة.

فقال بعضهم: إنَّ عِمران أبَاها كَان رَئيسًا لَهم ومُقَدَّما عَليهم، فلأجْل حَقِّ أبِيها رَغِبُوا في كَفَالَتِها.

وقال بَعْضُهم: إنَّ أمَّها حَرَّرَتْها لِعِبَادَة الله تَعالى ولِخِدْمَة بَيْت الله تَعالى، ولأجْل ذَلك حَرصُوا على التَّكَفُّل بِها.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 426).

(2)

لعلها: دَفْعًا لَها.

(3)

المرجع السابق (1/ 435).

(4)

هكذا في المطبوع ويَظهر أنّ في العِبَارة زِيادَة [إنما].

ص: 302

وقَال آخَرُون: بل لأنَّ في الكُتُب الإلَهِيَّة كان بَيَان أمْرِها وأمْر عِيسى عليه السلام حَاصِلًا، فَتَقَرَّبُوا لِهَذا السَّبَب حتى اخْتَصَمُوا.

كما ذَكَر الْخِلاف في "أولئك الْمُخْتَصِمِين مَنْ كانُوا؟ "

(1)

وعَرّف الكَافِل "بأنّه الذي يُنْفِق على إنْسَان ويَهْتَمّ بإصْلاح مَصَالِحِه"

(2)

.

وأوْرَد الْخِلاف حَول "كَفَالَة زَكَرِيَّا عليه السلام إيّاها، مَتى كَانت؟

فقال الأكْثَرُون: كَان ذلك حَال طُفُولِيَّتِها، وبِه جَاءَت الرِّوَايَات.

وقَال بَعْضهم: بل إنّما كَفَلَها بَعد أن فُطِمَتْ"

(3)

.

ومِمن ذَكَر الْمُرَاد بالأقْلام: ابن جُزيّ، فَقَال:(أَقْلَامَهُمْ): أي أزْلامَهم، وهي قِدَاحُهم. وقِيل: الأقْلام التي كانوا يَكْتُبُون بِها التَّوْرَاة، اقْتَرَعُوا بِها على كَفَالَة مَريم حِرْصًا عَليها، وتَنَافُسًا في كَفَالَتها. وتَدُلّ الآيَة على جَوَاز القُرْعَة، وقد ثَبَتَت أيضًا مِنْ السُّنَّة

(4)

.

وقال في قَوله تَعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا): أي ضَمّها إلى إنْفَاقِه وحَضَانَته، والكَافِل هُو الْحَاضِن، وكَان زَكَرِيا زَوْج خَالَتِها

(5)

.

ونَسَب ابن كَثير القَول باليُتْم إلى ابن إسحاق، ونَسَب قَوله إلى غَيره! فَقال: جَعَله كَافِلًا لَها. قال ابن إسحاق: ومَا ذَلك إلَّا أنّها كَانت يَتِيمَة. وذَكَر غَيره أنَّ بَنِي إسْرَائيل أصَابَتْهُم سَنَة جَدْب، فَكَفَل زَكَرِيّا مَرْيم لِذلك. ولا مُنَافَاة بَيْن القَوْلَين

(6)

.

(1)

انظر: التفسير الكبير، مرجع سابق (8/ 40، 41) باختصار.

(2)

المرجع السابق (8/ 26).

(3)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(4)

التسهيل لعلوم التنْزيل، مرجع سابق (1/ 107).

(5)

المرجع السابق (1/ 105).

(6)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 52).

ص: 303

وهذا خِلاف مَا رَواه ابن جَرير عن ابن إسحاق، وما ذَكَره غَير واحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِين عَنه، ولَعَلَّه وَهْم.

وحَكَى الثعالبي عن الْجُمْهُور أنَّ الاسْتِهَام للمُنَافَسَة، فَقَال: وقَوله تَعالى: (يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) الآيَة. جُمْهُور العُلَمَاء على أنه اسْتِهَام لأخْذِها والْمُنَافَسَة فيها

(1)

.

وصَدّر القاسمي قَوله بِصِيغَة تَمْرِيض، فَقَال: رُوي أنَّ أمّها أخَذَتْها وحَمَلَتْها إلى الْمَسْجِد، ووَضَعَتْها عِند الأحْبَار، وقَالَت: دُونَكم هَذه النَّذِيرَة، فَتَنَافَسُوا فِيها إذ كَانت بِنْت إمَامِهم، وصَاحِب قُرْبَانِهم، وأحَبّ كُلُّ أن يَحْظَى بِتَرْبِيَتِها، فَقَال لَهم زَكَرِيّا: أنَا أحَقّ بِها، عِندي خَالَتها، فأبَوا إلَّا القُرْعَة

(2)

.

وقال في الْمَوْضِع الثَّاني: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) بِسَبَبِهَا تَنَافُسًا في كَفَالَتها

(3)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَتَين، فالآيَة الأُولى في نَسَق سِياقها تُفِيد أنَّ امْرَأة عِمران نَذَرَتْ مَا في بَطْنِها مُحَرَّرًا للكَنِيسَة، وابْتَهَلَت إلى الله أن يَتَقَبَّل مِنها، فَلَمَّا وَضَعَتْها أعَاذَتْها مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم، فتَقَبَّلها رَبُّها بِقَبُول حَسَن، وأنْبَتَها نَبَاتًا حَسَنًا، وكَفَّلَها زَكَرِيّا.

ثم جَاء سِيَاق الآيَات والْتِفَاتِ الْخِطَاب لِنَبِيِّنَا محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّ (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) و (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)،

(1)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 267).

(2)

محاسن التأويل، مرجع سابق (3/ 358).

(3)

المرجع السابق (3/ 363).

ص: 304

وهذا خَبَر عَمَّا مَضَى مِمَّا سَبَقَت الإشَارَة إليه في كَفَالَة زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام لِمَرْيم عليها السلام، فَذُكِر في آخِر السِّيَاق كَيْفِيَّة الكَفَالَة، وأُجْمِل ذلك في أوَّل الآيَات

ص: 305

‌المبحث الثاني: الجمع بين الآيات من خلال إيراد أقوال السلف

أوْلى جَمْعٌ مِنْ الْمُفَسِّرِين أقْوَال السَّلَف عِنَاية بَالِغَة في بَيَان الْمَعْنَى الْمُرَاد في كَثير مِنْ الآيَات، ذلك أنَّ أصْحَاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - عَايَشُوا التَّنْزِيل، وكَانُوا أهْل فَصَاحَة، مع بُعْدِهم عن التَّكَلُّف "كَانُوا خَيْر هَذه الأمَّة؛ أبَرّها قُلُوبًا، وأعْمَقها عِلْما، وأقَلّها تَكَلّفًا"

(1)

.

وقد أثْنَى الله على أصحاب نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، وأثْنَى عَليهم رَسُوله صلى الله عليه وسلم، بل وأثْنَى على تِلك القُرُون الفَاضِلَة بِقَولِه عليه الصلاة والسلام: خَيْر النَّاس قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم

(2)

.

فـ "إذا لم نَجِد التَّفْسِير في القُرآن ولا في السُّنَّة رَجَعْنا في ذَلك إلى أقْوَال الصَّحَابَة فإنّهم أدْرَى بِذلك لِمَا شَاهَدُوا مِنْ القَرَائن والأحْوَال التي اخْتصُّوا بِها، ولِمَا لَهم مِنْ الفَهْم التامّ، والعِلْم الصَّحِيح، والعَمَل الصَالِح، لا سِيَّمَا عُلَمَاؤهم وكُبَرَاؤهم كالأئمَة الأرْبَعة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِين، والأئمّة الْمُهْتدِين الْمَهْدِيِّين، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم

(3)

.

ولَمَّا كَانوا كَذلك فَقد اعْتَنَى الْمُفَسِّرُون بأقْوَال الصَّحَابَة والتَّابِعِين ومَن بَعْدَهم مِنْ أئمَة التَّفْسِير.

فـ "إذا لم تَجِد التَّفْسِير في القُرآن ولا في السُّنّة ولا وَجَدته عن الصَّحَابة، فَقَد رَجَع كَثِير مِنْ الأئمَة في ذَلك إلى أقْوَال التَّابِعِين، كَمُجَاهِد بن جَبْر، فإنه كان آيَة في التَّفْسِير

وكَسَعيد بن جبير، وعِكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح،

(1)

هذا من قول ابن عمر: رواه أبو نُعيم في الحلية (1/ 305) وسيأتي في المبحث الثاني من الفصل الثالث.

(2)

رواه البخاري (ح 2509)، ومسلم (ح 2533) من حديث ابن مسعود. ورواه البخاري (ح 2508)، ومسلم (ح 2535) من حديث عمران بن حصين.

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 7).

ص: 306

والحسن البصري، ومَسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومَن بَعْدَهم؛ فَتُذْكَر أقْوَالهم في الآية، فَيَقَع في عِبَارَتِهم تَبَايُن في الألْفَاظ يَحْسَبها مَنْ لا عِلْم عنده اخْتِلافًا فَيَحْكِيها أقْوَالًا، وليس كَذلك، فإنَّ مِنهم مَنْ يُعَبِّر عَنْ الشيء بِلازِمِه أو بِنَظِيرِه ومِنهم مَنْ يَنُصّ على الشَّيء بِعَيْنِه، والكُلّ بِمَعْنى واحِد في أكْثَر الأمَاكِن. فَلْيَتَفَطّن اللبِيب لِذلك. والله الْهَادي"

(1)

.

وأقْوَال الصَّحَابة رضي الله عنهم والتابعين مما يُدْفَع به التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم بَيْن الآيَات وقَد أوْلى القُرْطبي هذا الْجَانِب عِنَايَة، وكان يُورِد أقْوَال السَّلَف، ويُرَجِّح بَيْنَها.

ومِن المواضِع التي بَرَزَ فيها هذا الْجَانِب في تَفْسِير القرطبي مَا يَلي:

‌المثال الأول:

توْلِيَة الوُجْه حَيث مَا كَان الْمُصَلِّي:

قَوله تَعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115]، مَع قَوله تَعالى:(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)[البقرة: 150].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى يُفهَم مِنها أنَّ الْمُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّه في صَلاتِه جَاز، وفي الآية الثَّانِية أنَّ على الْمُصَلِّي أن يَتَوجَّه إلى الْمَسْجِد الْحَرَام.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 11، 12). وتنظر: مصادر التفسير في "التفسير والمفسرون"، للذهبي (1/ 273 وما بعدها).

ص: 307

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي: اخْتَلَف العُلَمَاء في الْمَعْنَى الذي نَزَلَتْ فيه (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) على خَمْسَة أقْوَال:

فَقَال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نَزَلَتْ فِيمَن صَلَّى إلى غَير القِبْلَة في لَيْلَة مُظْلِمَة.

أخْرَجَه الترمذي عنه عن أبيه قال: كُنَّا مَع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر في لَيْلَة مُظْلِمَة فَلم نَدْرِ أين القِبْلَة، فَصَلَّى كُلّ رَجُل مِنّا عَلى حِيَالِه، فَلَمَّا أصْبَحْنَا ذَكَرْنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

(1)

.

وقال ابن عمر: نَزَلَتْ في الْمُسَافِر يَتَنَفَّل حَيثُمَا تَوَجَّهَتْ به رَاحِلَته. أخْرَجَه مسلم عنه

(2)

.

قال: كَان رَسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وهو مُقْبِل مِنْ مَكَّة إلى الْمَدِينَة على رَاحِلَتِه حَيْث كَان وَجْهه. قال: وفِيه نَزَلَتْ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

ولا خِلاف

(3)

بَيْن العُلَمَاء في جَوَاز النَّافِلَة على الرَّاحِلَة لِهذا الْحَدِيث ومَا كَان مِثْله، ولا يَجُوز لأحَدِ أن يَدَع القِبْلَة

(4)

عامِدًا بِوَجْهٍ من الوُجُوه إلَّا في شِدَّة الْخَوْف .....

وقال قتادة: نَزَلَتْ في النَّجَاشِي، وذَلك إنه لَمَّا مَات دَعَا النبي صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِين إلى الصَّلاة عَليه خَارِج الْمَدِينَة، فَقَالُوا: كيف نُصَلِّي على رَجُل مَات

(1)

جامع الترمذي (ح 345) وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا؛ قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة. وبه يقول سفيان، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. اهـ. وهذا القدر قد نقله القرطبي. والحديث ضعفه ابن كثير، كما سيأتي.

(2)

(ح 700).

(3)

وحكى النووي الإجماع على جواز النافلة في السفر حيث توجهت به راحلته (المنهاج، مرجع سابق 5/ 28) وقال ابن الملقن: وأجمعت الأمة على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة ولا على الدابة إلا في شدة الخوف (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 485)، ويعكر على حكاية الإجماع ما قاله الترمذي (الجامع 2/ 268): رُوِي عن أنس بن مالك أنه صلى في ماء وطين على دابته. والعمل على هذا عند أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق.

(4)

يعني في الفريضة؛ لأنه حكى الاتفاق على جواز النافلة على الراحلة.

ص: 308

وهو يُصَلِّي لِغَير قِبْلَتِنا؟ وكان النَّجَاشِي مَلِك الْحَبَشَة - واسْمُه أصْحَمَة

(1)

- يُصَلِّي إلى بَيْت الْمَقْدِس حَتى مَات. وقد صُرِفَتِ القِبْلَة إلى الكَعْبَة، فَنَزَلَتْ الآيَة.

القَول الرابع: قال ابن زيد: كَانت اليَهُود قَدْ اسْتَحْسَنَتْ صَلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بَيْت الْمَقْدِس، وقَالُوا: مَا اهْتَدَى إلَّا بِنَا، فَلَمَّا حُوِّل إلى الكَعْبَة قَالَتْ اليَهُود: مَا وَلَّاهُم عن قِبْلَتِهم التي كَانُوا عَليها؟ فَنَزَلَتْ: (وِلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). فَوَجْهُ النَّظْم على هَذا القَوْل: أنَّ اليَهُود لَمَّا أنْكَرُوا أمْرَ القِبْلَة بَيَّن الله تعالى أنَّ له يَتَعَبّد عِبَادَه بِمَا شَاء، فإن شَاء أمَرَهم بالتَّوَجُّه إلى بَيْتِ الْمَقْدِس، وإن شَاء أمَرَهم بالتَّوَجُّه إلى الكَعْبَة فَعَل، لا حُجَّة عَليه، ولا يُسْأل عَمَّا يَفْعَل وهُم يُسألون.

القَول الْخَامِس: أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة بِقَولِه: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[البقرة: 144] ذَكَرَه ابن عباس. فَكَأنه كَن يَجُوز في الابْتِدَاء أن يُصَلِّي الْمَرْء كَيف شَاء ثم نُسِخَ ذلك.

وقال قتادة: النَّاسِخ قَوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[البقرة: 149] أي: تلقاءه؛ حَكاه أبو عيسى الترمذي.

وقَوْل سَادِس: رُوي عن مجاهد والضحاك أنها مُحْكَمَة. الْمَعْنَى: أيْنَمَا كُنْتُم مِنْ شَرْق وغَرْب فَثَمّ وَجْه الله الذي أَمَرَنا بِاسْتِقْبَالِه، وهو الكَعْبَة

(2)

.

وعن مجاهد أيضًا وابن جبير: لَمَّا نَزَلَتْ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60] قَالُوا: إلى أيْن؟ فَنَزَلَتْ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

وعن ابن عمر والنخعي: أيْنَمَا تُوَلُّوا في أسْفَارِكم ومُنْصَرَفَاتِكم فَثَمّ وَجْه الله.

(1)

انظر: مَشَارِق الأنوار، القاضي عياض (1/ 63).

(2)

سيأتي في مبحث: "أثر عقيدة القرطبي في توهم التعارض" مزيد بيان لما يتعلق بصفة الوجه لله تعالى.

ص: 309

وقيل: هي مُتَّصِلَة بِقَولِه تَعَالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[البقرة: 114] الآية. فالْمَعْنَى: أنَّ بِلاد الله أيها الْمُؤْمِنُون تَسَعُكم فلا يَمْنَعْكم تَخْرِيب مَنْ خَرَّب مَسَاجِد الله أن تُوَلُّوا وُجُوهَكم نَحْو قِبْلَة الله أينَمَا كُنْتُم مِنْ أرْضِه.

وقيل: نَزَلَتْ حين صُدّ النبي صلى الله عليه وسلم عن البَيْت عَام الْحُدَيْبِيَة، فاغْتَمّ الْمُسْلِمُون لِذَلك. فَهَذِه عَشَرَة أقْوَال، ومَن جَعَلَها مَنْسُوخَة فَلا اعْتِرَاض عَليه مِنْ جِهَة كَونِها خَبرًا؛ لأنها مُحْتَمِلة لمَعْنَى الأمْر، يُحْتَمل أن يَكُون مَعْنَى:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ): وَلُّوا وجُوهَكم نَحْو وَجْه الله.

وهذه الآيَة هي التي تَلا سَعيد بن جُبير رحمه الله لَمَّا أمَرَ الْحَجَّاج بِذَبْحِه إلى الأرْض

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

قَوله تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ):

1 -

نَزَلَ فِيمَن صَلَّى إلى غَير القِبْلَة في لَيْلَة مُظْلِمَة. قَاله عبد الله بن عامر، وَرَوَاه عن أبِيه.

2 -

نَزَلَ في صَلاة النَّافِلَة خَاصَّة.

3 -

نَزَلَ في النَّجَاشي، وقَد صَلَّى إلى غَير القِبْلَة، قَاله قَتادة.

4 -

نَزَل رَدًّا على اليَهُود حِين قَالُوا: مَا وَلَّاهم عَنْ قِبْلَتِهم التي كَانوا عَليها. قَالَه ابن زيد.

5 -

أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة، وحَكاه عن ابن عباس.

6 -

أيْنَمَا كُنْتم في شَرْق وغَرْب فَثَمَ وَجْه الله.

7 -

أنّها في قِبْلَة الدُّعَاء، وحكاه عن مجاهد وابن جبير.

8 -

أيْنَمَا تُولُّوا في أسْفَارِكم ومُنْصَرَفَاتِكم؛ فَثَمّ وَجْه الله.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 77 - 81) باخْتِصَار. وسيأتي تخريجها لاحقًا.

ص: 310

9 -

مُتَّصِلَة بِمَا قَبْلَها، والْمَعْنَى: لا يُصدَّنَّكُم تَخْرِيب الْمَسَاجِد، فَالأرْض كُلّها مَسْجِد.

10 -

نَزَل حين صُدّ النبي صلى الله عليه وسلم عَام الْحُدَيْبِيَة.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

ذَكَر ابنُ جَرير مَعْنَى قَولِه: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، فَقَال: يَعْنِي جَلّ ثناؤه: لله مِلْكُهُمَا وتَدْبِيرُهُمَا

فَذَلك قَوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) يَعْنِي: أنّهُمَا لَه مِلْكًا وخَلْقًا.

ثم أجَاب عن إشْكَال مَضْمُونه: "كيف خَصّ الْمَشَارِق والْمَغَارِب بِالْخَبَر عَنها أنّها لَه في هَذا الْمَوْضِع دُون سَائر الأشْيَاء غَيْرَها"؟

وذَكَر مَا جَاء عن اليَهُود حِكَاية عن بَعْضِهم. فَقَالُوا: مَا وَلَّاهم عن قِبْلَتِهِم التي كَانُوا عَليها؟ فَقَال الله تبارك وتعالى لهم: الْمَشَارِق والْمَغَارِب كُلّها لي أصْرِف وُجُوه عِبَادِي كَيف أشَاء مِنْها فَحَيْثُمَا تُولُّوا فَثَمّ وَجْه الله.

وحَكَى عَنْ آخَرين قَولهم: بل أنْزَل الله هَذه الآيَة قَبْل أن يَفْرِض على نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم وعلى الْمُؤمِنِين به التَّوَجّه شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام.

وإنما أنْزَلَها عليه مُعْلِمًا نَبِيَّه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصْحَابه أنَّ لَهم التَّوَجَّه بِوُجُوهِهم للصَّلاة حَيْث شَاءُوا مِنْ نَواحِي الْمَشْرِق والْمَغْرِب، لأنّهم لا يُوَجِّهُون وُجُوهَهم وَجْهًا مِنْ ذلك ونَاحِية إلَّا كَان جَلّ ثَنَاؤه في ذَلك الوَجْه وتِلك النَّاحِية؛ لأنَّ لَه الْمَشَارِق والْمَغَارِب، وأنه لا يَخْلُو مِنه مَكَان

(1)

، كَمَا قَال جَلَّ وَعَزَّ: (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ

(1)

ليس القصد ما تَقُوله الحلولية؛ فابْنُ جرير من أئمة أهل السُّنة، وله كُتُب في بيان اعتقاد أهل السنة، مثل كتاب "صريح السنة"، سار فيها على منهج سلف الأمة. ولذا ضمنه اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 183 - 186). وهو يقصد بذلك علم الله، لا ذاته. بدليل استشهاده بالآية، وقد قَال في تَفْسِيرِها (22/ 468): وعَنَى بِقَولِه: (هُوَ رَابِعُهُمْ) بِمَعْنَى أنه مُشَاهِدهم بِعِلْمِه وهو على عَرْشِه. وقال (22/ 387) في تفسير (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)[الحديد: 4] وهُو شَاهد لكم أيها الناس أينما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.

قال ابن كثير (2/ 30): وفي قوله: "وأنه تعالى لا يخلو منه مكان" إن أراد علمه تعالى؛ فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. اهـ.

روى ابن عبد البر في التمهيد (7/ 138) عن مالك بن أنس أنه قال: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه مكان.

ص: 311

وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة: 7] قَالوا: ثم نُسِخَ ذلك بالفَرْض الذي فُرِضَ عليهم في التَّوَجُّه شَطْر الْمَسْجِد الْحَرَام.

وقال آخَرُون: نَزَلَتْ هَذه الآيَة على النبي صلى الله عليه وسلم إذْنًا مِنْ الله عز وجل لَه أن يُصَلِّي التَّطَوُّع حَيث تَوَجَّه وَجْهَه مِنْ شَرْق أوْ غَرْب في مَسِيرِه في سَفَرِه، وفي حَالِ الْمُسَايَفَة

(1)

وفي شِدَّة الْخَوف والْتِقَاء الزُّحُوف في الفَرَائض.

والقَول الرَّابع عند ابن جرير: نَزَلَتْ هَذه الآيَة في قُوْم عُمِّيَتْ عَلَيهم القِبْلَة فَلَم يَعْرِفُوا شَطْرَها، فَصَلَّوا عَلى أنْحَاء مُخْتَلِفَة، فَقَال الله عز وجل لَهم: لي الْمَشَارِق والْمَغَارِب، فإن وَلّيتُم وُجُوهَكم فَهُنالِك وَجْهي وهو قِبْلَتُكُم، معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية.

والقَول الْخَامِس عنده مَا جَاء في قِصّة النَّجَاشِي.

يَعْنِي بِذلك أنَّ النَّجَاشي وإن لَم يَكُنْ صَلّى إلى القِبْلَة، فإنه قد كان يُوَجِّه إلى بعض وُجُوه الْمَشَارِق والْمَغَارِب وَجْهَه يَبْتَغِي بِذلك رِضَا الله عز وجل في صَلاتِه.

والراجِح عِنده: أن الله تعالى ذِكْرُه إنّما خَصّ الْخَبَر عن الْمَشْرِق والْمَغْرِب في هذه الآيَة بأنّهُمَا لَه مِلْكًا، وإنْ كَان لا شَيء إلَّا وَهو لَه مِلْك؛ إعْلامًا منه لِعِبَادِه الْمُؤْمِنين أنَّ له مِلْكَهما ومُلك مَا بَيْنَهُما مِنْ الْخَلْق، وأنَّ على جَمِيعِهم - إذْ كَان لَه

(1)

في مختار الصحاح (ص 136): المسايفة: المجالدة، وتسايفوا تضاربوا بالسيف.

ص: 312

مِلْكُهم - طَاعَتَه فِيمَا أمَرَهُم ونَهَاهُم، وفِيمَا فَرَضَ عَليهم مِنْ الفَرَائض والتَّوجِيه نَحْو الوَجْه الذي وُجِّهُوا إليه إذْ كان مِنْ حُكْم الْمَمَالِيك طَاعَة مَالِكهم.

ومَعْنَى الآيَة إذًا: ولله مُلْك الْخَلْق الذي بين الْمَشْرِق والْمَغْرِب يَسْتَعْبِدُهم بِمَا يَشَاء، ويَحْكُم فِيهم مَا يُرِيد، عليهم طَاعَتُه، فَوَلُّوا وُجُوهَكُم أيها الْمُؤمِنُون نَحْو وَجْهي، فإنَّكم أيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُم فَهُنالِك وجْهِي.

فأمَّا القَول في هَذه الآيَة نَاسِخَة أم مَنْسُوخَة، أم لا هي نَاسِخَة ولا مَنْسُوخَة؟ فَالصَّوَاب فِيه مِنْ القَول أن يُقَال: إنّها جَاءت مَجِيء العُمُوم والْمُرَاد الْخَاصّ.

وعَلَّل ذلك بِمَا تَحْتَمِله الآيَة. ثم قال:

فإذ كان قَوله عز وجل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) مُحْتَملًا مَا ذَكَرْنا مِنْ الأوْجُه لَم يَكُنْ لأحد أن يَزْعُم أنّها نَاسِخَة أوْ مَنْسُوخَة إلَّا بِحُجَّة يَجِب التَّسْلِيم لَها، لأنَّ النَّاسِخ لا يَكُون إلَّا بِمَنْسُوخ.

ونَفَى وُجُود حُجّة يَجِب التَّسْلِيم لَها بِأنَّ قَولَه: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) مَعْنِيّ بِه: فأيْنَمَا تُوُجِّهُوا وُجُوهَكُم في صَلاتِكُم فَثَمّ قِبْلَتكم.

ولا أنّها نَزَلَتْ بَعْد صَلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصْحَابه نَحْو بَيْت الْمَقْدِس أمْرًا مِنْ الله عز وجل لَهم بِها أن يَتَوَجّهوا نَحْو الكَعْبَة

(1)

؛ فيَجُوز أن يُقَال:

(1)

روى ابن جرير (2/ 449) عن ابن عباس قال: كان أوَّل مَا نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) إلى قَوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[البقرة: 144]، فارْتَاب مِنْ ذلك اليَهُود، وقَالُوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله عز وجل: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)[البقرة: 142]، وقال:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ورَوى مثله (2/ 622) عن عكرمة والحسن البصري.

ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ" عن ابن عباس. (نقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 2/ 29).

ورواه الطبراني في مسند الشاميين (ح 2412)، والحاكم في المستدرك (ح 3060) وصحّحه على شرط الشيخين.

والبيهقي في السنن الكبرى (ح 2079، 2080)، وابن عبد البر في الاستذكار (1/ 19)، ونَقَل في "التمهيد"(17/ 49) الإجماع على أن أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، فقال: وأجمع العلماء أن شأن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأجمعوا أن ذلك كان بالمدينة.

ويظهر أن مقصود ابن جرير أن هذه الآية ليست هي الناسخة، والله أعلم.

ص: 313

هي نَاسِخَة الصَّلاة نَحو بَيْت الْمَقْدِس، إذْ كان مِنْ أهْل العِلْم مِنْ أصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التَّابِعِين مَنْ يُنْكِر أن تَكون نَزَلَتْ في ذَلك الْمَعْنَى.

ثم أطَال في الكَلام على النَّسْخ والتَّخْصِيص، وفي معنى:(فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، ومَعْنَى الْوَجْه في الآية.

كَما بيَّن صِلَة هذه الآية بِمَا قَبْلَها مِنْ قَوله تَعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)[البقرة: 114]

(1)

.

وأشَار السمرقندي إلى الْخِلاف في سَبَب نُزُول قَوله تَعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، حيث قال: اخْتَلَفُوا في سَبَب نُزُول هَذه الآيَة:

رُوي عن ابن عباس أنه قال: خَرَج رَهْط مِنْ أصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَر فأصَابَهم الضَّبَاب، فَمِنْهم مَنْ صَلَّى إلى الْمَشْرِق، ومِنْهُم مَنْ صَلَّى إلى الْمَغْرِب، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْس وذَهَب الضَّبَاب اسْتَبَان لَهم ذَلك، فَلَمَّا قَدِمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم سَألُوه عن ذلك، فَنَزَلَتْ هَذه الآيَة.

ورَوى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنَّ قَومًا خَرَجُوا إلى السَّفَر، وذَكَر القِصَة نَحو هَذا.

وقَال بَعْضُهم: الْمُرَاد بِه الصَّلاة على الدَّابَة. وذَكَر قول ابن عُمر في سَبَب نُزُول الآيَة.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 449 - 460) باختصار وتصرّف يسير.

ص: 314

وقَال بَعْضُهم: لِنُزُول هَذه الآيَة سَبَب آخَر - ثم ذَكَر مَا جَاء عن اليَهُود، وأنّ الآية نَزَلتْ في الردّ عليهم -

(1)

.

وأما السَّمْعَاني فَذَكَر في الآيَة أرْبَعَة أقْوَال:

أحَدُهما: أنها نَزَلَتْ في نَسْخ القِبْلَة.

والقَول الثَّاني: ما رَوَى عُمر

(2)

أنَّ رسول الله كان يُصَلِّي على رَاحِلَتِه أيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِه رَاحِلَتُه، فَنَزَلَتْ الآيَة في إبَاحَة النَّافِلَة على الرَّاحِلَة أيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِه الرَّاحِلَة.

والقَول الثَّالِث: عن جَابر رضي الله عنه أنه قَال: كُنَّا في سَفَر فاشْتَبَهَتْ علينا القِبْلَة، فَصَلّى كُلّ وَاحِد مِنَّا إلى جِهَة، وخَط بَيْن يَدَيه خَطًّا، فَلَمَّا أصْبَحْنَا فإذا الْخُطُوط إلى غَيْر القِبْلَة، فَسَألْنَا عن ذلك رَسُول الله فَلَم يَأْمُرْنا بِالإعَادَة، وَنَزَلَتْ الآيَة في مَعْنَاه.

والقَول الرَّابِع: أنّها نَزَلَتْ في ابْتِدَاء الإسْلام حين لم تَكُنْ القِبْلَة مَعْلُومَة، وجَازَتِ الصَّلاة إلى أي جِهَة شَاءوا؛ فَعَلى هَذا تَكُون الآيَة مَنْسُوخَة بِآية القِبْلَة، وهَذا قَول غَرِيب.

ثم بيَّن السمعاني الْمَقْصُود بِالوَجْه في الآيَة، وأنه صِفَة لله عز وجل

(3)

.

وحَكى ابن عبد البَرّ الْخِلاف في سَبَب النُّزُول، حَيث قال: واخْتَلَف أهْل العِلْم في الْمَعْنَى الذي فيه نَزَلَتْ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

فَقَال ابن عمر وطَائفة: نَزَلَتْ في الصَّلاة على الرَّاحِلَة.

وقيل: نَزَلَتْ في قَول اليَهُود في القِبْلَة.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 113)، وبهذه الأقوال قال الثعلبي في "الكشف والبيان"(1/ 262).

(2)

تَقدّم أنه عن ابن عمر، وهو في صحيح مسلم.

(3)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 128، 129). قال ابن تيمية: وليسَتْ هَذه الآية مِنْ آيَات الصِّفَات.

(مجموع الفتاوى 3/ 193)، وسيأتي مزيد بين لهذا في مبحث "أثَر عَقيدة القرطبي في تَوَهُّم التَّعَارُض".

ص: 315

وقيل: نَزَلَتْ في قَوْم كَانوا في سَفَر على عَهْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في لَيْلَة ظَلْمَاء ....

واسْتَحْسَن قَول مَنْ قَال: إنها نَزَلَتْ في الصَّلاة على الرَّاحِلَة، فَقَال: وقَول مَنْ قَال: إنّها نَزَلَتْ في الصَّلاة على الرَّاحِلَة؛ قَولٌ حَسَنٌ أيضًا تَعْضُده السُّنَّة في ذَلك

(1)

.

وذَكَر الزمخشري مَعْنَى قَوله تَعالى: (وِلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، ثم قَال في قَوله تَعالى:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا): فَفِي أيّ مَكَان فَعَلْتُم التَّوْلِية، يَعْنِي تَولِيَة وُجُوهِكم شَطْر القِبْلَة، بِدَلِيل قَوله تعالى:(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

(فَثَمَّ وَجْهُ): أي جِهَته التي أمَرَ بِها ورَضِيها.

والْمَعْنَى: أنكم إذا مُنِعْتُم أن تُصَلّوا في الْمَسْجِد الْحَرَام وفي بَيْت الْمَقْدِس فَقَد جُعِلَتْ لكم الأرْض مَسْجِدًا، فَصَلّوا في أيّ بُقْعَة شِئْتُم مِنْ بِقَاعِها، وافْعَلُوا التَّولِيَة فِيها، فإنَّ التَّوْلِيَة مُمْكِنَة في كُل مَكَان، لا يَخْتَصّ إمْكَانها في مَسْجِد دُون مَسْجِد، ولا في مَكان دُون مَكان

(2)

.

وحَكى ابن عَطية الْخِلاف في سَبَب نُزُول قَوله تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فَقَال: واخْتَلَف الْمُفَسِّرُون في سَبَب هَذه الآيَة:

فَقَال قَتادة: أبَاح الله لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم بِهَذِه الآيَة أن يُصَلِّي الْمُسْلِمُون حَيْث شَاءُوا، فاخْتَار النبي صلى الله عليه وسلم بَيْت الْمَقْدِس حِينَئذٍ، ثم نُسِخَ ذلك كُلّه بِالتَّحَوّل إلى الكَعْبَة.

(1)

التمهيد، ابن عبد البر (17/ 73).

(2)

الكشاف، مرجع سابق (ص 93).

ص: 316

وقال مجاهد والضحاك: مَعْنَاه: إشَارَة إلى الكَعْبَة، أي: حَيْث كُنْتُم مِنْ الْمَشْرِق والْمَغْرِب فَأنتُم قَادِرُون على التَّوَجُّه إلى الكَعْبَة التي هي وَجْه الله الذي وَجّهَكُم إليه.

قال القاضي أبو محمد: وعلى هَذا فَهي نَاسِخَة لِبَيْت الْمَقْدِس.

وذَكَر ما قاله ابن زيد في قَول اليَهُود وسَبَب النُّزُول. ومَا قَاله ابن عمر في سَبَب نُزُول الآية، وقَد تَقَدَّم. وما جاء عن عبد الله بن عامر، مِمَّا تَقَدَّم أيضًا. ومَا جَاء عن قتادة وقَوله: إنها نَزَلت في النَّجَاشِي. وقول ابن جبير: إنّها نَزَلَتْ في الدُّعَاء.

ونَقَل عن المهدوي قَوله: هَذه الآيَة مُنْتَظِمة في مَعْنَى التي قَبْلَها، أي: لا يَمْنَعكم تَخْرِيب مَسْجِد مِنْ أدَاء العِبَادَات، فإنَّ الْمَسْجِد الْمَخْصُوص للصَّلاة إن خُرِّبَ فَثَمّ وَجْه الله مَوْجُود حَيْث تَوَلَّيْتُم.

وقَوله أيضًا: قيل نَزَلَتْ الآية حِين صُدّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ البَيْت

(1)

.

وفي تَفْسير آخِر سورة آل عمران زاد ابن عطية حِكاية قَوْل الْمُنَافِقِين في الصَّلاة على النَّجَاشِي، حَيْث قَالوا: انْظُرُوا إلى هذا يُصَلِّي على عِلْج نَصْرَاني لم يَرَه قَطّ، فَنَزَلَتْ هذه الآية

(2)

.

وأشار الرَّازي إلى الْخِلاف في سَبَب نُزُول قَوله تَعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، وعَزَا إلى الأكْثَرِين، أنّها إنّما نَزَلَتْ في أمْرٍ يَخْتَصّ بالصَّلاة. ومِنْهم مَنْ زَعَم أنّها إنّما نَزَلَتْ في أمْرٍ لا يَتَعَلَّق بالصَّلاة.

قال: أمَّا القَوْل الأوَّل، فَهو أقْوى لِوَجْهَين:

أحَدها: أنه هو الْمَرْوي عَنْ كَافَّة الصَّحَابة والتَّابِعين وقَولُهم حُجَّة.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 200، 201).

(2)

المرجع السابق (1/ 559).

ص: 317

وثَانِيهما: أنَّ ظَاهر قَوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) يُفِيد التَّوَجُّه إلى القِبْلَة في الصَّلاة، ولهذا لا يُعْقَل مِنْ قَوله:(فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) إلَّا هَذا الْمَعْنَى.

إذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول: القَائلُون بِهَذا القَوْل اخْتَلَفُوا على وُجُوه - ثم ذَكَر الرّازي لِهَذَا القَول سَبْعة وُجُوه -.

أمَّا الرَّاجِح عِنده فأبَانَ عنه بقَولِه: فإن قِيل: فأيّ هَذه الأقَاويل أقْرَب إلى الصَّوَاب؟ قُلْنَا: إنَّ قَوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) مُشْعِر بالتَّخْيِير، لا يَثْبُتُ إلَّا في صُورَتَين:

أحَدهما: في التَّطَوُّع على الرَّاحِلَة.

وثَانِيهما: في السَّفر عِنْد تَعَذُّر الاجْتِهَاد للظُّلْمَة أوْ لِغَيرها؛ لأنَّ في هَذَين الوَجْهَين الْمُصَلِّي مُخَيَّر، فأمَّا على غَير هَذين الوَجْهَين فَلا تَخْيِير

(1)

.

ثم نَاقَش الأقْوَال التي أوْرَدَها بَعْد تَرْجِيحِه لِهَذا القَول.

واعْتَبَر ابنُ كثير قَوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) تَسْلِيَة لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولأصْحَابه الذين أُخْرجُوا مِنْ مَكَّة، وفَارَقُوا مَسْجِدَهم ومُصَلّاهم.

ثم أوْرَد أسْبَاب النُّزُول التي قِيلَتْ في هذه الآيَة، ونَقَل عن ابن عباس قوله: قِبْلَة الله أينَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أوْ غَرْبًا.

وعن مجاهدٍ قَوله: حَيْثُمَا كُنْتُم فَلَكُم قِبْلَة تَسْتَقْبِلُونها: الكَعْبَة

(2)

.

ونَقَل ما حَكاه ابن جرير في الْمَسْألَة. وقد تَقدَّم النَّقْل عن ابن جرير.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (4/ 17 - 19) باختصار.

(2)

قول مجاهد هذا رواه عنه ابن أبي شيبة في المصنف (ح 3377).

ص: 318

وضَعَّف ابن كثير مَا رَواه الترمذي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه في سَبَب نُزُول هذه الآيَة

(1)

.

كَمَا ضَعَّف مَا رَواه الترمذي

(2)

أيضًا مِنْ حَدِيث أبي هريرة مَرْفُوعًا: مَا بَيْن الْمَشْرِق والْمَغْرِب قِبْلَة. ورجَّح ابن كثير وَقْف الْحَدِيث تَبَعًا للدارقطني والبيهقي.

وأوْرَد أيضًا ما حكاه ابن جرير في سبب النّزول، وأنّها نَزَلتْ في شَأن النَّجَاشي.

ومَا قَاله ابن جرير في احْتِمَال أن يَكون الْمَقْصُود قِبْلَة الدُّعَاء، فأيْنَمَا تُولُّوا وُجُوهَكُم في دُعائِكم لي فَهُناك وَجْهِي

(3)

.

وحَكى الثعالبي الْخِلاف، فَقَال: واخْتُلِف في سَبَب نُزُول هذه الآيَة، فقال ابن عمر: نَزَلَتْ هذه الآية في صَلاة النَّافِلَة في السَّفر حَيْث تَوَجَّهَتْ بالإنْسَان دَابَّتُه

(4)

.

وقال النخعي: الآيَة عَامَّة: أيْنَمَا تُوَلُّوا في مُتَصَرَّفَاتِكم

(5)

ومَسَاعِيكُم فَثَمّ وَجْه الله، أي: مَوضِع رِضَاه وثَوابه وَجِهَة رَحْمَته التي يُوصَل إليها بِالطَّاعَة

(6)

.

وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نَزَلَتْ فِيمَن اجْتَهَد في القِبْلَة فأخْطَأ.

وقيل: نَزَلَتْ الآية حين صُدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت

(7)

.

(1)

وقد ضعّفه الترمذي - كما تقدّم - وضعّفه ابن حزم في المحلى (3/ 231).

(2)

(ح 342) ورواه ابن ماجه (ح 1011) مِنْ طريق أبي معشَر، وبه ضعفه النسائي في المجتبى (4/ 171)، ورواه الترمذي من غير طريق أبي معشر (ح 344) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح (إرواء الغليل ح 292).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (2/ 28 - 35).

(4)

رواه مسلم. وقد تقدم تخريجه.

(5)

فيما نقله القرطبي: منصرفاتكم.

(6)

تقدم أن "الوجه" صفة ثابتة لله تبارك وتعالى. قال ابن عبد البر (التمهيد 7/ 151): والنجاة في هذا: الانتهاء إلى ما قال الله عز وجل، ووصف به نفسه بوجهٍ ويدين، وبسط، واستواء، وكلام. اهـ.

وتأتي الإشارة إلى قول ابن تيمية في هذه الآية على وجه الخصوص.

(7)

الجواهر الحسان، مرجع سابق (1/ 101).

ص: 319

‌رأي الباحث:

مَا في الصَّحِيح أصَحّ، فَقَول ابن عمر: إنّها نَزَلَتْ في صَلاة النَّافِلَة مُخَرَّج في صَحِيح مُسْلم - كما تقدَّم -.

واسْتَحْسَن ابن عبد البر قَول ابن عمر، فَقَال: وهو تَأوِيل حَسَن للآية، تَعْضُده السُّنَّة

(1)

.

وفي السُّنَّة صَلاته صلى الله عليه وسلم إلى غَيْر القِبْلَة في النَّافِلَة، ومِن ذلك:

حَدِيث جَابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: رَأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غَزْوة أنْمَار يُصَلّي على رَاحِلَتِه مُتَوَجِّهًا قِبَل الْمَشْرِق مُتَطَوِّعًا

(2)

.

وحَديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَان يُسَبِّح

(3)

على ظَهْر رَاحِلَته حَيْث كَان وَجْهُه يُومِئ بِرَأسِه. وكان ابن عمر يَفْعَله

(4)

.

قال الْمُهَلَّب: هَذه الأحَاديث تَخُصّ قَوله تَعالى: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[البقرة: 144]، وتُبَيِّن أنَّ قَوله تَعالى:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) في النَّافِلَة

(5)

.

وحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه

(6)

.

وحديث أنَس رضي الله عنه

(7)

.

(1)

الاستذكار، مرجع سابق (2/ 256).

(2)

رواه البخاري (ح 3909)، ومسلم (ح 540).

(3)

أي: يتنفل.

(4)

رواه البخاري (ح 1054)، ومسلم (ح 700).

(5)

فتح الباري، مرجع سابق (2/ 670).

(6)

البخاري (ح 1046)، ومسلم (ح 701).

(7)

رواه البخاري (ح 1049)، ومسلم (ح 702).

ص: 320

ويُمْكِن حَمْل الآيَة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) على حَال الاضْطِرَار، وقَد اسْتَدَلّ بِها سعيد بن جُبير لَمَّا أمَرَ الْحَجَّاج بِقَتْلِه إلى قِبلَة النَّصَارَى! فَقال سَعيد:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

(1)

.

وقد نَصّ الفُقَهَاء على ذلك.

قال الْحَسَن: في الرَّجُل يُقَال له: اسْجُد لِصَنَم وإلَّا قَتَلْنَاك. قال: إنْ كَان الصَّنَم مُقَابِل القِبْلَة فلْيَسْجُد ويَجْعَل نِيَّتَه لله، فإن كان إلى غَير القِبْلَة فَلا، وإن قَتَلُوه.

قال ابن حبيب: وهَذا قَوْلٌ حَسَن

(2)

.

وتَعَقَّبَه ابن عطية بِقَوله: وما يَمْنَعُه أن يَجْعَل نِيّتَه لله وإن كَان لِغَير قِبْلَة؟ وفي كِتَاب الله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

(3)

.

وقال ابن حَزم: ومَن أُكْرِه على سُجُود لِصَنَم أوْ لِصَلِيب فلْيَسْجُد لله تعالى مُبَادرًا إلى ذلك، ولا يُبَالِي في أيّ جِهَة كَان ذَلك الصَّنَم والصَّلِيب. قال الله تعالى:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

(4)

.

فَمَنْ اضْطُرّ إلى الصَّلاة إلى غَيْر القِبْلَة، كالأسِير يُمنَع مِنْ اسْتِقْبَال القِبْلَة، والْمُصَافّ للعَدُو، والْمُسَافِر في الطَّائرَة إذا لم يَسْتَطِع التَّوجُّه إلى القِبْلَة، ونَحْوهم؛ ففي الآية رُخْصَة لهم بالصَّلاة على أيّ حَال، وإلى أي وِجْهَة.

وإذا حُمِلَتِ الآية على حَال الاضْطِرَار فلا يَحْتَاج الْجَمْع إلى تَخْصِيص ولا إلى نَسْخ، وفي الآيَة ثَلاثة أقْوَال أنّها مُحْكَمَة.

(1)

روى القصة: ابن سعد في الطبقات الكبرى (6/ 264 وما بعدها)، وأبو نُعيم في الحلية (4/ 290 وما بعدها)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 368 وما بعدها) وأوردها: ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 79 وما بعدها)، والذهبي في سِيَر أعلام النبلاء (4/ 327 وما بعدها).

(2)

نَقَلَه ابن عطية في المحرر الوجيز (1/ 420) وعنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 372).

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 420).

(4)

الْمُحَلّى، مرجع سابق (8/ 335).

ص: 321

قال ابن أبي حاتم في قَوله تَعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ): اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِه عَلى أرْبعة أوْجُه:

فأحَدُ ذلك: مَنْ جَعَلَها مُحْكَمَة، وصَرَفها إلى حَدّ الضَّرُورَة.

والقَول الثَّاني: بأنَّ الآية مُحْكَمَة، وتَفْسِيرُها في صَلاة السَّفَر تَطَوّعًا.

والقَول الرَّابع: إنّها مَنْسُوخَة

(1)

.

‌المثال الثاني:

قَبُول التَّوبَة:

قَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)[آل عمران: 90]، مع قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)[الشورى: 25].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى تُفِيد أنَّ مَنْ كَفَر بَعْد إيمانِه لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُه، بَيْنَمَا يُفهَم مِنْ الآيَة الثَّانِيَة قَبُول تَوْبَة مَنْ تَاب.

‌جمع القرطبي:

نَقَل القرطبي عن قتادة وعطاء الخراساني والْحَسن قولهم: نَزَلَتْ في اليَهُود كَفَرُوا بِعِيسَى والإنْجِيل، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقُرْآن.

كَمَا نَقَل عن أبي العَالِية قَوله: نَزَلَتْ في اليَهُود والنَّصارى كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانِهم بِنَعْتِه وصِفَتِه، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بإقَامَتِهم عَلى كُفْرِهم.

(1)

تفسيره (1/ 211، 212).

ص: 322

وقِيل: (ازْدَادُوا كُفْرًا) بالذُّنُوب التي اكْتَسَبُوها، وهذا اخْتِيَار الطبري، وهي عِنْدَه في اليَهُود.

ثم قَال في قَولِه: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ): مُشْكِل لِقَوله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)؛ فَقِيل: الْمَعْنَى: لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم عِنْد الْمَوْت.

قال النحاس: وهذا قَول حَسَن، كَمَا قَال عز وجل:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)[النساء: 18].

وقَد قَال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله يَقْبَل تَوْبَة العَبْد مَا لَم يُغَرْغِر

(1)

.

وقِيل: لَنْ تُقْبَل تَوبَتُهم التي كَانُوا عَليها قَبْل أن يَكْفُرُوا؛ لأنَّ الكُفْر قد أحْبَطَها.

وقِيل: لَنْ تُقْبَل تَوبَتُهم إذا تَابُوا مِنْ كُفْرِهم إلى كُفْرٍ آخَر، وإنّمَا تُقْبَل تَوبَتُهم إذا تَابُوا إلى الإسْلام.

وقال قُطْرب: هَذه الآية نَزَلَتْ في قَوم من أهْل مَكَّة قَالُوا: نَتَرَبّص بِمُحَمَّد رَيْب الْمَنُون، فَإن بَدَا لَنَا الرَّجْعَة رَجَعْنا إلى قَوْمِنَا، فَأنْزَل الله تَعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) أي: لَنْ تُقْبَل تَوبَتُهم وهُم مُقِيمُون عَلى الكُفْر، فَسَمَّاها تَوبَة غَير مَقْبُولَة؛ لأنه لم يَصِحّ مِنْ القَوم عَزْم، والله عز وجل يَقْبَل التَّوْبَة كُلّها إذا صَحَّ العَزْم

(2)

.

وقال في تَفْسير قَوله تَعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النساء: 17]: قِيل: هَذه الآيَة عَامَّة لِكُلّ مَنْ عَمِل ذَنْبا.

قال: وإذَا تَابَ العَبْد فالله سُبْحَانه بالْخِيَار إن شَاء قَبِلَها، وإن شَاء لَم يَقْبَلْها، ولَيْس قَبُول التَّوبَة وَاجِبًا عَلى الله مِنْ طَرِيق العَقْل، كَما قَال الْمَخَالِف، لأنَّ مِنْ شَرْط

(1)

رواه من حديث ابن عمر: أحمد (ح 6160) وقال محققوه: إسناده حسن. ورواه الترمذي (ح 3537)، وابن ماجه (ح 4253) إلا أنه جعله من حديث عبد الله بن عمرو. قال المزي: وهو وهم. (تحفة الأشراف 5/ 258).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 127، 128).

ص: 323

الوَاجِب أن يَكُون أعْلَى رُتْبة مِنْ الْمُوجِب عَليه

(1)

والْحَقّ سُبحانه خَالِق الْخَلق ومَالِكُهم والْمُكَلِّف لَهم، فلا يَصِحّ أن يُوصَف بِوُجُوب شَيء عليه تَعالى عن ذلك، غير أنه قد أخْبَر سبحانه وهو الصَّادق في وَعْدِه بأنه يَقْبَل التَّوْبة عن العَاصِين مِنْ عِبَادِه، بِقوله تَعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)، وقوله:(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)[التوبة: 104]، وقَوله:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ)[طه: 82].

فأمَّا السَّمْع فَظَاهِره قَبُول تَوبَة التَّائب.

قال أبو المعالي وغيره: وهَذه الظَّوَاهِر إنّما تُعْطِي غلبة ظَن لا قَطْعًا عَلى الله تَعالى بِقَبُول التَّوْبَة.

قال ابن عطية: وقد خُولِف أبو الْمَعَالي وغيره في هَذا الْمَعْنَى، فإذا فَرَضْنا رَجُلًا قد تَاب تَوْبَة نَصُوحًا تَامَّة الشُّرُوط، فَقَال أبو المعالي: يَغْلِب على الظَّن قَبُول تَوْبَتِه، وقال غيره: يُقْطَع على الله تَعالى بِقَبُول تَوْبَتِه، كَمَا أخْبَر عَنْ نَفْسِه جَلَّ وَعَزّ.

(1)

هذا متعقب بأن الله يوجب على نفسه، وليس من شرط الواجب أن يكون أعلى من الموجب.

وقد حكى الخلاف ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (1/ 451)، فقال: تنازعوا: هل يوصف الله تعالى بأنه أوجب على نفسه وحرم على نفسه أوْ لا معنى للوجوب إلا إخباره بوقوعه ولا للتحريم إلا إخباره بعدم وقوعه؟

ثم قال: وأما أن العباد يوجبون عليه ويحرمون عليه فممتنع عند أهل السنة كلهم. ومن قال إنه أوجب على نفسه أو حرم على نفسه، فهذا الوجوب والتحريم يعلم عندهم بالسمع.

وقال ابن القيم في شفاء العليل (1/ 305): أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.

وقد بحث هذه المسألة بتوسع في "بدائع الفوائد" فلينظر (2/ 389 وما بعدها) وفي "مدارج السالكين"(3/ 128 وما بعدها).

وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 510): وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالمًا، ولو قدر أنه تاب منها، لكن أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنع لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه.

ص: 324

قال ابن عطية: وكَان أبي رحمه الله يَمِيل إلى هَذا القَول ويُرَجِّحه، وبه أقُول والله تعالى أرْحَم بِعِبَادِه مِنْ أن يَنْخَرِم في هذا التَّائب الْمَفْرُوض

(1)

مَعْنَى قَوله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) وقَوله تَعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ).

ورَجَّح القرطبي "أنَّ اللمْسَة والنَّظْرَة تُكَفَّر بِاجْتِنَاب الكَبَائر قَطْعًا بِوعْدِه الصِّدْق وقَولِه الحقّ، لا أنه يَجِب عَليه ذَلك"

(2)

.

ثم قَال في قَوله تَعالى: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)[النساء: 17]: السُّوء في هَذه الآيَة و "الأنْعَام"(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) يَعُمّ الكُفْر والْمَعَاصِي، فَكُلّ مَنْ عَصَى رَبَّه فهو جَاهِل حتى يَنْزَع عن مَعْصِيَتِه.

قال قتادة: أجْمَع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ كُل مَعْصيَة فَهي بِجَهالة عَمْدًا كَانَتْ أو جَهْلًا. وقاله ابن عباس وقتادة، والضحاك، ومجاهد، والسّدي.

ورُوي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الْجَهَالَة هُنا العَمْد.

وقَال عكرمة: أمُور الدُّنْيا كُلّها جَهَالَة. يُرِيد الْخَاصَّة بِها الْخَارِجَة عن طَاعَة الله.

وهذا القَول جَارٍ مَع قَوله تَعالى: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)[محمد: 36]، [الحديد: 20].

وقَال الزَّجاج: يَعني قَولَه: (بِجَهَالَةٍ): اخْتِيَارهم اللذَّة الفَانِيَة على اللذَّة البَاقِية

(3)

.

وقَال: قَوله تَعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)[النساء: 18] قال ابن عباس والسدي: مَعْنَاه قَبْل الْمَرَضَ والْمَوْت.

ورُوي عن الضحاك أنه قال: كُلّ مَا كَان قَبْل الْمَوْت فَهو قَرِيب.

وقال أبو مجلز والضحاك أيضًا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قَبْل الْمُعَايَنَة للمَلائكَة والسَّوْق، وأن يُغْلَب الْمَرْء على نَفْسِه

(4)

.

(1)

يعني: الْمُعيَّن.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 151).

(3)

المرجع السابق (5/ 88، 89) باختصار.

(4)

المرجع السابق (5/ 89).

ص: 325

وقال أبو مجلز والضحاك أيضًا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قَبْل الْمُعَايَنَة للمَلائكَة والسَّوْق، وأن يُغْلَب الْمَرْء على نَفْسِه

(1)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ)[النساء: 18] قال: نَفَى سبحانه أن يَدْخُل في حُكْم التَّائبِين مَنْ حَضَرَه الْمَوْت، وصَارَ في حِين اليَأس، كَمَا كَان فِرْعَون حِين صَار في غَمْرَة الْمَاء والغَرَق، فَلَم يَنْفَعه مَا أظْهَر مِنْ الإيمان، لأنَّ التَّوبَة في ذَلك الوَقْت لا تَنْفَع، لأنّها حَال زَوَال التَّكْلِيف. وبِهَذا قال ابن عباس وابن زيد وجُمْهُور الْمُفَسِّرِين. وأمَّا الكُفَّار يَمُوتُون على كُفْرِهم فلا تَوبَة لَهم في الآخِرَة

(2)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)[الشورى: 25]: أي: الشِّرْك قَبل الإسْلام

(3)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

نَزَلَتْ في اليَهُود كَفَرُوا بِعِيسَى والإنْجِيل، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقُرآن.

2 -

نَزَلَتْ في اليَهُود والنَّصَارَى كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانِهم بِنَعْتِه وصِفَتِه، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بإقَامَتِهم على كُفْرِهم.

3 -

في اليَهُود حَيث (ازْدَادُوا كُفْرًا) بالذّنوب التي اكْتَسَبُوهَا، وهو اختيار الطبري.

4 -

لن تُقْبَل تَوْبَتُهم إذا عايَنُوا الْمَوْت، كَمَا كَان مِنْ فِرْعَون.

5 -

لن تُقبل تَوبَتُهم التي كَانُوا عَليها قَبْل أن يَكْفُرُوا؛ لأنَّ الكُفْر قد أحْبَطَها.

6 -

لن تُقْبَل تَوبَتُهم إذا تَابُوا مِنْ كُفْرِهم إلى كُفْرٍ آخَر، وإنما تُقْبَل تَوبَتُهم إذا تَابُوا إلى الإسْلام.

(1)

المرجع السابق (5/ 89).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 90).

(3)

المرجع السابق (16/ 25).

ص: 326

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

حَكَى ابن جرير الْخِلاف، ومُختَصَرُه:

1 -

عَنَى الله عز وجل بِقَولِه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: بِبَعْضِ أنْبِيَائه الذين بُعِثُوا قَبْل محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهم بمحمد.

2 -

لن تُقْبَل تَوبَتُهم عِند حُضُور الْمَوْت وحَشْرَجَتِه بِنَفْسِه.

3 -

اليَهُود والنَّصَارَى لَنْ تُقْبَل تَوبَتُهم عِند الْمَوْت.

4 -

ازْدَادُوا كُفْرًا حَتى حَضَرَهم الْمَوْت فَلَم تُقْبَل تَوبَتُهم حِين حَضَرَهم الْمَوْت.

5 -

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) يَعْنِي بِزِيَادَتِهم الكُفْر بِمَا هُمْ عليه حتى هَلَكُوا وهُم عليه مُقِيمُون.

(لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ): لن تَنْفَعهم تَوْبَتُهم الأُولى وإيمانهم لِكُفْرِهم الآخَر ومَوتِهم عليه.

6 -

مَاتُوا كُفارًا، فَكَان ذَلك هُو زِيَادَتهم مِنْ كُفْرِهم.

والراجِح عِنْده: قَول مَنْ قَال: عَنَى بِها اليَهُود، وأن يَكُون تَأويله: إنَّ الذين كَفَرُوا مِنْ اليَهُود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبْعَثِه بَعْد إيمانِهم به قَبْل مَبْعَثِه ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَا أصَابُوا مِنْ الذُّنُوب في كُفْرِهم ومُقَامِهم على ضَلَالَتِهم لَنْ تُقْبَل تَوبَتهم مِنْ ذُنُوبِهم التي أصَابُوها في كُفْرِهم حتى يَتُوبُوا مِنْ كُفْرِهم بِمُحَمّد صلى الله عليه وسلم ويُرَاجِعُوا التَّوْبة مِنه بِتَصْدِيق مَا جَاء بِه مِنْ عِند الله.

ثم عَلّل اخْتِيَارَه بِقَولِه:

وإنّما قُلْنَا ذَلك أوْلى الأقْوَال في هَذه الآيَة بالصَّوَاب؛ لأنَّ الآيَات قَبْلَها وبَعْدَها فِيهم

(1)

نَزَلَتْ، فأوْلى أن تَكُون هي في مَعْنَى مَا قَبْلَها وبَعْدَها إذْ كَانَتْ في سِيَاق وَاحِد.

وجَمَع ابن جرير بَين آية "آل عمران" وآيَة "الشورى" بِقَولِه:

(1)

أي: في اليَهُود.

ص: 327

وإنما قُلْنَا: مَعْنَى ازْدِيَادِهم الكُفْر: مَا أصَابُوا في كُفْرِهم مِنْ الْمَعَاصِي؛ لأنه جَلَّ ثَنَاؤه قَال: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، فَكَان مَعْلُومًا أنَّ مَعْنَى قَوله:(لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) إنّما هُوَ مَعْنِيّ به: لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم مِمَّا ازْدَادُوا مِنْ الكُفْر على كُفْرِهم بَعْد إيمانِهم لا مِنْ كُفْرِهم، لأنَّ الله تَعالى ذِكْرُه وَعَدَ أن يَقْبَل التَّوبَة مِنْ عِبَادِه، فَقَال:(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)، فَمُحَال أن يَقُول عز وجل: أقْبَل ولا أقْبَل، في شَيء واحِد.

وإذْ كَان ذلك كَذلك، وكَان مِنْ حُكْم الله في عِبَادِه أنه قَابِل تَوْبَة كُلّ تَائب مِنْ كُل ذَنْب، وكَان الكُفْر بَعْد الإيمان أحَد تِلك الذُّنُوب التي وَعَد قَبُول التَّوْبَة مِنها بِقَولِه:(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 89] عُلِمَ أنّ الْمَعْنَى الذي لا تُقْبَل التَّوبة مِنه غَير الْمَعْنَى الذي تُقْبَل التَّوبَة مِنه.

وإذْ كَان ذلك كَذلك فالذي لا تُقْبَل مِنه التَّوْبَة هو الازْدِيَاد على الكُفْر بَعْد الكُفْر لا يَقْبَل الله تَوبَة صَاحِبه مَا أقَام على كُفْرِه، لأنَّ الله لا يَقْبَل مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا مَا أقَام على شِرْكِه وضَلاله، فأمَّا إنْ تَاب مِنْ شِرْكِه وكُفْرِه وأصْلَح فإنَّ الله كَمَا وَصَفَ بِه نَفسَه: غَفُورٌ رَحِيم

(1)

.

واعْتَبَر ابن جرير آيَة "الشورى" عَامّة في قَبُول تَوْبَة مَنْ تَاب و "راجَع تَوحِيد الله وطَاعَته مِنْ بَعد كُفْرِه"

(2)

كَما اعْتَبَر آيَة "التوبة" في شَأن الْمُنَافِقِين خَاصَّة

(3)

.

وذَكَر السمرقندي سَبَب قَول أهْل مَكَّة في النبي صلى الله عليه وسلم: نَتَرَبَّص بِه رَيْب الْمَنُون، فَحَكى عن الكلبي ومُقاتل قولهما: لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة

(4)

- أي الرُّخْصَة بِالتَّوبَة - كَتَبَ أُخْوة الحارث بن سويد إلى الحارث: إنَّ الله قد عَرَضَ عَليكم

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 536 - 569).

(2)

المرجع السابق (20/ 505).

(3)

المرجع السابق (11/ 664).

(4)

يَعني قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ)[النساء: 146].

ص: 328

التَّوبَة، فَرَجَع وتَاب وبَلَغ ذلك إلى أصْحَابه الذين بِمَكَّة، فَقَالُوا: إن محمدًا تَتَرَبَّص به رَيب الْمَنُون، فَقَالُوا: نُقِيم بِمَكَّة على الكُفْر مَتى بَدَا لَنَا الرَّجْعَة رَجَعْنَا، فَيَنْزِل فِينا مَا نَزَل في الحارث، فَيَقْبَل تَوْبَتَنا، فأنْزَل الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) يَعْنِي: ثَبَتُوا على كُفْرِهم بِقَولِهم: نُقِيم بِمَكَّة مَا بَدَا لَنَا. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) مَا أقَامُوا على الكُفْر.

ونَقَل عن الزجاج قَوله: كَانُوا كُلّما نَزَلَتْ آيَة كَفَرُوا بِها، فَكان ذَلك زِيَادَة كُفْرِهم.

وقَوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) أي: تَوبَتُهم الأُولى، وحَبِطَ أجْر عَمَلِهم.

ويُقَال: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) مَعْنَاه: أنَّهُم لَم يَتُوبُوا، كَمَا قَال:(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)[البقرة: 48] أي: لا يَشْفَع لَها أحَد

(1)

.

ويَرى السمعاني أنَّ آيَة "آل عمران" في قَوْمٍ بِخُصُوصِهم، حَيْث قَال: هَذا في قَوم كَانُوا مع الحارث بن أوس وارْتَدّوا، فَلَما رَجَعَ هو إلى الإسْلام أمْسَكُوا عن الإسْلام أولئك القَوْم، وقَالوا: نَتَرَبّص الدَّهْر بمحمد، فإن سَاعَده الزَّمَان ونَفَذ أمْرُه نَرْجِع إلى دِينِه، فَنَزَلَتْ الآيَة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) أي: ارْتَدُّوا عن الإسْلام بَعْد إيمانِهم (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) بِقَوْلِهم: إنا نَتَرَبّص بِمُحَمّد رَيب الْمَنُون (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ). قال أبو العالية: لأنّهم لَم يَكُونُوا مُحَقِّقِين للتَّوْبَة، بل كَانُوا مُتَرَبِّصِين (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ).

وقِيل: أرَاد به الذين كَفَرُوا بَعد إيمانِهم بِعِيسَى ازْدَادُوا كُفْرًا بمحمد (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) عند النَّاس

(2)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 254) باختصار.

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 339).

ص: 329

وذَكَر الثعلبي مِنْ أسْبَاب النُّزُول:

1 -

مَا جَاء عن الحارث بن سُويد - مِمَّا تَقَدَّم -.

2 -

مَا جَاء عن مُجاهِد أنّها نَزَلَتْ في رَجل من بني عمرو بن عوف كَفَر بَعْد إيمانِه، ولَحِق بالرُّوم فَتَنَصّر.

3 -

مَا قَالَه الحسن وقَتادة وعطاء الخراساني: نَزَلَتْ في اليَهُود، كَفَرُوا بِعِيسَى عليه السلام والإنْجِيل بَعْد إيمانِهم بِأنْبِيائهم وكُتُبهم، ثم ازْدَادُوا كُفْرا بِكُفْرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقُرْآن.

4 -

قولَ أبي العالية: نَزَلَتْ في اليَهُود والنَّصَارَى، كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأوه وعَرَفُوه بَعد إيمانهم بِنَعْتِه وصِفَتِه في كُتُبهم، ثم ازْدَادُوا ذُنُوبًا في حَال كُفْرِهم.

5 -

وقَول مجاهد

(1)

: نَزَلَتْ في الكُفَّار كُلّهم أشْرَكُوا بَعْد إقْرَارِهم بِأنَّ الله خَالِقَهم، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا، أي: أقَامُوا على كُفْرِهم حتى هَلَكُوا عليه.

ونَقَل عن الْحسن قَوله: كُلَّما نَزَلَتْ عليهم آيَة كَفَرُوا بِها فازْدَادُوا كُفْرًا.

وعن قطرب قَوله: كَما ازْدَادُوا كُفْرًا بِقَولِهم: نَتَرَبّص بِمُحَمّد رَيب الْمَنُون.

ثم أشَار الثعلبي إلى إشْكَال قَدْ يَرِد على بَعض الأذْهَان، فَقَال: فإن قِيل: فَمَا مَعْنَى قَوله تَعالى: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، وقد سَبَقَتْ حِكْمَة الله تَعالى في قَبُول تَوْبَة مَنْ تَاب؟ قُلنا: اخْتَلَفَ العُلَمَاء فِيه:

فَقَال بَعْضَهم: لن يَقْبَل تَوْبَتهم عِند الغَرْغَرَة والْحَشْرَجَة. قال الحسن وقتادة وعطاء: لن يَقْبَل تَوبَتهم لأنّهم لا يُؤمِنون إلَّا عند حُضُور الْمَوْت. قَال الله تَعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)[النساء: 18] الآيَة.

مجاهد: لن يَقبل تَوبَتهم بَعْد الْمَوْت إذا مَاتُوا على الكُفْر.

ابن عباس وأبو العالية: لن يَقْبَل تَوبَتهم مَا أقَامُوا على كُفْرِهم

(2)

.

(1)

هو قول ثانٍ له.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 108، 109) باختصار.

ص: 330

وأمَّا في تَفسير سُورة الشُّورى، فَقد أطَال في بَيَان حَقِيقَة التَّوبَة

(1)

.

ورَجَّح الزمخشري أنَّ الذين ازْدَادُوا كُفْرًا هُمْ اليَهُود، وأشَار بِصِيغَة تَضْعِيف إلى أنّها نَزَلَتْ في الذين ارْتَدُّوا ولَحِقُوا بِمَكَّة.

ثم أوْرَد سُؤَالات في هَذه الآيَة، حَيث قَال: فإن قُلْت: قَدْ عُلِمَ أنَّ الْمُرْتَدّ كَيفَمَا ازْدَادَ كُفْرًا فإنه مَقْبُول التَّوبَة إذا تَاب. فَمَا مَعْنَى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؟

وأجَاب عنه بِقَولِهِ: جُعِلَتْ عِبَارَة عن الْمَوْت على الكُفْر، لأنَّ الذي لا تُقْبَل تَوبَتُه مِنْ الكُفَار هو الذي يَمُوت على الكُفْر. كَأنه قِيل: إنَّ اليَهُود أوْ المُرْتَدّين الذين فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مَائتُون على الكُفْر، دَاخِلُون في جُمْلَةِ مَنْ لا تَقْبَل تَوبَتهم.

وقَال:

فإن قُلْت: فَحِين كان الْمَعْنَى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) بِمَعْنَى الْمَوْت على الكُفْر؛ فَهَلّا جَعَل الْمَوْت على الكُفْر مُسَبَّبًا عن ارْتِدَادِهم الكُفْر لِمَا في ذلك مِنْ قَسَاوَة القُلُوب ورُكُوب الرَّين وجَرِّه إلى الْمَوْت على الكُفْر؟

قُلتُ: لأنه كَمْ مِنْ مُرْتَد مُزْدَاد للكُفْر يَرْجِع إلى الإسْلام ولا يَمُوت على الكُفْر.

فإن قُلْتَ: فأيّ فَائدَة في هَذِه الكِنَايَة؟ أعْنِي أنَّ كَنَى عَنْ الْمَوْت على الكُفْر بامْتِنَاع قَبُول التَّوبَة.

قُلْتُ: الفَائدَة فِيها جَلِيلَة، وهي التَّغْلِيظ في شَأن الفَرِيق مِنْ الكُفَّار، وإبْراز حَالِهم في صُورَة حَالَة الآيسِين مِنْ الرَّحْمَة التي هي أغْلَظ الأحْوَال وأشَدّها؛ ألا تَرَى أنَّ الْمَوْت على الكفر إنما يُخَاف مِنْ أجْل اليأس مِنْ الرحمة

(2)

.

وأوْرَد ابن عطية الإشْكَال والْخِلاف، فَقَال: اخْتَلَف الْمُتَأَوِّلُون في كَيْف يَتَرتَّب كُفْر بَعْد إيمان ثُم زِيَادَة كُفْر؟

(1)

انظر: الكشاف، مرجع سابق (8/ 315، 316).

(2)

المرجع السابق (ص 181) باختصار.

ص: 331

فقال الحسن وقتادة وغيرهما: الآيَة في اليَهُود كَفَرُوا بِعِيسَى بَعْد الإيمان بِمُوسَى ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا القَوْل اضْطِرَاب، لأنَّ الذي كَفَر بِعِيسَى بعد الإيمان بِمُوسَى لَيس بالذي كَفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم

(1)

، فالآيَة على هَذا التَّأوِيل تَخلِط الأسْلاف بالْمُخَاطَبِين

(2)

.

وقال أبو العالية رُفَيْع

(3)

: الآيَة في اليَهُود، كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانِهم بِصِفَاتِه، وإقْرَارهم أنّها في التَّورَاة، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بالذُّنُوب التي أصَابُوهَا في خِلاف النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ الافْتِرَاء والبُهْت والسَّعْي على الإسْلام وغَير ذَلك.

قال ابن عطية: وعلى هذا التَّرْتِيب يَدْخُل في الآيَة الْمُرْتَدّون اللاحِقُون بِقُرَيش وغَيرهم.

وقال مجاهد: مَعْنَى قَوله: (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) أي تَمُّوا على كُفْرِهم، وبَلَغُوا الْمَوْت بِه؛ فَيَدْخُل في هذا القَوْل اليَهُود والْمُرْتَدّون. وقال السدي نحوه.

ثم أخْبَرَ تَعالى أنَّ تَوْبَة هَؤلاء لَنْ تُقْبَل، وقد قَرَّرَتِ الشَّرِيعَة أنَّ تَوْبَة كُلّ كَافِر تُقْبَل سَوَاء كَفَر بَعْد إيمان وازْدَادَ كُفْرًا، أوْ كَان كَافِرًا مِنْ أوَّل أمْرِه، فلا بُدّ في هَذه الآيَة مِنْ تَخْصِيص تُحْمَل عَليه، ويَصِحّ به نَفْي قَبُول التَّوْبَة.

فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: نَفْي قَبُول تَوْبَتِهم مُخْتَصّ بِوَقْتِ الْحَشْرَجَة والغَرْغَرَة والْمُعَايَنة؛ فالْمَعْنَى لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم عِنْد الْمُعَايَنَة.

(1)

يمكن اعتبار ذلك من جهة أن من كفر بنبي واحد فكأنما كفر بجميع الأنبياء، كقوله تعالى:(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوْحٍ الْمُرْسَلِينَ)[الشعراء: 105].

(2)

هذا ينتقض إذا قلنا بأن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) مستأنف.

(3)

اسم أبي العالية. تقريب التهذيب (ترجمة 1964).

ص: 332

وقَال أبو العالية: مَعْنَى الآيَة لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم مِنْ تِلك الذُّنُوب التي أصَابُوهَا مَع إقَامَتِهم عَلى الكُفْر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنّهم كَانُوا يَقُولُون في بَعْض الأحْيَان: نَحن نَتُوب مِنْ هذه الأفْعَال. وهُم مُقِيمُون على كُفْرِهم، فأخْبَر الله تعالى أنه لا يَقْبَل تِلك التَّوْبَة.

قال ابن عطية: وتَحْتَمِل الآيَة عِندي أن تَكُون إشَارة إلى قَوْم بِأعْيَانِهم مِنْ الْمُرْتَدِّين خَتَم الله عَليهم بِالكُفْر، وجَعَل ذلك جَزاء لِجَرِيمتِهم ونِكَايَتِهِم في الدِّين، وهُم الذين أشَار إليهم بِقَولِه:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا)[آل عمران: 86] فأخْبَر عنهم أنّهم لا تَكُون لَهُمْ تَوبة فيُتَصَوَّر قَبُولُها

(1)

.

وبيَّن الرَّازي مَعْنَى الزِّيَادَة في الكُفْر، بأنَّ "الْمُرْتَدّ يَكُون فَاعِلًا للزِّيَادَة بِأن يُقِيم ويُصِرّ، فَيَكُون الإصْرَار كَالزِّيَادَة، وقد يَكُون فَاعِلًا للزِّيَادَة بِأن يَضُمّ إلى ذلك الكُفْر كُفْرًا آخَر".

ثم ذَكَر مَا قِيل في سَبَب نُزُول الآيَة.

وأشَار إلى تَوَهُّم التَّعَارُض فَقَال:

"إنَّ الله تَعالى حَكَم في الآيَة

(2)

بقَبُول تَوبَة الْمُرْتَدِّين، وحَكَم في هَذه الآيَة بِعَدَم قَبُولِها، وهو يُوهَم التَّنَاقُض. وأيضًا ثَبتَ بِالدَّلِيل أنه مَتى وُجِدَت التَّوبَة بِشُرُوطِها فإنّها تَكُون مَقْبُولَة لا مَحَالَة؛ فَلِهَذا اخْتَلَف الْمُفَسِّرُون في تَفْسِير قَوله تَعالى:(لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) على وُجُوه"، وهي باختصار:

1 -

السَّبَب أنّهم لا يَتُوبُون إلَّا عند حُضُور الْمَوْت.

2 -

أن يُحْمَل هَذا على مَا إذا تَابُوا باللسَان ولم يَحْصُل في قُلُوبِهم إخْلاص.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 469، 470).

(2)

أي: الآية التي سبقت هذه الآية، وهي قوله تعالى:(إِلَّا الَّذِين تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 89].

ص: 333

3 -

أنه تعالى لَمّا قَدَّم ذِكْر مَنْ كَفَر بعد الإيمان، وبَيَّن أنه أهْل اللعَنَة إلَّا أن يَتُوب؛ ذَكَرَ في هذه الآية أنه لو كَفَر مَرّة أُخْرى بَعد تِلك التَّوبَة فإنَّ التَّوْبَة الأُولى تَصِير غَير مَقْبُولَة، وتَصِير كَأنّها لَم تَكُنْ.

قال: وهَذا الوجْه ألْيق بالآيَة مِنْ سَائر الوُجُوه، لأنَّ التَّقْدِير: إلَّا الذين تَابُوا وأصْلَحُوا فإنَّ الله غَفُور رَحِيم، فإن كَانُوا كَذلك ثم ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم.

4 -

كِنَاية عن الْمَوْت على الكُفْر؛ لأنَّ الذي لا تُقْبَل تَوبَته مِنْ الكُفَّار هو الذي يَمُوت على الكُفْر، وهو قول الزمخشري.

5 -

لَعَلَّ الْمُرَاد مَا إذا تَابُوا عَنْ تِلك الزِّيَادة فَقَط، فإنَّ التَّوْبَة عَنْ تِلك الزِّيَادَة لا تَصِير مَقْبُولَة مَا لَم تَحْصُل التَّوْبة عن الأصْل.

ثم قال الرازي: جُمْلَة هَذه الْجَوَابَات إنّما تَتَمَشّى على مَا إذا حَمَلْنا قَولَه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) على الْمَعْهُود السَّابِق لا على الاسْتِغْرَاق، وإلَّا فَكَم مِنْ مُرْتَدّ تَاب عَنْ ارْتِداده تَوْبَة صَحِيحَة مَقْرُونَة بِالإخْلاص في زَمَان التَّكْلِيف.

فأمَّا الْجَوَاب الذي حَكَيْنَاه عن القفّال والقَاضي

(1)

فهو جَوَاب مُطَّرِد، سَوَاء حَمَلَنا اللفْظ عَلى الْمَعْهُود السَّابِق، أوْ عَلى الاسْتِغْرَاق

(2)

.

وذَكَر ابن جُزيّ الأقوال في سَبَب نُزُول الآيَة، وذَكَر مَا قِيل في مَعنَى قَوله تَعالى:(ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا)، فَقَال:

1 -

قِيل: هُمْ اليَهُود، كَفَرُوا بِعِيسَى بَعد إيمانِهم بِمُوسَى، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

2 -

وقيل: كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بَعْد أن كَانُوا مُؤمِنين قَبْل مَبْعَثِه، ثم ازْدَادُوا كُفْرًا بِعَدَاوَتِهم لَه وطَعْنِهم عَليه.

(1)

وهو القول الثالث.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (1/ 114، 115) باختصار وتصرّف.

ص: 334

3 -

وقِيل: هُمْ الذين ارْتَدُّوا لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهم.

4 -

قِيل: ذَلك عِبَارَة عَنْ مَوْتِهم على الكُفْر، أي: لَيْس لَهم تَوْبَة فَتُقْبَل، وذلك في قَوْم بِأعْيَانِهم خَتَمَ الله لَهم بِالكُفْر.

5 -

وقِيل: لن تُقْبَل تَوْبَتُهم مَع إقَامَتِهم على الكُفْر؛ فَذَلك عَامَّ

(1)

.

وافْتَتَح ابن كَثير تَفْسِير الآيَة بِذِكْر الْمَعْنَى، فَقَال: يَقول تَعالى مُتَوَعِّدًا ومُهَدِّدًا لِمَنْ كَفَر بَعْد إيمانِه ثم ازْدَادَ كُفْرًا، أي: اسْتَمِرّ عَليه إلى الْمَمَات، ومُخْبِرًا بِأنّهم لَنْ تُقْبَل لَهم تَوْبَة عِند الْمَمَات، كَمَا قَال تَعالى:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)[النساء: 18] الآية. ولِهَذا قَال هَا هنا: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي: الْخَارِجُون عن الْمَنْهَج الْحَقّ إلى طَرِيق الغَيّ.

ثم أوْرَد مَا رَواه البزّار عن ابن عباس أنَّ قَومًا أسْلَمُوا، ثم ارْتَدّوا، ثم أسْلَمُوا، ثم ارْتَدّوا، فأرْسَلُوا إلى قَومِهم يَسْألُون لَهم، فَذَكَرُوا ذَلك لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هَذه الآيَة. ثم قَال ابن كثير: هَكذا رَواه

(2)

، وإسْنَادُه جَيِّد

(3)

.

وفي تَفْسِير سُورة الشُّورى قَال: يَقُول تَعالى مُمْتَنّا على عِبَادِه بِقَبُول تَوْبَتِهم إليه إذا تَابُوا وَرَجَعُوا إليه إنه مِنْ كَرَمِه وحِلْمِه أنه يَعفو ويَصْفَح ويَسْتُر ويَغْفِر، كَقَولِه عز وجل:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 110]

(4)

.

(1)

التسهيل، مرجع سابق (1/ 113) باختصار وتصرّف.

(2)

قال السيوطي في الدرّ المنثور (2/ 258): هذا خطأ من البزَّار. اهـ. ثم هو مخالف لأصول الإسلام، فإن باب التوبة مفتوح، ولم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبًا.

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 105، 106).

(4)

المرجع السابق (12/ 276).

ص: 335

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآيَات فآيَة "آل عمران" مُرتَبِطة بِمَا قَبْلَها، وهو قَوله تَعالى:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)[آل عمران: 86].

وهو مَا أشَار إليه ابن عطية بِقَولِه: وتَحْتَمِل الآيَة عِنْدي أن تَكُون إشَارَة إلى قَوْم بِأعْيَانِهم مِنْ الْمُرْتَدِّين خَتَم الله عليهم بِالْكُفْر، وجَعَل ذلك جَزاءً لِجَرِيمتهم ونِكَايَتِهم في الدِّين، وهُم الذين أشَار إليهم بِقَولِه:(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا)[آل عمران: 86]، فأخْبَر عنهم أنّهم لا تَكُون لَهم تَوبة فيُتَصَوَّر قَبُولها

(1)

.

ويُحْتَمَل أنَّ الْمُرَاد عَدَم التَّوفِيق للتَّوبَة؛ لأنَّ مَنْ كَان شَأنه الإيمان، ثم الكُفر، ثم الإيمان، ثم الْكُفْر، فهو الْمُتَذَبْذِب، وهو الذي شَهِد أنَّ الرَّسُول حَقّ، ثم كَفَر بَعْدَ مَا جَاءتْه البَيِّنَات. وهذا عَائد إلى مَعْنى الآية التي قَبْلَها.

وهذا كَقَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا)[النساء: 137].

أي أنَّ رِدَّتَهم مَرَّة بَعْد أُخْرى كَانَتْ سَبَبًا في عَدَم التَّوفِيق للتَّوبَة.

فَمَنْ كَان هذا شأنه فَعادَة لا يُوفّق للتوبة، وهذا كَمَا قَال العُلَمَاء في قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله عز وجل أَبَى عَليَّ مَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا

(2)

. مَع مَا أخْبَر بِه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَبول تَوبة قَاتِل الْمِائة

(3)

، ومِثْلُه مَا أَخْبَر بِه

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (1/ 469، 470).

(2)

رواه أحمد في المسند (ح 17008)، والنسائي في الكبرى (ح 5893) وعزاه العجلوني في "كشف الخفا" (1/ 36) إلى الطبراني. وانظر: البيان والتعريف، الحسيني (1/ 12).

وينظر تخريجه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، الألباني (ح 689)، وأورده بلفظ: أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة.

(3)

قصته مخرجه في الصحيحين: البخاري (ح 3283)، ومسلم (ح 2766).

ص: 336

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ ضَحِك رَبّ العِزَّة سبحانه وتعالى مِنْ رَجُلَين يَقتُل أحَدُهما صَاحِبه، يَدخُلان الْجَنَّة، فَسُئِل: كَيْف يَا رَسُول الله؟ قال: يُقَاتِل هَذا في سَبِيل الله عز وجل فيُسْتَشْهَد، ثم يَتُوب الله عَلى القَاتِل فيُسْلِم، فيُقَاتِل في سَبِيل الله عز وجل فيُسْتَشْهَد

(1)

.

فَقَاتِل الْمُؤمِن غَالِبًا لا يُوفّق للتَّوْبَة، ومِثْله مَنْ اتَّخَذ دِينَه غَرَضًا ولَهْوًا ولَعِبًا، فَهَذا غَالِبًا لا يُوفَّق للتَّوبَة.

وقَوْل مَنْ قَال بِاخْتِصَاص اليَهُود بِذَلك لَه وَجْه قَويّ، إذ أنَّ اليَهُود أهْل عِلْم وعِنَاد، ولِذا قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَو آمَن بِي عَشَرة مِنْ اليَهُود لآمَن بي اليَهُود

(2)

.

وقد عَرَض الله التَّوْبة على مَنْ زَعَمُوا لَه الصَّاحِبَة والوَلَد، فَقال سبحانه وتعالى:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 73، 74].

وعَرَضَها على الْمُنَافِقِين، فأخْبر عز وجل أنه يَقبَل تَوْبَة مَنْ تَاب مِنهم بِقَوله:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 145، 146].

وقال تَعالى في عُمُوم قَبُول التَّوبَة حَتى مِمَّنْ أشْرَك به: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأعراف: 153]، وقَد "نَبَّه تَعَالى عِبَادَه

(1)

الحديث مخرج في الصحيحين: البخاري (ح 2671)، ومسلم (ح 1890).

(2)

رواه البخاري (ح 3725)، ومسلم (ح 2793).

ص: 337

وأرْشَدَهم إلى أنه يَقْبَل تَوبَة عِبَادِه مِنْ أيّ ذَنْب كَان، حتى ولو كَان مِنْ كُفْر، أوْ شِرْك، أوْ نِفَاق، أوْ شِقَاق"

(1)

.

‌المثال الثالث:

الْمُجَازَاة على السَّيئات:

قَوله تَعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[النساء: 31]، وقَوله تَعالى:(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114]، مَع قَوله تَعالى:(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء: 123].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى تُفِيد تَكْفِير الصَّغَائر بِاجْتِنَاب الكَبَائر، وآيَة "هود" تُفِيد ذَهَاب السَّيِّئَات بِالْحَسَنَات، بَيْنَمَا يُفهَم مِنْ الآية "الثالثة" أنَّ الإنْسَان يُجْزَى بِمَا عَمِل مِنْ سُوء.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

لَمّا نَهَى تَعالى في هَذه السُّورَة عَنْ آثَام هي كَبَائر، وَعَدَ عَلى اجْتِنَابِها التَّخْفِيف مِنْ الصَّغَائر، ودَلّ هَذا عَلى أنَّ في الذُّنُوب كَبَائر وصَغَائر. وعلى هذا جَمَاعَة أهْل التَّأويل وجَمَاعَة الفُقَهَاء، وأنَّ اللمْسَة والنَّظْرَة تُكَفِّر بِاجْتِنَاب قَطْعًا بِوعْدِه الصِّدْق وقولِه الحقّ، لا أنه يَجِب عَليه ذَلك. ونَظِير الكَلام في هَذا مَا تَقَدَّم بَيَانه في قَبُول التَّوبَة في قَوله تَعالى:(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ)[النساء: 17]، فَالله تَعالى يَغْفِر الصَّغَائر بِاجْتِنَاب الكَبَائر، لَكن بضَمِيمَة أُخْرَى إلى الاجْتِنَاب وهي إقَامَة الفَرَائض.

(1)

قاله ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 398).

ص: 338

ثم أوْرَد مَا رَواه مُسْلِم

(1)

مِنْ حَدِيث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَان يَقُول: الصَّلَوَات الْخَمْس، والْجُمْعَة إلى الْجُمْعَة، ورَمَضَان إلى رَمَضَان؛ مُكَفِّرَات مَا بَيْنَهنّ إذا اجْتَنَبَ الكَبَائر.

ومَا رَوَاه ابن حِبان

(2)

مِنْ حَدِيث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ عَبْد يُؤدِّي الصَّلَوَات الْخَمْس ويَصُوم رَمَضَان ويَجْتَنِب الكَبَائر السَّبْع إلَّا فُتِحَتْ له أبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة يَوْم القِيَامَة حَتى إنّها لَتَصْطَفِق

(3)

، ثم تَلا:(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

فَقَد تَعَاضَد الكِتَاب وصَحِيح السُّنَّة بِتَكْفِير الصَّغَائر قَطْعًا كَالنَّظَر وشِبْهِه، وبَيّنَتِ السُّنَّة أنَّ الْمُرَاد بـ (تَجْتَنِبُوا) ليس كُلّ الاجْتِنَاب لِجَمِيع الكَبَائر، والله أعلم.

ثم ذَكَر احْتِجَاج طائفَة بِمَا رَواه مُسلم

(4)

وغيره

(5)

عن أبي أمامة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: مَنْ اقْتَطَع حَقّ امْرِئ مُسْلم بِيَمِينِه فَقَد أوْجَب الله له النَّار، وحَرَّم عليه الْجَنَّة. فَقَال له رَجُل: يا رسول الله وإن كان شَيئًا يَسِيرًا؟ قَال: وإن كان قَضِيبًا مِنْ أرَاك.

فقد جَاء الوَعِيد الشَّدِيد على اليَسِير كَمَا جَاء على الكَثِير.

ونَقَل عن ابن عباس قَوله: الكَبِيرة كُلّ ذَنْب خَتَمَه الله بِنَارٍ، أوْ غَضَب، أوْ لَعنة، أوْ عَذَاب

(6)

.

(1)

(ح 233) وفي رواية له: ما لم تغش الكبائر.

(2)

(ح 1748 إحسان) ورواه النسائي (ح 2438)، وابن جرير في "جامع البيان"(6/ 645)، وابن خزيمة (ح 315)، والحاكم في المستدرك (ح 719) وصححه، والبيهقي في الكبرى (ح 20549)، وضعفه الألباني في تخريج صحيح ابن خزيمة (1/ 163) وفي معناه أحاديث صحيحة. انظر: صحيح الترغيب، الألباني (1/ 212 - 223).

(3)

في طبعة دار الكتاب العربي: لتصفق، والمثبت من الأُصُول.

(4)

(ح 137).

(5)

ورواه أحمد (ح 22293)، والنسائي (ح 5419).

(6)

قول ابن عباس هذا: رواه البيهقي في شعب الإيمان (ح 290).

ص: 339

وعن ابن مسعود قَوله: الكَبائر مَا نَهَى الله عنه في هذه السُّورَة إلى ثَلاث وثَلاثِين آية، وتَصْدِيقُه قَوله تَعالى:(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)

(1)

.

وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكَبَائر سَبْع؟ قال: هي إلى السَّبْعِين أقْرَب

(2)

.

وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكَبائر سَبْع؟ قال: هي إلى السَّبْعِمِائة أقْرَب مِنها إلى السَّبْع، غَير أنه لا كَبيرة مَع اسْتِغْفَار، ولا صَغِيرة مَع إصْرَار

(3)

.

ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: الكَبَائر أرْبَعة: اليَأس مِنْ رَوح الله، والقُنُوط مِنْ رَحْمَة الله، والأمْن مِنْ مَكْر الله، والشِّرك بِالله. دَلّ عَليها القُرْآن

(4)

.

ورُوي عن ابن عمر: هي تِسْع: قَتْل النَّفْس، وأكْل الرِّبَا، وأكْل مَال اليَتِيم، ورَمْي الْمُحْصَنَة، وشَهَادَة الزُّور، وعُقُوق الوَالِدَين، والفِرَار مِنْ الزَّحْف، والسِّحْر، والإلْحَاد في البَيْت الْحَرَام

(5)

.

ومِن الكَبَائر عِند العُلَمَاء: القِمَار، والسَّرِقَة، وشُرْب الْخَمْر، وسَبّ السَّلَف الصَّالِح، وعُدُول الْحُكَّام عَنْ الْحَقّ، واتِّبَاع الْهَوى، واليَمِين الفَاجِرَة، والقُنُوط مِنْ رَحْمَة الله، وسَبّ الإنْسَان أبَويه بِأن يَسُبّ رَجُلًا فيَسُبّ ذلك الرَّجُل أبَويه، والسَّعْي في

(1)

رواه ابن جرير في جامع البيان (5/ 37).

(2)

رواه معمر بن راشد (الجامع - مُلحق بمصنف عبد الرزاق ح 19702)، والبيهقي في شعب الإيمان (ح 294).

(3)

رواه ابن جرير في جامع البيان (5/ 41)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 934)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ح 1919).

(4)

رواه معمر بن راشد، الجامع، مرجع سابق (ح 19701)، وعنه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 155)، والطبراني في جامع البيان (5/ 40)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ح 1922) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 104): وإسناده صحيح.

ولعل مُراد ابن مسعود بهذا الحصر: أكبر الكبائر، أو أنها أصول الكبائر، أو ما دل القرآن على أنها كبيرة؛ بدليل ما تقدم أن الكبائر ما نهى الله عنه في أول سورة النساء، وبدليل ما رواه واللالكائي (ح 1924) عن يحيى بن أبي كثير: كانوا يعدون الكبائر عند بن مسعود - وذكر غير هذه الأربع، ولم ينكر ابن مسعود ذلك القول - والله تعالى أعلم.

(5)

رواه ابن جرير في جامع البيان (5/ 39)، وفي تهذيب الآثار (ح 314).

ص: 340

الأرْض فَسَادًا، إلى غير ذلك مما يَكْثُر تِعْدَاده حَسَب مَا جَاء بَيَانُها في القُرْآن، وفي أحَادِيث خَرَّجَها الأئمَة. وقد ذَكَر مُسْلِم في كِتاب الإيمان مِنْها جُمْلَة وَافِرَة، وقد اخْتَلَف النَّاس في تِعْدَادِها وحَصْرِها لاخْتِلاف الآثَار فِيها. والذي أقُول: إنه قَدْ جَاءت فِيها أحَادِيث كَثِيرَة صِحَاح وحِسَان لَم يُقْصَد بِهَا الْحَصْر، ولكِن بَعْضا أكْبَر مِنْ بَعض بالنِّسْبَة إلى مَا يَكْثُر ضَرَره، فالشِّرْك أكْبَر ذلك كُلّه، وهو الذي لا يُغْفَر لِنَصّ الله تَعالى على ذَلك، وبَعْده اليَأس مِنْ رَحْمَة الله، وبَعْده القُنُوط، وبَعْده الأمْن مِنْ مَكْر الله، وبَعْده القَتْل

إلى غير ذلك مما هو بَيّن الضَّرَر؛ فَكُلّ ذَنْب عَظَّم الشَّرْع التَّوَعُّد عَليه بالعِقَاب وشَدَّده، أوْ عَظُم ضَرَرُه في الوُجُود كَما ذَكَرْنا فهو كَبِيرَة، ومَا عَداه صَغِيرة؛ فهذا يَربط لك هذا البَاب ويَضْبِطه، والله أعلم

(1)

.

وبيَّن القرطبي في تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أنَّ الْمُرَاد بالسُّوء الشِّرْك، ونَقَل عن الحسن قَوله: هَذه الآيَة في الكَافِر، وقَرأ:(وهل يُجَازَى إلا الكَفُور)

(2)

، وعنه أيضًا:(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: ذلك لِمَنْ أرَاد الله هَوانَه، فأمَّا مَنْ أرَاد كَرَامَته فَلا، قَدْ ذَكَر الله قَوْمًا فَقَال: (أولئك الذين يُتَقَبّلُ

(3)

عنهم أحْسَنُ ما عَمِلُوا ويُتَجَاوزُ عن سيئاتهم في أصْحَابِ الْجَنَّة وَعْدَ الصِّدْقِ الذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].

وقال الضحاك: يَعني اليَهُود والنَّصَارَى والْمَجُوس وكُفَّار العَرَب.

وقال الْجُمْهُور: لَفْظ الآيَة عَامّ، والكَافِر والْمُؤمِن مُجَاز

(4)

بِعَمَلِه السُّوء؛ فأما مُجَازَاة الكَافِر، فالنَّار، لأنَّ كُفْرَه أوْبَقَه، وأمَّا الْمُؤمِن فَبِنَكَبَات الدُّنيا، كَمَا رَوى

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 151 - 154) باختصار.

(2)

هي قراءة سبعية، ينظر لذلك: حجة القراءات، ابن زنجلة (ص 587)، والميُسَّر في القراءات الأربع عشرة (ص 430).

(3)

(يُتقبَّلُ، أحْسَنُ، ويُتَجَاوَزُ) هي قراءات سبعية، يُنظر لذلك: حجة القراءات، ابن زنجلة (ص 664)، والميسر في القراءات الأربع عشرة (ص 504)، وهي قراءة نافع، وهي المعتمدة في تفسير القرطبي.

(4)

كذا في طبعة دار الكتاب العربي، ولعل الصواب مجازَى.

ص: 341

مُسلم في صحيحه

(1)

عن أبي هريرة قال: لَمَّا نَزَلَتْ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، بَلَغَتْ مِنْ الْمُسْلِمِين مَبْلَغًا شَدِيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَارِبوا وسَدِّدُوا فَفِي كُلّ مَا يُصَاب بِه الْمُسْلِم كَفَّارَةٌ حتى النَّكْبَةِ يُنْكَبُها، أو الشَّوكَةِ يُشَاكُها.

ثم ذَكَر آثارًا في الآيَة، وأوْرَد قول أبي بكر رضي الله عنه لَمَّا نَزَلَتْ:(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: كَيْف الصَّلاح يا رسول الله مَع هذا؟ كُلّ شَيء عَمِلْنَاه جُزِينَا بِه. فَقَال: غَفَرَ الله لك يَا أبَا بَكر! ألَسْتَ تَنْصَب؟ ألَسْتَ تَحْزَن؟ ألَسْتَ تُصِيبُك اللأوَاء؟ قال: بلى. قال: فَذَلك مِمَّا تُجْزَون بِه

(2)

. فَفَسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أَجْمَلَه التَّنْزِيل مِنْ قَوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).

ورَوى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لَمَّا نَزَلَتْ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمَّا أنْت يا أبَا بَكر والْمُؤمِنُون فَتُجْزَون بِذلك في الدُّنْيا حَتى تَلْقُوا الله ولَيس لَكم ذُنُوب، وأمَّا الآخرون فيُجْمَع ذلك لهم حتى يُجْزَوا به يَوم القيَامَة

(3)

.

(1)

(ح 2574).

(2)

رواه أحمد (ح 68) وقال محققو المسند (1/ 230): حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

(ح 3039) ويشهد له ما قبله. ولمعناه شواهد في الصحيح، منها:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد. رواه البخاري (ح 5319)، ومسلم (ح 2810).

قال البخاري (7/ 2): باب ما جاء في كفارة المرض، وقول الله تعالى:(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، ثم رَوى حديث عائشة مرفوعًا:((مَا مِنْ مُصِيبَة تُصِيب الْمُسْلِم إلَّا كَفّر الله بِهَا عنه حتى الشَّوكَة يُشَاكها)). وروى حديث أبي هريرة السابق. وحديث عائشة رواه مسلم أيضًا (ح 2572).

وحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَة؛ يُعْطَى بها في الدُّنْيَا ويُجْزَى بِها في الآخِرَة، وأمَّا الْكَافِرُ فيُطْعَم بِحَسَنَات مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ في الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِها. رواه مسلم (ح 2808).

وهو في عنى ما جاء في حديث الترمذي: وأمّا الآخَرُون فيُجْمَع ذَلك لَهم حتى يُجْزَوا به يَوْم القِيَامَة.

وفي سُنن أبي داود من حديث أم العلاء قالت: عادن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مَرِيضَة، فقال: أَبْشِرِي يا أمَّ العلاء، فإن مَرَضَ الْمُسْلِم يُذْهِب الله به خَطَايَاه، كَمَا تُذْهِب النَّار خَبَثَ الْحَدِيد والفِضَّة.

وفي مُسند أحمد (ح 24368) - وقال محققوه: صحيح لغيره - وصحيح ابن حبان (ح 2923 إحسان) عن عائشة أن رجلًا تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فَقال: إنا لَنُجْزَى بِكُلّ مَا عَمِلْنا؟ هَلَكْنا إذًا. فَبَلَغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نَعَم، يجزى به المؤمن في الدنيا من مصيبةٍ في جسده مما يؤذيه.

وهو في معنى ما جاء في حديث الترمذي: وأما الآخَرُون فيُجْمَع ذَلك لهم حتى يُجْزَوا به يَوْمَ القِيَامَة.

ص: 342

وقِيل الْمَعْنَى: لَيس ثَوَاب الله بِأمَانِيكم إذْ قد تَقَدَّم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ)[النساء: 57].

وقال القرطبي:

قَوله تَعالى: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء: 123] يَعْنِي الْمُشْرِكِين، لِقَولِه تَعالى:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51].

وقِيل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إلَّا أن يَتُوب.

ثم قال:

فإنْ حُمِلَتْ الآيَة على الكَافِر فَلَيس لَه غَدًا

(1)

وَلِيّ ولا نَصِير، وإنْ حُمِلَتْ على الْمُؤمِن فَلَيس لَه وَلِيّ ولا نَصِير دُون الله

(2)

.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

رَوى ابن جرير بإسْناده إلى عَائشة رضي الله عنها في قَوله تَعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)[البقرة: 284] أنّها قَالتْ: مَنْ هَمّ بِسَيِّئَة فَلَم يَعْمَلها أرْسَل الله عليه مِنْ الْهَمّ والْحُزْن - مِثْل الذي هَمّ بِه مِنْ السَّيِّئَة فَلم يَعْمِلها - فَكَانَت كَفّارَته.

ورَوى عنها قَولها: كلّ عَبد يَهُمّ بِمَعْصِيَة أوْ يُحَدِّث بِها نَفْسَه حَاسَبَه الله بِهَا في الدُّنْيا يَخَاف ويَحْزَن ويَهْتَمّ.

(1)

أي: يوم القيامة.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 377 - 380) باختصار.

ص: 343

فَمَعْنَى الآيَة على هَذا القَول: "أنَّ الله مُحَاسِب جَمِيع خَلْقِه بِجَمِيع مَا أبْدَوا مِنْ سَيئ أعْمَالِهم، وجَمِيع مَا أسَرُّوه ومُعَاقِبهم عليه، غير أنَّ عُقُوبَته إيّاهم على مَا أَخْفَوه مِمَّا لَم يَعْمَلُوه مَا يَحْدُث لَهم في الدُّنيا مِنْ الْمَصَائب والأمُور التي يَحْزَنون عليها ويَألَمُون مِنها".

وعلى قَول آخَرِين تَكون الآيَة مُحْكَمة غَير مَنْسُوخَة ويَكُون مَعْنَاهَا: أنَّ "الله عز وجل مُحَاسِب خَلْقَه على مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل وعَلى مَا لَم يَعْمَلُوه مِمَّا أضْمَرُوه في أنْفُسِهِم ونَوَوه وأرَادُوه؛ فَيَغْفِره للمُؤمِنين، ويُؤاخِذ بِه أهْل الكُفْر والنِّفَاق".

وأَوْلى الأقْوال بِالصَّواب عند ابن جرير في هَذه الآيَة أنّها "مُحْكَمَة ولَيْسَت بِمَنْسُوخَة، وذلك أنَّ النَّسْخ لا يَكُون في حُكْم إلَّا يَنْفِيه بآخَر لَه نَافٍ مِنْ كُلّ وُجُوهِه ولَيس في قَوله جَلّ وَعَزّ:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[البقرة: 284]؛ لأنَّ الْمُحَاسَبَة

(1)

لَيْسَت بِمُوجِبة عُقُوبَة الله، ولا مُؤاخَذة بِمَا حُوسِب عَليه العَبْد مِنْ ذُنُوبِه"

(2)

.

وفي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء ذَكَر الْخِلاف في الذين عُنُوا بِقَولِه: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ فَقَال بَعْضُهم: عُنِي بِقَولِه: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ): أهْل الإسْلام.

والقَول الثَّاني: الْمَعْنِيّ بِه: أهْل الشِّرْك مِنْ عَبَدَة الأوْثَان.

والقَول الثَّالِث: الْمَعْنِيّ بِه: أهْل الكِتَاب خَاصَّة.

وذَكَر ابن جرير الْخِلاف في مَعْنَى قَولِه تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ):

(1)

يرد عليه ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: أو ليس يقول الله تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الانشقاق: 8]؟ قالت: فقال: إنّمَا ذَلِك العَرْض، ولكِن مَنْ نوقِش الْحِسَاب يَهْلك. رواه البخاري (ح 103)، ومسلم (ح 2876).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 138 - 144) باختصار وتصرّف.

ص: 344

فَقَال بَعْضُهم: عُنِي بالسُّوء كُلّ مَعْصِيَة لله. وقَالُوا: مَعْنَى الآيَة: مَنْ يَرْتَكِب صَغِيرة أوْ كَبِيرَة مِنْ مُؤمِن أوْ كَافِر مِنْ مَعَاصِي الله يُجَازِه الله بِها.

وقال آخَرُون: مَعْنَى ذَلك: مَنْ يَعْمَل سُوءًا مِنْ أهْل الكُفْر يُجْزَ بِه.

وقال آخَرُون: مَعْنَى السُّوء في هَذا الْمَوْضِع: الشِّرْك. قالوا: وتأويل قوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) مَنْ يُشْرِك بالله يُجْزَ بِشِرْكِه، ولا يَجِد لَه مِنْ دُون الله وَلِيًّا ولا نَصِيرًا.

وأوْلى التَّأوِيلات عند ابن جرير: التَّأويل الذي ذَكَرَه عن أُبَيّ بن كَعب وعائشة؛ وهو أنَّ كُلّ مَنْ عَمِل سُوءًا صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا مِنْ مُؤمِن أوْ كَافِر جُوزِي بِه.

وعَلّل اخْتِيَارَه بِأنّه إجراء "لِعُموم الآيَة: كُلّ عَامِل سُوء مِنْ غَيْر أن يَخُص أوْ يَسْتَثْني مِنهم أحَد، فهي عَلى عُمُومِها إذْ لَم يَكُنْ في الآيَة دَلالة عَلى خُصُوصِها ولا قَامَت حُجَّة بِذَلك مِنْ خَبَرٍ عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم".

فإن قَال قَائل: وأيْن ذَلك مِنْ قَول الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)؟ وكَيف يَجُوز أن يُجَازِي على مَا قَدْ وَعَد تَكْفِيرِه؟

قِيل: إنّه لَم يَعِد بِقَوله: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)؟ تَرْك الْمُجَازَاة عَليها، وإنّما وَعَد التَّكْفِير بِتَرْكِ الفَضِيحَة مِنه لأهْلِها في مَعَادِهم، كَمَا فَضَحَ أهْل الشِّرك والنِّفَاق، فأمَّا إذا جَازَاهم في الدُّنْيا عَليها بِالْمَصَائب ليُكَفِّرَها عَنهم بِها لِيُوافُوه ولا ذَنْب لَهم يَسْتَحِقُّون الْمُجَازَاة عَليه فَإنَّمَا وَفَى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهم بِقَولِه:(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، وأنْجَزَ لَهُمْ مَا ضَمِنَ لَهُمْ بِقَولِه:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[النساء: 122].

وبِنَحْو الذي قُلْنَا في ذَلك تَظَاهَرَت الأخْبَار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) أطَال في ذِكْر الكَبَائر وتَعْرِيفِها، ومَن قَال بِعَدَدِها، ثم قال: وأوْلَى مَا قِيل في تَأوِيل الكَبَائر بِالصِّحَّة مَا

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 515 - 519) باختصار وتصرّف.

ص: 345

صَحَّ بِه الْخَبَر عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم دُون مَا قَاله غَيره، وإن كَان كُلّ قَائل فِيها قَولًا مِنْ الذين ذَكَرنَا أقْوَالَهم قد اجْتَهَد وبَالَغ في نَفْسِه. ولِقَولِه في الصِّحَّة مَذْهَبٌ.

ورَجَّح أنَّ "مَنْ اجْتَنِبَ الكَبَائر التي وَعَد الله مُجْتَنِبها تَكْفِير مَا عَدَاها مِنْ سَيِّئاتِه، وإدْخَالِه مُدْخَلًا كَرِيما، وأدَّى فَرَائضه التي فَرَضَها الله عَليه، وَجَد الله لِمَا وَعَده مِنْ وَعْدٍ مُنْجِزًا، وعَلى الوَفَاء له ثَابِتًا".

وأمَّا قَوله: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فإنه يَعْنِي به: نُكَفِّر عَنْكُم أيّها الْمُؤمِنُون بِاجْتِنَابِكُم كَبَائر مَا يَنْهَاكُم عَنه رَبُّكُمْ صَغَائر سَيِّئَاتِكُم، يَعْنِي: صَغَائر ذُنُوبِكُم"

(1)

.

وصَدّر السمرقندي تفسير الآية بِذِكْر مَعْنَى قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فقال: يَعْنِي: مَنْ يَعْمَل مَعْصِيَة دُون الشِّرْك يُعَاقَب بِه. وقال الزجاج: مَعْنَاه: لَيْس ثَوَاب الله بأمَانِيكم ولا أمَاني أهْل الكِتَاب. وقَد جَرى مَا يَدُلّ على إضْمَار الثَّوَاب، وهو قَوله:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: إنّمَا يَدْخُل الْجَنَّة مَنْ آمَن وعَمِل صَالِحًا، لَيس كَمَا تَمَنَّيتُم. (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أي: لا يَنْفَعُه تَمَنَّيه.

وأشَار إلى تَضْعِيف مَا رُوي فِيها، حيث قَال: ويُقَال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شَقّ ذَلك على الْمُسْلِمِين. وقال أبو بَكْر: كَيْف الفَلاح بَعْد هَذه الآيَة يَا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ألَسْتَ تَمْرَض؟ ألَسْتَ تَحْزَن؟ ألَسْتَ تُصِيبك اللأواء؟ أي الشِّدَّة. فَذَلك كُلّه جَزَاؤه

(2)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (6/ 657، 658) باختصار وتصرّف.

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 366) باختصار.

ص: 346

وفي قَوله تَعالى: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) قال السمرقندي: يَقُول: نَمْحُو عَنْكم ذُنُوبَكُم مَا دُون الكَبَائر

(1)

.

واخْتَار السمعاني عُمُوم قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) في الْجَزَاء، فَقَال: قَال ابن عباس وسعيد بن جبير وقادة وجَمَاعَة الْمفَسِّرِين: إنَّ الآيَة على العُمُوم في حَقّ كلّ عَامِل.

وقال الْحَسَن: أرَاد بِه أهْل الشَّرْك

(2)

.

ويَرَى أن مَغْفِرَة الذُّنُوب تحت الْمَشِيئة، إذ يَقُول في قوله تعالى:(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): إنْ شِئتُ؛ فَالْمَشِيئَة مُضْمَرَة فِيه.

وذَكَر أنَّ "مَذْهَب أهْل السُّنَّة أنَّ تَكْفِير الصَّغَائر مُعَلَّقَة بِالْمَشِيئَة، فَيَجُوز أن يَعْفُو الله عن الكَبَائر ويَأخُذ بِالصَّغَائر، ويَجُوز أن يَجْتَنِب الرَّجُل الكَبَائر فيُؤخَذ بِالصَّغَائر"

(3)

.

وذَكَر الثعلبي الاخْتِلاف "في الكَبَائر التي جَعَل الله اجْتِنَابَها تَكْفِيرًا للصَّغَائر" ثم أطَال في النَّقْل عن السَّلَف في ذلك.

وعَقَد فَصْلًا "في تَفْصِيل أقَاويل أهْل التَّأويل في عَدَد الكَبَائر مَجْمُوعَة مِنْ الكِتَاب والسُّنَّة مَقْرُونَة بِالدَّلِيل والْحُجَّة" وقد أوْصَلها إلى خَمْس وعِشْرِين كَبِيرَة

(4)

.

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ذَكَر مَا رُوي في الآية مِنْ أنّها شَقَّتْ على الْمُسْلِمِين، وأوْرَد قَوْل الْحَسَن في الآيَة، حيث قال: هو الكَافِر، لا يَجْزِي الله

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 324).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 483).

(3)

المرجع السابق (1/ 420، 421)، وسيأتي تفصيل هذه المسألة.

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 294 - 298) باختصار.

ص: 347

الْمُؤمِن يَوْم القِيَامَة، ولكِن الْمُؤمِن يُجْزَى بأحْسَن عَمَلِه، ويُتَجَاوز عن سَيِّئَاتِه، ثم قَرَأ:(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ)[الزمر: 35] الآيَة، وقَرأ أيضًا:(وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 17].

قال الثعلبي: وقُلْتَ: لَولا السَّيِّئَة لأُتِي الْجَزَاء في الكُفَّار، لِقَولِه في سِيَاق الآيَة، (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، ومَن لَم يَكُنْ له في القِيَامة نَصِير ولا وَلِيّ كَان كَافِرًا، فإنَّ الله عز وجل قَدْ ضَمِن بِنُصْرَة الْمُؤمِنِين في الدَّارَين بِقَولِه:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)[غافر: 51] الآية. ولَكِن الْخِطَاب مَتَى وَرَدَ مُجْمَلًا وبَيَّن الرَّسُول ذلك على لِسَانِه ثم بَيَّن الله تَعالى فَضْل الْمُؤمِنِين على مُخَالِفِيهم، فَقَال:(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[النساء: 124]

(1)

.

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)[البقرة: 284] ذَكَر الثعلبي مَا ذَكَره ابن جرير من أقْوَال في الآيَة، ولم يُرجِّح شَيئًا

(2)

.

ويَرى ابن عطية أن قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ابتداء، أي أنه لا تَعلّق له بما قَبْلَه.

قال ابن عطية: وجَاء هذا اللفْظ عَامًّا في كُلِّ سُوء، فانْدَرَج تَحْت عُمُومِه الفَرِيقَان الْمَذْكُورَان، واخْتَلَف الْمُتَأَوِّلُون في تَعْمِيم لَفْظ هَذا الْخَبَر.

ثم قَال بَعد أنْ حَكَى الْخِلاف والتَّخْصِيص: وقَال جُمْهُور النَّاس: لَفْظ الآيَة عَامّ، والكَافِر والْمُؤمِن مُجَازَى بالسُّوء يَعْمَله، فأمَّا مُجَازاة الكَافِر فَالنَّار، لأنَّ كُفْرَه أوْبَقَه، وأمَّا الْمُؤمِن فَبِنَكَبَات الدُّنيا

فَالعَقِيدَة في هَذا أنَّ الكَافِر مُجَازَى، والْمُؤمِن يُجَازَى

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 390، 391).

(2)

انظر: المرجع السابق، (2/ 299 وما بعدها).

ص: 348

في الدُّنْيا غَالِبًا، فَمَنْ بَقِي له سُوء إلى الآخِرَة فَهو في الْمَشِيئَة، يَغْفِر الله لِمَنْ يَشَاء، ويُجَازِي مَنْ يَشَاء

(1)

.

وفي تَفْسِير قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) قال: واخْتَلَف العُلَمَاء في هَذه الْمَسْألَة؛ فَجَمَاعةٌ مِنْ الفُقَهاء وأهل الحديث يَرون أنَّ الرَّجُل إذا اجْتَنَب الكَبَائر وامْتَثَل الفرائض كُفِّرَتْ صَغَائره، كالنَّظَر وشِبْهِه قَطْعًا بِظَاهِر هَذه الآيَة وظَاهِر الْحَدِيث

(2)

.

وأمَّا الزمخشري فَقَال في مَعْنَى قَوله تَعالى: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): نُمِيط مَا تَسْتَحِقُّونَه مِنْ العِقَاب في كُلّ وَقْت على صَغَائرِكُم ونَجْعَلها كَأن لم تَكُنْ لِزِيادَة الثَّوَاب الْمُسْتَحَق على اجْتِنَابِكُم الكَبَائر وصَبْرِكُم عنها عَلى عِقَاب السَّيئَات.

والكَبِيرَة والصَّغِيرَة إنّما وُصِفَتَا بالكِبَر والصِّغَر بإضَافَتِهما؛ إمَّا إلى طَاعَة، أوْ مَعْصِيَة، أوْ ثَوَاب فَاعِلِهما

(3)

.

والتَّكْفِير إمَاطَة الْمُسْتَحَق مِنْ العِقَاب بِثَوَاب أزْيَد أوْ بِتَوْبَة، والإحْبَاط

(4)

نَقِيضُه، وهُو إمَاطَة الثَّوَاب الْمُسْتَحَقّ بِعِقَاب أزْيَد أوْ بِنَدَم عَلى الطَّاعَة

(5)

.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 116) باختصار.

(2)

المرجع السابق (2/ 44).

(3)

نَسَب ابن عطية هَذا القَول إلى أئمة الكلام (المحرر الوجيز 2/ 44).

(4)

هذه مسألة مشهورة عن المعتزلة والخوارج. ينظر لذلك: منهاج السنة، ابن تيمية (3/ 396)، وقال في الفتاوى الكبرى (2/ 353): أما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.

وفي طرح التثريب (3/ 877): المراد بتكفير الذنب ستره، ومحو أثره المترتب عليه من استحقاق العقوبة.

(5)

الكشاف، مرجع سابق ص (234) وقد تعقبه ابن المنير عند تفسير قوله تعالى:(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].

ص: 349

وأطَال الرَّازي النَّفَس في تَقْرِير ومُنَاقَشَة الأقْوَال في تَعْيِين الكَبَائر والتَّفْرِيق بَيْنَها وبَيْن الصَّغَائر، كَمَا أطَال في رَدّ قَوْل الْمُعْتَزِلَة في "القَوْل بالإحْبَاط".

واخْتَار الرَّازِي أنَّ الله لَم يُميِّز الكَبَائر عن الصَّغَائر، وعَزَاه إلى الأكْثَرِين، وعَلل ذلك: بأنه تَعَالى لَمَّا بَيَّن في هَذه الآيَة أنَّ الاجْتِنَاب عن الكَبَائر يُوجِب تَكْفِير الصَّغَائر، فإذا عَرَف العَبْد أنَّ الكَبَائر لَيْسَت إلَّا هَذه الأصْنَاف الْمَخْصُوصَة عَرَف أنه مَتَى احْتَرَز عَنها صَارَتْ صَغَائره مُكَفَّرة، فَكَان ذَلك إغْرَاءًا لَه بالإقْدَام على تِلك الصَّغَائر، والإغْرَاء بِالقَبِيح لا يَلِيق بِالْجُمْلَة، أمَّا إذا لم يُمَيِّز الله تعالى كُلّ الكَبَائر عن كُلّ الصَّغَائر ولم يُعْرَف في شَيء مِنْ الذُّنُوب أنه صَغِيرة ولا ذَنْب يُقْدِم عَليه إلَّا ويَجُوز كَونه كَبِيرَة فيَكُون ذَلك زَاجِرًا لَه عن الإقْدَام عَليه. قَالُوا: ونَظِير هَذا في الشَّرِيعَة: إخْفَاء الصَّلاة الوُسْطَى في الصَّلَوات

(1)

، ولَيْلَة القَدْر في لَيَالِي رَمَضَان

(2)

.

وسَاعَة الإجَابَة في سَاعَات الْجُمُعَة

(3)

، ووَقْت الْمَوْت في جَمِيع الأوْقَات

(4)

.

والْحَاصِل أنَّ هَذه القَاعِدة تَقْتَضِي ألا يُبَيّن الله تعالى في شيء مِنْ الذُّنُوب أنه صَغِيرة، وأنْ لا يُبَيِّنْ أنَّ الكَبَائر لَيْسَت إلَّا كَذا وكَذا، فإنه لو بَيّن ذلك لَكَان مَا عَدَاهَا صَغِيرَة، فَحِينَئذٍ تَصِير الصَّغِيرة مَعْلُومَة، ولكن يَجُوز أن يُبَيَّن في بَعْض الذُّنُوب أنه كَبِيرَة

(5)

.

(1)

ذكر ابن الملقن (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 271 - 275) سبعة عشر قولًا في تعيين الصلاة الوسطى.

(2)

ينظر ذلك في تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (14/ 410 - 416).

(3)

ينظر لذلك: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يُصلي يَسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه. رواه البخاري (ح 6037)، ومسلم (ح 852).

وحديث أبي موسى وفيه: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقْضَى الصلاة". رواه مسلم (ح 853).

وفي حديث جابر: "فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر". رواه أبو داود (ح 1048)، والنسائي (ح 1389).

وقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة. رواه مالك (ح 241)، ومن طريقه أحمد (ح 23836)، وأبو داود (ح 1046)، والترمذي (ح 491)، ورواه النسائي (ح 1430)، وابن ماجه (ح 1139)، وساق ابن حجر في الفتح (2/ 484 - 488) أكثر من أربعين قولًا في تعيين ساعة الجمعة، فلينظر ثم.

(4)

ينظر ما قرره ابن القيم في حكمة ذلك: مفتاح دار السعادة، مرجع سابق (2/ 247 - 252).

(5)

التفسير الكبير، مرجع سابق (10/ 60 - 62) باختصار.

ص: 350

وَقَرَّر الرَّازي "أنَّ مُجَرَّد الاجْتِنَاب عن الكَبَائر لا يُوجِب دُخُول الْجَنَّة بل لا بُدّ مَعَه مِنْ الطَّاعَات؛ فَالتَّقْدير: إنْ أتَيْتُم بِجَمِيع الوَاجِبَات، واجْتَنَبْتُم عن جَمِيع الكَبَائر كَفَّرْنا عَنْكم بَقِيَّة السَّيئَات، وأدْخَلْنَاكُم الْجَنَّة، فَهذا أحَد مَا يُوجِب الدُّخُول في الْجَنَّة

(1)

، ومِن الْمَعْلُوم أنَّ عَدَم السَّبَب الوَاحِد لا يُوجِب عَدَم الْمُسَبِّب، بَلْ هَهنا سَبَب آخَر هو السَّبَب الأصْلي القَوي، وهو فَضل الله وكَرَمه ورَحْمَته، كَمَا قَال:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس: 58] والله أعلم"

(2)

.

واقْتَصر ابن جُزي على قَوله في الآيَة الأُولى: وَعْدٌ بِغُفْران الذُّنُوب الصَّغَائر إذا اجْتُنِبَتْ الكَبَائر

(3)

.

وفي الثانية على قَولِه: وَعِيد حَتْمٍ في الكُفَّار، ومُقَيَّد بِمَشِيئة الله في الْمُسْلِمِين

(4)

.

(1)

من المتقرر عند أهل السنة أن دخول الجنة ابتداء إنما هو بفضل الله ورحمته.

قال تعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43].

قال القرطبي (الجامع 7/ 186): أي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إياها برحمة الله وفضله.

وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 303): أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم، وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: واعلموا أن أحدكم لن يدخل عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل.

وقال (12/ 327) في قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الزخرف: 72]: أي: أعمالكم الصالحة كانت سببًا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة، ولكن بفضل من الله ورحمته، وإنما الدرجات تفاوتها بحسب عمل الصالحات.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (10/ 64).

(3)

التسهيل، مرجع سابق (1/ 139).

(4)

المرجع السابق (1/ 158).

ص: 351

وافْتَتَحَ ابن كَثِير تَفْسِير قَوله تَعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) بِقَولِه: أي: إذا اجْتَنَبْتُم كَبَائر الآثَام التي نُهِيتُم عَنها كَفَّرْنا عَنْكُم صَغَائر الذُّنُوب وأدْخَلْنَاكُم الْجَنَّة، ولِهَذا قَال:(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

ثم أطال في ذِكر الرِّوَايَات الْمَرْفُوعَة في ذِكْر الكَبَائر والْمُكَفِّرَات، ثم ذَكَر أقْوَال الصَّحَابَة وأقْوَال التَّابِعِين في عَدّ الكَبَائر، وفي تَعْرِيفِها

(1)

.

ويَرى ابن كثير أنَّ قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) مُرتَبِط بِمَا قَبْلَه خِلافًا لابن عَطِيّة، حيث قال في قَوله تَعالى:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ): والْمَعْنَى في هَذه الآيَة: أنَّ الدِّين لَيْس بالتَّحَلِّي ولا بِالتَّمَنِّي، ولكن مَا وَقَر في القُلُوب وصَدَّقَتْه الأعْمَال، ولَيْس كُلّ مَنْ ادَّعَى شَيئًا حَصَل له بِمُجَرّد دَعْواه، ولا كُلّ مَنْ قَال إنه هو عَلى الْحَقّ سُمِعَ قَوله بِمُجَرّد ذلك، حَتى يَكُون له مِنْ الله بُرْهَان، ولِهَذا قَال تَعالى:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)، أي: لَيس لَكُمْ ولا لَهم النَّجاة بِمُجَرّد التَّمَنِّي، بَلْ العِبْرَة بِطَاعَة الله سبحانه واتِّباع مَا شَرَعَه على ألْسِنَة رُسُلِه الْكِرَام، ولِهَذا قَال بَعْدَه:(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)

(2)

.

كَمَا أطَال في ذِكر الرِّوايات أيضًا في الْمُكَفِّرَات.

واخْتَار مَا اخْتَاره ابن جرير مِنْ أنَّ ذلك عَامّ في جَمِيع الأعْمَال

(3)

.

(1)

يُنظَر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (3/ 448 - 481).

(2)

المرجع السابق (4/ 281).

(3)

يُنظر: المرجع السابق (4/ 291).

ص: 352

‌رأي الباحث:

أمَّا آيَة "البقرة"(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) فَهي مَنْسُوخَة، للحَدِيث الصَّحِيح

(1)

الْمُصَرِّح بِنَسْخِها، ففي الْحَدِيث: لَمَّا نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال أبو هريرة: فاشْتَدّ ذلك على أصْحَاب رَسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الرُّكَب، فَقَالُوا: أيْ رسول الله! كُلِّفْنَا مِنْ الأعْمَال ما نُطِيق: الصَّلاة والصِّيَام والْجِهَاد والصَّدَقة، وقد أُنْزِلَتْ عَليك هَذه الآَية ولا نُطِيقُها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتُرِيدُون أن تَقُولُوا كَمَا قال أهْل الكِتَابَين مِنْ قَبْلِكم: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)؟ بل قُولوا: سَمِعْنَا وأطَعْنا غُفْرَانَك رَبَّنا وإلَيك الْمَصِير، قَالُوا: سَمِعْنَا وأطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وإلَيك الْمَصِير. فَلَمَّا اقْتَرَأهَا القَوْم ذَلَّتْ بِهَا ألْسِنَتُهم، فأنْزَل الله في إثْرِها:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلك نَسَخَها الله تعالى، فأنْزَل الله عز وجل:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال

(2)

: نَعَم. (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا). قال: نَعَم. (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ). قال: نَعَم. (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). قال: نَعَم.

(1)

رواه مسلم (ح 125) عن أبي هريرة، ورَوى نحوه (ح 126) عن ابن عباس.

(2)

القائل: هو الله تبارك وتعالى.

ص: 353

فهذا صَرِيح في نَسْخَ الْمُحَاسَبَة والْمُؤاخَذَة على مَا يُكتَم في الصّدُور - خِلافًا لابن جرير -، ولأنَّ مَا في الصُّدْر مِمَّا عُفِي عنه، لِقوله عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمّتي مَا حَدَّثَتْ به أنْفُسَها مَا لَم تَعْمَل أوْ تَتَكَلَّم

(1)

.

وأمَّا الاخْتِلاف في الكَبَائر "فاخْتَلَفَ السَّلَف فِيها اخْتلافًا لا يَرجِع إلى تباين وتَضاد وأقْوَالهم مُتَقَارِبَة"

(2)

.

وأمَّا قَوله تَعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فاجْتِنَاب الكَبَائر مِنْ أسْبَاب تَكْفِير الصَّغَائر، إذْ الصَّغَائر تُكَفَّر وتَزُول عُقُوبَتُها بِنَحْو عَشَرَة أسْباب بالإضَافَة إلى الإتْيَان بِالفَرَائض.

قال ابن تيمية: دَلَّتْ نُصُوص الكِتَاب والسُّنَّة على أنَّ عُقُوبَة الذُّنُوب تَزُول عَنْ العَبْد بِنَحْو عَشَرَة أسْبَاب

(3)

.

وذَكَرَها ابن القيم ثم قَال: فَهَذِه عَشَرَة أسْبَاب تَمْحَق أثَر الذُّنُوب، فإنْ عَجِزَتْ هذه الأسْبَاب عَنها فَلا بُدّ مِنْ دُخُول النَّار ثُم يُخْرَجون مِنها

(4)

.

"وهَهنا أمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّن لَه، وهو أنَّ الكَبِيرَة قَدْ يَقْتَرِن بِهَا مِنْ الْحَيَاء والْخَوْف والاسْتِعْظَام لَهَا مَا يُلْحِقها بِالصَّغَائر، وقد يَقْتَرِن بِالصَّغِيرَة مِنْ قِلَّة الْحَيَاء وعَدم الْمَبَالاة وتَرْك الْخَوْف والاسْتِهَانَة بِهَا مَا يُلْحِقها بِالكَبَائر، بَلْ يَجْعَلها في أعْلى رُتَبِها، وهَذا أمْرٌ مَرْجِعُه إلى مَا يَقُوم بِالقَلْب، وهو قَدْر زَائد عَلى مُجَرَّد الفِعْل، والإنْسَان يَعْرِف ذَلك مِنْ نَفْسِه ومِن غَيرِه"

(5)

.

(1)

رواه البخاري (ح 4968)، ومسلم (ح 127).

(2)

مدارج السالكين، ابن القيم، (1/ 561).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 487) وتراجع ثم، ونقلها ابن أبي العز في "شرح الطحاوية"(ص 308 - 312).

(4)

إعلام الموقعين (2/ 304).

(5)

مدارج السالكين، مرجع سابق (1/ 574).

ص: 354

فإن قِيل: الصَّغَائر مُكَفَّرَة باجْتِنَاب الكَبَائر، فَمَا الذي تُكَفِّرُه الفَرَائض في مِثْل قَوله عليه الصلاة والسلام: الصَّلَوَات الْخَمْس، والْجُمُعَة إلى الْجُمُعَة، ورَمَضَان إلى رَمَضَان، مُكَفِّرَات مَا بَيْنَهُنّ إذا اجْتَنَبَ الكَبَائر

(1)

؟

فالْجَوَاب:

أنَّ الصَّغَائر كَثيرَة، وقَد تُكَفِّر الصَّلَوات الْخَمْس بَعْضَها، فإذا بَقِي مِنها شَيء كَفَّرَتْها الْجُمُعَة، فَرَمَضان، فَالْعُمْرَة، فإن لَم يَبْقَ مِنْها شَيء، أوْ كَانت مُكَفّرَة باجْتِنَاب الكَبَائر؛ كَانَتْ هَذه الأعْمَال لَه فَضْلًا وزِيَادَة أجْر.

كما أن "بَعْض السَّيئَات قَدْ لا يُعاقَب عَليها، وقد تَقَع مُكَفَّرَة بِاجْتِنَاب الكَبَائر ولكِن زَمَانها قَدْ خَسِرَه صَاحِبُها حَيث ذَهَبَتْ بَاطِلًا، فَيَحْصُل له بِذلك حَسْرَة في القِيَامَة وأسَف عَليه، وهو نَوْع عُقُوبَة"

(2)

.

قال ابن حجر: ودَلّ التَّقْيِيد بِعَدَم غِشْيَان الكَبَائر على أنَّ الذي يُكَفّر مِنْ الذُّنُوب هو الصَّغَائر، فَتُحْمَل الْمُطْلَقَات كَلّها عَلى هذا الْمُقَيّد، وذَلك أنَّ مَعْنَى قَوله:"مَا لَم تُغْشَ الكَبَائر" إي: فَإنّهَا إذا غُشِيَتْ لا تُكَفَّر، وليس الْمُرَاد أن تَكْفِير الصَّغَائر شَرْطه اجْتِنَاب الكَبَائر، إذ اجْتِنَاب الكَبَائر بِمُجَرَّدِه يُكَفِّرُها، كَمَا نَطَق بِه القُرْآن، ولا يَلْزَم مِنْ ذَلك أن لا يُكَفّرها إلَّا اجْتِنَاب الكَبَائر، وإذا لَم يَكُنْ للمَرْء صَغَائر تُكَفَّر رُجِي له أن يُكَفّر عنه بِمِقْدار ذَلك مِنْ الكَبَائر، وإلّا أُعْطِي مِنْ الثَّوَاب بِمِقْدَار ذَلك

(3)

.

واخْتلِف في تَكْفِيرِ الكَبَائر.

قال ابن رَجب: وأمَّا الكَبَائر فَلا بُدّ لَهَا مِنْ التَّوْبَة؛ لأنَّ الله أمَرَ العِبَاد بِالتَّوْبة، وجَعَل مَنْ لَم يَتُبْ ظَالِمًا، واتَّفَقَتِ الأُمَّة على أنَّ التَّوْبة فَرْض، والفَرَائض لا تُؤدَّى إلَّا

(1)

رواه مسلم، وقد تقدم.

(2)

جامع العلوم والحكم، مرجع سابق (1/ 135).

(3)

فتح الباري، مرجع سابق (2/ 372، 373).

ص: 355

بِنِيَّة وقَصْد، ولو كانت الكَبَائر تَقَع مُكَفَّرَة بالوُضُوء والصَّلاة وأدَاء بَقِيَّة أرْكَان الإسْلام لم يُحْتَج إلى التَّوبَة، وهذا بَاطِل بالإجْمَاع، وأيضًا فلو كُفِّرَت الكَبَائر بِفِعْل الفَرَائض لَم يَبْق لأحَدٍ ذَنْب يَدْخُل بِه النَّار إذا أتَى بِالفَرَائض، وهذا يُشْبِه قَوْل الْمُرْجِئة، وهو بَاطِل.

هَذا مَا ذَكَره ابن عبد البر في كِتَابه "التمهيد"، وحكى إجْمَاع الْمُسْلِمِين على ذلك

(1)

.

ولابن القيم تَفْصِيل في هَذه الْمَسْأَلَة، حَيث ذَكَر أنَّ "الأعْمَال الْمُكَفَّرَة لها ثَلاث دَرَجَات:

أحَدها: أن تَقْصُر عن تَكْفِير الصَّغَائر لِضَعْفِها، وضَعْف الإخْلاص فِيها، والقِيَام بِحُقُوقِها، بِمَنْزِلة الدَّوَاء للضَّعِيف الذي يَنْقُص عن مُقَاوَمة الدَّاء كَمِّيَّة وكَيْفِيَّة.

الثَّانية: أن تُقَاوِم الصَّغَائر ولا تَرْتَقِي إلى تَكْفِير شَيء مِنْ الكَبَائر.

الثَّالثة: أن تَقْوَى على تَكْفِير الصَّغَائر وتَبْقَى فيها قُوَّة تُكَفِّر بِها بَعض الكَبَائر.

فَتَأمَّل هَذا فَإنه يُزِيل عَنك إشْكَالاتٍ كَثِيرَة"

(2)

.

وأمَّا قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) فَهو على سَبِيل الوَعْد والْجَزَاء، وهو كَقَوله تَعالى:(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 31 - 32].

وكَذلك قَوله تَعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30] ونَظير هَذه الآيَة في الْمَعْنَى قَوله تَعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).

(1)

جامع العلوم والحكم، مرجع سابق (1/ 169).

(2)

الجواب الكافي، "الداء والدواء"(ص 87).

ص: 356

[النساء: 123] قال عُلَمَاؤنا: وهَذا في حَقّ الْمُؤمِنِين، فَأمَّا الكَافِر فَعُقُوبَتُه مُؤخَّرَة إلى الآخِرَة

(1)

.

وكَذَلك قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ)[الفرقان: 19] قال ابن عباس: مَنْ يُشْرِك مِنْكُم ثُمّ مَاتَ عَليه (نُذِقْهُ) أي: في الآخِرَة (عَذَابًا كَبِيرًا) أي: شَدِيدًا

(2)

.

والله تبارك وتعالى "لَم يَعِد بِقَوله: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) تَرْك الْمُجَازَاة عَليها، وإنّما وَعَد التَّكْفير بِتَرْكِ الفَضِيحَة مِنه لأهْلِها في مَعَادِهم، كَمَا فَضَحَ أهْل الشِّرك والنِّفَاق، فأمَّا إذا جَازَاهم في الدُّنْيا عَليها بِالْمَصَائب ليُكَفِّرَها عَنهم لِيُوافُوه ولا ذَنْب لَهم يَسْتَحِقُّون الْمُجَازَاة عَليه فَإنَّمَا وَفَى لَهُمْ بِمَا وَعَدَهم"

(3)

، كمَا أنّه سبحانه وتعالى إذا جَازَى عِبَادَه في الدّنْيا بِمَا يُجازِيهم بِه مِنْ مَصائِب وأحْزَان وَنَكَبَات؛ كَان ذلك نَوْع تَكْفِير، فَلَم يَتَخلَّف وَعْدُه سُبحَانه.

‌المثال الرابع:

مَغْفِرَة الذُّنُوب:

قَوله تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48، 116]، مَع قَوله تَعالى:(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 68 - 70]، وقَوله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 30).

(2)

المرجع السابق (13/ 14).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 515).

ص: 357

‌صورة التعارض:

في صَدْر آيتي "النساء" أخْبَر الله أنه لا يَغْفِر أن يُشْرَك به، وفي آيَات "الفُرْقَان" أخْبَر سبحانه وتعالى أنه يَغْفِر لِمن تَاب مِنْ شرْكه، وفي آية "الزُّمَر" أخْبَر أنه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا، ويَدْخُل في هَذا العُمُوم الشِّرْك وغَيره.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَلا: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فَقَال لَه رَجُل: يا رَسول الله والشِّرْك؟ فَنَزَل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)

(1)

.

وهذا مِنْ الْمُحْكَم الْمُتَّفَق عَليه الذي لا اخْتِلاف فِيه بَيْن الأمَّة.

(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) مِنْ الْمُتَشَابِه الذي قَدْ تَكَلَّم العُلَمَاء فيه؛ فَقال محمد بن جرير الطبري: قد أبَانَتْ هَذه الآيَة أنَّ كُلَّ صَاحِب كَبِيرَة فَفِي مَشِيئَة الله تعالى، إن شَاء عَفَا عَنه ذَنْبه، وإن شَاء عَاقَبه عَليه مَا لَم تَكُنْ كَبِيرَته شِرْكًا بِالله تَعالى.

وقال بعضهم: قد بَيَّن الله تعالى ذلك بِقَوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)[النساء: 31]، فاعْلَم أنه يَشَاء أن يَغْفِر الصَّغَائر لِمَنْ اجْتَنَب الكَبَائر ولا يَغْفِرْهَا لِمَنْ أَتَى الكَبَائر، وذَهَب بَعْض أهْل التَّأوِيل إلى أنَّ هَذه الآيَة نَاسِخَة للتي في آخِر الفُرْقَان، قال زيد بن ثابت: نَزَلَتْ سُورة النِّسَاء بَعْد الفُرْقَان بِسِتَّة أشْهُر.

(1)

رواه أحمد (ح 22362) وقال مُحققو المسند: إسناده ضعيف. ورواه ابن جرير (5/ 125) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (7/ 239) إلى عبد بن حُميد.

ص: 358

والصَّحِيح أنْ لا نَسْخ، لأنَّ النَّسْخ في الأخْبَار يَسْتَحِيل

(1)

- وسَيَأتي بَيَان الْجَمْع بَيْن الآي في هذه السُّورَة وفي الفرقان إن شاء الله تعالى -.

وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: مَا في القُرْآن آيَة أحَبّ إليَّ مِنْ هَذه الآيَة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). قال

(2)

: هذا حديث حسن غريب

(3)

.

وفي تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا):

قال: هَاتَان الآيَتَان نَزَلَتَا بِسَبَب ابن أُبَيْرِق السَّارِق لَمَّا حَكَم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بِالقَطْع وهَرَب إلى مَكَّة وارْتَدّ.

قال سعيد بن جبير: لَمَّا صَار إلى مَكة نَقَب بَيْتًا بِمَكَّة فَلَحِقه الْمُشْرِكُون فَقَتَلُوه، فأنْزَل الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا).

وقال الضحاك: قَدِم نَفَرٌ مِنْ قُرَيش الْمَدِينَةَ وأسْلَمُوا ثم انْقَلَبُوا إلى مَكَّة مُرْتَدّين، فَنَزَلَتْ هَذه الآيَة.

وقال الكلبي: نَزَل قَوله تَعالى: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) في ابن أُبَيرق لَمَّا ظَهَرَتْ حَاله وسَرِقَته هَرَب إلى مَكَّة وارْتَدّ، ونَقَب حَائطًا لِرَجُلٍ بِمَكَّة، يُقَال له: حَجاج بن عِلاط فَسَقَط فَبَقِي

(1)

هذا متعقب بأنه ليس خبرًا محضًا، بل هو خبر بمعنى الأمر. وينظر: معالم التنزيل، مرجع سابق (3/ 378).

(2)

أي: الترمذي، (ح 3037) وقال عقبه: وأبو فاختة: اسمه سعيد بن علاقة، وثوير يكنى أبا جهم، وهو كوفي رجل من التابعين، وقد سمع من ابن عمر وابن الزبير. وابن مهدي كان يغمزه قليلًا.

والأثر ضعيف، ففي إسناده: ثُوير بن أبي فاختة، ضعيف رمي بالرفض. (تقريب التهذيب ترجمة 870).

وقول علي هذا كرره القرطبي في تفسير الآية 116 من سورة النساء.

(3)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 235، 236).

ص: 359

في النَّقْب حَتى وُجِد على حَاله، وأخْرَجُوه مِنْ مَكَّة، فَخَرَج إلى الشَّام فَسَرَق بَعض أمْوَال القَافِلَة فَرَجَمُوه وقَتَلُوه، فَنَزَلَتْ:(نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

ونَقَل عن ابن فورك قَوله: وأجْمَع أصْحَابُا على أنه لا تَخْلِيد إلَّا للكَافِر، وأنَّ الفَاسِق مِنْ أهْل القِبْلَة إذا مَات غَير تَائب فإنه إنْ عُذِّب بِالنَّار فَلا مَحَالَة أنّه يَخْرُج مِنْها بِشَفَاعَة الرَّسُول، أوْ بابْتدَاء رَحْمَة من الله تعالى.

وقال الضحاك

(1)

: إنَّ شَيْخًا مِنْ الأعْرَاب جَاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال: يا رسول الله إني شَيْخ مُنْهَمِك في الذُّنُوب والْخَطَايا إلَّا أني لَم أُشْرِك بِالله شَيئا مُنْذ عَرَفْتُه وآمَنْت بِه، فَمَا حَالِي عِند الله؟ فأنْزَل الله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) الآية

(2)

.

وقال القرطبي في قَوله تَعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)[الكهف: 58] أي: للذّنُوب، وهَذا يَخْتَصّ به أهْل الإيمان دُون الكَفَرَة، بِدَلِيل قَوله:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)

(3)

.

وقال في قَوله تَعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)[الفرقان: 70]: لا خِلاف بَيْن العُلَمَاء أنَّ الاسْتِثْنَاء عَامِل في الكَافِر والزَّانِي

(4)

.

وفي آيَة "الزمر" قال القرطبي: ومِن أجَلّ مَا رُوي فيه مَا رَواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عُمر قال: لَمَّا اجْتَمَعْنا على الْهِجْرة اتَّعَدْتُ أنا وهِشَام بن

(1)

قال الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الوقعة في تفسير الكشاف"(1/ 360): ذكره الثعلبي في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس. قال: نزلت: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. وسنده إلى الضحاك أوَّل كتابه.

قال المناوي في الفتح السماوي (2/ 225، 226): ذكره الثعلبي من رواية الضحاك عن ابن عباس. قال: نَزَلَتْ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) في شيخ من الأعراب.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 366، 367).

(3)

المرجع السابق (11/ 10).

(4)

المرجع السابق (13/ 67).

ص: 360

العاص بن وائل السهمي وعَيَّاش بن أبي ربيعة بن عتبة، فَقُلْنَا: الْمَوعِد أضَاة بنِي غِفار، وقُلْنَا: مَنْ تَأخَّر مِنَّا فَقَد حُبِس فلْيَمْضِ صَاحِبه، فأصْبَحْتُ أنا وعَيَّاش بن عتبة حُبِس عَنَّا هِشام، وإذا به قَدْ فُتِن فافْتَتَن، فَكُنَّا نَقُول بِالْمَدِينَة: هَؤلاء قد عَرَفُوا الله عز وجل وآمَنُوا بِرَسُولِه صلى الله عليه وسلم ثم افْتُتِنُوا لِبَلاء لحِقَهم، لا نَرَى لَهُمْ تَوْبَة، وكَانُوا هُمْ أيضًا يَقُولُون هَذا في أنْفُسِهم، فأنْزَل الله عز وجل في كِتَابِه:(قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر: 53] إلى قَوله تَعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)[الزمر: 60] قال عُمر: فَكَتَبْتُها بِيَدِي ثم بَعَثْتُها إلى هِشام. قال هِشام: فَلَمَّا قَدِمَتْ عَليّ خَرَجْتُ بِهَا إلى ذِي طُوى، فَقُلْتُ: اللهُم فَهّمْنِيهَا، فَعَرَفْتُ أنّها نَزَلَتْ فِينَا، فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ على بَعِيرِي فَلَحِقْتُ بِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِين قَتَلُوا فأكْثَرُوا، وزَنَوا فأكْثَرُوا، فَقَالُوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بَعَثُوا إليه -

(1)

: إنَّ مَا تَدْعُو إليه لَحَسَن لَو

(2)

تُخْبِرنا أنَّ لَنَا تَوْبَة

(3)

. فأنْزَل الله عز وجل هَذه الآيَة: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ). ذَكَرَه البُخاري بِمَعْنَاه

(4)

.

وعن ابن عباس أيضًا: نَزَلَتْ في أهْل مَكَّة، قَالوا: بِزَعْم محمد أنَّ مَنْ عَبد الأوثان وقَتَل النَّفْس التي حَرَّم الله لَم يُغْفَر له، وكيف نُهَاجِر ونُسْلِم وقَد عَبَدْنا مَع الله إِلهًا آخَر، وقَتَلْنَا النَّفْس التي حَرَّم الله؟ فأنْزَل الله هَذه الآيَة

(5)

.

(1)

الذي في الصحيحين: أتَوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

(2)

في طبعة دار الشَّعْب: أو، والمثبت من الصحيح.

(3)

الذي في الصحيحين: أن لما عملنا كفارة.

(4)

رواه البخاري (ح 4532)، ومسلم (ح 122)، وعندهما زيادة: فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)[الفرقان: 68]. وقد أورد القرطبي في هذه الزيادة في تفسير سورة الفرقان (13/ 75).

(5)

رواه ابن جرير (24/ 14).

ص: 361

وقيل: إنها نَزَلَتْ في قَوم مِنْ الْمُسْلِمِين أسْرَفُوا على أنْفُسِهم في العِبَادَة وخَافُوا ألَّا يُتَقَبّل مِنهم لِذُنُوب سَبَقَت لَهم في الْجَاهِلِيَّة.

وقال ابن عباس أيضًا وعطاء: نَزَلَتْ في وَحْشِيّ قَاتِل حَمْزَة؛ لأنه ظَنَّ أنَّ الله لا يَقْبَل إسْلامَه.

ثم ذَكَر القرطبي أنَّ "في مُصْحَف ابن مسعود: إنَّ الله يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاء.

ونَقَل عن النَّحَّاس أنها قِرَاءة تَفْسِيرِيَّة. والْمَعْنَى: يَغْفِر الله لِمَنْ يَشَاء. وقد عَرَف الله عز وجل مَنْ شَاء أن يَغْفِر لَه، وهو التَّائب، أوْ مَنْ عَمِل صَغِيرَة ولَم تَكُنْ لَه كَبِيرَة، ودَلّ على أنه يُريد التَّائب مَا بَعْده:(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)[الزمر: 54]، فَالتَّائب مَغْفُور لَه ذُنُوبه جَمِيعًا، يَدُلّ على ذلك:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ)[طه: 82]، فَهذا لا إشْكَال فِيه.

وقال علي بن أبي طالب: مَا في القُرْآن آيَة أوْسَع مِنْ هَذه الآيَة: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)[الزمر: 53].

وقال عبد الله بن عمر: وهَذه أرْجَى آيَة في القُرْآن، فَرَدّ عليهم ابن عباس وقال: أرْجَى آيَة في القُرْآن قَوله تَعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)[الرعد: 6]

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ الله يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ تَاب، ولا يَغْفِر الشِّرْك لِمَنْ يَتُب مِنه، وهذا مُحْكَم مُتَّفَق عَليه.

2 -

أنَّ آيَة "النِّسَاء" نَاسِخَة لآيَة الفرقان.

3 -

آيَة "النساء" الثانية مُرْتَبِطَة بِسَبَب النُّزُول، ومَعْرِفَة السَّبَب تُعِين على فَهْم الآيَة.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 234 - 236) باختصار.

ص: 362

4 -

لا تَخْلِيد إلَّا للكَافِر، وأنَّ الفَاسِق مِنْ أهْل القِبْلَة إذا مَات غَير تَائب فَإنه إنْ عُذِّب بِالنَّار فَلا مَحَالَة أنه يَخْرُج مِنها.

5 -

أنَّ الْمَغْفِرَة مُختَصَّة بأهْل الإيمان دُون الكَفَرَة.

6 -

أنَّ آيَة "الزمر" نَزَلَتْ في شَأن أقْوَام مِنْ الْمُشْرِكِين قَتَلُوا فأكْثَرُوا، وزَنَوا فأكْثَرُوا، وسَأَلُوا: هَلْ لَهم مِنْ تَوْبَة؟

7 -

اخْتِلاف أسْبَاب النُّزُول في آيَة "الزمر".

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير في آيَة "النِّسَاء" الأُولى: فإنَّ الله لا يَغْفِر الشِّرْك بِه والكُفْر (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) الشِّرْكَ (لِمَنْ يَشَاءُ) من أهْل الذُّنُوب والآثَام.

ثم أشَار إلى سَبَب النُّزُول بِقَولِه: وذُكِر أنَّ هَذه الآيَة نَزَلَتْ في أقْوَام ارْتَابُوا في أمْرِ الْمُشْرِكِين حِين نَزَلَتْ: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

ثم رَوى بإسْنَادِه إلى ابن عمر أنه قال: كُنَّا مَعْشَر أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نَشُكّ في قَاتِل الْمُؤمِن، وآكِل مَالِ اليَتِيم، وشَاهِد الزُّور، وقَاطِع الرَّحِم، حتى نَزَلَتْ هَذه الآيَة:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فأمْسَكْنَا عَنْ الشَّهَادَة

(1)

.

(1)

أي لا نشهد لمرتكب الكبيرة بالنار، ويفسره ما رواه ابن جرير (20/ 229، 230) عن ابن عمر قوله في الكبائر: كنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك؛ فكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجونا له، وعزاه ابن كثير (4/ 108) إلى ابن أبي حاتم، وسيأتي فيما نَقَلَه السمرقندي ذلك صريحًا.

ص: 363

ثم قال ابن جرير: وقد أبَانَتْ هَذه الآيَة أنَّ كُلّ صَاحِب كَبِيرَة فَفِي مَشِيئَة الله، إنْ شَاء عَفَا عنه، وإن شَاء عاقَبه عَليه مَا لَم تَكن كَبيرته شِرْكًا بِالله

(1)

.

وفي آية "الفرقان" قال: وقد ذُكِرَ أنَّ هَذه الآيَة نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أجْلِ قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِين أرَادُوا الدُّخُول في الإسْلام، مِمَّنْ كَان مِنه في شِرْكِه هَذه الذُّنُوب، فَخَافُوا ألا يَنْفَعهم مَع مَا سَلَف مِنهم من ذلك إسلام، فاسْتَفْتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنْزَل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يُعْلِمُهم أن الله قابِل توبةَ مَنْ تابَ منهم.

ثم روى ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في أنّها نَزَلَتْ في قَوْم مِنْ الْمُشْرِكِين قَتَلُوا فأكْثَرُوا

(2)

.

ونَقَل ابن جرير عن آخَرِين قَولَهم: هَذه الآيَة مَنْسُوخَة بالتي في "النِّسَاء".

ثم رَوى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عباس.

ورَوى بإسْنَاده إلى القَاسم بن أبي بَزَّة أنه سَأل سعيد بن جبير: هَلْ لِمَنْ قَتَل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا تَوبَة؟ فَقال: لا. فَقَرأ عليه هذه الآية كُلّها. فقال سعيد بن جبير: قَرأتُها على ابن عباس كَمَا قَرأتها عَليّ، فَقال: هذه مَكية نَسَخَتها آية مَدنية التي في سورة النِّسَاء

(3)

.

وقال في قَوله تعالى: (وَمَنْ تَابَ)[الفرقان: 71]: يَقول: ومَن تَاب مِنْ الْمُشْرِكِين فآمَن بِالله ورَسُوله. (وَعَمِلَ صَالِحًا) يَقُول: وعَمِل بِمَا أمَرَه الله فأطَاعَه، فإنَّ الله فَاعِلٌ بِه مِنْ إبْدَالِه سَيئ أعْمَاله في الشِّرْك بِحَسَنِها في الإسْلام، مثلَ الذي فَعَل مِنْ ذَلك بِمَنْ تَاب وآمَن وعَمِل صَالحًا قَبْل نُزُول هَذه الآيَة مِنْ أصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 122، 123) باختصار.

(2)

حديث ابن عباس مُخرّج في الصحيحين، وسبق تخريجه.

(3)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (17/ 505 - 412) والأثر مخرج في الصحيحين: رواه البخاري (ح 4484)، ومسلم (ح 3023)، ويُنظر لذلك: جامع البيان (7/ 340 وما بعدها).

(4)

جامع البيان، مرجع سابق (17516 - 521).

ص: 364

ونَقَل الْخِلاف في الذين عُنُوا بِآيَة "الزُّمَر"، فَقَال: قَال بَعْضُهم: عُنِي بِها قَوْم مِنْ أهْل الشِّرْك، قَالُوا لَمَّا دُعُوا إلى الإيمان بالله: كَيف نُؤمِن وقَد أشْرَكنا وزَنَينا وقَتَلْنا النفس التي حَرّم الله، والله يَعِدُ فاعِل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سَلَف مِنّا الإيمان؟ فَنَزَلت هذه الآية.

ونَقَل عن آخَرِين قَوْلَهم: عُنِي بذلك أهْل الإسْلام .... وقَالُوا: إنما نَزَلَتْ هَذه الآيَة في قَوْم صَدَّهم الْمُشْرِكُون عَنْ الْهِجْرَة وفَتَنُوهُم، فأشْفَقُوا ألا يَكُون لَهم تَوبَة.

وعن آخَرين قَولَهم: نَزَلَ ذلك في قَوْم كَانوا يَرَون أهْل الكَبَائر مِنْ أهْل النَّار، فأعْلَمَهم الله بِذلك أنّه يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ يَشَاء.

وأوْلَى الأقْوَال بِالصَّوَاب عند ابن جرير قَول مَنْ قَال: عَنى تَعالى ذِكره بذلك جَمِيع مَنْ أسْرَف على نَفْسِه مِنْ أهْل الإيمان والشِّرْك؛ لأنَّ الله عَمّ بِقَوله: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) جَمِيع الْمُسْرِفِين، فلم يَخْصُص بِه مُسْرِفًا دُون مُسْرِف.

ثم أورَد ابن جرير هذا السؤال: فإن قَال قَائل: فَيَغْفِر الله الشِّرْك؟

فأجاب بـ: نَعم، إذا تَاب مِنه الْمُشْرِك.

وإنما عُنِي بِقَوله: (إن الله يَغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء) كَمَا قد ذَكَرْنا قَبل أن ابن مسعود كان يَقْرَؤه، وأنَّ الله قَدْ اسْتَثْنَى مِنه الشِّرْك إذا لَم يَتُب مِنه صَاحِبُه، فَقَال:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فأخْبَر أنه لا يَغْفِر الشِّرْك إلَّا بَعْد تَوبة بِقَولِه:(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلِ عَمَلًا صَالِحًا)، فأمَّا مَا عَداه فإنَّ صَاحِبَه في مَشِيئَة رَبِّه؛ إن شَاء تفَضَّل عليه، فَعَفَا لَه عنه

(1)

، وإن شَاء عَدَل عَليه

(2)

فَجَازَاه به

(3)

.

(1)

أي: عفا له عن ذنبه.

(2)

أي: عامله بعدله.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (20/ 224 - 230) باختصار وتصرّف.

ص: 365

ومَالَ السمرقندي إلى كَون الآيَة نَزَلَتْ في شَأن وَحْشِي

(1)

، حَيث قَال:(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ) يَعني دُون الشّرْك.

(لِمَنْ يَشَاءُ) يَعْنِي: لِمَنْ مَات مُوَحِّدًا؛ نَزَلَتْ الآيَة في شَأن وَحْشِي قَاتِل حَمْزَة.

وذَكَر مَا تَقَدَّم عن ابن عمر قولَه: كُنَّا إذا مَات الرَّجُل مِنَّا على كَبِيرَة شَهِدْنا أنَّه مِنْ أهْل النَّار حَتى نَزَلَتْ هَذه الآيَة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فأمْسَكْنَا عن الشَّهَادَة. وهَذه الآيَة رَدّ على مَنْ يَقُول: إنَّ مَنْ مَات على كَبِيرَة يُخَلَّد في النَّار؛ لأنَّ الله تَعالى قَدْ ذَكَر في آيَة أخْرَى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114] يَعْنِي مَا دُون الكَبَائر، فلم يَبْقَ لِهَذِه الْمَشِيئَة مَوْضِع سِوى الكَبَائر

(2)

.

وفي آية "النِّسَاء" الثَّانِيَة أوْرَد قول الضحاك في سَبَب النُّزُول

(3)

.

وفي تَفسير سُورة مريم قال: اسْتَثْنَى فَقَال تَعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ)[مريم: 60] يَعني: رَجَع عن الكُفْر (وَآمَنَ) يَعْنِي صَدَّق بِتَوحِيد الله عز وجل (وَعَمِلَ صَالِحًا) بَعْد التَّوبَة (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) يَعْنِي: لا يُنْقَصُون شَيئا مِنْ ثَوَاب أعْمَالِهم

(4)

.

وفي آية "الفرقان"، قَال السمرقندي:(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) يَعْنِي: تَاب مِنْ الشِّرْك والزِّنا والقَتْل، وصَدَّق بِتَوحِيد الله تَعالى

(5)

.

وفي تَفْسِير سُورة الزمر أوْرَد مَا رَواه عبد الرَّزاق عن معمر عن قتادة قال: أصَاب قَوْم في الشِّرْك ذُنُوبا عِظَامًا، وكَانُوا يَخافُون ألا يَغْفِر الله لَهم، فَدَعَاهم الله تَعالى بِهذه الآيَة.

(1)

واستبعده السمعاني - كما سيأتي -.

(2)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 434).

(3)

المرجع السابق (1/ 364) وسبق قول الضحاك في أول المبحث.

(4)

المرجع السابق (2/ 380).

(5)

المرجع السابق (2/ 546).

ص: 366

وقَول مجاهد: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) بِقَتْلِ الأنْفُس في الْجَاهِلِيَّة

(1)

.

وأوْرَد السمعاني قَول ابن عمر بَعد قَوله: قِيل: هَذه أرْجَى آيَة في القُرْآن. قال ابن عمر: كُنا نُطْلِق القَول فِيمَن ارْتَكَب الكَبَائر بِالْخُلُود في النَّار حَتى نَزَلَتْ هَذه الآيَة فَتَوقَّفْنَا.

ثم أوْرَد سُؤالًا فيه: فإن قَال قَائل: قَدْ قَال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، وقال في مَوْضِع آخَر:(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، فَكَيف وَجْه الْجَمْع؟

قيل: أرَادَ بِه: يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا سِوى الشِّرْك

(2)

.

وأوْرَد السمعاني قَول ابن عباس رضي الله عنهما في قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93]، وأنّ الآيَة مَدَنِيَّة لَم يَنْسَخْها شَيء، ثم قَال: والأصَحّ والذي عليه الأكْثَرُون - وهُو مَذْهَب أهْل السُّنَّة - أنَّ لِقَاتِل الْمُؤمِن عَمْدًا تَوْبَة، والدَّلِيل عَليه قَولَه تَعَالى:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ)[طه: 82] وقَوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؛ ولأنَّ القَتْل العَمْد لَيْس بِأشَدّ مِنْ الكُفْر، ومِن الْكُفْر تَوْبَة، فَمِنْ القَتْل أوْلى. وأمَّا الذي رُوي عن ابن عباس فَعلى سَبِيل التَّشْدِيد والْمُبَالَغَة في الزَّجْر عن القَتْل

(3)

، وهو مِثْل مَا رُوي عن سُفيان بن عُيينة أنّه قال: إن لم يَقْتُل يُقَال له: لا تَوْبة لَك مَنْعًا له عَنْ القَتْل، وإن قَتَل يُقَال له: لكَ تَوْبَة حَتى يَتُوب. ورُوي أنَّ رَجُلًا جَاء إلى ابن عباس وسَأله هَلْ لِقَاتِل الْمُؤمِن تَوْبَة؟ قال: لا. فَجَاءَه آخَر وسَألَه عن ذَلك، فَقَال: نَعم له تَوْبَة. فَقِيل له في ذلك، فَقَال: إنَّ الأوَّل لم يَكُنْ قَتَل، فَمَنَعْتُه عَنْ القَتْل، وإنَّ الثَّاني قَتَل، فأرْشَدْتُه إلى التَّوْبَة.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (3/ 182).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 434) باختصار يسير.

(3)

وسيأتي عن ابن عباس قوله لقاتل النفس، وأنه يرى أن له توبة.

ص: 367

واسْتَبْعَد السماني أن تَكُون آية "الفرقان" نَزَلَتْ في شَأن وَحْشي، وذلك "لأنَّ هَذه الآيَة مَكِيَّة، ووَحْشِيّ إنّما أسْلَم بَعْد غَزْوة حُنَين والطَّائف في آخِر عَهْد النبي صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

وسَاق مَا جَاء عن ابن عباس أنَّ قَوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ) يَنْصَرِف إلى الشِّرك والزِّنا، فأمَّا قَتْل النَّفْس فَقد أنْزَل الله تَعالى فيه:(وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) الآيَة. قال ابن عباس: وهَذه الآيَة مَدَنِيَّة، وقَوله:(إِلَّا مَنْ تَابَ) مَكِّيَّة؛ فالْحُكْم في القَتْل على هَذه الآيَة، ولا تَوْبة لِقَاتِل النَّفْس.

قال السمعاني: وأمَّا عِند غَيره مِنْ أهْل العِلْم فَالتَّوبَة مِنْ الكُلّ مَقْبُولَة، وقَد بَيَّنَّا هَذا مِنْ قَبل، وظَاهِر هَذه الآيَة، وهو قَوله:(إِلَّا مَنْ تَابَ) يَدُلّ على هَذا لأنه قد سَبَق قَتْل النَّفْس

(2)

.

وفي تَفْسِير سُورَة الزُّمَر قال: وقَوله: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ظاهِر الْمَعْنَى. قال أهل التفسير: يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا إن شَاء.

ورُوي أنه لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية قال رجل: يا رسول الله، ومَن أشْرَك؟ فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ومَن أشْرَك؟ قال: إلَّا مَنْ أشْرَك

(3)

.

وذَكَر الثعلبي الْخِلاف في أسْبَاب النُّزُول، فذَكَر مَا قَاله الكَلبي: نَزَلَتْ في الْمُشْرِكِين، وَحْشِيّ بن حَرب وأصْحَابه.

وقَول مُقاتِل: نَزَلَتْ هَذه الآيَة في اليَهُود: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فَمَشِيئتُه لأهْل التَّوحِيد.

(1)

وعند من يقول بهذا القول أن آية "الزمر" مدنيَّة، كما سيأتي نقله عن ابن عطية.

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (4/ 33) باختصار.

(3)

المرجع السابق (4/ 476). والمعنى: إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن شاء، إلا من أشرك إلا أن يتوب من شركه.

ص: 368

وقَول ابن عمر: نَزَلَتْ في الْمُؤمِنِين، وذَلك أنه لَمَّا نَزَلَتْ:(يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآيَة. قَام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَر فَتلاهَا على النَّاس، فَقَام إليه رَجُل فَقَال: والشِّرْك بالله. فَسَكَتْ، ثم قَام إليه مَرتين أو ثَلاثا، فَنَزَلَتْ:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. فأُثْبِتَتْ هَذه في "الزُّمر" وهذه في "النساء"

(1)

.

وفي آية "النِّسَاء" الثَّانِيَة أوْرَد الثعلبي مَا قاله الضحاك في سَبَب النُّزُول، إلَّا أنّه جَعَلَه مِنْ قَول ابن عباس.

واسْتَدَلّ بالآية على فَسَاد قَوْل الْخَوَارِج حِين زَعَمُوا أنَّ مُرْتَكِب الكَبِيرة كَافِر.

وذلك قَوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فَفَرَّق بَيْن الشِّرْك وسَائر الذُّنُوب، وحَتَّم على نَفْسِه بِأن لا يَغْفِر الشِّرْك. [و]

(2)

لو كَان الكَبِيرَة كُفْرًا لَكَان قَوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) مُسْتَوعِبا. فَلَمَّا فَرَّق بَيْن الشِّرْك وسَائر الذُّنُوب بَانَ فَسَاد قَوْلهم

(3)

.

وفي تَفْسِير سُورة الفرقان أسْنَد الثعلبي عن ابن عباس مَا جَاء في سَبَب نُزُول الآيَة، وذلك أنَّ نَاسًا مِنْ أهْل الشِّرْك كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فأكْثَرُوا، وزَنَوا فَأكْثَرُوا - ثم ذَكَرَه - وأشَار بِصِيغَة تَمْرِيض إلى كَونها نَزَلَتْ في شَأن وَحْشِي.

كَمَا أسْنَد إلى ابن عباس أنّها مَنْسُوخَة، ورَجَّح كَونها مُحْكَمَة

(4)

.

وفي آية "الزمر" ذَكَر أيضًا أسْبَاب النُّزُول، وذكَر الْخِلاف في الْمَعْنِيِّين بالآيَة، فَذَكَر مَا ذَكَره ابن جرير مِنْ قَبْل

(5)

.

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (324، 325). وهذه الأسباب ضعيفة، لضعف الكلبي ومُقاتِل، وضعف ما ورد عن ابن عمر.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

المرجع السابق (3/ 386).

(4)

انظر: المرجع السابق (7/ 149).

(5)

انظر: المرجع السابق (8/ 241، 242).

ص: 369

وأمَّا الزمخشري فَجَرى على أصُولِه! وتَكَلَّف تَأوِيل الآيَة، حَيث قَال: فإن قُلْتَ: قد ثَبَتَ أنَّ الله عز وجل يَغْفِر الشِّرْك لِمَنْ تَاب مِنه، وأنه لا يَغْفِر مَا دُون الشِّرْك مِنْ الكَبَائر إلَّا بِالتَّوبَة. فما وَجْه قَول الله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؟

قُلْتُ الوَجْه: أن يَكُون الفِعْل الْمَنْفِي والْمُثْبَت جَمِيعًا مُوَجَّهِين إلى قَوله تَعالى: (لِمَنْ يَشَاءُ). كَأنه قِيل: إنَّ الله لا يَغْفِر لِمَنْ يَشَاء الشِّرْك، ويَغْفِر لِمَنْ يَشَاء مَا دُون الشِّرْك، على أنَّ الْمُرَاد بالأوَّل مَنْ لَم يَتُب، وبِالثَّاني مَنْ تَاب

(1)

.

ويَرى أنَّ آيَة "النِّسَاء" الثَّانِية تِكْرَار للتَّأكِيد

(2)

.

وقيَّد الزمخشري الْمَغْفِرَة في آيَة "الزمر" بِالتَّوْبَة، فَقَال:(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) يَعني: بِشَرْط التَّوْبَة

(3)

.

وقد تعقّب ابنُ عطية قَول الْمُعْتَزِلَة هَذا، فَقَال: فإن قَالَتِ الْمُعْتَزِلَة: (لِمَنْ يَشَاءُ) يَعْنِي التَّائِبين. رُدّ عليهم بأنَّ الفَائدَة في التَّفْصِيل كَانَتْ تَنْفَسِد، إذْ الشِّرْك أيضًا يُغْفَر للتَّائب، وهَذا قَاطِع بِحُكم قَوله:(لِمَنْ يَشَاءُ)، بأنَّ ثَمَّ مَغْفُورًا لَه وغَير مَغْفُور، واسْتَقَام الْمَذْهَب السُّنِّي

(4)

.

وقال في مَوضِع آخِر: ورَامَتِ الْمُعْتَزِلَة أنْ تَرُدّ هَذه الآيَة إلى قَوْلِها، بِأن قَالُوا: مَنْ يَشَاء هو التَّائب، ومَا أرَادُوه فَاسِد؛ لأنَّ فَائدة التَّقْسِيم في الآيَة كَانَتْ تَبْطُل إذْ التَّائب مِنْ الشِّرْك يُغْفَر لَه

(5)

.

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 140). وقد تعقبه ابن المنيّر، وسيأتي ذلك في "رأي الباحث".

(2)

المرجع السابق (ص 260).

(3)

المرجع السابق (ص 944). وبنحوه قال ابن كثير (4/ 110)، وسيأتي قوله.

(4)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 15).

(5)

المرجع السابق (2/ 64).

ص: 370

واخْتَار ابن عطية أنَّ آيَة "النِّسَاء" الأُولى في مَسْأَلَة الوَعْد والوَعِيد، وتَلْخِيص الكَلام فِيهَا أن يُقَال: النَّاس أرْبَعَة أصْنَاف:

كَافِر مَاتَ عَلى كُفْرِه؛ فَهَذا مُخَلَّد في النَّار بِإجْمَاع.

ومُؤمِن مُحْسِن لم يُذْنِب قَط، ومَاتَ على ذلك؛ فَهذا في الْجَنَّة مَحْتُوم عليه حَسَب الْخَبَر مِنْ الله تعالى بِإجْمَاع.

وتَائب مَاتَ على تَوْبَتِه، فَهو عِنْد أهْل السُّنَّة وجُمْهُور فُقَهَاء الأُمَّة لاحِقٌ بالْمُؤمِن الْمُحْسِن إلَّا أنَّ قَانون الْمُتَكَلِّمِين أنه في الْمَشِيئَة.

ومُذْنِب مَاتَ قَبْل تَوْبَتِه؛ فَهَذا مَوْضِع الْخِلاف.

ثم حَكَى الْخِلاف بَيْن الفِرَق في هذا الْمُعْتَرَك

(1)

.

وقال في الفَصْل في هَذه الْمَسْألَة: وهَذه الآيَة

(2)

هي الْحَاكِمَة بِبَيَان مَا تَعَارَض مِنْ آيَات الوَعْد والوَعِيد، وقَوله:(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)[الجن: 23]، فَلا بُدّ أن نَقُول: إنَّ آيَات الوَعْد لَفْظُها لَفْظ عُمُوم والْمُرَاد بِهَا الْخُصُوص في الْمُؤمِن الْمُحْسِن وفي التَّائب، وفِيمَن سَبَق في عِلْمِه تَعَالى العَفْو عَنه دُون تَعْذِيب مِنْ العُصَاة، وأنَّ آيَات الوَعِيد لَفْظُها عُمُوم والْمُرَاد بِهَا الْخُصُوص في الكَفَرَة، وفِيمَن سَبَق في عِلْمِه تَعالى أنّه يُعَذِّبُه مِنْ العُصَاة، وتَحْكُم بِقَولِنا هَذه الآيَة النَّصّ في مَوْضِع النِّزَاع، وهي قَوله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فَإنّهَا جَلَتِ الشَّك، ورَدَّت على الطَّائفَتَين الْمُرْجِئَة والْمُعْتَزِلَة، وذَلك أنَّ قَوله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فَصْل مُجْمَع عَليه، وقَوله:(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) فَصْل قَاطِع بِالْمُعْتَزِلَة، رَادّ عَلى قَوْلِهم رَدًّا لا مَحِيدَ عنه، ولَو وَقَفْنَا في هَذا الْمَوْضِع مِنْ الكَلام لَصَحّ قَوْل الْمُرْجِئَة، فَجَاء قَوله:(لِمَنْ يَشَاءُ) رَادًّا

(1)

انظر: المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 64).

(2)

أي آية "النساء" الأُولى في هذا الموضع، وهي الآية الـ (48).

ص: 371

عَليهم مُوجِبًا أنّ غُفْرَان مَا دُون الشِّرْك إنّمَا هُو لِقَوْم دُون قَوْم، بِخِلاف مَا زَعَمُوه مِنْ أنه مَغْفُور لِكُلّ مُؤمِن

(1)

.

وقَال في آيَة "الفرقان": (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا): لا خِلاف بَيْن العُلَمَاء أنَّ الاسْتِثْنَاء عَامِل في الكَافِر والزَّانِي، واخْتَلَفُوا في القَاتِل مِنْ الْمُسْلِمِين؛ فَقَال جُمْهُور العُلَمَاء: لَه التَّوْبَة.

وَجَعَلَتْ هَذه الفِرْقَة قَاعِدَتها قَوله تَعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)، فَجَعِل القَاتِل في الْمَشِيئَة كَسَائر التَّائبين مِنْ الذُّنُوب، ويَتَأوَّلُون الْخُلُود الذي في آيَة القَتْل في سُورة النِّسَاء بِمَعْنَى الدَّوَام إلى مُدَّة، كَخُلْدِ الدُّول ونَحوه

(2)

، ورَوى أبو هريرة في أنَّ التَّوبَة لِمَنْ قَتَلَ، حَدِيثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ثم ذَكَر الْخِلاف في ذلك

(4)

.

ونَصّ في أوَّل تَفْسِير سُورة الزّمر على أنَّ "السُّورَة مَكِيَّة بإِجْمَاع غَير ثَلاث آيَات نَزَلَتْ في شَأن وَحْشِي قَاتِل حَمْزَة بن عبد المطلب: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآيَات

وقِيل: فِيها مَدَنِيّ سَبْع آيَات"

(5)

.

ويَرى ابن عطية عُمُوم آية "الزمر"، فإنه قَال فيها:

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 64).

(2)

قال ابن القيم (شفاء العليل - ص 257): مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، بل الخلود هو المكث الطّويل، كقولهم: قيد مُخلّد. وتأبيد كل شيء بحسبه، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا.

(3)

لعلّه يقصد قوله صلى الله عليه وسلم: يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنّة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيُستشهَد. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وسبق تخريجه. وروى البخاري (ح 3283)، ومسلم (ح 2766) من حديث أبي سعيد مرفوعًا قصة قاتل المائة نفس، وقد قبل الله توبته. وقد تقدم.

(4)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 221).

(5)

المرجع السابق (4/ 517).

ص: 372

هَذه الآيَة عَامَّة في جَمِيع النَّاس إلى يَوم القِيَامَة في كَافِر ومُؤمِن، أي: أنَّ تَوْبَة الكَافِر تَمْحُو ذُنُوبَه، وتَوْبَة العَاصِي تَمْحُو ذَنْبَه

(1)

.

واخْتُلِف: هَلْ يَكُون في الْمَشِيئَة أوْ هُو مَغْفُور لَه ولا بُدّ؟

فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْ أهْل السُّنَّة: هو مَغْفُور لَه ولا بُدّ، وهذا مُقْتَضَى ظَوَاهِر القُرْآن وقَالت فِرْقَة: التَّائب في الْمَشِيئَة، لكِن يُغَلَّب الرَّجَاء في نَاحِيَتِه، والعَاصِي في الْمَشِيئَة، لكن يُغَلَّب الْخَوْف في نَاحِيَتِه

(2)

.

ثم ذَكَر سَبَب نُزُول الآيَة.

واخْتَار "الرَّازي" أنَّ آيَة "النِّسَاء" الأُولَى نَزَلتْ في اليَهُود، وقَال: هَذِه الآيَة دَالَّة على أنَّ اليَهُودِي يُسَمَّى مُشْرِكًا في عُرْف الشَّرْع، ويَدُلّ عليه وَجْهَان:

الأوَّل: أنَّ الآيَة دَالَّة على أنَّ مَا سِوى الشِّرْك مَغْفُور، فلو كَانَتْ اليَهُودِيَّة مُغَايِرَة للشِّرْك لَوَجَب أن تَكون مَغْفُورَة بِحُكْم هَذه الآيَة، وبالإجْمَاع هي غَير مَغْفُورَة، فَدَلّ على أنّها دَاخِلَة تَحْت اسْم الشِّرْك.

الثَّاني: أنَّ اتِّصَال هَذه الآيَة بِمَا قَبْلَها إنّمَا كَان لأنّهَا تَتَضَمَّن تَهْدِيد اليَهُود، فَلَولا أنَّ اليَهُوديَّة دَاخِلَة تَحْت اسْم الشِّرْك وإلَّا لَم يَكُنْ الأمْر كَذَلك.

فَقَد أعْمَل الرَّازي سِيَاق الآيَات، فاسْتَدَلّ بِمَا قَبْلَها وبِمَا بَعْدَها، حَيْث قَال في الآيَة التي بَعْدَها:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النساء: 49]: اعْلَم أنّه تَعالى لَمَّا هَدَّد اليَهُود بِقَولِه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فَعِنْد هَذا قَالُوا: لَسْنا مِنْ الْمُشْرِكِين بَلْ نَحْن خَوَاصّ الله تَعالى

(3)

.

فاعْتَبَر هَذه الْمَقُولَة مِنْ اليَهُود وأمْثَالها مِنْ التَّزْكِيَة.

(1)

وهذا ترجيح منه أن الآية محكمة لم تنسخ.

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 536، 537).

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (10/ 102).

ص: 373

ورَجَّح الرَّازي أنَّ "هَذه الآيَة مِنْ أقْوَى الدَّلائل لَنَا عَلى العَفْو عَنْ أصْحَاب الكَبَائر"

(1)

.

كَمَا رَدّ على الْمُعْتَزِلَة قَوْلَهم في هَذه الآيَة

(2)

، وضَعَّف قَوْل الزمخشري

(3)

.

ورَجَّح في آيَة "الفرقان" قَبُول التَّوْبَة مِمَّنْ تَاب

(4)

.

ويَرَى الرَّازي أنَّ آيَة "الزمر" مُخْتَصَّة بِالْمُؤمِنِين، فَقَال: احْتَجّ أصْحَابُنَا بِهَذِه الآيَة على أنه تَعالى يَعْفُو عن الكَبَائر، فَقَالُوا: إنّا بَيَّنَّا في هَذا الكِتَاب أنَّ عُرْف القُرْآن جَارٍ بِتَخْصِيص العِبَاد بِالْمُؤمِنِين، قَال تَعالى:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)[الفرقان: 63]، وقَال:(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)[الإنسان: 6]؛ ولأنَّ لَفْظ العِبَاد مَذْكُور في مَعْرِض التَّعْظِيم فَوَجَب أن لا يَقَع إلَّا على الْمُؤمِنِين.

إذا ثَبَتَ هذا ظَهَر أنَّ قَوله: (يَا عِبَادِيَ) مُخْتَصّ بِالْمُؤمِنِين

(5)

، ولأنَّ الْمُؤمِن هو الذي يَعْتَرِف بِكَونِه عَبْد الله، أمَّا الْمُشْرِكُون فَإنَّهم يُسَمُّون أنْفُسَهم بـ "عَبْد اللات والعُزَّى، وعَبْد الْمَسِيح" فَثَبَتَ أنَّ قَوله: (يَا عِبَادِيَ) لا يَلِيق إلَّا بِالْمُؤمِنِين.

إذا ثَبَت هَذا فَنَقُول: إنه تَعالى قَال: (الَّذِين أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، وهَذا عَامّ في حَقّ جَمِيع الْمُسْرِفِين.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (10/ 100).

(2)

المرجع السابق (10/ 101).

(3)

المرجع السابق (27/ 6).

(4)

المرجع السابق (24/ 98).

(5)

وهو متعقّب بما جاء في الصحيحين من سبب نزول آية "الفرقان"، وأنّها نزلت في شأن قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا. وأنها نزلت إعلامًا لهم أن لهم توبة. وآيات "الفرقان" فيها لفظ العباد.

ومن جهة ثانية أن لفظ "العبد" يطلق في القرآن ويراد به أحد معنيين: العُبُودِيَّة الخاصَّة، أو العُبُوديَّة العامّة؛ فمن الأول:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)[الكهف: 1]، ومِن الثاني:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَات والأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[مريم: 93].

ص: 374

ثم قَال تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، وهَذا يَقْتَضِي كَونه غَافِرًا لِجَمِيع الذُّنُوب الصَّادِرَة عن الْمُؤمِنِين، وذَلك هُو الْمَقْصُود.

ثم أطال الرّازي في مُنَاقَشَة مَغْفِرَة الذُّنُوب لِغَيْر التَّائب، وأنَّ ذلك حَاصِل إمَّا بِعَفْوٍ ابْتِدَاءًا، أوْ بَعْد تَطْهِيرٍ بِالنَّار

(1)

.

وحَكَى ابن جُزيّ الْخِلاف في سَبَب نُزُول آيَة "الزمر" على النَّحْو التَّالِي:

فَقِيل: نَزَلَتْ في وحْشِيّ قَاتِل حَمْزة.

وقِيل: نَزَلَتْ في قَوْم آمَنُوا ولَم يُهَاجِرُوا، فَفُتِنُوا فَافْتَتَنُوا، ثم نَدِمُوا وظَنُّوا أنّهم لا تَوْبَة لَهم.

وقِيل: نَزَلَتْ في قَوْم مِنْ أهْل الْجَاهِلِيَّة، قَالُوا: مَا يَنْفَعُنَا الإسْلام، لأنَّنَا قَدْ زَنَيْنَا وقَتَلْنَا النُّفُوس، فَنَزَلَتْ الآيَة فِيهم.

ثم قال ابن جُزيّ: ومَعْنَاهَا مَع ذلك على العُمُوم في جَمِيع النَّاس إلى يَوْم القِيَامَة

(2)

.

واخْتَار ابنُ كثير أنَّ مَعْنَى قَوله تَعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أي: لا يَغْفِر لِعَبْدٍ لَقِيَه وهو مُشْرِك به (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) أي: مِنْ الذُّنُوب (لِمَنْ يَشَاءُ) أي: مِنْ عِبَادِه.

واسْتَدَلّ عَلى هَذا بأحَادِيث، مِنها:

حَدِيث أبي ذر رضي الله عنه وفيه -: ثم إني سَمِعْتُه

(3)

وهو مُقْبِل وهو يَقُول: وإن زَنَى وإنْ سَرق. قال: فَلَمَّا جَاء لَم أصْبِر حتى قُلْتُ: يا نَبِي الله جَعَلَنِي الله فِدَاك مَنْ تُكلِّم في جَانِب الْحَرَّة، مَا سَمِعْتُ أحَدًا يَرْجِع إليك شَيئا؟ قال: ذاك جِبريل عَرَضَ لي مِنْ جَانِب الْحَرَّة، فَقال: بَشِّر أُمَّتَك أنه مَنْ مَات لا يُشْرِك بِالله شَيئًا دَخَلَ الْجَنَّة.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (27/ 3، 4).

(2)

التسهيل، مرجع سابق (3/ 197) باختصار.

(3)

يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 375

قُلْتُ: يا جِبْرِيل وإنْ سَرَق وإنْ زَنَى؟ قال: نعم. قُلْتُ: وإنْ سَرَق وإنْ زَنَى؟ قال: نَعَم. قُلْتُ: وإنْ سَرَق وإن زَنَى؟ قَال: نَعم، وإن شَرِبَ الْخَمْر. وعَزَاه ابن كثير إلى الصحيحين

(1)

.

وقال في شَأن آيَة "الزمر": وهَذِه الآيَة التي في سُورَة "تَنْزِيل" مَشْرُوطَة بِالتَّوبَة، فَمَنْ تَاب مِنْ أيِّ ذَنْب وإنْ تَكَرَّر مِنْه تَاب اللهُ عَليه، ولِهَذا قَال:(قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، أي: بِشَرْط التَّوْبَة، ولَو لَم يَكُنْ كَذَلك لَدَخَل الشِّرْك فِيه، ولا يَصِحّ ذلك؛ لأنه تَعالى قد حَكَم هَا هنا

(2)

بأنه لا يَغْفِر الشِّرْك، وحَكَم بأنه يَغْفِر مَا عَدَاه لِمَنْ يَشَاء، أي: وإنْ لَم يَتُب صَاحِبه، فَهَذِه أرْجَى مِنْ تِلك مِنْ هَذا الوَجْه. والله أعلم

(3)

.

وبَيَّن ابنُ كثير أنه لا تَعَارُض بَيْن آية "النساء" في القَتْل وبين آية "الفرقان" في قَبُول تَوْبَة القَاتِل، فَقَال:(إِلَّا مَنْ تَابَ) أي: في الدُّنْيا إلى الله عز وجل مِنْ جَمِيع ذَلك، فإنَّ الله يَتُوب عليه، وفي ذَلك دَلالة على صِحَّة تَوْبَة القَاتِل، ولا تَعَارُض بَيْن هَذِه وبَيْن آيَة "النساء"(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا) الآيَة. فإنّ هَذه وإنْ كَانت مَدَنِيَّة إلّا أنّهَا مُطْلَقَة فَتُحْمَل عَلى مَنْ لم يَتُب؛ لأنَّ هَذه مُقَيَّدَة بِالتَّوْبَة، ثم قد قَال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. قد ثَبَتَتِ السُّنَّة الصَّحِيحَة عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِصِحّة تَوْبَة القَاتِل، كَمَا ذَكَر مُقَرِّرًا

(4)

مِنْ قِصَّة الذي قَتَل مائة رَجل ثم تاب فَقَبِل الله تَوْبَتَه

(5)

، وغَيْر ذلك من الأحاديث

(6)

.

(1)

وهو مخرج فيهما. رواه البخاري (ح 6078)، ومسلم (ح 94).

(2)

أي في آية النساء.

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (4/ 110).

(4)

لأن القصة من شرع من قبلنا، وهو محل خلاف، إلا ما ورد في شرعنا على سبيل الإقرار والمدح. انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 169 وما بعدها).

(5)

رواها البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(6)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 326).

ص: 376

كَمَا يَرى ابن كثير أنَّ آية "الزمر" هي "دَعْوة لِجَميع العُصَاة مِنْ الكَفَرَة وغَيرهم إلى التَّوبَة والإنَابَة، وإخْبَار بأنَّ الله تبارك وتعالى يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ تَاب مِنْها ورَجَعَ عَنها، وإنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَت، وإن كَثُرَت وكَانت مِثل زَبَد البَحْر، ولا يَصِحّ حَمْل هَذه عَلى غَير تَوْبَة؛ لأنَّ الشِّرْك لا يُغْفَر لِمَنْ يَتُب مِنه".

ثم سَاق أحَادِيث في التَّوبَة، وقال: فَهَذِه الأحَادِيث كُلّها دَالّة علَى أنَّ الْمُرَاد أنه يَغْفِر جَمِيع ذَلك مَع التَّوبَة، ولا يَقْنَطَنّ عَبْد مِنْ رَحْمَة الله وإن عَظُمَتْ ذُنوبه وكَثُرَت، فإنَّ بَاب الرَّحْمَة والتَّوبَة واسِع

(1)

.

‌رأي الباحث:

آيَتَي "النِّسَاء" دَالة على أنَّ الله لا يَغْفِر الشِّرْك إلَّا أن يَتُب مِنه صَاحِبه، ويَغْفِر مَا دُون الشِّرْك مِنْ الْمَعَاصِي لِمَنْ شَاء، ولازِم هَذا مَا قَرَّرَه أهْل السُّنَّة مِنْ أنَّ مَنْ لَقِي الله مِنْ أهل الكبائر مِنْ غَير تَوْبَة فَهو تَحْت الْمَشِيئَة؛ إنْ شَاء الله عَفَا عَنه، وإنْ شَاء عَذَّبَه.

وأمَّا آية "الفرقان" فهي دَالّة عَلى قُبُول تَوْبَة مَنْ تَاب مِنْ شِرْك وزِنا وقَتْل نَفْسٍ مَعْصُومَة - على خِلاف في الأخِيرة - والأكثر على قَبُول تَوْبة التَّائب مِنْ جَمِيع الذُّنُوب وهَذا مَا دَلَّتْ عَليه آية "الزمر".

وهو مَا صَرَّحَت بِه الأحَادِيث والآثَار.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا مُجَادَلة أحَدِكُم في الْحَقّ يَكُون لَه في الدُّنيا بأشَدّ مُجَادَلة مِنْ الْمُؤمِنِين لِرَبِّهم في إخْوانِهِم الذين أُدْخِلوا النَّار. قَال: يَقُولُون: رَبَّنَا إخْوانُنا كَانُوا يُصَلُّون مَعَنا، ويَصُومُون مَعَنا، ويَحُجُّون مَعَنا، فأدْخَلْتَهم النَّار. قَال: فَيَقُول: اذْهَبُوا فأخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُم منهم. قال: فيأتونهم فَيَعْرِفُونهم بِصُوَرِهم، فَمِنْهُم مَنْ أخَذَتْه النَّار إلى أنْصَاف سَاقَيه، ومِنْهُم مَنْ أخَذَتْه إلى كَعْبَيه؛ فيُخْرِجُونَهم. فَيَقُولُون: رَبَّنَا قَدْ أخْرَجْنَا مَنْ أمَرْتَنا

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (12/ 139، 140).

ص: 377

قال: ويَقُول: أخْرِجُوا مَنْ كَان في قَلْبِه وَزْن دِينَار مِنْ الإيمان، ثم قال: مَنْ كَان في قَلْبِه وَزْن نِصْف دِينَار، حَتى يَقُول: مَنْ كان في قَلبه وَزْن ذَرَّة. قال أبو سعيد: فَمَنْ لَم يُصَدِّق فَلْيَقْرَأ هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) إلى: (عَظِيمًا)

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة إخْرَاج أهْل الإيمان مِنْ النَّار، ويُعْرَفُون بآثَار السُّجُود

(2)

.

وأمَّا قَوله صلى الله عليه وسلم حِكاية عن جِبريل عليه الصلاة والسلام: "بَشِّر أُمّتك أنه مَنْ مَات لا يُشْرِك بِالله شَيئا دَخَل الْجَنَّة". فَمَعْنَاه: أنه يَدخُل الْجَنَّة وإنْ طُهِّر، "وليس فِيه مَا يَنْفِي أنه يُعَذّب قَبل ذَلك، كَمَا أنه ليس في الآيَة ما يَنْفِي أنه قد يَدْخُل الْجَنَّة بَعْد التَّعْذِيب عَلى مَعْصِيَة الزِّنَا"

(3)

.

قال النووي: وأمَّا حُكْمُه صلى الله عليه وسلم على مَنْ مَات يُشْرِك بِدُخُول النَّار، ومَن مَات غَير مُشْرِك بِدُخُولِه الْجَنَّة؛ فَقد أجْمَع عليه الْمُسْلِمُون، فأمَّا دُخُول الْمُشْرِك النَّار فهو على عُمُومه فَيَدْخُلها ويُخَلّد فِيها، ولا فَرْق فِيه بَيْن الكِتَابِي اليَهُودِي والنَّصْرَاني، وبَيْن عَبَدَة الأوْثَان وسَائر الكَفَرَة، ولا فَرْق عِند أهْل الْحَقّ بَيْن الكَافِر عِنَادًا وغَيره، ولا بَيْن مَنْ خَالَف مِلَّة الإسْلام وبَيْن مَنْ انْتَسَب إلَيها، ثم حُكِم بِكُفْرِه بجَحْده مَا يَكْفُر بِجَحْدِه وغَير ذلك، وأمَّا دُخُول مَنْ مَات غَير مُشْرِك الْجَنَّة فهو مَقْطُوع لَه بِه، لكِن إنْ لَم يَكُنْ صَاحِب كَبِيرَة مَات مُصِرًّا عَليها دَخَل الْجَنَّة أوَّلًا، وإنْ كان صَاحِب كَبِيرَة مَات مُصِرًّا عليها فَهو تَحْت الْمَشِيئَة، فإنْ عَفَا عنه دَخَل أوَّلًا، وإلَّا عُذِّب ثم أُخْرِج مِنْ النَّار، وخُلِّد في الْجَنَّة. والله أعلم

(4)

.

(1)

رواه أحمد (ح 11898)، والنسائي (ح 5010)، وابن ماجه (ح 60)، وقال مُحقّقو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(2)

رواه البخاري (ح 773)، ومسلم (ح 182).

(3)

قَاله العيني في عُمْدة القَاري (23/ 50).

(4)

المنهاج، مرجع سابق (2/ 97).

ص: 378

ونَقَل ابن القيم عن الْجُمْهُور أن "التَّوْبَة تأتِي على كُلّ ذَنْب، فَكُلّ ذَنْب يُمكن التَّوْبَة مِنه وتُقْبَل"

(1)

.

وأمَّا ما تَكَلَّفه الزَّمخشري في الآيَات بِنَاء على أصُول مَذْهَبِه، فَقَد تَعَقَّبَه ابنُ الْمُنيِّر بأن "عَقِيدَة أهْل السُّنَّة: أنَّ الشِّرك غير مَغْفُور البَتَّة، ومَا دُونَه مِنْ الكَبَائر مَغْفُور لِمَنْ يَشَاء الله أن يَغْفِرَ لَه، وهَذا مَع عَدَم التَّوبَة، وأمَّا مَع التَّوبة فَكِلاهما مَغْفُور"

(2)

.

ثم هو مُتعقّب بأنه لا يَبْقَى مَعْنَى للمَغْفِرَة إذا قُيِّدَتْ بالتَّوبَة، ومِن جِهَة أُخْرَى فإنه - بِنَاء عَلى هَذا القَوْل - يَتَحَتَّم أنَّ كُل مُذْنِب مُعَاقَب. وهذا بِخِلاف أصُول أهْل السُّنَّة.

‌المثال الخامس:

الاسْتِغْفَار بَيْن القَبُول والرَّدّ:

قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 110] مَع قَوله تَعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)[التوبة: 80].

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى يُفْهَم مِنها أنَّ كُلَّ مَنْ عَمِل سُوءًا أوْ ظَلَم نَفْسَه ثم اسْتَغْفَر الله غَفَرَ لَه، بَينَمَا أفَادَتِ الآيَة الثَّانِية أنَّ اسْتِغْفَاره صلى الله عليه وسلم للمُنَافِقِين لا يَكُون سَبَبًا في مَغْفِرَة الله لهم.

‌جمع القرطبي:

في الْمَوْضِع الأوَّل قال القرطبي: قال ابن عباس: عَرَض الله التَّوبَة على بَنِي

(1)

مدارج السالكين، مرجع سابق (1/ 678).

(2)

حاشية الكشّاف (ص 140).

ص: 379

أُبَيْرِق

(1)

بِهَذه الآيَة، أي:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) بأن يَسْرِق (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بأن يُشْرِك (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) يَعْني بالتَّوبة، فإنَّ الاسْتِغْفَار باللسَان مِنْ غير تَوبة لا يَنْفَع. وقد بيناه في آل عمران

(2)

.

وقال الضحاك: نَزَلَتْ الآية في شَأن وَحْشي قاتِل حمزة؛ أشْرك بالله، وقَتل حمزة، ثم جَاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني لَنَادِم، فَهَلْ لي مِنْ تَوبة؟ فَنَزَل (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية.

وقِيل: الْمُرَاد بِهَذِه الآيَة العُمُوم والشُّمُول لِجَمِيع الْخَلْق.

ورَوى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعَلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود: مَنْ قَرأ هَاتين الآيَتَين مِنْ سُورة النِّساء ثم اسْتَغْفَر غُفِرَ له: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء: 64].

ورُوي

(3)

عن علي رضي الله عنه أنه قال: كُنْت إذا سَمِعْتُ حَدِيثًا مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَعني الله بِه مَا شَاء، وإذا سَمِعْتُه مِنْ غَيره حَلَّفْته، وحَدَّثني أبو

(1)

سبق ذكر قصتهم عند تفسيره للآيات قبلها، وستأتي الإشارة إلى قصتهم لاحقًا في عرض أقوال ابن جرير.

(2)

في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135]. انظر: (4/ 207).

(3)

تصديره بهذه الصيغة مُشْعِر بضعف الحديث، وتصدير ما صح من الحديث بهذه الصيغة مُنتَقَد لدى أهل الحديث.

قال النووي في المجموع شرح المهذب (1/ 316): ويُنكَر على المصنف قوله: رُوي بصيغة تمريض في حديث حسن.

والحديث الذي أورده القرطبي رواه أحمد (ح 47) وقال مُحققو المسند: إسناده صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي (ح 1)، وأبو داود السجستاني (ح 1521)، والترمذي (ح 406)، والنسائي في الكبرى (ح 10250)، وابن ماجه (ح 1395) دون الآية، والطبري في التفسير (4/ 96)، وأبو يعلى في المسند (ح 1).

ص: 380

بكر - وصَدَق أبو بكر - قال

(1)

: مَا مِنْ عَبد يُذْنِب ذَنْبًا ثم يَتَوضَّأ ويُصَلِّي رَكْعَتَين ويَسْتَغْفِر الله إلَّا غَفَر الله له، ثم تَلا هَذه الآيَة:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)

(2)

.

وفي الْمَوْضِع الثَّاني أحَال القُرطبي على تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا)[التوبة: 84].

وفيه قال: رُوي

(3)

أنَّ هَذه الآيَة نَزَلَتْ في شَأن عبد الله بن أبي بن سلول وصَلاة النبي صلى الله عليه وسلم عَليه؛ ثَبت ذلك في الصحيحين

(4)

وغيرهما، وتَظَاهَرَت الرِّوَايات بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَلّى عليه، وأنَّ الآية نَزَلَتْ بَعد ذلك.

ورُوي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَقَدَّم لِيُصَلّي عليه جَاءه جِبريل فَجَبَذَ ثَوبه وتَلا عليه: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) الآيَة، فانْصَرَف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُصَلّ عليه

(5)

.

والرِّوايَات الثَّابِتة على خِلاف هذا؛ ففي البخاري

(6)

عن ابن عباس قال: فَصَلَّى عليه

(7)

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انْصَرَف فلم يَمْكُث إلَّا يَسِيرًا حتى نَزَلَت الآيَتان

(8)

مِنْ بَراءة: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ

(1)

الحديث مرفوع. وجاء التصريح في الروايات المذكورة بأن أبا بكر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 361).

(3)

سبق أن هذه الصيغة غير مرضية لما صح من الأحاديث. كيف والحديث في الصحيحين؟

(4)

رواه البخاري (ح 4393)، ومسلم (ح 2400).

(5)

رواه أبو يعلى (ح 4112) وفي إسناده: يزيد الرقاشي، وهو ضعيف كما في التقريب (ترجمة 7733).

قال الهيثمي في المجَمَع (3/ 42): رواه أبو يعلى، وفيه يزيد الرقاشي، وفيه كلام، وقد وُثّق.

(6)

(ح 1300) وهو من حديث عمر رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما يروي الحديث عن عمر.

(7)

أي علي بن أُبيّ.

(8)

في البخاري: إلى (فَاسِقُونَ) وهي آية واحدة وليست آيتان، وفي حديث ابن عمر - الآتي تخريجه -: فأنزل الله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).

ص: 381

أَبَدًا). ونحوه عن ابن عمر خَرّجه مسلم

(1)

، قال ابن عمر: لَمَّا تُوفي عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول جَاء ابْنه عَبد الله إلى رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَأله أن يُعْطِيه قَمِيصَه يُكَفِّن فيه أبَاه، فأعْطَاه، ثم سَأله أن يُصَلّي عليه، فَقَام رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُصَلّي عليه فَقام عُمر وأخَذ بِثَوب رَسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقال: يا رسول الله أتُصَلّي عليه وقد نَهَاك الله أن تُصَلّي عَليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّمَا خَيّرَنِي الله تعالى، فَقال:(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، وسَأزِيد على سَبْعِين. قال: إنه مُنَافِق، فَصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنْزَل الله عز وجل:(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، فَتَرَك الصَّلاة عَليهم.

وقال بَعض العلماء: إنّمَا صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أُبَيّ بِناء على الظَّاهِر مِنْ لَفظ إسْلامِه، ثم لَم يَكُنْ يَفْعَل ذَلك لَمَّا نُهِي عَنه.

ثم أوْرَد القرطبي سؤالًا قال فيه:

إن قال قائل: فَكيف قال عُمر أتُصَلّى عليه، وقد نَهَاك الله أن تُصَلّى عليه؟ ولم يكن تَقَدّم نَهْي عن الصلاة عليهم؟

قيل له: يُحْتَمل أن يَكُون ذلك وَقَع له في خَاطِرِه، ويَكُون مِنْ قَبِيل الإلْهَام والتَّحَدُّث الذي شَهِدَ له به النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، وقد كان القرآن يَنْزِل على مُرَاده، كَما قال: وَافَقْتُ ربي في ثلاث

(3)

وجاء: في أرْبع

(4)

. فيَكُون هذا مِنْ ذلك

(5)

.

(1)

بل هو مُخرَج في الصحيحين: رواه البخاري (ح 4393)، ومسلم (ح 2400).

(2)

في قوله عليه الصلاة والسلام: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب. رواه البخاري (ح 3282) من حديث أبي هريرة، ومسلم (ح 2893) من حديث عائشة.

(3)

رواه البخاري (ح 393)، ومسلم (ح 2399).

(4)

عَزاها السيوطي في الدرّ المنثور (6/ 94) إلى: الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.

(5)

ويُسْتَروح هذا من صنيع الإمام مسلم، فإنه أورد قول عمر "وافقت ربي" في كتاب الفضائل، ثم أورد عقبه قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابن أبي وموقف عمر من ذلك.

ص: 382

ويُحْتَمل أن يَكُون فَهِم ذَلك مِنْ قَوله تَعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآيَة، لا أنه كان تَقَدّم نَهْي على مَا دَلّ عليه حَديث البخاري ومسلم، والله أعلم.

قلت: ويُحْتَمل أن يَكُون فَهِمَه مِنْ قَوله تَعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 113]

(1)

؛ لأنّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّة

(2)

.

وفي قَوله تَعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 146] قال القرطبي: اسْتِثْنَاء مِمَّنْ نَافَق، ومِن شَرْط التَّائب مِنْ النِّفَاق أن يُصْلِح في قَولِه وفِعْلِه، ويَعْتَصِم بِالله، أي: يَجْعَله مَلْجأ ومَعَاذًا، ويُخْلِص دِينه لله، كما نَصَّتْ عليه هذه الآية

(3)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ الآيَة الأُولى نَزَلتْ في شَأن بني أُبيرِق. أوْ أنها نَزَلتْ في شَأن وَحْشِيّ.

2 -

الْمُرَاد بِهَذِه الآيَة العُمُوم، وأنّهَا تَشْمَل جَمِيع الْخَلْق.

3 -

أنه مَا مِنْ عَبْد يُذْنِب ثم يَسْتَغْفِر الله صَادِقًا مِنْ قَلْبِه إلَّا غَفَر الله له، وهو بِمعنى السَّابق مِنْ حَيث العُمُوم والشُّمُول.

4 -

والآيَة الثَّانية - آيَة التَّوبة - خَاصَّة بِمَنْ مَات على النِّفَاق، فإنه جَعَل تفسير الآية مُرْتَبطًا بقَوله تَعالى:(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا).

(1)

وعلى ذلك يُحمَل قول عمر رضي الله عنه: أتُصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ لأن عمر يرى أن ابن أبي من جملة الكفار. وكان عمر رضي الله عنه كثيرًا ما يقول: دعني أضرب عنق هذا المنافق. قالها في غير واقعة. وفي هذه الواقعة قال عمر: يا نبي الله أتصلي على عدو الله؟ رواه ابن حبان (ح 3176 إحسان)، وابن حزم في المحلى (11/ 209) وذكر الرازي في التفسير الكبير (16/ 117) أن عمر رضي الله عنه قال لابن أبي بعد أُحُد: اجْلِس يا عدو الله! فقد ظَهَر كُفْرُك.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 199 - 201).

(3)

المرجع السابق (5/ 404).

ص: 383

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أَوْرَد ابنُ جرير مَا جَاء في سَبب نُزُول آيَة النِّساء، ومِن ذلك:

1 -

إنّهَا نَزَلَتْ في شأن اتِّهَام يَهُودِي بالسَّرِقَة، ومَا سَرَق، وإنّمَا اتُّهِم بِهَا.

قال ابن جرير: كان رَجل سَرَق دِرْعًا مِنْ حَدِيد في زَمَان النبي صلى الله عليه وسلم وطَرَحَه على يَهُودِي، فَقَال اليَهُودِي: والله مَا سَرَقْتُها يا أبا القَاسِم، ولكِن طُرِحَتْ عَليّ - فَذَكَر القِصَّة -

ثم قال في الذي رَمَى اليَهُودِي: ويُقَال: هو طُعْمَة بن أُبَيْرِق

(1)

.

2 -

إنها نَزَلتْ في شأن مَنْ جَحَد ودِيعة كان أُودِعَها، وهي دِرْع أوْ غيره.

وعلى أيّ مِنْ السَّبَبين يَرى ابنُ جرير أنَّ الآية نَزَلتْ في عَرْض التَّوبَة على مَنْ فَعَل ذلك، سَواء مَنْ رَمى يَهُودِيًا بالسَّرِقة، أوْ مَنْ جَحَد ودِيعَة أُودِعَها.

وذَكَر أنَّ طُعمة بن أُبيرِق لَحِقَ بِقُريش ورَجَع في دِينِه ثم عَدا على مَشْرَبة للحَجَّاج بن عِلاط البَهْري

فَنَقَبَها فَسَقَط عليه حَجَر فَلَحِج

(2)

. فَلَمَّا أصْبَح أخْرَجُوه مِنْ مَكة فَخَرج فَلَقِي رَكبا مِنْ بَهْرَاء من قُضَاعة، فَعَرَضَ لهم، فقال: ابنُ سَبيلٍ مُنْقَطَع به، فَحَمَلُوه حتى إذا جَنّ عليه الليل عَدا عليهم فَسَرَقَهم ثم انْطَلق، فَرَجَعُوا في طَلَبِه فأدْرَكُوه، فَقَذَفُوه بالْحِجَارَة حتى مَات.

وعَضَد ذلك بما نَقَله عن ابن جُريج مِنْ قَوله: فَهذه الآيَات كُلّها فِيه نَزَلَت إلى قَوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 116] أُنْزِلَتْ في طُعمة بن أُبِيرق، يَقولون: إنه رَمَى بالدرع في دار أبي مُلَيل بن عبد الله الخزرجي، فَلَمَّا نَزَل القُرآن لَحِقَ بِقُريش، فَكان مِنْ أمْرِه مَا كان.

(1)

والقصة رواها الترمذي (ح 3036) وضعف إسنادها، وكذا ضعفه محققو تفسير ابن كثير (4/ 262، 263).

(2)

أي لزم ذلك المكان، وفي اللسان (2/ 357): لحج السيف وغيره - بالكسر - يَلْحج لحجًا: أي نشب في الغِمّد فلم يَخرُج، مثل لَصِب.

ص: 384

وأَوْلى التَّأوِيلَين - عند ابن جرير - مَا دَلّ عليه ظَاهِر الآيَة، وهو: قَول مَنْ قَال: كَانت خِيانَته التي وَصَفه الله بِها في هَذه الآيَة جُحُوده مَا أُودِع؛ لأنَّ ذلك هو الْمَعْرُوف مِنْ مَعَاني الْخِيَانَات في كَلام العَرب، وتَوْجِيه تَأويل القُرْآن إلى الأشْهَر مِنْ مَعَاني كَلام العَرْب مَا وُجِد إليه سَبِيل أوْلى مِنْ غَيره

(1)

.

وأمَّا في قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) فَقال ابن جرير: يَعْنِي بِذَلك جَلّ ثناؤه: ومَن يَعمل ذَنْبا - وهو السُّوء - أوْ يَظْلِم نَفْسَه بإكْسَابه إيّاها مَا يَسْتَحِقّ بِه عُقُوبة الله. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) يَقُول: ثم يَتُوب إلى الله بِإنَابَتِه مِمَّا عَمِل مِنْ السُّوء وظَلَم نَفْسَه، ومُرَاجَعَتِه مَا يُحِبّه الله مِنْ الأعْمَال الصَّالِحَة التي تَمْحُو ذَنْبه وتُذْهِب جُرْمَه. (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) يقول: يَجِد ربه سَاتِرًا عليه ذَنبه بِصَفْحِه له عن عُقُوبَته جُرْمه، رَحِيمًا بِه.

ثم حَكَى الْخِلاف في الْمَعْنِيّ بالآيَة على قَولين:

الأوَّل: عُنِي بِهَا الذين وَصَفَهم الله بالْخِيَانَة بِقَولِه: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ)[النساء: 107].

الثاني: عُنِي بِهَا الذين يُجَادِلُون عن الْخَائِنين، الذين قال الله لهم:(هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النساء: 109].

والصَّواب مِنْ القَول في ذلك عند ابن جرير أنه عُنِي بِهَا كُلّ مَنْ عَمِل سُوءًا أو ظَلَم نَفْسَه، وإنْ كَانت نَزَلَتْ في أمْرِ الخائِنين والْمُجَادِلِين عَنهم، الذين ذَكَرَ الله أمْرَهَم في الآيَات قَبْلَها

(2)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 466 - 470) باختصار. وهذا في تفسير الآيات قبل آية النساء المقصودة، وإنما أوردته لتعلقه بها.

(2)

المرجع السابق (7/ 474، 475) باختصار.

ص: 385

وبيَّن ابن جرير أنَّ الْخِطَاب في آيَة التَّوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: يَقُول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ادْعُ الله لِهَؤلاء الْمُنَافِقِين الذين وَصَفَ صِفَاتِهم في هذه الآيَات بِالْمَغْفِرَة، أوْ لا تَدْعُ لَهُمْ بِهَا

(1)

.

وهذا كلام خَرَج مَخْرَج الأمْر، وتَأوِيله الْخَبَر، ومَعْنَاه: إنْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ يا محمد أوْ لم تَسْتَغْفِر لَهم فَلَنْ يَغْفِر الله لَهُمْ.

وقَوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) يقول: إن تَسْأل لَهُمْ أن تُسْتَر عليهم ذُنُوبهم بِالعَفْو مِنه لَهم عَنها، وتَرْك فَضِيحَتهم بِهَا، فلن يَسْتُر الله عَليهم، ولن يَعْفُو لَهُمْ عَنها، ولكنه يَفْضَحهم بِها على رُؤوس الأشْهَاد يَوم القِيَامَة.

ويُرْوى

(2)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نَزَلَتْ هذه الآية قال: لأزِيدَنّ في الاسْتِغْفَار لهم على سَبْعِين مَرَّة رَجَاءً مِنه أن يَغْفِر الله لَهم، فَنَزَلَتْ:(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)[المنافقون: 6]

(3)

.

وذَكَر السمرقندي الْمَقْصُود بِالْمُجَادَل عَنه في الآيَات قَبْلَ آية "النِّسَاء"، ثم ذَكَر قَول الضحاك في قَوله تَعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ): إنّهَا نَزَلتْ في شَأن وَحشي، وقَول الكلبي: نَزَلَتْ في شَأن طُعْمَة.

(1)

أي: بالمغفرة.

(2)

التعبير بهذه الصيغة سبق أنه غير مرضي عند أهل الحديث.

والحديث الذي ذكره: رواه البخاري (ح 4393)، ومسلم (ح 2400) بنحوه دون ذكر سبب نزول آية "المنافقون".

قال ابن المنير (حاشية الكشاف ص 443): وقد أنكر القاضي حديث الاستغفار، ولم يصححه، وتغالى قوم في قبوله حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة. ونقل القرطبي (8/ 200) عن القشيري قوله: ولم يثبت ما يروى أنه قال: "لأزيدن على السبعين". ثم تعقبه بقوله: وهذا خلاف ما ثبت في حديث ابن عمر.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (11/ 598، 599).

ص: 386

وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) بِسَرِقَةِ الدِّرْع. (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بِرَمْيِه غَيره وجُحُودِه (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) يَعني: يَتُوب إلى الله (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) مُتَجَاوِزًا (رَحِيمًا) لِمَنْ اتَّقَى الشِّرْك

(1)

.

كَمَا أوْرَد مَا جَاء عن عليّ رضي الله عنه مِنْ حديث أبي بكر رضي الله عنه وقد تَقَدَّم في أول هذا الْمَوْضِع -.

وبَيَّن السمرقندي في آية "التَّوبة" الْمَعْنَى الذي لَم يَغْفِر للمُنَافَقِين بِسَبَبِه، وذلك في الآيَة نَفْسها، وهو قَوله تَعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يَعْنِي في السِّرّ.

ونَقَل قَول قتادة ومجاهد: لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة قَال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزِيدَنَّ على سَبْعِين مَرَّة، فاسْتَغْفَر لَهم أكْثر مِنْ سَبْعِين مَرَّة لَعل الله يَغْفِر لَهُم، فأنْزَل الله تَعالى:(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)[المنافقون: 6]

(2)

. ثم قَال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 80] يَعْنِي الْمُنَافِقِين الذين كَفَرُوا بِالله ورَسُوله في السِّرّ، والله تَعالى لا يَهْدِيهم مَا دَامُوا ثَابِتِين على النِّفَاق

(3)

.

وصَدَّر السَّمعاني تَفسِير آيَة "النِّسَاء" بِقَولِه: عَرَض التَّوبَة على طُعْمَة وقَومه في هَذه الآيَة، وأمَرَهم بِالاسْتِغْفَار

(4)

.

وفي آَية "التوبة" أشَار إلى أنَّ الله "أرَاد بِه إثْبات اليَأس عن طَمَع الْمَغْفِرَة لَهم".

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 362).

(2)

الحديث مُخرَّج في الصحيحين، وسبق تخريجه قريبًا.

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 77) وقد أتى على أوَّل الآية وآخِرها في تفسيره هذا.

(4)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 476).

ص: 387

ورُوي عن الحسن البصري أنه رَوى عن النبي مُرْسَلا

(1)

أنه قال: والله لأزِيدَنَّ على السَّبْعِين، فأنْزَل الله عز وجل:(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)[المنافقون: 6]. وذِكْر عَدد السَّبْعِين للمُبَالَغَة في إثْبَات اليَأس

(2)

.

ويَرى الثعلبي أنَّ قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) مُسْتأنَف، ثم قال:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) يعني يَسْرِق الدِّرْع، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) برميه البريء في السرقة. يقال:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) أي: شركاً، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) يَعني بِمَا دُون الشِّرْك. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) أي: يَتُوب إلى الله (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا) مُتَجَاوِزًا (رَحِيمًا) بِه حِين قَبِلَ تَوبَته

(3)

.

وفي آيَة "التوبة" قال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يَعني لِهَؤلاء الْمُنَافِقِين (أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) لَفْظُه أمْر، ومَعْنَاه جَزَاء، تَقْدِيره: إن اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أوْ لم تَسْتَغْفِر لهم (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)

(4)

.

ويَقول الزمخشري: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) قَبِيحًا مُتَعَدّيًا يَسُوء بِه غَيره، كَمَا فَعَلَ طُعْمَة بِقَتَادَة

(5)

واليَهُودِي، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بِمَا يَخْتَصّ به كَالْحَلِف الكَاذِب.

وقِيل: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) مِنْ ذَنْب دُون الشِّرْك، (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بالشِّرْك. وهذا بَعْثٌ لِطُعْمَة على الاسْتِغْفَار والتَّوبة لِتَلْزَمه الْحُجَّة مَع العِلْم بِمَا يَكون مِنه، أوْ لِقَومِه لِمَا فَرَط

(1)

قال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شِبْه الرِّيح (تدريب الراوي، السيوطي 1/ 204).

(2)

تفسيره (2/ 332).

(3)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 383).

(4)

المرجع السابق (5/ 77).

(5)

المراد به: قتادة بن النعمان رضي الله عنه، كما في رواية الترمذي (ح 3036) وضعّف الترمذي إسناده، وكذا ضعفه مُحققو تفسير ابن كثير (4/ 262، 263).

ص: 388

مِنهم مِنْ نُصْرَتِه والذَّبّ

(1)

عنه

(2)

.

في حين اختصر الكلام في تفسير آية التوبة، واقْتَصَر على ذِكْر إشْكال وجَوابه

(3)

.

ويَربُط ابنُ عَطية بَيْن الآيَات فَيَقُول: ولَمَّا تَمَكَّن هَذا الوَعِيد

(4)

، وقَضَتِ العُقُول بأنْ لا مُجَادِل لله، ولا وَكِيل يَقُوم بأمُور العُصَاة عِنْده، عَقَّب ذلك هَذا الرَّجَاء العَظيم والْمَهَل

(5)

الْمُنْفَسِح

(6)

، بِقَوله تَعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) الآية.

وخَتَمَ تفسير آية "النساء" بِقوله: وهذه آيَة وَعْد بِشَرْط الْمَشِيئة عَلى مَا تَقْتَضِيه عَقِيدة أهْل السُّنة

(7)

، وفَضْل الله مَرْجُوّ، وهو الْمُسْتَعَان

(8)

.

في حين بيَّن الرَّازي أنَّ "الْمُرَاد بِالسُّوء: القَبِيح الذي يَسُوء بِه غَيره، كَما فَعَل طُعْمه مِنْ سَرِقَة الدِّرْع، ومِن رَمي اليَهُودي بالسَّرِقَة، والْمُرَاد بِظُلْم النَّفْس مَا يَخْتَصّ بِه الإنْسان، كَالْحَلِف الكَاذِب، وإنّمَا خَصّ مَا يَتَعَدّى إلى الغَير بِاسْمِ السُّوء، لأنَّ ذلك يَكُون في الأكْثر إيصَالًا للضَّرَر إلى الغَير، والضَّرَر سُوء حَاضِر، فأمَّا الذَّنْب الذي يَخُصّ الإنْسَان فذلك في الأكْثر لا يَكُون ضَرَرًا حَاضِرًا، لأنَّ الإنْسَان لا يُوصِل الضَّرَر إلى نَفْسِه.

واعْلَم أن هذه الآية دَالَّة على حُكْمَين:

(1)

في المطبوع: "والذنب عنه"، وهو خطأ.

(2)

الكشاف، مرجع سابق (ص 259).

(3)

انظر: المرجع السابق (ص 443).

(4)

يُشير إلى ما جاء قبل ذلك في الآيات.

(5)

في اللسان (11/ 634): المهَل والتَّمَهُّل: التقدم، وتَمَهَّل في الأمر: تَقدَّم فيه.

(6)

من الاتِّساع. انظر: لسان العرب (2/ 543).

(7)

قال النووي في المنهاج (2/ 45): أجمع العلماء رضي الله عنهم على قبول التوبة ما لم يُغرغِر.

وقال ابن المنير: قبول التوبة عند المعتزلة واجب على الله تعالى عقلًا، وعندنا واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان. نقله الزرقاني في شرح الموطأ (2/ 118) وتنظر تتمة كلامه ثم. وينظر لذلك: الفصل في الملل والنحل ابن حزم (4/ 51).

(8)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 111).

ص: 389

الأوَّل: أنَّ التَّوبة مَقْبُولَة عن جَمِيع الذُّنُوب، سَواء كَانت كُفْرًا، أوْ قَتْلًا عَمْدًا، أوْ غَصْبًا للأمْوَال؛ لأنَّ قَوله:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) عَمَّ الكُلّ.

الثَّاني: أنَّ ظَاهِر الآيَة يَقْتَضِي أنَّ مُجَرَّد الاسْتِغْفَار كَافٍ، وقال بعضهم: إنه مُقَيَّد بالتَّوبَة، لأنه لا يَنْفَع الاسْتِغْفَار مَع الإصْرَار"

(1)

.

وفي آية "التوبة" بَيَّن الرَّازي "أن اسْتِغْفَار الغَير للغَير لا يَنْفَعُه إذا كان ذلك الغَير مُصِرًّا على القُبْح والْمَعْصِيَة".

كَما بَيَّن أنَّ الْمُرَاد إزَالَة طَمَع الْمُنَافِقِين "في أن يَنْفَعهم اسْتِغْفَار الرَّسول عليه السلام

(2)

مع إصْرَارِهم على الكُفْر، ويُؤكّده أيضًا قَوله تَعالى:(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) والْمَعْنَى: أنَّ فِسْقَهم مَانِع مِنْ الْهِدَاية"

(3)

.

وأطَال ابن كثير في ذِكْر الرِّوَايات الوَارِدَة في سَبَب نُزُول الآيَات مِنْ سُورَة النِّسَاء قَبل قَوله تَعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)، وفي آيَة "النِّسَاء" المذكورة قال ابن كثير: يُخْبِر تَعَالى عَنْ كَرَمِه وجُودِه أنّ كُل مَنْ تَاب إليه تَاب عليه مِنْ أيِّ ذَنْب كَان

(4)

.

وبَيَّن أنَّ آيَة "التوبة" إخْبَار مِنْ الله تعالى لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم بأنَّ هَؤلاء الْمُنَافِقِين لَيْسُوا أهْلًا للاسْتِغْفَار، وأنه لو اسْتَغْفَر لهم سَبْعِين مَرَّة فلن يَغْفِر الله لهم

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (11/ 30).

(2)

كَرِه العلماء الاقتصار على السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الصلاة عليه؛ لأن الله تعالى قال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]. قال النووي: وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. [بواسطة: تدريب الراوي 2/ 74].

وينظر لذلك: التقييد والإيضاح، العراقي (ص 195، 196)، وفتح المغيث، السخاوي (2/ 184).

(3)

التفسير الكبير، مرجع سابق (16/ 117).

(4)

انظر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (4/ 266 - 269).

(5)

انظر: المرجع السابق (7/ 251 - 261).

ص: 390

‌رأي الباحث:

ليس بَيْن الآيات تَعَارُض، فآيَة "النِّسَاء" تَدُل على أنَّ مَنْ عَمِل سُوءًا أوْ ظَلَم نَفْسَه ثم اسْتَغْفَر الله غَفَر الله له، وهذا مُقَيَّد بِشَرْط التَّحَلل مِمَّنْ ظَلَمه إذا كَان ذلك السُّوء مِمَّا ألْحَق به الضَّرَر بِغَيره، لِما جَاء في صَرِيح السُّنَّة مِنْ مِثل قَوله عليه الصلاة والسلام: مَنْ كَانت له مَظْلَمَة لأحَد مِنْ عِرْضِه أو شيء فَلْيَتَحَلَّلْه مِنه اليَوم قَبْل أن لا يَكُون دِينَار ولا دِرْهم، إنْ كان له عمل صَالح أُخِذَ مِنه بِقَدْرِ مَظْلَمَتِه، وإنْ لَم تَكُنْ له حَسَنَات أُخِذَ مِنْ سَيئات صَاحِبه فَحُمِل عَليه

(1)

.

وآيَة "التوبة" تَدُلّ على أنَّ اسْتِغْفَار الْمُسْلِم للمُنَافِق أوْ للكَافِر لا يَنْفعه، ولذلك نُهي عن الاسْتِغْفَار للمُشْرِكِين ولو كَانُوا أُولي قُرْبى، وجَاء النَّهي عن الصلاة على الْمُنَافِقِين؛ لأنّها رَحْمَة وطَلَب شَفَاعَة.

وفي آيَة "التوبة" قَطْع أطْمَاع الْمُنَافِقِين أن يَنْفَعهم اسْتِغْفَار الْمُؤمِنِين، بل اسْتِغْفَار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم أقَامُوا على نِفَاقِهم، ومِن شَرْط الانْتِفَاع بالاسْتِغْفَار أن يَكُون صَاحِبُه صَادِقا في اسْتِغْفَارِه، غَيْر مُصِرّ على ذَنْبِه "قال عُلَمَاؤنا: الاسْتِغْفَار الْمَطْلُوب هو الذي يَحُلّ عَقْد الإصْرَار ويَثْبُت مَعْنَاه في الْجَنَان، لا التَّلَفُّظ باللسَان، فأمَّا مَنْ قَال بِلِسَانِه اسْتَغْفِر الله وقَلْبُه مُصِرّ على مَعْصِيَتِه فَاسْتِغْفَاره ذَلك يَحْتَاج إلى اسْتِغْفَار، وصَغِيرته لاحِقَة بِالكَبَائر، ورُوي عن الْحَسَن البَصْري أنه قال: اسْتِغْفَارُنا يَحْتَاج إلى اسْتِغْفَار"

(2)

.

وبِهذا تَجْتَمِع الآيَات. والله تعالى أعلم.

(1)

رواه البخاري (ح 2317).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 207، 208).

ص: 391

‌المبحث الثالث: الاحتكام إلى اللغة العربية وقواعدها لدفع التعارض المتوهم.

لَمَّا كَان القُرْآن الكَرِيم نَزَل بِلُغَة العَرَب، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 193 - 195]، كَان مِنْ شُرُوط الْمُفَسِّر أن يَكُون على دِرَاية باللغَة العَرَبية

(1)

.

روى عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن ابن عباس قولَه: تَفْسِير القُرآن على أرْبَعَة وُجُوه:

تَفْسِيرٌ تَعْلَمه العُلَمَاء، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُه العَرَب، وتَفْسِيرٌ لا يُعْذَر أحَد بِجَهَالَته - يَقول: مِنْ الْحَلال والْحَرَام - وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَم تَأويلَه إلَّا الله، مَنْ ادّعَى عِلْمه فهو كَاذِب

(2)

.

قال الزركشي: "وهذا تَقْسِيم صَحِيح. فأمَّا الذي تَعْرِفُه العَرَب فهو الذي يُرْجَع فيه إلى لِسَانِهم، وذلك شَأن اللغَة والإعْرَاب.

فأمَّا اللغَة فَعَلَى الْمُفَسِّر مَعْرِفَة مَعَانِيها ومُسَمَّيَات أسْمَائها"

(3)

.

ولَمَّا كَانت لُغَة العَرَب مِنْ مَصَادِر تَفْسِير القُرآن قال مالك بن أنس: لا أُوتي بِرَجُلٍ غير عالم بِلُغَاتِ العَرَب يُفَسِّر ذلك

(4)

إلَّا جَعَلْتُه نَكَالًا

(5)

.

إلَّا أنَّ القَول بِتَفْسِير القُرآن بِلُغة العَرَب لا بُدَّ له مِنْ قَيد، وهو أنْ يَجْرِي على أصُول الْمُفَسِّرِين، وأن لا يَكون نَتِيجَة مُسَارَعَة في تَفْسِير القُرآن بِظَاهِر العَرَبِيَّة.

(1)

يُنظر لذلك: البرهان في علوم القرآن، (2/ 160 - 172) ونقل عنه السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، مرجع سابق (4/ 182 وما بعدها).

(2)

تفسيره (1/ 6).

(3)

البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 165).

(4)

هكذا في شُعب الإيمان، وفي البرهان في علوم القرآن (2/ 160): يُفسِّر كتاب الله ..

(5)

رواه البيهقي في شُعب الإيمان (ح 2287)، وانظر: سير أعلام النبلاء، مرجع سابق (8/ 97).

ص: 392

"فَمَنْ لَم يُحْكِم ظَاهِر التَّفْسِير وبَادَر إلى اسْتِنْبَاط الْمَعَاني بِمُجَرَّد فَهْم العَرَبية كَثُر غَلَطُه، ودَخَل في زُمرَة مَنْ فَسَّر القُرآن بالرَّأي، والنَّقْل والسَّمَاع لا بُدّ لَه مِنه في ظَاهِر التَّفْسِير أوَّلًا لِيَتّقي به مَواضِع الغَلَط، ثم بعد ذلك يَتَّسِع الفَهْم والاسْتِنْبَاط"

(1)

.

وعلى هذا يُحْمَل مَا جَاء عن السَّلَف مِنْ كَرَاهة تَفْسِير القُرْآن بِمُقْتَضَى اللغَة

(2)

.

ويَرى القُرطبي أنَّ "بَلاغَة القُرآن في أعْلَى طَبَقَات الإحْسَان، وأرْفَع دَرَجَات الإيجَاز والبَيَان، بل تَجَاوَزَت حَدّ الإحْسَان والإجَادَة إلى حَيِّز الإرْباء والزِّيَادَة

(3)

.

وبِهَذه البَلاغَة والفَصَاحَة قامَتِ الْحُجَّة على العَرَب، إذْ كَانُوا أرْبَاب الفَصَاحَة، ومَظِنَّة الْمُعَارَضَة

فإنَّ الله سُبحانه إنما جَعَل مُعْجِزَات الأنْبياء عليهم السلام بالوَجْه الشَّهِير أبْرَع مَا يَكُون في زَمَان النَّبي الذي أرَاد إظْهَارَه

والفَصَاحَة في زَمَن محمد صلى الله عليه وسلم"

(4)

.

وقد اعْتَنى القرطبي بِمَبَاحِث اللغَة، واسْتَعَان بِها على دَرْء تَوَهُّم التَّعَارُض، ومِن ذلك:

‌المثال الأول:

العِزّة لله وحده:

قَوله تعالى: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139] وقَوله تعالى: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[يونس: 65] وقَوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10]، مع قَوله تعالى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون: 8].

(1)

مقدمة الجامع لأحكام القرآن (1/ 68).

(2)

يُنظر لذلك: البرهان في علوم القرآن، مرجع سابق (2/ 160).

(3)

مقدمة الجامع لأحكام القرآن (1/ 112).

(4)

المرجع السابق (1/ 113).

ص: 393

‌صورة التعارض:

الآيات الثَّلاث الأُوَل يُفهَم مِنها أنَّ العِزَّة لله وَحْدَه، وفي آيَة "الْمُنَافِقُون" التَّصْرِيح بأن العِزَّة لله ولِرَسوله صلى الله عليه وسلم وللمُؤمِنين.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "النساء": (الْعِزَّةُ) أي الغَلَبَة، عَزّه يَعُزُّه عَزًّا إذا غَلَبَه.

(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي الغَلَبَة والقُوَّة لله. قال ابن عباس: يَبْتَغُون عِندهم: يُريد عند بني قينقاع، فإن ابن أُبَيّ كَان يُوالِيهم

(1)

.

وفي آية "يونس" قال: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) أي: القوَّة الكَامِلَة، والغَلَبَة الشَّامِلَة، والقُدْرَة التَّامَّة لله وَحْده؛ فهو نَاصِرُك ومُعِينُك ومَانِعُك.

ولا يُعَارِض هذا قَوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فإنَّ كُل عِزَّة بِالله فَهي كُلها لله، قال الله سبحانه:(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الصافات: 180]

(2)

.

وقال في آية "فاطِر": (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا): التَّقْدِير عند الفرّاء: مَنْ كَان يُرِيد عِلْم العِزَّة. وكَذا قَال غَيره مِنْ أهْل العِلْم، أي: مَنْ كَان يُريد عِلْم العِزَّة التي لا ذِلَّة مَعها، لأنَّ العِزَّة إذا كَانت تُؤدي إلى ذِلة فإنما هي تَعَرُّض للذِّلَّة، والعِزَّة التي لا ذِل معها لله عز وجل.

وقَدّر الزجاج مَعناه: مَنْ كان يُريد بِعِبَادَته الله عز وجل العِزَّة، والعِزَّة له سبحانه؛ فإنَّ الله عز وجل يُعِزّه في الآخِرة والدّنيا.

قلت: وهذا أحْسن. ورُوي مَرفوعًا على ما يأتي.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 396).

(2)

المرجع السابق (8/ 321، 322).

ص: 394

(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) ظاهر هذا إيناس السَّامِعين مِنْ عِزَّته، وتَعْرِيفهم أنَّ ما وَجَب له مِنْ ذلك لا مَطْمَع فيه لِغَيره، فتَكُون الألف واللام للعَهد عند العالِمِين به سبحانه وبما وَجَب له مِنْ ذلك، وهو الْمَفْهُوم مِنْ قَوله الْحَقّ في سورة يونس:(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) ويُحْتَمَل أن يُريد سبحانه أن يُنَبّه ذَوي الأقْدَار والْهِمَم مَنْ أين تُنَال العِزَّة، ومِن أين تُسْتَحَقّ، فتكون الألف واللام للاسْتغراق، وهو الْمَفْهُوم من آيات هذه السورة، فَمَنْ طَلَب العِزَّة مِنْ الله وصَدَقَه في طَلَبها بافْتِقَار وذُلّ وسُكُون وخُضُوع وَجَدَها عِنْده - إن شاء الله - غير مَمْنُوعَة ولا مَحْجُوبَة عنه. قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَواضع لله رَفَعه الله

(1)

.

ومَن طَلبها مِنْ غَيره وَكَلَه إلى مَنْ طَلَبها عِنده. وقد ذَكَرَ قَومًا طَلَبُوا العِزَّة عند مَنْ سِواه، فقال:(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139]، فأنبأك صَرِيحا لا إشْكَال فيه أنَّ العِزَّة له يُعِزّ بِها مَنْ يَشاء، ويُذِلّ مَنْ يَشاء.

وقال صلى الله عليه وسلم مُفَسِّرًا لِقَوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا): مَنْ أرَاد عِزّ الدَّارَين فَلْيُطِع العَزيز

(2)

. وهذا معنى قول الزجاج.

(1)

رواه بهذا اللفظ: البيهقي في شُعب الإيمان (ح 8140) من حديث عمر رضي الله عنه.

قال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 351): رواه أحمد والبزار، ورواتهما محتج بهم في الصحيح.

وقال الهيثمي في المجمع (8/ 82): رواه أحمد والبزار والطبراني في لأوسط

ورجال أحمد والبزار رِجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني سعيد بن سلام العطار، وهو كذاب.

ورواه الطبراني في الأوسط (ح 4894) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال عنه الهيثمي في المجمع (10/ 325): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه نعيم بن مورع العنبري، وقد وثّقه ابن حبان، وضعّفه غير واحد وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 19)، وأعله بنعيم.

ورواه مسلم (ح 2588) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله".

(2)

رواه ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 119) وأعله بداود بن عفان. وأعله به كل من:

السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(1/ 27)، وابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة"(1/ 138)، والشوكاني في "الفوائد المجموعة"(ص 444)، وأورده ابن حجر في "لسان الميزان"(4/ 83) في ترجمة سعيد بن هبيرة المروزي.

ص: 395

فَمَنْ كَان يُرِيد العِزَّة لِيَنَال الفَوْز الأكْبَر ويَدخُل دَار العِزَّة - ولله العِزَّة - فَلْيَقْصد بالعِزَّة الله سبحانه والاعْتِزَاز به، فإنه مَنْ اعْتَزّ بالعَبْد أذَلَّه الله، ومَن اعْتَزّ بِالله أعَزَّه الله

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

الغَلَبَة والقُوَّة لله، وسَبَب نُزُول آية "النساء" أنَّ ابن أُبيّ كان يطلُب العِزَّة عند بني قينقاع.

2 -

القُوَّة الكَامِلة، والغَلَبَة الشَّامِلَة، والقُدْرَة التامَّة لله وحْدَه، فهو نَاصِرُك ومُعِينُك ومَانِعُك، والخِطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم.

3 -

لا تَعَارُض بَيْن قَوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وبَيْن قَوله:(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ)، فإنَّ كل عِزَّة بِالله فَهي كُلّها لله.

4 -

مَنْ كَان يُريد بِعِبَادَته الله عز وجل العِزَّة، والعِزَّة له سبحانه؛ فإنَّ الله عز وجل يُعِزّه في الآخِرة والدنيا.

5 -

من طَلَب العِزَّة مِنْ الله وصَدَقَه في طَلَبها بافْتِقَار وذُلّ وسُكُون وخُضُوع وَجَدَها عِنده.

6 -

العِزّة لله يُعِزّ بِها مَنْ يَشَاء، ويُذِلّ مَنْ يَشاء.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

بَيَّن ابن جرير أنَّ قَوله جل ثناؤه: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[النساء: 139] مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِين.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (14/ 286، 287).

ص: 396

ومَعنى قَوله تَعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي: أيَطْلُبُون عِنْدَهم الْمَنَعَة والقُوَّة باتِّخَاذِهم إياهم أوْلِيَاء مِنْ دُون أهْل الإيمان بي؟

وقَال في قَوله تَعالى: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا): يَقُول: فإنَّ الذين اتَّخَذُوهم مِنْ الكَافِرين أوْلِياء ابْتِغَاء العِزَّة عِنْدَهم هُمْ الأذِلّاء الأقِلّاء، فَهَلّا اتَّخَذُوا الأوْلِياء مِنْ الْمُؤمِنِين فَيَلْتَمِسُوا العِزَّة والْمَنَعَة والنُّصْرَة مِنْ عِند الله الذي له العِزَّة والْمَنَعَة، الذي يُعِزّ مَنْ يَشاء ويُذِلّ مَنْ يَشاء، فيُعِزّهم ويَمْنَعهم. وأصْل العِزَّة الشِّدّة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عَزَاز. وقيل: قد اسْتُعِزّ على المريض، إذا اشْتَدّ مرضه وكاد يُشْفِي

(1)

.

ويُقال: تَعَزّز اللحم، إذا اشْتَدّ. ومنه قيل: عَزّ عَليّ أن يكون كذا وكذا، بِمَعْنى اشْتَدّ عَليّ

(2)

.

وقال في آية "يونس" فـ (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) يَقول تعالى ذِكْرُه: فإنَّ الله هو الْمُنْفَرِد بِعِزَّة الدّنيا والآخِرة لا شَريك له فِيها، وهو الْمُنْتَقِم مِنْ هَؤلاء الْمُشْرِكِين القَائلين فيه مِنْ القَول البَاطِل ما يَقُولُون، فلا يَنْصُرهم عند انْتِقَامه مِنهم أحَدٌ؛ لأنه لا يُعَازُّه شيء

(3)

.

وذَكَر اخْتِلاف أهْل التَّأويل في مَعنى قَوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، فَنَقَل عن بعضهم: معنى ذلك: مَنْ كَان يُريد العِزَّة بِعِبَادَة الآلِهة والأوْثان فإنَّ العِزَّة لله جميعا.

وعَن آخَرين: مَعنى ذلك: مَنْ كَان يُرِيد العِزَّة فَلْيَتَعَزّز بِطَاعَة الله.

وعن آخَرِين: بل معنى ذلك: مِنْ كان يُريد عِلْم العِزَّة لِمَنْ هِي، فإنّها لله جَميعا كُلّها، أي: كُل وَجْه مِنْ العِزَّة فَلِلَّه.

(1)

ضُبِطَت في طبعة دار هجر: يُشْفَى.

ويَظهر لي من سياق الكلام أنه "يُشفي" بمعنى كاد أن يموت. ففي لسان العرب (7/ 458): وكنظه يكنظه وهو الكرب الشديد الذي يُشفي منه على الموت. وفي مختار الصحاح (ص 144)(مادة شَفي): يُقال للرجل عند موته .... وأشْفَى على الشيء أشْرَف عليه، وأشفى المريض على الموت.

(2)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (7/ 601، 602).

(3)

المرجع السابق (12/ 226).

ص: 397

وأوْلى الأقْوال بِالصَّواب عند ابن جرير: قَول مَنْ قَال: مَنْ كَان يُرِيد العِزَّة فَبِالله فَلْيَتَعَزَّز، فَلِلَّه العِزَّة جَميعا، دُون كُلّ مَا دُونه مِنْ الآلِهَة والأوْثَان.

وعَلّل اخْتِيَارَه بِقَوله: وإنّمَا قُلتُ ذلك أوْلى بِالصَّواب لأنَّ الآيَات التي قَبل هَذه الآيَة جَرَتْ بِتَقْرِيع الله الْمُشْرِكِين عَلى عِبَادَتِهم الأوْثَان، وتَوْبِيخِه إيّاهُم، ووعِيدِه لهم عليها؛ فأوْلى بِهَذِه أيضًا أن تَكُون مِنْ جِنْس الْحَثّ على فِرَاق ذلك، فَكَانَت قِصّتها شَبِيهة بِقِصّتِها، وكانت في سِيَاقِها

(1)

.

فَعَلى هذا آية "النساء" - عند ابن جرير - في شَأن الْمُنَافِقِين، وآيَة "يونس" وآيَة "فاطِر" في الْمُشْرِكِين، وهو مَا يَقْتَضِيه سِيَاق الآيَات.

وقد بَيَّن في آيَة "المنافِقون" أنَّ قَوله تَعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) يَعني: الشِّدَّة والقُوَّة، (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بِالله، (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ذلك

(2)

.

وأشَار السمرقندي في تَفسير آيَة "النساء" إلى مَعْنى آخَر في قَوله تَعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ)، وهو أنَّ الْمُنَافِقِين يَطْلُبُون عِند الكَافِرِين الْمَنَعة والظَّفَر على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أصْحَابِه.

ثم بيّن السمرقندي أنَّ العِزَّة في اللغَة الْمَنَعَة والغَلَبَة، كَمَا يُقَال: مَنْ عَزّ بَزّ، أي: مَنْ غَلَب سَلَب. ويُقال: عَزّ الشَّيء إذا اشْتَدّ وُجُوده.

وقال: ثم ذَكَر سُبحانه أنه لا نُصْرَة لهم مِنْ الكُفَّار، وإنّمَا النُّصْرَة مِنْ الله تعالى فَقال، فإنَّ العِزَّة لله (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، يَعني الظَّفَر والنَّصْر كُلّه مِنْ الله تعالى، وهذا كَمَا قَال في آيَة أخْرَى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (19، 337، 338) باختصار وتصرّف.

(2)

انظر: المرجع السابق (22/ 661).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 373، 374) باختصار.

ص: 398

واخْتَصَر القَول في آيَة "يونس" حيث قال: يَقول: يا محمد لا يَحْزُنك تَكْذِيبهم، (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) يَعني: بأنَّ النِّعْمَة والقُدْرَة لله تعالى، وجَميع مَنْ يَتَعَزَّز إنّمَا هو بإذْن الله تعالى

(1)

.

وكذلك في آية "فاطر" فإنه قال: يَعني: مَنْ طَلَب العِزَّة بِعِبَادَة الأوْثَان فلْيَتَعَزّز بِطَاعَة الله عز وجل، (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

يقول: مَنْ يَتَعَزّز بإذْن الله.

ويُقَال: مَعْنَاه: مَنْ كَان يُرِيد أن يَعْلَم لِمَنْ تَكُون العِزَّة فلْيَعْلَم بأنَّ (الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

ويُقَال: مَنْ كَان يَطْلُب لِنَفْسِه العِزَّة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)

(2)

.

وفي آيَة "المنافقون" قال: قَال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) حَيث قَوَّاهم الله تَعالى ونَصَرهم، أي: القُدْرَة والْمَنَعَة لله.

(وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) يَعْنِي: لا يُصَدِّقُون في السِّرّ.

ويُقَال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) يَعْنِي القُدْرَة. ويُقَال: نَفَاذ الأمْر. (وَلِرَسُولِهِ) وهو عِزَّة النُّبُوَّة والرِّسَالَة، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وهو عِزّ الإيمان والإسْلام، أعَزَّهم الله في الدّنيا والآخِرة

(3)

.

وقال السَّمعاني في آيَة "النساء": (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) يَعْنِي: أيَطْلُبُون عِنْدَهم القُوَّة والغَلَبَة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: القُوَّة والْغَلَبَة كُلّها لله تَعالى.

ثم أوْرَد إشْكَالًا وجَوَابه، فَقال: فإنْ قَال قَائل: قَدْ نَرى في بَعْض الأحْوَال الغَلَبَة للكُفَّار، فَمَا مَعْنَى قَوله:(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)؟

قيل: مَعْناه: أنَّ الْمُقَوِّي هو الله تَعالى في الأحْوال كُلّها.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 124).

(2)

المرجع السابق (3/ 95).

(3)

المرجع السابق (3/ 430).

ص: 399

وقيل: مَعْنَاه: الْغَلَبة بالْحُجَّة لله جَمِيعًا

(1)

.

واخْتَصَر القَول جِدًّا في آيَة "يونس" حَيث قال: يَعْنِي: إنَّ الغَلَبة لله جَمِيعًا

(2)

.

وبيّن في تَفسير آية "فاطر" أنَّ العِزَّة هي الْمَنَعَة.

وقال: وقَوله: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) قال الفَرَّاء: مَعْنَى الآيَة: مَنْ كَان يُرِيد أن يَعْلَم لِمَنْ العِزَّة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا).

وقال قتادة: مَعْنَاه: مَنْ كان يُرِيد العِزَّة فَلْيَتَعَزَّز بِطَاعَةِ الله.

قال أهل النحو: هذا مِثْل مَا يَقُول الإنْسَان: مَنْ كان يُرِيد الْمَال فَالْمَال لِفُلان، أي لِيطْلُب الْمَال عِند فُلان، كَذلك مَعْنَى قوله:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) أي: فَلْيَطْلُب العِزَّة مِنْ عِنده.

وقال بعض أهْل التَّفْسِير: كان أهل الْجَاهِلِيَّة يَعْبُدُون الأصْنَام، ويَتَقَرَّبُون بِذلك إلى الله تعالى، ويَطْلُبون العِزّ مِنْ عِند الأصْنَام. قال الله تعالى:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)[مريم: 81]، فأنْزل الله تَعالى هَذه الآيَة، وأمَرَهم أن يَطْلُبُوا العِزّ مِنْ الله لا مِنْ الأصْنَام

(3)

.

وقال في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ): أي الغَلَبة والْمَنَعَة والقوة، والعِزَّة لله لِعِزَّةٍ في ذَاته، والعِزَّة لِرَسُوله وللمُؤمِنين بِمَا أعْطَاهم الله تعالى مِنْ الغَلَبَة والْمَنَعَة والقُوَّة.

وقوله: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أي: لا يَعْلَمُون أنَّ العِزَّة والغَلَبَة لله ولِرَسُوله وللمُؤمِنين

(4)

.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 492).

(2)

المرجع السابق (2/ 394).

(3)

المرجع السابق (4/ 348).

(4)

المرجع السابق (5/ 446).

ص: 400

وأبَان الثعلبي أنَّ قَوله تَعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) وَصْف للمُنَافِقِين، ومَعْنَاه: يتّخِذونهم أنْصَارًا وبِطَانة.

وأنَّ مَعْنَى قَوله تعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) يَعني الرِّفْد والشِّدَّة والْمَعُونَة والظُّهُور على مُحمد وأصْحَابه.

ونَقَل عن الزجاج قَوله: العِزَّة: يَعْنِي الْمَنَعَة والشِّدَّة والغَلَبَة، مأخُوذ مِنْ قَوْلِهم: أرْض عَزَاز، أي: صَلْبَة لا يُفِيد عَليها شيء.

ويقال: اسْتُعِزّ على الْمَرِيض اشْتَدّ وَجَعُه.

وقَولهم: يَعُزّ عليّ، أي: يَشْتَدّ.

وقَولهم: إذا عَزَّ الشيء لم يُوجَد، فَتَأويله: قد اشْتَدَّ وُجُود وَصْف إن وُجِد (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: القُدْرَة لله جَمِيعًا، وهو سَيِّد الأرْبَاب

(1)

.

وفي تَفْسِير آيَة "يونس" بَيَّن أنَّ قَوله تَعالى: (إِنَّ الْعِزَّةَ) ابْتِدَاء لِتَمَام الكَلام فِيمَا قبْل ذَلك، وبَيَّن أنَّ مَعْنَى العِزَّة: القُدْرَة، (لِلَّهِ جَمِيعًا) وهو الْمُنْتَقِم مِنهم.

ثم أوْرَد قول سعيد بن المسيب: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا): يَعني: أنَّ الله يُعِزّ مَنْ يَشَاء، كَمَا قَال في آيَة أخْرَى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وعِزَّة الرَّسول والْمُؤمِنين مَنًّا لله، فهي كُلها لله، قال الله:(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)

(2)

.

وفي آية "فاطر" قال الثعلبي: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ): يَعْنِي: عِلْم العِزَّة لِمَنْ هِي؟ (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، وذلك أنَّ الكُفَّار عَبَدُوا الأصْنَام وطَلَبُوا بِها التَّعَزُّز، كَمَا أخْبَر الله تَعالى عَنْهم بِقَولِه:(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139]، وقَال سُبحانه:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)[مريم: 81].

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 403) باختصار.

(2)

المرجع السابق (5/ 139).

ص: 401

(كَلَّا)[مريم: 82] وَرَدّ الله عَليهم: مَنْ أرَاد أن يَعْلَم لِمَنْ العِزَّة الْحَقِيقِيَّة فآيَة

(1)

العِزَّة لله، ومَن أرَاد أن يَكُون في الدَّارَين عَزِيزًا فلْيُطِع الله (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)

(2)

.

وبيّن مَعْنى العِزَّة الْمَذْكُورة في سُورة المنافقون، فقال: فَعِزَّة الله سُبحانه قَهْرُ مَنْ دُونه، وعِزّ رَسوله إظْهار دِينِه على الأدْيان كُلّها، وعِزّ الْمُؤمِنِين نَصْرُه إيَّاهم على أعْدَائهم، فهم ظَاهِرُون.

وقيل: عِزَّة الله الولايَة، قَال الله تَعالى:(هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ)[الكهف: 44]، وعِزَّة الرَّسول الكِفَاية، قَال الله سُبحانه:(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95]، وعِزّ الْمُؤمِنِين الرِّفْعة والرِّعاية، قال:(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، وقال:(وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب: 43]

(3)

.

وقيل: عِزَّة الله الرُّبُوبِيَّة، وعِزَّة الرَّسول النُّبُوَّة، وعِزَّة الْمُؤمِنِين العُبُودِيَّة.

وكان جَعْفَر الصَّادِق يَقُول: مَنْ مِثْلي ورَبّ العَرْش مَعْبُودِي؟ مَنْ مِثْلي وأَنْتَ لي؟

وقِيل: عزَّة الله خَمْسَة: عِزّ الْمُلْك والبَقَاء، وعِزّ العَظَمَة والكِبْرِياء، وعِزَّة البَذْل والعَطَاء، وعِزّ الرِّفْعَة والغَنَاء

(4)

، وعِزَ الْجَلال والبَهَاء.

وعِزّ الرَّسُول خَمْسَة: عِزّ السَّبْق والابْتِدَاء، وعِزّ الأذَان والنِّدَاء، وعِزّ قَدَم الصِّدْق على الأنْبِيَاء، وعِزّ الاخْتِيَار والاصْطِفَاء، وعِزّ الظُّهُور على الأعْدَاء.

(1)

هكذا في المطبوع، ولعل الصواب "فإن".

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (8/ 100).

(3)

كُتبتْ هذه الآية في المطبوع (وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما) وهو خطأ ظاهر شنيع.

(4)

قال ابن منظور في لسان العرب (15/ 138): والغَنَاء بالفتح: النفع. والغَناء بفتح الغين ممدود: الإجزاء والكفاية. يُقال: رجل مُغْن، أي: مُجْزئ كافٍ. قال ابن بَرّي: الغَناء مصدر أغْنَى عنك، أي: كفاك.

ص: 402

وعِزّ الْمُؤمِنين خَمْسَة: عِزّ التَّأخِير؛ بَيَانُه: "نَحْن السَّابِقُون الآخِرُون"

(1)

، وعِزّ التَّيْسِير؛ بَيَانُه:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ)[القمر: 17]

(2)

، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة: 185]، وعِزّ التَّبْشِير؛ بَيَانُه:(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 47]، وعِزّ التَّوقِير؛ بَيَانُه:(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)[آل عمران: 139]، [محمد: 35]، وعِزّ التَّكْثِير؛ وبَيَانُه: إنهم أكْثَر الأُمَم

(3)

،

(4)

.

وفي آيَة "النساء" اقْتَصَر الزمخشري على قَوله: يُرِيد لأوْلِيائه الذين كَتَب لَهُمْ العِزّ والغَلَبَة على اليَهُود وغيرهم، وقال:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)

(5)

.

وقال في آيَة "يونس": أي: إن الغَلَبَة والقَهْر في مَلَكَة الله جَمِيعًا لا يَمْلِك أحَد شَيئًا مِنها، لا هُمْ ولا غَيرهم، فهو يَغْلِبُهم ويَنْصُرَك عَليهم، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) [غافر: 51]

(6)

.

وبَيَّن الزمخشري في آية "فاطر" مَا كَان عَليه أهْل الكُفْر وأهْل النِّفَاق، فَقال: كان الكَافِرون يَتَعَزَّزُون بِالأصْنَام، كَمَا قَال عز وجل:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)[مريم: 81].

(1)

هكذا في المطبوع، والمؤلِّف يُشير إلى ما جاء في الحديث، والحديث مُخرّج في الصحيحين بِألفاظ، منها:"نحن الآخرون السابقون". رواه البخاري (ح 236)، ومسلم (ح 855)، وقد أورده القرطبي (2/ 151) بلفظ:"نحن الآخرون الأولون" وهو لفظ مسلم في الموضع السابق، وفسره القرطبي بقوله: فجعلنا أولًا مكانا، وإن كنا آخرًا زمانا.

(2)

وقد تكررت في السورة أربع مرات.

(3)

لعله يشير إلى حديث ابن عباس في عرض الأمم على نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد رأى أمّته أكثر الأمم.

رواه البخاري (ح 5378)، ومسلم (ح 220).

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (9/ 322، 323).

(5)

الكشاف، مرجع سابق (ص 266).

(6)

المرجع السابق (ص 468).

ص: 403

والذين آمَنُوا بألْسِنَتِهم مِنْ غَير مُوَاطَأة قُلُوبِهِمْ كَانوا يَتَعَزَّزُون بِالْمُشْرِكِين، كَمَا قَال تعالى:(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139].

فَبَيَّن أنْ لا عِزَّة إلَّا لله ولأوْلِيائه، وقَال:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، والْمَعْنَى: فَلْيَطْلُبها عند الله، فَوَضَعَ قَوله:(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) مَوْضِعه اسْتِغْنَاء به عَنه لِدَلالَته عَليه، لأنَّ الشَّيء لا يُطْلَب إلَّا عِند صَاحِبِه ومَالِكِه، ونَظِيره قَولك: مَنْ أرَاد النَّصِيحَة فَهي عِنْد الأبْرَار. تُريد فَلْيَطْلُبها عِندهم، إلَّا أنك أقَمْتَ مَا يَدُلّ عَليه مَقَامَه.

وَمَعْنى: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) أنَّ العِزَّة كُلها مُخْتَصّة بِالله عِزَّة الدُّنيا وعِزَّة الآخِرَة، ثم عَرَّف أنَّ مَا تُطْلَب به العزَّة وهو الإيمان والعَمَل الصَّالح بِقَوْلِه:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10]

(1)

.

وفي آية "المنافقون" بَيَّن الزمخشري أنَّ الغَلَبة والقُوَّة لله ولِمَن أعَزَّه الله وأيّدَه مِنْ رَسُوله ومِن الْمُؤمِنين، وهُم الأخِصَّاء بِذلك، كَمَا أنَّ الْمَذَلَّة والْهَوَان للشَّيْطَان وذَويه مِنْ الكَافِرِين والْمُنَافِقِين

(2)

.

ويَرى ابن عطية أنَّ آية "النساء" وَعِيدٌ وتَوْبِيخ للمُنَافِقِين، حيث قال: وَقَّف تَعالى عَلى جِهَة التَّوْبِيخ على مَقْصِدِهم في ذَلك، أهُو طَلَب العِزَّة والاسْتِكْثَار بِهم؟ أي: لَيس الأمْر كذلك، بل العِزَّة كُلّها لله يُؤتيها مَنْ يَشاء، وقَد وَعَد بِهَا الْمُؤمِنين، وجَعَل العَاقِبَة للمُتَّقِين، والعِزَّة أصْلُها، الشِّدَّة والقُوَّة، ومِنه: الأرْض العَزَاز، أي: الصُّلْبَة، ومِنه:(وَعَزَّنِي)[ص: 23] أي: غَلَبَنِي بِشِدَّتِه، واسْتَعَزّ الْمَرَض إذا قَوِي، إلى غَير هَذا من تَصَارِيف اللفْظَة

(3)

.

(1)

الكشاف، مرجع سابق (ص 882).

(2)

المرجع السابق (ص 1110).

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 125).

ص: 404

وأشَار ابن عطية إلى دَلالة آيَة "يُونس" بِقَوله: أي: فَهُمْ لا يَقْدِرُون على شَيء، ولا يُؤذُونه

(1)

إلَّا بِمَا شَاء الله، وهو القَادِر على عِقَابِهم لا يُعَازُّه شَيء؛ فَفِي الآية وَعِيد لَهُمْ

(2)

.

وأجْرَى كَون آيَة "الْمُنَافِقُون" في الوَعِيد أيضًا، فَقَال: أعْلَمَ تعالى أنَّ الْعِزَّة لله وللرَّسُول وللمُؤمِنين، وفي ذلك وَعِيد

(3)

.

ويَرى أنَّ آيَة "فاطر" تَحْتَمِل ثَلاثة أوْجُه، فقال:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) يَحْتَمِل ثَلاثة مَعَان:

أحَدُها: أن يُرِيد (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بِمُغَالَبَة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي: لَيْسَتْ لِغَيْرِه، ولا تَتِمّ إلَّا لَه، وهَذا الْمُغَالِب مَغْلُوب، ونَحَا إليه مُجاهد، وقال:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بِعِبَادَة الأوْثَان.

ثم قال ابن عطية: وهذا تَمَسّك بِقَوله تَعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)[مريم: 81].

والْمَعْنَى الثَّانِي: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) وطَرِيقها القَوِيم ويُحِبّ نَيْلَها على وَجْهِها (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ)، أي: بِهِ، وعَن أوَامِرِه، لا تُنَال عِزَّته إلَّا بِطَاعَتِه، ونَحَا إليه قَتادة.

والْمَعْنَى الثَّالِث - وقَالَه الفرّاء -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ) عِلْم العِزَّة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ)، أي: هُو الْمُتَّصِف بِهَا.

ونَقَل الرازي عن الواحِدي قَوله: أصْل العِزَّة في اللغَة الشِّدَّة، ومِنه قِيل للأرض الصُّلْبَة الشَّدِيدَة: عَزَاز. ويُقَال: قد اسْتَعَزّ الْمَرَض على الْمَرِيض إذا اشْتَدَّ مَرَضه وكَاد

(1)

أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 431).

(3)

المرجع السابق (5/ 315).

ص: 405

أن يَهْلِك، وعَزّ الْهَمّ: اشْتَدّ، ومنه عَزّ عَليّ أن يَكُون كَذا، بِمعنى اشْتَدّ، وعَزَّ الشَّيء إذا قَلّ حَتى لا يَكاد يُوجَد، لأنه اشْتَدَّ مَطْلَبه، واعْتَزَّ فُلان بِفُلان إذا اشْتَد ظَهْرَه بِه .... ، والعِزَّة القُوَّة، منقولة مِنْ الشِّدّة لِتَقَارُب مَعْنَيَيْهِمَا. والعَزِيز القَوي الْمَنِيع، بِخِلاف الذَّلِيل.

ثم قال الرازي: إذا عَرَفْتَ هذا فَنَقُول: إن المنافقين كانوا يَطلبون العِزّة والقُوَّة بِسَبَب اتِّصَالِهم بِاليَهُود، ثم إنه تعالى أبْطَل عليهم هذا الرَّأي بقَوله:(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

ثم أوْرَد الرازي إشْكَالًا قد يُتوهَّم بَيْن هَذه الآية وبَيْن آيَة "الْمُنَافِقُون" فقال: فإن قيل: هذا كَالْمُنَاقِض لِقَوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقين: 8].

قُلنا: القُدْرة الكَامِلَة لله، وكُلّ مَنْ سِواه فبإقْدَارِه صَار قَادِرًا، وبِإعْزَازِه صَار عَزيزًا؛ فالعِزَّة الْحَاصِلة للرَّسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تَحْصُل إلَّا مِنْ الله تعالى، فَكَان الأمْر عند التَّحْقِيق أنَّ العِزَّة جَمِيعًا لله

(1)

.

وللرَّازي أبْحَاث في آيَة "يونس"، منها:

فَائِدة: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) في هذا الْمَقَام أمُور:

الأوَّل: الْمُرَاد مِنه أنَّ جَمِيع العِزَّة والقُدْرَة هي لله تعالى يُعْطِي مَا يَشَاء لِعِبَادِه، والغَرَض مِنه أنه لا يُعْطِي الكُفّار قُدْرَة عَليه

(2)

، بل يُعْطِيه القُدْرَة عَليهم حتى يَكُون هو بذلك أعَزّ مِنهم، فآمَنه الله تعالى بِهَذا القَول مِنْ إضْرَار الكُفَّار به بِالقَتْل والإيذَاء، ومَثله قَوله تَعالى:(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)[المجادلة: 21]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) [غافر: 51].

الثاني: قال الأصَم: الْمُرَاد أنَّ الْمُشْرِكِين يَتَعَزَّزُون بِكَثْرة خَدَمِهم وأمْوَالهم ويُخَوّفُونك بِها، وتِلك الأشْياء كُلّها لله تَعالى، فَهو القَادِر على أن يَسْلُب مِنهم كُلّ تلك الأشْياء، وأن يَنْصُرك، ويَنْقُل أمْوَالهم ودِيارَهم إليك.

(1)

انظر: التفسير الكبير، مرجع سابق (11/ 64).

(2)

أي: على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 406

وكَرّر الرازي إيراد الإشْكَال بِعِبارَة أُخْرَى، فَقال: إنْ قيل: قوله: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) كالْمُضَادَّة لِقوله تَعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون: 8].

قلنا: لا مُضَادَّة، لأنَّ عِزَّة الرَّسول والْمُؤمِنين كُلّها بِالله، فهي لله

(1)

.

وبَيَّن في آيَة "فاطر" أن تَعزُّز الْمُشْرِكِين كان مِمَّا يَمنعُهم مِنْ دُخُول الإسْلام حَيث إنهم مَا كَانوا في طَاعَة أحَد، ولم يَكُنْ لهم من يَأمُرُهم ويَنْهَاهم فَقال: إنْ كُنْتُم تَطْلُبُون بِهَذا الكُفْر العِزَّة في الْحَقِيقَة، فَهي كُلّها لله، ومَن يَتَذَلل له فَهو العَزِيز، ومَن يَتَعَزَّز عليه فهو الذَّلِيل.

ثم أجاب عن الإشْكَال أيضًا بِعِبَارَة ثَالثة قَال فيها:

قَوله: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) أي في الْحَقيقَة وبالذَّات، وقَوله:(وَلِرَسُولِهِ) أي: بوَاسِطَة القُرْب مِنْ العَزِيز، وهو الله، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بِواسِطَة قُرْبِهم مِنْ العَزِيز بِالله، وهو الرَّسُول؛ وذلك لأنَّ عِزَّة الْمُؤمِنِين بِوَاسِطَة النبي صلى الله عليه وسلم. ألا تَرى قَوله تَعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31]؟

(2)

ونَقَل في آيَة "الْمُنَافِقُون" مَا قَاله الزمخشري مِنْ قَبْل، ثم بَيَّن الفَرْق بَيْن العِزَّة والْكِبْر

(3)

.

وتَحْتَمِل آية "فاطر" ثلاثة أوْجُه عند ابن جزي، حيث قال:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الآية. تَحْتَمِل ثَلاثَة مَعَانٍ:

أحَدها - وهو الأظْهر -: مَنْ كَان يُرِيد نَيل العِزَّة فلْيَطْلُبْها مِنْ عِند الله، فإنَّ العِزَّة كُلّها لله.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (17/ 105) باختصار.

(2)

المرجع السابق (26/ 8) باختصار.

(3)

انظر: المرجع السابق (30/ 16، 17).

ص: 407

والثَّاني: مَنْ كَان يُرِيد العِزَّة بِمُغَالَبَة الإسْلام (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، فالْمُغَالِب له

(1)

مَغْلُوب.

والثَّالث: مَنْ كَان يُرِيد أن يَعْلَم لِمَنْ العِزَّة، فَلْيَعْلَم أنَّ العِزَّة لله جَمِيعًا

(2)

.

وقد جَمَع ابن كثير بَيْن الآيَات، وبَيَّن أنَّ الْمَقْصُود مِنها هو الْحَثّ على طَلَب العِزَّة بِطَاعَة الله، فقال: أخْبَر اللهُ تَعالى بأنَّ العِزَّة كُلّها له وحْدَه لا شَرِيك له، ولِمَن جَعَلَها له، كَمَا قَال تَعالى في الآيَة الأخْرَى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، وقَال تَعالى:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، والْمَقْصُود مِنْ هَذا التَّهْيِيج على طَلَبِ العِزَّة مِنْ جَنَاب الله، والالْتِجَاء إلى عُبُودِيَّتِه، والانْتِظَام في جُمْلَة عِبَادِه الْمُؤمِنين الذين لَهم النُّصْرَة في الْحَيَاة الدُّنْيا ويَوم يَقُوم الأشْهَاد

(3)

.

واقْتَصَر في تَفْسِير سُورة يُونس على إيضَاح مَعنَى أنَّ العِزّة جَميعها لله ولِرَسُوله وللمُؤمِنين

(4)

.

وفي آية "فاطِر" أشَار ابن كثير إلى مَا فِيها مِنْ الْحَثّ على طَلَب العِزَّة أيضًا، فقال: مَنْ كان يُحِبّ أن يَكُون عَزِيزًا في الدُّنيا والآخِرة فَلْيَلْزَم طَاعَة الله تَعالى، فإنه يَحصل له مَقْصُوده، لأنَّ الله تَعالى مالِك الدُّنيا والآخِرة، ولَه العِزَّة جَمِيعًا، كَما قَال تَعالى:(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقَال عز وجل:(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقال جل جلاله:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). قال مُجاهد: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بِعِبَادَة الأوْثان (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

(1)

أي: لِدِين الإسلام.

(2)

التسهيل، مرجع سابق (3/ 155).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (4/ 312، 313).

(4)

انظر: المرجع السابق (7/ 383).

ص: 408

وقال قتادة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ)(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)

(1)

أي: فَلْيَتَعَزَّز بِطَاعَة الله عز وجل.

وقِيل: مَنْ كَان يُرِيد عِلْم العِزَّة لِمَنْ هي؟ (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). وحَكاه ابن جرير

(2)

.

وفي تفسير سُورة الْمُنَافِقُون اكْتَفَى بِما أوْرَده سَابقا، واقْتَصَر على سِياق الرِّوَايات الوَارِدَة في سَبَب النُّزُول، ومَا جَاء في قِصَّة ابن أُبيّ

(3)

.

‌رأي الباحث:

قد بيّن الْمُفَسِّرُون فيما مَضى أنه لا تَعَارُض بَيْن الآيَات، فالعِزَّة الْمُطْلَقَة لله وحْدَه، وهو العَزِيز سُبْحَانه يُعِزّ مَنْ يَشاء، ويُذلّ مَنْ يَشاء، وهو الذي أعَزّ رَسوله والْمُؤمِنِين، ومِنه تُستَمَدّ العِزَّة، فلا تُنَال إلَّا بِطَاعَة الله.

فإنَّ للطَّاعَةِ عِزَّة، وللمَعْصِيَة ذِلَّة، ولِذا لَمَّا عَصَتْ يَهُود (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)، (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) [آل عمران: 112].

والعِزَّة بالتَّمَسُّك بِالإسْلام، قال عمر رضي الله عنه: كُنَّا أذَلّ قَوم، فأعَزَّنَا الله بالإسْلام، فَمهما نَطْلُب العِزّ بِغَير مَا أعَزَّنا الله به أذَلَّنا الله

(4)

.

وقال: إنا قَوم أعَزَّنا الله بالإسْلام فلن نَبْتَغِي العِزّ بِغَيره

(5)

.

(1)

في المطبوع من تفسير ابن كثير - ط. وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة - ثم دمج الآيتين بين قوسين! فأوهم كونها آية واحدة، وهو خطأ ظاهر شنيع، وهما آيتان من سورتين، الأولى من سورة فاطر، والثانية من سورة النساء.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (11/ 309، 310).

(3)

المرجع السابق (14/ 7 - 14).

(4)

رواه الحاكم (ح 207) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

(5)

رواه ابن أبي شيبة (ح 33847) وهنّاد في "الزهد"(ح 817)، والحاكم (ح 208).

ص: 409

قال جعفر بن محمد: مَنْ أخْرَجَه الله مِنْ ذُلّ الْمَعْصِية إلى عِزّ التَّقْوى أغْنَاه الله بِلا مَال، وأعَزّه بلا عَشِيرَة، وآنَسَه بلا أنِيس

(1)

.

وقال يحيى بن أبي كَثير: كَان يُقَال: مَا أكْرَم العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل طَاعَة الله، ولا أهَانَ العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل مَعْصِيَة الله

(2)

.

وقال الحسن البصري: أبَى الله عز وجل إلَّا أن يُذِلّ مَنْ عَصَاه

(3)

.

وقال في أهْل الْمَعَاصِي: هَانُوا عليه فَعَصَوه، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهم

(4)

.

وقال سفيان بن عيينة: كُلّ صَاحِب بِدْعَة ذَلِيل

(5)

.

‌المثال الثاني:

شهادة الرُّسُل على أُمَمِهم:

قَوله تَعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109]، مَع قَوله تَعالى:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]، وقَوله:(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ)[النحل: 89].

(1)

رواه البيهقي في شُعب الإيمان (ح 7240).

(2)

المرجع السابق (ح 7245).

(3)

ذكره ابن مُفلح في الآداب الشرعية (1/ 125).

(4)

ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(1/ 470) ورواه بنحوه عن أبي سليمان الدراني أبو نُعيم في "الحلية"(9/ 261)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 447)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(34/ 151).

(5)

ذكره ابن كثير (6/ 398) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)[الأعراف: 153].

ص: 410

‌صورة التعارض:

الآيَة الأُولى أنَّ الرُّسُل يَنفُون عِلْمَهم بِمَا أجابَتْ به أُمَمُهم، وفي الآيَتين الثَّانية والثَّالثة يَشْهَدون على أُمَمِهم، ومِن لَوازِم الشَّهَادَة عِلْم الشَّاهِد بِمَا يشْهَد بِه. (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) [يوسف: 81].

كَما أنَّ الآيَة الأُولى يُفْهَم مِنها أنَّ الرُّسُل لا يَشْهَدُون يَوْم القِيَامَة على أُمَمِهم، وقد جَاء في آيَات أُخَر مَا يَدُلّ على أنّهُم يَشْهَدُون على أُمَمِهم

(1)

.

‌جمع القرطبي:

رَبَط القُرطبي بَيْن هذه: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ومَا قَبْلَها بِجَامِع الزَّجْر في كُلّ مِنهما، فَقال: يُقال: مَا وَجْه اتِّصَال هَذه الآيَة بِمَا قَبْلَها؟

فالْجَواب: أنه اتِّصَال الزَّجْر عن الإظْهار خِلاف الإبْطان في وَصية أوْ غَيرها مِمَّا يُنْبِئ أن الْمُجَازِي عَليه عَالِم به.

وقِيل: التَّقْدِير: واتَّقُوا يَوْم يَجْمَع الله الرُّسُل، عن الزجاج.

وقيل: التَّقْدِير: اذْكُرُوا، أو احْذَرُوا يَوْم القِيَامَة حين يَجْمَع اللهُ الرُّسُل.

والْمَعْنى مُتَقَارِب، والْمُرَاد التَّهْدِيد والتَّخْوِيف.

(فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) أي: مَا الذي أجَابَتْكُم به أُمَمُكم؟ ومَا الذي رَدّ عَليكم قَومُكم حِين دَعَوتُمُوهم إلى تَوحِيدِي؟ (قَالُوا) أي: فَيَقُولُون: (لَا عِلْمَ لَنَا).

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 79).

ص: 411

واخْتَلَف أهْل التَّأويل في الْمَعْنَى الْمُرَاد بِقَولهم: (لَا عِلْمَ لَنَا)؛ فَقيل: مَعْنَاه: لا عِلْم لنا بِبَاطِن مَا أجاب به أُمَمُنا، لأنَّ ذلك هو الذي يَقَع عليه الْجَزَاء، وهذا مَرْوي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: الْمَعْنَى: لا عِلْم لَنا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، فَحُذِف.

وقال ابن عباس: مَعْناه: لا عِلْم لَنا إلَّا عِلْم أنْت أعْلَم بِه مِنَّا.

وقيل: إنّهم يَذْهَلُون مِنْ هَول ذلك، ويَفْزَعُون مِنْ الْجَواب، ثم يُجِيبُون بَعْد مَا تَثُوب إليهم عُقُولهم، فَيَقُولُون:(لَا عِلْمَ لَنَا).

قال النحاس: وهذا لا يَصِحّ؛ لأن الرُّسُل صَلوات الله عَليهم لا خَوْف عَليهم ولا هم يَحْزَنُون.

قُلْتُ: هَذا في أكْثَر مَوَاطِن القِيَامَة، ففي الْخَبَر: إنّ جَهَنَّم إذا جِيء بِها زَفَرَتْ زَفْرَة فلا يَبْقَى نَبِيّ ولا صِدِّيق إلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيه

(1)

. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَوَّفَنِي جِبْرِيل يَوْم القِيَامة حَتى أبْكَانِي، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيل! ألم يَغْفِر لي مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِي ومَا تَأخَّر؟ فقال لي: يا محمد لتَشْهَدَنَّ مِنْ هَول ذَلك اليَوْم ما يُنْسِيك الْمَغْفِرَة

(2)

.

قلت: فإن كَان السُّؤال عند زَفْرَة جَهَنَّم - كَمَا قَالَه بَعْضُهم - فقول مجاهد والْحَسَن - صَحِيح، والله أعلم.

قال النحاس: والصَّحِيح في هذا أنَّ الْمَعْنَى: مَاذا أُجِبْتُم في السِّرّ والعَلانِيَة لِيَكُون هذا تَوْبِيخًا للكُفَّار، فَيَقُولُون: لا عِلْمَ لَنَا؛ فَيَكُون هَذا تَكْذِيبًا لِمَنْ اتَّخَذ الْمَسِيح إِلَهًا.

وقال ابن جُريج: مَعْنَى قَوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) مَاذا عَمِلُوا بَعْدَكم؟ قَالُوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

(1)

هو من قول كعب الأحبار. رواه ابن أبي شيبة (ح 34128) ومن طريقه: أبو نعيم في الحلية (5/ 371).

ورواه عن ابن عباس من قوله جوابًا لنافع بن الأزرق: الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/ 302) في ترجمة عرفة بن يزيد والد الحسن بن عرفة.

(2)

لم أر من ذكره.

ص: 412

قال أبو عُبيد: ويُشْبِه هذا حَدِيث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يَرِدُ عَليّ أقْوَام الْحَوض فَيُخْتَلَجُون

(1)

، فأقُول: أُمّتِي، فَيُقَال: إنك لا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَك

(2)

.

قال الماوَرْدِيّ: فإن قِيل: فلم سَألهم عَمَّا هو أعْلَم بِه مِنْهم؟

فَعَنْه جَوابان:

أحَدهما: أنه سَألَهُم ليُعْلِمَهم مَا لَم يَعْلَمُوا مِنْ كُفْر أُمَمِهم ونِفَاقِهم وكَذِبِهم عَليهم مِنْ بَعْدِهم.

الثَّاني: أنه أرَاد أن يَفْضَحَهم بِذلك عَلى رُؤوس الأشْهَاد، لِيَكُون ذَلك نَوعًا مِنْ العُقُوبَة لهم

(3)

.

وفي آية "النساء" أوْرَد مَا جَاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أَمَرَ قَارِئًا يَقْرأ حتى إذا أَتَى على هَذه الآيَة: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) بَكَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخْضَلَّتْ وَجْنَتَاه، فَقَال: يا رَبّ هَذا عَلى مَنْ أنا بَين ظَهْرَانَيْهم، فَكَيف مَنْ لَم أرَهم؟

(4)

(1)

قال ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 429): "ليُختلجُن دوني" أي: ليُجتذَبون ويُقطعون عني.

(2)

رواه بنحوه: البخاري (ح 6205)، ومسلم (ح 2297) من حديث ابن مسعود، ومن حديث أنس: رواه البخاري (ح 6211)، ومسلم (ح 2304)، ومن حديث ابن عباس: رواه البخاري (ح 4349).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 334، 335) باختصار.

(4)

رواه الطبراني (ح 492، 546)، وقال الهيثمي (7/ 4): رواه الطبراني ورجاله ثقات، ورواه ابن قانع في معجم الصحابة (3/ 21)، والسمرقندي في "بحر العلوم"(1/ 330) وقد أورده القرطبي من روايته، وعزاه ابن كثير (4/ 56) إلى ابن أبي حاتم.

وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 541) إلى ابن أبي حاتم والبغوي في معجمه والطبراني، وحسّن السيوطي إسناده. وتنظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (6/ 5).

وقوله: "هذا على من أنا بين ظهرانيهم": أي هذه الشهادة على من أنا فيهم، توضّحه رواية الطبراني: أي رب شهدت على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أرَ؟

تنبيه: تعقب محققو تفسير ابن كثير قول الهيثمي - الآنف - وتحسين السيوطي بأن في إسناده فضيل بن سليمان وهو مُضعَف. وهذا التعقب متعقب بأن رواية الطبراني (ح 492) ليست من طريق "فضيل"، فلعل التحسين بمجموع الطرق، وقد أورد الهيثمي والسيوطي الروايتين - التي من طريق فضيل والتي من غير طريقه.

ص: 413

وأوْرَد القرطبي مَا رواه البخاري

(1)

ومسلم

(2)

مِنْ حَدِيث ابنِ مَسْعُود رضي الله عنه قَال: قَال لي رَسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْرَأ عَليّ. قُلتُ: أقْرَأ عَليك وعَليك أُنْزِل؟ قال: إني أُحِبّ أن أسْمَعه مِنْ غَيري. فَقَرَأتُ عليه سُورة النساء حتى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) قال: أمْسِك. فإذا عَيْنَاه تَذْرِفَان.

ثم قال القرطبي: قال عُلَمَاؤنا: بُكَاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لِعَظِيم مَا تَضَمَّنَتْه هذه الآيَة مِنْ هَوْل الْمَطْلَع وشِدَّة الأمْر، إذ يُؤتَى بالأنْبِياء شُهَدَاء على أُمَمِهم بالتَّصْدِيق والتَّكْذِيب، ويُؤتَى به صلى الله عليه وسلم يَوْم القِيَامَة شَهِيدًا.

والْمَعْنَى: فَكَيف يَكُون حَال هَؤلاء الكُفَّار يَوْم القِيَامَة إذا جِئنَا مِنْ كُلّ أمَّة بِشَهِيد وجِئنَا بِك على هَؤلاء شَهِيدًا؛ أمُعَذّبين أمْ مُنَعِّمِين؟ وهذا اسْتِفْهَام مَعْنَاه التَّوبِيخ

(3)

.

وفي آيَة "النحل" قال: قَوله تَعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وَهُمْ الأنْبِيَاء، شُهَدَاء عَلى أُمَمِهم يَوْم القِيَامَة بِأنّهم قَدْ بَلَّغُوا الرِّسَالة، ودَعَوْهُم إلى الإيمان، [و] في كُلّ زَمَانٍ شَهِيد، وإن لم يَكن نَبِيًّا، وفِيهم قَولان:

أحَدهما: أنّهم أئمَة الْهُدَى الذين هُمْ خُلَفَاء الأنْبِيَاء.

الثَّاني: فَعَلَى هَذا لم تَكُنْ فَتْرَة إلَّا وَفِيها مَنْ يُوَحِّد الله، كَقسّ بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: يُبْعَث أُمّة وَحْدَه

(4)

.

(1)

(ح 4306).

(2)

(ح 800).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 190، 191).

(4)

رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (ح 774)، ورواه البزار (ح 1331)، وأبو يعلى (ح 7212)، والطبراني (ح 350) ومن طريقه: الضياء في المختارة (ح 1111)، وقال الهيثمي (9/ 418): رواه أبو يعلى والبزار والطبراني. ورجال أبي يعلى والبزار وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حَسن الحديث، وانظر في تراجم هؤلاء المذكورين: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رزق الله. (ص 72) وما بعدها.

ص: 414

وسَطِيح

(1)

، ووَرَقة بن نَوفل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: رأيته يَنْغَمِس في أنْهَار الْجَنَّة

(2)

. فَهؤلاء ومَن كَان مِثْلهم حُجَّة على أهْل زَمَانِهم، وشَهِيد عَليهم، والله أعلم.

وقَوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) تَقَدَّم في "البقرة"

(3)

و"النساء"

(4)

.

(1)

هو كاهن جاهلي، كانت العرب تحتكم إليه، ويضرب المثل بجودة رأيه. أخباره في: سيرة ابن هشام (1/ 151 وما بعدها)، وتاريخ الأمم والملوك، الطبري (1/ 451 وما بعدها)، وفي تاريخ دمشق، ابن عساكر (26/ 362).

قال الفيروز آبادي في القاموس (ص 286) مادة "سطح": وكاهن بني ذئب، وما كان فيه عظم سوى رأسه.

وفي لسان العرب (2/ 483): السطيح المستلقي على قفاه من الزمانة. سطيح هذا الكاهن الذئبي، من بني ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، سمي بذلك لأنه كان إذا غضب قعد منبسطًا فيما زعموا، وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن له بين مفاصله قصب تعمده، فكان أبدًا منبسطًا منسطحًا على الأرض، لا يقدر على قيام ولا قعود.

ويُقال: كان لا عَظْم فيه سوى رأسه.

(2)

لعل القرطبي نَقَل هذا من حفظه، وقد جاء في فضل ورقة بن نوفل قوله عليه الصلاة والسلام: لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين. رواه الحاكم (ح 4211) وصححه على شرط الشيخين، وابن عساكر في تاريخ دمشق (63/ 24)، وقال الهيثمي (9/ 416): رواه البزار متصلًا ومرسلًا

ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح. وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح 405).

ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (ح 602)، وأبو يعلى (ح 2047) من حديث جابر بلفظ: رأيته يمشي في بطنان الجنة عليه حلة من سُندس. وفي إسناده عندهما مجالِد بن سعيد، وفي التقريب (ترجمة 6520): ليس بالقوي، وقد تغيّر في آخر عمره.

وروى الطبراني (ح 217) من حديث أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ورقة بن نوفل فقال: يُبْعَث يوم القيامة أمة وحده.

وفي مسند أحمد (ح 24367)، وجامع الترمذي (ح 2288) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ورقة بن نوفل وعليه ثياب بيض، وفي إسناده ابن لَهيعة، وأشار الترمذي إلى ضعف الحديث.

(3)

في تفسير قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]، وأما في النساء فقد تقدّم النقل عنه آنفًا.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 146، 147).

ص: 415

وقَد قَال في تَفْسِير قَوله تَعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143](شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أي: في الْمَحْشَر للأنْبِيَاء عَلى أُمَمِهم

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

نَفْي الأنْبِياء العِلْم مَعْنَاه: لا عِلْم لَنَا بباطن مَا أجَاب بِه أُمَمُنا، لأنَّ ذلك هو الذي يَقَع عليه الْجَزَاء.

2 -

لا عِلْم لَنا إلَّا مَا عَلّمْتَنَا.

3 -

يَذْهَلُون مِنْ هَول ذلك، ويَفْزَعُون مِنْ الْجَواب، ثم يُجِيبُون بَعْد ما تَثُوب إليهم عقولهم.

4 -

يُسْأل الرُّسُل مَاذا أُجِبْتُم في السِّرّ والعَلانِية.

5 -

يُسْأل الرُّسُل: مَاذا عَمِلَتْ أُمَمكم بَعْدَكم؟

6 -

إثْبَات شَهَادة الرُّسُل على أُمَمهم، وشَهَادة الشُّهُود مِنْ وَرَثَة الأنْبياء والْمُوحِّدِين، وأنه لا تَعَارُض مَع قَول الرُّسُل (لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

7 -

أزَال القرطبي الإشْكَال عَمَّا يَتَعَلَّق بِـ "لِمَ سَألهم عَمَّا هُو أعْلَم بِه مِنهم".

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

بَيَّن ابن جرير في تَفْسِير آيَة "النساء" أنَّ النَّبِيين يَأتُون يَوْم القِيَامَة، مِنهم مَنْ أسْلَم مَعَه مِنْ قَومِه الوَاحِد والاثْنان والعَشَرة، وأقلّ وأكْثَر مِنْ ذلك، فَيُقَال لَهم: هَلْ بَلَّغْتُم مَا أُرْسِلْتُم بِه؟ فَيَقُولُون: نَعَمْ. فَيُقَال: مَنْ يَشْهَد؟ فَيَقُولُون: أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم. فَتُدْعَى أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، فَيُقَال لهم: أتَشْهَدُون أنَّ الرُّسُل

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 150).

ص: 416

أوْدَعُوا عِنْدَكُم شَهَادَة، فَبِمَ تَشْهَدُون؟ فَيَقُولُون: رَبَّنَا نَشْهَد أنّهم قَدْ بَلَّغُوا. كَمَا شَهِدُوا في الدُّنيا بِالتَّبْلِيغ. فَيُقَال: مَنْ يَشْهَد على ذَلك؟ فَيَقُولُون: محمد صلى الله عليه وسلم. فَيُدْعَى محمد صلى الله عليه وسلم فَيَشْهَد أنَّ أمَّته قَدْ صَدَقُوا، وأنَّ الرُّسُل قد بَلَّغُوا. هكذا رَواه عن السّديّ.

وروى بإسناده إلى عكرمة في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)[البروج: 3] قال: الشَّاهِد مُحَمَّد.

ورَوى مَا جَاء في قِرَاءة ابن مَسعود وسَمَاع النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: قال المسعودي: فَحَدّثَنِي جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: شَهِيدًا عَليهم مَا دُمْتُ فِيهم، فإذا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيب عَليهم، وأنْت عَلى كُلّ شَيء شَهِيد

(1)

.

واكْتَفَى في تَفْسِير آيَة "النحل" بِقَوله: يَقول تَعالى ذِكْرُه: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، يَقُول: نَسْأل نَبِيَّهم الذي بَعَثْنَاه إليهم للدُّعَاء إلى طَاعَتِنا.

وقال: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنه تَعالى ذِكْرُه كَان يَبْعَث إلى أُمَمٍ أنْبِيَاءها منها. مَاذا أجَابُوكم ومَا رَدُّوا عَليكم؟ (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) يَقُول لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: وَجِئْنا بِك يَا محمد شَاهِدًا على قَومك وأمَّتك الذين أرْسَلْتُك إلَيهم بِمَ أجَابُوك؟ ومَاذا عَمِلُوا فِيمَا أرْسَلْتُك بِه إلَيهم؟

(2)

وأزَال مَا يُتوهَّم مِنْ تَعَارُض بَيْن آيَة "المائدة" وآيتي "النساء" و"النحل"، فَقَال: قَوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) يَعْنِي بِه: مَا الذي أجَابَتْكُم بِه أُمَمكم حِين دَعَوْتُمُوهم إلى تَوحِيدِي والإقْرَار بي والعَمَل بِطَاعَتِي والانْتِهَاء عَنْ مَعْصِيَتِي؟ (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا).

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (7/ 38 - 40).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 333).

ص: 417

ثم ذَكَر اخْتِلاف أهْل التَّأويل في تَأويل ذلك؛ فَقَال بَعْضهم: مَعْنَى قَولهم: (لا عِلْمَ لَنَا) لم يَكن ذَلك مِنْ الرُّسُل إنْكَارًا أن يَكُونُوا كَانُوا عَالِمِين بِمَا عَمِلَتْ أُمَمهم، ولَكِنهم ذُهِلُوا عن الْجَواب مِنْ هَول ذلك اليَوم، ثم أجَابُوا بَعد أن ثَابَتْ إليهم عُقُولهم بِالشَّهَادَة على أُمَمهم.

وقال آخَرُون: مَعنى ذَلك: لا عِلْمَ لَنا إلَّا مَا عَلَّمْتَنا.

وقال آخَرُون: مَعْنَى ذَلك: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) إلَّا عِلْم أنت أعْلَم بِه مِنّا.

وقال آخرون: مَعْنَى ذَلك: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) مَاذا عَمِلُوا بَعْدَكم؟ ومَاذا أَحْدَثُوا؟ وهذا القَول رواه عن ابن جُريج.

وأوْلى الأقْوال بالصَّواب - عند ابن جرير - قَول مَنْ قال: مَعْنَاه لا عِلْم لَنا إلَّا عِلْم أنت أعْلَم به مِنّا، لأنه تَعالى ذِكْرُه أخْبَر عنهم أنّهم قَالوا:(لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي: إنك لا يَخْفَى عَليك مَا عِنْدَنا مِنْ عِلْم ذَلك ولا غَيره، مِنْ خَفِيّ العُلُوم وجَلِيِّها، فإنّما نَفَى القَوم أن يَكُون لَهم بِمَا سُئلُوا عنه مِنْ ذلك عِلْم لا يَعْلَمُه هو تَعالى ذِكْرُه، لا أنّهم نَفَوا أن يَكُونوا عَلِمُوا مَا شَاهَدُوا. كَيف يَجُوز أن يَكُون ذَلك كَذلك وهو تَعالى ذِكْرُه يُخْبِر عنهم أنهم يُخْبِرُون بِمَا أجَابَتْهُم بِه الأُمَم، وأنّهم يَسْتَشْهِدُون على تَبْلِيغِهم الرِّسَالة شُهَدَاء، فَقال تعالى ذِكْرُه:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].

ثم أجاب عن قول ابن جُريج، فَقَال: وأما الذي قاله ابن جريج مِنْ أنَّ مَعْنَاه: مَاذا عَمِلَتْ الأُمَم بَعْدَكم؟ ومَاذا أحْدَثُوا؟ فَتأويل لا مَعْنَى لَه، لأنَّ الأنْبِيَاء لم يَكُنْ عِنْدها مِنْ العِلْم بِمَا يَحْدُث بَعْدَها إلَّا مَا أعْلَمَها الله مِنْ ذلك، وإذا سُئلتْ عَمَّا عَمِلَتْ

ص: 418

الأُمَم بَعْدَها، والأمْر كَذلك، فإنما يُقَال لها: ماذا عَرَّفْنَاك أنه كَائن مِنهم بَعْدَك؟ وظَاهِر خَبَر الله تعالى ذِكْرُه عَنْ مَسْألَته إياهم يَدُلّ على غير ذلك

(1)

.

وفي تفسير سورة الحديد نَقَل عن آخرين قولهم: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع النبِيّون الذين يَشهدون على أُمَمِهم، من قول الله عز وجل:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)

(2)

.

وأشَار السمرقندي إلى مَعْنَى آيَة "النساء" بِقوله: يَعْنِي: فَكَيف يَصْنَعُون؟ وكَيف يَكُون حَالُهم؟ (إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يَعْنِي: بِنَبِيِّها هُو شَهِيدُها، شَاهِد بِتَبْلِيغ الرِّسَالة مِنْ رَبِّهم (وَجِئْنَا بِكَ) يا مُحمد (عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) يَعْنِي عَلى أُمَّتك شَهِيدًا بالتَّصْدِيق لهم، لأنَّ أُمَّتَه يَشْهَدُون على الأُمَم الْمُكَذِّبة للرِّسَالة

(3)

.

واقْتَصَر في آيَة "النحل" على بَيَان مَعْنَى قَوله: (شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي: رَسُولًا مِنْ الآدَمِيِّين. (وَجِئْنَا بِكَ) يَا محمد. (شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) أي: على أُمَّتِك

(4)

.

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (9/ 109 - 112) وقول ابن جُريج محتمل لما سبق أن أورده القرطبي من بُكائه صلى الله عليه وسلم وإشفاقه من السؤال، وقوله: أي رب شهدت على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أرَ؟ ويشهد لهذا المعنى ما ختمت به الآية:(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). ويشهد له أيضًا سؤال رب العزة سبحانه لعيسى ابن مريم، وقول عيسى عليه الصلاة والسلام:(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)[المائدة: 117]. واستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بقول العبد الصالح - يعني عيسى - كما سيأتي في الحديث المخرّج في الصحيحين.

(2)

المرجع السابق (22/ 415).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 330).

(4)

المرجع السابق (2/ 287).

ص: 419

وبَيَّن في آية "المائدة" أنَّ السُّؤال: مَاذا أجَابَكم قَومُكم في التَّوحِيد؟ وأنَّ الرُّسُل قَالوا: (لَا عِلْمَ لَنَا) مِنْ هَول ذلك اليَوم، ومِن شِدَّة الْمَسْألة، وهي في بَعض مَوَاطِن يَوْم القِيَامَة. قَالوا:(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مَا كَان ومَا لَم يَكُنْ.

وذَكَر مَا رَواه أسْباط عن السُّدي قَال: نَزَلُوا مَنْزِلًا ذَهَبَتْ فيه العُقُول، فَلَمَّا سُئلُوا قَالوا:(لَا عِلْمَ لَنَا)، ثم نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَر فَشَهِدُوا على قَومِهم.

ويُقال: هذا عند زَفرة جَهَنَّم، فَلا يَبْقَى مَلَك مُقَرَّب ولا نَبِيّ مُرْسَل عِند ذلك إلَّا قال: نَفْسِي نَفْسِي، فَعِنْد ذَلك (لَا عِلْمَ لَنَا).

ويُقَال: كَان ذَلك عِند أوَّل البَعْث، ثم يَشْهَدُون بَعْد ذَلك بِتَبْلِيغ الرِّسَالة

(1)

.

وأوْضَح السمعاني الْمُرَاد بالشَّهِيد في آيَة "النساء" فَقَال: وأرَاد بالشَّهِيد مِنْ كُلّ أمّة نَبِيّها، وشَهِيد هَذه الأمَّة نَبِيّنا.

وذَكَر الاخْتِلاف في شَهَادَتِهم على مَاذا؟

مِنهم مَنْ قال: يَشْهَدُون على تَبْلِيغ الرِّسَالَة.

ومِنهم مَنْ قال: يَشْهَدُون على الأُمَّة بِالأعْمَال.

قال: واخْتَلَفُوا في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هل يَشْهَد على مَنْ لَم يَرَه؟

مِنهم مَنْ قال: إنّمَا يَشْهَد عَلى مَنْ رَآه، والصَّحِيح أنه يَشْهَد على الكُلّ عَلى مَنْ رَأى، وعَلى مَنْ لَم يَرَ.

واسْتَدَلّ على ذلك بِمَا جَاء عنه عليه الصلاة والسلام: هذا يَا رَبّ فيمن رَأيْتُه فَكَيف بِمَنْ لَم أرَه؟

(2)

وفي آيَة "النحل" أحَال على مَا سَبق بَيانه، وأنَّ مَعْنَى الآيَتَين وَاحِد

(3)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 448، 449).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (1/ 428، 429).

(3)

المرجع السابق (3/ 195).

ص: 420

وأجَاب عَمَّا أشْكَل في آيَة "المائدة"، فَقال: فإنْ قَال قَائل: كَيف يَقُولُون لا عِلْم لَنا وقَد عَلِمُوا مَا أجَابُوا؟

قيل: إنَّ جَهَنَّم تَزْفُر زَفْرة تَذْهَل بِهَا عُقُولهم، فَيَقُولون مِنْ شِدَّة الفَزَع: لا عِلْم لنا ثم يَرُدّ الله تعالى عَليهم عُقُولهم فيُخْبِرُون بِالْجَوَاب.

وقِيل: مَعْنَاه: لا عِلْم لَنا إلَّا العِلْم الذي أنْت أعْلَم به مِنَّا، أوْ إلَّا مَا عَلّمْتَنَا.

وقِيل: مَعْنَاه: لا عِلْم لَنا بِوَجْه الْحِكْمَة في سُؤالك إيانا عن أمْرٍ أنْت أعْلَم بِه مِنَّا.

وقِيل: مَعْنَاه: لا عِلْم بِعَاقِبة أمْرِهم، وبِمَا أحْدَثُوا مِنْ بَعْد، وأنَّ أمْرَهُم على مَاذا خُتِم. وعَلى هَذا دَلّ شَيئان:

أحَدهما: مِنْ الآيَة قَوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

والثَّاني: ما رُوي صَحيحًا

(1)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يُسْلَك بِطَائفَة مِنْ أصْحَابي ذَات الشِّمَال - يَعْنِي يَوْم القِيَامَة - فَأقُول: يَا رَبّ أصْحَابِي أصْحَابِي، فَيَقُول الله تبارك وتعالى: إنك لا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدك؛ إنّهم لَم يَزالُوا مُرْتَدِّين على أعْقَابِهم مُنْذ فَارَقْتَهم، فَأقُول مَا قَال العَبْد الصَّالِح: و (كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المائدة: 117]

(2)

.

وذَكَر الثعلبي في آيَة "المائدة" ثلاثة أقْوال:

(مَاذَا أُجِبْتُمْ) أي: مَا الذي أَجَابَتْكُم أمَّتُكم؟ ومَا الذي رَدّ عَليكم قَوْمُكم حِين دَعَوْتُمُوهم إلى تَوحِيدِي وطَاعَتي؟ (قَالُوا) أي: فَيَقُولُون (لَا عِلْمَ).

(1)

رواه البخاري ومسلم بنحوه. وسبق تخريجه.

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 77، 78).

ص: 421

قال ابن عباس: لا عِلْم لَنَا إلَّا عِلْم أنْت أعْلَم بِه مِنَّا.

وقال ابن جريج: مَعْنى قَوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) أي: مَا حملوا ويصدقوا بعدكم

(1)

. فيقولوا: (لَا عِلْمَ).

الحسن ومجاهد السدي ممن يَقول: ذلك اليَوم يَفْزَعُون ويَذْهَلُون عنِ الْجَوَاب، ثم يحتسبون

(2)

، بَعْد مَا تَثُوب إليهم عُقُولهم بِالشَّهَادَة عَلى أُمَّتِهم

(3)

.

وأَحَال الثعلبي في تَفسير سُورة النساء على نَظائر ذلك في "البقرة"

(4)

و"النَّحْل"

(5)

و"الحج"

(6)

.

واقْتَصَر في تَفْسِير سُورة الْحَجّ على بَيَانٍ مُقْتَضَب لِمَعْنَى (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) يَعني: أنْ قد بَلَّغَكم، (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أنَّ رُسُلَهم قَدْ بَلَّغَتْهم

(7)

.

ولَمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاهِدًا على أمَّته بَكَى عِند مَا قُرِئت عليه آية "النساء".

قال ابن بطال: وإنّمَا بَكَى صلى الله عليه وسلم عند هَذا؛ لأنه مَثَّلَ لِنَفْسِه أهْوال يوم القيامة وشِدة الحال الداعية له إلى شهادته لأُمّتِه بِتَصْدِيقِه والإيمان به، وسُؤَاله الشَّفَاعة لهم لِيُرِيحهم مِنْ طُول الْمَوْقِف وأهْواله، وهَذا أمْرٌ يَحِقّ لَه طُول البُكَاء والْحُزْن

(8)

.

(1)

هكذا في المطبوع، ويَظهر أنه تحريف لا معنى له، وقول ابن جريج - كما تقدم -: ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ وقد رواه عنه ابن جرير هكذا.

(2)

هكذا في المطبوع أيضًا، وصوابه: يجيبون.

(3)

الكشف والبيان، مرجع سابق (4/ 122).

(4)

الآية [143].

(5)

الآية [89].

(6)

[الآية 78].

(7)

الكشف والبيان، مرجع سابق (7/ 36).

(8)

شرح ابن بطال على صحيح البخاري (10/ 277).

ص: 422

وتَعَقَّبَه ابنُ حجر بِقَولِه: والذي يَظْهَر أنه بَكَى رَحْمَة لأمَّتِه، لأنه عَلِم أنه لا بُدّ أن يَشْهَد عليهم بِعَمَلِهم، وعَمَلهم قد لا يَكُون مُسْتَقِيمًا، فقد يُفْضِي إلى تَعْذِيبِهم. والله أعلم

(1)

.

وقد أخبر الله عز وجل ثناؤه أنَّ الْمُحَاسَبَة تَكُون بِشَهَادة النَّبِيِّين والشُّهَدَاء، وقال تعالى:(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الزمر: 69]، وقال:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]، فالشَّهِيد في هَذه الآيَة النبي صلى الله عليه وسلم، وشَهِيد كُلّ أمَّة نَبِيها، وأمَّا الشُّهَدَاء في الآيَة قَبْلَها فالأظْهَر أنّهم كَتَبَة الأعْمَال، تُحْضُر الأُمّة ورَسُولها، فَيُقَال للقَوم:(مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 65] ويُقَال للرُّسُل: (مَاذَا أَجَبْتُمْ)؟ فَيَقُول الرُّسُل لله: (لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وكأنهم نَسُوا مَا أُجِيبُوا به، وتَأخُذ الْهَيْبَة بِمَجَامِع قُلُوبِهم فَيَذْهَلُون في تِلك السَّاعَة عن الْجَوَاب، ثم يُثَبّتُهم الله ويُحْدِث لهم ذِكْرَى، فَيَشْهَدُون بِمَا أجَابَتْهم بِه أُمَمُهم

(2)

.

وأشَار الزمخشري إلى أنَّ مَعْنَى آية "النساء" بِمَعْنَى قَوله تَعالى: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ)[المائدة: 117]

(3)

.

واقْتَصَر في آيَة "النحل" على بَيَان الْمَعْنى باخْتِصَار

(4)

.

(1)

فتح الباري، مرجع سابق (9/ 99).

(2)

قاله البيهقي في "شُعب الإيمان"، مرجع سابق (1/ 247).

(3)

الكشاف، مرجع سابق (ص 237).

(4)

انظر: المرجع السابق (ص 581، 582).

ص: 423

وأمَّا في آيَة "المائدة" فَقد أطَال في الْجَواب، حيث قال:(مَاذَا) مُنْتَصِب بـ (أُجِبْتُمْ) انْتِصَاب مَصْدره على مَعْنَى أيّ إجَابَة أُجِبْتُم، ولو أُرِيد الْجَواب لَقِيل: بِمَاذا أُجِبْتُم؟

فإن قُلت: مَا مَعْنَى سُؤالِهم؟

قلت: تَوبيخ قَومِهم، كَمَا كان سُؤال الْمَوءودَة تَوْبِيخًا للوائِد.

فإن قلت: كَيف يَقُولُون: (لَا عِلْمَ لَنَا) وقد عَلِمُوا بِمَا أجِيبُوا؟

قلت: يَعْلَمُون أنَّ الغَرَض بالسُّؤال تَوْبِيخ أَعْدَائهم فَيَكِلُون الأمْر إلى عِلْمِه وإحَاطَته بِما مُنُوا بِه مِنهم، وكَابَدُوا مِنْ سُوء إجَابَتهم، إظهارًا للتَّشَكِّي واللجَأ إلى رَبّهم في الانْتِقَام مِنهم، وذلك أعْظَم على الكَفَرة، وأفَتّ في أعْضَادِهم، وأجْلَب لِحَسْرَتِهم، وسُقُوطِهم في أيْدِيهم إذا اجْتَمَع تَوبِيخ الله، وتَشَكِّي أنْبِيَائه عليهم.

ومِثاله: أن يَنْكُب بَعض الْخَوارِج على السُّلْطَان خَاصَّة مِنْ خَواصِّه نَكْبة قد عَرَفها السُّلْطان، واطَّلَع على كُنْهِها، وعَزَم على الانْتِصَار لَه مِنه، فَيَجْمَع بَيْنَهُما، ويَقُول له: ما فَعَل بِك هَذا الْخَارِجِيّ؟ وهو عَالِم بِما فَعَل به، يُريد تَوبِيخَه وتَبْكِيتَه، فَيَقُول له: أنْت أعْلَم بِما فَعَل بي، تَفْويضًا للأمْر إلى عِلْم سُلْطَانه، واتِّكَالًا عليه

(1)

، وإظْهَارًا للشِّكَاية، وتَعْظِيمًا لِمَا حَلّ بِه مِنه.

(1)

لا يجوز التوكل على غير الله، لقوله تعالى:(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا)[المائدة: 23] ولقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 122، 160]، [المائدة: 11]، [التوبة: 51]، [إبراهيم: 11]، [المجادلة: 10]، [التغابن: 13]؛ وفي صحيح البخاري (ح 1069)، ومسلم (ح 769) قوله عليه الصلاة والسلام:"وعليك توكلت". وتقديم ما حقه التأخير يقتضي الحصر، فحصر التوكل على الله وحده.

قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 7/ 16): التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحب الله ورسوله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى:(فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)[هود: 123]. =

ص: 424

وقيل: مِنْ هَول ذلك اليَوم يَفْزَعُون ويَذْهَلُون عن الْجَواب، ثم يُجِيبُون بَعْد مَا تَثُوب إليهم عُقُولُهم بِالشَّهَادة على أُمَمِهم.

وقيل: مَعْنَاه عِلْمُنا سَاقِط مع عِلْمك ومَغْمُور بِه، لأنك عَلَّام الغُيُوب.

ومَن عَلِمَ الْخَفِيَّات لَم تَخْفَ عليه الظَّوَاهِر التي مِنْها إجَابَة الأُمَم لِرُسُلِهم، فَكَأنَّه لا عِلْم لَنَا إلى جَنْب عِلْمِك.

وقيل: لا عِلْم لَنَا بِمَا كَان منهم بَعْدَنا، وإنّما الْحُكْم للخَاتِمَة.

وكيف يَخْفى عَليهم أمْرهم وقَد رَأوهم سُود الوُجُوه زُرْق العُيون مُوَبَّخِين؟

وقُرئ (علامَ الغيوب) بالنَّصْب على أنَّ الكَلام قَدْ تَمّ بِقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ). أي: إنك الْمَوْصُوف بأوصَافِك الْمَعْرُوفَة مِنْ العِلْم وغيره، ثم نَصَب (عَلامَ الغُيوب) على الاخْتِصَاص، أوْ على النِّدَاء، أوْ هُو صِفَة لاسْمِ إنَّ

(1)

.

وذَكَر ابن عطية الْخِلاف في آية "المائدة"، وضَعَّف كَون الأنْبياء يَذْهَلُون، فَقَال: واخْتَلَف النَّاس في مَعْنَى قَولهم عليهم السلام: (لَا عِلْمَ لَنَا)؛ فَقَال الطبري: ذُهِلُوا عَنْ الْجَوَاب لِهَول الْمَطْلَع. ثم ذَكَر ما ذَكَره ابن جرير، ثم قال:

وضَعَّف بَعض النَّاس هذا الْمَنْزَع بِقَوله تَعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ)[الأنبياء: 103]، والأنْبياء في أشَدّ أهْوَال يَوْم القِيَامَة وحَالَة جَوَاز الصِّرَاط يَقُولُون: سَلِّم سَلِّم

(2)

.

وحَالهم أعْظم، وفَضْل الله عَليهم أكْثر مِنْ أن تَذْهَل عُقُولهم حتى يَقُولُوا مَا لَيس بِحَقّ في نَفْسِه.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: مَعْنى الآية: لا عِلْم لَنا إلَّا عِلْمًا أنْت أعْلَم بِه مِنَّا.

(1)

وقال ابن رجب (كلمة الإخلاص - ص 24): ورد إطلاق الشرك على الرياء وعلى الحلف بغير الله وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه. وينظر: تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله (ص 439)، وفتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 170).

() الكشاف، مرجع سابق (ص 314).

(2)

كما في حديث أبي هريرة: رواه البخاري (ح 773)، ومسلم (ح 182).

ص: 425

قال ابن عطية: وهذا حَسَن، كَأن الْمَعْنَى: لا عِلْم لَنا يَكْفِي ويَنْتَهي إلى الغَايَة.

وقال ابن جُريج: معنى (مَاذَا أُجِبْتُمْ): ماذا عَمِلُوا بَعدكم، وما أحْدَثُوا؟ فلذلك قالوا:(لَا عِلْمَ لَنَا).

قال القاضي أبو محمد: وهذا مَعْنى حَسَن في نَفْسِه، ويُؤيِّدُه قَوله تَعالى:(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، لَكن لَفظة (أُجِبْتُمْ) لا تُسَاعِد قَول ابن جريج إلَّا على كُرْه! وقَول ابن عباس أصْوَب هذه الْمَنَاحِي، لأنه يَتَخَرَّج على التَّسْلِيم لله تَعالى، ورَدّ الأمْر إليه، إذْ قَوله:(مَاذَا أُجِبْتُمْ) لا عِلْم عِنْدَهم في جَوابِه إلَّا بِمَا شُوفِهُوا به مُدَّة حَيَاتِهم، ويَنْقُصُهم ما في قُلُوب الْمُشَافِهِين مِنْ نِفاق ونحوه، وما يَنْقُصُهم مَا كان بَعدهم مِنْ أُمَّتهم، والله تعالى يَعْلَم جميع ذلك على التَّفْصِيل والكَمَال، فَرَأوا التَّسْلِيم لَه والْخُضُوع لِعِلْمِه الْمُحِيط

(1)

.

وقَرَّر ابن عطية في آية "النساء" أنَّ مَعْنَى الآية: أنَّ الله يأتي بالأنْبياء شُهَداء على أُمَمِهم بالتَّصْدِيق والتَّكْذِيب. ومَعْنَى الأُمَّة في هَذه الآية .... جَمِيع مَنْ بُعِث إليه مَنْ آمَن مِنهم ومَن كَفَر

(2)

.

وأنَّ آية "النحل" مُتَضَمِّنَة للوَعِيد، حيث قال: قَوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) الآيَة، هَذه الآية في ضِمْنِها وَعِيد، والْمَعْنَى: واذْكُر يَوْم نَبْعَث في كُلّ أمَّة شَهِيدًا عَليها، وهو رَسُولُها الذي شَاهَد في الدُّنيا تَكْذِيبَها وكُفْرَها، وإيمَانَها وهُدَاها، ويَجوز أن يَبْعَثَ الله شَهِيدًا مِنْ الصَّالِحِين مَع الرُّسُل، وقد قَال بَعض الصَّحَابة: إذا رَأيتَ أحَدًا على مَعْصِية فانْهَه، فإن أطَاعَك وإلَّا كُنْتَ شَهِيدًا عَليه يَوْم القِيَامَة

(3)

.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 256، 257).

(2)

المرجع السابق (2/ 55) باختصار.

(3)

المرجع السابق (3/ 415).

ص: 426

وبِنحو جَواب الزمخشري أجَاب ابنُ جُزَيّ، بل نَقَل عنه بَعض جَوَابه، فَقَال في آيَة "المائدة":(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) هو يَوم القِيَامَة، وانْتَصَبَ الظَّرْف بِفِعْلٍ مُضْمَر، أي: مَاذا أجَابَكم بِه الأُمَم مِنْ إيمان وكُفْر، وطَاعة ومَعْصِيَة، والْمَقْصُود بِهَذا السُّؤال تَوْبِيخ مَنْ كَفَر مِنْ الأُمَم، وإقَامَة الْحُجَّة عَليهم.

(قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) إنما قالوا ذلك تأدُّبًا مع الله، فَوَكَلُوا العِلْم إليه.

قال ابن عباس: الْمَعْنَى: لا عِلْم لَنا إلَّا مَا عَلّمْتَنا.

وقيل: مَعْنَاه: عِلْمُنا سَاقِط في جَنْب عِلْمِك، ويُقَوِّي ذَلك قَوله:(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)؛ لأنَّ مَنْ عَلِم الْخَفِيّات لم تَخْفَ عَليه الظَّوَاهِر.

وقيل: ذُهِلُوا عن الْجَواب لِهَول ذلك اليَوم، وهذا بَعيد، لأنَّ الأنبياء في ذلك اليَوم آمِنُون.

وقيل: أرَادُوا بِذلك تَوْبِيخ الكُفَّار

(1)

.

واكْتَفَى في آيَة "النساء" بِذِكْر الْمَعْنَى، فَقال:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا) تقديره: كَيف يَكُون الْحَال إذا جئنَا بِشَهِيد، هُو نَبِيّهم يَشْهَد عَليهم بأعْمَالِهم، (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) أي: تَشْهَد على قَومِك

(2)

.

كَمَا اقْتَصَر في آيَة "النحل" على قَوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) أي: يَشْهَد عَليهم بِإيمَانِهم وكُفْرِهم

(3)

.

ونَقَل الرازي عن الزمخشري بعض قَوله، ثم أجَاب عن تَوهُّم التَّعَارُض بِقَوله: قَوله تَعالى: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يَدُلّ على أنَّ الأنبياء لا يَشْهَدُون لأُمَمِهم،

(1)

التسهيل، مرجع سابق (1/ 192).

(2)

المرجع السابق (1/ 141).

(3)

المرجع السابق (2/ 160).

ص: 427

والْجَمْع بَيْن هَذا وبَيْن قَوله تَعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) مُشْكِل، وأيضًا قَوله تَعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]، فإذا كَانت أُمَّتُنا تَشْهَد لِسَائر النَّاس فَالأنْبِياء أَوْلَى بِأن يَشْهَدُوا لأُمَمِهم بِذلك.

والْجَوَاب عنه مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: قَال جَمْع مِنْ الْمُفَسِّرِين: إنَّ للقِيَامَة زَلازِل وأهْوالًا بِحَيث تَزُول القُلُوب عن مَواضِعِها عند مُشَاهَدَتِها، فَالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مُشَاهَدَة تِلك الأهْوَال يَنْسَون أَكْثَر الأمُور، فَهُنَالِك يَقُولُون: لا عِلْم لَنا، فإذا عَادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يَشْهَدُون للأُمَم. وهذا الْجَوَاب وإن ذَهَب إليه جَمْع عَظِيم مِنْ الأكَابر فهو عِنْدِي ضَعيف.

ثم عَلّل ذلك بأنَّ أهْل الإيمان لا يَحْزُنُهم الفَزَع الأكْبَر، ثم قال:

فَكَيف يَكُون حَال الأنبياء والرُّسُل أقَل مِنْ ذلك؟ ومَعْلُوم أنّهم لَو خَافُوا لَكَانُوا أقلّ مَنْزِلة مِنْ هَؤلاء الذين أخْبر الله تعالى عَنهم أنّهم لا يَخَافُون ألبتة

(1)

.

والوجه الثاني: أن المراد مِنه المبالغة في تحقيق فَضيحتهم، كَمَنْ يَقول لغيره: ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت أعلم به مِنّي، كأنه قيل: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لِظُهُورِه، وهذا أيضًا ليس بِقَويّ، لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمّة، وكل الأمة ما كانوا كافِرين حتى تَرُدّ الرسل بالنفيِ تَبكيتهم وفَضيحتهم.

والوجه الثالث في الجواب - وهو الأصح- وهو الذي اختاره ابن عباس: أنهم إنما قالوا لا عِلْم لنا لأنك تَعلم ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحن لا نَعلم إلا ما أظْهَرُوا فَعِلْمُك فيهم أنْفَذ مِنْ عِلْمِنا، فلهذا المعنى نَفَوا العِلْم عن أنفسهم، لأن عِلمهم عند الله كَلَا عِلْم.

(1)

وهذا مُتعقّب، وسيأتي تعقّبه في "رأي الباحث".

ص: 428

والوَجْه الرَّابع في الْجَوَاب: أنّهم قالوا: لا عِلم لَنا إلَّا أن عِلْمَنا جَوابَهم لَنا وَقْت حَياتِنا، ولا نَعْلَم مَا كَان مِنهم بَعد وَفَاتِنا، والْجَزاء والثَّوَاب إنّمَا يَحْصُلان على الْخَاتِمَة وذلك غَير مَعْلُوم لَنا؛ فَلِهَذا الْمَعْنَى قَالوا: لا عِلْم لَنا. وقَوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يَشهد بِصِحّة هَذَين الْجَوابَين.

الوَجْه الْخَامس - وهو الذي خَطَر بِبَالي وقت الكتابة -: أنه قد ثَبت في علم الأصول أن العِلْم غير، والظَّنّ غير، والْحَاصِل عِند كُلّ أحَدٍ مِنْ حَالِ الغَير إنّمَا هُو الظَّن لا العِلْم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: نحن نَحْكُم بالظَّاهِر، والله يَتَولَّى السَّرَائر

(1)

. وقال عليه الصلاة والسلام: إنكم لَتَخْتَصِمُون لَدَيّ، ولَعَلَّ بَعْضَكم ألْحَن بِحُجَّتِه، فَمَنْ حَكَمْتُ له بِغَير حَقِّه فَكَأنّمَا قَطَعْتُ له قِطْعَة مِنْ النَّار

(2)

. أوْ لَفْظٌ هذا مَعْنَاه. فَالأنْبِياء قَالوا: لا عِلْم لَنا ألبتة بأحْوالِهم، إنّمَا الْحَاصِل عِنْدَنَا مِنْ أحْوَالِهم هو الظَّن، والظَّن كان مُعْتَبَرًا في الدّنيا، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنيا كانت مَبْنِيّة على الظن، وأمَّا الآخِرَة فلا الْتِفَات فيها إلى الظَّن، لأنَّ الأحكام في الآخرة مَبْنِيّة على حقائق الأشياء وبَواطِن الأمُور، فَلِهَذا السَّبَب قَالوا: لا عِلْم لَنا [إلا ما عَلّمتنا]

(3)

، ولم يَذكروا ألبتة مَا مَعهم مِنْ الظَّنّ، لأنَّ الظَّن لا عِبرة بِه في القِيَامَة.

(1)

نقل ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 432) عن الحافظ جمال الدين المزي قوله: لا نعرفه.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 192): هذا الحديث استنكره المزني، فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه. اهـ.

وفي معناه ما رواه الإمام أحمد (ح 3309) من قوله صلى الله عليه وسلم للعباس يوم بدر: إن يك ما تدعي حقًا فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال الهيثمي (6/ 86): رواه أحمد وفيه راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات. وينظر تخريجه في تخريج المسند (5/ 335، 336).

وفي معناه أيضًا ما رواه البخاري (ح 4094)، ومسلم (ح 1064) من قوله عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمَر أن أُنَقِّب قلوب الناس، ولا أَشُقَّ بطونهم و"معناه: إني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". قاله النووي (المنهاج، مرجع سابق 7/ 163).

(2)

رواه - بنحوه - البخاري (ح 2534)، ومسلم (ح 1713).

(3)

في المطبوع جُعِلت بين قوسين على أنها آية واحدة، وهي مقحمة، لأن هذه الزيادة من سورة البقرة في قصة الملائكة مع آدم.

ص: 429

الوَجه السادس: أنّهم لَمَّا عَلِمُوا أنه سبحانه وتعالى عَالم لا يَجْهَل، حَكِيم لا يَسْفَه، عادِل لا يَظْلِم؛ عَلِمُوا أنَّ قَولهم لا يُفِيد خَيرًا، ولا يَدْفَع شَرًّا، فَرَأوا أنَّ الأدَب في السُّكُوت، وفي تَفْويض الأمْر إلى عَدْلِ الْحَيّ القَيُّوم الذي لا يَمُوت

(1)

.

وفي آية "النساء": بَيَّن أنَّ شَهَادَة الرُّسُل الذين جَعَلهم الله الْحُجَّة على الْخَلْق لِتَكُون الْحُجَّة على الْمُسِيء أبْلَغ، والتَّبْكِيت له أعْظَم، وحَسْرَتُه أشَدّ، ويَكُون سُرُور مَنْ قَبِل ذلك مِنْ الرَّسُول وأظْهَر الطاعة؛ أعْظم، ويَكُون هذا وَعِيدًا للكُفَّار الذين قال الله فيهم:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، ووَعْدًا للمُطِيعِين الذين قَال الله فِيهم:(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)[النساء: 40]

(2)

.

وقال في آية "النحل": والْمُرَاد بِهَؤلاء الشُّهَداء الأنبياء، كَمَا قَال تَعالى:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]

(3)

.

وفي آية "النساء" أوْرَد ابن كثير مَا رَواه ابن جرير مِنْ قِراءة ابن مسعود وسَماع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا بَلَغ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شَهِيدًا عَليهم مَا دُمْتُ فيهم، فإذا تَوفَّيتَنِي كُنْتَ أَنت الرَّقِيب عليهم، وأنْتَ على كُلِّ شَيء شَهِيد.

ثم نبّه ابن كثير على ضَعْف كَوْن شَهَادَته صلى الله عليه وسلم عند عَرْض أعْمَال أمَّتِه عَليه وهُو في قَبْرِه

(4)

.

وفي آية "النحل" وَضَّح أنَّ مَعْنَى الشَّهِيد هو نَبِيّ كل أمَّة يشْهَد عليها بِمَا أجَابَته فيمَا بَلَّغَها عن الله تعالى

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (12/ 101، 102).

(2)

المرجع السابق (10/ 85).

(3)

المرجع السابق (20/ 77).

(4)

انظر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (4/ 57).

(5)

انظر: المرجع السابق (8/ 340).

ص: 430

وأكْثر النَّقْل عن ابن جرير في آية "المائدة"، ورَجَّح مَا اخْتَارَه ابن جرير واسْتَحْسَن ذلك الاخْتِيَار، لأنه "مِنْ بَاب التَّأدُّب مَع الرَّبَ جل جلاله. أي: لا عِلْم لَنا بِالنِّسْبَة إلى عِلْمِك الْمُحِيط بِكلّ شَيء، فنحن وإن كُنَّا قَدْ أُجِبْنَا وعَرَفْنَا مَنْ أَجَابَنَا، ولَكِن مِنهم مَنْ كُنَّا إنما نَطّلِع على ظَاهِره لا عِلْم لَنا بِبَاطِنه، وأنْتَ العَلِيم بِكُلّ شَيء، الْمُطَّلِع على كُلّ شَيء؛ فَعِلْمُنا بِالنِّسْبَة إلى عِلمِك كَلا عِلْم، فـ (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) "

(1)

.

وهذا الذي رَجَّحَه ابن القيم لأنَّ "هَذا هو الأدَب الْمُطَابِق للحَقّ في نَفْس الأمْر، فإنَّ عُلُومَهم وعُلُوم الْخَلائق تَضْمَحِلّ وتَتَلاشَى في عِلْمِه سُبحانه، كما يَضْمَحِلّ ضَوء السِّراج الضَّعِيف في عَيْن الشَّمْس"

(2)

.

وجَمَع الشنقيطي بَيْن الآيَات مِنْ ثَلاثَة أوْجُه، ضَعَّف آخِرها:

الأوَّل: وهو اختيار ابن جرير، وقال فيه ابن كثير: لا شَك أنه حَسَن - أنَّ الْمَعْنَى: لا عِلْم لَنا إلَّا عِلْم أنْت أعْلَم بِه مِنَّا، فَلا عِلْم لَنا بِالنِّسْبَة إلى عِلْمِك الْمُحِيط بِكُلّ شَيء، فنحن وإن عَرَفْنَا مَنْ أجَابَنَا فإنّمَا نَعْرِف الظَّواهِر ولا عِلْم لَنا بِالبَواطِن، وأنْت الْمُطَّلِع على السَّرَائر ومَا تُخْفِي الضَّمائر؛ فَعِلْمُنا بِالنِّسْبَة إلى عِلْمِك كَلَا عِلْم.

الثاني: أنهم قَالوا: (لَا عِلْمَ لَنَا)، لِمَا اعْتَرَاهُم مِنْ شِدَّة هَول يَوْم القِيَامَة، ثم زَال ذَلك عنهم فَشَهِدُوا على أُمَمِهم.

الثالث: - وهو أضْعَفها - أنَّ مَعْنَى قَوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ): ماذا عَمِلُوا بَعْدكم، ومَا أحْدَثُوا بَعْدَكم؟ قَالوا:(لَا عِلْمَ لَنَا). ذَكَر ابن كثير وغيره هذا القَول، ولا يَخْفَى بُعْده عن ظاهِر القرآن

(3)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (5/ 411).

(2)

شفاء العليل، مرجع سابق (ص 187).

(3)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 79، 80).

ص: 431

‌رأي الباحث:

لَيْس بَيْن الآيات تَعَارُض؛ لأنَّ إثْبَات شَهَادَة الرُّسُل على أُمَمهم لا يُنَافِيه قَول الرُّسُل. (لَا عِلْمَ لَنَا)؛ لأنَّ نَفْي العِلم يَكُون بِأمُور:

الأوَّل - وهو مَا اخْتَارُه جَمْع من الْمُفَسِّرِين، وهو قَول ابن عباس رضي الله عنهما: لا علْم لَنا إلَّا علْم أنْت أعْلَم به منَّا، وهو مَقام الْمُتَأدِّب مَع الله.

والثَّاني: أنَّ ذلك يَكُون حَال شِدَّة الْهَول، وقد رَدَّه غَير واحِد مِنْ الْمُفَسِّرين؛ لأنه خِلاف مَا يَكون مِنْ حَال الْمُؤمِنين الآمِنين يوم الفَزَع فَضْلًا عن الرُّسُل الذين هُمْ أكْمَل الْخَلْق، ودَعْواهم يَومَئذ: اللهم سَلِّم سَلِّم.

ومَا قِيل في تَضْعِيف هذا القَول مِنْ أنَّ الأنْبِياء لا خَوْف عَليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، وأن أهْل الإيمان لا يَحزُنُهم الفَزَع الأكْبَر؛ مُتعقّب بأنَّ الْخَوف الْمَنْفي عنهم ليس مُطلَق الْخَوف، وإنّما هو الْخَوف الشَّدِيد الذي تَزُول مَعه القُلُوب ويَدُلّ عليه أنَّ الأنبياء تَفْزَع مِنْ هَول يَوْم القِيَامَة، وقد جاء في الحديث الإخْبَار عن الأنْبياء قَولهم للنَّاس يَوم القيامة: إن ربي قد غَضِبَ اليوم غَضَبًا لَم يَغْضَب قبله مثله، ولن يَغضب بَعده مثله

(1)

.

وفي الحديث: لا تُخَيِّرُوا بين الأنبياء، فإنَّ الناس يُصْعَقُون يوم القيامة، فأكُون أوَّل مَنْ تَنْشَقّ عنه الأرْض، فإذا أنا بِمُوسى آخِذ بِقَائمَة مِنْ قَوائم العَرْش، فَلا أَدْرِي أكَان فِيمَن صُعِق أمْ حُوسِب بِصَعْقَةِ الأُولى

(2)

.

ونظير نَفْي الْخَوف والْحُزن هنا نَفْي الْمُحاسَبَة في حَقِّ الْمُؤمِن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ حُوسِب عُذِّب. فَقَالت عَائشة: أوَلَيس يَقُول الله تَعالى: (فَسَوْفَ

(1)

رواه البخاري (ح 4435).

(2)

رواه البخاري (ح 2281).

ص: 432

يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق: 8] قَالت فَقَال: إنّمَا ذلكَ العَرْض، ولَكِن مَنْ نُوقِش الْحِسَاب يَهْلِك

(1)

.

والثَّالث: أنهم نَفَوا عِلْمَهم اليَقِيني بِمَا أجَابُوا به، لأنَّ السَّرَائر أمْرُها إلى الله.

وقول ابن جُريج أيضًا قَول مُعتَبَر، وذلك أنَّ السُّؤال يَكُون عَنْ "مَاذا عَمِلُوا بَعْدكم، ومَا أحْدَثُوا بَعْدَكم؟ "، ولا يُنافي هذا كَون الرُّسُل لا يَعْلَمُون مَا أحْدَثَتْه أمَمهم بَعْدهم؛ إذ يجوز أن يَكون السُّؤال عما خَفِي، وقَد سَأل الله تبارك وتعالى الْمَلائكة عَمَّا خَفِي عليهم، فقال جل جلاله:(أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 31، 32]، فَلَمَّا سَأل الْمَلائكَة عَمَّا لا عِلْم لهم بِه أجابوا بِنَحو مَا تُجِيب بِه الرُّسُل يَوْم القِيَامَة.

ومَا أخْبَر بِه النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكون في يَوْم القِيَامة دَالّ على ذلك، فَمِنْ ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: يُجَاء بِرِجَال مِنْ أُمَّتِي فَيُؤخَذ بِهم ذَات الشِّمَال فَأقُول: يَا رَب أصْحَابي، فَيَقُول: إنك لا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَك. فَأقُول كَمَا قَال العَبْد الصَّالِح: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 117، 118] قال: فيُقَال: إنّهم لَم يَزَالُوا مُرْتَدّين على أعْقَابِهم

(2)

.

فاسْتِشْهَاده صلى الله عليه وسلم بِهذه الآيَة مُشْعِر بأنَّ الشَّهَادَة على مَجْمُوع الأمَّة وقد وكَل عِلْم مَا لَم يَشْهَدْه ومَا لَم يَحضُرْه إلى الله، اقْتِدَاء بِعِيسَى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

كما أنَّ مَعْرِفَته صلى الله عليه وسلم لأمَّته في الْمَحْشَر دَالّ على عِلْمِه بِمَنْ اسْتَجَاب لَه حَتى بَعْد مَمَاتِه، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تَعْرِف مَنْ لَم

(1)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(2)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

ص: 433

يأتِ بَعْد مِنْ أُمَّتك؟ فقال: أرَأيت لو أن رَجُلًا له خَيل غُرّ مُحَجَّلة بَيْن ظَهْرَي خَيْل دُهْم بُهْم، ألا يَعْرِف خَيْلَه؟ قَالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنّهم يَأتُون غُرًّا مُحَجَّلِين مِنْ الوُضُوء، وأنا فَرَطُهم على الْحَوض

(1)

.

إشكال وجوابه

(2)

:

لَيس في قَوله صلى الله عليه وسلم: يَا رَبّ أصْحَابي، فَيَقُول: إنك لا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَك

فَيُقَال: إنّهم لَم يَزَالُوا مُرْتَدِّين على أعْقَابِهم - لَيس فِيه طَعْن في الصَّحَابة كَمَا توَهَّمَه أهْل البِدَع والزنْدَقَة.

والْجَوَاب عنه مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: أنَّ ذلك في حقِّ مَنْ ارْتَدّ مِنْ الصَّحَابة، ومَات على ذلك، كَالذين ارْتَدُّوا بَعْد مَوتِه صلى الله عليه وسلم، وقاتَلَهم الصَّحَابة، وعُرِفتْ تِلك الْحُرُوب بـ "حُروب الرِّدّة"، وإن كان مَنْ ارْتَدّ مِنْ الصَّحابَة يُعَدُّون آحَادًا.

ويُبيِّن هَذا مَا أعْقَب بِه البُخاري رِوَايته لِحَدِيث ابن عباس. قال محمد بن يوسف الفربري ذُكِر عن أبي عبد الله

(3)

عن قَبيصة قال: هُمْ الْمُرْتَدُّون الذين ارْتَدّوا على عهد أبي بَكر، فَقَاتَلَهم أبو بَكر رضي الله عنه

(4)

.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لَمَّا تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارْتَدَّتِ العَرَب

(5)

.

الثَّاني: أنَّ مَنْ ارْتَدّ لا يَنْطَبِق عليه وَصْف الصُّحْبَة الاصْطِلاحِيّ، إذْ الصَّحَابي هو "مَنْ لَقِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا ومَاتَ على إسْلامِه"

(6)

.

(1)

رواه مسلم (ح 249).

(2)

إنما أوردت هذا لتعلقه بهذا المبحث حيث ورد فيه الحديث عرضًا.

(3)

هو البخاري نفسه.

(4)

صحيح البخاري (3/ 1271).

(5)

رواه النسائي (ح 3094).

(6)

تدريب الراوي، مرجع سابق (2/ 209).

ص: 434

وبِتَعْرِيف آخَر: "هو مَنْ لَقِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤمِنًا به ومَات على الإسْلام، ولو تَخلّلَتْ رِدَّة في الأصَحّ"

(1)

.

الثَّالث: أنَّ ذلك في عُمُوم الأُمَّة، ليس خَاصًّا بالصَّحَابة، ويَدُلّ على هَذا مَا جَاء في رِواية للبُخَاري

(2)

: أنا على حَوْضِي أنْتَظِر مَنْ يَرِدّ عَليّ، فيُؤخَذ بِنَاسٍ مِنْ دُوني فأقُول: أُمَّتي، فَيَقُول: لا تَدْرِي، مَشَوا على القَهْقَرى. قال ابن أبي مليكة: اللهم إنا نَعُوذ بِك أن نَرْجِع على أعْقَابِنا أو نُفْتَن.

فابْنُ أبي مُليكة فَهِم عُمُوم النَّصّ، وعَدم اخْتِصَاصِه بِالصَّحَابة؛ فاسْتَعاذ بالله مِنْ الرُّجُوع على الأعْقَاب.

الرَّابِع: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يَعرِف أصْحَابه قَبل غَيرهم مِنْ أتْبَاعِه، ويَدُلّ عليه مَا في حَدِيث حُذيفة قَوله صلى الله عليه وسلم: إنّ حَوضي لأبْعَد مِنْ أيْلة مِنْ عَدن، والذي نَفْسِي بِيَدِه إني لأذُود عنه الرِّجَال كَمَا يَذود الرَّجُل الإِبل الغَرِيبَة عن حَوْضِه. قَالوا: يَا رَسُول الله وتَعْرِفُنا؟ قال: نَعم، تَرِدُون عَليّ غُرًّا مُحَجّلِين مِنْ آثَار الوُضُوء، لَيْسَت لأحَدٍ غَيركم

(3)

.

الخامس: أنَّ فَضَائل الصَّحَابة أكْثَر مِنْ أن تُعَدّ، وأشْهَر مِنْ أن تُحْصَر، فلا تُهْدَر فَضَائلهم، ولا مَا في النُّصوص الْمُحْكَمَة بِمثل هَذا الاحْتِمَال.

السادس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن سَبّ أصْحَابه، ولو عَلِم أنّهم يَمُوتُون على الرِّدَّة لَمَا نَهَى عن ذلك. والصَّحَابة قد زَكَّاهُم اللهُ ورَسُولُه صلى الله عليه وسلم.

السَّابِع: أنَّ الطَّعْن في الصَّحَابة هو في حَقِيقَتِه طَعْنٌ في الدِّين.

قال أبو زُرْعَة: إذا رَأيت الرَّجُل يَنْتَقِص أحَدًا مِنْ أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْلَم أنه زِنْدِيق، وذلك أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عِنْدَنا حَقّ،

(1)

نُزهة النظر، ابن حجر (مع النُّكَت، الحلبي)(ص 149).

(2)

من حديث أسماء (ح 6641).

(3)

رواه مسلم (ح 248).

ص: 435

والقُرآن حَقّ، وإنّمَا أدَّى إلَينا هَذا القُرْآن والسُّنَن أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّمَا يُرِيدُون أنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنا لِيُبْطِلُوا الكِتَاب والسُّنَّة، والْجَرْح بِهم أَوْلى، وهُم زَنَادِقَة

(1)

.

وقال ابن أبي حَاتِم: سَمِعْتُ أَبِي يَقُول:

وعَلامَة أهْل البِدَع الوَقِيعَة في أهْل الأثَر، وعَلامَة الزَّنَادِقَة تَسْمِيَتهم أهْل السُّنَّة حَشَويَّة؛ يُرِيدُون إبْطَال الآثَار

(2)

.

‌المثال الثالث:

سُلْطَان الشَّيْطَان:

قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)[الإسراء: 65]، وقَوله تَعالى:(وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ)[سبأ: 21]، مَع قَوله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)[الحجر: 42]، وقَوله تَعالى:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 99، 100].

‌صورة التعارض:

في الآيَتَين الأُولَيَيْن نَفْي سُلْطَان الشَّيْطَان، وإثْبَاته في الأُخْرَيَيْن.

(1)

الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (ص 49).

(2)

شرح أصول أهل السنة، اللالكائي، مرجع سابق (1/ 179). وانظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، مرجع سابق (4/ 429).

ص: 436

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آية "الْحِجْر": قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) قَال العُلَمَاء: يَعْنِي: عَلى قُلُوبِهم.

وقال ابن عيينة: أي: في أنْ يُلْقِيهم في ذَنْب يَمْنَعْهم عَفْوِي ويُضَيِّقه عَليهم.

وهَؤلاء الذين هَدَاهُم الله واجْتَبَاهُم واخْتَارَهم واصْطَفَاهم.

قُلْتُ: لَعَلّ قَائلًا يَقُول: قد أَخْبَر الله عن صِفَة آدَم وحَوَّاء عليهما السلام بِقَوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)[البقرة: 36]، وعن جُمْلَةٍ مِنْ أصْحَاب نَبِيِّه بِقَولِه:(إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)[آل عمران: 155].

فالْجَوَاب مَا ذُكِر، وهو أنه لَيس لَه سُلْطَان على قُلُوبِهم، ولا مَوضِع إيمَانِهم، ولا يُلْقِيهم في ذَنْب يَؤول إلى عَدَم القَبُول، بل تُزِيلُه التَّوْبَة، وتَمْحُوه الأَوْبَة. ولم يَكُنْ خُروج آدم عُقُوبَة لِمَا تَنَاول

ثم إنَّ قَوله سُبحانه: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) يُحْتَمَل أن يَكُون خَاصًّا فيمن حَفِظَه الله، ويُحْتَمَل أن يَكُون في أكْثَر الأوْقَات والأحْوَال، وقد يَكون في تَسَلُّطِه تَفْرِيج كُرْبَة وإزَالة غُمَّة، كَمَا فَعَل بِبِلال إذْ أتَاه يُهَدِّيه كَمَا يُهَدَّى الصَّبِي حَتى نَام، ونَام النبي صلى الله عليه وسلم وأصْحَابه فَلم يَسْتَيْقِظُوا حتى طَلَعَتِ الشَّمْس، وفَزِعُوا، وقَالُوا: مَا كَفَّارَة مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنا في صَلاتِنا؟ فَقَال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لَيْس في النَّوْم تَفْرِيط

(1)

. فَفَرَّجَ عَنهم.

(إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ) أي: الضَّالِين الْمُشْرِكِين، أي: سُلْطَانه على هَؤلاء. دَلِيلُه (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)[النحل: 100]

(2)

.

(1)

رواه مالك في الموطأ (ح 26) مُرْسَلًا، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: إنَّ الشيطان أتى بلالًا وهو قائم يصلي فأضجعه، فلم يزل يُهَدِّنه كما يهدأ الصبي حتى نام. والحديث رواه البخاري (ح 337)، ومسلم (ح 682) من حديث عمران بن حصين، ورواه البخاري (ح 570) مختصرًا، ومسلم (ح 681) مطولًا من حديث أبي قتادة، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة (ح 680).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 27، 28).

ص: 437

وقَال في آيَة "النحل": قَوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي: الإغْوَاء والكُفْر، أي: لَيْس لك قُدْرَة على أنْ تَحْمِلَهم على ذَنْب لا يُغْفَر، قاله سُفيان.

وقال مجاهد: لا حُجَّة لَه عَلى مَا يَدْعُوهم إلَيه مِنْ الْمَعَاصِي. وقِيل: إنه لَيس لَه عَليهم سُلْطَان بِحَال؛ لأنَّ الله تَعالى صَرَف سُلْطَانه عليهم حين قال عَدُو الله إبْليس لَعَنَه الله: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39، 40]، قَال الله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)[الحجر: 42]. قلتُ: قَدْ بَيَّنَّا أنَّ هَذا عَامّ يَدْخُلُه التَّخْصِيص، وقد أغْوَى آدَم وحَوَّاء عليهما السلام بِسُلْطَانِه، وقَد شَوّش على الفُضَلاء أوْقَاتَهم بِقَوله: مَنْ خَلَقَ رَبك؟ حسبما تقدم في آخر الأعراف بيانه

(1)

.

ثم بَيَّن القُرطبي مَعْنَى قَوله تَعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي: يُطِيعُونه، يُقَال: تَوَلَّيته، أي: أطَعْته، وتَوَلَّيت عنه، أي: أعْرَضْت عنه. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي: بِالله. وقِيل: يُرْجَع بِه إلى الشَّيْطان. والْمَعْنَى: والذين هُمْ مِنْ أجْلِه مُشْرِكُون. يُقَال: كَفَرْت بِهذه الكَلِمة، أي: مِنْ أجْلِها، وصَار فُلان بِك عَالِمًا، أي: مِنْ أجْلك، أي: والذي تَوَلَّى الشَّيْطَان مُشْرِكُون بِالله

(2)

.

وبيّن في تَفْسِير قَوله تَعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأعراف: 200] بيَان الوَسْوَسَة، ومَا شَكَاه الصَّحَابة رضي الله عنهم مِنْها، وأنَّ الْخَوَاطِر التي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّة ولا اجْتَلَبَتْها الشُّبْهَة أنّها تُدْفَع بالإعْرَاض عَنها، وعلى مِثْلِها يُطْلَق اسْم الوَسْوَسَة. وأوْضَح أنَّ "النَّغْز والنَّزْغ والْهَمْز والوَسْوَسَة سَوَاء"

(3)

.

(1)

ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 156، 157) باختصار.

(3)

انظر: المرجع السابق (7/ 305، 306).

ص: 438

وأبَان عن مَعْنَى قَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201] أنَّ الْمُؤمِن إذا مَسَّه طَيْف مِنْ الشَّيْطَان تَنَبَّه عَنْ قُرْب

(1)

.

وبَيَّن في تَفْسِير قَوله تَعالى: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)[يوسف: 42] عِصْمَة الأنْبِيَاء، و"أنَّ النَّاسِي هو السَّاقِي لا يُوسُف". واسْتَدَلَّ بِقَوله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)[الحجر: 42]

(2)

.

واقْتَصَر في تَفْسِير سُورة الإسْراء على قَوله: قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) قال ابن عباس: هُمْ الْمُؤمِنُون - وقد تقدم الكلام فيه - (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلَا) أي: عَاصِمًا مِنْ القَبُول مِنْ إبْلِيس، وحَافِظًا مِنْ كَيْدِه وسُوء مَكْرِه

(3)

.

وفي سُورة سَبأ بَيَّن مَعْنَى الآيَة التي قَبْلَها، فَنَقَل في قَوله تَعالى:(فَاتَّبَعُوهُ)[سبأ: 20] عن الْحَسَن قَوله: مَا ضَرَبَهم بِسَوط ولا بِعَصَا، وإنّمَا ظَنَّ ظَنًّا، فَكَان كَمَا ظَنّ بِوَسْوَسَتِه.

وفي قَوله تَعالى: (إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال:

وفِيه قَوْلان:

أحَدهما: أنه يُرَاد به بَعض الْمُؤمِنين، لأنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُؤمِنِين مَنْ يُذْنِب ويَنْقَاد لإبْلِيس في بَعْض الْمَعَاصِي، أي: مَا سَلِمَ مِنْ الْمُؤمِنين أيضًا إلَّا فَرِيق، وهو الْمَعْنِيّ بِقَوله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ). فأمَّا ابن عباس فَعَنْه أنه قَال: هُمْ الْمُؤمِنُون كُلّهم. فـ (مِنَ) على هذا للتَّبْيين لا للتَّبْعِيض.

فإن قيل: كيف عَلِم إبْلِيس صِدْق ظَنِّه وهُو لا يَعْلَم الغَيْب؟

(1)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 308).

(2)

انظر: المرجع السابق (9/ 167).

(3)

المرجع السابق (10/ 252).

ص: 439

قِيل له: لَمَّا نَفَذَ له في آدَم مَا نَفَذ

(1)

غَلَب على ظَنِّه أنه يَنْفُذ له مِثْل ذلك في ذُرِّيَّتِه، وقَد وَقَع له تَحْقِيق مَا ظَنّ

(2)

.

وجَواب آخَر - وهو مَا أُجِيب مِنْ قَوله تَعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)[الإسراء: 64]، فأُعْطِي القُوَّة والاسْتِطَاعَة، فَظَنّ أنه يَمْلِكُهم كُلّهم بِذلك، فَلَمَّا رَأى أنه تَاب على آدَم، وأنه سَيكُون له نَسْل يَتْبَعُونَه إلى الْجَنَّة، وقال:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) عَلِم أنَّ له تَبَعًا، ولآدم تَبَعًا، فَظَنّ أنَّ تَبَعه أكْثَر مِنْ تَبع آدَم لِمَا وُضِع في يَدَيه مِنْ سُلْطَان الشَّهَوَات، ووُضِعَتِ الشَّهوات في أجْوَاف الآدمِيِّين، فَخَرج على ما ظَنّ حَيث نَفَخ فيهم وزَيَّن في أعْيُنِهم تِلك الشَّهَوات، ومَدَّهم إليها بالأمَاني والْخَدَائع؛ فَصَدَّق عَليهم الظَّنّ الذي ظَنَّه، والله أعلم.

وقال: قَوله تَعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: لم يَقْهَرْهم إبْلِيس على الكُفْر، وإنّمَا كَان مِنه الدُّعَاء والتزْيِين، والسُّلْطَان: القُوَّة. وقِيل: الْحُجَّة، أي: لَم تَكُنْ لَه حُجَّة يَسْتَتْبِعُهم بِهَا، وإنّمَا اتَّبَعُوه بِشَهْوة وتَقْلِيد، وهَوى نَفْس، لا عَنْ حُجَّة ودَلِيل.

(1)

أي تحقق له ما أراد من إغوائه (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه: 121].

(2)

وجواب آخر، وهو رؤية إبليس لخلق آدم وامتحانه لذلك. ففي صحيح مسلم (ح 2611) من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقًا لا يتمالك.

قال النووي في المنهاج (16/ 164): قوله صلى الله عليه وسلم: "يُطيف به". قال أهل اللغة: طاف بالشيء يطوف طوفا وطوافًا، وأطاف يطيف: إذا استدار حواليه. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلما رآه أجوف علم أنه خلق خلقًا لا يتمالك".

الأجوف صاحب الجوف. وقيل: هو الذي داخله خالٍ. ومعنى: "لا يتمالك": لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات. وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه. وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب. والمراد جنس بني آدم.

ص: 440

وقَال في قَوله تَعالى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ): يُرِيد عِلْم الشَّهَادة الذي يَقَع بِه الثَّوَاب والعِقَاب، فأمَّا الغَيب فَقد عَلِمَه تبارك وتعالى.

ثم بَيَّن أنَّ الاسْتِثْنَاء مُنقَطِع بِمَعْنَى (لكِن).

ثم قَال: وقِيل: لَمّا اتَّصَل طَرَف مِنه بِقِصّة سَبأ، قال: ومَا كَان لإبْلِيس عَلى أُولَئك الكُفَّار مِنْ سُلْطَان.

وقِيل: ومَا كَان له في قَضَائنا السَّابِق سُلْطَان عَليهم.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

ليس للشَّيْطَان سُلْطَان على قُلُوب الْمُؤمِنِين، ولا مَوضِع إيمانِهم، فلا يُلْقِيهم في ذَنْب لا يُغْفَر.

2 -

احْتِمَال الْخُصُوصِية فِيمَن حَفِظَه الله، ويُحْتَمَل أن يَكُون في أكْثَر الأوْقَات والأحْوَال.

3 -

قد يَكون في تَسَلُّطِه تَفريج كُربة وإزَالة غُمَّة.

4 -

لا حُجَّة له على مَا يَدْعُوهم إليه مِنْ الْمَعَاصِي.

5 -

سُلْطَان الشَّيْطَان على الكُفَّار الذين يُطِيعُونَه.

6 -

الاسْتِثْنَاء في آيَة سَبأ بِمَعْنَى (لكنّ).

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

نَقَل ابن جرير أقْوَالًا في مَعْنَى "الطَّائف" في قَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201] مُلَخَّصُها:

1 -

الطَّائف هو الغَضَب.

ص: 441

2 -

اللَّمَّة والزَّلَّة مِنْ الشَّيْطَان.

"وهَذان التَّأويلان مُتَقَارِبا الْمَعْنَى؛ لأنَّ الغَضَب مِنْ اسْتِزْلال الشَّيْطَان، واللَّمَّة مِنْ الْخَطِيئة أيضًا مِنه، وكُلّ ذلك مِنْ طَائف الشَّيْطَان"

(1)

.

3 -

عُموم الْمَعْنَى، وهو "إذا عَرَض لَهم عَارِض مِنْ أسْبَاب الشَّيْطَان - مَا كَان ذلك العَارِض - تَذَكَّرُوا أمْر الله، وانْتَهَوا إلى أمْرِه"، فَعَلى هذا يَكُون الْمَعْنَى عند ابن جَرير:"إذا أَلَمَّ بِهم طَيْف مِنْ الشَّيْطان مِنْ غَضَب أوْ غَيره، مما يَصُدّ عن وَاجِبِ حَقَّ الله عَليهم، تَذَكَّرُوا عِقَاب الله وثَوَابَه، ووَعْدَه ووَعِيده، وأبْصَرُوا الْحَقّ فَعَمِلُوا به، وانْتَهَوا إلى طَاعَةِ الله فِيمَا فَرَض عَليهم، وتَرَكُوا فيه طَاعَة الشَّيْطَان"

(2)

.

"وأمَّا قَوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فَإنه يَعْنِي بِذلك أنَّ الشَّيْطَان لَيْسَت لَه حُجَّة على الذِين آمَنُوا بِالله ورَسُولِه، وعَمِلُوا بِمَا أمَرَ الله به، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهم الله عَنه.

(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يَقُول: وعلى رَبّهم يَتَوَكَّلُون فِيمَا نَابَهُم مِنْ مُهِمَّات أمُورِهم.

(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يَقُول: إنّمَا حُجَّته على الذِين يَعْبُدُونَه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) يَقُول: والذِين هُمْ بِالله مُشْرِكُون"

(3)

.

ثم ذَكَر الاخْتِلاف "في الْمَعْنَى الذي مِنْ أجْلِه لم يُسَلَّط فيه الشَّيْطَان على الْمُؤمِن"، وخُلاصَة القَول عِنْدَه، "وأوْلى الأقْوَال في ذلك بالصَّواب قَول مَنْ قَال: مَعْنَاه: إنه لَيس لَه سُلْطَان على الذين آمَنُوا، فاسْتَعَاذُوا بِالله مِنه بِمَا نَدَب الله تَعالى ذِكْرُه مِنْ الاسْتِعَاذَة، وعَلى رَبّهِم يَتَوَكَّلُون عَلى مَا عَرَض لهم مِنْ خَطَرَاته ووسَاوسِه"

(4)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 648 - 650).

(2)

المرجع السابق (10/ 646، 647).

(3)

المرجع السابق (14/ 357، 358).

(4)

المرجع السابق (14/ 359، 360).

ص: 442

وقال في تَفسير آيَة "الإسراء": يَقُول تَعالى ذِكْرُه لإبْلِيس: إنَّ عِبَادِي الذين أطَاعُوني فاتَّبَعُوا أمْرِي وعَصَوك يَا إبْلِيس لَيس لَك عَليهم حُجَّة.

ورَوَى عن قَتادة في تَأويل قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي): وعِبَادُه الْمُؤمِنون

(1)

.

والْمَعَاني مُتَقَارِبة عند ابن جرير، فَقَد قَال في تَفْسِير آية "الْحِجْر": يَقُول تَعالى ذِكْرُه: إنَّ عِبَادِي ليس لك عليهم حُجَّة إلّا مَنْ اتَّبَعَك عَلى مَا دَعَوتَه إليه مِنْ الضَّلالَة، مِمَّنْ غَوى وهَلَك

(2)

.

وفي آيَة "سبأ" قال: يَقُول تَعالى ذِكْرُه: ومَا كَان لإبْلِيس على هَؤلاء القَوم الذين وَصَف جَلَّ ثَناؤُه صِفتَهم مِنْ حُجَّة يُضِلُّهم بِها إلَّا بِتَسْلِيطِنَاه عَليهم، لِنَعْلَم حِزْبَنَا وأَوْلِيَاءَنا

(3)

.

وفسّر السمرقندي آيَة "الحجر" بِآية "النحل"، فَقال: قَوله عز وجل: (إِنَّ عِبَادِي) أي: عِبَادِي الذين لا يُطِيعُونَك (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: حُجَّة ولا مُلْكًا، ولا أُسَلِّطُك عَليهم، كَقَوله:(لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا).

ثم قَال تَعالى: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي: مَنْ أطَاعَك مِنْ الكَافِرِين، ويُقَال: مَعْنَاه إنّمَا نَفَاذ دَعْوتِك ووَسْوَسَتِك لِمَنْ اتَّبَعك مِنْ الْمُشْرِكِين

(4)

.

وبيَّن في تفسير آية "النحل" الْمُرَاد بِتَسْلِيط الشَّيْطَان وتَوَلِّيه، فَقَال:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ) يُقال: لَيس له غَلَبَة ولا حُجَّة. ويُقَال: ليس له نَفَاذ الأمْر (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي: صَدَّقُوا بِتَوحِيد الله تَعالى (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي: يَثِقُون بِه، ولا يَثِقُون بِغَيره.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 666).

(2)

المرجع السابق (14/ 71).

(3)

المرجع السابق (19، 270، 271).

(4)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 256).

ص: 443

وقَوله عز وجل: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ) أي: غَلَبَته وحُجَّته (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي: يُطِيعُونه مِنْ دُون الله تعالى، فَمَنْ أطَاعَه فَقَد تَوَلَّاه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي: بِالله

(1)

.

وقال في آية "الإسراء": قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: حُجَّة، ويُقال: نَفَاذ الأمْر .... وقال أبو العالية: قَوله: (إِنَّ عِبَادِي) الذِين لا يُطِيعُونَك

(2)

.

ورَبَط بَيْن آيَات "سبأ"، فقال: قَوله عز وجل: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)[سبأ: 20] يَعني: عَلى أهْل سَبأ، ويُقَال: هَذا ابْتِدَاء، يَعْنِي جَمِيع الكُفَّار.

وذلك أنَّ إبْلِيس قَدْ قَال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82، 83]، فَكان ذلك ظَنًّا مِنه، فَصَدَق ظَنَّه (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا) يَعْنِي طَائفَة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الذِين قَال الله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ). وقال سعيد بن جبير: كان ظَنّه أنه قَال: أنا نَارِيّ وآدَم طِينِيّ، والنَّار تَأكُل الطِّين!

وكذا رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه

(3)

.

وفَسَّر السمعاني السُّلْطَان بالوِلايَة، فَقَال في تَفْسِير آيَة "النحل":(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي: لَيْس لَه وِلايَة عَلى الذين آمَنُوا. وقَوله: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يُقَال: مَعْنَاه: أنه لا يَقْدِر على إيقَاعِهم في ذَنْب لَيس لَهم مِنه تَوبَة. وقِيل: إنه لا يَقْدِر على إدْخَالِهم في الشِّرك وإغْوائهم.

وقَوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يَعْنِي: الذِين يَدْخُلُون في ولايَتِه ويَتَّبِعُونه.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 291).

(2)

المرجع السابق (2/ 320).

(3)

المرجع السابق (3/ 82).

ص: 444

وقَوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) قَال بعضهم: بِرَبِّ العَالَمِين مُشْرِكُون. وقال ثعلب: والذين هُمْ بِه مُشْرِكُون، أي: لأجْلِه مُشْرِكُون، أي لأجْلِ إبْلِيس، وهَذا مَعْنى صَحِيح لأنَّ مَنْ يُشْرِك بإبْلِيس يَكُون مُؤمِنًا بِالله، فَالْمَعْنَى هَذا

(1)

.

وأشَار في آيَة "الْحِجْر" إلى مَا سَبَق ذِكْرَه، فَقَال: قَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) هَذا تَحْقِيق لِقَولِه تَعَالى فِيمَا سَبَق: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر: 40]

(2)

.

وفي تَفْسِير آيَة "الإسراء" أوْرَد سُؤالًا قَال فِيه:

فإن قِيل: كَيف عَرَف إبْلِيس أنَّ أكْثَر ذُرِّيَّة آدَم يَتَّبِعُونَه؟

قُلْنَا: الْجَوَاب مِنْ وَجْهَين:

أنه لَمَّا رَأى انْقِيَاد آدَم لِوَسْوَسَتِه طَمِع في ذُرِّيَّتِه.

والثَّاني: أنه رَأى ذَلك في اللوح مَكْتُوبًا، وعَرَف كَما عَرَف الْمَلائكَة حِين قَالُوا (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) [البقرة: 30]

(3)

.

وبَيَّن هَذا في تَفْسِير آيَة "سبأ" بِقَولِه: وفِي التَّفْسِير أنَّ إبْلِيس قَال: لَقَدْ أخْرَجْتُ آدَم مِنْ الْجَنَّة مَع كَثْرة عِلْمِه، وأغْوَيْتُه، فأنا عَلى ذُرِّيَّتِه أقْدَر.

وقَال في آيَة "الإسراء": وقَد قِيل: إنَّ مَعْنَاه: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) في أنْ تَحْمِلَهم على ذَنْب لا أقْبَلُ تَوْبَتهم منه

(4)

.

ونَقَل في آيَة "سبأ" قَول الْحَسَن البَصْري: والله إنه لَم يَسُلّ عليهم سِيفًا، ولا ضَرَبَهم بِسَوط، وإنّما وَعَدَهم ومَنَّاهُم؛ فاغْتَرُّوا.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (3/ 201) باختصار.

(2)

المرجع السابق (3/ 140).

(3)

المرجع السابق (3/ 257، 258).

(4)

المرجع السابق (3/ 260).

ص: 445

ثم قَال: قَوله تَعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: مِنْ سُلْطَان على الْمُؤمِنِين

(1)

.

وكان أوْرَد سُؤالًا في تَفْسِير سُورة الإسْراء قَال فيه: فإن قَال قَائل: كَيف يَأمُر الله تَعالى بِهَذه الأشْياء وهُو يَقُول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)[الأعراف: 28]؟

والْجَوَاب: أنَّ هَذا أمْر تَهْدِيد ووَعِيد، وهو مِثْل قَولِه تَعالى:(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)[فصلت: 40]

(2)

.

واقْتَفَى الثعلبي آثَار مَنْ سَبَقُوه، فَبَيَّن أنَّ الْمُرَاد بِالسُّلْطَان: هو القُوَّة، ونَقَل عن أهْل الْمَعَاني قَولَهم: يَعْنِي على قُلُوبِهم.

وسُئل سُفيان بن عُيينة عن هَذه الآيَة، فَقَال: مَعْنَاه: لَيْس لك عَليهم سُلْطَان أن تُلْقِيهم في ذَنْب يَضِيق عَنه عَبْدِي

(3)

.

وفي تَفْسِير آيَة "النحل" قال: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ) حُجَّة ووِلاية.

(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يُطِيعُونه (وَالَّذِينَ هُمْ) أي: بِالله (بِهِ مُشْرِكُونَ)

(4)

.

ولم أرَ في تَفْسِيره شَيئًا حَول آيَة "الإسْراء"

(5)

.

وقال في آيَة "سبأ": (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) إلَّا تَسْلِيطنا إياه عَليهم (لِنَعْلَمَ) لِنَرَى ونُمَيِّز، ونَعْلَمَه مَوْجُودًا ظَاهِرًا كَائنًا مُوجِبًا للثَّوَاب والعِقَاب - كَمَا كَان عَلمناه قَبْلُ مَفْقُودًا - بَعْد ابْتِلاء مِنَّا لِخَلْقِنا

(6)

.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (4/ 330).

(2)

المرجع السابق (3/ 260).

(3)

الكشف والبيان، مرجع سابق (5/ 342) باختصار. وعند البغوي (4/ 382): يضيق عنه عفوي.

(4)

المرجع السابق (6/ 42).

(5)

انظر: المرجع السابق (6/ 114) وطبعة دار إحياء التراث العربي مليئة بالأخطاء والسَّقْط.

(6)

المرجع السابق (8/ 86).

ص: 446

وفي قَوله تعالى: (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ)[الحجر: 41] قال الزمخشري: أي (هَذَا) طَرِيق حَقّ (عَلَيّ) أن أُرَاعِيه، وهو ألا يَكُون لك سُلْطَان على عِبَادِي إلَّا مَنْ اخْتَار اتِّبَاعَك مِنهم لِغِوايَتِه

(1)

.

ومَعْنَى السُّلْطَان عِنده: الوِلاية، فَقَوله تَعالى:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ)[النحل: 99] أي: تَسَلُّط ووِلايَة على أوْلِيَاء الله، يَعْنِي: أنّهم لا يَقْبَلُون مِنه، ولا يُطِيعُونَه فِيما يُرِيد مِنهم مِنْ اتِّباع خُطُوَاته (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ) على مَنْ يَتولَّاه ويُطِيعُه

(2)

.

وخَصّ الصَّالِحِين بِالْمُرَاد بِـ (عِبَادِي) في آية "الإسراء" فَقَال: (إِنَّ عِبَادِي) يُرِيد الصَّالِحِين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: لا تَقْدِر أن تُغْويَهم. (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) لهم يَتَوَكَّلُون به في الاسْتعَاذة منك، ونَحوه قَوله:(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر: 40].

فإن قُلت: كَيف جَاز أن يَأمُر الله إبْلِيس بأن يَتَسَلَّط على عِبَادِه مُغْويًا مُضِلًّا، دَاعِيًا إلى الشَّر، صَادًّا عن الْخَير؟

قلت: هُو مِنْ الأوَامِر الوَارِدَة على سَبِيل الْخُذْلان والتَّخْلِيَة

(3)

، كَمَا قَال للعُصَاة:(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)[فصلت: 40]

(4)

.

وتَسْلِيط الشَّيْطَان بِالوَسْوَسَة والإغْوَاء لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، ولِذا قَال الزمخشري في قَوله تَعالى:(وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ)[سبأ: 21]: مِنْ تَسْليط واسْتِيلاء بِالوَسْوَسَة والاسْتِغْواء إلَّا لِغَرَض صَحِيح، وحِكْمَة بَيِّنَة، وذَلك أن يَتَمَيَّز الْمُؤمِن بِالآخِرَة مِنْ الشَّاك فِيها، وعَلَّلَ التَّسْلِيط بِالعِلْم، والْمُرَاد ما تَعَلَّق بِه العِلْم. وقرئ:(لِيُعْلَم) على البِنَاء للمَفْعُول

(5)

.

(1)

الكشاف، مرجع سابق ص (561).

(2)

المرجع السابق (ص 584).

(3)

وهو أمْرٌ قدري كوني.

(4)

الكشاف، مرجع سابق (ص 602) وسبقه السمعاني إلى هذا الجواب، وقد تقدم.

(5)

المرجع السابق (ص 872).

ص: 447

وظَاهِر السُّلْطان الْمَنْفِي - عند ابن عطية - أنَّ إبْلِيس لَيْس لَه مَلَكَة ولا رِيَاسَة، وذلك أنَّ السُّلْطَان إنْ جَعَلْنَاه الْحُجَّة فَلَيس لَه حُجَّة في الدُّنيا عَلى أحَد، لا مُؤمِن ولا كَافِر، اللهم إلَّا أن يَتَأوَّل مُتَأوِّل: لَيس لَه سُلْطَان يَوْم القِيَامَة، فَيَسْتَقِيم أن يَكُون بِمَعْنى الْحُجَّة، لأنَّ إبْلِيس له حُجَّة على الكَافِرِين أنه دَعَاهم بِغَير دَلِيل فَاسْتَجَابُوا لَه مِنْ قِبَلِ أنْفُسِهِم، وهَؤلاء الذِين لا سُلْطَان ولا رِيَاسَة لإبْلِيس عَليهم هم الْمُؤمِنُون أجْمَعُون، لأنَّ الله لم يَجْعَل سُلْطَانه إلَّا على الْمُشْرِكِين الذين يَتَوَلَّونَه، والسُّلْطَان مَنْفِيّ هَاهُنا في الإشْرَاك، إذْ له عَليهم مَلَكَة مَا في الْمَعَاصِي، وهُم الذين قَال الله فِيهم:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وهُم الذِين قَال إبْلِيس فِيهم:(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر: 40]، و (يَتَوَلَّونَهُ) مَعْنَاه: يَجْعَلُونه وَلِيًّا، والضَّمِير فِيه الظَّاهِر أنه يَعُود على اسْم إبْلِيس، بِمَعْنَى مِنْ أجْلِه وبِسَبَبِه

فَكَأنه قال: والذين هم بِسَبَبِه مُشْرِكُون بِالله، وهَذا الاخْبَار بأنْ لا سُلْطَان للشَّيْطَان على الْمُؤمِنِين بِعَقِب الأمْر بالاسْتِعَاذَة تَقْتَضِي أنَّ الاسْتِعَاذَة تَصْرِف كَيْدَه، كَأنَّهَا مُتَضَمِّنَة للتَّوكُّل على الله، والانْقِطَاع إليه

(1)

.

ويَرى ابن عطية اختصاص المؤمنين بِمَعنى العبودية في آية "الحجر"، إذ يقول: والظاهر مِنْ قوله: (عِبَادِي) الخصوص في أهل الإيمان والتقوى، لا عُموم الْخَلْق، وبِحَسَب هذا يكون (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) مُسْتَثْنَى مِنْ غير الأول، التقدير: لكنّ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الغاوين لك عليهم سلطان، وإن أخَذْنَا "العِباد" عَامًّا في عباد الناس، إذ لم يُقَدِّر الله لإبليس سُلطانًا على أحَد، فإنّا نُقَدِّر الاستثناء في الأقل في القَدْر مِنْ حيث لا قَدْر للكُفّار، والنظر الأول أصْوَب

(2)

.

كَما يَرى ابن عطية أنَّ آية "الإسراء" قَوْل مِنْ الله تَعالى لإبْلِيس، وقَوله:(عِبَادِي) يُرِيد الْمُؤمِنِين في الكُفْر، والْمُتَّقِين في الْمَعَاصِي، وخَصَّهم بِاسْمِ العِبَاد - وإن كَان اسْمًا

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (3/ 420) باختصار وتصرف يسير.

(2)

المرجع السابق (3/ 362).

ص: 448

عَامًّا لِجَميع الْخَلْق - مِنْ حَيث قَصَد تَشْرِيفَهم، والتَّنْويه بِهم .... ومِنه قَول النبي صلى الله عليه وسلم لِسَعد بن أبي وقاص: هَذا خَالي، فَلْيُرِني امْرؤ خَالَه

(1)

. والسُّلْطَان الْمَلَكَة والتَّغَلُّب، وتَفْسِيره هُنا بالْحُجَّة قَلِق، ثم قَال تَعالى لِنَبِيِّه صلى الله عليه وسلم:(وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلَا) يا مُحمد حَافِظًا للمُؤمِنِين، وقَيِّمًا على هِدَايَتهم

(2)

.

واكْتَفى ابنُ عطية في تَفْسِير آيَة "سبأ" بِقَوله: والسُّلْطَان: الْحُجَّة، وقد يَكُون الاسْتِعْلاء والاسْتِقْدَار، إذ اللفْظ مِنْ التَّسَلُّط. وقال الحسن بن أبي الحسن: والله مَا كَان لَه سَيْف ولا سَوْط، ولَكِنه اسْتَمَالهم فَمَالُوا بِتَزْيِينِه

(3)

.

وتَتَابَع الْمُفَسِّرُون على تَفْسِير السُّلْطَان بِالْحُجَّة والقُدْرَة، إذْ يَقُول الرَّازي: قَوله: (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)[إبراهيم: 22]، أي: قُدْرَة ومَكِنَة

(4)

، وتَسَلُّط وقَهْر، فأقْهَرُكم على الكُفْر والْمَعَاصِي، وألْجِئكُم إلَيها

(5)

.

ورَبَط الرَّازي بَيْن آيَات سُورة الْحِجْر، وأشَار إلى اتِّصَال قَوله تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) بِما قَبْلَه مِنْ قَوْل إبْلِيس وتَوَعُّدِه، حَيْث يَقُول: اعْلَم أنَّ إبْلِيس لَمَّا قال: (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39، 40] أوْهَم هَذا الكَلام أنَّ له سُلْطَانًا عَلى عِبَاد الله الذين يَكُونُون مِنْ الْمُخْلَصِين، فَبَيَّن تَعالى

(1)

رواه الترمذي (ح 3752) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مجالد. وكان سعد بن أبي وقاص من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خالي.

(2)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (3/ 471).

(3)

المرجع السابق (4/ 417) والحسن بن أبي الحسن، هو الحسن البصري، وينظر كتاب:"آداب الحسن بن أبي الحسن البصري"، ابن الجوزي.

(4)

في اللسان (13/ 413): يُقَال: إن فُلانًا لذو مكنة من السلطان؛ فسمي موضع الطير مكنة لتمكنه فيه.

(5)

التفسير الكبير، مرجع سابق (19/ 88).

ص: 449

في هَذه الآيَة أنه لَيس لَه سُلْطَان على أحَدٍ مِنْ عَبِيد الله، سَواء كَانُوا مُخْلَصِين أوْ لَم يَكُونُوا مُخْلَصِين، بل مَنْ اتَّبع مِنهم إبْلِيس بِاخْتِيَارِه صَار مُتَّبِعًا لَه، ولكن حُصُول تلك الْمُتَابَعَة أيضًا لَيس لأجْل أنَّ إبْلِيس يَقْهَره على تِلك الْمُتَابَعَة، أوْ يُجْبِره عَليها، والْحَاصِل في هَذا القَوْل أنَّ إبْلِيس أوْهَم أنَّ له على بَعْض عِبَاد الله سُلْطَانًا، فَبَيَّن تَعالى كَذِبَه فيه، وذَكَرَ أنه لَيس له على أحَد مِنهم سُلْطَان ولا قُدْرَة أصْلًا، ونَظِير هَذه الآيَة قَوله تَعالى حِكَاية عَنْ إبْلِيس أنه قَال:(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)[إبراهيم: 22]، وقَال تَعالى في آيَة أُخْرَى:(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 99، 100]

(1)

.

ثم بيّن مَعنى (إِلَّا)، وأنّهَا تَأتي بِمَعْنَى الاسْتِثْنَاء، أوْ بِمَعْنى (لكنّ)

(2)

.

وفي آيَة "الإسراء" قَال الرَّازي: لَمَّا قَال لَه: افْعَل مَا تَقْدِر عَليه، فَقَال تَعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وفيه قَولان:

الأوَّل: أنَّ الْمُرَاد كُلّ عِبَاد الله مِنْ الْمُكَلَّفِين، وهذا قول أبي علي الجبائي

(3)

.

والقَول الثَّاني: أنَّ الْمُرَاد بِقَوله: (إِنَّ عِبَادِي) أهْل الفَضْل والعِلْم والإيمان، لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّم أنَّ لَفْظ العِبَاد في القُرآن مَخْصُوص بأهْل الإيمان

(4)

، والدَّلِيل عَليه أنه قَال في آيَة أُخْرَى:(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ)

(5)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (19/ 151).

(2)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(3)

في هذا القول والقول السابق (19/ 151) نقل الرازي ما قالته المعتزلة في "أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم، وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة". ولم يتعقب ذلك القول، وسيأتي تعقب هذا القول في "رأي الباحث".

(4)

سبق تعقب هذا القول، وأن العبودية تطلق بمعنى خاص وآخر عام.

(5)

التفسير الكبير، مرجع سابق (21، 7، 8).

ص: 450

واقْتَصَر الرَّازي في آيَة "سبأ" على الإشَارَة إلى أنَّ سُلطان إبْلِيس لَيس بِمُلْجِئ، وإنَّمَا هُو آيَة وعَلامَة خَلَقَها الله لتَبْيِين مَا هُو في عِلْمِه السَّابِق

(1)

.

ويَرَى ابنُ كثير أنَّ عِبَاد الله الذِين لَيس للشَّيْطَان عَليهم سُلْطَان هُمْ الذِين قَدَّر الله لَهُمْ الْهِدَاية، فلا سَبِيل لَه عَلَيهم، ولا وُصُول لَه إلَيهم

(2)

.

كما يَرَى أنَّ الاسْتِثْنَاء - في آيَة "الْحِجْر" - مُنْقَطِع

(3)

.

ونَقَل في آيَة "النحل" قَول الثَّوْرِي

(4)

: لَيس لَه عَليهم سُلْطَان أن يُوقِعَهم في ذَنْب لا يَتُوبُون مِنه.

ونَقَل عن آخَرِين قَولَهم: مَعْنَاه: لا حُجَّة لَه عليهم.

وعَن آخَرِين: كَقَولِه: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر: 40].

(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ) قال مجاهد: يُطِيعُونَه.

وقال آخَرُون: اتَّخَذُوه وَلِيًّا مِنْ دُون الله.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي: أشْرَكُوه في عِبَادَة الله، ويُحْتَمَل أن تَكُون الباء سَببية، أي: صَارُوا بِسَبب طَاعَتِهم للشَّيْطَان مُشرِكِين بِالله تَعالى.

وقال آخَرُون: مَعْنَاه: أنه شَرَكَهم في الأمْوَال والأوْلاد

(5)

.

(1)

انظر: التفسير الكبير (25/ 22)، ومراده بقوله:"لتبيين ما هو في علمه السابق" أي ليظهر ما سبق به علمه السابق سبحانه.

(2)

ويشكل على هذا العموم أنه وصل إلى أفضل الخلق، كما سيأتي.

(3)

انظر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (8/ 258، 259).

(4)

هكذا عزاه ابن كثير، وسبق النقل عن القرطبي وقد عزاه إلى "ابن عُيينة" وأما ابن جرير فقد رواه عن "سُفيان" مهملًا.

(5)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (8/ 354) باختصار.

ص: 451

وقَوله تَعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)[الإسراء: 65] إخْبَار بِتَأيِيدِه تَعالى عِبَادَه الْمُؤمِنِين، وحِفْظِه إياهم، وحِرَاسَته لَهم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم، ولِهَذا قَال تَعالى:(وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) أي: حَافِظًا ومُؤيِّدًا ونَصِيرا.

ثم عَضَد ذلك بِمَا رَواه الإمام أحمد

(1)

مِنْ حَدِيث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: إنَّ الْمُؤمِن لَيُنْضِي شَيَاطِنَه كَمَا يُنْضِي أحَدُكُم بَعِيرَه في السَّفَر.

ثم فَسَّر ذلك بِقوله: يُنْضِي، أي: يَأخُذ بِنَاصِيَتِه ويَقْهَره

(2)

.

وأوْرَد ابن كثير قول ابن عباس في تَفْسِير السُّلْطان، وأنه الْحُجَّة، كما أوْرَد قَول الحسن البصري: والله مَا ضَرَبَهم بِعَصَا، ولا أكْرَهَهم على شَيء، ومَا كَان إلَّا غُرُورًا وأمَانِي دَعَاهم إلَيها فأجَابُوه.

ثم قَال: وقَوله عز وجل: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) أي: إنّمَا سَلَّطْنَاه عَليهم لِيَظْهر أمْر مَنْ هو مُؤمِن بِالآخِرَة وقِيَامِها، والْحِسَاب فِيها والْجَزَاء، فَيُحْسِن عِبَادَة رَبِّه عز وجل في الدُّنيا، مِمَّنْ هو مِنْها في شَكّ. وقَوله تَعالى:(وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي: ومَع حِفْظِه ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنْ أتْبَاع إبْلِيس، وبِحِفْظِه وكَلاءَتِه سَلِمَ مَنْ سَلِم مِنْ الْمُؤمِنِين أتْباع الرُّسُل

(3)

.

(1)

قال الهيثمي (1/ 116): رواه أحمد وفي إسناده ابن لهيعة. والحديث أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (3586).

(2)

انظر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (9/ 42).

وتفسير ابن كثير لمعنى "النَّضو" متعقب بما قاله العلماء من قبله.

قال ابن الأثير في النهاية (5/ 71): أي يهز له ويجعله نضوًا، والنضو الدابة التي أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها ونقله - وزاد عليه - ابن منظور في "لسان العرب"(15/ 330).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (11/ 281) باختصار.

ص: 452

‌رأي الباحث:

أجْمَع مَنْ جَمَع بَيْن الآيَات - فِيمَا رَأيْتُ - هو القرطبي، فقد أتَى على جَمِيع الأقْوَال.

وخُلاصَة القَوْل في الآيَات أنَّ الشَّيْطَان لَيس لَه سُلْطَان ولا قُدْرَة على الْمُؤمِنِين، وإنّمَا يَتَسَلَّط على مَنْ اتَّبَعه، واقْتَفَى أثَرَه، فَالشَّيْطَان (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6]، "فَعَدَم الإيمان هو الْمُوجِب لِعَقْد الوِلايَة بَيْن الإنْسَان والشَّيْطَان"

(1)

وبِضَاعَة الشَّيْطَان هي "التَّزْيِين"، كَمَا قَال تَعالى:(فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل: 63] فَـ "سَمَّاه وَلِيًّا لهم لِطَاعَتِهم إياه"

(2)

.

وإذا ألْقَى الشَّيْطَان أتْبَاعَه في النَّار تَخَلَّى عَنهم وخَذَلَهم، كَمَا تَخلّى عنهم في الدُّنيا ونَكَص على عَقِبَيه، فإنَّ الشَّيْطَان يَقُول لأتْبَاعِه "حِين حَصْحَص الْحَقّ:(إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ)[إبراهيم: 22] "

(3)

.

كَمَا أنَّ الْمُؤمِن في كَلاءَة وحِفْظ، فَمَنْ جَعَل للشَّيْطَان عَليه سَبِيلًا فَقَد فَرَّط! فهو الْمَلُوم، ولِذا يَقول عَدُوّ الله يَوْمَ القِيَامَة (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).

فالشَّيْطَان "لَيْس لَه سُلْطَان على الذين آمَنُوا، فَاسْتَعَاذُوا بِالله مِنه بِمَا نَدَب الله تعالى ذِكْرُه مِنْ الاسْتِعَاذَة، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون عَلى مَا عَرَض لَهُمْ مِنْ خَطَرَاتِه ووسَاوسِه"

(4)

.

(1)

تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص 286).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (3/ 183).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 666).

(4)

المرجع السابق (14/ 360).

ص: 453

ومِن حِفْظ الله للعَبْد الْمُؤمِن أنَّ مَنْ قَرَأ آيَة الكُرْسِي لَنْ يَزَال عَليه مِنْ الله حَافِظ، ولا يَقْرَبه شَيْطَان حتى يُصْبِح.

قَال أبو هُريرة رضي الله عنه: وَكَلَنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاة رَمَضَان، فأتاني آتٍ فَجَعَل يَحْثُو مِنْ الطَّعَام فَأخَذْته، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّك إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَر الْحَدِيث - فَقَال: إذا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِك فَاقْرَأ آيَة الكُرْسِي (اللَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تَخْتِم الآيَة، فَإنك لَنْ يَزال عَليك مِنْ الله حَافِظ، ولا يَقْرَبَنَّك شَيْطَان حَتى تُصْبِح. فَقَال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَكَ وهو كَذُوب. ذَاك شَيْطَان

(1)

.

وقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أن يَخْلُق السَّمَاوَات والأرْض بألْفَيّ عَام، فأنْزَل مِنْه آيَتَين فَخَتَم بِهِمَا سُورَة البَقَرَة، ولا تُقْرآن في دَارٍ ثَلاث لَيَال فَيَقْرَبها الشَّيْطَان

(2)

.

وأخْبَر النبي صلى الله عليه وسلم عن تَسَلُّط الشَّيْطَان وتَوَعُّده بَني آدَم، ومَا قَال الله تبارك وتعالى لَه، فَقَال عليه الصلاة والسلام: قَال الشَّيْطَان: وعِزَّتِك يَا رَبّ لا أبْرَح أُغْوِي عِبَادك مَا دَامَتْ أرْوَاحُهم في أجْسَادِهم. فَقَال الرَّبّ تبارك وتعالى: وعِزَّتي وجَلالي لا أَزَال أغْفِر لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُوني

(3)

.

و"الشَّيْطَان يَشُمّ قَلْب العَبْد ويَخْتَبِره"

(4)

ويَأتيه مِنْ ذلك البَاب الذي تَضْعُف قُوَاه عِنْده، بل قَدْ يَأتِيه مِنْ أبْوَاب الْخَيْر.

(1)

رواه البخاري (ح 2187).

(2)

رواه أحمد (ح 18414)، والترمذي (ح 2882)، والنسائي في الكبرى (ح 10802) وقال محققو المسند: إسناده حسن.

(3)

رواه أحمد (ح 11237)، والحاكم (ح 7672) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 207): رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه

والطبراني في الأوسط، وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي أبي يعلى، وحسنه محققو مسند أحمد بطرقه.

(4)

من كلام ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/ 342).

ص: 454

"قَال بَعض السَّلَف: مَا أمَرَ الله بأمْر إلَّا وللشَّيْطَان فيه نَزْغَتان: إمَّا إلى تَفْرِيط وإمَّا إلى مُجَاوَزَة، وهي الإفْرَاط، ولا يَبَالِي بِأيّهِما ظَفِر؛ زِيَادَة أوْ نُقْصَان"

(1)

.

وتَسَلُّط الشَّيْطَان إنّمَا هُو بِالوَسْوَسَة، ولِذا قَال عليه الصلاة والسلام: الْحَمْد لله الذي رَدّ كَيْدَه إلى الوَسْوَسَة

(2)

.

وأمَّا مَا يَقَع مِنْ صَرْع الْجِنّ للإنْس؛ فلا يُنَافي كَوْن الشَّيْطان لَيس له سُلْطَان، وذلك مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: أنَّ الصَّرْع ليس هو الغَالِب على بَنِي آدَم، بل هو في حُكْم النَّادِر في حَقّ بَعْضم، وهو مُشاهَد في أهْل الغَفْلَة عَنْ ذِكْر الله أكْثَر.

الثَّاني: أنَّ ذلك لَيس بإِغْوَاء وإزَاحَة عن طَرِيق الْهِدَاية، وإنّمَا هو تَخبُّط في بَعض الأحْيان. ويَدُلّ عليه قِصَّة الْمَرْأة التي كَانَتْ تُصْرَع

(3)

.

الثالث: أن الغالب في الصَّرَع في حق مَنْ غَفَل عن أسْبَاب حِفْظِه وكَلاءَته، فهو الذي جَعَل للشَّيْطَان عَليه سَبِيلا، فأشْبَه مَنْ تَوَلَّاه وأطَاعَه.

وأمَّا مَا ذَهَبَتْ إليه الْمُعْتَزِلة مِنْ "أنه لا سَبِيل لإبْلِيس وجُنُودِه على تَصْرِيع النَّاس وتَخْبِيط عُقُولِهم، وأنه لا قُدْرَة لَه إلَّا على قَدْر الوَسْوَسَة"؛ فَهذا قَوْل مُخَالِف للوَاقِع الْمُشاهَد، مُصَادِم للنُّصُوص، فَفِي التَّنْزِيل:(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[البقرة: 275].

قَال ابنُ جرير: يَعْنِي بِذَلك: يَتَخَبَّلُه الشَّيْطان في الدُّنيا، وهو الذي يَتَخَنَّقُه فَيَصْرعه (مِنَ الْمَسِّ)، يَعْنِي: مِنْ الْجُنُون

(4)

.

(1)

مدارج السالكين، مرجع سابق (2/ 342).

(2)

رواه أحد (ح 2097)، وأبو داود (ح 5112)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(3)

قصتها مخرجة في الصحيحين، وسيأتي تخريجها.

(4)

جامع البيان، مرجع سابق (5/ 38، 39).

ص: 455

وقال القرطبي: في هَذه الآيَة دَلِيل على فَسَاد إنْكَار مَنْ أنْكَر الصَّرع مِنْ جِهَة الْجِنّ، وزَعَم أنه مِنْ فِعْل الطَّبَائع، وأنَّ الشَّيْطَان لا يَسْلُك في الإنْسَان، ولا يَكُون مِنه مَسّ

(1)

.

وقال ابن جُزي: أجْمَع الْمُفَسِّرون أنَّ الْمَعْنَى: لا يَقُومُون مِنْ قُبُورِهم في البَعْث إلَّا كَالْمَجْنُون. و (يَتَخَبَّطُهُ) يَتَفَعَّله، مِنْ قَولك: خَبَط يَخْبِط، والْمَسّ الْجُنُون

(2)

.

وفي السُّنَّة أحَادِيث كَثِيرَة، مِنها:

مَا رَواه البخاري

(3)

ومسلم

(4)

مِنْ حَديث ابن عباس في قِصَّة الْمَرْأة التي كَانتْ تُصْرَع. والصَّرع مُحتَمِل للنَّوْعَين، "إذْ الصَّرع صَرعَان: صَرْع مِنْ الأرْوَاح الْخَبِيثَة الأرْضِيَّة، وصَرْع مِنْ الأخْلاط الرَّدِيئة. والثَّاني هو الذي يَتَكَلَّم فِيه الأطِبَّاء في سَبَبِه وعِلاجِه، وأمَّا صَرْع الأرْوَاح فَأئمَّتُهم وعُقَلاؤهم يَعْتَرِفُون بِه ولا يَدْفَعُونه، ويَعْتَرِفُون بِأنَّ عِلاجَه بِمُقَابَلَة الأرْوَاح الشَّرِيفَة الْخَيِّرَة العُلْوِيَّة لِتِلْك الأرْوَاح"

(5)

.

ومِمَّا يَدُلّ على صَرْع الْجِنّ للإنس مَا رَوَاه ابنُ ماجه

(6)

عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: يا رَسُول الله عَرَض لي شَيء في صَلَوَاتي حتى مَا أدْرِي مَا أُصَلِّي.

قال: ذاك الشَّيْطَان، أدنُه، فَدَنَوتُ مِنه، فَجَلَستُ على صُدُور قَدَمِي، قال: فَضَرَب صَدْرِي بِيَدِه، وتَفَل في فَمِي، وقال: اخْرُج عَدَوّ الله - فَفَعَل ذلك ثَلاث مَرَّات - ثم قال: الْحَق بِعَمَلِك. فقال عثمان: فَلَعَمْري مَا أحْسَبُه خَالَطَني بَعْد.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (3/ 337).

(2)

التسهيل لعلوم التنزيل، مرجع سابق (1/ 94).

(3)

(ح 5328).

(4)

(ح 2576).

(5)

زاد المعاد، ابن القيم (4/ 66)، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، مرجع سابق (24/ 276، 277)، "وفتح الباري"، مرجع سابق (10/ 114).

(6)

(ح 3548).

ص: 456

ومَا رَواه ابن أبي شيبة

(1)

والدارمي

(2)

وعَبْدُ بن حُميد

(3)

مِنْ حديث جابر رضي الله عنه، وفِيه: أنَّ امْرَأة أتَتِ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ ابْنِي هَذا بِه لَمَم مُنْذ سَبْع سِنِين، يأخُذه كُلّ يَوم مَرَّتَين، فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادْنِيه، فأدْنَتْه منه، فَتَفَل في فِيه، وقال: اخْرُج عَدَوَّ الله، أنَا رَسُول الله

(4)

.

فَكُلّ هذا دَالّ على صَرْع الْجِنّ للإنْس، وعلى تَلَبُّس الْجِنّ للإنْس، وأنَّ الْجِنِّي يَدْخُل بَدَن الْمَصْرُع، وإلَّا لَم يَكُنْ لِقَولِه عليه الصلاة والسلام:"اخْرُج عَدُوَّ الله". مَعْنَى.

فـ "صَرْع الْجِنّ للإنْس قد يَكُون عن شَهْوَة وهَوى وعِشْق، كَمَا يَتَّفِق للإنْس مَع الْجِنّ، وقد يَتَنَاكَح الإنْس والْجِنّ ويُولَد بَيْنَهُما وَلَد، وهذا كَثِير مَعْرُوف، وقَد ذَكَرَ العُلَمَاء ذلك وتَكَلَّمُوا عَليه. وكَرِهَ أكْثرُ العُلَمَاء مُنَاكَحَة الْجِنّ"

(5)

.

والإشْكال الذي لَم أرَ مَنْ أشَار إلَيه مِنْ الْمُفَسِّرِين في هذه الآيَات هو: مَا وَقَع للنبي عليه الصلاة والسلام مِنْ تَعَرُّض شَيْطَان لَه في صَلاته، كَمَا رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صَلَّى صَلاة فَقَال: إنَّ الشَّيْطَان عَرَض لي فَشَدَّ عَليَّ لِيَقْطَع الصَّلاة عَليَّ، فأمْكَنَنِي الله مِنه فَذَعَتُّه، ولَقَد هَمَمْتُ أن أُوثِقَه إلى سَارِيَة حَتى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُروا إليه، فَذَكَرْتُ قَوْل سُلَيْمَان عليه السلام:(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)[ص: 35] فَرَدَّه الله خَاسِيا

(6)

.

(1)

(ح 31754).

(2)

(ح 17).

(3)

(ح 1053).

(4)

ورغبة في الاختصار ينظر: ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس (ح 2288)، ومن حديث يعلى بن مرة (ح 17548، 17549، 17563، 17565)، وينظر لذلك أيضًا: زاد المعاد، مرجع سابق (4/ 66 وما بعدها).

(5)

من قول ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مرجع سابق (19/ 39، 40).

(6)

رواه البخاري (ح 1152)، ومسلم (ح 541).

ص: 457

وفي حَديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه قَال: قَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْناه يَقُول: أعُوذ بِالله مِنك، ثم قال: ألْعَنُك بِلَعْنَةِ الله ثَلاثًا، وبَسَطَ يَدَه، كَأنّه يَتَنَاول شَيئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلاة قُلْنَا: يَا رَسُول الله قد سَمِعْنَاك تَقُول في الصَّلاة شَيئا لم نَسْمَعْك تَقُوله قَبْل ذلك، ورَأيْنَاك بَسَطْتَ يَدَك. قال: إنَّ عَدُو الله إبْلِيس جَاء بِشِهَاب مِنْ نَار لِيَجْعَله في وَجْهِي، فَقُلْتُ: أعُوذ بِالله مِنك ثَلاث مَرَّات، ثم قُلتُ: ألْعَنُك بِلَعْنَةِ الله التَّامَّة، فَلم يَسْتَأخِر ثَلاث مَرَّات، ثم أرَدْتُ أخْذَه، والله لَولا دَعْوة أخِينَا سُلَيمَان لأصْبَح مُوثَقًا يَلْعَب بِه وُلْدان أهْل الْمَدِينَة

(1)

.

فَهذه مُحَاولات شَيْطَانِيَّة لإيْذَاء خَيْر البَشَرِيَّة، ولَيْسَتْ تَسَلُّطًا على النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان له سُلْطَان لَمَا أمْكَن دَفْعه والتَّغَلُّب عَليه.

ثم إنَّ هَذا عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنّ، وليس هو إبْلِيس الذي خُوطِب بِنَفْي السُّلْطان، فَفي رِوَايات حديث أب هريرة: إنّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنّ

(2)

.

"وعُورِض

(3)

بِحَدِيث قَولِه لِعُمَر: "مَا لَقِيَك الشَّيْطَان سَالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَك فَجًّا غيره".

وأجَاب الشَّيخ بأنَّ هُرُوبَه مِنْ عُمَر هو بِاعْتِبَار الوَسْوَسَة، وهي مُنْتَفيَة عنه صلى الله عليه وسلم لِلعِصْمَة، وأجَاب غَيره مِنْ أهْل مَجْلِسِه بأنَّ عِفْرِيتًا أخَصّ مِنْ مُطْلَق الشَّيْطَان الذي يَهرُب مِنْ عُمر رضي الله عنه"

(4)

.

قال ابن حجر: وهو ظَاهِر في أنَّ الْمُرَاد بِالشَّيْطَان في هذه الرِّوَاية غَير إبْلِيس كَبِير الشَّيَاطِين

(5)

.

وأذَى الشَّيْطَان للأنْبِياء والصَّالِحِين إنّمَا هوَ في آخِر سِلَاح يَسْتَطِيعُه الشَّيْطَان، إذْ قد وَضَع لابْنِ آدَم سَبْعَ عَقَبَات؛ السَّابِعَة مِنها هِي التي "لَو نَجَا مِنها أحَد لَنَجَا مِنها رُسُل

(1)

رواه مسلم (ح 542).

(2)

كما في رواية البخاري (ح 449)، ومسلم (ح 541).

(3)

يَعني حديث أبي هريرة السابق.

(4)

إكمال إكمال المعلم، الأبي (2/ 443).

(5)

فتح الباري، مرجع سابق (3/ 80).

ص: 458

الله وأنْبِيَاؤه وأكْرَم الْخَلْق عليه، وهي عَقَبَة تَسْلِيط جُنْدِه عليه بِأنْوَاع الأذَى بِاليَد واللسَان والقَلْب على حَسَب مَرْتَبَتِه في الْخَيْر، فَكُلّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُه أجْلَب عَليه العَدُوّ بِخَيْلِه ورَجِلِه، وظَاهرَ عَليه بِجُنْدِه وسَلَّط عَليه حِزْبَه وأهْلَه بِأنْوَاع التَّسْلِيط"

(1)

.

فليس للشَّيْطَان على الْمُؤمِنِين سُلْطَان ولا قُدْرَة، فَضْلًا عن سَيِّد وَلَد آدم عليه الصلاة والسلام.

فـ "السُّلْطَان الْمَنْفيّ عَنه عَلى الْمُؤمِنِين هو الذي أَرْسَل بِه جُنْدَه على الكَافِرِين"

(2)

.

‌المثال الرابع:

سُؤَال الأجْر في الْقُرْبَى:

قَوله تَعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[الأنعام: 90] وقَوله تَعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[سبأ: 47]، وقَوله تَعالى:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86]، مع قَوله تَعالى:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)[الفرقان: 57] وقوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[الشورى: 23] وقَوله تَعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)[الطور: 40]، [القلم: 46].

‌صورة التعارض:

قَوله تَعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) الآية. هَذه الآيَة الكَرِيمة تَدُلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لا يَسْأل أُمّته أجْرًا على تَبْليغ مَا جَاءَهم بِه مِنْ خَيْر الدُّنيا والآخِرَة، ونَظِيرها قَوله تَعالى:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)

وقَد

(1)

مدارج السالكين، مرجع سابق (1/ 413).

(2)

شفاء العليل، مرجع سابق (1/ 174).

ص: 459

جَاء في آيَة أُخْرَى مَا يُوهِم خِلاف ذلك، وهي قَوله تَعالى:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قَال القرطبي في آيَة "الأنعام": قَوله تَعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: جُعْلًا

(2)

على القُرآن (إِنْ هُوَ) أي: القُرآن (إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) أي: هو مَوْعِظَة للخَلْق

(3)

.

وفي آيَة "سبأ" قَال القرطبي: قَوله تَعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي: جُعْل على تَبْليغ الرِّسَالَة (فَهُوَ لَكُمْ) أي: ذلك الْجُعْل لَكُمْ إن كُنْتُ سَألْتُكُمُوه، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: رَقِيب وعَالِم وحَاضِر لأعْمَالِي وأعْمَالِكم، لا يَخْفَى عَليه شَيء، فَهو يُجَازِي الْجَمِيع

(4)

.

وقال مِثْل ذَلك في تفسير آيَة "ص"، حَيث قَال: قَوله تَعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي: مِنْ جُعْل على تَبْلِيغ الوَحْي

(5)

.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 165، 166) باختصار.

(2)

الجُعل: بضم الجيم: ما يجعل للعامل عوضًا. (تحرير ألفاظ التنبيه ص 206)، وفي المطلع (ص 281): الجعالة - بفتح الجيم وكسرها وضمها - ما يجعل على العلم - ذكره شيخنا في مثلثه - قال: ويُقال: جعلت له جعلًا وأجعلت: أوجبت. وقال ابن فارس في المجمل: الجعل والجعالة والجعيلة: ما يعطاه الإنسان على الأمر يفعله.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 30).

(4)

المرجع السابق (14/ 274).

(5)

المرجع السابق (15/ 202).

ص: 460

وبِنَحْوِه قَال في تَفْسِير آيَة "الطور"، إذ يقول: فَقَوله تَعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) على تَبْلِيغ الرِّسَالَة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) أي: فَهُمْ مِنْ الْمَغْرَم الذي تَطْلُبُهم بِه (مُثْقَلُونَ) مُجْهَدُون لِمَا كَلَّفْتَهم بِهِ

(1)

.

وبِنَحْوِه قال في تَفْسِير سُورة القَلَم

(2)

.

ويَرى القرطبي أنَّ الاسْتِثْنَاء في آيَة "الفرقان" مُنْقَطِع، حَيث قَال:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يُرِيد على مَا جِئتُكُم بِه مِنْ القُرْآن والوَحْي. و (مِنْ) للتَّأكيد (إِلَّا مَنْ شَاءَ) لكن مَنْ شَاء، فهو اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، والْمَعْنَى: لَكِن مَنْ شَاء (أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) بإنْفَاقِه مِنْ مَاله في سَبِيل الله فَلْيُنْفِق. ويَجُوز أن يَكون مُتَّصِلًا، ويُقَدَّر حَذْف الْمُضَاف، التَّقْدِير: إلَّا أجْر مَنْ شَاء أن يَتَّخِذ إلى رَبِّه سَبِيلًا باتِّبَاع دِينِي حتى يَنَال كَرَامَة الدُّنيا والآخِرَة

(3)

.

في حِين فصَّل القَول في آيَة "الشورى"، فَقَال - مَا مُلخَّصه -:

(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: قُلْ يَا محمد: لا أسْألُكُم على تَبْلِيغ الرِّسَالة جُعلا (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال الزَّجَّاج: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) اسْتِثْنَاء لَيْس مِنْ الأوَّل، أي: إلَّا أنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي، فَتَحْفَظُوني، والْخِطَاب لِقُرَيش خَاصَّة.

قَال الشَّعبي: أكْثَر النَّاسُ عَلينا في هَذه الآيَة، فَكَتَبْنَا إلى ابنِ عباس نَسْأله عَنها، فَكَتَب: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوْسَط النَّاس في قُرَيش، فَلَيس بَطْن مِنْ بُطُونِهم إلَّا وقَد وَلَدَه، فَقَال الله لَه:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلَّا أنَّ تَوَدُّونِي في قَرَابتي مِنْكم

(4)

. أي: تُرَاعُوا مَا بَينِي وبَينَكم فَتُصَدِّقُوني، فـ (الْقُرْبَى) ها هُنا قَرابة الرَّحِم، كَأنه قَال: اتَّبِعُوني للقَرَابَة إنَّ لَم تَتَّبِعُوني للنُّبُوَّة.

قال عكرمة: وكَانَت

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (17/ 67).

(2)

المرجع السابق (18/ 220).

(3)

المرجع السابق (13/ 62).

(4)

وعنه قول آخر، رواه ابن جرير (20/ 500).

ص: 461

قريش تَصِل أرْحَامها، فَلَمَّا بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم قَطَعَتْه، فَقَال: صِلُوني كَمَا كُنْتُم تَفْعَلُون

(1)

. فَالْمَعْنَى عَلى هَذا: قُلْ لا أسْألُكُم عَليه أجْرًا لكِن أُذَكِّرُكُم قَرَابَتي.

على اسْتِثْنَاء لَيس مِنْ الأوَّل. ذَكَرَه النَّحَّاس.

وفي البُخاري

(2)

عن طاوس عن ابن عباس أنه سُئل عن قَوله تَعالى: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فَقَال سَعيد بن جبير: قُرْبى آل محمد، فقال ابن عباس: عَجِلْتَ! إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَكن بَطْن مِنْ قُرَيش إلَّا كَان لَه فِيهم قَرَابَة، فَقَال: إلَّا أنْ تَصِلُوا مَا بَيْنَكُم مِنْ القَرَابَة. فهذا قَوْل.

وقِيل: القُرْبى: قَرَابَة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لا أسْألُكُم أجْرًا إلَّا أنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي وأهْل بَيْتِي، كَمَا أمَر بإعْظَامِهم

(3)

ذَوي القُرْبى.

وروى منصور وعوف عن الحسن

(4)

: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قَال: يَتَوَدَّدُون إلى الله عز وجل ويَتَقَرَّبون مِنه بِطَاعَتِه.

ونَقَل القرطبي عن النحاس قَوله: وقَوْل الْحَسَن حَسَن.

ثم ذَكَر مَا قِيل في نَسْخ الآيَة، وأتْبَعه بِقَوْل الثعلبي عَنْه: ولَيس بالقوي، وكَفَى قُبْحًا بِقَوْل مَنْ يَقُول إنَّ التَّقَرُّب إلى الله بِطَاعَتِه ومَوَدَّة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم وأهْل بَيْتِه مَنْسُوخ

(5)

.

وحَكَى الْخِلاف في سَبَب نُزُول الآيَة، وذَكَر قَوْلًا في كَوْنِها نَزَلَتْ في الْمَدِينَة

(6)

.

(1)

ذكره النحاس في "معاني القرآن"(6/ 308).

(2)

(ح 4541)، وفي (ح 3306) التصريح بنزول الآية بسبب ذلك.

(3)

هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: كما أمر بإعظام ذوي القربى، أو يكون المعنى: كما أمر بتعظيمهم لذوي القربى.

(4)

وعنه قول آخر، رواه ابن جرير (20/ 500).

(5)

هذا القول ضعفه السمعاني - على ما سيأتي - وقال ابن حجر (الفتح 8/ 564): وزعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة، ورده الثعلبي بأن الآية دالة على الأمر بالتودد إلى الله بطاعته، أو باتباع نبيه، أو صلة رحمه بترك أذيته، أو صلة أقاربه من أجله، وكل ذلك مستمر الحكم غير منسوخ.

(6)

قال ابن كثير (12/ 270) بعد سياق رواية ابن جرير في نزول الآية في المدينة: وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبد المؤمن بن علي عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، بإسناده مثله، أو قريبًا منه، وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية، وذكر نزولها في المدينة فيه نظر، لأن السورة مكية، وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة، والله أعلم.

وقال ابن حجر (الفتح 8/ 564): وهذا أيضًا ضعيف، ويبطله أن الآية مكية.

والحديث مُخرّج في الصحيحين (البخاري ح 4075، ومسلم ح 1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم في قصة قسمة غنائم حُنين دون ذكر سبب النزول.

ص: 462

ونَقَل عَنْ قتادة قَوله: قال الْمُشْرِكُون: لَعَل مُحَمَّدًا فِيما يَتَعَاطَاه يَطْلُب أجْرًا، فَنَزَلَتْ هَذه الآيَة، لِيَحُثَّهم على مَوَدَّته ومَوَدَّة أقْرِبَائه. قال الثعلبي: وهذا أشْبَه بِالآيَة، لأنَّ السُّورَة مَكِّيَّة

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

لا أسْألُكم جُعْلًا على القُرْآن.

2 -

لا أسْألُكم جُعْلًا على تَبْلِيغ الرِّسَالة.

3 -

مَا سَألْتُكُم مِنْ جُعْل فَهو لَكُم، على تَقْدِير - إنْ كُنْت سَألْتُكُمُوه -.

4 -

الاسْتِثْنَاء - في آية "الفرقان" - مُنْقَطِع، ويَجُوز أن يَكون مُتَّصِلًا.

5 -

الاسْتِثْنَاء في آيَة "الشورى" مُنقَطِع أيضًا. والْمَعْنَى: إلَّا أنْ تَصِلُوا مَا بَيْنَكُم مِنْ القَرَابَة.

6 -

سَبَب نُزُول آيَة "الشورى" حَثّ قُرَيش عَلى مَوَدَّته ومَوَدَّة أقْرِبَائه.

(1)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 20 - 24)، وقال ابن حجر (الفتح 8/ 564): والأقوى في سبب نزولها عن قتادة قال: قال المشركون: لعل محمدًا يطلب أجرًا على ما يتعاطاه؛ فنزلت.

ص: 463

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

مَعنى آيَة "الأنعام" عند ابن جرير: لا أسْألُكُم على تَذْكِيرِي إيّاكُم، والْهُدَى الذي أدْعُوكُم إليه، والقُرْآن الذي جِئتُكُم بِه عِوَضًا أعْتَاضُه مِنْكُم عَليه، وأجْرًا آخُذُه مِنْكُم؛ ومَا ذلك مِنِّي إلَّا تَذْكِير لَكم، ولِكُلّ مَنْ كَان مِثْلكم، مِمَّنْ هو مُقِيم على بَاطِل - بَأس الله أنْ يَحُلّ بِكم، وسَخَطه أن يَنْزِل بِكم على شِرْكِكم به وكُفْرِكم، وإنْذَار لِجَمِيعِكم بَيْن يَدَي عَذَاب شَدِيد، لِتَذَكَّرُوا وتَنْزَجِرُوا

(1)

.

ومَعْنَى آيَة "سبأ" عِنْدَه: قُلْ يَا محمد لِقَومِك الْمُكَذَّبِين الرَّادِّين عَليك مَا أتَيْتَهم بِه مِنْ عِند رَبك: مَا أسْألُكم مِنْ جُعْل على إنْذَارِكم عَذَاب الله، وَتَخْويفِكم بِه بَأسَه، ونَصِيحَتِي لَكم في أمْري إيّاكم بِالإيمان بالله، والعَمَل بِطَاعَتِه؛ فَهو لكم لا حَاجَة لي بِه، وإنّمَا مَعْنَى الكَلام: قل لهم: إني لَم أسْألُكم على ذلك جُعْلًا فتَتَّهِمُوني، وتَظُنُّوا أني إنّمَا دَعَوتُكُم إلى اتِّبَاعِي لِمَالٍ آخُذُه مِنكم

(2)

.

وفي آيَة (ص) قَال: يَقول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا محمد لِمُشْرِكِي قَوْمِك القَائِلين لَك: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)[ص: 8]: مَا أسْألُكم على هذا الذِّكْر - وهو القُرْآن الذي أتَيْتُكُم بِه مِنْ عِنْد الله - أجْرًا، يَعْنِي: ثَوَابًا وجَزَاءً

(3)

.

و (إِلَّا) في آيَة "الفرقان" بِمَعْنَى: لكن. يَقول ابن جرير: ومَا أرْسَلْنَاك يَا محمد إلى مَنْ أرْسَلْنَاك إليه إلَّا مُبَشِّرًا بِالثَّوَاب الْجَزِيل مَنْ آمَن بِك وصَدَّقَك، وآمَن بِالذِي جِئتَهم بِه مِنْ عِندي، وعَمِلُوا بِه، ونَذِيرًا لِمَنْ كَذَّبَك وكَذَّب مَا جِئتَهم بِه مِنْ عِندي، فَلم يُصَدِّقُوا بِه ولَم يَعْمَلُوا.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 393).

(2)

المرجع السابق (19/ 306).

(3)

المرجع السابق (20/ 150).

ص: 464

(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يَقُول له: قُلْ لِهؤلاء الذِين أرْسَلْتُك إلَيهم: مَا أسْألُكُم يَا قَوْم عَلى مَا جِئْتُكُم بِه مِنْ عِند رَبي أجْرًا، فَتَقُولُون: إنّمَا يَطْلُب محمد أمْوَالَنا بِمَا يَدْعُونا إليه، فلا نَتَّبِعُه، كَيْمَا لا نُعْطِيه مِنْ أمْوَالِنا شَيئا.

(إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) يَقُول: لَكِن مَنْ شَاء مِنْكُم اتَّخَذ إلى رَبِّه (سَبِيلًا) طَرِيقًا بإنْفَاقِه مِنْ مَالِه في سَبِيلِه، وفِيمَا يُقَرِّبه إليه مِنْ الصَّدَقة والنَّفَقَة في جِهَاد عَدُوِّه، وغَير ذلك مِنْ سُبُل الْخَيْر

(1)

.

بَيْنَمَا فَصَّل ابن جرير في آية "الشورى"، فَقَال: يَقُول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد: قُلْ يَا محمد للذِين يُمَارُونَك في السَّاعَة مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِك: لا أسْألُكُم أيّهَا القَوْم على دِعَايَتِكُم إلى مَا أدْعُوكُم إليه مِنْ الْحَقّ الذي جِئتُكُم به، والنَّصِيحَة التي أنْصَحُكُم - ثَوَابًا وجَزاء وعِوَضًا مِنْ أمْوالِكم تُعْطُونَنِيه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).

ثم ذَكَر ابن جرير الاخْتِلاف في مَعْنَى الْقُرْبَى، فَقَال مَا مُلخَّصه:

واخْتَلف أهْل التَّأويل في مَعْنَى قَوله: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فَقَال بَعْضُهم: مَعْنَاه: إلَّا أن تَوَدُّونِي في قَرَابَتِي مِنْكُم، وتَصِلُوا رَحِمِي بَينِي وبَينَكُم.

وقَال آخَرُون: بَلْ مَعْنَى ذلك: قُلْ لِمَنْ تَبِعَك مِنْ الْمُؤمِنِين: لا أسْألُكُم على مَا جِئتُكُم بِه أجْرًا إلَّا أن تَوَدُّوا قَرَابَتِي.

وقَال آخَرُون: بَلْ مَعْنَى ذلك: قُلْ: لا أسْألُكُم أيّهَا النَّاس عَلى مَا جِئتُكُم بِه أجْرًا إلَّا أن تَوَدَّدُوا إلى الله، وتَتَقَرَّبُوا بِالعَمَل الصَّالِحِ والطَّاعَة.

وأوْلَى الأقْوَال بِالصَّوَاب - عند ابن جرير - وأشْبَهِها بِظَاهِر التَّنْزِيل قَوْل مَنْ قَال: مَعْنَاه: قُلْ: لا أسْألُكُم عليه أجْرًا يَا مَعْشَر قُرَيش إلَّا أن تَوَدُّونِي في قَرَابَتِي مِنْكُم، وتَصِلُوا الرَّحِم التي بَيْنِي وبَيْنَكُم.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (17/ 479).

ص: 465

ثم عَلل هَذا الاخْتِيَار بِقَولِه: وإنّمَا قُلْتُ هذا القَوْل أوْلى بِتَأوِيل الآيَة، لِدُخُولِ (فِي) في قَولِه:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، ولَو كَان مَعْنَى ذَلك على مَا قَالَه مَنْ قَال: إلَّا أن تَوَدُّوا قَرَابَتِي، أوْ عَلى مَا قَالَه مَنْ قَال: إلَّا أن تَوَدُّوا قَرَابَتِي وتَقَرَّبُوا إلى الله؛ لم يَكُنْ لِدُخُول (فِي) في الكَلام في هَذا الْمَوْضِع وَجْه مَعْرُوف، ولَكَان التَّنْزِيل "إلَّا مَوَدَّة القُرْبَى" إن عُنِيَ به الأمْر بِمَوَدَّة قَرَابَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أوْ "إلَّا الْمَوَدَّة بالقُرْبَى" أوْ "والقُرْبَى" إن عُنِي بِه: إلَّا التَّوَدُّد والتَّقَرُّب.

وفي دُخُول (فِي) في الكَلام أوْضَح الدَّلِيل على أنَّ مَعْنَاه: إلَّا مَوَدَّتِي في قَرَابَتِي مِنْكُم. وأن الألف واللام في (الْمَوَدَّةَ) أُدْخِلَتَا بَدَلًا مِنْ الإضَافَة، كَمَا قِيل:(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 41].

وقَوله: (إِلَّا) في هَذا الْمَوضِع اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع.

وَمعْنَى الكَلام: قُلْ: لا أسْألُكُم عَليه أجْرًا، لَكِنّي أسْألُكُم الْمَوَدَّة في القُرْبَى

(1)

.

وبيَّن ابنُ جرير مَعْنَى قَوله تَعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)[الطور: 40] بِقَوله: يَقُول تَعَالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: أتَسْأل هَؤلاء الْمُشْرِكِين الذين أرْسَلْنَاك إلَيهم يَا محمد عَلى مَا تَدْعُوهُم إليه مِنْ تَوْحِيد الله وطَاعَتِه ثَوَابًا وعِوَضًا مِنْ أمْوَالِهم، فَهُمْ مِنْ ثِقَلِ مَا حَمَّلْتَهم مِنْ الغُرْم لا يَقْدِرُون على إجَابَتِك إلى مَا تَدْعُوهم إلَيه؟

(2)

وبِنَحْوه قال في تَفسِير سُورة القَلَم

(3)

.

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (20/ 494 - 5020).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (21/ 599).

(3)

المرجع السابق (23/ 199).

ص: 466

ويَقول السمرقندي في آيَة "الأنعام"(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا): يَعني: قُلْ للمُشْرِكِين: لا أسْألُكُم عَلى الإيمَان والقُرْآن جُعْلًا (إِنْ هُوَ) يَعني: مَا هو، وهو القُرْآن (إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) يَعْنِي: مَوْعِظَة للعَالَمِين: الإنْس والْجِنّ

(1)

.

وفي آية "سبأ" يَقُول: قَال عز وجل: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُو لَكُمْ)، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ كُفَّار مَكَّة أنْ لا يُؤذُوا قَرَابَاتِه، فَكَفُّوا عَنْ ذَلك، ونَزل:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[الشورى: 23]، فَكَفُّوا عَنْ ذَلك. ثم سَمِعُوا بِذِكْرِ آلِهَتِهم، فَقَالُوا: ألا تَنظرون إليه؟ يَنْهَانا عن إيذَاء قَرَابَته، وسَألْنَاه أن لا يُؤذِينا في آلهَتنا فلا يَمْتَنع. فَنَزَل:(قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) إن شِئتُم آذُوهم، وإن شِئتُم امْتَنَعْتُم (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) فهو الْحَافِظ والنَّاصِر (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بَأنِّي نَذِير، ومَا بِي جُنُون

(2)

.

ومَعْنَى آيَة "ص" عنده: قُلْ يا محمد: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) يَعْنِي عَلى الذِي أتَيْتُكُم بِه مِنْ القُرْآن (مِنْ أَجْرٍ) ولكن أُعَلِّمُكُم بِغَيْر أَجْر (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) يَعْنِي: مَا أتَيْتُكُم بِه مِنْ قِبَل نَفْسِي، ومَا تَكَلّفْتُه مِنْ تِلْقَاء نَفْسِي. (إِنْ هُوَ) يَعْنِي: مَا هَذا القُرْآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)[ص: 87] يَعْنِي: إلَّا عِظَة للجِنّ والإنْس

(3)

.

ويَرَى أنَّ الْمَقْصُود بِالسَّبِيل في آيَة "الفرقان" هو التَّوْحِيد، حَيث يَقُول السمرقندي:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) يَعْنِي: قُلْ لِكُفَّار مَكَّة: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) يَعْنِي: عَلى القُرْآن والإيمان.

(مِنْ أَجْرٍ) يَعْنِي: مِنْ جُعْل. (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) يَعْنِي: إلَّا مَنْ شَاء أن يُوَحِّد ويَتَّخِذ إلى رَبِّه بِذلك التَّوحِيد سَبِيلًا، يَعْنِي: مَرْجِعًا. ويُقَال: يَعْمَل

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 485).

(2)

المرجع السابق (3/ 90).

(3)

المرجع السابق (3/ 167).

ص: 467

فَيَتَّخِذ عِنْد رَبِّه مَرْجِعًا صَالِحًا، فَيَدْخُل بِه الْجَنَّة، يَعْنِي: لا أُرِيد الأجْر، ولكن أُرِيد لَكُمْ هَذا الذي ذُكِر، وقَصْدِي هَذا لا أن آخُذ مِنْكُم شَيئًا

(1)

.

وقال في آيَة "الشورى": (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) يَعْنِي: قُلْ يا محمد لأهْل مَكَّة: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) على مَا جِئْتُكُم بِه أجْرًا. (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قَال مُقاتل: يَعني: إلَّا أن تَصِلُوا قَرَابَتِي، وتَكُفُّوا عَنِّي الأذَى، ثم نُسِخ

(2)

بِقَولِه: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)[سبأ: 47]. ويُقَال: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يَعْنِي: إلَّا ألَّا تُؤذُونَنِي بِقَرَابَتِي مِنْكُم.

قال ابن عباس: ليس حَيّ مِنْ أحْيَاء العَرَب إلَّا وللنبي صلى الله عليه وسلم فِيه قَرَابَة

(3)

.

وقال الْحَسَن: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يَعْنِي: إلَّا أن تَتَوَدَّدُوا إلى الله تَعالى بِمَا يُقَرِّبُكم مِنه. وهكذا قال مُجاهد.

وقال سعيد بن جبير: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُربَى) يَعْنِي: إلَّا أنْ تَصِلُوا قَرَابَة مَا بَيْنِي وبَيْنَكم

(4)

.

وقَال في آيَة "الطور": (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) يَعْنِي: أتَطْلُب مِنهم (أَجْرًا) بما تُعَلِّمُهم مِنْ الأحْكَام والشَّرَائع. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) يَعْنِي: مِنْ أجْل الْمَغْرَم يَمْتَنِعُون عَنْ الإيمان. يَعْنِي: لا حُجَّة لَهم في الامْتِنَاع، لأنك لا تَسْأل مِنهم أجْرًا، فَيَثْقُل عَليهم لأجْل الأجْر

(5)

.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (2/ 542).

(2)

ضعف السمعاني والثعلبي وغير واحد القول بالنسخ، كما تقدم، وسيأتي في كلام السمعاني، ولعل من قال بالنسخ يرى أن المنسوخ هو الموادعة، كما سيأتي في منقول ابن عطية.

(3)

رواه البخاري. وقد تقدم.

(4)

بحر العلوم، مرجع سابق (3/ 230).

(5)

المرجع السابق (3/ 337).

ص: 468

ويَرَى عَوْد الضَّمِير في آيَة "القلم" إلى قَوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)[القلم: 37]، فإنه قَال: قَوله عز وجل: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) يَعْنِي: أتَسْألهم على الإيمان جُعْلًا (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) يَعْنِي: لأجْل الغُرْم يَمْتَنِعُون. وهذا يَرْجِع إلى قَوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)

(1)

.

واقْتَصَر السمعاني في آية "الأنعام" على قَوله: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: تَذْكِرَه

(2)

وقال في آيَة "سبأ": قَوله تَعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي: مِنْ جُعْل (فَهُوَ لَكُمْ) أي: تَرَكْتُه لكُم، والْمَعْنَى: أني مَا سَألْتُكُم مِنْ جُعْل، لا أنه سَأل وَتَرَك.

وقَوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي: مَا ثَوابي إلَّا عَلى الله

(3)

.

كما اخْتَصَر القَول جِدًّا في آيَة ص، فَقَال:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي: مِنْ جُعْل

(4)

.

ومَعْنَى آيَة "الفرقان" عِنده لكن مَنْ شَاء أن يَتَّخِذ إلى رَبِّه سَبيلًا سَلَك طَرِيق الإيمان وأَخَذَ بِهِ

(5)

.

بَينَما فَصَّل في آيَة "الشورى"، فَذَكَر أرْبَعَة أقْوَال: "أظْهَرُها وأشْهَرُها: أنَّ مَعْنَاه: لا أسْألُكم إلَّا أن تَوَدُّوني لِقَرَابَتِي مِنكم.

وقيل: تَصِلُوا القَرَابة التي بَيْنِي وبَيْنَكم بِالاسْتِجَابَة لي إلى مَا أدْعُو إليه، وتَكَفُّوا عَنِّي أذَاكُم. وهذا قول ابن عباس، أوْرَدَه البخاري عنه في الصَّحِيح

(6)

على لَفْظ مَعْلُوم مَقْبُول. وهو قول طاوس ومجاهد وقتادة وعَامَّة الْمُفَسِّرِين.

(1)

بحر العلوم، مرجع سابق (3/ 464).

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 124).

(3)

المرجع السابق (4/ 340).

(4)

المرجع السابق (4/ 455).

(5)

المرجع السابق (4/ 27).

(6)

سبق تخريجه. وهو بغير هذا اللفظ الذي أوْرَده السمعاني.

ص: 469

والقَول الثَّاني: مَا حُكِي عن الحسن البصري أنه قَال: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) مَعْنَاه: أن يَتَوَدَّدُوا إلى الله بِمَا يُقَرِّبُكم إليه مِنْ العَمَل الصَّالِح.

والقَول الثَّالث: مَا حُكِي عن الضحاك أنَّ الآيَة مَنْسُوخَة بِقَولِه: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)، وهَذا القَول غَير مَرْضِيّ عند أهْل الْمَعَاني، لأنَّ قَوله:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ليس باسْتِثْنَاء صَحِيح حَتى يَكُون مُخَالِفًا لِقَوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)، بَلْ هو اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، ومَعْنَاه:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، أي: مَالًا، وتَمَّ الكَلام، ومَعْنَى قَوله:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى): لكن صِلُوا قَرَابَتِي بالاسْتِجَابة لي، أوْ تَكُفُّوا أذَاكُم عَنِّي.

وفي بَعض التَّفَاسِير: أنَّ أهْل الْجَاهِلِيَّة لِمَا عَلِمُوا جَدّ النبي صلى الله عليه وسلم ظَنُّوا أنه يَطْلُب مَالًا، فَجَمَعُوا له شَيئًا حَسَنًا مِنْ أمْوَالِهم، وقَالُوا: نُعْطِيك هَذا المال، وكُفّ عَمَّا أنْت عَليه

(1)

، فأنْزَل الله الآيَة على الْمَعْنَى الذي قَدَّمْنَا.

والقَول الرَّابِع: مَا رَوي في بَعض الغَرَائب مِنْ الرِّوَايات بِرواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّ مَعْنَى قَوله: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أن تَوَدُّوا أقْرِبَائي وتُحِبُّوهم.

وحَكَى بَعضُهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن هَذه، وعن مَعْنَى القُرْبَى، فقال: علي وفاطمة وولدهما. وهذا أغْرب الأقَاويل وأضْعَفها"

(2)

.

ومَعْنى آيَة "الطور" عنده: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) أي: على تَبْلِيغ الرِّسَالة.

(1)

قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن ذلك. فحلق رسول الله بصره إلى السماء، ثم قال: هل ترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم.

قال: ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تستشعِلوا لي منها شعلة. فقال أبو طالب: ما كذَبَنا ابن أخي، فارجعوا. فرجعوا. رواه البزار (ح 2170)، وأبو يعلى (ح 6804)، والطبراني (ح 511)، وفي الأوسط (ح 8553)، والحاكم (ح 6467)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 14): رواه الطبراني في الأوسط والكبير

وأبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

وهذا محتمل أن يكون هو المعني، فالقصة في مكة والآية مكية، إلا أنه ليس فيه ذكر للآية وسبب نزولها.

(2)

تفسير القرآن، مرجع سابق (5/ 73، 74).

ص: 470

وقَوله: (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي: فَهُمْ مِنْ الْمَغْرَم الذي لَحِقَهم مُثْقَلون، يُقال: لَحِق فُلانًا دَينٌ فَادِح، أو دَيْنٌ ثَقِيل، فهو مُثْقَل

(1)

.

وبِنحو ذلك قال في تَفْسِير سُورة القَلم

(2)

.

وأعاد الثعلبي الضَّمِير في قَوله تَعالى: (إِنْ هُوَ)[الأنعام: 90] إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قَال في تَفسير الآيَة مَا نَصّه:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) جُعْلا وَرِزْقًا. (إِنْ هُوَ) مَا هو، يَعني: محمد

(3)

صلى الله عليه وسلم. (إِلَّا ذِكْرَى) عِظَة (لِلْعَالَمِينَ)

(4)

.

وفي قَوله تعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ)[سبأ: 47] قال الثعلبي: على تَبْلِيغ الرِّسَالة والنَّصِيحَة (مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي: مَا ثَوَابِي إلَّا على الله

(5)

.

وفي آية "ص" قال: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي: على تَبْلِيغ الوَحْي، كِنَايَة عن غَيْر مَذْكُور (مِنْ أَجْرٍ).

ونَقَل عن الْحُسَين بن الفضل قَوله: هذه الآيَة نَاسِخَة لِقَولِه: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). ولَم يَتَعَقّبه بِشَيء في هَذا الْمَوضِع

(6)

.

وقال في آية "الفرقان": (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على تَبْلِيغ الوَحْي (مِنْ أَجْرٍ) فَيَقُولُون: إنّمَا يَطْلُب محمد أمْوَالَنا بِمَا يَدْعُونا إليه، فلا نَتَّبِعه كَي لا نُعْطِيه مِنْ أمْوَالِنا شَيئًا (إِلَّا مَنْ

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (5/ 279).

(2)

المرجع السابق (6/ 31).

(3)

هكذا في المطبوع.

(4)

الكشف والبيان، مرجع سابق (4/ 167)، وإعادة الضمير في (إِنْ هُوَ) يأباه السياق.

(5)

المرجع السابق (8/ 93، 94).

(6)

المرجع السابق (8/ 218)، وسيأتي تعقبه لهذا القول.

ص: 471

شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا). قال أهل الْمَعَاني: هذا أمْر الاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطِع مَجَازُه: لكن مَنْ شَاء أن يَتَّخِذ إلى رَبِّه سَبِيلًا بِإنْفَاقِه مَالَه في سَبِيله

(1)

.

وأمَّا في آيَة "الشورى" فقد أطَال في نَقْل الأقْوَال والرِّوايات، وأكْثَرها ضَعِيف، وأوْرَد في سَبَب نُزُول الآيَة:

1 -

مَا رُوي عن ابن عباس: لَمَّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ

(2)

الْمَدِينَة كَانَتْ تَنُوبه نَوَائب وحُقُوق ولَيْس في يَدَيه سَعَة ....

(3)

.

2 -

قول قتادة: اجْتَمَع الْمُشْرِكُون في مَجْمَع لهم، فَقَال بَعضهم لِبعض: أتُرَون محمدًا يَسأل على مَا يَتَعَاطَاه أجْرًا؟ فأنْزَل الله تَعالى هذه الآيَة يَحُثُّهم على مَوَدَّتِه ومَوَدَّة أقْرِبَائه. وهذا التأويل أشْبَه بِظَاهِر الآيَة والتَّنْزِيل، ومُلخَّص الأقْوال عِنده:

1 -

هو القُرْبَى إلى الله تعالى. يَعْنِي: إلَّا التَّقَرُّب إلى الله تَعالى، والتَّوَدُّد إليه بِالطَّاعة والعَمَل الصَّالِح.

2 -

أنْ تَحْفَظُوني وتَوَدُّوني وتَصِلُوا رَحِمي.

3 -

مَعْنَاه: إلَّا أن تَوَدُّوا قَرَابَتِي وعِتْرَتِي، وتَحْفَظُونِي فِيهم.

وذَكَر الثعلبي بَعد هذا القَول الاخْتِلاف في قَرَابَة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أَمَرَ الله تعالى بِمَوَدَّتِهم.

ونَقَل عن قَوم قَولهم: هَذه الآيَة مَنْسُوخَة

وإلى هذا ذَهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل، وهذا قَول غَير قَوي ولا مَرْضِيّ، لأنَّ مَا حَكَينا مِنْ أقَاويل أهل

(1)

المرجع السابق (7/ 142).

(2)

هكذا في المطبوع، والصواب: لمّا قَدِم المدينة.

(3)

تقدّم تخريجه في نقل جمع القرطبي في أول هذا المثال.

ص: 472

التَّأويل في هَذه الآيَة لا يَجُوز أن يَكُون واحِد منها مَنْسُوخًا، وكَفَى قُبْحًا

(1)

بِقَول مَنْ زَعَم إنَّ التَّقَرُّب إلى الله تعالى بِطَاعَته ومَوَدَّة نَبِيِّه وأهْل بَيْتِه مَنْسُوخ

(2)

.

وقال في آيَة "الطور": (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) جُعْلًا على مَا جِئْتَهم بِه، ودَعَوتَهم إليه، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) غُرْم (مُثْقَلُونَ) مَجْهُودُون

(3)

. ولم يُفسِّر آَية "القلم"

(4)

.

ولم يَتطرّق الزمخشري إلى تَفسير آيَة "الأنعام".

ولآيَة "سبأ" عِنده مَعْنَيَان، وفيها جَزَاء الشَّرْط، حيث قَال:(فَهُوَ لَكُمْ) جَزَاء الشَّرْط الذي هو قَوله: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) تَقْدِيره: أيّ شَيء سَألْتُكم مِنْ أجْرٍ فَهو لَكم، كَقَوله تَعالى:(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ)[فاطر: 2] وفِيه مَعْنَيَان:

أحدهما: نَفْي مَسْألة الأجْر رَأسًا، كَمَا يَقُول الرَّجُل لِصَاحِبه: إن أعْطَيْتَنِي شَيئًا فَخُذْه، وهو يَعْلَم أنه لم يُعطِه شَيئًا، ولكنه يُرِيد بِه البتّ؛ لِتَعْلِيقِه الأخْذ بِمَا لَم يَكُنْ.

والثاني: أنْ يُرِيد بِالأجْر مَا أرَاد في قَوله تَعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)[الفرقان: 57] وفي قَوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[الشورى: 23]؛ لأنَّ اتِّخَاذ السَّبِيل إلى الله نَصِيبهم ومَا فيه نَفْعهم، وكَذلك الْمَوَدَّة في القَرَابة، لأنَّ القَرَابة قد انْتَظَمَتْه وإيَّاهم

(5)

.

واقْتَصَر في تَفسير آية "ص" على قَوله: (مِنْ أَجْرٍ) الضَّمير للقُرْآن أوْ للوَحْي

(6)

.

(1)

في المطبوع: فتحا، وهو خطأ ظاهر.

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (8/ 310 - 314).

(3)

المرجع السابق (9/ 132).

(4)

المرجع السابق (10/ 23)، وأشرْتُ سابقًا إلى أن طبعة دار إحياء التراث العربي سيئة، فيحتمل السقط.

(5)

الكشاف، مرجع سابق (ص 877، 878).

(6)

المرجع السابق (ص 932).

ص: 473

وجَوَّز الزمخشري الوَجْهَين في الاسْتِثْنَاء في آيَة "الشورى"، إذْ يَقُول:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يَجوز أن يَكون اسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا

ويَجُوز أن يَكون مُنْقَطِعًا.

ثم أوْرَد هُنا سُؤالًا قَال فيه: فإن قُلت: هَلّا قِيل: إلَّا مَوَدَّة القُرْبَى، أوْ إلَّا الْمَوَدَّة للقُرْبى؟

(1)

ومَا مَعْنَى قَوله: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟

وأجَاب عنه بِقَولِه: قلت: جُعِلُوا مَكَانًا للمَوَدَّة، ومَقَرًّا لَها

ولَيْسَت (فِي) بِصِلَةٍ للمَوَدَّة كَـ (اللام)، إذا قُلْت: إلَّا الْمَوَدَّة للقُرْبَى، إنّمَا هي مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوف تَعَلّق الظَّرْف به

وتقديره: إلَّا الْمَوَدَّة ثَابِتَة في القُرْبَى ومُتَمَكِّنَة فِيها. والقُرْبى مَصْدَر كالزُّلْفَى والبُشْرَى، بِمَعْنَى: قَرَابَة، والْمُرَاد في أهْل القُرْبَى.

وأطال في ذِكْر أحاديث في القُرْبى ورِوَايَات في أسْبَاب النُّزول لا يَصِحّ مِنها شَيء، وقد تَقَدَّم بَيَان حَالِها

(2)

.

وبيَّن في آيَة "الطور" مَعْنَى الْمَغْرَم، وهو أن يَلْتَزِم الإنْسَان مَا لَيْس عَليه

(3)

.

وبِنَحْوه قَال في آيَة سُورة القَلم

(4)

.

وقال ابنُ عطية تَفْسِير آيَة "الأنعام": وقَوله تَعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ) الآيَة، الْمَعْنَى: قُلْ يا محمد لِهَؤلاء الكَفَرَة الْمُعَانِدِين: لا أسْألُكم على دُعَائي إيّاكُم بِالقُرْآن إلى عِبَادَة الله وتَوْحِيدِه أسْتَكْثِر بِها، وأخْتَصّ بِدُنْياها (إِنْ) القُرْآن (إِلَّا) مَوْعِظَة وذِكْرَى ودُعَاء لِجَمِيع العَالَمِين

(5)

.

(1)

تقدم النقل عن ابن جرير، وترجيحه في ذلك، وهو خلاف ما يرجحه الزمخشري هنا.

(2)

انظر: الكشاف، مرجع سابق ص (977، 978).

(3)

المرجع السابق (ص 1058).

(4)

المرجع السابق (ص 1133).

(5)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 320).

ص: 474

ويَرى أنَّ آيَة "الفرقان" مُرْتَبِطَة بِمَا قَبْلَها، وهو قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، فإنّه قَال فِيها: الآية تَسْلِية لِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، أي: لا تَهْتَم بِهم، ولا تَذْهَب نَفْسُك حَسَرات حِرْصًا عَليهم، فإنّمَا أنْتَ رَسُولٌ تُبَشِّر الْمُؤمِنين بِالْجَنَّة، وتُنْذِر الكَفَرَة النَّار، ولَسْتَ بِمَطْلُوب بِإيمَانِهم أجْمَعِين، ثم أمَرَه تَعالى بأن يَحْتَجّ عَليهم مُزِيلًا لِوُجُوه التُّهَم بِقَوله:(مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)، أي: لا أطْلُب مَالًا ولا نَفْعًا يَخْتَصّ بي، وقَوله:(إِلَّا مَنْ شَاءَ) الظَّاهر فِيه أنه اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، والْمَعنى: مَسْؤولِي ومَطْلُوبِي مَنْ شَاء أن يَهْتَدِي ويُؤمِن ويَتَّخِذ إلى رَحْمَة رَبِّه طَرِيقَ نَجَاة.

قال الطبري: الْمَعْنَى: لا أسْألُكم أجْرًا إلَّا إنْفَاق الْمَال في سَبِيل الله، فهو الْمَسْؤول، وهو السَّبِيل إلى الرَّبّ.

ورَجَّح أنَّ "الاسْتِثْنَاء على هَذا كالْمُتَّصِل، وكَأنه قَال: إلَّا أجْر مَنْ شَاء. والتَّأويل الأوَّل أظْهَر"

(1)

.

وأنَّ آيَة "سبأ" مَعْنَاها: "أمَرَه الله تَعالى في هَذه الآيَة بِالتَّبَرِّي مِنْ طَلَب الدُّنيا وطَلَب الأجْر على الرِّسَالة، وتَسْلِيم كُل دُنْيا إلى أرْبَابِها، والتَّوكُّل على الله في الأجْر، وجَزاء الْجِدّ والإقْرَار بِأنه شَهِيد على كل شَيء مِنْ أفْعَال البَشَر وأقْوَالهم، وغير ذلك"

(2)

.

وقال في آية "ص": أمَرَ تَعالى نَبِيَّه أن يُخْبِرهم بِأنه ليس بِسَائل أجْر ولا مَال، وأنه ليس مِمَّنْ يَتَكَلّف مَا لَم يُجْعَل إليه، ولا يَتَحَلَّى بِغَير مَا هو فِيه. وقال الحسين بن الفضل: هَذه الآيَة نَاسِخَة لِقَوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[الشورى: 23]

(3)

.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (4/ 215).

(2)

المرجع السابق (4/ 425).

(3)

المرجع السابق (4/ 516).

ص: 475

وذَكَر اخْتِلاف النَّاس في مَعْنَى آيَة "الشورى"، فنَقَل عن ابن عباس وغيره: هي آيَة مَكِّيَّة، نَزَلَتْ في صَدْر الإسْلام، ومَعْنَاها اسْتِكْفَاف شَرّ الكُفَّار، ودَفْع أذَاهم، أي: مَا أسْألُكم على القُرْآن والدِّين والدُّعَاء إلى الله إلَّا أن تَوَدَّوني لِقَرابَةٍ هي بَيْنِي وبَيْنَكُم، فَتَكُفُّوا عَنِّي أذَاكُم.

قال: فالآيَة على هَذا هي اسْتِعْطَاف مَا، ودَفْع أذًى، وطَلَب سَلامَة مِنهم، وذلك كُلّه مَنْسُوخ بِآيَة السَّيْف.

ويُحْتَمل على هذا التَّأوِيل أن يَكُون مَعْنَى الكَلام اسْتِدْعَاء نَصْرِهم، أي: لا أسْألُكم غَرَامَة ولا شَيئًا إلَّا أن تَوَدّوني لِقَرَابتي مِنكم، وأن تَكُونُوا أَوْلَى بي مِنْ غَيركم.

وقال مجاهد: الْمَعْنَى: إلَّا أن تَصِلُوا رَحِمِي بِاتِّبَاعِي.

ونَقَل عن ابن عباس أَيضًا ما يَقْتَضِي أنّهَا مَدَنِية، وَسَبَبَها أنَّ قَومًا مِنْ شَبَاب الأنْصَار فَاخَرُوا الْمُهَاجِرِين، ومَالُوا بِالقَول على قُرَيش، فَنَزَلَتْ الآيَة في ذلك، على مَعْنَى: إلَّا أن تَوَدُّوني فَتُرَاعُونني في قَرَابَتِي، وتَحْفَظُونَني فِيهم.

ثم رَجَّح أنّ قُرَيْشًا كُلّها قُرْبى، وإن كَانتْ تَتَفَاضَل.

كما ذَكَرَ مَا حَكاه النقاش عن ابن عباس ومُقاتل والكلبي والسدي أنَّ الآيَة مَنْسُوخة بِقَوله تَعالى في سورة سبأ: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)[سبأ: 47].

قال: والصَّوَاب أنّهَا مُحْكَمة. وعلى كُلّ قوْل فَالاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، و (إِلَّا) بِمَعْنَى (لكن)

(1)

.

ومَعْنَى آية "الطور" عند ابن عطية: أمْ تَسْألهم يا محمد على الإيمان بالله وشَرْعِه أُجْرَة يُثْقِلُهم غُرْمُها، فَهُمْ لِذلك يَكْرَهُون الدُّخول فِيما يُوجِب غَرَامَتهم؟

(2)

ويَرى أنَّ (أَمْ) التي في سورة القلم "تَتَضَمَّن الإضْرَاب عن الكَلام الأوَّل لا عَلى جِهَة الرَّفْض له، لكِن على جِهَة التَّرْك والإقْبَال على سِوَاه. وهذا التَّوقِيف لِمحمد

(1)

انظر: المحرر الوجيز، مرجع سابق (5/ 23، 34).

(2)

المرجع السابق (5/ 193).

ص: 476

صلى الله عليه وسلم، والْمُرَاد بِه تَوْبِيخ الكُفَّار؛ لأنه لَو سَألَهم أجْرًا فأثْقَلهم غُرْم ذلك لَكَان لهم بَعْض العُذْر في إعْرَاضِهم وقَرَارِهم"

(1)

.

ورَبَط الرازي آيَة "الأنعام": بِأوَّلِها، وهو قَوله تَعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)"فَالْمُرَاد بِه أنه تَعالى لَمَّا أمَرَه بالاقْتِدَاء بِهُدَى الأنْبياء عليهم السلام الْمُتَقَدِّمِين، وكان مِنْ جُمْلة هُدَاهم تَرْك طَلَب الأجْر في إيصَال الدِّين وإبْلاغ الشَّرِيعة - لا جَرَم اقْتَدَى بِهم في ذلك، فَقَال: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) ولا أطْلُب مِنْكم مَالًا ولا جُعْلا"

(2)

.

وأوْضَح الْمَعْنَى الإجْمَالِي لآيَة "سبأ" بِذِكْر وَجْه آخَر "يَلْزَم مِنه أنه نَبِيّ إذا لَم يَكُنْ مَجْنُونًا، لأنَّ مَنْ يَرْتَكِب العَنَاء الشَّدِيد لا لِغَرَض عَاجِل - إذا لَم يَكُنْ ذلك فِيه ثَوَاب أُخْرَوي - يَكُون مَجْنُونًا، فالنَّبِيّ عليه السلام بِدَعْواه النُّبُوَّة يَجْعَل نَفْسَه عُرْضَة للهَلاك عَاجِلًا؛ فإنَّ كُلّ أحَد يَقْصِده ويُعَادِيه، ولا يَطْلُب أجْرًا في الدُّنيا، فهو يَفْعَلُه للآخِرَة، والكَاذِب في الآخِرَة مُعَذَّب لا مُثاب، فلو كَان كَاذِبًا لكَان مَجنونا، لكنه ليس بِمَجْنُون، فَلَيس بِكَاذِب، فهو نَبِيّ صَادِق"

(3)

.

وبيَّن مَعنًى لَطِيفًا في آية "ص" إذ يَقُول: اعْلَم أنَّ الله تعالى خَتَم هَذه السّورة بهذه الْخَاتِمَة الشَّرِيفَة، وذلك لأنه تَعالى ذَكَر طُرُقًا كَثيرة دَالَّة على وُجُوب الاحْتِيَاط في طَلَب الدِّين، ثم قال

(4)

عند الْخَتْم: هَذا الذي أدْعو النَّاس إليه يَجِب أن يُنْظَر في حَال الدَّاعِي وفي حَال الدَّعْوة، لِيَظْهَر أنه حَقّ أوْ بَاطِل؛ أمَّا الدَّاعِي - وهو أنا، فأنا لا أسْألُكُم على هذه الدَّعْوَة أجْرًا ومَالًا، ومِن الظَّاهِر أنَّ الكَذّاب لا يَنْقَطِع طَمَعُه عَنْ

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (5/ 354).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (13/ 59).

(3)

المرجع السابق (25/ 233).

(4)

أي: النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو الْمُبلّغ عن الله.

ص: 477

طَلَب الْمَال ألبتة، وكان مِنْ الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان بَعيدًا عن الدُّنيا، عَدِيم الرَّغْبَة فِيها، وأمَّا كَيْفِيَّة الدَّعْوة، فقال:(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)

(1)

.

ونَقَل وُجُوهًا في الاسْتِثْنَاء الوَارِد في آيَة "الفرقان"، حَيث قَال:(إِلَّا مَنْ شَاءَ): ذَكَرُوا فِيه وُجُوهًا مُتَقَارِبة:

أحدها: لا يَسْألُهم على الأدَاء والدُّعاء أجْرًا إلَّا أن يَشَاءُوا أن يَتَقَرَّبُوا بِالإنْفَاق في الْجِهَاد وغَيره، فَيَتَّخِذُوا بِه سَبِيلًا إلى رَحْمَة رَبِّهم، ونَيْل ثَوَابه.

وثَانِيها: - قال القَاضي -: مَعْنَاه: لا أسْألُكم عليه أجْرًا لِنَفْسِي، وأسْألُكم أن تَطْلُبوا الأجْر لأنْفُسِكم باتِّخَاذ السَّبِيل إلى رَبِّكم.

وثَالثها: - قال صَاحِب الكَشَّاف -: مِثال قَوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ)، والْمُرَاد: إلَّا فِعْل مَنْ شَاء.

ومَعْنَى اتِّخَاذهم إلى الله سَبِيلًا: تَقَرُّبُهم إليه، وطَلَبهم عِنْده الزُّلْفَى بالإيمان والطَّاعَة وقِيل: الْمُرَاد: التَّقَرُّب بِالصَّدَقَة والنَّفَقَة في سَبِيل الله

(2)

.

ونَقَل في آيَة "الشورى" ثَلاثَة أقْوَال:

الأوَّل: قَول الشعبي - وقد تقدّم -.

والثَّاني: - مَا رُوي عن ابن عباس - كَانت تَعْرُوه نَوَائب وحُقُوق وليس في يَدِه سَعَة - وقد تقدّم -.

والثَّالِث: قَول الحسن البصري - وقد تقدّم -.

وخُلاصَة مَعنَى "القُرْبى" على القَول الأوَّل: القَرَابة، التي هي بِمَعْنَى الرَّحم، وعلى الثَّاني القَرَابَة، التي هي بِمَعْنَى الأقَارِب، وعلى الثَّالث هي فَعلى مِنْ القُرب والتَّقْرِيب

(3)

.

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (26/ 205).

(2)

انظر: المرجع السابق (24/ 89).

(3)

انظر: المرجع السابق (27/ 141، 142).

ص: 478

قال الرازي: فإن قِيل: الآيَة مُشْكِلة، ذلك لأنَّ طَلَب الأجْر على تَبْلِيغ الوَحْي لا يَجُوز.

وظَاهِر هَذه الآيَة يَقْتَضِي أنه طَلَب أجْرًا على التَّبْلِيغ والرِّسَالة، وهو الْمَوَدَّة في القُرْبى.

والْجَوَاب عنه: أنه لا نزَاع في أنه لا يَجُوز طَلَب الأجْر على التَّبْلِيغ والرِّسَالَة، بَقِي قَوله:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) نَقُول: الْجَوَاب عنه مِنْ وَجْهَين:

الأوَّل: أنَّ هَذا مِنْ بَاب قَولِه

(1)

:

ولا عَيب فيهم غَير أنَّ سُيُوفَهم بِهَا مِنْ قِرَاع الدَّارِعِين فُلُول

الْمَعْنَى: أنَا لا أطْلُب مِنْكُم إلَّا هَذا، وهَذا في الْحَقِيقَة لَيْس أجْرًا، لأنَّ حُصُول الْمَوَدَّة بَيْن الْمُسْلِمِين أمْر وَاجِب .... وإذا كان حُصُول الْمَوَدَّة بَيْن جُمْهُور الْمُسْلِمِين وَاجِبًا، فَحُصُولُها في حَقّ أشْرَف الْمُسْلِمِين وأكَابِرهم أَوْلى. وقَوله تَعَالى:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) تَقْدِيره: والْمَوَدَّة في القُرْبَى لَيْسَتْ أجْرًا، فَرَجَع الْحَاصِل إلى أنه لا أَجْر ألبتة.

الوَجْه الثَّاني في الْجَوَاب: أنَّ هَذا اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، وتَمَّ الكَلام عِنْد قَولِه:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، ثم قَال:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي: لَكن أُذَكِّرُكم قَرَابَتِي مِنْكُم، وكَأنه في اللفظ أجْر، وليس بِأجْر

(2)

.

وقَدَّر في آيَة "الطور" أنَّ (أَمْ) وَقَعَت في ابْتِدَاء الكَلام بِقَوله: كَأنه تَعالى يَقُول:

(1)

البيت للنابغة الذبياني، وهو في الأغاني، الأصفهاني (11/ 22)، وفي "ثمار القلوب"، الثعالبي (ص 409)، وفي "سر الصفاحة"، الخفاجي (ص 273) باختلاف عَمَّا الرازي هنا، فقد أوردوه هكذا:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

وهكذا أورده الرازي في (4/ 121).

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (27/ 142) بتصرف.

ص: 479

أتَهْدِيهم لِوَجْه الله، أمْ تَسْألُهم أجْرًا؟ وتُرِك الأوَّل

(1)

لِعَدَمِ وُقُوع الإنْكَار عَليه

(2)

.

وفي تَفْسِير سُورة القَلَم أحَال على تَفْسِير سُورَة الطُّور

(3)

.

ويُفسِّر ابن كثير الأجْر بالأُجْرَة، حَيث يَقُول في تَفسِير آيَة "الأنعام":(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: لا أطْلُب مِنكم على إبْلاغِي إيّاكُم هَذا القُرْآن أجْرًا، أي: أُجْرَة، ولا أُرِيد مِنْكم شَيئًا (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) أي: يَتَذَكَّرُون به فَيَرْشُدُوا مِنْ العَمَى إلى الْهُدَى، ومِن الغَيّ إلى الرَّشاد، ومِن الكُفْر إلى الإيمان

(4)

.

ويَقُول في تَفْسِير آية "سبأ": يَقُول تَعالى آمِرًا رَسُوله صلى الله عليه وسلم أن يَقُول للمُشْرِكِين: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) أي: لا أُرِيد مِنكم جُعْلًا ولا عَطَاء على أدَاء رِسَالَة الله عز وجل إليكم ونُصْحِي إيّاكُم وأمْرِكُم بِعِبَادَة الله. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي: إنّمَا أطْلُب ثَوَاب ذَلك مِنْ عِند الله. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: عَالِم بِجَمِيع الأمُور بِمَا أنَا عليه مِنْ إخْبَارِي عنه بإرْسَاله إيَاي إلَيكم، ومَا أنْتُم عليه

(5)

.

وبِنَحْوه قَال في تَفْسِير آية "ص"، فإنه قَال في تَفْسِيرِهَا: يَقُول تَعالى: قُلْ يا محمد لِهَؤلاء الْمُشْرِكين: مَا أسْألُكُم على هذا البَلاغ وهَذا النُّصْح أجْرًا تُعْطُونِيه مِنْ عَرَض الْحَيَاة الدُّنيا. (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي: ومَا أُرِيد على مَا أَرْسَلَنِي الله تَعالى بِه، ولا أبْتَغِي زِيَادَة عليه، بل مَا أُمِرْتُ بِه أدَّيْتُه لا أَزِيد عليه ولا أنْقُص منه، وإنّمَا أبْتَغِي بِذلك وَجْه الله عز وجل والدَّار الآخِرَة

(6)

.

(1)

أي القول المقدر: أتهديهم لوجه الله، لأنه لم يقع إنكار على هذا التقدير.

(2)

التفسير الكبير، مرجع سابق (28/ 227).

(3)

انظر: المرجع السابق (30/ 86).

(4)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 110).

(5)

المرجع السابق (11/ 297) وأُخِّر عن موضعه في المطبوع.

(6)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (12/ 110).

ص: 480

وقَرِيب مِنه مَا قَالَه في آيَة "الفرقان"، إذْ يَقُول:(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي: على هذا البَلاغ وهَذا الإنْذار مِنْ أُجْرَة أطْلُبُها مِنْ أمْوَالِكم، وإنّمَا أفْعَل ذلك ابْتِغَاء وَجْه الله تَعالى:(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)[التكوير: 28](إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي: طريقًا ومَسْلَكًا ومَنْهَجًا يُقْتَدَى فِيها بِمَا جِئتُ بِه

(1)

.

وأوْرَد مَا رَوَاه البخاري عن ابن عباس - في آيَة "الشورى" - وذلك بَعْد قَوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أي: قُلْ يا محمد لهؤلاء الْمُشْرِكِين مِنْ كُفَّار قُرَيش: لا أسْألُكُم عَلى هَذا البَلاغ والنُّصْح لَكم مَالًا تُعْطُونِيه، وإنّمَا أطْلُب مِنْكُم أن تَكُفُّوا شَرَّكُم عَنِّي، وتَذَرُونِي أُبَلِّغ رِسَالات رَبِّي؛ إن لم تَنْصُرُونِي فَلا تُؤذُونِي.

وقَوْل ثَان - أوْرَدَه ابنُ كثير - وهو: كَأنه يَقُول: إلَّا الْمَوَدَّة في القُرْبَى، أي: إلَّا أن تَعْمَلُوا بِالطَّاعَة التي تُقَرِّبكم عِنْد الله زُلْفَى.

وقَوْل ثَالِث - وهو مَا حَكاه البخاري وغيره رِواية عن سعيد بن جبير - مَا مَعْنَاه أنه قال: مَعْنَى ذلك أن تَوَدُّوني في قَرَابَتِي، أي: تُحْسِنُوا إلَيهم وتَبَرُّوهم.

ورَجَّح ابن كثير مَا قاله ابن عباس في تَفْسِير الآيَة، حيث قَال ابن كثير: والْحَقّ تَفْسِير هَذِه الآيَة بِمَا فَسَّرَها بِه حَبْر الأُمَّة وتَرْجُمَان القُرْآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كَمَا رَوَاه عنه البُخَاري ولا نُنْكِر الوُصَاة بأهْل البَيْت والأمْر بالإحْسَان إلَيهم واحْتِرَامهم وإكْرَامهم فَإنّهُم مِنْ ذُرِّيَّة طَاهِرَة مِنْ أشْرَف بَيْت وُجِد عَلى وَجْه الأرْض فَخْرًا وحَسبًا ونَسَبًا، ولا سِيَّمَا إذا كَانُوا مُتَّبِعِين للسُّنَّة النَّبَوِيَّة الصَّحِيحَة الوَاضِحَة الْجَلِيَّة، كَمَا كَان عليه سَلْفهم كَالعباس وبَنِيه وعَلِيّ وأهْل بَيْته وذُرِّيَّته رضي الله عنهم أجْمَعِين.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 316).

ص: 481

ثم أوْرَد في تَفْسِير الآيَة أحَادِيث؛ مِنها مَا صَحّ، ومِنها غير ذلك، وقد نَبَّه على بَعْضها، ومِمَّا أوْرَده في تَفْسِير الآيَة قَوله عليه الصلاة والسلام: إني تَارِك فِيكُمْ الثَّقَلِين: كِتَاب الله وعِتْرَتِي، وإنّهُمَا لَم يَفْتَرِقَا حَتى يَرِدا عَليَّ الْحَوْض

(1)

.

ومَا رَوَاه البخاري

(2)

مِنْ قَوْل أبي بَكر الصِّدِّيق لِعليّ رضي الله عنهما: والله لَقَرَابَة رَسول الله صلى الله عليه وسلم أحَبّ إليّ أن أَصِل مِنْ قَرَابَتِي.

وقَول عمر بن الخطاب للعبَّاس رضي الله تعالى عنهما: والله لإسْلامك يَوْم أسْلَمْتَ كان أحَبّ إليّ مِنْ إسْلام الْخَطَّاب لَو أسْلَم؛ لأنَّ إسْلامك كَان أحَبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ إسْلام الْخَطَّاب.

ثم قَال ابن كثير: فَحَالُ الشَّيْخَين رضي الله عنهما هو الوَاجِب على كُلّ أحَد أن يَكُون كَذلك، ولهذا كَانا أفْضَل الْمُؤمِنِين بَعْد النَّبِيِّين والْمُرْسَلِين رضي الله عنهما، وعن سَائر الصَّحَابَة أجْمَعِين

(3)

.

وبَيَّن أنَّ مَعْنَى آيَة "الطور"(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) أي: "أُجْرَة على إبْلاغِك إيَّاهُم رِسَالَة الله؟ أي: لَسْتَ تَسْألهم عَلى ذَلك شَيئًا"

(4)

.

ومَعْنَى آيَة سُورة القلم "أنك يا محمد تَدْعُوهم إلى الله عز وجل بِلا أجْر تَأخُذُه مِنهم، بل تَرْجو ثَوَاب ذَلك عِنْد الله تَعالى، وهم يُكَذِّبُون بِمَا جِئْتَهم بِه بِمُجَرَّد الْجَهل والكُفْر والعِنَاد"

(5)

.

(1)

عَزاه ابن كثير إلى الصحيح، وأنه في خطبته صلى الله عليه وسلم بغدير خم، والذي في صحيح مسلم بخلاف هذا اللفظ، فقد رواه مسلم (ح 2408) من حديث زيد بن أرقم، وفيه: وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

واللفظ الذي أورده ابن كثير هو من حديث أبي سعيد. رواه أحمد (ح 11119) وفيه: وإنهما لن يفترقا .... الحديث. وضعف شعيب الأرنؤوط الجملة الأخيرة من الحديث.

(2)

(ح 3508) وإليه وحده عزاه ابن كثير. وقد رواه مسلم (ح 3998).

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (12/ 268 - 275).

(4)

المرجع السابق (13/ 239).

(5)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (14/ 100).

ص: 482

‌رأي الباحث:

لم يَسْأل النبي صلى الله عليه وسلم أحَدًا أجْرًا عَلى دَعْوتِه، وإنما سَألَهم صِلَة مَا بَيْنَه وبَيْنَهم مِنْ القَرَابَة.

والاسْتِثْنَاء في آيَة "الفرقان": (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) ومِثْله مَا في آيَة "الشورى": (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فهو اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع ليس مِنْ مَعْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْه.

ويُمَثِّل لَه أهْل اللغَة بِقَولِهم: "جَاء القَوم إلَّا حِمَارًا"

(1)

، ويُؤكِّد كَون الاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا - خَاصة في آيَة "الشورى" - انْتِصَاب مَا بَعْده، وهو (الْمَوَدَّةَ).

قال ابن مالك:

ومَا اسْتَثْنَت "إلَّا" مَع تَمَام يَنْتَصِب وبَعْد نَفْي أوْ كَنَفْي انْتُخِب

إتْبَاع مَا اتَّصَل، وانْصِب مَا انْقَطَع وعَن تَمِيم فِيه إبْدَالٌ وَقَع

قال ابن عقيل: فإن وَقَع

(2)

بَعد تَمَام الكَلام الذِي لَيس بِمُوجَب - وهو الْمُشْتَمِل على النَّفْي، أوْ شِبْهِه، والْمُرَاد بِشِبْه النَّفْي: النَّهْي، والاسْتِفْهَام - فَإمَّا أن يَكون الاسْتِثْنَاء مُتَّصِلًا، أوْ مُنْقَطِعًا، والْمُرَاد بِالْمُتَّصِل: أن يَكون الْمُسْتَثْنَى بَعْضًا مِمَّا قَبْلَه، وبِالْمُنْقَطِع، ألَّا يَكُون بَعْضًا مِمَّا قَبْلَه

(3)

.

وأمَّا وَصِيَّتُه صلى الله عليه وسلم بِعِتْرَتِه - وهم أهْل بَيْته - فهذا لم يَكن بِمَكَّة، وإنما كانت خُطْبَته صلى الله عليه وسلم بِمَاء يُقَال له "خُمّ" وهو بَيْن مَكَّة والْمَدِينَة

(4)

، وكان هذا في آخِر حَياته صلى الله عليه وسلم، فقد جَاء في بَعض الرِّوَايات أنَّ ذلك في

(1)

انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 272).

(2)

يعني الاستثناء.

(3)

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، مرجع سابق (1/ 272)، وانظر: شرح قطر الندى، ابن هشام ص (272).

(4)

قال ياقوت الحموي في "معجم البلدان"(4/ 188): وغدير خم بين مكة والمدينة، بينه وبين الجحفة ميلان.

ص: 483

مُنصَرَفه صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّة الوَدَاع

(1)

.

ومَعْنَى الْحَدِيث: الوَصِيَّة بِقَرَابَةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القُرْطبي: هَذِه الوَصِيَّة، وهَذا التَّأكِيد العَظِيم يَقْتَضِي وُجُوب احْتِرَام آل النبي صلى الله عليه وسلم وأهْلِ بيته، وإبْرَارِهم وتَوْقِيرِهم ومَحَبَّتِهم وُجُوب الفَرُوض الْمُؤكَّدَة التي لا عُذْر لأحَدٍ في التَّخَلُّف عنها، هذا مَع مَا عُلِمَ مِنْ خُصُوصِيَّتِهم بِالنبي صلى الله عليه وسلم وبِأنّهُم جُزْء مِنه؛ فإنَّهُم أُصُولَه التي نَشَأ عنها، وفُرُوعَه التي تَنشَأ عَنه

(2)

.

وهذا الحديث مما زاد فيه أهل البدع والزندقة! قال القرطبي: وهو الذي أكْثَرَت الشِّيعة وأهْل الأهْواء فِيه مِنْ الكَذِب على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في اسْتِخْلافه عَليًّا، ووَصِيته إياه، ولم يَصِحّ مِنْ ذلك كُلّه شيء إلَّا هَذا الْحَدِيث

(3)

.

‌المثال الخامس:

خُلُود الكُفَّار في النَّار:

قَوله تَعالى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[الأنعام: 128]، وقَوله تَعالى:(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [هود: 106، 107]، مع قَوله تَعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء: 168، 169)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [الأحزاب: 64، 65] وقَوله تَعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الجن: 23].

(1)

انظر: السنن الكبرى، النسائي (ح 8148).

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي (6/ 304).

(3)

المرجع السابق (6/ 303).

ص: 484

‌صورة التعارض:

في الآيَتَين الأُولَيَين جَاء تَقْيِيد خُلُود الكَافِرِين في النَّار بِالْمَشِيئة، بَيْنَما جَاء في الآيَات الأُخَر إطْلاق التَّأبِيد على الْخُلُود.

وبِعِبَارَة أُخْرَى:

"قَوله تَعالى: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) هَذه الآيَة الكَرِيمة يُفْهَم مِنها كَوْن عَذَاب أهْل النَّار غَير بَاقٍ بَقَاء لا انْقِطَاع له أبَدًا، ونَظِيرُها قَوله تَعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) وقَوله تَعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، وقد جَاءت آيَات تَدُلّ على أنَّ عَذَابَهم لا انْقِطَاع لَه كَقَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) "

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آية "الأنعام": (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) أي: مَوْضِع إقَامَتِكُم. والْمَثْوَى الْمُقَام.

(خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) اسْتِثْنَاء لَيس مِنْ الأوَّل. قال الزجاج: يَرْجِع إلى يَوم القِيَامَة، أي: خَالِدِين في النَّار إلَّا مَا شَاء الله مِنْ مِقْدَار حَشْرِهم مِنْ قُبُورِهم، ومِقْدَار مُدَّتِهم في الْحِسَاب. فَالاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع.

وقيل: يَرْجِع الاسْتِثْنَاء إلى النَّار، أي: إلَّا مَا شَاء الله مِنْ تَعْذِيبكم بِغَير النَّار في بَعْض الأوْقَات.

وقال ابن عباس: الاسْتِثْنَاء لأهْل الإيمَان. فـ (مَا) على هَذا بِمَعْنَى مِنْ. وعَنه أيضًا أنه قَال: هَذه الآيَة تُوجِب الوَقْف في جَمِيع الكُفَّار. ومَعْنَى ذَلك أنّهَا تُوجِب الوَقْف فِيمن لم يَمُت، إذ قد يُسْلِم.

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 85).

ص: 485

وقِيل: إلَّا مَا شَاء الله مِنْ كَوْنِهم في الدُّنيا بِغَير عَذَاب.

ومَعْنَى هَذه الآيَة مَعْنَى الآيَة التي في "هود"، قَوله:(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)، وهُنَاك يَأتي مُسْتَوفًى - إن شَاء الله - (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) أي: في عُقُوبَتهم وفي جَمِيع أفْعَاله (عَلِيمٌ) بِمِقْدَار مُجَازَاتِهم

(1)

.

وأمَّا مَا أحَال عليه في تَفْسِير سُورة هُود، فهو قَوله: قَوله تَعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ). (مَا دَامَتِ) في مَوْضِع نَصْب على الظَّرْف، أي: دَوَامِ السَّمَاوَات والأرْض، والتَّقْدِير: وَقْت ذَلك، واخْتُلِف في تَأويل هَذا، فَقَالتْ طَائفَة مِنْهم الضَّحَّاك: الْمَعْنَى: مَا دَامَتْ سَمَاوَات الْجَنَّة والنَّار وأرْضهما. والسَّمَاء كُلّ مَا عَلاك فأظَلَّك، والأرْض مَا اسْتَقَرّ عليه قَدَمُك. وفي التَّنْزِيل:(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)[الزمر: 74].

وقِيل: أرَادَ بِه السَّمَاء والأرْض الْمَعْهُودَتَيْن في الدُّنيا، وأجْرَى ذلك على عَادة العَرَب في الإخْبَار عن دَوَام الشَّيء وتَأبِيدِه، كَقَولِهم: لا آتِيك مَا جَنّ لَيل، أوْ سَال سَيل، ومَا اخْتَلَف الليل والنَّهَار، ومَا نَاح الْحَمام، ومَا دَامَت السَّمَاوات والأرْض، ونَحو هَذا مِمَّا يُرِيدُون به طُولًا مِنْ غَير نِهَايَة؛ فَأفْهَمَهم الله تَخْلِيد الكَفَرة بِذلك، وإن كان قد أخْبَر بِزَوَال السَّمَاوَات والأرْض.

وعن ابن عباس أنَّ جَمِيع الأشْيَاء الْمَخْلُوقَة أصْلُها مِنْ نُور العَرْش، وأنَّ السَّمَاوَات والأرْض في الآخِرَة تُرَدَّان إلى النُّور الذي أُخِذَتا مِنه، فَهُمَا دَائمَتَان أبدًا في نُور العَرْش.

وبَيَّن القرطبي أنَّ الاستِثْنَاء مُنْقَطِع، فَقَال:

قَوله تَعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) في مَوْضِع نَصْب، لأنه استِثْنَاء لَيس مِنْ الأوَّل.

ثم سَاق الْخِلاف في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء مِنْ عَشَرَة أوْجُه، فَقَال:

(1)

الجامع لأحكام القرطبي، مرجع سابق (7/ 75).

ص: 486

وقد اخْتُلِف فِيه

(1)

على أقْوَال عَشَرَة:

الأولى: أنّه اسْتِثْنَاء مِنْ قَوله: (فَفِي النَّارِ)، كَأنه قَال: إِلَّا مَا شَاء رَبُّك مِنْ تَأخِير قَوْم عن ذَلك

وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلَّا مَنْ شَاء ألَّا يُدْخِلهم وإنْ شَقُوا بِالْمَعْصِيَة

(2)

.

الثَّاني: أنَّ الاسْتِثْنَاء إنّمَا هو للعُصَاة مِنْ الْمُؤمِنِين في إخْرَاجِهم بَعد مُدَّة مِنْ النَّار.

وعلى هَذا يَكُون قَوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) عَامًّا في الكَفَرَة والعُصَاة، ويَكُون الاسْتِثْنَاء مِنْ (خَالِدِينَ)

وفي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث أنس بن مالك قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَدْخُل نَاس جَهَنَّم حَتى إذا صَارُوا كَالْحُمَمَة

(3)

أُخْرِجُوا مِنها وَدَخَلُوا الْجَنَّة، فَيُقَال: هَؤلاء الْجَهَنَّمِيُّون

(4)

.

الثَّالِث: أنَّ الاسْتِثْنَاء مِنْ الزَّفِير والشَّهِيق، أي: لَهم فِيها زَفِير وشَهِيق إلَّا مَا شَاء رَبُّك مِنْ أنْوَاع العَذَاب الذي لم يَذْكُرُه.

الرَّابِع: قَال ابن مسعود: خَالِدِين فِيها مَا دَامَت السَّمَاوَات والأرْض لا يَمُوتُون فيها، ولا يَخْرُجُون مِنها إلَّا مَا شَاء رَبُّك، وهو أن يَأمُر النَّار فَتَأكُلهم وتُفْنِيهم ثم يُجَدِّد خَلْقَهم.

قلت: وهَذا القَول خَاص بِالكَافِر، والاسْتِثْنَاء لَه في الأكْل وتَجْدِيد الْخَلْق.

الْخَامِس: أنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى سِوَى

قِيل: فَالْمَعْنَى: مَا دَامَت السَّمَاوَات والأرْض سِوى مَا شاء رَبُّك مِنْ الْخُلُود.

السَّادس: أنَّه اسْتِثْنَاء مِنْ الإخْراج وهو لا يُرِيد أن يُخْرِجَهم مِنها .... فَالْمَعْنَى: أنَّه لَو شَاء أن يُخْرِجَهم لأخْرَجَهم، ولَكِنَّه قد أعْلَمَهم أنَّهم خَالِدُون فِيها.

(1)

أي في الاستثناء.

(2)

هذا مُرسل، أبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة - تابعي - (تقريب التهذيب ترجمة 6938)، "والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين". (مقدمة صحيح مسلم (ص 30).

(3)

قال أبو عبيد: الحمم الفحم، واحدتها حممة. (غريب الحديث 1/ 194).

(4)

رواه البخاري بنحوه (ح 7012)، وفي معناه حديث أبي سعيد: رواه البخاري (ح 6192)، ومسلم (ح 184).

ص: 487

وقد قِيل: إنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى الوَاو، قاله الفراء، وبعض أهل النظر، وهو:

الثَّامن: والْمَعْنَى: ومَا شَاء رَبُّك مِنْ الزِّيَادَة في الْخُلُود على مُدَّة دَوَام السَّمَاوَات والأرْض في الدُّنْيا.

وقد قِيل في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا)[البقرة: 150] أي: ولا الذِين ظَلَمُوا.

وقال الشاعر:

وكلُّ أخٍ مُفَارِقُه أخُوه لَعَمْر أبِيك إلَّا الفَرْقَدَان

(1)

أي: والفَرْقَدان

(2)

وقال أبو محمد مَكِيّ: وهذا قَول بَعِيد عِند البَصْرِيِّين أنْ تَكُون "إلَّا" بِمَعْنَى الوَاو وقِيل: مَعْنَاه: كَمَا شَاء رَبُّك، كَقَولِه تَعَالى:(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)[النساء: 22]، أي: كَما قَدْ سَلَف - وهو:

التَّاسِع، العَاشِر: وهو أنَّ قَوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) إنّمَا ذَلك على طَرِيق الاسْتِثْنَاء الذي نَدَب الشَّرْع إلى اسْتِعْمَالِه في كُلّ كَلام، فهو عَلى حَدّ قَوله تَعالى:

(1)

البيت نسبه الجاحظ في "البيان والتبيين"(1/ 69)، والمبرد في "الكامل"(3/ 1444) إلى عمرو بن معدي كَرِب.

(2)

هذا متعقب بما قاله أهل اللغة:

فقد أورد الجوهري في "الصحاح"(ص 8) مختاره البيت السابق ثم قال: كأنه قال: غير الفرقدين، وأصل "إلا" الاستثناء والصفة عارضة، وأصل "غير" الصفة، والاستثناء عارض، وقد تكون "إلا" عاطفة كالواو، كقول الشاعر:

وأرى لها دارًا بأغدرة الـ سيدان لم يدرس لها رسم

إلا رمادًا هامدًا دفعت عنه الرياح خوالد سحم

يُريد: أرى لها دارًا ورمادًا اهـ.

وفي لسان العرب (3/ 334): والفرقدان نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجَدْي، وقيل: هما كوكبان قريبان من القطب. وقيل: هما كوكبان في بنات نَعش الصُّغرى.

وتعقب ابن عطية ذلك من وجه آخر. انظر: المحرر الوجيز، مرجع سابق (3/ 208).

وانظر مبحث "إلا" في لسان العرب (10/ 314 - 317) ط. وزارة الشؤون الإسلامية - السعودية.

ص: 488

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[الفتح: 27]، فهو اسْتِثْنَاء في واجِب، وهَذا الاسْتِثْنَاء في حُكْم الشَّرْط كَذلك، كَأنه قَال: إنْ شَاء رَبُّك. فَلَيْس يُوصَف

(1)

بِمُتَّصِل ولا مُنْقَطِع، ويُؤيِّدُه ويُقَوِّيه قَوله تَعالى:(عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هود: 108]. ونَحوه عن أبي عبيد، قال: تَقَدَّمَتْ عَزِيمة الْمَشيْئة مِنْ الله تَعَالى في خُلُود الفَرِيقَيْن في الدَّارَين، فَوَقَع لَفْظ الاسْتِثْنَاء، والعَزِيمة قد تَقَدّمَتْ في الْخُلُود.

وقول حَادِي عشر: وهو أنَّ الأشْقِيَاء هُمْ السُّعَداء! والسُّعَدَاء هم الأشْقِيَاء لا غيرهم، والاسْتِثْنَاء في الْمَوْضِعَيْن رَاجِع إلَيهم، وبَيَانُه: أنَّ (مَا) بِمَعْنَى "مَنْ" اسْتَثْنَى اللهُ عز وجل مِنْ الدَّاخِلِين في النَّار الْمُخَلَّدِين فِيها الذِين يُخْرَجُون مِنها مِنْ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم بما مَعَهم مِنْ الإيمان، واسْتَثْنَى مِنْ الدَّاخِلِين في الْجَنَّة الْمُخَلَّدِين فِيها، الذين يَدخلون النار بِذُنُوبهم قَبْل دُخُول الْجَنَّة، ثم يُخْرَجُون مِنها إلى الْجَنَّة، وهُم الذين وَقَع عليهم الاسْتِثْنَاء الثَّاني، كَأنه قَال تَعالى:(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ألَّا يُخَلِّده فِيها، وهم الْخَارِجُون مِنْها مِنْ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم بِإيمانِهم وبِشَفَاعَة محمد صلى الله عليه وسلم، فَهم بِدُخُولِهم النَّار يُسَمُّون الأشْقِيَاء، وبِدُخُولِهم الْجَنَّة يُسَمُّون السُّعَدَاء، كما رَوى الضحاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سُعِدُوا شَقُوا بِدُخُول النَّار ثم سُعِدُوا بالْخُرُوج مِنها ودُخُولِهم الْجَنَّة

(2)

.

وأمَّا في آيَة "النساء" فَاقْتَصَر القُرْطبي عَلى قَوله: قَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) يَعْنِي اليَهُود، أي: ظَلَمُوا مُحمدًا بِكِتْمَان نَعْتِه، وأنْفُسَهم

(3)

إذْ كَفَرُوا، والنَّاس إذْ كَتَمُوهُم. (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) هَذا فِيمَن يَمُوت عَلى كُفْرِه ولَم يَتُب

(4)

.

(1)

يَعني الاستثناء.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 85 - 88) بتصرف واختصار.

(3)

أي: وظلموا أنفسهم.

(4)

المرجع السابق (6/ 20).

ص: 489

ولم يَتَطَرَّق إلى شَيء مِنْ ذَلك في آيَة "الأحزاب".

أمَّا في آيَة "الْجِنّ" فأوْرَدَ قَوْلَين في مَعْنَى العِصْيَان:

الأوَّل: أنه الشِّرْك.

والثَّاني: أنه عُمُوم الْمَعَاصِي غَيْر الشِّرْك.

"ويَكُون مَعْنَى (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) إلَّا أنْ أعْفُو، أو تَلْحَقهم شَفَاعَة، ولا مَحَالَة إذا خَرَجُوا مِنْ الدُّنيا على الإيمان يَلْحَقُهم العَفْو"

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

الاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع في آيَة "الأنعام"، والْمَعْنَى: خَالِدِين في النَّار إلَّا مَا شَاء الله مِنْ مِقْدَار حَشْرِهم مِنْ قُبُورِهم، ومِقْدَار مُدَّتِهم في الْحِسَاب.

2 -

مَا دَامَت سَمَاوَات الْجَنَّة والنَّار وأرْضُهما، والسَّماء كل ما عَلاك فأظَلَّك، والأرْض مَا اسْتَقَرَّ عليه قَدَمُك.

2 -

الاسْتِثْنَاء مُنقَطِع في آيَة "هُود" أيضًا، وذَكَر فيه عَشَرَة أقْوال.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

كَان بَعْض مَا ذَكَره القُرطبي آنِفًا مِمَّا نَقَله عن ابن جرير، فإنَّ ابن جرير قَال في آيَة "النساء": يَعْنِي بِذَلك جَلّ ثَناؤه: إنَّ الذِين جَحَدُوا رِسَالَة محمد صلى الله عليه وسلم فَكَذّبُوه، وكَفَرُوا بِالله بِجُحُودِ ذَلك، (وَظَلَمُوا) بِمُقَامِهم على الكُفْر على عِلْم مِنهم بِظُلْمِهم عِبَاد الله، وحَسَدًا للعَرَب، وبَغْيًا على رَسُوله محمد صلى الله عليه وسلم.

(لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) يَعني: لم يَكُنْ الله لِيَعْفُو عن ذُنُوبِهم بِتَرْكِه عُقُوبَتهم عليها، ولكنه

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (19/ 27).

ص: 490

يَفْضَحُهم بِها بِعُقُوبَتِه إيَّاهم عليها

(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يَقُول: مُقِيمِين فِيها أبَدًا.

(وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) يَقُول: وكان تَخْلِيد هَؤلاء الذِين وَصَفْتُ لكم صِفَتهم في جَهَنَّم على الله يَسِيرًا؛ لأنَّه لا يَقْدِر مَنْ أرَاد ذَلك بِه على الامْتِنَاع مِنه، ولا لَه أحَدٌ يَمْنَعه مِنه، ولا يَسْتَصْعِب عَليه مَا أرَاد فِعْلُه بِه مِنْ ذَلك، وكُلّ ذلك على الله يَسِير؛ لأنَّ الْخَلْق خَلْقُه، والأمْر أمْرُه

(1)

.

ويَرى ابن جرير أن الْخَبَر في آيَة "الأنعام" خَرَج "عَمّا هو كائن مَخْرَج الْخَبَر عَمّا كان لِتَقَدّم الكَلام قَبْله بِمَعْنَاه والْمُرَاد مِنه"

(2)

.

وأن الاسْتِثْنَاء بِمَعْنَى: "إلَّا مَا شَاء الله مِنْ قَدْرِ مُدّة مَا بَيْن مَبْعَثِهم مِنْ قُبُورِهم إلى مَصِيرهم إلى جَهَنَّم، فَتِلْك الْمُدَّة التي اسْتَثْنَاها الله مِنْ خُلُودِهم في النَّار"

(3)

.

وأسنَد إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُم خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) قال: إنَّ هَذه الآيَة آيَةٌ لا يَنْبَغِي لأحَدٍ أن يَحْكُم على الله في خَلْقِه، لا يُنْزِلهم جَنَّة ولا نَارًا

(4)

.

كما يَرَى أنَّ آيَة "هُود" جَرَتْ على عَادَة العَرَب، "وذلك أنَّ العَرَب إذا أرَادَت أن تَصِف الشَّيء بالدَّوَام أبَدًا قَالَتْ: هذا دَائم دَوَام السَّمَاوَات والأرْض، بِمَعْنَى: أنّه دَائم أبَدا

فَخَاطَبَهم جَلّ ثَنَاؤه بِمَا يَتَعَارَفُونه بَيْنَهم، فَقَال: خَالِدِين في النَّار مَا دَامَت السَّمَاوَات والأرْض. والْمَعْنَى في ذلك: خَالِدِين فِيها أبَدًا"

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 696، 697) باختصار يسير.

(2)

المرجع السابق (9/ 557).

(3)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(4)

المرجع السابق (9/ 558)، ومفهومه: أي في حال الحياة، أما مصير الكافر بعد الموت فمقطوعٌ به، وآية الأنعام في حكاية مجادلة الإنس والجن يوم القيامة، وقول الله لهم جميعًا. وسيأتي قول ابن جرير في ذلك، قال ابن عطية (المحرر 2/ 346): والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار، ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه. اهـ. وسيأتي في قول ابن عطية توجيه الاستثناء.

(5)

جامع البيان، مرجع سابق (12/ 578، 579).

ص: 491

ثم ذَكَر الْخِلاف في الاسْتِثْنَاء، فَقَال: واخْتَلَف أهْل العِلْم والتَّأويل في مَعْنى ذلك، فَقَال بَعْضُهم: هَذا اسْتِثْنَاء اسْتَثْنَاه الله في أهْل التَّوحِيد أنه يُخْرِجُهم مِنْ النَّار إذا شَاء بَعْد أن أدْخَلَهم النَّار.

وقال آخَرُون: الاسْتِثْنَاء في هَذه الآيَة في أهْل التَّوحِيد، إلَّا أنّهم قَالوا: مَعْنى قَوله (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) إلَّا أن يَشَاء رَبُّك أن يَتَجَاوَز عنهم فَلا يُدْخِلُهم النَّار. ووَجَّهُوا الاسْتِثْنَاء إلى أنّه مِنْ قَوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) - (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) لا مِنْ الْخُلُود.

وقال آخَرُون: عُنِي بِذلك أهْل النَّار، وكُلّ مَنْ دَخَلَها.

وقال آخَرُون: أخْبَرَنا الله بِمَشِيئتِه لأهْل الْجَنَّة، فَعَرَّفَنا مَعْنَى ثُنْيَاه بِقَولِه:(عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هود: 108] أنّهَا الزِّيَادَة على مِقْدَار مُدَّة السَّمَاوَات والأرْض. قَال: ولَم يُخْبِرنا بِمَشِيئتِه في أهْل النَّار، وجَائز أن تَكُون مَشِيئتُه في الزِّيَادَة، وجَائز أن تَكُون في النُّقْصَان.

وأوْلَى هَذه الأقْوَال في تَأويل هَذه الآيَة بِالصَّوَاب - عند ابن جرير - "أنَّ ذلك اسْتِثْنَاء في أهْل التَّوحِيد مِنْ أهْل الكَبَائر أنه يُدْخِلُهم النَّار خَالِدِين فِيها أبَدًا إلَّا مَا شَاء مِنْ تَرْكِهم فِيها أقلّ مِنْ ذلك، ثم يُخْرِجُهم فَيُدْخِلهم الْجَنَّة".

ثم عَلَل اخْتِيَارَه بِقَوله: وإنّما قُلْنَا ذَلك أوْلى الأقْوَال بِالصِّحَّة في ذَلك لأنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه أوْعَد أهْل الشِّرْك بِه الْخُلُود في النَّار، وتَظَاهَرَتْ بِذلك الأخْبَار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَغَيْر جَائز أن يَكُون اسْتِثْنَاء في أهْل الشِّرْك، وأنَّ الأخْبَار قد تَوَاتَرَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله يُدْخِل قَومًا مِنْ أهْل الإيمان بِه بِذُنُوب أصَابُوها النَّار ثم يُخْرِجُهم مِنها فَيُدْخِلهم الْجَنَّة، فَغَيْر جَائز أن يَكُون ذَلك اسْتِثْنَاء أهْل التَّوحِيد قَبْل دُخُولِها مَع صِحَّة الأخْبَار عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرْنا

(1)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (12/ 579 - 583) باختصار.

ص: 492

وأكَّد على الْخُلُود الأبَدِيّ للكُفَّار في النَّار، حَيث قَال في آيَة "الأحزاب":(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يَقُول: مَاكِثِين في السَّعِير أبَدًا إلى غَيْر نِهَايَة

(1)

.

وقَال مِثل ذَلك في تَفْسِير آيَة "الجن"

(2)

.

ومَعْنَى (خَالِدِينَ فِيهَا) عند السمرقندي: مُقِيمِين في النَّار. (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) قال الكلبي: مَشيئة الله مِنْ كُلّ شَيء.

ويُقَال: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) البَرْزَخ والقِيَامَة، يَعْنِي: قَدْ شَاء لَهم الْخُلُود فِيها.

ويُقَال: إلَّا مَا شَاء الله مِنْ إخْرَاج مَنْ يُخْرَج مِنهَا مِنْ أهْل التَّوحِيد

(3)

.

ومَعْنَى آيَة "النساء" عنده (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا): يَعْنِي "دَائمِين فِيها"

(4)

.

وفي آيَة "هُود" حَكَى السمرقندي مَا حَكَاه ابن جرير في مَعْنَى دَوَام السَّمَاوَات والأرْض ممَّا تَعارَفتْ عليه العَرَب، ومَا جَاء في مَعْنَى السَّمَاوَات والأرْض، ومَعْنَى الْخُلُود، وأنَّ "مَعْنَاه أنّهُم خَالِدُون فِيها أبَدًا، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) إن شَاء أدْخَل النَّار خَالِدًا، وإن شَاء أخْرَجَه إن كَان مُوَحِّدًا وأدْخَلَه الْجَنَّة"

(5)

.

ولم يَتَطَرَّق لِمَعْنَى الْخُلُود والتَّأبِيد في آيَة "الأحزاب".

وأمَّا في آيَة "الجن" فَاقتَصَر على قَوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في التَّوحِيد ولَم يُؤمِن بِه (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أي: مُقِيمِين في النَّار أبَدًا، يَعْنِي: دَائمًا

(6)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (19/ 188).

(2)

انظر: المرجع السابق (23/ 350).

(3)

بحر العلوم، مرجع سابق (1/ 501).

(4)

المرجع السابق (1/ 384).

(5)

المرجع السابق (2/ 171).

(6)

المرجع السابق (3/ 484).

ص: 493

وأوْرَد السمعاني سُؤالًا عن مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة "الأنعام"، فَقَال: فَإن قَال قَائل: ألَيس أنَّ الكَافِرِين خَالِدُون في النَّار بِأجْمَعِهم، فَما هَذا الاسْتِثْنَاء؟

الْجَوَاب: قال الفراء هو مِثل قَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) يَعْنِي مِنْ الزِّيَادة على مُدَّة دَوَام السَّمَاوَات والأرْض. فَهَذا هُو الْمُرَاد بِهَذِه الآيَة أيضًا.

وقِيل: الاسْتِثْنَاء في العَذَاب، يَعْنِي: خَالِدِين في نَوْعٍ مِنْ العَذَاب إلَّا مَا شَاء الله مِنْ سَائر العَذَاب.

وقِيل: هو اسْتِثْنَاء مُدَّة البَعْث والْحِسَاب لا يُعَذَّبُون في وَقْت البَعْث والْحِسَاب

(1)

.

واسْتَدَلّ على مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة "هُود" بِمَا جَاء في السُّنَّة، فَقَال: وقَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) أمَّا بِالْمَعْنَى الْمَأثُور؛ رَوَى الضحاك عن ابن عباس أنَّ الآيَة نَزَلَتْ في قَوْم مِنْ الْمُؤمِنِين يُدْخِلُهم الله تَعالى النَّار، ثم يُخْرِجُهم مِنها إلى الْجَنَّة، ويُسَمَّون الْجَهَنَّمِيِّين

(2)

وقد ثَبَت بِرِوَاية جَابِر

(3)

أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَال: يُخْرِج الله قَوْمًا مِنْ النَّار قد صَارُوا حُمَمًا فيُدْخِلهم الْجَنَّة. وفي البَاب أخْبَار كَثِيرَة.

فَعَلى هَذا القَوْل: مَعْنَى الآيَة: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) هَؤلاء الذين أُدْخلُهم النَّار .... (خَالِدِينَ فِيهَا) مُقِيمِين فِيها (مَا دَامَتِ السَّمَاوَات وَالْأَرْضُ) عَبَّر بِهَذا عن طُول الْمُكْث.

ويَرَى أنَّ الاسْتِثْنَاء وَقَع على مَا بَعْد الإخْرَاج مِنْ النَّار بِشَفَاعَة الأنْبِيَاء والْمُؤمِنِين

(4)

وأحَال في آيَة "الأحزاب" على مَا سَبَق بَيَانه.

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 145).

(2)

سبق تخريجه، وقد رواه البخاري من حديث أنس مرفوعًا.

(3)

هو في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، وقد سبق تخريجه. وأمَّا حَديث جَابر؛ فقد رضواه بِنحوه أحمد (ح 15198)، والترمذي (ح 2597) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر. وصححه محققو المسند.

وفي حديث جابر النص على أنهم من أهل التوحيد.

(4)

انظر: تفسير القرآن، مرجع سابق (2/ 459، 460).

ص: 494

ومَعْنَى آيَة "الجن" الدَّوَام في النَّار

(1)

.

ولم يَذْكُر الثعلبي في آيَة "النساء" إلَّا سَبَب النُّزُول، وأنَّهَا نَزَلتْ في نَصَارَى نَجْرَان

(2)

.

وذَكَر ثَمَانِيَة أقْوَال في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة "الأنعام"، وهي:

الأوَّل: قَدْر مُدَّة مَا بَيْن بَعْثِهم إلى دُخُولِهم جَهَنَّم.

الثَّاني: قَول ابن عباس، هذا الاسْتِثْنَاء هو أنّه لا يَنْبَغِي لأحَدٍ أن يَحْكُم على الله في خَلْقِه، لا يولهم

(3)

جَنَّة ولا نَارًا.

الثَّالث: قَول الكَلبي: إلَّا مَا شَاء الله، وكَان مَا شَاء الله أبَدًا.

الرَّابِع: قيل: مَعْنَاه النَّار مَثْوَاكم خَالِدِين فِيها سِوى مَا شَاء الله مِنْ أنْوَاع العَذَاب.

الْخَامِس: قِيل: إلَّا مَا شَاء الله مِنْ إخْرَاج أهْل التَّوْحِيد مِنْ النَّار.

السَّادس: قِيل: إلَّا مَا شَاء الله أن يَزِيدَهم مِنْ العَذَاب فِيها.

السَّابع: قِيل: إلَّا مَا شَاء مِنْ كَوْنِهم في الدُّنيا بِغَيْر عَذَاب.

الثَّامن: قَول عَطَاء: إلَّا مَا شَاء الله من الحق في عَمَله أن يُؤمِن

(4)

، فَمِنْهم مَنْ آمَن مِنْ قَبْل الفَتْح، ومِنْهم مَنْ آمَن مِنْ بَعْد الفَتْح

(5)

.

وفي آيَة "هود" ذَكَر مَا جاء عن ابن عباس وعن الضّحاك في مَعْنَى مُدَّة دَوَام السَّمَاوَات والأرْض، ثم ذَكَر الْخِلاف في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء، فَقَال: اخْتَلَف العُلَمَاء في هَذَين الاسْتِثْنَاءَين مِنْ أهْل الشَّقَاوَة، أوْ مِنْ أهْل السَّعَادَة؛ فَقَال بَعْضُهم: هُو في أَهل

(1)

تفسير القرآن، مرجع سابق (6/ 72).

(2)

الكشف والبيان، مرجع سابق (3/ 418).

(3)

هكذا في المطبوع، وعند ابن جرير "يُنْزِلُهم".

(4)

هكذا في المطبوع، وهي عبارةٌ قلقة! وكأن صوابها: إلا من شاء الله في علمه أن يؤمن.

ونقل الرازي في تفسيره (13/ 158) عن ابن عباس قوله: استثنى الله تعالى قومًا سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

الكشف والبيان، مرجع سابق (4/ 190).

ص: 495

التَّوْحِيد الذِين يُخْرِجُهم الله مِنْ النَّار. قال ابن عباس: ومَا شَاء رَبُّك أن يُخْرِج أهْل التَّوحِيد مِنها. وقَال في قَوله في وَصْف السُّعَداء: إلَّا مَا شَاء رَبُّك أن يُخَلِّدَهم في الجنة.

وقال قتادة في هَذه الآيَة: الله أعْلَم بِهَا، وذُكِر لَنا أنَّ مَا أقُوله: سَيُصِيبهم سَفْع مِنْ النَّار بِذُنُوب اقْتَرَفُوها ثم يُخْرِجُهم الله مِنها. وعلى هذا القَول يَكُون اسْتِثْنَاء مِنْ غَيْر جِنْسِه، لأنَّ الأشْقِيَاء في الْحَقِيقَة هُمْ الكَافِرُون، والسُّعَدَاء في الْحَقِيقَة هُمْ الْمُؤمِنُون

(1)

.

ونَقَل عن ابنِ مَسعود قَوله: خَالِدِين فِيها مَا دَامَتِ السَّمَاوَات والأرْض لا يَمُوتُون فِيها ولا يُخْرَجُون مِنْها إلَّا مَا شَاء رَبُّك، وهو أن يَأمُر النَّار أن تَأكُلَهم وتُفْنِيهم، ثُمّ يُجَدِّد خَلْقَهم

(2)

.

ونَقَل عن الزجاج قَوله: في هَذه الآيَة أرْبَعَة أقْوَال، قَوْلان مِنْها لأهْل اللغة، وقَوْلان لأهْل الْمَعَاني

(3)

.

واكْتَفَى بِمَا أوْرَدَه فِيمَا سَبَق عن إيرَادِه في تَفْسِير آيَة "الأحزاب"، وكذلك في تَفْسِير آيَة "الجن".

وأوْرَد الزمخشري قَولًا آخَر في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء الوَارِد في آيَة "الأنعام"، وهو الانْتِقَال من حَال إلى حَال، ومن عَذَاب إلى عَذَاب في النَّار، فَقَال:(خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) أي: يَخْلُدُون في عَذَاب النَّار الأبَد كُلّه (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إلَّا الأوْقَات التي يُنْقَلُون فِيها مِنْ عَذَاب النَّار إلى عَذَاب الزَّمْهَرِير، فَقَد رُوي أنّهم يَدْخُلُون وَادِيًا فِيه مِنْ الزَّمْهَرِير مَا يُمَيِّز بَعْض أوْصَالِهم مِنْ بَعْض، فَيَتَعَاوَون ويَطْلُبُون الرَّدَّ إلى الْجَحِيم .... (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) لا يَفْعَل شَيئًا إِلَّا بِمُوجِب الْحِكْمَة. (عَلِيمٌ) بأنَّ الكُفَّار يَسْتَوْجِبُون عَذَاب الأبَد

(4)

.

(1)

الكشف والبيان، مرجع سابق (5/ 189).

(2)

المرجع السابق (5/ 189).

(3)

المرجع السابق (5/ 189).

(4)

الكشاف، مرجع سابق ص (345، 346).

ص: 496

وأوْرَد في تَفْسِير آية "هُود" الْمَعْنَى الْمُرَاد مِنْ دَوَام السَّمَاوَات والأرْض، ثم أوْرَد سُؤالًا قَال فِيه: فإن قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في قَولِهِ: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)، وقَد ثَبَت خُلُود أهْل الْجَنَّة والنَّار في الأبَد مِنْ غَيْر اسْتِثْنَاء؟

قُلْتُ: هو اسْتِثْنَاء مِنْ الْخُلُود في عَذَاب النَّار، ومِن الْخُلُود في نَعِيم الْجَنَّة؛ وذَلك أنَّ أهْل النَّار لا يَخْلُدُون في عَذَاب النَّار وَحْدَه بَلْ يُعَذَّبُون بِالزَّمْهَرِير وبِأنْوَاع مِنْ العَذَاب سِوى عَذَاب النَّار، وبِمَا هُو أغْلَظ مِنْها كُلّها، وهو سَخَط الله عَليهم، وخَسْؤه لَهم

(1)

، وإهَانَته إيَّاهم، وكَذَلك أهْل الْجَنَّة لَهُمْ سِوى الْجَنَّة مَا هو أكْبَر مِنْها وأجَلّ مَوقِعًا مِنهم؛ وهو رِضْوان الله

(2)

.

ولم يَتَطَرَّق في تَفْسِير آيَة "الأحْزَاب" إلى مَعْنَى الْخُلُود الأبَدِيّ، وكَذَلك في آيَة "الْجِنّ".

ويَتَّجِه الاسْتِثْنَاء في آيَة "الأنعام" عند ابن عطية "أن يَكُون مُخَاطَبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه، ولَيس مِمَا يُقَال يَوْم القِيَامَة، والْمُسْتَثْنَى هو مَنْ كَان مِنْ الكَفَرة يَومَئذ يُؤمِن في عِلْم الله، كَأنَّه لَمَّا أخْبَرَهم أنَّه قَال للكُفَّار: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) اسْتَثْنَى لَهم مَنْ يُمْكِن أن يُؤمِن مِمَّنْ يَرَونَه يَومَئذ كَافِرًا، وتَقَع (مَا) على صِفَة مَنْ يَعْقِل، ويُؤيِّد هَذا التَّأويل اتِّصَال قَوله: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي: بِمَنْ يُمْكِن أن يُؤمِن مِنهم"

(3)

.

(1)

أي قوله تعالى: (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ)[المؤمنون: 108].

(2)

الكشاف، مرجع سابق ص (498، 499)، وقوله الأخير متعقب بأن رؤية الله أعظم من نعيم الجنة.

قال عليه الصلاة والسلام: إذا دَخَل أهلْ الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تُريدون شيئًا أزِيدُكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. رواه مسلم (ح 181).

(3)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (2/ 346).

ص: 497

وأمَّا قَوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فَقِيل فِيه: إنَّ ذلك على طَرِيق الاسْتِثْنَاء الذي نَدَب الشَّرع إلى اسْتِعْمَالِه في كُلّ كَلام.

وقِيل: هو اسْتِثْنَاء مِنْ طُول الْمُدَّة، وذلك على ما رُوي مِنْ أنّ جَهنم تَخْرَب، ويُعْدم أهلها، وتُغْلَق أبوابها، فهم على هذا يَخْلُدُون حتى يَصِير أمْرهم إلى هذا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قَول مُخْتَلّ، والذي رَوي ونُقِل عن ابن مسعود وغيره إنَّمَا هو الدَّرْك الأعْلى الْمُخْتَصّ بِعُصَاة المؤمنين، وهو الذي يُسَمَّى جَهَنَّم، وسَمَّى الكُلّ بِه تَجَوّزًا

(1)

.

وقِيل: إنَّمَا اسْتَثْنَى مَا يَلْطُف الله تَعالى بِه للعُصَاة مِنْ الْمُؤمِنِين في إخْرَاجِهم بَعْد مُدَّة مِنْ النَّار.

وقِيل: (إِلَّا) بِمَعْنَى الوَاو، فَمَعْنَى الآية: ومَا شَاء الله زَائدًا عَلى ذَلك.

وقِيل: (إِلَّا) في هَذه الآيَة بِمَعْنى سِوَى، والاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع

ويُؤيِّد هَذا التَّأويل قَوله بَعْد: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

وقِيل: سِوَى مَا أعَدَّه لَهم مِنْ أنْوَاع العَذَاب مِمَّا لا يُعْرَف، كَالزَّمْهَرِير ونحوه.

(1)

هذا هو الأدب في الجواب، لا كما شنع الزمخشري على أهل السنة، وطعن في قائله من الصحابة.

وينظر لهذا المسألة: "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار" تأليف الصنعاني، تحقيق الألباني.

تنبيه: نُسِب القَول بفناء النار إلى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد غلط من نسب ذلك إليهما، فابن تيمية له قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وابن القيم صرح بعدم فناء النار، إذ يقول في "الوابل الصيب" (ص 34): ولَمّا كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب: دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض.

وينظر لذلك: "يقظة أولي الاعتبار"، صديق نب حسن خان (ص 44)، ورسالة "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار"، علي الحربي، و"دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة"، صلاح الدين مقبول أحمد (ص 246 وما بعدها).

ص: 498

وقيل: اسْتِثْنَاء مِنْ مُدَّة السَّمَاوَات، الْمُدَّة التي فَرَطَتْ لهم في الْحَيَاة الدُّنيا.

وقِيل: في البَرْزَخ بَيْن الدُّنيا والآخِرَة.

وقِيل: في الْمَسَافَات التي بَيْنَهم في دُخُول النَّار، إذْ دُخُولهم إنَّمَا هو زُمَرًا بَعْد زُمْر.

وقِيل: الاسْتِثْنَاء مِنْ قَوله: (فَفِي النَّارِ)، كأنه قال: إلَّا مَا شَاء رَبُّك مِنْ تَأخِيرٍ عن ذلك. وهذا قول رواه أبو نَضْرة عن جَابر، أوْ عن أبي سَعيد الخدري

(1)

.

وفي تَفْسِير آيَة "الْجِنّ" اسْتَدَلّ ابنُ عَطية على كَوْنِها في حَقّ الكُفَّار بِمَا فِيها مِنْ التَّأبِيد، حَيث قَال: وقَوله تَعَالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ) يُرِيد الكُفْر، بِدَلِيل الْخُلُود الْمَذْكُور

(2)

.

وحَكَى الرَّازي وُجُوهًا في الاسْتِثْنَاء، مِنها:

الأوَّل: أنَّ الْمُرَاد مِنه اسْتِثْنَاء أوْقَات الْمُحَاسَبَة، لأنَّ في تلك الأحْوَال لَيْسُوا بِخَالِدِين في النَّار.

الثَّاني: الْمُرَاد الأوْقَات التي يُنْقَلُون فِيها مِنْ عَذَاب النَّار إلى عَذَاب الزَّمْهَرِير.

الثَّالث: قَول ابن عباس: اسْتَثْنَى الله تَعالى قَوْمًا سَبَق في عِلْمِه أنَّهم يُسْلِمُون ويُصَدِّقُون النبي صلى الله عليه وسلم.

الرَّابع: إلَّا مَا شَاء الله مِنْ مِقْدَار حَشْرِهم مِنْ قُبُورِهم ومِقْدَار مُدَّتهم في مُحَاسَبَتهم.

الْخَامس: قَول أبي مُسلم: الاسْتِثْنَاء غَيْر رَاجِع إلى الْخُلُود، وإنَّمَا هو رَاجِع إلى الأجَل الْمُؤجَّل لَهم. فَتَلْخِيص الكَلام أن يَقُولُوا: اسْتَمْتَع بَعضُنا بِبَعض، وبَلَغْنا مَا سَمَّيْتَ لَنا مِنْ الأجْل إلَّا مَنْ شِئتَ أنْ تَخْتَرِمَه فاخْتَرَمْتَه قَبْل ذلك بِكُفْرِه وضَلالِه.

واعْتَبَرَ الرَّازي هَذا القَول مُتَكَلَّفًا، حَيث قَال: واعْلَم أنَّ هَذا الوَجْه وإن كان مُحْتَمِلًا إلَّا أنَّه تُرِك لِظَاهِر تَرْتِيب ألْفَاظ هَذه الآيَة، ولَمَّا أمْكَن إجْرَاء الآيَة على ظَاهِرِها فلا حَاجَة إلى هَذا التَّكَلُّف.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (3/ 208، 209) باختصار.

(2)

المرجع السابق (5/ 385)، ولم يذكر ذلك في آية "الأحزاب"، ربما لصراحة الآيَة في الكُفَّار.

ص: 499

ثم قَال: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي: فِيمَا يَفْعَله مِنْ ثَوَاب وعِقَاب، وسَائر وُجُوه الْمُجَازَاة، وكأنه تعالى يَقُول: إنما حَكَمْتُ لِهَؤلاء الكُفَّار بِعَذَابِ الأبَد لِعِلْمِي أنَّهم يَسْتَحِقُّون ذلك. والله أعلم

(1)

.

كَما ذَكَر وُجُوهًا في آيَة "هود" ورَجَّح أنَّ الْجَوَاب الْحَقَّ في هَذا البَاب شَيء آخَر، وهو أنَّ الْمَعْهُود مِنْ الآيَة أنَّه مَتَى كَانَتْ السَّمَاوَات والأرْض دَائمَتَين كَان كَوْنُهم في النَّار بَاقِيا، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ كُلَّما حَصَل الشَّرْط حَصَل الْمَشْرُوط، ولا يَقْتَضِي أنه إذا عُدِم الشَّرْط يُعْدَم الْمَشْرُوط.

وبَيَّن أنَّ هَذه الآيَة لا تَدُلّ على انْقِطَاع وَعِيد الكُفَّار.

و"أمَّا حَمْل كَلِمَة (إِلَّا) على سِوى فَهو عُدُول عن الظَّاهِر، وأمَّا حَمْل الاسْتِثْنَاء على حَال عُمْر الدُّنيا والبَرْزَخ والْمَوْقِف فَبَعِيد أيضًا؛ لأنَّ الاسْتِثْنَاء وَقَع عن الْخُلُود في النَّار، ومِن الْمَعْلُوم أنَّ الْخُلُود في النَّار كَيْفِيَّة مِنْ كَيْفِيَّات الْحُصُول في النَّار، فَقَبْل الْحُصُول في النَّار امْتَنَع حُصُول الْخُلُود في النَّار، وإذا لم يَحْصُل الْخُلُود لَم يَحْصُل الْمُسْتَثْنَى مِنْه، وامْتَنَع حُصُول الاسْتِثْنَاء"

(2)

.

ونَقَل ابن كثير مَا قَالَه ابن جرير مِمَّا اعْتَادَتْه العَرَب في خِطَابِها، مِنْ إطْلاق وَصْف الشَّيء بِالدَّوَام كَدَوَام السَّمَاوَات والأرْض.

وأوْرَد احْتِمَال "أنَّ الْمُرَاد بِمَا دَامَت السَّمَاوَات والأرْض الْجِنْس؛ لأنَّه لا بُدّ في عَالَم الآخِرَة مِنْ سَمَاوَات وأرْض".

ثم أشَار إلى أنَّ ابن الجوزي

(3)

حَكَى كَثِيرًا مِنْ تِلك الأقْوَال في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء، كَمَا أشَار إلى حِكَاية ابن جرير لَهَا، واخْتِيَارُه "أنَّ الاسْتِثْنَاء عَائد على العُصَاة مِنْ أهْل التَّوحِيد مِمَّنْ يُخْرِجُهم الله مِنْ النَّار بِشَفَاعَة الشَّافِعِين مِنْ الْمَلائكَة والنَّبِيِّين والْمُؤمِنِين،

(1)

التفسير الكبير، مرجع سابق (13/ 157، 158) بتصرف.

(2)

المرجع السابق (18/ 52 - 54) باختصار.

(3)

ينظر: زاد المسير في علم التفسير، مرجع سابق (4/ 123، 124) فقد ذكر سبعة أقوال في معنى الاستثناء وسبقه الثعلبي فقد حكى عشرة أقوال. سبق ذكرها.

ص: 500

حتى يَشْفَعُون في أصْحَاب الكَبَائر، ثم تَأتِي رَحْمَة أرْحَم الرَّاحِمِين فتُخْرِج مَنْ لَم يَعْمَل خَيْرًا قَط، وقَال يَوْمًا مِنْ الدَّهْر: لا إله إلا الله. كَمَا وَرَدَتْ بِذَلك الأخْبَار الصَّحِيحَة الْمُسْتَفِيضَة عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَضْمُون ذَلك مِنْ حَدِيث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة

(1)

، وغَيْرِهم مِنْ الصَّحَابة، ولا يَبْقَى بَعْد ذَلك في النَّار إلَّا مَنْ وَجَب عليه الْخُلُود فيها، ولا مَحِيد لَه عَنها، وهذا الَّذي عَليه كَثِير مِنْ العُلَمَاء قَدِيمًا وحَدِيثًا في تَفْسِير هَذِه الآيَة الكَرِيمة"

(2)

.

وكان قَدْ أشَار إلى مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة "الأنعام"، وبَيَّن أنَّ تَقْرِير القَوْل سَيَأتي في آية "هُود".

وأغْفَل مَعْنَى الْخُلُود في آيَة "النساء".

واقتَصَر في آيَة "الأحْزَاب" على قَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أي: مَاكِثِين مُسْتَمِرِّين، فَلا خُرُوج لَهُمْ مِنها، ولا زَوال لهم عنها. (لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) أي: وَليس لَهم مُغِيث ولا مُعِين يُنْقِذُهم مِمَّا هُمْ فِيه

(3)

.

وقال نَحْو ذَلك في تَفْسِير آيَة "الْجِنّ"

(4)

.

وقَال الشنقيطي في الْجَمْع بَيْن الآيَات: والْجَوَاب عن هَذا مِنْ أوْجُه:

أحَدُها: أنَّ قَوله تَعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) مَعْنَاه: إلَّا مَنْ شَاء الله عَدَم خُلُودِه فِيها مِنْ أهْل الكَبَائر مِنْ الْمُوَحِّدِين، وقَد ثَبَت في الأحَادِيث الصَّحِيحَة أنَّ بَعْض أهْل النَّار يُخْرَجُون مِنها، وهُم أهْل الكَبَائر مِنْ الْمُوَحِّدِين

واخْتَارَه ابن جرير، وغَاية مَا في هذا القَوْل إطْلاق مَا وَرَدَ، ونَظِيرُه في القُرْآن (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)

(5)

.

(1)

سبق تخريجها.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (7/ 472، 473).

(3)

المرجع السابق (11/ 244).

(4)

المرجع السابق (14/ 156).

(5)

أي أن هذا مُطْلَق، وتقييده بالأربع في آخر الآية.

ص: 501

الثَّاني: أنَّ الْمُدَّة التي اسْتَثْنَاهَا الله هي الْمُدَّة التي بَيْن بَعْثِهم مِنْ قُبُورِهم واسْتِقْرَارِهم في مَصِيرهم. قَاله ابن جرير أيضًا.

الوَجْه الثَّالث: أنَّ قَولَه: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فِيه إجْمَال، وقَد جَاءت الآيَات والأحَادِيث الصَّحِيحَة مُصَرِّحَة بِأنَّهم خَالِدُون فِيها أبَدًا، وظَاهِرُها أنَّه خُلُود لا انْقِطَاع لَه، والظُّهُور مِنْ الْمُرَجِّحَات، فَالظَّاهِر مُقَدَّم على الْمُجْمَل، كَمَا تَقَرَّر في الأصُول.

ومِنها: أنَّ (إِلَّا) في سُورة هُود بِمَعْنَى: "سِوى مَا شَاء الله مِنْ الزِّيَادَة على مُدَّة دَوَام السَّمَاوَات والأرْض".

وقال بَعض العلماء: إنَّ الاسْتِثْنَاء على ظَاهِرِه، وأنه يَأتي على النَّار زَمَان ليس فِيها أحَد

قال مُقَيِّدُه - عفا الله عنه -: الذي يَظْهَر لي - والله تعالى أعْلَم - أنَّ هَذه النَّار التي لا يَبْقَى فِيها أحَد، يَتَعَيَّن حَمْلِها على الطَّبَقَة التي كَان فِيها عُصَاة الْمُسْلِمِين، كَمَا جَزَم بِه البَغَوي في تَفْسِيرِه

(1)

؛ لأنه يَحْصُل بِه الْجَمْع بَيْن الأدِلَّة، وإعْمَال الدَّلِيلَين أَوْلَى مِنْ إلْغَاء أحَدِهِما، وقد أطْبَق العُلَمَاء على وُجُوب الْجَمْع إذا أمْكَن.

ثم ذَكَر مَا قِيل في فَنَاء النَّار، ثم قَال:

أمَّا فَنَاؤها فَقَد نَصَّ تَعالى على عَدَمِه بِقَوْلِه: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[الإسراء: 97] وأمَّا مَوتُهم فَقد نَصّ تَعَالى عَلى عَدَمِه بِقَولِه: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِم فَيَمُوتُوا)[فاطر: 36]، وقوله:(لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)[طه: 74]، وقوله:(وَيَأْتِيْهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)[إبراهيم: 17]، وقَد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في الْحَدِيث الصَّحِيح أنَّ الْمَوْت يُجَاء بِه يَوْم القِيَامَة في صُورَة كَبْش أمْلَح فيُذْبَح، وإذا ذُبِح الْمَوْت حَصَل اليَقِين بأنَّه لا مَوْت، كَمَا قَال النبي صلى الله عليه وسلم: ويُقَال: "يَا أهْل الْجَنَّة خُلُود فَلا مَوْت، ويَا أهْل النَّار خُلُود فَلا مَوْت"

(2)

.

(1)

معالم التنزيل، مرجع سابق (2/ 403)، وسبق نقل قول ابن عطية في ذلك.

(2)

رواه البخاري (ح 4453)، ومسلم (ح 2849)، وعند البخاري: ثم يقول: وعند مسلم: ثم يُقال.

ص: 502

وأمَّا إخْرَاجُهم مِنها فَنَصَّ تَعالى على عَدَمِه بِقَوله: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة: 167]، وبِقَولِه:(كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا)[السجدة: 20]، وبِقَوله:(وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا)[المائدة: 37].

وأمَّا تَخْفِيف العَذَاب عَنهم فَنَصَّ تَعَالى عَلى عَدَمِهِ بِقَولِه: (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)[فاطر: 36]، وقَوله:(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)[النبأ: 30].

فَظَاهِر هَذه الآيَات عَدَم فَنَاء النَّار الْمُصَرَّح بِه في قَولِه: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)

(1)

.

‌رأي الباحث:

خُلُود الكُفَّار في النَّار فَمَقْطُوع بِه، مُجْمَع عَلَيه. وإن كان اختُلِف في طُول الْخُلُود، وقِيل بِفَنَاء النَّار، إلَّا أنه قَول ضَعِيف.

والذي يَظْهَر أنَّ الاسْتِثْنَاء جَاء تَحْقِيقًا لا تَعْلِيقًا، ونَظِيرُه في كِتَاب الله:(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)[الفتح: 27]، وهو وَعْدٌ حَقّ، وقَوْلٌ صِدْق، ومَع ذلك قَرَنَه تَعَالَى بِالْمَشِيئَة.

وقَول مَنْ قال: إنَّ الاسْتِثْنَاء في حَقّ عُصَاة الْمُؤمِنِين - مُتَّجِه؛ وذَلك لأنَّ مَنْ دَخَل النَّار مِنْ عُصَاة الْمُوَحِّدِين لا يَخْلُد فِيها، وجَاء التَّصْرِيح بِه في قَولِه عليه الصلاة والسلام: يُعَذَّب نَاسٌ مِنْ أهْل التَّوحِيد في النَّار حَتى يَكُونُوا حُمَمًا فيها، ثم تُدْرِكُهم الرَّحْمَة فيُخْرَجُون فيُلْقَون على بَاب الْجَنَّة، فَيَرُشّ عَليهم أهْل الْجَنَّة الْمَاء، فَيَنْبُتُون كَمَا يَنْبُت الغُثَاء في حِمَالَة السَّيْل، ثم يَدْخُلُون الْجَنَّة

(2)

.

كَمَا أنَّ النَّار لا تَأكُل مَوَاضِع السُّجُود مِنْ ابْنِ آدَم، لِقوله عليه الصلاة والسلام: حَتى إذا أرَاد اللهُ رَحْمَة مَنْ أرَاد مِنْ أهْل النَّار أمَرَ الله الْمَلائكَة أنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَان يَعْبُد

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 85 - 89) باختصار وتصرف.

(2)

رواه أحمد والترمذي، وسبق تخريجه.

ص: 503

الله، فَيُخْرِجُونَهم ويَعْرِفُونَهم بِآثَار السُّجُود، وحَرَّم اللهُ على النَّار أنْ تَأكُل أثَر السُّجُود، فَيَخْرُجُون مِنْ النَّار فَكُلّ ابْن آدَم تَأكُلُه النَّار إلَّا أثَر السُّجُود، فَيَخْرُجُون مِنْ النَّار قَدْ امْتَحَشُوا فيُصَبّ عَليهم مَاء الْحَيَاة، فَيَنْبُتُون كَمَا تَنْبُت الْحَبَّة في حَمِيل السَّيْل

(1)

.

ثُمَّ إنَّ هَذا الاسْتِثْنَاء الوَارِد في الآيَات هوَ مِنْ قَبِيل الْمُتَشَابِه، والوَاجِب رَدّ الْمُتَشَابِه إلى الْمُحْكَم، وقد اسْتَفَاضَتْ آيَات الكِتَاب بِخُلُود الكُفَّار في النَّار. والله أعلم.

(1)

رواه البخاري (ح 773)، ومسلم (ح 182).

ص: 504

‌المبحث الرابع: منهجه في إيراد الآية وما يُتوهّم تعارضه معها:

مِنْ الطُّرُق التي سَلَكَها الأئمَّة في الْجَمْع بَيْن الآيَات الْمُتَوهَّم تَعَارُضها - إيرَاد الآيَة ومَا يُقَابِلُها، وذلك بِالنَّصّ على الآيَة أوْ الآيَات الْمُقَابِلة لَها.

وكَذلك سَلَك القرطبي؛ فإنَّه قد يُورِد الآيَة ومَا يُقَابِلُها، ويَنُصّ على مَا يُتَوَهَّم تَعَارُضَه مَعها، وقد يَسْلُك مَسْلَكًا آخَر، وهو الاكْتِفَاء بِالإشَارَة إلى مَعْنَى الآيَة الْمُتَوهَّم وُقوع التَّعَارُض مَعها.

وفي هذا الْمَبْحَث مَطْلَبَان، وفي كُلّ مَطْلَب سَوْف أقْتَصِر على إيرَاد مِثَالَيْن، اكْتِفَاء بِمَا سَبَق، إذْ أنَّ الْمَوَاضِع السَّابِقَة لَم تَخرُج عن هاتَين الطَّرِيقَتَيْن.

فـ:

‌المطلب الأول: الجمع بين الآيات بإيراد الآية وما يُعارضها في الظاهر

وهذا الْمَسْلَك أَوْلى بِالْمُفَسِّر؛ لأنَّ الأشْيَاء تَتَبَيَّن بِبَيَانِ أضْدَادها ومَا يُقَابِلُها.

وقَدِيمًا قِيل: وبِضِدِّهَا تَتَبَيَّن الأشْيَاء.

فإذا أشكَلَتْ آية على قَارئ أو سَامِع، فإنَّ الْمُفَسِّر يُورِد الإشْكَال ويُجِيب عَنه، ورُبَّمَا تَبَادَر الإشْكَال إلى ذِهْن الْمُفَسِّر فأوْرَده على صِيغَة سُؤال أوْ افْتِراض.

والأكْثَر عِند القرطبي أن يُورِد مَا اسْتَشْكَله - هُو أوْ غيره - ويَذْكُر الْمَوْضِعَيْن - أوْ الْمَوَاضِع - التي تَرِد على الذِّهْن، ويُتَصَوَّر تَعَارُضها.

وربما تَرَك بَعض ذلك اخْتِصَارًا، واكْتِفَاء بِوُضُوح الْمَعْنَى الْمُرَاد.

ص: 505

فـ:

‌المثال الأول:

إرْسَال رُسُل مِنْ الْجِنّ:

قَوله تَعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ)[الأنعام: 130]، مَع قَوله تَعالى:(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 29 - 31].

‌صورة التعارض:

آية "الأنعام" يُفهَم مِنْها أنَّ مِنْ الْجِنّ رُسُلًا كَمَا كَان مِنْ الإنْس، وهو مُقْتَضَى مُقَابَلَة الْجَمْع بالْجَمْع؛ فإنَّ النَّتِيجَة تَكُون آحَادًا، كَقَولِهم: رَكِب القَوم دَوَابَّهم، فإنَّ النَّتِيجَة تَقْتَضِي أنّ كُلّ وَاحِد رَكِب دَابَّته، فَكَأنه قال: يَا مَعْشَر الْجِنّ ألَم يَأتِكُم رُسُل مِنْكُم؟ ويَا مَعْشَر الإنْس ألَم يَأتِكُم رُسُلٌ مِنْكُم؟

بَيْنَمَا يُفهَم مِنْ آيَات "الأحقاف" أنَّ الْجِنّ تَبَع للإنْس في الرِّسَالات، وأنَّهم خُوطِبُوا بِرِسَالة محمد صلى الله عليه وسلم كَمَا خُوطِبُوا بِرِسَالة مُوسَى عليه الصلاة والسلام.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

قَوله تَعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أي: يَوْم نَحْشُرُهم نَقُول لَهم: ألَم يَأتِكُم رُسُل

فَيَعْتَرِفُون بِمَا فِيه افْتِضَاحُهم، ومَعْنَى (مِنْكُمْ) في الْخَلْق والتَّكْلِيف والْمُخَاطَبَة، ولَمَّا كَانت الْجِنّ مِمَّنْ يُخَاطَب ويَعْقِل قال:(مِنْكُمْ)، وإن كَانت الرُّسُل مِنْ الإنْس، وغَلَّب الإنْس في الْخِطَاب كَمَا يُغَلَّب الْمُذَكَّر على الْمُؤنَّث. وقال ابن عباس: رُسُل

ص: 506

الْجِنّ هُمْ الذِين بَلَّغُوا قَوْمَهم مَا سَمِعُوه مِنْ الوَحي، كَمَا قَال:(وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وقال مُقاتل والضحاك: أرسل الله رُسُلًا مِنْ الْجِنّ كَمَا أرْسَل مِنْ الإنْس. وقال مجاهد: الرُّسُل مِنْ الإنْس، والنُّذُر مِنْ الْجِنّ، ثم قَرَأ:(إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)، وهو مَعْنَى قَوْل ابن عباس، وهو الصَّحِيح، وقال الكَلبي: كَانت الرُّسُل قَبْل أن يُبْعَث محمد صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُون إلى الإنْس والْجِنّ جَمِيعًا.

ثم تَعَقَّبَه القرطبي بِقولِه:

قلت: وهَذا لا يَصِحّ

(1)

، بل في صَحيح مسلم

(2)

مِنْ حَدِيث جَابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنّ نَبِي قَبْلِي؛ كان كُلّ نَبِيّ يُبْعَث إلى قَومِه خَاصَّة وبُعِثْتُ إلى كُلّ أحْمَر وأسْوَد. الحديث ....

وقال ابن عباس: كانت الرُّسُل تُبْعَث إلى الإنْس، وإنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الْجِنّ والإنْس. ذَكَرَه أبو الليث السمرقندي: وقِيل: كان قَوم مِنْ الْجِنّ اسْتَمَعُوا إلى الأنْبِيَاء ثم عَادُوا إلى قَومِهم وأخْبَرُوهم، كَالْحَال مَع نَبِيِّنا عليه السلام، فَيُقَال لهم: رُسُل الله، وإن لم يُنَصّ على إرْسَالِهم، وفي التَّنْزِيل:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)[الرحمن: 22] أي: مِنْ أحَدِهما، وإنما يَخْرُج مِنْ الْمِلْح دُون العَذْب، فَكَذَلك الرُّسُل مِنْ الإنْس دُون الْجِنّ، فمعنى (مِنْكُمْ) أي: مِنْ أحَدِكم، وكان هَذا جَائزًا، لأنَّ ذِكْرَهما سَبَق. وقِيل: إنَّمَا صَيَّر الرُّسُل في مَخْرَج اللفْظ مِنْ الْجَمِيع، لأنَّ الثَّقَلَين قد ضَمَّتْهُما عَرْصَة القِيَامَة، والْحِسَاب عَليهم دُون الْخَلْق، فَلَمَّا صَارُوا في تلك العَرْصة في حِسَاب وَاحِد في شَأن الثَّوَاب والعِقَاب خُوطِبُوا يَومَئذ بِمُخَاطَبة واحِدَة كَأنَّهم جَمَاعَة واحِدَة ..... وقد وَصَف الله عنهم في سُورة الْجنّ مِنْ قَوْله:(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)[الجن: 14]، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) [الجن: 11] على مَا يَأتي بَيانه هُناك

(3)

.

(1)

قول القرطبي هذا مُتعقّب، وسيأتي تعقّبه في "رأي الباحث".

(2)

(ح 521)، ورواه البخاري (ح 328).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 76، 77).

ص: 507

وقَال القرطبي بَعد ذلك: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 132]: أي: مِنْ الْجِنّ والإنْس، كَمَا قَال في آيَة أُخْرَى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)[الأحقاف: 18]، ثم قَال:(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الأحقاف: 19]، وفي هَذا مَا يَدُلّ على أنَّ الْمُطِيع مِنْ الْجِنّ في الْجَنَّة، والعَاصِي مِنْهم في النَّار، كَالإنْس سَوَاء، وهو أصَحّ مَا قِيل في ذلك، فاعْلَمْه

(1)

.

وقال في تَفْسِير قَوْلِه تَعَالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الأحقاف: 19]: أي: ولكُل وَاحد مِنْ الفَرِيقَيْن الْمُؤمِنِين والكَافِرِين مِنْ الْجِنّ والإنْس مَرَاتِب عِند الله يَوْم القِيَامَة بِأعْمَالِهم

(2)

.

وأطَال في تَفْسِير آيَات "الأحقاف"، واسْتِمَاع الْجِنّ للقُرْآن، ثم قال: قَوله تَعالى: (قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) أي: القُرْآن، وكَانوا مُؤمِنِين بِمُوسَى.

قال عطاء: كانوا يَهُودًا فأسْلَمُوا، ولِذَلك قَالُوا:(أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى).

وعن ابن عباس: أنَّ الْجِنّ لَم تَكُنْ سَمِعَتْ بأمْرِ عِيسى، فَلذَلك قَالَتْ:(أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى). (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يَعْنِي: مَا قَبله مِنْ التَّوْرَاة. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) دِين الْحَقّ. (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) دِين الله القَويم.

(يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) يَعْنِي: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهذا يَدُلّ على أنّه كَان مَبعُوثًا إلى الْجِنّ والإنْس.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 78).

(2)

المرجع السابق (16/ 170).

ص: 508

ثم بَيّن القرطبي أنَّ "هَذه الآي تَدُلّ على أنَّ الْجِنّ كَالإنْس في الأمْر والنَّهْي والثَّوَاب والعِقَاب، وقال الحسن: ليس لِمُؤمِني الْجِنّ ثَوَاب غير نَجَاتِهم مِنْ النَّار، يَدُلّ عَليه قَوله تَعالى:(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

وقال آخَرُون: إنّهم كَمَا يُعَاقَبُون في الإسَاءة يُجَازَون في الإحْسَان مِثْل الإنْس ....

قال الضحاك: الْجِنّ يَدْخُلُون الْجَنَّة، ويَأكُلُون ويَشْرَبُون. قال القشيري: والصَّحِيح أنَّ هَذا مِمَّا لَم يُقْطَع فيه بِشَيء، والعِلْم عند الله.

قلت: قَوله تَعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) يَدُلّ على أنّهم يُثَابُون ويَدْخُلُون الْجَنَّة؛ لأنّه قَال في أوَّل الآيَة: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) إلى أنْ قَال (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)، والله أعْلَم"

(1)

.

وقال في تَفْسِير سُورة "الرحمن" ما نَصّه: هذه السورة و"الأحقاف" و"قل أُوحِي" دَلِيل على أنَّ الْجِنّ مُخَاطَبُون مُكَلَّفُون، مَأمُورُون مَنْهِيُّون، مُثَابُون مُعَاقَبُون، كالإنْس سَواء؛ مُؤمِنُهم كَمُؤمِنهم، وكَافِرُهم كَكَافِرِهم، لا فَرْق بَيْنَنَا وبَيْنَهم في شَيء مِنْ ذَلك

(2)

.

وأطَال في تفسير سُورة الْجِنّ في بَيَان هَذا الْمَعْنَى

(3)

.

‌مُلخَّص جواب القرطبي:

1 -

الرُّسُل مِنْ الإنْس، وغَلَّب الإنْس في الْخِطَاب كَمَا يُغَلَّب الْمُذَكَّر على الْمُؤنَّث.

2 -

الرُّسُل مِنْ الإنْس، والنُّذُر مِنْ الْجِنّ، واخْتَار هَذا القَوْل ورَجَّحَه.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 185، 186) باختصار.

(2)

المرجع السابق (17/ 147).

(3)

انظر: المرجع السابق (19/ 18 وما بعدها).

ص: 509

3 -

لم يَبْعَث الله نَبِيًّا إلى الْجِنّ والإنْس قَبْل محمد صلى الله عليه وسلم، ورَجَّح هَذا القَوْل.

4 -

الْجِنّ مُخَاطَبُون مُكَلّفُون، مَأمُورُون مَنْهِيّون، مُثَابُون مُعَاقَبُون كَالإنْس.

5 -

حَكَى الْخِلاف في ثَوَاب الْجِنّ وعِقَابِهم في الآخِرَة.

هذا وقد أوْرَد القرطبي في الْمَوْضِعِ الأوَّل آيَة "الأنعام" وآيَة "الأحقاف" وآيَة "الْجِنّ".

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

في هَذه الْمُقَارَنَة سَأقْتَصِر على ذِكْر مِثَالَين، فالأنْمُوذَج الأوَّل أفَاد مِنه القُرْطُبي، والأُنْمُوذَج الثَّاني أفَاد مِنْ القُرْطُبي.

فالأوَّل ابن جرير، حيث ذَكَر الْخِلاف "في الْجِنّ هَلْ أُرْسِل مِنهم إلَيهم أمْ لا؟ فَقَال بَعْضُهم: قد أُرْسِل إليهم رُسُل كَمَا أُرْسِل إلى الإنْس مِنهم رُسُل"

(1)

ورَوى هذا القَوْل عن الضَّحّاك.

"وقَال آخَرُون: لم يُرْسَل مِنهم إليهم رَسُول، ولم يَكُنْ لَه

(2)

مِنْ الْجِنّ قَطّ رَسُول مُرْسَل، وإنَّمَا الرُّسُل مِنْ الإنْس خَاصَّة، فأمَّا مِنْ الْجِنّ فَالنُّذُر. قَالوا:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، والرُّسُل مِنْ أحَد الفَرِيقَين، كَمَا قَال:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)، ثم قَال:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، وإنَّمَا يَخْرُج اللؤلؤ والْمَرْجَان مِنْ الْمِلْح دُون العَذْب مِنْهُما، وإنَّمَا مَعْنَى ذلك يَخْرُج مِنْ بَعْضِهما، أوْ مِنْ أحَدِهما"

(3)

.

فَابْنُ جَرير سَاق الآيَة في تَفْسِير السُّورَة، وأعْمَل الآيَة في سِياقِها دُون حَشْد الآيَات في مَوضِع واحِد، كَمَا أنَّه لم يُشِر إلى الآيَات الأُخَر التي أشَار إليها القُرطبي.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 560).

(2)

أي: لله تبارك وتعالى.

(3)

المرجع السابق (9/ 561).

ص: 510

وأمَّا في تَفْسِير سُورة الأحْقَاف فَأطَال ابنُ جرير في ذِكْر عَدَد الْجِنّ الذين حَضَرُوا لاسْتِمَاع القُرْآن، وفي صِفة حُضُورِهم، وفي الْمَوْضِع الذي تَلا عَليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيه القُرْآن، ولَم يُشِر إلى مَسْألَة إيمانهم بموسى عليه الصلاة والسلام

(1)

.

كَمَا لَم يَتَطَرَّق إلى مَا تَطَرَّق إليه القُرْطُبي في تَفْسِير آيَات سُورة "الرحمن"، وإنَّمَا اقْتَصَر عَلى قَوله:(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ)[31]: سَنُحَاسِبُكم ونَأخُذ في أمْرِكُم أيُّها الإنْس والْجِنّ، فَنُعَاقِب أهْل الْمَعَاصِي، ونُثِيب أهْل الطَّاعَة

(2)

.

وأشَار في تَفْسِير آيَات سُورة الْجِنّ إلى أنَّ مِنْ الْجِنّ الْمُسْلِم والكَافِر

(3)

.

والثاني ابن كثير؛ فإنَّه نَصّ عَلى أنَّ "الرُّسُل مِنْ الإنْس فَقَط، وليس مِنْ الْجِنّ رُسُل، كَمَا قد نَصّ على ذلك مجاهد وابن جريج وغَير واحِد مِنْ الأئمَّة مِنْ السَّلَف والْخَلَف.

وقال ابن عباس: الرُّسُل مِنْ بَنِي آدَم، ومِن الْجِنّ نُذُر، وحَكى ابن جَرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زَعم أن في الجن رُسُلًا، واحْتَجّ بِهَذِه الآيَة الكَرِيمة، وفيه نَظر؛ لأنها مُحْتَمَلَة ولَيْسَت بِصَرِيحة، وهي - والله أعْلم - كَقَولِه:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) إلى أنْ قَال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، ومَعْلُوم أنَّ اللؤلؤ والْمَرْجَان إنَّمَا يُسْتَخْرَجَان مِنْ الْمِلْح لا مِنْ الْحُلو، وهَذا وَاضِح ولله الحمد، وقد ذَكر هذا الْجَوَاب بِعَيْنِه ابنُ جرير، والدَّلِيل على أنَّ الرُّسُل إنَّمَا هُمْ مِنْ الإنْس قَوله تَعالى:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)[النساء: 163] إلى قَوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]، وقَوله تَعالى عن إبْرَاهِيم:(وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)[العنكبوت: 27]، فَحَصَر النُّبُوَّة والكِتَاب بَعْد إبراهيم في ذُرِّيَّتِه،

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (21/ 163 - 172).

(2)

المرجع السابق (22/ 216)، وانظر:(22/ 216 - 223).

(3)

المرجع السابق (23/ 330 - 334).

ص: 511

ولَم يَقُل أحَد مِنْ النَّاس أنَّ النُّبُوَّة كَانَتْ في الْجِنّ قَبْل إبْرَاهيم الْخَلِيل، ثم انْقَطَعَتْ عنهم بِبِعْثَتِه، وقَال تَعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)[الفرقان: 20]، وقَال:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)[يوسف: 109]، ومَعْلُوم أنَّ الْجِنّ تَبَع للإنْس في هذا البَاب، ولهذا قَال تَعالى إخْبَارًا عنهم:(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف: 29 - 32]

وقَال تَعالى في هَذه الآيَة الكَرِيمة: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا)، أي: أقْرَرْنَا أنَّ الرُّسُل قد بَلَّغُونَا رِسَالاتِك، وأنْذَرُونا لِقَاءك، وأنَّ هذا اليَوم كَائِن لا مَحَالَة

(1)

.

فابْنُ كَثيرٍ في هذا الْمَوْضِع حَشَد مِنْ الآيَات مَا يَسْتَدِلّ بِه على القَوْل الذي اخْتَارَه وفي تَفْسِير آيَات "الأحقاف" قَال في قَوله تَعالى: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ): أي: رَجَعُوا إلى قَوْمِهم فَأَنْذَرُوهم مَا سَمِعُوه مِنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، كَقَولِه جَلَّ وعَلا:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 122]، وقد اسْتُدِلّ بِهَذِه الآيَة على أنَّه في الْجِنّ نُذُر، ولَيس فِيهم رُسُل، ولا شَكَّ أنَّ الْجِنّ لَم يَبْعَث الله تَعالى مِنهم رَسُولًا

(2)

.

ثم أوْرَد الآيَات التي أوْرَدها في تَفْسِير آيَة الأنعام مُسْتَدِلًّا بِهَا على ذلك، ثم قَال:(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى): ولم يَذْكُرُوا عِيسى؛ لأنَّ عِيسى عليه

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 175، 176).

(2)

المرجع السابق (13/ 53).

ص: 512

السلام أُنْزِل عَليه الإنْجِيل فِيه مَوَاعِظ وتَرْقِيقَات وقَلِيل مِنْ التَّحْلِيل والتَّحْرِيم، وهو في الْحَقِيقَة كَالْمُتَمِّم لِشَرِيعَة التَّوْرَاة، فَالْعُمْدَة هُو التَّوْرَاة، فَلِهَذا قَالُوا:(أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)، وهكذا قَال وَرَقة بن نَوفل حِين أخْبَرَه النبي صلى الله عليه وسلم بِقِصّة نُزُول جِبْرِيل عليه الصلاة والسلام أوَّل مَرَّة، فَقَال: بَخٍ بَخٍ! هَذَا النَّامُوس الذي كَان يَأتي مُوسَى

(1)

.

كَمَا قَال ابن كثير بَعد ذلك: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) فِيه دَلالة على أنَّه تَعالى أَرْسَل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الثَّقَلَين الْجِنّ والإنْس حَيْث دَعَاهم إلى الله تَعالى، وقَرَأ عَليهم السُّورة التي فِيها خِطَاب الفَرِيقَين، وتَكْلِيفُهم ووَعْدُهم ووَعِيدُهم، وهي سُورَة الرَّحْمَن

(2)

، ولِهَذا قَال:(أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ).

وقَوله تَعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكْمْ) قِيل: إنَّ (مِنْ) هاهنا زَائدَة، وفِيه نَظَر، لأنَّ زِيَادَتها في الإثْبَات قَلِيل. وقيل: إنَّهَا على بَابِها للتَّبْعِيض. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: ويَقِيكُم مِنْ عَذَابِه الألِيم، وقَد اسْتَدَلّ بِهَذه الآيَة مَنْ ذَهَب مِنْ العُلَمَاء إلى أنَّ الْجِنّ الْمُؤمِنِين لا يَدْخُلُون الْجَنَّة، وإنَّمَا جَزَاء صَالِحِيهم أن يُجَارُوا مِنْ عَذَاب النَّار يَوم القِيامة، ولِهذا قَالوا هذا في هذا الْمَقَام، وهو مَقَام تَبَجّح

(3)

ومُبَالَغَة، فَلو كَان لَهم جَزَاء على الإيمان أعْلى مِنْ هذا لأوْشَك أن يَذْكُرُوه

والْحَقّ أنَّ مُؤمِنِيهم كَمُؤمِنِي الإنْس يَدْخُلُون الْجَنَّة، كَمَا هو مَذْهَب مِنْ السَّلَف، وقد اسْتَدَلّ بَعْضُهم لِهَذا

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (13/ 53)، والحديث الذي ذَكَره رواه البخاري (ح 3)، ومسلم (ح 160)، وليس فيه "بخ بخ".

(2)

قصة قراءته صلى الله عليه وسلم سورة "الرحمن" على الْجِنّ. رواها الترمذي (ح 3291)، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه يعني: لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة، والحديث حسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 183).

(3)

في اللسان (2/ 405، 406): البجح: الفرح. بجح بجحًا، وبجح يبجح وابتجح: فرح .... وفي حديث أم زرع: وبجحني فبجحت، أي: فرحني ففرحت.

ص: 513

بِقَولِه عز وجل: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)[الرحمن: 56]، وفي هذا الاسْتِدْلال نَظَر، وأحْسَن مِنه قَوله جَلَّ وَعَلا:(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46]، فَقَد امْتَنّ تَعالى على الثَّقَلَين بِأن جَعَل جَزَاء مُحْسِنهم الْجَنَّة، وقد قابَلَت الْجِنّ هَذه الآيَة بِالشُّكْر القَوْلي أبْلغ مِنْ الإنْس، فَقَالُوا: ولا بِشَيء مِنْ آلائك رَبّنا نُكَذِّب، فَلَكَ الْحَمْد

(1)

.

فلم يَكُنْ تَعالى لِيَمْتَنّ عليهم بِجَزَاء لا يَحْصُل لهم، وأيضًا فإنَّه إذا كَان يُجَازِي كَافِرهم بِالنَّار - وهو مَقَام عَدْل - فلأن يُجَازِي مُؤمِنهم بِالْجَنَّة - وهو مَقَام فَضْل - بِطَرِيق الأَوْلى والأَحْرَى.

ومِمَّا يَدُلّ أيضًا على ذلك عُمُوم قَوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)[الكهف: 107]، ومَا أشْبَه ذلك مِنْ الآيَات

وهَذه الْجَنَّة لا يَزَال فِيها فَضْل حَتى يُنْشِئ الله تَعالى لها خَلْقًا، أفَلا يَسْكُنها مَنْ آمَن بِه وعَمِل لَه صَالِحًا؟

ومَا ذَكَرُوه هاهنا مِنْ الْجَزَاء على الإيمان مِنْ تَكْفِير الذُّنُوب والإجَارَة مِنْ العَذَاب الألِيم هو يَسْتَلْزِم دُخُول الْجَنَّة؛ لأنَّه ليس في الآخِرَة إلَّا الْجَنَّة أو النَّار، فَمَنْ أُجِير مِنْ النَّار دَخَل الْجَنَّة لا مَحَالَة، ولم يَرِد مَعَنا نَصّ صَرِيح ولا ظَاهِر عن الشَّارِع أن مُؤمِنِي الْجِنّ لا يَدْخُلُون الْجَنَّة وإن أُجِيرُوا مِنْ النَّار، ولَو صَحّ لَقُلْنا بِه، والله أعلم

(2)

.

ولم يَذكر ابن كثير شَيئًا مِنْ ذلك في تَفْسِير آيَة "الرحمن"

(3)

.

وفي آيَات سُورة "الْجِنّ" ذَكَر قول ابن عباس ومجاهِد وغَير وَاحِد: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا).

(1)

قال الهيثمي (المجمع 7/ 117): رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقال السيوطي في الدُّر (7/ 690): وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الأفْراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح - ثم ذكروه -.

ورواه الترمذي بنحوه في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن على الجن، وتقدم تخريجه.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (13/ 53 - 55).

(3)

انظر: المرجع السابق (13/ 323).

ص: 514

أي: مِنَّا الْمُؤمِن ومِنَّا الكَافِر

(1)

.

وفي قَوله تَعالى: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا)[الجن: 13] قَال ابن كثير: قال ابن عباس وقتادة وغَيرهما: فَلا يَخَاف أن يُنْقَص مِنْ حَسَنَاتِه، أوْ يُحْمَل عليه غَير سَيئاتِه كَمَا قَال تَعالى:(فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)[طه: 112]

(2)

.

‌رأي الباحث:

ليس مِنْ الْجِنّ رُسُل، وهم تَبَع للإنْس في شَأن الرِّسَالات، أمَّا مَا يَتَعَلَّق بِرِسَالَة محمد صلى الله عليه وسلم وأنَّ الْجِنّ خُوطِبَتْ بِرِسَالَتِه؛ فَهَذا مَحَلّ إجْمَاع، وأمَّا بَقِيَّة الرُّسُل فهو مَفْهوم مِنْ قَوله تَعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[الأنعام: 128]، فإنَّ الله لا يُعذِّب أمَّة مِنْ الأُمَم حَتى يُعْذِر إليها، وحتى تَبْلغُهم النُّذُر.

كَمَا أن لَفْظ الرِّجَال يُطْلق على الإنْس دُون غيرهم، وذلك "لأنَّ الرَّجُل يَقَع على مَا لَه ضِدّ مِنْ لَفظه، تَقُول: رَجُل وامْرَأة، ورَجُل وصَبِيّ "

(3)

.

وقَد قَال تَعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)[يوسف: 109]"أي: أرْسَلْنا رِجَالًا ليس فِهم امْرَأة ولا جِنِّي ولا مَلَك"

(4)

.

"وقد ثَبَتَ بالتواتر أنّ الرُّسُل كَانُوا مِنْ البَشَر"

(5)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (14/ 151).

(2)

المرجع السابق (14/ 152).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 240).

(4)

المرجع السابق (9/ 233).

(5)

المرجع السابق (11/ 240).

ص: 515

وأمَّا مَا تَعَقَّب بِه القرطبي قَول مَنْ قَال: "كَانت الرُّسُل قَبْل أن يُبْعَث محمد صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُون إلى الإنْس والْجِنّ جَمِيعًا" بِمَا في الْحَدِيث مِنْ عُمُوم بِعْثَتِه صلى الله عليه وسلم وخُصُوص دعْوة كُلّ نَبِيّ لِقَوْمِه.

فهذا مُتعقّب بأنَّ مِنْ الْجِنّ مَنْ آمَنَ بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام، كما في آيَات "الأحْقاف"، وقد قال القرطبي في تَفْسير آيَة "الأحقاف": وكَانُوا مُؤمِنين بِمُوسَى

(1)

ويَلْزَم مِنْ نَفْي ذلك أحَد أمْرَين:

إمَّا أنَّ الْجِنّ لم تُكلّف، ولم يُرْسِل الله لها رُسُلًا.

وإمَّا أنَّ الله أرْسَل إليهم رُسُلًا مِنْ أنفُسِهم.

وكِلا القَولَين لا يَعْضُدُه الدَّلِيل، فالأوَّل يَلزَم مِنه ألا تُعَذَّب الْجِنّ؛ لأنَّ الله لا يُعُذِّب حتى يَبْعَث رَسُولا، ثم هو بِخِلاف آيَة "الأنْعام"(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، والثاني يَسْتَلْزِم ثُبُوت رُسُل مِنْ الْجِنّ، وهو مَا نَفَاه القرطبي، ونَفَاه جَمْع مِنْ العُلَمَاء

(2)

.

وأمَّا مَا اخْتُصّ به رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمُوم بِعْثَتِه فَلا يُعَارِضه إيمان الْجِنّ بِمُوسَى وبِالأنبِيَاء مِنْ قَبْل، وذلك أنَّ بِعْثَتَه صلى الله عليه وسلم إلى النَّاس كَافَّة، إلى قَومِه وإلى غَيرهم، بَيْنَما كان النبي يُبعَث إلى قَومِه خَاصَّة، ولا يَمنَع ذلك مِنْ دُخول الْجِنّ مِنْ أهْل ذلك الزَّمَان أوْ الْمَكَان في دَعْوة نَبِيٍّ مِنْ الأنْبِيَاء، كَمَا جَاء التَّصْرِيح بِه في آيَة "الأحقاف"؛ مِنْ أنَّ الْجِنّ آمَنُوا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم. كَمَا أنَّ عُمُوم بِعْثَتِه صلى الله عليه وسلم تَشْمَل عُمُوم الزَّمَان والْمَكَان، بِخِلاف دَعوَات الأنبياء مِنْ قبْلِه. وجَوَاب آخَر، وهو الاقْتِصَار على مَا وَرَد مِنْ إيمانهم بِمُوسَى وبِمُحَمد صلى الله عليهما وسلم - ولذلك ذَكَرَتهما الْجِنّ - والسُّكُوت عَمَّا عَدَا ذلك.

والله تعالى أعلم.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 185).

(2)

يُنظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، مرجع سابق (4/ 234 وما بعدها).

ص: 516

‌المثال الثاني:

السُّؤال بَيْن النَّفْي والإثْبَات في عَرصَات القِيَامَة:

قَوله تَعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف: 6]، وقَوله تَعالى:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93]، وقَوله تَعالى:(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ)[الصافات: 24]، مَع قَوله تَعالى:(وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)[القصص: 78] وقَوله تَعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)[الرحمن: 39].

‌صورة التعارض:

في الآيَات الأُوَل إثْبَات السُّؤَال يَوْمَ القِيَامَة، وفي الآيَات الأخِيرَة نَفْي السُّؤَال.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "الأعراف": قَوله تَعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) دَلِيل على أنَّ الكُفَّار يُحَاسَبُون، وفي التنْزِيل:(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)[الغاشية: 26]، وفي سورة القصص:(وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)[78]

(1)

، يعني: إذا اسْتَقَرُّوا في العذاب، والآخرة مَواطِن؛ مَوطِن يُسْألون فيه للحساب، ومَوطِن لا يُسألون فيه، وسؤالهم سؤال تقرير وتوبيخ وإفْضَاح، وسُؤال الرُّسُل سؤال استشهاد بهم وإفْصَاح، أي: عن جَواب القوم لهم، وهو معنى قوله:(لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ)[الأحزاب: 8] على ما يأتي.

وقيل: المعنى: فَلَنَسْألنّ الذين أُرْسِلَ إليهم، أي: الأنبياء، ولَنَسْألنّ الْمُرْسَلِين، أي: الْمَلائكَة الذِين أُرسِلُوا إلَيهم

(2)

.

(1)

وقع في طبعة دار الكتاب العربي (يُسأل عن ذنوبهم المجرمون)، وهو خطأ واضح، وقَلْبٌ للمَعْنَى.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 147).

ص: 517

و"قَوله تَعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: لَنَسْألَنّ هَؤلاء الذِين جَرَى ذِكْرُهم عَمَّا عَمِلُوا في الدُّنيا. وفي البخاري

(1)

: وقال عِدَّة مِنْ أهْل العِلْم في قَوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) عَنْ لا إله إلا الله"

(2)

.

وخَلَص إلى القَوْل بِأنَّ "الآيَة بِعُمُومِها تَدُلّ على سُؤَال الْجَمِيع ومُحَاسَبَتِهم كَافِرِهم ومُؤمِنهم إلَّا مَنْ دَخَل الْجَنَّة بِغَيْر حِسَاب".

ثم تَسَاءَل القرطبي فقال:

فإن قِيل: وهَل يُسْأل الكَافِر ويُحَاسَب؟

قُلنا: فِيه خِلاف

والذي يَظْهَر سُؤَاله للآيَة، وقَوله:(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ)، وقَوله:(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)[الغاشية: 25، 26].

فإن قِيل: فَقَد قَال تَعالى: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، وقَال:(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقَال:(وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ)[البقرة: 174]، [آل عمران: 77]، وقَال:(إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)[المطففين: 15].

قُلْنَا: القِيَامَة مَوَاطِن؛ فَمَوطِن يَكُون فِيه سُؤَال وَكَلام، ومَوْطِن لا يَكُون ذَلك فيه.

قال عكرمة: القِيَامَة مَواطن يُسْأل في بَعْضِها، ولا يُسْأل في بَعْضِها.

وقال ابن عباس: لا يَسْألُهم سُؤَال اسْتِخْبَار واسْتِعْلام: هَلْ عَمِلْتُم كَذا وكَذا؟ لأنَّ الله عَالِم بِكُلّ شَيء، ولكن يَسْألُهم سُؤَال تَقْرِيع وتَوْبِيخ، فَيَقُول لهم: لِمَ عَصَيتُم القُرْآن؟ ومَا حُجَّتُكم فِيه؟

وقِيل: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يَعْنِي: الْمُؤمِنِين الْمُكَلَّفِين، بَيانُه قَوله تَعالى:(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر: 8].

(1)

(1/ 18).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 55) بتصرف يسير.

ص: 518

والقَوْل بِالعُمُوم أوْلى كَمَا ذُكِر. والله أعلم"

(1)

.

وذَكَر في آيَة "الأحزاب" أرْبَعَة أقْوَال، فَقَال: قَوله تَعالى: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) فِيه أرْبَعَة أوْجُه:

أحَدها: لِيَسْأل الأنْبياء عن تَبْلِيغِهم الرِّسَالَة إلى قَوْمِهم، حَكاه النقاش، وفي هذا تَنْبِيه، أي: إذا كَان الأنْبياء يُسْأَلُون فَكَيف مَنْ سِوَاهُم؟

الثَّاني: لِيَسْأل الأنْبياء عَمَّا أجَابَهم بِه قَوْمُهم، حَكاه علي بن عيسى.

الثَّالث: لِيَسْأل الأنْبياء عليهم السلام عن الوَفَاء بِالْمِيثَاق الذي أخَذَه عَليهم، حَكاه ابن شجرة.

الرَّابع: لِيَسْأل الأفْوَاه الصَّادِقَة عن القُلُوبِ الْمُخْلِصَة. وفي التَّنْزِيل: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

وقيل: فَائدة سُؤَالِهم تَوْبِيخ الكُفَّار، كَمَا قَال تَعالى:(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)[المائدة: 116]

(2)

.

وفي آيَة "القصص" قَال القرطبي: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، أي: لا يُسْألون سُؤَال اسْتِعْتَاب، كَمَا قَال:(وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)[النحل: 84]، [الروم: 57]، [الجاثية: 35]، (فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 24]، وإنَّمَا يُسْألُون سُؤَال تَقْرِيع وتَوْبِيخ، لِقَولِه:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، قَالَه الحسن. وقَال مجاهد: لا تَسْأل الْمَلائكَة غَدًا عن الْمُجْرِمِين، فإنَّهم يُعْرَفُون بِسيمَاهُم، فإنَّهُم يُحْشَرون سُود الوُجُوه، زُرْق العُيُون. وقال قتادة: لا يُسْأل الْمُجْرِمُون عن ذُنُوبِهم لِظُهُورِها وكَثْرَتِها، بَلْ يَدْخُلُون النَّار بِلا حِسَاب

(3)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 57).

(2)

المرجع السابق (14/ 116).

(3)

وهذا بعيد؛ لِمَا جاء في الكتاب والسنة من تأكيد محاسبتهم، فمن ذلك: إشهاد أعضائهم عليهم، وإقامة الحجج على ما عملوه، وأن من نوقش الحساب عذب، وقد تقدم تخريج الحديث في ذلك. وسيأتي مزيد بيان.

ص: 519

وقِيل: لا يُسْأل مُجْرِمُو هَذه الأمَّة عن ذُنُوب الأُمَم الْخَالِيَة الذِين عُذِّبُوا في الدُّنيا.

وقِيل: أهْلَك مَنْ أهْلَك مِنْ القُرُون عن عِلْم مِنه بِذُنُوبِهم، فَلَم يَحْتَج إلى مَسْألَتِهم عن ذُنُوبِهم

(1)

.

وَيَقُول في تَفْسِير سُورَة "الرحمن": قَوله تَعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، هذا مِثْل قَوله تَعالى:(وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، وأنَّ القِيَامَة مَوَاطِن لِطُول ذَلك اليَوم، فيُسْأل في بَعْض ولا يُسْأل في بَعْض، وهذا قول عكرمة.

وقيل: الْمَعْنَى: لا يُسْألون إذا اسْتَقَرُّوا في النَّار.

وقال الحسن وقتادة: لا يُسْألُون عن ذُنُوبِهم، لأنَّ الله حَفِظَها عَليهم، وكَتَبْتَها عَليهم الْمَلائكَة. رواه العوفي عن ابن عباس.

وعن الحسن ومجاهد أيضًا: الْمَعْنَى: لا تَسْأل الْمَلائكَة عَنهم، لأنَّهم يَعْرِفُونَهم بِسِيمَاهُم، دَلِيلُهم مَا بَعْده

(2)

. وقال مجاهد عن ابن عباس، وعنه أيضًا في قَوله تَعالى:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقَوله:(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقَال: لا يَسْألُهم ليَعْرِف ذلك مِنهم، لأنَّه أعْلَم بِذلك مِنهم، ولَكِنَّه يَسْألُهُم لِمَ عَمِلْتُمُوها؟ سُؤَال تَوْبِيخ.

وقال أبو العالية: لا يُسْأل غَير الْمُجْرِم عن ذَنْب الْمُجْرِم.

وقال قتادة: كَانَتْ الْمَسْألَة قَبْل ثم خُتِم على أفْوَاه القَوم وتَكَلَّمَت الْجَوَارِح شَاهِدَة عليهم.

وفي حَدِيث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه - قال: فَيَلْقَى العَبْد، فَيَقُول: أي قُلْ! ألَم أُكْرِمك وأسَوِّدك وأزَوِّجك، وأُسَخِّر لك الْخَيْل والإِبل، وأذَرَك تَرأس وتَرْبَع؟ فَيَقُول: بَلى. فَيَقُول: أفَظَنَنْتَ أنَّك مُلاقِيّ؟ فَيَقُول: لا، فَيَقُول: إني أنْسَاك كَمَا نَسِيتَنِي، ثم يَلْقَى الثَّاني فَيَقُول لَه مِثْل ذَلك بِعَيْنِه، ثم يَلْقَى الثَّالث فَيَقُول له مِثْل ذَلك، فَيَقُول: يَا رَبّ آمَنْتُ بِك وبِكِتَابِك وبِرَسُولك، وصَلَّيتُ وصُمْتُ

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (13/ 280).

(2)

يَعني قوله تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)[الرحمن: 41].

ص: 520

وتَصَدّقْتُ، ويُثْني بِخَير مَا اسْتَطَاع، فَيَقُول: هَا هُنا إذًا

(1)

، ثم يُقَال لَه: الآن نَبْعَث شَاهِدَنا عَلَيك، فَيفْتَكِر في نَفْسِه: مَنْ هَذا الذي يَشْهَد عَليّ؟ فيُخْتَم على فِيه، ويُقَال لِفَخِذِه ولَحْمِه وعِظَامِه: انْطلِقي، فتَنْطلِق فَخِذُه ولَحْمه وعِظَامُه بِعَمَلِه، وذلك لِيُعْذِر مِنْ نَفْسِه. وذَلك الْمُنَافِق، وذَلك الذِي يَسْخَط الله عَليه

(2)

. وقد مَضَى هَذا الْحَدِيث في حَم السجدة وغيرها

(3)

.

وبيَّن في آيَة "الصافات" أنَّ هَذا يَكُون قَبْل السَّوْق إلى الْجَحِيم، وفِيه تَقْدِيم وتَأخِير، أي: قِفُوهم للحِسَاب، ثم سُوقُوهم إلى النَّار.

وقيل: يُسَاقُون إلى النَّار أوَّلًا ثم يُحْشَرُون للسُّؤَال إذا قُرِّبُوا مِنْ النَّار. (إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) عن أعْمَالِهم وأقْوَالِهم وأفْعَالِهم.

الضحاك: عن خطاياهم. ابن عباس: عن لا إله إلا الله. وعنه أيضًا: عن ظُلْم الْخَلْق.

وفي هذا كُلّه دَلِيل على أنَّ الكَافِر يُحَاسَب. وقد مَضَى في "الْحِجْر" الكَلام فيه.

وقِيل: سُؤَالُهم أن يُقَال لَهم: ألَم يَأتِكُم رُسُل مِنْكُم إقَامَة للحُجَّة؟

(4)

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

في الآيَات دَلِيل على مُحَاسَبَة الكُفَّار.

2 -

أنَّهم يُسْألُون في مَوَاطِن مِنْ مَوَاطِن يَوْم القِيَامَة، ولا يُسْألُون في مَوَاطِن أُخْرَى

(1)

في صحيح مسلم [فيَقول: هاهنا إذًا]. قال النووي (المنهاج 18/ 104) معناه: قف هاهنا حتى يشهد عليك جوارحك إذ قد صِرْت مُنْكِرًا.

(2)

رواه مسلم، وقد تقدّم تخريجه في الفصل الأول، وقد أورده أيضًا في تفسير سورة الأنعام.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (17/ 151).

(4)

المرجع السابق (15/ 67).

ص: 521

3 -

سُؤَال الكُفَّار وأهْل الإجْرَام سُؤَال تَقْرِير وتَوْبِيخ وإفْضَاح، وسُؤَال الرُّسُل سُؤَال اسْتِشْهَاد بِهم وإفْصَاح.

4 -

آيَة "الحجر" تَدُلّ على سُؤَال الْجَمِيع ومُحَاسَبَتِهم كَافِرِهم ومُؤمِنِهم إلَّا مَنْ دَخَل الْجَنَّة بِغَيْر حِسَاب.

5 -

لا يُسْألُون سُؤَال اسْتِخْبَار واسْتِعْلام، ولَكِن يُسْألُون سُؤَال تَقْرِيع وتَوْبِيخ.

6 -

السُّؤَال كَان قَبْل الْخَتْم على الأفْوَاه، أمَّا إذا خُتِم على الأفْوَاه فلا يَنطِقُون.

7 -

لا يُسْأل غَيْر الْمُجْرِم عن ذَنْب الْمُجْرِم، وإنَّمَا يُسْأل الْمُجْرِم عن ذَنْبِ نَفْسِه وقد جَمَع القرطبي الآيَات الْمُتَعَلِّقَة بِالسُّؤَال نَفْيًا وإثْبَاتًا، وجَمَع بَيْن الآيَات في سِتَّة مَوَاضِع أحَال في بَعْضِها على بَعْض.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

اقْتَصَر ابنُ جَرير في تَفْسِير آيَة الأعراف على ذِكْر الْمَعْنَى الإجْمَالي، حَيث قَال: يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: لَنَسْأَلَنَّ الأُمَم الذِين أَرْسَلْتُ إلَيهم رُسُلِي، مَاذا عَمِلَتْ فِيمَا جَاءتْهُم بِه الرُّسُل مِنْ عِنْدِي مِنْ أمْرِي ونَهْيي؟ هَلْ عَمِلُوا بِمَا أمَرْتُهم بِه، وانْتَهوا عَمَّا نَهَيْتُهم عَنه، وأطَاعُوا أمْري، أم عَصَوني فَخَالَفُوا ذَلك؟ (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) يَقُول: ولَنَسْألنّ الرُّسُل الذِين أَرْسَلْتُهم إلى الأُمَم، هَلْ بَلَّغَتْهم رَسَالاتِي، وأدَّتْ إلَيهم مَا أمَرْتُهم بِأدَائه إليهم، أمْ قَصَّرُوا في ذلك فَفَرَّطُوا ولَم يُبَلِّغُوهم؟

(1)

ثم أوْرَد سُؤَالًا في الآيَة التي تَلِيها، وهِي قَوله تَعالى:(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)[الأعراف: 7]، وهو إنْ "قَال قَائل: وكَيف يَسْأل الرُّسُل والْمُرْسَل إلَيهم، وهو يُخْبِر أنه يَقُصّ عَليم بِعِلْم بأعْمَالِهم وأفْعَالِهم في ذَلك؟

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 64).

ص: 522

قِيل: إنَّ ذَلك مِنه تَعالى ذِكْرُه لَيْس بِمَسْألَة اسْتِرْشَاد، ولا مَسْألَة تَعَرُّف مَنهم مَا هو بِه غَير عَالِم، وإنَّمَا هو مَسْألَة تَوْبِيخ وتَقْرِير مَعْنَاها الْخَبَر، فَمَسْألَة الله الْمُرْسَلَ إلَيهم بِأن يَقُول لَهم: ألَم يَأتِكُم رُسُلي بِالبَيِّنَات؟ ألَم أبْعَث إلَيكم النُّذُر فَتُنْذِرَكم عَذَابي وعِقَابي في هَذا اليَوْم مَنْ كَفَر بِي وعَبَد غَيْرِي؟

وأمَّا مَسْألَة الرُّسُل الذِي هو قَصَص وخَبَر، فإنَّ الأُمَم الْمُشْرِكَة لَمَّا سُئلَتْ في القِيَامَة قِيل لَها:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ)[الزمر: 71] أنْكَر ذلك كَثير مِنهم وقَالُوا: مَا جَاءنا مِنْ بَشِير ولا نَذِير. فَقِيل للرُّسُل: هل بَلّغْتُم مَا أُرْسِلْتم بِه؟ أوْ قِيل لَهم: ألَم تُبَلِّغُوا إلى هَؤلاء مَا أرْسِلْتُم بِه؟ فَمَسْألَة الله للرُّسُل على وَجْه الاسْتِشْهَاد لَهم على مَنْ أُرْسِلُوا إليه مِنْ الأُمَم، وللمُرْسَل إلَيهم على وَجْه التَّقْرِير والتَّوْبِيخ، وكُلّ ذلك بمَعْنَى القَصَص والْخَبَر.

فأما الذي هو عن الله مَنْفِي مِنْ مَسْألَتِه خَلْقِه، فَالْمَسْألَة التي هي مَسْألة اسْتِرْشَاد واسْتِثْبَات فِيمَالا يَعْلَمه السَّائل عنها ويَعْلَمه الْمَسْئول، لِيَعْلَم السَّائل عِلْم ذَلك مِنْ قِبَلِه، فَذلك غَير جَائز أن يُوصَف الله به؛ لأنَّه العَالِم بِالأشْيَاء قَبْل كَوْنِها، وفي حَال كَوْنِها، وبَعْد كَوْنِها، وهي الْمَسْألَة التي نَفَاها جَلَّ ثَنَاؤه عَنْ نَفْسِه بِقَولِه:(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وبِقَولِه:(وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) يَعْنِي: لا يَسْأل عن ذَلك أحَدًا مِنْهم عِلْمَ مُسْتَثْبِت، لِيَعْلَم عِلْم ذلك مِنْ قِبَل سَأل مِنه؛ لأنَّه العَالِم بِذَلك كُلّه، وبِكُلّ شَيء غَيره"

(1)

.

ويَرى ابن جرير أنَّ آيَة "الحجر" خَاصَّة بِالسُّؤَال عن التَّوحِيد، فَيَقُول: يَقُول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: فَوَرَبِّك يَا محمد لَنَسْألَنّ هَؤلاء - الذِين جَعَلُوا القُرْآن في الدُّنيا عِضِين - في الآخِرَة عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون في الدُّنيا فِيمَا أمَرْنَاهُم بِه،

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 65، 66) باختصار وتصرّف.

ص: 523

وفِيمَا بَعَثْنَاك بِه إلَيهم مِنْ آي كِتَابِي الذِي أنْزَلْتُه إليهم، وفِيمَا دَعوْنَاهم إليه مِنْ الإقْرَار بِه، ومِن تَوْحِيدِي والبَرَاءة مِنْ الأنْدَاد والأوْثَان

(1)

.

وفي آيَة "الصَّافات" يَرَى ابنُ جَرير أنَّ مَعْنَى قَولَه تَعَالى: (وَقِفُوُهُمْ): "احْبِسُوهم، أي: احْبِسُوا أيُّها الْمَلائكَةَ هَؤلاء الْمُشْرِكِين الذِين ظَلَمُوا أنْفُسَهم وأزْوَاجَهم، ومَا كَانُوا يَعْبُدُون مِنْ دُون الله مِنْ الآلِهَة، (إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) "

(2)

.

ثم ذَكَر اخْتِلاف أهْل التَّأويل في الْمَعْنَى الذي يَأمُر اللهُ تَعالى ذِكْرُه بِوَقْفِهم لِمَسْألَتِهم عَنه

(3)

.

وذَكَر في آيَة "القصص" ثَلاثَة أقْوَال صَدَّرَها بِصِيغَة تَمْرِيض، فَقَال: وقَوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قِيل: إنَّ مَعْنَى ذَلك: أنَّهم يَدْخُلُون النَّار بِغَير حِسَاب

(4)

.

وقِيل: مَعْنَى ذَلك: أنَّ الْمَلائكَة لا تَسْأل عَنْهم؛ لأنَّهم يَعْرِفُونَهم بِسِيمَاهُم.

وقِيل: مَعْنَى ذَلك: ولا يُسْأل عن ذُنُوب هَؤلاء الذين أهْلَكَهم الله مِنْ الأُمَم الْمَاضِيَة، الْمُجْرِمُون: فِيمَ أُهْلِكُوا؟

(5)

وبِنحو ذَلك قَال في تَفسير سورة "الرحمن"، حَيث قَال: يَقُول تَعالى ذِكْرُه: فَيَومَئذٍ لا يَسْأل الْمَلائكةُ الْمُجْرِمِين عن ذُنُوبِهم؛ لأنَّ الله قد حَفِظَها عليهم، ولا يَسْألُ بَعضَهم عن ذُنُوب بَعْض رَبُّهُمْ

(6)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 139).

(2)

المرجع السابق (22/ 195).

(3)

انظر: المرجع السابق، الموضوع السابق.

(4)

سبق تعقّب هذا القول.

(5)

المرجع السابق (18/ 326، 327) باختصار.

(6)

المرجع السابق (22/ 229).

ص: 524

كَمَا يَرَى أنَّ قَوله تَعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) "مِثْل قَوله تَعالى: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، ومِثل قَوله لِمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم:(وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)[البقرة: 119]

(1)

.

أمَّا ابن كَثير فيَرَى أنَّ قَوله تَعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) كَقَوْلِه: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 65]، وقَوْله:(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[المائدة: 109]، فَيَسْأل اللهُ الأُمَم يَوْم القِيَامَة عَمَّا أجَابُوا رُسُلَه فِيمَا أرْسَلَهم بِه، ويَسْأل الرُّسُل أيضًا عن إبْلاغ رِسَالاتِه، ولِهَذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تَفْسِير هَذه الآيَة:(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) قال: عَمّا بَلَّغُوا"

(2)

.

ثم اسْتَدَلّ على ذَلك بِمَا رَوَاه ابن مَردويه عن ابن عمر قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُلُّكم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسْؤول عن رَعِيَّتِه؛ فَالإمَام يُسْأل عَنْ رَعِيَّتِه، والرَّجُل يُسْأل عن أهْلِه، والْمَرْأة تُسْأل عن بَيْت زَوْجِها، والعَبْد يُسْأل عن مَالِ سَيِّدِه.

قال الليث: وحدثني ابن طاوس مِثْله، ثم قَرَأ:(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ). وهذا الْحَدِيث مُخَرَّج في الصَّحِيحَين بِدُون هَذه الزِّيَادَة

(3)

.

وفي آية "الْحِجْر" ذَكَر ابنُ كثير سَبَب نُزُول الآيَة، ثم أوْرَد رِوَايَات تَنُصّ على أنَّ السُّؤَال عن كَلِمَة التَّوحِيد، وأوْرَد مَا رَوَاه الترمذي

(4)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (22/ 230).

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 259).

(3)

المرجع السابق (6/ 259، 260) باختصار يسير.

(4)

المرجع السابق (8/ 280 - 282)، وحديث الترمذي سبق تخريجه، وهو ضعيف.

ص: 525

واختَصَر القَوْل في آيَة "الصافات"، حَيث يَقُول فِيهَا: أي: قِفُوهُم حَتى يُسْألُوا عن أعْمَالِهم وأقْوَالِهم التي صَدَرَتْ عنهم في الدَّار الدُّنيا، كَمَا قال الضَّحاك عن ابن عَباس: يَعْنِي: احْبِسُوهم إنَّهم مُحَاسَبُون

(1)

.

كما اقْتَصَر في آيَة "القَصص" على قَوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ): أي: لِكَثْرَة ذُنُوبِهم

(2)

.

وأشَار إلى كَوْن السُّؤَال في حَال دُون حَال، وذَلك في تَفْسير سُورَة "الرحمن"، إذ يَقُول: وقَوله تَعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) وهَذه كَقَولِه تَعالى: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35، 36]، فَهذا في حَال، وثَمّ حَال يُسْأل الْخَلائق عن جَمِيع أعْمَالِهم، قَال الله تعالى:(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ولِهذا قَال قَتادة: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ): قد كَانَتْ مَسْألَة ثُم خُتِم على أفْوَاه القَوْم، وتَكَلَّمَتْ أيدِيهِم وأرْجُلِهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا يَسْألُهم: هَلْ عَمِلْتُم كذا وكذا؟ لأنه أعْلَم بِذلك مِنهم، ولَكِن يَقُول: لِمَ عَمِلْتُم كَذا وكَذا؟ فَهَذا قَول ثَانٍ.

وقال مجاهد في هَذه الآيَة: لا تَسْأل الْمَلائكَة عن الْمُجْرِمِين، بل يُعْرَفُون بِسِيمَاهم وهَذا قَوْل ثَالِث، وكَأن هَذا بَعْد مَا يُؤمَر بِهم إلى النَّار، فَذلك الوَقْت لا يُسْألُون عن ذُنُوبِهم، بل يُقَادُون إلَيها ويُلْقَون فِيها

(3)

.

‌رأي الباحث:

الْجَمْع بين الآيَات مِنْ ثَلاثة أوْجُه:

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (12/ 11).

(2)

المرجع السابق (10/ 484).

(3)

المرجع السابق (13/ 326، 327).

ص: 526

الأوَّل: أنَّ القِيَامَة مَوَاطِن لِطُول ذَلك اليَوم، فيُسْأل في بَعْضِها، ولا يُسْأل في بَعْضِها.

الثَّاني: أنَّ السُّؤَال قَبْل الْخَتْم على الْجَوَارِح، كَمَا جَاءت بِذلك الأحَادِيث.

الثَّالث: احْتِمَال أن يُرَاد بـ (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سُؤَال تَقْرِير تَلِيه الْمَغْفِرة؛ لأنَّ ذَلك مِنْ شَأن الْمُؤمِن، كَمَا جَاءت بِذَلك الأحَادِيث.

روى البخاري

(1)

ومسلم

(2)

من طريق صَفوان بن محرز المازني قال: بَيْنَمَا أنا أمْشِي مَع ابن عمر رضي الله عنهما آخِذ بِيَدِه إذْ عَرَض رَجُل فَقَال: كَيف سَمِعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجْوى؟ فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: إنَّ الله يُدْنِي الْمُؤمِن فَيضَع عَليه كَنَفَه ويَسْتُرُه فَيَقُول: أتَعْرِف ذَنْب كَذا؟ أتَعْرِف ذَنْب كَذا؟ فَيَقُول: نَعم، أيْ رَبّ، حَتى إذا قَرَّرَه بِذُنُوبِه ورَأى في نَفْسِه أنَّه هَلَك قَال: سَتَرْتُها عَليك في الدُّنيا وأنَا أغْفِرُها لَك اليَوْم، فيُعْطَى كِتَاب حَسَنَاتِه، وأمَّا الكَافِر والْمُنَافِق فَيَقُول الأشْهَاد: هَؤلاء الذِين كَذَبُوا على رَبِّهم ألَا لَعْنَة الله على الظَّالِمِين.

ورَوى مسلم

(3)

مِنْ حَدِيث أبي ذَرّ رضي الله عنه قَال: قَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعْلم آخِر أهْل الْجَنَّة دُخُولًا الْجَنَّة، وآخِر أهْل النَّار خُرُوجًا مِنها؛ رَجُل يُؤتَى بِه يَوْم القِيَامَة فَيُقَال: اعْرِضُوا عَليه صِغَار ذُنُوبِه وارْفَعُوا عَنه كِبَارَهَا، فتُعْرَض عليه صِغَار ذُنُوبِه فَيُقَال: نَعَم، لا يَسْتَطِيع أن يُنْكِر، وهو مُشْفِق مِنْ كِبَار ذُنُوبِه أنْ تُعْرَض عَليه، فَيُقَال لَه: فإنَّ لك مَكَان كُلّ سَيِّئَة حَسَنَة، فَيَقُول: رَبّ قد عَمِلْتُ أشْيَاء لا أَرَاهَا هَهنا! فَلَقَد رَأيتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِك حَتى بَدَتْ نَواجِذُه.

(1)

(ح 2309).

(2)

(ح 2768).

(3)

(ح 190)، ويُنظر حديث جابر في ورود الناس يوم القيامة. صحيح مسلم (ح 191).

ص: 527

فَهذا السُّؤَال عن الذُّنُوب سُؤَال يَتْبَعه مَغْفِرة، وهَذا السُّؤَال والْحَال مَنْفِيّ عن الكُفَّار وعن الْمُجْرِمِين.

وهذا مُحْتَمَل أنَّه سُؤَال عَرْض، وهو الْمُرَاد بِقولِه تَعالى:(فَسَوْفَ يُحَاسِبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الانشقاق: 8]، وقد سُئل عنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّمَا ذَلِك العَرْض، ولكِن مَنْ نُوقِش الْحِسَاب يَهْلك

(1)

.

ورَجَّح الشنقيطي "أنَّ السُّؤَال قِسْمَان: سُؤَال تَوْبِيخ وتَقْرِيع، وأداته غالبًا (لِمَ)، وسؤال اسْتِخْبَار واسْتِعْلام، وأدَاته غَالِبًا (هَلْ)؛ فَالْمُثْبَت هو سُؤال التوبيخ والتَّقْرِيع، والْمَنْفِي هو سؤال الاسْتِخْبَار والاسْتِعلام"

(2)

.

ومَا عَدَا هَذِه الوُجُوه الثَّلاثَة رَاجِع إليها.

وأمَّا تَخْصِيص السُّؤَال بِالتَّوْحِيد دُون مَا عَدَاه فهو مُتَعَقِّب بِالسُّؤَال عن غَيْره مِنْ الأعْمَال، إلَّا أن يُرَاد أنَّ التَّوْحِيد أصْل الأُصُول، أو أنَّه القَدْر الْمُتَّفَق عليه.

قال النووي: في الآيَة وَجْه آخَر - وهو الْمُخْتَار - والْمَعْنَى: لَنَسْألَنَّهم عن أعْمَالِهم كُلّها التي يَتَعَلَّق بِها التَّكْلِيف، وقَوْل مَنْ خَصّ بِلَفْظ التَّوْحِيد دَعْوى تَخْصِيص بِلا دَلِيل، فلا تُقْبَل. ثم رَوى حَدِيث التِّرْمِذي

(3)

وضَعَّفَه

(4)

.

وقَال بَعْضُهم: لِتَخْصِيصِهم وَجْه مِنْ جِهَة التَّعْمِيم في قَولِه: (أَجْمَعِينَ)، فَيَدْخُل فيه الْمُسْلِم والكَافِر، فإنَّ الكَافِر مُخَاطَب بِالتَّوْحِيد بِلا خِلاف، بِخِلاف بَاقِي الأعْمَال

(1)

رواه البخاري ومسلم. وسبق تخريجه.

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق ص (92).

(3)

قال العيني في العمدة (1/ 185): وأخرج الترمذي مرفوعًا عن أنس: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: عن لا إله إلا الله، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف لا يحتج به. اهـ.

ورواه ابن جرير (14/ 139، 140) من طريق ليث أيضًا؛ رواه مرة مرفوعًا وأخرى موقوفًا، وثالثة مقطوعًا.

(4)

نقله العيني في "عمدة القاري"(1/ 185).

ص: 528

فَفِيهَا الْخِلاف

(1)

، فَمن قَال: إنَّهم مُخَاطَبُون، يَقُول: إنَّهم مَسْؤولُون عن الأعْمَال كُلّها، ومَن قَال: إنّهم غَير مُخَاطَبِين، يَقُول: إنَّمَا يُسْألُون عن التَّوْحِيد فَقط؛ فَالسُّؤَال عن التَّوحِيد مُتَّفَق عَليه، فَحَمْل الآيَة عليه أَوْلى بِخِلاف الْحَمْل على جَمِيع الأعْمَال لِمَا فِيها مِنْ الاخْتِلاف.

قال العيني: قُلْتُ: هَذا القَائل قَصَد بِكَلامِه الرَّدّ على النووي، ولكنه تَاهَ في كَلامِه! فإنَّ النووي لم يَقُل بِنَفْي التَّخْصِيص لِعَدَم التَّعْمِيم في الكَلام، وإنَّمَا قال: دَعْوى التَّخْصِيص بِلا دَلِيل خَارِجِيّ لا تُقْبَل. والأمْر كذلك، فإنَّ الكَلام عَام في السُّؤَال عن التَّوْحِيد وغَيره، ثم دَعْوَى التَّخْصِيص بِالتَّوْحِيد يَحْتَاج إلى دَلِيل مِنْ خَارِج، فإن اسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيث الْمَذْكُور فَقَد أجَاب عَنه بِأنّه ضَعِيف، وهَذا القَائل فَهِم أيْضًا أن النِّزَاع في أنَّ التَّخْصِيص والتَّعْمِيم هُنا إنَّمَا هُو مِنْ جِهَة التَّعْمِيم في قَوله:(أَجْمَعِينَ)، ولَيس كَذلك، وإنَّمَا هُو في قَولِه:(عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فإنَّ العَمَل هُنا أعَمّ مِنْ أن يَكُون تَوْحِيدًا أوْ غيره، وتَخْصِيصه بِالتَّوْحِيد تَحَكُّم

(2)

.

(1)

وهي مسألة أصولية مشهورة معروفة بمخاطبة الكفار بفروع الشريعة، أو: هل الكُفّار مُخاطَبُون بِفروع الشريعة؟ يُنظر لذلك: شرح مختصر الروضة، الطوفي (1/ 2059 وما بعدها)، وشرح الكوكب المنير، ابن النجار (1/ 500 وما بعدها).

(2)

عُمدة القاري، مرجع سابق (1/ 185).

ص: 529

‌المطلب الثاني: الجمع بين الآيات والاكتفاء بالإشارة إلى معنى الآية المقابلة

في مُقابِل الْمَطْلب الأوَّل - وهو إيرَاد الآيَة ومَا يُقَابِلُها بِالنَّصّ عَليها - هُناك طَرِيقَة أُخْرَى، وهي الاكْتِفَاء بالإشَارَة إلى مَعْنَى الآيَة الْمُقَابِلَة.

وسَأكْتَفِي أيضًا بِأنْمُوذَجَين، وسَأقْتَصِر في الْمُقَارَنَة على مِثَالَين، اكْتِفَاء بِمَا سَبق.

ف‌

‌المثال الأول:

الأَمْر بِالفِسْق:

قَوله تَعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)[الأعراف: 28]، مَع قَوله تَعالى:(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16].

‌صورة التعارض:

يُفهَم مِنْ ظَاهِر آيَة "الإسراء" أنَّ الله يأْمر مُتْرَفِي القُرَى - الْمُرَاد إهْلاكُها - بالفِسْق، بَيْنَما في آيَة "الأعراف" نَفْي الأمْر بالفَحْشَاء، ويَدْخُل فِيه الفِسْق.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "الأعراف" مَا نَصّه: الفَاحِشَة هُنا - في قَوْل أكْثَر الْمُفَسِّرِين - طَوَافُهم بِالبَيْتِ عُرَاة.

وقال الْحَسَن: هي الشِّرْك والكُفْر. واحْتَجُّوا على ذلك بِتَقْلِيدِهم أسْلافَهم، وبِأنَّ الله أمَرَهم بِهَا.

وقال الْحَسَن: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) قَالُوا: لَو كَرِه الله مَا نَحْن عَليه لَنَقَلَنَا عَنه.

ص: 530

(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) بَيَّن أنهم مُتَحَكِّمُون ولا دَلِيل لهم على أنَّ الله أمَرَهم بِمَا ادَّعَوا. وقد مَضَى ذَمّ التَّقْلِيد، وذَمّ كَثِير مِنْ جَهَالاتِهم، وهَذا مِنها

(1)

.

بَيْنَمَا قَال في آيَة "الإسراء": قَوله تَعالى: (أمَرْنَا) قَرأ أبو عثمان النَّهْدِي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن: (أمَّرْنا) بالتَّشْدِيد، وهي قِرَاءة عَلي رضي الله عنه. أي: سَلَّطْنَا شِرَارَها فَعَصَوا فِيها، فإذا فَعَلُوا ذلك أهْلَكْنَاهم، وقال أبو عثمان النهدي: أمَّرْنا - بِتَشْدِيد الميم - جَعَلْناهم أُمَراء مُسَلَّطِين

(2)

.

وتَأمَّر عَليهم: تَسَلَّط عَليهم.

وقرأ الحسن أيضًا وقتادة وأبو حيوة بالشامي ويعقوب

(3)

وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس - باختلاف عنهما - (آمَرنا) بالمد والتخفيف، أي: أكْثَرنا جَبَابِرَتها وأُمَرَاءها، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمَرْته بِالْمَدّ وأمَرْته لُغَتَان بِمَعْنَى: كَثَّرته.

وفي الصحاح: وقال أبو الحسن: أَمِر مَالُه - بالكَسْر -، أي: كَثُر، وأمِر القوم أي: كَثُروا.

قال ابن مسعود: كُنَّا نَقُول في الْجَاهِلية للحَيِّ إذا كَثُروا: أمِر أمْر بَنِي فُلان.

قلت: وفي حَدِيث هِرَقل - الْحَدِيث الصَّحِيح - لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة، إنه لَيَخافه مَلك بَني الأصْفر

(4)

. أي: كَثُر. وكُلّه غير مُتَعَدّ. ولذلك أنْكَرَه الكسائي.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، المرجع السابق (7/ 166).

(2)

قول أبي عُثمان هذا ليس معناه قراءة أُخْرى، وإنما حكى معنى آخر في:(أمَّرْنا).

(3)

في "الحجة في القراءات السبع" ابن خالويه ص (214): قوله تعالى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) يُقرأ بالتشديد والتخفيف؛ فالحجة لمن شدد أنه أراد به الإمارة والولاية منها، والحجة لمن خفف أنه أراد أمرناهم بالطاعة فخالفوا إلى العصيان، وأما قول العرب:"أمر بنو فلان" فمعناه كثروا، والله آمرهم، أي: كثرهم وبارك فيهم وفي "المبسوط في القراءات العشر"، الأصبهاني (ص 288): قرأ يعقوب (وإذا أرَدْنَا أن نُهلِكَ قَرْيَةً آَامَرْنَا مُتْرَفِيهَا) ممدودة، مثل قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق وغيرهم، وقرأ الباقون (أمَرْنا) غير ممدودة، الميم خفيفة في القراءتين.

(4)

مخرج في الصحيحين: البخاري (ح 7)، ومسلم (ح 1773) والقائل هو أبو سُفيان.

ص: 531

قال المهدوي: ومَن قَرأ (أمِر) فهي لُغة، ووَجْه تَعْدِيَة أمرِ أنه شَبّهه بِعَمِر

(1)

من حَيث كَانت الكَثْرة أقْرَب شَيء إلى العمَارة، فَعَدّى كَما عَدى عَمِر.

البَاقُون

(2)

: (أمَرْنا) مِنْ الأمْر، أي: أمَرْناهم بالطَّاعة إعْذَارًا وإنْذَارًا وتَخْويفًا ووَعِيدًا (فَفَسَقُوا) أي: فَخَرَجُوا عن الطَّاعَة عَاصِين لَنا (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) فَوَجب عَليها الوَعِيد. عن ابن عباس.

وقيل: أمَرنا: جَعلناهم أمَرَاء؛ لأنَّ العرب تقول: أمِير غير مَأمُور، أي: غير مُؤمَّر.

وقيل: مَعْنَاه: بَعَثْنا مُسْتَكْبِرِيها، قال هارون: في قِراءة أُبَيّ: (بَعَثْنَا أكَابِر مُجْرِمِيها فَفَسَقُوا)

(3)

ذَكَرَه الماوَرْدِي.

ويَجُوز أن يَكُون (أمَرنا) بِمَعْنى أكْثَرْنا .... وعلى هذا لا يُقَال: أمَرَهم الله بِمَعْنَى كَثَّرَهم، بل يُقالُ: آمَره وأمِره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة، قال أبو عبيد: وإنَّما اخْتَرْنا (أَمَرْنَا) لأنَّ الْمَعَاني الثَّلاثة تَجْتَمِع فيها مِنْ الأمْر والإمَارة والكَثْرة.

والْمُتْرَف الْمُنعَّم. وخُصُّوا بِالأمْر لأنَّ غيرهم تَبَع لهم

(4)

.

فلم يُشِر القرطبي في تفسِير آيَة "الأعراف" إلى نَفْي الأمر الْمُثْبَت في آيَة "الإسراء"، اكْتِفَاءً بِمَا بيَّنَه في مَعْنَى الأمْر في آية "الإسراء".

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أمَّرنا بِمَعْنى: سَلَّطْنَا شِرَارَها فَعَصَوا فِيها، فإذا فَعَلُوا ذلك أهْلَكْنَاهُم.

(1)

في اللسان (4/ 602): عمر الرجل يعمر عمرًا وعمارة وعمرًا، وعمر يعمر ويعمِر - الأخيرة عن سيبويه - كلاهما: عاش وبقي زمانًا طويلًا.

(2)

أي: وقرأ الباقون.

(3)

وهي قراءة تفسيرية.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 204، 205) باختصار.

ص: 532

2 -

أمَّرنا بِمَعْنَى: جَعَلْناهم أُمَرَاء مُسَلَّطِين.

3 -

أكْثَرْنا جَبَابِرَتها وأُمَرَاءها، وهذا دَاعٍ إلى الظُّلْم الذي تَزُول به الأُمَم.

3 -

أمَرْنا: أي: أمَرْناهم بِالطَّاعَة، فَخَرَجُوا عن الطَّاعَة عَاصِين لَنا، فَوَجب عليها الوَعِيد.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

رَوى ابنُ جرير بإسْنَادِه إلى مُجَاهِد قَوله في تَفسير آية الأعراف: كَانُوا يَطُوفُون بِالبَيْت عُرَاة، يَقُولُون: نَطُوف كَمَا وَلَدَتْنا أُمّهاتُنا

(1)

.

ورَوى نحوه عن سعيد بن جبير وعن الشعبي.

ورَوى عن ابن عباس قوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) قال: طَوَافُهم بِالبَيت عُرَاة

(2)

.

"فَتَأويل أوْلِياء - قَبِيحًا مِنْ الفِعْل - وهو الفَاحِشَة، وذلك تَعَرِّيهم للطَّوَاف بِالبَيْت، وتَجَرّدُهم له - فَعُذِلُوا على مَا أتَوا مِنْ قَبِيح فِعْلِهم، وعُوتِبُوا عَليه، قَالُوا: وَجَدْنا على مِثْل مَا نَفْعَل

(3)

آبَاءَنا، فَنَحْن نَفْعَل مِثْل مَا كَانُوا يَفْعَلُون، ونَقْتَدِي بِهَدْيِهم، ونَسْتَنّ بِسُنَّتِهم، والله أمَرَنا بِه، فَنَحْن نَتَّبِع أمْرَه فِيه.

يَقُول الله جَلّ ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا محمد لَهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) يَقُول: لا يَأمُر خَلْقَه بِقَبَائح الأفْعَال ومَسَاوِيها، (أَتَقُولُونَ) أيُّها النَّاس (عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يَقُول: أتَرْوُون على الله أنه أمَرَكُم بالتَّعَرِّي والتَّجَرُّد مِنْ الثِّيَاب واللبَاس للطَّوَاف، وأنتم لا تَعْلَمُون أنه أمَرَكُم بِذلك؟ "

(4)

(1)

وسبب آخر ذكره الزمخشري الكشاف (ص 361): قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنينا فيها. وقيل: تفاؤلًا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. اهـ. وسيأتي عند ابن كثير نحوه.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 137، 138) باختصار.

(3)

هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: تفعل بالتاء.

(4)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 138، 139).

ص: 533

وفي آيَة "الإسراء" ذَكَر ابن جرير اخْتِلاف القُرَّاء "في قِرَاءة قَوله: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) فَقَرَأت ذلك عَامَّة قُرَّاء الْحِجَاز والعِرَاق: (أَمَرْنَا) بِقَصْر الألف وغَير مَدِّها وتَخْفِيف الْمِيم وفَتْحِها".

ثم ذَكَر ابن جرير توجيه القِرَاءة على هَذا الوَجْه بِقَولِه: "وإذا قُرئ ذلك كَذلك، فإنَّ الأغْلَب مِنْ تَأوِيلِه: أمَرْنا مُتْرَفِيها بالطَّاعَة فَفَسَقُوا فيها بِمُعْصِيَتِهم الله، وخِلافِهم أمْرَه، كَذلك تأوَّله كَثِير مِمَّنْ قَرَأه كَذلك"

(1)

.

"وقد يَحْتَمِل أيضًا إذا قُرِئ كَذلك أن يَكُون مَعْنَاه: جَعَلْنَاهم أمَرَاء فَفَسَقُوا فيها؛ لأنَّ العَرَب تَقُول: هو أمِير غَير مَأمُور.

وقد كَان بَعْض أهْل العِلْم بِكَلام العَرَب مِنْ أهْل البَصْرَة يَقُول: قد يَتَوَجَّه مَعْنَاه إذا قُرئ كذلك إلى مَعْنَى أكْثَرْنا مُتْرَفِيها.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب مِنْ الكوفيين يُنْكِر ذلك مِنْ قِيله، ولا يُجيز (أمِرْنا) بمعنى أكْثَرْنا إلَّا بِمَدّ الألِف مِنْ (آمَرْنا)

وقرأ ذلك أبو عثمان

(2)

(أمَّرْنا) بِتَشْدِيد الْمِيم، بِمَعْنى الإمَارَة "

(3)

.

واخْتَار ابن جرير أنَّ "أَوْلى القِرَاآت في ذلك بِالصَّوَاب قِرَاءَة مَنْ قَرأ (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بِقَصْر الألِف مِنْ (أَمَرْنَا) وتَخْفِيف الْمِيم منها؛ لإجْمَاع الْحُجَّة مِنْ القَرَأة على تَصْوِيبِها دُون غَيرها"

(4)

.

وإذا كَان ذَلك هو الأَوْلى بِالصَّوَاب بالقِرَاءة فأوْلى التَّأوِيلات بِه تَأوِيل مَنْ تأوَّله: أمَرْنا أهْلها بِالطَّاعة فَعَصَوا وفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عليهم القَول؛ لأنَّ الأغْلَب مِنْ مَعْنَى (أَمَرْنَا) الأمْر الذي هو خِلاف النَّهي دُون غيره، وتَوجِيه مَعَاني كَلام الله جَل ثَناؤه إلى الأشْهَر الأعْرَف مِنْ مَعَانِيه أَوْلى مَا وُجِد إليه سَبِيل مِنْ غَيره.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 527).

(2)

هو النهدي، كما رواه عنه ابن جرير بعد ذلك، وسبق النقل عن ابن خالويه في قراءة التخفيف والتشديد.

(3)

المرجع السابق (14/ 528) باختصار.

(4)

قال ابن مجاهد في "السبعة في القراءات (ص 379): لم يختلفوا في قوله: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أنها خفيفة الميم قصيرة الألف إلا ما روى خارجة عن نافع "ءامَرنا" ممدودة مثل "ءامنا".

ص: 534

ومَعْنَى قَوله: (فَفَسَقُوا فِيهَا): فَخَالَفُوا أمْرَ الله فِيها، وخَرَجُوا عن طَاعَتِه. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) يَقُول: فَوَجَب عليهم بِمَعْصِيَتِهم الله وفُسُوقِهم فِيها وَعِيد الله الذي أوْعَد مَنْ كَفَر بِه وخَالف رُسُلَه مِنْ الهلاك بَعد الإعْذَار والإنْذار بالرُّسُل والْحُجَج

(1)

.

وأوْرَد ابن كثير مَا رَواه ابن جرير مِنْ قَول مجاهد في سَبَب نُزُول الآيَة، ثم قال: كَانت العَرَب مَا عَدا قُرَيشًا لا يَطُوفُون بِالبَيْت في ثِيَابِهم التي لَبِسُوها، يَتأوَّلُون في ذلك أنّهم لا يَطُوفُون في ثِيَاب عَصَوا الله فِيها، وكَانت قُرَيش - وهم الْحُمْس

(2)

- يَطُوفُون في ثِيَابِهم، ومَن أعَارَه أحْمُسِي ثَوبًا طَاف فِيه، ومَن مَعه ثَوْب جَدِيد طَاف فِيه، ثم يُلْقِيه فلا يَتَمَلَّكُه أحَد، ومَن لم يَجِد ثَوْبًا جَدِيدًا ولا أعَارَه أحْمُسِي ثَوْبًا طَاف عُرْيَانا، ورُبَّمَا كَانت امْرَأة فَتَطُوف عُرْيَانة فَتَجْعَل على فَرْجِها شَيئًا لِيَسْتُرَه بَعْض السِّتْر

وأكْثَر مَا كان النِّسَاء يَطُفْن عُرَاة بِالليل، وكَان هَذا شَيئًا قَدْ ابْتَدَعُوه مِنْ تِلْقَاء أنْفُسِهم، واتَّبَعوا فيه آبَاءهم، ويَعْتَقِدُون أنَّ فِعْل آبَائهم مُسْتَنِد إلى أمْر مِنْ الله وشَرْع، فأنْكَر الله تَعالى عَليهم ذَلك، فَقَال:(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، فَقَال تَعالى رَدًّا عَليهم (قُلْ) أي: يَا محمد لِمَنْ ادَّعَى ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) أي: هذا الذي تَصْنَعُونه فاحِشَة مُنْكَرَة، والله لا يَأمُر بِمِثْل ذَلك (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي: أتُسْنِدُون إلى الله مِنْ الأقْوَال مَا لا تَعْلَمُون صِحَّتَه؟

(3)

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 5328) بتصرف يسير.

(2)

في صحيح البخاري (ح 1582)، ومسلم (ح 1219) من قول عروة: والحمس قريش وما ولدت.

وفي "المنهاج" للنووي (8/ 197): الْحُمْس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم وبسين مهملة.

قال أبو الهيثم: الحمس هم قريش ومن ولدته قريش وكنانة وجديلة قيس؛ سموا حمسًا لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا وقيل: سموا حمسًا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد.

(3)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 281).

ص: 535

وأشَار ابن كثير إلى الاخْتِلاف في قِرَاءة (أَمَرْنَا) في آيَة "الإسراء"، ثم ذَكَر الْخِلاف أيضًا في مَعْنَاها، ونَقَل عن ابن جرير مَا قَالَه، وتَعَقَّب قَوله:"وقد يَحْتَمِل أن يَكُون مَعْنَاه: جَعَلْنَاهم أمَرَاء"

(1)

. بِقَولِه: إنَّمَا يَجِيء هَذا على قِرَاءة مَنْ قَرأ (أمَّرْنا مُتْرَفِيها)

(2)

.

فابْنُ كَثير اكْتَفَى بِبَيَان الْمَعْنَى بِاخْتِصَار، دُون الإشَارَة إلى مَا يُتَوهَّم تَعَارُضه في الآيَة مِنْ حَيث الأمْر بالفِسْق في قَوله تَعالى:(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا).

‌رأي الباحث:

مِمَّا قَرَّرَه الأئمَة: أنَّ الله لا يَأمُر بِالفَحْشَاء، اسْتِدْلالًا بِقَوله تَعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، وهَذا مَحَلّ اتِّفَاق حَتى عِند غَير أهل الإسلام، فقد قَال هِرَقْل في سُؤَاله لأبي سُفيان عن أحْوال النبي صلى الله عليه وسلم: مَاذا يَأمُرُكُم؟ قلت: يَقُول: اعْبُدُوا الله وحْدَه ولا تُشْرِكُوا بِه شَيئًا، واتْرُكُوا مَا يَقُول آبَاؤكم، ويَأمُرُنا بِالصَّلاة والصِّدْق والعَفَاف والصِّلَة

(3)

.

ويَتّفِق العُقَلاء أيضًا على أنَّ دِين الإسْلام لَم يأتِ بشيء يُخَالِف العَقْل، فَقَد أمَر الإسْلام بِكُلّ فَضِيلَة، ونَهَى عن كُلّ رَذِيلَة.

(1)

ابن جرير أورد احتمال هذا القول على قراءة من قرأ بالتخفيف لقول العرب: أمير غير مأمور.

وقد بين القرطبي معنى هذا القول فيما سبق نقله عنه، وقال الراغب في "المفردات" (ص 35): وقيل: أمر القوم: كثروا، وذلك لأن القوم إذا كثروا صاروا ذا أمير من حيث إنهم لا بد لهم من سانس يسوسهم، ولذلك قال الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.

(2)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (8/ 462).

(3)

رواه البخاري ومسلم، وسبق تخريجه.

ص: 536

"فما أمَر بِشيء فَقَال العَقْل: لَيْتَه لَم يَأمُر بِه، ولا نَهَى عن شيء فَقَال العَقْل: لَيْتَه لَمْ يَنْهَ عنه، بل هو مُطابِق للعَدْل والميزان"

(1)

.

وأمَّا قَوْل أهْل الْجَاهِلِيَّة عن الفَوَاحِش: وَجَدْنا عَليها آبَاءنا والله أمَرَنا بِها؛ فَهذا مِمَّا ابْتَدَعُوه مِنْ قِبَل أنْفُسِهم رَدًّا للشَّرِيعَة، كَمَا قَالُوا:(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)[الزخرف: 22]، والْجَوَاب عن هَذا القَوْل في الآيَة التي تَلِيها:(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[الزخرف: 23]، ولَو جَاءتْهم الآيَات والنُّذُر، فإنَّهم يَرُدُّون ذلك ولا يُؤمِنُون به كَمَا قَال تَعالى بَعد ذلك:(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[الزخرف: 24]، وكَمَا قَال أسْلافُهم مِنْ قَبْل:(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنا لَهَا عَابِدِينَ)[الأنبياء: 53].

ورَوى البخاري

(2)

ومسلم

(3)

مِنْ طريق هشام بن عروة عن أبيه قَال: كَانت العَرَب تَطُوف بِالبَيت عُرَاة إلَّا الْحُمْس - والْحُمْس قُرَيش ومَا وَلَدَتْ - كَانُوا يَطُوفُون عُرَاة إلَّا أن تُعْطِيهم الْحُمْس ثِيَابًا؛ فَيْعُطِي الرِّجَال الرِّجَال، والنِّسَاء النِّسَاء.

فهذا أيضًا مِمَّا ابْتَدَعُوه مِنْ قِبَل أنفُسِهم، ومِمَّا شَدَّدُوا به على أنْفُسِهم وعلى غيرهم.

وأمَّا الأمْر في آيَة "الإسراء"؛ فهو أمْرٌ قَدَرِيّ كَوْني، وليس أمْرًا شَرْعِيًا، والفَرْق بَيْنَهُما: أنَّ الأمْر الكَوني وَاقِعٌ لا مَحَالة، والأمْر الشَّرْعِي قد يَقَع وقَد لا يَقَع، هذا مِنْ جِهة، ومِن جِهَة أُخْرَى فالأمْر الشَّرْعي يُحِبُّه الله ويَرْضَاه، والقَدَري لَيس مِنْ شَرْطِه أن يَكُون مَحْبُوبًا لله، مَرْضِيًّا لَه.

(1)

تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق (ص 634).

(2)

(ح 1582).

(3)

(ح 1219).

ص: 537

"وهَذا الأمْر القَدَرِيّ الكَوْنِيّ غَير الأمْر الشَّرْعِيّ، فإنَّ الله لا يَأمُر بِالفِسْق شَرْعًا، ولا يُحِبّ الفَاسِقِين، وإنَّمَا هو أمْر تَكْوين، ألَا تَرى أنَّ الفِسْق عِلَّة حَقّ القَوْل عَليهم، وحَقّ القَوْل عليهم عِلَّة لِتَدْمِيرِهم، وهَكذا الأمْر سَبَب لِفِسْقِهم ومُقْتَضٍ له، وذَلك هو أمْر التَّكْوين"

(1)

.

كَمَا أنَّ "الإرَادَة والقَضَاء والأمْر كُلّ مِنها يَنْقَسِم إلى: كَوْنِيّ وشَرْعِيّ" و"مِثَال الأمْر الكَوْنِيّ قَوله تَعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) "

(2)

.

وهَذه مَسْألَة مُقَرَّرَة في كُتُب العَقَائد

(3)

، وقد عَقَد ابن القيم بَابًا "في انْقِسَام القَضَاء والْحُكْم والإرَادَة والكِتَابَة والأمْر والإذْن والْجَعْل والكَلِمَات والبَعْث والإرْسَال والتَّحْرِيم والإنْشَاء إلى كَوْنِيّ مُتعلِّق بِخَلْقِه، وإلى دِينِيّ مُتَعَلِّق بأمْرِه"

(4)

.

كَمَا أنَّ سُنّة الله اقْتَضَتْ أن لا يُعَذِّب أُمَّة ولا قَرْيَة حتى يَحِقّ القَوْل عَليها، ومِن أسْبَاب ذَلك كَثْرَة الفَسَاد والإفْسَاد، وذلك بِكَثْرَة الْمُتْرَفِين، الذين لا يَأتَمِرون بِأمْر، ولا يَنْتَهُون عن نَهْي، وإذا اسْتَشْرَتْ هذه الفِئة تَرَاجَعَتْ جُهُود الْمُصْلِحِين وتَضَاءَلَتْ، ورُبَّمَا تَجَرَّأ أهْل الفَسَاد على أهْل الإصْلاح فَسَعَوا في هَلاكِهم، كَمَا قَال تَعَالى في خَبَر صَالح عليه الصلاة والسلام:(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [النمل: 48، 49]، فإذا كَان ذَلك قَلَّ الْمُصْلِحُون وكَثُر الفَسَاد، وحَلَّ عَذَاب الله بِالأُمَم والقُرَى، ولِذَا لَمَّا

(1)

معارج القبول، الحكمي (1/ 277).

(2)

المرجع السابق (1/ 296) باختصار يسير.

(3)

يُنظر لذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 187 وما بعدها)، و"منهاج السنة النبوية"، مرجع سابق (3/ 156)، و"شرح العقيدة الطحاوية"، مرجع سابق (ص 505) وما بعدها، و"دفع إيهام الاضطراب"، مرجع سابق (ص 93).

(4)

شفاء العليل، مرجع سابق (2/ 287 وما بعدها).

ص: 538

سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنَهْلِك وفِينَا الصَّالِحُون؟ قال: نَعَم، إذا كَثُر الْخَبَث

(1)

.

ولا يَكْثُر الْخَبَث والفَسَاد إلَّا في ظِلِّ غِيَاب الْمُصْلِحِين، إذ أنَّ وُجُود الصَّالِحِين لَيس كَافِيًا في النَّجَاة، فلا بُدّ مِنْ وُجُود الْمُصْلِحين، كَمَا قال تعالى:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117].

فالله لا يَأمُر الْمُتْرَفِين بالفِسْق، وإنَّمَا يُمْلِي لَهم، ويُمَكِّنُهم مِنْ فِعْل ذلك.

وجَوَاب آخَر، وهو أنَّ الله أمَر الْمُتْرَفين بِالطَّاعَة، فَعَصَوا، فَكَأن الأمْر صَارَ سَببًا في اسْتِحْقَاقِهم العَذَاب، وذلك بِسَبَب مُخَالَفَتِهم وفِسْقِهم، وهو الْخُرُوج عن الطَّاعَة؛ فَعَلى هذا يكون أمْرًا شَرْعِيًّا. إلَّا أن ابن القيم لم يرتضِ هذا الجواب، فقال: ولا حَاجَة إلى تَكَلّف تَقْدِير: أمَرْنا مُتْرَفِيها فِيها بالطَّاعَة، فَعَصَونا وفَسَقُوا فِيها، بل الأمر ههنا أمْرُ تَكْوين وتَقْدِير لا أمْر تَشْرِيع

(2)

. ثم ذَكَر أوْجُه ضَعْف القول بأنه أمْر شَرْعِيّ.

‌المثال الثاني

الْمُحَاسَبَة على الطَّيِّبَات:

قَوله تَعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الأعراف: 32]، مَع قَوله تَعالى:(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)[الأحقاف: 20].

‌صورة التعارض:

في الآيَة الأُولى إبَاحَة الزِّينَة والطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق، وفي الآيَة الثَّانية الإخْبَار عن

(1)

رواه البخاري (ح 3168)، ومسلم (ح 2880).

(2)

شفاء العليل، مرجع سابق (1/ 143)، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية، مرجع سابق (ص 452).

ص: 539

تَعْذِيب مَنْ استَمْتَع بالطَّيِّبَات في الْحَيَاة الدُّنيا، والعَذَاب لا يَكُون على أمْرٍ مُبَاح.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "الأعراف": قَوله تَعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) بَيَّن أنَّهم حَرَّمُوا مِنْ تِلْقَاء أنْفُسهِم مَا لَم يُحَرِّمْه الله عَليهم. والزِّينَة هُنا الْمَلْبَس الْحَسَن إذا قَدِر عليه صَاحِبه. وقيل: جَمِيع الثِّيَاب، كما رُوي عن عمر: إذا وَسَّع الله عليكم فأوسِعُوا

(1)

.

ثم ذَكَر أحَادِيث وآثَارَ في لُبْس الْجَيِّد والتَّجَمُّل، كَمَا ذَمَّ لُبْس الصُوف والْخَشِن، ومَا يُزْرِي بِصَاحِبِه مِنْ اللبَاس

(2)

، وأوْرَد فيه أثَارًا، ثم أوْرَد بَعْد ذلك سُؤَالًا قَال فيه: فإن قَال قَائل: تَجْويد اللبَاس هَوى النَّفْس، وقد أُمِرْنا بِمُجَاهَدَتِها، وتَزَيُّن للخَلْق، وقد أُمِرْنا أن تَكُون أفْعَالُنا لله لا للخَلْق؟

فَالْجَوَاب: ليس كل ما تَهواه النفس يُذَمّ، وليس كل ما يُتَزَيّن بِه للنَّاس يُكْرَه، وإنَّمَا يُنْهَى عن ذلك إذا كَان الشَّرْع قد نَهَى عنه، أوْ على وَجْه الرِّيَاء في بَاب الدِّين، فإنَّ الإنْسَان يجب

(3)

أن يُرى جَمِيلًا، وذلك حَظٌّ للنَّفْس لا يُلام فيه

(4)

.

ثم قال: قَوله تَعالى: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) الطَّيِّبَات اسْم عَام لِمَا طَاب كَسْبا وطَعْما.

قال ابن عباس وقتادة: يَعْنِي بِالطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق مَا حَرَّم أهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ البَحَائر والسَّوَائب والوَصَائل والْحَوَامِي. وقِيل: هي كُلّ مُسْتَلَذّ مِنْ الطَّعَام.

وقد اخْتُلِف في تَرْك الطَّيِّبَات والإعْرَاض عن اللذَّات؛ فَقَال قَوم: ليس ذلك مِنْ القُرُبات، والفِعْل والتَّرْك يَسْتَوي في الْمُبَاحَات. وقَال آخَرُون: لَيس قُرْبة في ذَاتِه، وإنَّمَا هو سَبِيل إلى الزُّهْد في الدُّنيا وقِصَر الأمَل فيها، وتَرْك التَّكَلُّف لأجْلِها؛ وذلك مَنْدُوب إليه، والْمَنْدُوب قُرْبَة.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 175).

(2)

يرى المقري أن هذه سمة في أهل الأندلس، إذ يقول في "نفح الطيب" (1/ 223): وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون وغير ذلك، مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائمًا، ويبتاع صابونًا يغسل به ثيابه! ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.

(3)

قال عبد الرزاق المهدي في تحقيقه للجامع لتفسير القرآن: لعل الصواب "يُحِبّ".

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 177، 178) بتصرّف.

ص: 540

وقَال آخَرُون: ونُقِل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَوله: لَو شِئنَا لاتَّخَذْنا صِلاء

(1)

وصَلائق

(2)

وصِنَابًا

(3)

، ولكني سَمِعْتُ الله تعالى يَذُم أقْوَامًا فَقَال:(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا).

وفَرَّق آخَرُون بَيْن حُضُور ذلك كُلّه بِكُلْفَة وبِغَير كُلْفَة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح - إن شاء الله عز وجل، فإنه لَم يُنْقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امْتَنَع مِنْ طَعام لأجْل طِيبِه قَطّ، بل كَان يَأكُل الْحَلْوى والعَسَل، والبطِّيخ والرُّطَب، وإنما يُكْرَه التَّكَلُّف لِمَا فيه مِنْ التَّشَاغُل بِشَهَوَات الدُّنيا عن مُهِمَّات الآخِرة. والله تعالى أعلم

(4)

.

قَوله تَعالى: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يَعني بِحَقِّها مِنْ تَوْحِيد الله تَعالى والتَّصْدِيق له، فإنَّ الله يُنْعِم ويَرْزُق، فإنْ وَحَّدَه الْمُنْعَم عليه وصَدَّقَه فَقد قَام بِحَقّ النِّعْمَة، وإنْ كَفَر فقد أمْكَن الشَّيْطَان مِنْ نَفْسِه.

وقال: (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: يُخْلِص الله الطَّيِّبَات في الآخِرَة للذِين آمَنُوا، وليس للمُشْرِكين فِيها شَيء كَمَا كَان لهم في الدُّنيا مِنْ الاشْتِرَاك فِيها. ومَجَاز الآيَة

(5)

: قُلْ هي للذِين آمَنُوا مُشْتَرَكَة في الدُّنيا مَع غيرهم، وهي للمُؤمِنين خَالِصَة يَوْم القِيَامَة.

(1)

فسره القرطبي بأنه "الشواء" الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 178).

(2)

في اللسان (10/ 197): الصَّرِيقة: الرقاقة عن ابن الأعرابي، والمعروف الصَّلِيقة، ويجمع على صرائق وصرق وصروق وصريق، عن الفراء، والعامة تقول باللام وهو بالراء، وأصله في "غريب الحديث"، ابن الجوزي (1/ 587).

(3)

في اللسان (1/ 531): الصِّناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب

وهو صباغ يؤتدم به.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 178).

(5)

يعني معناها. قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 7/ 89): وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية. اهـ.

أما المجاز الذي هو مقابلة الحقيقة مع احتمال الصدق والكذب في الخبر؛ فهذا محال في القرآن، ينظر لذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 88 وما بعدها)، (12/ 277)، و"الإيمان" له (63 - 86)، =

ص: 541

وقِيل: الْمَعْنَى: أنَّ هَذه الطَّيِّبَات الْمَوْجُودَات في الدُّنيا هي خَالِصَة يَوْم القِيَامَة للمُؤمِنين في الدُّنيا، وخُلُوصُها أنَّهم لا يُعَاقَبُون عَليها ولا يُعَذَّبُون

(1)

.

ويَرَى القرطبي أنَّ قَوله تَعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا)[المائدة: 93]"نَظِير قَوله تَعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87] ونَظِير قَوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) "

(2)

.

وفي آيَة "الأحقاف" ذَكَر مَعْنَى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)، والقِرَاءات في (أَذْهَبْتُمْ)، وأنَّ الْمَقْصُود مِنه التَّوْبِيخ، وبَيَّن أنَّ "العَرَب تُوَبِّخ بالاسْتِفْهَام وبِغَير الاسْتِفْهَام"، ورَجَّح تَرْك الاسْتِفْهَام في الآيَة.

و"مَعْنَى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) أي: تَمَتَّعْتُم بِالطَّيِّبَات في الدُّنيا، واتَّبَعْتُم الشَّهَوات واللذَّات؛ يَعْنِي: الْمَعَاصِي. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) أي: عَذَاب الْخِزْي والفَضِيحَة.

قال مجاهد: الْهُون الْهَوان

(3)

. قَتادة: بِلُغَة قُرَيش. (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: تَسْتَعْلُون على أهْلِها بِغَير اسْتِحْقَاق. (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) في أفْعَالِكم بَغْيًا وظُلْمًا.

وقِيل: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) أي: أفْنَيتُم شَبَابَكُم في الكُفْر والْمَعَاصِي"

(4)

.

(1)

ومحاسن التأويل، القاسمي (1/ 154 وما بعدها)، و"منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز"، الشنقيطي، ملحق بتفسيره "أضواء البيان"، و"نشأة الأهواء والافتراق والبدع"، ناصر العقل (ص 79 وما بعدها).

() الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 179) باختصار.

(2)

المرجع السابق (6/ 276).

(3)

قال البخاري (الصحيح 1/ 461) في قوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام: 93]: الْهُونِ: هو الهوان، والهون: الرفق.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 171).

ص: 542

واسْتَدَلّ القرطبي بِقَول النبي صلى الله عليه وسلم لِعُمَر رضي الله عنه: "أفِي شَكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولَئك قَوم عُجِّلَتْ لهم طَيِّبَاتهم في حَيَاتهم الدُّنيا"

(1)

.

وأوْرَد قَول عمر رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو لَولا أني أخَاف أن تنقص حَسَنَاتي يوم القيامة لَشَارَكْنَاكُم في العَيْش، ولكني سَمِعْتُ الله تعالى يَقُول لأقْوَام:(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا).

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) أي الْهَوَان. (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: تَتَعَظَّمُون عن طَاعة الله وعلى عِباد الله. (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) تَخْرُجُون عن طَاعَة الله.

وقال جَابر: اشْتَهَى أهْلي لَحْمًا فاشْتَرَيتُه لهم، فَمَرَرْتُ بِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مَا هذا يَا جَابر؟ فأخْبَرْتُه، فَقَال: أوَ كُلَّمَا اشْتَهى أحَدُكم شَيئًا جَعَلَه في بَطْنِه؟! أمَا يَخْشَى أن يَكُون مِنْ أهْل هَذه الآيَة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) الآيَة؟

قال ابن العربي: وهذا عِتَاب مِنه له على التَّوَسُّع بِابْتِياع اللحْم والْخُرُوج عن جِلْف الْخُبْز والْمَاء.

والذي يَضْبِط هذا البَاب ويَحْفَظ قَانُونَه على الْمَرْء: أن يَأكُل مَا وَجَد طَيِّبًا كان أو قَفَارا

(2)

، ولا يَتَكَلَّف الطَّيِّب ويَتَّخِذه عَادَة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَشْبع إذا وَجَد، ويَصْبر إذا عَدِم، ويَأكُل الْحَلْوى إذا قَدِر عليها، ويَشْرَب العَسَل إذا اتَّفق له، ويَأكُل اللحْم إذا تَيَسَّر، ولا يَعْتَمِد أصْلًا، ولا يَجْعله دَيْدَنًا، ومَعِيشَة النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلُومَة، وطَرِيقَة الصَّحَابَة مَنْقُولَة، فأمَّا اليَوْم عند اسْتِيلاء الْحَرَام وفَسَاد الْحُطَام، فالْخَلاص عَسِير، والله يَهَب الإخْلاص ويُعِين على الْخَلاص بِرَحْمَتِه.

وقِيل: إنَّ التَّوْبِيخ وَاقِع على تَرْك الشُّكْر لا على تَنَاوُل الطَّيِّبَات الْمُحَلَّلَة، وهو حَسَن؛

(1)

عزاه القرطبي (16/ 172) إلى صحيح مسلم، وهو مخرج في الصحيحين: البخاري (ح 2336)، ومسلم (ح 1479).

(2)

في اللسان (4/ 589): يُقال: أكل خبزًا قفارًا وعفارًا وعفيرًا، أي: لا شيء معه، والعفار لغة في القفار، وهو الخبز بلا أدم.

ص: 543

فإنَّ تَنَاوُل الطَّيِّب الْحَلال مَأذُون فِيه، فإذا تَرَك الشُّكْر عليه واسْتَعَان به على مَا لا يَحِلّ له فَقَد أذْهَبه، والله أعلم

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

آيَة "الأعراف" في ذَمّ الْمُشْرِكِين الذِين حَرَّمُوا مَا رَزَقَهم الله مِنْ الطَّيِّبَات.

2 -

فِيها الإشَارَة إلى تَرْك التَّوَسُّع في الْمُبَاحَات، وهو مَا فَهِمَه الصحابة رضي الله عنهم مِنْ الآيَة.

3 -

وفيها أنَّ الطَّيِّبات التي رُزِقُوها في الدُّنيا تَكُون يَوْم القِيَامَة خَالِصَة للمُؤمِنين.

4 -

آيَة "الأحقاف" فِيها ذَمّ الكُفَّار الذِين تَمَتَّعُوا بِالطَّيِّبَات في الدُّنيا ولم يُؤدُّوا شُكْرَها، واتَّبَعُوا الشَّهَوات واللذَّات الْمُحرَّمَة.

وخُلاصَة قَولِه: أنَّ مَنْ أكَل الطَّيِّبات مِنْ غَير إسْرَاف، واسْتَعْمَل الزِّينَة في حِلِّها؛ فإنه غَير مَذْمُوم، وإنَّمَا يُذَمّ مَنْ أسْرَف في الْمُبَاحَات، أو اسْتَعْمَل النِّعَم في الْمُحرَّمات.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

صَدَّر ابنُ جرير تَفْسِير آيَة "الأعراف" بِذِكْر الْمَعْنَى مُرَاعِيًا سِيَاق الآيَات، حَيث يَقُول: يَقُول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا محمد لِهؤلاء الْجَهَلَة مِنْ العَرَب الذين يَتَعَرَّون عِند طَوَافِهم بِالبَيت، ويُحَرِّمُون على أنْفُسِهم مَا أحْلَلْتُ لهم من طَيِّبَات الرِّزْق: مَنْ حَرَّم أيُّها القَوم عَليكم زِينَة الله التي خَلَقَها لِعِبادِه أن تَتَزَيَّنُوا بِها، وتَتَجَمَّلُوا بِلِباسِها، والْحَلال مِنْ رِزْق الله الذي رَزَق خَلْقَه لِمَطاعِمِهم ومَشَارِبِهم؟

(2)

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 173).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 156).

ص: 544

ثم ذَكَر اخْتِلاف "أهْل التَّأوِيل في الْمَعْنِيّ بالطَّيِّبات مِنْ الرِّزْق بَعد إجْمَاعِهم على أن الزِّينَة ما قُلْنا

(1)

؛ فَقَال بَعضهم: الطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق في هذا الْمَوْضِع اللَّحْم، وذلك أنَّهم كَانُوا لا يَأكُلُونَه في حَال إحْرَامِهم"

(2)

.

وقَال آخَرُون: بَلْ عُنِي بِذلك مَا كانت الْجَاهِلِيَّة تُحَرِّم مِنْ البَحَائر والسَّوائب

(3)

وذَكَر الْخِلاف في قِراءة (أَذْهَبْتُمْ) بالاسْتِفْهَام وتَرْكِه، ورَجَّح تَرْك الاسْتِفْهَام

(4)

.

ورَوى ابن جرير بإسْنَاده إلى ابن زَيد في قَوْل الله عز وجل: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) إلى آخِر الآيَة، ثم قرأ:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)[هود: 15]، وقَرأ:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)[الشورى: 20]، وقَرأ:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)[الإسراء: 18] إلى آخِر الآيَة، وقال: هَؤلاء الذِين أذْهَبُوا طَيِّبَاتِهم في حَيَاتِهم الدُّنيا

(5)

.

وخَتَم ابن جرير تَفْسِير الآيَة بِقَولِه: (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يَقُول: بِمَا كُنْتُم تَتَكَبَّرُون في الدُّنيا على ظَهْر الأرْض على رَبِّكُمْ فَتَأبَون أن تُخْلِصُوا له العِبَادَة، وأن تُذْعِنُوا لأمْره ونَهْيِه

(6)

.

وذَهَب ابن كثير إلى أنَّ آيَة "الأعراف" رَدّ "على مَنْ حَرَّم شَيئًا مِنْ الْمَآكِل أو الْمَشَارِب أو الْمَلابِس مِنْ تِلْقَاء نَفْسِه مِنْ غَير شَرْعٍ مِنْ الله. (قُلْ) يَا محمد لِهؤلاء الْمُشْرِكِين الذِين يُحَرِّمُون مَا يُحَرِّمُون بِآرَائهم الفَاسِدَة وابْتِدَاعِهم: (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي

(1)

يَعني: أنه اللباس الذي تركوه عند إحرامهم.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (10/ 156).

(3)

المرجع السابق (10/ 158)، ويُنظر تفسير بقية الآية ثم.

(4)

انظر: المرجع السابق (21/ 149).

(5)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(6)

المرجع السابق (21/ 150).

ص: 545

أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآيَة؟ أي: هي مَخْلُوقة لِمَنْ آمَن بِالله وعَبَدَه في الْحَيَاة الدُّنيا، وإن شَرَكَهم فيها الكُفَّار حِسًّا في الدُّنيا، فهي لَهم خَاصَّة يَوْم القِيَامَة، لا يَشْرَكُهم فِيها أحَد مِنْ الكُفَّار، فإنَّ الْجَنَّة مُحَرَّمَة على الكَافِرِين"

(1)

.

ثم أوْرَد مَا رَوَاه الطبراني عن ابن عباس قال: كانت قُريش يَطُوفُون بِالبَيت وهم عُرَاة، يُصَفِّرُون ويُصَفِّقُون، فأنْزَل الله:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)، فَأمِرُوا بِالثِّيَاب

(2)

.

واقْتَصَر ابن كَثير في آيَة "الأحقاف" على قَولِه: وقَوله عز وجل: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) أي: يُقَال لهم ذلك تَقْرِيعًا وتَوبِيخًا وقد تَوَرَّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كَثِير مِنْ طَيِّبَات الْمَآكِل والْمَشَارِب، وتَنَزَّه عنها، ويَقُول: إني أخَاف أن أكُون كَالذِين قَال الله لهم

(3)

وقَرَّعَهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا).

وقال أبو مِجْلَز: لَيَتَفَقَّدَن

(4)

أقْوَامٌ حَسَنَاتٍ كَانت لهم في الدُّنيا، فَيُقَال لهم:(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا).

وقَوله عز وجل: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)، فَجُوزُوا مِنْ جِنْس عَمَلِهم، فَكَمَا نَعَّمُوا أنْفُسَهم، واسْتَكْبَرُوا عن اتِّبَاع الْحَقّ، وتَعَاطَوا الفِسْق والْمَعَاصِي؛ جَازَاهم الله تبارك وتعالى بِعَذَاب الْهُون، وهو الإهَانَة

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (6/ 291).

(2)

المرجع السابق، الموضع السابق.

(3)

في طبعة دار المعرفة (4/ 172) زيادة: وبخهم.

(4)

في طبعة دار المعرفة (4/ 172): لَيَفْقِدَنّ.

ص: 546

والْخِزْي والآلام الْمُوجِعَة، والْحَسَرات الْمُتَتَابِعة، والْمَنَازِل في الدَّرَكَات الْمُفْظِعة.

أجَارَنا الله سبحانه وتعالى مِنْ ذَلك كُلّه

(1)

.

‌رأي الباحث:

لا يُذَمّ مَنْ أكَل الطَّيِّبَات، إذا أدَّى شُكْرَها، ومِن شُكْر النِّعْمَة الاعْتِراف بِأنَّها مِنْ عِند الله، عَمَلًا بِقَولِه تَعالى:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل: 53]، "وقَد رُوي في الأثَر أنَّ دَاود عليه السلام قال: يَا رَبّ كَيف أشْكُرَك وشُكْرِي لك نِعْمَة مِنْك عَليّ؟ فَقَال الله تَعالى: الآن شَكَرْتَنِي يَا دَاود. أي: حِين اعْتَرَفْتَ بِالتَّقْصِير عن أدَاء شُكْر الْمُنْعِم"

(2)

إلَّا أنَّ السَّلَف كَرِهُوا التَّوَسُّع في الْمُبَاحَات لِمَا يُفضِي إليه ذَلك التَّوَسُّع مِنْ الوُقُوع في الْمُتَشَابِهَات، وذلك يُفْضِي إلى الْوُقُوع في الْحَرَام.

وتَرْك الطَّيِّبَات ليس مِنْ سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو رَغْبَة عنها، كمَا في الْحَدِيث "مَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فَليس مِنِّي"

(3)

. وسَبَب وُرُود الْحَدِيث "أنَّ نَفَرًا مِنْ أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم سَألُوا أزْوَاج النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِه في السِّرّ، فقال بعضهم: لا أتَزَوَّج النِّسَاء، وقال بعضهم: لا آكُل اللحْم، وقال بعضهم: لا أنَام على فِرَاش. فَحمِدَ

(4)

الله وأثْنَى عليه، فَقَال: مَا بَال أقْوَام قَالُوا كذا وكذا، لَكِنِّي أُصَلِّي وأنَام، وأصُوم وأُفْطِر، وأتَزَوَّج النِّسَاء؛ فمن رَغِب عن سُنَّتِي فَليس مِنِّي"

(5)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (13/ 21، 22).

(2)

المرجع السابق (8/ 225).

(3)

رواه البخاري (ح 4776)، ومسلم (ح 1401).

(4)

يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

هو أول الحديث المتقدم تخريجه آنفًا، وهذه رواية مسلم.

ص: 547

"قال الْحَسن: فَمَا أكْثَر الرَّاغِبِين عن سُنَّتِه، التَّارِكِين لها، ثم إن عُلُوجًا فُسَّاقًا أَكَلَة الرِّبا والغُلُول، قد سفَّهَهم

(1)

رَبِّي ومَقَتَهم، زَعَمُوا أنه لا بَأس عليهم فِيمَا أَكَلُوا وشَرِبُوا، وسَتَرُوا البُيُوت وزَخْرَفُوها، ويَقُولُون:(مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)، ويَذْهَبُون بِها إلى غَير مَا ذَهَب الله بِها إليه، إنَّمَا جَعَل الله ذَلك لأوْلِياء الشَّيْطَان؛ الزِّينَة مَا رَكِب ظَهْرَه، والطَّيِّبَات مَا جَعَل الله تَعالى في بُطُونِها، فَيَعْمَد أحَدُهم إلى نِعْمَة الله عليه فيَجْعَلها مَلاعِب لِبَطْنِه وفَرْجِه وظَهْرِه! ولو شَاء الله إذا أعْطَى العِبَاد مَا أعْطَاهم أبَاح ذلك لهم، ولكن تَعَقَّبَها بِمَا يَسْمَعُون:(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، فمن أخَذ نِعْمَة الله وطُعْمَته أكَل بِها هَنِيئًا مَرِيئًا، ومَن جَعَلَها مَلاعِب لِبَطْنِه وفَرْجِه وعلى ظَهْرِه، جَعَلَها وَبَالًا يَوْم القِيَامَة"

(2)

.

ونَظِير هَذه الآيَة قَوله تَعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) [المائدة: 87، 88]، ورَوى الترمذي

(3)

والطبراني

(4)

مِنْ حَدِيث ابن عباس أنَّ رَجُلًا أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسول الله إني إذا أَصَبْتُ اللحْم انْتَشَرْتُ للنِّسَاء، وأخَذَتْنِي شَهْوتِي، فَحَرَّمْتُ عَليَّ اللحْم، فأنْزَل الله:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا).

فَفِي هذه الآيَة نَهَى الله عن تَحْرِيم مَا أحَلّ، وأمَر - أمْر إبَاحَة - بِأكْل الطَّيِّبَات.

وأمَّا الْمَذْمُوم فهو تَرْك الشُّكْر، والاسْتِعَانَة بالنِّعَم على الْمَعَاصِي، وتَحْرِيم مَا أحَلّه الله، افْتِرَاء على الله. ومِنه قَوله تَعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا

(1)

في الحلية (2/ 153): "قد شغلهم ربي عز وجل" والمثبت من "جامع البيان".

(2)

حلية الأولياء، مرجع سابق (2/ 154)، و"جامع البيان"، مرجع سابق (10/ 158) مختصرًا.

(3)

(ح 3054) وقال: هذا حديث حسن غريبٌ. وقال الألباني (صحيح الترمذي): صحيح.

(4)

(ح 11812).

ص: 548

رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام: 140]، وهو في سِيَاق ذَمّ تَحْرِيم مَا أحَلّ الله لهم مِنْ رِزْق، وبَيَان ذلك في الآيَات قَبْلَها:(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

فهم قد عَمدُوا إلى مَا أحَلّه الله لهم فَحَرَّمُوا بَعضه على بَعْضهم، وأبَاحُوه لِمن شَاءُوا؛ وهذا كُلّه مُنَازَعة لله في أمْرٍ اخْتَصّ به؛ وهو التَّشْرِيع، وفي سِيَاق عَيْب ذلك عليهم قَال تَعالى:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)[الشورى: 21].

قال ابن تيمية: فَمَنْ حَرَّم الطَّيِّبَات عليه وامْتَنَع مِنْ أكْلِها بدُون سَبَب شَرْعِيّ فهو مَذمُوم مُبْتَدِع دَاخِل في قَوْلِه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)[المائدة: 87]، ومَن أكَلَها بِدُون الشُّكْر الوَاجِب فِيها فَهو مَذمُوم، قال الله تعالى:(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر: 8] أي: شُكْر النَّعِيم

وكذلك الإسْرَاف في الأكْل مَذْمُوم، وهو مُجَاوَزَة الْحَدّ، ومَن أكَل بِنِيَّة الاسْتِعَانَة على عِبادَة كان مَأجُورًا على ذلك

(1)

.

ومِمَّا يَدُلّ على أنَّ الذَّمّ في آيَة "الأحقاف" في حَقّ مَنْ أكَل الطَّيِّبَات دُون شُكْرها وما يتَرتَّب على ذلك من الاستِكْبَار والفِسْق؛ ما خُتِمَتْ به الآية: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).

وثَمَّة أمْر آخَر في آيَة "الأحقاف"، وهو أنَّ الكَافِر يُطْعَم بِحَسَنَاتِه التي عَمِلها في الدُّنيا فَيُوَافِي يَوْم القِيَامَة مُفْلِسًا مُذْهِبًا لِحَسَنَاته، كَمَا في الْحَدِيث: "إنَّ الله لا يَظْلِم مُؤمِنًا حَسَنة يُعْطَى بِها في الدُّنيا ويُجْزَى بِها في الآخِرَة، وأمَّا الكَافِر فيُطْعَم بِحَسَنات مَا

(1)

مجموع الفتاوى، مرجع سابق (32/ 212).

ص: 549

عَمِل بِها لله في الدُّنيا، حتى إذا أفْضَى إلى الآخِرَة لم تَكُنْ لَه حَسَنة يُجْزَى بِها"

(1)

، وأوَّل الآية صَرِيح في أنَّها في حَقّ الكُفَّار (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) الآية.

وأمَّا مَا جَاء عن الصَّحابة رضي الله عنهم في فَهْم الآيَة فهو على سَبِيل التَّوَرُّع والاحْتِيَاط، واسْتِشْعَار مُخَاطَبَة الله لهم في كِتَابِه.

ومِن هذا القَبِيل مَا جَاء في خُطْبَة أبي بكر رضي الله عنه حِينَمَا وَلي الْخِلافَة، إذ يقول: إني قَدْ وُلِّيتُ عَليكم ولَسْتُ بِخَيْرِكُم

(2)

. قال الْحَسَن: هو والله خَيْرُهم غَير مُدَافَع، ولكن الْمُؤمِن يَهْضِم نَفْسَه

(3)

.

والله تعالى أعلم.

(1)

رواه مسلم، وسبق تخريجه.

(2)

سُنن البيهقي الكبرى، مرجع سابق (ح 12788)، وانظر: مصنف عبد الرزاق (ح 20702).

(3)

سُنن البيهقي الكبرى، مرجع سابق (ح 12788).

ص: 550

‌الفصل الثالث عناية الإمام القرطبي بالجمع بين الآيات

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: إفادة القرطبي ممن سبقوه، وإفادته لمن أتوا بعده، وموافقة غيره له

المبحث الثاني: الفرق بين كشف معنى الآية بإكثار الأقوال والعناية بدفع توهم التعارض، ومظان الجمع بين الآيات.

المبحث الثالث: أثر عقيدة القرطبي في توهّم التعارض.

ص: 551

عناية الإمام القرطبي بالجمع بين الآيات

اعْتَنَى القُرطبي بالْجَمْع بين الآيَات حتى بَرَز هذا الْجَانِب في تَفْسِيرِه، وظَهَر واضِحًا جَلِيًّا.

ومِن خِلال الفَصْلَين السَّابِقَين اتَّضَحَتْ عِنَايته بِالْجَمْع بَيْن الآيَات، وبَرَزَتْ مَلامِح مَنْهَجِه مِنْ خِلال الطُّرُق التي تَمّ عَرْضها ودِرَاسَتها.

وقد أفَاد مِمَّنْ سَبَقُوه، وأفَاد مِنْ جُهُوده مَنْ لَحِقُوه؛ وهذه طريقة الرَّاسِخِين في العِلْم، يَعرف أَحَدُهم فَضْل مَنْ سَبَقُوه في هذا الفَنّ، فَيسْتَفِيد مِنهم مَع تَقْيِيد مَا يَعِنّ له مِنْ رَأي وقَوْل "يَفْتَضّ فِيه للعِلْم أبْكَارَه، ويَجْنِي مِنْ رَوْضِه اليَانِع ثِمَارَه"

(1)

، فَيُفِيد مِنه مَنْ أتَى بَعْده، لِمَا أبْتَكَرَه مِنْ مَحَاسِن الْمَعَانِي، ولِمَا نَظَمَه مِنْ فَرِيد الْجَوَاهِر في سِلْك الاتِّبَاع، مُجانِبًا لِسُبُل أهْل الابْتِدَاع في الغَالِب، مُنَبِّهًا على مَزالِق أهل الأهواء.

يَكْتَنِف ذَلك أدَب جَمّ، وخُلُق رَفِيع، إذْ أنَّ مَنْ "لَم يَتَأدَّب مَع الأئمة في الْخِطَاب، أوْ فَجَّج العِبَارَة، وسَبَّ وجَدَّع، يَكُون جَزاؤه مِنْ جِنْس فِعْلِه"

(2)

.

فإن لَم يَكُنْ ذلك كَذلِك، فإنَّ قَوْلَ العَالِم مَطْرُوح، وعِلْمه مُبْتَذَل، لا يُكْتَب له القَبُول، ولا يَسْعَد بِالنَّجَاح.

ومِن هُنا - والله أعْلَم - وُضِع القَبُول لِتفسِير القرطبي، فأقْبَل عليه العُلَمَاء يَنْهَلُون مِنْ عِلْمِه، ويَعْجَبُون مِنْ أدَبِه، ويُشِيدُون بإنْصافِه، ويُثنُون على تَوَاضُعِه.

فالقرطبي أفَاد مِمَّنْ سَبَقُوه، وأفَاد مِنه كَثير مِمَّنْ أتَى بَعْدَه.

وهذا هو مِحْوَر البَحْث في هذا الفَصْل، وفي هَذا الفَصْل ثَلاثة مَبَاحِث:

(1)

مقتبس - بتصرف - من "نفح الطيب"، مرجع سابق (6/ 57).

(2)

مقتبس - بتصرف - من "سير أعلام النبلاء"، مرجع سابق (18/ 186).

ص: 552

‌المبحث الأول: إفادة القرطبي ممن سَبقوه، وإفادته لمن أتوا بعده، وموافقة غيره له

لَمّا كان هذا الْعِلْم نَسَب ووشِيجَة بَيْن أهْلِه، أفَاد اللاحِق مِنْ السَّابِق، إلَّا أنَّ اللاحِق قد يَكُون أبْصَر بِمَوَاقِع الْخَلَل؛ تَارَة حِين تَكُون بِدَايات العِلْم وتأصِيلاته، ولَمَّا يَسْتوي ذلك العِلْم على سُوقِه ويَشْتَدّ، وتَارَة حِين يَكُون السَّابق في زَمَانِ قُوَّة لِدَوْلَة الإسْلام، وهَيمَنة الْحَقّ، وانْزِواء البَاطِل، فلا يَكَاد البَاطِل، يَرْفَع رَأسًا! ولا يُظهِر وَجْهًا، فإذا مَا ضَعُفَتْ دَوْلَة الإسْلام، أوْ خَبَا نُور الْحَقّ، ظَهَرَتْ خَفَافِيش الظَّلَام، إذْ أنَّ "نُور الْحَقّ أضْوأ مِنْ الشَّمْس، فَيَحِقّ لِخَفَافِيش البَصَائر أنْ تَعْشُو عَنه"

(1)

.

وعند ذلك تُثَار الشُّبُهَات، وتَرُوج الأبَاطِيل؛ لِهَذا وغيره فَقد يَكُون العَالِم أنْبَه إلى دَحْض الشُّبُهَات، وإلى تَفْنِيد الأبَاطِيل؛ لِمَا قد يَكُون في عَصْرِه مِنْ رَوَاجٍ لَها، واغْتِرَارِ فِئام مِنْ النَّاس بِزُخْرُف القَول.

ومِن هَذا الْمُنْطَلَق فإنَّ عِنَايَة القُرطبي بإزَالة الشُّبْهَة حَوْل النَّصّ، ودَفْع التَّعَارُض رُبَّمَا كَانت أبْرَز مِمَّا لَدَى بَعض مَنْ سَبَقُوه.

وقد أفَاد القرطبي مِنْ أئمَّة التَّفْسِير واللغَة، وأفاد مِنه مَنْ أتَى بَعْدَه في مَجَالات شَتَّى.

أمَّا إفَادَة القرطبي مِمَّنْ سَبَقُوه فَقَد أفَاد من ابن جرير، وهو يَنقُل عنه كَثِيرًا ولا يُشِير إليه إلَّا في مَوَاضِع قَلِيلة، بِخِلاف ابن كثير، فإنه إذا نَقَل صَرَّح بِمَنْ يَنْقُل عنه.

كَمَا أنَّ القرطبي يَنقُل عن ابن عطية كَثِيرًا، ويَذكُره صَرَاحة في بَعض الْمَوَاطِن، ويَنْقُل عنه ولا يُشير إليه في مَوَاطِن أُخْرَى.

وسَوف أقتَصِر في هذا المبحث على مِثَالَين في إفَادَته مِمَّنْ سَبَقَه، ومِثَالَيْن في إفَادَة مَنْ أتَوا بَعده مِنه؛ إذ الْمَقْصُود بَيَان طَرِيقَتِه، وإيضَاح منهجه، وأثَره فِي مَنْ أتَى بَعده في هذا الجَانِب لِدَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض.

(1)

الفوائد، ابن القيم (ص 82).

ص: 553

ومِن الأمْثِلَة في هذا الْمَوضع لَدى القرطبي مَا يلي:

‌المثال الأول:

نَفْي الْجُنَاح عَمَّن شَرِب الْخَمْر إذا اتَّقَى الله:

قَوله تَعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة: 93]، مَع قَوله تَعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 90].

‌صورة التعارض:

في الآيَة الأُولَى نَفْي الْحَرَج ورَفْع الْجُناح عمَّن طَعِم مَا طَعِم إذا اتَّقَى الله، وفي الآيَة الثَّانية إثْبَات الْحَرَج وكَون الْخَمْر مِنْ الرِّجْس، وتَعْلِيق الفَلاح على اجْتِنَاب الْمَذْكُورَات في الآيَة، مَع أنَّ رَفْع الْجُنَاح مُتَأخِّر في السِّياق عن آيَة تَحْرِيم الْخَمْر.

مع ما في الآية الأولى من تكرار الأمر بالتقوى.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

قَوله تعالى: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فِيه أرْبَعَة

(1)

أقْوَال:

(1)

لم يذكر إلا ثلاثة أقوال، قال عبد الرزاق المهدي في حاشية الجامع لأحكام القرآن (6/ 276): لعل قول ابن جرير هو الرابع.

ص: 554

الأوَّل: إنه لَيس في ذِكْر التَّقْوى تِكْرَار، والْمَعْنَى: اتَّقَوا شُرْبَها وآمَنُوا بِتَحْرِيمِها، والْمَعْنَى الثَّاني

(1)

: دَام اتِّقَاؤهم وإيمانُهم. والثَّالث

(2)

: على مَعْنَى الإحْسَان إلى الاتِّقَاء.

والثَّاني: اتَّقَوا قَبل التَّحْرِيم في غَيرها مِنْ الْمُحَرَّمَات، ثم اتَّقَوا بَعْد تَحْرِيمها شُرْبها، ثم اتَّقَوا فِيما بَقِي مِنْ أعْمَالِهم وأحْسَنُوا العَمَل.

الثَّالث: اتَّقَوا الشِّرْك وآمَنُوا بِالله ورَسُولِه، والْمَعْنَى الثَّاني: ثم اتقوا الكبائر، وازْدَادُوا إيمانًا، ومَعْنَى الثَّالث: ثم اتَّقَوا الصَّغَائر وأحْسَنُوا، أي: تَنَفَّلُوا.

وقال محمد بن جرير

(3)

: الاتِّقَاء الأوَّل

(4)

هو الاتِّقَاء بِتَلَقِّي أمْر الله بِالقَبُول والتَّصْدِيق والدَّيْنُونَة به والعَمَل، والاتِّقَاء الثَّاني الاتِّقاء بالثَّبَات على التَّصْدِيق، والثَّالث الاتِّقَاء بِالإحْسَان والتَّقَرُّب بِالنَّوافِل.

ثم ذَكَر القرطبي قِصَّة تأوُّل قُدامة بن مظعون رضي الله عنه، كَمَا ذَكَر قَول ابن عباس في الآيَة الثانية: إنَّ هَؤلاء الآيات أُنْزِلْنَ عُذْرًا لِمَنْ غَبَر، وحُجَّة على النَّاس، لأنَّ الله تَعَالى يَقُول:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ)[المائدة: 90] الآية، ثم قَرأ حَتى أنْفَذ الآيَة الأُخْرَى، فإن كان مِنْ الذِين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَات، فإنَّ الله قد نَهَاه أن يَشْرَب الْخَمْر

(5)

.

وأوْرَد القرطبي مَا ذَكَرَه الكِيا الطَّبري مِمَّا "رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنّ قَومًا شَرِبُوا بِالشَّام وقَالُوا: هي لَنا حَلال، وتأوّلُوا هَذه الآيَة. فأجْمَع عليّ وعُمر عَلَى أن يُسْتَتَابُوا، فإن تَابُوا وإلَّا قُتِلُوا

(6)

"

(7)

.

(1)

للتقوى في الموضع الثاني.

(2)

أي: لذكر التقوى وتكرارها في الآية، فهي قد تكررت في الآية ثلاث مرات.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (8/ 665). وفيه: والاتقاء الثالث هو الاتقاء بالإحسان، والتقرب بنوافل الأعمال.

(4)

هو قوله: (إِذَا مَا اتَّقُوا).

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 276، 277).

(6)

رواه مطولًا: ابن أبي شيبة (ح 28409)، وعزوه إلى ابن أبي شيبة أولى.

(7)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 278).

ص: 555

وكان القرطبي ذَكَر في أوَّل تَفْسِير الآيَة قول "ابن عباس

(1)

والبراء بن عازب

(2)

وأنس بن مالك

(3)

أنه لَمَّا نَزَل تَحْرِيم الْخَمْر قَال قَوْم مِنْ الصَّحَابَة: كَيف بِمَنْ مَات مِنَّا وهو يَشْرَبها ويَأكل الْمَيْسِر، ونحو هذا؟ فَنَزَلَتْ الآيَة.

وأوْرَد ما رَواه البخاري

(4)

عن أنس قال: كُنْت سَاقِي القَوْم في مَنْزِل أبي طَلحة فَنَزَل تَحْرِيم الْخَمْر، فأمَر مُنَادِيًا يُنَادِي

(5)

، فقال أبو طلحة: أُخْرُج فانْظُر مَا هَذا الصَّوْت. قال: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هذا مُنادٍ يُنَادِي: ألَا إنَّ الْخَمْر قد حُرِّمَتْ. فَقَال: اذْهَب فأهْرِقْها - وكان الْخَمْر مِنْ الفَضِيخ

(6)

- قال: فَجَرَتْ في سِكَكِ الْمَدِينَة، فَقَال بَعْض القَوْم: قُتِل قَوْم وهي في بُطُونِهم، فأنْزَل الله عز وجل:(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآيَة".

و"هَذه الآيَة وهَذا الْحَدِيث نَظِير سُؤَالِهم عَمَّن مَات إلى القِبْلَة الأُولى فَنَزَلَتْ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانُكُمْ)[البقرة: 143]

(7)

، ومَن فَعَل مَا أُبِيح له حَتى مَات على فِعْلِه لَم يَكُنْ لَه ولا عَليه شَيء، لا إثْم ولا مُؤَاخَذَة، ولا ذَمَّ ولا أجْر ولا مَدْح؛ لأنَّ الْمُبَاح مُسْتَوى الطَّرَفِين بِالنِّسْبَة إلى الشَّرْع"

(8)

.

(1)

رواه أحمد (ح 2452)، والترمذي (ح 3052) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال محققو المسند: صحيح لغيره.

(2)

رواه الترمذي (ح 3050) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

هو الحديث الآتي.

(4)

(ح 2332)، ورواه مسلم (ح 1980).

(5)

في رواية للبخاري: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. وفي روايةٍ لمسلمٍ: فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت.

(6)

"هو البسر يشدخ ويفضخ ويلقى عليه الماء لتسرع شدته"(مشارق الأنوار، القاضي عياض 2/ 160).

(7)

رواه البخاري (ح 4216) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(8)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 273، 274).

ص: 556

وفي آيَة تَحْرِيم الْخَمْر نَصّ القرطبي على أنَّ تَحْرِيم الْخَمْر نَزَل "في سَنَة ثَلاث بَعْد وَقْعَة أُحُد، وكَانت وَقْعَة أُحُد في شَوَّال سَنَة ثَلاث مِنْ الْهِجْرَة"

(1)

.

كَمَا نَصّ على أنَّ "تَحْرِيم الْخَمْر كان بِتَدْرِيج ونَوَازل كَثِيرة، فإنَّهم كَانُوا مُولَعِين بِشُرْبِها

حتى نَزَلَتْ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ) الآيَة، فَصَارَتْ حَرَامًا عليهم حتى صَار يَقُول بَعْضُهم: مَا حَرَّم الله شيئًا أشَدّ مِنْ الْخَمْر"

(2)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ تَحْرِيم الْخَمْر نَزَل بِالتَّدْرِيج، ثم كان آخِر الأمْر التَّشْدِيد في تَحْرِيم الْخَمْر.

2 -

أنَّ نَفْي الْجُنَاح عَمَّن شَرِب الْخَمْر إنَّمَا هو في حَقّ مَنْ مَات قَبل تَحْرِيمها.

‌رأي الباحث:

أفَاد القُرطبي في هَذا الْمَوضِع مِنْ جَواب ابن جرير، فِيمَا يَتَعَلَّق بِتِكْرَار اشْتِراط التَّقْوَى في الآيَة.

والْجَمْع بَيْن الآيَتَين أن يُقَال: تَحْرِيم الْخَمْر كان آخِر الأمْر بَعْد تَدَرُّجٍ في تَحْرِيمه، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: ولو نَزَل أوّل شَيء لا تَشْرَبُوا الْخَمْر، لَقَالُوا: لا نَدَع الْخَمْر أبَدًا

(3)

.

وتأخّر نَفِي الْجُنَاح عن آيَة تَحْرِيم الْخَمْر لِكَون السُّؤَال عَمَّن مَات وهي في بَطْنِه كان بَعْدَ ذلك.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 267)، وقال قتادة: نزل تحريم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب. (الدر المنثور، مرجع سابق 3/ 165)، وانظر الخلاف في زمن وقوع غزوة الأحزاب: السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 180)، وصحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي (ص 264).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 267) باختصار.

(3)

رواه البخاري (ح 4707).

ص: 557

‌المثال الثاني:

لا يُؤاخَذ الإنْسَان إلَّا بِمَا عَمِل:

قَوله تَعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]، وقَوله تَعالى:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)[فاطر: 18]، مَع قَوله تَعالى:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[النحل: 61]، وقَوله:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)[فاطر: 45].

‌صورة التعارض:

في الآيَتَين الأُولَيَين نَفْي أن يُؤَاخَذ الإنْسَان بِذنْب غَيره، وفي الآيَتَين الأُخْرَيَيْن إمْكَانِية وُقُوع ذَلك، لو أنَّ الله يُؤاخِذ النَّاس بِمَا كَسَبُوا.

مَع قَول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رِمْثة - حَيث جَاء ومَعه ابنه -: أمَا إنك لا تَجْنِي عليه ولا يَجْنِي عليك. ثم تَلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

(1)

.

(1)

رواه أحمد (ح 7109)، وأبو داود (ح 4208)، والنسائي (ح 4832)، وابن ماجه مختصرًا (ح 2671) ووقع اسم الصحابي عند ابن ماجه "الخشخاش العنبري"، وفي الإصابة، ابن حجر (7/ 118): وقيل: اسمه حيان .... وقيلك حبيب بن حيان. وقيل: حسحاس، وفي الاستيعاب، ابن عبد البر (1/ 322): حبيب بن حيان أبو رمثة التميمي. اهـ. وبني العنبر بطن من تميم (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، القلقشندي 1/ 24).

فإن كان قيل في اسمه (حسحاس) فلعل ما عند ابن ماجه تصحيف، إذ في شرح سنن ابن ماجه، السندي (3/ 288): وليس "للخشخاش" سوى هذا الحديث الموجود عند ابن ماجه، وليس له في بقية الأصول الخمسة. اهـ.

وهذا يقوي أن يكون هو "الحسحاس" وكنيته "أبو رمثة"، ثم رأيت في "تهذيب الكمال"، المزي (33/ 316) في ذكر اسمه ما نصه: وقيل: حبيب بن حيان، وقيل: خشخاش.

ص: 558

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي:

قَوله تَعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) أي: لا يَنْفَعُنِي في ابْتِغَاء رَبّ غَير الله كَونُكم على ذلك؛ إذْ لا تَكْسِب كُلّ نَفْس إلَّا عليها، أي: لا يُؤخَذ بِمَا أَتَتْ مِنْ الْمَعْصِية، ورَكِبَت مِنْ الْخَطِيئة سِوَاها.

وقال عُلَمَاؤنا: الْمُرَاد من الآيَة تَحَمُّل الثَّوَاب والعِقَاب دُون أحْكَام الدُّنيا، بِدَلِيل قَوله تَعالى:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) على ما يأتي.

قَوله تَعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي: لا تَحْمِل حَامِلة ثِقَل أُخْرى، أي: لا تُؤخَذ نَفْس بِذَنْب غَيرها، بل كُلّ نَفْس مَأخُوذة بِجُرْمِها ومُعَاقَبة بإثْمِها، وأصْل الوِزْر الثِّقْل

(1)

. والآيَة نَزَلَتْ في الوَليد بن المغيرة كان يَقُول: اتَّبِعُوا سَبِيلي أحْمِل أوْزَارَكم.

ذَكَرَه ابن عباس.

وقيل: إنها نَزَلَتْ رَدًّا على العَرَب في الْجَاهِلِيَّة مِنْ مُؤاخَذَة الرَّجُل بِأبِيه وبِابْنِه وبِجَرِيرَة حَلِيفِه.

قلت: ويُحْتَمَل أن يَكُون الْمُرَاد بهذه الآيَة في الآخِرَة، وكَذلك التي قَبْلَها

(2)

فأمَّا التي في الدُّنيا فَقَد يُؤاخَذ فيها بَعْضُهم بِجُرْم بَعْض، لا سِيّما إذا لم يَنْه الطَّائعُون العَاصِين.

وقد يُحْتَمَل أن يَكُون هذا في الدُّنيا في ألَّا يُؤاخَذ زَيد بِفِعْل عَمْرو، وأنَّ كُلّ مُبَاشِر لِجَرِيمةٍ فَعَلَيْه مُغَبَّتُها.

(1)

وقريب منه قول ابن جرير (10/ 48) يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يُؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة سواها، بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه، والمأخوذ بذنبه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها، ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب دون إثم أخرى غيرها.

(2)

لعله يعني قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الأنعام: 160].

ص: 559

ولا يُعَارَض مَا قُلْناه أوَّلًا بِقَوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)[العنكبوت: 13]، فإنَّ هَذا مُبَيَّن في الآيَة الأخْرَى قَوله:(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)[النحل: 25]، فَمَنْ كَان إمَامًا في الضَّلالَة ودَعَا إليها واتُّبِع عَليها فإنه يَحْمِل وزْر مَنْ أضَلَّه مِنْ غير أن يَنْقُص مِنْ وِزْر الْمُضِلّ شيء

(1)

.

وفي آية العنكبوت: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) قال القرطبي: ونَظِيره قوله تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

(2)

.

وفي قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا)[فاطر: 18] نَقَل القرطبي قول الفرّاء: أي نَفْس مُثْقَلَة، أو دَابّة، قال: وهذا يَقَع للمُذَكّر والْمُؤنّث.

وقول الأخفش: أي: وإن تَدْعُ مُثْقَلة إنْسَانًا إلى حَمْلِها، وهو ذُنُوبها

وحَكَى سيبويه: النَّاس مَجْزِيُّون بأعْمَالِهم إن خَير فَخَير؛ على هذا، وخيرًا فَخَير؛ على الأوَّل

(3)

.

ويَقول في آيَة "النحل": (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ): أي: بِكُفْرِهم وافْتِرَائهم وعَاجَلَهم (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) أي: على الأرض، فهو كِنَاية عن غير مَذْكُور، لكن دَلّ عليه قَوله:(مِنْ دَابَّةٍ)، فإنَّ الدَّابة لا تَدِبّ إلَّا على الأرْض، والْمَعْنَى الْمُرَاد: مِنْ دَابة كَافِرَة، فهو خَاص

(4)

. وقِيل: الْمَعْنَى: أنه لو أهْلَك الآبَاء بِكُفْرِهم لم تَكُنْ الأبْنَاء. وقِيل: الْمُرَاد بِالآيَة العُمُوم، أي: لو آخَذ الله الْخَلْق بِمَا كَسَبُوا ما تَرَك على ظَهْر هذه الأرْض من دَابة مِنْ نَبِيّ ولا غَيره، وهذا قول الحسن.

وقال ابن مسعود - وقَرأ هذه الآية -: لو آخَذ الله الخلائق بِذُنُوب الْمُذْنِبِين لأصَاب العَذَاب جَمِيع الْخَلْق حتى الْجُعْلان في

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 140 - 143) باختصار.

(2)

المرجع السابق (13/ 293).

(3)

المرجع السابق (14/ 294، 295).

(4)

والقول بالعُموم أوْلَى؛ لأن الدواب لا توصف بالكفر، بل ذلك شأن العقلاء.

ص: 560

جُحْرِها، ولأمْسَك الأمْطَار مِنْ السَّمَاء، والنَّبَات مِنْ الأرْض؛ فَمَات الدَّوَابّ، ولكن الله يَأخُذ بِالعَفْو والفَضْل، كَما قال:(ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[المائدة: 15]، [الشورى: 30]. (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ)، أي: أجَل مُوْتِهم، ومُنْتَهَى أعْمَارهم (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وقد تقدم.

فإن قيل: فكيف يَعُمّ بالْهَلاك مع أنَّ فيهم مُؤمِنًا لَيس بِظَالِم؟

قيل: يَجْعَل هَلاك الظَّالِم انْتِقَامًا وجَزَاء، وهَلاك الْمُؤمن مُعَوَّضًا بِثَواب الآخِرَة.

وفي صحيح مسلم

(1)

عن عبد الله بن عمر قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أرَاد الله بِقَوْم عَذابا أصَاب العَذَاب مَنْ كان فِيهم، ثم بُعِثُوا على نِيَّاتِهم.

وعن أم سَلمة وسُئلت عن الجيش الذي يُخْسَف به - وكان ذلك في أيام ابنِ الزبير - فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَعُوذ بِالبَيت عَائذ، فَيُبْعَث إليه بَعْث، فإذا كَانوا بِبَيْدَاء مِنْ الأرْض خُسِف بِهم. فقلت: يا رسول الله! فكيف بِمَنْ كان كَارِهًا؟ قال: يَخْسِف به معهم، ولكنه يُبْعَث يَوْم القِيَامَة على نِيَّتِه

(2)

(3)

.

وفي قَوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا)[فاطر: 45] قال القرطبي: يَعني مِنْ الذُّنُوب. (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)، قال ابن مسعود: يُرِيد جَمِيع الْحَيَوَان مِمَّا دَبّ ودَرَج. قال قتادة: وقَد فَعل ذلك زَمَن نُوح عليه السلام. وقال الكلبي: (مِنْ دَابَّةٍ):

(1)

(ح 2879)، ورواه البخاري (ح 6691)، وفيهما: ثم بُعِثُوا على أعْمَالِهم.

(2)

رواه مسلم (ح 2882) وهو مخرج في الصحيحين من حديث عائشة بمعناه. البخاري (ح 2012).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 106، 107).

ص: 561

يُرِيد الْجِنّ والإنْس دُون غيرهما؛ لأنَّهُما مُكَلَّفَان بالعَقْل. وقال ابن جرير

(1)

والأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدَّابة هنا النَّاس وَحْدَهم دُون غَيرهم.

قلت: والأوَّل أظْهر؛ لأنه عَنْ صَحابي كَبير. قال ابن مسعود: كَاد الْجُعَل أن يُعَذَّب في جُحْرِه بِذنْب ابنِ آدَم

(2)

.

وقال يحيى بن أبي كثير: أمَرَ رَجُل بِالْمَعْرُوف ونَهَى عن الْمُنْكَر. فَقَال له رَجُل: عليك بِنَفْسِك، فإنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلَّا نَفْسَه. فقال أبو هريرة: كَذَبْت والله الذي لا إله إلا هو، ثم قال: والذي نفسي بِيَدِه إنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هَزْلًا

(3)

في وَكْرِها بِظُلْم الظَّالِم

(4)

.

وقال الثُّمَالي ويَحيى بن سلّام في هذه الآية: يَحْبِس الله الْمَطَر فيَهْلِك كُلّ شَيء.

وقد مَضَى في البقرة

(5)

نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تَفْسِير: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)[البقرة: 159]: هُمْ الْحَشَرَات والبَهَائم يُصِيبهم الْجَدْب بِذُنُوب عُلَمَاء السُّوء الكَاتِمِين فَيَلْعَنُونَهم.

(1)

الذي في تفسيره (جامع البيان 19/ 396، 397): يقول تعالى ذكره: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ) يقول: ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب والمعاصي، واجترحوا من الآثام، ما ترك على ظهرها من دابة تدب عليها، (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول: ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده محدود، لا يقصرون دونه، ولا يجاوزونه إذا بلغوه.

(2)

رواه ابن جرير في "جامع البيان"، مرجع سابق (14/ 260). وينظر: الدر المنثور، مرجع سابق (5/ 140).

(3)

في القاموس المحيط (ص 1383): والهزال، بالضم نقيض السمن، وهزل، كعني، هزالًا، وهزل، كنصر، هزلًا، ويضم.

(4)

رواه ابن جرير في "جامع البيان"، مرجع سابق (14/ 260) وينظر أيضًا: الدر المنثور، مرجع سابق (5/ 140)، ولتخصيص الحبارى دون غيرها: انظر: "غريب الحديث"، ابن قتيبة (2/ 396)، و"النهاية في غريب الحديث"، ابن الأثير (1/ 328).

(5)

انظر: (2/ 183).

ص: 562

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

لا تَكْسِب كُلّ نَفْس إلَّا عليها، فلا يُؤخَذ بِمَا أَتَتْ مِنْ الْمَعْصِيَة، ورَكِبَت مِنْ الْخَطِيئة سِوَاهَا.

2 -

الْمُرَاد مِنْ الآيَة تَحَمُّل الثَّوَاب والعِقَاب دُون أحْكَام الدُّنيا.

3 -

وفي الدُّنيا قد يُؤاخَذ فيها بَعْضُهم بِجُرْم بَعض، لا سِيَّما إذا لم يَنْه الطَّائعُون العَاصِين.

4 -

الْمُرَاد بِقَولِه تَعَالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقًالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) أي: يَحمِلُون مِنْ أوْزَار الذين أضَلُّوهُم بِغَير عِلْم.

5 -

لو يُؤاخِذ الله الْخَلائق بِذُنُوب الْمُذْنِبِين لأصَاب العَذَاب جَمِيع الْخَلْق.

‌رأي الباحث:

أفَاد القرطبي مِنْ ابن جرير، حيث أوْرَد مِنْ الرِّوَايات مَا أوْرَده ابن جرير، إلَّا أنه أوْرَد عن ابن جرير خِلاف مَا اخْتَارَه ابن جرير.

وأمَّا الْجَمْع بَيْن الآيَات فَكَمَا تَقَدَّم، وذلك أنَّ الإنْسَان لا يَكْسِب إثْمًا يُؤاخَذ بِه غَيره، إلَّا إذا وَقَع الغَير فِيمَا يُوجِب الْمُؤَاخَذَة، كَالتَّقْصِير في الأمْر والنَّهْي، أوْ أنَّ يَكُون سَبَبًا في ضَلال غيره، ونَحو ذلك.

فَقَول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رِمْثَة عن ابْنه: أمَا إنك لا تَجْنِي عليه ولا يَجْنِي عَليك. وتِلاوَة رَسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

(1)

؛ فهو على أصْل الْجِنَايَة، أمَّا إذا ارْتَكَب الأب أوْ الابْن مَا يُوجِب الْمُؤَاخَذَة؛ فإنه يُؤاخَذ بِمَا جَنَاه، كأن يُقَصِّر الوَالد في تَرْبِيَة وَلَدِه، أوْ يَكُون غَاشًّا لهم ولا يُمْحِض لهم النُّصْح؛

(1)

سبق تخريجه، وقد رواه أحمد وغيره.

ص: 563

فإنه يُؤَاخَذ بِذلك، ومِنه قَوله صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ عَبْد يَسْتَرْعِيه الله رَعِيّة يَمُوت يوم يَمُوت وهو غَاشّ لِرَعِيَّتِه إلَّا حَرَّم الله عليه الْجَنَّة

(1)

.

وفي رواية: ما مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيه الله رَعِيَّة فلم يُحْطِها بِنُصْحِه إلَّا لَم يَجِد رَائحَة الْجَنَّة

(2)

.

ألا تَرَى أنَّ الإنْسَان يُعذَّب إذا نَاح عَليه أهْلُه، إذا كَان النَّوْح مِنْ عَادَتِهم، وكان يَرَاهُم في الدُّنيا ولا يُنكِر عَليهم؟

وتَحَمَّل قَابِيل جُزْءًا مِنْ كُلّ دَمٍ يُسْفَك؛ لأنه أوَّل مَنْ سَنَّ القَتْل

(3)

.

قال البخاري: باب قَول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُعَذَّب الْمَيت بِبَعْض بُكَاء أهْلِه عليه" إذا كان النَّوْح مِنْ سُنَّتِه، لِقَول الله تَعَالى:(قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)[التحريم: 6]، وقَال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُّكُم رَاعٍ ومَسؤول عن رَعِيَّتِه" فإذا لم يَكُنْ مِنْ سُنَّتِه فَهو كَمَا قَالتْ عَائشَة رضي الله عنها: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام: 164]، [الإسراء: 15]

(4)

، وهو كَقَولِه:(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ذُنُوبًا (إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ)، ومَا يُرَخَّص مِنْ البُكاء في غَير نَوْح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُقْتَل نَفْس ظُلْمًا إلَّا كان على ابنِ آدَم الأوَّل كِفْل مِنْ دَمِها؛ وذلك لأنه أوَّل مَنْ سَنَّ القَتْل

(5)

.

(1)

رواه البخاري (ح 6732)، ومسلم (ح 142).

(2)

هي رواية للبخاري (ح 6731).

(3)

الحديث الوارد فيه: رواه البخاري (ح 3157)، ومسلم (ح 1677).

(4)

أي: مثل استدلال عائشة رضي الله عنها، فإنها قد استدلت بهذه الآية على تخصيص تعذيب الميت ببكاء الحي بالكافر. وينظر لذلك: صحيح البخاري (ح 1226)، ومسلم (ح 927)، وفتح الباري، ابن حجر، مرجع سابق (3/ 152 وما بعدها)، و"الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة"، الزركشي. وفي كشف الظنون حاجي خليفة (2/ 1181): عين الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، لجلال الدين السيوطي.

(5)

صحيح البخاري (1/ 431).

ص: 564

قال ابن حجر: فَالْحَدِيث

(1)

وإن كان دَالًّا على تَعْذِيب كُلّ مَيت بِكُلّ بُكَاء لكن دَلَّتْ أدِلَّة أُخْرَى على تَخْصِيص ذلك بِبعْض البُكَاء

وتَقْيِيد ذلك بِمَنْ كَانت تِلْك سُنَّته، أوْ أهْمَل النَّهْي عن ذلك؛ فَالْمَعْنَى على هذا أنَّ الذِي يُعَذَّب بِبعْض بُكَاء أهْلِه مَنْ كان رَاضِيًا بِذلك، بأن تَكُون تلك طَرِيقَته. اهـ.

"فإن الذي سَنَّ السُّنَّة السَّيِّئَة إنَّمَا حَمَل وِزْر سُنَّتِه السَّيِّئَة"

(2)

.

وأمَّا تَعَدِّي الْهَلاك إلى الدَّوَاب بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاس وبِظُلْم الظَّالِمِين، فَهَذا مُقْتَضَى سُنَّة الله في خَلْقِه.

ألا تَرى أنَّ البَهَائم تُمْنَع الْمَرْعَى بِذُنُوب بَني آدَم؟

وفي الْحَدِيث: ولم يَمْنَعُوا زَكَاة أمْوَالِهم إلَّا مُنِعُوا القَطْر مِنْ السَّمَاء، ولوْلا البَهَائم لم يُمْطَرُوا

(3)

.

ومَوْت الفَاجِر والكَافِر رَاحَة للحَيَوَان والْجَمَاد!

ففي الحديث: الْعَبْد الْمُؤمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ

(4)

.

(1)

يَعني قوله صلى الله عليه وسلم: الميت يُعَذّب بِبُكاء الحي عليه.

(2)

فتح القدير، مرجع سابق (4/ 345).

(3)

رواه ابن ماجه (ح 4019)، وقال الألباني: حسن (صحيح سنن ابن ماجه ح 3246)، و"الصحيحة"(ح 106).

(4)

رواه البخاري (ح 6147)، ومسلم (ح 950).

ص: 565

إفادة القرطبي ممن سَبقوه:

أفَاد القرطبي كَثِيرًا مِنْ ابن جرير، كيف لا؟ وابن جرير هو صَاحِب قَدَم السَّبْق في مَجَال التَّفْسِير.

وقد أثْنَى القرطبي على ابنِ جرير، ونَقَل عن ابن عطية قَوله: وألَّف النَّاس فيه

(1)

كعبد الرزاق، والْمفَضَّل، وعلي بن أبي طلحة، والبُخاري، وغيرهم، ثم إنَّ محمد بن جرير رحمه الله جَمَع على النَّاس أشْتَات التَّفْسِير، وقَرَّب البَعِيد مِنها، وشَفَى في الإسْنَاد

(2)

.

ونَقَل القرطبي عن ابن جرير بَعْضَ آرَائه الفِقْهِيَّة. فَفِي حُكْم الْمَضْمَضَة والاسْتِنْشَاق قال: وبِذلك قال محمد بن جرير الطبري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وجَمَاعة من التابعين

(3)

.

ونَقَل عن ابن عبد البر قَوله في صِفَة الأذَان: ذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري إلى إجَازَة القَول بِكُلّ مَا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَمَلُوه على الإبَاحَة والتَّخْيِير

(4)

.

وكما نَقَل القرطبي عن ابن جَرير بعض آرَائه الفِقْهِيَّة، فقد نَقَل عنه بَعض آرَائه الاعْتِقَادِيَّة، فَقَال في قَوله تَعالى:(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48، 116]: مِنْ الْمُتَشَابِه الي قد تَكَلَّم العُلَمَاء فيه؛ فقال محمد بن جرير الطبري

(5)

: قد أبَانَتْ هذه الآية أنّ كُلّ صَاحِب كَبِيرة فَفي مَشِيئة الله تعالى، إن شَاء عَفَا عَنه ذَنْبه، وإن شَاء عَاقَبه عليه، مَا لَم تَكُنْ كَبِيرته شِرْكًا بِالله تَعالى

(6)

.

(1)

أي: في التفسير.

(2)

مقدمة الجامع لأحكام القرآن (1/ 71).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 206).

(4)

المرجع السابق (6/ 214).

(5)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 123).

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 236).

ص: 566

كما حَكَى القرطبي عن ابن جرير بَعض آرَائه اللغَوية، إذ يَقُول القرطبي بعد حِكَاية أقْوال أئمَّة اللغَة في قَوله تَعالى:(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)[النساء: 162]: وحكى محمد بن جرير

(1)

أنه قِيل له: إنَّ الْمُقِيمِين هاهنا الْمَلائكَة عليهم السلام، لِدَوَامِهم على الصَّلاة والتَّسْبِيح والاسْتِغْفَار، واخْتَار هذا القَول، وحَكَى أنَّ النَّصْب على الْمَدْح بَعِيد، لأنَّ الْمَدْح إنَّمَا يَأتي بَعد تَمَام الْخَبَر

(2)

.

ونَقَل عنه بعض مَرْويَّاتِه، إذ يَقُول القرطبي:

وذَكَرَ محمد بن جرير

(3)

أنَّ ابن وكيع حَدَّثَهم عن أبيه عن شَريك عن أبي حَصين عن سعيد بن جبير أنَّ الأزْلام حَصَى بِيض كَانوا يَضْرِبُون بِها. قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشِّطْرَنْج

(4)

(5)

.

كما أفاد القرطبي مِنْ ابن عبد البر، ونَقَل عنه في مَواضِع كَثِيرة، فَعَلَى سَبِيل الْمِثَال أفَاد مِنه في أسْمَاء الرِّجَال وَرُوَاة الْحَدِيث، فَمِنْ ذلك مَا نَقَله القرطبي في اسْم أبي سعيد مَولى عبد الله بن عامر بن كُريز وقَول ابن عبد البر: أبو سَعيد لا يُوقَف له على اسْم، وهو مَعْدُود في أهْل الْمَدِينَة، رِوَايَتُه عن أبي هريرة، وحَدِيثُه هَذا مُرْسَل، وقد رَوى هذا الْحَدِيث عن أبي سعيد بن الْمُعَلّى رَجُل مِنْ الصَّحَابَة لا يُوقَف على اسْمِه أيضًا، رَوَاه عنه حفص بن عاصم وعُبيد بن حنين.

وتَعَقّب القرطبيُّ ابنَ عبدِ البر بِقَوْلِه:

(1)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (7/ 682 - 684).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 16).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (8/ 73).

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 57).

(5)

وسبق في "المثال الخامس" من المبحث الثالث من الفصل الثاني أن القرطبي أفاد من جواب ابن جرير دون الإشارة إليه.

وانظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 85 - 88) مقارنة بـ "جامع البيان"، مرجع سابق (7/ 696، 697).

ص: 567

قلت: كَذا قال في التَّمْهيد: "لا يُوقَف له على اسْم" وذَكَر في كِتَاب الصَّحَابَة

(1)

الاخْتِلاف في اسْمِه

(2)

.

وفي معرفة اسْم "أبي سَعيد بن الْمُعلَّى" نَقَل القرطبي عن ابن عبد البر قوله: أبو سعيد بن الْمُعلَّى مِنْ جِلّة الأنْصَار، وسَادَات الأنْصَار، تَفَرّد بِه البخاري، واسْمُه رَافع، ويُقال: الْحَارِث بن نُفيع بن الْمُعلَّى. ويُقَال: أوس بن الْمُعلَّى. ويُقَال: أبو سعيد بن أوس بن الْمُعلَّى. تُوفي سَنة أربع وسبعين، وهو ابن أربع وستين سنة، وهو أوّل مَنْ صَلّى إلى القبلة حين حُوِّلَتْ

(3)

.

ونَقَل عن ابن عبد البر بَعض آرَائه الفِقْهِيَّة، فَمِنْ ذلك سِياق اخْتِيار ابن عبد البر في "وُجُوب قِرَاءة الفَاتِحَة في الصَّلاة"، إذ يَقُول: قال ابن عبد البر: الصَّحِيح مِنْ القَول إلْغَاء تلك الرَّكْعَة، ويَأتي بِرَكْعَة بَدَلًا منها، كَمَنْ أسْقَط سَجْدَة سَهْوًا

(4)

.

ونَقَل القرطبي عن ابن عبد البر شَيئًا مِنْ آرَائه الْحَدِيثِيَّة، كما في حديث:"مَا مِنْ مُسْلم يَدعو بِدَعْوة ليس فيها إثْم ولا قَطِيعة رَحِم إلَّا أعْطَاه الله بِها إحْدَى ثَلاث: إمَّا أن يُعَجِّل له دَعْوته، وإمَّا أن يَدَّخِر لَه، وإمَّا أن يَكُفّ عنه مِنْ السُّوء بِمِثْلها. قَالوا: إذًا نُكْثِر. قال: الله أكثر"

(5)

. خَرَّجَه أبو عمر بن عبد البر

(6)

، وصَحَّحَه أبو محمد عبد الحق، وهو في الْمُوَطَّأ

(7)

مُنْقَطِع السَّنَد. قال أبو عمر: وهذا الْحَدِيث يُخَرَّج في التفسير الْمُسْنَد

(8)

.

(1)

يَعني به: الاستيعاب في معرفة الأصحاب.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 146).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 146، 147).

(4)

المرجع السابق (1/ 157).

(5)

الحديث مُسْنَدًا: رواه بِنحوه أحمد (ح 11133)، وقال مُحققو المسند: إسناده جيّد، ويُنظر تخريجه ثَمّ.

(6)

في التمهيد (5/ 343 وما بعدها).

(7)

(ح 504) من قول زيد بن أسلم.

(8)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 306).

ص: 568

وهو يَنقُل عن ابن عبد البر حِكَايته للإجْمَاع ويُوَافِقه، وقد يُخَالِفه في دَعْوى الإجْمَاع.

يقول القرطبي: أجْمَعَ الْمُسْلِمُون - فِيمَا ذَكَرَ ابن عبد البر أنَّ الْمُنْكَر وَاجِب تَغْيِيره على كُلّ مَنْ قَدَر عَليه، وأنه إذا لم يَلْحَقه بِتَغْييره إلَّا اللَّوم الذي لا يَتَعَدَّى إلى الأذَى فإنَّ ذلك لا يَجِب أن يَمْنَعه مِنْ تَغْييره، فإن لم يَقدِر فَبِلِسَانِه، فإن لم يَقْدِر فَبِقَلْبِه ليس عليه أكْثر من ذلك، وإذا أنْكر بِقَلْبِه فقد أدَّى مَا عليه إذا لم يَسْتَطِع سِوى ذلك.

قال: والأحَادِيث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تَأكِيد الأمْر بِالْمَعْرُوف والنَّهْي عن الْمُنْكَر كَثِيرَة جِدًّا، ولكِنَّها مُقَيَّدَة بِالاسْتِطَاعَة

وزَعَم ابن العربي أنّ مَنْ رَجَا زَوَاله وخَاف على نَفْسِه مِنْ تَغْييره الضَّرْب أوْ القَتْل جَازَ لَه عند أكْثَر العُلَمَاء الاقْتِحَام عند هذا الغَرَر، وإن لَم يَرْجُ زَوَاله فأيّ فَائدة عِنده؟ قال: والذي عِندي أنَّ النِّيَّة إذا خَلَصَتْ فَلْيَقْتَحِم كَيف مَا كان ولا يُبَالي. قلت: هذا خِلاف مَا ذَكَره أبو عُمر مِنْ الإجْمَاع، وهَذه الآيَة

(1)

تَدُلّ على جَوَاز الأمْر بِالْمَعْرُوف والنَّهْي عن الْمُنْكَر مَع خَوْف القَتْل. وقَال تَعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لقمان: 17]، وهَذا إشَارَة إلى الإذَايَة

(2)

.

ومِن ذلك أيضًا قَوله:

وقد ذَكَر أبو عُمر بن عبد البر الإجْمَاع في أنَّ سُورَة الأنعام مَكِّيَة إلَّا قَوله تَعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)[الأنعام: 151] الثَّلاث الآيَات، وقد نَزَل بَعدَها قُرآن كَثير وسُنَن جَمَّة

(3)

.

فالقرطبي يَعضُد أبْحَاثه بِأقْوَال الأئمَّة مِنْ قَبلِه.

(1)

يقصد الآية ذات الرقم (21) مِنْ سُورة آل عمران.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 51، 52) باختصار. وهذا البحث في تفسير قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)[آل عمران: 21].

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 103، 104).

ص: 569

وكذلك الأمْر بِالنِّسْبَة لِمَا يَنقُلُه عن ابن العربي، فيَذْكُره تَارَة، ويُغْفِل ذِكْرَه تَارَة أُخْرَى.

فقد نَقَل عن ابن العربي بعض آرَائه الفِقْهِيَّة، حيث نَقَل عنه قَوله في تَوجِيه صَلاته صلى الله عليه وسلم على "النَّجَاشي".

قال ابن العربي: والذي عِندي في صَلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النَّجَاشي أنه عَلِم أنَّ النَّجاشي ومَن آمَن مَعه ليس عِنْدهم مِنْ سُنَّة الصَّلاة على الْمَيِّت أثَر، فَعَلِم أنّهم سَيَدفُنونه بِغَير صَلاة، فَبَادَر إلى الصَّلاة عليه

(1)

.

ونَقَل القرطبي عن ابن العربي بَعض أقْوَاله في تَصْحِيح وتَضْعِيف الأحَادِيث، فقد ذَكَر "مَعْنَى (آمين) عند أكْثَر أهْل العِلْم"

ونَقَل عن "قَوْم: هو اسْم مِنْ أسماء الله.

رُوي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف. ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يَصِحّ. قاله ابن العربي"

(2)

.

كما حَكى عنه بعض اخْتِيَارَاته في القِرَاءات ووُجُوه التَّرْجِيح. فقد ذَكَر قول أبي حَاتم: إن "مَالِكًا"

(3)

أبْلَغ في مَدْح الْخَالق مِنْ مَلِك، ومَلِك أبْلَغ في مَدْح الْمَخْلُوقِين مِنْ مَالِك، والفَرْق بَينهما أنَّ الْمَالِك مِنْ الْمَخْلُوقِين قد يَكُون غَير مَلِك، وإذا كان الله تعالى مالِكًا كان مَلِكًا، واخْتَار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي، وذَكَر ثَلاثَة أوْجُه

(4)

.

ومع إفَادة القرطبي مِنْ ابن العربي، ونَعْتِه له بِالقَاضي، وتَكنِيَتِه له، واتِّفاقِهما في الْمَذْهُب، إلَّا أنَّ القرطبي لا يَتَوانَى عن مُنَاقَشة بَعض آرَاء ابن العربي، وَرَدّ مَا يَرِي أنه خالَف فيه الْجَادَّة.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 80).

(2)

المرجع السابق (1/ 171) باختصار.

(3)

يَعْني: على قِرَاءة (مَالِك يَوْمِ الدِّين).

(4)

المرجع السابق (1/ 185، 186).

ص: 570

فقد أوْرَد القرطبي الْخِلاف في مَسْألَة الْمُسَافِر "إذا اقْتَرَن بِضَرُورَته مَعْصِيَة بِقَطْع طَرِيق وإخَافَة سَبِيل"

قال ابن العربي: وعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيح له ذلك

(1)

مع التَّمَادِي على الْمَعْصِيَة، ومَا أظُنّ أحَدًا يَقُوله، فإن قَاله فهو مُخْطِئ قَطْعًا.

ثم تَعَقَّبَه بِقَولِه:

قلت: الصَّحِيح خِلاف هَذا، فإن إتْلاف الْمَرء نَفْسه في سَفَر الْمَعْصِية أشَدّ مَعْصِيَة مِمَّا هُو فِيه. قَال الله تَعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[النساء: 29]، وهَذا عَامّ، ولَعَلَّه يَتُوب في ثَاني حَالِ فَتَمْحُو التَّوْبَة عَنه مَا كَان

(2)

.

ومِن هَذا القِبِيل سِيَاقُه لِقَول ابن العربي: ولقد بَلَغَتِ الْجَهَالة بأقْوَام إلى أن قَالوا: يُقْتَل الْحُرّ بِعَبْد نَفْسِه، ورَوَوا في ذلك حَدِيثًا عن الْحَسَن عن سَمُرَة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَل عَبْدَه قَتَلْنَاه" وهو حَديث ضَعيف.

ثم رَدّ القرطبي تَضْعِيف ابن العربي للحَدِيث، فَقَال: هَذا الْحَدِيث الذي ضَعَّفه ابن العربي وهو صَحِيح: أخْرَجَه النسائي وأبو دَاود، وتَتْمِيم مَتْنِه:"ومَن جَدَعَه جَدَعْنَاه، ومَن أخْصَاه أخْصَينَاه". وقال البخاري عن علي بن المديني: سَمَاع الْحَسَن مِنْ سَمُرَة صَحِيح، وأخَذَ بِهَذا الْحَدِيث، وقال البخاري: وأنا أذْهَب إليه. فَلو لَم يَصِحّ الْحَدِيث لَمَا ذَهَب إليه هَذان الإمَامَان، وحَسْبُك بِهما

(3)

.

كَما نَقَل عن ابن العربي بَعض أقْوَاله في تَوْجِيه الآي، ودَفْع التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم، فقد دَفَع القرطبي التَّعَارُض الْمُتَوَهَّم في قَوله تَعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)[البقرة: 243] حيث قال: قال ابن العربي: أمَاتَهُم الله تعالى مُدَّة عُقُوبَة لَهم ثم أحْيَاهم، ومَيْتَة العُقُوبة بَعْدَها حَيَاة، ومَيْتَة الأجَل لا حَيَاة بَعْدَها

(4)

.

(1)

أي: الأكْل مِنْ المُحرَّمَات المذكورات في الآية.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 228، 229).

(3)

المرجع السابق (2/ 244).

(4)

المرجع السابق (3/ 220).

ص: 571

فالقرطبي يُفِيد مِمَّنْ سَبَقُوه دُون إفْرَاط ولا تَفْرِيط، يُفِيد مِنْ العَالِم دُون تَعصُّب لِقَول ولا لِمَذْهَب، فهو - غَالِبًا - يَتَّبِع الدَّلِيل، ويأخُذ بِالأثَر، ويُرجِّح مَا يَرَاه رَاجِحًا.

أمَّا إفَادَة القرطبي مِنْ ابن عَطية فَكَثيرة جِدًّا

(1)

.

وهو يُشِير إليه في مَواضِع

(2)

.

ويُهْمِل ذِكْره في مَواضِع أُخْرى

(3)

.

ويَنقُل عنه آرَاءَه في التَّفْسِير والقِرَاءات

(4)

.

ونَقَل عنه بَعْض أقْوَالِه وتَرْجِيحَاتِه، وهو يُوَافِقُه في كَثِير مِنْ اخْتِيَارَاتِه، فَمِنْ ذلك: نَقْله عن ابن عطية قَوله: ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثَبَت أنَّ الْمَمْسُوخ لا يَنْسُل

(5)

ولا يَأكل ولا يَشْرب، ولا يَعِيش أكْثَر مِنْ ثَلاثة أيام. قلت: هذا هو الصَّحِيح مِنْ القَولَين

(6)

.

كما نَقَل عنه بَعْض اخْتِيَارَاته اللغَويَّة، فَمِنْ ذلك:

مَا ذَكَره القرطبي عن النُّحَاة في معنى (هُوَ) في قَولِه تَعالى: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِه)[البقرة: 96]، ثم قال القرطبي: ابن عطية: وفِيه بُعْد، فإنَّ الْمَحْفُوظ عن النُّحَاة أنْ يُفَسَّر بِجُمْلَة سَالِمَة مِنْ حَرْف جَرّ

(7)

.

(1)

بلغ ذكر ابن عطية في "الجامع لأحكام القرآن" من خلال البحث الآلي أكثر من (380) موضعًا.

(2)

انظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 286).

(3)

انظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 324)، وقارن بـ "المحرر الوجيز"، مرجع سابق (2/ 504)، وانظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 84)، وقارن بـ "المحرر الوجيز"، مرجع سابق (3/ 16).

(4)

انظر على سبيل المثال: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 82، 83، 89) ومواضع أخرى.

(5)

أي: لا يكون له نسل.

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 481).

(7)

المرجع السابق (2/ 36).

ص: 572

ومِثْله في مَعْنَى (الواو) في قَوله تَعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا)[البقرة: 100]، فإنه نَقَل أقْوَال أئمَّة اللغَة، ثم نقَل عن ابن عطية قَوله: وهذا كُلّه مُتَكَلَّف، والصَّحِيح قَوْل سِيبويه

(1)

.

وتَأثَّر القرطبي بِبَعْض تَأوِيلات ابن عطية، فمن ذلك مُوَافَقَة القرطبي لابن عطية ومُتَابَعَته لَه في تَأوِيل بَعْض الصِّفَات، فَمِنْ ذلك:

تَأوِيل صِفَة الوَجْه لله سبحانه وتعالى، حيث قَال في قَوله تَعالى:(فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115]: اخْتَلَف النَّاس في تَأويل الوَجْه الْمُضَاف إلى الله تَعالى في القُرآن والسُّنَّة؛ فقال الْحُذَّاق

(2)

: ذلك رَاجِع إلى الوُجُود والعِبَارة عنه بالوَجْه مِنْ مَجَاز

(3)

الكَلام، إذْ كان الوَجْه أظْهَر الأعْضَاء في الشَّاهِد وأجَلّها قَدْرًا

وقال بعض الأئمَّة:

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 40).

(2)

إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى طريقة أهل السنة، وأما آية البقرة بِخُصُوصِها فقال فيها ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، مرجع سابق (3/ 193): وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غَلِط، كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يَدُلّ على المراد حيث قال:(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115]، والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريده؟ أي جهة، وأنا أريد هذا الوجه، أي: هذه الجهة، كما قال تعالى:(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)[البقرة: 148]، ولهذا: قال (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115] أي: تستقبلوا وتتوجهوا. اهـ.

والقرطبي قد تأول صفة الوجه عمومًا.

(3)

نقل القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"، مرجع سابق (11/ 26) أن "العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال". وسبقت الإشارة إلى بطلان القول بالمجاز الذي يقابل الحقيقة. ينظر لذلك: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 88 وما بعدها)، (12/ 277)، و"الإيمان" له (63 - 86)، و"محاسن التأويل" القاسمي (1/ 154 وما بعدها)، و"منع المجاز في المنزَل للتعبد والإعجاز"، الشنقيطي، ملحق بتفسيره "أضواء البيان"، و"نشأة الأهواء والافتراق والبدع"، ناصر العقل (ص 79 وما بعدها).

ص: 573

تلك صِفَة ثَابِتَة بالسَّمْع زَائدة على مَا تُوجِبه العُقُول مِنْ صِفَات القَدِيم

(1)

تَعالى.

قال ابن عطية: وضَعَّف أبو المعالي هذا القَوْل، وهو كَذلك ضَعِيف، وإنَّمَا الْمُرَاد وجُوده.

وقيل: الْمُرَاد بِالوَجْه هنا الْجِهَة التي وَجَّهَنا إليها، أي: القِبْلَة.

وقِيل: الوَجْه القَصْد

(2)

.

وهَذا تَأوِيل غَير مَرْضِيّ، فقد تأوَّل صِفَة الوجْه أيضًا في تَفْسِير قَوله تَعالى:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)[الرحمن: 27]، فإنه قال: فَالوَجْه عِبَارَة عن وُجُودِه وذَاتِه سُبْحَانه

(3)

.

بينما أثبَت صِفة الوَجْه في مَوَاضِع أُخَر، فَقَال في تَفْسِير قَوله تَعالى:(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 35]: وقال أنس وجابر: الْمَزِيد النَّظَر إلى وَجْه الله تَعالى بِلا كَيْف، وقد وَرَدَ ذلك في أخْبَار مَرْفُوعَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قَوله تَعالى:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26] قال: الزِّيَادَة النَّظَر إلى وَجْه الله الكَرِيم

(4)

.

وقال في آخِر سُورة "الرحمن" مَا نَصّه: ولم يَخْتَلِف القُرَّاء في إجْرَاء النَّعْت على الوَجْه بالرَّفْع في أوَّل السُّورَة، وهو يَدُلّ على أنَّ الْمُرَاد بِه وَجْه الله الذي يَلْقَى الْمُؤمِنُون عِنْدَما يَنْظُرُون إليه فَيَسْتَبْشِرُون بِحُسْن الجزاء، وجَمِيل اللقَاء، وحُسْن العَطَاء

(5)

.

وأهْل السُّنَّة يُثبِتُون صِفَة الوَجْه لله تبارك وتعالى على مَا يَلِيق به جل جلاله.

(1)

"القديم" ليس من أسماء الله تعالى. "وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى "القديم" وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن "القديم" في لغة العرب - التي نزل بها القرآن - هو المتقدم على غيره. "شرح العقيدة الطحاوية، مرجع سابق (ص 67) ط. وزارة الشؤون الإسلامية - الرياض.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 81).

(3)

المرجع السابق (17/ 143).

(4)

المرجع السابق (17/ 22). وينظر لهذه المسألة: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (19/ 96 وما بعدها)، و"شرح العقيدة الطحاوية"، مرجع سابق ص (153 وما بعدها) وبين إثبات الرؤية وإثبات الوجه تلازم.

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (17/ 167).

ص: 574

ولو كَان هَذا القَول مِمَّنْ تأوَّلَه في مَعْنَى "الوَجْه" في آيةٍ مَا، لَقِيل: القُرآن حَمَّال أوْجه، أمَّا أن يَكُون التَّأويل تَحَاشِيًا لإثْبَات الصِّفَة، فهذا لم يَكن مِنْ شَأن سَلَف هذه الأمَّة.

كَمَا تأوَّل صِفة "العَيْن" تَبَعًا لابن عطية. حيث يَقول القرطبي في تَفْسِير قَولِه تَعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)[هود: 37]: (بِأَعْيُنِنَا) أي: بِمَرْأى مِنَّا وحَيث نَرَاك.

وقال الربيع بن أنس: بِحِفْظِنا إياك حِفْظ مَنْ يَرَاك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بِحِرَاسَتَنا؛ والْمَعْنَى وَاحِد، فَعَبَّر عن الرُّؤية بالأعْين؛ لأنَّ الرُّؤيَة تَكُون بِهَا، ويَكُون جَمْع الأعْيُن للعَظَمَة لا للتَّكْثِير، كَمَا قَال تَعالى:(فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ)[المرسلات: 23]، (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) [الذاريات: 48]، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات: 47]. وقد يَرْجِع مَعْنَى الأعْيُن في هَذه الآيَة وغَيرها إلى مَعْنَى عَيْن، كَمَا قَال:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، وذَلك كُلّه عِبَارَة عن الإدْرَاك والإحَاطَة، وهو سُبْحَانه مُنَزَّه عن الْحَواسّ والتَّشْبِيه والتَّكْيِيف، لا رَبّ غَيره

(1)

.

وقَال في قَوله تَعالى: (أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]: عِبَارَة عن الإدْرَاك الذي لا تَخْفَى مَعه خَافية، تَبَارَك الله رَبّ العَالَمِين

(2)

.

وقال القرطبي في تَفْسِير قَوله تَعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]: أي: بِمَرْأى ومَنْظَر مِنَّا؛ نَرَى ونَسْمَع مَا تَقُول وتَفْعَل. وقِيل: بِحَيث نَرَاك ونَحْفَظُك ونَحُوطُك ونَحْرُسُك ونَرْعَاك، والْمَعْنَى وَاحِد. ومِنه قَوله تَعالى لِمُوسَى عليه السلام:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، أي: بِحِفْظِي وحِرَاسَتِي

(3)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 28، 29) وقارن بـ "المحرر الوجيز" مرجع سابق (3/ 169، 510).

(2)

المرجع السابق (11/ 184)، وقارن بـ "المحرر الوجيز" مرجع سابق (4/ 46).

(3)

المرجع السابق (17/ 69) وقارن بـ "المحرر الوجيز" مرجع سابق (5/ 194).

ص: 575

وقَال في قَوله تَعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)[القمر: 14]: أي: بِمَرْأى مِنَّا. وقِيل: بأمْرِنا.

وقِيل: بِحِفْظ مِنَّا وكَلاءَة

ومِنه قَول النَّاس للمُوَدَّع: عَيْن الله عَليك، أي: حِفْظه وكَلاءَته

(1)

.

وصِفَة "الْعَيْن" ثابِتَة لله تبارك وتعالى في الكِتَاب وفي السُّنَّة؛ أمَّا في الكِتَاب فَمِنْه قَوله تَعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، وقَوله تَعالى:(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)[القمر: 14]، وأصْرَح مِنه قَوله تَعالى عن نَفْسِه:(أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46].

قال ابن عساكر في ذمّ كَثِير مِنْ الْمُعْتَزِلَة وأهْل القَدَر: ودَفَعُوا أن يَكُون لله وَجْه مع قَوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 27]، وأنْكَرُوا أن يَكُون لله يَدَان مَع قَوله:(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)[ص: 75]، وأنْكَرُوا أن يَكُون له عَيْن مَع قَولِه:(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)[القمر: 14]، ولِقَولِه:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]

(2)

.

كَمَا تَأوَّل القرطبي صِفَة اليَد، فإنه قَال في قَوله تَعالى:(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)[المائدة: 64]: بل نِعْمَته مَبْسُوطَة؛ فَاليَد بِمَعْنى النِّعْمَة. قال بَعْضُهم: هذا غَلَط لِقَوْلِه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، فَنِعَم الله تَعالى أكْثَر مِنْ أن تُحْصَى، فَكَيْف تَكُون: بَلْ نِعْمَتَاه مَبْسُوطَتَان؟ وأُجِيب بأنه يَجُوز أن يَكُون هذا تَثْنِية جِنْس لا تَثْنِيَة وَاحِد مُفْرَد

(3)

. وذَكَر أقْوَالًا أُخْرَى في تَأوِيل صِفَة اليَد

(4)

.

وفي "اعْتِقَاد الإمام الْمُبجَّل ابن حنبل"

(5)

: وكان يَقُول

(6)

: إنَّ لله تَعالى يَدَين، وهُمَا صِفَة لَه في ذَاتِه.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (17/ 117).

(2)

تَبيين كَذِب المفتري (ص 157).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 226).

(4)

قارِن بما في "المحرر الوجيز" مرجع سابق (2/ 215).

(5)

(1/ 294).

(6)

أي الإمام أحمد.

ص: 576

وقال ابن عساكر: وجُمْلة قَوْلِنا: أن نُقِرّ بِالله ومَلائكَته وكُتُبه ورُسُله، ومَا جَاء مِنْ عند الله، ومَا رَوَاه الثِّقَات عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نَرُدّ مِنْ ذلك شَيئًا، وأنَّ الله إلَه واحِد صَمَد، لا إلَه غَيره، لم يَتَّخِذ صَاحِبَة ولا وَلدًا

وأنَّ له يَدًا، كَمَا قَال:(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)[المائدة: 64]

(1)

.

وسَبَق في التَّمْهِيد لِهذا الْبَحْث بَيَان اضْطِرَاب مَنهج القرطبي في بعض مَسَائل الاعْتِقَاد.

أما إفادة القرطبي لمن أتوا بعده، وموافقة غيره له:

كما أخَذ القُرْطُبي ونَقَل عن غيره، فقد أخَذ غَيرُه عنه، وأفَاد مِنه.

نَقَل ابن تيمية عن القرطبي تَفْصِيلًا لَه في مَسْألَة "الاسْتِوَاء"، وقد سَلَك فيها القرطبي سَبيل السَّلَف وجَادَّة الصَّوَاب

(2)

.

وقد أحْسَن ابن تيمية الثَّنَاء على القرطبي، حيث سُئل ابن تيمية، "أيّ التَّفَاسِير أقْرَب إلى الكِتَاب والسُّنَّة؟ الزمخشري، أم القرطبي، أم البغوي أوْ غير هؤلاء"؟

فكان مِمَّا أجَابَ بِه - مُقَارِنًا بين تفسير القرطبي وبين تفسير الزمخشري: وتَفْسِير القرطبي خَيْر مِنه بِكَثِير، وأقْرَب إلى طَرِيقَة أهْل الكِتَاب والسُّنَّة وأبْعَد عن البِدَع

(3)

.

ونَقَل ابنُ القيم عَنْ القرطبي قَوْلَه في مَسْألَة الاسْتِوَاء على العَرْش

(4)

.

وأفَاد مِنه ابن كَثِير كَثِيرًا في مَسَائل شَتَّى، فيَذْكُر بَعْض اخْتِيَارَاته في اللغَة، حيث قال ابن كثير في بَحث "الاسْم الأعظَم": فَذَهَبَ مَنْ ذَهَب مِنْ النُّحَاة إلى أنه اسْم

(1)

تبيين كذب المفتري، مرجع سابق (ص 158).

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مرجع سابق (3/ 261).

(3)

المرجع السابق (13/ 385 - 387) وقد تقدم هذا في "التمهيد".

(4)

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (ص 116) وتقدم هذا في "التمهيد".

ص: 577

جَامِد لا اشْتِقَاق له، وقد نَقَله القرطبي عن جَمَاعة مِنْ النُّحَاة إلى أنه اسْم جَامِد لا اشْتِقَاق له، وقد نقله القرطبي عن جَمَاعة مِنْ العُلَمَاء مِنهم الشافعي والخطابي وإمَام الحرمين والغزالي وغيرهم، ورُوي عن الخليل وسِيبويه أنَّ الألف واللام فيه لازِمَة

(1)

.

وفي تَفْسِير سُورة الفَاتِحة بِحَثَ ابن كثير مَعْنَى (الْعَالَمِينَ)[الفاتحة: 2]، ومِمَّا قَاله فيه: وقال الزجاج: العَالَم كُلّ مَا خَلَق الله في الدُّنيا والآخِرَة. قال القرطبي: وهَذا هو الصَّحِيح، أنه شَامِل لِكُلّ العَالَمِين

(2)

.

ونَقَل عنه بعض أقْوَالِه واخْتِيَارَاتِه في التَّفْسِير، فقال: قال القرطبي: وأجْمَعَتِ الأمَّة على أنَّ الله عز وجل قد وَصَفَ نَفْسَه بالْخَتْم والطَّبْع على قُلُوب الكَافِرِين مُجَازَاة لِكُفْرِهم

(3)

.

ويَنقُل ابن كثير عن القرطبي بَعض أجْوبَتِه عَمَّا أشْكَل على بَعْض العُلَمَاء، فمن ذلك قَول ابن كثير: وقد سُئل القرطبي وغَيره مِنْ الْمُفَسِّرِين عن حِكْمَة كَفِّه عليه الصلاة والسلام عن قَتْل الْمُنَافِقِين مع عِلْمِه بأعْيَان بَعْضِهم. وذَكَرُوا أجْوِبَة عن ذلك

(4)

فَذَكَرها ابن كثير.

ونَقَل عن القرطبي ما يَنقلُه مِنْ مَسَائل الإجْمَاع، إذ يقول ابن كثير: قال القرطبي وقد اتَّفَق العُلَمَاء عن بَكْرَة أَبِيهم! على أنَّ القَاضِي لا يَقْتُل بِعِلْمِه، وإن اخْتَلَفُوا في سَائر الأحْكَام

(5)

.

كَما نَقَل عنه بَعْض آرَائه الفِقْهِيَّة، فَقَال في حُكْم "أنْفحَة الْمَيْتَة": فَقَال القرطبي في التفسير: هاهنا يُخَالِط اللبن مِنها يَسِير، ويُعْفَى عن قَليل النَّجَاسَة إذا خَالَط الكَثِير مِنْ الْمَائع

(6)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (1/ 194)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 140).

(2)

المرجع السابق (1/ 210)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 184).

(3)

المرجع السابق (1/ 278، 279)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 233).

(4)

المرجع السابق (1/ 285)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 245).

(5)

المرجع السابق (1/ 286) وقارن بِما في الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 216).

(6)

المرجع السابق (2/ 149)، وقارن بما في الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 216).

ص: 578

وكما نَقَل ابن كثير عن القرطبي في التفسير فقد نَقَل عن كِتَاب "التذكرة في أحْوَال الْمَوْتَى وأمُور الآخِرَة"

(1)

.

ومِن العُلَمَاء الذين أفَادُوا مِما سَطَّرَه القرطبي في كُتُبه: ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، إذْ يَقول في "حُكْم الغِيبَة": ونَقَل أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الإجْمَاع على أنَّها مِنْ الكَبَائر؛ لأنَّ حَدَّ الكَبِيرَة صَادِق عَليها، لأنَّها مِمَّا ثَبَت الوَعِيد الشَّدِيد فِيه

(2)

.

وفي مَواقِف الآخِرة نَقَل ابن حجر عن القرطبي قَوله في "التذكرة": ذَهَب صَاحِب "القُوت"

(3)

وغيره إلى أنَّ الْحَوْض يَكُون بَعْد الصِّرَاط، وذَهَب آخَرُون إلى العَكْس، والصَّحِيح أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم حَوْضَيْن، أحَدُهما في الْمُوْقِف قَبْل الصِّرَاط، والآخَر دَاخِل الْجَنَّة، وكُلّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَوْثَرا.

ثم تعقَّبه ابن حجر بِقَولِه: قلت: وفِيه نَظَر؛ لأنَّ الكَوْثر نَهْر دَاخِل الْجَنَّة

(4)

.

وفي مَسْألَةٍ فِقْهِيَّة في الطَّلاق، وهي "في الْحَرَام إن نَوى يَمِينًا أوْ طَلاقًا" قال ابن حجر: وفي الْمَسْألَة اخْتِلافٌ كَثِير عن السَّلَف، بَلَّغَها القرطبي الْمُفَسِّر إلى ثَمَانِية عَشَر قَوْلًا، وزَاد غَيره عَليها، وفي مَذْهب مَالك فِيها تَفَاصِيل أيْضًا يَطُول اسْتِيعَابها.

قال القرطبي: قال بَعْض عُلَمَائنَا: سَبَب الاخْتِلاف أنه لَم يَقَع في القُرْآن صَرِيحًا ولا في السُّنَّة نَصّ ظاهِر صَحِيح يُعْتَمَد عليه في حُكْم هذه الْمَسْألَة، فَتَجَاذَبَها العُلَمَاء

(5)

.

(1)

انظر على سبيل المثال: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (14/ 260، 263).

(2)

فتح الباري، مرجع سابق (10/ 470).

(3)

هو أبو طالب المكي، صاحب كتاب "قُوت القُلوب"، وفي "قُوت القُلُوب" أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة (مجموع فتاوى ابن تيمية، مرجع سابق 10/ 551).

(4)

فتح الباري، مرجع سابق (11/ 466).

(5)

المرجع السابق (9/ 372).

ص: 579

ونَقَل ابن حجر حِكَاية القُرطبي في "تَفْسِير التَّوْبَة النَّصُوح"، أنه اجْتَمَع له مِنْ أقْوَال العُلَمَاء في تَفْسِير التَّوبَة النَّصُوح ثَلاثَة وعِشْرُون قَوْلًا

(1)

.

وفي "حُكْم الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا" نَقَل ابن حجر عن القرطبي قَوله: لا خِلاف في وُجُوبِها في العُمْر مَرَّة، وأنَّهَا وَاجِبَةً في كُلّ حِين وُجُوب السُّنَن الْمُؤكَّدَة

(2)

.

وأفَاد الشَّوكَاني مِنْ القُرطبي كَثِيرًا خَاصَّة في تَفْسِيرِه "فَتْح القَدِير"، إذ زَاد ذِكْر القرطبي على مائتي مَوْضِع.

وكذلك الشنقيطي في كِتابَيْه: "أضْوَاء البَيَان"، و"دَفْع إيهَام الاضْطِرَاب" ففي "أضْوَاء البَيَان" رَبَا ذِكْر القرطبي على أرْبَعْمِائة مَوْضِع.

(1)

المرجع السابق (11/ 104)، وقارن بـ "الجامع لأحكام القرآن"(18/ 174، 175).

(2)

فتح الباري، مرجع سابق (11/ 153)، وقارن بـ "الجامع لأحكام القرآن"(14/ 206).

ص: 580

‌المبحث الثاني: الفرق بين كشف معنى الآية بإكثار الأقوال، وبين العناية بدفع توهّم التعارض، ومظانّ الجمع بين الآيات

اعْتَنَى العُلَمَاء بأقْوَال أئمَّة التَّفْسِير الْمُتَقدِّمِين مِنْ عَصْر الصَحَابة فَمَنْ بَعْدَهم

(1)

، وذلِك لِعِدَّة اعْتِبَارَات:

الأوَّل: كَوْن الصَّحَابة رضي الله عنهم شَاهَدُوا التَّنْزِيل، وحَضَرُوا وقَائِعَه، بالإضَافَة إلى أنَّهم "كَانوا خَير هَذه الأُمَّة؛ أبَرّها قُلُوبًا، وأعْمَقَها عِلْمًا، وأقَلّها تَكَلّفًا، قَوم اخْتَارهم الله لِصُحْبَة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ونَقْل دِينِه

فَهُمْ أصحَاب محمد صلى الله عليه وسلم كَانوا على الْهُدَى الْمُسْتَقِيم"

(2)

.

الثَّاني: كَوْنهم أهْل اللغَة والفَصَاحَة، إذ كانوا في زَمَن لم يَتَفَشّ فيه اللَحْن.

قال أبو بكر بن الأنباري: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - مِنْ تفضيل إعراب القرآن والْحَضّ على تعليمه وذَم اللَّحْن وكَرَاهِيته - ما وَجب به على قُرّاء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تَعَلُّمه

(3)

.

الثَّالث: أنَّهم الْجَمَاعة، والْجَمَاعة أبْعد عن الْخَطَأ مِنْ الوَاحِد.

الرَّابِع: أنَّ مَنْ أخَذ بِأقْوَال السَّلَف لَم يَخْرُج - في الغَالِب - عن الْجَادَّة، إذ يَقول بِقَول له فيه سَلَف، مَا لَم يَتَّبِع الشَّاذّ مِنْ الأقْوَال، أوْ الْمَهْجُور مِنها.

ولذا كان أحمد بن حنبل

(4)

يقول: إياك أن تَتَكَلَّم في مَسْألَة ليس لك فِيها إمَام

(5)

(1)

وسبق في الفصل الثاني: المبحث الثاني: جمع القرطبي بين الآيات من خلال إيراد أقوال السلف، وأشرت إلى عنايته بذلك هناك.

(2)

هو من قول ابن عمر رضي الله عنهما. رواه عنه: أبو نعيم في "الحلية"(1/ 305)، وذكر نحوه عن ابن مسعود وعن الحسن البصري: ابن قُدامة في "ذم التأويل"(ص 32).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 56).

(4)

عندما أذكر أسماء الأئمة الأعلام مجردة عن الأوصاف فإنني أتبع منهجًا علميًا صرفًا، وليس لحاجة في النفس ثم إن أكابر أتباع الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة يذكرون أسماء الأئمة مجردة عن كل وصف.

انظر: "الاستذكار" ابن عبد البر (1/ 13، 16، 21 ومواضع أخرى كثيرة)، و"الجامع لأحكام القرآن" مرجع سابق (1/ 10، 88 ومواضع أُخرى)، و"المغني" ابن قدامة (1/ 23، 23 ومواضع أُخرى كثيرة).

(5)

ذكره ابن تيمية "مجموع الفتاوى"، مرجع سابق (21/ 291)، وابن القيم "إعلام الموقّعين"(1/ 32).

ص: 581

قال ابن تيمية: وكُلّ قَوْل يَنْفَرِد بِه الْمُتَأخِّر عن الْمُتَقَدِّمِين ولَم يَسْبِقه إليه أحَد مِنهم فإنه يَكُون خَطَأ

(1)

.

5 -

لأنَّ غَالِب مَا يَكُون مِنْ الْخِلاف بَيْن أقْوَال السَّلَف إنَّمَا هو اخْتِلاف تَنَوُّع، إذْ "ليس في تَفْسِير القُرْآن اخْتِلاف إنَّمَا هو كَلام جَامِع يُرَاد بِه هَذا وهَذا"

(2)

، لأنَّ "الْخِلاف بَيْن السَّلَف في التَّفْسِير قَلِيل، وخِلافُهم في الأحْكَام أكْثَر مِنْ خِلافِهم في التَّفْسير، وغَالب مَا يَصِحّ عنهم مِنْ الْخِلاف يَرْجِع إلى اخْتِلاف تَنَوُّع لا اخْتِلاف تَضَادّ"

(3)

.

قال أبو الدرداء: لا تَفْقَه كُلّ الفِقْه حَتى تَرَى للقُرْآن وُجُوهًا كَثِيرَة

(4)

.

ومِن هُنا انْقَسَم عُلَمَاء التَّفْسِير بِالْمَأثُور تُجَاه

(5)

مَسألة إيرَاد النُّصُوص إلى أقْسَام:

القِسْم الأوَّل: مَنْ يُورِد النَّص والأثَر مُكتَفِيًا بِبَعْض النُّصُوص دُونَ بَعض، مَع التَّرْجِيح.

القِسْم الثَّاني: مَنْ يَحْشُد النُّصُوص في الْمَوْضِع الوَاحِد، ويُكَرِّر إذا احْتَاج إلى التِّكْرار، أوْ يُحِيل على الْمَوضِع الذي حَشَدَ فيه، مَع عَدَم إغْفَال التَّرْجِيح والْجَمْع بَيْن الأقْوَال.

القِسْم الثَّالِث: مَنْ يَكتَفي بِإيرَاد النُّصُوص ونِسْبَة الأقْوَال إلى قَائلِيها، دون تَرْجِيح، ومِن غَير اخْتِيَار.

(1)

مجموع فتاوى ابن تيمية، مرجع سابق (21/ 291).

(2)

من قول سفيان بن عيينة، رواه عنه: سعيد بن منصور في سننه (ح 1061) وعزى السيوطي تخريجه في "الدر المنثور"(4/ 360) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي.

(3)

ابن تيمية: "مجموع الفتاوى"، مرجع سابق (13/ 333).

(4)

رواه أحمد في "الزهد"(ص 134)، ومعمر بن راشد في "الجامع"(مُلحق بمصنف عبد الرزاق)(11/ 255).

(5)

في اللسان (13/ 557): والوجاه والتجاه لغتان، وهما ما استقبل شيء شيئًا، تقول: دار فلانٍ تجاه دار فلان.

ص: 582

وفي هَذا الْمَبْحَث سَوف أُقارِن بَيْن طَرِيقَة القرطبي في ذلك، وبَيْن مَنْهَج ابن جرير، لأنه يُرَجِّح ويَخْتَار، وبَيْن طَرِيقَة ابن الجوزي في "زاد المسير"؛ إذْ بِهَذِه الْمُقَارَنة تَتَبَيَّن طَرِيقَة القرطبي.

‌المثال الأول:

إرَادَة ثَوَاب الدُّنيا:

قَوله تَعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)[هود: 15]، وقَوله تَعالى:(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)[آل عمران: 145]، وقَوله تَعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)[الشورى: 20]، مَع قَوله تَعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)[الإسراء: 18].

‌صورة التعارض:

في آيَة "هُود" جَاء "التَّصْرِيح بِأنَّ الكَافِر يُجَازَى بِحَسَناتِه؛ كالصَّدَقَة وصِلَة الرَّحِم وقِرَى الضَّيف والتَّنْفِيس عن الْمَكْرُوب في الدُّنيا دُون الآخِرَة؛ لأنَّه تَعالى قَال: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) يَعْنِي: الْحَيَاة الدُّنيا

(1)

مَع أنه جَاءَت آيَات أُخَر تَدُلُّ على بُطْلان عَمَلِ الكَافِر واضْمِحْلالِه مِنْ أصْلِه، وفي بَعْضِها التَّصْرِيح بِبُطْلانه في الدُّنيا مَع الآخِرَة في كُفْر الرِّدَّة وفي غَيْرها"

(2)

.

(1)

أي: عَوْد الضمير في (فِيهَا).

(2)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 105) باختصار.

ص: 583

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيةِ "آل عمران": (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) يَعْنِي: الغَنِيمَة، نَزَلَتْ في الذِين تَرَكُوا الْمَرْكَز طَلَبًا للغَنِيمَة

(1)

.

وقيل: هي عَامَّة في كُلّ مَنْ أرَاد الدُّنيا دُون الآخِرَة، والْمَعْنَى: نُؤتِه منها مَا قُسِم له، وفي التَّنْزِيل:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: نُؤتِه جَزَاء عَمَلِه عَلى مَا وَصَف الله تَعالى مِنْ تَضْعِيف الْحَسَنَات لِمَنْ يَشاء.

وقِيل: الْمُرَاد منها عبد الله بن جبير ومَن لَزِم الْمَرْكَز مَعه حَتى قُتِلُوا

(2)

.

وذَكَر القرطبي الْخِلاف في سَبَب نُزُول آيَة "هود"، فقال: قيل: نَزَلَتْ في الكُفَّار

بِدَلِيل الآيَة التي بَعْدَها: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)[هود: 16] أي: مَنْ أتَى مِنهم بِصِلَةِ رَحِم أوْ صَدَقَة نُكَافِئه بِها في الدُّنيا بِصِحَّة الْجِسْم وكَثْرَة الرِّزْق، لكن لا حَسَنَة له في الآخِرة

وقيل: الْمُرَاد بِالآيَة الْمُؤمِنُون، أي: مَنْ أرَاد بِعَمَلِه ثَوَاب الدُّنيا عُجِّل له الثَّوَاب ولم يُنْقَص شَيئًا في الدُّنيا، وله في الآخِرَة العَذَاب، لأنه جَرَّد قَصْدَه إلى الدُّنيا

فالعَبْد إنَّمَا يُعْطَى على وَجْه قَصْدِه، وبِحُكْم ضَمِيره؛ وهذا أمْرٌ مُتَّفق عليه في الأُمَم بَيْن كُلّ مِلَّة.

وقيل: هو لأهْل الرِّياء.

وقيل: الآيَة عَامَّة في كُلّ مَنْ يَنْوِي بِعَمَلِه غَير الله تَعالى، كان مَعه أصْل إيمان أوْ لَم يَكُنْ.

وقال مَيمون بن مِهران: ليس أحَد يَعْمَل حَسَنة إلَّا وُفِّيَ ثَوابها؛ فإن كان مُسْلِمًا مُخْلِصًا وُفِّي فِي الدُّنيا والآخِرَة، وإن كان كَافِرًا وُفِّي في الدُّنيا.

(1)

أي: في يوم أُحد، والسياق يقوي هذا القول، والعبرة بعموم اللفظ.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 223) باختصار وتصرّف يسير.

ص: 584

وقيل: مَنْ كَان يُرِيد الدُّنيا بِغَزْوِه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفّيَها، أي: وُفِّي أجْر الغَزَاة، ولم يُنْقَص مِنها، وهذا خُصُوص، والصَّحِيح العُمُوم.

ثم بَحَث القرطبي عُمُوم هَذه الآيَات وتَقْيِيدها، فَقال: ذَهَب أكْثر العُلَمَاء إلى أنَّ هذه الآيَة مُطْلَقَة، وكَذلك الآيَة التي في "الشورى":(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) الآيَة، وكَذلك:(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا)، قَيَّدَها وفَسَّرَها التي في "سُبحان"

(1)

: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) إلى قَولِه (مَحْظُورًا) فأخْبَر سُبحانه أنَّ العَبْد يَنْوِي ويُرِيد، والله سُبْحانه يَحْكُم مَا يُرِيد.

ورَوى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قَوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) مَنْسُوخَة بِقَولِه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ). والصَّحِيح مَا ذَكَرْناه، وأنه مِنْ باب الإطْلاق والتَّقْيِيد .... والنَّسْخ في الأخبار لا يَجُوز، لاسْتِحَالَةِ تَبَدُّل الوَاجِبَات العَقْلِيّة، ولاسْتِحَالَة الكَذِب على الله تعالى، فأمَّا الإخْبَار عن الأحْكَام الشَّرْعية فيَجُوز نَسْخُها على خِلاف فيه

(2)

.

وقال في آيَة "الشورى": (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: طَلَب بِالْمَال الذي آتَاه الله رِيَاسَة الدُّنيا والتَّوَصُّل إلى الْمَحْظُورَات فإنَّا لا نَحْرِمه الرِّزْق أصْلًا، ولكن لا حَظَّ له في الآخِرَة مِنْ مَالِه. قَال الله تَعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 18، 19].

ونَقَل القرطبي عن القُشيري قَوله: والظَّاهِر أنَّ الآيَة في الكَافِر يُوَسَّع له في الدُّنيا. أي: لا يَنْبَغِي له أن يَغْتَرّ بِذلك، لأنَّ الدُّنيا لا تَبْقَى.

(1)

يَعني: سورة الإسراء، وتسمى أيضًا: سورة بني إسرائيل.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 16، 17) باختصار.

ص: 585

وعن قتادة قَوله: إنَّ الله يُعْطِي على نِيَّة الآخِرَة مَا شَاء مِنْ أمْر الدُّنيا، ولا يُعْطِي على نِيّة الدُّنيا إلَّا الدُّنيا، وقال أيضًا: يَقُول الله تَعالى: مَنْ عَمِل لآخِرته زِدْنَاه في عَمَلِه وأعْطَينَاه مِنْ الدُّنيا مَا كَتَبْنَا لَه، ومَن آثَر دُنْياه على آخِرَته لم نَجْعَل له نَصِيبًا في الآخِرَة إلَّا النَّار، ولم يُصِب مِنْ الدُّنيا إلَّا رِزْقًا قد قَسَمْنَاه له لا بُد أن كان يُؤتاه مع إيثَار أوْ غير إيثَار.

وروي جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا) أي: مَنْ كان مِنْ الفُجَّار يُرِيد بِعَمَلِه الْحَسَن الدُّنيا نُؤتِه مِنها، ثم نُسِخ ذلك في "سُبحان":(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

والصَّواب أنَّ هذا ليس بِنَسْخ؛ لأنَّ هذا خَبَر والأشْياء كُلّها بإرَادَة الله عز وجل.

ألَا تَرَى أنه قد صَحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يَقُل أحَدُكم: اللهم اغْفِر لي إنْ شِئت، اللهم ارْحَمْني إنْ شِئت

(1)

.

وقد ذَكَرْنا في "هود" أنَّ هذا مِنْ بَاب الْمُطْلَق والْمُقَيَّد، وأنَّ النَّسْخ لا يَدْخُل في الأخْبَار. والله المستعان

(2)

.

وفي آيَة "الإسراء" قال القرطبي: قَوله تَعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) يَعْنِي: الدُّنيا، والْمُرَاد الدَّار العَاجِلة، فَعَبَّر بالنَّعْت عن الْمَنْعُوت (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أي: لَم نُعْطِه منها إلَّا مَا نَشاء ثم نُؤاخِذه بِعَمَلِه، وعَاقِبته دُخُول النَّار (مَذْمُومًا مَدْحُورًا) أي: مَطْرودًا مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَة الله؛ وهذه صِفة الْمُنَافِقِين الفَاسِقِين والْمُرَائين الْمُدَاجِين

(3)

يَلْبَسُون الإسْلام والطَّاعَة لِيَنَالُوا عَاجِل الدُّنيا مِنْ الغَنَائم وغَيرها، فلا يُقْبَل ذلك العَمَل

(1)

رواه البخاري (ح 7039)، ومسلم (ح 2679).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 18، 19) باختصار.

(3)

في اللسان (14/ 250): والمداجاة: المداراة، والمداجاة: المطاولة .... وليلة داجية مدجية وقد دجت تدجو، وداجى الرجل: ساتره بالعداوة وأخفاها عنه، فكأنه أتاه في الظلمة.

ص: 586

مِنهم في الآخِرَة، ولا يُعْطَون في الدُّنيا إلَّا مَا قُسِم لَهم. وقد تَقَدَّم في "هود" أنَّ هذه الآية تُقَيِّد تِلك الآيَات الْمُطْلَقَة فَتَأمّلْه

(1)

.

وبيَّن في قَوله تَعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[النساء: 134] أنَّ الْمُرَاد بِه الْمُنَافِقِين والكُفَّار. قال: وهو اختيار ابن جرير

(2)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أنَّ آيَة "هود" نَزَلتْ في شَأن الكُفَّار؛ مَنْ أتَى مِنهم بِصِلَةِ رَحِم أوْ صَدَقَة يُكَافِئه الله بها في الدنيا بِصِحَّة الْجِسْم وكَثْرة الرِّزْق، ولا حَسَنَة له في الآخِرة.

2 -

ذَهَب أكْثَر العُلَمَاء إلى أنَّ آيَة "هود" وآيَة "الشورى" وآيَة "آل عمران" وإن جَاءت مُطلَقَة فقد قيَّدَتْها آيَة "الإسْراء" بِكَون إعْطَاء الثَّوَاب وتَعجِيله إنَّمَا هو لِمَنْ شَاء الله أن يُعجِّل لَه ذَلك.

3 -

القَول بامْتِنَاع النَّسْخ، لِكون النَّسْخ لا يَدخُل في الأخْبار.

فالقرطبي أوْرَد الأقْوَال في الآيَات، ثم اخْتَار ورَجَّح القَول بِتَقْيِيد الْمُطْلَق، ومَنْع القَوْل بالنَّسْخ.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

يَرى ابن جرير أنَّ الضَّمِير في آيَة "آل عمران"(نُؤْتِهِ مِنْهَا) رَاجِع إلى الدُّنيا، وأنَّ مَعْنَى قَوله:(نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: نُعْطِه مِنها، يَعْنِي: مِنْ الدُّنيا، يَعْنِي أنه يُعْطِيه مِنها مَا قُسِمَ

(1)

الجامع لأحكام القرآ، مرجع سابق (10/ 206).

(2)

المرجع السابق (5/ 390).

ص: 587

له فيها مِنْ رِزق أيام حَيَاتِه، ثم لا نَصِيب لَه في كَرَامَة الله التي أعَدَّها لِمَنْ أطَاعَه وطَلَب مَا عِندَه في الآخِرَة

(1)

.

وأمَّا في آيَة "النساء": (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، فقد أعْمَل السِّيَاق، ولذا فَهو يَرى أنَّهَا في الْمُنَافِقِين، وأنَّ الْمَقْصُود بِثَوَاب الدُّنيا للمُنَافِق "هو مَا يُصِيب مِنْ الْمَغْنَم إذا شَهِد مع النبي صلى الله عليه وسلم مَشْهَدًا، وأمْنُه على نَفْسِه وذُرِّيته ومَالِه، ومَا أشْبَه ذلك، وأمَّا ثَوَابُه في الآخِرَة فَنَارُ جَهنَّم"

(2)

.

وتَأوِيل آيَة "هود" عِند ابن جرير: "يَقول تَعالى ذِكْرُه مَنْ كَان يُرِيد بِعَمَلِه الْحَيَاة الدُّنيا، وإيَّاها وزِينتها يَطْلُب بِه، نُوَفِّ إلَيهم أُجُور أعْمَالِهم فِيها وثَوَابها. (وَهُمْ فِيهَا) يَقُول: وهُم في الدُّنيا (لَا يُبْخَسُونَ) يَقُول: لا يُنْقَصُون أجْرَها، ولَكِنَّهم يُوَفَّونَه فِيها"

(3)

.

أمَّا مَعْنَى: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) عند ابن جرير فَهو "ومَن كَان يُرِيد بِعَمَلِه الدُّنيا، ولها يَسْعَى لا للآخرة؛ نُؤتِه مِنها ما قَسَمْنَا لَه مِنها. (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)

وليس لِمَنْ طَلَب بِعَمَلِه الدُّنيا ولم يُرِد الله بِه في ثَوَاب الله لأهْلِ الأعْمَال التي أرَادُوه بأعْمَالِهم في الدُّنيا حَظّ"

(4)

.

ومَعْنَى آيَة "الإسراء" عنده: مَنْ كَان طَلَبه الدُّنيا العَاجِلَة، ولَها يَعْمَل ويَسْعَى، وإيّاها يَبْتَغِي، لا يُوقِن بِمَعَاد، ولا يَرْجُو ثَوابًا ولا عِقَابًا مِنْ رَبِّه على عَمَلِه؛ (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)

يُعَجِّل الله له في الدُّنيا مَا يَشَاء مِنْ بَسْط الدُّنيا عليه، أو تَقْتِيرِها لِمَنْ أرَاد الله أن يَفْعَل ذَلك بِه، أوْ إهْلاكِه بِمَا يَشَاء مِنْ عُقُوبَاتِه.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (6/ 108).

(2)

المرجع السابق (7/ 583).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (12/ 346)، ولا زال الإشكال قائمًا عند من يُطالِع "جامع البيان"، أي أنه لم يُزِل الإشكال.

(4)

المرجع السابق (20/ 491).

ص: 588

(ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا) يَقُول: ثم أصْلَيْنَاه عند مَقْدَمِه عَلينا في الآخِرَة جَهَنَّم (مَذْمُومًا) على قِلَّة شُكْرِه إيَّانا، وسُوء صَنِيعِه فِيمَا سَلَف مِنْ أيَادِينا عِنْدَه في الدُّنيا (مَدْحُورًا) يَقُول: مُبْعَدًا مُقْصًى في النَّار

(1)

.

فَابْنُ جرير قد فَسَّر كُلّ آيَة في سِيَاقِها، ولم يَتَطَرَّق إلى مَا يُتَوهَّم مِنْ تَعَارُض.

ومَعنى آية "آل عمران" عند ابن الجوزي: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: مَنْ قَصَد بِعَمَلِه الدنيا أُعْطِي منها، قَلِيلًا كَان أوْ كَثِيرًا، ومَن قَصَد الآخِرة بِعَمَلِه أُعْطِي منها ونَقَل عن مُقاتل قوله: عُني بالآية مَنْ ثَبَت يوم أُحُد ومَن طَلَب الغَنِيمَة

(2)

.

وفي آيَة "هود" ذَكَر الْخِلاف في سَبَب نُزُولِها، فَقَال: اخْتَلَفُوا فِيمَن نَزَلَتْ على أرْبَعَة أقْوَال:

أحَدُها: أنَّهَا عَامَّة في جَمِيع الْخَلْق، وهو قَول الأكْثَرِين.

والثَّاني: أنَّهَا في أهْلِ القِبْلَة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثَّالث: أنَّهَا في اليَهُود والنَّصَارَى، قاله أنس.

والرَّابع: أنها في أهْلِ الرّياء، قاله مجاهد.

وَرَوَى عطاء عن ابن عباس: مَنْ كان يُرِيد عَاجِل الدُّنيا ولا يُؤمِن بِالبَعْثِ والْجَزَاء وقال غَيره: إنَّمَا هي في الكَافِر؛ لأنَّ الْمُؤمِن يُرِيد الدُّنيا والآخِرَة.

ثم قال:

قَوله تعَالى: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: أجُور أعْمَالهم. (فِيهَا) قال سعيد بن جبير: أُعْطُوا ثَواب ما عَمِلُوا مِنْ خَيرٍ في الدنيا.

(1)

المرجع السابق (14/ 535، 536).

(2)

زاد المسير، مرجع سابق (1/ 470).

ص: 589

وقال مجاهد: مَنْ عَمِل عَمَلًا مِنْ صِلَة أو صَدَقَة لا يُرِيد به وَجْه الله أعْطَاه الله ثَوَاب ذلك في الدُّنيا، ويَدْرأ بِه

(1)

عَنه في الدُّنيا.

ثم عَقَد ابن الجوزي فَصْلًا قال فيه: وذَكَرَ قَوْم مِنْ الْمُفَسِّرِين - منهم مُقاتل - أنَّ هَذه الآيَة اقْتَضَتْ أنَّ مَنْ أرَاد الدُّنيا بِعَمَلِه أُعْطِي فيها ثَوَاب عَمَلِه مِنْ الرِّزق والْخَير، ثم نُسِخ ذلك بِقَوله:(عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، وهذا لا يَصِح؛ لأنه لا يُوفَّى إلَّا لمَن يُرِيد

(2)

.

ونَقَل ابن الجوزي - في آيَة "الشورى" - عن الْمُفَسِّرِين قَولهم "مَنْ أرَاد العَمَل لله بِمَا يُرْضِيه أعَانَه الله على عِبَادَتِه، ومَن أرَاد الدُّنيا مُؤثِرًا لَها على الآخِرَة - لأنه غَير مُؤمِن بالآخِرَة - يُؤتِه مِنها، وهو الذي قُسِم لَه. (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه كَافِر بِهَا لم يَعْمَل لَها".

و"اتَّفَق العُلَمَاء على أنَّ أوَّل هَذه الآيَة إلى (حَرْثِهِ) مُحْكَم، واخْتَلَفُوا في بَاقِيها على قَولَين:

أحَدُهما: أنه مَنْسُوخ بِقَولِه: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). هذا قَوْل جَمَاعة مِنهم مُقاتل.

والثَّاني: أنَّ الآيَتَين مُحْكَمَتَان مُتَّفِقَتَان في الْمَعْنَى؛ لأنه لم يَقُل في هذه الآيَة نُؤتِه مُرَادَه، فَعُلِم أنه إنَّمَا يُؤتِيه الله مَا أرَاد

(3)

، وهَذا مُوافِق لِقَولِه:(لِمَنْ نُرِيدُ)، ويُحَقِّق هَذا أنَّ لَفْظ الآيَتَين لَفْظ الْخَبَر، ومَعْناهما مَعْنى الْخَبَر، وذلك لا يَدْخُلُه النَّسْخ، وهذا مَذهب جماعة منهم قتادة

(4)

.

وذَكَر قَوْلَين أيضًا في آيَة "الإسراء"، إذ يَقُول: قَوله تَعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) يَعني مَنْ كَان يُرِيد بِعَمَلِه الدُّنيا، فَعَبَّر بالنَّعْت عن الاسْم. (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) مِنْ عَرَض الدُّنيا.

(1)

أي يدفع عنه في الدنيا من الشر والبلاء، وهو نوع مجازاة.

(2)

زاد المسير، مرجع سابق (4/ 84) باختصار.

(3)

أي ما أراد الله سبحانه وتعالى، لا ما أراد العبد.

(4)

المرجع السابق (7/ 281، 282) باختصار يسير.

ص: 590

وقِيل: مِنْ البَسْط والتَّقْتِير.

(لِمَنْ نُرِيدُ) فيه قَولان:

أحَدهما: لِمَنْ نُريد هَلَكَته، قاله أبو إسحاق الفزاري.

والثَّاني: لِمَنْ نُرِيد أن نُعَجِّل له شَيئًا، وفي هذا ذَمّ لِمَنْ أرَاد بِعَمَلِه الدُّنيا، وبَيَان أنه لا يَنَال مَع مَا يَقْصِده مِنها إلَّا مَا قُدِّرَ لَه، ثم يُدْخَل النَّار في الآخِرَة.

وقال ابن جرير: هَذه الآيَة لِمَنْ لا يُوقِن بِالْمَعَاد"

(1)

.

فابْنُ الجوزي يُورِد الأقْوال - كَعَادَتِه - مِنْ غَير تَرْجِيح في الغَالِب.

‌رأي الباحث:

أنَّ مَا جَاء في الآيَات مُطْلَقًا بِالْجَزَاء لِكُلّ مَنْ أرَاد الدُّنيا قَيَّدَته الآيَات الأُخَر بِالْمَشِيئَة الإلَهِيَّة لِمَنْ أرَاد الله مُجَازَاته على ذلك في الدُّنيا.

وهَذه طَريقَة القُرْآن، إذ يُفَصَّل في مَوْضِع ما أُجْمِل في مَوْضِع، ويُقَيَّد في مَوْضِع مَا أُطْلِق في آخَر، ويُخَصَّص في مَوْضِع مَا كَان عَامًّا في مَوْضِع آخَر، وهَذا كَثِير في القرآن ونَظير مَا في هَذه الآيَات مَا جَاء في عِتْق الرَّقَبَة في الكَفَّارَات، قُيِّدَت بِالإيمان في مَواضِع، وأُطْلِقَتْ في مَوَاضِع أُخْرَى

(2)

.

والْكَافِر يُجَازَى في الدُّنيا، ولَيْس لَه في الآخِرَة مِنْ نَصِيب.

ومِن صُوَر مُجَازَاة الكُفَّار في الدُّنيا:

1 -

سَعَة الرِّزْق، و"لَيس ضِيق الرِّزق هَوَانا، ولا سَعَة الرِّزق فَضِيلَة"

(3)

.

2 -

كَثْرَة الْمَال والْوَلَد، وقَد قَال الله تَعالى عن الكَافِر:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) [المدثر: 11 - 14].

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (5/ 20).

(2)

انظر أنواع البيان التي تضمّنها القرآن في مقدمة "أضواء البيان"(1/ 8 - 29).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 27).

ص: 591

3 -

الثَّنَاء الْحَسَن، وهَذا مِمَّا يَطلُبه أهْل الدُّنيا. وفي حَدِيث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جُدْعَان كان في الْجَاهِلِيَّة يَصِل الرَّحِم، ويُطْعِم الْمِسْكِين؛ فهل ذاك نافِعه؟ قال: لا يَنْفَعه، إنه لم يَقُل يَوْمًا رَبّ اغْفِر لي خَطيئتي يَوْم الدِّين

(1)

.

فابْنُ جُدْعان نَال مَا أرَاد مِنْ حُسْن الثَّنَاء، ولَيس لَه في الآخِرَة مِنْ نَصِيب، ومِثْله مَا يَقَع للمُرَائين يَوْم القِيَامَة، فَهم أوَّل مَنْ تُسَعَّر بِهم النَّار، حيث يُقال لِكُلّ وَاحِد منهم: فَعَلْت لِيُقال: كَذا وكذا. فَقَد قِيل

(2)

.

4 -

مَا يَكُون في الدُّنيا مِنْ تَمَكُّن الكُفَّار مِنْ الصِّنَاعَات، ونَحْو ذلك مِمَّا انْتَفَع النَّاس به.

وفي الْحَديث: "إنَّ الله لا يَظْلِم مُؤمِنًا حَسَنَة يُعْطَى بِها في الدُّنيا ويُجْزَى بِها في الآخِرَة، وأمَّا الكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِل بِها لله في الدُّنيا، حتى إذا أفْضَى إلى الآخِرَة لم تَكُنْ له حَسَنَة يُجْزَى بِها"

(3)

.

5 -

السَّلامَة مِنْ الآفَات، فإنَّ هَذا نَوْع مُجَازَاة، وهو مَفْهُوم قَوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يُرِد الله به خَيرًا يُصِب مِنْه"

(4)

.

فالذي لم يُرِد الله بِه خَيْرًا لا يُصِيب مِنه في الدُّنيا، فلا يُكَفَّر عنه مِنْ سَيِّئَاته، ولا يُجَازَى في الآخِرَة بِحَسَنَاتِه؛ لأنّها لم تُقبَل مِنه.

إلى غير ذلك مِنْ صُوَر الْمُجَازَاة، إلَّا أنَّ هَذا لا يَكُون لِكُلّ كَافِر، بل لِمَنْ شَاء الله أن يُجَازِيَه بذلك، ومَن لم يَشأ الله مُجَازَاته فلا يَخْلُو مِنْ حالَيْن:

إمَّا أن يُخَفَّف عنه يَوْم القِيَامَة مُقَابِل مَا عَمِل مِنْ مَعْرُوف وحَسَن في الدُّنيا، وهذا مِثل مَا وَقَع لأبي طَالب، فإنه حَمَى النبي صلى الله عليه وسلم وذَبّ عنه، فَخُفّف عنه بِشَفَاعَة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في ضَحْضَاح مِنْ نار

(5)

.

(1)

رواه مسلم (ح 214).

(2)

هذا معنى حديث رواه مسلم (ح 1905).

(3)

رواه مسلم (ح 2808)، وقد تقدّم.

(4)

رواه البخاري (ح 5321)، وانظر: فتح الباري، ابن حجر، مرجع سابق (10/ 108).

(5)

كما في حديث العباس رضي الله عنه: رواه البخاري (ح 3670)، ومسلم (ح 209).

ص: 592

وإمَّا أنه ليس له حَسَنَات في الدُّنيا.

وأمَّا مَا يَتَعَلَّق بِمَسْألة حُبُوط أعْمَال الكُفَّار، كَقَولِه تَعالى:(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم)[التوبة: 17]؛ فَهذا لِكَونِها لا تَنْفَعُهم في الآخِرَة، ولا تُقْبَل مِنهم، وليسَتْ مُجَازَاتهم في الدُّنيا بِبَعْض مَا عَمِلوا دَلِيل قَبُول.

ألا تَرى إنَّ العَامِل يُعْطَى أُجْرَته، ولو لَم يَكُنْ مَرْضيًّا عند صَاحِب العَمَل؟

ومِثْله قُوله تَعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) إلى قَوله تَعالى: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[آل عمران: 21، 22].

وقَوله تَعالى عن الْمُرْتَدِّين: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[البقرة: 217]، فهذا فِيمَا يَتَعَلَّق بِأعْمَالِهم التي عَمِلُوها قَبل الرِّدَّة مِنْ صَلاة وصِيَام وغَيرها؛ فإنَّ الرِّدَّة تُحْبِط تِلك الأعْمَال، ثم هُو مُقيَّد بِمَنْ مَات على الْكُفْر.

والْمُتَأمِّل في مَنْهَج القُرْطبي يَجِد أنه شَفَى في هذه الْمَسْألَة مِنْ نَاحِية إيرَادِه لأكْثر الأقْوَال في الآيَة، ومِن نَاحِية تَرْجِيحِه واخْتِيَارِه، ومِن نَاحِيَة جَمْعه بَيْن الآيَات.

‌المثال الثاني:

خَلْق الإنْسَان:

قَوله تَعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)[الحجر: 26]، وقَوله:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ)[الأنعام: 2]، وقَوله:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون: 11، 12] وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)[الصافات: 11]،

ص: 593

مع قَولِه: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [الطارق: 5، 6] وقَوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)[العلق: 2].

‌صورة التعارض:

في الآيَات الأُوَل الإخْبَار عن خَلْق الإنْسَان بِأنه مِنْ طِين، أوْ مِنْ حَمَأ مَسْنُون، وفي الآيَات الأُخَر الإخْبَار بأنه خُلُق مِنْ نُطْفَة ومِن عَلَقَة ومِن مَاء دَافِق.

‌جمع القرطبي:

أوْرَد في مَعْنى قَوله تَعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) قوْلَين:

أحَدهما: - وهو الأشْهر وعليه مِنْ الْخَلْق الأكْثَر - أنَّ الْمُرَاد آدَم عليه السلام والْخَلْق نَسْله، والفَرْع يُضَاف إلى أصْلِه، فَلِذَلِك قَال:(خَلَقَكُمْ) بالْجَمْع، فأخْرَجَه مَخْرَج الْخِطَاب لَهم إذْ كانوا وَلَده.

الثاني: أن تَكُون النُّطْفَة خَلَقَها الله مِنْ طِين على الْحَقِيقَة ثم قَلَبها حتى كان الإنْسَان مِنها.

وبيَّن أنَّ كُلّ إنْسَان مَخْلُوق مِنْ طِين ومَاء مَهين، "كَمَا أخْبَر جَلَّ وَعَزّ في سُورة "المؤمنون"، فَتَنْتَظِم الآيات والأحَادِيث، ويَرْتَفع الإشْكَال والتَّعَارُض، والله أعلم"

(1)

.

كَمَا بيَّن في آيَة "الْحِجْر" أنَّ الْمَقْصُود بـ (الْإِنْسَان) هو آدَم عليه السلام، وأنَّ مَعْنَى (مِنْ صَلْصَالٍ) أي: مِنْ طِين يَابِس.

والصِّلْصَال: الطِّين الْحُرّ خُلِط بالرَّمْل فَصَار يَتَصَلْصَل إذا جَفّ، فإذا طُبِخ بِالنَّار فَهو الفَخَّار

وهو قول أكثر الْمُفَسِّرِين.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 357) بتصرف يسير.

ص: 594

وقال مجاهد: هو الطِّين الْمُنْتِن، واخْتَاره الكِسائي، قال: وهو مِنْ قَوْل العَرَب: صَلّ اللحْم وأصَلّ، إذا أنْتَن

يَصِلّ صُلُولًا

(1)

وطِين صِلال ومِصْلال، أي: يُصَوِّت إذا نَقَرْته كَمَا يُصَوِّت الْحَدِيد، فَكَان أوَّل تُرَابًا، أي: مُتَفَرِّق الأجْزَاء، ثم بُلّ فَصَار طِينًا ثم تُرِك حتى أنْتَن فَصَار حَمأ مَسْنُونا، أي: مُتَغَيِّرًا، ثم يَبس فَصَار صِلْصَالًا، على قَوْل الْجُمْهُور

والْحَمَأ الطّين الأسْوَد، وكذلك الْحَمْأة بالتسكين

وقال أبو عُبيدة: الْحَمْأة - بِسكون الميم - مِثْل الكَمْأة، والْجَمْع حَمْء، مِثل: تَمْرَة وتَمْر.

والْحَمَأ الْمَصْدَر، مِثْل الْهَلَع والْجَزَع، ثم سُمِّي به.

والْمَسْنُون الْمُتَغَيِّر. قال ابن عباس: هو التُّرَاب الْمُبْتَلّ الْمُنْتِن، فَجُعِل صِلْصَالًا كالفَخَّار.

وقال الفراء: هو الْمُتَغَيِّر.

وقال أبو عبيدة: الْمَسْنُون الْمَصْبُوب.

ورَوى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الْمَسْنُون الرَّطب، وهذا بِمَعْنى الْمَصْبُوب؛ لأنه لا يَكون مَصْبوبًا إلّا وهو رَطب. النحاس: وهذا قَول حَسَن؛ لأنه يُقال: سَنَنْت الشيء، أي: صَبَبْته

وقال سيبويه: الْمَسْنُون الْمُصَوَّر. أُخِذَ مِنْ سُنّة الوَجْه، وهو صُورته .... وقال الأخفش: الْمَسْنُون الْمَنْصُوب القَائم، مِنْ قَوْلهم: وَجْه مَسْنُون، إذا كَان فيه طُول.

وقد قِيل: إنَّ الصِّلْصَال التُّرَاب الْمُدَقَقّ، حَكاه المهدوي.

ومَن قال: إن الصِّلْصَال هو الْمُنْتِن، فأصْله صَلّال، فأبْدَل مِنْ إحْدَى اللامَين الصَّاد.

و (مِنْ حَمَإٍ) مُفَسِّر لِجِنْس الصِّلْصَال، كَقَولك: أخَذْتُ هذا مِنْ رَجُل مِنْ العَرب

(2)

(1)

انظر: لسان العرب، مرجع سابق (11/ 382، 383).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 21 - 23) باختصار.

ص: 595

واخْتَار القُرْطُبي أنَّ الضَّمِير في قَوله تَعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ)[طه: 55] عائد على آدَم.

حَيث قَال: يَعْنِي آدَم عليه السلام؛ لأنه خُلِق مِنْ الأرْض، قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره

(1)

.

وكَذلك قَال في قَوله تَعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)[هود: 61]، حيث قال: أي ابْتَدأ خَلْقِكم مِنْ الأرْض، وذلك أنَّ آدَم خُلِق مِنْ الأرض

وهُم مِنه

(2)

.

كما اخْتَار القرطبي أن (الْإِنْسَانَ) في آيَة "المؤمنون" هو آدَم عليه الصلاة والسلام.

ثم عَلَّل سَبَب تَسْمِية الإنْسَان إنْسَانًا، وذلك "لأنه اسْتُلّ مِنْ الطِّين. ويَجِيء الضَّمِير في قَوله:(ثُمَّ جَعَلْنَاهُ) عائدًا على ابْنِ آدَم - وإن كان لم يُذْكَر لِشُهْرَة الأمْر - فإنَّ الْمَعْنَى لا يَصْلُح إلَّا لَه

(3)

، نَظِير ذلك:(حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) " [ص: 32].

وقِيل: الْمُرَاد بالسُّلالَة ابن آدَم. والسُّلالَة على هذا صَفْوَة الْمَاء، يَعْنِي الْمَنِيّ .... فالنُّطْفَة سُلالة، والوَلَد سَلِيل وسُلالة، عَنَى به الْمَاء يُسَلّ مِنْ الظَّهْر سَلًّا

وقوله: (مِنْ طِينٍ) أي: أنَّ الأصْل آدَم، وهو مِنْ طِين. قُلت: أي: مِنْ طِين خَالِص، فأمَّا وَلَده فَهو مِنْ طِين ومَنِيّ حَسْبَمَا

وقال الكلبي: السُّلالة الطِّين إذا عَصَرْته انْسَلّ مِنْ بَيْن أصَابِعك، فالذي يَخْرُج هو السُّلالة

(4)

.

وفي آيَة "الصافات" بَيَّن القرطبي أنَّ مْعَنَى (لازِبٍ): لاصِق.

ونَقَل عن قتادة وابن زيد: مَعْنَى لازِب لازِق.

كما نَقَل عن الْمَاوَرْدي الفَرْق بين اللاصِق واللازِق، وذلك أنَّ اللاصِق هو الذي قد لُصِق بَعْضُه بِبعض، واللازِق هو الذي يَلْتَزِق بِمَا أصَابَه.

وعن عكرمة قَوله: لازِب، لَزِج.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 191) باختصار.

(2)

المرجع السابق (9/ 50).

(3)

أي: لا يصلح عود الضمير إلا لابن آدم.

(4)

المرجع السابق (12/ 101، 102).

ص: 596

وعن سعيد بن جبير: أي جَيِّد حُرّ يَلْصَق بِاليَد.

وعن مجاهد: لازِب لازِم.

والعَرب تَقُول: طِين لازِب ولازِم، تُبْدِل البَاء مِنْ الْمِيم، ومِثله قَولهم: لاتِب ولازِم، على إبْدال البَاء بِالْمِيم، واللازِب الثَّابِت. تَقُول: صَار الشَّيء ضَرْبَة لازِب، وهو أفْصَح مِنْ لازِم.

وقال السدي والكلبي في اللازِب: إنه الْخَالِص. مجاهد والضحاك: إنه الْمُنْتِن

(1)

وفسَّر القرطبي الْمَاء الدَّافِق بالْمَنِيّ. قال: والدَّفْق صَبّ الْمَاء. دَفَقْتُ الماء أدْفُقُه دَفْقًا: صَبَبْتُه، فهو ماء دافِق أي مَدْفُوق، كَمَا قَالُوا: سِرّ كَاتِم، أي: مَكْتُوم؛ لأنه مِنْ قَولك: دُفِق الْمَاء، على مَا لَم يُسَمّ فَاعِله. ولا يُقَال: دَفَق الْمَاء

(2)

. ويُقَال دَفَق الله رُوحَه، إذا دُعِي عليه بِالْمَوت، قال الفراء والأخفش:(مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) أي: مَصْبُوب في الرَّحِم. الزجاج: مِنْ مَاء ذي انْدِفَاق. يُقَال: دَارِع وفَارِس ونَابِل، أي: ذو فَرَس ودِرْع ونَبْل. وهذا مَذهب سيبويه. فالدَّافِق هو الْمُنْدَفِق بِشِدّةِ قُوّتِه. وأرَاد مَاءَين: مَاء الرَّجُل ومَاء الْمَرْأة؛ لأنَّ الإنْسَان مَخْلُوق مِنْهُما، لكن جَعَلَهما مَاء وَاحِدًا لامْتِزَاجِهما. وعن عكرمة عن ابن عباس:(دَافِقٍ): لَزِج

(3)

.

والْمُراد بـ (الْإِنْسَانَ) في سُورة "الْعَلَق" هو ابن آدَم. يَقُول القرطبي: قَوله تَعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) يَعني: ابن آدَم (مِنْ عَلَقٍ) أي: مِنْ دَم، جَمْع عَلَقَة، والعَلَقَة الدَّم الْجَامِد، وإذا جَرَى فهو الْمَسْفُوح. وقَال:(مِنْ عَلَقٍ) فَذَكَرَه بِلَفْظ الْجَمْع؛ لأنه أرَاد بِالإنْسَان

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (15/ 63، 64) باختصار وتصرف.

(2)

في اللسان (10/ 99): دفق الماء والدمع يدفق ويدفق دفقًا ودفوقًا، واندفق وتدفق واستدفق: انصب

ومنهم مَنْ قال: لا يُقال: دفق الماء.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (20/ 8).

ص: 597

الْجَمْع، وكُلّهم خُلِقُوا مِنْ عَلَق بَعد النُّطْفَة، والعَلَقَة قِطْعَة مِنْ دَم رَطْب، سُمِّيَتْ بِذَلك لأنها تَعْلَق لِرُطُوبَتِها بِمَا تَمُرّ عليه، فإذا جَفَّتْ لم تَكن عَلَقَة

(1)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

الْمُرَاد بِخَلْق الإنْسَان مِنْ طِين هو آدَم عليه الصلاة والسلام، وضَمِير الْجَمْع لِذُرِّيَّتِه. فآدَم خُلُق مِنْ تُرَاب وذُرِّيَّتُه مِنْ مَاء مَهِين.

2 -

وَجْه الْجَمْعِ بَيْن كَوْن آدَم خُلِق مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون، وبَيْن كَوْنِه مِنْ طِين لازِب، وبَيْن كَوْنه خُلِق مِنْ تُرَاب؛ أنَّ ذلك بِحَسَب مَرَاحِل خَلْق آدَم وتَجْمِيعه.

3 -

أنَّ الإنْسَان في آيَة "المؤمنون" يُقصَد به آدَم، والسُّلالة نَسْل آدَم، والْمُرَاد بِالإنْسَان في سُورة "الْعَلَق" هو ابن آدَم، وذلك بِحَسْب مَا يَقْتَضِيه الْمَعْنَى والسِّيَاق.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قَال ابن جرير في آيَة "الأنعام": هو الذي خَلَقَكم أيُّها النَّاس مِنْ طِين، وإنَّمَا يَعْنِي بِذلك تَعالى ذِكْرُه أنَّ النَّاس وَلَدُ مَنْ خَلَقَه مِنْ طِين؛ فَأَخْرَج ذلك مَخْرَج الْخِطَاب لَهُم، إذ كَانُوا وَلَدَه

(2)

.

وَبَيَّن أنَّ الْمُرَاد بـ (الْإِنْسَانَ) في آية "الْحِجْر" هو آدَم.

ثم ذَكَر اخْتِلاف أهْل التَّأوِيل في مَعْنَى الصِّلْصَال؛ فَنَقَل عن بَعْضِهم قوله: هو الطِّين اليَابِس لم تُصِبه نَار، فإذا نَقَرْتَه صَلّ، فَسَمَعْتَ له صَلْصَلة.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (20/ 110، 111).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 149، 150).

ص: 598

وعَن آخَرِين: الصِّلْصَال الْمُنْتِن.

وكأنهم وَجَّهُوا ذلك إلى أنه مِنْ قَولِهم: صَلّ اللحم وأصَلّ: إذا أنْتَن. يُقَال ذلك باللغَتَين كِلَيهما بـ "فَعَل وأفْعَل".

أمَّا اخْتِيار ابن جرير في الآيَة فَهو "أنْ يَكُون الصِّلْصَال في هذا الْمَوْضِع الذي له صَوت مِنْ الصَّلْصَلَة، وذلك أنَّ الله تَعالى وَصَفَه في مَوْضِع آخَر، فَقَال:(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[الرحمن: 14]، فَشَبَّهَه تَعَالى ذِكْرُه بِأنه كَان كالفَخَّار في يُبْسِه، ولو كان مَعْنَاه في ذلك الْمُنْتِن لم يُشَبِّه بِالفَخَّار

(1)

؛ لأن الفَخَّار ليس بِمُنْتِن فَيُشَبَّه به في النَّتَنِ غَيرُه"

(2)

.

وفي آيَة "المؤمنون" يَقول ابن جرير: "ثم جَعَلْنا الإنْسَان - الذي جَعَلْنَاه مِنْ سُلالَة مِنْ طِين نُطْفَة في قَرَار مَكِين، وهو حَيث اسْتَقَرَّتْ فيه نُطْفَة الرَّجُل مِنْ رَحِم الْمَرْأة"

(3)

.

وفي قَولِه تَعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة: 7، 8] قال ابن جرير: وبَدأ خَلْق آدَم مِنْ طِين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ)، يَعْنِي: ذُرِّيَّته (مِنْ سُلَالَةٍ) يَقُول: مِنْ الْمَاء الذي انْسَلّ فَخَرَج مِنه

(4)

.

(1)

تقرير ابن جرير هذا فيه نظر من الناحية اللغوية، فأهل اللغة يخالفونه في أن التشبيه لا يقتضي المشابهة من كل وجه، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه رؤية المؤمنين لربهم في الجنة برؤية القمر؟

وفي "شرح مختصر الروضة"(3/ 424): "مثل الشيء ما ساواه من كل وجه في ذاته وصفاته، وشبه الشيء وشبيهه ما كان بينه وبينه قدر مشترك من الأوصاف". اهـ.

ثم إنه قد ورد وصف الصلصال بالحمأ المسنون، والحمأ الطين الأسود المنتن. انظر:"مشارق الأنوار"، مرجع سابق (1/ 199)، و"لسان العرب"، مرجع سابق (1/ 61).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 57 - 59) باختصار.

(3)

المرجع السابق (17/ 20).

(4)

المرجع السابق، الموضع السابق.

ص: 599

وفي آيَة "الصافات" بَيَّن ابن جرير مَعْنَى "لازِب" بِأنه اللاصِق، ثم بَيَّن سَبَب ذلك فَقَال: وإنَّمَا وَصَفَه جَلّ ثَناؤه باللزوب لأنَّه تُرَاب مَخْلُوط بِمَاء، وكَذلك خُلِق ابن آدَم مِنْ تُراب ومَاء ونَار وهَواء، والتُّرَاب إذا خُلِط بِمَاء صَار طِينًا لازِبًا

(1)

.

وفي آيَة "الطارق" قال: أخْبَر جَلّ ثَنَاؤه عَمَّا خَلَقَه مِنه، فَقَال:(خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) يَعني: مِنْ مَاء مَدْفُوق، وهو مِمَّا أخْرَجَتْه العَرَب بِلَفْظ فَاعِل، وهو بِمَعْنَى الْمَفْعُول، ويُقَال: إنَّ أكْثَر مَنْ يَسْتَعْمِل ذلك مِنْ أحْيَاء العَرَب سُكَّان الْحِجَاز إذا كان في مَذْهَب النَّعْت، كَقَولِهم: هذا سِرّ كَاتِم، وهَمّ نَاصِب، ونَحو ذلك

(2)

.

وقال في سُورة "العَلق": (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) يَعني: مِنْ الدَّم. وقَال: (مِنْ عَلَقٍ) والْمُرَاد به مِنْ عَلَقَة، لأنه ذَهَب إلى الْجَمْع، كَمَا يُقَال: شَجَرَة وشَجَر، وقَصَبَة وقَصَب، وكذلك عَلَقَة وعَلَق.

وإنَّمَا قَال (مِنْ عَلَقٍ) والإنْسان في لَفْظ واحِد؛ لأنه في مَعْنَى جَمْع، وإن كان في لَفْظ وَاحِد، فَلِذَلك قِيل:(مِنْ عَلَقٍ)

(3)

.

ويَرى ابن الجوزي أنَّ "قَوله تَعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يَعْنِي آدَم، وذلك أنه لَمَّا شَكّ الْمُشْرِكُون في البَعْث وقَالُوا: مَنْ يُحْيي هَذه العِظَام؟ أعْلَمَهم أنه خَلَقَهم مِنْ طِين، فهو قَادِر على إعَادَة خَلْقِهم"

(4)

.

والْمُرَاد بـ "الإنسان" في سُورة الحجر هو آدَم أيضًا، ثم ذَكَر ابن الجوزي في مَعْنَى الصِّلْصَال ثَلاثة أقْوَال:

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (19/ 510، 511).

(2)

المرجع السابق (24/ 292).

(3)

المرجع السابق (24/ 527).

(4)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 2، 3).

ص: 600

أحَدها: أنه الطِّين اليَابِس الذي لم تُصِبْه النَّار، فإذا نَقَرته صَلّ، فَسَمِعْتَ لَه صَلْصَلة.

والثَّاني: أنه الطِّين الْمُنْتن

ويُقَال: صَلّ اللحم إذا تَغَيَّرَتْ رَائحَتُه.

والثَّالث: أنه طِين خُلِط بِرَمْل فَصَار له صَوت عِند نَقْرِه.

وفي الْمَسْنُون

(1)

أرْبَعَة أقْوَال:

أحَدها: الْمُنْتِن أيضًا.

والثَّاني: أنه الطِّين الرَّطِب.

والثَّالث: أنه الْمَصْبوب.

والرَّابع: أنه الْمَحْكُوك

(2)

.

ثم فصَّل ابن الجوزي في مأخَذ كل فريق في معنى "الْمَسْنُون"

(3)

.

وذَكَر ابن الجوزي في مَعْنَى الإنْسَان في آيَة "المؤمنون" قَوْلَين:

أحَدُهما: أنه آدَم عليه السلام. وإنَّمَا قِيل: (مِنْ سُلَالَةٍ)؛ لأنه اسْتُلّ مِنْ كُلّ الأرْض.

والثَّاني: أنه ابن آدَم، والسُّلالة النُّطْفَة اسْتُلَّتْ مِنْ الطِّين، والطِّين آدَم عليه السلام

(4)

.

وفي قَوله تَعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) قال ابن الجوزي: ثم ذَكَرَ خَلْق النَّاس فَقَال: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ).

قال الفراء وابن قتيبة: أي لاصِق لازِم، والباء تُبْدَل مِنْ الميم لِقُرْب مَخْرَجَيهما.

قال ابن عباس: هو الطين الْحُرّ الْجَيِّد اللَّزق. وقال غيره: هو الطِّين الذي يَنْشِف عنه الْمَاء وتَبْقَى رُطُوبته في بَاطِنه، فَيَلْصَق بِاليَد كَالشَّمْع، وهذا

(1)

أي في معنى المسنون الوارد في قوله تعالى: (مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ).

(2)

زاد المسير، مرجع سابق (4/ 397، 398) باختصار.

(3)

انظر: المرجع السابق (4/ 398).

(4)

المرجع السابق (5/ 462) باختصار.

ص: 601

إخْبَار عن تَسَاوِي الأصْل في خَلْقِهم وخَلْق مَنْ قَبْلَهم؛ فَمن قَدَر على إهْلاك الأقْوِيَاء قَدَر على إهْلاك الضُّعَفَاء

(1)

.

ولم يَتَطَرَّق ابن الجوزي في هذه الْمَوَاضِع إلى إزَالة مَا يُتَوَهَّم مِنْ تَعَارُض أوْ إشْكَال، وإنَّمَا أجَاب عنه في تفسير سورة "الرحمن"، حيث تَسَاءل: فإن قِيل: قَدْ أخْبَر الله تَعالى عن خَلْق آدَم عليه السلام بألْفَاظ مُخْتَلِفة، فَتَارَة يَقُول: خَلَقَه مِنْ تُرَاب، وتَارَة مِنْ صَلْصَال، وتَارَة مِنْ طِين لازِب، وتَارَة كالفَخَّار، وتَارَة مِنْ حَمَأ مَسْنُون.

فَالْجَوَاب أنَّ الأصْل التُّرَاب، فَجُعِل طِينًا، ثم صَار كالْحَمإ الْمَسْنُون، ثم صَار صَلْصَالًا كالفَخَّار، هذه أخْبَار عن حَالات أصْلِه

(2)

.

وفي آيَة "الطارق" أشَار إلى مَعْنَى الإنْسَان في الآيَة بِقَولِه: والْمَعْنَى: فَلْيَنْظُر نَظَر التَّفكُّر والاسْتِدْلال لِيَعْرِف أنَّ الذي ابْتَدَأه مِنْ نُطْفَة قَادِر على إعَادَتِه

(3)

.

ثم بَيَّن مَعْنَى "دَافِق" ومَعْنَى "الصُّلْب والتَّرَائب".

وقَال في آيَة "العلق": والإنْسَان هَاهنا ابن آدَم، والعَلَق جَمْع عَلَقَة.

ثم نَقَل عن الفَرَّاء قَوْلَه: لَمَّا كَان الإنْسَان في مَعْنَى الْجَمْع جُمِع العَلَق مَع مُشَاكَلَة رُؤوس الآيَات

(4)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن الآي؛ فالإنْسَان يَأتِي في القُرآن على مَعَاني بِحَسَب سِيَاق الآيَات، فإذا ذُكِر خَلْق الإنْسَان مِنْ طِين فَالْمُرَاد بِالإنْسَان آدَم عليه الصلاة والسلام، وإذا ذُكِر خَلْق الإنْسَان مِنْ مَاء فَالْمُرَاد بِه عُمُوم بَني آدَم.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (7/ 49).

(2)

المرجع السابق (8/ 110).

(3)

المرجع السابق (9/ 82).

(4)

المرجع السابق (9/ 175).

ص: 602

وأمَّا اخْتِلاف الأوْصَاف في خَلْق آدَم عليه الصلاة والسلام، فالْجَوَاب مَا قَاله ابن الجوزي: أنَّ الأصْل التُّرَاب، فَجُعِل طِينًا، ثم صَار كالْحَمأ الْمَسْنُون، ثم صَار صَلْصَالًا كَالفَخَّار. هذه أخْبَار عن حَالات أصْلِه.

و"الألْفَاظ إذا اخْتَلَفَتْ في ذَاتِها كَان مَرْجِعها إلى أمْر وَاحِد لم يُوجِب ذَلك تَنَاقُضًا كَمَا قَال عز وجل في كِتَابِه في خَلْق آدَم، فَذَكَر مَرَّة أنه خُلِق مِنْ تُرَاب، ومَرَّة أنه خُلِق مِنْ حَمأ مَسْنُون، ومَرَّة مِنْ طِين لازِب، ومَرّة مِنْ صَلْصَال كَالفَخَّار؛ فَهَذِه الألْفَاظ مُخْتَلِفَة، ومَعَانِيها - أيضًا في الأحْوَال - مُخْتَلِفَة. أنَّ الصِّلْصَال غَير الْحَمْأة، والْحَمْأة غَير التُّرَاب، إلَّا أنَّ مَرْجِعها كُلّها في الأصْل إلى جَوْهَر وَاحِد، وهو التُّرَاب، ومِن التُّراب تَدَرَّجَتْ هَذه الأحْوَال"

(1)

.

ويُحْتَمَل مَا قَالَه بَعْض مَنْ يُعْنَى بِالْعِلْم التَّجْرِيبِي، مِنْ أنه "لَو أرْجَعْنَا الإنْسَان إلى عَنَاصِرِه الأَوَّلِيَّة، لَوَجَدْنَاه أشْبَه بِمَنْجَمٍ صَغِير، يَشْتَرِك في تَرْكِيبِه حَوالي (21) عُنْصُرًا".

هي باخْتِصَار كَمَا يَلِي:

"على شَكْل مَاء بِنِسْبَة 65% - 70% مِنْ وَزْن الْجِسْم".

وبَقِيَّة عَنَاصِر تَرْكِيبِه "مَوْجُودَة في تُرَاب الأرْض، ولا يُشْتَرَط أن تَكُون كُلّ مُكَوِّنَات التُّرَاب دَاخِلَة في تَرْكِيب جِسْم الإنْسَان، فَهناك أكْثَر مِنْ مِئة عُنْصُر في الأرْض بَيْنَمَا لَم يُكْتَشَف سِوَى عُنْصُرًا في تَرْكِيب جِسْم الإنْسَان"

(2)

.

"ولقد أثْبَت الْعِلْم الْحَدِيث أنَّ جِسْم الإنْسَان يَتَكَوَّن مِنْ نَفْس الْعَنَاصِر الْمُكَوِّنَة للتُّرَاب"

(3)

.

(1)

قاله ابن القيم في كتاب "الروح"(ص 170).

(2)

"مع الطب في القُرآن الكريم". تأليف: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز. (كِتاب إلكتروني).

(3)

الإعجاز العلمي في الإسلام "القرآن الكريم"، محمد كامل عبد الصمد (ص 93).

ص: 603

‌المثال الثالث:

تَبْدِل الآيَات:

قَوله تَعالى: (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)[الأنعام: 34]، وقَوله تَعالى:(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)[الأنعام: 115]، وقَوله تَعالى:(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)[الكهف: 27]، مَع قَوله تَعالى:(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)[النحل: 101].

‌صورة التعارض:

أفَادَتْ آيَة "الأنعام" أنَّ كَلِمَات الله لا تُبَدِّل، بَيْنَمَا يُفْهَم مِنْ آيَة "النحل" أنَّ تَبْدِيل الآيَات وَاقِع ومُمْكِن.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في قَوله تَعالى: (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) مُبَيِّن لِذلك النَّصْر

(1)

، أي: مَا وَعَد الله عز وجل بِه فَلا يَقْدِر أحَدٌ أن يَدْفَعه، لا ناقِض لِحُكْمِه، ولا خُلْف لِوَعْدِه، ولِكُلّ أجَلٍ كِتَاب

(2)

.

ونَقَل القرطبي في تَفْسِير قَوْله تَعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) عن ابن عباس قَوله: مَوَاعِيد رَبِّك فَلا مُغَيِّر لَها.

قال: والكَلِمَات تَرْجِع إلى العِبَارَات، أوْ إلى الْمُتَعَلَّقَات مِنْ الوَعْد والوَعِيد وغَيرهما.

كَمَا نَقَل عن قَتادة قَولَه: الكَلِمَات هي القُرْآن، لا مُبَدِّل له، لا يَزِيد فيه الْمُفْتَرُون ولا يَنْقُصُون.

(1)

الذي تقدم ذكره في الآية: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 382).

ص: 604

وقَال في قَوله تَعالى: (صِدْقًا وَعَدْلًا)، أي: فِيمَا وَعَد وَحَكَم، لا رَادّ لِقَضَائه، ولا خُلْف في وَعْده، وحَكَى الرّماني عن قتادة: لا مُبَدِّل لها فِيمَا حَكَم بِه، أي: أنه وإن أمْكَنَه التَّغْيير والتَّبْديل في الألْفَاظ كَمَا غَيَّر أهْل الكِتَاب التَّوْرَاة والإنْجِيل فإنه لا يُعْتَدّ بِذَلك.

قال القرطبي: ودَلَّتْ الآيَة على وُجُوب اتِّبَاع دَلالات القُرْآن؛ لأنه حَقّ لا يُمْكِن تَبْدِيله بِمَا يُنَاقِضُه، لأنه مِنْ عِند حَكِيم لا يَخْفَى عليه شَيء مِنْ الأمُور كُلّها

(1)

.

ونَقَل القرطبي قَوْلًا في اخْتِصَاص آيَة "الكهف" بِقِصَّة أصْحَاب الكَهْف، إذْ يَقُول: قَوله تَعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) قِيل: هو مِنْ تَمَامِ قِصَّة أصْحَاب الكَهْف، أي: اتَّبِع القُرْآن فلا مُبَدِّل لِكَلِمَات الله، ولا خُلْف فِيمَا أخْبَر به مِنْ قِصّة أصْحَاب الكَهْف. وقَال الطَّبري

(2)

: لا مُغَيِّر لِمَا أوْعَد بِكَلِمَاته أهْل مَعَاصِيه والْمُخَالِفِين لِكِتَابِه

(3)

.

ونَقَل عَنْ الْجُمْهُور في قَوله تَعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) قَوْلَهم: نَسَخْنَا آيَة بِآيَة أشَدّ مِنها عَليهم، والنَّسْخ والتَّبْدِيل: رَفْع الشَّيء مَع وَضْع غَيره مَكَانه

(4)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

الْمَوَاعِيد والوَعْد والوَعِيد لا تَبْدِيل فِيها ولا تَغْيِير.

2 -

أنَّ الْمَقْصُود بِه القُرْآن، فلا يُزَاد فِيه ولا يُنْقَص.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 64) باختصار.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (15/ 234) باختلاف يسير.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 338).

(4)

المرجع السابق (1/ 157).

ص: 605

3 -

آيَة "النحل" فِيما يَتَعَلَّق بِالنَّسْخ، والنَّسْخ في الأحْكَام خاصَّة، وهو مُقَيَّد بِزمَن نُزُول الوَحْي

(1)

.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

فَسَّر ابن جرير "تَبْدِيل كَلِمَات الله" بِالتَّغْيِير حيث قَال: ولا مُغَيِّر لِكَلِمَات الله.

ثم زَاد ذَلك بَيَانًا بِقَولِه: وكَلِمَاته تَعالى مَا أَنْزَل الله إلى نَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ وَعْدِه إياه النَّصْر على مَنْ خَالَفَه وضَادَّه، والظَّفَر على مَنْ تَولَّى عنه وأدْبَر

(2)

.

ورَجَّح ابن جرير أنَّ الْمُرَاد بِكَلِمَة رَبِّك هو القُرْآن.

ثم عَلّل تَسْمِيَته كَذلك بِقَوله: سَمَّاه كَلِمة، كَمَا تَقُول العَرَب للقَصِيدَة مِنْ الشِّعر يَقُولُها الشَّاعر: هَذه كَلِمَة فُلان.

وقَال في قَوله تَعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) يَقُول: لا مُغَيِّر لِمَا أخْبر في كُتُبه أنه كَائن مِنْ وُقُوعِه في حِينِه وأجَلِه الذي أخْبَر الله أنه وَاقِع فيه.

وذَلك نَظِير قَوله جَلَّ ثَنَاؤه: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)[الفتح: 15]، فَكَانَت إرَادَتهم تَبْدِيل كَلام الله مَسْألَتهم نَبِيّ الله أن يَتْرُكَهم يَحْضُرُون الْحَرْب مَعه، وقَوْلهم له ولِمَن مَعه مِنْ الْمُؤمِنين:(ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)[الفتح: 15] بَعْد الْخَبَر الذي كان الله أخْبَرَهم تَعالى ذِكْرُه في كِتَابه بِقَولِه: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)[التوبة: 83] الآية، فَحَاوَلُوا تَبْدِيل كَلام الله وخَبَره بِأنَّهم لن يَخْرُجُوا مَع نَبِيّ الله في غَزَاة، ولن يُقَاتِلُوا مَعَه عَدُوًا بِقَوْلِهم لهم

(1)

وهذا المعنى يُؤكّده القرطبي كثيرًا في غير موضع من تفسيره.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 224).

ص: 606

(ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)، فَقَال الله جَل ثناؤه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم:(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا) بِمَسْألتهم إيَّاهم ذَلك (كَلَامَ اللَّهِ) وخَبَره (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ).

فَكَذلك مَعْنَى قَوله: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) إنَّمَا هو لا مُغَيِّر لِمَا أخْبَر عنه مِنْ خَبَرٍ أنه كَائن فيُبْطِل مَجِيئه وكَوْنه ووُقُوعه على مَا أخْبَر جَلَّ ثَنَاؤه، لأنه لا يَزِيد الْمُفْتَرون في كُتُب الله ولا يَنْقُصُون مِنها، وذَلك أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا شَك أنَّهم أهْل كُتُب الله التي أنْزَلها على أنْبِيائه، وقد أخْبَر جَلَّ ثَناؤه أنَّهم يُحَرِّفُون غير الذي أخْبَر أنه لا مُبَدِّل له

(1)

.

وقال ابن جَرير في آيَة "الكهف": يَقُول تَعالى ذِكْرُه لِنَبِيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: واتَّبِع يا محمد مَا أُنْزِل إليك مِنْ كِتَاب رَبِّك هذا، ولا تَتْرُكَنّ تِلاوَته واتِّبَاع مَا فيه مِنْ أمْرِ الله ونَهْيه، والعَمَل بِحَلالِه وحَرَامِه، فَتَكُون مِنْ الْهَالِكِين؛ وذلك أنَّ مَصِير مَنْ خَالَفه وتَرَك اتِّبَاعه يَوْم القِيَامَة إلى جَهَنَّم.

وقَال: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) يَقُول: لا مُغَيِّر لِمَا أوْعَد بِكَلِمَاته التي أنْزَلَها عَليك أهْل مَعَاصِيه والعَامِلِين بِخِلاف هَذا الكِتَاب الذي أوْحَيْنَاه إلَيك

(2)

.

ورَجَّح أنَّ التَّبْدِيل في آيَة "النحل" مُتَعَلِّق بِالنَّسْخ. يَقُول ابن جرير: يَقول تَعالى ذِكْرُه: وإذا نَسَخْنَا حُكْم آيَة فأبْدَلْنا مَكَانَه حُكْم أخْرَى. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) يَقول: والله أعْلَم بِالذِي هو أصْلَح لِخَلْقِه فِيمَا يُبَدِّل ويُغَيِّر مِنْ أحْكَامِه. (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) يَقُول: قَال الْمُشْرِكُون بالله الْمُكَذِّبُو رَسُولَه لِرَسُولِه: إنَّمَا أنت يَا محمد مُفْتَر، أي: مُكَذِّب تَخَرّص بِتَقَوُّل البَاطِل على الله.

يَقُول الله تَعالى: بَلْ أكْثَر هَؤلاء القَائِلين لك يَا محمد: "إنَّمَا أنت مُفْتَر" جُهَّال بأنَّ الذي تَأتِيهم بِه مِنْ عِند الله نَاسِخه ومَنْسُوخه، لا يَعْلَمُون حَقِيقَة صِحَّتِه

(3)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 507، 508) باختصار يسير.

(2)

المرجع السابق (15/ 234).

(3)

المرجع السابق (14/ 362).

ص: 607

وذَكَر ابن الجوزي في قَوله تَعالى: (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) خَمْسَة أقْوَال، وهي:

أحَدها: لا خُلْف لِمَواعِيده.

والثَّاني: لا مُبَدِّل لِمَا أخْبَر بِه ومَا أمَرَ بِه.

والثَّالث: لا مُبَدِّل لِحُكُومَاته وأقْضِيَتِه النَّافِذَة في عِبَادِه، فَعَبَّرَتِ الكَلِمَات عن هَذا الْمَعْنَى.

والرَّابع: أنَّ مَعْنَى الكَلام مَعْنَى النَّهْي، وإنْ كان ظَاهِره الإخْبَار، فَالْمَعْنَى: لا يُبَدِّلَنّ أحَدٌ كَلِمَات الله.

والْخَامِس: أنَّ الْمَعْنَى: لا يَقْدِر أحَدٌ على تَبْدِيل كَلام الله وإنْ زَخْرَف واجْتَهَد؛ لأنَّ الله تعالى صَانَه بِرَصِين اللفْظ وقَوِيم الحكم أن يَخْتَلِط بألْفَاظ أهْل الزَّيغ. ذَكَر هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري

(1)

.

وفي قَوله تَعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) اقْتَصَر ابن الجوزي على ذِكْر قَوْلَين:

أحَدهما: لا يَقْدِر الْمُفْتَرُون على الزِّيادة فيها والنقصان مِنها.

والثَّاني: لا خُلْف لِمَواعِيده ولا مُغَيِّر لِحُكْمِه

(2)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ذَكَر ابن الجوزي نَحْوًا مما ذَكَره ابن جرير، حيث قال: وقد ذَكَرَتِ العَرَب الكَلِمَة وأرَادَتْ الكَثْرَة، يَقُولُون: قَال قس في كَلِمَته: أي: في خُطْبَته، وزُهَير في كَلِمَته، أي: في قَصِيدَته.

قال: وفي الْمُرَاد بِهَذِه الكَلِمَات ثَلاثة أقْوال:

أحَدها: أنها القُرْآن.

والثَّاني: أقْضِيَته وعِدَاته.

والثَّالث: وَعْده وَوَعِيده وثَوَابه وعِقَابه

(3)

.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 31) باختصار.

(2)

المرجع السابق (3/ 111).

(3)

المرجع السابق (3/ 110، 111) باختصار.

ص: 608

وفي آيَة "الكهف" أحَال على مَا مَضَى في سُورة الأنْعام.

وفي آيَة "النحل" ذَكَر ابن الجوزي سَبَب النُّزُول، حَيث قَال: قَوله تَعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)، سَبَب نُزُولها أنَّ الله تَعالى كَان يُنَزِّل الآيَة فَيُعْمَل بِها مُدَّة ثم يَنْسَخها، فَقَال كُفَّار قُرَيش: والله مَا محمد إلَّا يَسْخَر مِنْ أصْحَابه؛ يأمُرُهم اليَوم بِأمْر ويَأتِيهم غَدًا بِمَا هو أهْوَن عليهم مِنه، فَنَزَلَتْ هذه الآيَة. قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والْمَعْنَى: إذا نَسَخْنَا آيَة بِآيَة - إمَّا نَسْخ الْحُكْم والتِّلاوة، أوْ نَسْخ الْحُكْم مع بَقَاء التِّلاوَة. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) مِنْ نَاسِخ ومَنْسُوخ، وتَشْدِيد وتَخْفِيف، فَهو عَلِيم بِالْمَصْلَحَة في ذلك

(1)

.

‌رأي الباحث:

التَّبْدِيل الْمَنْفِي عن كَلِمَات الله هو مَا كَان مِنْ قِبَل البَشَر، أمَّا مَا يُبَدِّله سبحانه وتعالى فهو الْمُثْبَت، وهو مَا يَكُون بِالتَّغْيِير والنَّسْخ، وهو مُقيَّد بِزَمَنِ الوَحْي.

ومَا غَيَّرَته اليَهُود والنَّصَارَى وحَرَّفَتْه في كُتُبِها إنَّمَا هو فِيمَا استُحْفِظُوا عليه، وهو مَا في أيْدِيهم مِنْ كُتُب لَم يُكتَب لَها الدَّوَام، ولَم يُضْمَن لَها البَقَاء، ولا تَكفَّل الله بِحِفظِها، كَمَا قَال تَعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)[المائدة: 44]

(2)

، كَمَا أنَّ أصْل تِلك الكُتُب - وهو مَا في اللوْح الْمَحْفُوظ - لا يُمْكِن تَغْيِيره ولا تَبْدِيله وتَحْرِيفه.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (4/ 491).

(2)

ينظر ما رواه القرطبي بإسناده في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9] في "الجامع لأحكام القرآن"، مرجع سابق (10/ 8، 9).

ص: 609

‌المثال الرابع:

سَبْق الإنْذَار لِقُرَيْش:

قَوله تَعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الإسراء: 15]، مع قَوله تَعالى:(يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)[المائدة: 19]، وقَوله تَعالى:(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)[القصص: 46]، [السجدة: 3].

‌صورة التعارض:

في آيَة "الإسراء" نَفْي التَّعْذِيب إلَّا بَعْد إقَامَة الْحُجَّة وإرْسَال الرُّسُل، وفي الآيَتَين الأُخْرَيَيْن الإخْبَار عن بِعْثَة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بُعِث في قَوْم لَم يَأتِهم نَذِير، وفي آيَة "المائدة" إثْبَات أنَّ بِعْثَته صلى الله عليه وسلم جَاءت على فَتْرَة مِنْ الرُّسُل. مَع إخْبَارِه صلى الله عليه وسلم عن تَعْذِيب بَعض أهْل الْجَاهِلِيَّة، وفي صحيح مسلم

(1)

من حديث أنَس أنَّ رَجُلًا قال: يَا رَسُول الله أين أَبِي؟ قال: في النَّار، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاه، فَقَال: إنَّ أبي وأبَاك في النَّار.

‌جمع القرطبي:

قال في آيَة "الإسراء":

قَوله تَعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، أي: لم نَتْرُك الْخَلْق سُدَى، بل أرْسَلْنا الرُّسُل، وفي هَذا دَلِيل عَلى أنَّ الأحْكَام لا تَثْبُت إلَّا بِالشَّرْع

والْجُمْهُور على أنَّ هذا في حُكْم الدُّنيا، أي: أنَّ الله لا يُهْلِك أمَّة بِعَذَاب إلَّا بَعد الرِّسَالة إلَيهم والإنْذَار.

وقَالَت فِرْقَة: هذا عَامّ في الدُّنيا والآخِرَة، لِقَولِه تَعَالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ

(1)

(ح 203).

ص: 610

يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) [الملك: 8، 9] قال ابن عطية

(1)

: والذي يُعْطِيه النَّظَر أنَّ بِعْثَة آدَم عليه السلام بِالتَّوْحِيد وبَثّ الْمُعْتَقَدَات في بَنِيه مع نَصْب الأدِلَّة الدَّالَّة على الصَّانِع مَع سَلامَة الفِطر تُوجِب على كُلّ أحَد مِنْ العَالَم الإيمان واتِّبَاع شَرِيعَة الله، ثم تَجَدَّد ذَلك في زَمَن نُوح عليه السلام بَعد غَرَق الكُفَّار.

وهَذه الآيَة أيضًا يُعْطِي احْتِمَال ألْفَاظها نَحو هذا في الذِين لم تَصِلْهم رِسَالة، وهُم أهْل الفَترات الذين قَدْ قَدَّر وُجُودُهم بَعْض أهْل العِلْم

(2)

.

وأمَّا مَا رُوي مِنْ أنَّ الله تَعالى يَبْعَث إليهم يَوْم القِيَامَة وإلى الْمَجَانِين والأطْفَال، فحَدِيث لم يَصِحّ

(3)

.

(1)

المحرر الوجيز، مرجع سابق (3/ 444) باختلاف يسير.

(2)

إذا كان المقصود تقدير وجودهم بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا الذي يصح أن يطلق عليه "تقدير بعض أهل العلم" مع أن فيه نظرًا من حيث وجود أهل الفترة بعد الرسل، وإن كان المقصود به إثبات الفترة وأهلها عمومًا، فهذا لا يحتاج إلى تقدير، بل هو ثابت، ففي التنزيل:(يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)[المائدة: 19].

(3)

رواه مرفوعًا من حديث الأسود بن سريع: إسحاق بن راهويه في "مسنده"(ح 41)، وأحمد (ح 16301) ومن طريقه الضياء في "المختارة"(ح 1454)، ورواه الطبراني في الكبير (ح 841)، وابن حبان (ح 7357)، ورواه من حديث أبي هريرة: إسحاق بن راهويه (ح 514)، وابن أبي عاصم في "السنة"(ح 404)، ورواه من حديث أنس أبو يعلى (ح 4224)، ورواه من حديث معاذ الطبراني (ح 158)، وفي الأوسط (ح 7955)، وحديث أبي سعيد: رواه ابن الجعد في "مسنده"(ح 2038)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (ح 1076) وينظر: الجامع لأحكام القرآن (11/ 234، 235) فقد أورد حديث أبي سعيد المرفوع، وقال: لا يصح.

ورواه ابن جرير (14/ 526) من قول أبي هريرة، ومثله لا يقال من قبيل الرأي، ورواه ابن أبي شيبة (ح 35366) عن أبي صالح من قوله.

قال ابن حجر في "فتح الباري"(3/ 246): وقد صححت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب "الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح.

وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 418)، وفي صحيح الجامع (ح 881)، وقال محققو المسند (26/ 228): حديث حسن.

ص: 611

ولا يَقْتَضِي مَا تُعْطِيه الشَّرِيعَة مِنْ أنَّ الآخِرَة ليستْ دَار تَكْلِيف

(1)

.

وقد اسْتَدَلّ قَوْم في أنَّ أهل الْجَزَائر

(2)

إذا سَمِعُوا بالإسْلام وآمَنُوا فلا تَكْلِيف عليهم فِيما مَضَى. وهذا صَحِيح. ومَن لَم تَبْلُغه الدَّعْوَة فهو غَير مُسْتَحِقّ للعَذَاب مِنْ جِهة العَقْل. والله أعلم

(3)

.

وقال في قَوله تَعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي: سُكُون. يُقال: فَتَر الشيء سَكَن.

وقيل: (عَلَى فَتْرَةٍ) على انْقِطَاع مَا بَيْن النَّبِيِّين

والْمَعْنَى: أي مَضَتْ للرُّسُل مُدَّة قَبْله

(4)

ثم ذَكَر الاخْتِلاف في قَدْر مُدَّة تلك الفَتْرة

(5)

.

وفي آيَة "القصص" اقْتَصَر القُرْطبي على قَولِه: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يَعْنِي العَرَب، أي لَم تُشَاهِد تلك الأخْبَار، ولكن أوْحَيْنَاها إلَيك رَحْمَة بِمَنْ أُرْسِلْتَ إلَيهم لِتُنْذِرَهم بِها

(6)

.

وفي آيَة "السجدة"(لِتُنْذِرَ قَوْمًا) نَقَل عن قَتادة قَوله: يَعني قُرَيشًا، كَانُوا أُمَّة أُمِّيَّة لَم يَأتِهم نَذِير مِنْ قَبْل محمد صلى الله عليه وسلم.

وقِيل: الْمُرَاد بِالقَوم: أهْل الفَتْرَة بَيْن عِيسى ومحمد عليهما السلام. قاله ابن عباس ومقاتل.

وقِيل: كَانت الْحُجَّة ثَابِتَة لله جَلَّ وعَزّ عَليهم بإنْذَار مَنْ تَقَدَّم مِنْ الرُّسُل، وإنْ لَم يَرَوا رَسُولًا

(7)

.

(1)

أصل هذا القول لابن عبد البر في "الاستذكار"(3/ 114)، وفيه نظر، وستأتي مناقشة هذا القول في رأي الباحث.

(2)

جمع جزيرة، ويراد به أهل الجزر النائية.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 203).

(4)

المرجع السابق (6/ 118) باختصار.

(5)

انظر: الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 118).

(6)

المرجع السابق (13/ 260).

(7)

المرجع السابق (14/ 79) باختصار.

ص: 612

وفي قَوله تَعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165] قال القرطبي: فَيَقُولُوا مَا أرْسَلْتَ إلَينا رَسُولًا، ومَا أنْزَلْت علينا كِتَابًا، وفي التَّنْزِيل:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقَوله تَعالى:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)[طه: 134]، وفي هَذا كُلّه دَلِيل وَاضِح أنه لا يَجِب شَيء مِنْ نَاحِيَة العَقْل

(1)

.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

مَعنى آيَة "الإسراء" عند ابن جرير: ومَا كُنَّا مُهْلِكي قَوْم إلَّا بَعْد الإعْذَار إلَيهم بالرُّسُل، وإقَامَة الْحُجَّة عليهم بِالآيَات التي تَقْطُع عُذْرَهم

(2)

.

وقال في مَعْنَى آيَة "النساء": أرْسَلْتُ رُسُلي إلى عِبَادِي مُبَشِّرِين ومُنْذِرين، لئلا يَحْتَجّ مَنْ كَفَر بِي وعَبَد الأنْدَاد مِنْ دُوني، أوْ ضَلَّ عن سَبِيلي بِأن يَقُول إن أرَدْتُ عِقَابَه:(لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)[طه: 134]. فَقَطَع حُجَّة كُلّ مُبْطِل ألْحَدَ في تَوْحِيدِه، وخَالَف أمْرَه، بِجَمِيع مَعَانِي الْحُجَج القَاطِعَة عُذْرَه، إعْذَارًا مِنه بِذَلك إلَيهم، لِتَكُون لله الْحُجَّة البَالِغَة عَليهم وعَلى جَمِيع خَلْقِه

(3)

.

وفي آيَة "المائدة" ذَكَر ابن جرير مَعْنَى "الفَتْرَة"، واخْتِلاف أهْل التَّأوِيل في قَدْر مُدَّة تِلك الفَتْرَة

(4)

.

"فَمَعْنَى الكَلام: قَدْ جَاءكم رَسُولُنا يُبَيِّنْ لكم على فَتْرة مِنْ الرُّسُل، كَي لا تَقُولُوا مَا جَاءَنا مِنْ بَشير ولا نَذير، يُعْلِمُهم عَزَّ ذِكْرُه أنه قَدْ قَطَع عُذْرُهم بِرَسُولِه صلى الله عليه وسلم، وأبْلَغ إلَيهم في الْحُجَّة"

(5)

.

(1)

المرجع السابق (6/ 19) وستأتي مناقشة قوله: لا يجب شيء من ناحية العقل.

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (14/ 526).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (7/ 693).

(4)

انظر: المرجع السابق (8/ 274، 275).

(5)

المرجع السابق (8/ 275، 276).

ص: 613

وقَال في آيَة "القصص": وقَوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يَقُول تَعالى ذِكْرُه: ولكن أرْسَلْنَاك بِهَذَا الكِتَاب وَهَذا الدِّين لِتُنْذِر قَوْمًا لَم يَأتِهم مِنْ قَبْلك نَذِير، وهُم العَرَب الذين بُعِث إلَيهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، بَعَثَه الله إليهم رَحْمَة لِيُنْذِرَهم بَأسَه على عِبَادَتِهم الأصْنَام، وإشْرَاكِهم بِه الأوْثَان والأنْدَاد.

وقَوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يَقُول: لِيَتَذَكَّرُوا خَطَأ مَا هُمْ عَليه مُقِيمُون مِنْ كُفْرِهم بِرَبِّهم فَيُنِيبُوا إلى الإقْرَار لله بِالوَحْدَانِيَّة، وإفْرَادِه بِالعِبَادَة دُون كَلّ مَا سِوَاه مِنْ الآلِهَة

(1)

.

وفي آيَة "السجدة" قال ابن جرير: يَقُول: لَم يَأتِ هَؤلاء القَوْم الذين أَرْسَلَك رَبُّك يَا محمد إلَيهم - وهُم قَوْمه مِنْ قُريش - نَذير يُنْذِرُهم بَأس الله على كُفْرِهم - قَبْلَك

(2)

.

ومَعْنَى (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) - عند ابن الجوزي - أي: حتى نُبَيِّن مَا به نُعَذِّب، ومَا مِنْ أجْلِه نُدْخِل الْجَنَّة.

ثم عَقَد فَصْلًا قَال فيه:

قال القاضي أبو يعلى: في هذا دَلِيل على أنَّ مَعْرِفة الله لا تَجِب عَقْلًا

(3)

، وإنَّمَا تَجِب بالشَّرْع، وهو بِعْثَة الرُّسُل، وأنه لَو مَات الإنْسَان قَبْل ذَلك لَم يُقْطَع عليه بِالنَّار.

قَال: وقِيل: مَعْنَاه أنه لا يُعَذِّب في مَا طَرِيقُه السَّمْع إلَّا بِقِيام حُجَّة السَّمْع مِنْ جِهَة الرَّسُول

(4)

.

وقال في آيَة "النساء": أي: لِئلا يَحْتَجُّوا في تَرْك التَّوْحِيد والطَّاعَة بِعَدَم الرُّسُل، لأنَّ هَذه الأشْيَاء إنَّمَا تَجِب بِالرُّسُل

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (18/ 263).

(2)

المرجع السابق (18/ 590).

(3)

في إطلاقه نظر، وذلك أن معرفة الله مغروسة في الفطر، وذلك العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني آدم، وهو الفطرة التي فطر الناس عليها.

(4)

زاد المسير، مرجع سابق (5/ 18).

(5)

المرجع السابق (2/ 256).

ص: 614

وفي آيَة "المائدة" بَيَّن ابن الجوزي مَعْنَى "الفَتْرَة"، ثم ذَكَر في مُدَّة الفَتْرة بَيْن عيسى ومحمد عليهما السلام أرْبَعَة أقْوَال

(1)

.

‌رأي الباحث:

ليس بَيْن الآيَات تَعَارُض، فإنَّ سُنَّة الله أنه لا يُعَذِّب أحَدًا حَتى يُعْذِر إليه، وذلك بِإرْسَال الرُّسُل وإنْزَال الكُتُب، وتَتَابُع النُّذُر.

وأمَّا إثْبَات الفَتْرَة بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام -، وإثْبَات تَعْذِيب بَعض مَنْ مَات في الْجَاهِلِيَّة، فَلَيس بَيْنَهُمَا تَعَارُض أيضًا؛ لأنَّ تَعْذِيب مَنْ جَاء الْخَبَر بِتَعْذِيبِه إنَّما كَان بعد قِيَام الْحُجَّة عليه، وبُلُوغ الْحَقّ وإعْرَاضِه عنه.

وكَوْن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث في قَومٍ لَم يَأتِهم نَذِير مِنْ قَبْلِه، فَهَذا فِيمَا يَتَعَلَّق بِقُرَيش خَاصَّة، فَإنَّهم لَم يَسْبِق فِيهم رَسُول قَبْله صلى الله عليه وسلم، ومَع ذلك لا يَمنَع مِنْ إقَامَة الْحُجَّة عَليم قَبْل بِعْثَته صلى الله عليه وسلم، ويَدُلّ على هَذا أنه كان قَبل مَبْعَثِه صلى الله عليه وسلم بَقَايَا مِنْ أهْل الكِتَاب، كَمَا كان بعض أهل الجاهلية على الفِطْرَة، فلا يَشْرَبُون الْخَمْر، ولا يَأكُلُون الْمَيْتَة، ولا مَا ذُبِح على النُّصُب، كَما كان مِنْ شَأن زَيد بن عمرو بن نُفيل

(2)

.

قال النووي في فقْه حَديث أنَس "إنَّ أَبي وأبَاك في النَّار": وفيه أنَّ مَنْ مَات في الفَتْرَة على مَا كَانت عليه العَرَب مِنْ عِبَادَة الأوْثَان فهو مِنْ أهْل النَّار، ولَيس هذا مُؤَاخَذة قَبْل بُلُوغ الدَّعْوَة، فإنَّ هَؤلاء كَانَتْ قد بَلَغَتهم دَعْوَة إبراهيم وغَيره مِنْ الأنبياء صَلوات الله تعالى وسلامه عليهم

(3)

.

(1)

المرجع السابق (2/ 319، 320).

(2)

ينظر خبره في صحيح البخاري (ح 3614، 3615)، و"الإصابة"(2/ 613).

(3)

المنهاج، مرجع سابق (3/ 79).

ص: 615

وامْتِحَان أهْل الفَتْرَة الذين لَم تَبْلُغُهم الدَّعْوة ثَابِت، ومَا قِيل:"مِنْ أنَّ الآخِرَة لَيْسَت دَار تَكْلِيف" فِيه نَظَر؛ فإنَّ مَا وَرَد في الْحَدِيث مِنْ امْتِحَان مَنْ لَم تَقُم عَليه الْحُجَّة لَيس مِنْ بَاب التَّكْلِيف، بَلْ هو امْتِحَان واخْتِبَار في فَتْرَة قَصِيرَة، ولا يُعَكِّر عليه كَوْن الآخِرَة لَيْسَت دَار تَكْلِيف، لأنَّ الْحُكْم للغَالِب. ألَا تَرى أنَّ أهْل الْجَنَّة يُلْهَمُون التَّسْبِيح والتَّحْمِيد والتَّهْلِيل

(1)

؛ وهُم في دَار الْجَزَاء ولَيْسُوا في دَار عِبَادَة.

قال ابن حجر عن هَذا القَوْل: وتُعُقِّب بِأنَّ الآخِرَة لَيْسَت دَار تَكْلِيف، فلا عَمَل فِيها ولا ابْتِلاء. وأُجِيب بِأنَّ ذلك بَعْد أن يَقَع الاسْتِقْرَار في الْجَنَّة أو النَّار، وأمَّا في عَرَصَات القِيَامَة فلا مَانِع مِنْ ذلك، وقَد قَال تَعالى:(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ)[القلم: 42] وفي الصَّحِيحَيْن

(2)

أنَّ النَّاس يُؤمَرُون بِالسُّجُود فَيَصِير ظَهْر الْمُنَافِق طَبَقًا فلا يَسْتَطيع أن يَسْجُد

(3)

.

‌المثال الخامس:

حَشْر الكُفَّار:

قَوله تَعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)[الإسراء: 97]، وقَوله تَعالى:(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا)[الفرقان: 34]، مَع قَوله تَعالى:(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا)[الكهف: 53]، وقوله:(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)) [الفرقان: 13]، وقَوله تَعالى:(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)[السجدة: 12].

(1)

ثبت هذا في صحيح مسلم (ح 2835).

(2)

رواه البخاري (ح 4635)، ومسلم (ح 183).

(3)

فتح الباري، مرجع سابق (3/ 246).

ص: 616

‌صورة التعارض:

في آيَة "الإسراء" خَبَر عن حَشْر الكُفَّار الضُّلال على وُجُوهِهم، وفي آيَة "السجدة" خَبَر عن تَنْكِيس رُؤوس الْمُجْرِمِين، وهذا بِخِلاف مَا إذا كَانوا يُجَرُّون على وُجُوهِهم.

ووَجْه آخَر:

في آيَة "الإسراء" خَبَر عن حَشْرِهم عُمْيًا لا يُبصِرُون، وبُكْمًا لا يَتكلَّمُون، وصُمًّا لا يَسْمَعون، وفي الآيَات الأُخَر أنَّهم يُحْشَرُون وهُم يَسْمَعُون ويُبْصِرُون ويَتَكلَّمُون.

‌جمع القرطبي:

ذَكَر القرطبي وَجْهَين في قَوله تَعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ):

أحَدُهما: أنَّ ذلك عِبَارَة عن الإسْرَاع بِهم إلى جَهَنَّم، مِنْ قَوْل العَرَب: قَدِم القَوْم على وُجُوهِهم، إذا أسْرَعُوا.

الثَّاني: أنهم يُسْحَبُون يَوْم القِيَامَة على وُجُوهِهم إلى جَهَنَّم، كما فُعِل في الدنيا بِمَنْ يُبَالَغ في هَوَانه وتَعْذِيبه، وهذا هو الصَّحِيح لِحَدِيث أنس أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ) أيُحْشَر الكَافِر علَى وَجْهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألَيس الذي أمْشَاه على الرِّجْلَين قَادِرًا على أن يُمْشِيه على وَجْهِه يَوْم القِيَامَة؟

قال قتادة حِين بَلَغَه: بَلَى وعِزَّة رَبِّنا. أخْرَجه البخاري

(1)

ومسلم

(2)

وحَسْبُك.

(عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) قال ابن عباس والحسن: أي عُمْي عَمَّا يَسُرُّهم، بُكْم عن التَّكَلُّم بِحُجَّة، صُمّ عَمَّا يَنْفَعُهم. وعلى هَذا القَوْل حَوَاسُّهم بَاقِيَة على مَا كَانَتْ عَليه.

(1)

(ح 4482).

(2)

(ح 2806) والسؤال في الصحيحين بلفظ: "كيف يُحشَر الكافر على وجهه؟ ".

ص: 617

وقِيل: إنهم يُحْشَرون على الصِّفَة التي وَصَفهم الله بِها لِيَكُون ذَلك زِيَادة في عذابهم، ثم يَخْلُق ذَلك لَهم في النَّار، فأبْصَرُوا، لِقَولِه تَعالى:(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَوَاقِعُوهَا)[الكهف: 53]، وتَكَلَّمُوا، لِقَوْلِه تَعَالى:(دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[الفرقان: 13]، وسَمِعُوا، لِقَوْلِه تَعَالى:(سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)[الفرقان: 12].

وقال مقاتل بن سليمان: إذا قِيل لَهم: (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ)[المؤمنون: 108] صَارُوا عُمْيًا لا يُبْصِرُون، صُمًّا لا يَسْمَعُون، بُكْمًا لا يَفْقَهون.

وقِيل: عَمُوا حِين دَخَلُوا النَّار لِشِدَّة سَوَادِها، وانْقَطَع كَلامُهم حِين قِيل لَهم:(اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ)، وذَهَب الزَّفِير والشَّهِيق بِسَمْعِهم، فلم يَسْمَعُوا شيئًا

(1)

.

وفي آيَة "الفرقان"[34] أحَال على مَا قَرَّرَه في آية "الإسراء"

(2)

.

ونَقَل في قَوله تَعالى: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) عن الكَلبي قَوْلَه: سَمِعُوا لَها تَغَيّظًا كَتَغَيّظ بَني آدَم، وصَوْتًا كَصَوت الْحِمَار.

قال: وقِيل: فيه تَقْدِيم وتَأخِير: سَمِعُوا لَها زَفِيرًا، وعَلِمُوا لَها تَغَيّظًا.

وقال قُطْرب: التَّغَيُّظ لا يُسْمَع ولَكِن يُرَى

(3)

.

والْمَعْنَى: رَأَوا لها تَغَيُّظًا، وسَمِعُوا لَها زَفيرا

(4)

.

وفي آية "الكهف" قال القرطبي: وفي الْخَبَر

(5)

: إنَّ الكَافِر لَيَرى جَهَنَّم ويَظُنّ أنّها مُواقِعَته مِنْ مَسِيرَة أرْبَعِين سَنَة

(6)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 290، 291).

(2)

المرجع السابق (13/ 31).

(3)

قال ابن جرير، ((جامع البيان)) (17/ 409): فإن قال قائل: وكيف قيل: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا) والتغيظ لا يسمع؟ قيل: معنى ذلك سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد. وفي اللسان (7/ 451): وقوله تعالى: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) قال الزجاج: أراد غليان تغيظ، أي: صوت غليان.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (13/ 11).

(5)

رُوي مرفوعًا، وسيأتي تخريجه.

(6)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 7).

ص: 618

وفي آيَة "السجدة" قَال: (نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ) أي: مِنْ النَّدم والْخِزي والْحُزْن والذُّلّ والغَمّ. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: عند مُحَاسَبة رَبِّهم، وجَزَاء أعْمَالِهم. (رَبّنَا) أي: يَقُولُون: ربَّنا (أَبْصَرْنَا)، أي: أبْصَرْنا مَا كُنَّا نُكَذّب، و (وَسَمِعْنَا) مَا كُنَّا نَنْكِر.

وقِيل: أبْصَرْنا صِدْق وَعِيدِك، وسَمِعْنَا تَصْدِيق رُسُلِك. أبْصَرُوا حِين لا يَنْفَعُهم البَصَر، وسَمِعُوا حِين لا يَنْفَعُهم السَّمْع. (فَارْجِعْنَا) أي: إلى الدُّنيا. (نَعْمَل صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) أي: مُصَدِّقُون بِالبَعْث. قاله النقاش.

وقِيل: مُصَدِّقُون بِالذِي جَاء به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حَقّ. قاله يحيى بن سلام.

قال سُفيان الثوري: فَأكْذَبَهم الله تَعالى فَقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[الأنعام: 28].

وقِيل: مَعْنَى (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي: قَدْ زَالَتْ عَنَّا الشُّكُوك الآن، وكَانُوا يَسْمَعُون ويُبْصِرون في الدُّنيا، ولكن لم يَكُونُوا يَتَدَبَّرُون، وكَانُوا كَمَنْ لا يُبْصِر ولا يَسْمَع، فَلَمَّا تَنَبَّهُوا في الآخِرَة صَارُوا حِينئذ كَأنَّهم سَمِعُوا وأبْصَرُوا.

وقِيل: أي: رَبَّنا لك الْحُجَّة، فقد أبْصَرْنا رُسُلَك وعَجَائب خَلْقِك في الدنيا، وسَمِعْنا كَلامَهم، فَلا حُجَّة لَنا - فَهذا اعْتِرَاف مِنهم - ثم طَلَبُوا أن يُرَدُّوا إلى الدُّنيا لِيُؤمِنُوا

(1)

.

وأمَّا قَوله تَعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)[الإسراء: 72] فَقد رَجَّح القُرطبي أنه لَيس عَمَى البَصَر

(2)

، إذ يَقُول: قَولِه تَعَالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى)

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (14/ 87، 88).

(2)

قال ابن جُزي (التسهيل 2/ 176): ويحتمل أن يريد بالعمى في الآخرة عمى البصر.

ص: 619

أي: في الدُّنيا عن الاعْتِبار وإبْصَار الْحَقّ (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) أي: في أمْر الآخِرَة (أَعْمَى).

وقال عكرمة: جَاء نَفَرٌ مِنْ أهْل اليَمَن إلى ابن عباس فَسَألُوه عن هذه الآيَة، فَقَال اقْرَؤُوا مَا قَبْلَها:(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ)[الإسراء: 66] إلى (تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70] قال ابن عباس: مَنْ كَان في هَذه النِّعَم والآيَات التي رَأى أعْمَى فَهو عن الآخِرَة التي لَم يُعَايِن أعْمَى وأضَلّ سَبِيلا.

ثم سَاق أقْوَالًا في مَعْنَى الْعَمَى في الآيَة، صَدَّرَها بِصِيغَة تَمْرِيض قِيل عَدا قَوْل الْحَسَن.

ثم قال:

وقيل: الْمَعْنَى في قَوْلِه: (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) في جَمِيع الأقْوَال أشَدّ عَمى؛ لأنه مِنْ عَمَى القَلْب، ولا يُقَال مِثْله في عَمَى العَين

(1)

.

وقال في مَوْضِع آخَر: مَنْ كَان في هَذه أعْمَى بِقَلْبِه عن الإسْلام فهُو في الآخِرَة في النَّار

(2)

.

وهَذا مَا رَجَّحَه أيضًا في تَفْسِير سُورة "طه"، وقد أحَال على مَا في "الإسراء"

(3)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

حَشْر الكُفَّار على وُجُوهِهم عِبَارَة عن الإسْراع بِهم إلى جَهَنَّم.

2 -

يُسْحَبُون يَوْم القِيَامَة على وُجُوهِهم إلى جَهَنَّم مُبَالَغة في الْهَوَان.

3 -

أنَّهُم يُحْشَرُون عُمْي عَمَّا يَسُرُّهم، بُكْم عن التَّكَلُّم بِحُجَّة، صُمّ عَمَّا يَنْفَعُهم.

4 -

أنّهم يُحْشَرُون عُمْي وبُكْم وصُمّ، ثم يُخْلَق لَهم حَوَاسّ بَعْد دُخُولِهم النَّار.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (10/ 259).

(2)

المرجع السابق (12/ 73). تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج: 46].

(3)

المرجع السابق (11/ 230).

ص: 620

5 -

أنَّ عَمَاهُم وبكْمَهم وصَمَمهم حين يَدخُلُون النَّار لِشِدَّة مَا يُعَايِنُون عند دُخُولِها.

6 -

أنَّهم يَقُولُون: أبْصَرْنا وسَمِعْنا، لا بَصَر عَيْن ولا سَمْع أُذُن، وإنَّمَا هو عِبَارَة عن اليَقِين بِتَحَقُّق ذلك.

7 -

أنَّ مَا جَاء في عَمَى الكُفَّار في الآخِرَة إنَّمَا هو عَمى عن الْحَقّ، لَيس عَمَى الأبْصَار.

‌مُقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قال ابن جرير في آيَة "الإسراء": (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يَقُول: ونَجْمَعهم بِمَوقِف القِيَامَة مِنْ بَعد تَفَرُّقهم في القُبُور عند قِيَام السَّاعَة على وُجُوهِهم عُمْيًا وبُكْمًا - وهو جَمْع أبْكَم - ويَعْنِي بِالبَكَم الْخَرَس

ثم أجاب ابن جرير عمَّا يُتَوَهَّم مِنْ إشْكَال وتَعَارُض، فَقَال:

فإن قَال قَائل: وكيف وَصَف الله هَؤلاء بِأنَّهم يُحْشرُون عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، وقد قَال:(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا)[الكهف: 53]، فأخْبَر أنَّهم يَرَون. وقَال:(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)) [الفرقان: 12، 13]، فَأخْبَر أنهم يَسْمَعُون ويَنْطِقُون؟

قِيل: جَائز أن يَكُون مَا وَصَفهم الله بِه مِنْ العَمَى والبَكَم والصَّمَم يَكُون صِفَتُهم في حَال حَشْرِهم إلى مَوْقِف القِيَامَة، ثم يُجْعَل لَهم أسْمَاع وأبْصَار ومَنْطِق في أحْوال أُخَر غير حَال الْحَشْر.

ويَجُوز أن يَكُون ذلك كَمَا رُوي عن ابن عباس قَوْله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)، ثم قَال:(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا)، وقَال:(سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)

ص: 621

وقَال: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا). أمَّا قَوله: (عُمْيًا) فلا يَرَون شَيئًا يَسَرُّهم، وقَوله:(بُكْمًا) لا يَنْطِقُون بِحُجَّة، وقَوْله:(صُمًّا) لا يَسْمَعُون شَيئًا يَسُرُّهُم

(1)

.

وفي قَولِه تَعالى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ) رَوى ابن جرير - بإسْنَادِه - إلى أنس رضي الله عنه مَا جَاء في سُؤَال الرَّجُل للنبي صلى الله عليه وسلم: كَيف يُحْشَر الكَافِر على وَجْهه؟ قال: الَّذِي أَمْشَاهُ عَلى رِجْلَيْه قادرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ

(2)

.

كَمَا رَوَى - بإسْنَادِه - إلى أبي هريرة رضي الله عنه قَال: يُحْشَر النَّاس يَوْم القِيَامَة على ثَلاثة أصْنَاف: صِنْف على الدَّوَاب، وصِنْف على أقْدَامِهم، وصِنْف على وُجُوهِهم. فَقِيل: كَيْف يَمْشُون على وُجُوهِهم؟ قال: إنَّ الذي أمْشَاهُم على أقْدَامِهم قَادِر أن يُمْشِيهم على وُجُوهِهم

(3)

.

قال ابن جرير: وقَوله: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) يَقُول: وعَايَن الْمُشْرِكُون النَّار يَوْمَئذٍ (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) يَقُول: فَعَلِمُوا أنَّهُم دَاخِلُوها.

ثم رَوى مِنْ طريق درَّاج

(4)

عن أبي الْهَيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنَّ الكَافِر يَرَى جَهَنَّم فَيَظُنّ أنّها مُواقِعَتُه مِنْ مَسِيرَة أرْبَعِين سَنَة

(5)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (15/ 92 - 94) باختصار.

(2)

سبق تخريجه، وهو مخرج في الصحيحين.

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (17/ 449، 450).

(4)

في الكامل، ابن عدي (3/ 112): قول أحمد بن حنبل: أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف. وفي تقريب التهذيب (ترجمة): صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. وينظر: ميزان الاعتدال، مرجع سابق (3/ 40).

وقال ابن القيم (النونية-ص 337، 338) عن حديث في إسناده "دراج":

لكن دراجًا أبا السمح الذي فيه، يضعفه أولو الإتقان

هذا وبعضهم يصحح عنه في التفسير كالمولود من حبان

فحديثه دون الصحيح وإنه فوق الضعيف وليس ذا إتقان

(5)

جامع البيان، مرجع سابق (15/ 299)، والحديث رواه أحمد (ح 11714) من طريق دراج به، وقال محققو المسند (18/ 246): حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف.

قالوا: ويشهد له حديث أبي هريرة عند ابن حبان (ح 7352)، وإسناده حَسَن.

ص: 622

ورَجَّح ابن جرير أنَّ عَمَى الكُفَّار في الآخِرَة إنَّمَا هو عَمَى عن الْحُجج والبَرَاهِين، حَيث يَقُول بَعد سِيَاق الأقْوَال في قَوله تَعالى:(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا): وَأَوْلى الأقْوَال في ذلك عندي بالصَّوَاب قَوْل مَنْ قَال: مَعْنَى ذلك: ومَن كان في هذه الدُّنيا أعْمَى عن حُجَج الله على أنه الْمُنْفَرِد بِخَلْقِها وتَدْبِيرها وتَصْريف مَا فِيها، فهو في أمْر الآخِرَة التي لَم يَرَها ولَم يُعَايِنها، وفِيمَا هو كَائن فِيها (أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يَقُول: وأضَلّ طَرِيقًا مِنه في أمْر الدُّنيا التي قد عَايَنها ورَآها.

وإنَّمَا قُلْنا ذلك أوْلَى تَأوِيلاتِه بِالصَّوَاب؛ لأنَّ الله تعالى ذِكْرُه لم يَخْصُص في قَوْلِه: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى) عَمَى الكَافِر بِهِ عن بَعض حُجَجِه عليه فِيها دُونَ بَعْض، فَيُوَجَّه ذلك إلى عَمَاه عن نِعَمِه بِمَا أنْعَم به عَليه مِنْ تَكْرِيمه بَنِي آدَم، وحَمْلِه إيَّاهُم في البَرِّ والبَحْر، ومَا عَدَّد في الآيَة التي ذَكَر فِيها نِعَمَه عَليهم، بل عَمّ بِالْخَبَر عن عَمَاه في الدُّنيا فَهُمْ كَمَا عَمّ تَعالى ذِكْرُه

(1)

.

وهذا مَا رَجَّحَه أيضًا في تَفْسِير قَولِه تَعَالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]، فإنه قَال بَعْد سِيَاق الأقْوَال: والصَّوَاب مِنْ القَوْل في ذلك مَا قال الله تَعَالى ذِكْرُه، وهو أنه يُحْشَر أعْمَى عن الْحُجَّة ورُؤيَة الشَّيء، كَمَا أخْبَر جَلّ ثَنَاؤه، فَعَمّ ولَم يَخْصُص

(2)

.

"فَتَأوِيل الكَلام: قال رَبّ لِم حَشَرْتَنِي أعْمَى عن حُجَّتِي ورُؤيَة الأشْيَاء، وقد كُنْت في الدُّنيا ذَا بَصَر بِذلك كُلّه؟

(3)

وقال في آيَة "السجدة": (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا) مَا كُنَّا نُكَذِّب بِه مِنْ عِقَابِك أهْل مَعَاصِيك، (وَسَمِعْنَا) مِنْك تَصْدِيق مَا كَانت رُسُلُك تَأمُرُنا بِه في الدُّنيا

(4)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (15/ 11، 12).

(2)

المرجع السابق (16/ 201).

(3)

المرجع السابق (16/ 202).

(4)

المرجع السابق (18/ 605).

ص: 623

فَعَلى هذا لا إشْكَال عند ابن جرير أصْلًا في حَشْر الكُفَّار عُمْيًا؛ لأنه ليس عَمَى أبْصَار، وإن كان جَوَّز كَوْن العَمَى والبَكم والصَّمَم يَكُون صِفَتهم في حَال حَشْرِهم إلى مَوقِف القِيَامَة، ثم يُجْعَل لهم أسْمَاع وأبْصَار ومَنْطِق في أحْوال أُخَر غير حَال الْحَشْر".

وفي مَعنى الْعَمَى والْبَكَم والصَّمَم - في آية الإسراء - ذَكَر ابن الجوزي قَوْلين:

أحَدهما: عُمْيًا لا يَرَون شَيئًا يَسُرُّهم، وبُكْمًا لا يَنْطِقُون بِحُجَّة، وصُمًّا لا يَسْمَعُون شَيئًا يَسُرُّهم قاله ابن عباس. وقال في رواية: عُمْيًا عن النَّظَر إلى مَا جَعَل لأوْلِيائه، وبُكْمًا عن مُخَاطَبة الله، وصُمًّا عَمَّا مَدَح به أوْلِياءَه؛ وهذا قَوْل الأكْثَرِين.

والثَّاني: أنَّ هذا الْحَشْر في بَعْض أحْوَال القِيَامَة بعد الْحَشْر الأوَّل

(1)

.

وفي معْنى "أعْمَى" في قَولِه تَعَالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) ذَكَر ابن الجوزي خَمْسَة أقْوَال:

أحَدُها: مَنْ كان في الدُّنيا أعْمَى عن مَعْرِفَة قُدْرَة الله في خَلْق الأشْيَاء، فهو عَمَّا وُصِف له في الآخرة أعْمَى.

والثَّاني: مَنْ كَان في الدُّنيا أعْمَى بِالكُفْر، فهو في الآخِرَة أعْمَى؛ لأنَّه في الدُّنيا تُقْبَل تَوبَته، وفي الآخِرَة لا تُقْبَل.

والثَّالث: مَنْ عَمِي عن آيَات الله في الدُّنيا، فهو عن الذِي غُيِّب عنه مِنْ أمُور الآخِرَة أشَدّ عَمى.

والرَّابع: مَنْ عَمِي عن نِعَم الله التي بَيَّنَها في قَوله: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ)[الإسراء: 66] إلى قَوله: (تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]؛ فَهو في الآخِرَة أعْمَى عن رَشَادِه وصَلاحِه.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (5/ 90).

ص: 624

والْخَامِس: مَنْ كان فِيها أعْمى عن الْحُجَّة، فَهو في الآخِرَة أعْمَى عن الْجَنَّة

(1)

.

وفي مَعْنَى الْعَمَى في قَولِه تَعالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ذَكَر قَوْلَين:

أحَدُهما: أعْمَى البَصَر. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إذا أُخْرِج مِنْ القَبر خَرَج بَصِيرًا، فإذا سِيق إلى الْمَحْشَر عَمِي.

والثاني: أعْمَى عن الْحُجَّة. قاله مجاهد وأبو صالح. قال الزجاج: مَعْناه: فلا حُجَّة له يَهْتَدِي بِها؛ لأنه لَيس للنَّاس على الله حُجَّة بَعْد الرُّسُل

(2)

.

واقْتَصَر في آيَة "الكهف" عَلى قَوْلِه: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) أي: عَايَنُوهَا وهي تَتَغَيَّظ حَنَقًا عَليهم. والْمُرَاد بالْمُجْرِمِين الكُفَّار. (فَظَنُّوا) أي: أيْقَنُوا (أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) أي: دَاخِلُوها، ومَعْنَى الْمُواقَعَة مُلابَسَة الشَّيء بِشِدَّة

(3)

.

وقَال في قَوله تَعالى: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) فيه قَوْلان:

أحَدُهما: غَلَين تَغَيُّظ قاله الزجاج.

قال الْمُفَسِّرُون: والْمَعْنَى: أنَّها تَتَغَيَّظ عليهم فَيَسْمَعون صَوْت تَغَيُّظِها وزَفِيرها كالغَضْبَان إذا غَلا صَدْرُه مِنْ الغَيْظ.

والثَّاني: يَسْمَعُون فِيها تَغَيُّظ الْمُعَذَّبِين وزَفِيرهم حكاه ابن قتيبة

(4)

.

وقال في آية "السجدة": يَقُولُون: رَبَّنَا أبْصَرْنَا وسَمِعْنَا، أي: عَلِمْنا صِحَّة مَا كُنَّا مُكَذِّبِين، فارْجِعْنا إلى الدُّنيا

(5)

.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (5/ 66).

(2)

المرجع السابق (5/ 32).

(3)

المرجع السابق (5/ 156، 157).

(4)

المرجع السابق (6/ 75).

(5)

المرجع السابق (6/ 336).

ص: 625

‌رأي الباحث:

أكْثَر الْمُفَسِّرِين على أنَّ نَفْي السَّمْع والبَصَر إنَّمَا هو نَفْي رُؤيَة الْحَقّ وسَمَاعه، كَمَا عَمُوا عنه في الدُّنيا، ونَفْي الإبْصَار والسَّمْع والنُّطْق الذي يَسُرُّهم.

ألا تَرَى أنه (لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)[النحل: 84]، وهُو كَقَولِه تَعَالى:(هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35، 36]، أي أنَّهم "لا يَنْطِقُون بِحُجَّة تَجب لَهم، وإنما يَتَكَلَّمُون بِالإقْرَار بِذُنُوبِهم، ولَوْم بَعْضهم بَعْضا، وطَرْح بَعْضهم الذُّنُوب على بَعض؛ فأمَّا التَّكَلُّم والنُّطْق بِحُجَّة لَهم فَلا"

(1)

، أوْ أنه عِنْدَمَا "يُخْتَم على أفْوَاهِهم فَلا يَنْطِقُون"

(2)

.

ونَفْي السَّمْع والبَصَر عنهم في الآخِرَة نَظِير نَفْيِه عنهم في الدُّنيا، وهو مَا اعْتَرَفُوا بِه:(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الملك: 10] أي: "لَو كُنَّا نَسْمَع سَمَاع مَنْ يَعِي ويُفَكِّر، أوْ نَعْقِل عَقْل مَنْ يُمَيِّز ويَنْظُر"

(3)

.

وعلى قَوْل مَنْ قَال: إنَّهم يُحشَرُون عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا؛ فَذلك في بَعْض مَوَاطِن الْحَشْر؛ وهذا له نَظِير في تَخَبُّط أكَلَة الرِّبا في الْمَحْشَر، كَمَا في قَولِه تَعَالى:(الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[البقرة: 275].

وقُلْتُ ذلك لأنَّ الكُفَّار يَتَكَلَّمُون في النَّار ويُحَاجّ بَعْضُهم بَعْضًا، وتُوبِّخُهم الْمَلائكَة فيَسْمَعُون ويُجِيبُون، وهذا يَلزَم مِنه إثْبَات السَّمْع والبَصَر والنُّطْق لهم في النَّار.

وأمَّا كَوْنُهم يُحْشَرُون على وُجُوهِهم، مع كَوْنِهم نَاكِسُوا رُؤوسِهم، فَهم يُطرِقُون في حَال الْحَشْر والْمُحَاسَبَة خزْيًا واعْتِرَافًا بِذُنُوبِهم، وإيقَانًا بِالبَوار، ثم إذَا حُوسِبُوا -

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (9/ 84)، تفسير قوله تعالى:(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ)[هود: 105].

(2)

المرجع السابق (13/ 214).

(3)

المرجع السابق (18/ 187).

ص: 626

وأُقِيمَتْ عليهم الْحُجَج والشُّهُود - يُسْحَبُون على وُجُوهِهم إلى جَهَنَّم، كَمَا قَال تَعالى:(إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر: 71، 72].

وهذا مَعْنَى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)[الإسراء: 97]، ويُفسِّره قَولُه تَعَالى:(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، فالْحَشْر الْمَذْكُور في آيَة الإسراء وتَحْدِيده بـ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُفسِّره كَوْنُهم (يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ).

ص: 627

‌المبحث الثالث: أثر عقيدة القرطبي في توهّم التعارض

مِنْ الْمُتَقرِّر أنَّ الإنْسَان ابن بِيئَتِه، فَيُؤَثِّر ويَتَأثَّر؛ يُؤثِّر في غَيره، ويَتَأثَّر - قَبْل ذلك - بِغَيْرِه. بل إن الإنسان يتأثَّر بِما يُصاحِب، ولو كان مِنْ العَجْماوات، وفي الحديث: الفَخْر والْخُيَلاء في أهْل الْخَيْل والإبِل، والفَدَّادِين أهْل الوَبَر، والسَّكِينَة في أهْل الغَنَم

(1)

! "ويُعَبِّر الْحُكَمَاء عن هذا بِقَولهم: الإنسان مَدَنِيّ بِالطَّبْع، أي: لا بُدّ لَه مِنْ الاجْتِمَاع"

(2)

.

وكَثِيرًا مَا يَتَأثَّر الْمُتَعَلِّم بِمُعَلِّمِيه، والتِّلْمِيذ بِمَشَايخه، وقد يَتَلَقَّى مِنهم مَا لَيس بِالْحَسَن، ظانًّا أنه حَسَن؛ لأنَّهم مَوْضِع ثِقَتِه.

وأحْيَانًا يَتَلقَّى التِّلْمِيذ مِنْ شَيخِه مَا يَعْقِد عليه قَلْبه، ثم لا يُمَحِّص مَا تَلَقَّاه، خَاصَّة إذا انْشَغل أو تَخَصَص في غير ذلك الفَنّ.

وقد تَكُون بِيئة العَالِم تُحَتِّم عليه ذلك التَّوَجُّه، أو تُلْزِمه تلك العقيدة، وتُؤخَذ تلك العقيدة على أنها الْحَقّ الذي لا يَجُوز اعْتِقَاد غيره.

وقد شَهِد التَّارِيخ شَيئًا مِنْ التَّعَسُّف في حَمْل النَّاس على مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِب، "فإنَّ صَاحِب الغَرْب

(3)

يُوسف بن يعقوب مَنَع مِنْ قِرَاءَة الفُرُوع جُمْلَة، وبَالَغ في ذلك وألْزَم النَّاس بِأخْذ الفِقْه مِنْ الكِتَاب والسُّنَن على طَرِيقَة أهْل الظَّاهِر، فَنَشَأ الطَّلَبَة على هَذا بِالْمَغْرِب مِنْ بَعْد سَنَة ثَمَانِين وخَمْس مِئة"

(4)

.

فلا غَرْو إن وُجِد في زَمَن مِنْ الأزْمِنَة مَنْ تأثَّر بِبَعْض الْمَدَارِس الفِقْهِيَّة أو الاعْتِقَادِيَّة حين يَنْشأ الصَّغير ويَهْرَم الكَبِير على ذلك الأمْر الذي قد يُعْتَبَر عِند كَثِير مِنْ النَّاس مِنْ الثوابت التي لا تَجُوز مُخَالَفَتها.

(1)

رواه البخاري (ح 3125)، ومسلم (ح 52).

(2)

مقدمة ابن خلدون (ص 41).

(3)

هكذا في المطبوع، ولعلها "المغرب" فإنه كان "سلطان المغرب"، وانظر: الوافي بالوفيات (28/ 98).

(4)

سير أعلام النبلاء، مرجع سابق (22/ 311)، و"الوافي بالوفيات"، مرجع سابق (28/ 99).

ص: 628

وقد وَصَلَتْ مَدْرسَة الأشَاعِرَة في العَقِيدَة إلى بِلاد الأنْدَلُس قَبْلَ مَجيء القرطبي، فَنَرَى تأوِيلات الأشَاعِرَة وتَقْرِير عَقِيدَتهم وَاضِحًا في تَفسِير ابن عَطية.

وقد تَأثَّر القُرْطبي بِابْن عَطية كَثِيرًا، خَاصَّة في بَعْض مَبَاحِث العَقِيدَة، وإن كان القرطبي ليس مُقَلِّدًا لابن عَطية.

وفيما يلي مِنْ مَبَاحِث نَسْتَبِين منها أثَر عَقِيدَة القرطبي في دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض:

‌المثال الأول:

تَوْحِيد الْخَالِق:

قَوله تَعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 163]، وقوله تعالى:(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)[المائدة: 73]، ونَحوها مِنْ الآيَات، مَع قوله تعالى:(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)[الأنعام: 3]، وقَوله تَعالى:(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)[الزخرف: 84].

‌صورة التعارض:

قَوله تَعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) هذا العَطْف مع التَّنْكِير في هَذه الآيَة يَتَوَهَّم الْجَاهِل مِنه تَعَدُّد الآلِهَة، مع أنَّ الآيَات القُرْآنِيَّة مُصَرِّحَة بِأنه وَاحِد، كَقَولِه:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)[محمد: 19]، وقَولِه:(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)[المائدة: 73] الآية

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "البقرة":

(1)

دفْع إيهام الاضطراب، مرجع سابق ص (177).

ص: 629

قَوله تَعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لَمّا حَذَّر تَعالى مِنْ كِتْمَان الْحَقّ بَيَّن أنَّ أوَّل مَا يَجِب إظْهَارُه ولا يَجُوز كِتْمَانه أمْر التَّوْحِيد، ووَصَل ذلك بِذِكْرِ البُرْهَان، وعِلْم طَرِيق النَّظَر وهو الفِكْر في عَجَائب الصُّنْع، لِيُعْلَم أنه لا بُدّ لَه مِنْ فَاعِل لا يُشْبِهه شَيء.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: قَالَتْ كُفَّار قُرَيش: يَا محمد أنْسُب

(1)

لنَا رَبَّك

(2)

فأنْزَل الله تَعالى سُورة الإخْلاص وهَذه الآيَة.

وقَال: قَوله تَعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) نَفْي وإثْبات؛ أوّلها كُفْر، وآخِرُها إيمان. ومَعْنَاه: لا مَعْبود إلَّا الله

(3)

. وحُكِيَ عن الشِّبْلِي رحمه الله أنه كان يَقُول: الله، ولا يَقُول: لا إله فسُئِل عن ذلك، فَقَال: أخْشَى أن آخُذ في كَلِمَة الْجُحُود ولا أَصِل إلى كَلِمَة الإقْرَار.

قلت: وهَذا مِنْ عُلُومِهم الدَّقِيقَة التي لَيْسَت لَها حَقِيقَة! فإنّ الله جَلّ اسْمُه ذَكَرَ هذا الْمَعْنَى في كِتَابِه نَفْيًا وإثْبَاتًا، وكَرَّرَه، ووَعَد بِالثَّوَاب الْجَزِيل لِقَائِله على لِسَان نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

ويَرَى أنَّ آيَة "المائدة" في إثْبَات التَّوْحِيد رَدًّا على أهْل التَّثْلِيث، فَيَقُول:(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ).

(1)

قال الأزهري: وليس معناه أن نسبًا انتسب إليه، ولكن معناه: نفي النسب عن الله تعالى الواحد؛ لأن الأنساب إنما تكون للمخلوقين والله تعالى صفته أنه لم يلد ولدًا ينسب إليه، ولم يولد فينتسب إلى ولد، ولم يكن له مثل ولا يكون، فيشبه به، تعالى الله عن افتراء المفترين وتقدس عن إلحاد المشركين، وسبحانه عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. (لسان العرب، مرجع سابق 3/ 451).

(2)

ورواه أحمد (ح 21219)، والترمذي (ح 3364)، وابن جرير في تفسيره (24/ 727) عن أبي بن كعب.

(3)

هذا يحتاج إلى قيد، وهو أنه لا معبود بحق إلا الله. قال الخطابي (الغنية ص 38): الإله يطلق على كل معبود بحق أو باطل، وفي "عقيدة الفرقة الناجية"، محمد بن عبد الوهاب (ص 19) قال عن شهادة التوحيد: ومعناها: لا معبود بحق إلا الله.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (2/ 187)، ومما يرد قول الشبلي أيضًا: أنه جاء الحث على تلقين المحتضر (لا إله إلا الله)، وهو أقرب إلى أن يقول بعضها دون بعض، ومع ذلك لم يلتفت إلى ذلك الاحتمال وانظر في تلقين المحتضر: صحيح مسلم (ح 916، 917).

ص: 630

أي: أنَّ الإلَه لا يَتَعَدَّد، وهُم

(1)

يَلْزَمهم القَوْل بِثَلاثة آلِهَة

(2)

.

وقَال في آيَة "الأنعام": قَوله تَعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) يُقَال: مَا عَامِل الإعراب في الظَّرْف مِنْ (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)؟

فَفِيه أجْوبَة:

أحَدُها: أي: وهو الله الْمُعَظَّم، أو الْمَعْبُود في السَّمَاوَات وفي الأرْض، كَمَا تَقُول: زَد الْخَلِيفَة في الشَّرْق والغَرْب، أي: حُكْمُه.

ويَجُوز أن يَكُون الْمَعْنَى: وهو الله الْمُنْفَرِد بالتَّدْبير في السَّمَاوَات وفي الأرْض، كَمَا تَقُول: هو في حَاجَات النَّاس، وفي الصَّلاة.

ويَجُوز أن يَكُون الْمَعْنَى: وهو الله الْمُنْفَرِد بالتَّدْبِير في السَّمَاوَات وفي الأرْض، كَمَا تَقُول: هو في حَاجَات النَّاس، وفي الصَّلاة.

ويَجُوز أن يَكُون خَبَرًا بَعْد خَبَر، ويَكُون الْمَعْنَى: وهو الله في السَّمَاوَات، وهو الله في الأرْض.

وقِيل: الْمَعْنَى: وهو الله يَعْلَم سِرَّكُم وجَهْرَكم في السَّمَاوَات وفي الأرْض، فلا يَخْفَى عليه شَيء.

قال النحاس: وهذا مِنْ أحْسَن مَا قِيل فِيه.

وقال محمد بن جرير

(3)

: وهو الله في السَّمَاوَات ويَعْلَم سِرَّكُم وجَهْرَكم في الأرْض.

فَـ (يَعْلَم) مُقَدَّم في الوَجْهَين، والأوَّل أسْلَم وأبْعَد مِنْ الإشْكَال.

وقِيل غَير هَذا.

والقَاعِدة تَنْزِيهه جَلَّ وعَزّ عن الْحَرَكَة والانْتِقَال وشَغْل الأمْكِنَة

(4)

.

(1)

أي النصارى.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 234).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 155) مع اختلاف في العبارة، وستأتي عبارة ابن جرير.

(4)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (6/ 359).

وما اعتبره القرطبي قاعدة في تنزيه الباري خلاف ما جاءت به النصوص، ونفي الحركة والانتقال ليس محل مدح، بل هو من صفات الجمادات، وأهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل نزولًا يليق به سبحانه، كما في الصحيحين: البخاري (ح 1094)، ومسلم (ح 758)، وفي التنزيل إثبات مجيء الرب سبحانه وتعالى للفصل يوم الفصل.

وينظر لذلك: بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية (2/ 286 وما بعدها)، و"مجموع الفتاوى" مرجع سابق (5/ 436، 566)، و"كتاب الصفات"، الحازمي، و"صفات الله"، السقاف.

ص: 631

وقال في آيَة "الزخرف": هذا تَكْذِيب لَهم في أنَّ لله شَرِيكًا ووَلَدًا، أي: هو الْمُسْتَحِقّ للعِبَادَة في السَّمَاء والأرْض.

وقال عُمر رضي الله عنه وغيره: الْمَعْنَى: وهو الذي في السَّمَاء إلَه في

(1)

الأرْض.

وكذلك قَرَأ، والْمَعْنَى: أنه يُعْبَد فِيهما.

ورُوي أنه قَرأ هو وابن مسعود: وهو الذي في السَّمَاء الله وفي الأرْض الله، وهذا خِلاف الْمُصْحَف.

وقِيل: (فِي) بِمَعْنَى (على)، كَقَولِه تَعَالى:(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل)[طه: 71]، أي: على جُذُوع النَّخْل. أي: هو القَادِر على السَّمَاء والأرْض

(2)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) تضمّنت إثْبَاتُ فَاعِل لا يُشْبِهه شَيء.

2 -

(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) نَفْي وإثْبَات.

3 -

الإلَه لا يَتَعَدَّد.

4 -

هو الله الْمُعَظَّم، أو الْمَعْبُود في السَّمَاوَات وفي الأرْض.

5 -

يَعْلَم سِرَّكُم وجَهْرَكم في السَّمَاوَات وفي الأرْض، فلا يَخْفَى عليه شَيء.

(1)

في بعض النسخ: "في السماء إله وفي الأرض". بزيادة (واو) ورُوي عن عمر وأبي وابن مسعود: وهو الذي في السماء الله، وفي الأرض الله (معاني القرآن، النحاس 6/ 389)، وينظر: التمهيد، مرجع سابق (7/ 133).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (16/ 105) باختصار.

ص: 632

6 -

آيَة "الزخرف" تَكْذِيب للمُشْرِكِين في أنَّ لله شَرِيكًا ووَلَدًا، وإثْبَات أنَّ الله هو الْمُسْتَحِقّ للعِبَادَة في السَّمَاء والأرْض.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

بَيَّن ابن جرير "مَعْنَى الألُوهِيَّة وأنَّهَا اعْتِبَاد الْخَلْق" ثم قَال: فَمَعْنَى قَوْله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ): والذِي يَسْتَحِقّ عَليكم أيُّهَا النَّاس الطَّاعَة لَه، ويَسْتَوجِب مِنْكم العِبَادَة مَعْبود وَاحِد، ورَبّ وَاحِد، فلا تَعْبُدُوا غَيره، ولا تُشْرِكُوا مَعَه سِوَاه، فإنَّ مَنْ تُشْرِكُون مَعه في عِبَادَتِكُم إيَّاه هو خَلْق مِنْ خَلْق إِلهِكم مِثْلكم. (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا مِثْل له ولا نَظِير.

ثم ذَكَر الاخْتِلاف في مَعْنَى وَحْدَانِيّتِه تَعَالى ذِكْرُه؛ فَنَقَل عن بعضهم: مَعْنَى وَحْدَانِيَّة الله مَعْنَى نَفْي الأشْبَاه والأمْثَال عنه.

وعن آخَرِين: مَعْنَى وَحْدانيته تَعَالى ذِكْرُه مَعْنَى انْفِرَادِه مِنْ الأشْيَاء، وانْفِرَاد الأشْيَاء منه.

وأمَّا قَوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، فإنه خَبَر مِنه تَعالى ذِكْرُه أنه لا رَبّ للعَالَمِين غَيره، ولا يَسْتَوجِب على العِبَاد العِبَادَة سِوَاه، وأنَّ كُلّ مَا سِوَاه فَهُمْ خَلْقه، والوَاجِب على جَمِيعِهم طَاعَته، والانْقِياد لأمْرِه، وتَرْك عِبَادَة مَا سِوَاه مِنْ الأنْدَاد والآلِهَة، وهَجْر الأوْثَان والأصْنَام؛ لأنَّ جَمِيع ذَلك خَلْقُه، وعلى جَمِيعِهم الدَّيْنُونَة لَه بِالوَحْدَانيَّة والألُوهَة، ولا تَنْبَغِي الأُلوهَة إلَّا لَه

(1)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (2/ 745، 746) باختصار.

ص: 633

وقال في آيَة "المائدة" مَا نَصّه: يَقُول الله تَعالى ذِكْرُه مُكَذِّبًا لَهم فِيما قَالُوا مِنْ ذَلك: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) يَقُول: مَا لَكُمْ مَعْبود أيُّهَا النَّاس إلَّا مَعبُود واحِد، وهو الذي ليس بِوَالِد لِشيء ولا مَوْلُود، بَلْ هو خَالِق كُلّ وَالِد ومَولُود

(1)

.

وفي آيَة "الأنعام" يَقُول ابن جرير: إنَّ الذِي له الألُوهَة التي لا تَنْبَغِي لِغَيرِه، الْمُسْتَحِقّ عَليكم إخْلاص الْحَمْد له بِآلائه عِندكم أيُّها النَّاس، الذي يَعْدِل بِه كُفَّارُكم مَنْ سِوَاه - هو الله الذي في السَّمَاوَات وفي الأرْض، يَعْلَم سِرَّكُم وجَهْركُم، فَلا يَخْفَى عَليه شَيء

(2)

.

وقال في آيَة "الزخرف": يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: والله الذي له الألُوهَة في السَّمَاء مَعْبُود، وفي الأرْض مَعْبُود كَما هو في السَّمَاء مَعْبُود، لا شَيء سِوَاه تَصْلُح عِبَادَتُه؛ يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: فأفْرِدُوا لِمَنْ هَذه صِفَته العِبَادَة، ولا تُشْرِكُوا بِه شَيئًا غَيره

(3)

.

في حِين اقْتَصَر ابن الجوزي في آيَة "البقرة": (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) على ذِكْر سَبَب النُّزُول، وبَيَان مَعْنَى الإلَه، وأنه الْمَعْبُود

(4)

.

وبَيَّن في آيَة "المائدة" قِصَّة القَوْل بِالتَّثْلِيث، ولَم يَتَطَرَّق إلى مَعْنَى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)

(5)

.

وذَكَر في آيَة "الأنعام" أرْبَعَة أقْوَال:

أحَدُها: هو الْمَعْبُود في السَّمَاوَات وفي الأرْض.

والثَّاني: وهو الْمُنْفَرِد بِالتَّدْبِير في السَّمَاوات وفي الأرْض.

والثَّالث: وهو الله في السَّمَاوَات، ويَعْلَم سِرّكُم وجَهْرَكُم في الأرض.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (8/ 580).

(2)

المرجع السابق (9/ 155).

(3)

المرجع السابق (20/ 659).

(4)

انظر: ((زاد المسير))، مرجع سابق (1/ 167).

(5)

انظر: المرجع السابق (2/ 402، 403).

ص: 634

والرَّابع: أنه مُقَدَّم ومُؤَخَّر، والْمَعْنَى: وهو الله يَعْلَم سِرَّكُم وجَهْركم في السَّمَاوَات والأرْض. ذَكَرَه بعض الْمُفَسِّرِين

(1)

.

ونَقَل في آيَة "الزخرف" قَول مجاهد وقتاد: يُعْبَد في السَّمَاء ويُعْبَد في الأرْض.

وَقَوْل الزَّجاج: هو الْمُوحَّد في السَّمَاء وفي الأرْض.

قال: وقرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وابن السميفع وابن يَعْمَر والجحدري: في السَّمَاء الله وفي الأرْض الله، بِألِف ولام مِنْ غير تَنْوِين ولا هَمْز فِيهِمَا

(2)

فابْن الجوزي - في الموضِعَين - نَقَل الأقْوَال دُون تَرْجِيح.

‌رأي الباحث:

جَمَع القُرطبي بَيْن الآيَات، وأزَال الإشْكَال، في العَطْف الوَارِد في آيَة "الزخرف" إلَّا أنَّ مَا اعتَبَره قَاعِدَة في تَنْزِيه البَارِي ليس قَاعِدَة عند السَّلَف، وسَبَق في "التَّمْهِيد" أنَّ القرطبي تَأثّر بِمَدْرَسَة الأشَاعِرَة في الاعْتِقَاد.

و"الْمَشْهُور عند أصْحَاب الإمَام أحْمَد أنَّهُم لا يَتَأوَّلُون الصِّفَات التي مِنْ جِنْس الْحَرَكَة، كَالْمَجيء، والإتْيَان في الظُّلَل، والنُّزُول، كَمَا لا يَتَأوَّلُون غَيْرَها مُتَابَعَة للسَّلَف"

(3)

.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 4).

(2)

المرجع السابق (7/ 333).

(3)

أقاويل الثقات، مرعي الحنبلي (ص 63)، وانظر لهذه المسألة:"السنة"، عبد الله بن أحمد بن حنبل (2/ 480، 481) و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث"، إسماعيل الصابوني (ص 23 وما بعدها)، و"شرح لمعة الاعتقاد"، ابن عثيمين (ص 52)، و"اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحدث"، محمد الخميس (ص 127، 128، 133، 134).

ص: 635

‌المثال الثاني:

مَعِيَّة الله:

قَوله تَعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[الأعراف: 54]، [يونس: 3]، [الرعد: 2]، [الفرقان: 59]، [السجدة: 4]، [الحديد: 4]، مع قوله تعالى:(وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)[النساء: 108]، قوله تعالى:(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)[الحديد: 4]، وقوله تعالى:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[المجادلة: 7].

‌صورة التعارض:

"قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) يَدُلّ على أنه تعالى مُسْتَوٍ على عَرْشِه عَالٍ على جَمِيع خَلْقِه. وقَوله تَعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) يُوهِم خِلاف ذَلك"

(1)

.

‌جمع القرطبي:

قال القرطبي في آيَة "الأعراف": هذه مَسْألَة الاسْتِوَاء، وللعُلَمَاء فِيها كَلام وإجْرَاء

والأكثر مِنْ الْمُتَقَدِّمِين والْمُتَأخِّرِين أنه إذا وَجَب تَنْزِيه البَاري سُبْحَانه عن الْجِهَة والتَّحَيُّز فمن ضَرُورَة ذَلك ولَواحِقه اللازِمَة عليه عند عَامَّة العُلَمَاء الْمُتَقَدِّمِين وقَادَتهم مِنْ الْمُتَأخِّرِين تَنْزِيهه تبارك وتعالى عن الْجِهَة، فَلَيْس بِجِهة فَوق

(2)

عندهم

(3)

، لأنه يَلْزَم مِنْ ذلك عندهم مَتَى اخْتَصّ بِجِهَة أن يَكُون في مَكَان أوْ حَيِّز، ويَلْزَم على الْمَكَان والْحَيِّز الْحَرَكة والسُّكُون للمُتَحَيِّز والتَّغَيّر والْحُدُوث، هذا قَولْ الْمُتَكَلِّمِين.

وقَد كَان السَّلَف الأول رضي الله عنهم لا يَقُولُون بِنَفْي الْجِهَة ولا يَنْطِقُون بذلك، بل نَطَقُوا هُمْ والكَافَّة بإثْبَاتِها لله تَعالى، كَمَا نَطَق كِتَابه، وأخْبَرَتْ رُسُله، ولم يُنْكِر أحَد مِنْ السَّلَف الصَّالِح أنه اسْتَوى على

(1)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 191).

(2)

جاءت النصوص بإثبات العلو المستلزم للفوقية. ينظر لذلك: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 397)، و"العلو للعلي العظيم" الذهبي، مرجع سابق.

(3)

أي: عند المتكلمين.

ص: 636

عَرْشِه حَقِيقَة، وخَصّ العَرْش بِذلك لأنه أعْظَم مَخْلُوقَاته، وإنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّة الاسْتِوَاء، فإنه لا تُعْلَم حَقِيقته

(1)

.

قال مالك رحمه الله: الاسْتِواء مَعْلُوم - يَعْنِي في اللغَة -، والكَيْف مَجْهُول، والسُّؤَال عن هذا بِدْعَة

(2)

.

وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها

(3)

وهذا القَدْر كَافٍ، ومَن أرَاد زِيادة عليه فَلْيَقِف عليه في مَوْضِعِه من كُتُب العُلَمَاء

(4)

.

والاسْتِوَاء في كَلام العَرَب هو العُلُوّ والاسْتِقْرَار.

واسْتَوى الرَّجل، أي انْتَهى شَبَابه.

واسْتَوى الشيء إذا اعْتَدَل، وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قَوْلِه تَعَالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5] قال: عَلا.

قلت: فَعُلُوّ الله تَعالى وارْتِفَاعه عِبَارَة عن عُلُو مَجْدِه وصِفَاتِه ومَلَكُوته، أي: ليس فَوْقَه فِيمَا يَجِب له مِنْ مَعَاني الْجَلال أحَد، ولا مَعَه مَنْ يَكون العُلُوّ مُشْتَرَكًا بَيْنَه وبَيْنَه، لكنه العَلِيّ بِالإطْلاق سُبحانه.

(1)

أي كيفيته. وانظر: "الاستذكار"، مرجع سابق (2/ 529).

(2)

رواه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/ 398)، وابن عبد البر في "التمهيد"(7/ 138)، ورواه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/ 398) عن ربيعة بن عبد الرحمن، وانظر:"الاستذكار"، مرجع سابق (2/ 528، 529).

(3)

رواه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/ 397)، وابن قدامة في "إثبات صفة العلو"(ص 109)، قال الذهبي: هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي، ومالك الإمام، وأبي جعفر الترمذي، فأما عن أم سلمة فلا يصح؛ لأن أبا كناسة ليس بثقة، وأبو عمير لا أعرفه. (العلو، مرجع سابق ص 80).

(4)

يُنظر لذلك: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، مرجع سابق (ص 13 وما بعدها)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 398)، و"الاعتقاد"، البيهقي (ص 115)، و"الملل والنحل"، الشهرستاني (1/ 93)، و"ذم التأويل" ابن قُدامة (ص 26)، و"شرح العقيدة الطحاوية" مرجع سابق (ص 313)، و"اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث"، مرجع سابق (ص 22 وما بعدها).

ص: 637

قوله تعالى: (عَلَى الْعَرْشِ) لَفْظ مُشْتَرك يُطْلَق على أكثر مِنْ واحِد

وقد يُؤوّل العَرْش في هذه الآية بمعنى الْمُلْك، أي: ما اسْتَوى الْمُلْك إلَّا لَه جَلّ وعَزّ، وهو قَول حَسَن، وفيه نَظَر

(1)

.

وأحال في آية "يونس" وفي آية "الرعد" وفي آية "الفرقان" وفي آية "السجدة" وفي آية "الحديد" على ما قَرَّره في آية "الأعراف".

بَيْنَمَا قال في "الأسْنَى في شَرْح أسْمَاء الله الْحُسْنَى"

(2)

: أظْهَر الأقْوَال - وإن كُنْتُ لا أقُول بِه ولا أخْتَارُه - مَا تَظَاهَرَتْ عليه الآيُ والأخْبَار والفُضَلاء الأخْيَار أنَّ الله سُبحانه على عَرْشِه كَمَا أخْبَر في كِتَابِه بِلا كيف، بَائن مِنْ جَمِيع خَلْقِه؛ هذا جُمْلَة مَذْهَب السَّلَف الصَّالِح

(3)

.

وفي قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5] أحَال القرطبي على ما قَرَّرَه في آية "الأعراف" ثم قال: والذي ذَهَب إليه الشيخ أبو الْحَسَن وغيره

(4)

أنه مُسْتَوٍ على عَرْشِه بِغير حَدّ ولا كَيف كَمَا يَكُون اسْتِوَاء الْمَخْلُوقِين

(5)

.

"ومَعْنَى (وَهُوَ مَعَهُمْ) أي: بِالعِلْم والرُّؤْيَة والسَّمْع؛ هذا قَوْل أهْل السُّنَّة.

وقالت الجهمية والقدرية والمعتَزِلة: هو بِكُلّ مَكان، تَمَسُّكًا بِهَذِه الآيَة ومَا كان مِثْلها؛ قالوا: لَمَّا قَال: (وَهُوَ مَعَهُمْ) ثَبَت أنه بِكُلّ مَكان، لأنه قد أَثْبَت كَوْنه معهم

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 196، 197) باختصار.

(2)

(2/ 122).

(3)

قال مرعي الحنبلي في "أقاويل الثقات"(ص 132): والعجب من القرطبي حيث يقول: وإن كنت لا أقول به ولا أختاره، ولعله خشي من تحريف الحسدة، فدفع وهمهم بذلك.

وسيأتي نقل ابن تيمية لقول القرطبي دون هذه الجملة، وسبق مناقشة هذه المسألة في "التمهيد" لهذا البحث.

وانظر: تحقيق عبد الله البراك لكتاب "العلو للعلي العظيم"(2/ 1376) حاشية (4).

(4)

قرر في آية "الأعراف" أن هذه عقيدة السلف.

(5)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (11/ 154).

ص: 638

- تعالى الله عن قَولهم - فإنَّ هذه صِفَة الأجْسَام، والله تعالى مُتَعَال عن ذلك. ألا تَرَى مُنَاظَرة بِشْر في قَول الله عز وجل:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) حين قال: هو بِذَاتِه في كُلّ مَكان، فقال له خَصْمُه: هو في قُلُنْسُوتِك، وفي حَشْوك، وفي جَوْف حِمَارِك؟

(1)

- تعالى الله عما يقولون - حَكى ذلك وكيع رضي الله عنه"

(2)

.

هذا مَا قَرَّرَه في آيَة "النساء"، وقال في آية "الحديد":(وَهُوَ مَعَكُمْ) يعني بِقُدْرَتِه وسُلْطَانِه وعِلْمِه. (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يُبْصِر أعْمَالِكُم ويَرَاها، ولا يَخْفَى عليه شَيء منها، وقد جَمَع في هذه الآيَة بَيْن (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) وبَيْن (وَهُوَ مَعَكُمْ)، والأخْذ بالظَّاهِرَين تَناقُض، فَدَلّ على أنه لا بُدّ مِنْ التَّأوِيل، والإعْرَاض عن التَّأوِيل اعْتِرَاف بالتَّنَاقُض

(3)

.

ومَعْنَى (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40] أي: بِالنَّصْر، والرِّعَاية، والْحِفْظ، والكَلاءَة.

رَوى الترمذي

(4)

والحارث بن أبي أسامة

(5)

قالا

(6)

: حَدثنا عفان قال: حَدثنا هَمام قال: أخْبَرنا ثَابِت عن أنس أنَّ أبا بكر حَدَّثَه قال: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم ونَحْن في الغَار: لو أنَّ أحَدَهُم نَظَر إلى قَدَمَيه لأبْصَرَنا تَحْت قَدَمَيه. فقال: يا أبا بَكْر مَا ظَنّك باثْنَيْن الله ثَالِثُهما؟

(7)

(1)

أي أنه انقطع بذلك في المناظرة.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (5/ 360).

(3)

المرجع السابق (17/ 203، 204) أي: تأويل ظاهر المعية بأنها "بالعلم والرؤية والسمع" كما قرره في آية "النساء".

(4)

(ح 3096).

(5)

لم أجده في مسنده بعد بحث.

(6)

بين الترمذي وبين عفان: زياد بن أيوب البغدادي.

(7)

الحديث مخرج في الصحيحين: رواه البخاري (ح 4386)، ومسلم (ح 2381)، وكان الأولى عزوه إليهما. ورواه أحمد (ح 11) عن عفان به.

ص: 639

قال الْمُحَاسِبي: يَعْنِي مَعَهُما بالنَّصْر والدِّفاع، لا عَلى مَعْنَى مَا عَمّ بِه الْخَلائق

(1)

، فَقَال:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، فَمَعْنَاه العُمُوم أنه يَسْمَع ويَرَى مِنْ الكُفَّار والْمُؤمِنِين

(2)

.

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أثْبَتْ الاسْتِوَاء، ونَقَل عن السَّلَف إثْبَات الاسْتِواء، وإثْبَات الْجِهَة وعَدم النّطق بِنَفْي الْجِهَة.

2 -

أنَّ الله مُسْتَوٍ على عَرْشِه بِغَير حَدّ ولا كَيْف.

3 -

الْمَجْهُول مِنْ الاسْتِوَاء هو الكَيْفِيَّة.

4 -

مَعِيّة الله بالعِلْم والرُّؤْيَة والسَّمْع، وبِالقُدْرَة والسُّلْطان والعِلْم، وبالنَّصْر والرِّعَاية والْحِفْظ والكَلاءَة والدِّفَاع؛ وذلك بِحَسَب وُرُود الْمَعِيَّة في الآيَات.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

قَرَّر ابن جرير مَعْنَى الاسْتِوَاء في آيَة "البقرة"، وأطَال في ذلك، وذَكَر مَعَانِي الاسْتِوَاء، ورَجَّح أنَّ "أوْلى الْمَعَانِي بِقَول الله جَلَّ ثَنَاؤه:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ) عَلا عَليهن وارْتَفَع، فَدَبَّرَهُنّ بِقُدْرَتِه، وخَلَقَهُنّ سَبْع سَمَاوَات"

(3)

.

وفي آيَة "الأعراف" أحَال على مَا سَبَق تَقْرِيرُه في مَعْنَى "الاستواء" بِمَا أغْنَى عن إعَادَتِه

(4)

.

(1)

أي: على وجه تخصيص نبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالنصرة والدفاع، وليس ما عم به سائر خلقه.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 133).

(3)

جامع البيان، مرجع سابق (1/ 457) وقد استغرق تقرير هذه المسألة عشر صفحات في طبعة دار هجر.

(4)

المرجع السابق (10/ 246).

ص: 640

وقال في آيَة "طه" مَا نَصّه: وقَوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: الرَّحْمَن على عَرْشِه ارْتَفع وعَلا. وقد بَيَّنَّا مَعْنَى الاسْتِواء بِشَواهِدِه فِيمَا مَضَى، وذَكَرْنَا اخْتِلاف الْمُخْتَلِفِين فيه، فأغْنَى ذلك عن إعَادَتِه في هذا الْمَوضِع

(1)

.

وفي آيَة "الرعد" قَال: وأمَّا قَوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فإنه يَعْنِي عَلا عليه.

وقد بَيَّنّا مَعْنَى الاسْتِوَاء واخْتِلاف الْمُخْتَلِفِين فِيه، والصَّحِي مِنْ القَوْل فِيمَا قَالُوا فِيه بِشَوَاهِده فيما مضى، بِما أغْنَى عن إعَادَتِه في هَذا الْمَوْضِع

(2)

.

وبِنحو ذلك قال في آيَة "الفرقان"، فإنه قَال:(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) يَقُول: ثم اسْتَوَى على العَرْشِ الرَّحْمَنُ وعَلا عَليه

(3)

.

ولعله اكْتَفى بِذلك فَلم يَذْكُر شَيئًا في آيَة "السجدة".

وقَال في آيَة "الحديد": يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: هو الذي أنْشَأ السَّمَاوَات السَّبْع والأرَضِين، فَدَبَّرَهُنّ ومَا فِيهِنّ، ثم اسْتَوَى على عَرْشِه، فَارْتَفَع عليه وعَلا

(4)

.

واقْتَصَر في آيَة "النساء" على قَوله: (وَهُوَ مَعَهُمْ) يَعْنِي: والله شَاهِدُهم

(5)

.

كَمَا اقْتَصَر في آيَة "الحديد" على قَوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) يَقُول: وهو شَاهِد لكم أيُّها النَّاس، أيْنَمَا كُنْتم يَعْلَمُكم، ويَعْلَم أعْمَالَكُم ومُتَقَلِّبَكُم ومَثْوَاكُم، وهو على عَرْشِه فَوْق سَمَاوَاتِه السَّبْع

(6)

.

وقال في آيَة "المجادلة": وعُني بِقَوله: (هُوَ رَابِعُهُمْ) بِمَعْنَى أنه مُشَاهِدُهم بِعِلْمِه، وهو على عَرْشِه

(7)

.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (16/ 11).

(2)

المرجع السابق (13/ 411).

(3)

المرجع السابق (17/ 481).

(4)

المرجع السابق (22/ 387).

(5)

المرجع السابق (7/ 472).

(6)

المرجع السابق (22/ 387).

(7)

المرجع السابق (22/ 469).

ص: 641

ونَقَل ابن الجوزي في آيَة "الأعراف" عن الخليل بن أحمد قوله: العَرش السَّرِير، وكُل سَرِير لِمَلِكٍ يُسَمّى عَرْشًا، وقَلَّمَا يُجْمَع العَرْش إلَّا في اضْطِرَار.

ثم قال: واعْلم أنَّ ذِكْر العَرْش مَشْهُور عند العَرَب في الْجَاهِلِيَّة والإسْلام.

ونَقَل عن كَعْبٍ

(1)

قَوله: إنَّ السَّمَاوَات في العَرْش كَالقِنْدِيل مُعَلَّق بَيْن السَّمَاء والأرْض

(2)

.

قال: وإجْماع السَّلَف مُنْعَقِد على أنَّ لا يَزِيدُوا على قِرَاءَة الآيَة

(3)

. وقد شَذّ قَوْم فَقَالوا: العَرْش بِمَعْنَى الْمُلْك. وهذا عُدُول عن الْحَقِيقَة إلى التَّجَوُّز مع مُخَالَفَة الأثَر.

ألَم يَسْمَعُوا قَولَه تَعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)[هود: 7] أتُرَاه كان الْمُلْك على الْمَاء؟

وقد رَدّ ابن الجوزي على مَنْ تَأوَّل الاسْتِوَاء بِمَعْنَى "الاسْتِيلاء"، فَقَال:

وبَعْضُهم يَقُول: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَولى، ويَحْتَجّ بِقَول الشاعر:

حتى

(4)

اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق مِنْ غَيْر سَيْف ودَم مِهْرَاق

ويقول الشاعر أيضًا:

هُمَا اسْتَوَيا بِفَضْلِهما جَمِيعا على عَرْش الْمُلُوك بِغَيْر زَور

(1)

هو كعب الأحبار، وانظر: تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (10/ 141).

(2)

وفي الحديث: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة". رواه ابن أبي شيبة العبسي في كتاب "العرش"(ح 58)، وابن حبان (ح 361 إحسان)، وأبو الشيخ في كتاب "العظمة"(ح 17)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(ح 2544).

وقال ابن حجر (الفتح 13/ 411): وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسندٍ صحيح عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح 109).

(3)

تقدم النقل عن السلف، وسيأتي مزيد نقل أيضًا أنهم فسروا المعنى المراد بالاستواء، وأنهم أثبتوا الاستواء لله عز وجل استواء يليق بجلاله وعظمته.

(4)

البيت يُروى: قد استوى .... وينظر في ردّ هذا التأويل: "الصواعق المرسلة"، ابن القيم (2/ 674)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" مرجع سابق (ص 192)، و"أقاويل الثقات"، مرجع سابق (ص 124).

ص: 642

وهذا مُنْكر عند اللغويين. قال ابن الأعرابي

(1)

: العَرَب لا تَعْرِف اسْتَوى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، ومَن قَال ذلك فَقد أعْظَم. قَالُوا: وإنَّمَا يُقَال: اسْتولى فلان على كذا، إذا كان بَعِيدًا عنه غَير مُتَمَكّن مِنه ثم تَمَكَّن مِنه. والله عز وجل لَم يَزَل مُسْتَولِيًا على الأشْيَاء. البَيْتَان لا يُعْرَف قَائلُهُما، كذا قال ابن فارس اللغوي، ولو صَحَّا فلا حُجَّة فِيهما لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اسْتِيلاء مَنْ لَم يَكُنْ مُسْتَولِيًا

(2)

نَعُوذ بِالله مِنْ تَعطيل الْمُلْحِدَة، وتَشْبِيه الْمُجَسِّمَة

(3)

.

واكْتَفَى بِهذا الإيضَاح، فلم يَتَطَرَّق إلى مَعْنَى "الاسْتِوَاء" في الْمَوَاضِع الأُخْرَى، إلَّا أنه نَقَل في تَفْسِير آيَة "الكرسي" عن الْخَطابي قَوله: وقد يَكُون مِنْ العُلُوّ الذي هو مَصْدَر عَلا يَعْلُو فَهو عَالٍ، كَقَولِه تَعَالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]، ويَكُون ذلك مِنْ علاء الْمَجْد والشَّرف. يُقال مِنه: عَلِي يُعْلى علاء

(4)

.

وفي آيَة "النساء" اقْتَصَر على تَفْسِير الْمَعِيَّة بِالعِلْم، فَقَال:(وَهُوَ مَعَهُمْ) بِالعِلْم

(5)

.

وقال في آيَة "الحديد": قَوله تَعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي بِعِلْمِه وقُدْرَته

(6)

.

(1)

روى اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/ 399) من طريق داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل، فقال: ما معنى قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى فقال: اسكت! ما أنت وهذا؟ لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى. ونقله ابن قدامة "إثبات صفة العلو"(ص 119، 120).

(2)

وزاد مرعى الحنبلي في "أقاويل الثقات" ص (124) جواب آخر، وهو: أن الله تعالى مستولٍ على الكونين والجنة والنار وأهلهما. فأي فائدة في تخصيص العرش بالذكر؟ ولا يكفى في الجواب أنه حيث قهر العرش على عظمته واتساعه، فغيره أولى؛ لأن الأنسب في مقام التمدح بالعظمة التعميم بالذكر لقهره الأكوان الكلية بأسرها.

(3)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 212، 213).

(4)

زاد المسير، مرجع سابق (1/ 304).

(5)

المرجع السابق (2/ 193).

(6)

المرجع السابق (8/ 160).

ص: 643

وفي آية "المجادلة" قال ابن الجوزي: (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أي: عَالِم بِه

(1)

.

‌رأي الباحث:

قَرَّر القرطبي مَسْألَة الاسْتِوَاء على طَرِيقَة السَّلَف بِحيث نُقِلَ عنه ذلك التَّقْرِير، فقد نَقَل عنه تَقْرِيره هذا غير واحِد من العُلَمَاء الذين أتَوا بعده، ومِنهم:

ابن تَيمية في "دَرْء تَعَارُض العَقْل والنَّقْل"

(2)

حيث قال: وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي - لَمَّا ذَكَر اخْتِلاف النَّاس في تَفْسِير الاسْتِوَاء - قال: وأظْهَر الأقْوَال مَا تَظَاهَرَتْ عليه الآي والأخْبَار والفُضَلاء الأخْيَار أنَّ الله على عَرْشِه كَمَا أخْبَر في كِتَابِه وعلى لِسَان نَبِيِّه بِلا كيف، بَائن مِنْ جَمِيع خَلْقِه. هذا مَذْهَب السَّلَف الصَّالِح فيما نَقَل عنهم الثِّقَات

(3)

. ثم ذَكَر ابن تيمية مَا قَرَّرَه القرطبي في تَفْسِير آية "الأعراف"

(4)

.

ابن القيم ضمِن أقْوَال أئمَّة التَّفْسِير في مَسْألَة الاسْتِوَاء، حيث نَقَل "قَوْل أبي عبد الله القرطبي الْمَالِكِيّ، صَاحِب التَّفْسِير الْمَشْهُور رحمه الله"

(5)

.

ونَقَلَه الذهبي في مَقَالات الأئمَّة في إثْبَات العُلُوّ

(6)

.

ونَقَلَه مَرْعي الحنبلي في "أقاويل الثِّقَات) "

(7)

.

كَمَا نَقَلَه الْحَازِمِيّ في "كِتَاب الصِّفَات"

(8)

.

(1)

((زاد المسير))، مرجع سابق (8/ 188).

(2)

(6/ 258)، وانظر:"بيان تلبيس الجهمية"(2/ 36)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 261).

(3)

هذا النقل عن القرطبي خلاف ما جاء في كتاب "الأسنى" من زيادة عبارة: وإن كنت لا أقول به ولا أختاره.

(4)

درء التعارض، مرجع سابق (6/ 260).

(5)

اجتماع الجيوش الإسلامية، مرجع سابق ص (166) وتقدم هذا في "التمهيد".

(6)

"العلو"، مرجع سابق (ص 266، 267).

(7)

(ص 132).

(8)

(ص 119).

ص: 644

وهذا مَا قرَّره أئمَّة السَّلَف.

قال مُقاتِل بن حَيان في قَوله تَعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) قال: هو على العَرْش، ولن يَخْلُو شَيء مِنْ عِلْمِه

(1)

.

روى اللالكائي من طريق مَعْدان قال: سَألْتُ سفيان الثوري عن قَولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) قال: عِلْمُه.

روى اللالكائي من طريق مَعْدان قال: سَألْتُ سفيان الثوري عن قَولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) قال: عِلْمُه.

وروى من طريق سريج بن النعمان قال: حدثني عبد الله بن نافع قال: مُلْك الله في السَّمَاء، وعِلْمه في كُلّ مَكَان؛ لا يَخْلُو مِنه شَيء.

قال: ورَوى يوسف بن موسى البغدادي أنه قِيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله عز وجل فَوْق السَّمَاء السَّابِعَة على عَرْشِه بَائن مِنْ خَلْقِه، وقُدْرَتِه وعِلْمُه في كُلّ مَكَان؟ قال: نَعَم، على العَرْش، وعِلْمُه في كُلّ مَكَان؟ قال: نَعَم، على العَرْش، وعِلْمُه لا يَخْلُو مِنه مَكَان

(2)

.

"والذي يَكْفِي في هذا أن يَقُول: إنَّ الله اسْتَوَى على العَرْش مِنْ غَيْر تَكْيِيف"

(3)

.

وإثْبَات النُّزُول جَاء في السُّنَّة، ومِنه:"يَنْزِل رَبُّنا تبارك وتعالى كُلّ لَيْلَة إلى السَّمَاء الدُّنيا حِين يَبْقَى ثُلُث الليل الآخِر"

(4)

.

قال ابن عبد البر: وفي هذا الْحَدِيث دَلِيل على أنَّ الله عز وجل في السَّمَاء على العَرْش مِنْ فَوْق سَبْع سَمَاوَات، وعِلْمه في كل مكان، كَمَا قَالَتِ الْجَمَاعَة أهْل السُّنَّة أهْل الفِقْه والأثَر، وحُجَّتُهم ظَوَاهِر القُرْآن في قَولِه:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه: 5]

(5)

.

"وقال الطلمنكي أحد أئمَّة الْمَالِكِيَّة .... في كِتَاب "الوُصُول إلى مَعْرِفَة الأصُول":

أجْمَع الْمُسْلِمُون مِنْ أهْل السُّنَّة على أنَّ مَعْنَى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ونَحو ذلك مِنْ

(1)

رواه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/ 400).

(2)

المرجع السابق (3/ 401، 402).

(3)

المرجع السابق (3/ 402).

(4)

رواه البخاري (ح 1094)، ومسلم (ح 758).

(5)

"الاستذكار"، مرجع سابق (2/ 527).

ص: 645

القُرْآن أنَّ ذلك عِلْمه، وأنَّ الله فَوْق السَّمَاوَات بِذَاتِه مُسْتَوٍ على العَرْش كَيف شَاء.

وقال أيضًا: قال أهْل السُّنَّة في قَوْل الله تَعَالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى): إنَّ الاسْتِوَاء مِنْ الله على عَرْشِه الْمَجِيد على الْحَقِيقَة لا على الْمَجَاز"

(1)

.

وتَقْرِير هَذِه الْمَسْألَة في كُتُب العَقَائد.

والاسْتِوَاء في اللغَة يُطْلَق على مَعَانٍ تَدُور على الكَمَال والانْتِهَاء

(2)

.

‌المثال الثالث:

رُؤية الله تبارك وتعالى:

قَوله تَعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[الأنعام: 103]، وقَوله تَعالى:(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي)[الأعراف: 143]، وقَوله تَعالى:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)[المطففين: 15]، مَع قَوله تعالى:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23].

‌صورة التعارض:

قَوله تَعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، هَذه الآيَة الكَرِيمة تُوهِم أنَّ الله تعالى لا يُرَى بالأبْصَار، وقد جَاءت آيَات أُخَر تَدُلّ على أنه يُرَى بِالأبْصَار، كَقَوْلِه تَعَالى:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)

(3)

.

(1)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مرجع سابق (3/ 219، 220).

(2)

انظر لذلك: جامع البيان، مرجع سابق (1/ 456 وما بعدها)، و"اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (ص 22)، و"القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى"، ابن عثيمين (ص 57، 58).

(3)

دفع إيهام الاضطراب، مرجع سابق (ص 84).

ص: 646

‌جمع القرطبي:

أشَارَ القرطبي إلى الْخِلاف في رُؤية الله تبارك وتعالى في الدُّنيا والآخِرَة، فَقَال في قَوله تَعالى:(حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)[البقرة: 55]: وقد اخْتُلِفَ في جَوَاز رُؤية الله تَعالى؛ فأكْثَر الْمُبْتَدِعة على إنْكَارِها في الدُّنيا والآخِرَة، وأهْل السُّنَّة والسَّلَف على جَوازِها فِيهما، ووُقُوعِها في الآخِرَة؛ فَعَلَى هَذا لَم يَطْلُبُوا مِنْ الرُّؤيَة مُحَالًا، وقد سَألَها مُوسَى عليه السلام

(1)

.

وقد بيَّن في آيَة "الأعراف" أنَّ مُوسَى عليه الصلاة السلام لم يَطْلُب مُحَالًا، وَرَدّ تَأوِيل مَنْ تأوَّل رُؤية الله في الآيَة، فَقَال في قَوله تَعالى:(قَالَ لَنْ تَرَانِي) أي في الدُّنيا، ولا يَجُوز الْحَمْل على أنه أرَاد أرِنِي آيَة عَظِيمَة لأنْظر إلى قُدْرَتِك؛ لأنه قَال:(إِلَيْكَ) وقَال: (لَنْ تَرَانِي) ولَو سَأل آية لأعْطَاه الله مَا سَأل، كَمَا أعْطَاه سَائر الآيَات، وقد كَان لِمُوسَى عليه السلام فيها مَقْنَع عن طَلَب آيَة أُخْرى؛ فَبَطَل هَذا التَّأوِيل

(2)

.

ونَقَل عن عَليّ بن مَهدي الطبري قَوله: لو كَان سُؤَال مُوسَى مُسْتَحِيلًا مَا أقْدَم عليه مَع مَعْرِفَتِه بِالله، كَمَا لَم يَجُز أن يَقُول له: يا رَبّ ألَك صَاحِبة ووَلَد؟

(3)

وأزَال القرطبي تَوَهُّم التَّعَارُض بَيْن إثْبَات الرُّؤيَة ونَفْي الإدْرَاك، فَقَال: قَوله تَعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) بَيَّن سُبحانه أنه مُنَزَّه عن سِمَات الْحُدُوث، ومِنْهَا الإدْرَاك بِمَعْنَى الإحَاطَة والتَّحْدِيد، كَمَا تُدْرَك سَائر الْمَخْلُوقَات، والرُّؤية ثَابِتَة .... لأنه قد صَحّ عن النبي صلى الله عله وسلم الأحَادِيث في الرُّؤيَة يَوْم القِيَامَة.

وقال ابن عباس: لا تُدْرِكُه الأبْصَار في الدُّنيا، ويَرَاه الْمُؤمِنُون في الآخِرَة لإخْبَار الله بِهَا في قَولِه:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقال السدي: وهو أحْسن مَا قِيل لِدَلالة التَّنْزِيل والأخْبَار الوَارِدَة

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (1/ 444).

(2)

المرجع السابق (7/ 246).

(3)

المرجع السابق (7/ 247).

ص: 647

بِرُؤيَة الله في الْجَنَّة .... وقِيل: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) لا تُحِيط بِه، وهو يُحِيط بِها. عن ابن عباس أيضًا.

وقِيل: الْمَعْنَى: لا تُدْرِكه الأبْصَار الْمَخْلُوقَة في الدُّنيا لكنه يَخْلُق لِمَنْ يُرِيد كَرَامَته بَصَرًا وإدْرَاكًا يَرَاه فيه، كَمُحَمّد عليه السلام، إذ رُؤيته تَعالى في الدُّنيا، جَائزَة عَقْلًا، إذ لو لَم تَكُنْ جَائزَة لَكَان سُؤَال مُوسى عليه السلام مُسْتَحِيلًا، ومُحَال أن يَجْهَل نَبِيّ مَا يَجُوز على الله ومَا لا يَجُوز، بل لَم يَسْأل إلَّا جَائزًا غير مُسْتَحِيل، واخْتَلَف السَّلَف في رُؤيَة نَبِيِّنَا عليه السلام رَبَّه

(1)

.

ثم ذَكَر الْخِلاف في ذلك، ومَا جَاء في رُؤيته صلى الله عليه وسلم لِربِّه لَيلة عُرِج بِه إلى السَّمَاوَات

(2)

، وقال بعد ذلك: قَوله تَعالى: (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) أي: لا يَخْفَى عليه شَيء إلَّا يَرَاه ويَعْلَمه، وإنَّمَا خَصّ الأبْصَار لِتَجْنِيس الكَلام

(3)

.

وفي قَوله تَعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)[الأنعام: 153] نَقَل عن سهل بن عبد الله - أنه سُئل عن الصَّلاة خَلْف الْمُعْتَزِلَة والنِّكَاح منهم وتَزْوِيجِهم؟ - فقال: لا، ولا كَرَامَة! هم كُفَّار؛ كيف يُؤمِن مَنْ يَقُول القُرْآن مَخْلُوق، ولا جَنَّة مَخْلُوقَة، ولا نَار مَخْلُوقَة، ولا لله صِرَاط ولا شَفَاعَة، ولا أحَد مِنْ الْمُؤمِنِين يَدْخُل النَّار، ولا يَخْرُج مِنْ النَّار مِنْ مُذنبي أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عَذَاب القَبْر، ولا مُنْكَر ولا

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 50، 51) باختصار.

(2)

للاستزادة يُنظر: "السنة"، ابن أبي عاصم (ص 188 وما بعدها)، و"شرح أصول أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 512 وما بعدها)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية) " مرجع سابق (3/ 386 وما بعدها)، و"شرح العقيدة الطحاوية" مرجع سابق (ص 213)، و"أقاويل الثقات" مرجع سابق (ص 196 وما بعدها).

(3)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 52).

ص: 648

نَكِير، ولا رُؤية لِرَبِّنا في الآخِرَة، ولا زِيَادَة، وأنَّ عِلْم الله مَخْلُوق، ولا يَرَون السُّلْطَان، ولا جُمُعَة، ويُكَفِّرُون من يُؤمِن بِهذا؟

(1)

وقال بِإثْبَات الرُّؤية في تَفْسير سُورة يونس، وذلك في قَوله تَعالى:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26]، حَيث أوْرَد مَا رُوي عن أنس رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَوله تَعالى: (وَزِيَادَةٌ) قال: للذين أحْسَنُوا العَمَل في الدُّنيا لهم

(2)

الْحُسْنى، وهي الْجَنَّة، والزِّيَادَة النَّظَر إلى وَجْه الله الكَرِيم

(3)

. وهو قَول أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب في رِواية، وحذيفة، وعُبادة بن الصامت، وكعب بن عُجْرة، وأبي موسى، وصهيب، وابن عباس في رِواية، وهو قَول جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِين، وهو الصَّحِيح في البَاب

(4)

.

ورَوى مُسلم في صحيحه

(5)

عن صُهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دَخَل أهْل الْجَنّة الْجَنّة قال الله تبارك وتعالى: تُرِيدُون شيئًا أزِيدُكم؟ فيقولون: ألَم

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (7/ 124).

(2)

هكذا في الجامع لأحكام القرآن، وفي جزء الحسن بن عرفة "للذين أحسنوا العمل في الدنيا" الْحُسْنَى.

(3)

رواه الحسن بن عرفة في جزئه (ص 54)، ومن طريقه رواه: الدراقطني في "رؤية الله"(ص 75)، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال"(3/ 326)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(9/ 140)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة) " سابق (3/ 456)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء"(22/ 113)، والحديث ضعّفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(22/ 113)، وضعفه الفريوائي في تحقيق جزء الحسن بن عرفة (ص 54)، وله شواهد من حديث كعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وأُبيّ بن كعب وابن عمر.

وانظر: "السنة"، ابن أبي عاصم، مرجع سابق (1/ 205 وما بعدها)، و"رؤية الله تبارك وتعالى"، ابن النحاس، و"الإيمان"، ابن منده (2/ 772 وما بعدها)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 454 وما بعدها)، و"الاعتقاد"، البيهقي (ص 123 وما بعدها)، و"شرح العقيدة الطحاوية"، مرجع سابق (ص 206 وما بعدها)، و"الدر المنثور"، مرجع سابق (4/ 357، 358).

(4)

انظر هذه الأقوال في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 456)، و"الدر المنثور"، مرجع سابق (4/ 357، 358).

(5)

(ح 181) والرواية التي أشار إليها القرطبي لاحقًا هي لمسلم في الموضع نفسه.

ص: 649

تُبَيِّض وُجُوهَنا؟ ألَم تُدْخِلْنا الْجَنّة، وتُنَجِّنا مِنْ النَّار؟ قال: فَيَكْشِف الْحِجَاب فَمَا أْعْطُوا شِيئًا أحَبّ إليهم مِنْ النَّظَر إلى رَبِّهم عز وجل. وفي رِوَاية: ثم تَلا: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)

(1)

.

وأوْرَد القرطبي أحَادِيث وأقْوَالًا أخْرَى في مَعْنَى الزِّيَادَة، وسَبَق اخْتِيَارُه لِمَعْنَى الزِّيَادَة.

ونَقَل في قَوله تَعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 35] قَوْل أنس وجابر: الْمَزِيد النَّظَر إلى وَجْه الله تَعالى بِلا كَيف. وقد وَرَد ذَلك في أخْبَار مَرْفُوعَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قَولِه تَعَالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) قال: الزِّيَادَة النَّظَر إلى وَجْه الله الكَرِيم.

ثم أوْرَد مَا جَاء عن ابن مسعود قال: تَسَارَعُوا إلى الْجُمُعَة فإنَّ الله تبارك وتعالى يَبْرُز لأهْل الْجَنَّة كُلّ يَوْم جُمُعَة في كَثِيب مِنْ كَافُور أبْيَض فَيَكُونُون مِنه في القُرْب.

قال ابن المبارك: على قَدْر تَسَارُعِهم إلى الْجُمُعَة في الدُّنيا. وقال يحيى بن سَلَّام: لِمُسَارَعَتِهم إلى الْجُمَع في الدُّنيا

(2)

.

وفي آيَة "المطففين" نَقَل عن الزجاج قَوله: في هَذه الآيَة دَلِيل على أنَّ الله عز وجل يُرَى في القِيَامَة، ولولا ذلك مَا كَان في هَذه الآيَة فَائدَة، ولا خَسَّت

(3)

مَنْزِلَة الكُفَّار بِأنَّهُم يُحْجَبُون. وقَال جَلَّ ثَنَاؤه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فأَعْلَمَ اللهُ جَلّ ثَنَاؤه أنَّ الْمُؤمِنِين يَنْظُرُون إليه، وأَعْلَمَ أنَّ الكُفَّار مَحْجُوبُون عنه. وقال مَالك بن أنس في هَذه الآيَة: لَمَّا حَجَب أعْدَاءَه فَلَم يَرَوه تَجَلَّى لأوْلِيائه حَتى رَأَوه. وقال

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (8/ 297، 298).

(2)

المرجع السابق (17/ 22)، وأكد ذلك في تفسير سورة الجمعة (18/ 106، 107).

(3)

يعني أصبحت خسيسة، وفي اللسان (6/ 64): وخس الشيء يخس ويخس خسة وخساسة فهو خسيس.

ص: 650

الشافعي: لَمَّا حَجَب قَومًا بالسُّخْط دَلّ على أنَّ قَوْمًا يَرَونه بِالرِّضَا، ثم قال: أمَا والله لَو لَم يُوقِن محمد بن إدريس

(1)

أنه يَرى رَبَّه في الْمَعَاد لَمَا عَبَده في الدّنيا

(2)

.

وفي آيَة "القِيَامَة" رَجَّح أنَّ مَعْنَى (نَاظِرَةٌ) مِنْ النَّظَر إلى رَبِّها، وعَزَى هَذا القَوْل إلى الْجُمْهُور، فَقَال: قَوله تَعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) الأوَّل مِنْ النُّضْرَة التي هي الْحُسْن والنِّعْمَة، والثَّاني مِنْ النَّظَر، أي: وُجُوه الْمُؤمِنِين مُشْرِقَة حَسَنَة نَاعمَة (إِلَى رَبِّهَا) إلى خَالِقِها ومَالِكِها (نَاظِرَةٌ) مِنْ النَّظر، أي: تَنْظُر إلى رَبِّها. على هذا جُمْهُور العُلَمَاء

(3)

.

وأحَال على مَا مَضَى في "يونس" وأوْرَد آثَارًا في البَاب.

ورَدَّ تَأوِيل النَّظَر بِالانْتِظَار، فَقَال: وقِيل: إنَّ النَّظَر هُنا انْتِظَار مَا لَهُمْ عِند الله مِنْ الثَّوَاب. ورُوي عن ابن عمر

(4)

ومجاهد

(5)

. وقال عكرمة: تَنْتَظِر أمْرَ رَبِّها. حَكَاه الْمَاوَرْدِي عن ابن عمر وعكرمة أيضًا، وليس مَعْرُوفًا إلَّا عن مُجَاهِد

(6)

وحْدَه.

واحْتَجُّوا بِقَوله تَعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)، وهذا القَوْل ضَعِيف جِدًّا خَارِج عن مُقْتَضَى ظَاهِر الآيَة والأخْبَار

(7)

.

(1)

يعني به نفسه.

(2)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (19/ 228، 229)، وقارن بما في "زاد المسير"(9/ 56، 57).

(3)

المرجع السابق (19/ 96، 97) وانظر قول مالك في "حلية الأولياء"(6/ 326).

(4)

روى ابن جرير (23/ 509) عن ابن عمر خلاف ذلك.

(5)

ومجاهد روى عن ابن عمر إثبات الرؤية. انظر: جامع البيان، مرجع سابق (23/ 509).

(6)

رواه عنه ابن جرير (23/ 508، 509).

وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(7/ 157): قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويل الصحابة وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (19/ 97).

ص: 651

‌ملخص جواب القرطبي:

1 -

أهْل السُّنَّة وسَلَف الأمَّة على إثْبَات رُؤية الله تَعالى في الآخِرَة، وجَوَاز وُقُوعِها في الدُّنيا لِكَون مُوسَى طَلَبَهَا.

2 -

لا تَعَارُض بَيْن نَفْي الإدْرَاك وبَيْن إثْبَات الرُّؤيَة؛ فَنَفْي الإدْرَاك نَفْي إحَاطَة، والرُّؤيَة ثَابِتَة.

3 -

الزِّيَادَة على الْحُسْنَى هِي رُؤيَة وَجْه الله تبارك وتعالى.

4 -

ضَعَّف تأويل النَّظَر إلى وجه الله بانتظار أمر الله أو ثَوابه.

‌مقارنة جوابه وجمعه بين الآيات بجمع غيره من العلماء:

أطَال ابن جرير في مُنَاقَشَة مَعْنَى الإدْرَاك، وتَقْرِير عَقِيدَة أهْل السُّنَّة في رُؤية الله تبارك وتعالى في الآخِرَة، فَذَكَر اخْتِلاف أهْل التَّأويل في تَأوِيل قَولِه تَعالى:(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)؛ فَنَقَل عن بَعضهم: مَعْنَاه: لا تُحِيط بِه الأبْصَار وهو يُحِيط بِها.

ثم ذَكَر اسْتِدْلال أصْحَاب هذا القَوْل، وخَتَمه بِهذه المناقَشَة:

قَالوا: فإن قَال لَنا قَائل: وما أنْكَرْتُم أن يَكُون مَعْنَى قَوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) لا تَرَاه الأبْصَار؟

قُلنا له: أنْكَرْنا ذلك لأنَّ الله جَلّ ثَنَاؤه أخْبَر في كِتَابِه أنَّ وُجُوهًا في القِيَامَة إليه نَاظِرة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخْبَر أمَّتَه أنَّهم سَيَرَون رَبَّهم يَوْم القِيَامَة كَمَا يُرَى القَمَر لَيْلَة البَدْر، وكَمَا تَرَون الشَّمْس ليس دُونَها سَحَاب

(1)

.

قَالوا: فإذ كان الله قد أخْبَر في كِتَابه بِمَا أخْبَر، وحَقَّقَتْ أخْبَار رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرْنا عنه مِنْ قِيله صلى الله عليه وسلم أنَّ تَأوِيل قَولِه:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أنه نَظَر أبْصَار العُيُون لله جل جلاله، وكان كِتَاب الله يُصَدِّق

(1)

الحديث رواه البخاري ومسلم، وسيأتي تخريجه.

ص: 652

بَعْضه بعضًا، وكان مع ذلك غير جائز أن يَكُون أحَد هَذين الْخَبَرين نَاسِخًا للآخَر، إذ كان غير جَائز في الأخْبَار

(1)

عُلِمَ أنَّ مَعْنى قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) غير مَعْنَى قَوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فإنَّ أهْل الْجَنَّة يَنْظُرُون بِأبْصَارِهم يَوْم القِيَامَة إلى الله، ولا يُدْرِكُونه بِها، تَصْدِيقًا لله في كِلا الْخَبَرين، وتَسْلِيمًا لِمَا جَاء به تَنْزِيله على مَا جَاء به في السُّورَتَين.

ونَقَل عن آخَرِين: مَعْنَى ذلك: لا تَرَاه الأبْصَار وهو يَرَى الأبْصَار.

فقال قائلو هذه الْمَقَالة: مَعْنَى الإدْرَاك في هذا الْمَوضِع الرُّؤية، وأنْكَرُوا أن يكون الله يُرَى بالأبْصَار في الدُّنيا والآخِرَة.

وَنَقَل عن آخَرِين: مَعْنَى ذلك: لا تُدْرِكه أبْصَار الْخَلائق في الدُّنيا، وأمَّا في الآخِرَة فَإنَّها تُدْرِكُه.

وقَال أهْل هذه الْمَقَالَة: الإدْرَاك في هَذا الْمَوْضِع الرُّؤيَة.

كَمَا نَقَل عن آخَرِين مِنْ أهْل هذه الْمَقَالَة: الآيَة على الْخُصُوص، إلَّا أنه جَائز أن يَكُون مَعْنَى الآيَة: لا تُدْرِكه أبْصَار الظَّالِمِين في الدُّنيا والآخِرَة، وتُدْرِكه أبْصَار الْمُؤمِنِين وأوْلِيَاء الله.

وعن آخَرِين: الآيَة على العُمُوم، ولن يُدْرِك اللهَ بَصَرُ أحَدٍ في الدُّنيا والآخِرَة، ولكن الله يُحْدِث لأوْلِيائه يَوْم القِيَامَة حَاسَّة سَادِسَة سِوَى حَوَاسِّهم الْخَمْس، فَيَرَونَه بِها.

والصَّوَاب مِنْ القَوْل في ذلك عِندنا مَا تَظَاهَرَتْ به الأخْبَار عن رَسول الله صلى الله علهي وسلم أنه قال: إنكُم سَتَرَون رَبكُم يَوْم القِيَامَة كما تَرَون القَمَر لَيْلَة البَدْر، وكَمَا

(1)

أي: النَّسْخ.

ص: 653

تَرَون الشَّمْس لَيس دُونَها سَحَاب

(1)

. فَالْمُؤمِنُون يَرونَه، والكَافِرُون عنه يَومَئذٍ مَحْجُوبُون، كَمَا قَال جَل ثَنَاؤه:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

ثم شَرَع ابن جرير في ردّ حُجج وأقْوَال نُفَاة الرُّؤيَة.

وَخَتَم الْمَبْحَث بِقَولِه: ولأهْل هَذه الْمَقَالَة مَسَائل فيها تَلْبِيس، كَرِهْنا ذِكْرَها وإطَالة الكِتَاب بِها وبِالْجَوَاب عنها، إذ لم يكُن قَصْدنا في كِتَابِنا هذا قَصْد الكَشْف عن تَمْوِيهَاتِهم، بل قَصَدْنا فيه البَيَان عن تَأوِيل آي الفُرْقَان.

ولكنا ذَكَرْنا القَدْر الذي ذَكَرْنا لِيَعْلَم النَّاظِر في كِتَابِنا هذا أنَّهم لا يَرْجِعون مِنْ قَوْلِهم إلَّا إلى مَا لَبَّسَ عليهم الشَّيْطَان مِمَّا يَسْهُل على أهْل الْحَقّ البَيَان عن فَسَادِه، وأنّهم لا يَرْجِعون في قَوْلِهم إلى آية مِنْ التَّنْزِيل مُحْكَمة، ولا رِوَاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَحِيحَة ولا سَقيمَة! فَهُمْ في الظُّلُمَات يَخْبِطُون، وفي العَمْياء يَتَرَدَّدُون. نَعُوذ بالله مِنْ الْحَيْرَة والضَّلالة

(2)

.

ولعلّه اكْتَفى بما قرَّره هنا عن بَحْث الْمَسْألَة في آيَة "الأعراف"، فإنه أطَال في ذِكْر قِصَّة مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وكَيْف تَجَلَّى الله للجَبَل، وذِكْر مَا وَرَد في ذلك

(3)

.

وفي آيَة "المطففين" قال ابن جرير: يقول تَعالى ذِكْرُه: مَا الأمْر كَمَا يَقُول هَؤلاء الْمُكَذِّبُون بِيومِ الدِّين مِنْ أنَّ لَهم عند الله زُلْفة: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فَلا يَرَونَه، ولا يَرَون شَيئًا مِنْ كَرَامَتِه يَصِل إليهم.

وقد اخْتَلَف أهْل التَّأوِيل في مَعْنَى قَوله: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)؛ فَقَال بَعْضُهم: مَعْنَى ذَلك: إنَّهم مَحْجُوبُون عن كَرَامَتِه.

(1)

الحديث مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة. البخاري (ح 7000)، ومسلم (ح 182)، ومن حديث أبي سعيد الخدري: البخاري (ح 7001)، ومسلم (ح 183)، ومن حديث جرير: البخاري (ح 6997).

(2)

جامع البيان، مرجع سابق (9/ 459، 469) باختصار.

(3)

انظر: جامع البيان، مرجع سابق (10/ 418 - 427).

ص: 654

وقال آخَرُون: بل مَعْنَى ذلك: إنَّهم مَحْجُوبُون عن رُؤيَة رَبِّهم.

وأوْلَى الأقْوَال في ذلك بِالصَّوَاب أن يُقَال: إنَّ الله تعالى ذِكْرُه أخْبَر عن هَؤلاء القَوْم أنَّهم عن رُؤيَتِه مَحْجُوبُون.

ويُحْتَمَل أن يَكُون مُرَادًا به الْحِجَاب عن كَرَامَتِه، وأن يَكُون مُرَادًا به الْحِجَاب عن ذلك كُلِّه، ولا دَلالة في الآيَة تَدُلّ على أنه مُرَاد بِذلك الْحِجَاب عن مَعْنَى مِنه دُون مَعْنَى، ولا خَبَر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَامَتْ حُجَّتُه.

فَالصَّوَاب أن يُقَال: هُمْ مَحْجُوبُون عَنْ رُؤيَتِه وعَن كَرَامَتِه، إذ كان الْخَبَر عَامًّا لا دَلالة على خُصُوصِه

(1)

.

وقَوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) يَقُول تَعَالى ذِكْرُه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يَعْنِي يَوْم القِيَامَة (نَاضِرَةٌ) يَقُول: حَسَنَة جَمِيلَة، مِنْ النَّعِيم، يُقَال مِنْ ذلك: نَضُر وَجْه فلان، إذا حَسُن مِنْ النِّعْمَة، ونَضَّر الله وَجْهه، إذا حَسَّنَه كَذلك.

وقَوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) اخْتَلَف أهْل التَّأوِيل في تَأوِيل ذلك؛ فَقَال بَعْضُهم: مَعْنَى ذلك أنها تَنْظُر إلى رَبِّها.

وقال آخَرُون: بل مَعْنَى ذلك أنَّها تَنْتَظِر الثَّوَاب مِنْ رَبِّها.

وأوْلى القَوْلَين في ذلك عِندنا بِالصَّوَاب

أنَّ مَعْنَى ذَلك: تَنْظُر إلى خَالِقِها، وبذلك جَاء الأثَر عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وبِهَذا جَمَع ابن الجوزي بَيْن آيَتي "الأنعام" و"القيامة"، فَقَال: قَوله تَعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) في الإدْرَاك قَوْلان:

أحَدُهما: أنه بِمَعْنَى الإحَاطَة.

والثَّاني: بِمَعْنَى الرُّؤيَة.

(1)

جامع البيان، مرجع سابق (24/ 204 - 206) باختصار.

(2)

المرجع السابق (23/ 506 - 510) باختصار.

ص: 655

وفي "الأبْصَار" قَوْلان:

أحَدهما: أنَّها العُيون، قَاله الْجُمْهُور.

والثَّاني: أنها العُقُول.

فَفِي مَعْنَى الآيَة ثَلاثَة أقْوَال:

أحَدُها: لا تُحِيط بِه الأبْصَار

وقال الزجاج مَعْنَى الآيَة: الإحَاطَة بِحَقِيقَتِه، وليس فيها دَفْع للرُّؤيَة، لِمَا صَحّ عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الرُّؤيَة، وهَذا مَذْهَب أهْل السُّنَّة والعِلْم والْحَدِيث.

والثَّاني: لا تُدْرِكه الأبْصَار إذا تَجَلَّى بِنُورِه الذي هو نُورُه.

والثَّالِث: لا تُدْرِكُه الأبْصَار في الدُّنيا.

وَحَمَل ابن الجَوزي الْمُطْلَق على الْمُقَيَّد، فَرَجَّح أن الرُّؤيَة الْمَنْفِيَّة في الدُّنيا، حيث قال: ويَدُلّ على أنَّ الآيَة مَخْصُوصَة بِالدُّنيا قَوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). فَقَيَّد النَّظَر إليه بِالقِيَامَة، وأطْلَق في هَذه الآيَة، والْمُطْلَق يُحْمَل على الْمُقَيَّد

(1)

.

وأكَّد ذلك في آيَة "الأعراف"، فَقَال: قَوله تَعالى: (قَالَ لَنْ تَرَانِي) تَعَلَّق بِهذا نُفَاة الرُّؤيَة، وقَالُوا:(لن) لِنَفْي الأبَد، وذلك غَلَط، لأنَّها قد وَرَدَتْ ولَيس الْمُرَاد بِها الأبَد في قَولِه:(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)[البقرة: 95]، ثم أخْبَر عنهم بِتَمَنِّيه في النَّار بِقَولِه:(يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف: 77]، ولأنَّ ابن عباس قَال في تَفْسِيرِها: لن تَرَاني في الدُّنيا.

وقال غيره: هذا جَوَاب لِقَول مُوسَى: أرِنِي، ولم يُرِد أرِني في الآخِرَة، وإنَّمَا أرَادَ في الدُّنيا، فأُجِيب عَمَّا سَأل.

وقال بَعْضُهم: لن تَرَاني بِسُؤالِك.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 98، 99).

ص: 656

وفي هَذه الآيَة دَلالة على جَوَاز الرُّؤيَة، لأنَّ مُوسَى مع عِلْمِه بِالله تعالى سَألَها، ولو كَانت مِمَّا يَسْتَحِيل لَمَا جَاز لِمُوس أن يَسْألَها، ولا يَجُوز أن يَجْهَل مُوسَى مِثل ذلك، لأنَّ مَعْرِفَة الأنبياء بِالله لَيس فيها نَقْص، ولأنَّ الله تعالى لم يُنْكِر عليه الْمَسْألَة، وإنَّمَا مَنَعَه مِنْ الرُّؤيَة، ولو اسْتَحَالَتْ عليه لَقَال: لا أُرَى

(1)

. ألا تَرى أنَّ نُوحًا لَمَّا قَال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)[هود: 45] أنْكَر عليه بِقَولِه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)[هود: 46]، ومِمَّا يَدُلّ على جَواز الرُّؤيَة أنه عَلَّقَها بِاسْتِقْرَار الْجَبَل، وذلك جَائز غير مُسْتَحِيل، فَدَلّ على أنَّها جَائزَة، ألَا تَرَى أنَّ دُخُول الكُفَّار الْجَنَّة لَمّا اسْتَحَال عَلَّقَه بِمُسْتَحِيل؟ فَقَال:(حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[الأعراف: 40]

(2)

.

ويَرَى ابن الجوزي أنَّ قَوله: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) اسْتِئْنَاف، حَيث يَقُول: ثم اسْتَأنَف (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال ابن عباس: إنَّهم عن النَّظَر إلى رَبِّهِمْ يَومَئذٍ لَمَحْجُوبُون، والْمُؤمِن لا يُحْجَب عن رُؤيَتِه. وقال مَالك بن أنس: لَمَّا حَجَب أعْدَاءه فلم يَرَوه تَجَلَّى لأوْلِيائه حَتى رَأَوْه. وقَال الشافعي: لَمَّا حَجَب قَومًا بالسُّخْط دَلّ على أنَّ قَومًا يَرَوْنَه بِالرِّضَا. وقال الزَّجّاج: في هَذه الآيَة دَلِيل على أنَّ الله عز وجل يُرَى في القِيَامَة، ولَولا ذلك مَا كان في هَذه الآيَة فَائدَة، ولا خَسَّتْ مَنْزِلَة الكُفَّار بِأنَّهم يُحْجَبُون عن رَبِّهم ثم مِنْ بَعْد حَجْبِهم عن الله يَدْخُلُون النَّار؛ فَذَلك قَوله تَعالى:(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ)[المطففين: 16]

(3)

.

وهذا ما قرَّرَه في آيَة "القيامة"، إذ يَقُول: قَوله تَعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) أي: مُشْرِقَة بِالنَّعِيم. (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) رَوى عَطاء عن ابن عباس قال: إلى الله نَاظِرَة. قال

(1)

انظر مناقشة نفاة الرؤية بتوسع في "شرح العقيدة الطحاوية"(ص 206 وما بعدها).

(2)

زاد المسير، مرجع سابق (3/ 256).

(3)

المرجع السابق (9/ 56، 57).

ص: 657

الْحَسَن: حُقَّ لَها أن تُنَضَّر وهي تَنْظُر إلى الْخَالِق، وهذا مذهب عكرمة. ورُؤيَة الله عز وجل حَقّ لا شَكّ فِيها، والأحَادِيث فِيها صِحَاح

(1)

.

‌رأي الباحث:

لا تَعَارُض بَيْن نَفْي إحَاطَة الأبْصَار بِه سبحانه وتعالى وبَيْن إثْبَات الرُّؤيَة؛ لأنَّ الرُّؤيَة لا تَقْتَضِي الإحَاطَة.

ألا تَرَى أنَّ الرَّائي للجَبَل يَرَاه ولا يُحِيط بَصَرُه بِالْجَبَل. ولله الْمَثَل الأعْلَى؛ فهو سبحانه وتعالى أعظَم وأجَلّ مِنْ أن تُحِيط بِه الأبْصَار.

وقد "اتَّفَقَتِ الأمَّة على أنه لا يَرَاه أحَدٌ في الدُّنيا بِعَينِه، ولم يَتَنَازَعُوا في ذلك إلَّا في نَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم خَاصَّة"

(2)

، والْجُمْهُور على أنَّها رُؤيَة قَلْبِيَّة

(3)

، فقد سُئل عليه الصلاة والسلام: هَلْ رَأيْتَ رَبَّك؟ فقال: نُوْرٌ أنَّى أَرَاه

(4)

.

وقَالتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمًّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ في صُورَتِه، وَخَلْقُهُ سَادّ مَا بَيْنَ الأُفُق

(5)

.

وقالتْ: مَنْ حَدَّثَك أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

(6)

.

(1)

زاد المسير، مرجع سابق (8/ 422، 423).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية، مرجع سابق (ص 213).

(3)

انظر لهذه المسألة: كتاب "السنة"، ابن أبي عاصم (1/ 188 وما بعدها)، و"الإيمان"، ابن منده، مرجع سابق (2/ 760 وما بعدها)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مرجع سابق (3/ 512 وما بعدها)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية"، مرجع سابق (6/ 507 وما بعدها).

(4)

رواه مسلم (ح 178).

(5)

رواه البخاري (ح 3062).

(6)

رواه البخاري (ح 4574)، ومسلم (ح 177).

ص: 658

وأمَّا مَا اسْتَدَلّ به نُفَاة الرُّؤيَة مِنْ قَولِه تَعالى لِمُوسَى: (لَنْ تَرَانِي)، فَذلك مُخْتَصّ بِالدُّنيا، إذ لَم يُخْلَق الْخَلْق فِيها للبَقَاء، ويَدُلّ عليه قَوله عليه الصلاة والسلام: لَنْ يَرَى أحَدُكُم رَبَّه حَتى يَمُوت

(1)

.

وجَوَاب آخَر، وهو أنَّ "قَوْله تَعَالى:(لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) الآية، لَيس بِجَوَاب مَنْ سَأل مُحَالًا، وقد قَال تَعَالى لِنُوح:(فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود: 46]، فلو سَأل مُوسَى مُحَالًا لَكَان في الكَلام زَجْرٌ مَا وتَبْيِين.

وقَولُه عز وجل: (لَنْ تَرَانِي) نَصّ مِنْ الله تَعالى على مَنْعِه الرُّؤيَة في الدُّنيا، و (لن) تَنْفِي الفِعْل الْمُسْتَقْبَل، ولو بَقِينَا مع هذا النَّفْي بِمُجَرَّدِه لَقَضَينَا أنه لا يَرَاه مُوسَى أبَدًا ولا في الآخِرَة، لكن وَرَد مِنْ جِهَة أخْرَى بِالْحَدِيث الْمُتَوَاتِر أنَّ أهْل الإيمان يَرَون الله تَعَالى يَوْم القِيَامَة، فَمُوسَى عليه السلام أحْرَى بِرُؤيَتِه"

(2)

.

وكان مِنْ سُؤَال النبي صلى الله عليه وسلم ودُعَائه: وأسْألُك لَذّة النَّظَرِ إلى وَجْهِك

(3)

.

قال ابن عبد البر: والآثَار في هَذا الْمَعْنَى كَثِيرَة جِدًّا

(4)

.

وجَوَاب أخِير، وهو "إنَّ النَّظَر لَه عِدَّة اسْتِعْمَالات بِحَسَب صِلاته وتَعَدِّيه بِنَفْسِه، فإن عُدِّي بِنَفْسِه، فَمَعْنَاه التَّوَقُّف والانْتِظَار، (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد: 13]، وإن عُدِّي بِـ (في)، فَمَعْنَاه التَّفَكُّر والاعْتِبَار، كَقَوْلِه:(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 185]، وإن عُدِّي بـ (إلى)، فَمَعْنَاه الْمُعَايَنَة بِالأبْصَار، كَقَوْلِه

(1)

رواه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة"(ح 430)، وقال الألباني: إسناده صحيح.

(2)

"المحرر الوجيز"، مرجع سابق (2/ 450).

(3)

رواه أحمد (ح 18351)، والنسائي (ح 1305).

(4)

التمهيد، مرجع سابق (7/ 157).

ص: 659

تَعَالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ)[الأنعام: 99]، فَكَيْف إذا أُضِيف إلى الوَجْه الذي هُو مَحَلّ البَصَر؟ "

(1)

وخِتَام هذا الفَصْل: فَهَذا مَا تَم الوُقُوف عليه مِمَّا له عِلاقَة بِهذا الْمَبْحَث، وهو "أثر عَقِيدة القرطبي في تَوَهُّم التَّعَارُض"، وسبَق في التَّمْهِيد بَيَان عَقِيدة القرطبي، أنه وَقَع في شيء مِنْ التَّأوِيل، ولَم يَكُنْ مُتأوِّلًا بإطْلاق.

والله تعالى أعلم.

(1)

شرح العقيدة الطحاوية، مرجع سابق (ص 205).

ص: 660

‌الخاتمة

الحمد لله الذي بِنِعْمَتِه تَتِمّ الصَّالِحَات، وقد أوْشَك هذا البحث على الانتهاء، وفيه تَمّ سَبْر أغْوَار تفسير القرطبي الْمُسَمَّى "الجامع لأحكام القرآن"، وفي جانِب مِنْ جَوانِبه؛ ألَا وهو دَفْع تَوهّم التعارُض، وقد بَرَز هذا الجانب واضِحًا جَليًّا لدى الإمام القرطبي، حيث كان له بِه عناية بالِغة.

وقد بَرَزَتْ تِلك العناية في طيّات هذا البحث مِنْ خِلال ما يلي:

أولًا: النَّسْخ. فهو يُناقش ما يتعلّق بالنسخ ويُفصِّل فيه، ويستعين به على دَفع ما يُتوهّم تَعَارُضه، و"النَّسخ إنّمَا يَكُون عِند عَدَم الْجَمْع"

(1)

.

ثانيًا: القول بالخصوص والعموم. فيُحمَل العام على الخاص، مع مُراعاة عُموم النصوص، إلّا أن القرطبي يُرجِّح بين الأقوال بِعموم قول وخصوص قول.

ثالثًا: القول بالتقديم والتأخير، وهو أحد طُرُق دفع التعارض، وقد أعْمَل القرطبي هذا الفَنّ من أفانين اللغة في دفْع توهّم التعارض.

رابعًا: اختلاف المناسبة. وذلك أن النصّ القرآني قد يَكون سِيق في سُورة أو في مَوْضِع سياقًا يختلف معناه باختلاف مناسبته، ويَدفع به القرطبي توهّم التعارض.

كما اسْتَعان القرطبي في دَفْع تَوهّم التعارُض بـ:

إيراد الأحاديث المرفوعة للجمع بين الآيات، ولِدفع توهّم التعارض.

كما دَفَع توهّم التعارض من خلال إيراد أقوال السلف في الجمع بين الآيات.

واحْتَكَم القرطبي إلى اللغة العربية وقواعدها لِدفع التعارض المتوهّم.

وقد أفاد القرطبي ممن سَبَقُوه في هذا المضمار، وأفَاد مِنه مَنْ أتَى بَعده، وهذا دَالّ على تَقدّمه في هذا الميدان، إذ كان يُعنَى بالكشف عن معنى الآية، مُضِيفًا إليه عناية بالغة في دَفْع توهّم التعارُض.

(1)

الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق (4/ 154).

ص: 661

ومِن هنا فإن الباحث في دَفْع تَوهّم التعارُض بين آي الكِتَاب ينبغي أن يُعنى بتفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن".

والكِتاب لا زال بِحَاجَة إلى مَزيد مِنْ العناية - رَغْم ما اعْتُني به - وهو بِحاجَة إلى دراسات أكاديمية لا يَقْتَصِر نَفعها على باحِثها! ولا على أرفف مكتبات الجامعات، بل يُفيد منه طُلّاب العِلْم في مشارِق الأرض ومغاربها.

وفي أثْنَاء كِتَابَة هذه الْخَاتِمَة صَدَرَتْ طَبْعة جَدِيدة مع عِناية وتَحقيق لتفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"

(1)

فأغنى ذلك عن التَّوْصِية بِخدْمة الكِتاب وتحقيقه، ذلك أنَّ الكِتاب كان بِحَاجَة إلى خِدْمة وعِناية وتَحقيق يَقوم عليه فرِيق عِلمي، وليس جُهد بَاحِث أو مُحَقق واحِد.

وأمَّا التَّوْصِيَات فَخَيْر مَا يُوصَى بِه تَقْوَى الله.

ووصية أخيرة لِمَنْ أرَاد أن يَأخذ العِلْم بِمَجَامِعِه، ويَأخُذ مِنْ كُلّ فَنٍّ بِطَرَف؛ فَعَلَيْه بِعِلْم التَّفْسِير وذلك لارْتِبَاطِه بأشْرَف العُلُوم وأصْلِها، ولِكَونه أصْل الاسْتِدْلال.

وقد رأيت رسائل عِلْمِيَّة بَحَثَتْ مَسَائل في التفسير، فَمَا خَرَج مِنها أصْحَابُها إلَّا وقد أبْحَرُوا في عُلُوم شَتَّى؛ مِنْ عَقِيدة وحَدِيث، وفِقْه وأُصُول، نَاهِيك بِمَا يُلِمّ بِه مِنْ فَهْمٍ لِكِتاب الله، وإلْمَام بِمعانيه وعُلُومه.

أخيرًا

فإنه لا يَزَال في القَوْس مَنْزَع، وفي الكِنَانَة أهْزَع

(2)

، فلا يَزَال كِتَاب "الْجَامِع لأحْكَام القُرْآن" تَفِيض جَوَانِبه، ويَرْتَوِي وارِدُه، ولا يَزَال الكِتَاب مُفْتَقِرًا إلى تَجْلِيَة غَوَامِضِه، واكْتِشَاف مَكنُونَاتِه، والغَوْص على دُرَرِه، فهو بَحْر لا تُكَدِّرُه الدِّلاء، ومَنْهَل لا تَمَلُّه العُلَمَاء.

لا يَزال هذا الْجَانِب - دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض - بِحَاجَة إلى جَمْع واسْتِقْصَاء، وإضَافَة كِتَاب إلى الْمَكْتَبَة الإسْلامِيَّة، يَشُدّ عَضُد أخِيه! "دَفْع إيهَام الاضْطِرَاب".

(1)

صدرت عن دار هجر، بتحقيق عبد الله التركي.

(2)

انظر: أساس البلاغة، الزمخشري (ص 701).

ص: 662

وفي ظَنِّي - مِنْ خلال مُعَايَشَة "الجامع لأحكام القرآن"، والسَّفَر مَعَه وإلَيه - أنه لَو جُمِع مَا فِيه مِنْ مَادَّة عِلْمِيَّة - في دَفْع تَوَهُّم التَّعَارُض - لَجَاء في مُجلَّد يُضَاهِي كِتَاب الشنقيطي

(1)

.

ومِمَّا يُوصَى به أن تَشُدّ لِجَان الْمُناقَشَة مِنْ أزْرِ كُلّ باحِث وباحِثَة، وحَثّهم على طِبَاعَة بُحُوثِهم، وأن يُطْلَق إسَارُها من أرْفُف مَكْتَبَات الدِّرَاسَات والبحوث الْجَامِعِيَّة، والتي تَبْقَى مَحْدُودَة الفَائدَة، حَبِيسَة الْجُدْرَان!

فَقد سَمِعْنا وقَرَأنا عن رَسَائل قَيِّمَة، وبُحُوث فَرِيدَة، ولكنها لَم تَرَ النُّور بَعْد.

وكَثِيرًا ما يَحْتَاج إليها البَاحِثُون فلا يُمْكِن الوُصُل إلَّا لِفئة محدودة منهم.

والله نسأل أن يَجعل أعْمَالَنا في رِضَاه، وأن يَجْعَلَها خَالِصَة لِوَجْهِه الكَرِيم.

(1)

لم أعتبر بعض الكُتُب التي بحثت مُتشابه القرآن، مما سبقت إليها الإشارة في "الفصل الأول - المبحث الرابع: اختلاف المناسبة" (ص 181) من هذا البحث؛ لأنها تُعني بجانب المتشابه، وليس بجانب ما يتوهم تعارضه.

ص: 663

‌ثبت المراجع

الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ط. المكتبة العصرية، بيروت، 1424.

الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، الزركشي، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1390، تحقيق: سعيد الأفغاني.

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن القيم، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1404.

الآحاد والمثاني، ابن أبي عاصم، ط. دار الراية، الرياض، الأولى، 1411، تحقيق: باسم الجوابرة.

الأحاديث المختارة، الضياء المقدسي، ط. مكتبة النهضة الحديثة، مكة، الأولى، 1410، تحقيق: عبد الملك بن دهيش.

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ابن بلبان، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية، 1414، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.

أحكام أهل الذِّمة، ابن القيم، ط. دار ابن حزم، بيروت، الأولى، 1418، تحقيق: يوسف البكري، شاكر توفيق.

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405.

اختلاف المفسرين - أسبابه وآثاره -، سعود الفنيسان، ط. دار أشبيليا، الرياض، الأولى، 1418.

آداب الحسن بن أبي الحسن البصري، ابن الجوزي، ط دار المعراج الدولية، الرياض، الأولى 1414، تحقيق: سليمان الحرش.

الآداب الشرعية، ابن مفلح، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1417، تحقيق: أيمن بن عارف الدمشقي.

الأدب المفرد، البخاري، ط. دار البشتر، بيروت، الثالثة، 1409، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، الشوكاني، ط. مكتبة الباز، مكة، الرابعة، 1414، تحقيق: أبي مصعب البدري.

ص: 664

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الألباني، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الأولى، 1399.

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، ابن عبد البر الثمري. ط. دار قتيبة ودار الوعي. الأولى، 1414، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، و ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى: 2000 م، تحقيق: سالم محمد عطا، ومحمد علي معوّض.

الاستيعاب، ابن عبد البر، ط. دار الجيل، بيروت، الأولى، 1412، تحقيق: علي بن محمد البجاوي.

الإسرائليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، مصر، الرابعة، 1408.

الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، القرطبي، ط. دار الصحابة، طنطا، 1416، تحقيق: محمد جبل.

أشراط الساعة، عبد الله الغفيلي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، الأولى، 1421.

الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر. ط. دار الكتب العلمية، لبنان، الأولى، 1415، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوّض.

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ط. دار الكتب العلمية، الثانية، 1424، تخريج: محمد بن عبد العزيز الخالدي.

الاعتقاد، البيهقي، ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت، الأولى، 1401، تحقيق: أحمد عصام الكاتب.

اعتقاد الإمام المبجل أحمد بن حنبل، ابن أبي يعلى، ط. دار المعرفة، بيروت، تحقيق: محمد حامد الفقي.

اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث، محمد الخميس، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1419.

الإعجاز العلمي في الإسلام - "القرآن الكريم"، محمد كامل عبد الصمد، ط، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، السادسة، 1424.

الإعلام، الزركلي، ط. دار العلم للملايين، بيروت، السادسة، 1404.

اعلام الموقّعين، ابن القيم، ط. دار الجيل، بيروت، 1973 م، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد.

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، تأليف الإمام عمر بن علي (ابن الملقن)، ط. دار العاصمة، الأولى 1417، تحقيق: عبد العزيز المشيقح.

ص: 665

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن القيم، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية، 1395، تحقيق: محمد حامد الفقي.

الأغاني، الأصفهاني، ط. دار الفكر، لبنان، تحقيق: علي مهنا، وسمير جابر.

أقاويل الثقات، مرعي الحنبلي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى، 1406، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.

الإكمال، ابن ماكولا، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411.

إكمال إكمال المعلم، تأليف الإمام محمد بن خليفة الأبّي، ط. دار الكتب العلمية، الأولى 1415.

الأم، الشافعي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية، 1393.

الإمام القرطبي شيخ أئمة التفسير، مشهور بن حسن، ط. دار القلم، دمشق، الأولى، 1413.

الإيمان، ابن تيمية، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، خرج أحاديثه: الألباني.

الإيمان، ابن منده، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية، 1406، تحقيق: علي بن محمد الفقيهي.

الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1415، تحقيق: علي بن حسن الحلبي.

بحر العلوم، السمرقندي، ط. دار الفكر، بيروت، تحقيق: محمود مطرجي.

بدائع الفوائد، ابن القيم، ط. مكتبة نزار الباز، مكة، الأولى، 1416، تحقيق: هشام عبد العزيز، عادل عبد الحميد، أشرف أحمد.

البداية والنهاية، ابن كثير، ط. دار هجر، مصر، الأولى، 1417، تحقيق عبد الله التركي.

البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.

البرهان في متشابه القرآن، الكرماني، ط. دار الوفاء، المنصورة، الثانية، 1418، بعناية: أحمد عز الدين عبد الله خلف الله.

بغية المرتاد، ابن تيمية، ط. مكتبة العلوم والحكم، المدينة، الأولى، 1408، تحقيق: موسى الدويش.

ص: 666

بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، ط. مطبعة الحكومة، مكة، الأولى، 1392، تحقيق: محمد ابن عبد الرحمن بن قاسم.

البيان والتبيين، الجاحظ، ط. دار صعب، بيروت، تحقيق: فوزي عطوي.

البيان والتعريف، الحسيني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1401، تحقيق: سيف الدين الكاتب.

تاريخ أصبهان، أبو نعيم، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1410، تحقيق: سيد كسروي حسن.

تاريخ الأمم والملوك، الطبري، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

التاريخ الكبير، البخاري، ط. دار الفكر، تحقيق: السيد هاشم الندوي.

تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت، 1995 م، تحقيق: عمر بن غرامة العمري.

التبيان في آداب حملة القرآن، النووي، ط. الوكالة العامة، دمشق، الأولى، 1403.

تبيين كذب المفتري، ابن عساكر، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الثالثة، 1404.

تحرير ألفاظ التنبيه، النووي، دار القلم، دمشق، الأولى، 1408، تحقيق: عبد الغني الدقر.

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، المزي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الأولى، 1422.

تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف، الزيلعي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424، عناية: سلطان الطبيشي.

تدريب الراوي في شرح تقريب النوواي، السيوطي، ط، دار الكتاب العربي، بيروت، 1409، تحقيق أحمد عمر هاشم.

تذكرة الحفاظ، الذهبي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى.

التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ط. دار الكتاب العربي، لبنان، الرابعة، 1403.

التعبير القرآني، فاضل السامرائي، ط. دار عمار، الأردن، الثالثة، 1425.

التعريفات، الجرجاني، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى، 1405، تحقيق: إبراهيم الأبياري.

ص: 667

التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ط. دار الفكر المعاصر، بيروت، دمشق، الأولى، 1410، تحقيق: محمد رضوان الداية.

تفسير ابن أبي حاتم، ابن أبي حاتم، ط. المكتبة العصرية، صيدا، تحقيق: أسعد الطيب.

تفسير أبي السعود، أبو السعود العمادي، ط. دار إحياء التراث، بيروت.

تفسير القرآن، السمعاني، ط. دار الوطن، الرياض، الأولى، 1418، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس.

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، الأولى، 1425 وط. دار الفكر، بيروت، 1401.

التفسير الكبير، الرازي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1421.

تفسير عبد الرزاق، عبد الرزاق الصنعاني، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1410، تحقيق: مصطفى مسلم.

التفسير والمفسرون، محمد بن حسين الذهبي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424.

تقريب التهذيب، ابن حجر، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1416، تحقيق: صغير أحمد شاغف الباكستاني.

التكملة لكتاب الصلة، القضاعي، ط. دار الفكر، لبنان، 1415، تحقيق: عبد السلام هراس.

التلخيص الحبير، ابن حجر، ط. مكتبة ابن تيمية، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، ط. وزارة عموم الأوقاف، المغرب، 1387، تحقيق: مصطفى العلوي، ومحمد البكري.

تنزيه الشريعة، ابن عراق الكناني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1401، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الله محمد الصديق.

تهذيب الآثار، ابن جرير، ط. مطبعة المدني، القاهرة، تحقيق: محمود شاكر.

تهذيب التهذيب، ابن حجر، ط. دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1417، تحقيق: خليل مأمون شيحا وآخرون.

تهذيب الكمال، المزي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى، 1401، تحقيق: بشار عواد معروف.

تهذيب وترتيب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تهذيب وترتيب: محمد بن عمر بازمول. ط. دار الهجرة، السعودية، الأولى، 1412.

ص: 668

تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله، ط. مكتبة الرياض، الرياض.

تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1421، تحقيق: ابن عثيمين.

الثقات، ابن حبان، ط. دار الفكر، الأولى، 1395، تحقيق: السيد شرف الدين أحمد.

ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، التعالي، ط. دار المعارف، القاهرة.

الجامع، معمر بن راشد، ط. ملحق بمصنف عبد الرزاق، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1403، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري. ط. دار هجر، الأولى، 1422، تحقيق: عبد الله التركي.

جامع الترمذي، تأليف الإمام محمد بن عيسى الترمذي. ط. دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: أحمد شاكر.

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه، تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري. ط. دار ابن كثير ودار اليمامة. الثالثة 1407، تحقيق: مصطفى البغا.

جامع العلوم والحكم، ابن رجب، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، السابعة، 1417، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس.

الجامع لأحكام القرآن، القرطبي. ط. دار الكتب العلمية. الطبعة الرابعة، 1422، تحقيق:

عبد الرزاق المهدي. و ط. دار الشعب، القاهرة.

جزء الحسن بن عرفة، الحسن بن عرفة، ط. مكتبة دار الأقصى، الكويت، الأولى، 1406، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، ط. علي السيد صبح المدني.

الجواهر الحسان، الثعالبي، ط. مؤسسة الأعلمي، بيروت.

حجة القراءات، ابن زنجلة، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الخامسة، 1422، تحقيق: سعيد الأفغاني.

الحدود الأنيقة، زكريا الأنصاري، ط. دار الفكر المعاصر، بيروت، الأولى، 1411، تحقيق: مازن المبارك.

حلية الأولياء، أبو نعيم، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الرابعة، 1405.

ص: 669

خلاصة البدر المنير، ابن الملقن، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1410، تحقيق: حمدي السلفي.

الداء والدواء " الجواب الكافي "، ابن القيم، ط. دار ابن الجوزي، الدمام، الأولى، 1416، تحقيق: علي بن حسن الحلبي.

الديباج المذهب، ابن فرحون، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ط. دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391، تحقيق: محمد رشاد سالم.

درة التنزيل وغرة التأويل، الخطيب الإسكافي، ط. دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1422، اعتنى به: خليل مأمون شيحا.

دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة، صلاح الدين مقبول أحمد، ط. مجمع البحوث العلمية، الهند، الأولى، 1412.

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي، ط. دار الكتب العلمية بيروت، الثانية، 1424، ملحق بتفسير أضواء البيان.

دلائل الإعجاز، الجرجاني، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى، 1415، تحقيق: التنجي.

ذم التأويل، ابن قدامة، ط. الدار السلفية، الكويت، الأولى، 1406، تحقيق: بدر البدر.

رؤية الله، الدراقطني، ط. مكتبة القرآن، القاهرة، تحقيق: مبروك إسماعيل مبروك.

رؤية الله تبارك وتعالى، ابن النحاس، ط. دار المعراج الدولية، الرياض، الأولى، 1416، تحقيق علاء الدين علي رضا.

رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، الصنعاني، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1405، تحقيق: الألباني.

رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية، ط. الجامعة الإسلامية، المدينة، الخامسة، 1396.

الروح، ابن القيم، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1395.

روح المعاني، الألوسي، ط. دار إحياء التراث، بيروت.

زاد المسير، ابن الجوزي، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة، 1404.

زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، ط مؤسسة الرسالة، بيروت، الخامسة عشر، 1407، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط.

ص: 670

زاد المهاجر، ابن القيم، ط. مكتبة المدني، جدة، تحقيق: محمد جميل غازي.

الزهد، أحمد بن حنبل، ط. دار الريان، القاهرة، الثانية، 1408، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد.

الزهد، هنّاد، ط. دار الخلفاء، الكويت، الأولى، 1406، تحقيق: عبد الرحمن الفريوالي.

سر الفصاحة، الخفاجي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1402.

السنة، عبد بن الله أحمد بن حنبل، ط. رمادي للنشر، الدمام، الثانية، 1414، تحقيق: محمد بن سعيد القحطاني.

سلسة الأحاديث الصحيحة، الألباني، ط. مكتبة المعارف، الرياض، 1415.

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الأولى، 1412.

السنة، ابن أبي عاصم، ط. المكتب الإسلامي، الثانية، 1405، تحقيق: الألباني.

سنن ابن ماجه، ط. دار الفكر، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

سنن أبي داود. تأليف الإمام سليمان بن الأشعث السجستاني. ط. المكتبة العصرية، صيدا.

سنن الدارقطني، الدارقطني، ط. دار المعرفة، بيروت، 1386، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني.

السنن الكبرى، البيهقي. ط. مكتبة دار الباز، مكة، 1414، تحقيق: محمد عبد القادر عطا.

السنن الكبرى، النسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411، تحقيق: عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي.

سنن النسائي، النسائي، ط. مكتب المطبوعات، حلب، الثانية، 1406، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة.

سنن سعيد بن منصور، سعيد بن منصور، ط. الدار السلفية، الهند، الأولى، 1403، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، وط. دار العصيمي، الرياض، الأولى، 1414، تحقيق: سعد الحميِّد.

سير أعلام النبلاء، الذهبي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، التاسعة، 1413، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرون.

السيرة النبوية (سيرة ابن هشام)، ابن هشام، ط مكتبة المنار، الأردن الأولى، 1409، تحقيق: همام عبد الرحيم، ومحمد أبو صعيليك.

ص: 671

السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رزق الله، ط. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، الأولى، 1412.

شرح ابن بطال على صحيح البخاري، ابن بطال، ط. دار الكتب العلمية، الأولى، 1424، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا.

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ابن عقيل العقيلي، ط. دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1422، تحقيق: أحمد طعمة حلبي.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي، ط. دار طيبة، الثانية، 1411، تحقيق: أحمد سعد حمدان.

شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، الزرقاني، ط. دار الفكر، 1355.

شرح السنة، البربهاري، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة، الأولى، 1414، تحقيق: خالد الردادي.

شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة، 1391، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1418، تحقيق: أحمد شاكر.

شرح الكوكب المنير، ابن النجار، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424، تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد.

شرح سنن ابن ماجه، السندي، دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1416، تحقيق: خليل مأمون شيحا. (مطبوع بحاشية سنن ابن ماجه).

شرح قطر الندى وبل الصدى، ابن هشام، ط. المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الرابعة، 1421، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

شرح لمعة الاعتقاد، ابن عثيمين، ط. مكتبة الإمام البخاري، مصر، الثانية، 1412، تحقيق وتخريج: أشرف عبد المقصود.

شرح مختصر الروضة، الطوفي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1419.

شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغدادي، ط. دار إحياء السنة، أنقرة، تحقيق د. محمد سعيد أوغلول.

شعب الإيمان، البيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1410، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تأليف: ابن القيم، ط. مكتبة السوادي جدة، الأولى، 1421، تحقيق: مصطفى أبو النصر الشلبي.

ص: 672

صحيح ابن خزيمة، ابن خزيمة، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الثانية، 1412، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي.

صحيح الجامع الصغير وزيادته، الألباني، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1406.

صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ط. دار النفائس، الأردن، الثانية، 1416.

صحيح سنن ابن ماجه، الألباني، ط. مكتب التربية العربي، الرياض، الثالثة، 1408.

صحيح سنن أبي داود، الألباني، ط. مكتب التربية العربي، الرياض، الأولى، 1409.

صحيح مسلم، تأليف الإمام مسلم بن الحجاج القشيري. ط. دار الحديث، الأولى، 1412، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، علوي السقاف، ط. دار الهجرة، الثقية، الرياض، الأولى، 1414.

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن القيم، ط. دار العاصمة، الرياض، 1418، تحقيق: علي الدخيل الله.

ضعيف سنن ابن ماجه، الألباني، ط مكتب التربية العربي، الرياض.

ضوابط الترجيح عند وقوع التعارض، بنيونِس الولي، ط. مكتبة أضواء السلف، الرياض، الأولى، 1425.

الطبقات الكبرى، ابن سعد، ط. دار صادر، بيروت.

طبقات المفسرين، الداودي، ط. دار العلوم والحكم، المدينة، الأولى، 1417 تحقيق: سليمان الخزي.

طبقات المفسرين، السيوطي، ط. مكتبة وهية، مصر، الأولى، 1396، تحقيق: علي محمد عمر.

طرح التثريب، العراقي وابنه، ط. مكتبة نزار الباز، مكة، الثانية، 1420، تحقيق: حمدي الدمرداش.

العظمة، أبو الشيخ الأصبهاني، ط. دار العاصمة، الرياض، الأولى، 1408، تحقيق: رضاء الله المباركفوري.

العقيدة الأصفهانية، ابن تيمية، ط. مكتبة الرياض، الأولى، 1415، تحقيق: إبراهيم سعيداي.

ص: 673

عقيدة السلف وأصحاب الحديث، إسماعيل الصابون، الأولى، 1413، تحقيق: نبيل السبكي.

عقيدة الفرقة الناجية، محمد بن عبد الوهاب، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة، 1397.

العلل المتناهية، ابن الجوزي، ط. دار الكتب العلمية، الأولى، 1403، تحقيق: خليل الميس.

عمدة القاري، العيني، ط. دار إحياء التراث، بيروت.

عون المعبود، العظيم أبادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1995 م.

غريب الحديث، ابن الجوزي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405، تحقيق: عبد المعطي قلعجي.

غريب الحديث، ابن قتيبة، ط. مطبعة العاني، بغداد، الأولى، 1397، تحقيق: عبـ الله الجبوري.

غريب الحديث، الخطابي، ط. جامعة أم القرى، مكة، 1402، تحقيق: عبد الكريم العزباوي.

الغنية عن الكلام وأهله، الخطابي، ط. مؤسة الرسالة ودار البشير، عناية: عمر حسن القيام.

فائدة جليلة في قواعد الأسماء الحسنى، ابن القيم، مستَلَّة من " بدائع الفوالد "، ط. دار الإمام مالك، الرياض، الأولى، 1416، تحقيق: عبد الرزاق البدر.

الفائق في غريب الحديث، الزمخشري، ط دار المعرفة، لبنان، الثانية، تحقيق: علي بن محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم.

الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، ط. دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1386، تحقيق: حسين محمد مخلوف.

فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، محمد بن إبراهيم، ط. مطبعة الحكومة، مكة. 1399.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تأليف الحافظ أحمد بن علي العسقلان، ط. تحقيق: عبد القادر شيبة الحمد. وط. دار المعرفة، بيروت، تحقيق: محب الدين الخطيب.

الفتح السماوي، المناوي، ط. دار العاصمة، الرياض، تحقيق: أحمد مجتبى.

فتح القدير، الشوكاني، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424.

فتح المغيث، السخاوي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1414، تحقيق: صلاح محمد عويضة.

ص: 674

الفصل في الملل والنحل، ابن حزم، ط. مكتبة الخانجي، القاهرة.

الفوائد، ابن القيم، ط. دار اليقين، مصر، الثانية، 1418، تحقيق: ماهر منصور، وكمال على الجمل.

الفوائد المجموعة، الشوكاني، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: عبد الرحمن بن يحي المعلمي.

القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الأولى، 1422.

قصة المسيح الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، الألباني، ط. المكتبة الإسلامية، الأردن، الأولى، 1421.

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن، تأليف: عبد الرحمن السعدي. ط دار ابن الجوزي، السعودية، الثانية، 1421، تحقيق: خالد بن عثمان السبت.

القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، ابن عثيمين، ط. مكتبة السنة، الأولى، 1411، تحقيق وتخريج: أشرف عبد المقصود.

الكاشف، الذهبي ط. دار القبلة للثقافة، جدة، الأولى، 1413، تحقيق: محمد عوامة.

الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت، الثالثة، 1409، تحقيق: يحيى مختار غزاوي.

كتاب الصفات، الحازمي، ط. دار الطحاوي، الأولى، 1415، تحقيق: عبد الحميد نشاطي.

كتاب العرش، ابن أبي شيبة العبسي، ط. مكتبة المعلا، الكويت، الأولى، 1406، تحقيق: محمد بن حمد الحمود.

كتاب العلو للعلي العظيم، وإيضاح صحيح الأخبار من سقيمها، الذهبي، ط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424، تحقيق: عبد الله البراك. وط. مكتبة أضواء السلف، الرياض، الأولى، 1416، تحقيق: أشرف عبد المقصود.

الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، ط: دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1423، عناية وتخريج: خليل مامون شيحا. (ومعه تعليقات كتاب "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال "، ابن المثير المالكي).

كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار، علي الحربي اليماني، ط. دار طيبة، مكة، الأولى.

كشف الخفا، العجلوني، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الرابعة، 1405، تحقيق: أحمد القلاش.

ص: 675

كشف الظنون، حاجي خليفة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1413.

كشف المعاني في المتشابه والمثاني، ابن جماعة، ط. دار الشريف، الرياض، الأولى، 1420، تحقيق: مرزوق على إبراهيم.

الكشف والبيان، الثعلبي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الأولى، 1422، تحقيق: علي بن عاشور.

الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ط. المكتبة العلمية، المدينة، تحقيق: أبو عبد الله السورقي، وإبراهيم حمدي.

كلمة الإخلاص، ابن رجب، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الرابعة، 1397، تحقيق: زهير الشاويش.

الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الثقات، ابن الكيال، ط. المكتبة الإمدادية، الثانية، 1420، تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبي.

اللآلاء المصنوعة، السيوطي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1417، تخريج: صلاح بن محمد عويضة.

لسان العرب، ابن منظور الأفريقي. ط. دار صادر، بيروت، الأولى. وط. وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، 1424.

لسان الميزان، ابن حجر، ط. دار الكتب العلمية، لبنان، الأولى، 1416، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوّض.

المبسوط في القراءات العشر، الأصبهاني، ط. دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، بيروت، الثانية، 1408، تحقيق: سُبيع حمزة حكمي.

متن القصيدة النونية، (الشافية الكافية)، ابن القيم، ط. مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الأولى، 1415.

المجروحين، ابن حبان، ط. دار الوعي، حلب، الأولى، 1396، تحقيق: محمد إبراهيم زايد.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي، ط. دار الريان للتراث، بروت، القاهرة، 1407.

المجموع شرح المهذب، تأليف الإمام محيي الدين بن شرف النووي. ط. دار إحياء التراث العربي. الأولى 1422، تحقيق وتكميل: محمد نجيب المطبعي.

مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه، ط، مجمع الملك فهد، 1416.

ص: 676

محاسن التأويل (تفسير القاسمي) تأليف: جمال الدين القاسمي. ط. دار الحديث، 1424، تحقيق: أحمد بن علي وحمدي صبح.

المحرر الوجيز في التفسير الكتاب العزيز، تأليف: القاضي ابن عطية، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1413، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد.

المحلى، ابن حزم، ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي.

مختار الصحاح، الرازي، ط. مكتبة لبنان، بيروت، 1415، تحقيق: محمود خاطر.

مدار السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن القيم، ط. دار طيبة، الرياض، الأولى، 1423، تحقيق عبد العزيز بن ناصر الجليل.

مدارك التنزيل وحقائق التأويل، النسفي، ط. دار النفائس، 1996، تحقيق: مروان الشعار.

المدخل، ابن بدران.

مرآة الجنان، اليافعي، ط. الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1413.

المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1411، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا.

مسند أبي يعلى، أبو يعلى، ط. دار المأمور للتراث، دمشق، الأولى، 1404، تحقيق: حسين أسد.

مسند إسحاق بن راهوية، إسحاق بن راهوية، ط. مكتبة الإيمان، المدينة، الأولى، 1412، تحقيق: عبد الغفور البلوشي.

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية، 1420، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون.

مسند البزار، البزار، ط. مؤسسة علوم القرآن، بيروت، المدينة، الأولى، 1409، تحقيق: محفوظ الرحمن.

مسند الشاشي، الهيثم بن كليب الشاشي، ط. مكتبة العلوم والحكم، المدينة، الأولى، 1410، تحقيق: محفوظ الرحمن.

مسند الشافعي، الشافعي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

مسند الشاميين، الطبراني، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية، 1417، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي.

ص: 677

مسند عبدُ بن حُميد، عبدُ بن حُميد، ط. مكتبة السنة، القاهرة، الأولى، 1407، تحقيق: صبحي السامرائي، ومحمود الصعيدي.

مشارق الأوار، القاضي عياض، ط.

المصباح المنير، الفيومي، ط. المكتبة العلمية، بيروت.

المصفّى بأكفّ أهل الرّسوخ من علم الناسخ والمنسوخ، ابن الجوزي، ط. عالم الكتب، بيروت، الأولى، 1409، تحقيق: حاتم الضامن (طبعة مشتركة مع ثلاثة كتب في الناسخ والمنسوخ).

مصنف ابن أبي شيبة، ابن أبي شيبة، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الأولى، 1409، تحقيق: كمال يوسف الحوت.

مصف عبد الرزاق، عبد الرزاق الصنعاني، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية، 1403، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

المطلع على أبواب المقنع، البعلي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401، تحقيق: محمد بشير الأدلبي

معارج القبول، الحكمي، ط. دار ابن القيم، الدمام، الأولى، 1410، تحقيق: عمر بن محمود.

معالم التنزيل، البغوي، ط. دار المعرفة، بيروت، تحقيق: خالد العك.

معاني القرآن، النحاس، ط. جامعة أم القرى، مكة، الأولى، 1409، تحقيق: محمد علي الصابوني.

معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي، ط. دار الفكر العربي، تحقيق: علي بن محمد البجاوي

معجم الشيوخ، الصيداوي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى، 1415، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري.

معجم البلدان، ياقوت الحموي، ط. دار الفكر.

معجم الطبراني الأوسط، الطبراني، ط. دار الحرمين، القاهرة، 1415، تحقيق: طارق بن عوض الله، وعبد المحسن الحسيني.

معجم الطبراني الكبير، الطبراني، ط. مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الثانية، 1404، تحقيق: حمدي السلفي.

معرفة القراء الكبار، الذهبي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت الأولى، 1404، تحقيق بشار عواد معروف وشعيب الأرناؤوط.

ص: 678

المغني، ابن قدامة، ط. دار الفكر، بيروت، الأولى، 1405.

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة، ابن القيم، ط. دار ابن عفان، السعودية، الأولى، 1416، تحقيق علي بن حسن الحلبي.

المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ط. دار المعرفة، لبنان، تحقيق: محمد سيد كيلاني.

المفسرون بين التأويل والإثبات في الصفات، محمد بن عبد الرحمن المغراوي، ط. دار طيبة، الرياض، الأولى، 1405.

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي، ط. دار ابن كثير ودار الكلم. الأولى، 1417، تحقيق: محيي الدين مستو.

مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، ط. دار القلم، بيروت، الخامسة، 1984.

الملل والنحل، الشهرستاني، ط. دار المعرفة، بيروت، 1404، تحقيق: محمد سيد كيلان.

منع المجاز في المُنزَل للتعبد والإعجاز، محمد الأمين الشنقيطي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1424، ملحق بتفسير أضواء البيان.

منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ط. مؤسسة قرطبة، الأولى، 1406، تحقيق: محمد رشاد سالم.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، ط. دار إحياء التراث، بيروت، الثانية، 1392.

منهج المدرسة الأندلسية في التفسير: صفاته وخصالصة، فهد الرومي، ط. مكتبة التوبة، الأولى، 1417.

الموافقات، الشاطبي، ط. دار المعرفة، بيروت، تحقيق: عبد الله دراز.

موضح أوهام الجمع والتفريق، الخطيب البغدادي، ط. دار المعرفة، بيروت، الأولى، 1407، تحقيق: عبد المعطي قلعجي.

الموضوعات، ابن الجوزي، ط. دار أضواء السلف ومكتبة التدمرية، الرياض، الأولى، 1418، تحقيق: نور الدين بن شكري بن علي بوياجيلار.

موطأ مالك برواية يحيى بن يحيى الليثي، ط. دار إحياء التراث، مصر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1995 م تحقيق: علي معوض، وعادل عبد الموجود.

ص: 679

الميسر في القراءات الأربع عشرة، محمد فهد خاروف، ط. دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، الثانية، 1423.

نزهة النظر، ابن حجر (مع النُّكت للحلبي)، ط. دار ابن الجوزي، الدمام، الأولى، 1413، تحقيق: علي بن حسن الحلبي.

نشأة الأهواء والافتراق والبدع، ناصر العقل، ط. دار الوطن، الأولى، 1415.

نظم الدُّرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، ط. دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1397.

نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقّري التلمساني، ط. دار صادر، بيروت، 1388، تحقيق: إحسان عباس.

نهاية الأرَب في معرفة أنساب العرب، القلقشندي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.

النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ط. المكتبة العلمية، بيروت، 1399، تحقيق: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي.

نوادر الأصول، الحكيم الترمذي، ط. دار الجيل، بيروت، 1992 م، تحقيق: عبد الرحمن عميرة.

نيل الأوطار، الشوكاني، ط دار الجيل، بيروت، 1973 م.

الوابل الصيب، ابن القيم، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الأولي، 1405، تحقيق: محمد عبد الرحمن عوض.

الوافي بالوفيات، الصفدي، ط. دار إحياء التراث، بيروت، 1420، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى.

يقظة أولي الاعتبار، صديق بن حسن خان، ط. مكتبة عاطف، القاهرة، الأولى، 1398، تحقيق: أحمد حجازي السقا.

رسائل علمِيَّة:

اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف، عبد الله بن عبد الله الأهدل، رسالة "دكتوراه "، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1407.

المدرسة الأندلسية في التفسير، زيد بن عمر، رسالة دكتوراه، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404.

منهج الإمام القرطبي في أصول الدين، أحمد المزيد، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1412.

ص: 680