الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب: مواهب الجليل من أدلة خليل
المؤلف: أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي
عني بمراجعته: عبد الله إبراهيم الأنصاري
الناشر: إِدارة إِحياء التراث الإِسلامي، قطر
الطبعة: الأولى
جـ 1، 2: 1403 هـ - 1983 م
جـ 3، 4: 1407 هـ - 1986 م
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا الكتاب
بقلم
فضيلة الشيخ عبَد الله إبرَاهيم الأنصاري
مدير عام إدارة إحياء التراث الإسلامي
بدولة قطر
الحمد لله الذي بفضله ونعمته تتم الصالحات. نحمده تعالى ونشكره، ونستعين به ونستغفره. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أهم ما يعتني به العبد في حياته نشر العلم، وتبليغه بأي طريقة تمكنه. وإن من أجل العلوم وأنفعها علم الفقه، الذي يستنير به العبد، حتى يعلم الطريقة التي هو عليها، بمعنى أنه بموجبه يعلم فرض عينه، ويعلم كذلك ما هو واجب عليه -على الكفاية- ومعلوم أن فروع المذاهب الأربعة المدونة تصدى لها فحول علماء المذاهب بالتدوين. وقد اعتنى أكثر هؤلاء باستجلاب الأدلة على مسائلهم الفرعية ما أمكن ذلك، فيزدان الفرع بذلك في عين طالب العلم، ويزداد تبصرًا في أمره. وأقلهم في ذلك مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي الحميري. وإن من أجلّ من دوّن في فروع هذا المذهب العلامة خليل بن اسحاق في مختصره الذي اختصر فيه توضيحه. ولقد أقبل عليه أهل المذهب المالكي إقبالًا لا مثيل له، بالشروح والحواشي والتعاليق، فكان لذلك المرجع الذي يعود إليه أهم مذهب مالك في الفتوى والقضاء والعمل، حتى أنهم ليحكون عن شيخه المنوفي أنه قال: نحن أناس خليليون، إن اهتدى اهتدينا. ومن عظيم عنايتهم أن القليل منهم من لم يحفظ المختصر.
غير أن كل هؤلاء الشيوخ الذين اعتنوا بشرح المختصر المذكور، لم يعطوا عناية لاستجلاب بعض أدلة هذه الفروع، ونفس طالب العلم تواقة إلى معرفة الدليل، حتى قيض الله لهذا العمل أحد طلاب المختصر، ألا وهو الشيخ أحمد بن محمد الأمين بن أحمد المختار الجكني، المدرس بالمسجد الحرام، فقام باستجلاب ما وقف عليه من أدلة خليل، فجاء بحمد الله كتابه بمثابة تاج توج به فروع مذهب إمام الأئمة -إمام دار الهجرة- وغير خاف أنه لا يستطاع التدليل على كل المسائل الفروعية الاجتهادية، وذلك ما حمل المؤلف على تسمية كتابه: مواهب الجليل من أدلة خليل. فأتى بمن التبعيضية ليترك لنفسه خط الرجعة. وما لا يدرك كله لا يترك كله.
إن إدارة إحياء التراث الِإسلامي بدولة قطر، لفخورة بتزويد المكتبة الإِسلامية بالجزء الأول من هذا الكتاب ليحل مكانه اللائق بين رفوفها، وليسد الثغرة التي كانت تنتظره لدى طلاب المختصر الجليل، وسوف يليه بإذن الله بقية الأجزاء.
وإننا لندعو الله -جلت قدرته- أن يعين المؤلف على إتمامه حتى يتسنى لنا طبع بقية أجزائه. كما نرجوه تعالى أن يجزل المثوبة لنا وله، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجه الله تعالى، إنه سميع مجيب.
خادم العلم
عبد الله إبراهيم الأنصاري
مدير إدارة إحياء التراث الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذى بفضله ونعمته تتم الصالحات. أحمده حمدًا يوافي مزيد نعمه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، أحمده حمد موحد شاكر لما أنعم به من التوفيق، إلى النطق بكلمة التوحيد التي هي أفضل ما نطق به النبيون، كما ورد في الحديث الصحيح:"أفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ"، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وبارك على سيد المرسلين القائل:"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّينِ" وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فيقول الفقير إلى رحمة مولاه وعفوه: أحمد بن أحمد المختار الجكني الابراهيمي ثم من المحاضر منهم، الشنقيطي إقليمًا، لقد كانت تساورني منذ أكثر من عشر سنوات فكرة وضع تعليق على مختصر خليل بن اسحاق المالكي يوضح ما تيسر من أدلته، ولقد زاد عزمي على القيام بهذا الموضوع، خصوصًا بعد وفاة شيخنا وابن عمنا فضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين بن المختار بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني ثم اليعقوبي، فقد كان، عليه رحمة الله، يذكر أنه، إن هو أنهى (أضواءُ البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، وبقيت له فسحة أجل، شرع فيها بإذن الله في وضع شرح على المختصر مؤيدًا بالدليل، لكنه توفي عليه رحمة الله في سبع عشرة خلت من ذي
الحجة، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، بعد أن أنهى الكتابة على سورة المجادلة، فكان من واجب تلامذة الشيخ إكمال المسيرة التي كان يواصلها الشيخ، وقد عرض علي بعض الزملاء أن أقوم بإكمال أضواء البيان، فأجبته بعدم استطاعتي لذلك، ورحم الله من عرف قدره، إني لا أستطيع القيام بما التزم به الشيخ؛ من كونه لا يجعل آية من القرآن موضع بحثه حتى تكون تشتمل على إجمال يوضحه القرآن في موضع آخر، مع التزامه الإِتيان بجميع ما يتوارد من القرآن مع تلك الآية، فلو أن الموضوع كان تفسيرًا عاديًا يعنى بالآية ولغتها وفقهها وسبب نزولها وما إلى ذلك، غير أنه لما كان الحال في إيضاح القرآن على ما درج عليه الشيخ رحمه الله من أم الكتاب إلى نهاية المجادلة، فقد صرحت بعدم استطاعتي لإِكماله، وجزى الله خير جزائه صديقنا وزميلنا الشيخ عطية بن محمد سالم، القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، فقد قام بواجبه نحو إكمال أضواء البيان، ولما كنت أحد طلبة العلم الذين مارسوا دروس المختصر من أيام نعومة الأظفار، وكنت سمعت من الشيخ غير ما مرة أمنيته أن يتمكن من وضع شرح يوضح أدلة خليل، رأيت من واجبي الإِدلاء بدلوي لتحقيق بعض ما كان يتمناه شيخي عليه رحمة الله، في وضع هذا التعليق، أسوة بزميلي وصديقي الشيخ عطية بن محمد سالم، الذي حقق أمنيته في إكمال الأضواء مع قوة الفارق بيني وبين هذا الصديق، الذي يتبلور في قصوري وقلة اطلاعي وعدم وجودي للوقت اللازم لذلك، لاشتغالي يوميًا بتحصيل النفقة الواجبة.
ولقد كنت أفكر بعض الوقت في جعل نصيحة الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان موضوع تعليقي؛ لاستخراج أدلة ما اشتمل عليه هذا الشرح النفيس من
الفروع الفقهية، فقد كان هذا الشرح هو الذي درست المختصر به على شيخي في الفقه المالكي وقواعده، فضيلة الشيخ سيد جعفر بن سيد محمد بن سيد جعفر بن سيد علي بن سيد محمد بن سيد جعفر الشهير بـ "ديدي" الادريسي نسبًا الشريف، ولقد كدت أفعل لولا أني تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن تتكرر قضية "المنهج إلى المنهج" من قبل أحد بني عمومتي من حفدة هذا الشارح، فعدلت عن ذلك وقررت وضع التعليق على المختصر نفسه، وحيث إن هذا المختصر وضع عليه حتى الآن حول مائة شرح وتعليق، فإنه أصبح غنيًا عن وضع شرح جديد يبين ألفاظه ويوضح معانيه وأحكامه.
لذلك، فقد قررت عدم الاعتناء بشرح المختصر محيلًا طلبة العلم في ذلك إلى عشرات الشروح التي تزخر المكتبات بها، لكنَّ موضوع عنايتي هو وضع ما استطعت الوقوف عليه من أدلة فروع هذا المختصر الذي هوما به الفتوى في مذهب الإِمام مالك بن أنس، الذي أُفضل الأخذ برأيه في مسائل الاجتهاد، وكثيرًا ما سمعت -ولا سيما في المشرق- من بعض طلبة العلم ممن كان ينتجع شكير الحزمية، الذي اهتز وربا حديثًا، كثيرًا ما كنت أسمع من بعض هؤلاء الذين لا يتردد طالب علم في أنهم من القسم الثاني، من حديث أبي موسى المتفق عليه: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ (به) مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ منهَا نُقْيَةٌ، أو قال، ثُغْبَةٌ قَبِلتِ الْمَاءَ، فَأنبتَت الْكَلَأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرِ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادَبُ أمْسكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ وَلَا تُنْبِت
الْكَلأَ فَذلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس بالنسبة إلى ما جاء به من الهدى إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: شبه من تحمل العلم وتفقه به، بالأرض الطيبة يصيبها المطر فتنبت وينتفع الناس بها.
ثانيًا: شبه من تحمل العلم ولم يتفقه به بالأرض الصلبة التي لا تنبت، ولكنها تمسك الماء فيأخذه الناس وينتفعون به.
ثالثًا: شبه من لم يحمل علمًا ولم يتفقه، بالقيعان التي لا تنبت ولا تمسك الماء، فهو الذي لا خير فيه.
أقول: كثيرًا ما أسمع من بعض طلبة العلم -ممن هم من القسم الثاني من أقسام الناس بموجب هذا الحديث- يقولون: من أين لخليل قوله كذا؟. من أين لمالك قوله كذا؟. وما أدى بهم إلى ذلك إلا أنهم لم يتذوقوا طعم الفقه.
إنهم أوعية علم فقط ينتفع به من يسمعه منهم ممن فقهه الله في الدين، وذلك ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله:"نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ". وفي رواية: "فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ".
وقد كانت فروع المذهب المالكي من أكثر الفُروعِ جريًا على الأدلة، لا يماثله في ذلك أي مذهب من المذاهب المدونة فروعها، ذلك أن مذهبي الشافعي وأحمد معروفان بأنهما أهل الحديث، ومذهب أبي حنيفة معروف
بالرأي، وقد جمع مذهب مالك الأخذ من الكتاب والسنة والقياس.
قال في مراقي السعود:
وموجِبٌ تغليبَ الْارجحِ وَجَبْ
…
لديه بحثُ عن إمام منتخَب
إذا علمتَ فالإِمامُ مالكُ
…
صحَّ له الشأْوُ الذي لا يدركُ
للأثر الصحيح مع حسن النظر
…
في كل فن كالكتاب والأثر
ولما كان أصحابنا اشتغلوا في تدوين الأحكام بالاكتفاء بنسبتها إلى القائل بها من شيوخهم، دون استجلاب أدلتها، ثقة منهم بهم، واعتمادًا على قاعدة هي قولهم: الناقل أمين ما لم يثبت عدم ذلك، وجد الناقدون إليهم سبيلًا.
والحق أن هذه القاعدة غير مسلمة وأن الأصل في الناس الجرح حتى تثبت العدالة عندنا.؟!
قال في المنهج المنتخب:
طهارة الأعيان أصل وكذا
…
براءةٌ لا بعدَ تعمير خُذا
عكسًا بعكس ويسارٌ جرحُ
…
جمعٌ تساوٍ والظهورُ شرحُ
ومحل الشاهد من البيتين قوله: جرح، أي والأصل في الناس الجرح حتى تثبت العدالة، ونسبه شيخ مشائخنا محمد الأمين بن أحمد زيدان في المنهج إلى المنهج إلى مالك والشافعي.
على أني ألفت النظر إلى أنه ليس كل مسائل المختصر تنتمي إلى مذهب
مالك، لأن كل مسألة جاء دليل عليها من الكتاب أو السنة أومن إجماع الأمة، لا يمكن أن تضاف إلى مذهب كائن من يكون، ولا يجوز فيها التقليد أبدًا؛ إذ لا تقليد إلا في محل الاجتهاد، ولا يجوز الاجتهاد في محل ورد فيه نص؛ لأن نصوص الكتاب والسنة حاكمة على كل المجتهدين، ولا يجوز لأي مجتهد مخالفة النص بحال من الأحوال. نعم، قد يرد النص مجملًا فيحمله هذا المجتهد على أحد احتماليه أو احتمالاته بدليل شرعي، ويحمله الآخر على غير ذلك بدليل آخر؛ ولابد لطالب العلم أن يفرق بين الاتباع والتقليد، والفرق بينهما واضح؛ وهو أن كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلد له، وأن كل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبع له.
قال شيخنا رحمه الله في أضواء البيان عند قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
(1)
الآية -عند التنبيه الرابع- ما نصه: وأمَّا كون العمل بالوحي اتباعًا لا تقليدًا فهو أمر قطعي، والآيات الدالة على تسميته اتباعًا كثيرة جدًا. قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}
(2)
. وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}
(3)
(4)
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
(1)
سورة محمد: 24.
(2)
سورة الأعراف: 3.
(3)
سورة الزمر: 55.
(4)
سورة الأعراف: 203.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
(1)
. وقال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}
(2)
. والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، فالعمل بالوحي هو الاتباع كما دلت عليه الآيات. ا. هـ. منه بتصرف.
فإذا تقرر ذلك أشكلت نسبة جميع ما في المختصر من المسائل إلى مذهب الإِمام مالك؛ لأن مسائل الزكاة والطهارة والصلاة والصوم والحج إلى غير ذلك من العبادات ثابتة في جلها بالنص، وكذلك جل المعاملات. والعبرة في جميع ذلك بالاتباع فقط، ولا مذهب فيه لكائن من يكون، إذ لا مذهب إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
على أنه سوف تفوت مسائل كثيرة لا يستطاع التدليل عليها، لأن السبيل إليها محض الاجتهاد البحت، مع أني سوف أبذل قصارى جهدي في إجرائها على قواعد المذهب، خلافيات كانت تلك القواعد أو وفاقيات؛ نحو قولهم: هل الأمر يقتضي تكرارًا أو لا؟. وهل يجب الأخذ بأول الأمور أو أواخرها؟. وهل النكاح قوت أو تفكه؟. ونحو ذلك. ومن أمثلة القواعد الوفاقيات: المشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، ومن استعجل شيئًا قبل أو انه عوقب بحرمانه. إلى غير ذلك. وقد جعلت ديدني أني إن وجدت للمدونة نصًا في الموضوع سقته، فإن كان مرفوعًا اكتفيت به، وإن كان مجرد فتوى من الإمام نظرت، فإن عارضها النص أتيت به رادًا لتلك الفتوى، عملًا بقول قدوتي مالك رحمه الله
(1)
سورة الأنعام: 155.
(2)
سورة الأنعام: 106.
حيث ثبت عنه: ما وافق من رأي الكتاب والسنة فخذوا به، وما لا فاضربوا به الجدار. ا. هـ. وغير محتاج إلى لفت النظر إلى أني أضرب الذكر صفحًا عن الفروع المقدرة المفروضة وما أكثرها في المختصر. وبالله التوفيق.
هذا، والمركب صعب، والبضاعة مزجاة، ولذلك فقد حذوت حذو سلفي الصالح الشيخ خليل بن اسحاق -علينا وعليه رحمة الله- سائلًا بلسان التضرع والخشوع لله تعالى أن يعين وأن يوفق بمنه وكرمه إلى النظر بعين الرضا والصواب إلى عملي هذا، وأن يجعله خالصًا لوجهه تعالى، وأن يجعله من عملي الذي يجري عليَّ بعد موتي وعلى مشائخي، لأن ما تعلمته عليفم هو مما ورثوه من العلم.
وأعترف مقدمًا بالقصور وقلة الاطلاع، وأرجو من اطلع على خطإ ارتكبته إلى المبادرة بالتنبيه عليه، فإنه لا يسلم مؤلف من هفوة ولا جواد من كبوة، والأسوة في قوله تبارك وتعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(1)
. ذكر أبو عبد الله القرطبي عند هذه الآية أنه لا يمكن بحال أن يؤلف مؤلف إلا ظهر فيه مصداق هذه الآية الكريمة، ويحكى لذلك عن قدوتنا وإمامنا محمد بن ادريس الشافعي عليه رحمة الله أنه لما أنهى الأم قدم المكتوب لأصحابه قائلًا: خذوا هذا، مع العلم أن به أخطاءً كثيرة. فردوا عليه أن أصلح الخطا قبل أن تناولنا الكتاب. فقال: لو اهتديت إلى مواضع الأخطاء ما وضعتها.
(1)
سورة النساء: 82.
فقالوا: وما يدريك إذاً؟. قال: كتاب الله تعالى حيث يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ..
هذا الشافعي، فما ظنك بمن هو في القرن الخامس عشر؛ يغمره الجهل وتحيط به الشبهات في مأكله وملبسه ومسكنه، ويعوقه عدم التفرغ وقلة المراجع لقلة الامكانيات؟!.
وعلى كل حال فقد عزمت على تحقيق ما كان يتمناه شيخي في حياته بعد الاستخارة النبوية، متكلا على الله جل شانه، راجيًا منه تعالى التوفيق والعون والسداد والرشاد. وسميته (مواهب الجليل من أدلة خليل). وإني على قصوري وعجزي وعجري وبجري، لواثق بربي عزوجل أنه سوف يحقق أمنيتي بإكماله وبتوفيقي فيه وتيسيره لي، وأنه سوف يغمرني به وشيخي، بل وجميع مشائخي برضاه وبرحمته غدًا في الجنة مستقر رحمة الله، فقد صح لي عنه جلا وعلا فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" وظني به تعالى أنه سوف يرحمني بتحقيق أمنيتي هذه وبتيسير هذا الكتاب وبقبوله، وإنه هو الغفار للذنوب، سوف يغفر لي ذنوبي جميعها على كثرتها، فيرحمني برحمته التي سبقت غضبه، سبحانه ما أكرمه، يطاع فيشكر ويعصى فيغفر، عليه توكلت هو حسبي ونعم الوكيل.
نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1)
.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته، وهذا أوان الشروع في المقصود:
المؤلف
أحمد بن أحمد الحكنى المختار الشنقيطي
(1)
سورة غافر: 65.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المختصر
قال فىِ المختصر: بسم الله الرحمن الرحيم يَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُضْطَرُّ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ، المُنْكَسِرُ خاطِرُه لقلة العمل والتَّقْوى، خَلِيلُ بن اسْحَاقَ (1) المالكي: الحمد لله حمدًا يُوَافِي ما تَزَايدَ مِنَ النِّعَمِ، والشُكْرُ له عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنَ الْفَضْل والكَرَمِ، لا أحصي ثناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على محمد سيد العرب والعجم، والمبعوث لسائر الأمم، وبعد: فقد سألني جماعةً -أبَانَ اللهُ لنا ولهم معالم التحقيق، وسَلَكَ بنا وبهم أنْفَعَ طَرِيقٍ- مُخْتَصَرًا عَلى مذهب الإمام مالك (2) بن أنس رحمه الله تعالى مبينًا لما به الفَتْوى، فأجبت
(1)
عرف نفسه هنا وذلك مدعاة للوثوق بتأليفه، لأن التأليف المجهول صاحبه لا يعبأ به.
فذكر أنه يدعى خليل بن اسحاق. قال الدردير. ابن موسى ووهم من قال: ابن يعقوب. كان رحمه الله مجمعًا على فضله وديانته وكان من جند المنصورة؛ يلبس زي الجند المتقشفين. وكان ذا دين وفضل وزهد وانقباض عن الناس، وقد جمع بين العلم والعمل ونفع الله به المسلمين، وله تصانيف كثيرة. توفي في/ 13/ ربيع الأول سنة 776 هـ. انتهى. من الديباج باختصار.
(2)
مالك هو إمام دار الهجرة؛ مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان -بفتح المعجمة أوله بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة- ابن خثيل -بالتصغير- ابن عمرو بن الحارث -وهو ذو أصبح- الأصبحي المدني الحميري نسبة إلى حمير، وفي عمود النسب للعلامة الشيخ أحمد البدوي بن محمدا -بدال ممدودة- المجلسي الموريتاني المتوفي تقريبًا عام 1220 هـ. قال: =
سؤالهم بعد الاستخارة مشيرًا بفيها للمدونة (1)، وبأوِّلَ إلى اختلاف شارحيها في فهمها وبالاختيار للخمي (2)، لكن إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره هو في
= وانسب لحمير بني الجمهور
…
شعب إمام طيبة المشهور
ذكر في هذا البيت أن بني الجمهور هم شعب مالك بن أنس، وأنهم من حمير. ونقلت في تكملتي لحماد على الأنساب من تكملة البوحسني له؛ أن الجمهور بالضم هو ابن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير بن معاوية بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عوف بن زهير بن الهميسع بن حمير. والله أعلم.
وعلى كل حال فهو أبو عبد الله المدني الفقيه أحد الأعلام في الإسلام، وهو إمام دار الهجرة. قال ابن عيينة في حديث أبي هريرة: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة -وهو مالك- وكذا قال عبد الرزاق. كان رحمه الله ثقة ثبتًا. مات بالمدينة في صفر عام 197 هـ. وعاش 89 سنة وقيل غير ذلك. ا هـ.
(1)
يعني إذا قال "فيها" ونحو ذلك من كل ضمير مؤنث عائد إلى غير مذكور غائب، فإنما يريد به المدونة؛ وهي المسائل التي دونها قاضي القيروان أسد بن الفرات على محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ثم عن مالك وتسمى الأسدية، فتلطف سحنون بابن الفرات حتى أخذها منه ثم عرضها على ابن القاسم وهذبها ونقحها، واختصرها الشيخ ابن أبي زيد القيرواني وابن أبي زمنين. ا. هـ. جواهر الإكليل.
(2)
ذكر أن من مصطلحه أنه يشير بمادة الاختيار، سواءٌ أكان بصيغة الاسم أو بصيغة الفعل لاختيار اللخمي، لكنه إن كان بالفعل فهو لاختياره من قبل نفسه، وإن كان بالاسم فهو لاختياره من الاختلاف الكائن بين الشيوخ قبله، واللخمي هو أبو الحسن علي بن محمد الربعي، قيرواني نزل صفاقس فكان فيها فاضلًا، له تعليق على المدونة سماه التبصرة، مفيد حسن لكنه ربما اختار فيه وخرج، فخرجت اختياراته عن المذهب المالكي ويشهد لذلك قول القائل:
لقد مزقت قلبي سهام جفونها
…
كما مزق اللخمي مذهب مالك
مات عام 498 هـ.
نفسه، وبالإِسم فذلك لاختياره من الخلاف، وبالترجيح لابن يونس (1) كذلك، وبالظهور لابن (2) رشد كذلك، وبالقول للمازري (3) كذلك، وحيث قلت: خلافٌ. فذلك لاختلاف في التشهير، وحيث ذكرت قولين أو أقوالًا؛ فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة، واعتبر من المفاهيم مفهوم الشرط.
وأُشيرُ بُصحِّحَ أَوِ استحْسِنَ إلى أَنَّ شيخًا غير الذين قدمتهم صحَّحَ هذا أو استظهره، وبالتَّردُّدِ لتردد المتأخرين في النَّقْلِ أو لعدم نص المتقدمين، وبلو إلى خلاف مذهبيٍّ. والله أسأل أن ينفع به من كتبه أو قرأهُ أو حصله أو سعى في شيءٍ منه. والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا في القول والعمل، ثم أعتذر لذوي الألباب من التقصير الواقع في هذا الكتاب، وأسأل بلسان التضرع والخشوع
(1)
ويشير بمادة الترجيح وبنفس التفصيل إلى ابن يونس؛ وهو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس الصقلي؛ كان فقيهًا إمامًا فرضيًا، وكان ملازمًا للجهاد موصوفًا بالنجدة، ألَّف كتابًا في الفرائض وكتابًا جامعًا للمدونة أضاف إليها غيرها من الأمهات. وتوفي عام 461 هـ.
(2)
ويشير بمادة الظهور وبنفس التفصيل السابق لابن رشد؛ وهو الإِمام محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد القرطبي؛ زعيم فقهاء وقته بالأندلس والمغرب، والمعترف له بصحة النظر وجودة التأليف ودقة الفهم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، له التآليف النافعة. توفي عام 525 هـ.
(3)
ويشير بمادة القول وبنفس التفصيل السابق إلى المازري؛ وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الصقلي، ينسب إلى مازرة -بفتح الزاي وكسرها- مدينة بجزيرة صقلية تسمى الأن بسيسيلية قرب مالطة، وهو إمام أهل أفريقية وما وراءها من المغرب، له التآليف النافعة الكثيرة. توفي عليه رحمة الله عام 526 هـ.
وخطاب التذلل والخضوع أن ينظر بعين الرضا والصواب، فما كان من نقص كملوه أو من خطإ أصلحوه، فقلما يخلص مصنف من الهفوات، أو ينجو مؤلف من العثرات.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطهارة
باب في أحكام الطهارة
يُرْفَعُ الْحَدَثُ (1) وَحُكْمُ الْخَبَثِ (2) بِالْمُطْلَق (3) وَهُوَ مَا صَدَقَ عليه اسْمُ ماءٍ بِلَا قَيْدٍ
(1)
الحدث وصف حكمي مقدر على أعضاء المكلف جميعها أو بعضها، يترتب بموجبه منع المكلف من الصلاة ومن كل ما تشترط فيه الطهارة.
(2)
وحكم الخبث هو الوصف المقدر شرعًا قيامه بعين النجاسة.
(3)
صفة حذف موصوفها وأقيمت مقامه. أي بالماء المطلق من التقييد بشيءٍ لا ينفك عنه.
فالمطلق في الاصطلاح هو اعتبار الماهية من حيث هي هي، فإذا اعتبرت الماهية من حيث الوصف كانت مقيدة. ودليل الطهارة بالماء هو قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} الآية من الفرقان. وحديث الموطإ عن أبي هريرة: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". يعني البحر؛ لأنه جواب لسؤال سائل: أفنتوضأ بماء البحر؟. وأخرجه البغوي: باب أحكام المياه، وأبو داود في الطهارة والترمذي كذلك.
أما إذا تقيد بما ينفك عنه؛ كماء البحر أو ماء البئر أو ماء المطر أو ماء الغدير ونحو ذلك، فإن ذلك القيد لا يخرجه عن طهوريته؛ لحديث أبي سعيد الخدري في بئر بُضاعة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. ولحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنهِ". أخرجه ابن ماجه.
وَإنْ جُمِعَ مِنْ نَدىً (1) أوْ ذَابَ بعد جُمُودِهِ (2). "أَوْ كَانَ سُؤْرَ بَهِيمَةٍ (3) أوْ حَائضٍ (4) أوْ جُنُبٍ أوْ فَضْلَةَ (5) طهارتهما أوْ كَثيرًا خُولِطَ بِنَجَسٍ (6) لم يُغَيِّرْ أوْ شُكَّ فِي مُغيِّرهِ
(1)
الندى هو الماء الذي ينزل من السماء آخر الليل على ورق الشجر، وطهورية ماء السماء دليلها القرآن كما علمت آنفًا من آية الفرقان، علمًا بانه روى البيهقي من حديث عبد الله بن الزبير عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم في ماءٍ من السماء وإني لأدلك ظهره وأغسله.
(2)
وأما دليل طهورية الماء الذائب بعد جموده فحديث عائشة عند البخاري ومسلم والبيهقي واللفظ له قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: "اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِالْمَاءِ والثَلْجِ وَالْبَرَدِ".
(3)
دليله حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عند البغوي، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيتوضأ بما
أفضَلت الحمر؟. قال: "نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا". وهذا الحديث رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي. وفي الموطإ من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضًا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟. فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
(4)
الدليل على طهارة سؤر الحائض ما أخرجه ابن خزيمة من حديث عائشة قالت: كان رسول الله يؤتى بالإناء فأبدأ فأشرب وأنا حائض، ثم يأخذ صلى الله عليه وسلم الإناء فيضع فاه على موضع فيَّ. وآخذ العرق فأعضه، ثم يضع فاه على موضع فِيَّ. وهو حديث إسناده صحيح. وقال د. الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة: إن مسلمًا أخرجه من طريق وكيع، قال ابن خزيمة: لو كان سؤر الحائض نجسًا لما شرب صلى الله عليه وسلم ماءً نجسًا غير مضطر إلى شربه.
(5)
أما دليل طهورية فضلة طهارة الجنب؛ فمن ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها. أخرجه في بلوغ المرام وقال أخرجه مسلم.
ولأصحاب السنن؛ اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء يغتسل منها فقالت: إني كنت جنبًا. فقال: "إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنبُ" وصححه الترمذي وابن خزيمة. ا. هـ. بلوغ المرام. وأخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة.
(6)
دليله ما تقدما "إن الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" قال ابن حجر في التلخيص: أخرجه أحمد =
هل يَضُرُّ (1)؟. أوْ تَغَيَّرَ بِمُجَاوَرَةٍ (2) وَإنْ بِدُهْنٍ لَاصَقَ (3) أوْ بِرَائحَةِ قَطِرَانِ (4) وعَاءِ مُسَافِرٍ أوْ بِمتوَلِّدٍ (5) منهُ أوْ بِقرَارِهِ كَمِلْحٍ أوْ بِمَطْروح فيهِ ولو قَصْدًا مِنْ تُرابٍ أوْ مِلْحٍ، والأرْجَحُ السَّلَبُ بِالْمِلْحِ وَفي الاتِّفَاقِ عَلى السَّلَبِ بِهِ إن صنعَ تَرَدُّدٌ (6). لَا
= والشافعي وأصحاب السنن والدارقطني والحاكم والبيهقي وقال: صححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو محمد بن حزم.
(1)
اليقين أنه طهور قبل طروّ الشك في تغيره، أو الشك في المغير الميقن هل هو مما يسلب طهورية الماء أولا؟. فهو والحالة هذه يبقى على طهوريته للقاعدة المتفق عليها والتي هي من أمهات الفقه التي أسس عليها. كما قال في مراقي السعود:
قد أسس الفقه على رفع الضرر
…
وأن ما يشق يجلب الوطر
ونفي رفع العلم بالشك، وأن
…
يُحكم العرف وزاد من فطن
كون الأمور تبع المقاصد
…
..................... الخ
ومحل الشاهد منها قوله: ونفي رفع العلم بالشك؛ أي اليقين لا يرفع بالشك، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه "فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أوْ يَشُمَّ رِيحًا". الحديث.
(2)
لم أطلع على دليل فيه يرجع إليه، وعليه العمل في المذهب. والله أعلم.
(3)
الذي يؤيده الدليل هو ما ذهب إليه ابن عرفة وابن مرزوق والأجهوري وتلامذته؛ من أنه تسلب طهوريته بريح دهن لاصق سطحه، والدليل ما تقدم في الحديث" الْمَاء طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أوْ طَعْمُهُ أوْ لَوْنُهُ".
(4)
استثناءُ رائحة القطران هنا تحتاج إلى دليل يرجع إليه من النقل لم أجده.
(5)
المتولد منه كالطحلب -بضم الطاءِ- وقراره كالملح والتراب والمغرة ونحو ذلك، ودليل عدم سلب الطهورية بالمتولد والمقر واضح في قوله صلى الله عليه وسلم في البحر:"هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ".
(6)
ما ذهب إليه المؤلف هنا مذهب ابن أبي زيد القيرواني، وذهب ابن يونس أن الملح المقصود طرحه يسلب طهورية الماء، وفرق الباجي بين الملح المصنوع والملح المعدني قال: الأول يسلب الطهورية دون الثاني. وتردد المتأخرون في الاتفاق على أن الملح المصنوع يسلب طهورية=
بِمُتَغيِّرٍ (1) لوْنًا أوْ طَعْمًا أوْ رِيحًا بِمَا يُفارِقُهُ غَالِبًا مِنْ طَاهِرٍ أوْ نَجَسٍ؛ كَدُهْنٍ خَاَلطَ أو بُخَارِ مَصْطَكَّا، وَحُكْمُهُ كَمُغَيِّره (2) وَيَضُرُّ بَيِّنُ التَّغَيُّرِ بِحَبْلِ سانيةٍ كغَدِير برَوْثِ مَاشِيةٍ أوْ بئْر بوَرَقِ شَجَرٍ أوْ تِبْنٍ. والأظْهَرُ فِي بِئْرِ البَادِيَةِ بِهِمَا الجوَازُ (3). وَفي
= الماء، والذي يؤيده الدليل أن الملح إن اعتبر مفارقًا منفكًا عن الماءِ سلب طهوريته، ولعل الذي يقول: لا يسلب الطهورية، اعتبره مثل الثلج في أنه ماءٌ أصالة. والله تعالى الموفق.
(1)
الدليل على أن الماء المتغير لونًا أو طعمًا أو ريحًا مسلوب الطهورية، هو ما رواه راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ رِيحَهُ أوْ طَعْمَهُ". عند الدارقطني وقد تقدمت روايته عند ابن ماجه: "إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنهِ".
(2)
أما الدليل على أنه إن تغير بطاهر بقي على طهارته، فحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند ابن خزيمة أنه قيل لعمر: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا الى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده إلى آخر الحديث، قال ابن خزيمة:
لو كان ماءُ الفرث نجسًا لما جاز أن يجعلهُ المرث على بدنه، وهو غير واجد لماءٍ طاهر يغسله به.
ودليل كونه إن تغير بنجس تنجس هو ما حكاه ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن الماء القليل والكثير إذا وقعت نجاسة فغيرت للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا أنه ينجس ما دام كذلك. ذكره ابن قدامة في المغني في المجلد الأول ص 20. وقد حكى الشوكاني هذا الإجماع أيضًا في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، لكنه حكاه عن البدر المنير في المجلد الأول ص 35.
(3)
ما ذهب إليه ابن يونس من عدم تأثر بئر الماشية والغدران بأبوال الماشية وروثها وبورق الشجر، لعدم الاحتراز من ذلك وغلبة الوقوع، تشهد له القاعدة العامة التي تقول:(الصثمقة تجلب التيسير) ودليلها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(2)
. وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا أَمَرْتُكمْ بِشَيْء فَأتوا مِنْة مَا اسْتَطَعْتمْ" وقال الباجي في المنتقى: وقد روى في المجموعة ابن غانم عن مالك في غدير تردها الماشية، فتبول فيها وتروث فتغير طعم الماء =
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة التغابن: 16.
جَعْلِ الْمُخَالِطِ الْمُوَافِقِ كَالْمُخَالِفِ (1) نَظَرٌ، وَفي التطْهِيرِ بِمَاءٍ (2) جُعِلَ في الْفَمِ قَوْلَانِ، وَكُرِهَ مَاء مُسْتَعْمَل فِي حَدَثٍ، وَفي غَيْرِه تَرَدُّدٌ (3). وَيَسِير كآنِية وُضوء أوْ
= ولونه، قال: لا يعجبني الوضوء به ولا أحرمه. ومعنى ذلك أن هذا مما لا ينفك الماء عنه غالبًا ولا يمكن منعه منه. ا هـ. منه.
(1)
الظاهر أنه والحالة هذه من عدم تغيير أي وصف من أوصاف الماء، أنه يبقى على طهوريته إذا كان المخالط طاهرًا، وأما إذا كان المخالط نجسًا فيجري على حكم يسير ماء أصابته نجاسة لم تغيره، الذي يأتي الكلام عليه قريبًا إن شاء الله.
(2)
هذا خلاف لفظي؛ إذ المعروف أنه إن ظهر تغيير للماء بغلبة اللعاب عليه، سلب طهوريته، وأنه لا خلاف أنه إن لم يظهر به تغير بقي على طهوريته، فأين الخلاف إذًا؟.
(3)
هذه الكراهة مراعاة لخلاف خارج المذهب، قال الخرقي: ولا يتوضأ بماء قد وضئ به.
قال ابن قدامة: وبه. قال الأوزاعي. وهو المشهور عن أبي حنيفة. وإحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب الشافعي، غير أن الدليل من الوحيين يؤيد طهورية هذا الماء المستعمل في حدث إذا لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، فأما الكتاب فقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
(1)
الآية. قال في المنتقى على الموطإ: وطهور -على مثال صبور وشكور- إنما يستعمل فيما يكثر منه الفعل، وهذا يقتضي تكرار الطهارة بالماء. ا. هـ. منه.
وأما السنة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمَاءُ لَا يَجْنُبُ" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة والترمذي كما تقدم عزوه لبلوغ المرام. وأيضًا فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء فعصر شعره عليها. قال ابن قدامة في المغني: رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه وغيرهما. ا هـ.
وبعد أن اطلعت على أن الماء المستعمل في رفع حدث يبقى على طهوريته بدليل الكتاب والسنة الفعلية والقولية، فأي تردد يبقى عندك في طهورية الماء المستعمل في غير رفع الحدث؟ وحكم الخبث في طهارة تتوتف على المطلق كغسل الإحرام وتجديد الوضوء ونحو ذلك؟ فهذا الماء الذي لم يزل مانعًا من الصلاة لم يزل باقيًا على طهارته، ولا محل للتردد في التطهير به، والعلم عند الله تعالى.
(1)
سورة الفرقان: 48.
غُسْلٍ بنَجَسٍ لَمْ يُغيِّرْ (1) أوْ ولَغَ فِيهِ كَلْبٌ (2)، وَراكِدٌ يُغَتسَلُ فيه (3) وَسُؤْرُ شَارِب
(1)
حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه "إنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْء إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنهِ" يدل لهذا الفرع، غير أن الباجي نفل عن ابن القاسم أنه يطلق على هذا الماء القليل الذي خالطته نجاسة قليلة لم تغيره، اسم النجاسة في روايته وقوله، ويرى أن على من توضأ به الإِعادة في الوقت دون غيره.
والدليل يؤَيد من ذهب إلى نجاسة الماء اقليل الذي أصابته نجاسة لم تغيره، وأنه يجب اجتنابه لتحقق وقوع الرجس به، والله تعالى يقول:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
(1)
. وحديث القلتين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ" وفي لفظ "لَمْ يَنْجُسْ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان، نص في أن الماء القليل الذي لم يبلغ القلتين ينجس بما يلاقيه من النجس، وحديث أبي هريرة المتفق عليه:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكمْ مِنْ نَوْمهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَة فِي الْإنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". نص هو الآخر في الموضوع، لأنه نهي للمستيقظ عن غمس يده في آنية الوضوء لئلا ينجس الوضوء -بفتح الواو. كل ذلك في نظري أقل أحواله أن يكون مخصصًا لحديث "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَىْءٌ" علاوة على أن جانب المنع مقدم على جانب الإِباحة عند التعارض، والله الموفق.
(2)
في صحيح مسلم: "طَهُورٌ إنَاءِ أحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ"، وفي رواية أخرى:"إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَهْرِقْة، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، لَماذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ حَتَّى يُصْلِحَهُ". أخرجه ابن خزيمة وقال: وفيه دليل على نقض قول من زعم أن الماء طاهر.
والذي يظهر أن من زعم أن ماء ولغ فيه كلب أنه طهور بعد ما يبلغه هذا الحديث الصحيح، أقل أحواله أن يجر عليه الذيل قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(2)
. وما يتوارد معها من القرآن على معناها، وسوف يأتي مزيد كلام على طهارة الكلب وغيرها في محل ذلك. والله الموفق.
(3)
هذه الكراهة أيضًا لمراعاة خلاف مذهب خارج المذهب المالكي، وحملًا للنهي الوارد في=
(1)
سورة المدثر: 5.
(2)
سورة النور: 63.
خَمْرٍ وَمَا أدْخَلَ يَدَهُ (1) فيهِ وَمَا لَا يَتَوَقَّى نَجِسًا (2) مِن مَّاءٍ (3)، لَا إنْ عَسُرَ الإِحْتِرازُ (4) مِنْهُ، أوْ كَانَ طَعَامًا (5) كَمُشَمَّسٍ (6).
= قوله صلى الله عليه وسلم "لَا يَغْتَسِلْ أحَدُكمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ". رواه مسلم، على التنزيه، لأن أقل أوصافه أن يكون ماء استعمل في حدث، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمَاءُ لَا يَجْنُبُ وبالله تعالى التوفيق.
(1)
في العتبية من رواية ابن القاسم عن مالك: لا يتوضأ من سؤره ولا يتوضأ من فضل وضوئه -يعني النصراني- ووجه ذلك أن الغالب عليه النجاسة، لأنه لا بتدين بالتوقي منها، لأنه يأكل الميتة والخنزير ويشرب الخمر، فهو بمنزلة ما يأكل النجاسة من الدجاج المخلاة وغيرها التي يمنع من الوضوء بسؤرها. ا. هـ. المنتقى للباجي.
والدليل مع ما مشى عليه المؤلف من أن الطهارة هي الأصل المتيقن، وهو لا يرفعه الشك فكرهوا استعماله كراهة تنزيه، لا جرم أن النجاسة إن شوهدت بفيه وقت الاستعمال عمل على وقوعها فيه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله.
(2)
أما آسار البهائم والطيور التي لا تتوقى نجاسة فقد تقدم الكلام عليها عند قول المؤلف: أو كان سؤر بهيمة. فراجعه.
(3)
يريد أن كراهة هذا الاستعمال مخصوصة بكون السؤر الذي يكره استعماله من خصوص الماء، أما الطعام فسيتكلم عليه قريبًا.
(4)
يريد أنه إن عسر الاحتراز مما لا يتوقى نجسًا انتفت كراهة استعماله -أي الماء- كالقط والفأر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم "إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ". أخرجه الموطأ عن أبي قتادة،
وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟. فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. أخرجه الموطأ أيضًا. وقد تقدم.
(5)
يريد إن كان سؤر شارب الخمر وما أدخل يده فيه من الطعام، لم يكره استعماله لذلك ولا يراق لشرف الطعام ولأنه لا يلغى بالشك. ولا أرى لذلك إلا قولهم اليقين: لا يلغى بالشك. لأن النجاسة الواقعة فيه يقينًا تنجسه.
(6)
أي ويكره استعمال ماءٍ مسخن بالشمس حملًا للنهي الوارد في ذلك على الكراهة. وأوثق
وَإنْ رِيئَتْ عَلَى فِيهِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ عُمِلَ عَلَيْهَا (1)، وَإذَا مَاتَ بَرّيٌّ ذُو نَفَسٍ سَائلَةٍ بِرَاكِدٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ نُدِبَ نَزْحٌ بِقَدْرِهِمَا (2)، لَا إن وَقَعَ مَيْتًا (3) وإنْ زَالَ تَغَيُّرُ النَّجَاسَةِ لا بِكَثْرَةِ الْمُطْلَقِ، فاسْتُحْسِنَ الطهُورِيَّة وعَدَمُهَا أرْجَحُ (4)، وَقُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِد إنْ بَيَّنَ وَجْهًا أوْ اتَّفَقَا (5) مَذْهَبًا، وإلَّا فقال: يُسْتَحْسَنُ تَرْكُهُ (6) وَوُرود الْمَاءِ عَلى النَّجاسَةِ كَعَكْسِهِ (7).
= شيء في ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب: (لَا تَغْتَسِلُوا بِالْمُشَمَّسِ فَإنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ" عندَ الدارقطني.
(1)
قال في الموطإ ما نصه: قال يحيى: قال مالك: لا بأس إلا أن يرى في فمها نجاسة. ا. هـ. يعني الهرة، قال الباجي: ومعنى ذلك لا بأس باستعمال سؤرها إلا أن ترى في فمها نجاسة. ا. هـ. من المنتقى.
(2)
لما أخرجه عبد الرزاق عن ليث قال: إذا سقط الكلب في البئر فأخرج منها حين سقط نزع منها عشرون دلوًا، فإن أخرج حين مات نزع منها ستون أو سبعون دلوًا، فإن تفسخ فيها نزع ماؤها، فإن لم تستطيعوا نزح منها مائة دلو، وعشرون ومائة. ا. هـ. ولابن أبي شيبة عن ابن علية عن ليث عن عطاء قال: إذا وقع الجرذ في البئر نزع منها عشرون دلوًا، فإن تفسخ فأربعون، فإن وقعت الشاة نزح منها أربعون دلوًا، فإن تفسخت نزعت كلها أو مائة دلو. ا. هـ.
(3)
لحديث القلتين لأصحاب السنن إلا الصحيحين، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان وقد تقدم لفظه، ولحديث أبي سعيد عند البيهقي، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتينا على غدير فيه جيفة، فتوضأ بعض القوم وأمسك بعض القوم حتى يجيء النبي صلى الله عليه وسلم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فقال:"تَوَضَّؤُوا وَاشْرَبُوا فَإنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". ا. هـ.
(4)
رجحان عدم الطهورية لتيقن النجاسة أولًا، ولا يرفع اليقين إلا باليقين.
(5)
قبول خبر الواحد يتوقف فقط على أن يكون عدل رواية وشروطه معروفة، وقد بينها ابن عاصم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بقوله:
والعدل من يجتنب الكبائرا
…
ويتقي في الأَغْلَبِ الصغائرا
وما أبيح وهو في الأعيان
…
يقدح في مروءة الإنسان
وذو أنوثة وعبد والعدا
…
وذو قرابة خلاف الشهدا
(6)
لقوله صلى الله عليه وسلم "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".
(7)
إذ لا فرق بين ورودها عليه ووروده عليها. والله الموفق.
ودليله حديث بول الأعرابي في المسجد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
* * *
فصل
الطَّاهِرُ مَيْتُ مَا لَا دَمَ لَهُ (1)، والْبَحْرِيُّ (2) وَلَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ (3)، ومَا ذُكِّي (4)، وَجُزْؤُهُ، إلَّا مُحَرَّمَ الْأكْلِ (5)، وَصُوفٌ وَوَبَرٌ وزَغَبُ رِيش وشَعْرٌ (6)،
(1)
لدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إذَا وَقَع الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلّهُ ثم ليَطْرَحْهُ فإنَّ فِي أحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفي الآخَرِ دَوَاءً وَإنَّهُ يُؤخِّرُ الدَّوَاءَ وَيُقَدِّمُ الدّاءَ" أخرجه الباجي في المنتقى، وأخرجه ابن خزيمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا وَقعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أحَدِكُمْ فَإنَّ فِي أحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفي الآخَرِ شِفَاءً وَإنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِه الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ فَلْيَغْمِسْهُ كُلّهُ ثُمَّ لْيَنْتَزِعْهُ". ا. هـ. وهو من حديث أبي هريرة. قال الباجي: فلو كان ينجس بالموت وينجس ما مات فيه، لما أمرنا أن نفسد الطعام والشراب بغمسه فيه، فإن ذلك يميته غالبًا. ا. هـ. منه. قال ابن قدامة في المغني: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان: "يَا سَلْمَانُ، أيُّمَا طَعَامٍ أو شَرَابٍ مَاتَ فِيهِ دَابَّةَ لَيْسَتْ لَهَا نَفَسٌ سَائِلَةٌ فَهُوَ الْحَلَالُ أكلُهُ وشُربُهُ وُوَضُوءُهُ". وهذا صريح أخرجه الترمذي والدارقطني. قال الترمذي: يرويه بقية، وهو مدلس، فإذا روى عن الثقات جود. ا. هـ. بلفظه.
(2)
لحديث أبي هريرة: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيتَتُهُ". يعني البحر، وقد تقدم فراجعه. ولقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من أهل اللسان: صيده ما صدته. وطعامه ما رمي به. ا. هـ. المنتقى للباجي.
(3)
قال الباجي في شرح الموطإ: وأما ما تدوم حياته كالضفاع والسلحفاة فهو عند مالك طاهر حلال لا يحتاج إلى ذكاة، وفي القرطبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع، وإذًا فإن الذكاة لا تنفع فيها. والله أعلم.
(4)
قوله وما ذكي: أي بشرط أن يكون مما يباح أكله.
(5)
أي فلا تنفع فيه الذكاة.
(6)
دليله قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}
(1)
الآية، وفي=
(1)
سورة الأنعام: 80.
وَلَوْ مِنْ خنْزيرٍ إنْ جُزَّتْ (1)، وَالْجَمَادُ وَهُوَ جِسْمٌ غَيْرُ حَيٍّ وَمُنْفَصِلٍ عَنْهُ (2) إلَّا المُسْكِرَ (3). وَالْحَيُّ وَدَمْعُهُ وَعَرَقُهُ ولُعَابُهُ (4) ومُخَاطُهُ وبَيْضُهُ وَلوْ أكَلَ نَجِسًا (5) إلَّا
= مصنف عبد الرزاق ما نصه: عن عبد الرزاق عن الثوري عن ابن عون عن ابن سيرين قال: الصوف والمعز والجز والثل لا بأس به وبريش الميتة. ا. هـ. وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن معمر عن حماد: لا بأس بصوف الميتة ولكنه يغسل، ولا بأس بريش الميتة. ا. هـ.
(1)
لم أقف على دليل أستطيع أن أستجلبه على طهارة شعر الخنزير. والله أعلم.
(2)
يريد به ما لم تحل الروح فيه أصلًا، ولم يكن منفصلًا عن حي؛ كالعسل والسمن واللبن فإنها منفصلة عن حي.
(3)
فهو نجس لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتريت لأيتام في حجري خمرًا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أهْرِقِ الْخَمْرَ وَكسِّرِ الْدِّنَانَ). فأعاد عليه ذلك ثلاث مرات. أخرجه الدارقطني.
(4)
دليل طهارة العرق ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا معروريًا لأبي طلحة، وهو متفق عليه من حديث أنس. ودليل طهارة عرق الإنسان حديث أنس عن مسلم والبيهقي أن أم سليم كانت تجعل من عرقه صلى الله عليه وسلم في قارورة، وأنه لما سألها قالت: بركتك يا رسول الله نجعله في طيبنا. فقال صلى الله عليه وسلم "أصَبْتِ".
وأما طهارة لعاب الحي فحديث جابر رضي الله عنه عند البغوي الذي تقدم: أفَنَتَوَضَّأْ مِمَّا أفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟. قال: "نَعَمْ! وَممَّا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا". فلو لم يكن لعاب هذه الحيوانات طاهرًا لأنجس سؤرها لعابها، وأيضًا فإن حديث عمرو بن خارجة دليل على طهارة العرق واللعاب من الحيوان حيث يقول: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولعابها يسيل على كتفي. وطهارة المخاط والبصاق فحديث رواه البخاري في الصحيح عن الفريابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه، قال البيهقي: وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه؛ يعني وهو في الصلاة. ا. هـ.
(5)
لحديث: أفنتوضأ مما أفضلت الحمر؟. قال: نعم. الحديث، ومعلوم أن الحمار يأكل
الْمَذِرَ وَالْخَارِجَ بَعْدَ الْمَوْتِ (1).
وَلَبَنُ آدَمِيٍّ (2) إِلَّا الْمَيِّتَ، وَلَبَنُ غَيْرِدِ (3) تابعٌ، وَبَوْلٌ وَعَذِرَةٌ مِن مُباحٍ (4) إلَّا الْمتَغَذِّيَ (5) بِنَجَسٍ، وَقَئٌ إلَّا الْمُتَغَيِّرَ (6) عَنِ الطَّعَامِ، وصَفْرَاءُ وَبلغَمٌ (7) وَمَرارةُ
= النجاسات. قلت: والأظهر في الدليل استثناءُ لعاب الكلب لأحاديث الولوغ والإراقة، والمتبادر إلى الذهن أن الخنزير شر منه، لحديث نزول عيسى، وذكر فيه:"يَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتلُ الْخِنْزِيرَ"، علمًا بأن في المدونة: قال علي وابن وهب عن مالك: لا يعجبني الوضوة بفضل الكلب إذا كان الماءُ قليلًا. فهو يدل على أنه يرى نجاسته ونجاسة لعابه. ويدل أيضًا أنه كان يرى نجاسة ماءٍ قليل وقعت فيه نجاسة، وأما الاستدلال على طهارة لعابه بأنه يؤكل صيده فهو غير وجيه، إذ لا منافاة بين أكل صيده وتطهير أثر لعابه. انظر نيل الأوطار في هذا المحل والله الموفق.
(1)
نسبه ابن قدامة في المغني لعلي بن أبي طالب وابن عمر وربيعة ومالك بن أنس والليث وبعض الشافعية. ا. هـ.
(2)
لطهارة الآدمي، لقوله صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ" متفق عليه. ولأنه تغير إلى مصلحة، والقاعدة تفيد أن ما تغير الى فساد فهو فاسد نجس كالروث، وما استحال إلى صلاح فهو طاهر كالبيض واللبن. قال في المنهج المنتخب:
وهل يؤثر انقلاب كعرق
…
ولبن بول وتفصيل أحق
(3)
أي فكل ما يؤكل لحمه فلبنه طاهر وما لا فلا.
(4)
قد تقدم الكلام عليها عند تغير بئر البادية والغدران بأبوالها فراجعه.
(5)
لنجاسة أصله ولأنه لم يستحل إلى صلاح للقاعدة المتقدمة.
(6)
لحديث الموطإ، ونصه: وحدثني عن مالك أنه رأى ربيعة بن عبد الرحمن يقلس مرارًا وهو في المسجد فلا ينصرف ولا يتوضأ حتى يصلي. قال الباجي: وليست المضمضة عليه بواجبة، ولكن يستحب له أن يتمضمض من ذلك ويغسل فمه لأن القلس لا يكون طعامًا متغيرًا وإنما يستحب منه تنظيف الفم. ا. هـ. فإن كان القيء متغيرًا كان نجسًا، ووجب منه غسل الفم لحديث الموطإ: وسئل مالك هل من القيء وضوء؟. قال: لا، ولكن ليمضمض من ذلك، وليغسل فاه وليس عليه وضوء. أي فإن كان غير متغير فالأمر على الاستحباب كما تقدم، وإن تغير فهو على الوجوب.
(7)
الصفراء ماء أصفر ملتحم يشبه الزعفران يخرج من المعدة، والبلغم ماء منعقد كالمخاط=
مُبَاحٍ وَدَمٌ لَمْ يُسْفَحْ وَمسْكٌ (1) وَفَأْرَتُهُ، وزَرْعٌ بِنَجَسٍ (2)، وخَمْرٌ تَحَجَّر أوْ خُلِّلَ (3) والنَّجَسُ مَا اسْتُثْنِيَ ومَيْتُ (4) غَيْرِ مَا ذُكِرَ وَلَوْ قَمْلَةً (5) وَآدَمِيَا والأظْهَرُ طَهَارَتهُ (6)، وَمَا أُبيِنَ مِن حَيٍّ وَمَيْتٍ؛ مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَظُفْرٍ وَعَاجٍ وَقَصَبِ (7) رِيشٍ وَجِلْدٍ
= يخرج من الصدر أو يسقط من الرأس، والعلة في طهارتهما الحياة؛ لأن الحياة عدنا علة طهارة الحي، وإنما قلنا بنجاسة القيء للتغير واستحالته إلى فساد.
(1)
قال الباجي: وإنما حكم لها بالطهارة -والله أعلم- لأنها قد استحالت عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات واسم يختص بها فطهرت بذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى صفات أخرى فيكون طاهرًا. ا. هـ. محل الغرض منه.
(2)
و (3) علة طهارتهما الاستحالة إلى صلاح كالمسك وللقاعدة آنفة الذكر.
(4)
لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}
(1)
الآية.
(5)
وجه الخلاف فيها في تحقيق المناط في كونها مما له نفس سائلة أولا؟. فمن قال بنجاسة ميتتها يقول: هي ذات دم. ومن قال: لا تنجس ميتتها. يقول: هي لا دم لها، وإنما هي ناقلة لدم غيرها.
(6)
الآدمي المسلم؛ ذكر الشوكاني الإجماع عدى طهارته حيًا وميتًا لقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: "الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ". وعند البخاري تعليقًا "الْمُؤمنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيْتًا" وحديث ابن عباس عند البيهقي: "إن مَيِّتَكُمْ بَمُوتُ طَاهِرًا فَحَسْبُكُمْ أنْ تَغْسِلُوا أيْدِيَكُمْ". وأما الآدمي الكافر فمذهب مالك نجاسته حيًا وميتًا لظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}
(2)
الآية. وبه يقول أبو حنيفة، والذي استظهره ابن يونس قول غيرهما. انظر نيل الأوطار. ا. هـ.
(7)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا أبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيْتٌ" عند الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري يرفعه، قال ابن حجر في التلخيص: ورواه الدارمي وأحمد والترمذي وأبو داود والحاكم من حديث عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن أبي واقد الليثي بلفظ آخر مثله في المعنى فانظره. والعظم=
(1)
سورة المائدة: 3.
(2)
سورة التوبة: 28.
وَلَوْ دُبغَ ورُخِّصَ فِيهِ مُطلَقًا -إِلَّا مِنْ خِنْزِيرٍ- بَعْدَ دَبْغِهِ فِي يابِسٍ (1) وَمَاءٍ، وفيها كراهَةُ الْعَاجِ والتَّوقفُ فِي الكيْمَخْتِ. وَمَذِيٌّ (2) وَمَنِيٌّ (3) وَوَدْيٌ (4) وقَيْحٌ وصَدِيدٌ،
= والقرن والظلف والظفر والعاج وقصب الريش إذا كانت من الحي فهي حية لدليل قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}
(1)
. الآية، فما يحيا فهو ميت، وأيضًا فإن دليل الاحساس على الحياة ظاهر لأن ألمه أشد من الألم في اللحم والجلد. ا. هـ.
(1)
قال الخرقي: وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس. ا. هـ. واستدل له ابن قدامة بقوله صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَاب وَلَا عَصَبٍ". رواه أبو داود والإمام أحمد. ولكنه وردت أحاديث في الباب تعارضه؛ منها الصحيح ومنها ما تكلم فيه، من ذلك حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتوضأ من سقاء فقيل له: إنه ميتة. فقال: "دِبَاغهُ يُزِيلُ خَبَثَهُ أوْ نَجَسَهُ أوْ رِجْسَهُ".
قال في التلخيص: وإسناده صحيح. رواه الحاكم والبيهقي والنسائي وابن حبان والطبراني. ا. هـ. وحمله مالك على الانتفاع به في خصوص الماء لأنه يدفع عن نفسه، وفي اليابس الذي لا يتحلل إليه منه شيءٌ. ا. هـ.
(2)
لحديث مسلم والبخاري عن علي بن أبي طالب: كنت رجلًا مذاء، وكنت أستحيي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال:"يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ويتَوَضَّأ".
(3)
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المنى ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل. متفق عليه.
(4)
لحديث ابن عباس عند البيهقي قال: المني والمذي والودي؛ فالمني فيه الغسل، ومن هذين الوضوء، ويغسل ذكره ويتوضأ.
(1)
سورة يس: 78.
وَرُطُوبَةُ (1) فَرْجٍ وَدَمٌ مَسْفُوحٌ (2) وَلَوْ مِنْ سَمَكٍ وَدُبَاب، وسَوْدَاءُ ورَمَادُ نَجَسٍ ودُخَانُه وَبَوْلٌ وعَذِرَةٌ مِنْ آدَمِيٍّ وَمُحَرَّمٍ (3) ومَكْرُوهٍ. ويَنْجُسُ كثيرُ طَعَامٍ مَائعٍ بِنَجَسٍ (4) قَلَّ؛ كَجَامِدٍ إنْ أمْكَنَ السَّريَانُ (5) والَّا فبِحَسَبِه. وَلَا يَطْهُرُ زيْتٌ خُولِطَ وَلَحْمٌ طُبخَ، وَزَيْتُونٌ مُلِّحَ وبَيْضٌ سُلِقَ بِنَجَسٍ وَفَخَّارٌ بغَوَّاصٍ (6)، ويُنْتَفَعُ بِمُتَنَجِّسٍ (7) لَا نَجِسٍ (8) في غَيْرِ مَسْجِدٍ وَآدَمِيٍّ، وَلَا يُصَلَّى بِلِبَاسِ كَافِرٍ بِخِلَافِ
(1)
لحديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: يارسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟. قال:"يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأة مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلّي". قال المنتقى للمجد: أخرجاه. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأةَ مِنْة". فقد أمره بغسل رطوبة الفرج، وإن كان عدم الغسل لعدم الإنزال منسوخًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأرْبَعِ ثَمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ". متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(2)
لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} . الاية.
(3)
لاستحالته من الآدمي إلى فساد، ولما ورد في نجاسة أبوال وأرواث وألبان ما لا يؤكل لحمه، ولخبر بول الأعرابي في المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من الماء فصب عليه.
(4)
لا خلاف في ذلك بين العلماء، ولقوله صلى الله عليه وسلم في السمن الذي وقعت فيه فأرة:"وَإنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ".
(5)
لحديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن قال: "إذَا كَانَ جَامِدًا فَأَلْقوهُ وَمَا حَوْلَهَا. وَإنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ". أخرجه أحمد وأبو داود، وفي كنز العمال.
(6)
لسريان النجاسة في جميع الأجزاء، فلم تبق إزالتها عن جميع ما ذكره ممكنة. والله أعلم.
(7)
لما رواه أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن قومًا اختبزوا من آبار الذين ظلموا أنفسهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعْلِفُوهُ النَّواضِحَ". وقال مالك والشافعي: يطعم البهائم وخصه الإمام أحمد بما لا يؤكل لحمه. وهو بمحض الاجتهاد والله الموفق.
(8)
للحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود=
نِسْجِهِ ولا بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، ولَا بِثِيَابِ غَيْرِ مُصَلٍّ إِلَّا كَرَأسِهِ وَلَا بِمُحَاذي فَرْجِ غَيْرِ عَالِمٍ (1). وَحَرُمَ استعمالُ ذَكَر مُحَلًّى وَلَوْ مِنْطَقَةً وآلةَ حَرْبٍ (2)، إِلَّا
= ويستصبح بها الناس؟. قال: "لَا، فوَ حَرَامٌ".
(1)
قوله: ولا يصلى بلباس كافر. ألخ؛ كل ذلك للاحتياط والأخذ باليقين؛ ولدليل حديث عائة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شُعُرِنَا. رواه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي، ولفظ الترمذي: لا يصلي في لحف نسائه. قال الشوكاني: ورواه أيضًا النسائي وابن ماجه، كلهم من طريق محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة.
وقولي: إن فعله هذا كان للاحتياط، لأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعت رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في ثوبي الذي آتي فيه أهلي؟. قال: "نَعَمْ، إلَّا أنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا تَغْسِلُهُ". رواه أحمد وابن ماجه. وحديث أبي هريرة: كنا نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه. الحديث رواه أحمد. وحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعليَّ مرط عليه بعضه. رواه أيضًا أبو داود وابن ماجه. وحديث أبي قتادة المتفق عليه: كان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها.
كل ذلك يدل على أن مظنة النجاسة دون تيقنها، لا تبطل الصلاة وإنما نهي عن ذلك في المذهب للاحتياط والأخذ باليقين. والله الموفق.
(2)
قيل تعليل حرمة استعمال ذلك التزهيد في الدنيا، ولكن الوعيد في ذلك يرد عليه، لأنه لا يرد وعيد إلا في محرم، والنص الوارد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ولا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَلَا تَأكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإنهَا لَهُم فِي الدنْيَا وَلَكُم فِي الآخِرةِ". متفق عليه من حديث حذيفة، وورد في الذي يستعمل ذلك من الوعيد قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ في بَطْنهِ نَارَ جَهَنَّمَ". متفق عليه من حديث أم سلمة رضي الله عنها. ولعائشة رضي الله عنها عند أحمد وابن ماجه: "الذي يَشْرَبُ فِي إناءِ فِضَّةٍ كَأنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نارًا".=
المصحف (1)، والسَّيْفَ (2) والأنْفَ (3) ورَبْطَ سِنٍّ مُطْلَقًا (4) وخَاتَمَ فِضةٍ (5)، لا ما بَعْضُه ذَهَبٌ، وإناءُ نَقْدٍ واقْتِنَاوةُ وإِنْ لامْرأَةٍ، وفي المغشَّى والمُمَوَّهِ
= وقد مال الشوكاني في نيل الأوطار إلى أن علة تحريم استعمال الفضة والذهب والحرير هي التشبه بأهل الجنة لحديث، قال: هو مناط معتبر للشارع، كما ثبت عنه حيث رأى رجلًا متختمًا بذهب فقال:"مَالِي أرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أهْلِ الْجَنَّةِ"؟.
قال: أخرجه الثلاثة من حديث بريدة. ا. هـ. محل الغرض منه.
(1)
وقوله: إلا المصحف، هو لما أخرجه البيهقي بسنده عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكًا عن تفضيض المصاحف، فأخرج الينا مصحفًا، قال: حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا ونحوه. ا. هـ.
(2)
وقوله: والسيف، هو لما أخرجه البيهقي بسنده عن عثمان بن سعد الكاتب عن أنس؛ أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من فضة. قال رواه أبو داود عن محمد بن بشار عن يحيى بن كثير. ا. هـ.
وأخرج بسنده عن مرزوف الصيقل قال: صقلت سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفقار، فكان فيه قبيعة من فضة، وبكرة في وسطه من فضة، وحلق في قيده من فضة. وأخرج البيهقي أيضًا بسنده عن نافع أن ابن عمر تقلد سيف عمر يوم قتل عثمان رضي الله عنه وعنهم، وكان محلى، قال: قلت: كم كانت حليته؟. قال: أربعمائة. ا. هـ. إلى غير ذلك من الآثار الواردة.
(3)
وقوله: والأنف، هو لما ثبت أن عرفجة بن أسعد العطاردي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفًا من ذهب. كما رواه البيهقي.
(4)
وقوله: وربط سن مطلقًا، هو لما أخرجه البيهقي بسنده عن محمد بن سعدان مولى قريش عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك يطوف به بنوه على سواعدهم وقد شدَّت أسنانه بذهب. ا. هـ.
قال البيهقي: وروينا في ذلك عن الحسن البصري والنخعي وغيرهما من التابعين. ا. هـ.
(5)
وقوله: وخاتم فضة، هو لما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن شهاب، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم بخاتم فضة، فلبسه في يمينه فصه حبشي، وكان يجعل فصه مما يلي بطن كفه. قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح. ا. هـ. منه.
والمُضَبَّبِ وذي الْحَلَقَةِ (1) وإِناءِ الْجَوْهَر (2) قَوْلَانِ، وجَازَ للمرأةِ الملبوسُ مُطْلَقًا وَلَوْ نَعْلًا لَا كَسريرٍ (3).
(1)
وقوله: وذي الحلقة، الدليل على جواز اتخاذ الضبة في الإِناء، هو ما ثبت في البخاري عن أنس أن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. ا. هـ.
(2)
وقوله: وإناء جوهر، يميل الشوكاني إلى القول باتخاذ إناء الجوهر؛ حيث يقول في نيل الأوطار: وقد قيل أن العلة في التحريم الخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء، ويرد علبه جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ولم يمنعها إلا من شذ، وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإِجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وجاز للمرأة الملبوس مطلقًا ألخ، هو لما أخرجه البيهقي بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْحَرِير وَالذهَبُ حَرَامَ عَلَي ذُكُورِ أْمَّتِي حِل لإِنَاثِهِمْ". قال البيهقي: وقد رويناه من حديث علي بن أبي طالب وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وفي الباب أحاديث أخر. والله الموفق.
أما منعها من انخاذ السرير فلعله لما فيه من الخيلاء والبذخ والترف. والله أعلم.
فصل
هَلْ إِزَالَةُ النجاسة عَنْ ثَوْبِ مُصَلٍّ، وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَتهِ وبَدَنِهِ وَمَكَانِهِ لَا طرف حَصِيره، سُنَّةٌ أو وَاجِبَةٌ إِنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ، وإلَّا أَعادَ الظُهْرَيْنِ للاصْفِرَارِ خِلَافٌ (1)،
(1)
الظاهر من الخلاف الوجوب؛ بدليل قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
(1)
. قال الباجي: ولا خلاف أنه ليست هنا طهارة واجبة للثياب غير طهارتها من النجاسة، ولا دليل لمن اعترض على الاستدلال بالآية؛ بكونها مكية نزلت أول ما نزل من القرآن قبل فرض الصلاة، لأنه لا مانع من تكرار النزول، ولأنه يحتمل أن يكون خص بوجوب الصلاة عليه قبل الأمة؛ وأيضًا فإن الصلاة كانت شرعًا لمن قبلنا، وهو شرع لنا إذا ثبت في شرعنا أنه كان شرعًا لهم، ولم ينص لنا على أنه ليس شرعًا لنا، وإذًا فيحتمل أن يكون قد اتبع في الصلاة شرع من قبله من النبيين، فوجب ذلك باتباعهم، وتأخر الأمر بنص شرعنا عن ذلك الوقت، فلا يمتنع أن يكون قد أمر على الوجهين بتطهير الثياب للصلاة في أول الأمر، ثم ورد بعد ذلك نص الأمر بالصلاة. والدليل على ما قلناه من جهة السنة ما رواه البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: "إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ". ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدهَ. قالوا: يا رسول الله لم فعلته؟. قال: "لَعَلهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". ا. هـ. منه ببعض التصرف.
وعليه فالذي يؤيده الدليل أن إزالة النجاسة واجبة وجوب الفرائض، فمن صلى بها عامدًا ذاكرًا أعاد أبدًا. وقد رواه أبو طاهر عن ابن وهب، كما نقله الباجي؛ وأما أن يصار إلى أنها شرط في صحة الصلاة، كما هو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير، فغير ظاهر، لحديث خلع النعلين؛ لأنه بنى صلى الله عليه وسلم على ما صلى قبل خلعهما، ولحديث عائشة عن أبي داود قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى فيه الغداهَ ثم جلس، فقال رجل: يارسول الله، هذه لمعة من دم في الكساء. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مع ما يليها،=
(1)
سورة المدثر: 4.
وَسُقُوطُهَا في الصَّلَاةِ مُبْطِلٌ (1) كَذِكْرِهَا فِيهَا لَا قَبْلَهَا، أو كَانِتْ أَسْفَلَ نَعْلٍ فَخَلَعَهَا (2)، وعُفِيَ عما يَعْسُرُ كَحَدَثٍ مُستْنكِحٍ وَبَلَلِ بَاسُورٍ في يَدٍ إن كَثُرَ الرَّدّ أَوْ ثَوْبٍ، وَثَوْبُ مُرضِعَةٍ تَجْتَهِدُ، وَنُدبَ لَهَا ثَوْبٌ لِلْصَّلَاةِ (3). وَدُونَ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ
= وأرسلها إلي مصرورة في يد الغلام فقال: "اغْسِلَي هذِهِ وَأجفِّيهَا ثُم أرْسَلِي بِهَا إِلَيَّ" فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجففتها ثم أخرجتها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه. رواه أبو داود. والدليل منه على عدم الشرطية أنه لم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم أعاد تلك الصلاة التي صلاها في ذلك الثوب. انظر المبحث النفيس في نيل الأوطار.
(1)
أي سقوط النجاسة على المصلي واستقرارها عليه، أو تحلل شيء منها في ثوله إن لم تستقر مبطل لصلاة ذلك المصلي، لوجوب إزالتها مع الذكر والقدرة لما علمت.
(2)
لحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي -صلي الله عليه وسلم-: أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس، فلما انصرف قال لهم:"لِمَ خَلَعْتُمْ؟."قالو: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال: "إن جِبْرِيلَ أتَانِي فَأَخْبَرَني أنَّ بِهَما خَبَثًا، فَإِذَا جَاءَ أَحدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ رَأَى خَبَثًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأرْضِ ثُمَّ لْيُصَل فِيهِمَا". رواه أحمد وأبو داود. قال الشوكاني: وأخرجه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان.
وهذا الحديث دليل كما علمت على أن طهارة الخبث ليست شرطًا في صحة الصلاة، ومحل الشاهد منه كونه صلى الله عليه وسلم تمادى في صلاته وبنى على ما صلى منها وهو منتعل النعل الذي به الخبث.
(3)
هذه القاعدة التي هي: المشقة تجلب التيسيير. من أمهات الفقه الكبرى التي أسس عليها، كما عقده شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
قد أُسس الفقه على رفع الضرر
…
وأنَّ ما يشق يجلب الوطر
ومحل الشاهد منه قوله: وأن ما يشق يجلب الوطر؛ ودليلها من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}
(2)
.=
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة البقرة: 185.
مُطْلَقًا، وَقَيْحٍ وصَدِيدٍ وَبَوْلِ فَرَسٍ لِغَازٍ بأرْضِ حَرْبٍ، وَأَثرِ ذُبَابٍ مِنْ عَذِرَةٍ ومَوْضِعِ حِجامَةٍ مُسِحَ، فإذا بَرئَ غُسِلَ وإِلَّا أعاد في الوقْت وَأَوِّلَ بِالنِّسْيانِ وبالإطْلَاقِ، وكَطِينِ مَطَرٍ وَإن اخْتَلَطَتِ الْعَذِرَةُ بِالْمُصِيبِ لا إن غَلَبَتْ وظَاهِرُهَا الْعَفْوُ ولَا إِنْ أصَابَ عَيْنُهَا، وَذَيْلِ امْرَأةٍ مُطَالٍ للسِّتْرِ وَرِجْل بُلَّتْ يَمُرانِ بِنَجَس
= وقول المصنف: كحدث مستنكح
…
الخ. كله أمثلة للقاعدة الجليلة. وقوله: وندب لها ثوب للصلاة؛ أي من باب الحيطة لأن ذلك الأحوط لصلاتها. والله الموفق.
ثم إن المدونة نصها: وقال مالك في السلس؛ البول إن أذاه الوضوء واشتد عليه البرد فلا أرى عليه الوضوء. ا. هـ.
وفيها أيضًا ما نصه: ابن وهب عن عقبة بن نافع قال: سئل يحيى بن سعيد عن الرجل يكون به الباسور لا يزال يطلع منه فيرده بيده. قال: إذا كان ذلك لازمًا في كل حين لم يكن عليه إلا غسل يديه، فإن كثر ذلك عليه وتتابع لم نرعليه غسل يديه، وكان ذلك بلاء نزل به يعذر به بمنزلة القرحة. ا. هـ.
كل هذه المسائل تتبع قاعدة: المشقة نجلب التيسير التي قدمنا أن دليلها القرآن العظيم: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(2)
وقوله رحمه الله: لا إن أصاب عينها. يريد أنه لا عفو مع إصابة ذات النجاسة، وهو كذلك لأن حكم الخبث مقدر شرعًا قيامه بعين النجاسة، فلا عفو إذًا مع قيام ذاتها.
وقوله: وواقع على ما ر؛ أي لأن الأصل الطهارة، فيتناوله استصحاب الأصل. وهي قاعدة عظيمة عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وأبْقِ ما كان على ما كان
…
البيت ................
وقوله: وكسيف صقيل لإفساده من دم مباح؛ قال الباجي في المنتقى ما نصه: وأما الدم على السيف ففي العتبية من رواية ابن القاسم عن مالك؛ يمسح ويصلى به. وقد علل القاضي أبو محمد ذلك بصقالته، وأن النجاسة تزول عينها وأثرها بمسحه لأنها لا تبقى فيه، ويحتمل أن يقال في ذلك إن الذي يبقى فيه يسير معفو عنه كأثر المحاجم، وهذا آكد لأن السيف يفسد بالغسل، والحاجة إلى مباشرة الدماء متكررة. وبالله التوفيق -. ا هـ. منه. بلفظه.
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة البقرة: 185.
يَبِسٍ يَطْهُران بِما بَعْدَهُ، وخُفٍّ ونَعْلٍ مِنْ رَوْث دَوَابَّ وَبَوْلهَا إن دلكا لا غيره، فَيَخُلَعُهُ الماسِحُ لَا مَاءَ مَعَهُ وَيَتيَمَّمُ، واخْتَارَ إلحاق رجل الْفَقِير. وفي غيره للمتأخرين قَوْلَانِ، وَوَاقِعٍ عَلَى مَارٍّ وإن سَأَلَ صَدَّقَ المسلم وكَسَيْفٍ صَقِيلٍ لإِفْسَادِهِ مِنْ دَمٍ مُبَاحٍ، وأثر دُمَّلٍ لَمْ يُنكَا، وَنُدِبَ إن تَفَاحَشَ كدَم البَراغيث، إلا في الصَّلَاة. وَيَطْهُرُ مَحَل النَّجَسِ بِلَا نِيةٍ (1) بِغَسْلِهِ إن عُرِفَ، وَإلَّا فَبِجَمِيع المشْكُوكِ فِيهِ (2)، بِخِلَافِ ثوْبَيْهِ فيَتَحَرَّى، بِطَهُورٍ مُنْفَصِلٍ كَذلِكَ (3)، ولا يَلْزَمُ
= وأما القيح والصديد فقد قال في المدونة: قال ابن القاسم: والقيح والصديد عند مالك بمنزلة الدم. ا. هـ. منه.
قلت: فقد رجع بالسيف في تعليله الى القاعدة التي ذكرنا، ودين الله يسر، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} .
سبحانه وتعالى ما أكرمه وأرحمه، بيده الأمر كله وهو الموفق إلى ما فيه رضاه تعالى. وذكر في المدونة: ابن وهب عن عمر بن قيس عن عطاء قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون حفاة، فما وصلوا من قشب رطب غسلوه، وما وصلوا عليه من قشب يابس لم يغسلوه. ا. هـ.
وفي الموطإ عن أم سلمة زوج النبي -صلي الله عليه وسلم- أنها قالت: في ذيل المرأة المطال للستر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ" وفي المدونة: قال مالك: لا بأس بطين المطر وماء المطر المستنقع في السكك والطرق.
(1)
لأنه لا تشترط النية في طهارة الخبث. قال الباجي في المنتقى: وأما ما يفعله المرء في غيره فلا يفتقر إلى نية؛ كغسل الميت وغسل الإناء. ا. هـ. محل الغرض منه.
(2)
ففي المدونة ما نصه: وقال مالك في الثوب يصيبه البول، أو الاحتلام فيحصي موضعه ولا يعرفه، قال: يغسله كله. قلت: فإن عرف تلك الناحية منه؟. قال: يغسل تلك الناحية. ا. هـ.
(3)
أي ويطهر محل النجس بغسله بطهور، انفصل منه بعد غسله غير متغير لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا.
عَصْرُهُ مَعَ زَوَالِ طعمه، لَا لَوْنٍ وَرِيح عَسُرا (1)، والغُسَالَةُ الْمُتَغَيِّرةُ نَجِسَةٌ (2)، وَلَوْ زَالَ عَيْنُ النَّجاسَةِ بِغَيْرِ المُطْلَقِ لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلَاقِي مَحَلِّهَا، وإن شَكَّ في إصَابَتِهَا لِثَوْبٍ وَجَبَ نَضْحُهُ (3) وَإن تَرَكَ أعادَ الصَّلَاةَ كَالْغَسْلِ، وهُوَ رَشٌّ بِالْيَدِ بِلَا نِيَّةٍ، لَا إنْ شَكً في نَجاسَةِ المُصِيبِ أوْفِيهِمَا (4)، وَهَلِ الْجَسَدُ كالثَّوْبِ أو يَجِبُ غَسْلُهُ خِلَافٌ (5). وَإذَا اشْتَبهَ طَهُورٌ بِمُتَنَجِّسٍ لَا نَجَسٍ، صَلَى بعَدَدِ النَّجِسِ وَزيَادَةِ إنَاءٍ (6)، ونُدِبَ غَسْلُ إِنَاءِ مَاءٍ وُيراقَ، لَا طَعَامٍ (7) وحَوْضٍ، تَعَبُّدًا سَبْعًا
(1)
لحديث أبي هريرة قال: سألت خولة -هي بنت يسار- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم؟. قال:"يَكْفيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُركِ أَثرُهُ". قال في بلوغ المرام أخرجه الترمذي وسنده ضعيف، قلت: وقد أخرجه في المدونة، ونصها: ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن يزيد بن أبي حبيب عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة، أن خولة بنت يسار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَخْرجِ الدَّمُ مِنَ الثَّوْبِ؟. قَالَ: "يَكْفِيكِ الْمَاءُ"ا. هـ. منه بلفظه.
(2)
لأنها والحالة هذه ماء تغير بنجس، ولا يخفى أنه والحالة هذه لا خلاف في نجاسته.
(3)
ونص المدونة في الموضوع هو: قال مالك في الثوب يصيبه البول .. إلى أن قال: قلت: فإن شك فلم يستيقن أصابه أو لم يصبه؟. قال: ينضحه بالماء ولا يغسله، وذكر النضح قال: هو الشأن. قال: وهو من أمر الناس. قال: وهو طهور لما شك فيه. ا. هـ. منه.
(4)
لأن اليقين لا يرفع بالشك، للقاعدة العظيمة التي تقدمت الإشارة إليها وتقدم دليلها.
(5)
ما ذهب إليه في المدونة أن الجسد يجب غسله من النجس كالثوب، ونصه: وقال مالك فيمن صلى وفي جسده نجس: هو بمنزلة من هو في ثويه، يصنع فيها كما يصنع من صلى وفي ثويه دنس. ا. هـ. منه.
(6)
هذا القول مروي عن سحنون وابن الماجشون؛ وعن ابن سحنون عن أبيه أنه يتركها ويتيمم. وعلى كل حال فليس إلا الاجتهاد في المسألة، وما ذكره هنا أحوط. والله الموفق.
(7)
نص المدونة: وقال مالك: إن ولغ الكلب في إناء به لبن فلا بأس بأن يؤكل ذلك اللبن.
بِوُلوِغِ كَلْبٍ مُطْلَقًا، لَا غَيْرِهِ (1).
قلت: هل كان مالك يقول بغسل الإناء سبع مرات إذا ولغ الكلب في الإِناء في اللبن وفي الماء؟.
قال: قال مالك: قد جاء الحديث وما أدري ما حقيقته؟. قال: وكأنه كان يرى أن الكلب كأنه من أهل البيت وليس كغيره من السباع، وكان يقول: إن كان يغسل ففي الماء وحده وكان يضعفه. وقال: لا يغسل من سمن ولا لبن ويؤكل ما ولغ فيه من ذلك، وأراه عظيمًا أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيلقى الكلب ولغ فيه. ا. هـ. محل الغرض منه.
(1)
قلت: الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: "إذَا شَربَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ مبْعًا". ولأحمد ومسلم: "طَهُوز إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَة سَبعَ مَرَّات أُولَاهُنَّ التُّرابِ". وهو نص في أن الكلب إذا ولغ في إناء بصيغة التنكير، أهريق ما فيه وغسل سبع مرات؛ فهو دليل على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب، قال الشوكاني: وإليه ذهب ابن عباس وعروة من الزبير ومحمد بن سيرين وطاوس وعمرو بن دينار والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود. ا. هـ. منه.
فحكاية ندب الغسل هنا وتخصيص الولوغ بالماء يحتاج إلى مخصص خارجي، وقد نقلنا لك من لمدونة الفتوى المنقولة عن مالك والتي يتبلور منها محض الاجتهاد. وعندي أنه هنا يتعين في المسألة لأخذ بقوله المأثور عنه: إذا رأيت فانظروا في رأيي؛ فما وافق السنة والكتاب فخذوا به، وما خالفهما اضربوا به الجدار.
وقولي: إنه يتعين العمل بذلك هنا، لأن المنقول عن الإمام هنا محض الاجتهاد، ألا ترى إلى وله: وأراه عظيمًا أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيلقى لكلب ولغ فيه، وإذًا، فإنه اجتهاد في محل رد فيه النص. ومعلوم أن المقرر في فن الأصول، أن مثل ذلك يقدح فيه بالقادح المعروف بفساد لاعتبار، على ما عقده شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
والخلف للنص أو اجماع دعا
…
فساد الاعتبار كل من وعى
لذي يجب الرجوع إليه في نظري وتجب به الفتيا، هو وجوب إراقة إناء المائع الذي ولغ فيه الكلب، غسل الإناء منه سبع مرات؛ وذلك امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم، الذي هو حقيقة في الوجوب. بدليل قوله=
عندَ قَصْدِ الاسْتِعْمَالِ بِلَا نِيَّةٍ وَلَا تَتْريبٍ (1)، ولا يَتَعَدَّدُ بِوُلُوغِ كَلْبٍ أوْ كِلَابٍ (3).
= تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ}
(1)
الآية، وقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(2)
. وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}
(3)
. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُ}
(4)
. إلى غير ذلك. وإن الفتيا بطهارة الماء الذي ولغ فيه الكلب وجواز الوضوء به، والفتوىَ بطهارة اللبن أو السمن الذي ولغ فيه الكلب، بعد أن يتبلغ المفتي بذلك الأحاديث الصحيحة، الواردة بالأمر وبالإِراقة والغسل، إن الفتوى بذلك في نظري جراءة عظيمة. وبالله تعالى التوفيق، هو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وقوله بلا تتريب، فقد تعجب من هذا القول الإمام القرافي. ذكر الشوكاني عنه أنه قال: قد صحت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها؟. علمًا بأن التتريب لم يقع في رواية مالك إلا أنه ورد في روايات صحيحة يجب العمل بها، وإن قال بعضهم بأنها معللة بالاضطراب لأن في بعض ألفاظها: أولاهن، وفي لفظ: أخراهن، وفي لفظ: إحداهن، وفي لفظ: السابعة، ولفظ الثامنة. قالوا: والاضطراب يوجب الاطراح. قال الشوكاني: وأجيب بأن المقصود حصول التتريب في مرة من المرات، وأن إحداهن مبهمة، وأولاهن معينة لذلك الابهام، وكذلك الألفاظ الأخرى، ومقتضى الصناعة الفقهية أن يحمل المطلق على المقيد. ا. هـ. محل الغرض منه بتصرف.
(2)
قوله: ولا يتعدد بولوغ كلب
…
ألخ. هو للقاعدة المقررة التي عقدها ميارة في تكميله بقوله:
إن يتعددْ سبب والموجَبُ
…
متحد كفى لهن موجب
(1)
سورة الحشر: 7.
(2)
سورة النور: 63.
(3)
سورة النساء: 80.
(4)
سورة النور: 54.
فصل
فَرَائِضُ الْوُضُوءِ
غَسْلُ مَا بَينَ الْأذنينِ ومنابتِ شَعَرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ والذَّقْنِ وظاهرِ اللِّحْيةِ؛ فيَغْسِل الوَترَةَ وأَساريرَ جبهته وظاهرَ شَفَتَيْهِ بتخليل شَعَرٍ تظهر البشرةُ تحتهُ لَا جُرْحًا برئَ أَوْ خلِق غائرًا (1).
(1)
ذكر في هذا الفرض الأول من الوضوء وهو الوجه، ودليله الكتاب بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم}
(1)
. الآية. وكل كلامه هنا في تحديد الوجه. فذكر أن حده عرضًا ما بين الأذنين، وأن حده طولًا ما بين منابت شعر الرأس المعتاد والذقن، ومضمون ما ذكر أنه يجب عليه غسل ما ظهر من جسده، بما في ذلك بشرته الظاهرة من خلال شعر اللحية. ومذهب العتبية كراهة تخليل اللحية الكثيفة، وفي سنن الدارمي أخبرنا مالك بن اسماعيل، ثنا اسرائيل عن عامر بن شقيق عن شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان توضأ فخلل لحيته وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ. ا. هـ. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه بروايتين، لكن ذكر ابن حجر في تلخيص الحبير جـ 1/ ص 87 قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخليل اللحية شيءٌ ا. هـ. وفي البيهقي من حديث ابن عباس في صفة غسله صلى الله عليه وسلم أنه: أخذ غرفة فجعل بها هكذا -يعني أضافها إلى يده الأخرى- فغسل بها وجهه. ا. هـ. محل الغرض منه.
وذكر في الحديث الذي بعد هذا من حديث حمران مولى عثمان أنه أخبره أنه رأى عثمان بن عفان غسل وجهه ثلاثًا. وأخرج الدارقطني في سننه من حديث نافع عن ابن عمرأن النبي -صلي الله عليه وسلم- كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، وشبك لحيته بأصابعه من تحتها. ا. هـ. منه.
وفى المدونة: وقال مالك في الوضوء: تحرك اللحية من غير تخليل. ابن وهب: إن ربيعة بن أبي عبد الرحمن كان ينكر تخليل اللحية وقال: يكفيها ما مر عليها من الماء -إلى أن قال- وقال ابن سيرين ليس من السنة غسل اللحية، وإن ابن عباس لم يكن يخلل لحيته من الوضوء، من حديث ابن= وهب عن عبد الجبار عن عمر. ا. هـ.
(1)
سورة المائدة: 6.
ويدَيْه بِمِرْفَقِيْهِ (1) وبقية مِعْصَمٍ إِن قُطِعَ كَكَفٍّ بِمَنْكِبٍ، بِتَخْلِيلِ أصَابِعِهِ (2) لَا إجَالَةُ خاتمه (3) ونَقَضَ غَيْره.
(1)
الدليل في هذا قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
(1)
الآية -وفي حديث حُمران مولى عثمان بن عفان الذي وَصَف فيه وصْف عثمان رضي الله عنه به وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك. ا. هـ. الغرض منه. من بلوغ المرام. وقال: متفق عليه.
وأخرج ابن خزيمة في حديث إسناده صحيح، عن عبد خير عن عليٍّ رضي الله عنه، ومحل الغرض منه قال: ثم غسل يده اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق، ثم غسل يده اليسرى ثلاث مرات إلى المرفق. ا. هـ. وقال في آخر الحديث: هذا طهور نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره. ا. هـ. منه. وفي المدونة من حديث مالك عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد بن عاصم، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال: نعم. إلى أن قال: ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين. ا. هـ.
وفي المدونة عن ابن القاسم: قلت فإن هو قطعت يداه من المرفقين أيغسل ما بقي من المرفقين ويغسل موضع القطع؟. قال: لا يغسل موضع القطع، وإن لم يبق من المرفقين شيء فليس عليه أن يغسل شيئًا من يديه إذا قطعتا من المرفق. ا. هـ. منه.
(2)
لحديث ابن عباس عن أحمد وابن ماجه والترمذي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ أصَابعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ". قال الشوكاني في نيل الأوطار: رواه أيضًا لحاكم، وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف ولكن حسنه البخاري لأنه من رواية موسى بن عقبة عن صالح، وسماع موسى منه قبل أن يختلط. ا. هـ. وفي الباب أحاديث أخرى أنظرها في نيل الأوطار.
(3)
وعن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه. رواه ابن ماجه والدارقطني، وقال=
(1)
سورة المائدة: 6.
وَمَسْحُ مَا عَلَى الجمْجُمَةِ بعظم صُدْغَيْهِ مَع المُسْتَرْخِي (1)، ولَا يَنْقُضُ ضَفْرَهُ رَجُلٌ أوِ امْرأةٌ وَيُدْخِلَان يَدَيْهِمَا تَحْتَهُ في رَدِّ الْمَسْحِ (2)، وغَسْلُهُ مُجْزٍ (3) وَغَسْلُ
في نيل الأوطار: الحديث في إسناده معمر بن محمد بن عبيد الله عن أبيه وهما ضعيفان، وقد ذكره البخاري تعليقًا عن ابن سيرين، ووصله ابن أبي شيبة، وهو يدل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الأوساخ، وكذلك ما يشبه الخاتم من الإسورة والحلية ونحوهما. ا. هـ. منه بلفظه.
(1)
هذا دليله كتاب الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
(1)
. الآية، وقد بينت السنة المطهرة كيفية ذلك المسح؛ ففي المدونة من حديث مالك عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني، عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد بن عاصم وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَأ؟. قال عبد الله: نعم. إلى أن قال: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر؛ بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع بهما إلى المكان الذي منه بدأ. ا. هـ. محل الغرض منه.
وأخرج هذا الحديث البيهقي: باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح. ولعد أن ساقه نصًا قال: رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك؛ ورواه مسلم عن اسحاق بن موسى الأنصاري عن معن عن مالك.
وقوله: بعظم صدغيه، دليله ما اخرجه البيهقى في السنن الكبرى: باب تحري الصدغين في مسح الرأس. من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؛ فمسح ما أقبل من رأسه وما أدبر، ومسح صدغيه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ومنبتهما. ا. هـ.
(2)
ونص المدونة في ذلك: وقال مالك: المرأة في مسح الرأس مثل الرجل؛ تمسح على رأسها كله، وان كان معقوصًا فلتمسح على ضفرها. إلى أن قال: وقال مالك في المرأة: يكون لها الشعر المرخي على خديها من نحو الدلالين، إنها تمسح عليهما بالماء، ورأسها كله مقدمه ومؤخره. ورواه ابن وهب أيضًا وكذلك الذي له شعر طويل من الرجال.
(3)
الظاهر فيه الإجزاءُ ولكن مع الكراهة لمخالفة سنة المسح التى جاءت بها تعاليم الوحي والله تعالى أعلم.
(1)
سورة المائدة: 6.
رِجْلَيْهِ بِكَعْبَيْهِ (1) النَّاتِئَيْنِ بِمِفْصَلَي السَّاقَيْن؛ وَنُدِبَ تَخْلِيلُ أصَابِعِهِمَا (2) وَلَا يُعِيدُ مَنْ قَلَّمَ ظُفُرَهُ أوْ حَلَقَ رَأْسَهُ، وَفي لِحْيَتِه قَوْلَانِ. والدَّلْكُ (3)،
(1)
دليله قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(1)
الآية. وفي المدونة: قال ابن القاسم: قال مالك فيمن قطعت رجلاه إلى الكعبين، قال: إذا توضأ غسل بالماء ما بقي من الكعبين، وغسل موضع القطع أيضًا. قلت لابن القاسم: أيبقى من الكعبين شيء؟ قال: نعم، إنما يقطع من تحت الكعبين ويبقى الكعبان في الساقين. وقد قال تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . ولقد وقفت مالكًا على الكعبين اللذين إليهما حد الوضوء الذي ذكره الله في كتابه، فوضع لي يده على الكعبين اللذين في أسفل الساقين فقال لي: هذان هما. ا. هـ. منه.
والسنة المطهرة غسل الرجلين بدليل الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال: فنادى بأعلى صوته: "وَيْلٌ لِلأْعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مرتين أو ثلاثًا. ولما ذكره الشوكاني من إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على غسل الرجلين قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين. رواه سعيد بن منصور. ا. هـ. منه.
ولحديث جابر عن الدارقطني: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا. نقله عنه الشوكاني. ولقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءًا غسل فيه قدميه: "فَمَنْ زَادَ عَلَى هذا فَقَدْ أسَاءَ وَظَلَمَ". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق صحيحة. ا. هـ. نيل الأوطار.
(2)
لحديث ابن عباس المتقدم. عند أحمد وابن ماجه والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا تَوَضَّأْتَ فخَلِّلْ أصَابعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيكَ". انظر تحسين البخاري له عند الكلام على غسل اليدين.
(3)
لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول: هكَذَا يُدَلكُ. رواه أحمد، قال الشوكاني وهو احدى روايات حديثه المشهور. ا. هـ. منه. وفي المدونة.
وقال مالك في الجنب يأتي النهر فينغمس فيه انغماسًا، وهو ينوي الغسل من الجنابة ثم يخرج، قال: لا يجزئه إلا أن يتدلك، وإن نوى الغسل لا يجزئه إلا أن يتدلك. قال: وكذلك الوضوء من الماء. ا. هـ. منه.
(1)
سورة المائده: 6.
هل المُوَالاةُ وَاجِبَةٌ (1) إِنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ؟. وَبَنَىِ بِنِيَّةٍ إِنْ نَسِيَ مُطْلَقًا وإنْ عَجَزَ، مَا لَمْ بطُلْ بِجَفَافِ أعْضَاءٍ بِزَمَن اعْتَدَلَا، أو سُنَّةٌ خِلَافٌ. وَنيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ (2) عِنْدَ وجهِهِ، أو الْفَرْضِ او اسْتِبَاحَةِ مَمْنُوعٍ وإن مَعَ تَبَرُّدٍ،
(1)
ودليل وجوب الموالاة قوله في المدونة: وقال مالك فيمن توضأ ففرغ من بعض الوضوء، وبقي بعضه فقام لأخذ الماء، قال: إن كان قريبًا فأرى أن يبني. ا. هـ. منه.
ولدليل حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي، في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء. رواه أحمد وأبو داود وزاد: والصلاة. قال الأثرم: قلت لأحمد هذا إسناده جيد؟. قال: جيد. انتهى من منتقى الأخبار.
قال الشوكاني: الحديث يدل على مذهب من قال بوجوب الموالاة، لأن الأمر بالإعادة للوضوء كاملًا للإخلال به بترك اللمعة. ا. هـ. قال: وقال بالوجوب الأوزاعي ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قول له. وقال بعدم وجوبها أبو حنيفة والشافعي في قول له. قال الشوكاني: والتمسك، لوجوب الموالاة بحديث ابن عمر وأبي بن كعب أنه صلى الله عليه وسلم: توضأ على الولاء وقال: "هذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ". أظهر من التمسك بما ذكره المصنف في الباب، لولا أنه غير صالح للاحتجاج كما عرفناك في شرح حديث عثمان لا سيما زيادة قوله:"لَا يَقْبَلُ الله الصَّلَاةَ إلَّا بهِ". وقد روي بلفظ: "هذَا الذي افْتَرَضَ الله عَلَيْكُمْ". ا. هـ. محل الغرض منه.
والذي يقول بعدم وجوب الموالاة يتمسك ببعض أخبار، منها ما أخرجه البيهقي في سننه بسنده عن مالك بن أنس عن نافع أن ابن عمر: توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثًا ثلاثًا، ثم دخل المسجد فمسح على خفيه بعد ما جفَّ وضوؤه وصلى. قال البيهقى: وهذا صحيح عن ابن عمر، مشهور عن قتيبة بهذا اللفظ. وكان عطاء لا يرى بتفريق الوضوء بأسًا، وهو قول الحسن والنخعي أصح قولي الشافعي رضي الله عنه. ا. هـ. منه.
(2)
دليل وجوب نية رفع الحدث الحديث الصحيح الذي رواه محمد بن ابراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّمَا الْأعمالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلِّ امْرئٍ مَا نَوَى". الحديث، قال البيهقى: رواه =
أو أخْرَجَ بَعْضَ المُسْتَبَاحِ، أوْ نَسِيَ حَدَثًا (1) لا أخْرجَهُ، أوْ نَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أو استباحة مَا نُدِبَتْ لَهُ، "أوْ قَالَ: إنْ كُنتُ أحْدثتُ فَلَهُ، "أو جَدَّدَ فتبيَّنَ حَدَثُهُ، أوْ تَرَكَ لُمْعَةً فانْغَسَلَتْ بنية الْفَضْلِ، أو فرَّقَ النِّيَّةَ عَلى الْأعْضَاءِ (2)، والأظْهَرُ فِي الْأخِير الصِّحَّةُ، وعُزُوبُهَا بَعْدَه ورَفْضُهَا مُغْتَفَرٌ، وَفي تَقَدُّمِهَا بِيَسِيرٍ خِلَافٌ.
= البخاري في الصحيح عن محمد بن كثير عن الثوري عن مسدد عن حماد بن زيد، ورواه مسلم عن أبي الربيع. ا. هـ. ودليل وجوب النية للطهارة خصوصًا ما أخرجه البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضوءَ لَهْ وَلَا وُضوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ". قال البيهقي: حدثنا أبو علي ثنا أبو بكر ثنا أبو داود ثنا أحمد بن عمرو بن السرح ثنا ابن وهب عن الدراوري قال: وذكر ربيعة أن تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا وُضوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْه". إنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءًا للصلاة ولا غسلًا للجنابة. ا. هـ.
(1)
والنية القصد وهو عزيمة القلب، كذا قال النووي. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالًا أومآلًا. والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. وحديث عمر بن الخطاب قال الشوكاني: دليل على اشتراط النية في أعمال الطاعات، وأن ما وقع بدونها غير متعبد به، وباشتراط النية في الطهارة، قال ان فعي ومالك والليث وربيعة وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه. ا. هـ. بتصرف.
وكل هذه الفروع التي ذكرت هنا مدارها على قوله صلى الله عليه وسلم: "وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوى".
(2)
يشير بهذا الفرع الى القاعدة الخلافية التي عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وهل بغسل العضو عنه يرتفع
…
حدثه أم بالفراغ وسمع
إنكار بعض كأبى بكر وقد
…
أجيب عنه ولذا بحث ورد
وسُنَنُهُ: غَسْلُ يديه أوَّلًا ثَلَاثًا تَعَبُّدًا بِمُطْلَقٍ ونيَّةٍ، وَلَوْ نظيفَتَيْنِ، أوْ أحْدَثَ في أثْنَائِهِ مُفْترقَتَيْنِ (1). ومَضْمَضَةٌ واسْتِنْشَاقٌ وبَالَغَ مُفْطِرٌ، وفعلهما بِسِتٍّ أفْضَلُ وَجَازَا أَوْ إِحْدَاهُمَا بِغَرْفَةٍ، واستنثارٌ (2)، ومَسْحُ وجْهَيْ كُلِّ أُذُنٍ وَتَجْدِيدُ مائهما (3).
(1)
دليله حديث أوس بن أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوضأ فاستوكف ثلاثًا أي غسل كفيه. رواه أحمد والنسائي. قال الشوكاني: وهذا الحديث معناه في الصحيحين من حديث عثمان بلفظ: فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما. وقال في آخره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا.
ومن أدلته أيضًا حديث الصحيحين: "إذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَوْمهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخلَهَا في وَضُوئِهِ فَإنَّ أحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ". رواه البخاري في الصحيح، عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد، وهو من حديث أبي هريرة.
ومن الدليل على ذلك ما ثبت من حديث عبد خير أن عليَّ بن أبي طالب أخذ بيمينه الإناء فأكفا على يده اليسرى ثم غسل كفيه، ثم أخذ الإناء بيده اليمنى فأفرغ على يده اليسرى، فعله ثلاث مرات، قال عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده اليمنى حتى يغسلها مرات. الحديث أخرجه ابن خزيمة.
(2)
دليله حديث عبد خير عن علي انه أدخل يده اليمنى، في الإناء، فملأ فمه فتمضمض واستنشق واستنثر ففعل ذلك ثلاثًا، الحديث أخرجه البيهقي. وحديث أبي هريرة المتفق علبه:"إذَا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ ومَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوترْ" رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي الزناد. وحديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُم مِنْ مَنَامِه فَتَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْثِر ثَلَاثَ مَراتٍ فَإنَّ الشَّيْطَانَ يَبيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ". رواه البخاري في الصحيح عن ابراهيم بن حمزة، ورواه مسلم عن يزيد بن الهاد.
وحديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن. ابيه، عند البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أسْبغِ الوُضُوءَ وَخَلِّلِ الأصَابعَ، وإذَا اسْتَنشَقْتَ فَبَالِغْ إلَّا أنْ تَكُونَ صَائِمًا". وحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتفق عليه فيه: ثم ادخل يده فاستخرجها فتمضمض واستنشق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثًا. وأما فعلهما=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بست فلحديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده؛ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. رواه البيهقي وذكر أن يحيى بن معين سئل: هل رأى جد طلحة بن مصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال يحيى: المحدثون يقولون قد رآه، وأهل بيت طلحة يقولون: ليست له صحبة. انظر السنن الكبرى للبيهقى.
وفي المدونة ما يدل على أنهما ليستا واجبتين ونصها: وقال مالك فيمن ترك المضمضة والاستنشاق، وداخل أُذنيه في الغسل من الجنابة حتى صلى، قال: يتمضمض ويستنشق لما يستقبل وصلاته تامة. قال: ومن ترك المضمضة والاستنشاق، ومسح داخل الأُذنين في الغسل من الجنابة، والذي ترك ذلك في الوضوء فهما سواء. ا. هـ منه.
(3)
دليله ما أخرجه البيهقي من حديث عثمان بن عبد الرحمن التيمي قال: سئل ابن أبي مليكة عن الوضوء فقال: رأيت عثمان بن عفان سئل عن الوضوء فدعى بماء فذكر الحديث إلى أن قال: فأخذ ماء فسمح برأسه وأُذنيه فغسل بطؤلهما وظهورهما مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثم قال: أين السائلون عن الوضوء؟. هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
وفي حديث الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أُذنيه ظاهرهما وباطنهما. عند البيهقي أيضًا. وأما تجديد الماء لمسح الأُذنين فدليله حديث حبان بن واسع الأنصاري عند البيهقي؛ أن أباه حدثه أنه سمع عبد الله بن زيد يذكر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ لأُذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وكذلك روي عن عبد العزيز بن عمران بن مقلاص وحرملة ابن يحيى عن ابن وهب، ورواه مسلم بن الحجاج في الصحيح. ا. هـ. محل الغرض منه، وبالله تعالى التوفيق.
وَرَدُّ مَسْحِ رَأْسِهِ (1)، وتَرْتيبُ فَرَائِضِهِ (2)، فَيُعَادُ الْمُنَكَسُ وَحْدَهُ إِنْ بَعُدَ بِجَفَافٍ وإلَّا مع تابعه، وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا أَتَى بِهِ وَبِالصَّلَاةِ (3)، وسُنَّةً فَعَلَهَا لما يُسْتَقْبَلُ (4)
(1)
دليل رد مسح الرأس حديث عبد الله بن زيد بن عاصم، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: ثم مسح رأسه بيديه؛ فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع بهما إلى المكان الذي منه بدأ.
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: باب استحباب مسح الرأس باليدين جميعًا ليكون أوعب لمسح جميع الرأس، وصفة المسح، والبدء بمقدم الرأس قبل المؤخر في المسح، فذكر من حديث عبد الله ابن زيد بن عاصم محل الشاهد منه كما ذكر آنفًا.
(2)
قال في المدونة: وسألت مالكًا عمن نكس وضوءه فغسل رجليه قبل يديه ثم وجهه ثم صلى، قال: صلاته مجزئة. قال: فقلت لمالك: أفترى له أن يعيد الوضوء؛. قال ذلك أحب إليَّ. قال: ولا أدري ما وجوبه.
وأيضًا فإن حديث جابر بن عبد الله الذي أخرجه مسلم بن الحجاج في الصحيح عن إسحاق بن إبراهيم وغيره عن حاتم بن اسماعيل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول: "نَبْدَأ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ فَبَدَأ بِالصَّفَا". فيه دليل على سنة الترتيب.
(3)
قال في المدونة: وقال مالك فيمن توضأ فغسل وجهه ويديه وترك أن يمسح برأسه، وترك غسل رجليه حتى جفَّ وضوؤه وطال ذلك. قال: إن كان ترك ذلك ناسيًا بنى على وضوئه. وإن تطاول ذلك. قال: وإن ترك ذلك عمدًا استأنف الوضوء .. ابن وهب: عن يحيى بن أيوب عن ابن حرملة أن رجلًا جاء إلى سعيد بن المسيب فقال: إني اغتسلت من الجنابة ونسيت أن أغسل رأسي. قال فأمر رجلًا من أهل المجلس أن يقوم معه إلى المطهرة فيصب على رأسه دلوًا من ماء.
(4)
وقال مالك فيمن ترك المضمضة والاستنشاق وداخل أُذنيه في الغسل من الجنابة حتى صلى؛. قال: يتضممض ويستنشق كما يستقبل وصلاته التي صلى تامة. وقال: ومن ترك المضمضة والاستنشاق ومسح داخل الأُذنين في الغسل من الجنابة. والذي ترك ذلك في الوضوء فهما سواء، ويمسح داخلهما فيما يستقبل. ا. هـ. من المدونة بلفظها.
وَفَضَائلُهُ: مَوْضِعٌ طَاهِر، وَقِلَّةُ الْمَاءِ بِلَا حَدٍّ كالْغُسْلِ (1)، وَتَيَمُّنُ أَعْضَاءٍ وَإِنَاء فُتِحَ (2)، وَبَدْء بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ (3)، وشَفْعُ غَسْلِه وتَثْلِيثُه (4)، وهل الرجلان كذلك أو
(1)
النهي عن الإِسراف في الماء؛ من أدلته حديث عبد الله بن مغفل؛ أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسالك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّهُ سَيَكونُ فِي هذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ والدُّعَاءِ". رواه البيهقي في سننه. وفيه أيضًا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ فَاحْذَرُوهُ أَو قَالَ فَاتَّقُوهُ". قال: وقال غيره عن أبي داود في هذا الحديث: "فَاحْذَرُوهً وَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ" ا. هـ. منه
(2)
دليل فضيلة التيمن حديث عائشة المتفق عليه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شانه كله. قال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث: قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ماكان، من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر، قال: وأجمع العُلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل. ا. هـ. منه.
(3)
لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتفق عليه، وفيه: فبدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه. ودليل الاستحباب ورودحديث الربيعة بنت معوذ عند البيهقي قالت: فتوضأ وأنا أنظر اليه - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فوضأ وجهه ثلانًا ومضمض واستنشق مرة ووضأ يده اليمنى ثلاثًا ووضأ يده اليسرى ثلاثًا ثم مسح برأسه مرتين يبدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه، ثم مؤخر رأسه ثم مقدمه، ثم مسح أُذنيه كلتيهما ظاهرهما وباطنهما، ووضأ رجله اليمنى ثلانًا ووضأ رجله اليسرى ثلاثًا. ا. هـ. منه.
(4)
بدليل صحة الوضوء بغرفة واحدة؛ كما هو نص البخاري والبيهقي واللفظ له عن ابن عباس قال: ألا أخبركم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم؛. فدعا بإناء فيه ماء، فجعل يغرف غرفة غرفة لكل عضو. ا. هـ.
علمًا بأن حديث عبد الله بن زيد بن عاصم وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنهما وحديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنهم أجمعين في كل واحد منها تكرار الغسل، فدل أنه للفضل. والله الموفق.
المطلوب الْإنْقَاءُ (1)؟. وَهَلْ تُكْرَهُ الرابِعَةُ أَوْ تُمْنَعُ خِلَافٌ (2)، وَترْتِيبُ سُننِه أَو مَعَ فرائضِه. وَسِوَاكٌ (3) وَإِنْ بإِصْبَعٍ (4) كَصَلَاةٍ بَعُدَتْ مِنْهُ (5). وَتسمية (6)؛ وتُشَرَعُ في
(1)
أما دليل تثليث غسل الرجلين فحديث حمران مولى عثمان بن عفان الذي يرويه في وصف عثمان رضي الله عنه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح. وحديث عبد خير الذي يرويه عن وصف علي رضي الله عنه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعند البيهقي، وكل منهما ورد فيه. ثم غسل رجله اليمنى ثلاثًا ثم غسل اليسرى ثلاثًا. غير أن في لفظ حديث حمران: رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات. ولفظ حديث عبد خير: ثم غسل رجله اليمنى ثلاثًا ورجله الشمال ثلاثًا.
(2)
دليل كراهة الزيادة في الوضوء على ثلاث ما رواه عمر بن شعيب عن أببه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: "هذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَيَّ هَذا فَقَدْ أَسَاءَ أَو تَعَدى وَظَلَمَ". رواه البيهقي في السنن وقال: وكذلك رواه الأشجعي عن الثوري موصولًا. ا. هـ.
(3)
الدليل على أن السواك فضيلة حديث أبي هريرة عند مسلم والبيهقي، واللفظ له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْلَا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِتَأْخِير الْعِشَاءِ وَالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ". قال البيهقي: زاد أبو سعيد في روايته: قال الشافعي: وفي هذا دليل على أن السواك ليس بواجب، وأنه اختيار لأنه لو كان واجبًا أمرهم به شق أولم يشق. ا. هـ. منه
(4)
دليله حديث أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثًا وتمضمض ثلاثًا؛ فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثًا وغسل ذراعيه ثلاثًا ومسح رأسه واحدة وذكر باقي الحديث وقال: هكذا كان وضوء نبي الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث: وروى أبو عبيدة في كتاب الطهورعن عثمان أنه إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. وروى الطبراني من حديث عائشة: قلت يارسول الله، الرجل يذهب فوه أيستاك؟. قال: نَعَمْ! قلت: كيف يصنع؟. قال: "يُدْخِلُ إصْبَعَهُ في فِيهِ". ا. هـ. منه
(5)
وحديث "لَوْلَا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ" المتقدم الذكر فيه دليل على فضيلة السواك لكل صلاة، سواء توضأ لها المصلي أم بعدت عن الوضوء. وبالله التوفيق.
(6)
قال ابن خزيمة في صحيحه: باب ذكر تسمية الله عز وجل عند الوضوء، ثم ساق سند =
غُسْلٍ وَتَيمُّمٍ وأَكْلٍ وشُرْبٍ وذَكَاةٍ ورُكُوب دَابَّةٍ وسَفِينَةٍ ودُخولٍ وَضِدِّهِ لِمَنْزِلٍ ومَسْجِدٍ، ولُبْس وغَلْقِ بَابٍ وإطفَاءِ مِصْبَاحٍ وَوَطْءٍ وصُعُودِ خَطِيبٍ مِنْبَرًا وتَغْمِيضِ مَيْتٍ ولَحْدِهِ، ولا تُنْدَبُ إِطَالَةُ الغُرَّةِ (1) وَمَسْحُ الرَّقَبَةِ (2) وَتَرْكُ مَسْحِ
= حديث عن أنس رضي الله عنه، قال: طلب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءًا فلم يجدوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ههُنَا مَاء". فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال:"تَوَضَّئُوا بِسْمِ اللَّهِ". فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، والقوم يتوضئون حتى توضئوا عن آخرهم. قال ثابت فقلت لأنس: كم تراهم كانوا؟. قال: نحوًا من سبعين.
وفي البيهقي ما نصه: أخبرنا أبوسعيد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، ثنا أحمد بن حفص السعدي قال: سئل أحمد بن حنبل -يعني وهو حاضر- عن التسمية في الوضوء فقال: لا أعلم فيه حديثًا ثابتًا. أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح، وربيح رجل ليس بمعروف. ا. هـ. منه.
وقول المختصر: وتشرع في غسل ألخ يعني من كل أمر ذي بال يشرع الأنسان في عمله؛ وذلك عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ فهُوَ أَجْذَمُ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(1)
قوله: ولا تندب إطالة الغرة؛ أي أخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ زَادَ عَلَى هذاَ أوْ نَقَّصَ فَقَدْ أسَاء وَظَلَمَ". وذكر الشوكاني عن النووي أن الإمام أبا الحسن بن بطال والقاضي عياض -من أصحابنا- قد ادعيا اتفاق العُلماء على أنه لا تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين. وقد شنع عليهما حكاية ذلك الاتفاق وقال: إن دعواهما هذه باطلة، لثبوت فعل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وقد ادعى ابن بطال في شرح البخاري -وتبعه القاضي- تفرد أبي هريرة بهذا -يعني الغسل إلى الآباط- وليس بجيد. فقال: قد قال به جماعة من السلف ومن أصحاب الشافعي، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن عمركان ربما بلغ الوضوء إبطيه. انظر نيل الأوطار للشوكاني.
(2)
يقول المُصَنِّف على الرغم من حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق. رواه أحمد. =
الْأعْضَاءِ (1)، وَإِنْ شَكَّ فِي ثَالِثَةٍ فَفِي كَرَاهَتِهَا وَنَدْبِهَا قَوْلَانِ. قال: كشَكِّهِ في يَوْمِ عَرَفَةَ؛ هَلْ هو العيد (2)؟.
= قال الشوكاني: الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد بن حنبل، وقال النووي في تهذيب الأسماء: اتفق العُلماء على ضعفه. ا. هـ. منه.
(1)
قوله: وترك مسح الأعضاء؛ قال في المدونة ما نصه: قال مالك ولا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء، ابن وهْب عن زيد بن الحباب عن أبي معاذ عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له خرقة ينشف بها بعد الوضوء. انتهى منه.
(2)
قلت قد تقدم ذكر الكراهة على الغرفة الثالثة لحديث: "فَمَنْ زَادَ أَو نَقَّصَ فَقَدْ أُسَاءَ وَظَلَم". وإذا دار الأمر بين الكراهة والفضيلة قدم جانط الكراهة للقاعدة المقررة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. الذي عقده في المنهج المنتخب بقوله.
درء المفاسد مقدم على
…
جلب المصالح فخذ ما نقلًا
قال العلامة محمد الأمين بن أحمد زيدان في شرح هذا البيت: ومن ثم تركت الغسلة الثالثة إذا شك فيها، وترك صوم يوم عرفة إذا شك هل هو العيد؟. ا. هـ.
فصل
نُدِبَ لِقَاضِي الْحَاجَةِ جُلُوسٌ (1) وَمُنِعَ بِرَخْوٍ نَجِسٍ وتَعَيَّنَ الْقِيامُ، واعْتِمَادٌ على رِجلٍ واسْتِنْجَاءٌ بِيَدٍ يُسْرَيَيْنِ (2)، وَبَلُّهَا قَبْلَ لُقِيِّ الأَذَى وَغَسْلُهَا بِكَتُرابٍ بَعْدَهُ. وستْرٌ إلى مَحَلِّهِ (3) وإِعْدَادُ مُزِيله (4)، وَتَقْدِيمُ قُبُلِهِ وتَفْرِيجُ فَخِذيْهِ واستِرْخَاؤُهُ وَتَغْطِيَةُ رَأْسِهِ (5) وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ، وذِكْرٌ وَرَدَ بَعْدَهُ وَقَبْلَهُ فَإِنْ فاتَ فَفِيهِ (6). وسكوتٌ إِلَّا لِمُهِمٍّ (7). وبالْفَضَاءِ تَسْتُرٌ وَبُعْدٌ (8) واتّقاءُ جُحْرٍ وَرِيحٍ وَمَوْرِدٍ وَطَرِيقٍ وشَطٍّ وظِلٍّ وَصُلْبٍ (9) وبِكَنيفٍ نَحَّى ذِكْرَ اللَّهِ (10) ويقدِّمُ يُسْرَاهُ دُخُولًا ويُمْنَاهُ خُروجًا عَكْسَ مَسْجِدٍ وَمَنْزِلٍ يُمْنَاهُ بِهِمَا (11). وَجَازَ بِمَنْزلٍ وَطْءٌ وَبَوْلٌ مُسْتَقْبِلَ قِبْلَةٍ ومُسْتَدْبِرًا،
(1)
لحديث عائشة عند البيهقي قالت: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا منذ نزل القرآن. وأما حمل ذلك على الندب لورود الخبر بأنه صلى الله عليه وسلم بال قائمًا، ففي صحيح ابن خزيمة من حديث حذيفة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فبال قائمًا ثم توضأ ومسح على خفيه.
(2)
الاعتماد على الرجل اليسرى؛ لحديث البيهقي بسنده عن رجل من بني مدلج عن أبيه قال: قدم علينا سراقة بن جعشم فقال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى .. وأما الاستنجاء باليد ودلكها بالأرض بعد الاستنجاء فدليله حديث أبي هريرة عند البيهقي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ. ا. هـ.
وأما كون الاستنجاء باليسرى فلقاعدة الشرع المستمرة؛ وهي استحباب اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر. ا. هـ.
ولحديث أبي قتادة عند ابن خزيمة قال: قال رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفسْ فِي الإِنَاءِ وإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وإِذَا تَمَسَّحَ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ". ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) لحديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن جابر بن عبد الله عند البيهقي قال: أتينا جابر بن عبد الله في مسجده فذكر قصته قال: فقال جابر: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئًا يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ غصنًا من أغصانها فقال:"انْقَادِي عَلَيَّ بِإذْنِ اللَّهِ". فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال:"انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف بينهما لَأمَ بينهما فقال:"الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى". فالتأمتا. قال جابر: فجلست أحدث نفسي فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل، وإذا الشجرتان قد افترقتا؛ فقامت كل واحدة منهما على ساق، وذكر باقي الحديث، رواه مسلم في الصحيح عن هارون بن معروف. ا. هـ. السنن الكبرى للبيهقي وحديث أبي هريرة عند البيهقي أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا كثيبًا مِنْ رَمْلٍ يَجْمَعُهُ ثُمَّ يَسْتَدِيرُهُ فَإنَّ الشَّيَاطِينَ يَلْعَبُونَ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَح"ا. هـ. منه.
(4)
لحديث عائشة عند البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بثلاثة أَحْجَارٍ لَيَسْتَطِيبَ بِهِنَّ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ". ا. هـ.
(5)
لحديث عائشة عند البيهقي قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ غَطَّى رَأْسَهُ وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ غَطَّى رَأْسَهُ". إلى أن قال: وروي في تغطية الرأس عند دخول الخلاء عن أبي بكر وهو عنه صحيح، ورواه أيضًا عن حبيب بن صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. ا. هـ. منه.
(6)
أما الذكر الذي ورد قبله فهو ما أخرجه ابن خزيمة من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ هذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَة، فَإذَا دَخَلَهَا أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ".
وأما الذكر الوارد بعد الخروج من الخلاء؛ فهو ما أخرجه ابن خزيمة من حديث يوسف ابن أبي بردة عن أبيه قال: دخلت على عائشة فسمعتها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط قال: "غُفْزانَك". "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ مِنِّي الْأذَى وَعَافَانِي". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (7) لحديث ابن عمر عند ابن خزيمة؛ أن رجلًا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام. ا. هـ. منه.
(8)
لِحديث أبي قراد عند ابن خزيمة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته خرج من الخلاء، وكان إذا أراد حاجة أَبْعَدَ. ا. هـ. منه.
(9)
لحديث عبد الله بن سرجس عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ "لَا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ فِي الْجُحْرِ". الحديث إلى أن قال: فقيل لقتادة: وما يكره من البول في الجحر؛ فقال: إنها مساكن الجن.
وأما اتقاءُ الصلب فلحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود. مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمث، إلى جنب حائط فبال وقال:"إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ". وقوله إلى دمث؛ أي إلى سهل أي رخو وأما النهي عن التخلي في الطريق والظل؛ فلحديث أبي هريرة عند البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتّقُوا اللَّاعِنَيْنِ. قَالُوا وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ وَظِلِّهِمْ". رواه مسلم في الصحيح عن قتيبة. ا. هـ. منه. وأما النهي عن التخلي في المورد فلحديث معاذ بن جبل عند البيهقي أيضًا. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةَ الطَّرِيقِ وَالظِّلَّ". ا. هـ. منه. وأما النهي عن البول في الصلب فلتوقي تطاير النجاسة عليه.
(10)
وأما تنحية ما فيه ذكر الله بالكنيف، فلحديث أنس رضي الله عنه عند البيهقي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، وفي لفظ له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتمًا نقشه: محمد رسول الله. فكان إذا دخل الخلاء وضعه. ا. هـ.
(11)
تقديم اليمنى في الخروج من الحمام، واليسرى في الدخول فيه، وتقديم اليمنى في الدخول في المسجد واليسرى في الخروج منه؛ هو للقاعدة الشرعية المستمرة من استحباب اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضد ذلك استحب فيه التياسر.
وإنْ لَمْ يُلْجَأْ (1)، وأُوِّلَ بِالسَّاتِرِ وَبِالإطْلَاقِ لَا فِي الْفَضَاءِ (2) وبِسِتْرٍ قَوْلَانِ تَحْتَمِلُهُمَا، والمخْتَارُ التّرْكُ، لَا القَمَرَيْنِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ (3). وَوَجَبَ اسْتِبْراءٌ بِاسْتِفْرَاغِ أخْبَثَيْهِ مَعَ سَلْتِ ذَكَرٍ ونَتْرٍ خَفَّا (4)، ونُدِبَ جَمْعُ مَاءٍ وحَجَرٍ ثُمَّ مَاءٌ (5). وتَعَيَّنَ فِي
(1)
لحديث ابن عمر أنه كان يقول: إن أناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت على ظهر بيتنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته. قال البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا محمد بن غالب، أنا عبد الله هو القعنبي عن مالك فذكره. ورواه البخاري في اصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك. ا. هـ. من السنن الكبرى للبيهقي.
(2)
لحديث عيسى الخياط عند البيهقي، قال: قلت للشعبي أنا أعجب من اختلاف أبي هريرة وابن عمر؛ قال نافع عن ابن عمر: دخلت بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، وقال أبو هريرة:"إذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا". قال الشعبي: صدقًا جميعًا؛ أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء؛ إن لله عبادًا ملائكة وحين يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم.
وأما كنفهم هذه فإنما هو في بيت يبنى لا قبلة فيه. ا. هـ. سنن البيهقي.
وفي المدونة ما نصه: وقال مالك إنما الحديث الذي جاء: "لَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلا غَائِطٍ".
إنما يعني بذلك فيافي الأرض، ولم يعن بذلك القرى ولا المدائن. قال: فقلت: أرأيت مراحيض تكون على السطوح؟. قال: لا بأس بذلك، ولم يعن بالحديث هذه المراحيض. قلت: أيجامع الرجل امرأته مستقبل القبلة في قول مالك؟. قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئًا، وأرى أنه لا بأس به لأنه لا يرى بالمراحيض بأسًا في القرى والمدائن، وإن كانت مستقبلة القبلة. ا. هـ. منه.
(3)
وأما عدم كراهة استقبال بيت المقدس؛ فقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، نقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار وقال: فيه نظر. وأما القمران فلا وجه لاتقاء استقبالهما. والله الموفق.
(4)
وجوب الاستبراء بدليل حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ فَإذا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ذَهَبَ أحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا لِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاَثَةِ أَحْجَارٍ" ونهى عن الروث والرمة، وأن يستنجي الرجل بيمينه. ا. هـ
وأما استحباب الوتر في الاستجمار فحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة: "إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، أَمَا تَرَى السَّموَاتِ سَبْعًا وَالأرْضَ سَبْعًا وَالطَّوَافَ سَبْعًا". وذكر أشياء. ا. هـ.
وفي حديث عيسى بن يزداد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بال نتر ذكره ثلاث مرات. ا. هـ. انظره في البيهقي. ولحديث أبي هريرة "اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ". رواه الدَّارقُطْنِي. ا. هـ. بلوغ المرام.
(5)
دليله قوله في المدونة: قلت لمالك فمن تغوط واستنجى بالحجارة، ثم توضأ ولم يغسل هنالك بالماء حتى صلى؟. قال: تجزئه صلاته، وليغسل ما هنالك بالماء فيما يستقبل. قال ابن القاسم: قال مالك: يعني الاستنجاء بالماء. ا. هـ. منه.
وفي صحيح ابن خزيمة من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب لحاجته، ذهبت معه بعكاز وإداوة، فإذا خرج تمسح بالماء وتوضأ من الإداوة. ا. هـ. منه.
وفي المدونة عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن نافع التنوخي عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فسمعتهم يستفتونه عن الاستنجاء، فسمعته يقول:"ثَلَاَثَةُ أحْجَارٍ". قالوا: كيف بالماءِ؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُوَ أَظْهَرُ وَأَطْيَبُ". ا. هـ. منه.
وعن عائشة رضي الله عنها: "مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ بِالْمَاءِ مِنْ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ". كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. ا. هـ. احتج به أحمد. ا. هـ. المغني.
منيٍّ (1) وَحَيْضٍ (2) ونفاسٍ وَبَوْلِ امْرَأةٍ (3) ومنتشر عَنْ مَخْرَجٍ كَثِيرًا (4)، ومَذِيٍّ بِغَسْلِ (5) ذَكَرِهِ كُلِّهِ، فَفِي النِّيَّةِ وبُطْلَانِ صَلَاةِ تارِكِهَا أَوْ تارِكِ كُلِّهِ قَوْلَانِ.
(1)
للحديث المتفق عليه من حديث عائشة -وقد تقدم- للاستدلال به على نجاسة المني، ولفظه: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل. ا. هـ. بلوغ المرام.
ولحديث عائشة عند الدار قطني من طريق سليمان بن يسار قالت: إن كنت لأتبعه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغسله. ا. هـ. وقال الدار قطني: صحيح. وهذا لا يعارضه حديثها رضي الله عنها عند مسلم: لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركًا فيصلي فيه. ا. هـ. لأنه لا خلاف في طهارة مني النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان غسله من ثوبه للأسوة وللتشريع. والله الموفق.
(2)
لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب: "تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمُّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ". ا. هـ. بلوغ المرام. وقال: متفق عليه.
ولحديث خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه. قال:"فَإذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِي مَوْضِعَ الدَّمِ ثُمَّ صَلَّي فِيهِ". قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره؟. قال: "يَكْفِيكِ الْمَاءُ لَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ". ا. هـ. رواه أحمد وأبو داود. وقد تقدم الاستدلال به عند قول خليل: لا لون وريح عسرا. ومعلوم أن ما يستدل به في دم الحيض دليل في دم النفاس لعدم الفارق.
(3)
ذكر الشوكاني في نيل الأوطار جـ 1/ ص 122 - ط دار الجيل بيروت، ما نصه: وذكر ابن دقيق العيد أن سعيد بن المسيب سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنما ذلك وضوء النساء. قال: وعن غيره من السلف ما يشعر بذلك. ا. هـ. منه بلفظه.
(4)
لا إشكال في تعين الماء في الكثير المنتشر عن مخرجه لتعين الماء في إزالة النجاسة، وقد تقدم أدلة ذلك.
(5)
لحديث حصين بن قبيصة عن علي رضي الله عنه عند البيهقي قال: كنت رجلًا مذَّاءً فجعلت أغتسل حتى تقشف ظهري، قال: فذكرت ذلك لرسول الله أو ذكر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَفْعَلْ إِذَا رَأَيْتَ الْمَذِيَّ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَؤَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاة فَإِذَا نَضَحْتَ الْمَاءَ فَاغْتسِلْ". ا. هـ. والله الموفق.
وَلَا يُسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ (1)، وَجَازَ بِيَابِسٍ طَاهِرٍ مُنْقٍ غَيْرِ مُؤذٍ (2) ولَا مُحْتَرمٍ وَلَا مُبْتَلٍّ ونَجسٍ (3) وأَمْلَسَ ومُحَدَّد وَمُحْتَرَمٍ مِنْ مَطْعُومٍ ومَكْتُوبٍ وذَهَبٍ وفِضَّةٍ (4) وجِدَارٍ وعَظْم (5) وَرَوْثٍ فإن أَنْقَتْ أجْزَأَتْ كالْيَدِ ودُونَ الثَّلَاثِ
(1)
لما في المدونة، قال: وقال مالك: لا يستنجى من الريح، ولكن إن بال أو تغوط فليغسل مخرج الأذى وحده فقط. ا. هـ. منه.
(2)
أما الحجر فبالنص، والجمهورعلى أن الحجر ليس بمتعين، بل تقوم الخرقة والخشب وغير ذلك مقامه. قال النووي: فلا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}
(1)
. ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظم والبعر والرجيع، ولو كان الحجر متعينًا لنهى عما سواه. وعلى الجملة كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة يجزئ الاستجمار به. ا. هـ. من نيل الأوطار.
(3)
لحديث ابن مسعود عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرأْتُ عَلَيْهِم الْقُرْآنَ". قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال:"لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ". رواه مسلم وأحمد. والنجس، فلحديث ابن مسعود أيضًا قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقاله: هذِهِ رِكْسٌ" رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي، وقوله رِكْسٌ يعني نجسًا.
(4)
لما فيه من الترف والخيلاء وضيعة المال الممنوعة شرعًا.
(5)
أي وكيفما حصل الإِنقاء في الاستجمار أجزأه، ولو كان حصل الإنقاء باليمين التي نهى عن الاستنجاء بها، لحديث أبي قتادة المتفق عليه الذي جاء فيه"وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ". أجزأه ذلك مع ما ارتكبه من النهي، قال في المغني لابن قدامة: وإذا زاد على الثلالة استحب أن لا يقطع إلَّا على وتر لقوله صلى الله عليه وسلم "مَنِ اسْتَجْمَر فَلْيُوترْ". متفق عليه. فيستجمر خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو ما زاد على =
(1)
سورة المائدة: 6.
فصل
نُقِضَ الْوُضُوءُ بِحَدَثٍ (1) وَهُوَ الخَارِجُ المُعْتَادُ فِي الصِّحَّةِ (2)، لَا حَصىً وَدُودٌ (3) وَلَوْبِبَلَّةٍ، وبِسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ؛ كسلس مَذْيٍ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ، ونُدِبَ إنْ
= ذلك، فإن اقتصر على شفع منقية فيما على الثلاثة جاز لقوله صلى الله عليه وسلم "وَمَالَا فَلَا حَرَجَ". قلت: وأجزأه دون الثلاث لحديث ابن مسعود الذي اقتصر فيه على حجرين ورد الروثة، وإن زاد فيه أحمد لفظه. "أَبْغِنِي ثَالِثَةً" لعدم ورود إتيانه بها، والله الموفق.
(1)
في البيهقي من حديث عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد قال: شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه الشيءُ في الصلاة، فقال: لَا يَنْتَقِل حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجدَ رِيحًا". قال الشافعي رضي الله تعالى عنه في رواية أبي سعيد: فلما دلت السنة على أن الرجل ينصرف من الصلاة بالريح، كانت الريح من سبيل الغائط وكان الغائط أكثر منها. رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني وغيره، ورواه مسلم عن عمرو الناقد وغيره كلهم عن سفيان بن عيينة. ا. هـ. منه.
وفي البيهقي أيضًا من حديث ابن طهمان عن جرير بن عبد الله أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
فقلنا له: ما هذا الذي صنعت؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل الذي صنعت. رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى وغيره عن أبي معاوية. وأخرجه البخاري من وجه آخر عن الأعمش.
وفيه أيضًا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن صفوان بن عسال قال: رخَّص لنا رَسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين للمسافر ثلاثًا إلا من جنابة، ولكن من غائط أو بول أو ريح، قال أبو الوليد: ولم يقل أوريح غير مسعر. ا. هـ. منه.
(2)
لما أخرجه في المدونة قال: وقال مالك في السلس: البول إن أذاه الوضوء واشتد عليه البرد فلا أرى عليه الوضوء. وأما خروجه المعتاد أن يكون من أحد السبيلين؛ قال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر وخروج البول من ذكر الرجل وقُبُل المرأة، وخروج المذْي وخروج الريح من الدبر. أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة ويوجب الوضوءَ. ا. هـ. منه. جـ 1/ ص 125.
(3)
لما في المدونة ونصه: قلت: فالدود يخرج من الدبر. قال: لا شَيء عليه عند مالك. ا. هـ.
لَازَمَ أكْثَر لَا إنْ شَقَّ (1)، وَفِي اعْتِبَارِ المُلَازَمَةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ مُطْلَقًا تَرَدُّدٌ. مِن مَخْرَجَيْهِ أوْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ المَعِدَةِ إن انْسَدَّا وإِلَّا فقوْلَانِ (2). وَبسَبَبِهِ وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ (3) وان بِنَوْمٍ ثَقُلَ (4) وَلَوْ قَصُرَ لَا خَفَّ (5). ونُدِبَ إنْ طَالَ.
(1)
قال في المدونة: قال: وسئل مالك عن الرجل يصيبه المذْي وهو في الصلاة أوفي غير الصلاة فيكثر ذلك عليه، أترى أن يتوضأ؛. قال: قال مالك: أما من كان ذلك منه من طول عزبة، أو تذكر فإني أرى أن يتوضأ، وأما من كان ذلك منه استنكاحًا قد استنكحه من أبردة أو غيرها فكثر ذلك عليه فلا أرى عليه وضوءًا. وإن أيقن أنه خرج منه ذلك، فليكف ذلك بخرقة أو بشيءٍ وليصل ولا يعيد الوضوء. ا. هـ. منه.
(2)
قيد خروج الحدث من المخرجين؛ وهما القبل والدبر، ليكون الخروج معتادًا لأنه الناقض في المذهب، أو كانا منسدين فخرج الحدث من ثقب جعل للحادث تحت معدته، أما إن كان الثقب فوق المعدة كان الخروج منه حائدًا عن طور الاعتياد، فجرى الخلاف في النقض به؛ فمن قال به أناط النقض بالخارج أيًا كان مخرجه، ومن نفى أناط النقض بالخروج المعتاد. فالله تعالى أعلم. والطريق إلى ذلك الاجتهاد فلا نص.
(3)
دليل قول مالك في المدونة ونصه: وقال مالك من أغمي عليه فعليه الوضوء. قال: وقيل لمالك: فالمجنون أعليه الغسل إذا أفاق؛. قال: لا، ولكن عليه الوضوء. قال: قد يتوضأ من هو أيسر شأنًا ممن فقد عقله بجنون أو بإغماء أو بسكر؛ وهو النائم الذي ينام ساجدًا أومضطجعًا لقول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
(1)
. وقد قال زيد بن أسلم: إنما تفسير هذه الآية؛ إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم.
(4)
لحديث معاوية عند بلوغ المرام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَإذا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتطْلَقَ الْوِكَاءُ". رواه أحمد والطبراني، وزادَ:"وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ" وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: "اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ". وفي كلا الإسنادين ضعف. ا. هـ. منه. لفظه.
(5)
لحديث أنس قال: كَانَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظرون العشاء الآخرة حتى تخفق =
(1)
سورة المائدة: 6.
ولَمْسٌ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً وَلَوْ لِظُفُرٍ أوْ شَعَرٍ أوْ حَائِلٍ وأوِّلَ بِالْخَفِيفِ وِبالإِطْلَاقِ إنْ قَصَدَ لذَّةً أوْ وَجَدَهَا (1) لا انْتَفَيَا إلَّا القُبْلَةَ بِفَمٍ (2) مُطْلَقًا وَإنْ بِكُرْهٍ أو اسْتِغْفَالٍ، لَا لِودَاعٍ أوْ رحْمَةٍ. ولَا لذَّةٌ بِنَظَرٍ كإِنْعاظٍ وَلَذَّةٍ بِمُحْرَمٍ عَلَى الأصَحِّ (3). وَمَطْلَقُ
= رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون. رواه أبو داود.
قال الشوكاني: هذا الحديث أخرجه أيضًا الشافعي في الأم، ومسلم والترمذي من طريق شعبة عن قتادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظ الترمذي من طريق شعبة: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطًا، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضؤون. قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس. ا. هـ. محل الغرض منه.
(1)
دليل نقض اللمس للوضوء ما في المدونة ونصه: وقال مالك في المرأة تمس ذكر الرجل قال: إن كان مسته المرأة لشهوة فعليها الوضوء، وإن كانت مسته لغير شهوة؛ لمرض أو نحوه فلا وضوء عليها. قال: وإذا مست المرأة الرجل للذة فعليها الوضوء، وكذلك الرجل إذا مس المرأة بيده للذة فعليه الوضوء؛ من فوق الثوب كان أو من تحته، فهو بمنزلة واحدة وعليه الوضوء. قال: والمرأة بمنزلة الرجل في هذا. قال: وإن جسها للذة فلم ينعظ فعليه أيضًا الوضوء. ا. هـ.
(2)
لما في المدونة ونصه: مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه كان يقول: الوضوء من قبلة الرجل امرأته ومن جسها بيده. ابن وهب عن مالك، وبلغني أن عبد الله بن مسعود كان يقول: من قبلة الرجل امرأته الوضوء. وعن سعيد بن المسيب وعائشة وابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن يزيد بن هرمز، وزيد بن أسلم ويحيى بن سعيد ومالك والليث بن سعد وعبد العزيز ابن أبي سلمة مثله، علي بن زياد عن سفيان أن ابراهيم النخعي كان يرى في القبلة الوضوء. ا. هـ. منه.
(3)
والدليل على أن اللمس بدون لذة لا ينقصر الوضوء، هوحديث عائشة رضي الله عنها عند النسائي، ولفظه كما في نيل الأوطار قالت: ان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإنِّي لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله. قال الشوكاني: الحديث. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، وفيه دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ا. هـ. منه. وبالله تعالى التوفيق.
مَسِّ ذَكَرِهِ المُتَّصِلِ (1)، وَلَوْ خُنْثَى مُشْكِلًا، بِبَطْنٍ أَوْ جَنْبٍ لكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ (2)، وِإنْ زائدًا أَحَسَّ وَبِرِدَّةٍ (3)، وبِشَكٍّ في حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ (4) إِلَّا المُسْتَنْكِحَ (5)، وَبِشَكٍّ في سَابِقِهِمَا، لا بِمَسِّ دُبُرٍ أوْ أُنْثَيَيْنِ (6) أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ (7)، وَقَيْءٍ (8)، وأَكْلِ لَحْمِ جَزُورٍ (9).
(1)
نص المدونة في ذلك: ابن القاسم وعلي بن زياد وابن وهب وابن نافع عن مالك عن عبد الله بن أبىِ بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان: ومن مس الذكر الوضوء، قال عروة: ما علمت ذلك. فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا مَسَ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". قال عروة: ثم أرسل مروان إلى بسرة رسولًا يسألها عن ذلك، فأتاه عنها بمثل الذي قال. وقالوا كلهم عن مالك عن نافع عن ابن عمرأنه كان يقول: إذا مس رجل فرجه فقد وجب عليه الوضوء. ا. هـ. منه.
وحديث بسرة بنت صفوان. ذكر الشوكاني عن البخاري أنه قال: إنه أصح شيءٍ في هذا الباب، وإن الإسماعيلي قال: يلزم البخاري إخراجه، فقد أخرج نظيره، وغاية ما يقدح به فيه أنه حدث به مروان فاستراب بذلك عروة، فأرسل مروان رجلًا من حرسه فعاد إليه بأنها قالت ذلك، والواسطة بين عروة وبسرة، إما مروان وهو مطعون في عدالته أو حارسه وهو مجهول، والجواب عن ذلك أن ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة قد جزموا بأن عروة قد سمعه من بسرة، ففي صحيح ابن خزيمة وابن حبان قال عروة: فذهبت إلى بسرة فسألتها فصدقته. ا. هـ. منه. بتصرف قليل، ثم قال بعد ذلك: وذهب إلى ذلك عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وابن عباس وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعطاء والزهري وابن المسيب ومجاهد وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار والشافعي وأحمد واسحاق ومالك في المشهور عنه وغير هؤلاء. ا. هـ. منه ..
قلت: وحديث طلق بن علي الذي احتج به أبو حنيفة ومن وافقه ولفظه: الرجل يمس ذكره، أعليه وضوء؛. فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ". ذكر الشوكاني أن الشيخين لم يحتجا بواحد من رواته، وأنهما احتجا بجميع رواة حديث بسرة، وذكر أيضًا أن الدَّارقُطْنِي أخرج عن طلق ما يناقضه وهو قوله: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". قال: أخرجه الدار قطني وصححه. ا. هـ. منه وهو يؤيد رواية نسخ حديث طلق. والله الموفق.
(2)
ونص المدونة في ذلك: قلت فإن مسه بباطن الأصابع؛. قال: أرى باطن الأصابع بمنزلة باطن الكف. قال: لأن مالكًا قال لي: باطن الكف فباطن الأصابع بتلك المنزلة. ا. هـ. منه.
(3)
الردة عرفوها بأنها كفر المسلم بصريح القول أو الفعل ولو بالتضمن، وعليه فلا خلاف بين المسلمين أن الكافر نجس، وأنه إن أسلم مأمور بالغسل، فمنهم من حمل الأمر على الوجوب، ومنهم من حمله على الاستحباب، ومن أدلة أمر الكافر بالغسل إذا أسلم حديث أبي هريرة: أن ثمامة بن أثال الحنفي أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اذْهَبُوا بِهِ إلَى حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَمُرُوهُ أنْ يغْتَسِلَ". رواه أحمد.
قال الشوكاني: الحديث أخرجه أيضًا عبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان، وأصله في افيحين، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، وإنما فيهما أنه اغتسل. ا. هـ. منه.
وقد أخرج أيضًا أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود حديث قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. ا. هـ.
وغير خاف أنه نص الكتاب، قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
(1)
. ولا شك أن الوضوء من العمل. والله الموفق:
(4)
نص المدونة في ذلك: وقال مالك فيمن توضأ فشك في الحدث؛ فلا يدري أحدث الضوء أم لا؟. إنه يعيد الوضوء. بمنزلة من شك في صلاته فلا يدري أثلاثًا أم أربعًا، فإنه يلغي الشك.
قلت: هذا الفرع مما صدق عليه قول المُصَنِّف: أَوْ خطإ أصلحوه. لأن القاعدة العظيمة التي هي من أصول الدين، ومن أمهات الفقه التي بني عليها، أن اليقين لا يلغى بالشك، وقد عقدها شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
قد أسس الفقه على رفع الضرر
…
وأنَّ ما يشق يجلب الوطر
ونفي رفع العلم بالشك
…
…
............ الخ =
(1)
سورة الزمر: 65.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ودليل ذلك حديث عباد بن تميم عن عمه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَشُمَّ رِيحًا". قال في منتقى الأخبار: رواه الجماعة إلا الترمذي. وأخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد وقال: رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني وغيره، ورواه مسلم عن عمرو الناقد وغيره، كلهم عن سفيان بن عيينة.
وأخرج البيهقي أيضًا: أخبرنا أبو الحُسين بن بشران ببغداد، ثنا اسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن نصر، ثنا معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن أنه قال: إذا شككت في الحدث وأيقنت الوضوءَ فأنت على وضوئك، وإذا شككت في الوضوء وأيقنت الحدث فتوضأ.
وقال الشوكاني في الكلام على حديث عباد بن تميم المتقدم: قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث أصل من أصول الإِسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها. ا. هـ. بلفظه.
(5)
قال في المدونة: قال مالك: من شك في بعض وضوئه، يعرض له هذا كثيرًا، قال: يمضي ولا شيءَ عليه، وهو بمنزلة الصلاة، إلى أن قال: قلت لابن القاسم: أرأيت من توضأ فايقن بالوضوء، ثم شك بعد ذلك فلم يدر أحدث أم لا؟. وهو شاك في الحدث؛ قال: إن كان ذلك يستنكحه كثيرًا فهو على وضوئه، وإن كان ذلك لا يستنكحه فليعد الوضوءَ. وهو قول مالك. ا. هـ.
منه.
قلت: وقد علمت فيما سبق من الدليل أن الوضوء المتيقن لا ينتقض بالشك من غير المستنكح، وأحرى أن يكون مستنكحًا. والله الموفق.
(6)
المذهب عدم الوضوء من مس الأنثيين؛ لضعف الخبر الوارد في ذلك، قال البيهقي: وروي ذلك عن هشام بن عروة من وجه آخر مدرجًا في الحديث، وهو وهم والصواب أنه من قول عروة، والقياس أن لا وضوء في المس، وإنما اتبعنا السنة في إيجابه بمس الفرج فلا يجب بغيره. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما من جعل الوضوء من مس الدبر، فإنه حمل عليه لفظ الفرج من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا". رواه أحمد والترمذي والبيهقي. وغير خاف أن الفرج لفظ عام، يعم القبل والدبر معًا؛ لأنه غلب إطلاقه على السوأتين، إلا أن الصناعة الفقهية تقتضي -فيما لو ورد لفظ عام وآخر خاص- أن يحمل على تخصيص العام باللفظ الخاص، فإذا تقررذلك فقد ورد حديث بسرة بنت صفوان الأسدية ولفظه في بعض رواياته:"مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّي حَتى يَتَوَضَّأَ". وفي بعضها "وَيتَوَضَّأْ مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ".
فتعين تخصيص حديث عمروبن شعيب به، بحمل الفرج على الذكر. والله تعالى أعلم، ولذلك لا نقض في مس الدبر عندنا. وبالله تعالى التوفيق.
(7)
المدار في المذهب هنا بعدم النقض بلمس فرج الصغير على العادة، فإن العادة لم تجر بلمسه للتلذذ، ولا أن يلتذ بلمسه ولولم يقصد اللذة، وليس في ذلك إلا الاجتهاد، والله الموفق.
(8)
ودليل عدم الوضوء من القيء حديث الموط!: قال يحيى: وسئل مالك: هل من القيء وضوء؛. قال: لا، ولكن ليتمضمض من ذلك وليغسل فاه، وليس عليه وضوء. ا. هـ. وانما لم ينتقض الوضوء به لأنه غير خارج من السبيلين. أنظر الباجي.
(9)
من قال بالوضوء من لحم الإبل استدل بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند أبي داود، ولفظه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: "تَوَضَّؤُوا مِنْهَا". وسئل عن لحوم الغنم قال: "لَا تَوَضَّؤُوا مِنْهَا". الحديث. وهو عند مسلم من حديث جابر بن سمرة، وبذلك قال من الأربعة الإمام أحمد بن حنبل. والذي عليه الجمهور عدم الوضوء من لحوم الإبل لأمور:
منها: إنه مذهب الخلفاء الراشدين الأربعة، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم قال:"خُذُوهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ". وبه قال من الصحابة غيرهم: ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة، وبه قال جماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأتباعهم. قالوا: المراد بالوضوء في الحديث الوضوء اللغوي لا الشرعي؛ لأن في لحوم الإبل دسومة لاتوجد في لحوم غيرها. =
وَذَبْح وحِجَامَةٍ وَفَصْدٍ (1) وقَهْقَهَةٍ بِصَلَاةٍ (2) ومسِّ امرأة فرجها، وأُوِّلَتْ أَيْضًا بِعَدَمِ الإِلطافِ (3).
= قال الخطابي: تأول عامة الفقهاء الوضوء على الوضوء الذي هو النظافة ونقي الدسومة؛ ومعلوم أن في لحوم الإِبل من الحرارة وشدة الزهومة ما ليس في لحوم الغنم كما روي: "تَوَضَّؤُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَإنَّ لَهُ دَسَمًا"، فكان معنى الوضوء منصرفًا إلى غسل اليد لوجود سببه، دون الوضوء الذي هو من أجل رفع الحدث لعدم سببه. ا. هـ.
ومنها: ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه؛ إنه كان آخر الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، ومعلوم أن لحم الإِبل، على فرض الأمر بالوضوء الشرعي من أكله، هو أحد أفراد ما مسته النار، فقد نسخ الوضوء من جميع ما مسته النار، فلزم بذلك عدم الوضوء من أكل لحوم الابل. وبالله تعالى التوفيق. أنظر المبحث النفيس في شرح أبي دواد لمحمود محمد خطاب السبكي.
(1)
قال في المدونة: قال ابن وهب، وقال ابن عباس وابن عمروالحسن في الحجامة: يغسل مواضع المحاجم فقط. ابن وهب: وقال يحيى بن سعيد في العِرق يقطع والحجامة مثله. ا. هـ. منه.
(2)
ذهب أبو حنيفة إلى نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، والجمهور على أنها لا تنقض الوضوء في الصلاة، ولنا أن ما لا ينقض الطهارة خارج الصلاة لا ينقضها داخلها؛ كالكلام والقذف. وفي البيهقي عن جابر بن عبد الله سئل عن الرجل يضحك في الصلاة قال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. ا. هـ. منه. وإلته الموفق.
(3)
قال الباجي في المنتقى ما نصه: اختلفت الرِّواية في إيجاب الوضوء بمس المرأة فرجها؛ فروى ابن القاسم وأشهب عن مالك: لا وضوء عليها. وروى علي بن زياد: عليها الوضوء. وروى اسماعيل بن أبي أويس: عليها الوضوء إذا ألطفت أو قبضت عليه، واختلف أصحابنا في تأويل هذه الروايات. الخ.
قلت: والعجب من اختلاف هذه الروايات، والتعب في تأويلها، في الوقت الذي نجد فيه نصًا يجب الرجوع إليه، ثابتًا عمن لا يسع المسلم إلا اتباعه؛ وهوحديث عمروبن شعيب عن أبيه عن جده وفيه:"وأيَّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ". رواه أحمد والبيهقي والترمذي. وقال في العلل عن البخاري: وهذا عندي صحيح. وفي إسناده بقية ابن الوليد، ولكنه قال. حدثني محمد بن الوليد الزبيدي حدثني عمرو بن شعب. انظر نيل الأوطار. وبالله تعالى التوفيق.
وَنُدِبَ غَسْل فَمٍ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنِ (1)، وتَجْدِيدُ وُضوء إِنْ صُلِّيَ بِه (2)، ولو شَكَّ في صلَاتِه ثُمَّ بَانَ الطُّهْر لَمْ يُعِدْ (3). وَمَنَعَ حَدَثٌ صَلَاةً وطَوَافًا وَمَسَّ مُصْحَفٍ (4) وإن بِقَضِيبٍ، وَحَمْلُهُ وَإِنْ بِعِلَاقَةٍ أَوْ وِسَادَةٍ، إلَّا لِأمْتِعَةٍ قُصِدَتْ، وَإنْ عَلَى كَافِرٍ لَادِرْهَمٍ وتَفْسِيرٍ وَلَوْحٍ لِمُعَلِّمْ وَمُتَعَلِّمٍ وَإِنْ حَائضًا، وَجُزْءٍ لمُتَعَلِّمٍ (5) وَإِنْ بَلَغَ، وَحِرْزٍ بِسَاتِرٍ وَإِنْ لِحَائضٍ (6).
(1)
دليله: ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أن رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فدعا بماء فتمضمض ثم قال: "إنَّ لَهُ دَسَمًا". ا. هـ. ودل على أن هذا الفعل للفضيلة، حديث أنس عند أبي داود أيضًا أن رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فلم يتمضمض ولم يتوضأ وصلى. ا. هـ. ودليل المضمضة من اللحم حديث الموطإ: وحدثني عن مالك عن ضمرة بن سعيد المازني عن أبان بن عثمان أن عثمان بن عفان أكل خبزًا ولحمًا، ثم تمضمض وغسل يديه ومسح بهما وجهه، ثم صلى ولم يتوضأ. ا. هـ.
(2)
دليله حديث أنس رضي الله عنه عند أبي داود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد، وهذا الحديث أخرجه البخاري والنسائي والبيهقي وابن ماجه والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وهو دليل على أنه يستحب الوضوء لكل صلاة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عنه الجمع بين صلاتين فأكثر بوضوء واحد؛ ألا ترى إلى حديث البخاري الذي يرويه من حديث سويد بن النعمان رضي الله عنه، ولفظه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنارسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة العصر، فلما صلى دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا وشربنا ثم قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المغرب، فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
(3)
قد تقدم في هذا التعليق أن الشك في الحدث بعد تيقن الطهارة لا يرفعها، وأن الواجب استصحاب الحال، سواءٌ شك في حدثه قبل الصلاة أو في الصلاة، وسبحان من يستحيل عليه الخطا. وصدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(1)
. =
(1)
سورة النساء: 82.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) أما منع الحدث للصلاة؛ فلحديث مصعب بن سعد، وحديث أبي هريرة كلاهما عند ابن خزيمة، لفظ الأول:"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ". ولفظ الثاني"لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ إِلَّا بِطُهُورٍ وَلَا صَدَقَة مِنْ غلُولٍ".
وأما الطواف فاشتراط الطهارة له لحديث عائشة، حين حاضت بسرف، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "اسْتَذْفِرِي وَافْعَلِي كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الطَّوَافَ" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم ليلة نزوله من منى صفية بنت حُيَي رضي الله عنها فقيل: إنها حائض. فقال"حَلْقَى عَقْرَى أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ ". قالت عائشة: إنها أفاضت مع الناس يوم طواف الإِفاضة. قال: "لَا إِذًا". يدل أيضًا على أن عدم الطهارة مانع للطواف. والله الموفق.
وأما منع الحدث لمس المصحف ولو بقضيب؛ فإن دليل ذلك قوله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
. الآية، فإن قوله تعالى. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
يجعل الضمير في يَمَسهُ ظاهرًا في القرآن، لا يجوز صرفه عنه إلى اللوح المحفوظ إلا لدليل صريح صحيح ولا دليل كذلك، فتعين حمله عليه، وعلى ذلك الجمهور. وأيضًا فقد روى الدَّارقُطْنِي عن سليمان بن موسى قال: سمعت سالمًا يحدث عن أبيه فقال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ". وأخرج أيضًا عن حسان بن بلال عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا وَأَنْتَ عَلَى طُهْرٍ". ا. هـ. والله الموفق. أنظر المبحث النفيس في المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود للشيخ محمود محمد خطاب السبكي.
(5)
أما ما استثناه من جواز اللوح والجزء للمعلم والمتعلم والحائض المتعلمة دون الجنب؛ فإنما هو للقاعدة الشرعية العظيمة: [المشقة تجلب التيسير] ودليلها القرآن كما تقدم: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(2)
. وإنما جاز للحائض دون الجنب لتعذر الغسل عليها دونه، ولأنها ربما يطول عليها الدم فتنسى ما حصلت من القرآن. والله تعالى أعلم.
(6)
نقل الشيخ محمود محمد خطاب السبكي في شرح أبي داود ما نصه: ونقل ابن جرير الطبري =
(1)
سورة الواقعة 79 - 80.
(2)
سورة الأنعام: 119.
فصل
يجب غَسْلُ ظَاهِرِ الْجَسَدِ بِمَنِيٍّ (1) وَإِنْ بِنَوْمٍ (2) أَوْ بَعْدَ ذَهَابِ لَذَّةٍ بِلَا جِمَاعٍ (3) ولَمْ يَغْتَسِلْ. لَا بِلَا لَذَّةٍ. أوْ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ (4) وَيَتَوضَّأْ كَمَنْ جَامَعَ فاغْتَسَلَ ثُمَّ أمْنىَ (5) وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاة، وَبِمَغِيبِ حَشَفَةِ بَالِغٍ لَا مُرَاهِقٍ أوْ قَدْرِهَا فِىِ فَرْجٍ (6) وَإِنْ مِن بَهِيمَةٍ وَمَيْتٍ (7)، ونُدِبَ لِمُرَاهِقٍ كَصَغِيرَةٍ وَطِئها بَالِغٌ (8). لَا بِمَنِيٍّ وَصَلَ لِلْفَرْجِ وَلو التَذَّتْ (9).
= عن مالك قال مالك: لا بأس بما يعلق على النساء الحيض والصبيان من القرآن إذا جعل في كن كقصبة حديد أو جلد يخرز عليه، قال: وقد يستدل للإباحة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَحْضُرُونَ"، قال: وكان عبد الله عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. ا. هـ.
(1)
لحديث أبي سعيد الخدري عند الجيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ". رواه مسلم في الصحيح عن هارون بن سعيد عن ابن وهب. ا. هـ.
ولحديث حصين بن قبيصة الفزاري عن عليٍّ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال: "إِذَا رَأَيْتَ الْمذِيَّ فَتوَضَّأ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَإِذَا رَأَيْتَ نَضْحَ الْمَاءِ فَاغْتَسِلْ"، رواه البيهقي. وأخرج أيضًا عن عليِّ رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذَّاءً، فلما رأى رسول الله الماء قد آذاني قال:"إنَّمَا الْغُسْلُ مِن الْمَاءِ. الدَّافِقِ". ا. هـ.
(2)
لما أخرجه البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول اله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الرجل يرى في المنام البلل ولا يذكر احتلامًا، قال:"يَغْتَسِلُ، وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ احْتَلَمَ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ". ا. هـ.
ولحديث أنس رضي الله عنه عند بلوغ المرام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة ترى في منامها ما يراه الرجل قال: "تَغْتَسِلُ" متفق عليه. زاد مسلم: فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " نَعَمْ، فَمنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟.".
(3)
لحديث هشام بن عروة عن أبيه عن زيد بن الصَّلْت أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى الجرف، فنظر فإذا هو قد احتلم وصلى ولم يغتسل، فقال: والله ما أراني إلا قد احتلمت وما شعرت، وصليت وما اغتسلت. فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ونضح ما لم ير، وأذن وأقام ثم صلَّى بعد ارتفاع الضحى متمكنًا. ا. هـ. البيهقي. وأخرج البيهقي أيضًا عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب صلى الصبح بالناس، ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلامًا فقال: إنا لما أصبنا الودك لانت العروق. فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام وأعاد الصلاة. ا. هـ. وهما في الموطإ.
قلت: وفي غسله لما رأى من الاحتلام في ثوبه دليل لمن يقول إن المني نجس وهو مذهبنا، وبالله تعالى التوفيق.
(4)
قال ابن قدامة في المغني: فإن خرج شبيه المنيِّ لمرض أو برد لا عن شهوة فلا غسل فيه. وهذا قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: يجب به الغسل ويحتمله كلام الخرقي. ا. هـ. منه.
وفي منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأبرار ما نصه: ولأحمد فقال: "إِذَا حَذَفْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإذَا لَمْ تَكنْ حَاذِفًا فَلَا تَغْتَسِلْ". قال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث بعد ما أنهى الكلام على صنده، ما نصه: قوله: حذفت، يروى بالحاء المهملة والخاء المعجمة بعدها ذال معجمة مفتوحة ثم فاء وهو الرمي، وهولا يكون بهذه الصفة إلا لشهوة، ولهذا قال المُصَنِّف: وفيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو لبرد لا يوجب الغسل.
قلت: ومذهب الشافعي هنا أجرى على الدليل؛ حيث إن الشارع صلى الله عليه وسلم جعل مناط الغسل خروج الماء ولم يقيد بشيء، فتقييده هنا بخروجه بلذة معتادة يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، وليس بالإمكان تقييده بمفهوم قوله في حديث أحمد المتقدم:"فَإذَا لَمْ تَكُنْ حَاذِفًا فَلَا تَغْتَسِلْ" لأن الدلالة فيها لم تبلغ درجة مفهوم المخالفة، نعم في قوله صلى الله عليه وسلم "إذَا حَذَفْتَ المَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ" مفهوم صفة، غير أن المذهب عندنا عدم التخصيص والتقييد به، ألا ترى إلى لزوم زكاة المعلوفة عندنا أخذًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= من قوله صلى الله عليه وسلم في الغنم مثلًا: "فِي كُلِّ أرْبَعِينَ شَاةٌ شَاةٌ" فقد قيدها من لا يرى الزكاة في المعلوفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "فِي الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاة" وامتنع الإمام مالك عن تخصيص العموم في قوله"فِي كُلِّ أَرْبَعِين شَاةً شَاةً" بمفهوم المخالفة في قوله: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زكَاةٌ" لأن المنطوق لا يخصص عنده بالمخالفة، وهكذا يلزم هنا جريًا على أصول الإمام مالك أن لا يخصص قوله صلى الله عليه وسلم:"الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" بمفهوم مخالفة "إِذَا حَذَفْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ". فقد أناط النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل برؤية الماء بقوله "نَعَمْ، إذَا رَأَتِ الْمَاءَ" لذلك يجب الغسل بخروج المني على كل حال. والله تعالى أعلم. وهو ولي التوفيق.
(5)
ذكر ابن قدامة في المغني: قال أحمد رحمه الله في الرجل يجامع ولم ينزل فيغتسل ثم يخرج منه المني: عليه الغسل. لكنه ذكر بعد ذلك أن الرِّواية المشهورة عن أحمد أنه لا غسل عليه، قال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء. ا. هـ. منه. ويؤيد ما درج عليه المُصَنِّف عندنا ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن الزهري في المرأة والرجل يخرج منهما الشيء بعدما يغتسلان، قال: يغسلان فرجيهما ويتوضآن. ا. هـ.
قلت: والذي هو أجرى على الدليل أنه إن جامع فأكسل فاغتسل ثم أمنى بعد ذلك، أنه يغتسل مرة أخرى لاختلاف سببي الغسل هنا، لأن الغسل الأول كان بسبب الإيلاج، والغسل الثاني بسبب خروج المني، وكل منهما سبب مستقل أناط به الشارع وجوب الغسل. والله أعلم وهو الموفق.
(6)
اتفق جميع الفقهاء على وجوب الغسل بمغيب الحشفة من البالغ في الفرج إلَّا ما روي عن داود بن علي من التعلق بحديث: "الْمَاءُ مِن الْمَاءَ" الذي كان رخصة رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالغسل، قال سهل بن سعد: حدثني أبي بن كعب أن: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءَ" كان رخصة أرخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنها، متفق عليه، ودليل ما ذهب إليه عامة فقهاء الأمصار من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم؛ هو ما أخرجه الشيخان والموطأ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلَّا من الماء الدافق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. فقال أبو موسى: أنا أشفيكم من ذلك. فقمت فاستأذنت على عائشة، فقلت: يا أماه أويا أم المؤمنين، إنِّي أريد أن أسألك عن شيء وأنا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أستحييك. فقالت: لا تستحي عن شيء كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك: فإنما أنا أمُّك. قلت: فما يوجب الغسل؟. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا جَلَسَ بَيْن شُعَبِهَا الْأرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ". ا. هـ.
وفي حديث عن عمر رضي الله عنه: من خالف في ذلك جعلته نكالًا. وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأرْبَعِ وَجَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" متفق عليه: زاد مسلم "وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ" ا. هـ. من مغني ابن قدامة بتصرف طفيف. وقوله: لا مراهق؛ لأنه ليس من أهل التكليف، والمنفي هنا عنه الوجوب لا الاستحباب؛ لأن الصبي عندنا مكلف بالمستحب دون الواجب أخذًا من حديث الخثعمية، التي أخذت بضبعي ولدها في حجة الوداع وقالت: ألهذا حج يا رسول الله؛. قال: "نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ".
قال شيخ مشائخنا سيدي عبد الله بن ابراهيم العلوي في مراقي السعود:
قد كُلِّف الصبي على الذي اعتمي
…
بغير ما وجب والمحرم
إلى أن قال:
والأمر للصبيان ندبه نُمي
…
لما رووه من حديث خثعم
(7)
وقوله من بهيمة وميت، طريقه القياس بجامع أن الكل إيلاج في فرج، فوجب الغسل به كوطء الآدمية في حياتها، مع أن وطء الآدمية الميتة داخل في منطوق الأحاديث الواردة.
(8)
قوله وندب لمراهق كصغيرة. ألخ. تقدم توجيه الخطاب إليه على الرغم من أنه ليس من أهل التكليف، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ": وذكر من بينهم الصبي حتى يبلغ، غير أن إتباع الصغيرة المطيقة للوطء له في عدم وجوب الغسل فيه نظر، والذي هو أقرب للدليل وجوب الغسل عليها إن أطاقت ووطئت، ألا ترى إلى حديث عائشة رضي الله عنها:"إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الغُسْلُ" أتراها كان يطؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن تغتسل؟ ". ولا خلاف أنه دخل بها وهي ابنة تسع سنين، فلله در الإمام أحمد حيث أوجب عليها الغسل، انظر المغني.
(9)
ونص المدونة في ذلك، قال: وسألت مالكًا عن الرجل يجامع امرأته فيما دون الفرج، =
وَبِحَيْضٍ (1) وَنفاسٍ بِدَمٍ (2) وَاسْتُحْسِنَ وبِغَيْرهِ لَا باسْتِحَاضَةٍ ونُدِبَ لانْقِطَاعِهِ (3)، وبَجِبُ غَسْلُ كَافِرٍ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ (4) وَصَحَّ قَبْلَهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلى الإِسْلَامِ (5) لَا الإِسْلَامُ إِلَّا لِعَجْزٍ (6)، وِانْ شَكَّ أَمَذِيٌّ أوْ
= فيقضي خارجًا من فرجها فيصل الماء إلى داخل الفرج، أترى عليها الغسل؟. قال: لا، إلا أن تكون التذَّت. يريد بذلك أنزلت. ا. هـ. منه. وقال في موضع آخر بعد هذا: ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب قال: كان يزيد بن أبي حبيب وعطاء بن دينار ومشائخ من أهل العلم يقولون: إذا دخل من ماء الرجل شيء في قبل المرأة فعليها الغسل وإن لم يلتق الختانان، وقاله الليث. ا. هـ. منه قال: الباجي في المنتقى: وجه قول ابن القاسم، أن غسل الجنابة إنما يجب بالتقاء الختانين أو بالإنزال، وقد عدما في حق المرأة فلا غسل عليها. ووجه الرِّواية الثانية أنه إذا وصل ماء الرجل قُبُلَها والْتذَّت، أشكل عليها أمرها فلم تدر أنزلت أم لا؟. ولما كان غالب حالها الإِنزال، عند وجودها اللذة، حمل أمرها على الغالب. ا. هـ. فبان لك بإذن الله رجحان المذهب الأول. والله الموفق.
(1)
لحديث عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ذلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذا أَقَبَلَتِ الْحَيْضَة فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" رواه البخاري.
قال في المغني: وقد قيل في قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
(1)
.
يعني إذا اغتسلن؛ منع الزوج وطأها قبل الغسل فدل على وجوبه عليها.
(2)
والنفاس كالحيض سواء؛ فإن دم النفاس هو دم الحيض، وإنما كان في مدة الحمل ينصرف إلى غذاء الولد، فحين خرج الولد خرج الدم لعدم مصرفه وسمي نفاسًا. انتهى من المغنى لابن قدامة.
(3)
مذهب الجمهور إلى أنه لا يجب على المستحاضة الاغتسال لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها. قال النووي: وهو مروي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعائشة، وهو قول عروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبي =
(1)
سورة البقرة: 222.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حنيفة وأحمد؛ ودليل الجمهور أن الأصل عدم الوجوب، فلا وجوب إلا بورود الشرع بالوجوب، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي" وأصح شيء في الباب ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَاغْتَسِلِي ثُمَّ صَلِّي". فكانت تغتسل عند كل صلاة ولا يخفى أن اغتسالها ذلك رضي الله عنها لكل صلاة كان تطوعًا منها، إذ لم يرد أنه أمرها صلى الله عليه وسلم بذلك. أنظر نيل الأوطار. وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المبحث في محله إنشاء الله.
(4)
المذهب أن الكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل، سواء كان أصليًا أو مرتدًا، اغتسل قبل إسلامه أو لم يغتسل، وجد منه قبل إسلامه ما يوجب الغسل أو لم يوجد. وبه قال أبو ثور وابن المنذر. وقول المختصر هنا:[بما ذكر] ينزع به إلى ما نسبه ابن قدامة للشافعي؛ أي أنه إذا كان أجنب قبل الإصلام وجب عليه الغسل سواء أكان اغتسل قبل الإسلام أو لم يغتسل. أما أبو حنيفة فلا غسل عنده على من أسلم بحال، قال: لأن الجم الغفير أسلموا، فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل إلينا تواترًا، غير أن قصة إسلام كل من ثمامة بن أثال وقيس بن عاصم رضي الله عنهما، وأمر كل واحد منهما بالاغتسال فيه الدليل على وجوب الغسل على من أسلم. وبالله تعالى التوفيق.
(5)
دليله أن بعض روايات حديث إسلام ثمامة بن أثال أنه ذهب فاغتسل ثم رجع فأسلم، وأيضًا قد روي أن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ الأشهليين حين أرادا الإسلام سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟. قالا: نغتسل ونشهد شهادة الحق.
(6)
أما صحة الإسلام وإجراء أحكامه الظاهرة لابد فيها من النطق باللسان لكلمة الإِخلاص، مع الجزم بها اعتقادًا، إلا إذا كان المرء عاجزًا عن النطق لخرس مثلًا، والمبحث معلوم في محله. والله الموفق.
قال الشيخ محمد العاقب بن مايابي في نوازله:
إن جاهل بأرض كفر خلقا
…
بكلمة الإخلاص جهرًا نطقا
أحكام الإسلام عليه الظاهرة
…
تجرى ولا تنفعه في الآخرة =
مَنِيٌّ؟. اغْتَسَلَ وأَعَادَ مِنْ آخِر نَوْمَةٍ، كَتَحَقُّقِهِ (1).
وَوَاجِبُه: نِيَّةٌ وَمُوَالَاةٌ كَالْوُضُوءِ (2)، وَإِنْ نَوَتِ الْحَيْضَ وَالْجَنَابَةَ أَوْ أَحَدَهُمَا ناسِيَةً لِلآخَرِ، أَوْ نَوَى الجنابة والجُمُعَةَ، أوْ نِيابَةً عَنِ الجُمُعَةِ حَصَلَا (3). وَإنْ نَسِيَ
= وإن يكن ذا النطق منه ما اتفق
…
فإن يكن عجزًا يكن كمن نطق
وإن يكن ذلك عن إباء
…
فحكمه الكفر بلا امتراء
الخ
(1)
دليله قول مالك رحمه الله في الموطإ ونصه: قال مالك في رجل وجد في ثوب أثر احتلام، ولا يدري متى كان؟. ولا يذكر شيئًا رأى في منامه، قال: ليغتسل من أحدث نوم نامه، فإن كان صلى بعد ذلك النوم، فليعد ما كان صلى بعد ذلك النوم؛ من أجل أن الرجل ربما احتلم ولا يرى شيئًا ويرى ولا يحتلم، فإذا وجد في ثوبه ماء فعليه الغسل، وذلك أن عمر أعاد ما كان صلى لآخر نوم نامه، ولم يعد ما كان قيل ذلك. ا. هـ. منه بلفظه.
(2)
قد تقدم دليل وجوب النية في الطهارة والموالاة فيها، في الكلام عليهما في فرائض الوضوء، وقد بينت هناك حسب الإمكان أدلة ذلك، والقائل به من الأئمة. وعليه فلا فائدة في إعادته هنا، ولقد أكتفي بالإحالة إليه كما اكتفى سلفي بذلك. والله الموفق.
(3)
القاعدة: هل يندرج الأصغر في الأكبر؟. والذي عليه العمل اندراجه فيه في الغسل والقران والزكاة والذكاة والحدود. قال الشيخ علي الزقاق المغربي في المنهج المنتخب:
......... هَل أَصْغَرُ
…
مندرج في أكبر قد قرَّرُوا
عليه غُسلًا وقرانًا وزكاة
…
شفع إقامة حدودًا وذكاة
وشبهها ....... الخ
فقوله: عليه غسلًا؛ أي في اندراج غسل الجمعة في غسل الجنابة، وغسل الرأس يندرج فى مسحه.
وقوله: قرانًا أي في اندراج أعمال العمرة في أعمال الحج للقارن. وقوله زكاة أي في إجزاء بعير =
الجنابَةَ أوْ قَصَدَ نيابَةً عَنْهَا انتفَيا؛ وتَخْلِيلُ شَعَرٍ (1)، وضَغْثُ مَضْفُورِهِ لا نَقْضُهُ (2)، وَدَلْكٌ ولو بَعْدَ الْمَاءِ أَوْ بِخِرْقَةٍ أَوْ اسْتِنَابَةٍ (3)، وإِنْ تَعَذَّرَ سَقَطَ (4).
= عن شاة في زكاة خمسة من الإبل. وقوله ذكاة في إجزاء إبانة الرأس يندرج فيه الذبح إلى غير ذلك. وأما قوله: وإن نوت الحيض والجنابة أو أحدهما ناسية للآخر، أي لأن القاعدة أنه إذا تعدد السبب واتحد الموجب، كفى موجب واحد لها، وذلك على نحوما عقده ميارة في تكميله:
إن يتعدد سببٌ والموجبُ
…
متحد كفَى لهن مُوجَبُ
وقوله: وإن نسي الجنابة، أو قصد نيابة عنها انتفيا، أي لعدم اندراج الأكبر في الأصغر، لأن غسل الجنابة فريضة إجماعًا، وغسك الجمعة مستحب على التحقيق. والله تعالى أعلم.
(1)
لحديث علي رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد، ولفظه كما في منتقى الأخبار عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ"، قال علي: فمن ثم عاديت شعري. زاد أبو داود: وكان يجز شعره رضي الله عنه.
قال الشوكاني: والحديث يدل على مشروعية تخليل الشعر في الغسل، ولا أحفظ فيه خلافًا. ا. هـ. منه.
وفي الموطإ: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة، بدأ بغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. ا. هـ.
(2)
لحديث أم سلمة عند المنتقى وقال: رواه الجماعة إلا البخاري ولفظه: وعن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله، إِنيِّ امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟. قال:"لَا إنَّمَا يَكْفِيكِ أنْ تحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ". ا. هـ.
وفي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن عائشة سئلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت: لتحفن على رأسها ثلاث حفنات من الماء، ولتضغث رأسها بيديها. ا. هـ. قال الباجي في المنتقى: وضغثها بيديها ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس؛ لأن الفرض في الغسل استيعاب البشرة بالغسل. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي الباب أيضًا حديث عبيد بن عمر عند منتقى الأخبار وقال: رواه أحمد ومسلم ونصه: وعن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يامر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو، هو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤوسهن؟. أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! ". لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. ا. هـ.
أما الحائض فإن الواجب عليها في ذلك نقض شعرها، لما رواه الدَّارقُطْنِي والبيهقي في السنن الكبرى من حديث مسلم بن صبيح عن أنى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا اغْتَسَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْضها نَقَضَتْ شَعْرَهَا نَقْضًا وَغَسَلْتُهُ بِخُطْمِيٍّ وأَشْنَانَ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الْجَنَابَةِ صَبَّتْ عَلَى رَأْسِهَا الْمَاءَ وَعَصَرَتْ". ا. هـ.
ولابن ماجه بسند صحيح عن عروة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضًا "انْقُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي". انظر نيل الأوطار.
قال الباجي في المنتقى في الكلام على بلاغ مالك آنف الذكر: سؤالها عن غسل المرأة من الجنابة خاصة؛ لأنه أمر متكرر وليس عليها نقض رأسها، وأما الحيض فقليل ولابد من نقض رأسها إلى تلك المدة في الأغلب. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: ودلك الخ. قال الباجي في المنتقى في قول عائشة رضي الله عنها في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ. قال: ثم يفيض الماء على جسمه كله؛ إفاضة المات على الجلد يكون بإرسال الماء باليد على الجسم، وتد يكون امرار اليد مع الماء معينًا في الإفاضة، ويجوز خلو الإفاضة من ذلك، إلا أنه لما أجمع على أن الجلد لابد من استيعابه بالإفاضة، وعلمنا أن من الجسد مغابن ومواضع لا يصل اليها الماء بإرساله من أعلى الجسد حتى يوصل إليها باليد، دلنا ذلك على أن امرار اليد معتبر مع الإفاضة في جميع الجسد، للإجماع على أن حكم الجسد متساو في الغسل. ا. هـ. منه.
قال في المدونة: وقال مالك في الجنب يأتي النهر فينغمس فيه انغماسًا، وهو ينوي الغسل من الجنابة ثم يخرج، قال: لا يجزئه إلا أن يتدلك، وإن نوى الغسل لم يجزه إلَّا أن يتدلك، قال: وكذلك الوضوء بماء، قلت: أرأيت إن مر بيديه على بعض جسده ولم يمرَّهما على جميع الجسد =
وَسُنَنُهُ: غَسْل يَدَيْهِ أَوَّلًا (1) وَصِمَاخُ أُذُنَيْهِ (2)، ومضمضة واسْتِنْشَاقٌ (3) واسْتِنْثَارٌ، وَنُدِبَ بَدَءٌ بإِزَالَةِ الأَذَى (4)، ثُمَّ أعْضَاءِ وُضُوئِه كَامِلَة مَرَّةً (5)، وأعْلَاهُ (6) ومَيَامِينُهُ، وتَثْلِيثُ رَأْسِهِ (8)، وقلَّةُ المَاءِ بِلَا حَدٍّ (9).
= كله؟. قال مالك: لا يجزئه حتى يمر يديه على جميع جسده كله، ويتدلك. ا. هـ. منه.
وفي المغني لابن قدامة: وقال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟. قال: لا، بل يغتسل غسلًا، لأن الله تعالى قال:{حَتَّى تَغْتَسِلُوا}
(1)
. ولا يقال اغتسل إلا لمن دلك نفسه، ولأن الغسل طهارة من حدث فوجب إمرار اليد فيها كالتيمم. ا. هـ. منه.
وأيضًا في الباب حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مدّ من ماء فتوضأ؛ فجعل يدلك ذراعيه. ا. هـ. البيهقي.
(4)
قوله: وإن تعذر سقط، لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
. وقوله نعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(3)
. وتوله نعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(4)
.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وقد تقدم التنويه عن الاستدلال بهذه الأدلة، للقاعدة العظيمة التي هي أصل من أصول التشريع الإسلامي وهي تولهم: المشقة تجلب التيسير. والله الموفق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
لحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه من الإناء قبل أن يدخل يده في الإناء. الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، وقال: رواه مسلم في الصحيح عن عمرو الناقد عن معاوية بن عمرو. ا. هـ.
(2)
لحديث المقدام بن معد يكرب عند البيهقي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ قال: ومسح بأذنيه باطنهما وظاهرهما. زاد هشام: أدخل إصبعيه في صماخ أذنيه. ا. هـ. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، قلت: هذا الخبر وارد في الوضوء، فكان دليلًا على أنه أولى بإدخالهما في صماخ الأذنين في =
(1)
سورة النساء: 43.
(2)
سورة الحج: 78.
(3)
سورة البقرة: 286.
(4)
سورة التغابن: 16.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الغسل. والله الموفق.
(3)
لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلًا فاغتسل من الجنابة؛ فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه ثلانًا ثم أفاض على فرجه فغسله، ثم قال بيده على الحائط أو على الأرض فدلكها، ثم مضمض واستنشق. الحديث أخرجه البيهقي في السنن الكبرى وقال: أخرجه البخاري ومسلم.
والدليل على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق هو ما أخرجه في المدونة قال: وقال مالك فيمن ترك المضمضة والاستنشاق وداخل أذنيه في الغسل من الجنابة حتى صلى، قال: يتمضمض ويستنشق لما يستقبل، وصلاته التي صلى تامة. ا. هـ. منه.
(4)
لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل بدأ بيمينه فصب عليها من الماء فغسلها، ثم صب الماء على الأذى به بيمينه وغسل عنه بشماله، حتى إذا فرغ من ذلك أظنه زاد صب الماء على رأسه. رواه البيهقي في السنن الكبرى وقال: رواه مسلم في الصحيح عن هارون الايلي عن ابن وهب. هـ. منه.
(5)
لحديث هشام بن عروة عن أبيه، أن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ فيغسل يديه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل كفيه في الماء فيخلل بهما أصول شعره. الحديث، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ثم قال: مخرج في الصحيحين من حديث هشام بن عروة.
وأما التقييد فلعله لأنه أقل ما يجزئُ في ذلك، لأنه تقدم أن الفرض في الوضوء المرة الواحدة. والله تعالى أعلم.
(6)
دليل البدء بالأعلى حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وفيه تقول: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أنه استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات. الحديث، رواه البيهقي وقال: غريب صحيح رواه مسلم في الصحيح عن يحيى ابن يحيى. ا. هـ منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (7) لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه.
أخرجه في منتقى الأخبار وقال: أخرجاه، قال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث: يدل على استجاب البداءة بالميامن ولا خلاف فيه. ا. هـ. منه.
(8)
لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة؛ فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا، ثم أدخل كفه اليمنى في الإناء، فأفرغ بها على فرجه فغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات. الحديث، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى وقال: رواه مسلم في الصحيح عن علي بن حجر. ا. هـ.
ولحديث هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ فيغسل يديه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل كفيه في الماء فيخلل بهما أصول شعره، حتى إذا خيل إليه أنه استبرأ البشرة غرف بيده ثلاث غرفات فصبها على رأسه ثم اغتسل. رواه البيهقي وقال: مخرج في الصحيحين من حديث هشام بن عروة. ا. هـ.
(9)
قال الباجي في المنتقى: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ بالمد ويتطهر بالصاع. وهذا ليس فيه تحديد لأقل ما يستعمل في الوضوء والغسل، ومن توضأ أو اغتسل بأقل من ذلك أجزأه. ا. هـ.
منه.
وفي البيهقي من حديث عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي مد ماء فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه. وروي عن الصَّلْت بن دينار عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد، رواه البيهقي، غير أنه ذكر أن الصَّلْت بن دينار متروك. وعلى كل حال فالمشهور عن مالك عدم تحديد شيء في ذلك. والله الموفق.
كَغَسْلِ فَرْج جُنُبٍ لِعَوْدهِ لِجِمَاعٍ (1)، وَوُضُوئِهِ لِنَوْمٍ (2) لا تيمم، وَلَمْ يَبْطُلْ إلَّا بجِماعٍ. وَتَمْنَعُ الْجَنَابَةُ مَوَانِعَ الأَصْغَرِ والْقِرآءَةَ (3) إِلَّا كَآيَةٍ لِتَعَوُّذٍ ونَحْوِهِ، ودُخُولَ
(1)
دليل استحباب غسل فرج الجنب لعوده لجماع، حديث منتقى الأخبار عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأ". رواه الجماعة إلا البخاري. قال الشوكاني: ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وزادوا: "فَإِنَّهُ أَنْشَط لِلْعَوْدِ"، إِلى أن قال: وجعلوا - يعني من حمل الأمر هنا على الندب- ما ثبت في رواية الحاكم بلفظ: إِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ، صارفًا للأمر إلى الندب. ويؤيده ما رواه الطحاوي من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ. ا. هـ. نيل الأوطار.
قلت: ولم أقف على فضيلة غسل الفرج فقط دون الوضوء لمن يريد العودة، لكن البيهقي قال: باب الجنب يريد أن يعود. ثم ساق سندًا إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَى أحَدُكُمْ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أرَادَ أنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا". ثم قال: رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر ابن أبي شيبة. ا. هـ.
(2)
أما الوضوء للنوم، ففي المدونة ما نصه: قلت: هل كان مالك يامر من أراد أن يطعم أوينام إذا كان جنبًا بالوضوء؛. قال: أما النوم فكان يأمر أن لا ينام حتى يتوضأ بجميع وضوء الصلاة؛ غسل رجليه وغيره من ليل كان أو نهار. وفيها: وقال مالك: لا ينام الجنب حتى يتوضأ، ولا بأس أن يعاود أهله قبل التوضؤ أو بعده، ثم قال: ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام. ا. هـ. وأخرج البيهقي عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجنب فأراد أن ينام توظأ أو تيمم. ا. هـ. تأمل إذًا قول المصنف: لا تيمم. والله الموفق.
(3)
لحديث عليّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن، ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه، وربما قال: ولا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. خرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه الخمسة، لكن لفظ الترمذي مختصر. كان يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبًا. وقال: حديث حسن صحيح. ا. هـ. =
مَسْجِدٍ (1) وَلَوْ مُجْتَازًا كَكَافِرٍ وَإِنْ أَذِنَ مُسْلِمٌ (2)، ولِلْمَنِيِّ تَدَفُّقٌ وَرَائِحَةُ طَلْعٍ أَوْ
= قال البغوي: وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقَرأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ". وهذا الحديث رواه أيضًا الترمذي وابن ماجه. قال البغوي: وجوّز مالك للجنب ان يقرأ بعض آية، وجوز للحائض قراءة القرآن لأن زمان حيضها قد يطول فتنسى. ا. هـ.
وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسًا في قراءة الجنب للقرآن. وروي مثل ذلك عن ابن المنذر والطبري وابن عباس وداود الظاهري، وأكثر العُلماء على تحريمه. انظر شرح أبي داود لمحمود محمد خطاب السبكي. ا. هـ.
أما المحدث حدثًا أصغر فقد اتفقوا على جواز قراءته للقرآن عن ظهر قلب، غير أنه لا سجود عليه للتلاوة. ففي الموطإ أن عمر بن الخطاب كان في قوم وهو يقرأ، فقام لحاجة ثم رجع وهو يقرأ فقال رجل: لم تتوضأ يا أمير المؤمنين وأنت تقرأ. فقال عمر: من أفتاك بهذا؟. أمسيلمة؟. ا. هـ. أنظر شرح السنة للبغوي.
(1)
لحديث عائشة عند أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَجِّهُوا هذِهِ البُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائضٍ وَلَا جُنُبٍ". غير أن قول المؤلف: ولو مجتازًا، يرد عليه أن البغوي قال: وجوّز مالك والشافعي المرور فيه، وهو قول الحسن وتَأولوا قوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}
(1)
. ويروى ذلك عن أنس وجابر. ا. هـ. ولعل المصنف اعتمد ما في المدونة قال: وقال مالك: لا يعجبني بأن يدخل المسجد الجنب عابر سبيل ولا غير ذلك. ا. هـ. منه.
(2)
قوله: ككافر
…
الخ. المذهب عندنا منع الكافر من دخول المسجد مطلقًا؛ أخذًا من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
(2)
. وأيضًا نقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ". فلأن يمنع الكافر من دخوله أولى؛ والذي يجيز دخول الكافر المسجد يقول إن نجاسته معنوية، ويستدل في جواز دخوله المسجد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال في المسجد وهو على دين قومه وبأنه -بأبي وأمي هو- كان يتلقى الوفود في المسجد. والعلم عند الله تعالى.
(1)
سورة النساء: 43.
(2)
سورة التوبة: 28.
عَجِينِ (1)، وُيجْزِئُ عَنِ الوُضوءِ وَإِنْ تَبَيَّنَ عَدَمُ جَنَابَتِهِ (2)، وَغَسْلُ الوُضُوءِ عَنْ غَسْلِ مَحَلِّهِ وَلَوْ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ، كَلُمْعَةٍ وإِنْ عَن جَبِيرَةٍ.
(1)
قوله: وللمنيِّ تدفق الخ. يريد به ليميز بينه وبين المذي الذي ليسر فيه إلا غسل الذكر والوضوء، ومن أكبر ما يتميز به المنيُّ خروجه بتدفق، وفي حديث حصين بن قبيصة عن عليٍّ رضي الله عنه:"إِذَا رَأَيْتَ الْمَذِيَّ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلْصَّلَاة فَإِذا نَضَحْتَ الْمَاءَ فاغْتسِلْ". رواه البيهقي، وفي حديث أنس بن مالك أن أم سليم حدثت أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتغْتَسِلْ" فقالت أم سلمة: واستحييت من ذلك. قالت: وهل يكون هذا؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ إِنَّ مَاءَ الرجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضٌ وَمَاءُ الْمَرْأَة رَقِيقٌ أَصْفَرُ فَأَيُّهُمَا عَلَا أَوْ سَبَق يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ"، رواه البيهقي وقال: لفظ حديث العباس، رواه مسلم عن العباس بن الوليد النرسي. ا. هـ. قلت: ولم أقف على أثر يصف المني برائحة الطلع والعجين، ولعل المصنف أخذ ذلك من الاستقراء. والله الموفق.
(2)
قوله ويجزئ عن الوضوء الخ. لحديث أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة. رواه البيهقي. وأيضًا فإن القاعدة العامة: هل يندرج الأصغر في الأكبر؟ والعمل جار على أنه يندرج فيه قطعًا في الغسل والقران، وبعض فروع ذكرنا بعضًا منها في الكلام على قول المختصر: وإن نوت الحيض والجنابة أو أحدهما ناسية للآخر، أو نوى الجنابة والجمعة أو نيابة عن الجمعة حصلا، وقد أغنى ذلك عن إعادته هنا فليراجع هناك. وبالله تعالى التوفيق.
أما ما ذكره المصنف بقوله: ولو ناسيًا لجنابته الخ. ليس جار على أصول مذهبنا فيما أرى؛ لأن نية رفع الحدث الأكبر لا تجزئ عنها نية الحدث الأصغر، وإذًا، فكيف يتصور رفع الحدث عن أعضاء وضوئه وعن موضع لمعته، إذا غسلهما بنية الحدث الأصغر؟. وبالله تعالى التوفيق.
فصل
رُخِّصَ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ -وإنْ مُسْتَحَاضَةً- بِحَضَرٍ أَوْ سَفَرٍ مَسْحُ جَوْرَبٍ جُلِّدَ ظَاهِرهُ وبَاطِنُهُ، وَخُفٍّ وَلَوْ على خُفٍّ بِلَا حَائِلٍ (1) كَطِينٍ إلَّا المهمازَ، ولا حَدَّ (2) بِشَرْطِ جِلْدٍ طَاهِرٍ خُرِزَ وسَتَر مَحَلَّ الْفَرْضِ، وَأَمْكَنَ تَتَابُعُ المشْيِ (3) بِهِ بِطَهَارَة مَاءٍ
(1)
لحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟. قال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول سورة المائدة. أخرجه في منتقى الأخبار وقال: متفق عليه.
قال الشوكاني: ورواه أبو داود وزاد: فقال جرير لما سئل: هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها؟. ما أسلمت إلَّا بعد المائدة. وكذلك رواه الترمذي من طريق شهر بن حوشب. قال: فقلت له: أقبل المائدة أم بعدها؟. فقال جرير: ما أسلمت إلَّا بعد المائدة.
وقول المصنف: وامرأة، أي لما روي عن مالك في المدونة ونصه: وقال مالك: والمرأة في المسح على الخفين والرأس بمنزلة الرجل، وسواءٌ في جميع ذلك، إلا أنها إذا مسحت على رأسها لم تنقض شعرها. ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: وإن مستحاضة، أي لما في المدونة عن ابن القاسم، ولفظه: قلت لابن القاسم: أرأيت المستحاضة تصح على خفيها؟. قال: عليها أن تمسح. ا. هـ. منه.
وقوله: جورب، أي لحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. قال في منتقى الأخبار: رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وفسر العيني الجورب قال: هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد؛ وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول، يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب. نسب ذلك إليه المنهل العذب المورود شرح أبي داود، وقال الشوكاني: وهو لفافة الرِّجل. قاله في الضياء والقاموس.
قلت: أما اشتراط تجليد ظاهره وباطنه فإنما هو بمحض الاجتهاد
وقد قال بالمسح على الجوربين -سواء أكانا مجلدين أو منعلين أو ثخينين- الحنفية وأحمد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= واسحاق بن راهويه والثوري وابن المبارك، واختلف قول الشافعية في ذلك. انظر شرح أبي داود لمحمود خطاب السبكي.
وقوله: وخف ولو على خف، أي لما في المدونة ونصه: وقال مالك في رجل لبس خفيه على طهر، ثم أحدث فمسح على خفيه، ثم لبس خفين آخرين فوق خفيه أيضًا فأحدث، قال: يمسح عليهما عند مالك. قال ابن القاسم: لأن الرجل إذا توضأ فغسل رجليه ولبس خفيه ثم أحدث، مسح على خفيه ولم ينزعهما، فيغسل رجليه. قال: فإذا لبس خفين على خفين، وقد مسح على الداخلين، فهو قياس القدين والخفين. ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: بلا حائل من طين، أي لقول المدونة: وقال مالك: وسألت ابن شهاب فقال لنا: هكذا المسح. قلت: فإن كان في أسفل الكعبين طين. أيمسح ذلك الطين من الخفين، حتى يصل الماء إلى الخفين؛. قال: هذا قوله. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا المهماز، لاضطرار المسافر إليه وحاجته له ولعله يخصه، واذًا فإنه جاز لقاعدة:[المشقة تجلب التيسير]. والله تعالى أعلم.
(2)
وقول المصنف: ولا حدَّ، أي لما في المدونة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وابن لهيعة والليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي، أنه سمع علي بن رباح اللخمي يخبر عن عقبة بن عامر الجهني قال: قدمت على عمر بن الخطاب بفتح من الشام، وعليَّ خفان لي فنظرهما عمر فقال: كم لك منذ لم تنزعهما؟. قال: قلت: لبستهما يوم الجمعة واليوم الجمعة ثمان. قال: أصبت، قال ابن وهب: وسمعت زيد بن الحباب يذكر عن عمر بن الخطاب قال: لو لبست الخفان ورجلاي طاهرتان وأنا على وضوء، لم أبال أن لا أنزعهما حتى أبلغ العراق أو أقضي سفري. ا. هـ. بلفظه.
قلت: روى زر بن حبيش عن صفوان بن عسال المرادي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلَّا من الجنابة، ولكن من الغائط والبول أو النوم. ورواية أي الغريف عن صفوان بن عسال فيها:"فَلْيَمْسَحْ أَحَدُكمْ عَلَى خُفَّيْهِ إذَا كنَ مُسَافِرًا ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَإِذَا كَان مُقِيمًا فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ". قال البيهقي في السنن الكبرى: قال أبو عيسى الترمذي: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سألت محمدًا -يعني البخاري- قلت: وأي حديث أصح عندك في التوقيت في المسح على الخفين؟. قال: حديث صفوان ابن عسال وحديث ابن أبي بكرة حسن. ا. هـ. منه.
وحديث صفوان بن عسال أخرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه أحمد وابن خزيمة. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد. قال الشوكاني: ورواه النسائي والترمذي وصححاه، ورواه الشافعي وابن ماجة وابن حبان والدارقطني والبيهقي، إلى أن قال: قال أبو عمر بن عبد البر: وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك، وهو الأحوط عندي لأن المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه أهل السنة والجماعة واطمأنت النفس إلى اتفاقهم، فلما قال أكثرهم: لا يجوز المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات - يوم وليلة - ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشرة صلاة ثلاثة أيام بلياليها، فالواجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح، ولم يجمعوا فوق الثلاث للمسافر ولا فوق اليوم للمقيم. ا. هـ. منه. فلينتبه طاب العلم وليأخذ الحيطة لدبنه. والله تعالى الموفق.
(3)
قول المصنف: بشرط جلد طاهر خرز وستر محل الفرض، وأمكن تتابع المشي فيه، هي شروط جواز المسح على الخف، فاشتراط طهارة الجلد في غنىً عنه لأنه معلوم أن غير الطاهر لا يصلح للصلاة فيه مع الذكر والقدرة، وأما بقية الشروط فالظاهر أن مأخذها الاستقراء. والله تعالى أعلم.
وقول المصنف: بطهارة ماءٍ كملت، أي لابد أن يكون لبسهما وهو طاهر طهارة مائية؛ بغسل من جنابة أو وضوء من حدث أصغر لا بطهارة ترابية؛ وذلك لما في المدونة ونصه: قال ابن القاسم فيمن تيمم وهولا يجد الماء، فصلى ثم وجد الماء في الوقت فتوضأ به: إنه لا يجزئه أن يمسح على خفيه، وينزعهما ويغسل قدميه إذا كان أدخلهما غير طاهرتين.
وأيضًا فقد روي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير، فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل فراعيه ومح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال:"دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ". فمسح عليهما. أخرجه في منتقى الأخبار وقال: متفق عليه. قال الشوكاني: وهو يدل على اشتراط الطهارة في اللبس لتعليله عدم النزع بإدخالهما طاهرتين، وهو مقتضى أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع، وقد ذهب إلى ذلك الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق. ا. هـ. منه.
كَمُلَتْ، بِلَا تَرَفُّهٍ وَعِصْيَانٍ بِلُبْسِهِ أوْسفره (1)، فَلَا يُمْسَحُ وَاسِعٌ وَمُخَرَّقٌ قَدْرَ ثُلُثِ الْقَدَمَ (2) وَإِنْ بِشَكٍّ، بَلْ دُونَهُ إِن الْتَصَقَ كَمُنفَتِحٍ صَغُرَ، أَوْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ كَمَّلَ رِجْلًا فَأَدْخَلَهَا حتَّى يخْلَعَ الملبوسَ قبْلَ الكمَال (3) وَلَا مُحْرِمٌ (4) لَمْ
(1)
قوله: بلا ترفه وعصيان بلبسه أو سفره؛ أما الترفه بلبسه فإن كان مما يجوز لبسه، فلا أرى وجهًا لمنعه من مسحه عليه، وقد استعمل جائزًا، جاءت السنة بالترخيص على المسح عليه، وفي الأثر:"إنَّ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُوْخَذَ رُخَصُهُ".
وأمَّا إن كان عاصيًا بلبسه؛ أي بأن كان جوربًا من حرير مثلًا، وهو ممن يرى المسح على الجورب غير المجلد، أو كان عاصيًا بسفره؛ مثل العاق بسفره أو الآبق، فإن المسألة فيهما تجري على القاعدتين المشهورتين؛ أَمَّا في الأولى: هل الرخصة تبطلها المعصية أولا؟. وأمَّا الثانية: هل تتعدى الرخصة محلها أولا تتعداه؟. وقد عقدهما في المنهج المنتخب بقوله:
وَهَلْ تَعَدَّى رُخْصَةٌ مَحَلَّهَا
…
عليه كالنَّجَسِ هَلْ أَبْطَلَها
مَعْصِيَّةٌ كَسَفَرٍ لُبْسٍ وهل
…
كَذَا كَرَاهَة ترددٌ نُقل
(2)
وقوله: فلا يمسح واسعٌ الخ. ليس فيه حسب اطلاعي إلا الاجتهاد. والله أعلم بمستنده فيه.
(3)
وقوله: أو غسل رجليه فلبسهما ثم كمل ألخ. أي لأن شرط جواز المسح عليهما أن يكونا ملبوسين على طهارة كاملة، وإذًا يتخرج هذا الحكم على الخلاف المبني على القاعدة الخلافية، التي عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وهَلْ يغسل العضو عنه يرتفع
…
حدثه أم بالفراغ ......
ولذا جرى الخلاف في إجزائه، والمشهور من المذهب عدم الإجزاء، وقال مطرف من أصحابنا: يجزئُ. وهو مذهب أبي حنيفة. أنظر الباجي على الموطإ.
(4)
قوله: ولا محرم لم يضطر الخ. هذان الفرعان يجريان على القاعدة التي نوهنا عنها آنفًا وهي: الرخصة هل تبطلها المعصية أولا؟.
يَضْطَرَّ، وَفِي خُفٍّ غُصِبَ تَرَدُّدٌ، وَلَا لَابسٌ لِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ (1) أَوْ لِيَنَامَ. وَفِيهَا يُكْرَهُ (2)، وَكُرِهَ غَسْلُهُ وتكراره وتَتَبع غُضُونهِ (3)، وبِطَلَ بِغُسْلٍ وَجَبَ (4) وبخَرقهِ كثيرًا، وبِنَزْعِ أَكثَر رِجْلٍ لِسَاقِ خُفِّهِ لَا الْعَقِبِ (5)، وإِنْ نَزَعهما أَو أَعْلَيَيْهِ أَو أحدهما بادر لِلأَسْفَلِ كالْمُوَالَاةِ (6)، وإِن نَزَعَ رِجْلًا وَعَسُرَتِ الأُخْرَى وضَاقَ
(1)
وقوله: ولا لابس لمجرد المسح أو لينام، تصوره: رجل على طهارة وأحس بحرقان بول، فأراد لبس الخفين ليمسح عليهما إذا توضأ، أو أحس نومًا كذلك، وقد رد على نفسه.
(2)
بقوله: وفيها يكره، ونص ما فيها: قلت لابن القاسم: فإن كان رجل على وضوء فأراد أن ينام أو يبول فقال: ألبس خفيّ كيما إذا أحدثت مسحت عليهما. قال: سألت مالكًا عن هذا في النوم فقال: لا خير فيه. والبول عندي مثله. ا. هـ. منه بلفظه.
(3)
قوله: وكره غسله ألخ. أي لما في ذلك من الغلو في الدين، ولأنه مفسدة للخف.
(4)
قوله: وبطل بغسل وجب، أي لحديث صفوان بن عسال وفيه: كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من الجنابة، قال البيهقي: وهو أصح ما روي في هذا الباب عند مسلم بن الحجاج.
(5)
قوله: وبخرقه كثيرًا، أي لما في المدونة وهو: وقال مالك في الخرق يكون في الخف، قال: إن كان قليلًا لا يظهر منه القدم فليمسح عليه، وإن كان كثيرًا فاحشًا يظهر منه القدم فلا يمسح عليه. وقوله: وبنزع أكثر رجل لساق خفه لا العقب؛ أي لما في المدونة ونصه: وقال مالك فيمن نزع خفيه من موضع قدميه إلى الساقين، وقد كان مسح عليهما حين توضأ: إنه ينزعهما ويغسل رجليه بحضرة ذلك، وإن أخر استأنف الوضوء. وقال: وإن أخرج العقب إلى الساق قليلًا، والقدم كما هىِ في الخف، فلا أرى عليه شيئًا. ا. هـ.
(6)
وقوله: وإن نزعهما أو أعلييه أو أحدهما بادر للأسفل كالموالاة؛ هو لما في المدونة ونصه: قال ابن القاسم وإن نزع الخفين الأعليين اللذين مسح عليهما، ثم مسح على الأسفل فيهما مكانه أجزأه ذلك وكان على وضوئه، وإن أخر ذلك استأنف الوضوء؛ مثل الذي ينزع خفيه؛ يعني وقد مسح عليهما، فإن غسل رجليه مكانه أجزأه ذلك. وكان على وضوئه، وإن أخر ذلك استأنف. ا. هـ. منه.
الوقْتُ، فَفِي تَيَمُّمِهِ أَو مَسْحِهِ عَلَيْهِ، أَو إِنْ كثرت قيمتُه وإِلَّا مُزِّقَ أَقْوَالٌ (1). وَنُدِبَ نَزْعُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ (2)، وَوَضْعُ يُمْنَاهُ عَلَى أَطراف أَصَابِعِهِ ويُسْرَاهُ تَحْتَهَا ويُمِرُّهُمَا لِكَعْبَيْهِ، وهلِ اليُسْرى كذلك أوْ الْيُسْرَى فَوْقَهَا؛ تأْوِيلان. ومَسْحُ أعْلَاه وأَسْفَلَه (3) وَبَطَلَتْ إِنْ تَركَ أَعْلَاهُ لا أسْفَلُه فَفِي الوقت (4).
(1)
وقوله: وإن نزع رجلًا إلى قوله أقوال؛ هي مسائل مجراها الاجتهاد البحت. فالله تعالى أعلم. وهو الموفق.
(2)
قوله: وندب نزعه كل جمعة، صوابه: والأحوط نزعه كل ثلاثة أيام في السفر، وكل خمس صلوات في الحضر؛ لما علمت في الكلام على قوله رحمه الله: ولا حد. فراجع هناك ما نقلته عن الشوكاني، وهو عن النووي فتمسك به واحتط لدينك، واحذر من التعصب. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
قوله: ووضع يمناه إلى قوله ومسح أعلاه وأسفله، دليله في المدونة؛ قال ابن القاسم: وأرانا مالك المسح على الخفين؛ فوضع يده اليمنى على أطراف أصابعه من ظاهر قدمه، ووضع يده اليسرى من تحت أطراف أصابعه من باطن خفه، فأمرّهما وبلغ باليسرى حتى بلغ بهما إلى عقبه، ثم أمرَّهما على عقبه إلى موضع الوضوء، وذلك أصل الساق حذو الكعبين. قال: وقال مالك: سألت ابن شهاب فقال لنا: هكذا المسح. وليت شعري لم هذا التحرج في مسح اليسرى والاستفسار؟. أكان لزومًا أن تكون اليمنى على ظهرها واليسرى أسفل منها؟. أو تكون اليسرى هي العليا؟. ومعلوم أن ديننا يسر، وأنه ما خير نبينا بين مسألتين إلا اختار أيسرهما، ولا يخفى ما في جعل اليمنى من أعلى الرجل اليسرى من المشقة، والقصد المسح، وقد قال الشاعر:
خذا بطن هرشا أو قفاها فإنه
…
كلا جانبي هرشا لهن طريق
فأيهما فعلت أجزأتك. وبالله تعالى التوفيق.
(4)
وقول المصنف: وبطلت إن ترك أعلاه لا أسفله ففي الوقت؛ يرمي به إلى ما في المدونة، ونصه: قلت وهل يجزئُ عند مالك باطن الخف عن ظاهره وظاهر الخف عن باطنه؟. قال: لا، ولكن لو مسح رجل ظاهره ثم صلى، لم أر عليه الإعادة إلَّا في الوقت، لأن عروة بن الزبير كان يمسح ظهورهما ولا يسمح بطونهما. أخبرنا بذلك مالك بن أنس، أما في الوقت فأحب الي أن يعيد ما دام في =
. . . . . . . . . . . . . . . . .
= الوقت. ا. هـ. منه.
قلت: حديث علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان اسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. رواه أبو داود والدارقطني، وهو في بلوغ المرام. وقال ابن حجر في التلخيص: إسناده صحيح، وهو دليل على أن مسح ظاهر الخف دون باطنه مشروع، وبه أخذ أبو حنيفة والأوزاعي وأحمد والثوري، وإذًا فإن إلْزام الإِعادة لمن اقتصر عليه في الوقت فيه ما فيه، فإن الأولى في نظري والأسلم من التعصب أن يقال: كل منهما سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي منهما فعلت أصبت. وبالله تعالى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
فصل
يَتَيَمَّمُ (1) ذو مَرَضٍ وسَفَرٍ أُبِيحَ لِفَرْضٍ وَنَفْلٍ (2)، وَحَاضِرٌ صَحَّ لِجَنَازَةٍ إِنْ تَعَيَّنَتْ، وَفَرْضٍ غَيْرِ جُمُعَةٍ ولَا يُعِيدُ (3)، لَا سُنَّةٍ، إِن عَدِمُوا مَاءً كَافِيًا أَوْ خَافُوا باسْتِعْمَالِهِ مَرَضًا أَوْ زِيَادَتَهُ أَو تأَخُرَ بُرْءٍ، أَوْ عَطشَ مُحْتَرَمٍ مَعَهُ (4)، أَوْ بِطَلَبِهِ تَلَفَ مَالٍ أَوْ خُروجَ وَقْتٍ كَعَدَمِ مُنَاوِلٍ أَوْ آلَةٍ (5)، وَهَلْ إِنْ خَافَ فَوَاتَهُ باسْتِعْمَالِهِ؟. خِلَافٌ (6) وَجَازَ جَنَازَةٌ وسُنَّةٌ ومَسُّ مُصْحَفٍ وَقراءَةٌ وطَوَافُ ورَكْعَتَاهُ بتَيمُّمِ فَرْضٍ أَو
(1)
التيمم في اللغة القصد، قال تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
(1)
. وقال امرؤ القيس:
تيممَت العينَ التي عند ضارج
…
يَفيئُ عليها الظِّلُّ عِرْمِضُها طَامي
ثم نقله الثرع فصار حقيقة شرعية في مسح الوجه واليدين بالصعيد الطيب، وحكمه أنه مشروع بدليل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
(2)
الآية. وأما السنة؛ فحديث عمار المتفق عليه، وفيه فقال:"إِنَّمَا يكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا". ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه. وسوف يأتي مزيد إيضاح لهذا الحديث فيما بعد إن شاء الله.
وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على شرعية التيمم في الجملة وهو من خصائص هذه الأمة. ا. هـ.
(2)
قول المصنف: يتيمم ذو مرض وسفر أبيح لفرض ونفل؛ دليله قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الآية. غير أن تقييده السفر هنا بالمباح، =
(1)
سورة البقرة: 267.
(2)
سورة النساء: 43.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أي السفر الذي يباح لصاحبه التيمم هو السفر المباح. مأخوذ عليه وعليه رحمة الله فإن التيمم في السفر عزيمة لا رخصة؛ علمًا بأن الرخصة المشهور فيها على القاعدة الخلافية أن المعصية لا تبطلها، وإيضاح كون التيمم في السفر عزيمة لا رخصة، هوأن الرخصة عرفوها بأنها حكم غيرَ من صعوبة إلى سهولة، مع بقاء علة الحكم الأصلي، فإن اختل شرط من هذه الشروط كان الحكم عزيمة لا يجوز تركها، كالتيمم فإنه لا يجوز مع الصحة ووجود الماء، فإذا علمت ذلك فاعلم أنه لا فرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية في جواز التيمم لأن قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} - إلى قوله تعالى - {فَتَيَمَّمُوا} يدل بإطلاقه على إباحة التيمم لكل مريض وكل مسافر عدم الماء. والله الموفق.
(3)
قوله رحمه الله: وحاضر صحَّ لجنازة إن تعينت، وفرض غير جمعة ولا يعيده أي لما في المدونة، وهو: قلت: أيتيمم من في الحضر إذا لم يجد الماء في قول مالك؛. قال: نعم. وسألنا عمن كان في القبائل وأطراف الفسطاط. فخشي إن ذهب إلى الماء يتوضأ أن تطلع عليه الشمس قبل أن يبلغ الماء؟. قال: يتيمم ويصلي. ا. هـ
وقوله: ولا يعيد، أي لقول المدونة: فقلت لابن القاسم أفيعيد الصلاة بعد ذلك إذا توضأ؟. قال: لا. قلت: فإن كان هذا الرجل في حضر أتراه في قول مالك بهذه المنزلة في التيمم؟. قال: نعم. قلت أرأيت من كان في السجن فلم يجد الماء أفيتيمم؟. قال: نعم. قلت: وهو قول مالك؟. قال: نعم. ا. هـ. منه.
وقوله: لا سنة، أي لقول المدونة: وقال ابن القاسم من قول مالك: من أحدث خلف الإمام في صلاة العيدين لا يتيمم. ا. هـ.
وقوله: إن عدموا ماءًا كافيًا، هو شرط في جواز تيمم المسافر والحاضر الصحيح.
وقوله: أو خافو باستعماله ضررًا، أما المريض فخوفه من زيادة مرضه أو تأخر برئه ظاهر. وأما الصحيح فدليل جواز التيمم ليلة إن خاف ضررًا باستعمال الماء، هو ما أخرجه في المدونة من حديث ابن وهب عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب وغيره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عمرو بن العاص على جيش فسار، وإنه احتلم في ليلة باردة فخاف على نفسه إن هو اغتسل بالماء البارد أن يموت، فتيمم وصلى بهم ولم يغتسل، وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أُحِبُّ أَنَّكَ تَرَكْتَ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شَيْئًا مِمَّا فَعَلْتَ وَلَا فَعَلْتَ شَيْئًا مِمَّا تَرَكْتَ" ا. هـ.
وحديث جابر رضي الله عنه في الرجل الذي شجَّ فاغتسل فمات: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَده". رواه بلوغ المرام. وقال: رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}
(1)
. قال إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح، فيجنب فيخاف أن يموت ان اغتسل تيمم. رواه بلوغ المرام وقال: رواه الدارقطني موقوفًا ورفعه البزار وصححه ابن خزيمة والحاكم.
هذان الحديثان وغيرهما يستأنس بهما لقوله: أو زيادة بر أوتأخره. أما اشتراطه التعين في الصلاة على الجنازة لمن فرضه التيمم، أراه مما يؤخذ عليه رحمه الله لقوله صلى الله عليه وسلم "وَجُعِلَتْ تُرْبَتهَا لَنا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ". رواه بلوغ المرام من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4)
وقوله رحمه الله: أوعطش محترم معه؛ أي والحال أنه معه ماء إن توضأ به عطش المحترم معه، وهذا عادم للماء شرعًا لأن الشرع يطالبه بإنقاذ حياة ذلك المحترم، فأصبح بمزلة عادم الماء حسًا، فيتخرج على القاعدة: هل المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا أو لا؟. وقد عقدها فى المنهج المنتخب مشيرًا إلى بعض فروعها بقوله:
هل غالب أو ما بشرع قد عدم
…
أو ضد كما بتحقيق علم
كالسؤر والصيد وكالوطء رعاف
…
تيمم وكإمام واصطراف
وأيضًا في المدونة وقال مالك فيمن معه الماء وهو يخاف العطش إن توضأ به، قال: يتيمم ويبقى ماؤه. ا. هـ.
(5)
وقوله: أو خروج وقت، أي لما في المدونة، وهو قال: وسألت مالكًا عن الرجل تغيب الشمس، وقد خرج من قريته يريد قرية أخرى، وهو فيما بين القريتين على غير وضوء، وهو غير مسافر، قال: إن طمع أن يدرك الماء قبل مغيب الشفق مضى إلى الماء، وإن كان لا بطمع بذلك تيمم وصلى. ا. هـ. منه.
(6)
قوله: وهل إن خاف فواته الخ. أي وقال ابن القاسم: سألت مالكًا عن الرجل يجد الماء وهو =
(1)
سورة النساء: 43.
نَفْلٍ إِن تأخَّرتْ (1)، لَا فَرْضٌ آخَرُ وإنْ قُصِدَا، وَبَطَلَ الثَّانِي وَلَوْ مُشْتَرَكَةً (2)، لَا لِمُسْتَحَبٍّ، وَلَزِمَ مُوَالَاتُه (3) وَقَبُولُ هِبَةِ مَاءٍ لَا ثَمَن أَوْ قَرْضُهُ، وأخْذُهُ بِثَمَنِ اعْتِيدَ لَمْ
= على غير وضوء ولا يقدر على الماء؛ وهو في بئر أو في موضع لا يقدر عليه، قال: يعالجه ما لم يخف فوات الوقت، فإذا خاف فوات الوقت تيمم وصلى. ا. هـ. منه.
(1)
قوله: وجاز جنازة ألخ، أي تجوز هذه المتعاطفات بتيمم الفرض إن كان فعلها بعد الفرض، وذلك لما في المدونة:
وقال مالك: لا يصلي مكتوبتين بتيمم واحد، ولا نافلة ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة بعد مكتوبة فلا بأس بذلك. ا. هـ.
وقال في المدونة قبل هذا الموضع بقليل بخصوص مس المصحف وقراءة الحزب بالتيمم ما نصه: قال وقد كان لا يرى بأسًا أن يتيمم من لا يجد الماء في السفر، فيمس المصحف ويقرأ حزبه قال: وقال مالك في المسافر لا يكون معه الماء: يتيمم ويقرأ حزبه. قلت لابن القاسم: أرأيت إذا مر بالسجدة أيسجدها؟. قال: نعم يسجدها. ا. هـ. منه.
قلت: والذي هو أظهر عندي أنه إن نوى الفرض بتيممه استباح كل ما يباح بالتيمم؛ من نفل قبل الفرض وبعده وقراءة وطواف وسى مصحف، وذلك جريًا على القاعدة في اندراج نية الأصغر في نية الأكبر؛ وجواز ذلك له هو مذهب الجمهور. والله الموفق.
(2)
قوله: لا فرض آخر الخ. أي لما في المدونة ونصه: ابن وهب وأخبرني جرير بن حازم عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة. وقال الحكم وابراهيم النخعي مثله. وأخبرني رجال من أهل العلم عن ابن المسيب ويحيى بن سعيد وربيعة وعطاء بن أبي رباح وابن أبي سلمة والليث مثله. ا. هـ. منه. بلفظه.
(3)
وقوله: ولزم موالاته؛ أي لما في المدونة ونصه: أرأيت إن تيمم رجل فحمم وجهه في موضع ويمم يديه في موضع آخر؟. قال: إن تباعد ذلك فليبتدئ التيمم، وإن لم يتطاول ذلك وإنما ضرب بوجهه في موضع، ثم قام إلى موضع آخر قريب من ذلك فضرب بيديه أيضًا فأتم تيممه فإنه يجزئه. قلت: هذا قول مالك؟. قال: هو عندي مثل الوضوء. ا. هـ. منه. بلفظه.
يَحْتَجْ لَهُ وإِن بِذِمَّتِهِ (1)، وَطَلَبُهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وإنْ تَوَهَمَّهُ لَا تَحَقَّقَ عَدَمَهُ، طَلَبًا لَا يَشُقُّ بِهِ كَرُفْقَةٍ قَلِيلة أَوْ حَوْلَهُ مِنْ كثِيرَةٍ، إِن جَهِلَ بُخْلَهُمْ بِهِ (2)، وَنِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ (3)، ونِيَّةُ أكْبَرَ إنْ كَانَ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ. وَلَا يرْفعُ الْحَدَثَ (4). وتعميمُ وجهه
(1)
وقوله: وأخذه بثمن اعتيد لم يحتج له؛ أي لما في المدونة ونصه: قال وسألنا مالكًا عن الجنب لا يجد الماء إلَّا بالثمن. قال: إن كان قليل الدراهم رأيت أن يتيمم، وإن كان واسع المال رأيت أن يشتري، ما لم يكثروا عليه في الثمن، فإن رفعوا عليه في الثمن يتيمم ويصلي. ا. هـ. منه.
(2)
قوله: وطلبه لكل صلاة الخ؛ أي لأن إباحة التيمم مشروطة بعدم وجود الماء بدليل قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}
(1)
الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيَبَ طَهُورُ الْمُسْلِم وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنينَ، فَإذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشرَته فَإنَّ ذلِكَ خَيْرَ لَهُ". رواه الترمذي من حديث أبي ذر وقال: حديث حسن صحيح. فلما كانت إباحة التيمم مشروطة بعدم وجود الماء تعين طلبه لكل صلاة.
وقول المصنف: طلبًا لا يشق به؛ أي لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أمَرتكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا منْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وبالله تعالى التوفيق.
(3)
قوله عليه رحمة الله: ونية استباحة الصلاة ونية أكبر إن كان ولو تكررت؛ أي بدليل ما في المدونة، قلت: أرأيت من تيمم وهو جنب من نوم لا ينوي به تيمم الصلاة ولا تيممًا للمس المصحف، أيجوز له أن يتنفَّل بهذا التيمم أو يمس المصحف به؟. قال: لا. ا. هـ.
وقال في موضح آخر منها: وسألت مالكًا عن الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة ولا يعلم بجنابته، وليس معه ماءٌ فتيمم يريد بتيممه الوضوء فيصلي الصبح، ثم يعلم بعد ذلك أنه قد كان أجنب قبل صلاة الصبح؛ أتجزئه صلاته بذلك التيمم؟. قال: لا. وعليه أن يتيمم ويعيد الصبح؛ لأن تيممه ذلك كان للوضوء لا للغسل. ا. هـ. منه.
وأيضًا فإن حديث عمر بن الخطاب الصحيح: "إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكُل امْرئٍ مَا نَوَى". خير دليل على وجوب النية في كل عبادة. وقد تقدم الكلام على النية. والله الموفق.
(4)
قوله عليه رحمة الله: ولا يرفع الحدث، فيه بحث في نظري فإن سياق آية المائدة دليل على =
(1)
سورة النساء: 43.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أن التيمم مطهر، ولا يكون مطهرًا إلا وهورافع للحدث؛ قال تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}
(1)
أي من الحدث والجنابة، أو لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة. ذكره القرطبي.
وأيضًا فقد بينت ذلك السنة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، الذي أصله في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكْتَنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ". أخرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه أحمد. وقال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث: قوله وطهورًا -بفتح الطاء- أي مطهرة. وفيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. ا. هـ. منه. وقال الصنعاني في الكلام على نفس الحديث مثله. ا. هـ.
وحديث أبي ذر عند أبي داود، وأخرجه أيضًا أحمد والنسائي والدار قطني والبيهقي وابن حبان. ولفظ أبي داود: قال أبو ذر: كُنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهو في رهط من أصحابه، وهو في ظل المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم:"أَبُو ذَرٍّ". فقلت: نَعَمْ. هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: "وَمَا أَهْلَكَكَ"؟. قُلْتُ: إِنِّي كُنْتُ أَعْزُبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أهْلِي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور. فأمر لي صلى الله عليه وسلم بماءٍ. فجاءت به جارية سوداء بعُسً يتخضخض وما هو بملآن، فتسترتُ إلى بعيري فاغتسلتُ ثم جئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورٌ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ". ا. هـ. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيَّبَ طَهُورٌ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ". وقد علمت أن لفظة طهور كصبور وشكور، وأن هذا البناء يأتي في العربية لما يكثر منه الفعل، وبنفس البناء استنبط مالك طهارة الماء المستعمل في حدث إذا لم يتغير أحد أوصافه، فقد شارك الصعيد الطيب الماء في هذا الوصف، فاشتركا في الوظيفة في حالة نيابته عنه. والله الموفق.
نعم قد يتقيد رفعه للحدث بالتوقيت فيقال: هو رافع للحدث حتى يوجد الماء، فإذا وجد الماء رجع المانع حتى يمس الماء البشرة. هكذا يبدو لي على قصوري. علمًا بان ما مشى عليه المصنف هنا هو مذهب الجمهور. والعلم عند الله تعالى.
(1)
سورة المائدة: 6.
وكفيه لكوعيه (1) ونزع خاتمه. وَصَعِيدٌ طَهُرَ كَتُرَابٍ، وهُوَ الَأفْضَلُ ولَوْ نُقِلَ، وَثَلْجٌ وخَضْخَاضٌ، وَفيها خفَّفَ يَدَيْهِ -رُويت بِجِيمٍ وَخَاءٍ- وجِصٍّ لَمْ يُطْبَخْ وَمَنْقُولٍ
(1)
قوله: وتعميم وجهه وكفيه لكوعيه ونزع خاتمه، يريد أن مسح الوجه والكفين للكوعين هوحد الفرض في التيمم، غير أن كيفية التيمم عندنا؛ ضربتان، الأولى منهما لتعميم الوجه والكفين للكوعين، والثانية لليدين إلى المرفقين، وسوف يذكرها المصنف في السنن بقوله: وإلى المرفقين وتجديد ضربة ليديه.
ودليل ذلك أولًا: ما في المدونة ونصه: والتيمم ضربة للوجه وضربة لليدين؛ يضرب الأرض بيديه جميعًا ضربة واحدة، فإن يعلق بهما شيء نفضهما نفضًا خفيفًا، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى بيديه، فيبدأ باليسرى عيى اليمنى، فيمرها من فوق الكف إلى المرفق، ويمرها أيضًا من باطن المرفق إلى الكف، ويمر أيضًا اليمنى على اليسرى كذلك، وأرانا ابن القاسم بيديه فقال: هكذا أرانا مالك. ووصف لنا.
ابن وهب عن محمد بن عمرو عن رجل حدثه عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: ضربة للوجه وأخرى للذراعين.
وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر بن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة على التراب ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا ينفض يديه من التراب. قال عبد الرزاق: وبه نأخذ. ا. هـ. منه.
وفي شرح السنة للبغوي عن الأعرج عن ابن الصمة قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ، حتى قام إلى جدارفحته بعصًا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه ثم ردَّ عليَّ السلام. ا. هـ. وقال البغوي: هذا حديث حسن.
وأخرج البغوي أيضًا في شرح السنة عن نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهم وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح فراعيه ثم رد على الرجل السلام. وقال:"إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ إِلاَّ أَنَّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ". ا. هـ. =
كَشَبٍّ وَمِلْحٍ (1) ولمريض حَائِطُ لَبِنٍ وحَجَرٍ (2). لَا حَصيرٍ وَخَشَبٍ، وَفِعْلُهُ فِي
= والحديث أخرجه أبو داود والطحاوي والدارقطني والطيالسي والبيهقي، وهو. وإن كان في سنده محمد بن ثابت العبدي الذي ضعفه غير واحد، فإن طرقه الأخرى تعضده، وقد أخذ به عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين سالم بن عبد الله بن عمر، والحسن، وابراهيم النخعي، وبه قال مالك وسفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي. وذهب الإِمام أحمد واسحاق إلى الأخذ بحديث عمار بن ياسر عند البخاري: تمعَّكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ". هكذا نقله في شرح السنة.
قلت: والذي يتضح في الموضوع أن الاقتصار على الوجه والكفين بالضربة الواحدة مجز، وأن الأفضل أن يؤتى بالضربة الثانية للذراعين إلى المرفقين، وهو مشهور المذهب عندنا، فالضربة الأولى وتعميم الوجه والكفين بها إلى الكوعين واجب، والضربة الثانية ليديه سنة. وبالله التوفيق.
(1)
حول المصنف: وصعيدٌ طَهُرَ كتراب وهو الأفضل، أي ولزم صعيد، أي لزم استعمال صعيد طاهر، أي متصف بالطهارة. وذلك معنى الطيب في الآية، وأفضل أنواع الصعيد التراب. قال البغوي في شرح السنة: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
(1)
. الآية. الصعيد هو التراب. والصعيد وجه الأرض. والطيب: الطاهر. ا. هـ. منه.
قال المعلق عليه: قال عياض في مشارق الأنوار 2/ 47: الصعيد: وجه الأرض ومنه {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي طاهرًا. وهو معنى قوله في الموطإ: وكل ما كان صعيدًا فهويتيمم به، سباخًا كان أو غيره؛ أي مما يسمى صعيدًا مما على وجه الأرض. والصعيد: التراب أيضًا.
وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض؛ وعلى الإنسان أن يضرب وجه الأرض ولا يبالي أكان في الموضع تراب أو لم يكن، لأن الصعيد ليس هو التراب، إنما هو وجه الأرض، ترابًا كان أوغيره، ولا أعلم بين أهل اللغة خلافًا أن الصعيد وجه الأرض. وانظر لسان العرب. ا. هـ. منه. بلفظه. وفي المدونة: وسئل مالك عن الحصباء يتيمم عليه وهو لا يجد المدر؟ قال: نعم. قيل له: فالجبل يكون عليه الرجل وهولا يجد المدر، يتيمم عليه؟. قال: نعم. وقال مالك في الطين يكون=
(1)
سورة النساء: 43.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا يقدر على التراب يتيمم عليه وكيف يصنع؟. قال: يضع يديه على الطين ويخفف ما استطاع ثم يتيمم. وسئل عن اللبد يتيمم عليه إذا كان الثلج ونحوه؟. فأنكر ذلك وقال: لا يتيمم عليه. قلت لابن القاسم: فإن تيمم إذا كان الثلج، وقد كره له أن يتيمم على لبد وما أشبه ذلك من النبات، قال: بلغني عن مالك أنه وسع له في أن يتيمم على الثلج. وقال علي بن زياد عن مالك أنه يتيمم على الثلج. قال: وسألت ابن القاسم عن الطين كيف يتيمم عليه في قول مالك؟. قال: إن لم يكن ماءًا يتيمم ويخفف يديه عليه. قال: لم أسأله عن الطين الخضخاض، ولكني أرى ما لم يكن ماءًا وهو طين. قال مالك: يضع يديه وضعًا خفيفًا ويتيمم.
وروى ابن وهب عن معاوية بن صالح قال سمعت يحيى بن سعيد قال: لا بأس بالصلاة على الصفا والسبخة، ولا بأس بالتيمم بهما إذا لم يجد ترابًا وهو بمنزلة التراب، وقال يحيى: ما حال بينك وبين الأرض فهو منها. ا. هـ. منه. بلفظه.
قلت: وقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: "وَجُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا". دليل واضح على أن الصعيد هو الأرض وما اتصل بها، ألا ترى إلى من وجبت عليه الصلاة على شاهق ولا ماء معه، أفترى الصلاة ساقطة عنه؟.
وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر في الصحيح: "إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَديكَ الْأرْضَ فكَذَا". لم يخصص فيه بتربة ولا بغيرها، بل أطلق فيه لفظ الأرض، وهو دال على وجه البسيطة سهولها وجبالها وسباخها ومعادنها. وبالله التوفيق.
(2)
وقول المصنف: ولمريض حائط لبن وحجر، لم أدر من أين اشترط في جواز التيمم على الحائط للمريض، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم تيمم على حائط في سكة من السكك؛ فقد روى الأعرج عن ابن الصمة قال: مررت على النبي وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي السلام حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد عليَّ. ا. هـ.
وقد ورد من حديث نافع عن ابن عمر ولم يذكر فيه [فحته بعصا كانت معه]. أنظر شرح السنة للبغوي. وعليه فإني لا أرى تقييد جواز التيمم بحائط اللبن والحجر بالمرض، لدليل السنة الصالحة الاحتجاج بها، وقد ذكر البغوي أن حديث ابن الصمة حسن. وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: لا حصير وخشب، أي لا يصح التيمم على شيء من ذلك لأنه ليس من الصعيد.
الْوَقْتِ (1)، فالْآئِسُ أَوَّلَ الْمُخْتَارِ والمُتَرَدَّدُ في لُحُوقِهِ أَوْ وُجُودِهِ وسَطَهُ والرَّاجِي آخِرَهُ (2). وَفِيهَا تَأْخِيرُهُ المَغْرِبَ للشَّفَقِ، وسُنَّ ترتيبُه (3) وَإِلى المرفقَيْنِ، وتَجْديدُ ضَرْبَةٍ ليَدَيْهِ (4).
(1)
وقوله: وفعله في الوقت ألخ. أي للحديث المتفق عليه: "فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَحَلٍّ فَلْيُصَلِّ". لأن إدراك الصلاة لا يكون إلا بعد دخول الوقت قطعًا، وبذلك يقول مالك وأحمد بن حنبل وداود، واستدلوا بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}
(1)
الآية. ولا قيام قبل دخول الوقت، إلا أن الوضوء خصصه الإِجماع والسنة. انظر نيل الأوطار.
وفي البيهقي من حديث سليمان بن يسار التيمي، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَنِي عَلَى الْأنْبِيَاءِ -أو قال: أْمَّتِي عَلَى الْأمَمِ- بِأَرْبَعٍ؛ أَرْسَلَنِي إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَ الْأرْضَ كُلَّهَا لِي وَلأمَّتِي طَهُورًا وَمَسْجِدًا؛ فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتِ الرَّجُلَ مِنْ أمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورهُ" .. الحديث. وقد ذكره وذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -عام غزوة تبوك- قام من الليل فصلى فذكر الحديث فقال: "أُعْطِيتُ خَمْسًا مَا أْعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي". الحديث، وذلك تحت عنوان: باب التيمم بعد دخول وقت الصلاة. ا. هـ.
(2)
وقول المصنف: فالآئس أول المختار الخ. أي لما في المدونة ونصه: وقال مالك لا يتيمم في أول الوقت مسافر ولا مريض ولا خائف إلا أن يكون المسافر على إياس من الماء، فإن كان على إياس من الماء تيمم وصلى في أول الوقت، وكان ذلك له جائزًا، ولا إعادة عليه وإن قدر على الماء، والمريض والخائف يتيممان في وسط الوقت، وإن وجد المريض أو الخائف الماء في ذلك الوقت فعليهما الوضوء والإِعادة، وإن وجد المسافر الماء بعد ذلك فلا إعادة عليه.
وفي البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: إذا أجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى. ا. هـ. إلا أن في سنده الحارث الأعور وقال: لا يحتج به.
وفي البيهقي أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فاعاد أحدهما الوضوء والصلاة =
(1)
سورة المائدة 6.
ونُدِبَ تَسْمِيَةٌ (1) وبَدْءٌ بظاهر يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ إِلى المِرْفَقِ، ثم مَسْحُ الْبَاطِنِ لآخر الْأصَابعِ، ثم يُسْراهُ كذلك (2)، وَبَطَلَ بِمُبْطِلِ الْوُضُوءِ، وَبِوُجُودِ الماءِ قبل الصَّلَاةِ لَافِيهَا إِلَّا نَاسِيَهُ (3)، وَيُعِيدُ المُقَصِّرُ في الْوَقْتِ، وَصَحَّتْ إِن لَّمْ
= ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك، فقال للذي لم يعد:"أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ" وقال للذي توضأ وأعاد، "لَكَ الْأجْرُ مَرَّتَيْنِ. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: وسن ترتيبه؛ أي لما في المدونة: قلت فإن نكس التيمم فيمم يديه قبل وجهه ثم وجهه بعد يديه؟. قال: إن صلى أجزأه ويعيد التيمم لما يستقبل. قلت: هذا قول مالك؟ قال: هذا مثل الوضوءِ.
(4)
قوله: وإلى المرفقين وتجديد ضربة ليديه، قد تقدم الكلام عليه عند قول المصنف: وتعميم وجهه وكفيه لكوعيه، فأغنى عن إعادة الكلام عليه هنا. والحمد لله.
(1)
قوله: وندب تسمية، تقدم الكلام على شرعيتها في مستحبات الوضوء.
(2)
قوله: وبدء بظاهر يمناه بيسراه .. ألخ. تقدم تبيينه في الكلام على قول المصنف: وتعميم وجهه وكفيه لكوعيه، وهو يريد هنا تبيين أن هذه الكيفية مستحبة.
(3)
قوله: وبطل بمبطل الوضوء؛ توجيهه ظاهر لأنه طهارة فينتقض بكل ما ينقض الطهارة.
وقوله: وبوجود الماء قبل الصلاة لا فيها إلا لناسيه؛ أما وجود الماء قبل الصلاة فظاهر فإن التيمم إنما شرع لفقد الماء بدليل قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . فإن وجد الماء توضأ وبطل التيمم إن كان تيمم لعدم شرعيته إذًا. وأما قوله: لا فيها؛ أي لما في المدونة: وقال مالك في رجل تيمم فدخل في الصلاة، ثم طلع عليه رجل معه ماء، قال: يمضي في صلاته ولا يقطعها. قلت: ولعل فتواه هذه لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
(1)
.
وقوله: إلَّا لناسيه، يدل له أيضًا ما في المدونة: قال: وإن كان الماء في رحله؟. قال: يقطع صلاته ويتوضأ ويعيد الصلاة. قال: وإن فرغ من صلاته ثم ذكر أن الماء كان في رحله فنسيه أوجهله، أعاد الصلاة في الوقت. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة محمد: 33.
يُعِدْ كَوَاجِدِهِ بِقُرْبِهِ أَوْرَحْلِه، لَا إِنْ ذهب رَحْلُهُ، وَخَائفِ لِصٍّ أَوْ سَبُع، ومَرِيضٍ عَدِمَ مُنَاوِلًا، وَرَاجٍ قَدَّمَ وَمُتَردَّدٍ فِي لُحُوقِهِ، ونَاسٍ ذَكَرَ بَعْدَهَا كمُقْتَصِرٍ عَلَى كوْعَيْهِ لا على ضربة، وكمُتَيَمَّمٍ عَلَى مُصَابِ بَوْلٍ وَأُوَّلَ بالمَشْكُوكِ وَبِالمُحَقَّقِ واقْتَصَر على الوقْتِ لِلْقَائلِ بِطَهارَةِ الأَرْضِ بالجَفافِ (1). وَمُنِعَ مَعَ عَدَمِ مَاءٍ تَقَبِيلُ مُتَوَضٍّ وَجِمَاعُ فغْتَسِلٍ إِلَّا لِطُولٍ (2)، وإِنْ نَسِيَ إِحْدَى الخَمْسِ تيمَّمَ
= وقوله: ويعيد المقصر ألخ. كلها مسائل أمر فيها بالإِعادة للاحتياط اجتهادًا. والله أعلم.
(1)
وقوله: كمتيمم على مصاب بول ألخ. يريد أنه يعيد في الوقت مراعاة لقول القائل إن الأرض تطهر بالجفاف. قلت: هو قول لا يؤيده الدليل، لأن الأعرابي الذي بال في المسجد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء صبت على بوله، ولو كانت الأرض تطهر بالجفاف لما أمر صلى الله عليه وسلم بصب الماء على البول، وهو المشرع وبه الأسوة، فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن من تيمم على مصاب بول، لم يتيمم على صعيد طيب أي طاهر، والله نعالى يقول:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . والله الموفق.
(2)
قوله: ومنع مع عدم ماء تقبيل متوضٍّ وجماع مغتسل إلا لطول؛ قد اتبع فيه المصنف رحمه الله مذهب المدونة ففيها: قلت أرأيت المسافر يكون على وضوء أو لا يكون على وضوء، فأراد أن يطأ أهله أوجاريته وليس معه ماء؟. قال مالك: لا يطأ المسافر جاريته أو امرأته إلا ومعه ما يكفيهما جميعًا من الماء. قال ابن القاسم: وهما سواء. قال ابن القاسم: قلت لمالك: أرأيت امرأة طهرت من حيضتها في وقت صلاة، فتيممت وصلت، فأراد زوجها أن يطأها. قال: لا يفعل حتى يكون معهما من الماء ما يغتسلان به جميعًا. الخ البحث.
قلت: وهذا تضييق في الدين يأباه منطوق قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(1)
. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
. اللهم إلا إذا كان يريد بنهيه عن التقبيل أو الجماع بعد دخول الحاضرة وقبل أدائها، فإن ذلك يتجه لما فيه من التفريط، أما إن كان غير ذلك فلا حرج ولا كراهة، لحديث أبي ذر رضي الله عنه: إني أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "الصَّعِيدُ الطَّيَّبُ طَهُورٌ". رواه أبو داود والنسائي. فهو=
(1)
سورة البقرة: 185.
(2)
سورة الحج: 78.
خَمْسًا (1)، وَقُدَّمَ ذُو مَاءٍ مَاتَ ومَعَهُ جُنُبٌ إِلَّا لِخَوْفِ عَطَشٍ كَكَوْنِهِ لَهُمَا وضَمِنَ قِيمَتَهُ (2)، وَتَسْقُطُ صَلَاةٌ وَقَضَاؤُهَا بِعَدَم مَاءٍ وَصَعِيدٍ (3).
= إقرار منه صلى الله عليه وسلم على ذلك. ولا يقر على باطل. ولو كان جواز ذلك مقيدًا بالطول -كما ذكره المصنف- لبينه صلى الله عليه وسلم لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة عليه؛ وأيضًا فقد ذكر ابن قدامة في المغني أن ابن عباس رضي الله عنه أصاب من جارية له رومية وهو عادم للماء، وصلى بأصحابه وفيهم عمار فلم ينكروه عليه. قال اسحاق بن راهويه: هو سنة مسنونة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر وعمار وغيرهما. قال ابن قدامة: فإذا فعلا ووجدا من الماء ما يغسلان به فرجيهما غسلاهما ثم تيمما، وإن لم يجدا تيمما للجنابة والحدث الأصغر والنجاسة وصليا. ا. هـ. منه. بلفظ.
(1)
قوله: وإن نسي إحدى الخمس تيمم خمسًا، توجيهه أن المرء إن نسي إحدى الصلوات الخمس وجهلها بعينها، لزمه أن يصلي جميع الصلوات الخمس لبراءة ذمته من تلك الصلاة المنسية، وحيث أن التيمم لا يصلى به إلا فرض واحد، وجب عليه إذًا أن يتيمم خمس مرات لكل صلاة تيمم.
قلت: وهذا لا يتجه مع كون الصعيد طهورًا، لأن طهورًا يأتي لما يكثر منه الفعل كصبور وشكور،
ولا يستقيم إثبات ذلك للماء أخذًا من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
(1)
. مع الامتناع منه للصعيد، وقد ثبت وصفه بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه:"وَجُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مَسْجدًا وَطَهُورًا".
وقوله صلى الله عليه وسلم "الصَّعِيدُ طَهُورٌ". وبسوق آية المائدة للامتنان بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
(2)
. بعد ذكر حكم التيمم، لذلك فإن التفريق بين الوضوء بجواز صلاة فروض به قيل أن ينتقض، ومنع التيمم من أن يصلى به أكثر من فرض، حتى ولو كان فوائت تصلَّى في وقت واحد، يحتاج إلى دليل قوليٍّ أو عمليٍّ من سنته صلى الله عليه وسلم. والله تعالى الموفق.
(2)
وقوله: وقدم ذو ماءٍ مات ومعه جنب إلا لخوف عطش ككونه لهما وضمن قيمته؛ توجيهه ظاهر فإن تقديم الميت لمزية الملك، وتقديم الحي الخائف من العطش للحفاظ على النفس، وتضمينه قيمة الماء لورثة الميت ظاهر أيضًا لا إشكال فيه.
(1)
سورة الفرقان: 48.
(2)
سورة المائدة: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3)
وقول المصنف: وتسقط الصلاة وقضاؤها بعدم ماء وصعيد؛ يتوجه في نظري على أحد أمرين:
أولًا: يتخرج على الخلاف في الطهارة؛ هل هي شرط وجوب أوهي شرط أداء؟. فعلى القول الأول بأنها شرط وجوب، يتجه سقوط أدائها لعدم وجود الماء والصعيد، وسقوط قضائها لعدم توجه الخطاب بها أصلًا بناءً على أن الطهارة شرط وجوب.
الثاني: أنه إن قلنا بأن الطهارة شرط أداءٍ، قيل: هل القضاءُ بالأمر الأول، أو هو لا يجب إلا بأمر جديد؟. فإن قلنا: هو بالأمر الأول، لزم قضاءُ الصلاة التي لم يتمكن من أدائها لعدم الماء والصعيد.
وإن قلنا: القضاءُ بالأمر الجديد، سقط قضاؤها لعدم ورود أمر جديد بذلك. والله الموفق.
* * *
مسح الجرح والجبيرة
فصل:
إِنْ خِيفَ غَسْلُ جُرْحٍ كَالْتَّيَمُّمِ مُسِحَ، ثُمَّ جَبِيرَتُهُ ثُمَ عِصَابَتُهُ كَفَصْدٍ وَمَرَارَةٍ وَقِرْطَاسِ صِدْغٍ وَعِمَامَةٍ خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ، وَإِنْ بِغُسْلٍ أَوْ بلَا طُهْرٍ وَانْتَشَرَتْ إِنْ صَحَّ جُلُّ جَسَدِهِ أَوْ أَقَلُهُ وَلَمْ يَضُرَّ غَسْلُهُ، وإِلاَّ فَفَرْضُه التَّيَمُّمُ (1)؛ كأَنْ قَلّ كَيَدٍ وَإِنْ
(1)
هذا مذهب ابن عمر وعبيد بن عمير وعطاء، وبه أخذ الحسن والنَّخعي ومالك واسحاق والمزني وأبو ثور وأصحاب الرأي، واستدلوا بحديث علي رضي الله عنه قال: قد انكسرت إحدى زندَيَّ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر. رواه ابن ماجه بسند واه جدًا. ا. هـ. بلوغ المرام.
واحتجوا أيضًا بحديث جابر رضي الله عنه في الرجل الذي شج فاغتسل فمات: "إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةُ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ". رواه أبو داود بسند فيه ضعف وفيه اختلاف على رواته. ا. هـ. بلوغ المرام.
قال ابن قدامة: وبأنه قول ابن عمر ولم يعرف له في الصحابة مخالف. روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة فكان يتوضأ عليها. ا. هـ. قال: وقال مالك في الظفر يسقط: يكسوه مصطكا ويمسح عليه. وهو قول أصحاب الرأي - انظر المغني - وفيه: ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه:
أولًا: إنه لا يجوز المسح عليها إلا عند التضرر بنزعها، والخف بخلاف ذلك.
ثانيًا: إنه يجب استيعاب الجبيرة بالمسح لأنه لا ضرر في تعيممها بخلاف الخف.
ثالثًا: إنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت، فالضرورة تدعو لمسحها إلى حلها بخلاف الخف.
رابعًا: إنه يمسح على الجبيرة في الطهارة الكبرى للحوق الضرر بنزعها بخلاف الخف.
خامسًا: إنه لا يشترط لبسها على طهارة على خلاف فيه، ولا كذلك الخف. ا. هـ. بتصرف. =
غَسَلَ أَجْزَأَ، وإِنْ تَعذَّر مَسُّهَا، وَهِيَ بأَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ، تَرَكَهَا وتَوَضَّأَ وإِلَّا فثالِثُها يَتَيَمَّمُ إِنْ كثرَ ورَابِعُهَا يَجْمَعُهُمَا، وإِن نَزَعَهَا لِدَواءٍ أَو سَقَطَتْ وإِنْ بِصَلَاةٍ قَطَعَ وَرَدَّهَا وَمَسَحَ، وإِن صَحَّ غَسَلَ، ومسح مُتَوضٍ رأْسه (1).
= وقال الصنعاني في سبل السلام في الكلام على حديث جابر المتقدم: وهذا الحديث وحديث علي الأول قد تعاضدا على وجوب المسح على الجبائر بالماء، وفيه خلاف بين العلماء؛ منهم من قال يمسح. لهذين الحديثين، وإن كان فيهما ضعفَ فقد تعاضدا، ولأنه عضو تعذر غسله بالماء فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياسًا على مسح أعلى الخفين وعلى العمامة، وهذا القياس يقوي النص. قال: ومن قال بالمسح عليهما قوي عنده المسح على الجبائر وهو الظاهر. ا. هـ. منه.
وأما المسح على العمامة فقد ثبت من حديث حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه، وهو عند البيهقي، قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال:"أَمَعَكَ مَاءٌ"؟. فأتيت بمطهرة فغسل يديه وغسل وجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه، ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه ثم ركب. قال البيهقي: أخرجه مسلم في الصحيح. كما تقدم ذكري له. ا. هـ. منه.
(1)
كل هذه الأمور المذكورة الطريق إليها الاجتهاد ليس إلَّا، وجزى الله عنا أئمة الاجتهاد خيرًا. إنه سميع مجيب.
الحيض والنفاس
فصل:
الْحَيْضُ دَمٌ كَصُفْرَةٍ أَوْ كُدْرَةٍ خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِن قُبُل مَن تَحْمِلُ عَادَةً. وَإِنْ دَفْعَةً (1)، وَأَكْثَرُهُ لِمُبْتَدِئَةٍ نِصْفُ شَهْرٍ، كَأَقَلِّ الطُّهْرِ (2)، ولمُعتادَةٍ ثَلَاَثةٌ اسْتِظْهَارًا
(1)
قول المصنف: وإن دفعة؛ تبع فيه مذهب المدونة ففيها: وقال: إذا دفعت دفعة فتلك الدفعة حيض. قال: وقال مالك في المرأة ترى الدم فلا تدفع الا دفعة في الليل والنهار، إن ذلك عند مالك حيض، فإن انقطع الدم ولم تدفع إلا تلك الدفعة اغتسلت وصلت. ا. هـ. منه.
وفي السنن الكبرى للبيهقي مانصه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا محمد بن مصعب قال: سمعت الأوزاعي يقول: عندنا هاهنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية. ا. هـ. منه. بلفظه.
(2)
وقوله رحمه الله: وأكثره لمبتدأة نصف شهر، تبع فيه مذهب المدونة أيضًا، ونص ما فيها بالنسبة لأكثر الحيض: قال ابن القاسم: وكل امرأة كانت أيامها أقل من خمسة عشر يومًا، فإنها تستظهر بثلاث ما بينها وبين خمسة عشر، الى أن قال: والتي أيامها خمسة عشر لا تستظهر بشيءٍ، غيره. ا. هـ.
تغتسل وتصلي ويأتيها زوجها، ولا تقيم امرأة في حيض أكثر من خمسة عشر باستظهار كان أو
غيره. ا. هـ.
وأما قوله: كأقل الطهر؛ هو رواية محمد بن مسلمة عن مالك، ورواية ابن القاسم عنه قال: يرجع فيه إلى العرف والعادة. واستحسن القاضي أبو الوليد رواية محمد بن مسلمة من جهة الاستنباط، قال: إن الله تعالى جعل عدة المطلقة التي تحيض ثلاثة قروءٍ، وجعل عدة اليائسة ثلاثة أشهر، فأعلمنا بذلك أن بدل كل قُرء شهر ألخ. كلام الباجي هنا انظره إن شئت. والحاصل أن الموضوع ليس فيه نص فما هو إلا الاجتهاد. وقد قال بمذهب المصنف كل من مالك والثوري والشافعي وأبوحنيفة كلهم يقول: أقل الطهر خمسة عشر يومًا. وقال أبو ثور: إن ذلك لا يختلفون فيه. ا. هـ. المغني.
عَلى أَكْثَرِ عَادَتِهَا، مَالَمْ تُجَاوِزْهُ ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ (1)، وَلحَامِلٍ بَعْدَ ثَلَاَثةِ أشْهُرٍ النِّصْفُ وَنصْفُهُ، وَفي سِتَّةٍ فأَكْثرَ عِشْرُونَ يَوُمًا وَنَحْوُهَا، وَهَلْ مَا قَبْلَ الثَّلَاَثةِ كَمَا بَعْدَهَا أَوْ كالْمُعْتَادَةِ؟. قَوْلَانِ (2). وَإنْ تَقَطَّعَ طُهْرٌ لفَّقَتْ أَيَّامَ الدَّمِ فقط عَلَى تَفْصيلِهَا (3) ثُمَّ هِي مُسْتَحَاضَةٌ، وتَغْتَسِلُ كُلَّمَا انقَطَعَ الدَّمُ وتَصُومُ
(1)
وقوله: ولمعتادة ثلاثة استظهارًا. الخ نص المدونة في ذلك: قال ابن القاسم وكل امرأة كانت أيامها أقل من خمسة عشر فإنها تستظهر بثلاث ما بينها وبين خمسة عشر، مثل التي أيامها اثنا عشر تستظهر بثلاث، ومثل التي أيامها ثلاثة عشر تستظهر بيومين والتي أيامها أربعة عشر تستظهر بيوم واحد، والتي أيامها خمسة عشر لا تستظهر بشيء؛ تغتسل وتصلي ويأتيها زوجها، ولا تقيم امرأة في حيض أكثر من خمسة عشر باستظهار كان أوغيره. ا. هـ.
(2)
قوله: ولحامل بعد ثلاثة أشهر. ألخ. قال ابن القاسم في المدونة: إن رأت الدم في ثلاثة أشهر أو نحو ذلك، تركت الصلاة خمسة عثر يومًا أو نحو ذلك، وإذا جاوزت الستة أشهر من حملها ثم رأته تركت الصلاة ما بينها وبين العشرين يومًا أونحو ذلك. ابن وهب عن الليث عن ابن لهيعة عن بكر ابن عبد الله عن أم علقمة مولاة عائشة عن عائشة أنها سئلت عن الحامل ترى الدم أتصلي؟. فقالت: لا تصلي حتى يذهب الدم عنها. ا. هـ. منه.
وقول المصنف: وهل ما قبل الثلاثة ألخ. قال مالك في المدونة: ليس أول الحمل كآخره؛ إذا رأت الدم في أول الحمل أمسكت عن الصلاة قدر ما يجتهد لها، وليس في ذلك حد. ا. هـ. وحيض الحامل وجلوسها به عن الصلاة قالت به عائشة أم المؤمنين في أصح الروايتين عنها، ومالك والشافعي والليث، وروي عن الزهري وقتادة واسحاق. وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن الحامل لا تحيض وإن ما تراه من الدم هو دم فساد، وعزا ابن قدامة هذا القول إلى جمع كبير من التابعين منهم أبو حنيفة. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله رحمه الله: وإن تقطع طُهْر لفقت أيام الدم .. ألخ. هو بذاته ما في المدونة عن مالك قال: إذا رأت المرأة الدم يومًا، ثم انقطع عنها يومين، ثم رأته يومًا بعد اليومين، قال: إذا اختلط =
وتُصَلِّي وتُوَطاُ (1).
هكذا احتسبت بأيام الدم وألغت ما بين ذلك من الأيام التي لم ترفيها دمًا، فإذا استكملت من أيام الدم قدر أيامها التي كانت تحيضها استظهرت بثلاثة أيام، فإن اختلط عليها أيام الاستظهار حسبت أيام الدم، وألغت أيام الطهر فيما بين الدمين، حتى تستكمل ثلاثة أيام من أيام الدم بعد أيام حيضتها. ثم اغتسلت، وكانت مستحاضة بعد ذلك فهي تصلي وتصوم ويأتيها زوجها. ا. هـ. منه. بتصرف. والله الموفق.
(1)
وقوله: ثم هي مستحاضة. ألخ. دليله حديث عائشة رضي الله عنها؛ أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا ذلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي". أخرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه البخاري والنسائي وأبو داود. وفي رواية للجماعة إلا ابن ماجه: "فَإذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَإذَا أدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وصَلَّي". وزاد الترمذي في رواية وقال: "تَوَضئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّي يَجِيءَ ذلكَ الْوَقْتُ. وفي رواية للبخاري: "وَلكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قدْرَ الْأيَّامِ التِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلَّي".
وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش، التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم فقال لها:"امْكثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي". فكانت تغتسل عند كل صلاة. رواه مسلم، ورواه أحمد والنسائي ولفظهما:"قَالَ فَلْنَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئهَا الَّتِي كانَتْ تحِيضُ فلْتَتْرُكِ الصَّلاةَ ثُمَّ لْتَنظُرمَا بَعْدَ ذلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُل صَلَاةٍ وَتصلِّي". وعن القاسم عن زينب بنت جحش أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنها مستحاضة فقال: " تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُؤخِّر الظُّهْرَ وَتُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتُؤخِّرُ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلُ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا وَتَغْتَسِلُ للْفَجْرِ". رواه النسائي.
وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم، فقال: لْتَنْظُرْ قَدْرَ الَّلَيَالِي وَالْأيَّام الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُن وَقَدْرَهُنَّ مِنَ الشَّهرِ فَتَدَعُ الصَّلَاةَ ثُمَّ لتَغْتَسِلْ وَلْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ تُصَلِّي" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد. قال الشوكاني في الكلام على الحديث الأول من هذه الأحاديث، وهو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حديث فاطمة بنت أبي حبيش، قال: والحاصل أنه لم يأت في شيءٍ من الأحاديث الصحيحة ما يقضي بوجوب الاغتسال عليها لكل صلاة أو لكل يوم أو لكل صلاتين، بل لإِدبار الحيضة كما في حديث فاطمة المذكور، فلا يجب على المرأة غيره. ا. هـ.
ولقد جاءت أحاديث تفيد بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة؛ من ذلك حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: "تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّاُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن. هكذا لفظ المنتقى، غير أن الشوكاني ذكر أن هذا الحديث ضعيف لوجود ابن اليقظان عثمان بن عمير بن قيس الكوفي في سنده.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنِّي امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟. فقال لها. " لَا، اجْتَنِبي الصَّلَاةَ أيَّامَ حَيْضَتِكِ ثُمَّ اغْتسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ".
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حبان.
وقول المختصر: وتوطأ؛ دليله ما أخرجه الدارمي قال: أخبرنا محمد بن عيسى. ثنا عتاب وهو ابن بشير الجزري عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس في المستحاضة، لم ير بأسًا أن يأتيها زوجها. وأخبرنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن سالم الأطفس قال: سئل سعيد بن جبير أتجامع المستحاضة؟. فقال: الصلاة أعظم من الجماع. وأخبرنا محمد بن يوسف عن سمي عن سعيد بن المسيب قال: يأتيها زوجها. وأخبرنا أبو النعمان، ثنا وهب، ثنا يونس عن الحسن في المستحاضة قال: يغشاها زوجها، وأخبرنا أبو عاصم عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير قال في المستحاضة: يغشاها زوجها وإن قطر الدم على الحصير. وأخرج البيهقي بسندين عن عكرمة قال: كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها، وكانت حمنة بنت جحش تستحاض وكان زوجها يجامعها، قلت: حمنة وأم حبيبة ابنتا جحش بن رئاب كانت إحداهما تحت عبد الرحمن بن عوف والأخرى تحت طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين.
وفي البيهقي أن القول بوطء المستحاضة هو قول ابن عباس وابن المسيب والحسن وعطاء وسعيد ابن جبير. ا. هـ. منه؛ قلت: وعليه جمهور أهل العلم. والله الموفق.
وَالْمُمَيَّزُ بَعْدَ طُهْرٍ تَمَّ حَيْضٌ ولَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى الْأصَحِّ (1)، والطُّهْرُ بِجُفُوفٍ أَوْ قَصَّةٍ -وَهِيَ أَبْلَغُ لِمُعْتَادَتِهَا- فَتَنْتَظِرُهَا لآخِر المخْتَارِ (2)، وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ تَرَدُّدٌ، ولَيْسَ عَلَيْهَا نَظَرُ طُهْرِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ بَلْ عِنْدَ النَّوْمِ والصُّبْحِ، وَمَنَعَ صِحَّةَ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَوُجُوبَهُمَا وطَلَاقًا وبَدْءَ عِدَّةٍ وَوَطْءَ فَرْجٍ (3) أَوْ تَحْتَ إِزَارٍ، وَلَوْ بَعْدَ نَقَاءٍ وتَيمُّمٍ، وَرَفْعَ حَدَثِهَا وَلَوْ جنابَةً ودُخُولَ مَسْجِدٍ؛ فَلَا تَعْتكِفُ وَلَا تَطُوفُ، وَمَسَّ مُصْحَفً لَا قِرَاءَةً.
(1)
قوله: والمميز بعد طهرتمّ حيض الخ. قال في المدونة: أَرأَيت قول مالك؛ دمًا تنكره. كيف هذا الدم الذي تنكره؟. قال: إن النساء يزعمن أن دم الحيضة لا يشبه دم المستحاضة لرائحته ولونه، قال: فإن رأت ذلك إن كان ذلك يعرف فتحبس عن الصلاة وإلا فلتصلّ. وحديث عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإنَّة أسْوَدُ يُعْرِفُ فَإذَا كَانَ كَذلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ فَإذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلَي فَإنَّمَا هُوَ عِرْقٌ". ا. هـ. قال الشوكاني: والحديث فيه دلالة على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم؛ فإذا كان متصف بصفة السواد فهو حيض وإلا فهو استحاضة ا. هـ.
(2)
وقوله: والطهر بجفوف أو قصة، قال في المدونة: إذا علمت أنها قد طهرت اغتسلت، إن كانت ممن ترى القصة البيضاء، فحين ترى القصة البيضاء، وإن كانت ممن لا ترى القصة البيضاء فحين ترى الجفوف؛ فتغتسل وتصلي. قال ابن القاصم: والجفوف عندي أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة. ا. هـ.
(3)
قوله: ومنع صحة صلاة الخ. دليل منع الحيض للصلاة والصوم قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ فَإنِّي أْرِيُتكُنِّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ. قُلْنَ: وَلمَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قال: تُكْثِرنَ اللَّعْنَ وَتكفُرْنَ الْعشيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقِل وَدينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرِّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكنَّ. فَقُلْنَ لَهُ وَمَا نقْصَان عَقْلِنَا وَدينِنَا؟. قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ بَلَى. قَالَ فَذلِكَ مِنْ نُقْصَان عَقْلِهَا أَلَيْسَ إذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قلْنَ بَلَى. قَالَ: فَذلك مِنْ نُقْصَانِ دِينهَا" رواه البخاري ومسلم.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما منع الحيض للطواف فقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه "فَاقْضِي مَا يَقْضِي الحَاجُّ إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ". الحديث رواه البخاري ومسلم.
ومنعه للطلاق دليله الحديث الصحيح؛ أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"مَرْة فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهرَ ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ" الحديث.
ومنعه الوطء دليله قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
(1)
"الآية.
وقوله: أو تحت إزار
…
الخ. هو مذهب الإمام مالك والشافعي وأبي حنيفه، استدلالًا بما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض. رواه البخاري، وذهب الإمام أحمد إلى جواز الاستمتاع منها بما دون الفرج.
وروي ذلك عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري واسحاق واستدلوا بمنطوق قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} قالوا: فالمحيض اسم لمكان الحيض، بمعنى أنه صالح على الإطلاق على مكان الحيض وزمان الحيض لغة، لكنه يتعين هنا حمله على المكان لسبب نزول الآية، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها في زمن الحيض، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ذلك فنزلت الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اصْنَعُوا كُلَّ شَيءٍ غَيْرَ النِّكَاحِ". رواه مسلم. وإذًا فإن حمل لفظ المحيض على الزمن وافق ذلك اليهود الذين أمرنا بمخالفتهم، فتعين حمله على مكان الحيض وهو القُبُل. وروي عنه عليه الصلاة والسلام:"اجْتَنِبْ مِنْهَا شِعَارَ الدَّمِ"، لذلك كان ما ذهب اليه الإمام أحمد أجرى على الدليل. وبالله التوفيق.
وقوله: ولو بعد نقاء وتيمم ورفع حدثها؛ أما حرمة جماعها بعد النقاء وقبل الطهر إن كانت من أهل الطهارة المائية؛ فلما رواه البيهقي بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
(2)
اعتزلوا نكاح فروجهن {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية. يقول: إذا تطهرن من الدم وتطهرن بالماء {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . يقول في الفرج {وَلَا تَعْتَدُوا} . إلى غيره، فمن =
(1)
سورة البقرة: 222.
(2)
سورة البقرة: 222.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فعل من ذلك شيئًا فقد اعتدى ا. هـ.
وفي سنن الدارمي: أخبرنا يعلى بن عبيد، ثنا عبد الملك عن عطاء في المرأة ترى الطهر، أيأتيها زوجها قبل أن تغتسل؟. قال: لا، حتى تغتسل. ا. هـ. منه.
وأما قوله: ورفع حدثها، فهو يعني بذلك أن التيمم لا يرفع الحدث لمن فرضه التيمم، وقد تقدم لك من الأدلة على أن التيمم رافع للحدث حتى يوجد الماء لفاقده الحسي، أو يستطيع فاقده معنى استعماله، فإن صح المريض أووجد فاقد الماء الماء، وجب إذًا أن يمس الماه البشرة، وقد تقدمت أدلة ذلك، فأغنى عن إعادته هنا. ولله الموفق.
وقوله رحمه الله: ودخول مسجد فلا تعتكف؛ بدليل حديث أم عطية عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحيّض أن يعتزلن مصلى المسلمين، ولحديث عائشة رضي الله عنها عنده أيضًا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلي رأسه من المسجد -وهو مجاور- فأغسله وأنا حائض، قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن هارون بن سعيد الأيلي، وأخرجه البخاري من وجه آخر.
وقوله: ولا تطوف؛ تقدم الكلام عليه قريبًا.
وقوله: ومس مصحف لا قراءة؛ فقد تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: وتمنع الجنابة موانع الأصغر، فأغنى ذلك عن إعادته هنا والحمد لله.
فائدة: نختم بها باب الحيض: ذكر ابن قدامة أن الحيض دم يرخيه الرحم إذا بلغت المرأة، ثم يعتادها في أوقات معلومة لحكمة تربية الولد، فإذا حملت انصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذيته، ولذلك لا تحيض الحامل، فإذا وضعت الولد قلبه الله تعالى بحكمته لبنًا يتغذى به الطفل، ولذلك قلما تحيض المرضع، فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له، فيستقر فى مكان ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، وسمي حيضًا من قولهم: حاض السيل. قال عمارة بن عقيل:
أَجالت حصا هنَّ الذراري وحيَّضت
…
عليهن حيضات السيولِ الطواحِم
ا. هـ. المغني.
والنِّفَاسُ دَمٌ خَرَجَ لِلْوِلَادَةِ وَلَوْ بَيْنَ تَوْأَميْنِ (1)، وأَكْثَرُهُ سِتُّونَ (2)، فإِنْ تَخَلَّلَهُمَا فَنِفَاسَانِ (3)، وتَقَطُّعُهُ ومَنْعُهُ كَالْحَيْضِ (4)، وَوَجَبَ وُضُوةٌ بِهَادٍ والأظْهَرُ نَفْيُهُ
(1)
قوله رحمه الله: والنفاس دم الخ. هو تعريف لدم النفاس. وقوله: ولو بين توأمين، هو لما في المدونة: قال ابن القاسم في المرأة الحامل تلد ولدًا ويبقى في بطنها ولد آخر فلا تضعه إلا بعد شهرين، قال: تنتظر أقصى ما يكون الماس بالنفساء ولزوجها على الرحمة، وقد قيل في حالها كحال الحامل حتى تضع الولد الثاني. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله وأكثره ستون: وهومذهب المدونة، ونص ما فيها: ابن نافع عن ابن عمر عن أبي بكر عن سالم بن عبد الله أنه سأل عن النفساء: كم أكثر ما تترك الصلاة إذا لم يرتفع عنها الدم؟. قال: تترك الصلاة شهرين، فذلك أكثر ما تترك الصلاة ثم تغتسل وتصلي. ا. هـ. منه. وبهذا يقول الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي وعطاء.
والرواية الصحيحة عن أحمد أن أكثر النفاس أربعون يومًا، وبه يقول عمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وأم سلمة، والثوري واسحاق وأصحاب الرأي.
قلت: وفي المدونة أن مالكًا كان يقول: إن أكثر النفاس ستون. ثم رجع عن ذلك فقال: أرى أن يسأل عن ذلك النساء وأهل المعرفة.
ودليل جلوس المرأة أربعين يومًا؛ ما روي عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كم تجلس المرأة إذا ولدت؟. قال: "أرْبَعِينَ يَوْمًا، إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذلِكَ" رواه الدار قطني، وروي عنها أنها قالت: كانت النفساء تجلس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا أوأربعين ليلة. رواه أبوداود والترمذي.
(3)
وقوله: فإن تخللهما فنفاسان؛ قد تقدم بيان ذلك عند قوله ولو بين توأمين.
(4)
وقوله: ووجب وضوء بهاد والأظهر نفيه، الهاد: ماء أبيض يخرج من القبل قرب الولادة، والخلاف في الوضوء به يتخرج على اعتياد خروجه من عدم ذلك، فإن اعتبرخارجا معتادًا وجب الوضوء به، وإن اعتبر غير معتاد فلا نقض به عندنا. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
كتاب الصلاة
بَابٌ:
الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ لِلظُّهْرِ مِنْ زوالِ الشَّمْسِ لِآخِر الْقَامَة بغير ظلِّ الزَّوالِ (1)، وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ لِلْاصْفِرَارِ (2)، واشْتركَتَا بِقَدْرِ إحْدَاهُمَا (3)، وَهَلْ في آخر الْقَامَةِ الأُولَى أَو أَوَّل الثَّانيةِ خِلَافٌ. وللْمَغْرِبِ غُروبُ الشَّمْسِ؛ يُقَدَّرُ بِفِعْلِهَا بعد شُرُوطهَا (4). وللْعِشَاءِ مِن غُروب حُمْرةِ الشَّفَقِ لِلْثُّلُثِ الأَولِ (5). وللصَّبْحِ مِنَ الفَجْر الصَّادِقِ لِلإسْفَار الأْعْلى (6) وَهِيَ الوُسْطى (7). وَإن مَاتَ وَسَطَ الْوَقْتِ
(1)
قول المصنف: الوتت المختار للظهر
…
الخ لدليل ما أخرجه الموطأ عن مالك، عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة؛ من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. ثم كتب أن: صلوا الظهر إذا كان ظل الفيء فراعًا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله. الحديث. قال الباجي: الفيء هو الظل الذي تفيء عنه الشمس بعد الزوال؛ أي ترجع، وقوله: ذراعًا أي ربع القامة، وإنما أطلق عليه اسم الذراع لأنه أكثر ما يقدر به.
(2)
وقوله: وهو أول وقت العصر للاصفرار أي فإذا كان ظل أحدكم مثله الذي تقدم أنه آخر مختار الظهر هو أول وقت العصر. ففي كتاب عمر بن الخطاب آنف الذكر: والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس.
قال الباجي: قال ابن حبيب: آخر وقت الظهر مقدار ما يصلي الظهر، فيتم صلاته قبل تمام القامة، والدليل على صحة ما نقوله ما رواه أحمد بن زهير: أنبأنا أحمد بن الحاج، انبأنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمروبن علقمة الليثي، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم "هذَا جبريلُ جَاءَ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ". فصلى له صلاة الصبح حين طلع الفجر، ثم صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثم صلى العصر حين كان ظل الشيء مثله، ثم صلى له المغرب لوقت واحد حين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= غربت الشمس، وحل فطر الصائم، ثم صلى العشاء حين ذهبت ساعة من الليل، ثم قال:"الصَّلَاةُ مَا بَيْنَ صَلَاِتكَ بالْأمْسِ وَصَلَاِتك الْيَوْمَ". ا. هـ. بتصرف قليل.
وقول المصنف: للاصفرِار أي حين يصير ظل الشخص مثليه، بدليل ما رواه عبد الله بن عبد الحكم عن مالك، وبه أخذ الشافعي، وشهد له خبر أبي هريرة؛ وفيه أنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه. ا. هـ. الباجي.
(3)
وقوله: واشتركتا بقدر إحداهما
…
الخ؛ أصله مأخوذ بالاجتهاد، ولذلك لم يتفق الأئمة على القول به. يقول الباجي: آخر وقت الظهر إذا كملت القامة. على ما قدمناه، وهو بنفسه أول وقت العصر، فيقع الاشتراك بين الوقتين ما دام ظل كل شيء مثله، فإذا ثبتت الزيادة خرج وقت الظهر وانفرد وقت العصر، هذا الذي حكاه أشهب عن مالك في المجموعة، وقاله أبو محمد بن نصر، وهو الصواب إنشاء الله، ووافقنا أبو حنيفة في الاشتراك وخالفنا في وقته، ونفى الشافعي الاشتراك من أصله. ا. هـ. محل الغرض منه بتصرف قليل.
(4)
وقوله: وللمغرب غروب الشمس يقدر بفعلها بعد شروطها؛ هذا التضييق لوقت المغرب هو الذي حكاه أصحابنا العراقيون عن مالك أنه ليس لها إلا وقت واحد وبه قال ابن المواز والشافعي.
والتحقيق أن مختار المغرب يمتد إلى مغيب الشفق لما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ". وقال الشوكاني في الكلام على حديث أبي موسى الأشعري عند منتقى الأخبار، الذي يقول في آخره:"ثُمَّ آخِرُ الْمَغْرِبِ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ". قال: وهذا الحديث أولى من حديث جبريل عليه السلام؛ لأنه كان بمكة في أول الأمر، وهذا متأخر ومتضمن زيادة. ا. هـ. محل الغرض منه.
(5)
وقوله: وللعشاء من مغيب حمرة الشفق
…
الخ. لحديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري قالت: كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. أخرجه البخاري، قلت: وقد يمتد وقتها المختار إلى نصف الليل، لحديث أنس بن مالك المتفق عليه قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى، ثم قال:"قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا". قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= غير أن الإتيان بصلاة العشاء في أول وقتها عند مغيب الشفق وبعد ذلك قليلًا أفضل، كما رواه ابن قاسم عن مالك وبه يقول الشافعي، وقال أصحابنا العراقيون: إن تأخيرها إلى ثلث الليل أفضل، وبه يقول أبوحنيفة، واستدلوا لحديث أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد خرج فصلى فقال:"إنَّهُ لِوَقْتهَا لَوْلَا أَنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي". ا. هـ. انظر الباجي.
(6)
وقوله وللصبح من الفجر الصادق للإسفار الأعلى؛ لحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأتاه سائل يسأل عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا، وأمر بلالًا أن يقيم الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: انتصف النهار أو لم، وكان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، وأخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر فانصرف منها والقائل بقول: احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، وفي لفظ: فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصح فدعا السائل فقال:"الْوَقْتُ مَا بيْنَ هذيْنِ" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي. ا. هـ. منتقى الأخبار.
(7)
وقول المصنف وهي الوسطى يعني الصبح، الظاهر أن الذي هو أكثر أدلة أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر لا صلاة الصبح، على الرغم من أن الشافعي وافق مذهب المصنف فيها، ونقله النووي وابن سيد الناس عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع ومالك وجمهور أصحاب الشافعي، غير أن الحديث المتفق عليه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:"مَلَأ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ". ولمسلم وأحمد وأبي داود: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ". ا. هـ. وكونها العصر يقول به علي وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأبيّ بن كعب وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وبن العاص وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبيدة السلماني والحسن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البصري وإبراهيم النخعي والكلبي وقتادة والضحاك ومقاتل وأبوحنيفة وأحمد ودواد، قاله الشوكاني في نيل الأوطار نقلًا عن النووي وابن سيد الناس في شرح الترمذي، وإليك مزيدًا من الأدلة على أنها صلاة العصر؛ من ذلك:
حديث ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصرحتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّه أجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْحَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورهُمْ نَارًا". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْرِ". رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وحديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصرِ" رواه أحمد والترمذي وصححه، وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى" وسماها لنا أنها العصر.
وعن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
(1)
فقال رجل: هي إذًا صلاة العصر؟. فقال: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله. رواه أحمد ومسلم.
وحديث أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها، قال: أَمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاة الْوُسْطَى". فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليّ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. وقال الشوكاني: لا دليل بمن استدل بهذه الواو على أنها غير صلاة العصر فقد تكون مثلًا مجيء الواو في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
(2)
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}
(3)
وقول الشاعر:
(1)
سورة البقرة: 238.
(2)
سورة الأنعام: 75.
(3)
سورة الأنعام: 105.
بِلَا أَدَاءٍ لَمْ يَعْصِ إلَّا أَنَ يَظُنَّ الموْتَ (1) والأَفْضَلُ لِفَذِّ تَقَديمُهَا مُطْلَقًا. وعَلَى جَمَاَعةٍ آخِره (2) وَللْجَمَاعَةِ تَقْدِيمُ غير الظهْرِ (3) وتأخيرها لربع القامة، ويزادُ لِشدَّةِ الحر (4)، وفيها ندب تأخير العشاءِ قليلًا. (5). وإِنْ شَكَّ فىِ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ
= فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
…
بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
فهي واو مقحمة، كما يقتضي ذلك الصناعة العربية. انظر الشوكاني هنا فقد أطنب في المبحث.
والحاصل أن المذهب الحق، الذي يجب المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف، وطرح التعصب المذهبي جانبًا، هو أن الصلاة الوسطى أظهر في أن تكون صلاة العصر، والله تعالى الموفق.
(1)
قوله: وإن مات وسط الوقت الخ. أي لأنه مخير في الأداء في أي جزء من الوقت شاء، فإذا أدركته المنية أثناء الوقت وتبل الأداء فلا إثم عليه، إلا إذا كان في مجال يتسبب عنه الموت غالبًا، ككونه ذاهبًا إلى قتال أو إلى إجراء عملية جراحية خطيرة فهذا فرضه التقديم، وإذا مات أثناء الوقت قبل الأداء أثم للتفريط، وهذا مدركه الاجتهاد. والله الموفق.
(2)
وقوله: والأفضل لفذ نقديمها مطلقًا الخ. دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أفضل؟. قال: "الصَّلَاةُ فِي أوَّلِ وَقْتِهَا" أخرجه ابن خزيمه. وهو في البخاري في مواقيت الصلاة.
(3)
قوله: وللجماعة تقدبم غير الظهر؛ أي للحديث المتقدم.
(4)
وقوله: وتأخيرها لربع القامة ويزاد لشدة الحر، دليله في تأخيرها لربع القامة حديث عمر أنه كتب إلى عماله. أخرجه الموطأ وقد تقدم.
وأما دليل الإبراد حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: أَذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَبْرِدْ، أَبْردْ". أو قال. "انْتَظْرِ انْتَظِرْ" فقال: "إنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبرِدُوا بِالصَّلَاة" قال أبوذر: حتى رأينا فيء التلول. وأخرجه البخاري في مواقيت الصلاة.
(5)
قوله: وفيها ندب تأْخير العِشاء قليلًا؛ يشير بذلك إلى ما في المدونة ونصه: قال ابن القاسم: وسألنا مالكًا عن الحرس في الرباط؛ يؤخرون صلاة العشاء إلى ثلث الليل؟ فأنكر ذلك =
تُجْزِ وَلو وَقَعَتْ فيهِ (1)، والضرُورِيُّ بَعْدَ المُخْتَار للطُّلُوعِ في الصُّبْحِ، وللْغُرُوبِ فِي الظُّهْريْنِ، وللْفَجْرِ الصَّادِقِ فِي الْعِشَاءَيْنِ، وتُدْرَكُ فيهِ الصّلَاةُ بِرَكْعةٍ لَا أَقَلَّ،
= إنكارًا شديدًا وكأنه كان يقول: يصلون كما يصلي الناس. وكأنه يستحب وقت الناس الذي يصلون فيه العشاء الآخرة ويؤخرون بعد مغيب الشفق قليلًا. قال مالك: وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر فلم يؤخروا هذا التأخير.
(1)
قوله: وإن شك في دخول الوقت لم تجْز ولو وقعت فيه؛ هذا الفرع مبني على ما تقرر في الأصول أن الأمر وسائر أقسام التكليف يتعلق عند الجمهور بالفعل قبل دخول وقته إعلامًا به، أي لاعتقاد وجوب الإتيان بذلك الفعل الواجب مثلًا لا نفس الإتيان به، لكنه إذا دخل وقته تعلق التكليف بالمكلف إلزامًا له قبل مباشرته الفعل، ويستمر به ذلك الإلزام حالة مباشرته للفعل وتلبسه به إلى أن ينتهي منه. ولما كان التكليف لا يتعلق بالفعل قبل دخول وقته إلزامًا، إنما يتعلق به على سبيل الإعلام به فقط، كان تقديمه غير مجزولا جائز، أي فكونه قبل وقته لا يلزم يدل على أن تقديمه لا يجوز ولا يجزئ، وكونه لا يجزئ هو المراد هنا بقول المصنف: لم تجز ولو وقعت فيه.
قال في مراقي السعود:
الأمر قبل الوقت قد تعلقا
…
بالفعل للإِعلام قد تحققا
وبَعْدُ للإلزام يستمر
…
حال التلبس وقوم فروا
فليس يجز من له يقدَّم
…
ولا عليه دون حظر يُقدَم
وذا التعبد وما تمحضا
…
للفعل فالتقديم فيه مرتضى
وقول الناظم: وذا التعبد؛ أي الفعل الذي لا يجزئ ولا يجوز قبل دخول الوقت هو الذي يتمحض للتعبد كالصلاة مثلًا، ووجه عدم قبوله أنه غير آت بما أمر به، لأنه لم يؤمر به إلا في الوقت، ومن أتى بغير ما أمر به فعدم براءة ذمته ظاهر، ولا يجوز الإقدام على العبادة إلا على وجهها الشرعي لأن الله تعالى يقول:{آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
(1)
. أما إذا تمحض الفعل للمفعولية فإنه يرتضى =
(1)
سورة يونس: 59.
والْكُلَّ أَدَاءٌ، والظّهْرَانِ وَالْعِشَاءانِ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنِ الْأولى لا الأخيرة؛ كَحَاضِرٍ سَافَر وقادمٍ (1) وَأَثِمَ إِلَّا لِعُذْرٍ (2) بِكُفْرٍ وَإِنْ بِرِدَةٍ وَصِبًا وإِغْمَاءٍ وَجُنونٍ وَنوْمٍ وَغفَلةٍ
= تقديمه لأنه جاز مجز، وتقريبه للذهن أن يكون المقصود نتيجة مقصودة معقولة، تحصل بمجرد إيقاع الفعل؛ كقضاء الدين ورد الوديعة والمغصوب ونحو ذلك.
(1)
قول المصنف: والضروري بعد المختار .. الخ. يريد به تبيين الوقت الذي يدرك الصلاة به المغمى عليه يفيق، والحائض تطهر، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وهو وقت الضرورة، وهو للظهر والعصر إلى غروب الشمس، فمن أدرك من هؤلاء قدر خمس ركعات قبل غروب الشمس فقد أدرك الظهر والعصر، وهذا للحاضر المقيم، وأما المسافر فإنه يدرك الصلاتين بمقدار ثلاث ركعات، وإن لم يدرك إلا ركعتين فقد أدرك العصر وفاتته الظهر. وهو للمغرب والعشاء لطلوع الفجر. فمن أدرك من هؤلاء أربع ركعات قبل طلوع الفجر فقد أدرك المغرب والعشاء. وهو في الصبح لطلوع الشمس، فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح.
والدليل على إدراك هذه الصلوات بإدراك ركعة منها قبل انقضاء وقتها الضروري هو الحديث المتفق عليه: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةَّ مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاةَ" وفي رواية: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ". متفق عليه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَدْرَك مِن الصُّبْحِ رَكْعَةً قبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَك الْعصْر". أخرجه في المنتقى وقال: رواه الجماعة. ا. هـ. قال ابن قدامة: ولا أعلم مخالفًا في ذلك.
قول المصنف: كحاضر سافر وقادم؛ يريد به أن شخصًا سافر قبيل الغروب، فإن بقي له قدرثلاث ركعات قبل الغروب صلى الظهر والعصر قصرًا، وإن بقي أقل من ذلك أتم الظهر وقصر العصر. وقادم من سفر إن بقي له قبيل غروب الشمس خمس ركعات أتم الظهرين، وإن أدرك أقل قصر الظهر وأتم العصر. قلت: وهذه التفاصيل لا نص فيها وإنما طريقها الاجتهاد.
وقولهم: الوقت إذا ضاق هل يختص بالأخيرة أو بالأولى؟. والله أعلم.
(2)
قوله رحمه الله: وأثم إلا لعذر؛ دليل إثمه قوله صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجلسُ يَرْقُبُ =
كَحَيْضٍ (1) لَا سُكْرٍ، والمعْذُورُ غَيْرُ كَافِرٍ يُقَدَّرُ لَهُ الطُّهْرُ، وإنْ ظَنَّ إدْرَاكَهُمَا فَرَكَعَ فَخَرَجَ الْوَقْتُ قَضَى الأخيرَةَ (2)، وإن تَطَهَّرَ فأحْدَثَ أَو تبَيَّنَ عَدَمُ طهُورِيَّةِ الْمَاءِ أَوْ ذَكَرَ مَا يُرَتَّبُ فَاْلقَضَاءُ (3)، وأسْقَطَ عُذْرٌ حَصَلَ غَيْرُ نَوْم أَوْ نِسْيَانٍ المُدْرَكَ (4) وأُمِرَ
= الشَمَّسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللهَ إلَّا قَلِيلًا" رواه في منتقى الأخبار من حديث أنس وقال: رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة.
(1)
وقوله: بكفر وإن بردة وصبًا وإغماء .. إلخ؛ أما عدم إثم الصبي فلحديث: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاَثةٍ" الحديث. ومنهم الصبي حتى يبلغ. وأما عدم إثم المغمى عليه؛ فلأن العقل شرط التكليف.
وأما عدم إثم المجنون؛ فللحديث الذي به عذر الصبي لأنه من بين الثلاثة المذكورين فيه، وكذلك النائم فإنه غير آثم لنفس الحديث الذي به عدم إثم الصبي والمجنون، لأن النائم ثالثهما. وأما عدم إثم الغافل لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
(1)
.
ولقوله صلى الله عليه وسلم "رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيانُ عَنْ أُمَّتِي". الحديث، وأما عدم إثم الحائض، فهو معروف، وقد تقدمت أدلة سقوط الصلاة عنها حتى تطهر.
وأما عدم عذر السكران الذي سكر حرامًا، لأنه أدخل الضرر على نفسه بتناوله ما نهى الله عنه، فإنه يتخرج على الاستنباط وهو وجيه جدًا. والله الموفق.
(2)
وقوله: والمعذور غير الكافر يقدر له الطهر إلى قوله قضى الأخيرة؛ يتخرج على الاجتهاد. ولقولهم: الوقت إذا ضاق اختص الوقت بالأخيرة. والله الموفق.
(3)
وقوله وإن تطهر فأحدث أو تبين عدم طهورية الماء أو ذكرما يرتب فالقضاء، لأنه خوطب بها لزوال عذره في قدر من الوقت يمكنه معه أداؤها فيه. والله اعلم.
(4)
وقوله: وإسقط عذر حصل غير نوم ونسيان المدرك؛ يريد به أنه إذا حصل أحد هذه الأعذار المتقدم ذكرها، في آخر وقت الضرورة، بحيث لا يتمكن لو لم يحصل العذر إلا من أداء ركعة، من الضروري سقطت الأخيرة من مشتركتي الوقت وقضى الأولى، وسقط الصبح، وقوله: غير نوم أو نسيان؛ أي لأنهما وإن كان الناسي والنائم غير آثمين، فإن القضاء لا يسقط عنهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ =
(1)
سورة البقر: 286.
صَبيٌ بِهَا لَسَبْعٍ وضُرِبَ لِعَشْرٍ (1). وَمُنِعَ نَفْلٌ وَقْتَ طُلُوعِ شَمْسٍ وَغُروبِها (2)،
= نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذلِكَ". متفق عليه. ولمسلم: "إذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي".
وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا". رواه النسائي والترمذي وصححه أبو داود. قال الشوكاني: ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم عن صلاة الفجر. ا. هـ.
(1)
وقوله: وأمر صبي بها لسبع وضرب لعشر؛ أي لتمرينه على الصلاة؛ وذلك - أي الأمر- لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ" رواه أحمد وأبو داود وأخرجه الحاكم من حديثه، والترمذي والدارقطني من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده بنحوه، ولم يذكر التفرقة. انظر نيل الأوطار. والدليل على أن هذا الأمر بالصلاة للصيي تمرين لا أمر وجوب؛ هو ما روي عن عائشة أم المؤمنينُ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ".
رواه أحمد. ومثله من رواية علي له، ولأبي داود والترمذي وقال: حديث حسن. كذا في منتقى الأخبار.
قال الشوكاني: الحديث أخرجه أيضًا النسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عائشة. ا. هـ. وهو دليل على عدم تكليف هؤلاء الثلاثة. قلت: وقد تقدم بيان أن الصبي مكلف عندنا بغير الواجب والحرام للتمرين؛ وذلك أخذًا من حديث الخثعمية التي أخذت بضبعي ولدها في حجة الوداع وقالت: ألهذا حج يارسول الله؟. قال: "نَعَمْ وَلَكِ أجْرٌ" ا. هـ، والله الموفق.
(2)
وقوله: ومنع نفل وقت طلوع شمس وغروبها؛ دليله حديث الموطإ: وحدثني يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإِذَا زَالَت فَارَقَهَا فَإِذَا دنت للْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرُبَتْ فَارَقَهَا" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات. ا. هـ. وحدثني مالك عن =
وخُطْبَهِ (1) جُمعَةٍ، وَكُرهَ بَعْدَ فَجْرٍ وَفَرْصِ عَصْرٍ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ قيدَ رُمْحٍ وَتُصَلّى
= هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخَّرَّوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذِا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ". ا. هـ.
(1)
وقوله: وخطبة جمعة؛ يقفو به مذهب المدونة، ونصها: ومن دخل بعد ما خرج الإِمام فليجلس ولا يركع، وإن دخل فخرج الإمام قبل أن يفتتح هو الصلاة فليقعد ولا يصلي. ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة، وأن كلامه يقطع الكلام. ا. هـ. منه.
قال الشوكاني: قال الحافظ -يعني ابن حجر- والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}
(1)
الآية. واستدل أيضًا بحديث أبي هريرة المتفق عليه: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ والإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ" قالوا: فإذا امتنع الأمر بالمعروف -وهو الأمر اللاغي بالانصات- فمنع التشاغل بتحية المسجد مع طول زمانها أولى. إلى غير ذلك من أدلتهم ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: لا يخفى على من له أدنى مسكة من علم أن الفتوى بمنع تحية المسجد والإِمام يخطب دليلها الاجتهاد كما عرفت، ولقد تقرر في علم الأصول في القوادح في الدليل أن من القوادح ما يسمى فساد الاعتبار؛ وهو أن يجتهد المجتهد في محل يوجد فيه النص، وقد عقد ذلك شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
والخلف للنص أو اجماع دعا
…
فساد الاعتبار كل من وعى
فإذا علمت ذلك فاعلم أنه ورد النص الصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة تحية المسجد لمن جاء والإِمام يخطب؛ فقد أخرج البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ فَلْيُصَلَّ رَكْعَتَيْنِ". وفي رواية: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُم يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُب فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا". رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وروى أبو قتادة وأخرجه الأئمة الستة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُم الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ". فهذه نصوص صحيحة صريحة عن رسول=
(1)
سورة الأعراف: 204.
المغْرِبُ (1) إِلَّا رَكْعَتَي الْفَجْر والوردَ قَبْلَ الفَرْضِ لِنَائمٍ عَنْهُ، وَجَنَازةً وسُجُودَ تِلَاوةٍ
= الله صلى الله عليه وسلم تقضي على كل اجتهاد يخالفها يقدح فيه بموجبها بالقادح المعروف بفساد الاعتبار. ونقل الشوكاني هنا عن النووي قوله: لا أظن أن عالمًا يبلغه هذا اللفظ صحيحًا فيخالفه. ا. هـ.
لذلك، فإني أرى أن كل من تبلغه هذه الأحاديث ومثلها فيصر على مذهبه المخالف لها، يجر عليه الذيل قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . والله تعالى ولي التوفيق هو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وقول المصنف: وكره بعد فجر وفرض عصر إلى أن ترتفع قيد رمح وتصلى المغرب، دليله حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرَّبَ الشَّمْسُ". متفق عليه، وروي عن ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، متفق عليه.
قلت: غير أن الغاية هنا التي وردت في قول المصنف: وتصلى المغرب. تدل على كراهة النافلة بعد أذان المغرب قبل صلاة المغرب، وفي تقرير ذلك ما فيه من مخالفة النص الثابت في الصحيح عمن لا يسع المسلم إلا اتباعه، وقد علمت قول مالك المأثور: كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي حديث أنس قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإِقامة شيء، وفي رواية: إلا قليل. رواه أحمد والبخاري.
وفي لفظ: كنا نصلي على عهد رسول صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب. فقيل له: أكان رسول صلى الله عليه وسلم صلاهما؟. قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا. رواه مسلم وأبو داود.
وإن كان مستند من حكى كراهة الركعتين قبل صلاة المغرب هو حديث عقبة بن عامر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَزَالُ أُمَّتَي بِخَيْرٍ أَوْ عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ". رواه أحمد وأبو داود وأخرجه الحاكم في المستدرك. ونحوه مما ورد في الحث على تعجيل المغرب، وقال بكراهة الركعتين قبل المغرب لأن صلاتهما تؤدي إلى تأخير المغرب، فالجواب أن الأحاديث الواردة =
قَبْلَ إسْفَارٍ واصْفِرَارٍ (1)، وقَطَعَ مُحْرِمٌ بِوَقْتِ نَهَي (2) وَجَازَتْ بِمَرْبِضِ بَقَرٍ (3) أَوْ غَنَمٍ
= بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب التعجيل. قال النوِوي، حكاه عنه الشوكاني، قال: وأما قولهم يؤدي إلى تأخير المغرب فهذا خيال منابذ للسنة ولا يتفت إليه، ومع هذا فهو زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ا. هـ. منه.
هذا، وقد صرح حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب. ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ". ثم قال "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ" ثم قال عند الثالثة "لمَنْ شَاءَ" كراهية أن يتخذها الناس سنة. رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية "بَيْنَ كُلَّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلَّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ. ثم قال في الثالثة: لِمَنْ شَاءَ" رواه الجماعة. ا. هـ. من منتقى الأخبار والله الموفق.
(1)
وقول المصنف: إلا ركعتي الفجر والورد قبل الفرض لنائم عنه، وجنازة وسجود تلاوة قبل إسفار واصفرار هو مذهب المدونة؛ ففيها بخصوص ركعتي الفجر وأنهما تصليان بعد طلوع الفجر: وقال مالك - فيمن صلى ركعتي الفجر قبل طلوع الفجر - فعليه أن يصليهما إذا طلع الفجر، ولا يجزئه ما كان صلى قبل الفجر. ا. هـ.
وأما بخصوص جواز صلاة الورد بعد صلاة الفجر، لمن نام عنه، فإن نص المدونة في ذلك: وقال مالك في الرجل يترك حزبه من القرآن، أو يفوته حتى ينفجر الصبح فيصليه فيما بين انفجار الصبح وصلاة الصبح، قال: ما هو من عمل الناس؛ فأما من تغلبه عيناه فيفوته ركوعه وحزبه الذي كان يصلي به فأرجو أن يكون خفيفًا أن يصلي في تلك الساعة، وأما غير ذلك فلا يعجبني أن يصلي بعد انفجار الصبح إلا الركعتين. ا. هـ.
وأما بخصوص جواز سجود التلاوة والجنازة، فقد حكى ابن المنذر إجماع المسلمين على جواز الصلاة على الجنازة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر. أي في وقت الكراهة لا في وقت المنع.
وفي المدونة عن مالك قال لا بأس أن يقرأ الرجل السجدة بعد انفجار الصبح ويسجدها.
(2)
وقوله المؤلف: وَقَطَعَ مُحْرِمٌ بِوَقْتِ نَهْي؛ أي لأن النهي يقتضي الفساد لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُرَ رَدٌّ". متفق عليه.
(3)
وقول المصنف: وجازت بمربض بقر وغنم؛ دليله ما أخرجه في المدونة عن ابن وهب عن =
كَمَقْبَرَةٍ وَلَوْ لمُشْرِكٍ (1) وَمَزْبَلَةٍ وَمَحَجَّةٍ وَمَجْزَرِةٍ إنْ أُمِنَتْ من النَّجَسِ، وإِلَّا فلا إِعَادَةَ على الْأحْسَنِ إِنْ لَّمْ تَتَحَقَّقْ (2). وَكُرِهِتْ بِكَنِيسَةٍ وَلَمْ تُعَدْ، وَبِمَعْطَنِ إِبِلٍ وَلَوْ أُمِنَ. وَفِي الإِعَادَةِ قَوْلَانِ (3)، وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًاْ أُخِّرِ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ
= سعيد بن أبي أيوب عمن حدثه، عن عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في معاطن الإِبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر. ا. هـ. ولأنها ليست مظنة النجاسات، وأبوالها وأرواثها طاهرة.
(1)
وقوله: كمقبرة ولو لمشرك؛ تبع فيه مذهب المدونة ففيها ما نصه: وقال مالك لا بأس بالصلاة في المقابر. قال: وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون في المقبرة. ا. هـ.
منه.
قلت: وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْأرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ" وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ، والْمَقْبَرَةُ، وَالْمَزْبَلَةُ، وَالْمَجْزَرَةُ، وَالْحَمَّامُ، وَعَطَنُ الإِبِلِ، وَمَحَجَّةُ الطَّرِيقِ".
لذلك، يستشكل هنا عَدَ المقبرة من المواضع التي تجوز فيها الصلاة، اللهم إلا إذا كان باعتبار عموم الحديث المتفق عليه:"وَجُعِلَتْ لِيَ الْأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا". فقدمه الإِمام في دلالته على الحديثين لقوته عليهما. وهو ذو القدم الراسخة في العلم. وبالله تعالى التوفيق.
(2)
قوله: ومزبلة ومحجة ومجزرة إن أمنت من النجس. الخ. مذهب المدونة فيه: وذكر ابن وهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة ومحجة الطريق وظهر بيت الله الحرام ومعاطن الإِبل من حديث يحيى بن أيوب عن زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا.
قلت: ولذلك لعل الجواز هنا الصادق بالكراهة. والله الموفق.
(3)
قول المصنف: وكرهت بكنيسة ولم تعد وبمعطن الإبل ولو أمن. وفي الإعادة قولان: قال في المدونة: وسألت مالكًا عن أعطان الإبل في المناهل أيصلى فيها؟. قال: لا خير فيها. قال: وأخبرني ابن القاسم عن مالك بن أنس، عن نافع أن عمر بن الخطاب كره دخول الكنائس والصلاة فيها =
بِسَجْدتَيْهَا وقُتِلَ بِالسَّيْفَ حَدًّا ولوْ قَال: أَنَا أَفْعَلُ (1) وَصَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ فَاضِل وَلَا
= قال: وقال مالك: وأنا أكره الصلاة في الكنائس لنجاستها من أقدامهم وما يدخلون فيها من الصور التي فيها. فقيل له: يا أبا عبد الله إنا ربما سافرنا في أرض باردة، فيجيئنا الليل ونغشى قرى، ولا يكون لنا فيها منزل غير الكنائس تكننا من البرد والمطر والثلج. قال: أرجو إذا كانت الضرورة أن يكون في ذلك سعة إن شاء الله، ولا يستحب النزول فيها إذا وجد غيرها.
قلت: وقد تقدم لك حديث ابن ماجه: "سَبْعُ مَوَاطِنَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فَيها
…
" وذكرمنها معطن الإِبل، قال ابن قدامة في المغني: ومعاطن إبِل يبال فيها، فإن البعير البارك كالجدار. روي عن ابن عمر أنه أناخ بعيره مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليه، ولا يتأتى هذا في حيوان سواها. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ومن ترك فرضًا أخر لبقاء ركعة بسجدتيها إلخ. أي لأنه حد من حدود الله؛ كالزنا والسرقة، لا يستتاب صاحبه ولا تنفعه التوبة في دفع إقامة الحد عليه. فأما الدليل على إباحة قتل تارك الصلاة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أْمِرْتُ أْنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلهَ إِلَا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة فَإِذَا فَعَلُوا ذلِك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل". متفق عليه. وأما الدليل على أنه يقتل حدًا لا كفرًا؛ فهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خَمْسُ صَلَواتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيَّعْ مِنْهُنْ شَيئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهْ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَلَهُ" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مالك في الموطإ. وأيضًا فقد روي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلهَ إلَّا اللَّهُ وَحَدَهُ لَا شَريكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهَ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُة أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحُ مِنْهُ، والْجَنَّةُ حَقُّ وَالنَّارُ حَقُّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ". متفق عليه.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ ردلفه على الرحل: "يَامَعَاذَ. قال لَبْيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ عَبْد يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلا حَرَّمَهُ اللَّه عَلَى النَّارِ" قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟. قال: "إذًا يَتَّكِلُوا". فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. متفق عليه.
يُطَمَّسُ قَبْرُهُ، لا فائِتَةٍ على الأصحَّ، والجَاحِدُ كَافِرٌ (1).
= وروى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍ دَعْوةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيَّ دَعْوَتَهُ وإِنَّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتي شَفاعَةً لأمَّتِي يَوْمَ الْقِيامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَمَّتِى لَا يُشْرِكُ بَالَلَّه شَيْئًا" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ" رواه البخارى.
فإذا وقفت على هذه الأحاديث الصحيحة المؤيدة لعموم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(1)
تبين لك - إن كنت منصفًا سالمًا من التعصب المذهبي - أن تارك الصلاة، تكاسلًا وتهاونًا لا جحودًا بها، موحد يرتجى له ما يرتجى للموحدين، وتعين عليك حمل ما ورد مما يوهم تكفيره كحديث جابر الصحيح:"بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ". يَرْفَعُهُ. رواه مسلم، تعين حمله على كفر دون كفر، كما ورد من ذلك أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثِنْتَانِ بِالنَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطُعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنّيَاحَةُ عَلى الْمَيَّتِ". رواه مسلم من حديث أبي هريرة. وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ". متفق عليه. وحديث أبي ذر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". متفق عليه. فالذي هو أنسب بالصناعة الفقهية، التي توجب الذهاب إلى الجمع بين الأدلة، إن أمكن الجمع بينها، والذي هو أليق بسعة رحمة الله، أن يحمل حديث جابر:"بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ" وحديث ابن مسعود: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" وحديث أبي هريرة: "ثِنْتَانِ بِالنَّاسِ هُمَا بِهمْ كُفْرٌ". وأمثالها؛ على كفر دون كفر، وأن تترك الآية:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هي والأحاديث الصحيحة التي وردت عموماتها تؤيد منطوقها، أن تترك هذه الآية وهذه الأحاديث على ما أفادت من العموم. والله الموفق.
(1)
وقول المصنف: والجاحد كافر؛ أي كل من جحد ما علم من الدين بالضرورة فهو كافر، والصلاة مما علم من الدين بالضرورة، فمن تركها منكرًا لوجويها لا خلاف بين المسلمين في كفره، إلا أن يكون قريب عهد بكفر، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة. والله تعالى الموفق.=
(1)
سورة النساء: 48.
فصل في الأذان
سُنَّ الْأذَانُ لِجَمَاعَةٍ طَلَبَتْ غَيْرَهَا، في فَرْضٍ وَقْتِيٍّ وَلَوْ جُمُعَةً. وَهُوَ مُثَنًّى وَلَو: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. مُرَجَّعُ الشَّهَادَتَيْنِ بِأَرْفَعَ مِنْ صَوْتِهِ أَوَّلًا، مُجْزُومٌ بِلَا فَصْلٍ وَلَوْ بإِشَارَةٍ لِكَسَلَامٍ، وَبَنَى إِن لَّمْ يَطُلْ، غَيْرُ مُقَدَّمٍ عَلَى الوَقْتِ إلَّا الصُّبْحَ فَبِسُدُسِ اللَّيْلِ الأْخِير (1).
(1)
قول المصنف سن الأذان لجماعة طلبت غيرها؛ الأذان اسم مصدر من أَذَّنَ يُؤَذَّنُ. وأذن بالصلاة: أعلم بها. فالأذان لغة الإِعلام بالشيء. وشرعًا هو الإِعلام بدخول وقت الصلاة بلفظ مخصوص. وهو مشروع للصلوات الخمس بإجماع المسلمين. وهو عندنا فرض إسلامي يجب كفاية على المصر، إن تركه أهله قوتلوا بدليل حديث أنس عند البخاري وغيره قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أغزى بنا قومًا لم يكن يغزينا حتى يصبح، فإن سمع أذانًا كف عنهم وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم. وهو سنة مؤكدة للإعلام بدخول الوقت للصلوات الخمس الموقوتة لجماعة طلبت غيرها للصلاة معها. ولا يجوز تقديمه على الوقت إلا في صلاة الصبح، فيجوز الأذان لها بأول سدس الليل الأخير ليتنبه المصلون فيتأهبوا للصلاة. والدليل على أن لا أذان ولا إقامة لشيء من الصلوات سوى الفرائض الخمس، هو أنه لم يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لغيرها. قاله البغوي.
وقول المصنف: مثنى ولو: الصلاة خير من النوم
…
الخ. يشير به إلى ألفاظ الأذان عندنا، ولفظ المدونة في ذلك: وأخبرني ابن وهب عن عثمان بن الحكم بن جريج قال: حدثني غير واحد من آل أبي محذورة أن أبا محذورة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبْ فَأَذَّنْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ". قال: قلت: كيف أؤذن يا رسول الله؟. قال: فعلمني الأذان: "اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. أَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلهَ إِلَاَّ اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلهَ إلَّا اللهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ". ثم قال: "أَرْجِعْ وَامْدُدُ مِن صَوْتِكَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ لاَّ إِلهِ إِلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ=
وَصِحَّتُهُ بِإِسْلَامٍ وَعَقْلٍ وذُكُورَةٍ وَبُلُوغٍ (1)، ونُدِبَ مُتَطَهَّرٌ صَيِّتٌ مُرْتَفِعٌ قَائِمٌ إِلَّا لِعُذْرٍ مُسْتَقْبِلٌ إِلَّا لإِسْمَاعٍ (2)، وحِكَايَتُهُ لِسَامعِه لمُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ مُثَنَّى وَلَوْ مُتَنَفَّلًا لَا مُفتَرِضًا (3)، وأَذانُ فَذٍّ إِنْ سَافَرَ (4)، لَا جَمَاعَةٍ لَمْ تَطْلُبْ غيرَهَا على المختار.
= حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ -في الأولى مِنَ الصبح- اللَّهُ أَكْبَرٌ. اللَّهُ أَكْبَرُ. لَا إِلهَ إلَّا اللهُ". قال ابن وهب: قال ابن جريج: قال عطاء: ما علمت تأذين من مضى يخالف تأذينهم اليوم، وما علمت تأذين أبي محذورة يخالف تأذينهم اليوم. وكان أبو محذورة يؤذن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدركه عطاء وهو يؤذن. ا. هـ.
وبذلك تعلم أن الأذان الذي أخذ به مالك هو أذان أبي محذورة، لا أذان بلال الذي كان يؤذن به، والذي ألقى عليه عبد الله بن زيد الأنصاري بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وبذلك يؤخذ على الشيخ أحمد البدوي الموريتاني ثم المجلسي في قوله فى عمود النسب.
أذان مالك أذان طيبته
…
والشافعي ذو أذان مكته
لأنه بما تقدم علمت أن مالكًا أخذ بأذان أهل مكة، الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة عام فتح مكة، ولم يزل يؤذن بها ذلك الأذان حتى توفي رضي الله عنه.
وأما قوله: بلا فصل؛ يشير به إلى قول المدونة وقال مالك: لا يتكلم أحد في الأذان ولا يرد على من سلم عليه. قال: وكذلك الملبي لا يتكلم في تلبيته ولا يرد على أحد سلم عليه. قال: وأكره أن يسلم أحد على الملبي حتى يفرغ. قلت لابن القاسم: فإن تكلم في أذانه أيبتدئه أم يمضي؟. قال: بل يمضي. وأخبرني سحنون عن علي بن سفيان عن مغيرة عن ابراهيم قال: يكره للمؤذن أن يتكلم في أذانه أو يتكلم في إقامته.
(1)
وقول المصنف: وصحته بإسلام وعقل وذكورة وبلوغ؛ لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤَتِمَنٌ. اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنينَ". رواه البغوي في شرح السنة، وأخرجه الترمذي وأحمد. ومعلوم أنه لا يكون مؤمنًا إلا من=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تتوفر فيه هذه الأوصاف: الاسلام والعقل والبلوغ. وفي سنن أبي داود وابن حبان والنسائي والبغوي، واللفظ له عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْمُؤِّذَنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَشَاهِدُ الصَّلَاةِ يُكْتَبُ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ صَلاةً وَيُكَفّرُ عَنْه مَا بَيْنَهُمَا" ا. هـ. فكيف تصور الغفران له إلا بشرط الإسلام.
وأما قوله: وذكورة؛ فهو لما في المدونة: وقال مالك: ليس على النساء أذان ولا إقامة. قال: فإن أقامت المرأة فحسن. ابن وهب عن عبد اللهِ بِن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: ليس على النساء أذان ولا إقامة. ا. هـ. منه.
وقوله: وبلوغ؛ لما في المدونة أيضًا: وقال مالك: لا يؤذن إلا من احتلم. قال: لأن المؤذن إمام ولا يكون من لم يحتلم إمامًا. ا. هـ. منه.
(2)
قول المصنف: وندب متطهر .. الخ. ندب الطهارة في الأذان دليله ما في المدونة: وقال مالك يؤذن المؤذن وهو على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء. علي بن زياد عن سفيان بن منصور عن إبراهيم أنهم كانوا لايرون بأسًا أن يؤذن الرجل على غير وضوء. ا. هـ. منه.
قال البغوي: ويستحب أن يكون المؤذن على طهارة حالة ما يؤذن. وروي عن أبي هريرة أنه قال: لا يؤذن إلا متوضئ. ورفعه بعضهم، والوقف أصح. وكره بعض أهل العلم أذان المحدث، وهو قول عطاء وبه قال الشافعي وأحمد. ا. هـ. منه.
قلت: والذي هو أنسب لقدسية الصلاة، أن يكره للمحدث الأذان لما أخرجه عبد الرزاق: قال عطاء: الوضوء حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن المؤذن إلا متوضئًا. هو من الصلاة هر فاتحة الصلاة. ا. هـ.
وقوله: صيَّت؛ أي لما يستحب من رفع الصوت بالأذان. أخرجه البغوي أن أبا سعيد الخدري قال لأبي صعصعة المازني: إِنَّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارفَعْ صَوْتَكَ بِالنَّدَاءِ، فَإنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِن وَلَا إِنْسَ وَلَا شَيْء إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ". قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث صحيح أخرجه الموطأ والبخاري.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: مرتفع، لا إشكال فيه لأنه أولى لارتفاع الصوت المطلوب. وقوله: قائم إلا لعذر؛ قال في المدونة: وقال مالك لم يبلغني أن أحدًا أذن قاعدًا. قال: وأنكر ذلك إنكارًا شديدًا. وقال: إلاَّمن عذر به يؤذن لنفسه إذا كان مريضًا. اهـ.
وقوله: مستقبل إلا لإِسماع؛ قال في المدونة: قال ابن القاسم: وسألت مالكًا عن المؤذن يدور في أذانه، ويلتفت عن يمينه وعن شماله فأنكره. وبلغني عنه أيضًا أنه قال: إن كان يريد أن يسمع فنعم وإلا فلا. ولم يعرف الإِدارة. قلت: ولا يدور حين يقول حي على الصلاة؟. قال: لا يعرف هذا الذي يقول الناس يدور، ولا هذا الذي يقول الناس يلتفت يمينًا وشمالًا. قال ابن القاسم: وكان مالك ينكره إنكارًا شديدًا إلا أن يكون يريد أن يسمع. فإن لم يرد به ذلك فكان ينكره إنكارًا شديدًا أن يكون هذا من حد الأذان. ويراه من الخطإ. وكان يوسع أن يؤذن كيف تيسر عليه. قال ابن القاسم: ورأيت المؤذنين ووجوههم إلى القبلة. ا. هـ. منه.
قلت وقد ورد الالتواء في الأذان في حديث أبي جحيفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فخرج بلال فأذن فجعل هكذا يحرف يمينًا وشمالًا. قال سفيان: قال عون عن أبيه: فجعلت اتتبع فاه يمينًا وشمالًا. متفق عليه. وإذًا، فلم يبق لإِنكاره مبرر إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ الإِمام. والله الموفق.
(3)
وقول المصنف: وحكايته لسامعه لمنتهى الشهادتين مثنى ولو متنفلًا لا مفترضًا؛ دليله قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمِعْتُمُ النَّدَاء فَقَولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ". متفق عليه ورواه الموطأ.
وقوله: لمنتهى الشهادتين دليله حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا قَالَ الْمُؤَذّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلهَ إلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: حَيِّ عَلَى الصلَاةِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَر اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهْ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ. مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ". متفق عليه. =
وَجَازَ أَعْمَى (1) وَتَعَدُّدُهُ وَتَرَتُّبُهُمْ إِلَّا المَغْرِبَ. وَجَمْعُهُمْ كُلُّ عَلى (2) أَذَانِهِ. وَإقَامَةُ غَيْرِ مَنْ أَذَّنَ (3)، وَحِكَايَتُهُ قَبْلَه (4). وأُجْرَةٌ عَلَيْهِ أَوْ مَعَ صَلَاةٍ، وكُرِهَ عَلَيْهَا (5). وسَلَامٌ عَلَيْهِ كَمُلَبٍّ، وَإِقامَةُ رَاكِبٍ أَوْ مُعِيدٍ لِصَلَاتِهِ كأَذانه (6).
= وقوله: ولو متنفلًا لا مفترضًا، أي لقول مالك في المدونة: إذا أذن المؤذن وأنت في الصلاة المكتوبة فلا تقل مثل ما يقول، وإذا أذن وأنت في النافلة فقل مثل ما يقول. ا. هـ.
(4)
وقول المصنف: وأذان فَذ إنْ سافَرَ؛ دليله حديث مالك بن الحويرث عند البخاري والبغوي واللفظ له: قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وابن عم لي فقال: "إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذَّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَومُّكُمَا أَكَبَرُكُمَا". ا هـ.
(1)
وقول المصنف: وجاز أعمى؛ أي وجاز أن يؤذن الأعمى لدليل أذان عبد الله بن أم مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
وقوله: وتعددهم إلخ. أي لقول المدونة: قلت لابن القاسم: أرأيت مسجدًا من مساجد القبائل اتخذوا له مؤذنين أو ثلاثة أو أربعة، هل يجوز لهم ذلك؟. قال: لا بأْس به عندي. قلت:
هل تحفظه من مالك؟. قال: نعم. لا بأْس به. قال: وسئل مالك عن القوم يكونون في السفر أو في مساجد الحرس أو في المركب فيؤذن لهم مؤذنان أوثلاثة قال: لا بأْس بذلك. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا المغرب؛ أي لضيق وقته.
(3)
وقوله: وإقامة غير من أذن؛ أي لما في المدونة: وقال مالك: لا بأْس أن يؤذن رجل ويقيم غيره. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وحكايته قبله؛ أي لما في المدونة قلت لمالك: أرأيت إن أبطأ المؤذن فقلت مثل ما يقول، عجلت قبل المؤذن؟. قال: أرى ذلك يجزئ وأراه واسعًا. ا. هـ.
(5)
وقوله: وأجرة عليه أو مع صلاة. الخ؛ أي لما في المدونة: قال: وقال مالك: لا بأْس بإجارة المؤذنين. قال: وسألت مالكًا عن الرجل يستأجر الرجل يؤذن في مسجده ويصلي بأهله يعمره بذلك. قال: لا بأَس به. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وسلام عليه كَمُلَبٍّ؛ تقدم الكلام عليه. وقوله: وإقامة راكب؛ أي لما في =
وَتُسَنُّ إِقَامَةٌ مُفْرَدَةٌ وثُنَّيَ تَكْبِيرُهَا لِفَرْضٍ وَإنْ قَضَاءً (1)، وصَحَّتْ وَلَوْ تُرِكَتْ عَمْدًا وَإنْ أقامَتِ المرأَةُ سِرًّا فَحَسَنٌ. وَلْيَقُمْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا بِقَدْر الطَّاقَةِ.
= المدونة: وقال لي مالك: يؤذن الرجل في السفر وهو راكب ويقيم وهو نازل، ولا يقيم وهو راكب. ابن وهب عن عمر بن محمد العمري أنه رأى سالم بن عبد الله في السفر حين يرى الفجر ينادي في الصلاة على البعير، فإذا نزل أقام. ا. هـ. منه وبالله التوفيق.
(1)
قول المصنف: وتسن إقامة مفردة وثني تكبيرها لفرض وإن قضاء؛ لأن الإِقامة ورد الأمر بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أنس رضي الله عنه عند الدارمي قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. اهـ، والدليل على أن هذا الأمر ليس للوجوب اتفاق أكثر أهل العلم أن المرء إذا صلى بلا أذان ولا إقامة حضرًا أو سفرًا لا إعادة عليه. وفي المدونة: وسألت مالكًا فيمن صلى بدون إقامة ناسيًا. قال: لا شيء عليه. قال: فإن تعمد؟. قال: فليستغفر الله ولا شيء عليه. ا. هـ. منه.
وقوله: مفردة وثني تكبيرها؛ لما في المدونة قال ابن القاسم: والإقامة "اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلهَ إلَّا اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ". قال ابن وهب: وبلغني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة. ابن وهب: وقال لي مالك مثله. ا. هـ. منه.
قلت: وقد أخرجه الدارمي قال: أخبرنا أبو الوليد الطيالسي وعفان قالا: ثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. ا. هـ. غير أن أكثر أهل العلم عنى إفراد الألفاظ التي هي شفع في الأذان دون لفظ الإِقامة نفسها، وذلك عملًا برواية الحديث الثانية وهي عن أنس نفسه عند البخاري ومسلم ولفظه عند البغوي: عن أنس بن مالك قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة إلا قوله: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ". متفق عليه، وتكرار لفظ "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ" قال به أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، مع إفراد باقي ألفاظ الإِقامة، وبذلك يقول ابن عمر وبلال وسعد القَرَظ - وكان قد أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته - وهو قول الحسن ومكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد واسحاق وغيرهم، ولذلك فلا أرى مبررًا للعدول عنه. والله الموفق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: وصحت ولو تركت عمدًا وإن اقامت المرأة سرًا فحسن؛ قد تقدم بيان كل ذلك فأغنى عن إعادته والحمد لله.
وقوله: وليقم معها أو بعدها بقدر الطاقة؛ هو لما في المدونة: وكان مالك لا يوقت للناس وقتًا.
إذا أقيمت الصلاة يقومون عند ذلك، ولكنه كان يقول: ذلك على قدر طاقة الناس فمنهم القوي
والضعيف. ا. هـ.
* * *
فصل في شروط الصلاة
حُكْمُ الرُّعَاف:
شُرِطَ لِصَلَاةٍ طَهَارةُ حَدَثٍ وخَبَثٍ (1)، وَإِنْ رَعَفَ قَبْلَهَا وَدَامَ أَخَّر لآخِر الْاخْتِيَارِيِّ وَصَلَّى (2) أوْ فِيهَا وَإِنْ عِيدًا أَو جَنَازَةً، وَظَنَّ دَوَامَهُ لَهُ أَتَمَّهَا، إِنْ لَمْ يُلَطِّخْ فَرْشَ مَسْجِدٍ (3) وَأَوْمَأَ لِخَوْفِ تَأَذِّيهِ أَوْ تَلَطُّخِ ثَوْبِهِ لَا جَسَدِهِ (4). وَإِن لَّمْ يَظُنَّ
(1)
قول المصنف: شرط للصلاة طهارة حدث. أي لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ" أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر. وأما الدليل على وجوب طهارة الخبث فقوله تعالى:
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الآية
(1)
وقد تقدم بحث هل هي شرط في صحة الصلاة، أو هي واجبة وجوب الفرائض مع الذكر والقدرة. فليرجع إليه عند قول المختصر: هل إزالة النجاسة. الخ. وقد أغنى بحثه هناك عن إعادته هنا والحمد لله على كل حال، وهو الذي بيده التوفيق.
(2)
وقول المصنف وإن رعف قبلها ودام أخر لآخر الاختياري وصلى؛ هذا لا إشكال فيه، وتخريجه ظاهر فهو يرجو أن ينقطع الدم فيتمكن من الطهارة.
(3)
قوله: أو فيها وإن عيدًا أو جنازة وظن دوامه له أتمها إن لم يلطخ فرش مسجد؛ أي للمحافظة على أداء الصلاة على كل حال، ودليله ما أخرجه في الموطإ عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر: نعم. ولا حظ في الإِسلام لمن ترك الصلاة. فصلى عمر وجرحه يثعب دمًا. ا. هـ.
فإن خاف تلطخ فرش المسجد، قطع وخرج من المسجد لخبر:"إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد.
(4)
وقوله: وأومأ لخوف تأذيه أو تلطخ ثوبه إلخ؛ دليله ما أخرجه الموطأ عن مالك عن يحيى بن=
(1)
سورة المدثر: 4.
وَرَشَحَ، فَتَلَهُ بأَنامِلِ يُسْراهُ (1)، فَإِنْ زَادَ عَنْ دِرْهَمٍ قَطَعَ؛ كَأَنْ لَطَّخَهُ أَو خَشِيَ تَلَوّث مَسْجِدٍ وإِلَّا فَلَهُ الْقَطْعُ، وَنُدِبَ البِنَاءُ، فَيَخْرُجُ مُمْسِكَ أَنْفِهِ، إِنْ لَّمْ يُجَاوِزْ أَقْرَبَ مَكَانٍ مُمْكن قَرُبَ، ويَسْتدْبِرْ قِبْلة بِلَا غْذرٍ، وَيَطْا نَجَسًا وَيَتَكَلَّمْ وَلَوْ سَهْوًا (2).
= سعيد أن سعيد بن المسيب قال: ما ترون فيمن غلبه الدم من رعاف فلم ينقطع عنه؟. قال يحيى بن سعيد ثم قال سعيد بن المسيب: أرى أن يومئ. قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إليَّ في ذلك. ا. هـ.
(1)
وقول المصنف: وإن لم يظن ورشح فتله بأنامل يسراه الخ. يستدل عليه بما أخرجه في الموطإ عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي أنه قال: رأيت سعيد بن المسيب يرعف، فيخرج منه الدم حتى تختضب أصابعه من الدم الذي يخرج من أنفه، ثم يصلي ولا يتوضأ. وحدثني عن مالك عن عبد الرحمن بن المجبر أنه رأى سالم بن عبد الله يخرج من أنفه الدم حتى تختضب أصابعه ثم يفتله ثم يصلي. ا. هـ.
وقوله: فإن زاد عن درهم قطع إلخ. أي لأنه زاد عن القدر المعفو عنه من الدم.
(2)
وقول المصنف: وندب البناء فيخرج ممسك أنفه الخ. يستدل له بما أخرجه في الموطإ عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا رعف انصرف فتوضأ ثم يرجع فبنى ولم يتكلم. وعن مالك أنه بلغه أن ابن عباس كان يرعف فيخرج فيغسل عنه الدم ثم يرجع فيبني على ما قد صلى. وحدثني عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي أنه رأى سعيد بن المسيب رعف، وهو يصلي فأتى حجرة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بوضوء فتوضأ ثم رجع فبنى على ما قد صلى. ا. هـ.
وأما قوله: إن لم يتجاوز أقرب مكان ألخ. فهي شروط بمحض الاجتهاد، واشتراطها وجبه جدًا فإن شرط عدم استدبار القبلة لأن الاستقبال شرط في الصلاة وهو يعتبر نفسه أثناء الصلاة، وأما اشتراط عدم وطء نجس فلأنه في صلاة والطهارة شرط في الصلاة، وأما اشتراط عدم الكلام فلأن الكلام يبطل الصلاة. والله أعلم.
وَإِنْ كانَ بِجماعةٍ اسْتَخْلَفَ الإِمَامُ (1)، وفي بِنَاءِ الْفَذِّ خِلَاف (2)، وإذا بنى لم يَعتدّ إلَّا بركعة كملت (3)، وأَتمَّ مَكَانَهُ إِنْ ظَنَّ فَرَاغَ إِمَامِهِ وَأَمْكَنَ، وإِلَّا فالأَقْرَبُ إِلَيْهِ وإِلَّا بَطَلَتْ، وَرَجَعَ إِن ظنَّ بَقَاءَهُ أَوْ شَكَّ وَلَوْ بِتَشَهُّدٍ، وَفِي الجُمُعَةِ مُطْلَقًا لأَوَّل الجَامِع وإِلاَّ بَطَلَتَا (4). وَإن لم يتم ركعة في الجمعة ابتدأَ ظهرًا بإِحرَام (5) وسَّلم وانصرف إِن رعف بعد سلام إمامه لا قبله (6). ولا يبنى بغيره،
(1)
قوله: واستخلف الإِمام؛ أي وجوبًا إن كانت جمعة؛ لأنها لا تصح إلا بالجماعة، وعلى سبيل الاستحباب إن كان غير جمعة، وتوجيهه ظاهر.
(2)
قوله: وفي بناء الفذ خلاف؛ ليس في ذلك إلا محض الاجتهاد. والله الموفق.
(3)
وقوله: وإذا بنى لم يعتد إلا بركعة كملت؛ تبع فيه مذهب المدونة حيث يقول: وقال مالك فيمن رعف بعد ما ركع، أو بعد ما رفع رأسه من ركوعه، أو سجد من الركعة سجدة، رجع فغسل الدم عنه، إنه يلغي الركعة وسجدنها ويبتدئ القراءة قراءة تلك الركعة من أولها. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وأتم مكانه إن ظن فراغ إمامه وأمكن الخ.؛ قال مالك في المدونة: كل من رعف في صلاته فإنه يقضي في بيته، أو حيث غسل الدم عنه في أقرب المواضع إليه. قال ابن القاسم: وذلك إذا علم أنه لا يدرك مع الإمام شيئًا مما بقي عليه من الصلاة، إلا في الجمعة فإنه لا يصلي ما بقي عليه إذا هو رعف إلا في المسجد. ا. هـ.
(5)
وإن لم يتم ركعة في الجمعة ابتدأ ظهرًا بإحرام؛ تبع فيه المدونة، وفيها، وقال مالك: فإن هو افتح مع الإِمام الصلاة يوم الجمعة، فلم يركع معه أو ركع وسجد إحدى السجدتين، ثم رعف ثم ذهب يغسل الدم عنه فلم يرجع حتى فرغ الإمام من الصلاة، قال: يبتدئ الظهر أربعًا. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وسلم وانصرف الخ. قال في المدونة: وسألنا مالكًا عن الرجل يرعف قبل تسليم الإِمام وقد تشهد وفرغ من تشهده؟. قال: ينصرف فيغسل عنه الدم ثم يرجع؛ فإن كان الإمام قد انصرف، قعد فتشهد وسلم، وإن رعف بعد ما سلم الإمام ولم يسلم هو، سلم وأجزأت عنه صلاته.
أ. هـ. منه.
كظنه فخرج فظهر نفيه، ومن فرعه قيءً لم تبطل صلاته (1)، وإذا اجتمع بناءً وقضاءٌ لراعف أدرك الوُسْطييْن أو إحداهما، أو لحاضر أدرك ثانيةَ صلاةِ مسافر أو خوفٍ بحضرٍ، قَدَّمَ البناءَ وجلس في آخرة الإِمَام ولو لم تكن ثانيته (2).
(1)
قوله: ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته، تبع فيه المدونة وفيها: وقال مالك: من قاء عامدًا أو غير عامد في الصلاة استأنف الصلاة ولم يبن. وليس هو بمنزلة الرعاف عنده. صاحب الرعاف يبني وهذا لا يبني. ا. هـ.
قلت: لكن عدم بطلان صلاته لم أتبين وجهه إلا إذا كان القيءُ لم يتغير بعد عن الطعام، لأنه وإن كان القيء لا ينقض الوضوء عندنا، لعدم خروجه من السبيلين فهلا كان نجسًا؟. والطهارة شرط في صحة الصلاة.
(2)
وقوله: وإذا اجتمع بناء وقضاء لراعف الخ. توضيح عبارته أنه إذا اجتمع على مسبوق ما فاته من فعل الإِمام قبل دخوله معه، وما فاته فعله مع الإمام بعد دخوله معه حين رعف، ومثل الراعف الناعس في صلاته والمزحوم فيها والغافل، والحال أنه فاتته الأولى من الرباعية وأدرك الوسطيين ورعف في الرابعة فذهب لغسل الدم ففاتته، فهي بناء والأولى قضاء، فالحكم أن يقدم البناء فيصلي الرابعة بالفاتحة دون السورة يسر فيها، ويجلس بعدها لأنها رابعة الإِمام، ثم يأتي بركعة بالفاتحة والسورة، ويجهر فيها إن كانت عشاء ويتشهد ويسلم. وهذا مذهب ابن القاسم. وقس على ذلك إدراكه لإِحدى الوسطيين. وانظر تصوره في حاضر أدرك ثانية صلاة مسافر الخ. في الشروح. ا. هـ. قلت: ودم الرعاف وإن كان غير ناقض للوضوء عندنا فهو نجس بلا شك، والمعفو من الدم قدر درهم، وإن رأيي القاصر أنه مبطل للصلاة، على الرغم مما حكاه الباجي عن القاضي أبي محمد من حكايته، لإِجماع الصحابة على أنه لا يبطل الصلاة ولا يمنع البناء. وقال: يروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس ولا مخالف لهم. وإن رأيي أن الأحوط في المسألة العمل بما افتى به مالك فيما رواه عنه في المجموعة ابن نافع وعلي بن زياد، أن الأفضل إن رعف يقطع الصلاة، ثم يغسل الدم ويستأنف الصلاة. قال الباجي: ووجه ذلك أن يخرج من الخلاف ويؤدي الصلاة باتفاق. وهو وجيه جدًا لعدم الوقوف على أثر مرفوع ببعض هذه العمليات المرتبكة والله الموفق.
فصل في ستر العورة
هَلْ سَتْرُ عَوْرَتهِ بِكثِيفٍ وَإِنْ بِإعَارةٍ أَوْ طَلَبٍ أَوْ نَجِسٍ وَحْدَهُ كَحَرِيرٍ وَهُو مُقَدَّمٌ شَرْطٌ إِنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ وإِن بِخَلْوَةٍ للصَّلَاةِ خِلَافٌ (1)، وَهِيَ مِن رَجُلٍ وَأَمَةٍ وَإنْ بِشَائبَةٍ
(1)
قول المصنف: هل ستر عورته بكثيف الى قوله خلاف؛ الظاهر من الخلاف الذي يؤيده الدليل أنها شرط في صحة الصلاة؛ لأن الله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(1)
الآية.
روى الطبري عن مجاهد في تفسير ذلك قال: هو ماوارى عورتك ولو عباءة.
وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ خَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ". رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
وروي عن سلمة بن الأكوع. قلت: يارسول الله إنا نكون في الصيد أفيصلي أحدنا في القميص الواحد؟. قال: "نَعَمْ وَلْيُزِرَّةُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يُخِلَّهُ بِشَوْكَةٍ"، أخرجه البغوي وقال المعلق عليه: هو في مسند الشافعي، وسنن أبي داود، وعلقه البخاري، وحسنه النووي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. ا. هـ.
وأما تقييد وجوب ستر العورة بالذكر والقدرة، فلأن ذلك شرط في التكليف أصلا كما هو معروف، أخذًا من قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(2)
الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأ وَالنَّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
وقوله: وإن بخلوة؛ دليله حديث ابن عمر عند الترمذي ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرّي فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إلَّا عَنْدَ الْغائِطِ وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ".
والعورة يجب سترها في الصلاة وخارجها، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده دليل ما نقول، قال: قلت: يارسول الله عوراتنا فما نأتي منها وما نذر؟. قال: "احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا=
(1)
سورة الأعراف: 31.
(2)
سورة البقرة: 286.
وَحُرَّةٍ مَعَ امْرأَةٍ مَا بَيْنَ سُرَّةٍ ورُكْبَةٍ، وَمَعَ أَجنبيٍّ غَيْرُ الوَجْهِ والكفين (1)، وَأَعَادَتْ لِصَدْرِهَا وأَطْرَافِهَا بِوَقْتٍ، كَكَشْفِ "أَمَةٍ فَخِذًا لَا رَجُلٍ، ومَعَ مَحْرَم غَيْرُ الوَجْهِ والأَطْرافِ، وَتَرَى مِنَ الَأجنبيِّ ما يَرَاهُ مِنْ مَحْرَمِهِ، ومِنَ المَحْرَمِ كَرَجُل مَع مِثْلِهِ، ولَا تُطلبُ أَمَةٌ بَتغْطِيَةِ رَأْسٍ، ونُدِب سَتْرها بِخَلْوَة. ولأُمِّ وَلَدٍ وصغيرةٍ سَترُ
= مَلَكَتْ يَمِينكَ". قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟. قال: "إذَا اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا". قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا قال: "فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَي أَحَقُّ أَن يُسْتَحْيَا مِنْهُ" أخرجه في المنتقى للمجد. وقال: رواه الخمسة إلا النسائي.
وقال الشوكاني: الحديث أخرجه النسائي في عشرة النساء. ا. هـ. منه.
(1)
وقول المصنف: وهي من رجل وأمة، الى قوله والكفين؛ هو في تحديد العورة من الرجل والمرأة والأمة، فالدليل على أنها من الرجل والأمة ما بين السرة والركبة، هوما أخرجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لَا تُبْرِز فَخِذَكَ وَلَا نَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيّ وَلَا مَيِّتٍ"، أخرجه منتقى الأخبار وقال رواه أبوداود وابن ماجه.
وحديث محمد بن جحش قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر وفخذاه مكشوفتان فقال: "يَاعُمَرُ،
غَطِّ فَخِذَيْكَ فَإنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ". قال في منتقى الأخبار: رواه أحمد والبخاري في تاريخه. وقال الشوكاني: وأخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا. والحاكم في المستدرك.
وعلى هذا القول أكثر أهل الفقه: مالك والشافعي وأبوحنيفة والرواية الصحيحة عن أحمد. وقال بعضهم: العورة السوأتان فقط. وإليه ذهب ابن أبي ذئب وداود. وهو رواية عن أحمد وبعض المالكية، ودليل ذلك حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وقال: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط.
وأما كون العورة من الأمة ما بين سرة وركبة فإن دليل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال فيه: "وإِذَا زَوج أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ الَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ" رواه البيهقي وأبو داود، ولأبي داود:"إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَمَتَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى عَوْرَتهَا"، قالوا: والمراد بالعورة المذكورة في هذا الحديث ما صرح ببيانه في حديث عمرو بن شعيب. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقول المصنف: ومع أجنبي غير الوجه والكفين، وذلك أخذًا من قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
(1)
قالوا: إن الذي يظهر منها الوجه واليدان، وعلى ذلك أكثر اهل التفسير، ومما يدل على ذلك أن هذا عضو يجب كشفه بالاحرام، فلم يكن عورة قياسًا على وجه الرجل، وأيضًا فقد أخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: ما في الوجه والكفين.
وفي رواية أخرى قال: الكحل والخاتم. قال البيهقي: وروينا عن أنس بن مالك مثل ذلك؛ وأخرج كلذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ظهر منها؛ الوجه والكفان. ا. هـ. منه باختصار.
قلت: ومن يتثبت بتفسير ابن مسعود: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الملاية، يجاب بأن خير ما يفسر به اقرآن القرآن، وإنه فسر زينة المرأة بالحلي قال تعالى:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}
(2)
فتعين حمل زينة المرأة على حليها. وكيف يتصور أن الوجه والكفين من الحرة عورة مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة، ووجوب كشفهما في الاحرام؟. هل من المعقول تجويز كشف العورة في الصلاة ووجوب كشفها في الإحرام؟.
وما يستدل به، من أنه يجب على المرأة ستر وجهها، من حديث عائشة، الذي تذكر فيه أنهن كن يسدلن على وجوههن إذا قابلن الرجال، لا يتوجه به دليل لتطرق الاحتمال اليه، وذلك عملًا بالقاعدة الأُصولية: وقائع الأحوال إذا تطرق اليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فسقط بها الاستدلال؛ والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من أحكامهن الخاصة بهن؛ كحرمة نكاحهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب نفقتهن وسكناهن على المسلمين وما إلى ذلك.
غير أنه قد يفتي المنصف بأن المرأة الفاتنة قد يجب عليها ستر وجها لفساد أهل اليوم، فإنهم قد لا يمتثلون قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}
(3)
إن المرأة أبيح لها كشف وجهها للضرورة إلى ذلك، وخوطب الرجل بهذه الآية بالغض من نظره إن رأى منها ما يتبعه نظره، كما أبيح للرجل كشف ما عدا ما بين سرته وركبته، وخوطبت المرأة أن تغض من بصرها إن هي رأت منه ما يتبعه نظرها:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}
(4)
. =
(1)
سورة النور: 31.
(2)
سورة النور: 31.
(3)
سورة النور: 30.
(4)
سورة النور: 31.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأيضًا، فمن أين لراوي الحديث الصحيح؛ فقامت امرأة جزلة سفعاءُ الخدين. الحديث، فمن أين له معرفة سفعة خديها إلا لأنها كانت كاشفة عن وجهها وهي تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخاطبه؟.
أقول: إلزام المرأة بتغطية وجهها فيه حرج عظيم يأباه منطوق قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(2)
وسفورالفاتنة في الشوارع تبذل في هذا الزمن الفاسد يجب الحد منه بالحكمة. وبالله التوفيق.
قوله: وأعادت لصدرها وأطرافها بوقت الخ. قال في المدونة: وقال مالك في امرأة صلت وقد انكشف قدماها أو شعرها أو صدور قدميها: إنها تعيد ما دامت في الوقت. ا. هـ.
وقوله: ككشف أمة فخذًا لارجل، لأن ابن عبد البر روى في الاستذكار عن مالك أن عورة الأمة مثل عورة الحرة إلا في الشعر فليس بعورة، ذكره الشوكاني وقال: وقال العراقي في شرح الترمذي: والمشهور عنه أنها مثل عورة الرجل. ا. هـ. منه.
وقوله: لا رجل لقوة القول بان الفخذ ليس بعورة، من ذلك حديث أنس عند البخاري في حسر الإزار عن فخذه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وقد تقدم، ومنها حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على ذلك، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على ذلك، وهذا يدل على أن الفخذ ليس بعورة؛ فحري لذلك أن لا تلزم الإعادة من كشفه في الصلاة. والله الموفق.
وقوله: وترى من الأجنبي ما يراه من محرمه أي الوجه والأطراف، وذلك لأمره صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تستعد عند ابن أم مكتوم. والله الموفق.
وقوله: ولا تطلب أمة بتغطية رأس؛ لأنه ليس بعورة، فالعورة من الأمة هي ما بين سرتها وركبتها، فإن عتقت أثناء الصلاة جرى على القاعدة الخلافية: هل كل جزء من صلاة مستقل دون الآخر، أم صحة أولها تتوقف على صحة أداء جميع أجزائها؟.
وفي البغوي: روي أن عمر رأى امرأة عليها جلباب متقنعة فسأل عنها، فقيل: هي أمة، فقال لا تشبه الأمة بربتها. وقال مالك في الأمة تصلي بغير قناع قال: ذلك سنتها. ا. هـ.=
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة البقرة: 185.
واجب على الحرة (1)، وأَعادت إِن رَاهَقَتْ لِلاصْفِرَارِ ككبيرة إِن تركتا القناع، كَمُصَلٍّ بحرير (2) وإن انْفَرَدَ، أَو بنجس بغير أو بوجود مطهر، وإن ظَنَّ عدم صلاته وصلى بطاهر، لَا عَاجزٌ صلى عريانًا كفائتة. وَكُرهَ مُحَدِّدٌ لا بريحٍ، وانتِقَابُ
= وقول المصنف: وندب سترها بخلوة؛ تقدم الكلام عليه في أول الكلام على وجوب ستر العورة، فاغنى عن إعادته هنا. والحمد لله وهو ولي التوفيق.
(1)
وقول المصنف: ولأم ولد وصغير ستر واجب على الحرة، هو مذهب المدونة، قال فيها: وأما أمهات الأولاد فلا أرى أن يصلين الا بقناع كما تصلي الحرة بدرع أو فرتر تستر ظهور قدميها. قلت: والجارية التي لم تبلغ المحيض، الحرة، ومثلها قد أمرت بالصلاة قد بلغت اثنتي عشرة سنة أو إحدى عشرة سنة أتؤمر أن تستر من نفسها ما تستره الحرة البالغة من نفسها في الصلاة؟. قال: نعم، وقال مالك في أم الولد تصلي بغير قناع، قال: أحب إليَّ أن تعيد ما دامت في الرقت، ولست أراه بواجب عليها كوجوب ذلك على الحرة.
(2)
وقوله: وأعادت إن راهفت للاصفرار الخ. قال في المدونة: وقال مالك: إذا كانت الجارية بالغة، أوقد راهقت لم تصل الا وهي مستترة؛ بمنزلة المرأة والحرة الكبيرة. ا. هـ. وهي لذلك إن صلت بغير خمار وجب عليها أن تعيد في الوقت.
وقوله كمصل بحرير الخ. التشبيه هنا بالإعادة في الوقت، سواء صلى بحرير لم يجد غيره، أو وجد غيره وتعمد، أو صلى به ناسيًا له أو لحرمة الصلاة به، كذا لوصلى بالنجس، قال: بعيد في الوقت ولو نسي صلاته به وصلى ظانًا عدم صلاته أو لا يعيد في الوقت لأنه لم ينو بصلاته الأخيرة الإعادة.
قلت: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير بالنسبة لذكور أمته، لما روى أبو موسى أن رسول الله قال:"حُرِّم لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَب عَلَى ذُكُورِ أمَّتِي وَأُجِلَّ لإنَاثِهِمْ". أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح؛ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَاتَلْبَسوا الْحَرِيرَ فَإنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ بَلْبَسْة فِي الآْخِرَة". متفق عليه. قال ابن قدامة: ولا نعلم في تحريم لبس ذلك على الرجال خلافًا إلا لعارض أو عذر. وقال ابن عبد البر: هذا إجماع. ا. هـ. من المغنى. =
امرأة كَكَفِّ كُمٍّ وشَعَرٍ بِصَلَاةٍ، وَتَلثمٌ (1) كَكَفِّ مُشْتَرٍ صَدْرًا أَوْ سَاقًا، وصماءُ بِسِتْرٍ وإِلَّا مُنِعَتْ كاحْتِباءٍ لا سَتْرَ معه (2)، وعَصَى وصَحَّتْ إِن لَبِسَ حريرًا أوْ ذَهَبًا أَوْ
= وحيث إنه ثبت في الحديث المتفق عليه: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرنَا فَهُوَ رَدٌّ". فلم تقييد الإعادة بالوقت إذًا؟. فإن كانت الصلاة صحيحة مجزية، إجراءً لها على القاعدة التي تقول بصحتها في حالة انفكاك الجهة، فهو آثم بعمله ذلك، مؤد لصلاته أداءٌ يسقط بموجبه قضاء الصلاة. كما قال في موضرع آخر من المختصر: وعصى وصحت إن لبس حريرًا .. الخ.
وإن أجرينا المياه في مجراها الأصلي أبطلنا هذا الاجتهاد بفساد الاعتبار، لوجود النص بتحريم لباس الحرير على المسلم، وبالنص كذلك على أن من عمل عملًا ليس عليه أمر المسلمين يرد عمله ذلك، وإذا كان ذلك كذلك وجبت الإعادة عليه أبدًا. وبالله تعالى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله: لا عاجز صلى عريانًا كفائتة؛ يريد به أن من عجز عما يستر به عورته وصلى عريانًا لا إعادة عليه، كما لا إعادة على من صلى فائتة بنجس، وتذكر ذلك بعد ما خرج وقتها، وفي المدونة ما نصه: وقال مالك في العراة لا يقدرون على الثياب قال: يصلون أفذاذًا يتباعد بعضهم عن بعض، ويصلون قيامًا: وإن كان ليل مظلم لا يتبين بعضهم بعضًا صلوا جماعة، وتقدمهم إمامهم. ا. هـ. منه والله الموفق.
(1)
وقول المُصَنِّف: وكره محدد لا بريح؛ يعني ما يحدد العورة؛ إما لضيق وإما لرقة، وهذا ولو خارج الصلاة لمنافاته للمروءة، وتوجيه ذلك ظاهر.
وقوله: وانتقاب امرأة، قال في المدونة: وبلغني عن مالك في المرأة تصلي منتقبة بشيء، قال: لا إعادة عليها. وذلك رأي. والتلثم مثله، ولا أرى أن تعيد. ا. هـ. منه.
وقوله: ككف كم وشعر لصلاة؛ لما في المدونة، ونصه: وكيع عن سفيان الثوري عن مخول بن راشد عن رجل عن أبي رافع قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وشعره معقوص، وكره ذلك علي ابن أبي طالب، وعمر قد حل شعر رجل كان معقوصًا في الصلاة حلًا عنيفًا، وكره ذلك ابن مسعود وقال: إن الشعر يسجد معك ولك بكل شعرة أجر. ا. هـ. منه.
(2)
وقول المُصَنف: وصماء بستر وإلا منعت كاحتباء لا ستر معه؛ ذلك لقول أبي هريرة رضي =
سَرَقَ أَو نَظَر مُحَرَّمًا فِيهَا (1)، وإن لَّمْ يَجِدْ إِلا سترًا لأحَدِ فَرْجَيْهِ (2) فثالِثُهَا يُخيَّرُ. وَمَنْ عَجَزَ صَلَّى عُرْيَانًا، فإِن اجتمعوا بظلام فكالمستورين وِإِلَّا تفرقوا، فإن لم يمكن صَلَّوْا قيامًا غَاضِّين، إِمَامُهم وسطَهُمْ (3)، وإِن عَلِمَتْ فِي صَلَاةٍ بِعِتْقٍ مَكْشُوفَةُ رأْسٍ، أَو وَجَدَ عُريان ثوبًا استتر إِن قربَ (4) وإلا أَعاد بوقت، وإن كان
= الله عنه المتفق عليه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، ليس على فرجه منه شيء، وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه. يعني شيء، أخرجاه في الصحيحين. والاحتباء والحبوة أن يقعد على إلْيتيه وينصب ساقيه ويلف عليه ثوبًا. والاشتمال بالصماء: هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانبًا ولا يبقي ما تخرج منه يده. قال ابن قتيبة اشتقاقه من الصخرة الصماء التي ليس فيها خرق. قال لأنه يسد المنافذ كلها فيصير كالصخرة. هذا تفسير أهل اللغة له. وقال أهل الفقه هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيصير فرجه باديًا. قال النووي: وهو بتفسير أهل اللغة مكروه لئلا تعرض له حاجة إخراج يده فيعسر عليه ذلك. وهو بتفسير الفقهاء حرام لكشف العورة. ا. هـ. من الشوكاني في نيل الأوطار. والله الموفق.
(1)
وقوله: وعصى وصحت إن لبس حريرًا الخ. هذه الأمور اجتهادية جرى الخلاف فيها بين المذاهب بناء على انفكاك الجهة؛ فمن يقول هي صحيحة يقول: الجهة منفكة قد يوجد لابس الحرير غير مصل وهو عاص بلبسه ذلك، وقد يوجد المصلي وهو غير لابس للحرير، وهو مؤدٍ لفرضه فإذا لبس الحرير وصلى به عصى بلبسه وصحت صلاته. وقس على ذلك بقية المسائل؛ من السرقة ونظر المحرم والغصب ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله: وإن لم يجد إلا سترًا لأحد فرجيه الخ. هي الأخرى مسألة الطريق فيها الاجتهاد. والله تعالى أعلم بالحقيقة فيها.
(3)
قول المُصَنف: ومن عجز صلى عريانًا الخ. تقدم ذكر قول مالك في حكم صلاة العريان عند قول المُصَنف: لا عاجز صلى عريانًا فأغنى عن إعادته هنا.
(4)
وقوله: وإن علمت في صلاة بعتق مكشوفة رأس أووجد عريان ثوبًا استتر إن قرب؛ هو مبني على شطر قاعدة خلافية هي قولهم: هل كل أجزاء الصلاة مستقلة، أو أولها تتوقف صحته على =
لعراة ثَوْبٌ صَلَّوْا أَفذاذًا، ولأَحدهم ندب له إعارتهم (1).
= آخرها، وعقد ذلك علي الزقاق في المنهج المنتخب فقال:
هل كل جزء من صلاة مستقل
…
أو أول وقف لآخر قبل
عليه طارى العتق فيها والنجس
…
وأمكن الستر ونزع ما لبس
وقد تبين لك إجراء مسألة الأمة التي طرأ عليها العتق وهي في الصلاة، فعلى أن كل جزء من الصلاة مستقل؛ غطت رأسها وأتمت صلاتها، وعلى أن بعضها تتوقف صحته على صحة البعض الآخر؛ قطعت صلاتها واستأنفت الصلاة من جديد على أساس الحرية. وكذلك العريان الذي صلى أول صلاته عريانًا ثم وجد ما يستتر به أثناء الصلاة؛ يجري أمره على هذه القاعدة. والله الموفق.
(1)
وقول المؤلف: وإن كان لعراة ثوب صلوا أفذاذًا، ولأحدهم ندب له إعارته؛ ظاهر ووجيه جدًا، والذي يبدو لي أن مأخذه الاستنباط السليم. والله تعالى الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
استقبال القبلة
فصل:
وَمَعَ الأمْنِ استقبال عَيْنِ الكعبة لمن بمكَّة (1)، فَإِنْ شَقَّ ففي الاجتهَادِ نظر،
(1)
قول المصنف: ومع الأمن استقبال عن الكعبة لمن بمكة، دليله قوله تعالى:{وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأسْبغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ" الحديث، قال الشوكاني: وهو يدل على وجوب الاستقبال، وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز أو في الخوف عند التحام القتال أو في صلاة التطوع. ا. هـ. منه.
وقد دل على وجوب استقبال القبلة القرآن في قوله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ائمَسْجِدِ ائحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
(2)
ومن الأدلة التي جاءت بها السنة حديث أنس الصحيح. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلهَ إلَّا اللهُ فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلّوْا صَلَاتنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأمْوَالُهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عز وجل" ا. هـ. ذكره الشوكاني في نيل الأوطار.
وقول المؤلف: ومع الأمن؛ يشر إلى أنه إذا اختل الأمن، واشتد الخوف عند التحام القتال، ابتدأ الصلاة إلى القبلة وصلى إلى غيرها راجلًا أو راكبًا يومىُّ إيماء على قدر الطاقة، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وذلك كقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
(3)
. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: فإن كان خوفًا فهو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال نافع: لا أرى ابن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. من مغني ابن قدامة.
وأما جواز الصلاة في التطوع إلى غير القبلة فهو قوله تعالى {وَلِلَّهِ ائمَشْرِقُ وَائمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(4)
. قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك. وعن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره، وفي رواية: كان يسبح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه يومئُ =
(1)
سورة البقرة: 144.
(2)
سورة البقرة: 144.
(3)
سورة البقرة: 239.
(4)
سورة البقرة: 115.
وإِلا فالأَظهر جهتُهَا اجتهادًا، كأَن نُقِضَتْ، وبطَلَتْ إنْ خَالَفَها وإِن صَادَفَ، وَصَوْبُ سَفَرِ قَصْرٍ لِرَاكِب دَابَّةٍ فَقَطْ وِإنْ بِمحْمَلٍ بدلٌ في نَفْلٍ وَإِنْ وتْرًا، وإِن سَهُلَ الإِبْتِدَاءُ لَهَا، لا سفينةٍ فيدُورُ مَعَهَا إنْ أَمْكَنَ وَهَلْ إنْ أَوْمَأَ أَو مُطلَقًا تأْويلان (1). وَلَا يُقَلَّدُ مُجْتَهِدٌ غَيْرَهُ وَلَا مِحْرَابًا إِلَّا لِمصْرٍ وَانْ أَعْمَى، وَسَأَلَ عَنِ
= برأسه. وكان ابن عمر يفعله. متفق عليه، وللبخاري: إلا الفرائض، ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوية. ا. هـ. من مغني ابن قدامة.
(1)
وقول المؤلف: وإلا فالأظهر جهتها اجتهادًا الخ. دليله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ". رواه ابن ماجة والترمذي وصححه. وحديث أبي أيوب رضي الله عنه لفظه: "وَلكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا" ذكره منتقى الأخبار. قال الشوكاني: الحديث يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة الجهة لا العين. وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي. ا. هـ.
وأخرج الموطإ عن مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت.
وفي البغوي: وحكى عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة أهل المشرق والمغرب. وهو قول مالك رضي الله عنه. ا. هـ.
وقول المُصَنِّف: وصوب سفر قصر لراكب دابة فقط، يأباه ما جاء من اطلاق الركوب في الحديث المتفق عليه: كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ. الحديث فلا يتقيد بكونه يجوز في سفر قصر فقط إلا بدليل.
ولابن قدامة في المغني هنا كلام نفيس، قال: ولأن إباحة الصلاة على الراحلة تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعها وتقليلها. وهذا يستوي فيه الطويل والقصير؛ والقصر والفطر لمراعاة المشقة وإنما توجد غالبًا في الطويل، قال القاضي: الأحكام التي يستوي فيها الطويل من السفر والقصير ثلاثة: التيمم وأكل الميتة في المخمصة والتطوع على الراحلة، وبقية الرخص تختص بالطويل: الفطر والجمع والمسح ثلاثًا. ا. هـ. منه.
الأدِلَّةِ (1)، وَقَلَّدَ غَيْرُهُ مُكَلَّفًا عارفًا أَو محْرابًا، فَإِن لَّمْ يَجِدْ أَوْ تحَيَّرَ مُجْتَهِدٌ تَخيَّرَ وَلَوْ صَلَّى أَربَعًا لَحسُنَ واختيرَ (2). وَإِنْ تَبَيَّنَ خَطأ بِصَلَاةٍ قَطَعَ غَيْرُ أَعْمَى، وَمُنْحَرِفٍ
(1)
قول المُصَنِّف: ولا يقلد مجتهد غيره الخ. المجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها وإن كان جاهلًا لأحكام الشرع، فإن كل من علم أدلة شيء كان مجتهدًا فيه وان جهل غيره، وأوثق أدلتها النجوم. قال تعالى:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
(1)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
(2)
.
(2)
وقوله أو تحير مجتهد تخير الخ؛ لم يرد فيه حديث صالح للاحتجاج به. من ذلك ما أخرجه البيهقي بلفظ: صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة، فلما انصرفنا نظرنا فإذ انحن قد صلينا الى غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"قَدْ أَحْسَنْتُمْ". ولم يأمرنا أن نعيد. وله طرق أخرى بنحو هذه، وفيها أنه قال:"قد أجْزَأَتْ صَلَاتُكُمْ". قال الشوكاني: ولكنه تفرد به محمد بن سالم ومحمد ابن عبيد الله العرزمي عن عطاء، وهما ضعيفان.
وقوله: ولو صلى أربعا لحسن واختير؛ هو بمحض الاجتهاد، لكنه يتفق مع رأي البغوي إذ يقول في الكلام على حديث ابن عمر المتفق عليه في تحويل القبلة، يقول: وفيه دليل لحى أن الرجل إذا اشتبه عليه القبلة واجتهد وصلى إلى جهة باجتهاده، ثم في الصلاة الثانية أدى اجتهاده إلى جهة أخرى، يصلي الصلاة الثانية إلى الجهة الأخرى، حتى ولو صلى أربع صلوات بأربع اجتهادات الى أربع جهات لا يجب إعادته.
قلت: وما يقول المُصَنِّف من استحسان الصلاة الواحدة إلى الجهات الأربع؛ فيه ما فيه من التناقض مع يسر هذا الدين ونفي المشقة فيه، وأنه لا يطلب من المرءِ في أي أمر كائن ما يكون إلَّا بلوغ الوسع. وأيضًا فإنه من المعلوم أن الصلاة هي من أشد التعبديات توغلًا في التعبد، وقد فرضت مرة واحدة في الوقت، فكيف يتصور استحسان الإتيان بظهر واحد مثلًا أربع مرات؟. فهلا كان في ذلك زيادة على ما أمر به الشارع، مما لم تظهر لنا علة الأمر به؟. نسأله التوفيق جل وعلا إلى ما فيه رضاه إنه سميع مجيب.
(1)
سورة النحل: 16.
(2)
سورة الأنعام: 97.
يَسيرًا فيستَقْبِلانِهَا، وبَعْدَهَا أعَادَ في المختار (1). وَهَلْ يُعيدُ النَّاسِي أَبَدًا؟. خِلَافٌ، وجَازَتْ سُنَّةٌ فِيهَا وَفِي الحِجْر لأَيِّ جِهَةٍ (2)، لَا فَرْضٌ فيعاد في الوقْتِ، وَأُوِّلَ بِالنّسْيَانِ وبالإِطلَاقِ، وَبَطَلَ فَرْضٌ على ظَهْرِهَا كَالرَاكِبِ (3) إلَا لِالْتِحَامٍ أَو خَوْفٍ مِن كسَبُعٍ وَإِنْ لِغَيْرِهَا وإِنْ أَمنَ أَعَادَ الخائف بوقت (4) وإِلا لخضخاض لا يطيق النزول به أو لمرض، ويؤديها عليها كالأرض فلها وفيها كراهة الأخير (5).
(1)
قوله: وإن تبين خطأ بصلاة قطع الخ. لا أدري كيف توجيهه مع منطوق حديث أهل قباء المتفق عليه في تحويل القبلة، فإنهم تبين خطؤهم في الصلاة فلم يقطعوا بل إنهم استداروا وبنوا على ما صلوا. ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمر: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها -وكانت وجوههم إلى الشام- فاستداروا إلى الكعبة. ا. هـ. فإن قيل: أهل قباء لم يكونوا مخطئين في استقبالهم أولًا. فالجواب: ان من استقبل جهة أداها إليه اجتهاده لم بكن مخطئًا، بل هو فاعل لما أمر به، وإذًا فإنه مثل أهل قباء؛ عليه أن يستدير إلى الجهة الثانية ويبني على ما مضى من صلاته. والله الموفق.
(2)
وقوله رحمه الله: وجازت سنة فيها الخ. بدليل حديث عبد الله بن عمر المتفق على صحته ولفظه كما في شرح السنة للبغوي: عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، قال عبد الله بن عمر فسألت بلالًا حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال: جعل عمودًا عن بساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة عن وراثه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى. ا. هـ. قال البغوي: فيه دليل على جواز الصلاة داخل الكعبة وهو قول عامة أهل العلم.
وقوله: لا فرض الخ. هو رأي الإمام وحمل منه لهذا الحديث على ذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.
(3)
وقوله: وبطل فرض على ظهرها الخ. هو قول عامة أهل العلم، وقال الشافعي: إذا كان بين يديه من شرفة البيت بقدر مؤخرة الرجل صح. والله تعالى أعلم بالصواب، فلا نص في ذلك. =
فرائض (1) الصلاة
فصل:
فَرائِضُ (1) الصَّلَاة تكبيرهَ الإِحْرَام (2) وَقيامٌ لَهَا إِلا لِمَسْبُوقٍ فَتَأُوِيلَانِ، وِإِنَّمَا
= (4) وقوله: إلا لالتحام الخ. قد تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: ومع الأمن استقبال عين الكعبة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا والحمد لله.
(5)
وقوله رحمه الله: وإلا لخضخاض لا يطيق النزول به الخ. هوفروع لا نص فيها وطريقها محض الاجتهاد، ويستأنس بقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتطَعْتم". وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(2)
. والله تعالى الموفق.
(1)
قوله: فرائض الصلاة، هذه الفرائض جاءت مجتمعة في حديث المسيء صلاته المتفق عليه، ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنكَ لَمْ تُصَلِّ". حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أعلم غير هذا. فقال: "إذَا قمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّر ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمِّ ارفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِن سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّي تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذلِكَ فِي صَلَاِتكَ كُلِّهَا". هذا لفظ ابن خزيمة.
قال في بلوغ المرام واللفظ للبخاري: "إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأسْبغِ ائوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ ائقِبْلَةَ فَكَبِّرْ الخ" الحديث، وفي رواية أبي داود:"ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتابِ وَبمَا شَاءَ اللهُ". وفي رواية ابن حبان "ثُمَّ بِمَا شِئْتَ". وهذا الحديث هو المرجع في معرفة واجبات الصلاة. فكل ما هو مذكور فيه واجب، وما خرج عنه وما قامت عليه أدلة تدل على وجويه اختلف فيه. والله الموفق.
(2)
وقوله: تكبيرة الإحرام، قال في المدونة: وقال مالك: تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم. وفي سنن الدارمي ما نصه: أخبرنا جعفر بن عون عن سعيد بن أبي عروية ثنا بديل العقيلي عن أبي الجوزاء عن عائشة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ويختمها بالتسليم. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة البقرة: 286.
(2)
سورة التغابن: 16.
يُجْزِئُ: اللهُ أَكْبَرُ (1). فإِن عَجَزَ سَقَطَ، وَنِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ (2)، ولَفْظُه وَاسعٌ، وَإِنْ تَخَالَفَا فَالعَقْدُ، والرَّفْضُ مُبْطِلٌ، كَسَلَامٍ أَو ظَنِّهِ فَأتَمَّ بِنَفْلٍ إنْ طَالَتْ أَوْ رَكَعَ وَإِلَّا فَلَا؛ كَأَن لَمْ يَظُنَّهُ أَوعَزَبَتْ أو لم ينو الرَّكَعَاتِ أَو الْأدَاءَ أو ضِدَّهُ، وَنيةُ اقْتِدَاءِ
= وأخرج في منتقى الأخبار عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مِفْتَاحٌ الصَّلَاة الطّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ". وقال: رواه الخمسة إلَّا النسائي: وقال الترمذي: هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
(1)
وقوله: وإنما يجزئُ: الله أكْبَرُ؛ لقول مالك في المدونة: ولا يجزئ من الإحرام في الصلاة إلا: اللهُ أكْبَرُ. ا. هـ. منه، قال ابن قدامة في المغني: ان الصلاة لا تنعقد إلَّا بقول: الله أكْبَرُ. عندو إمامنا مالكَ. وكان ابن مسعود، وطاوس، وأيوب، ومالك، والثوري، والشافعي يقولون: افتتاح الصلاة التكبير، وعلى هذا عوام أهل العلم في القديم والحديث. إلا أن الشافعي قال: تنعقد بقوله: اللهُ الأكْبَرُ، لأن الألف واللام لم تغيره عن بنيته. ا. هـ. منه. ودليل عدم إجزاء الصلاة بغير التكبير قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:"إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ". الحديث المتفق عليه وقد مر قريبًا؛ وأنه صلى الله عليه وسلم كان فتح الصلاة بقوله: "اللهُ أَكْبَرُ". ولم ينقل عنه عدول عن ذلك حتى فارق الدنيا؛ قال ابن قدامة: وهذا يدل على أنه لا يجوز العدول عنه، وما قاله أبو حنيفة بخالف دلالة الأخبار فلا يصار إليه، إلى أن قال: وما قاله الشافعي عدول عن النصوص. ا. هـ. منه.
قلت: والصلاة هي أشد التعبديات توغلًا في التعبد، لذلك فينبغي أن لا يعدل بشيء منها عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، لقوله عليه الصلاة والسلام:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي". والله ولي التوفيق.
وقوله: فإن عجز سقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمرْتُكُمْ بِشَيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وأمثاله من الكتاب والسنة.
(2)
وقوله: ونية الصلاة المعينة الخ. لما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، فقال: باب إحداث النية عند دخول كل صلاة يريدها المرء فينويها بعينها -فريضة كانت أو نافلة- إذ الأعمال إنما تكون بالنية. وإنما يكون للمرء ما نوى بحكم النبي المصطفى. ثم ساق سند حديث عمر بن الخطاب =
المأْموم (1) وَجَازَ لَهُ دُخولٌ عَلَى مَا احْرَمَ بِهِ الإِمَامُ (2)، وَبَطَلَتْ بِسَبْقِهَا إِنْ كَثُرَ وإِلَّا فَخِلَافٌ، وفَاتِحَةٌ بِحَرَكَةِ لِسَانٍ عَلى إِمَام وَفَدٍّ وإن لَم يُسْمِعْ نَفْسَهُ وَقِيَامٌ لَهَا
= المتفق عليه: "إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
وقول المُصَنف: ولفظه واسع، يحتمل أنه بمعنى غير مضيق فيه، فإن شاء نوى: أصلي فرض الظهر مثلًا، أو صلاة الظهر ونحو ذلك. كما يحتمل أنه بمعنى خلاف الأولى أي واللفظ بالنية خلاف الأولى. فالأولى أن لا تلفظ لأن النية محلها القلب، قال الفقهاء من أصحابنا: لا كراهة على الموسوس في التلفظ بالنية لدفع الوسواس عنه. والله اعلم.
وقوله: وإن تخالفا فالعقد، أي لأنه هو المعتبر؛ وهذا إذا كان وقع الاختلاف بين لفظه ونيته ساهيًا، أما إذا وقع ذلك منه تعمدًا بطلت صلاته قطعًا لتلاعبه بها. وبالله التوفيق.
(1)
قوله: ونية اقتداء المأموم؛ أي بإمامه ليتمكن من متابعته الواجبة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِل الإمَامُ لِيُؤتَمَّ به إذَا كَبَّرَ فَكَبَّرُوا وإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ. وَإِذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا، وإذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أجْمَعُونَ". أخرجه الشيخان والموطأ. ا. هـ.
فإن تابعه من غير أن ينوي الاقتداء به بطلت صلاته؛ لأن المتابعة في الصلاة عمل، وفي الحديث المتفق عليه:"إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". والله الموفق.
(2)
قول: وجاز دخول على ما أحرم به الإمام؛ هو مخصص لعموم قوله قبل: ونية الصلاة المعينة. فكانه يقول: لابد أن ينوي الصلاة المعينة، فإن ترك ذلك التعيين بطلت صلاته. إلا أن ينوي ما أحرم به الإمام، وذلك تصوره في مسألتين:
الأولى: أن يجد إمامًا في صلاة ولا يدري أهو في جمعة أوفي ظهر؛. فيحرم بما أحرم به هذا الإمام، فيجزئ ما تبين منهما.
والثانية: أن يكون شخص مسافرًا أدرك صلاة إمام لا يدري أمسافر هو أومقيم، فيحرم بما أحرم به، فإن تبين أن امامه مسافر سلم معه، وإن تبين أنه مقيم لزمه إتمام الصلاة معه. ودليل جواز الإحرام =
فيجِبُ تَعَلُّمُهَا إن أَمكن (1)، وإلَّا ائْتَمَّ فَإِن لمْ يمكنا فالمختار سقوطهما (2).
= بما أحرم به المقتدى به، الحديث المتفق عليه عن جابر أن عليًا رضي الله عنه قدم من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بِمَ أَهْلَلْتَ؟ " فقال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا". وعن أبي موسى رضي الله عنه مثله. متفق عليه أيضًا. ا. هـ. الزوايد ص 277.
(1)
وقوله: وفاتحة بحركة لسان على إمام وفذ، دليله ما جاء في سنن الدارمي - باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب - أخبرنا عثمان بن عمر، ثنا يونس عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ لَمْ يَقْرا بِأُم الكِتابِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ". ا. هـ. ولا بد فيها من حركة لسانه لما أخرجه البيهقي في سننه عن عبد الله بن سخبرة قال: سألت خبابًا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأولى والعصر؟. قال: نعم. قال قلنا بأي شيء كنتم تعرفون ذاك؟. قال باضطراب لحيته. ا. هـ. وقال: مخرج في الصحيحين. وفيه دليل على أنه لابد من أن يحرك لسانه في القراءة. ا. هـ.
وأخرجه البغوي عن عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال:"إِنِّي أُرَاكُمْ تَقْرَؤُونَ وَرَاءَ إِمَامِكُمْ". قال: قلنا: يارسول اللْه أي والله. قال: "لَا تَفْعَلوا إِلَّا بِأُمِّ ائكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأُ بِهَا". قال البغوي: وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي سنن البيهقي من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ". وقال: رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني، ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة. ا. هـ. منه.
وقال الشوكاني في الكلام على هذا الحديث: والحديث يدل على تعيين فاتحة الكتاب في الصلاة وإنه لا يجزئ غيرها. وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العُلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. ا. هـ. منه.
وقال أبو حنيفة: يجزئ شيء من القرآن تمسكًا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} .
(1)
وبقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: "ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسرَّ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ". والجواب عن الآية أنها تبينها السنة بحديث عبادة بن الصامت المتفق عليه وأمثاله، وعن الرِّواية التي احتجوا بها من حديث =
(1)
سورة المزمل: 20.
وَنُدِبَ فَصْلٌ بَيْنَ تَكْبِيرهِ وَرُكُوعِهِ (1)، وَهَلْ تَجِبُ الْفَاتِحَةُ فِي كُل رَكْعَةٍ أو الْجُلِّ
= المسيء صلاته، أنه ورد في لفظ هذا الحديث من رواية أحمد وأبي داود وابن حبان:"ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ". فتحصل أن قوله مَا تَيَسَّرَ في الرِّواية الأخرى للحديث مجمل مبين، أو مطلق مقيد، أو مبهم مفسر، إذ لا محيد له عن إحدى هذه الحالات.
وقوله: فيجب تعلمها إن أمكن، أي لأن الأحاديث التي تدل على فرضيتها هي الدليل على وجوب تعلمها، للقاعدة المقررة في الأصول: إن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، هو واجب بوجوب ذلك الواجب المتوقف عليه. والله الموفق.
(2)
وقوله: وإلا ائتم فإن لم يمكنا فالمختار سقوطهما؛ يريد به -والله أعلم- أنه إن لم يمكن المكلف تعلم الفاتحة -لبلادة مثلًا أو لأي عائق آخر- وجب عليه الاقتداء بغيره ممن يحفظ الفاتحة شرطًا في صحة صلاته، لأنه إن صلى فذًا مع وجود من يحفظ الفاتحة بطلت صلاته، فإن لم يمكن التعلم ولم يوجد من يؤتم به، ممن هو حافظ للفاتحة، سقط عنه فرضهما؛ أي فرض قراءة الفاتحة وفرض الالتمام. والدليل قوله صلى الله عليه وسلم عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن الجارود وابن حبان والحاكم والدار قطني، من حديث ابن أبي أوفى، أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا استطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال:"قُلْ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلَا إلهَ إلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وِلَا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ". ا. هـ. نيل الأوطار.
وأيضًا فإنه معلوم أن الاستطاعة شرط في التكليف لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
. الآية.
(1)
وقوله: وندب فصل بين تكبيره وركوعه؛ أي بناء على ما مشى عليه من اختيار اللخمي لسقوط الفاتحة وبدلها، فهو في هذه الحالة يندب له أن يقف قدر ما تقرأ به الفاتحة بعد التكبير قبل الركوع، وقد علمت الدليل على أنه إن لم يقدر على الفاتحة ذكر الله؛ وهو حديث ابن أبي أوفى المتقدم ذكره والله الموفق.
(1)
سورة البقرة: 286.
خَلَافٌ (1) وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا آيَةً سَجَدَ. وَرُكُوعٌ تَقْرُبُ رَاحَتَاهُ فِيهِ مِن رُكبتَيْهِ، ونُدِبَ
(1)
وقوله: وهل تجب الفاتحة في كل ركعة او الجل خلاف؛ استدل القائلون بوجوب الفاتحة في كل ركعة بحديث عبادة بن الصامت المتقدم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ". وهذا الاستدلال وارد على شطر القاعدة الخلافية: هل الأمر يقتضي التكرار أولا؟. أما على الشرط الآخر - إنه لا يقتضي التكرار- كان الاستدلال بالحديث على وجوب الفاتحة في كل ركعة غير ظاهر، لأنه والحالة هذه يصدق بقراءتها في ركعة واحدة على قراءتها في الصلاة كلها، غير إن وجولها في كل ركعة الذي يقتضيه شطر القاعدة الأول من أن الأمر يقتضي التكرار، يؤيده هنا ما أخرجه مالك في الموطإ والترمذي وصححه عن جابر إنه قال:"مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأُ فِيهَا بأُمِّ القُرْآنِ فَلَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاءَ الإمَامِ". وقال النووي في شرح مسلم وابن حجرفي فتح الباري على البخاري: إن وجوب الفاتحة في كل ركعة هو مذهب الجمهور.
قال الشوكاني: ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي
وأبي ثور. قال: وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلَّا في الناسي -إلى أن قال- واستدلوا أيضًا
على ذلك بما وقع عند الجماعة، واللفظ للبخاري من قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: "ثُمَّ افْعَلْ ذلِك فِي صَلَاتِكَ
كُلِّهَا". وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته، أنه قال في آخره: "ثُمَّ افْعَلْ
ذلِكَ فِي كُل رَكْعَةٍ". ا. هـ. منه.
قلت: ووجولها في كل ركعة هو الذي يؤيده الدليل لحديث أبي قتادة عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وفيه بيان لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
(1)
. أنه الفاتحة، وأنها في كل ركعة كما بِنت السنة قوله تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(2)
بأن شاة تجزئ ضحية. ولحديث: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرا فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا". عند البخاري ومسلم وأبي عوانة والبيهقي.
ولحديث: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرأْ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ ائكِتَابِ". وفي رواية: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً =
(1)
سورة المزمل: 20.
(2)
سورة البقرة: 196.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتاب فَهِيَ خِدَاجٌ هِيَ خِدَاجٌ هِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تمَام". عند مسلم وأبي عوانة. وقوله: خداج أي ناقصة.
وناهيك بالفاتحة عظمة أن اللهُ تعالى سماها الصلاة في الحديث القدسي الذي يرويه النبى عن ربه. ولفظه:
"قَالَ اللهُ تعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي نِصْفيْنِ؛ فَنِصْفهَا لِي فَنِصْفُهَا لعَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرؤُوا: يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُول اللهُ: حَمِدَنِى عَبْدِي. وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَقُولُ اللهُ تَعالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبدِي. وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُول اللهُ: مَجَّدَني عَبْدِي. يقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. قالَ: فَهذِهِ الآية بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَألَ. يقُول الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: فَهؤلَاء لِعَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَألَ" رواه مسلم وأبو عوانة ومالك، وأما دليل القيام في الصلاة فهو قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(1)
وهو فرض في صلاة الأمن في الفرض، فإن كان الخوف رخص للأمة الصلاة على الأقدام أو طى ظهور الخيل ونحوها من المراكب. لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
(2)
.
وقوله: وإن ترك منها آية سجد؛ فهو بمحض الاجتهاد، ومراده به أن الفذ أو الإمام إن ترك آية من الفاتحة سهوًا، ولم يمكنه تلافي ذلك بأن ركع، سجد قبل سلامه فإن أمكن تلافيها فعل، فإن لم يسجد من تركها سهوًا، أو كان تركها عمدًا بطلت صلاته. والله اعلم بمستنده وهو الموفق.
وأما تفريعهم على أن من تركها كلها من ركعة سهوًا سجد قبل السلام، فهو خلاف ما يؤيده الدليل؛ لما وقفت عليه قبل من حديث جابر عند الموطإ والترمذي وصححه:"مَنْ صَلَّى رَكْعَة لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتابِ فَلَمُ يُصَل إلَّا وَرَاءَ الإمَامِ". والعلم عند الله.
(1)
سورة البقرة: 238.
(2)
سورة البقرة: 239.
تَمْكينُهُمَا مِنْهُمَا (1)، وَرَفْعٌ مِنْهُ (2). وَسُجُودٌ عَلى جبهته، وأعَادَ لِتَرْكِ أَنْفِه بِوَقْتٍ، وسُنَّ عَلى أَطْرافِ قدمَيْه ورُكبُتَيْهِ كيَدَيْهِ عَلَى الأصَحِّ (3)، ورَفْعٌ مِنْهُ (4)، وَجُلُوسٌ لِسَلَامٍ وسلامٌ عُرِّفَ بأَلْ، وفي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الخُروجِ بِهِ خِلافٌ (5)، وأجْزَأَ فِي تَسْليمةِ الرَّدِّ: سَلَامٌ عليكم، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ (6).
(1)
قوله: وركوع تقرب راحتاه فيه من ركبتيه. وندب تمكنهما منهما؛ بين فيه صفة الركوع في الصلاة. وفي حديث أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركع فوضع يديه على ركبتيه، كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه. وفي حديث المسيء صلاته عند ابن حبان:"إذَا رَكَعْت فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، ثُمَّ فَرّجْ بَيْنَ أصَابِعِكَ، ثُمَّ امْكُثْ حَتَّى يَأخُذَ كُل عُضْوٍ مَأْخَذَهُ".
قلت: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالتواتر أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع.
واتفق البخاري ومسلم على تخريجه. وقال الدارمي في سننه: باب في رفع اليدين في الركوع وفي السجود؛ أخبرنا عثمان بن عمر، أنا مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الصلاة كبر، ورفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع كبر ورفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يرفع بين السجدتين أو في السجود.
وأخبرنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا شعبة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع رأسه من الركوع. وأخبرنا سهل بن حماد ثنا شعبة عن عمرو بن مرة حدثني ابو البختري عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل الحضرمي أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكبر اذا خفض وإذا رفع، ويرفع يديه عند التكبير، ويسلم عن يمينه وعن يساره. قال: قلت: حتى يبدووضح وجهه؛. قال: نعم. ا. هـ.
(2)
وقوله: ورفع منه؛ أي رفع من الركوع، قال صلى الله عليه وسلم:"ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتوِي قَائِمًا". وقد تقدم بيان أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم كان -بأبي وأمي هو- يرفع يديه إلى منكبيه كلما رفع رأسه من ركوعه، كرفعه لهما إذا أحرم وإذا ركع. والله الموفق.
(3)
قوله: وسجود على جبهته وأعاد لترك أنفه .. الخ. أما الدليل على السجود على الجبهة فهو ما أخرجه الشيخان -واللفظ للبغوي- من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه، قال: عن ابن عباس أن =
.........................................................................
= رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْضَاء؛ عَلَى الْجَبْهَةِ، وأشار بيده اليه، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ. وَأطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا أَكفَّ الثَّوب وَلَا الشَّعْرَ". ا. هـ. قال البغوي: ذهب عامة أهل العلم إلى أن وضع الجبهة في السجود واجب، ولو لم يضع أنفه أجزأه. أما وضع اليدين، والركبتين، والقدمين، فأوجبه الشافعي في أظهر قوليه. ا. هـ. منه.
ودليل السجود من أصله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء: "ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا". وقال ابن قدامة في المغني: والسجود على جميع هذه الاعضاء واجب إلَّا الأنف فإن فيه خلافًا سنذكره إنشاء الله. ثم استدل على الوجوب بحديث ابن عباس المتفق عليه والذي تقدم ذكره، وقال ابن قدامة أيضًا: وفي الأنف روايتان؛ فاستدل على وجوب السجود عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُم الْجَبْهَةِ -وأشار بيده إلى أنفه- وَالْيَدَيْنِ وَالرَّكْبَتَيْنِ وَأطْرافِ الْقَدَمَيْنِ". متفق عليه. قال: وإشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده.
قال: والرواية الثانية؛ لا يجب السجود عليه. وهو قول عطاء، وطاوس، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، والشافعي، وأبي ثور، وصاحبي أبي حنيفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعْظُمٍ" ولم يذكر الأنف فيها. وروي أن جابرًا قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص من الشعر. رواه تمام في فوائده وغيره، وإذا سجد على أعلى الجبهة لم يسجد على الأنف. ا. هـ. منه.
قلت: ولعل وصف السجود على غير الجبهة من الأعضاء السبعة - في بعض المذاهب - بأنها سنة وفي غيرها بالوجوب، لعله خلاف لفظي؛ لأن بعض المذاهب يعبر عما نسميه السنة المؤكدة في مصطلحنا، بالواجب، قال في مراقي السعود:
وبعضهم سمى الذي أكِّدا
…
منها بواجب فخذ ما قيِّدا
وهو تعبير الحنابلة وابن أبي زيد القيرواني من أصحابنا حيث يقول فى رسالته: والوتر سنة واجبة. والعلم عند الله تعالى.
(4)
قوله: والرفع منه؛ أي والرفع من السجود. قال صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته: "ثُمَّ ارْفع حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (5) قوله: وجلوس لسلام وسلام عرف بال؛ أي ويجب الجلوس لأداء السلام منه، فلو سلم قائمًا أو راكعًا أوساجدًا بطلت صلاته. ومن واجبات الصلاة تسليمة التحليل، ويجب كونها بالتعريف بالألف واللام، ودليل وجوب تسليمة التحليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" رواه أحمد وابو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن. قال الدردير: ولو قال: وسلام وجلوس له كان أحسن.
(6)
وقوله: وأجزأ في تسليمة الرد: سلام عليكم، وعليك السلام؛ أي في تسليمه على الإمام ومن على اليسار. سلام عليكم -بالتنكير- وعليك السلام بالتعريف، وأشعر قوله: وأجزأ، أن الأفضل الإتيان بها كالتحليل.
والسلام عندنا يكتفي المصلي فيه بتسليمة واحدة، لما روي عن سعيد بن جبير عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه؛ يميل إلى الشق الأيمن شيئًا. قال البغوي: وفي إسناده مقال، قلت: وأخرجه الترمذي في الصلاة؛ باب ما جاء في التسليم للصلاة، وأخرجه الحاكم وأخرجه ابن ماجة باب من يسلم تسليمة واحدة ولفظه: حدثنا هشام بن عمار، ثنا عبد الملك بن محمد الصاغاني، ثنا زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عالْشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وأخرج مثله عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه كذلك عن سلمة بن الأكوع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فسلم مرة واحدة، ولكنه قال في الزوائد: إسناده ضعبف لضعف يحيى بن راشد. ا. هـ.
غير أن التسليمتين ثابتتان عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا لما أخرجه الدارير، قال: باب التسليم في الصلاة؛ حدثنا خالد بن مخلد، ثنا عبد الله بن جعفر عن اسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن أسعد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه حتى يرُى بياض خده، ثم يسلم عن يساره حتى يرى بياض خده. ا. هـ.
وأخرج ابن ماجه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نميرثنا عمربن عبيد، عن أبي إسحاق، عن ابن الأحوص، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله، وأخرج نحوه عن عمار بن ياسر وعن عامر بن سعد عن أبيه وعن أبي موسى، وفي =
وَطُمَأْنِينَةٌ (1) وَتَرْتيبُ أَدَاءٍ (2) واعْتِدالٌ على الأصَحِّ والأكْثَرُ عَلى نَفْيِهِ (3).
= البغوي من حديث عامر بن سعد عن سعد: كنت أرى صفحتي خدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
قلت: يتضح مما مر من النقل أن كلًا من التسليمتين، والاقتصارعلى التسيمة الواحدة سنة ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجه بتاتًا للتشنيع على من عمل بهذه أو بهذه. وبالله التوفيق. وأما قول المُصَنِّف: وفي اشتراط نية الخروج به خلاف؛ يريد به أنه وقع خلاف بين الفقهاء؛ هل يشترط نية الخروج من الصلاة بسلامه، قياسًا على افتقار تكبيرة الإحرام الى النية، أو لا يشترط ذلك وإنما يندب فقط لانسحاب النية الأولى؟. قال سند في الأول: إنه هو ظاهر المذهب. وقال الفكهاني في الثاني: إنه هو المشهور، وكلام ابن عرفة يفيد أن المعتمد، إلَّا أنه قد يبحث فيما ذكر من التعليل بأن نية الأولى نية مدخلة، ولا ينايسب السلام الذي به الخروج إلَّا نية مخرجة. قاله الدسوقي وعزاه لشيخه. والله أعلم بمستند ذلك.
(1)
قوله رحمه الله: وطمأنينةٌ؛ دليله حديث أنس بن مالك المتفق عليه، ولفظه عند البغوي: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَ اللهِ إِنِّي لَأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي - وربما قال: مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي - إذا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ". وللبخاري في صفة الصلاة باب: إذا لم يتم الركوع، ما نصه واللفظ للبغوي: عن سليمان قال سمعت زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلًا لا يتم الركوع والسجود قال: ما صلَّيْتَ. ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الْرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ". وهو حديث أخرجه أحمد وأبو داود والبغوى وقال: هذا حديث صحيح.
(2)
وقوله: وترتيب أداءٍ، يريد به -والله أعلم- أن ترتيب أداء فرائضها في أنفسها بأن يقدم النية مثلًا على تكبيرة الإحرام، وهي على الفراءة، وهي على الركوع وهو على السجود وهلم جرًا.
ودليل وجوب الترتيب قوله صلى الله عليه وسلم: "صَلَّوا كَمَا رأَيْتُمُونِي أُصَلَّي". مع ما ثبت من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، فقد واظب على هذا الترتيب، ففى سنن الدارمي ما نصه: باب صفة صلاة رسول =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الله صلى الله عليه وسلم؛ أخبرنا أبوعاصم عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني محمد بن عمرو بن عطاءٍ قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة قال: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: لم؟. فما كنت أكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة. قال: بلى. قالوا: فاعرض.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم كبر حتى يقر كل عظم في موضعه، ثم يقرأ ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ولا يصوب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول:"سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه -يظن أبو عاصم أنه قال: حتى يرجع كل عظم إلى موضعه معتدلًا- ثم يقول: "الله أكْبَرُ" ثم يهوي إلى الأرض؛ فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يسجد، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود فيسجد، ثم يرفع رأسه فيقول:"اللهُ أَكْبَرُ" ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها معتدلًا، حتى يرجع كل = (3) وقوله: واعتدال على الأصح والأكثر على نفيه؛ الأولى أن يقال: والدليل يقوي صحة فرضيته. قال البغوي بعد ذكر الأحاديث السابقة ما نصه: وفي الحديث دليل على وجوب إقامة الصلب في الركوع والسجود، وإليه ذهب الافعي وأحمد واسحاق وقالوا: لو ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود، والطمأنينة فيهما وفي الاعتدال عن الركوع والسجود، فصلاته فاسدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم = للأعرابي في حديث أبي هريرة ورفاعة "ارْجعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلَّ". ثم قال له:"اركَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتْى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا". وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطمأنينة غير واجبة، وكذا الاعتدال عن الركوع والقعود من السجدتين. ا. هـ.
قلت: في الدسوقي ما نصه: فبينه -يعني الاعتدال- وبين الطمأنينة عموم وخصوص من وجه باعتبار التحقيق وإن تخالفا في المفهوم، فيوجدان معًا إذا نصب قامته في القيام أو الجلوس، وبقي حتى استقرت أعضاؤه في محالها زمنًا ما، ويوجد الاعتدال فقط إذا نصب قامته في القيام أو في الجلوس ولم يبق حتى تستقر أعضاؤه، وتوجد الطمأنينة فقط فيمن استقرت أعضاؤه في غير القيام والجلوس كالركوع والسجود. ا. هـ. بلفظه. =
وَسُنَنُهَا سُورَة بَعْدَ الْفَاتِحَةِ في الْأولَى والثَّانِيَةِ، وَقيامٌ لَهَا (1) وجَهْر أَقَلُّه أَنْ
= عظم إلى موضعه معتدلًا، ثم يقوم فيصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك، فإذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما فعل عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة أو القعدة التي يكون فيها التسليم، أخر رجله اليسرى وجلس متوركًا على شقه الأيسر. قال: قالوا: صدقت، هكذا كان صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث المسيء صلاته دليل على وجوب الصلاة على ذلك الترتيب لأنه -بأبي هو وأمي- كان يعبر له في تعليمه له فرائض صلاته، بعد كل فريضة بثم؛ التي هي نص في الترتيب. قال صلى الله عليه وسلم:"إذَا قُمْت إِلَى الصَّلَاةِ فَأسْبغِ الوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تيَسَّرَ مَعَك مِنَ القُرآن ثُمَّ اركَعْ". ألخ. الحديث وقد تقدم نصه.
وحديث أبي حميد الساعدي كما أخرجنا رواية الدارمي له، فقد أخرجه البغوي في شرح السنة وزاد بعد قوله متوركًا "ثُمَّ سَلَّمَ". ورواه الترمذي بإسناد صحيع، وابن حبان وصحى، وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.
(1)
قوله: وسننها سورة بعد الفاتحة في الأولى والثانية؛ قال في المدونة: وقال مالك وإن قرأ بام الكتاب في صلاته كلها، وترك ما سوى ذلك من القرآن فلم يقرأ مع أم القرآن شيئًا في صلاته، قال: تجزئه ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. ا. هـ. منه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في صلاة الصبح. ففي البغوي: باب القراءة في الصبح، قال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالستين إلى المائة. قلت: وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صفة الصلاة، باب القراءة في الصبح، وأخرجه مسلم في الصلاة، باب القراءة في الصبح.
وأخرج البغوي كذلك عن زياد بن علاقة عن عمه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}
(1)
قال الشافعي يعني (ق) ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه مسلم؛ باب القراءة في الصبح، وروايته: فقرأ. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . حتى قرأ: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} . وأخرجه الترمذي وابن ماجه. =
(1)
سورة ق: 10.
يُسْمعَ نَفْسَهُ ومَنْ يليه، وَسِرٌّ بِمَحَلِّهِمَا (1)، وكُلُّ تَكْبيرةٍ إلَّا الإحْرامَ، وَسَمِعَ اللهُ
= وروي عن عقبة بن عامر، قال: كنت أقود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في السفر، فقال لي:"يَا عُقْبَة ألَا أُعْلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟."، فعلمني:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس. ا. هـ. رواه البغوي في شرح السنة، وأخرجه النسائي ورواه أبو داود وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وفي شرح السنة ما نصه: وروي عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان -لرجل كان أميرًا على المدينة. قال سليمان: صليت خلفه فكان يطيل الركعتين الأوليين في الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الركعتين الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الركعتين الأوليين من العشاء بوسط المفصَّل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل وهذا الخبر رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح وصححه ابن خزيمة. والمفصل من القرآن من الحجرات إلى آخر القرآن، والطوال منه من الحجرات إلى آخر والسماء ذات البروج، ووسط المفصل من هذا المحل إلى آخر سورة لم يكن، وقصاره ما بعد ذلك.
(1)
قوله: وجهر أقله أن يسمع نفسه ومن بليه وسر بمحلهما؛ يريد بمحلهما أن محل الجهر بالقراءة صلاة المغرب والعشاء والصبح، ومحل السر صلاة الظهر: العصر. أما الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسر في الظهر والعصر، فهو ما أخرجه الدارمي في سننه قال: باب كيف العمل بالقراءة في الظهر والعصر؛ أخبرنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم القرآن وسورتين معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانًا، وكان يطول في الركعة الأولى. ا. هـ. وأما عن الجهر في صلاة الليل من الفريضة والصبح أخرج الدارمي؛ أخبرنا عثمان بن عمرأنا يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن أم الفضل أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات. ا. هـ. فقولها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب، دليل على أنه كان يجهر فيها. وعن أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:"هَلْ قَرَأ مَعِي أحَدٌ مِنْكمْ آنِفًا". الحديث، وهو دليل على مشروعية الجهر في محله. =
لِمَنْ حَمِدَهُ، لإمَام وفَذٍّ (1). وَكُلُّ تَشَهُدٍ، والجُلُوسُ الأولُ والزَّائدُ على قَدْرِ
= وهذا الحديث في الموطإ؛ باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به، وإسناده صحيح، وهو في الترمذي وأخرجه أبو داود، والنسائي.
والسنة أن يقرأ المصلي بسورة مع فاتحة الكتاب، وأن تكون السورة في الركعة الأولى أطول من التي يقرأ فيها في الثانية، لما رواه أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين في الظهر في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وكان يطول في الركعة الأولى ويقصر في الثانية ويسمعنا الآية أحيانًا، أخرجه البيهقي؛ باب القراءة بعد أم الكتاب، وقال: أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي نعيم عن شيبان ومسلم من أوجه أخر عن يحيى. ا. هـ.
وقال البغوي: قال الشعبي: إذا قرأت القرآن فاقرأ قراءة تسمع أذنيك وتفقه قلبك، فإن الأذن عدلٌ بين اللسان والقلب.
(1)
وقوله: و "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" لإمام وفذ، لما في مسلم والبخاري: كان صلى الله عليه وسلم يرفع صلبه من الركوع قائلًا: "سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه". وأما تخصيصه بالإمام والفذ؛ فإن ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بهِ -إلى أن قال- وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقولُوا: اللَّهُمْ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، يَسْمَعُ اللهُ لَكُمْ فَإن الله تَعَاَلى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَهُ". رواه مسلم وأبو عوانة وأحمد، وأبو داود، كذا في كتاب الصلاة للألباني.
وأما الفذُّ فإنه إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" وإذا اعتدل قائمًا يقول: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ" وذلك لما في المدونة؛ وقال إذا صلى الرجل وحده فقال: سَمِعَ الله لِمنْ حَمِدَهُ. فليقل: اللَّهُمْ رَبَّنَا لك الْحَمْدُ. أيضًا. ا. هـ. منه.
قلت: ومن وظيفة المصلي في الركوع رفع اليدين حذو المنكبين إذا ركع، ورفعهما كذلك إذا رفع رأسه من ركوعه، لما رواه عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبَّر وهما كذلك فركع، ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى تكونا حذو منكبيه ثم قال: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ. ولا يرفع يديه في السجود، ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته. ا. هـ. هذا لفظ البغوي، وهو في سنن أبي داود، ورواه الدار قطني والبيهقي وإسناده صحيح. =
السَّلَامِ مِن الثَّانِي (1)، وَعَلَى الطُّمَأْنِينَةِ (2)، ورَدُّ مُقْتَدٍ عَلى إمَامِهِ ثُمَّ يَسَارِه وَبِه أَحَدٌ، وجَهْرٌ بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ فَقَطْ، وإِن سَلَّمَ عَلى الْيَسَارِ ثُمَّ تكَلَّمَ لَمْ تَبْطُلْ (3). وَسُتْرَةٌ لإِمَامٍ وَفَذٍّ، إنْ خَشِيَا مُرُورًا، ثَابِتٍ غَيْرِ مُشْغِلٍ، في غِلَظِ رُمْح
= وقال البغوي: ورفع اليدين حذو المنكبين في هذه المواضع الأربع متفق على صحته، يرويه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: عمرُ وعليُّ بن أبي طالب، ووائل بن حجر، وأنس، وأبو هريرة، ومالك بن الحويرث، وأبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم. وإليه ذهب من التابعين: الحسن البصري، وابن سيرين، وعطاءٌ، وطاوس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن جبير، ونافع، وقتادة، ومكحول وغيرهم.
وبه قال الأوزاعي، ومالك في آخر أمره، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. ا. هـ. منه. وخلاصة القول في الموضوع؛ إن المتقيد بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبع لسنته عليه الصلاة والسلام، لا يسعه -بعد ما يبلغه هذا- إلَّا الأخذ به اقتداءً به، واستنانًا بسنته وعملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي".
ولا يحيد عن ذلك إلا من أعماه التعصب المذهبي، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه. والله الموفق.
(1)
قوله: وكل تشهد، والجلوس الأول والزالْد على قدر السلام من الثاني، أي كل فرد منه؛ أي من التشهد، سنة مستقلة، ولو التشهد بعد سجود السهو، وهو يسر به، ولفظه الأفضل عند مالك تشهد عمر رضي الله عنه ولفظه:"التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلهِ، الطَّيَّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ تَعَاَلى وَبَرَكَاتهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمدًا عَبْدُةُ وَرَسُولُهُ". والتشهد المختار عند أحمد تشهد ابن مسعود ولفظه: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيَّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَة اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَد أنْ لَا إلهَ إلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الشافعي أفضل التشهد ما روي عن ابن عباس، ولفظه:"التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَات، الطَّيَّبَات لِلَّهِ، سَلَامُ عَلَيْكَ أيهَا النَّبِي وَرَحْمَة اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامُ عَلَيْنَا وَعَلى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". ا. هـ.
واختيار الإمام مالك لتشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم ينكروه فكان إجماعًا، قال ابن قدامة: و إنما ذكر المُصَنف التشهد والجلوس له من السنن، لما أخرجه النسائي في سننه قال: أخبرني يحيى بن حبيب بن عربي البصري قال: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى، عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى؛ فقام في الشفع الذي كان يريد أن يجلس فيه، فمضى في صلاته حتى إذا كان في آخر صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم. ا. هـ. وأخرج مثله، قال: أخبرنا أبو داود سليمان بن يوسف قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا شعبة عن يحيى بن سعيد بن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فقام في الركعتين، فسبحوا فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم. ا. هـ.، فقوله في هذا الحديث: فقام في الشفع، دليل على أن الجلوس للتشهد ليس مما تبطل الصلاة بتركه. والله الموفق. ودليل كذلك على أن التشهد كذلك.
وقوله: والزائد على قدر السلام من الثاني؛ فيه إجمال، حاصله أنه محمول على ما إذا اقتصر في ذلك الجلوس على التشهد، ولم يزد عليه دعاء ولا صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. لأنه إن زاد الدعاء - وهو مستحب - كان الجلوس له مستحبًا لا سنة، وكذلك إن زاد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند من لم ير وجوبها في الصلاة. فالجلوس الأخير منه سنة، وهو إلى حد التشهد، ومستحب للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وللدعاء، وواجب للسلام لأن الظرف يعطى حكم مظروفه. هذا ملخص ما شرح به الدسوقى وشيخه الدردير.
(2)
وقوله: وعلى الطمأنينة، درج فيه المُصَنِّف على اختيار القاضي عبد الوهاب، قال القرافي في تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول ما نصه:
فرع: اختار القاضي عبد الوهاب أن الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعقد هذه العبارة شيخ مشائخنا العلامة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم في المراقي بقوله:
والأخد بالأول لا بالآخر
…
منحتم في مقنض الأوامر
وما سواء ساقط أو مستحب
…
لذاك الاطمئنان والدلك انجلب
قال القرافي في شرح التنقيح: وعبارة القاضي صحيحة في قوله: يقتضي الاقتصار على أوله؛ أي أول رتبة، فمن فهم أول أجزائه فقط غلط. وقوله: والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط؛ فالمندوب كزيادة الطمأنينة، والساقط كزيادة التدلك، فإن الشرع لم يندب لزيادة التدلك كما ندب لزيادة الطمأنينة، ووجب الاقتصار على أول الرتب جمعًا بين الدال على الوجوب، وإن الأصل براءة الذمة. ا. هـ. منه. بلفظه.
(3)
وقوله: ورد مقتد على إمامه ثم يساره وبه أحد؛ قال في المدونة: قلت لابن القاسم: أرأيت الإمام كيف يسلم؟. قال: واحدة قبالة وجهه ويتيامن قليلًا. قال: ومن كان خلف الإمام إن كان على يساره أحد رد عليه، قال: قلت: فالرجل في خاصة نفسه؟. قال: واحدة ويتيامن قليلًا. قال: وسلام الرجال والنساء من الصلاة سواء. وقال مالك: إذا كان خلف الإِمام فيسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام. قال: فقلت: كيف يرد على الإمام .. أعليك السلام أم السلام عليكم؟. قال: كل ذلك واسع وأحب إليّ: السلام عليكم. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
قلت: الدليل أرجح على أن تسليمة التحليل هي "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ". حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ". حتى يرى بياض خده الأيسر، كذا في سنن أبي داود، والنسائي والترمذي وصحح: وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى "وَبَرَكَاتُهُ". رواه أبو داود بسند صحيح. وصححه النووي وابن حجر والدارقطني. وكان إذا قال عن يمينه: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ". اقتصر أحيانًا على قوله عن يساره: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ". رواه النسائي وأحمد بسند صحيح.
وكان يسلم أحيانًا تسليمة واحدة: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ". تلقاء وجه، يميل إلى الشق الأيمن شيئًا قليلًا، رواه البيهقي والضياءُ في المختارة بسند صحيح. ورواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه، =
وطُولِ ذِرَاع، لَا دَابَّةٍ وحَجَرٍ وَاحِدٍ وَخَط وأجْنَبِيَّةٍ. وفي المحرم قَوْلَانِ، وأَثِمَ مَارٌّ له مَنْدُوحَةٌ ومُصَل تَعَرَّضَ (1) وَإِنْصَاتُ مُقْتَدٍ وَلَوْ سكتَ إمَامُهُ، ونُدِبَتْ إنْ أسَرَّ (2).
= = =
= ووافقه الذهبي. ا. هـ. من الصلاة للالباني. هذه كيفية ما ثبت عنه في تسليمه التحليل، والله أعلم
بمستند غير ذلك.
وقوله: وجهر بتسليمة التحليل ففط، لعل دليله الاستقراء؛ أي لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الجهر بها وقد قال:"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي". والله تعالى. أعلم.
وقوله: وإن سلم على اليسار ثم تكلم لم تبطل؛ أي لأنه إنما فاتته فضيلة التيامن بالسلام. والله تعالى أعلم.
ومن أدلة رد المأموم على الإمام ما أخرجه البيهقي بسنده عن سمرة قال: أمرنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام؛ وأن نتحاب وأن يسلم بعضنا على بعض.
وفي لفظ آخر له: أن نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض. ا. هـ. منه.
وأخرج ابن ماجه بسنده عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَرُدُّوا عَلَيْهِ".
وأخرج عنه كذلك أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض. ا. هـ.
تنبيه: أخرج ابن خزيمة بسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السُّنةُ حَذْفُ السَّلَامِ". ا. هـ. وأخرجه البيهقي أيضًا عن أبي هريرة.
قال الألباني في الصلاة: وأخرجه الترمذي والححم وصححاه ووافقهما الذهبي. وحذف السلام تخفيفه وعدم الإطالة فيه، أي عدم مده، وهو أمر ينبغي أن ينتبه له الإمام، فإنه إذا أطال في سلامه ربما خرج بعض من يأتم به من الصلاة قبل أن ينتهي الإمام من سلامه، الأمر الذي يبطل صلاته لأن سلام المأموم لابد أن يكون بعد صلام الإمام؛ لحديث عتبان بن مالك المتفق عليه. قال البيهقي بعد أن ساق سند هذا الحديث: أخبرني محمود بن الربيع سمعت عتبان بن مالك الأنصاري، فذكر الحديث في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم سلم وسلمنا حين سلم، قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن حبان، ورواه مسلم من وجه آخر عن معمر. ا. هـ. منه.
(1)
قوله: وسترة لإمام وفذ إن خشيا مرورًا بطاهر. ألخ؛ لما أخرجه الدارمي في سنن: باب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الصلاة الى السترة، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا شعبة عن الحكم بن عتبة قال: سمعت أبا جحيفة يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء بالهاجرة، فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتن وبين يديه عنزة، وإن الظعن لتمر بين يديه. ا. هـ. وأخرج الدارمي كذلك: أخبرنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تركز له العنزة يصلي إليها. ا. هـ.
وعلى المصلي الدنو من سترته بحيث لا يدع شيئًا يمر بينه وبينها، لما أخرجه الدارمي: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كَانَ أحَدُكمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَع أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى فلْيُقاِتلْهُ فَإنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ". ا. هـ.
وروى الطبراني والحكم وصححه، ووافقه الذهبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فساعاها حتى ألزق بطنه بالحائط فمرت من ورائه. كلذا في الصلاة للألباني.
وقوله: في غلظ رمح وطول ذراع، لعله لما مر من أنه كانت تركز له العنزة يصلي إليها، وهي رمح قصير، أو هو لما أخرجه مسلم وأبو داود:"إذَا وَضَعَ أحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَل وَلَا يُبَالِي مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذلِكَ".
وقوله: لا دابة؛ بشكل عليه ما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها، قلت: أفرأيت إذا ذهبت -أوهبت- الإبل؟. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته. أو قال: مؤخرته. ا. هـ. قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح.
قلت: ولعل مستند المُصَنِّف في النهي عن التستر بالدابة، نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في أعطان الإبل عند مسلم وأحمد وابن ماجه. والله الموفق.
وقوله: وخط؛ يشكل عليه ما أخرجه البيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَليَجْعَلْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ شَيئًا فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصُبْ عَصًا فَإنْ لَمْ تَكنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخْطُطُ خَطَّأْ ثمْ لَا يَضُرُّةَ مَا مَرَّ أَمَامَهُ". ا. هـ. غير أنه جاء في الجوهر النقي، الذي بحاشية البيهقي ما نصه: عن الشافعي قال في كتاب البويطي: ولا يخط بين يديه إلا أن يكون فيه حديث ثابت، قال البيهقي: وكأنه اطلع على ما نقلناه من الاختلاف في إسناده. قال صاحب الجوهر النقي: ذكر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= صاحب الاستذكار أن ابن حنبل وابن المديني كانا يصححان هذا الحديث. ا. هـ.
وقوله رحمه الله: وفي المحرم قولان؛ قد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يصلى إلى السرير وعائشة رضي الله عنها عليه، وأخرج الدارمي ما نصه: باب المرأة تكون بين يدي المصلي؛ أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب حدثثى عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة. ا. هـ.
والدليل على عدم وجوب السترة ما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن عباس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إلى غير جدار، فجئت راكبًا على حمار لي -وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام- فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الحمار يرتع ودخلت مع الناس، فلم ينكر ذلك علي أحد. ا. هـ.
قال البيهقي: أخرجه البخاري في الصحيح عن اسماعيل بن أبي أويس عن مالك.
وقول المُصَنِّف: وأثم مار له مندوحة ومصل تعرض؛ دليله ما أخرجه في سنن الدارمي: حدثنا يحيى بن حسان، أنا ابن عيينة عن سالم بن أبي النضر عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جهيم الأنصاري إلى زيد بن خالد الجهني أسأله ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يمر بين يدي المصلي، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَأنْ يَقُومَ أَحَدَكُمْ أرْبَعِينَ خيْر مِنْ أنْ يَمُرَّ بينَ يَدَيِ المُصَلِّى". قال فلا أدري سنة أو شهرًا أو يومًا. ا. هـ. وأخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا مالك عن أبي النضر مولى عمرو بن عبيد الله بن معمر أن بسر بن سعد أخبره أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المار بين يدي المصلي، فقال أبوجهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُ بَيْنَ يَدَىِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ في ذَلِكَ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمْر بَيْنَ يَدَيْهِ". قال أبو النضر: لا أدري أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة. ا. هـ.
قلت: وهذا الحديث أخرجه البيهقي بلفظه وقال: أخرجه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى. ا. هـ.
وتقييد المُصَنِّف حصول الإثم للمار بوجود المندوحة؛ أي الطريق التي يستطيع سلوكها من غير أن يمر بين يدي المصلي، هو لدليل رفع الحرج مع الاضطرار لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(1)
. الآية ونحوها. والله الموفق.
(2)
وقول المُصَنِّف: و إنصات مقتد ولو سكت إمامه؛ دليله حديث عبادة بن الصامت ولفظه عند البغوي: قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال:"إِنَّي أَرَاكُمْ تَقْرَؤُونَ وَرَاءَ إمَامكُمْ"؟. قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله. قال: لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأُ بِهَا". قال البغوي: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه الترمذي، وأحمد، وأبو داود، والحاكم، والدارقطني.
قال الألباني في صلاته: هذا الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية نسخ بما أخرجه البخاري في جزئه، وأبو داود واحمد وحسنه الترمذي والدارقطني؛ إنه نهاهم عن القراءة كلها في الجهرية، وذلك حينما انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:"هَلْ قَرَأَ مَعِي مِنْكُمْ أَحَدٌ آنِفًا". فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله. فقال:"إِنِّي أَقُولُ: مَالِي أُنَازَعُ". فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة، حين سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنصات المأموم لقراءة الإمام من كمال الائتمام به، فقال:"إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإذَا قَرَأَ فَأنْصِتُوا". أخرجه مسلم وأبو داود وأبو عوانة.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة الإمام قراءَةً للمأموم في الجهرية فقال: "مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ". قال الألباني: أخرجه الدارتطني وابن ماجه والطحاوي وأحمد من طرق كثيرة.
وقوله: ولو سكت إمامه؛ قال الدردير: ولو سكت إمامه بين تكبير وفاتحة أو بين فاتحة وسورة، أو لم يسمعه لعارض، فتكره قراءته ولو لم يسمعه.
قلت: ثبت في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير وقراءة الفاتحة، ونصه واللفظ للبغوي: عن أبي هريرة قال: سَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين التكبير والقراءة إسكاتة قال: حسبته قال هنيهة، قال: قلت: بأبي وأمِّي يارسول الله، أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟. قال: "أَقُول: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمْ =
(1)
سورة الأنعام: 119.
كَرَفْع يَدَيْهِ مَعَ إِحْرَامِهِ حِينَ شُرُوعِهِ (1)، وتَطْويلُ قِراءَةٍ بِصُبْحٍ والظُّهْرُ
= نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ". وهذا حديث متفق عليه، قال البغوي: أخرجه البخاري عن موسى بن اسماعيل، وأخرجه مسلم عن أبي كامل الجحدري كلاهما عن عبد الواحد بن زياد.
وروي عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين، ولفظه عند الدارمي: أخبرنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة. فأنكر ذلك عمران بن حصين فكتبوا إلى أُبيِّ بن كعب فكتب إليهم أن قد صدق سمرة. قال أبو محمد: كان قتادة يقول ثلاث سكتات، وفي الحديث المرفوع سكتتان. ا. هـ.
وحاصل حكم القراءة خلف الإمام ما لخصه البغوي فيما يلي:
أولًا - قال جماعة من أهل العلم بوجوبها خلف الإمام جهر أو أسَرَّ. منهم عمر وعثمان، وعليّ، وابن عباس، ومعاذ، وأبيُّ بن كعب، وبه قال مكحول، والأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، قالوا:
إن أمكنه أن يقرأ الفاتحة في سكتة الإمام فعل، وإلا قرأ معه.
ثانيًا - وذهب جماعة من أهل العلم الى أنه يقرأ فيما أسرَّ فيه الإمام القراءة، ولا يقرأ فيما جهر. ومن هؤلاء: عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد ونافع بن جبير، والزهري، ومالك، وابن المبارك وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه، وهو رواية ثانية عن الشافعي.
ثالثًا - وذهب قوم من أهل العلم إلى أنه لا يقرأ أحد خلف الإمام، أسَرَّ الإمام أَو جَهَرَ، منهم: زيد ابن ثابت، وجابر، ويروى عن ابن عمر:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ". رواه مالك في الموطإ، وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي. قلت: ولعله مستند المُصَنِّف في قوله: ولو سكت إمامه. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
قوله: كرفع يديه مع إحرامه حين شروعه؛ قد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية، عند الكلام على قول المُصَنِّف:"وَسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". لإمام وفذ، وذكرنا هناك أنه ثابت عند الروع وعند الركوع والرفع منه، فأغنى ذلك عن عادته هنا. والله الموفق.
تَلِيهَا، وتَقْصيرُهَا بِمَغربٍ وَعَصْرٍ كَتَوسُّطٍ بِعِشَاءٍ، وثانِيَةٍ عَن أولَى (1)، وجُلُوسٍ أوَّلَ (2)، وقولُ مُقْتَدٍ وَفَذٍّ: رَّبنا لَكَ الحمدُ (3). وتَسبِيحٌ بِرُكُوعٍ وسُجُودٍ (4)، وتَأمينُ فَذٍّ مُطْلَقًا وإمام بِسِرٍّ، ومأموم بسرٍّ أو جَهْرٍ إِن سمعه عَلى الأظْهَر وإسْرَارُهُمْ به (5). وَقُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحٍ فَقَطْ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، ولَفْظُهُ وَهُوَ: اللَّهم إِنَّا نَسْتَعينُكَ
(1)
قوله: وتطويل قراءة بصبح والظهر تليها. الخ. قد تقدم بعض الكلام عليه عند قول المُصَنِّف: وسننها سورة بعد الفاتحة، غير أنني سوف أنقل هنا ما كتبه محمد ناصر الدين الألباني حرفيًا قال: كان يقرأ بعد الفالحة سورة غيرها، وكان يطيلها أحيانًا ويقصرها أحيانًا لعارض سفر أو سعال أو مرض أو بكاء صبي. كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جوّز صلى الله عليه وسلم ذات يوم في الفجر، فقيل: يا رسول الله لم جوَّزت؟. قال: "سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ، فَظَنَنْتُ أَنَّ أُمَّهُ مَعَنَا تُصَلِّي، فَأَرَدْتُ أَنْ أُفْرِّغَ لَهُ أُمَّهُ"، رواه أحمد بسند صحيح؛ وكان يقول:"إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ". رواه البخاري ومسلم.
وكان يبتدئ من أول صورة ويكملها في أغلب أحواله ويقول: "اعْطُوا السُّورَةَ حَظَّهَا مِنَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ". رواه أحمد بسند صحيح. وفي لفظ: "لِكُلِّ سُورَةٍ رَكْعَة" وتارة يقسمها في ركعتين.
رواه أحمد وأبو يعلى من طريقين. وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية، وتارة يجمع في الركعة الواحدة بين سورتين أو أكثر -إلى أن قال-: وكان يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ويسرّ بها في الظهر والعصروفي الثالثة من المغرب والأخيرتين من العشاء. على هذا إجماع المسلمين؛ بنقل الخلف عن السلف مع الأحاديث الصحيحة المتظاهرة على ذلك، كما نقله النووي. وكانوا يعرفون قراءته فيما يسر به باضطراب لحيته، كما في البخاري وأبي داود، وبإسماعه فياهم الآية أحيانًا كما في البخاري ومسلم. اهـ. منه. مزجًا بين نصه وتعليقه. والله الموفق.
(2)
وقوله: وجلوس أول، تقدم الكلام عليه عند قول المُصَنِّف: والجلوس الأول والزائد على قدر السلام من الثاني. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحمد لله. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: وقول مقتد وفذ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ قد تقدم الكلام عليه عند قول المُصَنِّف: وسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لإِمام وفذ، فليراجع هناك. والله الموفق.
(4)
قوله: وتسبيح بركوع وسجود؛ أي لما أخرجه الدارمي: باب ما يقال في الركوع، أخبرنا عبد الله بن يزيد المقري، ثنا موسى بن أيوب حدثني عمي إياس بن عامر قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}
(1)
قال لنا رَسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ". فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "إِجْعَلُوهَا فِي سُجُودكمْ" ا. هـ.
وأخبرنا سعيد بن عامر بن شعبة عن سلسمان عن المستورد عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فكان يقول في ركوعه:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ". وفي سجوده "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى". وما يأتي على آية رحمة إلا وقف عندها فسأل، وما يأتي على آية عذاب إلا تعوذ. ا. هـ.
وأخرج ابن ماجه في سننه حديث موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر المتقدم قال: حدثنا عمرو بن رافع البجلي عن موسى بن أيوب الغافقي، قال: سمعت عمي الحديث.
وفي رواية عن عائشة قالت: كان رسول صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحْمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي" يتأول القرآن. ا. هـ. هذا لفظ ابن ماجة. قال الألباني: وهو في البخاري ومسلم. وقوله: يتأول القرآن تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
(2)
.
(5)
وقول المُصَنِّف: وتأمين فذ مطلقًا؛ وإمام بسر. الخ.
أما تأمين المأموم بجهر فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافق تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه مالك في الموطإ وهو متفق عليه. وأما بالنسبة للإِمام فإن المذهب عدم تأمينه جهرًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ. فإنَّهُ =
(1)
سورة الواقعة: 74.
(2)
سورة النصر: 3.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مَنْ وَافق قَوْلُهُ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ". قال الباجي من أصحابنا: والظاهر أنه لو كان تَأْمِينُه ظاهرًا لعلق تأميننا به لا بقوله: وَلَا الضَّالِّينَ. ا. هـ. منه.
وأما إذا أسر الإمام القراءة، فلا خلاف بين أصحابنا في أنه يؤمِّن، لخلو دعائه حيئذ من مؤمِّن. قال الباجي:
مسألة: وإذا أسر الإمام القراءة، فلم يختلف أصحابنا في أنه يقول: آمين، لأنه قد عرا دعاؤه من مؤمّن عليه غيره فلذلك أَمَّن هو، وأما المأموم فإنه يؤمِّن، فإن جهر الإمام القراءة فإنه يؤمِّن عند قول الإمام: وَلَا الضَّالِّينَ. وإن أسر القراءة فإنه يؤمن عند قوله هو: وَلَا الضَّالِّينَ، وأما الفذ فإنه يؤمن عند تمام قراءة أم القرآن، فيما يجهر فيه بالقراءة أو يسر. ا. هـ. منه بلفظه.
قلت: وفي الموطإ: قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. وقول الباجي هنا أنه مرسل يلزمه؛ لأننا ممن يحتج بالمراسيل، وعلاوة على ذلك فقد أخرج البخاري في جزء القراءة: كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من قراءة الفاتحة قال: "آمِينَ" يجهر ويمد بها صوته. ورواه أبو داود بسند صحيح.
وأخرج ابن ماجة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال: "وَلَا الضَّالِّينَ". قال: "آمِينَ". فسمعناها. ا. هـ. ورواه حجر بن عتبة عن والْل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . فقال: "آمِينَ" مد بها صوته. ا. هـ. قال البغوي: هذا الحديث قال البخاري: أصح من حديث شعبة، واراد به أن شعبة روى عن سلمة: وخفض بها صوته. وروى هذا الحديث علاوة على البغوي الترمذي، وسنده عنده صحيح، وأبو داود، ونسبه ابن حجر في التلخيص إلى الدَّارقُطْنِي وابن حبان من طريق سفيان الثوري وقال: سنده صحيح. ا. هـ. منه. وروى هذا الحديث أيضًا النسائي، وأخرج البيهقي عن عطاء قال: أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} . سمعت لهم رجة بآمين. ا. هـ. فإذا تقرر هذا، فالسنة جهر المأموم والإمام بآمين في أوقات الجهر وكذلك الفذ. وأعوذ بالله من التعصب المذهبي. والله حسبي ونعم الوكيل.
إِلَى آخِرهِ (1)، وَتَكْبيرُهُ فِي الشُّرُوعِ إِلَّا فِي قِيامِهِ مِنِ اثْنَتَيْنِ فلاسْتِقْلَالِ (2)، وَالْجُلوسُ كُلُّهُ بإِفْضَاءِ الْيُسْرَى لِلأْرْضِ والْيُمْنَى عَلَيْهَا وإبْهَامُهَا لِلأْرْض (3) وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكبَتَيْهِ بِرُكُوعِهِ (4)، وَوَضعُهُمَا حَذْوَ أُذُنيهِ أَوْ قُرْبَهُمَا بِسُجُودٍ (5).
(1)
قوله رحمه الله: وقنوت سرًا بصبح فقط وقبل الركوع؛ هو لدليل ما أخرجه ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك قال: سئل عن صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع ولعده. قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه: في الزوائد إسناد. صحيح ورجاله ثقات. ا. هـ. وأخرج ابن ماجة كذلك ما نصه: عن محمد: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع. ا. هـ.
وفي سنن الدارمي أخبرنا أبو النعمان، ثنا ثابت بن يزيد، حدثنا عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قبل الركوع. قال: إن فلانًا يزعم أنك قلت بعد الركوع. قال: كذب. ثم حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا بعد الركوع، ويدعو على حين من بني سليم. ا. هـ.
وأخرج كذلك: حدثنا أبو الوليد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح. ا. هـ. وحدثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد قال: سئل أنس بن مالك: أقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟. قال: نعم. فقيل له: لو قلت له قبل الركوع أو بعد الركوع. قال: بعد الركوع يسيرًا. قال أبو محمد: أقول به وآخذ به ولا أرى أن آخذ به إلا في الحرب. ا. هـ.
وفي المدونة: وقال مالك في القنوت في الصبح: كل ذلك واسع قبل الركوع وبعد الركوع. وقوله: سرًا؛ هو مذهب ابن القاسم؛ ففي المونة: قلت لابن القاسم: هل يجهر بالدعاء في القنوت إمامًا كان أو غير إمام؟. قال: لا يجهر. قلت: وهذا قول مالك؟. قال: هذا رأيي. ا. هـ. منه.
وقوله: ولفظه وهو: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ الخ. أي لما أخرجه في المدونة عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن سويد الكاهلي أن عليًا قنت في الفجر: "اللَّهُمَّ إنَّا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْنَعُ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي، وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ". وأن أبا موسى الأشعري وأبا بكرة وأبا عباس والحسن قنتوا في الفجر، وأن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: القنوت في الفجر سنة ماضية. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وتكبيره في الشروع إلا لقيامه من اثنتين فلاستقلاله؛ دليله ما روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول:"سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ". حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول:"رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثم يكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، ويكبر حين يقوم من اثنتين بعد الجلوس. متفق عليه.
وقوله: فلاستقلاله أي يستحب تأخيره التكبير إلى أن يستقل قائمًا لأنه كمفتتح صلاة، هكذا ذكره أصحاب الفروع عندنا، قلت: ولعله لأن الأصل في الصلاة أنها فرضت مثنى مثنى، كما ثبت في الحديث عن عائشة. والعلم عند الله تعالى.
(3)
قوله رحمه الله: والجلوس كله بإفضاء اليسرى إلى الأرض واليمنى عليها وإبهامها للأرض؛ هذه هيئة الجلوس في الصلاة عند أصحابنا، سواء كان جلوسًا واجبًا؛ كبين السجدتين وللسلام، أو كان سنة كالجلوس للتشهدين، يستحب أن يكون بإفضاء إلية المصلي وساقه اليسريين إلى الأرض، ونصب الرجل اليمنى على اليسرى، وجعل باطن إبهام الرجل اليمنى للأرض، فتصير رجلاه معًا من الجانب الأيمن. وقال الدسوقي عند قوله بإفضاء: ويصح جعل الباء للمصاحبة، أي حالة كون الجلوس مقارنًا لهذه الهيئة، فإن لم يكن مقارنًا لها حصلت السنة وفات المستحب، ودليل إمامنا مالك على أن الجلوس كله بإفضاء اليسرى إلى الأرض هو ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركًا. قاله ابن قدامة، وفي الموطإ ما نصه: وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن القاصم ابن محمد أراهم الجلوس في التشهد؛ فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أبا. كان يفعل ذلك. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي المدونة: وقال مالك: الجلوس فيما بين السجدتين مثل الجلوس في التشهد؛ يفضي بإليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى، ويثني رجله اليسرى، وإذا نصب رجله اليمنى جعل باطن الإبهام على الأرض لا ظاهر الإبهام. ا. هـ.
وقال في المدونة أيضًا بعد هذا بقليل ما نصه: قال ابن وهب: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك من حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمروبن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، في جلوسه الأخير في الصلاة، ويخرج قدميه من ناحية واحدة. ا. هـ
قلت: وسياق حديث ابن وهب هذا، يستطاع بموجبه القول بأن التورك محلها لجلسة الأخيرة عندنا، كما هو الحال عند الشافعي، وكذلك نسب الشوكاني لإمامنا مالك قال: وقال مالك والشافعي وأصحابه: إنه يتورك المصلي في التشهد الأخير. ا. هـ. وهو الذي يؤيده الدليل من السنة، كحديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ اليُمْنَى، فإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ". وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، وهو الذي ينبغي العمل به استنانًا بسنته صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى على أحد أنه لا يعارض بحديث عبد الله بن عبد الله بن عمر؛ أن أباه كان يفضي بوركه إلى الأرض، لأن حديث أبي حميد مرفوع وحديث عبد الله بن عبد الله بن عمر موقوف على ابن عمر، وحديث أبي حميد صريح في أن هذا الفعل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله في صلاته، وحديث الموطإ يتطرقه الاحتمال بأن ابن عمر كان إنما يفعله لأنه كان يشتكي، وقد ثبت عنه قوله: قدماي لا تحملاني. وعجبى لا ينقضي من استدلال أبي الوليد الباجي بحديث الموطإ هذا، وقوله: يحتمل أنه كان يفعله قبل شكواه من رجليه، وقد علم أن القاعدة المقررة في مباحث الألفاظ؛ هي أن وسائل الأحوال إذا تطرقها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال. والحاصل أن المنصف المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة بالدليل، لا يسعه إلا الافتراش في غير الجلسة الأخيرة من سائر الجلوس، وأن يتورك في الجلسة الأخيرة، لما أخرجه البخاري في صحيحه. والله الموفق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: ووضع يديه على ركبتيه بركوعه؛ قال الدردير: هو مكرر مع قوله: وندب تمكينهما منهما، والأولى كما في بعض النسخ إسقاط بركوعه وجر لفظ وضع عطفًا على قوله: بإفضاء اليسرى، فهو من تمام صفة الجلوس، ويكون قوله: ركبتيه، على حذف مضاف، أي على قرب ركبتيه.
وكيفية وضع اليدين في التشهدين: هي ما أخرجه البغوي بسنده عن علي بن عبد الرحمن المعاويِّ أنه قال: رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصا في الصلاة، فلما انصرف نهاني، وقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، واشار بأصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه الموطأ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
والاختيار عند بعض أهل العلم قبض أصابع يده اليمنى إلَّا السبابة في التشهد. وقال قوم: يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بين الإبهام والوسطى برؤوس الأنامل. وقيل: يضع أنملة الوسطى بين عقدي الإبهام. وسوف يأتي مزيد لهذا عند قول المُصَنِّف قريبًا: وعقده يمناه في تشهده ألخ. والله الموفق.
(5)
وقوله: ووضعهما حَذو أذنيه أو قربهما بسجود؛ دليله ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته على الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه. ا. هـ. وعن وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين يسجد ويديه قريبتين من أذنيه. رواه البغوي بسند صحيح، ورواه أحمد، وأخرجه أبو داود، ورواه مسلم من حديث وائل بن حجر. وفيه: ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه. وروي عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء: أين كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع وجهه إذا سجد؟. قال: بين كفيه. ذكره البغوي في شرح السنة. وهو في الترمذي في الصلاة، باب ما جاء أين يضع الرجل وجهه إذا سجد، وقال: حديث حسن صحيح. ا. هـ.
ومُجَافاةُ رجُلٍ فيه بَطْنَهُ فَخِذَيْهِ ومِرْفَقَيْهِ رُكبتَيهِ (1)، والرِّدَاءُ (2). وَسَدْلُ يَدَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ القَبْضُ فِي النَّفْلِ أوْ إنْ طَوَّلَ، وَهَلْ كَرَاهَتُهُ فِي الْفَرضِ للاعْتِمَادِ أوْ خِيفَةَ اعْتِقَادِ وُجُوِبِهِ أوْ إِظْهَارِ خُشُوعٍ تَأْوِيلَاتٌ (3). وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ وتأْخيرُهُمَا
(1)
وقوله: ومجافاة رجل فِي بطنه فخذيه ومرفقيه ركبتيه؛ دليله ما أخرجه البغوي عن عبيد الله بن عبد الله بن أقرم الخزاعي عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاع من نمرة ساجدًا، فرأيت بياض إبطيه. ا. هـ. وإسناده صحيح. وهو في مسند الشافعي وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة. وعن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بَهْمَةً أرادت أن تمر تحت يده مرَّتْ. رواه البغوي وأبو داود، وأخرجه مسلم والنسائي. ا. هـ.
(2)
وقوله: والرداء؛ قال الدردير: وهو ما يلقيه على عاتقيه بين كتفيه فوق ثوبه، وطوله ستة أذرع وعرضه ثلاثة، وتأكد لأئمة المساجد، ففذها، فأئمة غيرها. ا. هـ.
قلت: ذكر في السيرة أن رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ملأه عثمان رضي الله عنه ذهبًا في تجهيزه صلى الله عليه وسلم لغزة تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ"؛ ذكروا أنه كان في طول ستة أذرع وعرض ثلاثة، ولعله كان يرتدي به في الصلاة، فيكون ذلك مستند هذا الفرع. والله تعالى أعلم وهو الموفق.
(3)
وقوله: وسدل يديه ألخ؛ قال الدردير عنده: وندب لكل مصل مطلقًا سدل - أي إرسال يديه لجنبيه - وكره القبض بفرض. وهل يجوز القبض لكوع اليسرى بيد. اليمنى واضعًا لهما تحت الصدر وفوق السرة في النفل طوَّل أو لا؟. أو يجوز إن طوَّل فيه، ويكره إن قصر؟. تأويلان. وهل كراهته: أي القبض في الفرض بأي صفة كانت فالمراد به هنا ما قابل السدل لا ما سبق فقط للاعتماد، إذ هو شبيه بالمستند، فلو فعله لا للاعتماد بل استنانًا لم يكره، وكذا إن لم يقصد شيئًا فيما يظهر، وهذا التعليل هو المعتمد، وعليه فيجوز في النفل مطلقًا لجواز الاعتماد فيه بلا ضرورة، أو كراهته خيفة اعتقاد وجوبه على العوام، واستبعد وضعف، أو خيفة إظهار الخشوع وليس بخاشع في الباطن، وعليه فلا تختص الكراهة بالفرض، تأويلات خمسة اثنان في الأولى وثلاثة في الثانية، ولم يذكر المُصَنِّف من العلل كونه مخالفًا لعمل أهل المدينة. ا. هـ. منه حرفيًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وحيث إن هذه المسألة هي إحدى المسائل التي يجد فيها بسطاء طلبة العلم مأخذًا على مذهبنا، وحيث إن المذهب قد علمت أنه لا يكون إلا فيما لا نص فيه وأما ما فيه نص من الشارع فلا يسع المسلم إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم، فإني سوف ألخص لك ما جاء في الموضوع، راجيًا من الله تعالى أن يجعلني وإياك ممن نبذوا التعصب المذهبي، وجعلوا الاتباع نصب أعينهم يريدون بذلك وجه الله تعالى، فأقول وبالله تعالي توفيقي:
اعلم - وفقني الله وإياك - أن إمامنا مالكًا بن أنس إمام دار الهجرة، كان من أول من ألف في أمور الدين كتابه الموطأ، الذي أقسم إمامنا الشافعي يمينًا بالله تعالى ما على وجه الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح منه. وفي هذا الكتاب بالذات قال الإمام: - باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة - حدثني يحيى عن مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال: من كلام النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة يضع اليمني على اليسرى، وتعجيل الفطر والاستيناء بالسحور.
(2)
وحدثني عن مالك عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد أنه قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك. ا. هـ.
(3)
وروى أشهب عن مالك أنه قال: لا بأس به في النافلة والفريضة للحديث، ولأنها وقفة العبد الذليل بين يدي مولاه.
(4)
وروي مطرف وابن الماجشون في الواضحة عن مالك أنه استحسنه، وأن فعل ذلك في الفريضة والنافلة أفضل من تركه. ا. هـ. ابن رشد.
(5)
وقال الباجي على الموطإ: وأما وضع اليمني على اليسرى في الصلاة فقد أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح؛ رواه وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم كبر، ثم التحف في ثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى.
(6)
وأخرج في المدونة عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعًا يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي مقابل ذلك أخرج في المدونة عن إمامنا وقدوتنا ابن القاسم: قال: وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة قال: لا اعرف ذلك في الفريضة، ولكن في النوافل إذا طال القيام، فلا بأس بذلك يعين به على نفسه. ا. هـ.
وتعال معي أيها المنصف لنناقش هذه الروايات نقاشًا علميًا خاليًا من التعصب المذهبي، فنقول وبالله تعالى التوفيق: قال القرافي في التنقيح ما نصه: الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار: وهي إما في السند أو في المتن، فالأول قال الباجي يترجح بأنه في قضية مشهورة والآخر ليس كذلك، أو راويه أحفظ، أو أكثر، أو مسموع منه صلى الله عليه وسلم والآخر مكتوب به، أو متفق على رفعه إليه عليه الصلاة والسلام، أو اتفق رواته على إثبات الحكم به، أو راويه صاحب القضية إلى آخر البحث.
فإذا تقرر هذا فاعلم أن رواة وضع اليمني على اليسرى في الصلاة في مذهبنا أكثر من رواة عدمه؛ فقد رواه الموطأ في حديثين، ورواه أشهب عن مالك، ورواه مطرف وابن الماجشون عن مالك، وقال به الباجي وإنه صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر، ورواه ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن وهب هو من هو في مذهبنا.
هؤلاء خمس روايات بما فيها مالك نفسه، ونفاه ابن القاسم عن مالك فقط، وقد علمت أن الكثرة من المرجحات.
ومن المرجحات أيضًا كون الحكم مسموعًا منه صلى الله عليه وسلم ولفظ حديث الموطإ: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم فيما علمت أمرًا بالارسال في الصلاة لليدين.
ومن المرجحات كون الحكم اتفق رواته على إثباته، وإذًا فجميع من يرويه متفقون على مشروعيته في الصلاة.
ومن المرجحات كون راويه صاحب القصة، وإذًا فإن رواية مالك في الموطإ مقدمة على رواية غيره عنه في غير الموطإ.
ومن المرجحات أيضًا أن الرِّواية المثبتة مقدمة على الرِّواية النافية كما قال في المنهج:
ومثبت أولي من الذي نفي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإذًا فروايات الموطإ وأشهب، ومطرف وابن الماجشون، ورواية المدونة عن ابن وهب كلها مثبتة، ورواية المدونة عن ابن القاسم نافية، والمثبت مقدم على النافي.
فيتحصل من هذا النقاش أنه يتعين علينا الأخذ بأقوال من قال من أصحابنا بوضع اليمني على اليسرى في الصلاة بغض النظر عمن يكون قائل ذلك من مشائخنا. هكذا يلزمنا الأخذ به بنقاش بسيط داخل المذهب كمقلدين.
وإذا تجاوزنا بالمسألة إلى بحثها على نطاق أوسع، وقلنا على سبيل الفرض: إن السدل هو المشهور في مذهب مالك، نجد أن القرآن العظيم يرشدنا معشر الأمة إلى الرجوع في النزاع فيما بيننا إلى الله ورسوله بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}
(1)
.
وإذا رجعنا إلى القرآن في المسألة، نجد أنه روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر قوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(2)
. بوضع اليمني على الشمال في الصلاة، رواه الدَّارقُطْنِي والبيهقي والحاكم وقال: إنه أحسن ما روي في تأويل الآية. وعند البيهقي من حديث ابن عباس مثل تفسير علي. وروى البيهقي أيضًا أن جبريل فسر الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وفي إسناده اسرائيل بن حاتم، وقد اتهمه ابن حبان به. ا. هـ. من نيل الأوطار.
وإذا رجعنا إلى السنة وجدنا أن وضع اليمنى على اليسري رواه البخاري، ومسلم، ومالك، وأبو داود، وابن حبان، والضياء بسند صحيح، والإمام أحمد بسند صحيح، والنسالْي بسند صحيح، والدارقطني كذلك، وابن خزيمة في صحيحه، والترمذي إلى غير ذلك، كل هؤلاء يرويه قولًا وفعلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونجد في مقابل ذلك أن ابن المنذر روي عن ابن الزبير والحسن البصري والنخعي؛ أن كل هؤلاء الثلاثة كان يرسل يديه في الصلاة ولا يضع اليمني على اليسرى، ونقله النووي عن الليث بن سعد، =
(1)
سورة النساء 59.
(2)
سورة الكوثر 2.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ونقله ابن القاسم فقط من أصحابنا عن الإمام مالك.
وجميع من يعتد بقولهم سوى هؤلاء من الصحابة فمن دونهم من التابعين وأتباعهم وأصحاب المذاهب قاطبة، التي تنتمي إلى السنة، يأخذون بفضيلة وضع اليمني على اليسرى في الصلاة.
وهنا أضع طالب الحق أمام الأمر الواقع. والله حسبنا ونعم الوكيل.
غير أني أرى - على قلة اطلاعي - أنه يمكن الجمع بين رواية الموطإ: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، وبين ما رواه عبد الرحمن بن القاسم عن مالك في المدونة: لا أعرف ذلك في الفرض ولكن في النوافل إذا طال القيام.
ذلك أني لما تأملت روايات الباب، وجدت في بعضها وضع اليمني على اليسرى، وفي بعضها قبض بيمينه على شماله، ورأيت الألباني لما ذكر رواية القبض عند النسائي والدارقطني، قال: وفي هذا الحديث دليل على أن القبض سنة، وفي الحديث الأول الوضع، فكل سنة.
فوجدت أن رواية مالك التي رواها - أو رويت عن طريقه - ليس فيها إلا وضع اليمني على اليسرى، وأن التي فيها القبض لم ترو عن طريق الإمام مالك، فدلني ذلك على أن الذي قال مالك: لا أعرفه. إنما هو القبض باليمنى على الشمال، وأن الذي وطأه وروي عنه هو وضع اليمني على اليسرى، وأن التي فيها القبض لم ترو عن طريق الإمام مالك، فدلني ذلك على أن الذي قال مالك: لا أعرفه. إنما هو القبض باليمنى على الشمال، وأن الذي وطاه وروي عنه هو وضع اليمني على اليسرى، فلم يبق إلا أن ينسب ما في المدونة من قولها: وقال مالك في وضع اليمني على اليسرى في الصلاة قال: لا أعرفه، أن ينسب إلى الوهم أو إلى أن الناسخ أَبْدَلَ "قبْض""بوضع"، وهو وجيه، ولولا طول العهد لقلت إني أتذكر أن بعض شراح المختصر مما كان في بدي أيام الدراسة، فيه: وسألت الإمام عن القبض الخ. ولا أستطيع تأكيد ذلك لطول العهد إلا أنه هو الذي كان في حافظتي إلى أن طالعت النسخة التي بيدي من المدونة، فوجدتها كما أثبته عنها وقال مالك في وضع اليمني. الخ.
وبنظرة إلى الروايتين يتضح لك إمكان ما ذكرت لك من الجمع بين روايتي المذهب؛ فأما رواية مالك في الموطإ فقد تقدمت، وأما الرِّواية الأخرى فهي ما يلي: أخبرنا سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد =
عِنْدَ الْقيَامِ (1)، وَعَقْدُهُ يُمْنَاهُ فِي تَشَهُّدِهِ الثَّلَاثَ مَادًّا السَّبَّابَةَ والإِبْهَامَ وتَحْرِيكُهَا دَالمًا (2)، وَتَيَامُنٌ بالسَّلَامِ (3)، ودُعَاءٌ بتَشَهُّدٍ ثَانٍ (4)، وَهَلْ لَفْظُ التَّشَهُّد والصَّلاة على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ أو فضيلَةٌ خِلَافٌ (5). وَلَا بَسْمَلَةَ فيهِ، وجَازَتْ كتَعَوُّذٍ بِنفْلٍ،
= الله بن موسي بن عمير العنبري وقيس بن سليم العنبري قالا: حدثنا علقمة بن وائل عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله. رواه النسائي - ا. هـ.
وقد علمت أن الجمع بين الدليلين أولي من طرح أحدهما، وهو ممكن هنا لا سيما إذا تأملت قول المختصر: وهل كراهته للاعتماد؟. يتضح لك أن احتمال الاعتماد لا يتصور إلا في هيئة القابض بإحدى يديه على الأخرى، وأما مجرد الوضع فلا اعتماد فيه. والله تعالى هو الموفق.
(1)
وقوله: وتقديم يديه في سجوده وتأخيرهما عند القيام؛ وذلك لدليل ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ". وهو في البغوي بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وإسناده صحيح، وهو في البغوي وأبي داود، وأخرجه أحمد، ا. هـ. وبه أخذ مالك والأوزاعي وابن حزم وقالوا باستحباب وضع اليدين قبل الركعتين، وهي رواية عن الإمام أحمد، وروى الحازمي عن الأوزاعي أنه قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. قال أبوداود: وهو قول أصحاب الحديث. وقال الشوكاني: إن حديث أبي هريرة له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن خزيمة وصححه وذكره البخاري تعليقًا موقوفًا. كذا قال الحافظ في بلوغ المرام، قال: وأخرجه الدار قطني والحاكم في المستدرك مرفوعًا بلفظ "إنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَجَدَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ". ا. هـ. نيل الأوطار.
(2)
وقوله: وعقده يمناه في تشهده الثلاث مادًّا السَّبَّابَة والإبهام وتحريكها دائمًا؛ دليل ذلك حديث مسلم والموطإ عن علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال: رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصا في الصلاة، فلما انصرف نهاني وقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟. قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى. رواه البغوي وقال أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك. ا. هـ. وعن عبد الله بن الزبير قال: كان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى ويلقم كفه اليسرى ركبته. أخرجه البغوي في شرح السنة، وهو في صحيح مسلم: باب صفة الجلوس في الصلاة. وبالله التوفيق.
وقال الألباني: وكان يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى، ويقبض أصابع كفه اليمنى كلها ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ويرمي ببصره إليها. رواه مسلم وأبو عوانة. وكان إذا أشار بإصبعه وضع إبهامه على إصبعه الوسطى، وتارة كان يحلق بهما حلقة، وكان يحرك إصبعه بدعوبها ويقول:"لَهِي أَشَدُّ على الشَّيْطَانِ مِنَ الْحَدِيدِ". يعني السبابة، رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وتيامن بسلام؛ قد تقدم الكلام على ذلك عند قول المُصَنِّف: ورد مقتد على إمامه ويساره، وبه أحد، وجهْر بتسليمة التحليل فقط، فأغنى عن إعادة الكلام عليه هنا، والحمد لله.
(4)
وقوله: ودعاءٌ بتشهد ثان؛ دليله ما أخرجه الدارمي: باب الدعاء بعد التشهد: أخبرنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي عن حسان عن محمد بن أبي عائشة قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ؛ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَشَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. ا. هـ. حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي بنحوه. ا. هـ. منه بلفظه. وهذا الحديث في الموطإ: باب: ما جاء في الدعاء. وفي صحيح مسلم: باب: ما يستعاذ منه في الصلاة. وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ". فقال قائل: ما أكثر ما يستعيذ من المغرم، فقال:"إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"، أخرجه البغوي وقال: متفق عليه. ا. هـ.
(5)
وقوله: وهل لفظ التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو فضيلة خلاف؛ الأولى عندي أن يقول: سنة أو واجبة خلاف، لأن السنة هي أدنى مراتبهما، لأن ما نسميه السنة في مصطلحنا هي ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به من غير إيجاب، وأظهره في جماعة. قال في مراقي السعود:
وسنة ما أحمدٌ قد واظبا
…
عليه والظهور فيه وجبا =
وَكُرهَا بِفرْضٍ (1)، كَدُعَاءٍ قَبْلَ قراءةٍ (2) وَبَعْدَ فَاتِحَةٍ وَأَثْنَاءَهَا وَأثنَاءَ سُورَةٍ ورُكوعٍ وقَبْلَ تَشَهُّدٍ وبعد سلام إمَامٍ وتشهد أوَّلَ، لا بين سَجْدَتَيْهِ (3). وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ
= وبعضهم سمى الذي قد أكدا
…
منها بواجب فخذ ما قيدا
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الخلاف في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصور إلا في كونهما من باب المسنون أو من باب الواجب، لأن التشهد الأول قال بوجوبه الليث بن سعد وإسحاق بن راهويه، وأما التشهد الأخير فهو ركن عند الإمام أحمد؛ مستدلًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ". وأمره للوجوب.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي واجبة في صحيح المذهب عند الحنابلة، فكيف يتصور إذًا النزول بهما إلى درجة الاستحباب في مصطلحنا؟ ".
(1)
قول المُصَنِّف: ولا بسملة فيه ألخ. تبع فيه رحمه الله مذهب المدونة، ونص المراد منها: وقال مالك: لا يقرأ في الصلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في المكتوبة لا سرًا في نفسه ولا جهرًا. قال: وهي السنة، وعليها أدركت الناس. وقال مالك في قراءة:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الفريضة. قال: الشأن ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة. قال: لا يقرأ ذلك أحد لا سرًا ولا علانية لا إمام ولا غير إمام. وقال مالك في النافلة: إن أحب فعل، وإن أحب ترك ذلك واسع، وقال مالك: لا يتعوذ الرجل في المكتوبة قبل القراءة، قال: ولكن يتعوذ في قيام رمضان. ا. هـ. منه.
وفي الموطإ من حديث أنس بن مالك قال: قمت وراء أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان ابن عفَّان، كلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة. وهوفي شرح السنة للبغوي، وإسناده صحيح.
قلت: وحديث الموطإ ومسلم فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في تقسيم الصلاة بينه وبين عبده.
دليل واضح على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ونصه كما في البغوي: عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ. هِيَ خِدَاجٌ، هِيَ خِدَاجٌ". غَيْر تمام. قال أبو السائب مولي هشام بن زهرة: فقلت: يا أبا هريرة إنِّي أحيانًا أكون وراء الإمام، فغمز =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ذراعي وقال: اقرأْ بها يا فارسي في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَؤُوا، يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ الآيَةُ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". قال البغوي هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن قتيبة عن مالك. قال الباجي في المنتقى: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". بيان أن هذا أول السورة. ا. هـ. منه.
وقال البغوي: ويستدل بهذا الحديث من لا يرى التسمية آية من الفاتحة؛ لأنه لم يبدأ بها وإنما بدأ بالحمد لله. واختلف أهل العلم فيها؛ فذهب جماعة إلى هذا؛ يروي ذلك عن عبد الله بن مغفل، وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي وعليه قراءة المدينة والبصرة. وذهب جماعة إلى أنها آية من الفاتحة؛ وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب الثوري وابن المبارك والشافعي، وأحمد وإسحاق، وعليه قراءة مكة والكوفة. ا. هـ. منه.
قلت: وذهب إلى الجمع بين القولين بعض العُلماء فقال: الصَّواب في ذلك أن ينظر إلى الحرف الذي يقرأ به المصلي في صلاته؛ فإن صلى بقراءة نافع مثلًا أو بقراءة عاصم لم يعتبرها آية، ومن قرأ بقراءة ابن كثير المكي الشافعي اعتبرها آية من الفاتحة؛ لأن ابن كثير يرويها آية، إلا أن الإجماع منعقد على التي في النمل أنها بعض آية من القرآن. قال في مراقي السعود:
وليس للقرآن تعزي البسملة
…
وكونها منه الخلافي نقله
وبعضهم إلى القراءة نظر
…
فذاك للوفاق رأي معتبر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: كَدُعَاءٍ قبل قراءة؛ هو مذهب المدونة ونص ما فيها: وقال مالك من كان وراء الإمام، ومن هو وحده، ومن كان إمامًا، فلا يقل:"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ" ولكن يكبرون ويبتدئون القراءة. ا. هـ. منه.
ولكن السنة جاءت بدعاء الاستفتاح؛ ففي سنن الدارمي ما نصه: أخبرنا زكريا بن عدي، حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فكبر فقال: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ"، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ صَلَاتَهُ قَالَ جَعْفَرٌ: وَفَسَّرَهُ مَطَرٌ: هَمْزُهُ: الْمُوتَةُ، وَنَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ. ا. هـ.
وعن أبي هريرة قال: سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكبير والقراءة إسكاتة، قال: حسبته قال: هنيهة. قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟. قال: "أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ والْمَاءِ وَالْبَرَدِ". ا. هـ. رواه البغوي وقال: متفق عليه. أخرجه البخاري عن موسي بن اسماعيل، وأخرجه مسلم عن أبي كامل الجحدري، كلاهما عن عبد الواحد بن زياد.
(3)
وقوله: بعد فاتحة؛ وأثناءها وأثناء سورة، وركوع، وقبل تشهد وبعد سلام إمام وتشهد أول؛ أي لأن هذه المواضع كلها لم يؤثر الدعاء فيها.
وقوله: لا بين سجدتيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم روي ابن عباس أنه كان يقول بين السجدتين: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي وَأرزُقْنِي". ويروى هكذا عن عليٍّ. وبه يقول الشافعي، وأحمد، واسحاق أنه يقول هكذا في المكتوبة والتطوع جميعًا. ا. هـ. البغوي.
وروي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: "رَبِّ اغْفِرْ لِي" أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه. وإسناده صحيح. صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وَإِنْ لِدُنْيَا، وسَمَّى مَنْ أحَبَّ، وَلَوْ قَالَ: يَا فُلَانُ، فَعَلَ اللهُ بِكَ كَذَا لَمْ تَبْطُلْ (1). وَكُرِهَ سُجُودٌ عَلَى ثَوْبٍ (2) لَا حَصِيرٍ وَتَرْكُهُ أَحْسَنُ (3)، وَكُرِهَ رَفْعُ مُؤْمٍ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، وسُجُودٌ عَلى كَوْرِ عِمَامَتِهِ (4) أوْ طَرَفِ كُمٍّ، وَنَقْلِ حَصْبَاءَ مِن ظِلٍّ
(1)
غير أن قوله: وتشهد أول، عاطفًا على المواضع التي يكره فيها الدعاء، فيه نظر؛ لما في الموطإ -بعد ذكر التشهد- من حديث عبد الله بن عمر قال: ويقول هذا في الركعتين الأولين، ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له، فإذا جلس في آخر صلاته تشهد كذلك أيضًا. الخ الحديث، قال الباجي هنا: قوله ويدعو إذا قضى تشهده بما بدا له؛ يريد من أمور دينه ودنياه ما لم يمنع الدعاء به، ولا بأس بالدعاء في الصلاة كلها بغير القرآن، ويدعو على الظالم ويدعو للمظلوم، وقال أبو حنيفة: لا يدعو بغير القرآن، والأصل في ذلك ما أخرجه البخاري: قال أبو هريرة: وكان صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ". يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم فيقول: "اللَّهُمَّ انْجِ الْوَلِيدَ ابْنَ الْوَلِيدَ وسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ". ا. هـ. منه.
وبهذا يتضح لك دليل قوله رحمه الله: ودعا بما أحب وأن الدنيا وسمى من أحب. الخ.
(2)
وقوله: وكره سجود على ثوب، بشكل عليه ما أخرجه الدارمي في سننه: أخبرنا عفان، ثنا بشر بن المفضل، ثنا غالب القطان عن بكر بن عبد الله عن أنس، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فصلى عليه. ا. هـ. منه. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
(3)
وقوله: لا حصير وتركه أحسن؛ لقول مالك في المدونة: ويسجد على الخمرة والحصير وما أشبه ذلك، ويضع يديه على الذي يضع عليه جبهته. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وسجود على كور عمامته؛ هو لما في المدونة من قوله: وقال فيمن سجد على كور العمامة. قال: أحب إليَّ أن يرفعها عن بعض جبهته حتى يمس بعض جبهته الأرض. قلت: فإن سجد على كور العمامة. قال: أكرهه، فإن فعل فلا إعادة عليه. ا. هـ. منه.
لَهُ بِمَسْجِدٍ (1)، وقَراءَةٌ بِرُكُوعٍ أَو سُجُود (2)، وَدُعَاءٌ خَاصٌّ أو بِعَجَمِيَّةٍ لِقَادِرٍ، وَالْتِفاتٌ بِلَا حَاجَةٍ (3)، وتَشْبِيكُ أَصَابِعَ وفَرْقَعَتُهَا (4)، وإِقْعَاء (5) وَتَخَصُّر (6) ورفعه رِجْلًا، وَوَضْعُ قَدَمٍ عَلى أخْرى (7) وتفكر بدنيوي، وحمل شيء بِكُمٍّ أوْ فَمٍ، وتزويق قِبْلَةٍ (8) وَتعَمُّدُ مُصْحَفٍ فيهِ (9) وَعَبثٌ بِلِحْيَتِهِ (10) أوْ غَيْرِهَا كبَناءِ مَسْجِدٍ غير مُرَبَّعٍ وَفِي كُرْهِ الصَّلاةِ به قَوْلَانِ (11).
(1)
وقوله: ونقل حصباء من ظل له بمسجد؛ هو أيضًا لما في المدونة: وقال مالك: لا يعجبني أن يحمل الرجل الحصباء أو التراب من موضع الظل إلى موضع الشمس فيسجد عليه. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وقراءة بركوع أو سجود؛ دليله ما في سنن الدارمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد، حدثنا بن عيينة عن سلمان بن سحيم عن ابراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه عن ابن عباس. قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا رَبَّكُمْ. وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: والتفات بلا حاجة؛ هو أيضًا لما أخرجه الدرامي: حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث، حدثني يونس عن ابن شهاب قال: سمعت أبا الأحوص يحدث عن ابن المسيب أن أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ". ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وتشبيك أصابع وفرقعتها؛ هو لما في مصنف عبد الرزاق عن الثوري عن العلاء بن المسيب، عن أبي مصعب عن أبي عباس أنه كره أن ينقض الرجل أصابعه في الصلاة؛ ا. هـ. وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أنه كره تفقيع الرجل أصابعه في الصلاة؛ يعني تنقيض الأصابع. وأما بالنسبة لتشبيك الأصابع، ففي المُصَنِّف ما نصه: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد، عن رجل مصدق أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلَا يَزَالُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا تَقُولُوا: هَكَذَا ثُمَّ شَبَّكَ فِي الْأَصَابِعِ، إِحْدَى أَصَابِعِ يَدَيْهِ فِي الْأُخْرَى". ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذا الحديث، قال حبيب الرحمن الأعظمي: أخرجه كنز العمال: 4/ 2314. وأخرجه الترمذي من طريق الليث بن سعد عن ابن عجلان، وأخرجه النسائي وأحمد. ا. هـ.
(5)
وقوله: وإقعاءٌ؛ هو لما في مصنف عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَقْعَيَنَّ إِقْعَاءَ الْكَلْبِ". ا. هـ.
وعن عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليٍّ قال: الإقعاء عقبة الشيطان. قلت: وعن عبد الرزاق أيضًا عن عمرو بن حوشب قال: أخبرني عكرمة أنه سمع ابن عباس يقول: الإقعاء في الصلاة هو السنة. ا. هـ.
وعن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: من السنة أن يمس عقبك إلْيتيك. قال: وقال طاوس: ورأيت العبادلة يقعون: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير. ا. هـ.
والظاهر أن الصَّواب هو ما ذهب إليه النووي من الجمع بين هذه الأخبار من حمل النهي على جلسة الكلب؛ وهي أن يلصق المرء إلْيتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض. قال: فهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه. وحمل الإقعاء الموصوف بأنه سنة على أن يجعل المرءُ إلْيتيه على عقبيه بين السجدتين. قال الأعظمي: وهذا ملخص ما قال البيهقي، والشوكاني وابن الهمام. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وتخصُّرٌ، هو لما في أبي داود: حدثنا هناد بن السري عن وكيع عن سعيد بن زياد ابن صُبيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلي قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. ا. هـ.
وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر، والثوري عن الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق عن عائشة؛ نهت أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصلاة كما يصنع اليهود، قال معمر في حديثه: إنه معشر اليهود. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: ورفعه رجلًا ووضع قدم على أخرى؛ إن في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال: قلت لعطاء: يركع المرء حاذيًا قدميه يفوق إحداهما الأخرى. قال: لا بأس بذلك. ا. هـ.
وأما قوله ورفعه رجلًا، فلعله لما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله: قارُّوا الصلاة، يقول اسكنوا واطمئنوا. والله أعلم.
(8)
وقوله: وتزويق قبلة، هو لما في المدونة: قلت: أكان مالك يكره أن يكون في القبلة مثل هذا الكتاب الذي كتب في مسجدكم بالفسطاط؟. قال: سمعت مالكًا وذكر مسجد المدينة وما عمل في قبلته من التزويق وغيره، قال: كره ذلك الناس حين فعلوه وذلك يشغل الناس في صلاتهم، فينظرون إليه فيلهيهم، قال مالك: ولقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أراد نزعه فقيل له: إن ذلك لا يخرج كبير شيء من ذهب. فتركه. ا. هـ. منه.
(9)
وقوله: وتعمد مصحف فيه، هو أيضًا لما في المدونة: قال: وسئل مالك عن المصحف يكون في القبلة أيصلى إليه، وهو في القبلة؟. قال مالك: إن كان إنما جعل ليصلى إليه فلا خير فيه، وإن كان إنما هو موضعه ومعلقه فلا أرى بذلك بأسًا. ا. هـ. منه.
(10)
وقوله: وعبث يلحيته وغيرها، هو لما روى عبد الرزاق عن معمر عن أبان قال: رأى ابن المسيب رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: إني لأرى هذا لو خشع قلبه خشعت جوارحه. ا. هـ.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن رجل قال: رآني ابن المسيب أعبث بالحصى في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. ا. هـ.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أنه كان يكره كل شيء من العبث في الصلاة. قال الثوري: جاءت الأحاديث أنه كان يكره العبث في الصلاة. ا. هـ. منه.
(11)
وقوله كبناء مسجد غير مربع الخ، الله تعالى أعلم بمستنده فيه، فإني لم أقف على شيء من السنة تتكلم على هندسة المساجد. وبالله التوفيق.
غير أن التعليل الذي عللوا به الكراهة، وهو عدم استواء الصفوف فيه، إن لم يكن مربعًا أو مستطيلًا، وجيه جدًا. والله أعلم. =
فصل:
يَجِبُ بِفَرْضٍ قِيامٌ (1) إلَّا لِمَشَقَّةٍ أَوْ لِخَوْفهِ، به فيهَا أَو قَبْلُ، ضَرَرًا كالتّيمُّمِ كَخُروجِ ريح ثُمَّ اسْتِنَادٌ (2)، لَا لِجُنُب أوْ حَائضٍ، ولَهُمَا أَعَادَ بِوَقْتٍ (3)، ثُمَّ جُلُوسٌ كَذلِكَ (4) وتَربَّعَ كالمتنفِّلِ وَغَيَّرَ جِلْسَتَهُ بَيْنَ سَجْدَتيهِ (5). وَلوْ سَقَطَ قَادِرٌ
(1)
قوله يجب بفرض قيام؛ دليله قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)
(1)
وما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وقد قال: "صَلُّوا كمَا رأَيْتمُونِي أُصَلِّي" وأيضًا فقد ورد في رواية البخاري لحديث المسيء صلاته: وقال بعد السجود الأخير: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائمًا ثُمَّ افْعَلْ ذلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا".
(2)
وقوله: إلا لمشقة أو لخوفه به فيها، أو قبلُ ضررًا كالتيمم كخروج ريح ثم استناد؛ دليله أدلة يسر الإسلام (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
(2)
الآية. وأمثالها، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
(3)
وقوله: لا لجنب أو حائض، ولهما أعاد بوقت؛ هو لقوله في المدونة: قلت لابن القاسم: أرأيت إن كان يقدر على الجلوس هذا المريض إذا رفدوه أيصلي جالسًا مرفودًا أحب إليك أم يصلي مضطجعًا؟. قال: بل يصلي جالسًا مسنودًا أحب إليَّ، ولا يصلي مضطجعًا ولا يستند بحائض ولا جنب. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ثم جلوس كذلك؛ دليله ما أخرجه الألباني في صلاته أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفريضة في مرض موته جالسًا. وقال: رواه الترمذي وصححه. وأحمد. قال. وصلاها كذلك مرة أخرى قبل هذه حين اشتكى، وصلى وراءه الناس قيامًا فأشار إليهم، أن اجلسوا فجلسوا، فلما انصرف قال:"إنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَ بِه فَإذَا رَكعَ فَارْكَعُوا وإذَا رَفَعَ فَارْفعُوا وإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ". وقال: رواه البخاري ومسلم. =
(1)
سورة البقرة: 238.
(2)
سورة البقرة: 286.
بِزَوَالِ عِمَادٍ بَطَلَتْ (1) وإلَّا كُرِهَ، ثُمَّ نُدِبَ عَلى أَيْمَنَ ثُمَّ على أَيْسَرَ ثُمَّ عَلى ظَهْرٍ (2)، وأومأَ عَاجِزٌ إلَّا عَنِ الْقِيامِ، ومع الْجُلُوسِ أَوْمَأَ للسُّجُود مِنْهُ (3)، وهل يَجِبُ فيهِ الْوُسْعُ ويُجْزِئُ إِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ تَأْوِيلَانِ، وَهَلْ يومئ بِيَدَيْهِ أوْ يَضَعُهُمَا عَلَى الأَرْضِ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ - كَحَسْرِ عِمَامَتِهِ بِسِجُودٍ تأْويلانِ، وإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكُلِّ وإنْ سَجَدَ لا يَنْهَضُ أتَمَّ ركْعَةً ثُمَّ جَلَسَ (4)، وإِنْ خَفَّ مَعْذُورٌ انْتَقَلَ
= قال: وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: كانت بي بواسير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صَلِّ قَائِمًا فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ". قال الألباني رواه البخاري وأبو داود. ا. هـ. منه.
(5)
قوله: وغير جلسته بين سجدتيه؛ هو لما في المدونة: وقال مالك في الرجل يصلي قاعدًا، قال: جلوسه في موضع الجلوس بمنزلة جلوس القائم؛ يضع إليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى. اهـ. منه.
(1)
قوله: ولو سقط قادر بزوال عماد بطلت وإلا كره؛ توجيه ظاهر لوجوب القيام على القادر عليه.
(2)
وقوله: ثم ندب على أيمن ثم على أيسر ثم على ظهر؛ هو لما في المدونة: وقال مالك وإن لم يستطع المريض أن يصلي متربعًا صلى على قدر ما يطيق من قعوده، أو على جنبه أو على ظهره ويستقبل به القبة، وقال أيضًا أو على ظهره؛ تجعل رجلاه بما يلي القبة ووجهه مستقبل القبة ا. هـ.
(3)
وقوله: وأومأ عاجزًا إلا عن القيام، ومع الجلوس أومأ للسجود منه؛ هو لما في المدونة أيضًا: وسألت مالكًا عن الرجل يقدر على القيام ولا يقدر على الركوع والسجود كيف يصلي؟. قال: يومئ برأسه قائمًا للركوع، على قدر طاقته، ويمد يديه إلى ركبتيه، فإن كان يقدر على السجود سجد، وإن لم يكن يقدر على السجود ويقدر على الجلوس أومأ للسجود جالسًا. ا. هـ. منه.
(4)
قوله: وإن قدر على الكل وإن سجد لا ينهض أتم ركعة ثم جلس، هو لقوله تعالى:=
لِلأعْلَى (1)، وإِنْ عَجَزَ عن فَاتِحَةٍ قَائِمًا جَلَسَ، وَإِن لمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلى نِيَّةٍ أَو مَعَ إِيماءٍ بطَرَفٍ، قَالَ وَغَيْرُه: لَا نَصَّ، ومُقْتَضَى الْمَذْهَب الْوُجُوبُ (2)، وَجَازَ قدْحُ عَيْنٍ أدَّى لِجُلُوسٍ لَا اسْتِلْقَاءٍ، فَيُعِيدُ أبَدًا وَصُحِّحَ عُذْرُهُ أيْضًا (3)، ولِمَرِيضٍ
= (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
(1)
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذَا أمَرتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْه مَا اسْتَطَعْتُمْ). ولقول مالك في المدونة: افعل من ذلك ما استطعت وتيسر عليك، فإن دين الله يسر. ا. هـ.
(1)
وقوله: وإن خف معذور انتقل للأعلى؛ هو لما في المدونة: وقال ابن القاسم في الرجل الذي يفتتح الصلاة جالسًا لا يقوى إلا على ذلك، ثم يصح بعد ذلك في بعض صلاته، أنه يقوم فيما بقي من صلاته، وصلاته مجزئة عنه، وكذلك لو افتتحها قائمًا ثم عرض له ما يمنعه من القيام، صلى ما بقي من صلاته جالسًا، وهو ما يعنيه: وإن عجز عن فاتحة. الخ.
(2)
وقوله: وإن لم يقدر إلا على نية أو مع إيماء بطرف؛ قال وغيره: لا نص. ومقتضى المذهب الوجوب، قد كفانا المصنف نفسه مثونة طلب الدليل حيث قال: لا نص. والله أعلم.
(3)
قوله: وجاز قدح عين أدى لجلوس لا استلقاء فيعيد أبدًا وصحح عذره أيضًا؛ هو لما في المدونة إلى قوله: فيعيد أبدًا، قال: وقال ابن القاسم في الذي يقدح الماء في عينيه فيؤمر بالاضطجاع على ظهره، ولا يزال كذلك اليومين ونحو ذلك، قال: سئل مالك عنه فكرهه، وقال: لا أحب لأحد أن يفعله. قال ابن القاسم: ولو فعله رجل فصلى على حالته تلك، رأيت أن يعيد الصلاة متى ما ذكر في الوقت وغيره، ا. هـ. منه.
وقوله وصحح عنه أيضًا؛ هو التحقيق إن شاء الله تعالى لقوله عز وجل: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُم إلَيْهِ)
(2)
والله أعلم.
(1)
سورة التغابن: 16.
(2)
سورة الأنعام:119.
سَتْرُ نَجِسٍ بِطَاهِرٍ ليُصَلِّيَ عَلَيْهِ، كالصَّحِيحِ عَلَى الأَرْجَحِ (1)، ولمتنفِّلٍ جُلُوسٌ وَلَوْ في أثْنَائِهَا إن لمْ يَدْخُلْ عَلى الإِتْمَام (2)، لا اضطجاعٌ وإِنْ أَوَّلًا.
(1)
وقوله: ولمريض ستر طاهر بنجس ليصلي عليه كالصحيح على الأرجح؛ لا نص فيه، وهو المذهب مع الكراهة وهو قول مالك وطاوس والشافعي والأوزاعي واسحاق، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، انظر المغني لابن قدامة.
(2)
وقوله: ولمتنفل جلوس ولو في أثنائها إن لم يدخل على الإِتمام؛ دليله ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي أحيانًا جالسًا. رواه مسلم وابو داود.
وقوله: ولو في أثنائها؛ لفتوى مالك في المدونة: قلت: فإن افتتح الصلاة قائمًا وأراد أن يجلس؟. قال: بلغني عن مالك أنه قال: لا بأس به، ولا أرى أنا به بأسًا. ا. هـ. منه.
وقوله: إن لم يدخل على الإتمام؛ لأن المعول على النية، لقوله صلى الله عليه وسلم "إنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". والله تعالى الموفق.
فصل:
وَجَبَ قَضَاءُ فَائِتَةٍ مُطْلَقًا (1)، وَمَعَ ذِكْرٍ تَرْتيبُ حَاضِرَتيْنِ شَرْطًا (2)، والْفَوَائتِ
(1)
وقوله: وجب قضاء فائتة مطلقًا؛ يعني بالإطلاق في أي وقت كان، من ليل أو نهار سواء كان وقت نهي أو لا، وذلك لما في المدونة: وقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِي صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَذْكُرُهَا" قال: ومن ذكر صلاة نسيها فليصلها إذا ذكرها في أية ساعة كانت من ليل أو نهار، عند مغيب الشمس أو طلوعها، قال: وإن بدا حاجب الشمس فليصلها. قال: وإن غاب بعض الشمس فليصلها إذا ذكرها ولا ينتظر، وذلك أن رسول ال صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّها إذَا ذَكَرَهَا". ا. هـ. منه. وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك، ورواه عن أبي هريرة وزاد بعد:"إذَا ذَكرَهَا: فَإنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ قَالَ". (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عمران عن الزهري عن ابن المسيب، وأخرجه عن عطاء أيضًا، وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة. ا. هـ.
(2)
وقوله: ومع ذكر ترتيب حاضرتين شرطًا، دليله ما في المدونة عن ابن وهب عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: من نسي صلاة من صلاته فلم يذكرها إلا وهو وراء إمام، فليصل الصلاة التي نسي، ثم ليصل بعدها الصلاة الأخرى، وقال مالك والليث ويحيى بن عبد الله من حديث ابن وهب، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا في كل من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو في صلاة غيرها، وهو مع إمام أو وحده، قال: فإن الصلاة التي ذكرها فيها تفسد عليه ولا تجزئه حتى يصليها بعد الصلاة التي نسي. ا. هـ. منه.
وفي مصنف عبد الرزاق ما نصه: عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال: انتهيت إلى المدينة - وهم يصلون العصر ولم أكن صليت الظهر - قال: فصليت معهم وأنا أحسب أنها الظهر، قال: فلما علمت أنها العصر قال: فصليت الظهر ثم صليت العصر. قال: ثم سألت بالمدينة فكلهم أمرني بالذي فعلت. قال ابن سيرين: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بها.
وعن عبد الرزاق عن إبراهيم عن رجل دخل مع قوم في العصر وهو لم يصل الظهر قال: كتب الله الظهر قبل العصر فيلصل الظهر ثم ليصل العصر، قال الأعظمي: وهذا الحديث رواه الطحاوي من =
فِي أَنْفُسِهَا (1)، وَيسيرِهَا مَعَ حَاضِرَةٍ وإنْ خَرَجَ وَقْتُهَا (2)، وَهَلْ أرْبَعٌ أوْ خَمْسٌ خِلَافٌ (3).
= طريق سعيد بن منصور عن هشيم عن المغيرة عن إبراهيم بمعناه، ورواه ابن أبي شيبة عن شريك عن مغيرة عن إبراهيم. ا. هـ.
(1)
وقوله: والفوائت في أنفسها؛ دليله ما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن مسعود، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موازي العدو، فشغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كان نصف الليل، فقام رسول صلى الله عليه وسلم فبدأ بالظهر فصلاها، ثم بالعصر ثم المغرب ثم العشاء يتبع بعضها بعضًا.
زاد فيه الوليد بن مسلم عن أبي الأوزاعي: يتابع بعضها بعضًا بإقامة إقامة. قال البيهقي: ورويناه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الأذان.
(2)
وقوله: ويسيرها مع حاضرة وإن خرج وقتها؛ هو لما في المدونة: قلت: فإن هو نسي صلوات؛ صلاتين أو ثلاثًا أو أربعًا؟. قال: إذا نسي صلوات يسيرة بدأ بها كلها قبل الصلاة التي حضره وقتها، وإذا كانت كثيرة بدأ بالصلاة التي حضر وقتها، ثم قضى ما كان نسي، قال: وهذا قول مالك.
قال ابن القاسم: وإنما الذي قال مالك في اليسيرة؛ الصلاة أو الصلاتين أو الثلاث أو ما قرب، قال وكيع: عن شريك عن المغبرة عن إبراهيم النخعي مثل قول مالك؛ أنه يقضي الأول فالأول متتابعًا. ا. هـ. منه. والله تعالى الموفق.
(3)
وقوله: وهل أربع أو خمس خلاف؟ قال جواهر الإكليل: إن الأول قول الرسالة، والثاني قول مالك رحمه الله تعالى، وتؤولت المدونة عليه وقدمه ابن الحاجب، واقتصر عليه الجلاب وعبد الوهاب، وصوبه في المقدمات. ا. هـ. منه. وأنا أقول: الله تعالى أعلم.
تنبيه: قوله: وإن خرج وقتها؛ هو قول الإمام في المدونة، ولفظه: قال. إذا كانت يسيرة صلاهن قبل الصبح وان فات وقت الصبح. ا. هـ. منه. قال في الإكليل وقال أشهب: إذا ضاق وقت الحاضرة يخير في تقديم أيهما شاء. وقال ابن وهب: يقدم الحاضرة مع ضيق وقتها. ويؤيد ما ذهب إليه ابن وهب، ما في مصنف عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن ابن المسيب في رجل نسي صلاة حتى دخل وقت الأخرى فخشي إن صلى الصلاة الأولى تفوته هذه، قال: يصلي هذه الصلاة التي يخش فواتها ولم يضيع مرتين. ا. هـ. =
فإن خَالَفَ وَلَوْ عَمْدًا أَعَادَ بِوَقْتِ الضَّرُورَة (1)، وَفِي إعَادَةِ مَأْمُومِه خِلَافٌ، وإنْ ذَكَرَ الْيَسِيرَ فِي صَلَاةٍ - وَلَو جُمُعَةً - قَطَعَ فَذٌّ وشَفَّعَ إنْ رَكَعَ، وإمَامٌ ومَأمُومُه (2) لا مؤتَمٌّ فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ جُمُعَة (3)، وكمَّلَ فَذٌّ بَعْدَ شَفْعٍ من المغرب كَثَلَاثٍ مِنْ غَيْرِهَا (4). وَإنْ جَهِلَ عَيْنَ مَنْسِيَةٍ مُطْلَقًا صَلَّى خَمْسًا، وَإنْ عَلِمَهَا دُونَ يَوْمِهَا
= وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن مثله. قال أبو بكر: وبه يأخذ الثوري. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: فإن خالف ولو عمدًا أعاد بوقت الضرورة؛ الظاهر أنه اتبع فيه المدونة ونص ما فيها: قلت أرأيت من نسي صلاة، ثم ذكرها، فلما ذكرها صلى صلوات وهو ذاكر لتلك الصلاة التي نسي ولم يصلها؟. قال: لا أحفظ عن مالك في هذا شيئًا، ولكن قال مالك: من نسي صلاة فذكرها، ثم ليعد كل صلاة هو في وقتها، قال: فأرى ذلك بهذه المنزلة، وإن كان صلى عمدًا - إذا ذهب الوقت - فإنما عليه أن يصلي التي نسي وكل صلاة هو في وقتها، وقد أساء فيما تعمد، ولا أحفظ عن مالك في العمد شيئًا. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وإن ذكر اليسير في صلاة - ولو جمعة - قطع فذ وشفع إن ركع وإمام ومأمومه؛ هو أيضًا لما في المدونة: قال مالك: الأمر عندنا في كل من نسي صلاة، فلم يذكرها إلا وهو في صلاة غيرها، وهو مع إمام أو وحده، فإن الصلاة التي ذكرها فيها تفسد عليه ولا تجزئه، حتى يصليها بعد الصلاة التي نسي؛ هذا قوله فيما يختص بالفذ من هذه الجملة من المختصر، وأما فيما يختص بالإمام. فقد قال: قبل ذلك ما نصه: وقال مالك في إمام ذكر صلاة نسيها، قال ابن القاسم قال مالك: أرى أن يقطع ويعلمهم ويقطعوا ولم يره مثل الحدث. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: لا مؤتم فيعيد في الوقت ولو جمعة؛ عطف المغايرة فيه لعدم القطع، ففي المدونة ما نصه: فإن كان مع الإمام فذكر وهو في العصر أنه نسي الظهر مض مع الإمام حتى يفرغ، فيصلي هو الظهر فيعيد هو العصر. ا. هـ. منه.
وقال في موضع قبل ذلك: وإن كان خلف الإمام ثم ذكر صلاة نسيها قال: يتمادى مع الإمام ولا يقطع حتى يفرغ، فإذا فرغ صلى التي نسي، ثم أعاد التي صلى مع الإمام. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وكمل فذ بعد شفع من المغرب كثلاث من غيرها؛ هو خلاف ما في المدرنة فإن =
صَلَّاهَا نَاوِيًا له، وإن نسي صَلَاةً وثانيتها صَلَّى سِتًّا، وَنُدِبَ تَقْديمُ ظُهْرٍ، وَفِي ثالِثَتِهَا أَو رَابِعَتِهَا أَوْ خَامِسَتِهَا كذلك يُثَنِّي بِالمَنْسِيِّ، وصَلَّى الخمس مَرَّتَيْنِ فِي سَادِسَتِهَا وَحَادِيَةِ عَشَرتهَا، وَفِي صَلَاَتيْنِ مِن يَوْمَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ لَا يَدْري السَّابِقَةَ، صَلَّاهُمَا وأَعَادَ المُبْتَدَأَةَ، وَمَعَ الشك في القَصْرِ أَعَادَ إثْرَ كل حَضَريَّةٍ سَفَريَّةً، وثَلَاثًا كَذلِكَ وسَبْعًا وأرْبَعًا ثَلَاثَ عَشْرَةَ وخَمْسًا إحْدى وعِشرينَ، وَصَلَّى في ثلاث مُرتَّبةِ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ الأُولى سَبْعًا وأَربَعًا ثمانِيًا وخمسًا تسعًا (1).
= فيها: وإن ذكرها بعد ما صلى ثلاثًا فليضف إليها رابعة وليقطع. قال ابن القاسم: ويقطع التي دخل فيها إذا ذكر التي نسي بعد ثلاث ركعات أحب إليَّ، وليصل التي نسي ثم يصلي هذه التي ذكر فيها. ا. هـ. منه.
وتأمل يرحمك الله تعليل الدرديري هنا عند: وكمل فذ بعد شفع من المغرب؛ قال: لئلا يؤدي ذلك إلى التنفل قبلها. والعجب لا ينقضي من هذا التعليل؛ وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مغفل الذي تقدم، أن رسول الله أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب ثلاث مرات قال: في الثالثة منها "لِمَنْ شَاءَ". رواه البخاري وأحمد وأبو داود. ومثار عجبي هو أنه كيف يفضي بهم الفرار من امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت بسنته إلى تأخير ما قدم الله من فروضه وتقديم ما أخر الله، وقد تقدم لك أثر عبد الرزاق الذي يقول فيه: كتب الله الظهر قبل العصر؛ فليصل الظهر ثم ليصل العصر. ا. هـ.
نرجو الله سبحانه أن يسددنا جميعًا، ويعصمنا من التعصب المذهبي وأن لا يحرمنا فضيلة الاتباع. هو الموفق. هو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وقوله: وإن جهل عين منسية الخ. هو شروع من المصنف رحمه الله في تفصيل ما تبرأ به الذمة عند جهل الفوائت، وهو بمحض الاجتهاد، وذلك ما يخرجه عن موضوع بحثنا هذا، لأن موضوعه الدليل، غير أنه لما كان في بعض ألفاظ المصنف هنا شبه تعقيد، رأيت أن أنقل ألفاظ أخصر شراح المختصر لبعض الإيضاح؛ قال في جواهر الإكليل: وإن جهل ذات صلاة متروكة خرج وقتها، وذمته مشغولة بها، سواء نسيها أو فاتت لعذر غير مسقط كنوم، ولم يدر أي صلاة هي مطلقًا عن تقييدها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بكونها ليلية أو نهارية، صلى وجوبًا لتبرأ ذمته خمسًا من الصلوات، وهي المفروضة في اليوم والليلة، يبدأ بالظهر ويختم بالصبح ليحيط بأوجه الشك، فإن علمها نهارية صلى الظهر والعصر والصبح وبرئت ذمته، وإن علمها ليلية صلى المغرب والعشاء، وإن علم عينها بأنها ظهر مثلًا دون عين يومها الذي تركت منه، صلاها ناويًا ندبًا اليوم الذي علم الله أنها له، لأن تعيين الزمن ليس شرطًا في صحة الصلاة، ولم نسي عين ما عليه من الفوائت، وكان صلاة وثانيتها ولم يدر هل هما من ليل أو نهار، أو منهما ولم يدر أيضًا هل الليل سابق النهار أوعكسه، صلى وجوبًا ستًا من الصلوات بترتيبها المعلوم، خاتمًا بالتي بدأ بها، وندب تقديم الظهر في قضاء الست، لأنها أول صلاة صلاها جبريل عليه السلام بالنيي صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الإسراء، وقيل يبدأ بالصبح لأنها أول صلاة النهار، فإن علمها من الليل فيصلي المغرب والعشاء فقط، وإن علمها من النهار صلى الصبح والظهر والعصر فقط، وإن علم أن إحداهما من الليل والأخرى من النهار وأن الليل سابق النهار، فيصلي العشاء والصبح، وإن علم سبق النهار فيصلي العصر والمغرب، وإن شك في السابق منهما صلى العصر والمغرب والعشاء والصبح، وإن جهل عين صلاة وعين ثالثتها، أو جهل عين صلاة وعين رابعتها، أو جهل عين صلاة وعين خامستها كذلك، أي كالحكم في جهل عين صلاة وعين ثانيتها من صلاة ست صلوات، وندب تقديم الظهر لكنها غير متوالية بل حال كونه يثني كل صلاة فرغ منها باقي المنسي، على تقدير أن أولاه هي المفروغ منها، فإن بدأ بالظهر مثلًا وأتمها قدر أنها الأولى وثناها بباقي المنسي، وهي ثانيتها في الصورة الأولى، وثالثتها في الصورة الثانية، وبرابعتها في الصورة الثالثة، وبخامستها في الصورة الرابعة، فإذا فرغ من هذه قدرها الأولى وثناها بباقيه كذلك. وهكذا يفعل حتى يصلي ست صلوات خاتمًا التي بدأ بها للترتيب، وصلى الخمس مرتين في حالة نسيان عين صلاة وعين سادستها، وهي مماثلته من اليوم الثاني، وهذا صادق بصورتين: صلاة الخمس متوالية وإعادتها كذلك، وصلاة ظهرين فعصرين وهكذا. واختار ابن عرفة الأولى لانتقال النية من يوم لآخر مرة نقط، وقال المازري: الثانية أولى؛ وفي نسيان عين صلاة وعين حادية عشرتها وهي مماثلتها من اليوم الثالث، كما ماثله؛ أي في صلاة ست صلوات على الصواب الذي قاله الحطاب والرماحي وغيرهما، خلافًا للبساطي والتتائي وغيرهما في صلاة الخصى مرتين، وفي نسيان ترتيب صلاتين معينتين من يومين معينين، لا يدرى السابقة منهما بأن لم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يعلم عين اليومين، أو لم يعلم السابق منهما، أو لم يعلم أي الصلاتين لأي اليومين صلى الفائتتين، ناويًا كل صلاة لليوم المعلوم في علم الله تعالى، وأعاد وجوبًا المبتدأة منهما للترتيب؛ ومع الشك في القصر أعاد إثر كل حضرية سفرية، فمن نسى ظهرًا وعصرًا مثلًا من يومين معينين، ولا يدري السابقة منهما، وشك مع ذلك؛ هل كان الترك لهما في السفر أو في الحضر؟. فالصحيح أنه يصلي ظهرًا حضرية ثم يصليها سفرية، ثم عصرًا حضرية ثم يصليها سفرية، ثم يصلي ظهرًا حضرية ثم يصليها سفرية، فإن بدأ بالسفرية أعادها تامة وجوبًا، إذ لا تكفي عنها السفرية، على تقدير أنها حضرية بخلاف العكس؛ وإن ذكر ثلاثًا من الصلوات كذلك؛ أي المذكور من الصلاتين في التعيين كظهر وعصر ومغرب، من ثلاثة أيام معينة أم لا، ولم يدر السابقة منها، صلى وجوبًا سبعًا من الصلوات لتبرأ ذمته، بأن يصليها مرتبة ويعيدها كذلك ويعيد التي بدأ بها.
ومثل هذا يقال في قوله: وإن ذكر أربعًا من الفوائت معينات كصبح وظهر وعصر ومغرب، من أربعة أيام معينات أم لا، لا يعلم ترتيبها، صلى ثلاث عشرة صلات، بأن يصلي الأربع مرتبة ثلاث مرات، ويصلي المبتدأ بها مرة رابعة ليحيط بصورة الشك، وإن ذكر خمسًا من الفوائت معينات من خمسة أيام معينة وجهل ترتيبها، صلى إحدى وعشرين صلاة؛ بأن يصلي الخمس مرتبة أربع مرات ويعيد المبتدأ بها مرة خامسة، ليحيط باحتمالات الشك، وصلى في جهل عين ثلاث من الفوائت متتالية مرتبة؛ وهي الصلاة وثانيتها وثالثتها من يوم وليلة، لا يعلم المكلف الصلاة الأولى منها ولا الثانية ولا الثالثة، ولا يعلم سبق الليل والنهار ولا عكس ذلك؛ يصلي في هذه الحالة سبعًا بأن يصلي الصلوات الخمس مرتبة ويعيد الأولى والثانية ليحيط بأحوال الشك في ترتيبها، وإن جهل أربعًا من الفوائت المتوالية من يوم وليلة، ولا يدري سبق الليل من النهار، وهي الصلاة وثانيتها وثالثتها ورابعتها، صلى ثمانيًا وهي الخمس المرتبة ويعيد الأولى والثانية والثالثة للترتيب، وإن جهل خمسًا كذلك - أي متوالية - لا يدري السابقة منها؛ صلى تسعًا ليحيط بأوجه الشك، وإن علم تقدم الليل على النهار صلى خمسًا مبتدئًا بالمغرب، وإن علم تقدم النهار على الليل صلى خمسًا مبتدئًا بالصبح، لكنه في هذين القسمين عالم بالعين والترتيب. انتهى من جواهر الإكليل بتصرف قليل. والله الموفق.
سجود السهو
فصل:
سُنَّ لِسَهْوٍ - وَإنْ تَكَرَّرَ - بِنَقْصِ سُنَةٍ مؤَكَّدَةٍ، أوْ مَعَ زِيادَةٍ، سَجْدَتَانِ قَبْلَ سَلَامِهِ (1). وبالْجَامِعِ فِي الجُمُعَةِ، وأَعَادَ تَشَهُّدَه (2)؛ كَتَرْكِ جَهْرٍ وَسُورةٍ بِفَرْضٍ، وتَشَهُدَيْنِ (3)، وإلَّا فَبَعْدَهُ. كمُتمٍّ لِشَكٍّ وَمُقْتَصِرٍ عَلَى شَفْعٍ شَكٍّ؛ أهُوَ بِهِ أَو بِوِتْرٍ؟. أَوْ تَرْكِ سِرٍّ بِفْرضٍ (4) أَو اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ، ولَهِيَ عَنْهُ (5)، كَطُولٍ بِمَحَلٍّ لم يُشْرَعْ فيهِ عَلَى الأَظْهَرِ.
(1)
قوله: من لسهو وإن تكرر بنقص سنة مؤكدة أو مع زيادة سجدتان قبل سلامه؛ أما دليل سجود الركعتين من أجل السهو، فهو حديث أبي هريرة المتفق عليه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَيَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذلِكَ فَليَسْجُدْ سَجْدَتَينِ وَهُوَ جَالِسٌ". قال البغوي: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك. ا. هـ.
وأما دليل أن الزيادة إن كانت لنقص سنة مؤكدة تكون قبل السلام، فهو حديث عبد الله بن بحينة المتفق عليه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر فلم يجلس فيهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين، ثم سلم بعد ذلك. ا. هـ. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأخرجاه من طرق عن الأعرج. ا. هـ.
وأما الدليل على أن السهو إن تكرر في الصلاة لا يلزم منه إلا سجدتان فهو حديث أبي هريرة المتفق عليه، ولفظه عند البغوي: صلَّى لنا رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟. فقال رسول الله: "كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ" فقال: فقد كان بعض ذلك يا رسول الله. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "أصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ"؟. فقالوا: نعم. فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من صلاته، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ا. هـ. قال البغوي: أخرجه مسلم عن قتيبة عن مالك، وأخرجاه من طرق عن ابن سيرين عن أبي هريرة.
قال البغوي: وفي الحديث دليل على أنه إذا سها في صلاة واحدة مرَّات أجزأته لجميعها سجدتان؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين، وتكلم لم يزد على السجدتين، وهو قول عامة الفقهاء، عدا الأوزاعي. ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: وهو جار على القاعدة الفقهية: إذا تعدد السبب واتحد الموجب اكتفي بموجب واحد. وقد عقده ميارة في التكميل فقال:
إن يتعدد سبب والموجَبُ
…
متحد كفى لهن موجب
(2)
وقوله: وأعاد تشهده: أي لقول عبد الرزاق في المصنف عن الثوري عن خصيف عن أبي عبيدة عن ابن مسعود أنه يتشهد في سجدتي السهو. ا. هـ.
وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن خصيف بهذا الإسناد من قول ابن مسعود. ا. هـ. تعليق الأعظمي على المصنف.
وفي مصنف عبد الرزاق أيضًا عن عبد الله بن كثير عن شعبة بن الحجاج عن الحكم أن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وهم في صلاته، فسلم فسجد سجدتي السهو ثم سلم مرة أخرى، قال: سألت الحكم وحمادًا فقالا: يتشهد في سجدتي السهو. ا. هـ.
قال الأعظمي: أخرجه ابن أبي شيببة عن شبابة عن شعبة عن الحكم وحماد أنهما قالا: يتشهد في سجود السهو ثم يسلم. ا. هـ.
وأخرج البغوي بسنده عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها في صلاته، فسجد سجدتي السهو ثم تشهد ثم سلم. ا. هـ.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. ورواه أبو داود باب سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم. ورواه الحاكم وصححه على شرط الصحيحين. وصححه ابن حبان أيضًا. وفي التعليق على شرح السنة للبغوي ما نصه: وروى الطحاوي 1/ 252 عن ربيع المؤذن عن يحيى بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حسان؛ حدثنا وهيب ثنا منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ أثلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذلِكَ إلَى الصَّوَابِ فَلْيُتِمَّهُ ثُمَّ لْيُسَلِّمْ ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهوِ وَيَتَشَهَّدْ وَيُسَلِّمْ" إسناده قوي. ا. هـ. منه بلفظه.
(3)
وقوله: كترك جهر وسورة بفرض وتشهدين؛ هي أمثلة لما يلزم من تركه سهوًا، السجود قبل السلام.
(4)
وقوله: وإلا فبعده كمتم لشك الخ. ذكر فيه أن السهو إن كان بزيادة في الصلاة لزم بموجبه سجود السهو بعد السلام، ودليله حديث علقمة عن عبد الله المتفق عليه، ولفظه عند البغوي: عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيدت الصلاة؟. فقال: "وَما ذَاكَ"؟. قالوا: صليت خمسًا فسجد سجدتين بعد ما سلم. ا. هـ.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في السهو، ومسلم، باب السهو في الصلاة. وأخرجه أبو داود في الصلاة، باب إذا صلى خمسًا، وأخرجه الترمذي في الصلاة؛ باب ما جاء في سجدتي السهو بعد السلام والكلام. وأخرجه النسائي في إقامة الصلاة، باب من صلى الظهر خمسًا وهو ساهٍ. والله الموفق.
وقوله: كمقتصر على شفع شك أهو به أو بوتر؟. هو لما في المدونة: وقال مالك فيمن صلى نافلة ثلاث ركعات ساهيًا، فإنه يضيف إليها ركعة أخرى ويسجد لسهوه إذا فرغ من الرابعة، وإن ذكر قبل أن يركع في الثالثة قعد وسلم وسجد بعد السلام. ومحل الشاهد منه، وان كان قول المختصر فيمن شك في قدر ما صلى، والمثال هنا فيمن تيقن الزيادة، فمحل الشاهد أن حكم السهو في النافلة والفرض سوا، وقد علمت أن الحكم في ذلك البناء على اليقين والإتمام بموجب ذلك، ثم سجود السهو بعد ذلك، وقد نص في المدونة على ذلك. قال: وقال مالك في السهو: في التطوع والمكتوبة سواء في ذلك. ا. هـ. منه.
وقوله: أو ترك سر بفرض؛ دليله ما في مصنف عبد الرزاق عن الثوري قال: إذا قمت فيما يجلس فيه، أو جلست فيما يقام فيه، أو جهرت فيما يخافت فيه، أو خافت فيما يجهر فيه ناسيًا، سجدت سجدتي السهو. ا. هـ. محل الغرض منه. والله الموفق. =
وَإنْ بَعْدَ شَهْرٍ (1)، بإحْرَامٍ وَتَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ جَهْرًا (2)، وَصَحَّ إن قُدِّمَ أَوْ أْخِّرَ لَا إنْ اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوُ ويُصْلِحُ (3).
= (5) وقوله: أو استنكحه الشك ولهي عنه: أي وإن كان استنكحه الشك بالنقص؛ بأن دام عليه حصوله كل يوم ولو مرة، سجد لهذا السهو بعد السلام، ووجب عليه الإعراض عنه، وأن يبني على التمام، وسجد بعد السلام إرغامًا للشيطان لا يدفع إلا ذلك، ودليله ما في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: إن صليت المكتوبة فشككت عدت، ثم شككت؟. قال: فلا تَعُدْ. قال: فقلت: إني استيقنت إني صليت خمس ركعات. قال: فلا تَعُدْ وإن صليت عشر ركعات، فاسجد سجدتي السهو. ا. هـ.
وعن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن مسعر، قال: قلت لمحارب بن دثار: سمعت عبد الله بن عمر يقول: احص الصلاة ما استطعت ولا تعد. قال: نعم. ا. هـ. قال الأعظمي: وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن محارب قال: سمعت ابن عمر يقول: احص ما استطعت ولا تعد. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وإن بعد شهر؛ هو لما في المدونة: وقال مالك فيمن وجب عليه سجود السهو بعد السلام فترك أن يسجدهما - نسي ذلك - فليسجدهما ولو بعد شهر متى ما ذكر ذلك. ا. هـ. منه.
قلت: والفرق بينه وبين سجود القبلي؛ لأن هذا من الصلاة فتبطل بتركه حتى قام من مجلسه وحصل الطول، وأما البعدي فإنه ليس من الصلاة؛ وإنما شرع لإرغام الشيطان، لذلك يسجده المرء متى ما تذكره، لأن الحكمة فيه حاصلة في كل وقت. والله الموفق.
(2)
وقوله: بسلام وإحرام وتشهد جهرًا؛ هو لحديث أبي هريرة عند البيهقي في قصة حديث ذي اليدين وفيه: فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم سلم ثم كبر فسجد، ثم كبر ففرغ ثم كبر فسجد كسجوده الأول أو أطول، ثم كبر فرفع قال محمد: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم. قال البيهقي: رواه مسلم عن عمر الناقد، وزهير بن حرب عن سفيان. اهـ. منه.
(3)
وقوله: وصح إن قدم أو أخر، لا إن استنكحه السهو؛ أما بالنسبة لصحة تقديم سجود البعدي وتأخير سجود القبلي، فهو لما في المدونة من فتوى مالك؛ قال: وإن كان ذكر أنه لم يسجد لسهوه =
أَوْشَكَّ؛ هَلْ سَها أَو سَلَّمَ (1) أَوْ سَجَدَ وَاحِدَةً فِي شَكِّهِ فِيهِ؟ هَلْ سَجَدَ اثَنَتيْنِ (2) أَوْ زادَ سُورَةً فِي أُخْرَيَيْهِ، أوْ خَرَجَ مِنْ سُورَةٍ لغَيْرِهَا (3) أوْ قَاءَ غَلَبَةً أوْ قَلَسَ (4)؟. وَلا لِفَريضَةٍ (5) وَلَا غَيْرِ مُؤكَّدَةٍ؛ كَتَشَهُّدٍ وَيَسيرِ جَهْرٍ وإعْلَانٍ بِكَآيَةٍ، وإعَادَةِ سُورَةٍ فَقَطْ لَهُمَا، ولتكبيرَةٍ (6)، وَفِي إبْدَالِهَا بِسَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْ عَكْسِهِ تَأوْيلَانِ (7)، وَلا لإدَارَةِ مُؤتَمٍّ (8) وإِصْلَاحِ رِدَاءٍ أَوْ سُتْرَةٍ سَقَطَتْ، أَو كمَشْيِ الصَّفَّيْنِ لِسُتْرَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَارٍّ، أَو ذهَابِ دابَّتِهِ (9) وَإنْ بِجَنْبٍ، أَوْ قَهْقَرةٍ وَفَتْحٍ عَلى إِمَامِهِ إِن وَقَفَ، وسَدَّ فِيهِ لتَثَاؤبٍ (10) ونَفْثٍ بثَوْبٍ لِحَاجَةٍ كَتَنَحْنُحٍ (11)، والمخْتَارُ عَدَمُ الإبْطَالِ بِهِ لِغَيْرِهَا، وتَسْبِيحُ رَجُلٍ أو امْرَأَةٍ لِضَرُورَةٍ (12) ولَا يُصَفَّقْنَ، وَكَلَامٍ لإِصْلَاحِهَا بَعْدَ سَلَامٍ (13).
= بحضرة ما سلم، وسهوه الذي وجب عليه قبل السلام، فليسجدهما وليسلم وتجزئان عنه، بمنزلة رجل قام من أربع ثم ذكر فليرجع جالسًا وليسلم وليسجد. اهـ. منه. هذا في تأخير القبلي. وفيها في موضع آخر، قلت لابن القاسم: فإن وجب على رجل سجود السهو بعد السلام فسجدهما قبل السلام؟. قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئًا وأرجو أن يجزئ عنه. ا. هـ.
وقوله: لا إن استنكحه السهو، فقد تقدم قريبًا عند قول المصنف: أو استنكحه الشك ولهي عنه، فأغنى عن إعادته. والله الموفق.
وقوله: ويصلح؛ أي إن أمكنه إصلاح ذلك؛ كسهوه عن سجدة تذكرها قبل عقد التي تليها مثلًا. ا. هـ.
(1)
وقوله: أو شك هل سها أو سلم، ودليل عدم السجود على ست شك هل سلم، فتوى المدونة: قلت أرأيت من شك في سلامه ولم يدر أسلم أو لم يسلم في آخر صلاته، هل عليه سجدتا السهو؟. قال: لا. قلت: ولمَ والسلام من الصلاة؟. قال: لأنه إن كان قد سلم فسلامه لغير شيء، وإن كان لم يسلم فسلامه هذا يجزئه ولا شيء عليه غير ذلك. قلت: وهذا قول مالك؟. قال: لا أحفظ هذا عن مالك. ا. هـ منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: أو سجد واحدة في شكه فيه. هل سجد اثنتين؟. هو أيضًا لما في المدونة: وقال مالك فيمن سها في سجدتي السهو فلم يدر أواحدة سجد أو اثنتين: إنه يسجد الأخرى لأن واحدة قد أيقن بها، ولا شيء عليه ويتشهد ويسلم، ولا يسجد لسهوه في سجدتي السهو. ا. هـ.
(3)
قوله: أو زاد سورة في أخرييه أو خرج من سورة لغيرها؛ دليل جواز زيادة سورة في الأخريين؛ ما أخرجه البيهقي وقال: أخرجه البخاري في الصحيح عن محمد بن يوسف عن الأوزاعي، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يحيى. وروينا عن أبي عبد الله الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق رضي الله عنه قرأ في الثالثة من المغرب بأم القرآن وقوله تعالى:(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)
(1)
.
أما ما قال البيهقي أنه أخرجه الشيخان؛ هو حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم القرآن وسورتين معها، في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر، ويسمعنا الآية أحيانًا وكان يطيل الركعة الأولى. ا. هـ.
وهذا الحديث بعينه حجة أيضًا لقول المصنف: ويسير جهرٍ و إعلان بكآية. والله الموفق.
(4)
وقوله: أو قاء غلبة أو قلس؛ قد تقدم لك أنه ليس بناقض للوضوء عندنا، وقد جعله عبد الرزاق مثل الرعاف في جواز البناء به. قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: القيء والرعاف صواء يتوضأ منهما، وإن لم يتكلم. والله تعالى أعلم.
(5)
وقوله: ولا لفريضة؛ هو لفتوى مالك أن من سها عن فريضة وأمكن تداركها قبل عقد الركعة التي تليها، وإلا ألغى الركعة التي سها فيها. ونص المدونة: وكان مالك يقول إذا ركع وقد نسي سجدة من الركعة التي قبلها ترك ركوعه هذا الذي هو فيه وخر ساجدًا لسجدته التي نسي من الركعة التي قبلها قبل هذا الركوع ما لم يرفع رأسه. وكان يقول: عقد الركعة رفع الرأس من الركوع. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: ولا غير مؤكدة كتشهد ويسير جهر وإعلان بكآية و إعادة سورة فقط لهما ولتكبيرة؛ هو لفتوى مالك في المدونة، قال فيها: وقال مالك فيمن نسي التشهد، قال: أرى ذلك خفيفأ. قال: =
(1)
سورة آل عمران: 8.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإن سلم وذكر ذلك وهو قريب فرجع فتشهد مكانه وسلم لم أر بذلك بأسًا. قال: ولم يكن يراه نقصًا في الصلاة. قال: وإن تباعد ذلك لم أرَ أنْ يسجد، وأما عدم السجود لتكبيرة، فقد جعله البيهقي عنوانًا في سننه قال: باب من ترك شيئا من تكبيرات الانتقال: لم يسجد سجدتي السهو.
وقال مالك في المدونة: إن نسي تكبيرة واحدة أو نحو ذلك، رأيته خفيفًا ولم أر عليه شيئًا. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: وفي إبدالها بِسَمِعَ الله لِمَن حَمِدَهُ، أو عكسه تأويلان؛ قال في المدونة: سمعته يقول بعد ذلك في الإمام إذا جعل موضع "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللهُ أَكْبَرُ" أو موضع "اللهُ أَكْبَرُ، سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". قال: أرى أن يرجع فيقول الذي كان عليه، فإن لم يرجع حتى يمضي سجد سجدتي السهو قبل السلام، ثم قال بعد ذلك في المدونة: وقال مالك: من نسي سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قال: أرى ذلك خفيفًا بمنزلة من نسي تكبيرة أو نحوها. ا. هـ.
فهذا وجه اختلاف التاويلين والله أعلم.
(8)
قوله: ولا لإدارة مؤتم؛ دليله حديث ابن عباس المتفق عليه ولفظه عند البغوي: عن ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي معه. فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجاه من أوجه عن ابن عباس. قال عطاء عن ابن عباس: فأخذني بيمينه فأدارني من ورائه فأقامني عن يمينه. اهـ. منه.
(9)
وقوله: أو كمشي الصفين لسترة أو فرجة، أو دفع مار أو ذهاب دابته، وإن بجنب أو قهقرة؛ دليل المشي ما أخرجه ابن خزيمة. باب الرخصة في المشي في الصلاة عند العلة تحدث؛ أخبرنا أبو طاهر، حدثنا أبو بكر، حدثنا أحمد بن عبدة، أخبرنا حماد يعني ابن زيد، حدثنا الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة الأسلمي يصلي وعنان دابته بيده، فلما ركع انفلت العنان من يده وانطلقت الدابة قال: فنكص أبو برزة على عقبيه، ولم يلتفت حتى لحق بالدابة، فأخذها ثم مشى كما هو ثم أتى مكانه الذي صلى فيه، فقضى صلاته فأتمها ثم سلم. قال: إني قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو كثير - حتى عد غزوات - فرأيت من رخصه وتيسيره، وأخذت بذلك، ولو أني تركت دابتي حتى تلحق بالصحراء، ثم انطلقت شيخًا كبيرًا أخبط الظلمة كان أشد عليَّ. ا. هـ. منه. وهذا أخرجه البخاري من طريق الأزرق بن قيس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج ابن خزيمة أيضًا من حديث أنس بن مالك الأنصاري أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة ثم تبسم فضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظَنَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتمُّوا صلاتكم. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه البخاري من طريق عقيل. ا. هـ.
وأما المشي في الصلاة لسترة، فهو لدليل ما أخرجه الطبراني والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فساعاها حتى ألزق بطنه بالحائط، فمرت الشاة من ورائه. وبالله التوفيق.
(10)
وقوله: وسدّ فيه لتثاؤب؛ فإن جواز سد الفم للتثاؤب وارد بما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: أنا أبو طاهر، نا أبو بكر، ثنا أحمد بن عبدة، ثنا عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن سهيل عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسُدَّ بِيَدِهِ فَاهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ". وهذا الحديث أخرجه مسلم في الزهد من طريق الدراوردي. اهـ.
(11)
وقوله: ونفث بثوب لحاجة كتنحنح؛ دليل جواز التنحنح في الصلاة، هو ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن عبد الله بن نجي الحضرمي، عن أبيه قال: قال عليٌّ: كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة لم تكن لأحد من الخلائق، إنِّي كنت أجيئه، فأسلم عليه حتى يتنحنح فأنصرف إلى أهلي.
وقوله قبل: وإصلاح ردائه؛ الدليل على جواز إصلاح اللباس في الصلاة هو ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه باب: الرخصة في إصلاح المصلي ثوبه في الصلاة، ثم ساق سندًا إلى وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة رفع يديه ثم كبَّر، ثم التحف ثم أدخل يديه في ثوبه، ثم أخذ شماله بيمينه ثم ذكر الحديث. ا. هـ. منه.
وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق محمد بن جحاوة وفيه: ثم التحف بثوبه. كذا ذكره الأعظمي في التعليق على ابن خزيمة. =
وَرَجَعَ إمَامٌ فَقَطْ لِعَدْلَيْنِ إن لمْ يتيقن إِلَّا لِكَّثْرَتِهِمْ جِدًّا (1)، ولَا لِحَمْدِ عَاطِسٍ أوْ مُبَشِّرٍ، وَنُدِبَ تَرْكُهُ (2) وَلَا لِجَائِزٍ كَإْنصَاتٍ قَلَّ لِمُخْبِرٍ، وَتَرْوِيحُ رِجْلَيْهِ، وَقتْلِ عَقْرَبٍ تُرِيدُهُ (3)، وإِشَارَةٍ لِسَلَامٍ أوْ حَاجَةٍ (4).
(12)
وقوله: وتسبيح رجل أو امرأة لضرورة؛ شرعية التسبيح في الصلاة للضرورة دليلها ما أخرجه في المصنف: عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم قال: عطس رجل في الصلاة فقال له أعرابي إلى جنبه: رحمك الله. قال الأعرابي فنظر إليّ القوم فقلت: واثكلاه، ما بالهم ينظرون إليّ!!. فضربوا بأكفهم على أفخادهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته دعاني، فقال الأعرابي: بأبي وأمي، ما رأيت معلمًا قط خيرًا منه والله، فقال: والله ما كهرني ولا شتمني فقال: "إنَّ الصلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ تَسْبِيحٌ وَتَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ وَقِرَاءَةُ الْقُرآنِ" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.
(13)
وقوله: وكلام لإصلاحها بعد سلام؛ دليله حديث ذي اليدين رواه أبو هريرة ولفظه عند الدارمي: أخبرنا يزيد بن هارون، أنا ابن عون عن محمد عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيِّ، فصلى ركعتين، ثم سلم وقام إلى خشبة معترضة في المسجد فوضع يده عليها، قال يزيد: أرانا ابن عون؛ ووضع كفيه إحداهما على ظهر الأخرى، وأدخل أصابعه العليا في السفلى، وقام كأنه غضبان، قال: فخرج السرعان من الناس وجعلوا يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. وفي القوم أبو بكر وعمر فلم يتكلما، وفي القوم رجل طويل اليدين يسمى ذا اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت الصلاة أم قصرت؟. فقال: "مَا نَسِيتُ وَمَا قُصِرَتِ الصَّلَاةُ"، فقال:"أَوَ كَذلِكَ؟." قالوا: فعم. قال: فرجع فأَتمَّ ما بقي، ثم سلِّم وكبر فسجد طويلًا ثم رفع رأسه فكبر وسجد مثل ما سجد، ثم رفع رأسه وانصرف. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ورجع إمام فقط لعدلين؛ دليل رجوع الإمام لخبر العدول في أمر الصلاة، هو حديث ذي اليدين الذي تقدم بروايات عدة؛ ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم:"أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ" فقالوا: نعم. فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من صلاته. الحديث.
وأما قوله فقط، فهو احتراز من رجوع الفذ في شيء من صلاته لغيره، وذلك يتبع فيه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فتوى مالك في المدونة: وقال مالك: ولو أن رجلًا صلى وحده وقوم إلى جنبه ينظرون إليه، فلما سلم قالوا له: إنك لم تصل إلا ثلاث ركعات. قال: لا يلتفت إلى ما قالوا له، ولينظر إلى يقينه فيمضي عليه ولا يسجد لسهوه، فإن كان يستيقن أنه لم يسهُ وأنه صلى أربعًا لم يلتفت إلى ما قالوا له، وليمض على صلاته ولا سهو عليه. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا لكثرتهم جدًا؛ دليله واضح وهو أن خبر الجمع الكثير يفيد العلم، والعلم يجب العمل به قطعًا. قال في مراقي السعود:
واقطع بصدق خبر التواترِ
…
وسوِّ بين مسلم وكافر
وفي ذلك شروط واعتبارات معلومة في محلها. والله الموفق.
(2)
وقوله: ولا لحمد عاطس ومبشر وندب تركه؛ دليل جواز حمد العاطس هو ما روي عن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست، فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى. فلما صلَّى رول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف، فقال:"مَنِ الْمُتَكَلّمُ في الصْلَاةِ". فقال رفاعة: أنا. قال: "لَقَدِ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاُثونَ مَلَكًا أيُّهُمْ يصْعَدُ بِهَا". ا. هـ. أخرجه البغوي في شرح السنة. وهو في أبي داود، باب ما يفتتح به في الصلاة. وفي الترمذي، باب ما جاءَ في الرجل يعطس في الصلاة، وفي النسائي، باب ما يقول المأموم. والله الموفق.
وقوله: وندب تركه، أي لما في عبد الرزاق عن الثوري عن منصورعن إبراهيم قال: إذا عطست وأنت تصلي فاحمد في نفسك. ا. هـ. منه.
وقوله: وندب تركه، لعله لما عند الترمذي من أنه جائز في التطوع، أما في المكتوبة فيحمد في نفسه، غير أن سياق الحديث ظاهر في أنه في صلاة الجماعة. وقال فتح الباري: إن في رواية بشر بن عمر الزهراني عن رفاعة بن يحيى أن تلك الصلاة كانت صلاة المغرب، وإذا فإن في قوله: وندب تركه نظرًا. والله الموفق.
(3)
وقوله: وقتل عقرب تريده، دليله ما أخرجه البغوي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا الْأسوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ الْحَيْةَ وَالْعَقْرَب"!. وهو في أبي داود، باب العمل في الصلاة. وهو في مسند الإمام أحمد، في عدة مواضع، وفي سنن الدارمي، وفي سنن النسائي باب قتل =
لَا عَلَى مُشَمِّتٍ (1)، كأَنينٍ لِوَجَعٍ وبُكَاءِ تَخَشُّعٍ (2) إلَّا فكَالكَلَام؛ كَسَلَامٍ عَلَى مُفْتَرِضٍ ولَا لِتَبَسُّمٍ (3) وفَرْقَعَةِ أصَابعَ (4) والْتِفَاتٍ بِلَاحَاجَةٍ (5)، وتَعَمُّدِ بَلْعِ مَا بَيْنَ أسْنَانِهِ، وحَكِّ جَسَدِهِ وَذِكْرٍ قَصَدَ التَّفْهِيمَ به. بمحله، إِلا بَطَلَتْ كَفَتْحٍ عَلى مَنْ لَيْسَ مَعَه في صَلَاةٍ على الأَصح (6). وَبَطَلَتْ بِقَهْقَهَةٍ وَتمادَى الْمَأْمُومُ إن لم
= الحية والعقرب، وفي ابن ماجه، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة. وهو في الترمذي، باب ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة، وإسناده صحيح. ا. هـ.
(4)
وقوله: وإشارة لسلام أو حاجة؛ دليل جواز الإشارة برد السلام في الصلاة هو ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، ودخل عليه رجال من الأنصار يسلمون عليه، فسألت صهيبًا: كيف كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يسلم عليه وهو يصلي؟. قال: كان يشير بيده. ا. هـ.
وأمال الدليل على جواز الإشارة في الصلاة للحاجة، فهو ما أخرجه ابن خزيمة أيضًا عن زر عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال:"مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحْبِبْ هذَيْنِ" قال الأعظمي: رجاله ثقات. ا. هـ.
(1)
وقوله: لا على مشمت؛ عطف المغايرة هنا يفيد عدم الإذن في الإشارة في الرد على مشمت إن حمد، لأنه غير مطلوب بالحمد جهرًا لما تقدم. ودليل عدم الإذن في التشميت في الصلاة؛ هو ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرنا معمر بن دينار قال: لا أراني إلا وقد سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: عطس إنسان فترحم عليه آخر وهو يصلي، فقال الناس: إن ذلك لا يفعل في الصلاة. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وبكاء تخشع؛ دليل جواز البكاء من الخاشع في الصلاة، هو ما أخرجه ابن خزيمة بسند صحيح عن عليٍّ قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا، وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. =
يَقْدِرْ عَلَى التَّرْكِ (1)، كَتَكْبِيرِه لِلْرُّكُوع بِلَا نِيَّةِ إحْرامٍ، وَذِكْرِ فَائتةٍ (2)، وبِحَدَثٍ (3)، وسُجُودِهِ لِفَضيلَةٍ (4) أَو لِتَكْبِيرَةٍ، وِبمُشْغِلٍ عَنْ فَرْضٍ، وعَنْ سُنَّةٍ
قال: وقال أبو بكر: قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس، فقيل له: إنه رجل رقيق كثير البكاء حين يقرأ القرآن. من هذا الباب. ا. هـ.
(3)
وقوله: ولا لتبسم، عدم تأثر الصلاة من التبسم هو ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يقطع الصلاة التبسم. قال: قلت: أسجد سجدتي السهو؟. قال: إن شئت، وأحب إليّ أن تفعل.
(4)
وقوله: وفرقعة أصابع، هو للتنبيه على أنه لا سجود فيها على الرغم من كراهتها في الصلاة المنصوصة بحديث ابن حبان: عن عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ". ا. هـ.
(5)
وقوله: والتفات بلا حاجة؛ هو للتنبيه على أنه لا سجود فيه، وإن كان من المكروهات في الصلاة، وقد تقدم الكلام على الإذن فيه لحاجة عند الكلام على قول المصنف: وإشارة لسلام أو حاجة. والله الموفق.
(6)
وقوله: كفتح على من ليس معه في صلاته على الأصح؛ هو للتشبيه بمن تبطل صلاته؛ فذكر أن من فتح على قارئ غير إمامه، كان بمثابة من تعمد الكلام في الصلاة، وأما إن فتح على إمامه، فلا شيء عليه، لما رواه عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج قال: أخبرني نافع قال: كنت ألقن ابن عمر في الصلاة فلا يقول شيئًا. ا. هـ.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن أشعث عن نافع، قال: صلى بنا ابن عمر فتردد، قال: ففتحت عليه فأخذ عني. ا. هـ.
(1)
وقوله: وبطلت بقهقهة وتمادى المأموم إن لم يقدر على الترك، دليل بطلان الصلاة بالقهقهة، هو ما أخرجه في المدونة عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وبين أيديهم حفرة، فأقبل رجل في عينيه شيء قبيح البصر، فطفق القوم يرمقونه بأبصارهم، وهو مقبل نحوهم، حتى إذا بلغ الحفرة سقط فيها، فضحك بعض القوم منه حين سقط، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ". وقاله الليث. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما قوله: وتمادى المأموم، فهو لفتوى مالك في المدونة ونص ذلك: وقال مالك فيمن قهقه في الصلاة وهو وحده، قال: يقطع ويستأنف، وإن تبسم فلا شيء عليه، وإن كان خلف إمام فتبسم فلا شيء عليه، وإن قهقه مضى مع الإمام فإذا فرغ الإمام أعاد صلاته. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: كتكبيره للركوع بلا نية إحرام وذكر فائتة؛ التشبيه فيه في التمادي مع الإمام وجوبًا مع بطلان صلاته ووجوب إعادتها. قال في جواهر الإكليل: إن نوى الصلاة المعينة ونسي تكبيرة الإحرام، وكبر ناويًا تكبيرة سنة الركوع، فصلاته صحيحة على مذهب المدونة، بناء على قول يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن شهاب الزهري، كلاهما من شيوخ الإمام مالك؛ أن الإمام يحمل عن مأمومه تكبيرة الإحرام، فيتمادى مع إمامه ويتمها معه وجوبًا، ويجب عليه إعادتها احتياطًا بناء على قول ربيعة، من شيوخ مالك، وعلى قول مالك أيضًا؛ أن الإمام لا يحملها عنه. وذكر المصنف هذه الصورة هنا جمعًا للنظائر، وسيعيدها في فصل الجماعة بقوله: وإن لم ينوه ناسيًا له تمادى المأموم فقط؛ وخصت بالمأموم لأنه الذي يتمادى مع إمامه وجوبًا، وأما الإمام والفذ فيقطعان، كما يأتي في الجماعة. ا. هـ. منه. بلفظه: ومن هذه النظائر من تذكر أثناء الصلاة صلاة فائتة يقدم قضاؤها على الحاضرة، فإن المذهب أنه يتمادى مع الإمام وجوبًا على صلاة صحيحة؛ لأن الترتيب بين قضاء اليسير والحاضرة واجب من غير شرط، والله تعالى أعلم.
(3)
وقوله: وبحدث؛ أي وتبطل الصلاة بحدث فيها، ودليله حديث علي بن طلق؛ ونصه عند البغوي: عن عليّ بن طلق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدْ صَلَاَتهُ". وهذا الحديث في إسناده عيسى بن حطان ومسلم بن سنان وكلاهما لا يعرف.
وقد أخرجه أبو داود في الطهارة وأخرجه في الصلاة، وأخرجه الترمذي في الرضاع. غير أنه روي عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بأَنْفِهِ، ثُمُ لْيَنْصَرِفْ". أخرجه البغوي في شرح السنة، وأخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب استئذان المحدث الإمام. وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطيهما، ووافقه الذهبي. ا. هـ. =
يُعِيدُ في الوْقتِ، وبِزِيادَةِ أَربع كركعتين في الثُّنائية، وَبتعَمُّدِ كَسجدةٍ أَوْ نَفْحٍ أَوْ أَكل أَوْ شِرْبٍ، أوْ قَيْءٍ أَوْ كَلَامٍ وإنْ بِكُرْهٍ أَوْجَبَ لإْنقَاذِ أَعْمَى إلَّا لإصْلَاحِهَا فبكثيرِه (1)، وبِسَلَامٍ وأَكْلٍ وشِرْبٍ، وفيها إِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ انْجَبَر وهَلْ اخْتِلَافٌ أولى للسَّلَامِ أو للجمع، تأويلاتٌ (2). وَبانْصِرَافٍ لِحَدَثٍ ثم تبين نَفْيُهُ،
وروى البغوي في الشرح عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله قال: كنت عند عمر بن الخطاب فتنفس رجل، يعني الحدث، ولكنه كَنَّى، فقال عمر: عزمت على صاحب هذه إلا قام فتوضأ ثم صلَّى. قال جرير: فقلت: اعزم علينا جميعًا. فقال: أعزمُ عليٌّ وعليكم لما قمنا فتوضأنا ثم صلينا. ا. هـ.
(4)
وقوله: وبسجود لفضيلة، قال الدسوقي: اعتمد في البطلان بالسجود للفضيلة والتكبير على ما في التوضيح ونصه: قد نص أهل المذهب على أن من سجد قبل السلام، لترك فضيلة، أعاد أبدًا.
وكذلك قالوا في المشهور إذا سجد لتكبيرة واحدة قبل السلام. ا. هـ. وتعقبه البناني بأن السجود قد ذكر الحطاب أن ابن رشد ذكر فيه قولين، وأنه صدر بعدم البطلان إذا سجد له قبل السلام، وقال سيدي عبد الرحمن الفاسي: إنما وقفت على الخلاف في السجو للتكبيرة الواحدة ولا يلزم من القول بنفي السجود لها بطلان الصلاة بالسجود لها مع وجود القول به. وبالجملة فلم نر ما يشهد للمصنف فيما ادعاه من البطلان بالسجود لتكبيرة. ا. هـ. منه. بلفظه.
وأما قوله: وبمشغل عن فرض إلى قوله: لإنقاذ أعمى، فهو يبين فيه مسائل تبطل الصلاة عنده بموجبها، وهو العلامة المتبحر، فالله تعالى اعلم بمستنده في هذا التفاصيل.
(1)
وقوله: إلا لإصلاحها فبكثيره؛ قد تقدم لك حديث ذي اليدين عن أبي هريرة، وهو الدليل على أن الكلام لاصلاحها لا يبطلها. والله الموفق.
(2)
وقوله: وبسلام وأكل وشرب، وفيها إن أكل أو شرب ألخ. يدعونا إلى نقل بعض ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف، باب الأكل والشرب في الصلاة: عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يؤكل في الصلاة ولا يشرب. قلت: فشربت ناسيًا، قال: إن كنت لم تتكلم فأوف ما بقي على ما مضى، ثم اسجد سجدتي السهو، وإن شربت عامدًا فقد انقطعت صلاتك فأعد الصلاة. =
كَمُسلِّمٍ شَكَّ في الإتْمَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْكَمَالُ عَلى الأظْهَرِ، وَبِسِجُودِ المَسْبُوقِ مَعَ الإِمَامِ بَعْدِيًّا أَو قَبْلِيًّا، إن لَمْ يَلْحَقْ رَكْعَةً (1)، وإِلَّا سَجَدَ وَلَوْ تَرَكَ إمَامُهُ أَوْ لَمْ يُدْرِك مُوجبَه، وَأَخَّرَ البَعْدِيَّ، ولَا سَهْوَ على مُؤتَمٍّ حَالةَ القَدْوةِ (2) وتبرك قَبْليٍّ عن ثلاثِ سُنَنٍ وطالَ لا أقلَّ (3). فَلَا سُجُودَ وإنْ ذَكَرَهُ فِي صَلَاةٍ وَبَطَلَتْ فَكَذَاكِرِهَا، وِالَّا
= عبد الرزاق عن الثوري عمن سمع عطاء قال: لا يأكل ولا يشرب وهو يصلي فإن فعل أعاد.
عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: آكل في التطوع وأشرب ولو مجة؟. قال: لا، لعمري، ولكن انصرف واشرب.
عبد الرزاق عن الثوري عن عثمان قال: رأيت سعيد بن جبير يثرب وهو يصلِّي تطوعًا.
عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن طاوس قال: لا بأس بذلك.
لكن أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن مهدي عن أبان العطار عن الصلت بن راشد قال: سئل طاوس عن الشرب في الصلاة، قال: لا. ا. هـ.
وهنا أترك بينك وبين تأويلات المصنف وآثار المصنف. والله تعالى الموفق.
(1)
وقوله: وبسجود مع الإمام بعديًا أو قبليًا إن لم يلحق ركعة؛ أي لإقحامه في صلاته ما ليس منها. وقوله: وأخر البعديَّ؛ يعني المسبوق المدرك ركعة فإن واجبه تأخير البعدي حتى ينهي صلاته.
(2)
وقوله: ولا سهو على مؤتم حالة القدوة، أي ولا يترتب عليه موجب سهو حصل له حالة القدوة بفتح القاف بمعنى الاقتداء، وأما الشخص المقتدى به فهو مثلث القاف - وذلك لأن الإمام يحمل عنه السهو، فإن انقطعت القدوة بأن قام لقضاء ما عليه، فإن المؤتم حينئذ يسجد لما يطرأ عليه من سهو، لأنه صار منفردًا، هذا ولا يحمل الإمام عن المؤتم ركنًا ولو تركه حالة القدوة. والله الموفق وهو أعلم.
(3)
وقوله: وبترك قبلي عن ثلاث سنن وطال هو عطف على ما تبطل به الصلاة، كثلاث تكبيرات من تكبير الانتقال، وكترك السورة لأنها سنة، والقيام لها سنة والجهر بها في محله، أو السر بها في محله، والحال أنه حصل الطول الزمني أو حصل مناف؛ كحدث أو كلام أو ملابسة نجس ونحو ذلك، لا أقل من ثلاث سنن، فلا بطلان بتركه. والله أعلم وهو الموفق.
فَكَبَعْضٍ فَمِنْ فَرْضٍ إنْ أَطَالَ الْقَرَاءَةَ أوْ رَكَعَ بَطَلَتْ، وأَتَمَّ النَّفْلَ وَقَطَعَ غيْرَهُ، ونُدِبَ الإشْفَاعُ إِنْ عَقَدَ رَكْعَةً إِلَّا رَجَعَ بِلَا سَلَامٍ، ومِنْ نَفْلٍ في فَرْضٍ تَمَادَى كَفِي نَفْلٍ إِنْ أَطَالَهَا أَوْ رَكَعَ، وَهَلْ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ أَوْ لَا؟. ولَا سُجُودَ خِلَافٌ، وبِتَرْكِ رُكْنٍ وَطَالَ كَشَرْطٍ وَتَدَاركَهُ إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ ولَم يَعْقِدْ رُكوعًا، وَهُو رَفْعُ رَأْس إلَّا لترك رُكُوعٍ فَبِالْانحنَاءِ، كَسِرٍّ وتَكْبِيرِ عيدٍ وسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ، وذِكْرِ بَعْضٍ، وإِقَامَةِ مَغْرِبٍ عَلَيْهِ وهُوَ بِهَا وَبَنَى إِنْ قَرُب ولم يخْرُجْ مِنَ المسجد بإِحْرَامٍ وَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ. وجَلَسَ لَهُ على الأَظْهَرِ، وأَعَادَ بِتَرْكِ السَّلَامِ التَّشَهُّدَ، وَسَجَدَ إِن انْحَرِفَ عَنِ الْقِبْلَةِ، وَرَجَعَ تَارِكُ الجُلُوسِ الأَوَّلِ إِنْ لَمْ يُفَارِقِ الأَرْضَ بيدَيْهِ ورُكْبَتَيْهِ وَلَا سُجُودَ إلَّا فَلَا تَبْطُلُ إِنْ رَجَعَ وَلَو اسْتَقَلَّ وتَبِعَهُ مَأْمُومُهُ وسَجَدَ بَعْدَه، كَنَفْلٍ لَمْ يَعْقِدْ ثالِثَتَهُ إلَّا كمَّلَ أَرْبَعًا وَفِي الخامسَةِ مُطْلَقًا وسَجَدَ قَبْلَهُ فيهِمَا (1) وَتَارِكُ رُكُوعٍ
(1)
قوله: فلا سجود، متعلق بقوله قبل لا أقل؛ أي لا تبطل بترك قبلي ترتب عن ترك أقلَّ من ثلاث سنن، وإذا طال فلا سجود.
وجميع هذه الفروع الطريق إليها محض الاجتهاد، وعليه فليست مما نحن بصدده، غير أنّي سوف أنقل حل ألفاظ النص - على غير عادتي - بأوجز ما يمكنني، لأن مسائل السهو من أصعب المختصر فهمًا، لذلك أقول وبالله توفيقي.
وإن ذكره - أي القبلي المترتب عن ثلاث سنن - في صلاة؛ والحال أنه قد بطلت صلاته الأولى بطول الزمن؛ بين خروجه منها وشروعه في التي ذكر السجود فيها، فحكمه كحكم ذاكرها، يعني ذاكر الصلاة التي بطلت، في صلاة أخرى من أنه يجب على كل من الإمام والفذ القطع إن لم يكن ركوع، وأن يشفع الركعة بأخرى إن كان عقد ركوعًا، وأنه يجب على المأموم أن يتمادى مع إمامه، وأن يعيد في الوقت بعد أن يصلي الأولى، وإلا - أي وإن لم تبطل الأولى لعدم الطول بين خروجه منها وشروعه في الثانية - فحكمه كحكم ذاكر بعض صلاة؛ كركوع مثلًا في صلاة أخرى. وأقسامه أربعة؛ لأن الأولى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إما فرض وإما نفل والأخرى كذلك، فتكون الأقسام أربعة - من ضرب اثنين في اثنين - فإن كان ترك البعض من فرض وتذكره في فرض آخر أو نفل، فإن كان أطال القراءة في الصلاة التي شرع فيها، بأن شرع في السورة - على ما نقله ابن عرفة عن ابن رشد - أو فرغ من الفاتحة على القول الآخر - قبل ذكر البعض - أو لم يطل القراءة لكنه ركع بلا قراءة كمسبوق مثلًا، أو كأمي عجز عن القراءة، بطلت الصلاة المتروك ركنها، لعدم إمكان إصلاحها، وأتم وجوبًا النفل الذي شرع فيه، وإن اتسع وقت الأولى لإدراك ركعة منها، عقد ركعة من النفل أولًا، وأتمه كذلك إن كان وقت الأولى ضيقًا لكنه عقد ركعة منها بسجدتيها، وإلَّا قطع وابتدأ الأولى، وقطع غيره وهو الفرض الذي شرع فيه ليحصل الترتيب بين مشتركتي الوقت، أو بين يسير الفوائت والحاضرة، إن كان فذًا، أو إمامًا وتبعه مأمومه في القطع، وإن كان مأمومًا تمادى مع إمامه، وندب للفذ والإِمام الإشفاع إن عقد ركعة بسجدتيها واتسع الوقت، وإلا قطع.
وإن لم يطل القراءة ولم يركع فيما شرع فيها قبل ذكر بعض التي قبلها، رجع وجوبًا لإصلاح صلاته الأولى، التي ترك منها الركن، بلا سلام من التي شرع فيها، فإن سلم منها بطلت الأولى، وإن ذكر بعض نفل وهو في فرض، تمادى في الفرض الذي شرع فيه، سواء أطال القراءة أو لا، وكذلك إن ذكر بعض نفل في نفل، وإن كان أخف من المذكور منه إن كان أطال القراءة أو كان ركع، وإن لم يكن أطال القراءة ولا ركع، رجع لإصلاح النفل الأول بلا سلام، ولا يقضي الثاني لعدم تعمده إبطاله. وهل تبطل الصلاة بتعمد ترك سنة مؤكدة متفق عليها داخلة في الصلاة؟. ومثلها سنتان خفيفتان داخلتان من فذ أو إمام، أولا تبطل كما قال سند؟. وقال ابن رشد: محل الخلاف سنة واحدة، وأما الأكثر فإن تركه عمدًا مبطل اتفاقًا، ولا سجود عليه لعدم السهو، وإنما عليه أن يستغفر الله، خلاف في التشهير الأول لابن كنانة وشهره ابن رشد واللخمي، والثاني لمالك وابن القاسم وشهره ابن عطاء الله، وضعف الأول ابن عبد البر وشنع عليه القرطبي وقال: إنه ضعيف عند الفقهاء وليس له حظ من النظر وإلا لم يكن بين السنة والفرض فرق.
وبطلت الصلاة بترك ركن سهوًا وطال الزمن، وشبه في البطلان لا بقيد الطول فقال: كترك شرط لصحة الصلاة؛ من طهارة حدث مطلقًا، وطهارة خبث، وستر عورة واستقبال إن ذكر وقدر في الثلاثة؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإن سها عن ركن ولم يحصل طول تداركه، أي فعله إن لم يسلم من الأخيرة معتقدا كمال صلاته، بأن لم يسلم أصلًا، أو كان سلم ساهيًا عن كونه في صلاة، فحينئذ يأتي بالركن المنسي ويتشهد ويسلم ويسجد بعد السلام فإن سلم معتقدًا الكمال، فات عليه تدارك ذاك الركن لأن السلام ركن حصل بعد ركعة فيها خلل، فأشبه عقد ركعة بعدها، فيبني إن قرب سلامه ولم يخرج من المسجد؛ بأن يجلس وينوي وإكمال صلاته، ويكبر تكبيرة إحرام رافعًا يديه حذو منكبيه، ثم يقوم فيأتي بركعة أخرى، فإن طال أو كان خرج من المسجد بطلت الصلاة. وهذا تصوره فيما لو كان الترك من الركعة الأخيرة.
وإن سها عن ركن من غير الأخيرة، تداركه إن لم يعقد ركوعًا من ركعة أصلية تلي ركعة النقص، فإن عقده فات التدارك، فإن كان الترك من الأولى بطلت ونابت عنها المعقودة، وخرج بأصلية عقد ركعة زائدة كخامسة في رباعية أو رابعة في ثلاثية أو ثالثة في ثناثية، فلا يمنع عقدها تدارك ركن الأخيرة لأنها معدومة شرعًا فهي كالمعدوم حسًا، والركوع المفوت تدارك الركن هو عقد الركوع برفع الرأس منه مع الاعتدال والطمأنينة، فالرفع بغير هما ليس عقدًا، وهذا عند ابن القاسم. وقال أشهب: مجرد الانحناء لحد الركوع عقد، ووافقه ابن القاسم في عشر مسائل أفادها المصنف بقوله: إلا لترك ركوع من ركعة سهوًا، فيفوت تداركه بالانحناء، لركوع الركعة التي تليها، وإن لم يطمئن فيه، وكترك سر بمحله من فرض سهوًا، ولم يتذكره حتى انحنى لركوع تلك الركعة، فلا يرجع له وإن رجع بطلت صلاته؛ لرجوعه من فرض إلى سنة، ومنها تكبير العيد يفوت تداركه بالانحناء، وكترك سجود التلاوة سهوًا فيفوت بالانحناء لركوع الركعة التي فيها القراءة لموضع السجدة، فإن كانت الصلاة نفلًا أعاد الآية في الركعة الثانية وسجد وإلا فلا إعادة. ومنها ذكر بعض أي ركن أو ذكر قبلي عن ثلاث تركه سهوًا من صلاة في صلاة أخرى، أحرم فيها بعد سلام من الأولى، فيفوت بانحنائه للركوع في الثانية.
ومنها إقامة مغرب لصلاة راتب، والحال إنه متلبس فذًا بصلاة المغرب فيفوت عليه قطعها بمجرد انحنائه قبل الإقامة لركوع الثالثة، ويجب عليه لذلك إتمامها فرضًا ثم يخرج بهيئة الراعف، فإن أقيمت عليه قبل الانحناء قطعها وأحرم مقتديًا بالراتب، ولكن المعتمد فوات قطعها بمجرد رفعه من سجدتي الركعة الثانية باعتداله جالسًا.
وإن سها عن ركن من الركعة الأخيرة، وسلم معتقدًا الكمال، فات تدارك الركن وبطلت الركعة=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وبنى وجوبًا على ما قبلها، إن قرب تذكره عقب سلامه بالعرف ولم يخرج من المسجد، ومفهوم الشرط أنه إن طال بالعرف أوخرج من المسجد بطلت صلاته.
قال ابن المواز: الخروج من المسجد طول باتفاق، ومثل الطول الحدث وسائر المنافيات كالأكل والشرب والكلام، وصلة بنى هي قوله: بإحرام؛ أي بنية تكميل الصلاة. وتكبير للدخول فيها. ولو قرب جدًا، وندب رفع يديه عنده، ولم تبطل الصلاة بتركه أي التكبير، وأما نية الإكمال فلا بد منها ولو قرب جدًا اتفاقًا، قاله عبد الباقي.
وجلس الباني للإِحرام ليأتي به من جلوس إن تذكر بعد قيامه، إذ هي الحالة التي فارق الصلاة عليها، وذلك على الأظهر عند ابن رشد، وقيل يكبر قائمًا ولا يجلس، وقيل يكبر قائمًا ثم يجلس ثم يقوم، وأعاد تارك السلام سهوًا التشهد عقب الاحرام ليقع سلامه عقب تشهد وسجد للسهو بعد سلامه بلا إعادة التشهد إن انحرف عن القبلة انحرافًا كثيرًا بلا طول أصلًا، فإن انحرف يسيرًا اعتدل وسلم ولا شيء عليه، فإن طال كثيرًا بطلت انحرف أم لا، فارق مكانه أم لا.
ورجع تارك الجلوس الأول سهوًا إن لم يفارق الأرض بيديه وركبتيه جميعًا؛ بأن بقي بها يد أو ركبة، ولا سجود لهذه النهضة، فإن فارق الأرض بيديه وركبتيه جميعًا فلا يرجع، وعليه السجود قبل السلام إن كان فذًا أو إمامًا، فإن كان مأمومًا رجع لمتابعة إمامه وجوبًا، وهذا الحكم تقدم دليله عند ذكر السجود قبل السلام للنقص.
ولا تبطل صلاته إن رجع للجلوس بعد مفارقة الأرض بيديه وركبتيه جميعًا، ولو رجع عمدًا بعد أن استقل قائمًا، ولو رجع بعد قراءة بعض الفاتحة، فإن رجع بعد قراءتها كلها بطلت صلاته، فإن رجع اعتد برجوعه وتشهد، فإن قام بلا تشهد عمدًا بطلت صلاته، وأشار بلو إلى الرد على القول ببطلان صلاته برجوعه بعد استقلاله، وتبعه مأمومه في الرجوع وجوبًا، وسجد لزيادة القيام بعد السلام لأن جلوسه وتشهده معتد بهما فليس معه إلا زيادة القيام، وهو كمن قام بعد ركعتين من نفل ساهيًا ولم يعقد ثالثته برفع رأسه من ركوعها، فيرجع للجلوس ويعيد التشهد ويسجد بعد السلام لزبادة القيام وإلَّا، بأن كان عقد ثالثته برفع رأسه وهو متنفل كمل الصلاة أربعًا، إلَّا إذا كان النفل محدودًا كالفجر والعيد والكسوف والاستسقاء، فلا يكمله أربعًا لأن الزيادة إلى المثل مبطلة، وأما إن قام لخامسة ساهيًا وهو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= متنفل، رجع وجوبًا في الخامسة مطلقًا عقد ركوعها أو لم يعقده، ويسجد قبل السلام فيهما أي فيما إذا كمل النافلة أربعًا ورجوعه من الخامسة، وذلك لنقص السلام من اثنتين.
وتارك ركوع سهوًا يرجع له حال كونه قائمًا لينحط له من قيام، بناء على أن الحركة للركن مقصودة، فإن رجع له محدودبًا لا تبطل صلاته، وذلك مراعاة للقول بأنه يرجع محدودبًا، بناء أن الحركة للركن غير مقصودة، فإن تذكره قائمًا نحط له من قيام فورًا. وندب له أن يقرأ شيئًا غير الفاتحة، لأن تكرارها في ركعة ممنوع، فلا يفعل لتحصيل مندوب، وتارك رفع من ركوع يرجع محدودبًا حتى يصل لحد الركوع ثم يرفع بنية الرفع، قاله محمد بن المواز بناء على قصد الحركة للركن، وقال ابن حبيب يرجع قائمًا بنية الرفع من الركوع؛ وتارك سجدة سهوًا يجلس لينحط لها منه، وهذا ما عليه الإمام مالك رحمه الله في سماع أشهب، وروى الإمام أشهب أيضًا أنه يرجع ساجدًا من غير جلوس؛ بأن ينحط لها من قيام بناء على أن الحركة للركن غير مقصودة.
ولا يجلس تارك سجدتين سهوًا تذكرهما قائمًا، بل ينحط لهما من القيام، وإن تذكرهما جالسًا قام وانحط لهما من قيام، فإن سجدهما من جلوس فلا تبطل، ويسجد قبل السلام لما ذكر في الموضح من أن الانحطاط لهما من قيام غير واجب ونسبه لعبد الحق، ولا يجبر ركوع أولاه المنسي سجدتاه بسجود ثانيته المنسي ركوعها؛ لأنه فعله بنية الركعة الثانية فلا ينصرف للأولى، وإن ركع وسجد سجدة واحدة ونسي ركوع الركعة التالية، وسجد لها سجدة أو سجدتين فلا تجبر سجدة الأولى بسجدة الثانية، فإن تذكرها جالسًا سجدها حالًا، وإن تذكرها قائمًا جلس لها.
وبطل بترك أربع سجدات سهوًا من أربع ركعات، الركعات الثلاث الأُوَّلُ لفوات تدارك سجدة كل ركعة منها بعقد التي تليها، والركعة الرابعة لم يفت تدارك سجدتها فيسجدها وتصير أولى فيبني عليها ثلاث ركعات، ويسجد قبل السلام لنقص السورة من الأولى والزيادة، وهذا إذا لم يسلم معتقدًا الكمال وإلا بطلت الرابعة أيضًا، فيبني على الإِحرام إن قرب ولم يخرج من المسجد، وإلا بطلت الصلاة.
وإن ترك ركنًا من الأولى سهوًا، وعقد الثانية، بطلت الأولى ورجعت الثانية أولى ببطلانها أي صارت أولى بسبب ترك ركن التي قبلها وفوات تداركه، وهذا في حق الإِمام والفذ، وأما المأموم فإنه تبع =
يَرْجِعُ قَائمًا ونُدِبَ أن يَقْرَأَ، وسَجْدَةٍ يَجْلِسُ، لا سَجْدَتَيْنِ، ولَا يُجْبَرُ رُكُوعُ أُولاهُ بِسجُودِ ثَانِيتِهِ، وبَطَلَ بأرْبَعِ سَجدَاتٍ مِنْ أرْبَع رَكَعَاتٍ الأُوَّلُ، ورَجَعَتْ الثانيةُ أولى بِبُطْلَانِهَا لِفَذٍّ وإمَامٍ، وإنْ شَكَّ فِي سَجْدَةٍ لَمْ يَدْرِ مَحَلَّهَا سَجَدَهَا، وفي الأَخيرة يَأْتِي برَكْعَةٍ، وَقِيَامِ ثَالِثَتِهِ بِثَلَاثٍ، وَرَابِعَته بِرَكْعَتيْنِ وَتَشَهُّدٍ، وإِنْ سَجَدَ إِمَامٌ سَجْدَةً لَمْ يُتَّبَعْ وَسُبِّحَ بِهِ، فإِذَا خَيفَ عَقْدُهُ قَامُوا، فإِذَا جَلَسَ قَامُوا، كَقُعُودِهِ
لإمامه، فالواجب إذن البناء على الأولى والسجود بعد السلام. وترجع الثالثة ثانية ببطلان الثانية، وترجع الرابعة ثالثة ببطلان الثالثة.
وإن شك المصلي في ترك سجدة، وأولى إن تيقن تركها، والحال أنه لا يدري محلها الذي تركت منه، سجدها مكانه وجوبًا أي في الركعة التي هو متلبس بها إن لم يتحقق تمامها، وذلك لاحتمال أن يكون ذلك المحل الذي هو فيه محلها، ومتى ما أمكن وضع الركن في محله تعين، فبالإتيان بها في محل تذكرها تيقن سلامة الركعة التي هو متبلس بها، وصار الشك فيما قبلها، فلابد من إزالة الشك عنه، وإلى الكيفية التي يخرج بها من الشك إلى اليقين أشار المصنف فقال: وإن كان شكه في السجدة الأخيرة؛ بأن حصل له الشك في تشهد الركعة الأخيرة، فإنه بعد أن يسجدها يأتي بركعة بالفاتحة فقط، لانقلاب الركعات في حقه، إذ أنه يحتمل أن تكون من إحدى الثلاث، وكل منها يبطل بعقد ما يليها، ولا تشهد قبل إتيانه بالركعة لأن المحقق له ثلاث ركعات وليس محل تشهد، ويسجد قبل السلام للزيادة مع احتمال النقص. وإن كان في قيام ثالثته أو ركوعها قبل تمام رفعه منه أو في تشهد الثانية، فيجلس ويسجدها لاحتمال أنها من الثانية وتداركها ممكن، وبطلت الأولى لاحتمال كونها منها، وفات تداركها بعد عقد الثانية فتحققت له ركعة بسبب السجدة، ويلزمه حينئذ أن يأتي بثلاث من الركعات، أولاها بفاتحة وسورة وبتشهد عقبها لأنها ثانيته، والأخيرتان بفاتحة فقط ويسجد بعد السلام. وإن كان في قيام رابعته جلس وسجدها لتكميل الثالثة، وأتى بركعتين لاحتمال كونها من إحدى أولييه وبطلت بانعقاد التي تليها، فالمحقق له ركعتان فقط، وتشهد استنانًا عقب السجدة وأتى بركعتين فقط وسجد قبل السلام، وإن سجد إمام سجدة واحدة في أولى رباعية، وترك الثانية سهوًا وقام للركعة الثانية، لم يتبع أي لا يتبعه مأمومه في القيام للثانية قبل السجدة فيجلس وصح به لأجل إفهامه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بأن يقول له: سبحان الله. لعله يتذكر سهوه عن السجدة، فإن تذكر ورجع لها فذاك، وإن لم يرجع لها فلا يكلمونه عند سحنون؛ الذي مشى المصنف هنا على مذهبه؛ لأنه رأى أن الكلام لإصلاحها يبطلها، فإن تركوا التسبيح بطلت صلاتهم لأنهم تعمدوا ترك السجدة، فإذا لم يرجع الإمام للسجدة التي تركها من الأولى، وخيف عقده الركعة الثانية التي قام له برفع رأسه من ركوعها معتدلًا مطمئنًا، قام المأمومون لعقدها معه، وبعقدها بطلت الأولى وصارت الثانية أولى للجميع ولا يسجدون السجدة، وإن سجدوها لم تجزهم عند سحنون ولا تبطل صلاتهم، فإذا جلس عقب الثانية في ظنه، قام المأمومون ولا يجلسون معه لأنها صارت أولى، كقعوده - أي الإمام - عقب ثالثة، في الواقع الذي هو حسب ما يعتقده المأمومون، فلا يقعدون معه وإن ظنها هو رابعة، و إذا سلم الإمام عقب تشهده لظنه كمال صلاته بطلت عليه بمجرد سلامه، وأتى المأمومون بركعة يؤمهم أحدهم فيها إن شاؤوا، وإن شاؤوا صلوا أفذاذًا وصحت لهم صلاتهم، وسجدوا قبل السلام لنقص السورة من الركعة ولنقص التشهد الأول. قال في جواهر الإكليل: هذا مذهب سحنون وهو ضعيف. والمعتمد مذهب ابن القاسم؛ وهو أنه إن لم يفهم بالتسبيح فلا يكلمونه لأنهم إن كلموه بطلت صلاتهم، ولكنهم يسجدونها لأنفسهم ويجلسون معه ويسلمون بسلامه وصحت صلاتهم، فهذه مستثناة من قاعدة: الكلام لإصلاح الصلاة لا يبطلها.
وقوله: وإن زوحم مؤتم عن ركوع أو نعس أو نحوه، اتبعه في غير الأولى ما لم يرفع من سجودها، هذا رأي ابن القاسم؛ قال في المدونة: وقال ابن القاسم: الذي أرى وآخذ به في نفسي؛ الذي ينعس خلف الإمام في الركعة الأولى أنه لا يتبع الإمام فيها، وإن كان يدركه قبل أن يرفع رأسه من سجودها، ويسجد مع الإمام ويلغي تلك الركعة، ويقضيها إذا قضى صلاته، وإنما يتبع الأمام عندي بالركعة في الثانية والثالثة والرابعة، إذا طمع أن يدركه قبل أن يرفع رأسه من سجودها، فأما الأولى فلا تشبه عندي الثانية ولا الثالثة، وهذا رأيي ورأي من أرض؛ يعني المغيرة. ا. هـ. منه.
وإن زوحم مؤتم عن سجدة أو سجدتين من الأولى أو غيرها، فلم يسجدها حتى قام الإمام لما تليها، فإن لم يطمع في سجودها؛ بأن لم يتحققه أو يظنه قبل عقد إمامه الركعة التي تليها برفع رأسه من ركوعها، تمادى وجوبًا على ترك السجدة أو السجدتين وتبع إمامه فيما هو فيه، فإن سجدها ولحق =
بِثَالِثَةٍ، فإِذَا سَلَّمَ أَتَوْا بِرَكْعَةٍ وأَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ وَسَجَدُوا قَبْلَهُ وإِن زُوحِمَ مؤتَمٌّ عَنْ رُكُوعٍ أَو نَعَسَ أَوْ نَحْوُه اتَّبَعَهُ فِي غير الأُولَى مَا لَمْ يَرْفَعْ مِنْ سُجُودَهَا، أَوْ سَجْدَةٍ فَإن لمْ يَطْمَعْ فِيهَا قَبْلَ عَقْدِ إِمَامِهِ تَمَادَى وَقَضَى رَكْعَةً وإِلَّا سَجَدَهَا، ولَا سُجُودَ عَلَيْهِ إِنْ تَيَقَّنَ، وِإِنْ قَامَ إِمَامٌ لِخَامِسَةٍ فَمُتَيَقِّنُ انْتِفَاءِ مُوجِبِها يَجْلِسُ، وإلَّا اتَّبَعَهُ، فَإنْ خَالَفَ عَمْدًا بَطَلَتْ فِيهَما، لَا سَهْوًا، فَيَأْتِي الْجَالِسُ بِرَكْعَةٍ وَيُعِيدُهَا المتَّبعُ، وإِنْ قَالَ: قمتُ لِمُوجِبٍ صَحَّتْ لِمَنْ لَزِمَهُ اتِّبَاعُهُ وتبعه، ولمقَابِلِه إِنْ سَبَّحَ كَمُتَّبعٍ تَأَوَّلَ وُجُوَبهُ عَلَى المختارِ، لَا لِمَنْ لَزِمَهُ اتِّبَاعُه في نَفْسِ الْأمْرِ ولَمْ يَتَّبعْ، ولم تُجْزِ مَسْبُوقًا عَلِمَ بِخَامِسِيَّتِهَا، وَهَلْ كَذَا إن لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوْ تُجْزِئُ إلَّا أنْ يُجْمِعَ مَأْمُومُهُ عَلَى نَفْيِ المُوجِبِ، وَتَارِكُ سَجْدَةٍ مِن كأُولَاهُ لَا تجْزِئُهُ الْخَامِسَةُ إِنْ تَعَمَّدَهَا.
= الإمام، فإن أدركه في الرجوع صحت وإلا بطلت، وفي حالة تماديه مع إمامه وتركه السجدة قضى ركعة بعد سلام إمامه، وإن تحقق أنه إن سجدها لحق الإمام قبل عقد الركوع من التي تليها، سجدها ولحق به، فإن تخلف اعتقاده وعقد الإمام الركعة دونه، بطلت الركعة الأولى لعدم إتيانه بسجودها على الوجه المطلوب، وبطلت الركعة الثانية لعدم إدراكه ركوعها مع الإمام، وإن تمادى على ترك السجدة لعدم طمعه فيها قبل عقد إمامه، ولحق الإمام فيما هو فيه، وقضى ركعة بعد سلامه، فلا سجود عليه لأن الإمام يحمل عنه السهو، هذا إن تيقن المأموم ترك السجدة، فإن شك في تركها سجد بعد الزيادة، لاحتمال زيادة الركعة التي أتى بها بعد سلام إمامه وإن قام إمامه لخامسة في رباعية أو رابعة في ثلاثية أو ثالثة في ثنائية، وسُبِّح له فلم يرجع، جلس وجوبًا من تيقن انتفاء موجبها؛ أي سبب الركعة الزائدة التي قام لها الإمام، ولا يقوم مع الإمام، وتصح صلاته إن سبح للإمام ولم يتبين أن لها موجبًا، وإن لم يفهم بالتسبيح أشار له، وإن لم يفهم بالإشارة كلمه وإلا بطلت.
وإن لم يتيقن المأموم انتفاء موجب الركعة التي قام لها الإمام؛ بأن تيقن الموجب أو ظنه أو شك فيه، بل وإن توهمه، اتبعه في القيام وجوبًا، ثم إن ظهر لها موجب فظاهر، وإن ظهر عدمه سجد الإمام وسجد معه المأموم، فإن خالف المأموم ما وجب عليه من جلوس أو قيام، عمدًا أو جهلًا غير متأول، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بطلت صلاته فيما إن لم يتبين أن مخالفته كانت موافقة لما في نفس الأمر، ولا تبطل صلاة من خالف ما وجب عليه سهوًا فيهما، وعليه الإتيان بركعة إن كان جلس سهوًا، والحال أنه لم يتيقن انتفاء موجب الركعة التي قام لها الإمام، وذلك بعد سلام الإمام، وأما الذي تيقن انتفاء موجبها وجلس كما هو حكمه، فعليه إعادة تلك الركعة إن قال الإمام: قمت لموجب، أي لسبب ترك ركن سهوًا، وكذا يعيدها الذي وجب عليه الجلوس واتبعه سهوًا ولا تجزئه الركعة التي صلاها مع إمامه سهوًا.
وإذا تبين أن الإمام قد قام في الزائدة، لسبب يوجب عليه القيام، صحت صلاة من لزمه اتباعه، وتبعه فعلًا لعدم تيقنه انتفاء موجبها، وصحت كذلك صلاة من لزمه الجلوس لتيقنه انتفاء موجب القيام وجلس فعلًا، وذلك بشرط أن يكون سبح ليفهم الإمام أن قيامه لزائدة، فلم يرجع ولم يقل: قمت لموجب. غير أنه تقدم أن عليه والحالة هذه إعادة تلك الركعة بعد سلام الإمام وقوله: قمت لموجب.
كما تعتبر صحيحة - في رأي اللخمي - صلاة من تيقن انتفاء موجبها، واتبع الإمام فيها تأويلًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا جُعِلَ الإْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ".
ولا تصح صلاة من لزمه اتباع الإمام في نفس الأمر، لترك ركن من إحدى الركعات السابقة وفاته تداركه فانقلبت الركعات، لكن المأموم جزم بانتفاء موجب الزيادة، ولم يتبع الإمام في الركعة التي قام لها ثم تبين له أنه قام لموجب، فبطلت صلاته عملًا بما تبين. فقوله: فمتيقن انتفاءِ موجبها يجلس؛ أي وتصح صلاته بشرطين: أن يسبح وأن لا يتغير يقينه، ولا تكفي الركعة الزائدة التي صلاها الإِمام سهوًا عن ركعة مسبوق عليه قضاؤها بعد صلاة الإمام، والحال أنه علم بخامسيتها وتبع الإمام فيها؛ لا تجزئه عن ركعته التي عليه قضاؤها؛ لأنه صلاها بنية الزيادة لا بنية القضاء.
وهل عدم إجزاء تلك الركعة الخامسة عن ركعة قضائه مشروط بعلمه بأنها خامسة أم هي لا تجزئه مطلقًا علم أو لم يعلم. أجمع مأموموه على عدم موجبها أم لا؟. أو هي تجزئه إن قال الإمام: قمت لموجب. في كل حال، إلا أن يجمع المأمومون على نفي الموجب فلا تجزئ قولان.
وتارك سجدة مثلًا سهوًا من كأولاه، وفاته تداركها بعقد التي تليها، وانقلبت ركعاته، ولم ينتبه لهذا واعتقد كمال صلاته، وأتى بركعة خامسة، فإنه لا تجزئه تلك الركعة الخامسة عن الركعة الباقية عليه من الصلاة، إن تعمد زيادتها، لأنه لم يأت بها بنية الجبر، ولابد من إتيانه بركعة يكمل بها صلاته. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولم تبطل صلاته مع أنه تعمد ركعة نظرًا لما في نفس الأمر من أنه بقيت عليه ركعة. قال في جواهر الإِكليل: هذا هو المشهور. وقال الهروي: المشهور بطلان صلاته نظرًا لتلاعبه في نيته. حكاهما الحطاب.
وأما أنا فأقول: الله تعالى أعلم بصحة هذه الفروع من عدمها، والله تعالى أعلم بمستند المصنف في ذلك وشروحه، وإنما لخصت حل هذه الألفاظ باختصار في أغلبها من جواهر الإِكليل، وربما أومأت بنظرة على الدردير وحاشيته. والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سجود التلاوة
فصل:
سَجَدَ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ (1)، بِلَا إِحْرَامٍ وَسَلَامٍ (2)، قَارِئٌ وَمُسْتَمِعٌ فَقَطْ؛ إِنْ جَلَسَ لِيَتَعَلَّمَ (3)، وَلَوْ تَرَكَ الْقَارِئُ، إِنْ صَلَحَ لِيَؤُمَّ (4) وَلَمْ يَجْلِسْ لِيُسْمِعَ (5)، فِي
(1)
وقوله: سجد بشرط الصلاة؛ دليله ما في الموطإ: سئل مالك عمن قرأ سجدة وامرأة حائض تسمع، هل لها أن تسجد؟. قال مالك: لا يسجد الرجل ولا المرأة إلا وهما طاهران. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: بلا إحرام وسلام؛ هو لما في المدونة: وقال مالك: من قرأ سجدة في الصلاة فإنه يكبر إذا سجدها، ويكبر إذا رفع رأسه منها. وقال: وإذا قرأها وهو في غير صلاة، فكان يضعف التكبير قبل السجود وبعد السجود. ثم قال: أرى أن يكبر. وقد اختلف قوله فيها إذا كان في غير صلاة، قال ابن القاسم: وكل ذلك واسع. وكان لا يرى السلام بعدها. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: قارئ ومستمع فقط، إن جلس ليتعلم، ولو ترك القارئ، فقوله: قارئ؛ دليله فتوى مالك في المدونة: وقال مالك لا أحب لأحد أن يقرأ سجدة إلا سجدها في صلاة أو في غيرها. ا. هـ. منه.
وقوله: ومستمع فقط إن جلس ليتعلم؛ هو أيضا لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك فيمن سمع السجدة من رجل فسجدها الذي تلاها، إنه ليس على هذا الذي سمعها أن يسجدها إلا أن يكون جلس إليه. ا. هـ. منه.
وقوله: ولو ترك إمامه؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة ونص ما فيها: قلت أرأيت إن جلس إليه قوم فقرأ ذلك الرجل سجدة فلم يسجدها الذي قرأها، هل يجب على هؤلاء أن يسجدوا؟. قال: نعم. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: إن صلح ليؤم؛ هو لما في الموطإ: وسئل مالك عن امرأة قرأت بسجدة ورجل معها يسمع، عليه أن يسجد معها؟. قال مالك: ليس عليه أن يسجد معها، إنما تجب السجدة على القوم؛ يكونون مع الرجل فيأتمون به فيقرأ السجدة فيسجدون معه، وليس على من سمع سجدة من إنسان يقرؤها - ليس له بإمام - أن يسجد تلك السجدة. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: ولم يجلس ليسمع؛ هو أيضًا لما في المدونة: قال: وكان مالك يكره أن يجلس =
إِحْدَى عَشْرَةَ، لَا ثَانِيةِ الْحَجِّ، والنَّجْمِ والانْشِقَاقِ والْقَلَمِ (1)، وَهَلْ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلةٌ
= الرجال إلى الرجل متعمدين ليقرأ لهم القرآن وسجود القرآن فيسجد بهم، قال: لا أحب أن يفعل هذا، ومن قعد إليه فعلم أنه إنما يريد قراءة سجدة قام عنه ولا يجلس معه. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: في إحدى عشرة، لا ثانية الحج والنجم والانشقاق والقلم؛ نص المدونة في الموضوع هو: قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك بن أنس: في سجود القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شئ؛ المص، والرعد، والنحل، وبني اسرائيل، ومريم، والحج أولها، والفرقان، والهدهد، والم تنزيل السجدة، وحم تنزيل. ا. هـ. منه.
قلت: ويشهد له حديث ابن عباس قال: لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ من المفصل بعد ما تحول إلى المدينة. قال البيهقي: وسمعناه رواه محمد بن رافع عن أزهر بن القاسم، عن الحارث عن مطر. ورواه بكر بن خلف ختن المقري عن أزهر، وقال في متنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وهو بمكة، فلما هاجر إلى المدينة تركها. قال البيهقي: وهذا الحديث يدور على الحارث بن عبيد أبي قدامة الإِيادي البصري وقد ضعفه ابن معين، وحدث عنه عبد الرحمن بن مهدي وقال: كان من شيوخنا وما رأيت إلا خيرًا. ا. هـ.
وعدم السجود في المفصل حكاه الشافعي عن مالك، ورواه عن أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت وابن عباس. ورواه غيره أيضًا عن ابن عمر وأبي الدرداء.
قال البيهقي: باب من القراءة في القرآن إحدى عشرة سجدة. ولا يفوتني أن أنبه على أن الحرث بن عبيد ومطر الوراق، اللذين ضعف بهما حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل بالمدينة، هما من رجال مسلم وناهيك بها مزية. والله الموفق.
قال البغوي: وذهب قوم إلى أنه ليس من المفصَّل سجود، يروى ذلك عن أبيِّ بن كعب، وابن عباس، وابن عمر، وهو قول مالك، وروي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصَّل منذ تحول إلى المدينة، وهذا الحديث أخرجه أبو داود.
وفي سنن ابن ماجه ما نصه: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا عثمان بن قائد، ثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن المهدي بن عبد الرحمن بن عيينة بن خاطر، قال: =
خِلَافٌ (1). وَكَبَّرَ لِخَفْضٍ وَرَفْعٍ وَلَوْ بِغَيْرِ صَلَاةٍ (2) وَص، وَأَنَابَ، وَفُضِّلَتْ:
= حدثتني عمتي أم الدرداء عن أبي الدرداء، قال: سجدت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصل شيء: الأعراف، والرعد، والنحل، وبني اسرائيل، ومريم، والحج، وسجدة الفرقان، وسليمان، سورة النمل والسجدة، وفي ص، وسجدة الحواميم. ا. هـ.
وأما الدليل على السجدة في ص فهو ما أخرجه البغوي بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ص. قال ابن عباس: وليست من عزائم السجود. وهذا الحديث أخرجه الترمذي في الصلاة؛ باب ما جاء في السجدة في ص. وقال: حديث حسن صحيح - وخرجه البخاري في سجود القرآن؛ باب في سجدة ص. وأخرج البخاري كذلك في تفسير سورة ص، وفي الأنبياء؛ باب واذكر عبدنا داود. وفي تفسير سورة الأنعام؛ باب قوله تعالى:(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)
(1)
، عن مجاهد قال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟. فقال: أو ما تقرأ: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ)
(2)
. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به؛ فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
وقوله: وهل سنة أو فضيلة خلاف؛ قال الشوكاني: قال النووي في شرح مسلم: قد أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة، وعند الجمهور سنة، وعند أبي حنيفة واجب ليس بفرض. قلت: ويمكن عدم التعارض بين القولين لأن بعض أهل المصطلح يطلق على السنة المؤكدة اسم الواجب. قال في مراقي السعود:
وبعضهم سمَّى الذي قد أكدا
…
منها بواجب فخذ ما قيدا
وأما فيما يختص بمصطلحنا الخاص فهي سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على فعلها في حالة الظهور. وقد قال مراقي السعود في تعريف السنة عندنا:
وسنة ما أحمد قد واظبا
…
عليه والظهور فيه واجبا
وبعده البيت المتقدم، والله الموفق.
(2)
وقوله: وكبَّر لخفض ورفع ولو بغير صلاة، تقدم الكلام عليه عند قوله: بلا سلام وإحرام، فأغنى عن إعادته هنا.
(1)
سورة الأنعام: 90
(2)
سورة الأنعام: 84.
تَعْبُدُون (1). وَكُرِهَ سُجُودُ شُكْرٍ أَوْ زلْزَلَةٍ (2) وَجَهْرٌ بِهَا بِمَسْجِدٍ، وَقِرَاءَةٌ بِتْلحِينٍ (3) كَجَمَاعَةٍ، وَجُلُوسٌ لَهَا لَا لِتَعْلِيمٍ (4)، وَأُقِيمَ القَارِئُ فِي المَسْجِدِ يَوْمَ خَمِيسٍ أَوْ غَيْرهِ (5). وَفِي كُرْهِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ روايتانِ (6) واجْتِمَاعٌ لِدُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ (7).
(1)
وقوله: وص وأناب، وفصلت تعبدون؛ أما محل السجدة في ص فلا خلاف عند من يقول بالسجود فيها، وأما السجود في فصلت، فلما في المدونة: وسألت مالكًا عن (حم تَنْزِيلٌ) أين يسجد فيها، (إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ)؟. أو (يَسْأمُونَ) لأن القراء اختلفوا فيها؟. قال: السجدة في: (إنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وكره سجود شكر أو زلزلة؛ قال البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: باب سجود الشكر، وساق سندًا إلى البراء قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدًا ومن معه، إلا رجلًا ممن كان مع خالد أحب إن يعقب مع علي رضي الله عنه فليعقب معه. قال البراء: فكنت ممن عقب معه. فلما دنونا من القوم خرجوا الينا، فصلى بنا علي رضي الله عنه، وصفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأسلمت همدان جميعًا، فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلَامُ عَلَيّ هَمَدَان، السَّلَامُ عَلَى هَمَدَانَ. قال البيهقي أخرج البخاري صدر هذا الحديث عن أحمد بن عثمان، عن شريح بن مسلمة، عن إبراهيم بن يوسف، فلم يسقه بتمامه. وسجود الشكر في تمام الحديث صحيح على شرطه. ا. هـ. منه بلفظه.
وحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك؛ أن عبد الله بن كعب بن مالك - قائد كعب حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله في غزوة تبوك، فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: حتى كملت لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، بينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= صارخ أوفى على جبل سلع: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء الفرج. الحديث المتفق عليه. وأخرج البغوي في السنة عن أبي موسى، مالك بن عبد الله أو عبد الله بن مالك، قال: شهدت عليًا حين أوتي المخرج، فلما رآه سجد سجدة الشكر، وهو حديث حسن رواه أيضًا أحمد في المسند.
وروي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى. أخرجه البغوي في شرح السنة، وأخرجه أبو داود في الجهاد؛ باب في سجود الشكر، وأخرجه الترمذي في السير؛ باب ما جاء في سجدة الشكر، وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسجدة عند الشكر، وإسناده حسن. وحسنه الترمذي.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم رأى نغاشيًا فسجد شكرًا لله. والنغاشي: القصير الضعيف الحركة. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني، وفي سنده جابر الجعفي وهو ضعيف.
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سجد شكرًا لله حين بشر بفتح اليمامة، أخرجه البغوي في شرح السنة، والبيهقي.
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدفته فدخل، فاستقبل القبلة فخر ساجدًا فأطال السجود، ثم رفع رأسه وقال:"إنَّ جِبْرِيلَ أتَانِي فَبَشَّرَنِي فَقَالَ: إنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ شكْرًا لِلَّهِ". رواه في منتقى الأخبار وقال: رواه أحمد. هذا، والآثار في مثله كثيرة.
قلت: ولعل الإمام لم يبلغه فيه شيء، وكان ديدنه كراهة الابتداع، وأن يتعبد المرء بما لم يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه رحمه الله قوله: كل كلام منه مقبول ومردود إلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى الموفق.
وقوله: وجهر بها بمسجد؛ يعني القراءة لما في ذلك من التشويش على المصلين.
(3)
وقوله: وقراءة بتلحين؛ قال الإمام أحمد: هي بدعة. واحتج لذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في أشراط الساعة أن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا بأفضلهم إلا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ليغنيهم غناء. قال: ولأن القرآن معجز في لفظه ونظمه، والألحان تغيره. اهـ. من المغني لابن قدامة.
قلت: وهذا محمول على الإفراط في التلحين؛ بحيث يمد في غير مد ويجعل الحركات حروفًا، أما تحسين الصوت بالقرآن وتحبيره فمستحب لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ". وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى: "إنَّنِي مَرَرْتُ بِكَ الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ".
فقال أبو موسى: لو أعلم أنك تستمع لحبّرته لك تحبيرًا، وروي عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال: "هذَا سَالِمٌ مَوْلَي أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ في أُمَّتِي مِثْلَ هذَا". أخرجه ابن قدامة.
والحاصل أنه ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن مستحب لا مكروه، ما لم يؤد ذلك إلى تغيير لفظه وزيادة حروفه. وبالله تعالى التوفيق.
(4)
وقوله: كجماعة وجلوس لها لا لتعليم؛ هو لما في المدونة، ولفظه: ولقد سمعته ينكر هذا؛ أن يأتي قوم فيجلسوا إلى رجل يقرأ القرآن لا يجلسون إليه لتعليم. وكان مالك يكره أن يجلس الرجال إلى الرجل متعمدين ليقرأ لهم القرآن وسجود التلاوة. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وأقيم القارئ في المسجد يوم خميس أو غيره؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة؛ قال: وسألنا مالكًا عن هذا الذي يقرأ في المسجد يوم الخميس أو نحوه فأنكره قال: وأرى أن يقام ولا يترك. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وفي كره قراءة الجماعة على الواحد روايتان؛ تعليل الكراهة فيها ظاهر؛ وهو مخافة أن يخطئ بعضهم فلا ينتبه الشيخ لخطئه، فيظنه إقرارًا له لأنه رواية. والذي يقتضيه الواقع كراهتها لأن الله تعالى يقول:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
(1)
الآية. والله تعالى أعلم.
(7)
وقوله: واجتماع لدعاء يوم عرفة؛ أي على وجه الاستنان؛ بأن يجتمعوا للدعاء بالمسجد يوم عرفة، أو يوم عاشوراء أو ليلة النصف من شعبان ونحو ذلك، لأنه بدعة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
سورة الأحزاب: 4.
ومجَاوَزَتُهَا لِمُتَطَهِّرٍ وَقْتَ جَوَازٍ (1)، وإِلَّا فَهَلْ يُجَاوِزُ مَحَلَّهَا أَو الآيَةَ تَأْويلَانِ، واقْتِصَارٌ عَلَيْهَا وَأُوِّلَ بِالكِلْمَةِ والآيَةِ قال: وَهُوَ الأشْبَهُ (2)، وَتَعَمُّدُهَا بِفَرِيضَةٍ أَوْ خُطْبَةٍ (3). وَجَهَرَ إِمَامُ السِّريةَ إلَّا اتُّبعَ، ومُجَاوِزُهَا بِيَسِيرٍ يَسْجُدُ، وبِكَثِيرٍ يُعيدُهَا في الْفَرْضِ مَا لَمْ يَنْحَنِ، وبِالنَّفْلِ فِي ثانِيَّتِهِ، فَفِي فِعْلِهَا قَبْلَ
(1)
وقوله: ومجاوزتها لمتطهر وقت جواز؛ تبع فيه مذهب المدونة، ففيها: وقال مالك: أكره للرجل أن يقرأ سورة فيخطف السجدة وهو على وضوء. إذا قرأ السورة وهو على وضوء فلا يدع أن يقرأ السجدة، فإن كان على غير طهارة فحكمه مجاوزة محلها لفتوى مالك في المدونة: وكان مالك يحب للرجل إذا كان على غير طهارة فقرأ سورة فيها سجدة أن يختصرها. ا. هـ. منه. وذلك وجه تساؤل المختصر: وإلَّا يكن على طهارة وقلنا: إن الحكم مجاوزتها، فهل يجاوز محل السجدة فقط، أو هو يترك الآية التي فيها السجدة جمعاء؟.
(2)
وقوله: واقتصار عليها؛ هو تشبيه في الكراهة، وذلك لفتوى مالك في المدونة، قال: وكان مالك يكره للرجل أن يقرأ السجدة وحدها، لا يقرأ قبلها شيئًا ولا بعدها شيئًا، فيسجد بها وهو في صلاة أو في غير صلاة. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وتعمدها بفريضة أو خطبة، التشبيه هنا في الكراهة أيضًا، وهي لفتوى مالك في المدونة؛ وقال مالك: لا أحب للإمام أن يقرأ في الفريضة بسورة فيها سجدة، لأنه يخلط على الناس صلاتهم إذا قرأ سورة فيها سجدة. وسألنا مالكًا عن الإمام يقرأ السورة في صلاة الصبح فيها سجدة؟.
فكره ذلك وقال: أكره للإمام أن يتعمد سورة فيها سجدة. فيقرأها، لأنه يخلط على الناس صلاتهم، فإذا قرأ سورة فيها سجدة سجدها. ا. هـ. منه.
قلت: وقد ثبت في الحديث المتفق عليه عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)
(1)
. فسجد. فقلت: ما هذه؟. قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. هذا لفظ البغوي، والحديث دليل على جواز قراءة السجدة في الفريضة. =
(1)
سورة الانشقاق:1.
الْفَاتِحَةِ قَوْلَانِ، وَإِنْ قَصَدَهَا فَرَكَعَ سَهْوًا اعتدَّ بِه ولَا سَهْوَ، بِخِلَافِ تَكْرِيرهَا أَو سُجودٍ قَبْلَها سهوًا، قال: وأَصْلُ المَذْهَبِ تكْرِيرُهَا إِنْ كَرَّرَ حِزْبًا إِلَّا المُعَلِّمَ والْمُتَعَلِّمِ فَأوَّلَ مَرَّةٍ، ونُدِبَ لِسَاجِدِ الْأعْرَافِ قِرَاءَةُ قَبْلَ رُكُوعِهِ، ولَا يَكْفِي عَنْهَا رُكُوعٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا وقَصَدَهُ صَحَّ وَكُرِهَ، وسَهْوًا اعْتُدَّ بِهِ عِنْدَ مالك لَا ابْنِ الْقَاسِمِ، فَيَسْجُدُ إِن اطْمَأَنَّ به.
= وقوله: وخطبة جمعة؛ هو عطف أيضًا على الكراهة، غير أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ السجدة على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود، فقال إن الله لم يكتبها علينا إلَّا أن نشاء. فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا. ا. هـ. وهذا الحديث كما أخرجه البغوي في شرح السنة، هو في الموطإ، باب ما جاء في سجود القرآن، وأخرجه البخاري أيضًا في سجود القرآن، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود. ا. هـ.
والله أرجو أن يسددنا في القول والعمل إنه سميع مجيب.
وقوله: وأصل المذهب تكريرها إن كرر حزبًا إِلَّا المعلم والمتعلم فأول مرة؛ مشى فيه هنا على شطري القاعدة الفقهية التي يقول الفقهاء فيها: هل الأمر يقتضي التكرار أو لا؟. وقد عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
هل يقتضي تكرارًا الأمر وهل
…
يصير منهي بنهي مضمحل
للأول الولوغ والدخول
…
حكاية وسجدة تئول
وسرد في البيت الثاني فروعًا مبنية على القاعدة المذكورة في شطر البيت الأول، وهذه الفروع هي: إذا تكرر الولوغ من كلب واحد أو كلاب في الإناء، هل تتكرر الغسلات السبع بتكرر الولوغ، بناء على أن الأمر يقتضي التكرار؟. أو لا تتكرر بناء على أنه لا يقتضي ذلك؟. وإذا تعدد دخول امرئ المسجد، فهل يكرر صلاة تحية المسجد كلما دخل، بناءًا أن الأمر يقتضي التكرار؟. أو لا تتكرر بناء على الشطر الثاني وهو المعروف؟. وإذا تكرر الأذان فهل تتكرر حكايته لسامعه؟. أولا تتكرر بناء على القاعدة؟. ومحل الشاهد منه قوله: وسجدة تئول. أي ومن كرر موضع السجدة فهل تتكرر السجدة =
فصل في النفل
نُدِبَ نَفْلٌ، وتَأَكَّدَ بَعْدَ مَغْرِبٍ؛ كَظُهْرٍ وَقَبْلَهَا كَعَصْرٍ بِلَا حَدٍّ (1)، والضُّحَى (2). وَسِرٌّ بِهِ نَهَارًا وَجَهْر لَيْلًا. وتَأَكَّدَ بِوِتْرٍ، وتَحِيَّةُ مَسْجِدٍ (3)، وَجَازَ تَرْكُ مَارٍّ، وَتَأَدَّتْ بِفَرْضٍ، وبَدْءٌ بِهَا بِمَسْجِدِ المدِينةِ قَبْلَ السَّلَامِ عَليهِ صلى الله عليه وسلم، وإِيقَاعُ نَفْلٍ بِهِ بِمُصَلَّاه صلى الله عليه وسلم، والفَرْضُ بالصف الأوَّلِ (4)، وتحِيَّةُ مَسْجِدِ مَكَّةَ الطَّوَافُ، وَتَرَاوِيحٌ، وانْفِرَادٌ بِهَا إِنْ لم تُعَطَّل المسَاجِدُ، والخَتْمُ فيهَا، وسورةٌ تُجْزِئ، ثَلَاثٌ وعِشْرونَ ثمَّ جُعِلَتْ سِتًّا وثَلَاثِينَ، وخَفَّفَ مَسْبُوقُهَا ثَانِيته ولَحِقَ (5)، وَقِرَاءَةُ شَفْعٍ بِسَبِّحْ والكَافِرونَ، وَوترٍ بإخْلَاصٍ ومُعَوِّذَتَيْن إِلَّا لمن لهُ حِزْبٌ فَمِنْهُ فِيهِمَا (6)، وَفِعْلُهُ لِمُنْتَبِهٍ آخِرَ اللَّيْلِ (7)، ولمْ يُعِدْهُ مُقَدِّمٌ ثُمَّ صَلَّى، وجَازَ وعَقِيبَ
= تكرار موضعها أولا، بناء على شطري القاعدة؟. وهو هنا مشى على القول لأنه يقتضي التكرار في غير المعلم والمتعلم، وعلى أنه لا يقتضي التكرار فيهما. والله أعلم بمستنده. اللهم إذا كان ذلك سماحة الدين ويسره وما فيه من رفع المشقة والحرج.
(1)
وقوله رحمه الله: ندب نفل وتأكد بعد مغرب؛ كظهر وقبلها كعصر بلا حد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَة بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ". ا. هـ. لفظ البغوي.
وأخرجه مسلم عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن عنبسة. وأخرجه الترمذي في سننه في الصلاة: باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل؛ وأخرجه النسائي في قيام الليل، ولكن قال:"وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْعَصْرِ". ولم يذكر الركعتين بعد العشاء. وأخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب تفريع أبواب التطوع. وأخرجه ابن ماجه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروي عن عائشة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَىْ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الْجَنَّةِ". وذكرت مثل حديث أم حبيبة المتقدم. وهذا الحديث أخرجه الترمذي: باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، وإسناده حسن. ورواه النسائي في قيام الليل: باب ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة. ورواه ابن ماجه: باب ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة.
(2)
وقوله: والضحى؛ هو لما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن أبي ذر قال: أوصاني بثلاث لا أدعهن أبدًا: أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل النوم، وبصوم ثلاثة أيام من كل شهر. ا. هـ. وأخرج مثله عن أبي هريرة.
وعن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يُحَافِظُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى إلَّا أَوَّابٌ قال: "وَهِيَ صَلَاةُ الْأوَّابِينَ". رواه ابن خزيمة.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُصْبحُ أحَدُكُمْ وَعَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْهُ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ، وَتَكْبِيرَةٍ، وَتَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِمَعْروُفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَتُجْزِئُ مِنْ كُلِّ ذلِكَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ". أخرجه ابن خزيمة. وهو في صحيح مسلم.
(3)
وقوله: وتحية مسجد، لحديث أبي قتادة المتفق عليه، قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ".
وقوله: وتأدت بفرض؛ أي لاندراج الأصغر في الأكبر، وقوله: وبدءٌ بها بمسجد المدينة قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لأن تحية المسجد الحق فيها للخالق. والله تعالى أعلم.
(4)
وقوله: والفرض بالصف الأول؛ لما ورد عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنَ الْإمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وإِنْ دَخَلَهَا". أخرجه ابن قدامة في المغني وقال: رواه أبو داود. وقد ثبت في الحديث المتفق عليه: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفُ الْأوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا". متفق عليه.
وقوله: وتحية مسجد مكة الطواف؛ هو في حق القادم بنسك، أو الداخل في المسجد بنية الطواف، وإلا فهو كغيره من المساجد تحيته الركعتان، وهذا التفصيل هو الذي يناسب قوله تعالى: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
(1)
. وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)
(2)
. والله الموفق.
(5)
وقوله: وتراويح وانفراد بها ألخ. وهي سنة مؤكدة، سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "مَنْ قَامَ رَمْضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه مسلم وابن ماجه. وعن عائشة رضي الله عنها: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة فصلى بصلانه ناس، ثم صلى من القابلة وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أصبح قال:"قَدْ رَأْيتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ". قالت: وذلك في رمضان. رواه مسلم.
وقوله ثلاث وعشرون؛ هو لما في الموطإ: وحدثني عن مالك عن يزيد بن رمان أنه قال: كان
الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟. قال:"يَا عَائِشَةُ، عَيْنَايَ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي". متفق عليه. وهذا اللفظ لبلوغ المرام وفيه في النسخة التي بيدي "عَينيَّ" ولعلها خطأ مطبعي.
وقوله وانفراد بها إن لم تعطل المساجد؛ قال ابن قدامة: قال الطحاوي: كل من اختار التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد. فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا. وبه قال الليث بن سعد. ا. هـ.
ومالك والشافعي يقولان: قيام رمضان في البيت أحب إلينا لمن قوي، لما روى زيد بن ثابت قال: احتجز رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فتتبع إليه رجال =
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة البقرة: 185.
شَفْعٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ بِسَلَامٍ إِلَّا لاقْتِدَاءٍ بِواصِل. وَكُرِهَ وَصْلُه (1) وَوتْرٌ بِوَاحِدَةٍ (2)،
وجاؤوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فقال:"مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلاةِ فِي بُيُوتكُمْ، فَإنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ". رواه مسلم.
وقوله: والختم فيها، لا يخفى أن ختم القرآن مستحب.
وقوله: وسورة تجزيءُ؛ لقوله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) الآية.
(6)
قوله: وقراءة شفع بسبّح والكافرون؛ هو لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ). و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) رواه في بلوغ المرام وقال: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وزاد: ولا يسلم إلا في آخرهن، ثم قال: ولأبي داود والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها. وفيه: كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين. ا. هـ. بلوغ المرام.
(7)
وقوله: وفعله لمنتبه آخر الليل؛ هو لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِر اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرَ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذلِكَ أَفْضَلُ". أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. ويالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وكره وصله؛ فقد تقدم لك حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن النسائي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ولا يسلم إلا في آخرهن. ا. هـ. فإن صح هذا الخبر انتفت الكراهة دون شك، ولعل أهل المذهب يرونه معلولًا. والله أعلم.
(2)
وقوله: ووتر بواحدة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال:"الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوترَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه الجماعة إلا الترمذي. وصححه ابن حبان ورجح النسائي وقفه.
وقِراءَةُ ثَانٍ مِن غَيْرِ انْتِهَاءِ الأَوَّلِ، ونَظَرٌ بِمُصْحَفٍ في فَرْضٍ أَو أثْنَاءَ نَفْلٍ لَا أَوَّلَهُ، وجَمْعٌ كَثِيرٌ لِنَفْلٍ أَوْ بِمَكَانٍ مُشْتَهِرٍ وإِلَّا فَلَا، وكَلَامٌ بَعْدَ صُبْحٍ لِقُرْبِ الطُّلُوعِ لَا بَعْدَ الْفَجْرِ، وضِجْعَةٌ بينَ صُبْح ورَكْعَتَيْ فَجْر (1)، وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ آكَّدُ ثُمَّ
(1)
وقوله وضجعة بين صبح وركعتي فجر؛ أين هذه الكراهة من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه مسلم.
وأين هي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى أَحَدُكُم الركْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأيْمَنِ". أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
قلت: وعلى الرغم من حكاية كراهة هذه الضجعة عند أصحابنا، فقد حكى أهل الظاهر وجوبها لورود الأمر بها، كما علمت من حديث أبي هريرة، بل إن بعض هؤلاء قال: إنها شرط في صحة صلاة الصبح، وقد أبعد النجعة من يقول ذلك.
والتحقيق - إن شاء الله - أن لا محل للكراهة بتاتًا، وأن القول بوجوبها بعيد، وأنه يتخرج القول فيها على الخلاف في فعله صلى الله عليه وسلم الجبلّي المقترن بالعبادة؛ كحجه صلى الله عليه وسلم:"لِتَأْخذوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". فمن يقول: الركوب في الحجة سنة، تمسك بمقارنة قول هذا لفعله، ومن يقول: ليس بسنة، قال: إنما ركب لأن الجبلَّة البشرية تقضي بذلك.
وكذلك الخلاف في استحباب الخروج إلى مصلى العيد من طريق والرجوع من آخر؛ فمن يقول: هو مستحب، يقول: فعله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة، ومن يقول: ليس بسنة، قال: إنما وقع ذلك بحكم الجبلَّة، وكذلك يجري الخلاف في النزول بالمحصب بعد الخروج من منًى، وهكذا يكون الشأن في الضجعة بعد صلاة الفجر وقبل صلاة الصبح. قال شيخ مشائخنا في مراقي السعود:
وفعله المركوز في الجبلة
…
كالأكل والشرب فليس ملة =
اسْتِسْقَاءٌ، ووقْتُهُ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وشَفَقٍ للفَجْرِ، وضروريُّهُ للصبح (1). وَنُدِبَ قَطْعُهَا لَفَذٍّ لَا مُؤْتَمٍّ وَفِي الْإِمَامِ روايتان وإن لم يَتَّسِع الْوَقْتُ إِلَّا لِركْعَتَيْنِ تَرَكَهُ لا
= فالحج راكبًا عليه يجري
…
كضجعة بعد صلاة الفجر
فمن يقول بمشروعية فعلها على وجه الاستنان، يقول: لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. ومن يقول بعدم استحبابها يقول: إنما فعلها لأن الجبلة البشرية تقضي بذلك؛ لاستراحته صلى الله عليه وسلم من قيام الليل. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: والوتر سنة آكد، دليل سنيته حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في شهر رمضان، ثم انتظره من القابلة فلم يخرج وقال:"إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه ابن حبان. وحديث الموطإ عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أن رجلًا من بني كنانة يدعى المُخْدَجِيَّ سمع رجلًا بالشام يكنى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب، فقال المخدجيُّ: فرحت إلى عبادة بن الصامت، فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد، فقال عبادة: كذَبَ أبو محمد. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عز وجل عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أدْخَلَهُ الْجَنَّةَ". ا. هـ. منه.
وقوله: ووقته بعد عشاء صحيحة وشفق للفجر؛ هو لدليل حديث خارجة بن حذافة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِن حُمْرِ النَّعَمْ" قلنا وما هي يا رسول الله؛ قال: "الْوِتْرُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم. قلت: وأخرجه الطحاوي والدارقطني والبيهقي.
وقوله: وضروريه للصبح، هو لحديث الموطإ: يحيى عن مالك عن عبد الكريم بن أبي =
لِثَلَاثٍ، ولخمْسٍ صَلَّى الشَّفْعَ وَلَوْ قدَّمَ وَبِسَبْعٍ زاد الْفجْرَ (1). وَهِيَ رَغيبَةٌ (2)
= المخارق البصري عن سعيد بن جبير، أن عبد الله بن عباس رقد ثم استيقظ فقال لخادمه: انظر ما صنع الناس؟. وهو يومئذ قد ذهب بصره، فذهب الخادم ثم رجع فقال: قد انصرف الناس من الصبح، فقام عبد الله بن عباس فأوتر ثم صلى الصبح. ا. هـ. وفي الموطإ أيضًا: مالك عن عبد الله بن القاسم أنه سمع أباه القاسم بن محمد يقول: إني لأوتر بعد الفجر. قال مالك: وإنما يوتر بعد الفجر من نام عن الوتر، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد ذلك حتى يضع وتره بعد الفجر.
(1)
وقوله: وندب قطعها له؛ أي قطع صلاة الصبح إذا تذكر الفذ أثناء صلاته أنه نام عن الوتر ليأتي به في وقت الضرورة له، لأنه روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ فَلْيُصَلِّ إذَا أَصْبَحَ". ذكره البغوي في شرح السنة وأخرجه الترمذي: باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر. أما هذه الأقدار المقدرة بعدد الركعات، فالله أعلم بمستنده فيها وهو المتبحر رحمه الله.
(2)
وقوله: وهي رغيبة؛ هو مصطلح خاص بأصحابنا يقولون: هو دون السنة وفوق المستحب.
وقد عرفها شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
رغيبة ما فيه رغب النبي
…
بذكر ما فيه من الأجر جبي
أو دام فعله بوصف النفل
…
والنفل من تلك القيود أخلِ
والأمرَ بل أعلمَ بالثوابِ فيه
…
فيه نبي الرشدِ والصوابِ
فقال في تعريف الفرق بين الرغيبة عندنا والنافلة: إن الرغيبة هي التي قيدت بترغيب النبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ بذكر ما فيها من الثواب محددًا أو بمداومته عليها، والنفل خال من المداومة على فعله ومن تحديد الثواب والأمر به، بل ذكر صلى الله عليه وسلم أن فاعله يثاب فقط من غير تحديد.
وفي مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح.
بهذا اللفظ أخرجه البغوي في السنة، وهو متفق عليه، أخرجه البخاري عن بيان ابن عمرو، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، كلاهما عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج. =
تَفْتَقِرُ لِنيَّةٍ تَخُصُّهَا (1)، ولَا تُجْزِئُ إِنْ تبيَّنَ تَقَدُّمُ إِحْرَامِهَا لِلْفَجْر ولو بِتَحَرٍّ (2)، ونُدِبَ الاقْتِصَارُ عَلى الْفَاتِحَةِ (3)، وإِيقاعُهَا بِمَسْجِدٍ ونَابَتْ عَنِ التَّحِيَّةِ، وإنْ فَعَلَهَا بِبَيْتِهِ
= وفي الترغيب فيهما تقول عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". هذا لفظ البغوي، والحديث أخرجه مسلم عن محمد بن عبيد الغُبري عن أبي عوانة، وأخرجه الترمذي: باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل. وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل.
(1)
وقوله: تفتقر لنية تخصُّها؛ هو لما في المدونة: قلت: أرأيت ركعتي الفجر إذا صلاهما الرجل، بعد انفجار الصبح، وهو لا ينوي بهما ركعتي الفجر؟. قال لا تجزيان عنه. وكذلك قال مالك.
(2)
وقوله: ولا تجزئ إن تبين تقدم إحرامها للفجر ولو بتحر؛ هو أيضًا لما في المدونة: وقال ابن القاسم: قال مالك فيمن صلى ركعتي الفجر قبل طلوع الفجر: فعليه أن يصليهما إذا طلع الفجر، ولا يجزئه ما كان صلى قبل الفجر. ا. هـ.
وقوله: ولو بتحر، هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة: قال: فقيل لمالك: فإن تحرى فعلم أنه ركعهما بعد طلوع الفجر؟. فقال: أرى أن يعيدهما بعد طلوع الفجر. ا. هـ.
(3)
وقوله: وندب الاقتصار على الفاتحة؛ هو لحديث الموطأ: مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخفف ركعتي الفجر، حتَّى إنِّي لأقول أقرأ بأمِّ القرآن أم لا. ا. هـ.
وفي المدونة ما نصه: وسألنا مالكًا عن ركعتي الفجر ما يقرأ فيهما؟. فقال مالك: الذي أفعل أنا، لا أزيد على أم القرآن وحدها. ألا ترى قول عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان رسول الله ليخفف ركعتي الفجر، حتى إني لأقول: أقرأ بأم القرآن أم لا؟. ا. هـ.
قلت: حديث عائشة هذا متفق عليه أخرجه البخاري في التهجد في الليل باب: ما يقرأ في ركعتي الفجر، وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين؛ باب استحباب ركعتي سنة الفجر، وفي صحيح مسلم، في صلاة المسافرين؛ باب استحباب ركعتي الفجر وما يقرأ فيهما، أنه روي عن ابن عباس قال: كان =
لَمْ يَرْكَعْ (1)، وَلَا يُقْضَى غَيْرُ فَرْضٍ إِلَّا هِيَ فلِلزَّوَالِ (2)، وإنْ أُقيمَت الصُّبْحُ وَهُوَ
= رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
(1)
. الآية من سورة البقرة. وقوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
(2)
. الآية من آل عمران.
وفيه أيضًا حديث ابن عباس أنه كان يقرأ في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} . الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
(3)
. الآية التي في آل عمران. ا. هـ.
وفي البغوي ما نصه عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا؛ فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وهذا الحديث قال المعلق على البغوي: هو في الترمذي، باب ما جاء في تخفيف ركعتي الفجر.
وأخرجه مسلم في صلاة المسافرين؛ باب استحباب ركعتي الفجر وما يقرأ فيهما. وأخرجه ابن ماجه في إقام الصلاة؛ باب ما جاء فيما يقرأ في الركعتين قبل الفجر. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه في بلوغ المرام. وقال: رواه مسلم.
(1)
وقوله: وإن فعلها في بيته لم يركع؛ فيه نظر، فكيف يتصور عدم ركوع من دخل المسجد تحية المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه:"إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِس حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ".
والله تبارك وتعالى يقول: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوُ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ"
(4)
.
(2)
وقوله: ولا يقضى غير فرض إلا هي فللزوال؛ أما دليل قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس؛ هو ما أخرجه في الموطإ عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر فاتته ركعتا الفجر فقضاهما بعد =
(1)
سورة: البقرة: 136.
(2)
سورة آل عمران: 64.
(3)
سورة آل عمران: 52.
(4)
سورة النور: 63.
بِمَسْجِدٍ تَركَهَا وَخَارِجَهُ رَكَعَهَا، إن لمْ يَخَفْ فَوَاتَ رَكْعَةٍ (1)، وهَل الأفْضَلُ كَثْرَهُ السُّجُودِ أوْ طُولُ الْقِيَامِ قَوْلَان (2).
= أن طلعت الشمس. وحدثني عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد أنه صنع مثل ما صنع ابن عمر.
وأما قوله: ولا يقضي غير فرض إلا هي، فهو كلام يتعارض مع ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نامَ عَنْ حِزْبِهِ أوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ". ا. هـ. وهذا الحديث في صحيح مسلم في صلاة المسافرين. ويتعارض مع حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يصل من الليل، - منعه من ذلك النوم - أو غلبته عيناه، صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة. هذا لفظ البغوي، والحديث في صحيح مسلم. وأخرجه الترمذي في الشمائل. وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: وإن أقيمت الصبح وهو بمسجد تركها؛ هو لما في المدونة: وسألنا مالكًا عن الرجل يدخل المسجد بعد طلوع الفجر، ولم يركع ركعتي الفجر فتقام الصلاة، أيركعهما؟. فقال: لا، وليدخل في الصلاة، فإذا طلعت الشمس فإن أحب أن يركعهما فعل. ا. هـ. منه.
وقوله: وخارجها ركعها إن لم يخف فوات ركعة، هو لما في المدونة: قال إن لم يخف أن يفوته الإمام بالركعة فليركع خارجًا قبل أن يدخل، فهو أحب إليَّ. ا. هـ. منه غير أن هذا يتعارض مع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم:"إذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَة". من حديث أبي هريرة، أخرجه مسلم.
(2)
وقوله: وهل الأفضل كثرة السجود أو طول القيام؟. قولان؛ أما فضل كثرة السجود فهو لحديث ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (سَلْ). فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: "أوَ غَيْرَ ذلِكَ؟." فقلت: هو ذاك. قال: "فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السَّجُودِ". أخرجه بلوغ المرام. وقال: رواه مسلم.
وأما فضل طول القيام فهو لما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه؛ باب فضل طول القيام في صلاة الليل وغيره، ثم ساق سندًا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت؟. قال: هممت أن أجلس وأدعه. ا. هـ.=
صلاة الجماعة
فصل:
الْجَمَاعَةُ بِفَرْضٍ غَيرِ جُمُعَةٍ سُنَّةٌ (1)، وَلَا تَتَفاضَلُ (2)، وإنَّمَا يَحْصُلُ فَضْلُهَا بِرَكْعَةٍ (3)، ونُدِبَ لِمَنْ لَمْ يُحَصِّلهُ كَمُصَلٍّ بِصَبيٍّ لَا امْرأةٍ أنْ يُعِيدَ مُفَوِّضًا مَأمُومًا (4) وَلَوْ مَعَ وَاحِدٍ، غَيْرَ مَغْرِبٍ كَعِشَاءٍ بَعْدَ وتْرٍ فإنْ أعَادَ وَلَمْ يَعْقِدْ قَطَعَ وإلَّا شَفَّعَ. وَإنْ أتَمَّ وَلَوْ سَلَّمَ أتَى بِرَابِعَةٍ إنْ قَرُبَ (5)، وأعَادَ مُؤتَمٌّ بِمُعِيدٍ أبَدًا أفْذَاذًا (6) وَإنْ تَبَيَّنَ عَدَمُ
= وأخرج أيضًا بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الصلاة أفضل؟. قال: "طُولُ الْقُنُوتِ". ا. هـ.
وهذان الحديثان صحيحان، أخرجهما الإمام مسلم في صلاة المسافرين. والله تعالى ولي التوفيق.
(1)
وقوله رحمه الله: الجماعة بفرض غير جمعة سنة؛ دليل عدم وجوب الجماعة حديث عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله قال: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً".
وفي رواية لأبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بِخَمْس وَعِشْرِينَ جُزْءًا، ا. هـ. والحديثان متفق عليهما.
وعن يزيد بن أبي الأسود أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة الصبح، فلما صلى عليه الصلاة والسلام إذا هو برجلين لم يصليا، فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما. فقال لهما: من منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: "لَا تَفْعَلَا، إنْ صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أدْرَكْتُمَا الْإمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ". أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه أحمد واللفظ له، والثلاثة، وصححه ابن حبان والترمذي. وبهذه الأحاديث استدل الإمام مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي على أن الجماعة ليست واجبة.
قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "تَفْضُل صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً". ولا مفاضلة إلا بين اثنين اشتركا في الفضل. قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اللذين قالا: صلينا في =
الأُولَى أَوْ فَسَادُهَا أجْزَأتْ، وَلَا يُطَالُ رُكُوعٌ لِدَاخِلٍ، والإمَامُ الرَّاتِبُ
= رحالنا. ولو كانت واجبة لأنكر عليهما صلاتهما في رحالهما. وأيضًا: لو كانت الجماعة في الصلاة واجبة لكانت شرطًا من شروطها، والإجماع محكي بعدم وجوب الإعادة على من صلى فذًا. والله تعالى ولي التوفيق.
وحيث إن المقام يستدعي بعض الإطناب، فإني أستسمح بنقل ما كتبه الشوكاني في نيل الأوطار في الموضوع، وهو المعروف بالتعصب لأهل الظاهر قال: فأعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب أن الجماعة من السنن المؤكدة، التي لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشئوم، وأما أنها فرض عين أو كفاية أو أنها شرط لصحة الصلاة فلا. ولهذا فقد قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث أبي هريرة - ما لفظه: وهذا الحديث يرد على من أبطل صلاة المنفرد لغير عذر، وجعل الجماعة شرطًا، لأن المفاضلة بينهما تستدعي صحتهما، وحمل النص على المنفرد لا يصح لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما كان يفعله لولا العذر، فقد روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أو سَافَرَ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا". رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أعْطَاهُ اللهُ عز وجل مِثْلَ أجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجورِهِمْ شَيْئًا". رواه أحمد وأبو داود والنسائي. انتهى. منه. بلفظه.
(2)
وقوله: ولا تتفاضل؛ أي لا يتفاوت فضلها تفاوتًا يقتضي الإعادة لأجله، أما في الفضل فإنها تتفاضل، لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزْكَى مِنْ صَلَاِتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرجُلَيْن أزْكَى مِنْ صَلَاِتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أكْثَرَ فَهو أحَبُّ إلى اللهِ عز وجل". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه أبو داود والنسائي. وصححه ابن حبان.
(3)
وقوله: وإنما يحصل فضلها بركعة؛ لما أخرجه ابن خزيمة مرفوعًا عن أبي هريرة: "إذَا جِئْتُمْ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاةَ". وأخرج أيضًا فيه مرفوعًا عن أبي هريرة: "مَنْ أدْرَكَ مِنَ الصلَاةِ قَبْلَ أنْ يُقِيمَ الإمَامُ صُلْبَهُ فَقَدْ أدْرَكَهَا". وترجم له: باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركًا للركعة إذا ركع إمامه. ا. هـ. نقله عنه في سبل السلام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= للصنعاني.
(4)
وقوله: وندب لمن لم يحصله كمصل بصبي لا امرأة أن يعيد مفوضًا مأمومًا؛ دليله ما في الموطإ: حدثني يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني الدِّيل يقال له بُسْرُ بن مِحْجَنٍ، عن أبيه محجن أنه كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذَّن بالصلاة، فقام رسول صلى الله عليه وسلم فصلَّى ثم رجع، ومحجنٌ في مجلسه لم يصل معه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا مَنَعَكَ أنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ؟!. ألَسْتَ بِرَجُل مُسْلِم؟! ". فقال: بلى يا رسول الله؛ ولكنِّي قد صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ". قلت: وهذا أيضًا يدل على أن الجماعة ليست بواجبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل إلينا أنه أمره بإعادة تلك الصلاة. والله الموفق.
وحدثني عن مالك عن نافع أن رجلًا سأل عبد الله بن عمر فقال: إنِّي أُصَلِّي في بيتي، ثم أدرك الصلاة مع الإمام، أفأصلِّي معه؟. فقال له عبد الله بن عمر: نَعَمْ فقال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟. فقال له ابن عمر: أوَ ذلك إليك؟. إنما ذلك إلى الله أن يجعل أيتهما شاء. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: غير مغرب ألخ؛ دليل عدم إعادة المغرب لفضل الجماعة وهو ما في الموطإ: وحدثني عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من صلى المغرب أو الصبح، ثم أدركهما مع الإمام فلا يعدلهما. قال مالك: ولا أدري بأسًا أن يصلي مع الإمام من كان صلى في بيته، إلَّا صلاة المغرب فإنه إذا أعادها كانت شفعًا. ا. هـ. منه.
وقوله: فإن أعاد ولم يعقد قطع وإلا شفع؛ هو لما في المدونة: قلت أرأيت إن دخل المسجد فافتتح صلاة المغرب، فلما افتتحها أُقيمت المغرب. قال: يقطع ويدخل مع القوم. قلت: وإن كان قد صلى ركعة؟. قال: يقطع ويدخل مع القوم. قلت: فإن كان قد صلى ركعتين. قال يتم الثالثة ويخرج من المسجد ولا يصلي مع القوم. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وأعاد مؤتم بمعيد أبدًا أفذاذًا؛ يتبع فيه مذهب المدونة فإن فيها: وقال مالك: وإن صلى رجل وحده في بيته، ثم أتى المسجد فأقيمت الصلاة، فلا يتقدمهم لأنه قد صلاها في بيته، وليصل معهم ولا يتقدمهم، فإن فعل أعاد من خلفه صلاتهم، لأنه لا يدري أيتهما صلاته، وإنما ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء، فكيف تجزئهم صلاة رجل لا يدري أهي صلاته أم لا؟. ا. هـ. منه. =
كَالْجَماعَةِ (1)، ولا تُبْتَدَأُ صَلَاةٌ بَعْدَ الإِقَامَةِ (2)، وَإنْ أُقيمَتْ وَهُوَ في صَلَاةٍ قَطَعَ إِنْ
= قلت: أخرج البغوي في السنة من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم. ا. هـ. قال من علق على شرح السنة: هو في سنن الترمذي. وقال: حسن صحيح. وأخرجه البخاري ومسلم ولفظه: أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه. زاد مسلم: العشاء الآخرة. ا. هـ.
قال البغوي: وفيه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن معاذًا كانت صلاته الثانية نافلة، وصلاة القوم خلفه فريضة. وهو قول عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وأحمد. ا. هـ. منه.
ولا يفوتني أن ألفت نظرك إلى ما تقدم عن الإمام في الموضوع من قوله قبلُ: فكيف تجزئهم صلاة رجل لا يدري أهي صلاته أم لا؟. ليتبين لك أنها فتوى بمحض الاجتهاد، وإذن فإنه اجتهاد في محل ورد فيه النص؛ لحديث جابر المتفق عليه المتقدم، وقد علمت أن الاجتهاد في محل النص مقدوح فيه بالقادح المسمى بفساد الاعتبار. قال شيخ مشائخنا في ألفية مراقي السعود.
والخلف للنص أو اجماع دعا
…
فساد الاعتبار كل من وعى
وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك غير ما مرة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: والإمام الراتب كالجماعة؛ قد تبع فيه مذهب المدونة ونص ما فيها: قلت أرأيت مسجدًا له إمام راتب، إن مربه قوم فجمعوا فيه صلاة من الصلوات، أترى لإمام ذلك المسجد أن يعيد تلك الصلاة فيه بجماعة؟. قال: نعم. قد بلغني ذلك عن مالك. قلت: فلو كان رجل فهو إمام مسجد قوم ومؤذنهم، أذن وأقام فلم يأته أحد، فصلى وحده، ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه؟. قال: فليصلوا أفذاذًا ولا يجمعوا؛ لأن إمامه قد أذن وصلى. قال: أرأيت إن أتى هذا الرجل الذي أذن في هذا المسجد وصلى وحده، أتى مسجدًا أقيمت فيه الصلاة؛ أيعيد أم لا، في جماعة في قول مالك؟. قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئًا، ولكن لا يعيد لأن مالكًا قد جعله وحده جماعة. ا. هـ. منه.
(2)
ولا تبتدأ صلاة بعد الإقامة؛ دليله حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ =
خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ، وإِلَّا أَتَمَّ النَّافِلَةَ أَوْ فَريضَةً غَيْرَهَا، وإلَّا انْصَرَفَ فِي الثَّالِثَةِ عَنْ شَفْعٍ كَالأُولَى إِنْ عَقَدَهَا، وَالْقَطْعُ بِسَلَامٍ أَوْ مُنَافٍ
(1)
وإلَّا أَعَادَ، وَإنْ أُقِيمَتْ
= فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتوَبةُ". قال البغوي: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر عن شعبة عن ورقاء عن عمرو. ثم تابعه حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو. قال حماد: ثم لقيت عمرًا فحدثني به ولم يرفعه. قال: والمرفوع أصح، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم؛ أن الصلاة إذا أقيمت فهو ممنوع من ركعتي الفجر وغيرها من السنن إلا المكتوبة، وروي عن عمر أنه كان يضرب الرجل إذا رآه يصلي الركعتين والإمام في الصلاة. ا. هـ.
وعن عبد الله بن مالك بن بحينة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل، وقد أقيمت الصلاة - صلاة الصبح - وهو يصلي ركعتين، فكلمه بشيء، فلم نفهمه فقلنا: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال: قال لي: "يُوشِكُ أحَدُكُمْ أنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ أرْبَعًا". وهو حديث متفق عليه. والله الموفق.
قلت: فلم يبق من احتمال لهذه التفاصيل التي جاء بها المصنف يقتدي فيها بمذهب المدونة، وهي قوله: وإن أقيمت وهو في صلاة قطع إن خشي فوات ركعة، وإلا أتم النافلة أو فريضة غيرها وإلا انصرف في الثالثة عن شفع كالأولى إن عقدها؛ فلم يبق من احتملات لهذه التفاصيل بعد ما وقفت عليه من صحيح الحديث الذي هو نص في الموضوع، إلا أن يكون إمامنا الثبت يستدل في ذلك بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} الآية. لأنه إن عقد ركوع إحدى الركعتين، تحتم عليه أن يشفعها بأخرى لئلا يبطل عمله، وأما إن كان في فريضة غيرها؛ فإن كانت مما يشترط الترتيب بينها وبين الحاضرة، تمادى فيها حتى يتمها وجوبًا، ثم صلى الحاضرة بعدها، وإن كانت غير ذلك، فإن كانت من يسير الفوائت، ووقت الحاضرة متسع، تمادى في الفائتة أيضًا على ما مر. والله الموفق.
(1)
وقوله: والقطع بسلام أو مناف؟ هو لفتوى المدونة؛ ونص ما فيها قلت: فإن كان قد صلى ثلاث ركعات؟. قال: يسلم ويخرج من المسجد ولا يصلي مع القوم. قلت: وهذا قول مالك؟. قال: نعم. قلت لابن القاسم: أرأيت من قطع صلاته قبل أن يركع ممن قد أمرته أن يقطع صلاته، مثل الرجل يفتتح صلاته فتقام عليه الصلاة قبل أن يركع، أيقطع بتسليم أم بغير تسليم؟. قال: يقطع =
(1)
سورة محمد: 33.
بِمَسْجِدٍ عَلى مُحَصِّلِ الْفَضْلِ وَهُوَ بِهِ خَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّهَا وَلَا غَيرهَا (1) وإلَّا لَزِمَتْهُ كَمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا وببيته يتمها. وَبَطَلَتْ باقْتِدَاءٍ بِمَن بَانَ كَافِرًا (2) أو امْرأةً أو خُنْثَى مُشْكِلًا (3)، أو مَجْنُونًا (4) أو فاسِقًا بِجَارِحَةٍ (5)، أوْ مَأمُومًا (6) أو مُحْدِثًا؛ إنْ تَعَمَّدَ أو
= بتسليم عند مالك. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وإن أقيمت بمسجد على محصل الفضل وهو به خرج ولم يصلها ولا غيرها؛ تبع فيه المدونة ففيها: وقال مالك في رجل يصلي، يجمع الصلاة هو وآخر معه في فريضة، فلا يعيد صلاته تلك في جماعة ولا في غيرها، لا هو ولا صاحبه، وإن أقيمت صلاة، وهو في المسجد وقد صلى هو وآخر جماعة أو مع أكثر من ذلك، فلا يعيد وليخرج من المسجد. ا. هـ.
وقوله: وإلا لزمته ألخ. لأن حديث محجن الذي مر كان فيمن صلى في أهله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد في جماعة، فراجعه. اهـ. والله الموفق.
(2)
قوله: وبطلت باقتداء بمن بان كافرًا؛ أي بمن بان كفره، فهو تمييز محول عن فاعل، وهذا واضح الدلالة، لأن الإيمان شرط في قبول العمل وفي صحته.
(3)
وقوله: أو امرأة أو خنثى مشكلًا؛ هو لفتوى مالك في المدونة: قال: وقال: لا تؤم المرأة. وروى ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم، أخبره عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا تؤم المرأة. اهـ ..
(4)
وقوله: أو مجنونًا؛ أي لفقده عقله. ونص المدونة: وقال مالك لا يؤم السكران ومن صلى خلفه أعاد.
(5)
وقوله: أو فاسقًا بجارحة؛ في بطلان صلاة من اقتدى بفاسق بجارحة نظر لخبر: "صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَر وَفَاجِرٍ". قال الدردير هنا: والمعتمد أنه لا تشترط عدالته، فتصح إمامة الفاسق بالجارحة، ما لم يتعلق فسقه بالصلاة؛ كان يقصد بتقدمه الكبر. ا. هـ.
(6)
وقوله: أو مأمومًا هذا هو المعتمد عند أصحابنا غير أنه تقدم لك حديث جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم. وقد تقدم لك تخريج هذا الحديث فانظر أين أنت منه.
عَلِمَ مُؤتَمُّهُ، وبِعَاجِزٍ عَنْ رُكْنٍ أوْ عِلْمٍ إلَّا كالْقَاعِدِ بِمثلِهِ فَجائِزٌ (1)، أوْ بأُمِّيٍّ إنْ وُجدَ قَارِئٌ، أوْ قَارِئٍ بِقِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (2)، أو عَبْدٍ فِي جُمُعَةٍ (3)، أو صَبِيٍّ فِي فَرْضٍ (4)، وَبِغَيْرِهِ تَصِحُّ وإنْ لَمْ تُجْزِ. وَهَلْ بِلَاحِنٍ مُطْلَقًا أوْ فِي الْفَاتِحَةِ، وبِغَيْر مُمَيِّزٍ بَيْنَ ضَادٍ وظاء خِلَافٌ (5).
(1)
وقوله: إلا كالقاعد بمثله؛ فقد جاء حديث متفق عليه: "إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فَإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ". رواه البخاري ومسلم. وقد تقدم. ا. هـ.
وقوله: وبأمي إن وجد قارئ؛ فقد تقدم الكلام عليه في القراءة.
(2)
وقوله: أو قارئ بقراءة ابن مسعود؛ هو لقول مالك في المدونة: من صلى خلف رجل يقرأ بقراءة ابن مسعود فليخرج وليتركه. قلت: فهل عليه أن يعيد إذا صلى خلفه في قول مالك؟. قال ابن القاسم: إذا قال لنا: يخرج، فأرى أن يعيد في الوقت وبعده.
(3)
وقوله: أو عبد في جمعة؛ هو مذهب المدونة ففيها: وقال مالك لا يكون العبد إمامًا في مساجد القبائل، ولا مسائل الجماعة ولا الأعياد. قال: ولا يصلي العبد لا بالقوم الجمعة. قال ابن القاسم: فإن فعل أعاد وأعادوا؛ لأن العبد لا جمعة عليه. ولا بأس أن يؤم العبد في السفر إذا كان أقرأهم؛ أن يؤم قومًا من غير أن يتخذ إمامًا راتبًا، قال: وقال مالك: لا بأس أن يؤم العبد في رمضان في النافلة. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: أو صبي في فرض؛ دليله ما في المدونة ونصه: ابن وهب عن عثمان بن الحكم عن ابن جريج عن عمر بن عبد العزيز قال: لا يؤم من لم يحتلم. ابن وهب: وقاله عطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد.
واحتج من أجاز إمامة الصبي بما روي عن عمرو بن سلمة قال: انطلق أبي وافدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة وقال:"يَؤُمُّكُمْ أقْرَؤُكُمْ". فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين. ا. هـ. أخرجه البخاري في المغازي، وأخرجه أبو داود، باب: من أحق بالإمامة.
(5)
وقوله: وهل بلاحن مطلقًا أو في الفاتحة الخ. قال الدسوقي: وحاصل المسألة أن اللاحن إن كان عامدًا بطلت صلاته وصلاة من خلفه باتفاق، وإن كان ساهيًا صحت باتفاق. وإن كان عاجزًا طبعًا؛ لا يقبل =
وَإعَادَ بِوَقْتٍ فِي كَحَروُرِيٍّ (1)، وَكُرِهَ أقْطعُ وَأَشلُّ، وأعْرَابيٌّ لِغَيْرِهِ وإنْ أقْرَأ (2) وَذُو سَلَسٍ وَقُروحٍ لِصَحِيحٍ، وإمَامَةُ مَنْ يُكْرَهُ،
= التعليم. فكذلك لأنه ألكن، وإن كان جاهلًا يقبل التعليم فهو محل الخلاف، سواء أمكنه التعلم أو لا، وسواء أمكنه بمن لا يلحن أو لا. وإن أرجح الأقوال فيه صحة صلاة من خلفه، وبالأحرى صلاته هو لاتفاق اللخمي وابن رشد عليها، وأما حكم الاقتداء باللاحن فهو بالعامد حرام، وبالألكن جائز، وبالجاهل مكروه، إن لم يجد من يقتدي به، وإلا فحرام كما يدل عليه النقل. ا. هـ. منه وعهدته عليه والله تعالى أعلم.
وفي المدونة ما نصه: قلت لابن القاسم: ما قول مالك فيمن صلى وهو يحسن القرآن، خلف من لا يحسن القرآن؟. قال: قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم فترك القراءة انتقصت صلاته وصلاة من خلفه وأعادوا وإن ذهب الوقت، قال: فذلك الذي لا يحسن القرآن أشد عندي من هذا؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يأتم بأحد لا يحسن القرآن.
(1)
قوله: وأعاد بوقت في كحروري؛ قال في المدونة: ورأيت مالكًا إذا قيل له في إعادة صلاة من صلى خلف أهل البدع يقف ولا يجيب في ذلك، قال ابن القاسم: وأرى في ذلك الإعادة في الوقت. ا. هـ. منه والله الموفق.
(2)
وقوله: وأعرابي لغيره وإن أقرأ؛ هو لما في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: إن كان العبد والأعرابي لا يقرآن القرآن، أيؤمان من جاءهما في ربعهما؟. قال: لا، لعمري لا يؤمان. قلت: إن كانا يقرآن بأم القرآن فقط؟. قال: أخشى أن لا يكون لهما معها فقه، وأن يكونا جافيين لا يعلمان شيئًا. ا. هـ.
وفي المدونة: فقلت له: فأقرؤهم. قال: قد يقرأ من لا! قال يريد بقوله من لا؛ أي من لا ترضى حاله. ا. هـ. منه. وبه يعلم قوله: وإن أقرأ. والله الموفق. لأن المدونة نصها: وقال مالك في الأعرابي: لا يؤم المسافرين ولا الحاضرين وإن كان أقرأهم. وفيها عن وكيع عن الربيع بن صبيح عن ابن سيرين قال: خرجنا مع عبيد الله بن معمر، ومعنا حميد بن عبد الرحمن وأناس من وجوه الفقهاء، فمررنا بأهل ماء، فحضرت الصلاة فأذن أعرابي وأقام، قال: فتقدم حميد فلما صلى ركعتين قال: من كان ههنا من أهل البلد فليتم الصلاة. وكره أن يؤم الأعرابي. ا. هـ. منه.
وتَرَتُّبُ خَصِيٍّ وَمَأبُونٍ وأغْلَفَ وولد الزنا (1). وَمَجْهُولِ حَالٍ وَعَبْدٍ بِفَرْضٍ وَصَلَاةٍ بين الأسَاطِينِ أو أمام الإِمَامِ بِلَا ضَرُورَةٍ (2)، وصَلَاةُ مَن بأسْفَلِ السَّفِينَةِ بِمَنْ بأعْلَاهَا، كأبِي قُبَيْسٍ (3)، وَصَلَاةُ رَجُلٍ بَيْنَ نِسَاءٍ وبِالْعَكْسِ، وإمَامَةٌ بِمَسْجِدٍ بِلَا رِدَاءٍ (4)، وتَنْفُّلُه بمِحْرابِهِ وإعَادَةُ جَمَاعَةٍ بَعْدَ الرَّاتِبِ وِإنْ أذِنَ،
(1)
وقوله: وإمامة من يكره الخ. أما الخصي ففي المدونة: وقال مالك: أكره أن يؤم الخصي الناس فيكون إمامًا راتبًا. قال: وكان على طرسوس خصيٌّ، فاستخلف على الناس من كان يصلي بهم، فبلغ ذلك مالكًا فأعجبه. ا. هـ. منه.
وفي الحديث عن أبي أمامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتهُمْ آذَانَهُمْ؛ الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأةٌ بَاتَتَ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإمَامُ قَوْمٍ لَهُ كَارِهُونَ". رواه البغوي وقال: حديث حسن غريب. ورواه الترمذي وإسناده حسن.
وأما ولد الزنا؛ قال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال سليمان بن موسى سألت عطاء عن ولد الزنا إذا كان رضى أيؤم القوم؟. قال: نعم. قال سليمان: ونحن نرى ذلك. وفيه: عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري؛ هل يؤم ولد الزنا؟. قال: نعم، وما شأنه. قلت فالمخنث؟. قال: لا، ولا كرامة، ولا يؤتم به والمخنث هو المأبون والله أعلم.
(2)
وقوله: وأمام الإمام بلا ضرورة؛ هو لما في المدونة: وقال مالك: من صلى في دور أمام القبلة بصلاة الإِمام، وهم يسمعون تكبير الإِمام، فيصلون بصلاته ويركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فصلاتهم تامة، وإن كانوا بين يدي الإمام. قال: ولا أحب لهم أن يفعلوا ذلك. ا. هـ.
(3)
وقوله: وصلاة من بأسفل السفينة بمن بأعلاها؛ هو أيضًا لما في المدونة؛ قال مالك في الإمام في السفينة يصلي على السقف والقوم تحته، قال: لا يعجبني. وقوله: كأبي قبيس، هو أيضًا لفتوى المدونة: قلت: ما قول مالك في صلاة الرجل على قعيقعان وعلى أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد الحرام؟. قال: لم أسمع فيه شيئًا ولا يعجبني. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وإمامة بمسجد بلا رداء؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك: أكره للإمام أن يصلي بغير رداء، إلا أن يكون إمام قوم في سفر، أو رجلًا أم قومًا في صلاة في موضع اجتمعوا =
ولَهُ الجَمْعُ إِنْ جَمَعَ غَيْرُه قَبْلَهُ إن لَّمْ يؤخر كثيرًا (1) وخَرجُوا إِلَّا بالمَسَاجِدِ الثلَاثَةِ فَيُصَلُّونَ بِهَا أفْذاذًا إِن دَخَلُوهَا (2)، وقَتْلُ كبرغُوثٍ بمَسْجِدٍ، وَفيهَا يَجُوزُ طَرْحُهَا خَارِجَهُ واسْتشْكِلَ (3).
= فيه أو في داره، أما إمام مسجد جماعة أو مسجد القبائل فأكره ذلك، وأحب إليَّ أن لو جعل على عاتقه عمامة إذا كان مسافرًا أو في داره. ا. هـ. منه.
(1)
وإعادة جماعة بعد الراتب الخ. قال في المدونة: قلت لابن القاسم: أرأيت مسجدًا له إمام راتب إن مر به قوم فجمعوا فيه صلاة من الصلوات، أترى لإمام ذلك المسجد أن يعيد تلك الصلاة فيه بجماعة؟. قال: نعم. قد بلغني ذلك عن مالك. قلت: فإن كان رجل هو إمام مسجد قوم ومؤذنهم، أذن وأقام فلم يأته أحد فصلى وحده، ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه؟. قال: فليصلوا أفذاذًا ولا يجمعوا لأن إمامهم قد أذن وصلى. قال: وهو قول مالك. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وخرجوا إلا بالمساجد الثلاثة فيصلون بها أفذاذًا إن دخلوها، هو أيضًا لما في المدونة قال: وإن أتى قوم وقد صلى أهل المسجد، فلا باس أن يخرجوا من المسجد فيجمعوا وهم جماعة، إلا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يخرجون وليصلوا وحدانًا. قال: لأن المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم أجرًا لهم من صلاتهم في الجماعة. قال ابن القاسم: وأرى مسجد بيت المقدس مثله. وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الرحمن بن المجبر قال: دخلت مع سالم بن عبد الله مسجد الجحفة، وقد فرغوا من الصلاة، فقالوا: ألا تجمع الصلاة؟. فقال سالم: لا تجمع صلاة واحدة في مسجد مرتين. قال: وأخبرني ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن والليث مثله. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وقتل كبرغوث بمسجد، وفيها يجوز طرحها خارجه واستشكل؛ نص ما في المدونة هو ما يلي: وقال مالك: أكره قتل البرغوث والقملة في المسجد. قال: وقال مالك: من أصاب قملة وهو في الصلاة فلا يقتلها في المسجد ولا يلقها فيه ولا هو في الصلاة، فإن كان في غير المسجد فلا بأس أن يطرحها. ا. هـ. منه.
قال جواهر الإكليل: واستشكل لأنه تعذيب لها وبأنها تصير عقربًا قلَّ من تلدغه إلا مات. قلت: =
وَجَازَ اقْتِدَاءٌ بأعْمَى (1)، وَمُخَالِفٍ فِي الْفُرُوعِ (2)، وألْكَنَ، ومَحْدُودٍ، وعِنِّينٍ وَمُجْذَّمٍ إِلَّا انَ يَشْتَدَّ فَلْيُنَحَّ، وَصَبِيٍّ بِمِثْلِهِ، وَعَدَمُ إِلْصَاقِ مَنْ عَلَى يَمِين يَمِين الإِمَامَ بِمَنْ حَذْوَهُ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدٍ خَلْفَ صَفٍّ، ولَا يَجْذِبُ أحَدًا وهو خَطَأ مِنْهُمَا (3).
وكيف يجوز إذن طرحها حية وهي مؤذية؟. وقد حكى النووي الإجماع على قتل كل ما يؤذي في الحرم، فكيف خارجه؟. وأيضًا إن طرحها حية في الأرض تسبب في خلق السوام المضرة، والقاعدة المقررة أن الأصل في كل ما يضر المنع. والله حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وقوله: وجاز اقتداء بأعمى؛ هو لما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى. ذكره البغوي في شرح السنة، وأخرجه أبو داود من حديث أنس، وإسناده حسن.
ورواه ابن حبان في صحيحه. كما ذكره ابن حجر في التلخيص. ورواه أبو يعلى والطبراني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ورواه الطبراني من حديث عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة وغيرها من أمر المدينة، وإسناده حسن. ا. هـ.
(2)
وقوله: ومخالف في الفروع؛ لا محل له إذ أنه لا يتطرقه التشريع؛ لأن أحكام الإِسلام، ومنها الصلاة وأحكامها، قد تم جميعها قبك أن تحدث هذه المذاهب الفقهية. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلهَ إلَّا الله، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلهَ إلَّا اللهُ". رواه بلوغ المرام من حديث ابن عمر، وقال: رواه الدارقطني بإسناد ضعيف.
(3)
وقوله: وصلاة منفرد خلف صف، ولا يجذب أحدًا وهو خطأ منهما؛ لقد اتبع المصنف رحمه الله كعادته مذهب المدونة في هذا الفرع. ونص ما فيها: وقال مالك: من صلى خلف الصفوف وحده، فإن صلاته تامة مجزئة عنه، ولا يجذب إليه أحدًا. قال مالك: ومن جذب أحدًا إلى خلفه ليقيمه معه، لأن الذي جذبه وحده فلا يتبعه، وهذا خطأ ممن فعله ومن الذي جذبه. ا. هـ.
قلت: ويؤيد ما ذهب إليه الإمام مالك حديث أبي بكرة عند البخاري وغيره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إليه أبو بكرة وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ". وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري؛ باب إذا ركع دون الصف. وأخرجه =
وَإسْراعٌ لَهَا بِلَا خَبَبٍ (1) وَقَتْلُ عَقْرَبٍ وَفَأْرٍ بِمَسْجِدٍ (2)، وإحْضَارُ صَبيٍّ بِهِ لَا يَعْبَثُ وَيَكُفُّ إذَا نُهِيَ (3)، وبَصْقٌ بِهِ إِنْ حُصِّبَ أوْ تَحْتَ حَصِيرٍ ثُمَّ قَدَمِهِ ثُمَّ يَمِينِهِ ثُمَّ أمَامَه (4)، وخُروجُ مُتَجَالَّةٍ لِعِيدٍ واسْتِسْقَاءٍ (5)
= النسائي في الإمامة؛ باب الركوع دون الصف. وأخرجه أبو داود. ا. هـ.
قال البغوي: في هذا الحديث أنواع من الفقه؛ منها: أن من صلى خلف الصف منفردًا بصلاة الإمام تصح صلاته؛ لأن أبا بكرة ركع خلف الصف، فقد أتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ثم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وأرشده في المستقبل إلى ما هو أفضل بقوله "وَلَا تَعُدْ". وهو نهي إرشاد لا نهي تحريم. ولو كان للتحريم لأمره صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وهذا قول مالك، والثوري. وابن المبارك، والشافعي، وأصحاب الرأي قالوا: تصح صلاة المنفرد خلف الصف. ا. هـ. منه.
غير أن الإمام أحمد والنخعي وإسحاق بن راهويه في جماعة، ذهبوا إلى أن من صلى خلف الصف منفردًا صلاته باطلة، واحتجوا بحديث وابصة بن معبد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه وصححه ابن حبان. قال الصنعاني في سبل السلام: كان الشافعي يضعف هذا الحديث ويقول: لو ثبت هذا الحديث لأخذت به. ا. هـ. منه.
قلت وقوله: وهو خطأ منهما؛ أي ممن اختلج إليه أحدًا من الصف، ومن المختلج - باسم المفعول - لعله لأن في زيادة طلق بن علي رضي الله عنه عند الطبراني "ألَا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أوِ اجْتَرَرْتَ رَجلًا" فيها السري بن إبراهيم، قال الصنعاني: قال الطبراني في الأوسط: ولا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وفيه السري بن إبراهيم وهو ضعيف جدًا. والله ولي التوفيق.
(1)
وقوله: وإسراع لها بلا خبب؛ دليله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا". رواه في بلوغ المرام، وقال: متفق عليه واللفظ للبخاري. ا. هـ. منه.
(2)
وقتل عقرب وفأر بالمسجد؛ قد تقدم عند قول المصنف: وقتل عقرب تريده. أدلة جواز قتل العقرب والحية في الصلاة فكيف لا يجوز في المسجد من غير أن يكون في الصلاة، فهو أولى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالجواز.
وأما الفأر فإنه من الفويسقات التي يجوز قتلها في الحرم، فأينما وجد قتل بالأحرى. والله الموفق.
(3)
وقوله: وإحضار صبي به لا يعبث ويكف إذا نهي، الذي يؤيده الدليل جواز إحضار الصبي المسجد مطلقًا؛ لحديث أمامة، وهو في صحيح مسلم. ولما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: أنا أبو طاهر، نا أبو بكر، نا محمد بن معمر بن ربعي القيسي، ثنا عبيد الله بن موسى، أنا علي بن صالح عن عاصم عن زر عن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليه أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره فقال:"مَنْ أحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ هذَيْنِ". ومحل الشاهد من الحديث عبثهما رضي الله عنهما بركوبهما على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي.
وأيضًا فقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأنَا أرِيدُ إطَالَتَهَا فَأسْمَع بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأتجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمهِ مِنْ بُكَائِهِ". متفق عليه، وحديث أنس رضي الله عنه: جوز صلى الله عليه وسلم ذات يوم في الفجر فقيل: يا رسول الله لم جوزت؟. قال: "سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِي فَظَنَنْتُ أنَّ أُمَّهُ مَعَنَا تُصَلِّي فَأرَدْتُ أنْ أُفَرِّغَ لَهُ أُمَّهُ". رواه أحمد بسند صحيح. فكلها أدلة على جواز إحضار الصبي المسجد مطلقًا. والله الموفق.
(4)
وقوله: وبصق به إن حصب الخ؛ دليله ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: باب الرخصة في بصق المصلي عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، ثم ساق سندًا إلى أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة، ونهى أن يبزق الرجل بين يديه وعن يمينه، وقال:"لْيَبْزُقْ عَنْ شِمَالِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه مسلم في المساجد عن طريق سفيان.
وأخرج ابن خزيمة أيضًا بسنده عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا كُنْتَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا تَبْزُقَنَّ عَنْ يَمِينِكَ وَلكِنْ خَلْفَكَ أوْ تِلْقَاءَ شِمَالِكَ أوْ تَحْتَ قَدَمِكَ الْيُسْرَى" ا. هـ. وسنده صحيح وهو في النسائي وأخرج ابن خزيمة أيضًا بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه العراجين أن يمسكها بيده، فدخل المسجد ذات يوم وفي يده واحد منها، فرأى نخامات في =
وشَابَّةٍ لِمَسْجِدٍ (1) ولَا يُقْضَى عَلَى زَوْجِهَا بِه، واقْتِدَاءُ ذِوي سُفُنٍ بِإمَامٍ (2)، وَفَصْلُ مَأمُومٍ بِنَهَرٍ صَغيرٍ أوطَرِيقٍ (3) وَعُلُوُّ مأمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ لا عَكْسُهُ، وبَطَلَتْ بِقَصْدِ
= قبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن، ثم أقبل على الناس مغضبًا فقال:"أيُحِبُّ أحَدُكُمْ أنْ يَسْتَقْبِلَهُ رَجَلٌ فَيَبصُقَ فِي وَجْهِهِ إنَّ أحَدَكُمْ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَإنَّمَا يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يبْصُقْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى أوْ عَنْ يَسَارِهِ، فَإنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ هكَذَا فِي طَرفِ ثَوْبِهِ". ورد بعضه على بعض، ذال الدورقي وأرانا يحيى كيف صنع ا. هـ. منه والله الموفق.
(5)
وقوله: وخروج متجالَّة لعيد واستسقاء؛ الذي في المدونة في الاستسقاء: قلت: وهل كان يأمر بأن تخرج الحيض والنساء والصبيان في الاستسقاء؟. قال: لا أرى أن يؤمر بخروجهن، ولا يخرج الحيض على كل حال. وأما النساء والصبيان فإن خرجوا فلا أمنعهم أن يخرجوا.
والذي فيها في العيدين؛ قال: وسألت مالكًا عن العبيد والإماء والنساء؛ هل يؤمرون بالخروج إلى العيدين؟ وهل يجب عليهم الخروج إلى العيدين كما يجب على الرجال؟. قال: لا.
(1)
وقوله: وشابة لمسجد؛ هو لخبر: "لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ".
وقوله: ولا يقضى على زوجها به؛ أي لما فيه من الضرر عليه، ولأنها لا يجوز لها الخروج من بيته إلا، بإذنه، ولأن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد. والله أعلم.
(2)
وقوله: واقتداء ذوي سفن بإمام؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في قوم يكونون في السفن يصلي بعضهم بصلاة بعض، وإمامهم في إحدى السفائن وهم يصلون بصلاته، وهم في غير سفينته، قال: ان كانت السفن قريبة بعضها من بعض فلا بأس بذلك. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وفصل مأموم بنهر صغير أو طريق؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة قال: وسألت مالكًا عن النهر الصغير، يكون بين الإمام وبين قوم، وهم يصلون بصلاة الإمام. قال: لابأس، بذلك إذا كان النهر صغيرًا. قال: وإذا صلى رجل بقوم فصلى بصلاة ذلك الرجل قوم آخرون بينهم وبين ذلك الإمام طريق فلا بأس بذلك. ا. هـ. منه.
إمَامٍ ومَأمُومٍ بِهِ الكِبْرَ، إلَّا بِكثِبْرٍ، وَهَلْ يَجُوزُ إنْ كَانَ مَعَ الإِمَامِ طَائفَةٌ كَغَيْرِهِمْ تردُّدٌ (1) ومُسَمَعٌ واقْتِدَاءٌ بِه أوْ برُؤيَته وَإنْ بِدَارٍ (2). وَشَرْطُ الاقْتِدَاءِ نِيَّتُهُ (3). بِخِلَافِ
(1)
وقوله: وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه الخ؛ دليله ما أخرجه في المدونة عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: صليت مع أبي هريرة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل.
وقاله إبراهيم النخعي. وبه أفتى مالك في المدونة قال: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد، والإمام داخل المسجد. ا. هـ. منه.
وقوله: لا عكسه؛ أي لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك: لو أن إمامًا يقوم على ظهر المسجد، والناس خلفه أسفل من ذلك، قال مالك: لا يعجبني ذلك. قال: وكره مالك أن يصلي الإمام على شيء هو أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه من الأشياء. قلت له: فإن فعل؟. قال: عليهم الإِعادة وإن خرج الوقت لأن هؤلاء يعبثون، إلا أن يكون على دكان يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فإن صلاتهم تامة.
(2)
وقوله: ومسمع واقتداء به أو برؤيته وإن بدار؛ هو لما أفتى به مالك في المدونة، ونص ما فيها: وقال مالك: ولو أن دورًا محجورًا عليها صلى قوم فيها بصلاة الإمام في غير جمعة، فصلاتهم تامة، إذا كانت لتلك الدور كوى ومقاصير يرون منها ما يصنع الناس أو الإمام؛ فيركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فذلك جائز، وكذا إذا لم يكن لها كوى ولا مقاصير يرون ما يصنع الناس والإِمام، إلا أنهم يسمعون الإمام، فيركعون بركوعه ويسجدون بسجوده. ا. هـ.
وفي المدونة عن ابن وهب عن سعيد بن أيوب عن محمد بن عبد الرحمن أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنَّ يصلين في بيوتهن بصلاة أهل المسجد. وروى ابن وهب: أخبرني رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز وزيد بن أسلم وربيعة، مثله، إلَّا عمر بن الخطاب قال: ما لم تكن جمعة. ا. هـ.
(3)
وقوله: وشرط الاقتداء نيته؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إنَّمَا الْأعْمَال بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" الحديث المتفق عليه.
الإمَامِ (1)، ولو بِجَنَازَةٍ إِلا جُمُعَةً وَجَمْعًا وخَوْفًا وَمُسْتَخْلَفًا كَفَضْلِ الجَمَاعَةِ، وَاخْتَارَ فِي الْأخِيرِ خِلَافَ الأكْثَرِ (2)، وَمُسَاوَاةٌ فِي الصَّلَاةِ وإنْ بِأدَاءٍ وَقَضَاءٍ، أو
(1)
وقوله: بخلاف الإمام؛ هو لما أفتى به مالك في المدونة: قلت: ما قول مالك في الرجل يصلي الظهر لنفسه، فيأتي الرجل فيصلي بصلاته؛ والرجل الأول لا ينوي أن يكون له إمامًا، هل تجزئه صلاته؟. قال: بلغني عن مالك أنه رأى صلاته تامة؛ إذا قام عن يمينه يأتم به، وإن كان الآخر لا يعلم به. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: إلا جمعة وجمعًا وخوفًا ومستخلفًا؛ يقول في هذه الأربعة أنه يشترط في صحتها نية
الإمام؛ لأن الجماعة شرط، وكل ما كانت الجماعة شرطًا فيه فنية الإمامة شرط فيه. وهو قول بمحض
الاجتهاد، وعليه المذهب عند أصحابنا. ويعني بقوله: جمعًا مثل الجمع بين المغرب والعشاء ليلة
المطر، فنية الإمام شرط فيه، ونية الجمع أيضًا لابد منها، وهي واجب غير شرط لا تبطل الصلاة
بتركه.
وقوله: وخوفًا؛ يعني صلاة الخوف حالة قسم القوم، فنية الإمام شرط في صحتها؛ لأن الجماعة شرط فيها، فإن نوى الانفراد بطلت عليه وعليهم، كما أفاده عبد الباقي. وقال العدوي: الصواب بطلانها على الطائفة الأولى فقط لأنها فارقت الإمام في غير محل المفارقة، وأما صلاة الإمام والطائفة الثانية فالصلاة بالنسبة لهؤلاء صحيحة. ا. هـ. جواهر الإكليل.
وقوله: ومستخلفًا - بفتح اللام - فشرط صحة الاقتداء به نيته الإمامة ليميز بين ما كان عليه من المأمومية، وما انتقل إليه من الإمامية، فإن لم ينوها فصلاته صحيحة، لأن غاية ما يكون أنه منفرد، أما المأمومون فإن صلاتهم به باطلة إن لم ينو الإمامة. والله أعلم.
وقوله: كفضل الجماعة؛ فإن عدم حصوله على فضل الجماعة، إن لم ينو الإمامة، هو على ما ذكره شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
وليس في الواجب من منوال
…
عند انتفاء قصد الامتثال
فيما له النية لا تشترط
…
وغير ما ذكرته فغلط
ومثله الترك لما يحرم
…
من غير قصد ذا نعم مسلّم =
بظُهْريْنِ مِنْ يوْمَيْنِ إِلَّا نَفْلًا خَلْفَ فَرْضٍ، ولا ينَتقِلُ مُنْفردٌ لِجَمَاعَةٍ كَالعَكْسِ، وَفِي مَريضٍ اقْتَدَى بِمِثْلِهِ فَصَحَّ قَوْلَانِ، ومُتَابَعَةٌ بِإحْرَامٍ وسَلَامٍ، فَالْمُسَاواةُ وإنْ بِشَكٍّ في المأمُوميَّةِ مُبْطِلَةٌ لَا المُسَاوَقَةُ كَغَيْرِهِمَا لَكِنْ سَبْقُهُ مَمْنُوعٌ، وإلَّا كُرِهَ، وَافِرَ الرافِعُ بِعَوْدِهِ إِنْ عَلِمَ إدْرَاكَهُ قَبْلَ رَفْعِهِ لا إن خَفَضَ (1).
= يعني أن كل ما لا تشترط النية في صحته، لا يثبت الأجر لفاعله إلا إذا استحضر فيه نية الامتثال؛ مثل قضاء الديون وأداء النفقات الواجبة ورد الودائع وما إلى ذلك. وعلى ما مشى عليه المصنف؛ وفضل الجماعة. والله تعالى أعلم.
وقوله: مساواة في الصلاة؛ أي وشرط الاقتداء مساواة بين إمام ومأموم في ذات الصلاة، فلا تصح ظهر خلف عصر مثلًا، وإن كانت المخالفة الواقعة بينها بأداء لإحدى الصلاتين. وقضاء للأخرى، كظهر قضاء خلف ظهر أداء، أو بزمان كظهرين من يومين، كقضاء ظهر يوم الاثنين خلف ظهر يوم الخميس، فلابد من اتحاد ذات الصلاة وصفتها وزمنها، ولا يجوز من ذلك إلا صلاة نفل خلف فرض؛ كصلاة الضحى خلف من يصلي الصبح بعد طلوع الشمس مثلًا، وكركعتين خلف سفرية، ولا ينتقل منفرد لجماعة بنية الاقتداء في أثناء الصلاة؛ لفوات محل نية الاقتداء، وهو أول الصلاة، ولا يصح من انتقال المنفرد للجماعة إلا إذا أحرم منفردًا، فجاء قوم يقتدون به، وكل هذا مناط القول به الاجتهاد. والله أعلم وهو بكل شيء عليم.
وقوله: ومتابعة في إحرام وسلام؛ دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيْوتَمَّ بِهِ فَإذَا رَكَعَ فَارْكَعَوا وَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ". رواه البخاري ومسلم.
وقوله: فالمساواة وإن بشك في المأمومية مبطلة؛ أي فإذا تقرر وجوب المتابعة بموجب أمره صلى الله عليه وسلم فاعلم أن مساواة المأموم لإمامه في إحرامه وسلامه مبطلة لصلاة المأموم ولو ختم الصلاة بعده.
وقوله: لا المساوقة، أي لا تبطل الصلاة بالمساوقة؛ وهي المتابعة الفورية، والأفضل أن لا يكبر أو يسلم إلا بعد سكوت الإمام.
(1)
وقوله: كغيرها لكن سبقه ممنوع الخ. أي كسبق أو مساواة الإمام في غير الإحرام والسلام؛ كركوع أو سجود، فإن الصلاة لا تبطل بذلك، غير أن سبقه ممنوع وألا يكن سبقه بل ساواه في الركوع =
وَنُدِبَ تَقْدِيمُ سُلْطَانٍ (1) ثُمَّ رَبِّ مَنْزِلٍ والْمُسْتَأجرِ عَلَى الْمَالِكِ وإنْ عَبْدًا (2) كَامْرأةٍ واسْتَخْلَفَتْ، ثُمَّ زائد فِقْهٍ ثُمَّ حَدِيثٍ ثُمَّ قِراءَةٍ ثُمَّ عِبَادَةٍ ثم بِسِنِّ إسْلَامٍ ثُمَّ بِنَسَبٍ ثُمَّ بِخَلْقٍ ثُمَّ بِخُلُقٍ ثُمَّ بِلِبَاسٍ (3) إنْ عَدِمَ نَقْصَ مَنْعٍ أوْ كُرْهٍ واستنابَةُ
= أو في السجود فهو أمر مكروه، وهو - أي المأموم - مأمور - إن رفع قبل إمامه في ركوعه أوسجوده - أن يعود لركوعه أو سجوده إن علم أنه يدرك الإمام راكعًا أو ساجدًا.
ودليل النهي عن مبادرة الأئمة بالركوع والسجود هو ما أخرجه الدارمي في سننه بسنده عن ابن محيريز عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّى قد بَدَّنْتُ فَلَا تَسْبِقُونى بِالرُّكُوع وَلَا بِالسُّجُودِ فإنِّي مَهْمَا أسْبِقْكُمْ حِينَ أرْكَعُ تُدْرِكُوني حِينَ أرْفَعُ وَمَهْمَا أسْبِقْكُمْ حِينَ أسَجْدُ تدْرِكُوني حِينَ أرْفعُ".
وقال الدارمي: حدثنا هشام بن القاسم، ثنا شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخْشىَ أحَدُكُمْ - أوْ لَا يخْشَى أحَدُكُمْ - إذَا رَفَعَ رَأَسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ أوْ صُورَتَهُ صَورَةَ حِمَارٍ. ا. هـ.
وقال: أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا زائدة، ثنا المختار بن فلفل عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على الصلاة، ونهاهم أن يسبقوه إذا كان يؤمهم بالركوع والسجود، وأن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة وقال: "إني أرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي وأمامي، ا. هـ.
(1)
وقوله: وندب تقديم سلطان؛ لعله لقولهم: لا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه. قال الطيبي: في سلطانه: في مظهر سلطته ومحل ولايته، أو فيما يملكه، أوفي محل يملكه. انظر تعليق الأعظمي على مصنف عبد الرزاق. ا. هـ.
(2)
وقوله: ثم رب منزل والمستأجر على المالك وإن عبدًا؛ دليله ما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري وإسماعيل بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى بنى أسيد قال: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم حذيفة ليصلي بنا، فقال له أبو ذر أو غيره: ليس ذلك لك. فقدمني وأنا مملوك فأممتهم.
وقوله كامرأة واستخلفت؛ أي لعدم توفر شروط الإمامة، ولها الحق فيمن تقدم من القوم.
(3)
وقول: ثم زائد فقه ثم حديث الخ؛ هو في ذكر من هو أحق بالإمامة. اخرج عبد الرزاق عن =
النَّاقِصِ، كوُقُوفِ ذَكَرٍ عن يمينِهِ، واثنين خَلْفَهُ، وصبِيٌّ عَقَلَ الْقُرْبَةَ كَالبَالِغِ
= ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوم اجتمعوا في سفر؛ قرشيٌّ، وعربيٌّ، ومولى، وعبد، وأعرابيٌّ من أهل البادية، أيهم يؤم أصحابه؟. قال: يؤمهم أفقههم، فإن كانوا في الفقه سواء فأقرؤهم، فإن كانوا في الفقه والقراءة سواء فأسنهم. قلت: فإن كانوا في الفقه والقراءة سواء وكان العبد أسنهم أيؤمهم لسنه؟. فيؤم القرشي وغيره؟. قال: نعم، وما لهم لا يؤمهم أعلمهم وأقرؤهم وأسنهم من كان؟.
قال عبد الرزاق: وكان النوري يفتي به. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرنا نافع أنه سمع ابن عمر يقول: كان سالم - مولى أبي حذيفة - يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار في مسجد قبا فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة. ا. هـ.
وأخرج البغوي بسنده عن أوس بن ضَمْعَج عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحَقُّ الْقَوْمِ أنْ يؤُمَّهُمْ أقَرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فإنْ كَانُوا فِي الْقَرَاءَةِ سَوَاءً، فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإنْ كَانُوا فِي القرَاءَةِ سَوَاءً، فَأقْدَمُهُمْ سِنًا. ولا يُؤَمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُقْعَدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإذْنِهِ". ا. هـ.
قال البغوي في شرح السنة: لم يختلف أهل العلم في أن القراءة والفقه يقدمان على قدم الهجرة وتقدم الإسلام وكبر السن في الإمامة، واختلفوا في الفقه مع القراءة؛ فذهب جماعة إلى أن القراءة مقدمة على الفقه لظاهر الحديث المتقدم، وبه قال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.
وذهب قوم إلى أن الأفقه أولى إذا كان يحسن من القراءة ما تصح به الصلاة. وهو قول عطاء، والأوزاعي، ومالك، وأبي ثور، وإليه مال الشافعي. قال: وإنما قدم هؤلاء الأفقه لأن ما يجب من القراءة في الصلاة محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، فقد يعرض للمصلي في صلاته ما يفسد عليه صلاته إذا لم يعرف حكمه. ا. هـ. منه بتصرف.
وفي المدونة: وقال مالك: أولاهم بالإمامة أفضلهم في أنفسهم إذا كان هو أفقههم وللسن حق، فقيل له: فأكثرهم قرآنًا؟. قال: قد يقرأ من لا. يريد: من لا يكون فيه خير. ا. هـ. منه.
قال البغوي: وإنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة، لأنهم كانوا يسلمون كبارًا فيفقهون قبل أن يقرؤوا، فلم يكن فيهم قارئ إلا وهو فقيه، ومن بعدهم يتعلمون القرآن صغارًا قبل أن يتفقهوا، فكل فقيه فيهم =
ونساءٌ خَلْفَ الْجَمِيع (1) وَرَبُّ الدَّابَّة أوْلى بِمُقَدَّمِهَا (2)، والأوْرَعُ والعدْلُ والحرُّ،
= قارئ وليس كل قارئ فقيهًا. ا. هـ. منه. وهو كلام وجيه جدًا.
وقوله: ثم بنسب؛ الأنسب أن يقول: ثم بحسب لأنه لا فضل بالنسب بتاتًا ما لم يضف إليه الحسب. قال البغوي في شرح السنة: قال: فأقدمهم هجرة، فإن الهجرة اليوم منقطعة غير أن فضيلتها موروثة، فمن كان من أولاد المهاجرين، أو كان في آبائه أو أسلافه من له سابقة في الإسلام والهجرة، فهو أولى ممن لا سابقة لأحد من آبائه وأسلافه. ا. هـ. منه. وبه تعلم أن لا مدخل للنسب المحض في الأفضلية، لأن الهجرة ليست من النسب في شيء، بل هي حسب محض.
(1)
وقوله: كوقوف ذكر عن يمينه واثنين خلفه الخ. الحديث المتفق عليه عن ابن عباس قال: بت عند خالتي فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. ا. هـ. واللفظ للبغوي.
وروي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح، فقمت وراءه، فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه. ا. هـ. هكذا أخرج في شرح السنة بهذا اللفظ، وهو في الموطأ؛ ففي قصر الصلاة في السفر، باب جامع سبحة الضحى وإسناده صحيح.
وقوله ونساء خلف الجميع؛ هو لما ثبت من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع عمه أنس بن مالك يقول: صليت أنا ويتيم لنا خلف رسول الله في بيتنا، وأم سليم خلفنا، قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه محمد - يعني البخاري - عن عبد الله بن محمد عن سفيان.
قلت: وقد أخرجه البخاري في الجماعة؛ باب المرأة وحدها تكون صفا. ا. هـ.
قال البغوي: فإن كثر الرجال والصبيان يتقدم الرجال، ثم الصبيان ثم النسوان لما روي عن أبي مالك الأشعري أن رسول صلى الله عليه وسلم أقام الصلاة فصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم.
أخرجه الإمام أحمد، وأخرجه أبو داود؛ باب مقام الصبيان في الصف. وفي سنده شهر بن حوشب وهو ضعيف لسوء حفظه. والله ولي التوفيق.
(2)
وقوله: ورب الدابة أولى بمقدمها: قال في جواهر الإكليل: ورب الدابة - أي مالكها - الذي أكراها لشخص يركب معه عليها، ولم يشرط تقدم أحدهما على الآخر - أولى بركوبه على مقدمها لأنه =
والأبُ والْعَمُّ على غيرهم (1). وإنْ تَشَاحَّ مُتَسَاوُونَ لا لِكِبْرٍ اقْتَرعُوا (2). وَكبَّرَ الْمَسْبُوقُ لِرُكُوعٍ أوْ سُجُودٍ بِلَا تأخِيرٍ لَا لِجُلُوسٍ (3)، وَقَامَ بتكبير إِنْ جَلَسَ في ثانيته إِلَّا مُدْرِكَ التَشَهُّدِ، وَقَضَى الْقَوْلَ وَبَنَى الْفِعْلَ، ورَكَعَ مَنْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ
أعلم بطبعها - وذكر هذا هنا - وإن كانت من مسائل الإجارة للدلالة على تقديم الأفقه؛ لأنه أعلم بمصالح الصلاة. ونص المدونة: والأولى بمقدم الدابة صاحبها. وصاحب الدار أولى بالإمامة إذا صلوا في منزله، إلا أن يأذن لأحد. ا. هـ. منه وإنما كان صاحب الدار أولى لأنه أعلم بالقبلة وبالمواضع الطاهرة منها؛ وكلاهما دليل على أن الفقيه أولى بالإمامة من غيره. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: والأب والعم على غيرهم، الضمير في (هُم) راجع للأورع فما بعده.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: لايؤم الرجل أباه ولا أخاه أكبر منه. ا. هـ.
غير أنه أخرج أيضًا في المصنف ما يلي: عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت البناني قال: كنت مع أنس بن مالك، وخرج من أرضه يريد البصرة، وبينها وبين البصرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، فحضرت الصلاة فقدم ابنًا له يقال له أبو بكر، فصلى بنا صلاة الفجر، فقرأ بسورة تبارك، فلما انصرف قال له: طولت علينا. ا. هـ منه.
وأخرج عبد الرزاق عند سعيد بن قماديز، عن عثمان بن أبي سليمان أن الزبير كان يصلي خلف ابنه عبد الله. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وإن تشاحَّ متساوون لكبر اقترعوا؛ تصوره لغير كبر أن تكون مشاحتهم لحيازة ثواب الإمامة، أو لأن بيت المال خصص مرتبًا للإمام، فيريد كل منهم أن يحوز ذلك الراتب لنفسه. والله الموفق.
(3)
وقوله: وكبر المسبوق لركوع أو سجود بلا تأخير؛ هو لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أتَى أحَدُكم الصَّلَاةَ وَالإمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصنَعُ الإمَامُ".
رواه بلوغ المرام وقال: رواه الترمذي بإسناد ضعيف. قال الصنعاني: وقد أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا الحديث، وفيه أن معاذًا قال: لا أراه على حال إلا كنت عليها. ا. هـ. =
دُونَ الصَّفِّ إدْرَاكَهُ قَبْلَ الرَّفْعِ، يَدِبُّ كالصَّفَّيْنِ لِآخِر فُرْجَةٍ قَائمًا أوْ رَاكِعًا أوْ سَاجِدًا أوْ جَالِسًا، وإنْ شَكَّ فِي الإدْرَاكِ ألْغَاهَا (1)، وإن كَبَّرَ لِرُكُوعٍ وَنَوَى بِهَا الْعَقْدَ أوْ نَوَاهُمَا أوْ لَمْ يَنْوهِمَا أَجْزأهُ، وَإنْ لَمْ يَنْوِهِ ناسيًا له تَمَادَى الْمَامُومُ فَقَطْ، وفي تكبيرِ السُّجُودِ تَرَدُّدٌ، وإن لَمْ يُكْبِّرْ استأنف.
= وقد أخرج ابن أبي شيبة: "مَنْ وَجَدَنِي قَائِمًا أوْ رَاكِعًا أوْ سَاجِدًا فَلْيَكُنْ مَعِي عَلَى حَالَتِي التَّي أنَا عَلَيْهَا". وأخرج ابن خزيمة مرفوعًا من حديث أبي هريرة: "إذَا جئْتُمْ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجدُوا وَلَا تَعُدُّوهَا شيْئًا، وَمَنْ أدرَكَ الركْعَةَ فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاة".
قلت: هذا الدليل في أن المسبوق يلحق الإمام على الحال التي هو بها، وليس صريحًا في أنه يدخل معه بتكبيرة الإحرام، بل هو في أنه ينضم إليه، أما بها إذا كان قائمًا أو راكعًا فيكبر اللاحق من قيام ثم يركع، أو هو بالكون معه فقط ومتى قام كبر للإحرام. الله تعالى أعلم. فهو يحتمل هذا وهذا، والمذهب ما مشى عليه المؤلف، إلا أن شرعية تكبيرة الإحرام أن تكون من قيام - بالنسبة للإمام والمنفرد - فالأحوط لغيرهم أن لا تقع إلا كذلك. والله أعلم.
(1)
وقوله وركع من خشي فوات ركعة: هو لحديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"زَادَك الله حِرْصًا لَا تَعُدْ".
أخرجه بلوغ المرام، وقال: رواه البخاري، وأبو داود، وزاد فيه: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف.
وروى الطبراني في الأوسط من رواية عطاء عن الزبير: قال الهثمي رجاله رجال الصحيح؛ وفيه أنه قال: "إذَا دَخَلَ أحَدُكم المَسْجِدَ وَالنَّاسُ رُكُوعٌ فَلْيَركَعْ حِينَ يَدْخُلُ ثُمَّ يَدِبُّ رَاكعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ فَإنَّ ذلِكَ السُّنَّةُ". - قال عطاء: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يفعل ذلك، قال الصنعاني: وكأنه مبني على أن لفظ "وَلَا تُعِدْ" هو بضم المثناة الفوقية، من الإعادة؛ أي زادك الله حرصًا على طلب الخير، ولا تُعِد صلاتك فإنها صحيحة. ا. هـ. منه.
وقوله قبل: وقام بتكبير إن قام من ثانية إلا مدرك التشهد؛ هو لما في مصنف عبد الرزاق، عن الثوري قال: أخبرني من سمع الحسن قال: إذا انتهى إليهم وهم سجود، سجد معهم وكبَّر، فإن كان =
أحكام الاستخلاف
فصل:
نُدِبَ لإمَامٍ خَشِيَ تَلَفَ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، أوْ مُنِعَ الإِمَامَةَ لِعَجْزٍ، أو الصَّلَاةَ بِرُعَافٍ أوْ سَبْقِ حَدَثٍ، أوْ ذِكره، اسْتِخْلَافٌ، وِإنْ بِركُوعٍ أو سُجُودٍ ولا تَبْطُلُ إِنْ رفعه برفعه (1).
= في مثنى قام في تكبيرة أخرى، وإن كان في وتر قام من غير تكبير. ا. هـ. وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في رجل انتهى إلى قوم جلوس في آخر صلاتهم قال: يجلس معهم ولا يكبر. ا. هـ.
(1)
وقوله: ندب لإمام خشي الخ. هو في أحكام الاستخلاف؛ قال ابن قدامة في المغني: ومن أجاز الاستخلاف فقد أجاز نقل الجماعة إلى جماعة أخرى للعذر، ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وأبو بكر يصلي، فتأخر أبوبكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم بهم الصلاة، وفعل هذا مرة أخرى؛ جاء صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جانب أبي بكر عن يساره، وأبو بكر عن يمينه قائم يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأتم الناس بأبي بكر، والحديثان كلاهما صحيح متفق عليه، وهذا يقوي جواز الاستخلاف والانتقال من جماعة إلى جماعة أخرى حال العذر. ا. هـ. منه.
وفي المدونة: ما جاء في الإمام يحدث ثم يقدم غيره: قلت أرأيت الإِمام يحدث، ثم يقدم غيره، أيكون هذا الذي قدم إمامًا للقوم؛ قبل إن يبلغ موضع الإِمام الأول، الذي كان يصلي بالقوم؟. لم أسمع من ذلك فيه شيئًا إلا أن مالكًا قال: إذا أحدث الإِمام فله أن يستخلف. قلت: أرأيت إن قال: يا فلان تقدم فتكلم، أيكون هذا خليفة، وترى صلاتهم تامة، أم نراه إمامًا أفسد صلاته عامدًا؟. قال: هذا لما أحدث خرج من صلاته، فله أن يقدم ويخرج، فإن تكلم لم يضرهم ذلك لأنه في غير صلاة. ا. هـ. منه.
ولقد ذكر المصنف المواضع التي يجوز فيها الاستخلاف عندنا وهي: إن كان تماديه في صلاته يترتب عليه تلف مال، أو تلف نفس كوقوع صبي أو أعمى في بئر أو في نار، أو طرأ عليه عجز عن ركن من أركان الصلاة؛ عملي كان أو قولي، أو طرأ عليه رعاف في الصلاة؛ تمادى عليه فمنعه الصلاة، أو =
وَلَهُمْ إِن لم يستخلف، وَلَوْ أشَارَ لَهُمْ بالانتظار (1)، واسْتِخْلَافُ الأقْرَبِ، وتَركُ كَلَامٍ في كحَدَثٍ وتَأخَّر مُؤتَمًّا في الْعَجْزِ ومَسَكَ أنْفَ في خُروجِهِ، وتَقَدُّمُهُ إنْ قَرُبَ وإن بجُلُوسِهِ، وإن تَقَدَّمَ غيره صَحَّتْ؛ كَأن اسْتَحْلَفَ مَجْنُونًا وَلَمْ يَقْتَدوا به، أو أَتَمُّوا وحْدِانًا أو بَعْضُهُم، أو بإِمَامَيْنِ، إِلَّا
= أحدث غلبة، أو تذكر في الصلاة أنه محدث، فإن الإمام في هذه الحالات المتقدمة - عند أصحابنا - يستحب له أن يستخلف على القوم إمامًا منهم، يتم بهم صلاتهم، ويكره له ترك ذلك.
وقوله: وإن بركوع أو سجود؛ أي وإن حصل سبب الاستخلاف في حالة الركوع أو في حالة السجود استخلف، غير أنه في الركوع يرفع بلا تسميع لئلا يقتدوا به. ويرفع في السجود بلا تكبير كذلك، وإنما يرفع بهم في الركوع والسجود الخليفة، فيدب راكعًا أو ساجدًا ليرفع بهم للضرورة هنا، ولا تبطل صلاة المأمومين إن رفعوا برفع الإمام الأول من ركوعه أو سجوده قبل الاستخلاف، إن لم يعلموا بحدثه حال رفعهم معه، ولكن لابد من عودهم مع الخيفة للركوع أو السجود.
(1)
وقوله: ولهم إن لم يستخلف؛ قال في المدونة: قلت: فإن خرج ولم يستخلف أيكون للقوم أن يستخلفوا، أم يصلون وحدانًا وقد خرج الإِمام الأول من المسجد وتركهم؟. قال: أرى أن يتقدمهم رجل فيصلي بهم بقية صلاتهم؛ وهو قول مالك. قلت: فإن صلوا وحدانًا؟. قال: لم أسمعه من مالك، ولا يعجبني ذلك وصلاتهم تامة. ا. هـ. منه.
وقوله: واستخلاف الأقرب؛ أي من الصف الذي يليه ليسهل عليهم الاقتداء به، ولأنه أدرى بأحواله. وفي حالة المانع من استمرار الإِمام سبق حدث، يندب له ترك الكلام للستر على نفسه، أما إذا كان العذر لا يبطل الصلاة، كالرعاف مثلًا عند أصحابنا، أو كعجز عن ركن، فإن الكلام يبطلها عليهم، أما إن كان المانع عجزًا عن ركن، تأخر الإمام مؤتمًا بالإمام الثاني، ناويًا لذلك وجوبًا، وندب للمحدث أن يخرج ممسكًا بأنفه ليوهم أن به رعافًا، وليس هذا من باب الكذب، بل هو من باب استعمال الحياء وطلب السلامة من ألسنة الناس.
يقول: إنه إن تقدم غير من استخلفه الإمام صحت صلاتهم، إن لم يقصد به الكبر والتشبيه. في قوله: كان استخلف مجنونًا، هو في الصحة. أي إن استخلف الإمام مجنونًا لا يصح الاقتداء به، فلم =
الجُمُعَةَ، وَقَرأ مِن نِهَايَةِ الأوَّل، وابْتَدَأَ بِسِريَّة إنْ لَمْ يعلم الأوَّلَ، وصِحَّتُهُ بِإدْرَاكِ مَا قَبْلَ الرَّكُوعِ وإلَّا فإِنْ صَلَّى لِنَفْسِهِ أَوْ بَنَى بالأُولَى أوْ الثَّانِيِةِ صَحَّتْ. وإلَّا فَلَا؛ كَعَوْد الإِمام لإتْمَامِهَا، وإنْ جَاءَ بَعْدَ الْعُذْرِ فكأجْنَبِيٍّ وَجَلَسَ لِسَلَامِهِ الْمَسْبُوقُ؛
= يقتدوا به بأن أتموا أفذاذًا في غير جمعة، أو استخلفوا من تصح إمامته فأتم بهم، كما تصح صلاتهم إن أتموا وحدانًا - بضم الواو: جمع واحد، كراكب وركبان وفارس وفرسان - فصلاتهم صحيحة إن لم تكن الصلاة جمعة، أو أتم بعضهم وحدانًا وبعضهم بإمام أو أتموا طائفتين بإمامين كل طائفة بإمام، إلا الجمعة فإنها لا تصح إن أتموا وحدانًا. وإن استخلف إمام مكان آخر قرأ الثاني من انتهاء قراءة الأول إن علم ما انتهى إليه يجهر به أو أعلمه الأول، وعليه أن يبتدئ القراءة وجوبًا إن لم يعلم أين انتهى بأن كان بسرية، أو جهر لم يتبلغه ولم يعلمه به.
وشرط صحة الاستخلاف بإدراك المستخلف - بفتح اللام - جزءًا من صلاة المستخلف - بكسر اللام - قبل عقد الركوع؛ بأن إحرم عقب إحرام الإمام، فحصل العذر عقب إحرامه أو حال القراءة أو حال هوي الركوع، أو حال الركوع أو الرفع منه، فيصح استخلافه في جميع هذه الصور، والضابط أنه متى حصل العذر قبل تمام الرفع من الركوع صح استخلاف من اقتدى به قبله بقليل أو بكثير، وإن كان العذر حصل بعد تمام رفعه من الركوع فلا يصح استخلاف إلا من أدرك الركوع معه من تلك الركعة.
وإن كان المستخلف إنما اقتدى بالإمام المستخلف - بالكسر - بعد العذر فهو كأجنبي منه غير مأموم له بتاتًا؛ لانحلال الإمامة عن الأول بحصول العذر، فلا يصح استخلافه، ومن اقتدى به بطلت صلاته، وأما هو فإن صلى لنفسه صلاة منفرد ولم يبن علي صلاة الأول صحت صلاته، وإن بنى على صلاة الأول جهلًا منه، والحال أنه كان بناؤه بالركعة الأولى، صحت صلاته لعذره بالتأويل، أو كان بناؤه في الثالثة من رباعية، واقتصر على الفاتحة في الثالثة والرابعة - كالإمام الأول - ظنًا منه صحة استخلافه، وقضى الأوليين بفاتحة وسورة صحت صلاته، إذ لا مخالفة بينه وبين المنفرد إلا في القراءة وقد عذر بالتأويل، فإن لم يبن بالأولى مطلقًا أو بالثالثة من رباعية، بطلت صلاته لإِخلاله بهيئتها؛ لجلوسه في محل القيام وقيامه في محل الجلوس. وإذا عاد الإمام الأول بعد زوال عذره وأتمها بهم، بطلت عليهم أيضًا إن اقتدوا به، استخلف عند خروجه أو لم يستخلف. =
كأنْ سُبِقَ هُوَ لَا المُقيمُ يَستخِلفهُ مُسَافِرٌ لِتَعَذُرِ مُسَافِرٍ أو جَهْلِهِ، فَيُسَلِّمُ المُسَافِرُ وَيَقُومُ غَيْرةُ لِلْقَضَاءِ، وإنْ جَهلَ مَا صَلَّى أشَارَ فَأشَارُوا وإلَّا سُبِّحَ بِه، وإن قَال لِلْمَسْبُوق: أَسْقَطْتُ رُكوعًا. عَمِلَ عَلَيْهِ مَن لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ، وسَجَدَ قَبْلَهُ إِن لَمْ تَتَمَخَّضْ زيادَة بَعْدَ صَلَاةِ إِمَامِه.
= وإن كان الخليفة مسبوقًا فعليه أن يتم صلاة الإمام الأول ثم يشير إليهم جميعًا - مسبوقين وغير مسبوقين - بالجلوس، ويقوم هو وحده لقضاء ما سبق به ثم يسلم، فيسلم من أتم صلاته بسلامه، ويقوم المسبوق بعد سلامه لقضاء ما عليه، فإن خالف المأموم المسبوق، وامتنع عن الجلوس بطلت صلاته، ولو تأخر سلامه عن سلام الخليفة؛ لقضائه في صلب صلاة من صار إمامه.
فإن كان الإمام مسافرًا فطرأ عليه العذر، واستخلف مقيمًا، وفي مأموميه مسافرون ومقيمون، فإن انتهت صلاة الإمام الأول، وقام الخليفة لإتمام صلاته كمقيم، سلم المأموم المسافر لقيامه وقام المأموم المقيم أيضًا لإتمام صلاته، عقب إكمال صلاة الأول، ولا يصح اقتداؤه بالخليفة فيما يكمل به صلاته؛ لأنه لا يصح اقتداء في صلاة واحدة بإمامين، ثانيهما غير خليفة عن الأول. هذا على ما ذهب إليه ابن كنانة، قال جواهر الإكليل: وهو ضعيف والمعتمد قول ابن القاسم وسحنون: أن يجلس المسافر والمقيم معًا لانتظار سلام الخليفة المقيم، فيسلم المسافر عقب سلامه ويقوم المأموم المقيم بعد سلامه لإتمام صلاته.
وإن جهل الخليفة ما صلاه الأول - والحال أنه ذهب - أشار مستفهمًا من المأمومين عن عدد ما صلى الأول، فإن فهم عنهم وإلا كلموه، وإن حصل الكلام قبل الإشارة بطلت. و إن قال الإمام للمسبوق الذي استخلفه وللمأمومين: أسقطت ركنًا؛ ركوعًا أو نحوه مما تبطل الصلاة بتركه، عمل عليه الذي لم يعلم أو يظن خلافه من المأمومين، وعلى الخليفة في الصور التي عمل فيها بقول الإمام سجود القبلي، عقب الفراغ من صلاة الإمام، وقبل قيامه لقضاء ما عليه، إن لم تتمحض زيادة؛ أي هذا إذا أخبر بترك ما يلزم بتركه سجود قبل السلام؛ نحو ترك السورة أو الجلوس الأول، فإن تمحضت الزيادة بأن قال: أسقطت ركوعًا أو سجودًا، وتداركه الخليفة، فإن الزيادة هنا متمحضة ولا نقص معها، فعليه إذن أن يسجد بعد السلام.
صلاة السفر
(1)
فصل:
سُنَّ لِمُسَافِرٍ - غِيْرِ عَاصٍ بِهِ ولَاهٍ - أربَعَةَ بُرُد (2) ولَوْ بِبَحْرٍ، ذَهَابًا، قُصِدَتْ دَفْعَةً إنْ عدَّى الْبَلَدِيُّ الْبَسَاتينَ المَسكونَة، وتؤولت أيضًا على مُجَاوَزَةِ ثلاثَةِ أمْيالٍ بِقَرْيَةِ الجُمُعَةِ، والعمُودِيُّ حِلَّتَه وانْفَصَلَ غيرهما (3). قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ وَقْتِيَّةٍ.
= هذا هو حاصل عمليات الاستخلاف عند أصحابنا باختصار. والله تعالى أعلم بمستندها، فهي بمحض الاجتهاد. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
صلاة السفر الأصل في قصرها قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
(1)
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة العصر ركعتين. قال البغوي: أخرجه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان. وأخرجه مسلم عن سعيد بن منصور عن سفيان.
وعن عبد الله قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبي بكر وعمر، وعثمان صدرًا من إمارته ثم أتمها. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. ثم قال رحمه الله:
اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر، واختلفوا في جواز الإتمام [به]، فذهب أقصرهم إلى أن القصر واجب؛ وهو قول عمر وعلي، وابن عمر، وجابر، وابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والحسن وقتادة، وحماد بن أبي سليمان. وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي. قال حماد: يعيد من صلى في السفر أربعًا. وقال مالك: يعيد ما دام الوقت باقيًا. وقال أصحاب الرأي: إن لم يقعد للتشهد في الثانية فصلاته فاسدة، وإن قعد أتمها أربعًا، والأخريان نفل.
وذهب قوم إلى جواز الإتمام؛ روي ذلك عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص؛ وقد أتم ابن مسعود مع عثمان وهو مسافر، وبه قال الشافعي: أنه إن شاء أتم وإن شاء قصر، والقصر أفضل. وروي عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر وتصلي أربعًا، وروي عن أحمد أنه قال مرة: أنا أحب العافية من هذه المسألة. ا. هـ. منه هذا بالإجمال هو حاصل أقوال العلماء فيه. =
(1)
سورة النساء: 101.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: فإن قال قائل: آية النساء إنما منطوقها جواز القصر في الخوف، فما بال صلاة الأمن تقصر؟!. فالجواب هو حديث يعلى بن أمية، ولفظه عند البغوي: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
(1)
الآية، فقد أمن الناس؟. قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صَدَقَةٌ تَصَدَّق اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". قال البغوي: هذا حديث صحيح. أخرجه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن ادريس، عن ابن جريج. ا. هـ.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، وأخرجه أبو داود، باب صلاة المسافر وأخرجه الترمذي في التفسير، وأخرجه ابن ماجه؛ باب تقصير الصلاة.
(2)
وقوله: أربعة برد؛ قال البغوي: كان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد - وهي ستة عشر فرسخًا - ولا يريان فيما دونها. سافر ابن عمر إلى رئمٍ فقصر. قال مالك: وذلك نحو أربعة برد. وقال عطاء: قلت لابن عباس أقصر إلى عرفة؟. قال: لا. قلت إلى منى. قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف. ا. هـ.
وإلى هذا ذهب مالك، وأحمد، وإسحاق، وللشافعي نحو منه حيث قال: يقصر في مسيرة ليلتين قاصدتين. وقال في موضع: سته وأربعين ميلًا بالهاشمي.
تنبيه: إعلم أن مسافة القصر لم يثبت في تحديدها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك اختلف أهل العلم فيها؛ فروى شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شك شعبة - صلى ركعتين. وهذا الحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين.
وروي عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا، فصلى ركعتين، فقلت له؟. فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين. فقلت له؟. فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. وهذا الحديث أيضًا أخرجه مسلم. =
(1)
سورة النساء: 101.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعن أنس أنه كان يقصر فيما بينه وبين خمس فراسخ. وعن ابن عمر في رواية: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر، عن محارب: سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر.
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلًا قصرت الصلاة. وكلا الحديثين صحيح الإسناد. انظر فتح الباري.
وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة. قاله البغوي في شرح السنة. وذهب كثير من أهل العلم إلى عدم جواز القصر في السفر القصير، إلا أنهم اختلفوا في حده، قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون يوم وليلة وبهذا نأخذ. وروي أن سالم بن عبد الله كان يقصر في مسيرة اليوم التام. أخرجه مالك في الموطإ وإسناده صحيح وهو في مصنف عبد الرزاق. إلى غير ذلك. والله الموفق.
وقوله: ذهابًا قصدت دفعة؛ هو لما في مصنف عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عثمان كتب إلى بعض عماله أنه لا يصلي الركعتين المقيم ولا التاني ولا التاجر، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد. ا. هـ. والتاني بدون همز المزارع.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: أخبرني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه أن عثمان كتب إلى أهل البصرة: أما بعد؛ فإنه بلغني أن بعضكم يكون في جَشْرة أو في تجارة، أو يكون جابيًا فيقصر الصلاة، إنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا أو بحضرة عدو. ا. هـ. وقوله: جشرة؛ الجَشْر: هو إخراج الدواب للرعي. وفي النهاية: "لَا يُغْنِكُمْ جَشْرُكُمْ عَنْ صَلَاتِكُمْ". والجَشَر: بفتحتين قوم يأخذون دوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرًا فقصروا الصلاة فنهاهم عن ذلك. قال الأعظمي: والجَشَرُ أيضًا بالتحريك المال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل. ا. هـ.
(3)
وقوله: إن عدَّى البلدي البساتين المسكونة الخ؛ أخرج عبد الرزاق عن هشيم قال: أخبرني أبو هارون عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سار فرسخًا نزل يقصر الصلاة.
وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن داود عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي أن عليًا لما خرج إلى البصرة رأى خُصًّا فقال: لولا هذا الخصُّ لصلينا ركعتين. فقلت ما خُصًّا؟. قال: بيت من قصب. =
أوْ فاَئِتَةٍ فيه (1)، وإنْ نُوتيًّا بأهْلِهِ (2)، إلى مَحَل الْبَدْءِ، لَا أقَلَّ (3)، إِلَّا كَمَكِّيٍّ في خُروجِه لعرفة ورُجُوعِهِ، ولَا رَاجعٌ لِدُونها (4) وَلَوْ لِشَيْءٍ نِسيَهُ. وَلَا عَادِلٌ عَنْ قَصِيرٍ
= وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة حين يخرج من بيوت المدينة، ويقصر إذا رجع حتى يدخل بيوتها. ا. هـ.
وفي المدونة: وقال مالك في الرجل يريد سفرًا أنه يتم الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية، فإذا برز قصر الصلاة، فإذا رجع من سفره قصر الصلاة حتى يدخل بيوت القرية أو قربها. قلت لمالك: فإن كان على ميل؟. قال: يقصر الصلاة. قال ابن القاسم: ولم يحدّ لنا في القرب حدًا. ا. هـ.
(1)
وقوله: أو فائتة فيه: هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في رجل نسي الظهر وهو مسافر فذكرها وهو مقيم، قال: يصلي ركعتين، وإن ذكر صلاة الحضر في السفر صلى أربعًا؛ وقال ذلك ابن وهب عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وقاله الحسن من حديث وكيع عن سفيان بن أبي الفضل عن الحسن. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وإن نوتيًا بأهله؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في المسافر في البر والبحر سواء إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم الصلاة وصام. قال: وبلغني أن مالكًا قال في النواتية؛ يكون معهم الأهل والولد في السفينة هل يتمون الصلاة أو يقصرون؟. قال: يقصرون إذا سافروا. ا. هـ.
قلت: وهذه الفتوى مبنية على القاعدة التي تقول: إن الأحكام المعللة بالمظان لا تتخلف بتخلف العلة؛ وتوضيح ذلك أن علة القصر في السفر هي أن السفر مظنة المشقة، فإذا وجدنا سفرًا لا مشقة فيه، قصر صاحبه وإن لم يجد العلة المظنونة، ونحو ذلك. والله الموفق.
(3)
قوله: إلى محل البدء، قد تقدم لك دليله. وقوله: لا أقل، هو على رأي مالك ومن وافقه كما علمت. والأمر في ذلك واسع لم يثبت فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لم يقع فيه إجماع يجب الرجوع إليه. وبالله التوفيق.
(4)
وقوله: إلا كمكي في خروجه لعرفة ورجوعه؛ أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر =
بِلَا عُذْرٍ، ولَا هَائِمٌ وَطَالِبُ رَعْيٍ إلَّا أنْ يَعْلَمَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ (1) قَبْلَهُ، وَلَا مُنْفَصِلٌ يَنْتَظِرُ رُفْقَةً إِلَّا أَنْ يَجْزِمَ بالسَّيْرِ دُونَها (2)، وَقَطَعَهُ دُخُولُ بَلَدِه وَإنْ بِريحٍ (3) إِلَّا مُتوَطِّنَ كَمَكَّةَ رَفَضَ سُكْناهَا ورَجَعَ ناوِيًا السَّفَرَ وقَطَعَهُ دُخُولُ وَطَنِهِ (4) أوْ مَكَانِ زَوْجَةٍ دَخَلَ
= ركعتين، ومع عثمان صدرًا من خلافته، ثم صلاها أربعًا، قال الزهري: فبلغني أن عثمان إنما صلاها أربعًا لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج.
قلت: وهذا القصر عند أصحابنا نسك من نسك الحج، لا لعلة السفر، لأن المكي وأهل منى وعرفات يقصر جميعهم في هذه الأيام. والله الموفق.
وقوله: ولا راجع لدونها؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في رجل خرج مسافرًا فلما مضى فرسخًا أو فرسخين أو ثلاثة رجع إلى بيته في حاجة بدت له، قال: يتم الصلاة إذا رجع حتى يخرج فاصلًا الثانية من بيته، ويجاوز بيوت القرية ثم يقصر. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ولا هائم وطالب رعي إلا أن يعلم قطع المسافة دونه؛ هو لفتوى مالك في المدونة: قال مالك فيمن طلب حاجة وهو على بريد فقيل له: هي بين يديك على بريدين فلم يزل كذلك حتى صار مسيرة أيام وليال، قال: إنه يتم الصلاة ولا يقصر، فإذا أراد الرجعة إلى بلده قصر الصلاة؛ إن كان بينه وبين بلده أربعة برد فصاعدًا. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ولا منفصل ينتظر رفقة إلا أن يجزم بالسير دونها؛ هو لفتوى ابن القاسم في المدونة: قال ابن القاسم: وأنا أرى في الذي يتقدم القوم للخروج إلى موضع تقصر في مثله الصلاة، ينتظرهم في الطريق حتى يلحقوه؛ إنه إن كان فاصلًا على حال ينفذ لوجهه، سار معه من ينتظر أو لم يسر، فأنا أرى أن يقصر الصلاة من حين يجاوز بيوت القرية، وإن كان إنما يتقدمهم ولا يبرح إلا بهم ولا يستطيع مفارقتهم؛ إن أقاموا أقام، فإنه يتم حتى يلحقوه وينفذوا لسفرهم موجهين. قال: وهذا قول مالك أيضًا. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: وقطعه دخول بلده؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة قال: قال مالك فيمن خرج من افريقية يريد مكة، وله بمصر أهل فأقام عندهم صلاة واحدة؟ إنه يتمها. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وقطعه دخول وطنه؛ لعله لفتوى مالك في المدونة: قال: وقال مالك في رجل دخل =
بهَا فَقَطْ، وإنْ بِريحٍ غِالِبَةٍ، ونيَّةُ دُخُولهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وبينَهُ المَسَافَة، وَنِيَّةُ إِقَامَةِ أرْبَعَةِ أيَامٍ صِحَاحٍ (1) ولو بخِلَالِه إِلَّا الْعَسْكَرَ بِدَارِ (2) الحَرْبِ أو الْعِلْمُ بِهَا عَادَةً لَا الإقَامَةَ، وإنْ تأخَّر سَفَره، وإن نَواها بِصَلَاةٍ شَفَعَ ولَم تُجْزِ حَضَريَّةً ولا
= مكة فأقام بضعة عشر ليلة فأوطنها، ثم بدا له أن يخرج إلى الجحفة فيعتمر منها، ثم يقدم مكة ويقيم بهما اليوم واليومين، ثم يخرج منها؛ أيقصر الصلاة أم يتم؟. قال: بل يتم لأن مكة كانت له وطنًا. قال لي ذلك مالك. قال: وأخبرني من لقيه قبلي أنه قال له ذلك. ثم سئل بعد ذلك عنها فقال: أرى أن يقصر الصلاة، وقوله الآخر الذي لم أسمع منه أعجب إليَّ. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ونية إقامة أربعة أيام صحاح؛ والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُقِيمُ المُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ مَنْسكِهِ ثَلَاثًا". فجعل الثلاث في حكم السفر، وما زاد في حكم الإِقامة. ولما أخلى عمر رضي الله عنه أهل الذمة، ضرب لمن قدم منهم تاجرًا ثلاثًا. والقول بقطع نية إقامة أربعة أيام صحاح للسفر هو قول عثمان رضي الله عنه، وبه أخذ مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور.
قال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يومًا مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دون ذلك قصر. وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت في نفسك أنك تقيم بها خمسة عشر يومًا فأكمل الصلاة. ا. هـ. انظر بقية المبحث في المغني لابن قدامة.
(2)
وقوله: إلا العسكر بدار الحرب؛ قال مالك في المدونة: لو أن عسكرًا دخل دار الحرب فأقام بموضع واحد شهرًا أو شهرين أو أكثر من ذلك، فإنهم يقصرون الصلاة. قال: وليس دار الحرب كغيرها. ا. هـ. منه.
وقوله: أو العلم بها عادة؛ أي ولو لم ينو إقامة أربعة أيام؛ كان يعلم أن الحاج لابد له من إقامة أربعة أيام بالمدينة مثلًا، فعليه أن يتم إذا دخلها؛ لا إن أقام أربعة أيام بدون نية وبدون علم بها عادة؛ كأن يقيم لقضاء حاجة يظن قضاءها كل يوم، فإنه يقصر ولو طالت إقامته؛ فقد روى البيهقي بإسناد صحيح أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة اشهر يقصر الصلاة. ا. هـ.
سفرية (1)، وَبَعْدَهَا أعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَإن اقْتَدى مُقِيمٌ بِهِ فَكُلٌّ عَلى سُنتِهِ (2) وَكُرِهَ كَعَكْسِهِ وتأكَّدَ وتَبِعَهُ (3) وَلَمْ يُعِدْ. وإنْ أتَمَّ مُسَافِر نَوى إتْمَامًا أعَادَ بِوَقْتٍ (4)، وإنْ
(1)
وقوله: وإن نواها بصلاة شفع ولم تجز حضرية ولا سفرية؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في رجل افتتح الصلاة، وهو مسافر، فلما صلى ركعة بدا له في الإقامة، قال: يضيف إليها ركعة أخرى ويجعلها نافلة، ثم يبتدئ الصلاة صلاة المقيم.
وقوله: ولم تجز حضرية ولا سفرية؛ هو لقوله في موضع آخر من المدونة: قلت أرأيت مسافرًا افتتح الصلاة المكتوبة ينوي أربع ركعات، فلما صلى ركعتين بدا له فسلم؟. قال: لا تجزئه في قول مالك. قلت: من أي وجه قلت لا تجزئه في قول مالك؟. قال: لأن صلاته على أول نيته. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وإن اقتدى مقيم به فكل على سنته؛ دليله حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد:"صَلُّوا أرْبَعًا فَإنَّا سَفْرٌ" أخرجه ابن قدامة في المغني وقال: رواه أبو داود.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: صلى عمر بأهل مكة الظهر، فسلم من ركعتين ثم قال: أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سَفر. ا. هـ.
(3)
وقوله: وكره كعكسه وتأكد؛ لم أتبين وجهًا لكراهة اقتداء المقيم بالمسافر، طالما أنها ثبت بالسنة المطهرة فعل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لهم عليه هذه المدة الطويلة وفعل الصحابة له بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حسمًا لمادة مظنة النسخ مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. أما كراهة اقتداء المسافر بالمقيم فبينة لما يفوت عليه من سنة السفر.
وقوله وتبعه؛ أي وعليه إذا اقتدى به أن يتم كما أتم إمامه.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر والثوري: قال سليمان التيمي عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: أدركت ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر. قال: صل بصلاتهم. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن في مسافر أدرك ركعة مع صلاة المقيمين في الظهر. قال: يزيد إليها ثلاثًا، وإن أدركهم جلوسًا صلى ركعين. ا. هـ.
(4)
وقوله: وإن أتم مسافر نوى إتمامًا أعاد بوقت؛ هو لما في المدونة من فتوى مالك، قال: =
سَهْوًا سَجَدَ والأصَحُّ إِعَادَتُهُ كمأْمُومِه بِوَقْتٍ والأرْجَحُ الضَرُوريُّ إِنْ تَبِعَهُ وإلَّا بَطَلَتْ؛ كأن قَصَّر عَمْدًا. والسَّاهِي كَأحْكَام السَّهْوِ، وكأنْ أتَمَّ مَأمُومُه بَعْدَ نِيَّةِ قَصْرٍ عَمْدًا أوْ سَهْوًا أوْ جَهْلًا، فَفِي الْوَقْتِ، وَسَبَّحَ مَأمُومُهُ وَلَا يَتْبَعُهُ، وسَلَّمَ المُسَافِرُ بِسَلَامه، وأتَمَّ غَيْرُهُ بَعْدَهُ أفْذَاذًا، وأعَادَ فَقَطْ بِالْوَقْتِ وإن ظَنَّهُمْ سَفَرًا فَظَهَرَ خِلَافُه أعَادَ أبَدًا؛ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا كَعَكْسِهِ، وَفِي تَرْكِ نِيَّةِ القَصْر والإِتْمَام تَردُّدٌ. وَنُدِبَ تَعْجِيلُ الأوْبَةِ والدُّخُولُ ضُحىً (1)، ورُخِّص لَهُ جَمْعُ الظُّهْرَيْنِ بِبَرٍّ
= وقال مالك في مسافر صلى أربعًا أربعًا في سفره كله إنه يعيد ما كان في الوقت، وهذا إذا كان في السفر، كما يعيد ركعتين ركعتين ما كان من الصلوات هو في وقتها، وأما ما مضى وقته من الصلوات فلا إعادة عليه ا. هـ. منه.
وقوله: وإن ظنهم سفرًا فظهر خلافه أعاد أبدًا؛ إن كان مسافرًا كعكسه؛ توضيحه أن مصليًا دخل مع قوم ظنهم مسافرين نأوين القصر فنواه، ثم ظهر أنهم مقيمون، أو لم يظهر له شيء، وجب عليه أن يعيد صلاته تلك أبدًا إن كان هو مسافرًا؛ لأنه إن سلم من اثنتين، فقد خالف إمامه نية وفعلًا، وإن أتم معه فقد خالفه نية الإمام وخالف فعله نيته هو بنفسه، هذا إن ظهر خلاف ما كان يظنه، وأما إن لم يظهر شيء، فوجه البطلان هو احتمال حصول المخالفة، فيحصل الشك في الصحة فتبطل الصلاة.
وإن ظنهم مقيمين فنوى الإتمام فظهر أنهم مسافرون، أو لم يظهر شيء أعاد أبدًا؛ إن كان هو مسافرًا وسلم معهم؛ وذلك لمخالفة فعله نيته، وأما إن أتم فمقتضى القياس الصحة؛ كاقتداء مقيم بمسافر.
وقوله: وفي ترك نية القصر والإتمام تردد؛ يستفاد منه أنه لابد من نية القصر عند كل صلاة لا عند الشروع في السفر.
هذا وليس في هذا إلا الاجتهاد. والله تعالى أعلم بمستنده. والله تعالى هو الموفق.
(1)
وقوله: والدخول ضحى؛ هو لما في صحيح مسلم والنسائي من طريق جابر رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا؛ يتخونهم أو يطلب عثراتهم. كذا ذكره في جواهر الإكليل.
وإنْ قَصُرَ وَلَمْ يَجِدَّ بِلَا كُرْهٍ، وَفِيهَا شَرْطُ الْجِدِّ لإِدْرَاكِ أمْر بِمَنْهَلٍ زَالَتْ به، وإن نَوَى النُّزُولَ قَبْلَ الْغُروبِ وَبَعْدَ الاصْفِرَارَ أخَّرَ الْعَصْرَ، وَبَعْدَهُ خُيِّرَ فِيهَا، وَإنْ زالَتْ رَاكِبًا أخَّرَهُمَا إِنْ نَوَى الاصْفِرَارَ أوْقَبْلَهُ، وإلَّا فَفِي وقْتَيْهِمَا، كَمَنْ لَا يَضْبِطُ نُزُولَهُ، وكَالمَبْطُونِ ولِلصَّحِيحِ فِعْلُهُ، وهلْ العِشَاءانِ كَذلِكَ تأْويلَانِ (1)، وَقَدَّمَ
(1)
وقوله ورخص له جمع الظهرين ببر - إلى قوله - تأويلان؛ هو في حكم جمع مشتركتي الوقت؛ وإليك ما تيسر جلبه من أدلة ذلك:
ففي المدونة: قال مالك: وأحب ما فيه إليَّ أن يجمع بين الظهر والعصر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر؛ يجعل الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها - إلا أن يرتحل بعد الزوال - فلا أرى بأسًا أن يجمع بينهما تلك الساعة في المنهل قبل أن يرتحل، والمغرب والعشاء في آخر وقت المغرب قبل أن يغيب الشفق يصليها، فإذا غاب الشفق صلى العشاء. ولم يذكر في المغرب والعشاء مثل ما ذكر في الظهر والعصر عند الرحيل من المنهل.
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث وغيره، عن أبي بكر بن المنكدر عن علي بن الحسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفر يومًا جمع بين صلاة الظهر والعصر، وإذا أراد السفر ليلًا جمع بين المغرب والعشاء قال: وأخبرني ابن وهب عن جابر بن إسماعيل، عن عقيل عن ابن خالد عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؛ إذا عجل به السير وقالوا: يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق.
وروى سحنون عن علي بن زياد عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي عثمان النهدي قال: خرجت مع سعد بن مالك وافدين إلى مكة فكان يؤخر من الظهر ويعجل من العصر، ويعجل من العشاء ويؤخر من المغرب ثم يصليهما.
وروى وكيع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد جمعا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في السفر. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء. قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا في الجمع بين الصلاتين لمن جد به السير. ا. هـ. من المدونة. =
خَائِفُ الإغْمَاءِ والنَّافِضِ والْمَيْدِ، وإنْ سَلِمَ أوْ قَدَّمَ وَلَمْ يَرْتَحِلْ، أو ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ عِنْدَهُ فَجَمَعَ، أعَادَ الثَانِيَةَ في الْوَقْتِ، وَفِي جَمْعِ الْعِشَاءَيْنِ فَقَطْ بِكُلِّ مَسْجِدٍ لِمَطَرٍ أوْ طِينٍ مَعَ ظُلْمَةٍ لَا طِينٍ أوْ ظُلْمَةٍ، أُذِّنَ لِلمَغْرِبِ كَالعَادَةِ وَأُخِّرَ قَلِيلًا ثُمَّ صُلِّيَا وِلَاءً إِلَّا قَدْرَ أذانٍ مُنْخَفِضٍ بِمَسْجِدٍ وإقامَةٍ، وَلَا تَنَفُّلَ بَيْنهُمَا، ولم يَمْنَعْهُ ولَا بَعْدَهُمَا، وجَازَ لِمُنْفَرِدٍ بِالْمغْرِبِ يَجدُهم بِالعِشَاءِ، ولمُعْتَكِفٍ بِمَسْجِدٍ كإن انْقَطَعَ الْمَطَرُ بَعْدَ الشرُوعِ. لا إن فَرَغُوا، فيؤخر للشَّفَقِ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، ولَا إنْ حَدَثَ السَّبَبُ بَعْدَ الأُولَى ولا المرأةُ والضَّعِيفُ ببَيْتِهِمَا، وَلَا مُنْفَرِدٌ بِمَسْجِدٍ كجماعَةٍ لَا حَرج عَلَيْهِمْ (1).
= قلت: وحديث مالك عن نافع عن ابن عمر، أخرجه مالك في الموطإ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، ورواه مسلم في صلاة المسافرين. باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، وأخرجه البخاري في التقصير، باب يصلى المغرب ثلاثًا في السفر. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر.
وهذا الحديث أخرجه أحمد عن عبد الرزاق، وعلقه البخاري عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن يزيد بن هارون عن إسحاق عن حفص. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف أيضًا عن الثوري، عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذ بن جبل قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في غزوة تبوك. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق زهير وقرة بن خالد عن أبي الزبير. ا. هـ.
(1)
وقوله: وفي جمع العشاءين فقط بكل مسجد لمطر أو طين الخ؛ هو في أحكام الجمع بعذر المطر، وفيما يلي ما تيسر من أدلة ذلك: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ففي المدونة ما نصه: ابن وهب عن عمر بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال حدثه أن ابن قسيط حدثه أن جمع الصلاتين بالمدينة في ليلة المطر - المغرب والعشاء - سنة وأن قد صلاها أبو بكر وعمر وعثمان على ذلك؛ وجمعهما أن العشاء تقرب إلى المغرب حين تصلى المغرب، وكذلك أيضًا يصلون بالمدينة.
قال ابن وهب: وقال عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وأبو الأسود مثله. قال سحنون: وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهما جميعًا. ا. هـ. منه.
قول المصنف: وفي جمع العشاءين فقط، ينزع بها إلى مذهب المدونة؛ الذي لا يجوز الجمع في الحضر بين الظهر والعصر. ونص ما فيها: قلت لابن القاسم: فهل يجمع في الطين والمطر في الحضر بين الظهر والعصر، كما يجمع بين المغرب والعشاء في قول مالك؟. قال: لا يجمع بين الظهر والعصر في الحضر، ولا يرى ذلك من المغرب والعشاء. ا. هـ. منه.
قلت: وقد نقل البغوي في شرح السنة عن مالك القول بجواز الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر، ونص ما فيه: وقد اختلف العلماء في جواز الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء للممطور في الحضر، فأجازه قوم؛ روي ذلك عن ابن عمر، وفعله عروة، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعامة فقهاء المدينة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، غير أن الشافعي اشترط أن يكون المطر قائمًا وقت افتتاح الصلاة الأولى، وحالة الفراغ منها إلى أن يفتتح الثانية، وكذلك أبو ثور ولم يشترط ذلك غيرهما، وشرط أن يكون في مسجد الجماعة.
وشرط مالك أن يجمع الممطور في الطين في حالة الظلمة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وهذ هو مستند المصنف في قوله: لمطر أو طين مع ظلمة، لا طين أو ظلمة. والله أعلم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر. قال مالك: أرى ذلك كان في مطر. ا. هـ.
وهذا لفظ البغوي، والحديث أخرجه في الموطإ، وأخرجه مسلم؛ باب الجمع بين الصلاتين في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الحضر، وأخرجه أبو داود؛ باب الجمع بين الصلاتين، وأخرجه النسائي في المواقيت؛ باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، وأخرجه البخاري في المواقيت، باب وقت المغرب. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج ومعمر عن عمرو بن دينار أن أبا الشعثاء أخبره، أن ابن عباس أخبره قال: صليت وراء رسول الله ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا بالمدينة. قال ابن جريج: فقلت لأبي الشعثاء: إني لأظن النبي صلى الله عليه وسلم أخر من الظهر قليلًا وقدم من العصر قليلًا. قال أبو الشعثاء: وأنا أظن ذلك. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار كما في فتح الباري.
قال البغوي في شرح السنة عند حديث ابن عباس آنف الذكر: هذا الحديث يدل على جواز الجمع بلا عذر، لأنه جعل العلة أن لا تحرج أمته؛ أي لما في رواية أخرى لهذا الحديث، وفيها: قلت لابن عباس: لم فعله؟. فقال: لئلا يحرج أحد من أمته.
قال البغوي: وقد قال بذلك قليل من أهل الحديث. وحكي عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسًا بالجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز. وجوز الحسن وعطاء بن أبي رباح الجمع بعذر المرض، وحملا الحديث عليه. وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. ا. هـ.
وقول المصنف: وجاز لمنفرد بالمغرب يجدهم بالعشاء؛ هو لفتوى المدونة؛ ونص ذلك: وقال مالك: من صلى في بيته المغرب في المطر فجاء المسجد فوجد القوم قد صلوا العشاء الأخيرة، فأراد أن يصلي العشاء، قال: لا أرى أن يصلي العشاء، و إنما جمع الناس للرفق بهم، وهذا لم يصل معهم، فأرى أن يؤخر العشاء حتى يغيب الشفق. وهذا هو مراد المؤلف بقوله في الأخير: لا منفرد بمسجد. وأما ماهنا بصدده - وهو جواز الصلاة معهم - محل الشاهد فيه قوله في المدونة: قلت فإن وجدهم صلوا المغرب ولم يصلوا العشاء الأخيرة، فأراد أن يصلي معهم العشاء، وقد كان صلى المغرب لنفسه في بيته، قال: لا أرى بأسًا أن يصلي معهم. ا. هـ. منه. وبالله تعالى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
صلاة الجمعة
فصل:
شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالخُطْبَةِ (1)، وَقْتَ الظُّهْرِ للغُرُوب، وَهَلْ إِنْ ادرَكَ رَكْعَةً
(1)
وقوله: وشرط الجمعة وقوع كلها بالخطبة؛ هو لما روى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بلغني أنه لا جمعة إلا بخطبة، فمن لم يخطب صلى الظهر أربعًا. ا. هـ.
وروى وكيع عن سفيان عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال: كانت الجمعة أربعًا فحطت ركعتان للخطبة. ا. هـ. وروى وكيع عن سفيان عن الزبير بن عدي أن إمامًا صلى الجمعة ركعتين فلم يخطب، فقام الضحاك فصلى أربعًا. ا. هـ. من المدونة.
واعلم أن الجمعة فرض، دليله الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
(1)
من سورة الجمعة. فقد أمر تعالى - في الآية - بالسعي إلى ذكر الله، والأمر للوجوب، ونهى عن البيع لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها. والمراد بالسعي ههنا الذهاب إليها، لا الإسراع، فإن السعي في كتاب الله لم يرد به العدْو. قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}
(2)
وقال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}
(3)
وقال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}
(4)
وأشباه ذلك لم يرد بشيء منه العدْو. وروي أن عمر كان يقرأ آية الجمعة: {فَامْضوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وأما الدليل من السنة فهو ما روي عن عبد الله بن عمرو أبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد منبره: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. وأخرجه البغوي وقال: أخرجه مسلم. وقال ابن قدامة: متفق عليه.
وعن أبي جعد الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تَرَكَ الْجُمُعَة ثَلَاثَ مَراتٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ =
(1)
سورة الجمعة: 9.
(2)
سورة عبس: 8.
(3)
سورة الإسراء: 19.
(4)
سوره المائدة 33، 64.
مِنَ الْعَصْرِ، وصُحِّحَ أوْ لَا؟. رُوِّيَتْ عَليْهِمَا (1)، باسْتِيطَانِ بَلَدٍ أَوْ أَخْصَاصٍ (2)، لَا خِيَمٍ، وبِجَامِعٍ مَبْنِيٍّ مُتَحِدٍ. والجمُعَةُ لِلْعَتِيقِ وَإِنْ تَأخَّرَ أَدَاءً، لَا ذِي بِنَاءٍ خَفَّ، وَفِي اشْتراطِ سَقْفِهِ وقَصْدِ تَأبِيدِهَا بِهِ وإقَامَةِ الخَمْسِ تَرَدُّدٌ (3). وصَحَّتْ برحَبَتِهِ وطُرُقٍ متَّصِلَةٍ إِنْ ضَاقَ أَوْ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ لا انْتَفَيَا، كَبَيْتِ القَنَادِيلِ
= عَلَى قَلْبِهِ". هذا لفظ البغوي. والحديث صحيح، أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في ترك الجمعة. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. ولذلك فقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة.
وقوله: أو أخصاص؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقد سأله أهل المغرب عن الخصوص.
(1)
وقوله: وقت الظهر للغروب؛ الدليل على أن وقتها من ابتداء وقت الظهر، هو حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتبع الفيء. رواه مسلم. وفي لفظ للبخاري: ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به. والحديث متفق عليه.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. أخرجه البخاري.
وقوله: للغروب؛ وهو لفتوى مالك في المدونة: قلت: أرأيت أن إمامًا لم يصل بالناس الجمعة حتى دخل وقت العصر؟. قال: يصلي بهم الجمعة ما لم تغب الشمس، وان كان لا يدرك بعض العصر إلا بعد الغروب. وهذه العبارة الأخيرة هي مراد المصنف بقوله: وهل إن أدرك ركعة من العصر، وصحَّح أو لا، روِّيتْ عليهما. ا. هـ.
(2)
وقوله باستيطان بلد أو أخصاص؛ لحديث ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بِجُواثَى من البحرين. وهو حديث صحيح، هذا لفظ البغوي، والحديث أخرجه البخاري في المغازي باب وفد عبد القيس. ووجه الاستدلال به على أن مجرد الاستيطان لبلد يوجب إقامة الجمعة؛ هو أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي؛ ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن. وجواثى قرية من قرى البحرين. قال البغوي: وفيه دليل على إقامة الجمعة بالقرى. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المتصلة - وهم جماعة - واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت وقالوا: ليس لنا وال قال: يجمعون الجمعة وإن لم يكن لهم وال. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وبجامع مبني متحد؛ فقد ذكر في المدونة ما تسترشد به إليه من فتوى مالك، قال: وقال مالك فيمن صلى يوم الجمعة على ظهر المسجد بصلاة الإمام، قال: لا ينبغي ذلك: لأن الجمعة لا تكون إلا بالمسجد الجامع. ا. هـ. وقال بعد ذلك ما يشير إلى قول المصنف: متحد. قال: وسألت مالكًا عن إمام الفسطاط؛ يصلي بناحية العسكر يوم الجمعة، ويستخلف من يصلي بالناس في المسجد الجامع الجمعة، أين ترى أن يصلي؟. أمع الإمام حيث يصلي بالعسكر، أم في المسجد الجامع؟. قال: لا أرى أن يصلوا إلا بالمسجد الجامع، وأرى الجمعة للمسجد الجامع، والإمام قد تركها في موضعها. ولعل هذا هو مستند المختصر في قوله: والجمعة للعتيق.
وقال الباجي: فصل: فأما الجامع فإنه من شروط الجمعة، ولا خلاف في ذلك إلا خلاف لا يعتد به. وذكر كلامًا كله انتصار للمذهب، إلا أنه لم يستطع أن يأتي في ذلك بحديث واحد مرفوع، ولا بأثر عن أحد من الصحابة ولا عن التابعين، إلا أنه ختم مبحثه بقول حسن تستطيع النفس أن تركن إليه، وهو قوله: والأصل في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الأئمة بعده إلى هلم جرا.
قلت: لكن الشوكاني رأيته أطنب في المسألة، وقال في آخر بحثه: وذهب الهادي إلى اشتراط المسجد. قال: لأنها لم تقم إلا فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي والمؤيد بالله وسائر العلماء: إنه غير شرط. قالوا: إذ لم يفصل دليلها. قال في البحر قلت: وهو قوي إن صحت صلاته صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي. ا. هـ.
وقد روى صلاته في بطن الوادي ابن سعد وأهل السير، ولو سلم عدم صحة ذلك لم يدل فعلها في المسجد على اشتراطه. ا. هـ. منه بلفظه.
يتحصل منه أن ما يذهب إليه بعض أهل التعصب المذهبي والتقليد الأعمى، بالفتيا ببطلان صلاة من صلى الجمعة في غير المسجد العتيق في قرية، وأحرى في مدينة. ضاق مسجدها العتيق بأهله، هو أمر ينقصه التحقيق، ويخالف صاحبه به قوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
(1)
.
الآية.
(1)
سورة الإسراء: 36.
وسِطْحِهِ ودَارٍ وحَانُوتٍ، وِبجَمَاعَةٍ تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ بِلَا حَدٍّ أوَّلًا، وإلَّا فَتَجُوزُ باثْنَيْ عَشَرَ بَاقِينَ لِسَلَامِهِ (1). بإِمَامٍ مُقيمٍ (2)، إِلَّا الخَلِيفَةَ يَمُرُّ بِقَرْيَةِ جُمُعَةٍ وَلَا
(1)
وقوله: وبجماعة تتقرى بهم قرية بلا حد؛ ونص ما في المدونة في هذا المحل: وقال مالك في القرية المجتمعة، التي قد اتصلت دورها: أرى أن يجمعوا الجمعة، كان عليهم وال أو لم يكن عليهم. قلت: فهل حذ لكم مالك في عظم القرية حدًا؟. قال: لا، إلَّا أنه قال مثل المناهل التي بين مكة والمدينة مثل الروحاء وأشباهها. ا. هـ. منه.
قال البغوي في شرح السنة: اختلف أهل العلم في العدد الذين تنعقد بهم، وفي المسافة التي يؤتى منها، أما الموضع؛ فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلًا أحرارًا مقيمين، يجب عليهم إقامة الجمعة فيها. وهو قول عبيد الله بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، فقالوا: لا تنعقد الجمعة باقل من أربعين رجلًا. واشترط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم والٍ، وهو غير شرط عند الشافعي.
وقال مالك: إذا كان جماعة في قرية؛ بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه، وجبت عليهم الجمعة. ولم يذكر عددًا ولم يشترط الوالي.
وقال علي: لا جمعة إلا في مصر جامع. واليه ذهب أصحاب الرأي. وتنعقد عندهم بأربعة، والوالي شرط.
وقال الأوزاعي: تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال.
وقال أبو ثور: تنعقد باثنين، كسائر الصلوات. تكون جماعة باثنين.
وقال ربيعة: تنعقد باثنى عشر رجلًا؛ لأنه روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} . الآية. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام تحمل طعامًا، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا. فنزلت الآية. وليس فيه بيان أنه أقام الجمعة بهم حتى يكون حجة لاشتراط ذلك العدد. ا. هـ. منه.
قلت: والقصد من نقل هذا كله، ليعلم المطلع أن لا دليل يرجع إليه في الحد، وأن الورع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والاحتياط أن كل من انتظم أمرهم في حياة دائمة بقرية ما عليهم الجمعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" وبالله التوفيق.
وحديث جابر رضي الله عنه، قال: مضت السنة أن في كل أربعين فصاعدًا جمعة. رواه بلوغ المرام وقال: رواه الدارقطني بإسناد ضعيف. قال الصنعاني: وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وعبد العزيز قال فيه أحمد: إضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به.
أقول وأكرر، والله حسبنا ونعم الوكيل: إن الأحوط والأسلم لأهل قرية استوطنوها، وانتظمت حالهم فيها، يخافون الله تعالى ويشفقون من وعيد ترك الجمعة بغير عذر، الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَراتٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلبِهِ". رواه البغوي من حديث أبي الجعد الضمري، وهو صحيح الإسناد. الأحوط لمن يخاف هذا الوعيد أن يصليها في قريته بغض النظر عن العدد الذي لم يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علمت.
(2)
وقوله: بإمام مقيم؛ أي ولما كانت الجمعة يشترط لها الجماعة، تعين أن تكون بإمام ممن تجب عليهم الجمعة. ففي المدونة: وقال مالك في أهل قرية أو مصر من الأمصار يجمع في مثلها الجمع، مات واليهم ولم يستخلف، فبقي القوم بلا إمام، قال: إذا حضرت الجمعة قدموا رجلًا منهم، فخطب بهم وصلى بهم الجمعة. قال: وكذلك القرى التي ينبغي لأهلها أن يجمعوا فيها الجمعة؛ لا يكون عليهم وال، فإنه ينبغي لهم أن يقدموا رجلًا فيصلي بهم الجمعة، يخطب بهم ويصلي. وقال: إن لله فرائض في أرضه لا ينقضها إن وليها وال أو لم يلها. أو نحوًا من هذا. يريد الجمعة. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا الخليفة يمر بقرية جمعة الخ. هو استثناء من عدم جواز إمامة المسافر، وهو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في الأمير المؤمر على بلد من البلدان فيخرج في عمله مسافرًا؛ إن مر بقرية من قراه تجمع في مثلها الجمع، جمع بهم الجمعة. وكذلك إن مر بمدينة من مدائن عمله جمع بهم الجمعة، فإن جمع في قرية لا يجمع فيها أهلها لصغرها فلا تجزئهم، وإنما كان للإمام أن يجمع في القرى التي يجمع مثلها، إذا كانت من عمله وإن كان مسافرًا لأنه إمامهم. ا. هـ. منه. =
تَجِبُ عَلَيْهِ، وبِغَيْرِهَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَبِكَوْنِهِ الخَاطِبَ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَوَجَبَ انْتِظَارُهُ لِعُذْرٍ قَرُبَ عَلَى الْأصَحِّ. وبِخُطْبَتَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مِمَّا تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ خطْبَةً تَحْضُرُهُمَا الجَمَاعَةُ (1). واسْتَقْبَلَهُ غَيْر الصَّفِّ الأوَّلِ، وَفِي وُجُوبِ قِيَامِهِ لَهُمَا
= وقوله: وبكونه الخاطب، أي لابد أن يكون الخاطب هو إمام الصلاة إلا لعذر؛ وذلك لفتوى مالك أيضًا في المدونة: قال ابن القاسم: وبلغنا عن مالك أنه قال إمام خطب بالناس، فلما فرغ من خطبته قدم والٍ سواه فدخل المسجد، قال: لا يصلي بهم بالخطبة الأولى - خطبة الإمام الأول - ولكن يبتدئ لهم الخطبة هذا القادم. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وبخطبتين قبل الصلاة الخ. دليله ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس. متفق عليه.
وذكر ابن قدامة في المغني أنه روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قصرت الصلاة لأجل الخطبة. وقول عائشة نحو من هذا. وقال سعيد بن جبير: كانت الجمعة أربعًا، فجعلت الخطبة مكان الركعتين. ا. هـ. بلفظه.
وقوله: مما تسميه العرب خطبة؛ ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول:"صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ". ويقول: "أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ خيْرَ الحَدِيثِ كَتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ. وَشَرُّ الْأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". رواه بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. وفي رواية له: كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته، وفي رواية له:"مَنْ يَهدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يضْلِل فَلَا هَادِيَ لَهُ". وللنسائي: "وَكُلُّ ضَلَالَهٍ فِي النَّارِ". ا. هـ.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرجُلِ وَقصَرَ خطْبتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ". رواه في بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. أخرجه بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. =
تَرَدُّدٌ. ولَزِمَتْ المُكَلَّفَ الْحُر الذكَرَ بِلَا عُذْرٍ (1)، الْمُتَوَطِّنَ، وإنْ بِقِرْيَةٍ نَائِيَةٍ بِكَفَرْسَخ مِنَ المَنَارِ، كَأنْ أدْرَكَ الْمُسَافِرُ الندَاءَ قَبْلَهُ، أو صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَدِمَ، أوْ بَلغَ أوْ زَالَ عُذْرُه، لَا بالإِقَامَةِ إِلَّا تبعًا، ونُدِبَ تَحْسِينُ هَيْئةٍ وجَمِيلُ ثيابٍ، وَطِيبٌ،
= وقوله: وفي وجوب قيامه لهما تردد؛ دليل وجوب القيام ما تقدم من حديث ابن عمر المتفق عليه: كان يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كَمَا رَأيَتُمُونِي أُصَلِّي".
وعن جابربن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن نبَّأك أنه يخطب جالسًا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. أخرجه بن قدامة وقال: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. ا. هـ. منه.
أما أن يخطب جالسًا لعذر من مرض أو عجز عن القيام فلا باس، فإن الصلاة تصح من القاعد العاجز عن القيام، فالخطبة أولى.
(1)
وقوله: ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر؛ أي فهي واجبة على كل من جمع العقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذر. والمراد بالإقامة التي تجب بها الجمعة أصالة هو الاستيطان، أما الإقامة التي هي موجب لقطع السفر، فإنها تجب بها بالتبع، وذلك هو مراد المصنف بقوله: لا بالإقامة إلا تبعًا.
أما العبد والصبي والمرأة والمجنون فلا جمعة عليهم؛ أما الصبي والمجنون فليست عليهما لأنهما ليسا من أهل التكليف؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ". ومنهم: "الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ وَالْمَجْنُونُ حَتَّى يُفِيقَ".
وأما المملوك والمرأة؛ فلحديث محمد بن كعب عند البغوي. أنه سمع رجلًا من بني وائل يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَجِبُ الْجُمُعَة عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا امْرَأةً أوْ صَبِيًّا أوْ مَمْلُوكًا". ورواه طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد "أوْ مريضًا". وطارق بن شهاب رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا.
وفي المدونة: ابن القاسم: وقال مالك: ليس على النساء والعبيد والمسافرين جمعة. فمن شهدها منهم فليصلها. وروى علي بن زياد عن سفيان عن هارون بن عنترة السعدي، عن شيخ يقال له =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حميد، عن امرأة منهم قالت: جاءنا عبد الله بن مسعود يوم الجمعة ونحن في المسجد فقال: إذا صليتن في بيوتكن فصلين أربعًا، وإذا صليتن في المسجد فصلين ركعتين، وما عام إلا والذي بعده شر منه، ولن تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، ولبئس أنا عبد الله إن أنا كذبت. ا. هـ.
ولا جمعة على المسافر لما رواه وكيع عن إبراهيم بن يزيد عن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال: ليس على المسلمين جمعة في سفرهم ولا يوم نفرهم. ا. هـ.
وقال داود: تجب الجمعة على العبيد. وقال الحسن وقتادة: تجب الجمعة على العبد المخارج؛ يعني المأذون الذي ضرب عليه سيده خراجًا يدفعه له شهريًا ويكون مخلى بينه وبين عمله. وذهب أكثر أهل العلم أن لا جمعة على عبد.
وقوله رحمه الله: وإن بقرية نائية بكفرسخ من المنار؛ يريد به تحديد المسافة التي يجب إتيان الجمعة منها. وقد قالت عائشة: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي. رواه البخاري، وأبو داود. وقولها: ينتابون الجمعة أي يحضرونها نوبًا. والعوالي. جمع عالية: وهو موضع شرقي المدينة المنورة يبعد عنها أربعة اميال. قال القرطبي: وفي هذا الحديث رد على الكوفيين؛ حيث لم يوجبوا الجمعة على من كان خارج المصر. قال: ابن حجر: لو كان واجبًا على أهل العوالي ما تناوبوا ولكانوا يحضرون جميعًا.
وروي عن أنس أنه كان في قصره أحيانًا يجمع وأحيانًا لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.
وقال بعض أهل العلم: لا تجب إلا على من يبلغهم النداء من موضع الجمعة؛ وهو ما يعنيه المؤلف بقوله: بكفرسخ من المنار. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ النِّدَاءَ". أسنده قبيصة، ووقفه جماعة على عبد الله بن عمرو، وهو في أبي داود، وفي سنده مجهولان.
تنبيه: روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أجْزَأهُ عَنِ الجُمُعَةِ، وَإنَّا مُجَمِّعُونَ". أخرجه أبو داود وابن ماجه، والبيهقي وإسناده جيد. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.=
وَمَشْيٌ، وَتهْجِيرٌ (1). وَإِقَامُة أَهْلِ السُّوقِ مُطلقًا بِوقْتِهَا (2). وَسَلَامُ خَطِيب لِخُرُوجِهِ لَا لِصُعُودِهِ (3) وجُلُوسِهِ أَوَّلًا وبَيْنَهُمَا، وتَقْصِيرُهُمَا والثَّانِيَة أَقْصَرُ، وَرَفْعُ صَوْتِهِ (4)، واسْتِخْلَافهُ لِعُذْرٍ حَاضرَهَا، وقِرَاءَةٌ فِيهمَا وخَتْمُ الثانِية بيَغْفِرُ اللهُ لَنَا ولَكُمْ، وَأَجزأَ: اذْكرُوا اللهِ يَذْكُرْكُمْ. وتَوَكُّؤٌ عَلَى قَوْسٍ (5)، وقرَاءَة الجُمُعَةِ وإِنْ لمسْبُوقٍ وَهَلْ أَتَاكَ وأجَازَ بالثانية بسبِّحْ أَوْ المنافقُون (6).
= وروي عن ابن جريج قال: قال عطاء: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فجمعهما جميعًا؛ صلاهما ركعتين بكرة، ولم يزد عليهما حتى صلوا العصر. رواه أبو داود وإسناده صحيح.
وروي أن ابن عباس لما بلغه فعل ابن الزبير فقال: أصاب السنة. أخرجه أبو داود وإسناده قوي.
قلت: والمذهب عند أصحابنا على خلاف ذلك؛ وقد وقفت على الآثار والله الموفق.
(1)
وقوله: وندب تحسين هيئة، وجميل ثياب وطيب ومشي وتهجير، روي عن سلمان الفارسي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغْتَسِل رَجلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّر مَا اسْتَطَاعَ منْ طهْرٍ، وَيَدَّهِن مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَلَا يُفَرقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلي مَا كتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأخْرَى". رواه البغوي وقال: حديث صحيح.
وروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اغْتَسَلَ وَأَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَه ثُمَّ أُنْصَتَ حَتَّى فَرَغَ الإمَامُ مِنْ خطْبَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَعَهُ، غفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعُة الأخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ". قال البغوي هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أمية بن بسطام.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، واسْتَنَّ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ عِندهُ، وَلَبِسَ مِنْ أحَسَنِ ثِيَابِه، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأَتِيَ المَسْجِدَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ الناسِ، ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ الله أَنْ يَرْكَعَ، وَأَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الإمَامُ، كَانَتْ كَفَّارَةً مَا بَيْنَهَا وبيْنَ الْجُمُعَةِ التِي كَانَت قَبْلَهَا". وقال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، لأن الله تعالى يقول:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} .
(1)
هذا لفظ البغوي والحديث أخرجه أبو داود في الطهارة؛ باب في غسل الجمعة. وأخرجه الإمام أحمد. وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(1)
سورة الأنعام: 160.
. . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: وإقامة أهل السوق مطلقًا بوقتها، هو لفتوى مالك في المدونة: قال مالك: وإذا أذن المؤذن وقعد الإمام على المنبر، منع الناس من البيع والشراء؛ الرجال والنساء والعبيد. ا. هـ. منه.
وفيها أيضًا: وروى ابن وهب عن ابن أبي ذئب أن عمر بن عبد العزيز كان يمنع الناس من البيع إذا نودي للصلاة يوم الجمعة. وروى ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال: يحرم النداء بالبيع حين يخرج الإمام يوم الجمعة. وعن ابن وهب: قال ذلك عطاء بن أبي رباح وزيد بن أسلم. ا. هـ. منه.
ملحوظة: وقوله قبل: ومَشْيٌ: أي ومن المستحب المشي إلى الجمعة وأن لا يركب؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يركب في عيد ولاجنازة، والجمعة في معناهما، وإنما لم يذكرها لأن باب النبي صلى الله عليه وسلم كان شارعًا في المسجد يخرج منه إليه فلا يحتمل الركوب، ووجه الاستحباب لأن الثواب على الخطوات بسكينة ووقار في حال مشيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ فَامْشوا وَعَلَيْكمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ولَا تُسْرِعُوا". ولأن الماشي إلى الصلاة في صلاة، ولا يشبك بين أصابعه، وليقارب بين خطاه لتكثر حسناته. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه زيد بن ثابت إلى الصلاة، فقارب بين خطاه، ثم قال:"إنمَا فَعَلْتُ لَتَكْثُرَ خُطَانَا إلَى الصَّلَاةِ". وروي عن بعض الصحابة أنه مشى إلى الجمعة حافيًا، فقيل له في ذلك فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنِ اغْبَرتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ حَرمَهُمَا اللهُ عَلَى النَّارِ". ا. هـ. ابن قدامة في المغني.
وأما قوله: وتهجير، أي ويستحب الخروج إلى الجمعة وقت الهاجرة أي بعد زوال الشمس؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ" والرواح لا يكون إلا بعد الزوال؛ والغدو قبله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"غدْوَة فِي سَبِيلِ اللهِ وَرَوْحَةٌ خَيْر مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا". وقال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلهِمْ الْأوَّلَ فَالْأوَّلَ، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ طوِيتِ الصُّحُفُ، وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ، وَالْمُهَجَّرُ إلَى الصَّلَاةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقرَةً، ثُمْ الَّذِي يَلِيهِ=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كَالْمُهْدِي كَبْشًا". حتى ذكر الدجاجة والبيضة. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه. أخرجاه من طرق عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة عن أبي هريرة. ا. هـ.
قلت: ولفظ هذا الحديث المتفق عليه نص في محل الخلاف في تفسير الساعات بأنها ساعات لطيفة بعد الزوال، ولا يراد بها حقيقة الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث:"وَالْمُهَجِّرُ إلَى الصَّلَاةِ". الحديث. والله الموفق.
(3)
وقوله: وسلام خطيب لخروجه لا لصعوده؛ أي لا يندب سلامه عند انتهاء صعوده على المنبر فيكره ولا يجب رده، هكذا يقول شراح المختصر هنا، واعتمادهم في ذلك على فتوى المدونة: وسألت مالكًا إذا صعد الإمام المنبر يوم الجمعة. هل يسلم على الناس؟. قال: لا، وأنكر ذلك. ا. هـ. منه.
غير أننا روينا خلاف ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم. رواه البغوي، وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، وفيه ابن لهيعة. وفي مصنف عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس فقال: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ". وروى أيضًا عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن أبي أسامة أنه سمع مجالدًا يحدث عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل على الناس على الناس بوجهه وقال: (السَّلَامُ عَلَيْكُمُ). قال: فكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج البيهقي تسليم الإمام إذا صعد المنبر، عن جابر بن عبد الله وابن عمر مرفوعًا، ثم قال: وروي في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز. ا. هـ. وبالله التوفيق.
(4)
وقوله وجلوسه أولًا وبينهما وتقصيرهما، والثانية أقصر ورفع صوته؛ كل ذلك قد تقدم الكلام عليه عند قول المصنف: وبخطبتين قبل الصلاة. الخ.
وقوله: وقراءة فيهما؛ أخرج البغوي بلفظه عن صفوان بن يعلي بن أمية عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} الآيات من الزخرف. قال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البغوي: هذا حديث متفق عليه. وقد تقدم حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان: قالت: ما أخذت: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وروي عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقرأ: {صَ} فلما مر بالسجدة نزل فسجد. ا. هـ.
وقوله: وختم الثانية بيغفر الله لنا ولكم. الخ؛ هو أيضًا لفتوى المدونة قال: وسمعته يقول: من سنة الإمام ومن شأن الإمام أن يقول إذا فرغ من خطبته: يغفر الله لنا ولكم. قلت: يا أبا عبد الله فإن الأئمة اليوم يقولون: اذكروا الله يذكركم. قال: وهذا حسن. وكأني رأيته يرى الأول أصوب. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وتوكؤ على قوس؛ هو أولًا لما في المدونة: قال ابن شهاب: وكان إذا قام أخذ عصا، فتوكأ عليها وهو قائم على المنبر، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك. وروى ابن وهب: وقال مالك: وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة، ومعهم العصي يتوكؤون عليها في قيامهم، وهو الذي رأينا وسمعنا. ا. هـ. منه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادًا. أخرجه الشافعي في الأم، ورواه في مسنده من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج. قال: قلت لعطاء: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على عصا إذا خطب؟. قال: نعم، كان يعتمد عليها اعتمادًا. ا. هـ. المعلق على شرح السنة.
(6)
وقوله: وقراءة الجمعة وإن لمسبوق وهل أتاك، وأجاز الثانية بسبح والمنافقون؛ دليل ذلك ما أخرجه البغوي بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان بن الحكم استخلف أبا هريرة على المدينة، فصلى بهم أبو هريرة الجمعة، فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال عبيد "الله: فلما انصرف أبو هريرة مشيت إلى جنبه فقلت له: لقد قرأت سورتين، سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة. فقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما. ا. هـ. قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن قتيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر.
وعن عببد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟. قال: كان يقرأ بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . =
وَحُضُورُ مُكَاتَبٍ وَصَبِيٍّ وعَبْدٍ ومُدَبرٍ أَذِنَ سَيِّدُهُمَا. وأَخَّرَ الظُّهْر رَاجٍ زَوَالَ عُذْرِهِ وإِلَّا فَلَهُ التَّعْجِيلُ، وَغَيْرُ المَعْذُورِ إِنْ صَلَّى الظُّهْرَ مُدْرِكًا لِرَكْعَةٍ لَمْ يُجْزِهِ. ولَا يجْمَع الظُّهْرَ إِلَّا ذو عُذرٍ،
وهذا الحديث أخرجه البغوي ومسلم، وأخرجه النسائي، وأبو داود، وابن ماجه، وهو حديث صحيح.
وفي سنن الدارمي: أخبرنا خالد بن مخلد، ثنا مالك عن ضمرة عن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟. قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
وفيه أيضًا: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن إبراهيم عن محمد بن المنتشر عن أبيه، عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين أو الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا فقرأ بهما. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن لمسبوق؛ هو لما في المدونة: وقال مالك في رجل فاتته ركعة من صلاة الجمعة فقال: أحب إِلي إذا قام يقضي أن يقرأ فيها سورة الجمعة، من غير أن يرى ذلك واجبًا عليه. ا. هـ.
واسْتُئذِنَ إِمَامٌ ووجَبَتْ إِنْ مَنَعَ وَأَمِنُوا وإِلَّا لَمْ تُجْزِ. وسُنَّ غَسْلٌ مُتصِلٌ بالرواحِ ولَوْ لَمْ تلزَمْهُ وأَعَادَ إنْ تَغَذَّى أَوْ نَامَ اخْتِيَارًا لا لأكْل خَفَّ (1)، وجَازَ تَخَطٍّ قَبْلَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ (2)، واحْتِبَاءٌ فيها، وَكَلَامٌ بَعْدَهَا لِلصَّلَاةِ (3)، وخُرُوجُ كمحْدِثٍ بِلَا
(1)
وقوله: وسن غسل متصل بالرواح؛ فقد تقدم ذكر الأحاديث الواردة في الغسل عند قول المؤلف: وندب تحسين هيثته. وأما قوله: متصل بالرواح، فهو لما في المدونة: وقال مالك فيمن اغتسل يوم الجمعة - للجمعه غداة - ثم غدا إلى المسجد - وذلك رواحه - ثم انتقض وضوؤه قال: يخرج ويتوضأ ويرجع ولا ينتقض غسله. قال مالك: وإن هو اغتسل للرواح للجمعة ثم تغدى أونام، فليعد الغسل حتى يكون غسله متصلًا بالرواح. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن لم تلزمه؛ هو لقول مالك أيضًا في المدونة: ليس على العبيد ولا على النساء ولا على الصبيان جمعة، فمن شهدها منهم فليغتسل. ا. هـ.
(2)
وقوله: وجاز تخط قبل جلوس الخطيب؛ قال مالك في المدونة: إنما يكره التخطي إذا خرج الإمام وقعد على المنبر، فمن تخطى حينئذ فهو الذي جاء فيه الحديث، فأما قبل ذلك فلا بأس به إذا كان بين يديه فرج، وليترفق في ذلك. ا. هـ.
وروى ابن وهب عن ابن لهيعة أن أبا النضر حدثه عن بشر بن سعد أنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فأقبل يتخطى رقاب الناس حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه ثم جلس، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، التفت صلى الله عليه وسلم إليه فقال:"أشَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟.! فقال: نعم، أو لم ترني حين سلمت عليك؟. قال: "رَأَيْتُكَ تَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخر صنع مثل ذلك: "مَا صَلَّيْتَ وَلكِنَّكَ آنَيْتَ وَآذَيْتَ". قال سحنون: يريد أبطات وآذيت الناس. ا. هـ. المدونة.
وأخرج البغوي الحديث الأخير في شرح السنة عن عبد الله بن بسر، وقال من علق عليه: رواه أبو داود في الصلاة؛ باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة. والنسائي؛ في الجمعة. وإسناده حسن. ورواه ابن ماجه في إقامة الصلاة من حديث جابر، وإسناده ضعيف. ا. هـ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقول المؤلف قبل: ولا يجمع الظهر إلا ذو عذر؛ هو لما أفتى به مالك في المدونة: وقال مالك في قوم أتوا الجمعة ففاتتهم؛ أترى أن يجمعوا الظهر أربعًا في مسجد سوى مسجد الجماعة؟. قال: لا، ويصلون أفذاذًا. وقال مالك: يجمع الصلاة يوم الجمعة أهل السجون والمسافرون، ومن لا تجب عليهم الجمعة يصلي بهم أمامهم الظهر أربعًا، ومن تجب عليهم الجمعة لا يجمعونها ظهرًا إذا فاتتهم. ا. هـ.
قلت: هذا فيمن فرط في الجمعة، يمكن أن توجد له وجهة من النظر، فما بال من لم يفرط في الجمعة؟. والقول بوجوب الجماعة له وزنه من جهة الاعتبار. والله أعلم. وهو ولي التوفيق.
(3)
وقوله: واحتباء فيها، وكلام بعدها للصلاة؛ قال مالك في المدونة: ولا بأس بالاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب. ا. هـ. لكنه أخرج البغوي في السنة عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب. قال البغوي: وهذا حديث حسن.
قلت: وهو في الترمذي؛ باب ما جاء في كراهة الاحتباء والإمام يخطب. وأخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب الاحتباء والإمام يخطب. وأخرجه البيهقي.
غير أن البغوي في شرح السنة أخرج ما يشهد لما روي عن الإمام في المدونة، قال: قال يعلي بن شداد بن أوس: شهدت مع معاوية بيت المقدس، فجمع بنا، فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيتهم محتبين والإمام يخطب. قال المعلق: أخرجه أبو داود في الصلاة؛ باب الاحتباء والإِمام يخطب.
وفي سنده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان، وهو لين الحديث. ا. هـ. والله الموفق.
وقوله: وكلام بعدها للصلاة. قال في المدونة: وقال مالك: لا بأس بالكلام بعد نزول الإمام من الفبر إلى أن يفتتح الصلاة. وروى ابن وهب عن جرير بن حازم، عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر يوم الجمعة فيكلمه الرجل في الحاجة فيكلمه، ثم يتقدم إلى الصلاة فيصلي. والله الموفق.
وقوله: وخروجه كمحدث بلا إذن؛ هو لفتوى مالك في المدونة.
إِذْنٍ. وإقْبَالٌ على ذِكْر قَلَّ سِرًّا كتأْمِين وتَعَوُّذٍ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ؛ كَحَمْدِ عَاطِسٍ (1)، ونَهْيُ خَطِيبٍ أَو أَمْرُهُ، وإِجَابَتُه (2)، وكُرِهَ تَرْكُ طُهْرٍ فيهِمَا، والْعَمَل يومَهَا، وبَيْعُ كَعَبْدٍ بِسُوقٍ وقْتَهَا (3)، وَتَنَفُّلُ إِمَام قَبْلَهَا أَو جَالِسٍ عِنْدَ الأَذَانِ، وحُضُورُ شابَّةٍ، وسَفَرٌ بَعْدَ الْفَجْرِ، وجَاز قَبْلَهُ، وحَرُمَ بِالزَّوالِ (4)، كَكَلَامٍ في
(1)
وقوله: وإقبال على ذكر قل سرًا الخ. قال في المدونة: وسألنا مالكًا عن الرجل يقبل على الذكر والإمام يخطب. قال: إن كان شيئًا خفيفًا سرًا في نفسه فلا بأس به. قال: وأحب إلي أن ينصت ويسمع. ا. هـ.
وقوله: كتأمين وتعوذ عند ذكر السبب كحمد عاطس؛ قال في المدونة: وقال مالك فيمن عطس والإمام يخطب يوم الجمعة، فقال: يحمد الله في نفسه سرًا. وقال: لا يشمت أحد العاطس والإمام يخطب يوم الجمعة. ا. هـ.
قال البغوي في شرح السنة: واختلفوا في رد السلام، وتشميت العاطس حالة الخطبة؛ فرخص فيه بعضهم وهو قول أحمد، وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعي، وكرهه بعضهم من التابعين وغيرهم، وهو قول سعيد بن المسيب. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ونهي خطيب أو أمره وإجابته؛ قال في المدونة: وقال مالك في الإمام يريد أن يأمر الناس يوم الجمعة، وهو على المنبر في خطبته بالأمر ينهاهم عنه ويأمرهم به، قال: لا بأس بذلك ولا تراه لاغيًا. قال: ولقد استشارني بعض الولاة في ذلك فأشرت عليه به. قال ابن القاسم: وكل من كلمه الإمام فرد عليه فلا أراه لاغيًا. ا. هـ. منه.
وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له:"أصَلَّيْتَ "؟. فقال: لا. قال: "فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". قال البغوي: هذا حديث متفق عليه. ا. هـ. والله الموفق.
(3)
وقوله: وكره ترك طهر فيهما؛ قال في المدونة: قال مالك في الإمام يخطب يوم الجمعة، فيحدث بين ظهراني خطبته؛ أنه يأمر رجلًا يتم بهم الخطبة، ويصلي بهم - إلى أن قال: وقال مالك: ولا يتم هو بهم بقية الخطبة وهو محدث.
قلت: والله أعلم بمدرك حمل النهي هنا على الكراهة، وهو الموفق.
خُطْبَتَيْهِ بِقيامِهِ وبَينهمَا وَلَوْ لِغَيْرِ سَامِعٍ (1) إِلَّا أَنْ يَلْغُوَ عَلى المخْتَار، وَكَسَلَامٍ ورَدِّهِ ونَهْيِ لَاغٍ وحَصْبِهِ أَوْ إِشَارَةٍ له، وابتداءِ صَلَاةٍ بِخُروجه وإِن لِدَاخِلٍ ولَا يَقْطَعُ إِنْ
= وقوله: والعمل يومها؛ قال في المدونة: قال مالك: وبلغني أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون أن يترك الرجل العمل يوم الجمعة، كما تركت اليهود والنصارى العمل في السبت والأحد. ا. هـ.
وقوله: وبيع كعبد بسوق وقتها؛ قال في المدونة: وكره مالك للمرأة والعبد والصبي، ومن لا تجب عليهم الجمعة، البيع والشراء في تلك الساعة من أهل الإسلام. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وسفر بعد الفجر، وجاز قبله، وحرم للزوال؛ قال البغوي في شرح السنة: وكل من تلزمه الجمعة لا يجوز له أن يسافر بعد الزوال؛ قبل أن يصلي الجمعة، وإن سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر؛ فلا بأس، غير أنه يكره، إلا أن يكون سفره سفر طاعة من غزو أو حج فالأولى أن يخرج؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه وقال: اتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم. فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم رآه، فقال:"مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ"؟. قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال:"لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأرْضِ مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتهِمْ". وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أحمد والبيهقي، وفيه حجاج بن أرطاة مدلس. وقد رواه بالعنعنة. وله شاهد بمعناه عند ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق ابن لهيعة. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة.
وقال البغوي في شرح السنة: وروي أن عمر بن الخطاب سمع رجلًا عليه هيئة السفر يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت، فقال عمر: أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. ا. هـ. قال المعلق عليه: أخرجه الشافعي في مسنده 1/ 154. أخبرنا سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس عن أبيه. فذكره. ورجاله ثقات وسنده قوي. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ككلام في خطبتيه بقيامه وبينهما ولو لغير سامع، الكاف هنا للتشبيه على التحريم، وهو كذلك، فإن الكلام أثناء خطبة الجمعة حرام، لدلالة الكتاب والسنة: قال تعالى في سورة =
دَخَلَ (1) وَفُسِخَ بَيْعٌ وإِجَارَةٌ وَتَوْليَةٌ وَشِرْكَةٌ وإِقَالَةٌ وَشفْعَةٌ بِأَذَانٍ ثانٍ (2)، فإِنْ فَاتَ فالْقِيمَةُ حِينَ الْقَبْضِ، كالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. لَا نِكَاحٌ وهِبَةٌ وصَدَقَةٌ، وَعُذْرُ تَرْكِهَا
الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الآية، أي اسكتوا سكوت المستمعين. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنصِتْ، وَالإمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ لَغَوْتَ".
قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته، أخرجاه من طرق عن أبي هريرة. ويروى:"قَدْ لَغَوْتَ" و"قَدْ لَغَيْتَ" يقال: لَغَا يَلْغُو، وَلَغِيَ يَلْغَى.
وقال عثمان بن عفان: إذا جلس الإمام فاستمعوا وأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الأجر ما للمنصت السامع. ا. هـ. وهو مراد المؤلف بقوله: ولو لغير سامع؟ قال البغوي: اتفق أهل العلم على كراهة الكلام والإمام يخطب، وإن تكلم غيره فلا ينكر إلا بالإشارة. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا أن يلغو على المختار، يفيد به أن اختيار اللخمي من الخلاف؛ إن الإمام إذا لغا في خطبته بمدح من لا يستحق المدح، أو ذم من لا يستحق، ونحو ذلك مما هو أجنبي على الخطبة الشرعية، رفع الحرج عن الكلام أثناء خطبته، وأنا أرجع العلم في ذلك إلى الله تعالى. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وقوله: وابتداء صلاة بخروجه وإن لداخل ولا يقطع إن دخل؛ هو لما في المدونة: وقال مالك فيمن افتتح الصلاة يوم الجمعة، فلم يركع حتى خرج الإمام فليجلس ولا يركع، وإن دخل فخرج الإمام قبل أن يفتتح هو الصلاة فليقعد ولا يصل - إلى أن قال: وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي أنه كره الصلاة يوم الجمعة والإمام يخطب. ا. هـ. منه.
قلت: هذه الفتوى في المدونة تتعارض مع ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا دَخَلَ أحَدُكمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ". وقد تقدم الكلام على ذلك عند قول المصنف: ومنع نفل وقت طلوع شمس وغروبها وخطبة جمعة، ولأهمية الموضوع نزيد هنا ما يسر الله فنقول وبالله التوفيق وعليه التكلان: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأثر الذي استدل به في المدونة موقوف على عليٍّ رضي الله عنه، فلا يعارض به ما أخرجه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له:"أصَلَّيْتَ "؟. قال: لا. قال: "فَصَل رَكْعَتَيْنَ". وما تفرد به مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة وهو يخطب، فجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذَا جَاءَ أحَدُكمُ الْجُمُعَةَ وَالإِمَامُ يَخْطبُ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ لْيَجْلِسْ". فهذان الحديثان دليل واضح على أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه" إِذَا دَخَلَ أَحدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ". يشمل ما لو دخل والإمام على المنبر، دخل في الخطبة أو لم يدخل فيها، ولا يعارض مثل هذه الأحاديث بقوله صلى الله عليه وسلم لمن رآه يتخطى رقاب الناس "اجْلِسْ فَقَدْ آنَيْتَ وَآذَيْتَ". لأنه قضية في عين، ويتطرقه الاحتمال بكون الموضع لا يتسع للصلاة، أو بكونه جاء في آخر لحظة، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم "فَقَدْ آنَيْتَ". والأقرب من الاحتمالين أنه جاء في آخر لحظة بحيث أنه إذا تشاغل بالركوع فاته أول صلاة الفرض، ومعلوم أن وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال فسقط بها الاستدلال.
نعم، تنقطع بدخول الإمام صلاة التطوع، فبمجرد جلوسه على المنبر امتنع أن يصلي غير الداخل، فعليه أن يصلي ركعتين يتجوز فيهما. وبالله التوفيق.
(2)
وقوله: وفسخ بيع وإجارة وتولية وشركة وإقالة وشفعة بأذان ثان؛ فيه مبحثان، كل منهما يحتاج إلى الاستدلال عليه؛ أولهما قوله: بأذان ثان، لقد كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات؛ يؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وكان كذلك على عهد أبي بكر وعمر وعلي بالكوفة، ثم زاد عثمان لما كثر الناس أذانًا ثالثًا على داره التي تسمى بالزوراء، وكان يؤذن بهذا الأذان أول الوقت عند الزوال، وسمي ثالثًا باعتبار كونه مزيدًا على الأذان بين يدي الإمام والإقامة للصلاة، فهو أول باعتبار الوجود وثالث باعتبار مشروعية عثمان له باجتهاده، وموافقة الصحابة له لعدم إنكارهم عليه، فإذا سمع الناس هذا الأذان أقبلوا، حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يخطب عثمان. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي سنن ابن ماجه من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد إذا خرج أذن وإذا نزل أقام، وأبو بكر وعمر كذلك، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، فإذا خرج أذن وإذا نزل أقام. خرجه البخاري بطرق بمعناه. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد؛ ليقوم الناس من بيوعهم فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قاله ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثًا لأنه أضافه إلى الإقامة، ويتوهم الناس أنه أذان أصلي، فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهمًا، ثم جمعوهم في وقت واحد، فكان وهما على وهم، قلت: ولقد شاع العمل بهذه البدعة في جل مساجد المغرب العربي وغرب افريقيا، حتى أصبح من المستحيل إقناع أهلها بعدم شرعية ذلك، وما شعر هؤلاء أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها. فلله در من رجع إلى الحق وتمسك به واستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. ا. هـ. ملخصًا من القرطبي.
المبحث الثاني هو فيما ذكره المصنف من فسخ هذه العقود وقت النداء؛ والمذهب عندنا أن وقت النهي هو وقت النداء، وأنه تفسخ عنده جميع العقود الواقعة فيه، قالوا: إلا العتق والنكاح والطلاق والهبة والصدقة؛ لما يترتب على الفسخ لها من ضرر، ولأن عادة الناس لم تجر باشتغال الناس بها كاشتغالها بالبيع. قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح فسخ الجميع؛ لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به، فكل أمر يشغل عن الجمعة من جميع العقود هو حرام شرعًا مفسوخ ردعًا، والدليل على ذلك من جهة النقل قوله صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ عَمَل لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". أي مردود.
ومن جهة الاستدلال هو علة النهي عن البيع وقت النداء؛ هي أن البيع يفوت الاشتغال به صلاة الجمعة، وهو نوع من أنواع مسلك الإيماء وعبر عنه القرافي في تنقيح الفصول بقوله: أو ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه. ثم في شرح هذه الجملة ما نصه: ومثال النهي عن الفعل الذي يمنع ما تقدم وجوله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . فهذا وجوب للجمعة، فقوله تعالى بعد ذلك:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} نهي عن البيع؛ لأنه يمنع من فعل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الجمعة بالتشاغل بالبيع، فيكون هذا إيماء لأن العلة في تحريم البيع هي التشاغل عن الجمعة وقد عقد شيخ مشائخنا مسلك الإيماء في مراقي السعود بقوله:
والثالث الإيما اقتران الوصف
…
بالحكم ملفوظين دون خُلْف
وذلك الوصف أو النظير
…
قرانه لغيرها يضير
كما إذا سمع وصفًا فحكم
…
وذكره في الحكم وصفًا قد ألَم
إن لم يكن علته لم يفد
…
ومنعه مما يفيت استقد
ترتيبه الحكم عليه واتضح
…
تفريق حكمين بحكم المصطلح
أو غاية شرط أو استثناء
…
تناسب الوصف على البناء
..... ا. هـ.
ومحل الشاهد هنا منها هو قوله في أول الشطر الثاني من البيت الرابع: ومنعه مما يفيت؛ أي منع الشارع المكلف من فعل يحصل به تفويت فعل آخر مطلوب منه. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
والجَمَاعَةِ شِدَّةُ (1) وَحَلٍ ومَطَرٍ، أوْ جُذَامٌ ومَرَضٌ وتَمْرِيضٌ وإِشْرَافُ قريبٍ ونَحْوِه. وخَوْفٌ عَلَى مَالٍ أَوْ حَبْس أَوْضَرْب والأَظْهَرُ وَالأَصَحُّ أَوْ حَبْسُ مُعْسِير، وعُرْيٌ ورَجَاءُ عَفْوِ قَوَدٍ وأَكْلُ كَثوُمٍ كريحٍ عَاصِفَةٍ بَليلٍ لَا عِرْسٍ أَوْ عَميً أَوْ شهُودُ عِيدٍ وإِن أَذن الإمَامُ.
(1)
وقوله: وعذر تركها والجماعة الخ. قال البغوي رحمه الله: أما ترك الجمعة لعذر فجائز بالاتفاق، فقد دعا ابن عمر لسعيد بن زيد وهو يموت - وابن عمر يستجمر للجمعة - فأتاه وترك الجمعة. ا. هـ. أخرجه الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذئب قال: دعي ابن عمر .. الحديث وهذا سنده صحيح. ا. هـ.
وقال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: "أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ" فلا تقل: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قل: صلُّوا في بيوتكم. وقال: إن الجمعة عزيمة، فإني كرهت أن أُحَرجَكُم، فتمشوا في الطين والدحض. وهذا الحديث كما أخرجه البغوي في شرح السنة، رواه البخاري في صلاة الجمعة؛ باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟. وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟. ورواه في الأذان؛ باب الكلام في الأذان. ورواه مسلم في صلاة المسافرين؛ باب الصلاة في الرحال، ولفظه عن عبد الله بن الحارث قال: خطبنا ابن عباس في يوم ذي ردغ، فأمر المؤذن لما بلغ "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ". قال: قل: الصلاة في الرحال. فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا. فقال: كأنكم أنكرتم هذا، إن هذا فعله من هو خير مني. إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض.
وفي تفسير القرطبي أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف يومًا عن الجمعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا مَنَعَكَ أَنَّ تَحْضُرَ الصَّلَاةَ". أوكما قال صلى الله عليه وسلم؟. فقال: إن فلانًا اليهودي يطالبني بكذا، وبلغني أنه يترصدني فكرهت أن يحبسني. فقال له صلى الله عليه وسلم:"أَتُحِب أَنْ أعَلِّمَكَ دَعَاءً إذَا دَعَوْتَ بِهِ قَضَى اللهُ عَنْكَ الدَّيْنَ؟. قال: نعم. قال: قل: قُلِ اللَّهُم مَالِكَ الْمُلْكِ تُوتي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتنزِعُ المُلْكَ مِمنْ تَشَاءُ وَتُعِز مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنكَ عَلَى كل شَئٍ قَدِيرٌ، رَحْمنَ السَّموَاتِ وَالْأرْضِ وَرَحِيمهُمَا تُعْطي مِنْهُمَا مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ اقْضِ عَنِّي دَيْنِي". ا. هـ. والله الموفق.
صلاة الخوف
(1)
فصل:
رُخِّصَ لِقِتَالٍ جَائِزٍ أمْكَنَ تَرْكُهُ لِبَعْض قَسْمُهُمْ وإِنْ وِجَاهَ الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى دَوابِّهِمْ قِسْمَيْنِ. وعَلَّمَهُمْ وصَلَّى بِأَذَانٍ وإِقَامَةٍ بالأولى في الثُّنَائِيَّةِ رَكْعَةً وإِلَّا فَرَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ سَاكِتًا أَوْ دَاعِيًا أَوْ قَارِئًا في الثُّنَائِية، وَفِي قِيَامِهِ بغَيْرهَا تَرَدُّدٌ، وَأَتَمَّتِ الُأولى
(1)
صلاة الخوف دليلها الكتاب والسنة وإجماع الصحابة؛ أما الكتاب فهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} سورة النساء: 102.
وقد أخذ بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الإمام أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه، والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه، وابن علية، وحكي عن المزني صاحب الشافعي، وهم محجوجون بإجماع الصحابة على فعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كَمَا رَايتُمُوني أُصَلِّي". فإن عموم منطوقه مقدم على ذلك المفهوم. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة.
وأما الدليل من السنة؛ فهو ما رواه سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا، فقاموا في مقام أولئك، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعه أخرى، ثم سلم عليهم، فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم. أخرجه البغوي وقال: متفق عليه.
وَانصَرفَتْ. ثمَ صَلَّى بالثَّانيةِ ما بَقِيَ وسَلَّمَ فأَتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ (1) وَلَوْ صَلَّوْا بإِمَامَيْنِ أَوْ بَعْضٌ فَذًّا جَازَ، وإِن لَمْ يُمْكِنْ أَخَّرُوا لِآخِرِ الاخْتِيَاريِّ وصَلَّوْا إِيماءً كأَنْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ بِهَا، وحَلَّ للضَّرورَةِ مَشْيٌ ورَكْضٌ وَطَعْنٌ وَعَدَمُ تَوَجُّهٍ وكَلَامٌ وإِمْسَاكُ مُلَطَّخٍ (2)، وإِنْ أَمنُوا بِهَا أُتِمَّتْ صَلَاةَ أَمْنِ. وَبَعْدَهَا لَا إعَادَةَ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِهِ
(1)
وقول المؤلف: قَسْمهم وإن وِجاهَ القبلة - إلى قوله - فأتموا لأنفسهم؛ هو لحديث يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف. قال البغوي: وهذا حديث متفق على صحته.
وفي أبي داود: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام وطائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة للعدو، فيركع الإمام ركعة، ويسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم سلموا وانصرفوا والإمام قائم، فكانوا وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا، فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم ويسجد بهم، ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون. قال أبو داود: وأما رواية يحيى بن سعيد عن القاسم فهي نحو رواية يزيد بن رومان إلا أنه خالفه في السلام. ورواية عبيد الله بنحو رواية يحيى بن سعيد قال: ويثبت قائمًا. ا. هـ.
(2)
وقوله: كأن دهمهم عدو الخ. أي وذلك لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}
(1)
. سورة البقرة: 239. فإن صلاة الخوف أنواع تختلف باختلاف العدو؛ إحداهما مثل هذه؛ أن يكون في حالة القتال، يصلون بالإيماء إلى أي جهة كانت رجالًا أو ركبانًا، وكذلك كل من خاف من عدو، أو سبع، أو حريق، أو سيل، فهرب وصلى في حالة الهرب بالإيماء يجوز، ومن خرج في طلب عدو فلا=
(1)
سورة البقرة: 239.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يصلي صلاة الخوف عند عامة العلماء، لكنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت إنى أخشى أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة. فانطلقت أمشي وأنا أصلي؛ أوميء إيماء نحوه. فهو يدل على أن طالب العدو يصلي صلاة الخوف، والحديث في شرح السنة ومسند الإمام أحمد وأبي داود. ا. هـ.
وقوله وإن أمنوا أتمت صلاة أمن؛ يريد به أنه إن حصل الأمن أثناء الصلاة. وهو بمحض الاجتهاد. والله تعالى أعلم.
ومن صلاة الخوف ما إذا كان العدو ماكثين في معسكرهم، في غير ناحية القبلة، فيجعل الإمام القوم فرقتين؛ فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع - ثم اختلفت الرواية في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى سهل بن أبي حثمة أنه ثبت جالسًا حتى أتموا صلاتهم وسلم بهم، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
ويلاحظ من قول المؤلف: صلى بالثانية ما بقي وسلم فاتموا، أنه مشى على ما جاء في حديث القاسم، وصرح في المدونة أن مالكًا رجع إلى العمل به بعدما كان العمل عنده على حديث يزيد بن رومان، تأمل.
وذهب أصحاب الرأي إلى الأخذ برواية عبد الله بن عمر؛ أن الإمام بعد ما قام إلى الركعة الثانية، تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو، وتأتي الطائفة الثانية، فيصلي بهم الركعة الثانية ويسلم، وهم لا يسلمون، بل يذهبون إلى وجاه العدو، وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها، ثم تعود الثانية فتتم صلاتها. والحقيقة أن الرواتين كلاهما صحيحة، غير أن رواية القاسم بن محمد التي يرويها بسنده إلى سهل بن أبي حثمة أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة، وأبلغ في حراسة العدو؛ وذلك أن الله تعالى يقول:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} أي إذا صلوا، ثم قال:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} . فهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وقال:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ومقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة لا بعضها. إن ظاهر القرآن - كما علمت - يدل على أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة، وهو الاحتياط لأمر الصلاة من حيث تقليل العمل فيها، والذهاب والمجيء. ا. هـ. انظر البغوي.
عَدُوًّا فَظَهَرَ نَفْيُهُ (1)، وإن سَهَا مَعَ الأُولى سَجَدَتْ بَعْدَ كَمَالِهَا وإلَّا سَجَدَتْ الْقَبْلِيَّ
= علمًا بأنه قيل: إن حديث ابن عمر منسوخ بحديث سهل بن أبي حثمة. والله تعالى أعلم. وهناك رواية تقول: يصلي بكل طائفة ركعتين. ودليلها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، فكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين - وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة - فأخذ سيف النبي صلى الله عليه وسلم، فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟. قال: "لَا". قال: فمن يمنعك مني؟. قال: "اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ". قال: فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فغمد السيف وعلقه. قال: فنودي بالصلاة، قال: فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان. ا. هـ. قال البغوي: وهذا حديث متفق عليه.
وهناك صفة أخرى فيما إذا كان العدو من ناحية القبلة، فإن الإمام يصلي بهم جميعًا. ودليل ذلك حديث أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفَانَ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لوحملنا عليهم وهم في الصلاة. فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر. فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة - والمشركون أمامه - فصف خلف رسول الله صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركعوا جميعًا. ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين قاموا وسجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعًا، فسلم عليهم جميعًا، فصلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم. ا. هـ. قال البغوي: وهذا حديث صحيح رواه مسلم من حديث جابر. ا. هـ.
(1)
وقول المؤلف: وبعدها لا إعادة الخ؛ هو لفتوى مالك في المدونة: قلت: فإن انكشف الخوف عنهم وهم في الوقت؟ قال: لا إعادة عليهم. ا. هـ.
مَعَهُ والبَعْدِيِّ بَعْدَ القضاءِ (1)، وإن صلى في ثلاثية أو رُبَاعِيَّةٍ بكل رَكْعَةً بَطَلَتْ الأولى والثالثة في الرُّبَاعِيةِ كغيرهما عَلى الأرْجَحِ وصُحِّحَ خِلَافُهُ.
(1)
وقوله: وإن سها مع الأولى الخ. هو لفتوى المدونة أيضًا؛ قلت لابن القاسم: أرأيت إن سها الإمام في صلاة الخوف أول صلاته، كيف تصنع الطائفة الأولى والثانية؟. قال. تصلي الطائفة الأولى مع الإمام ركعة، ويثبت الإمام قائمًا، فإذا صلت هي لنفسها بقية صلاتها سجدوا للسهو، فإن كان نقصانًا سجدوا قبل السلام ثم يسلمون، وإن كان زيادة سلموا ثم سجدوا، فإذا جاءت الطائفة الثانية، صلوا مع الإمام الركعة التي بقيت للإمام، ثم يثبت الإمام جالسًا ويقومون هم فيتمون لأنفسهم، فإذا فرغوا سجد بهم الإمام للسهو، قلت: وهذا قول مالك؟. قال: هذا تفسير حديث يزيد بن رومان، الذي كان يأخذ به مالك أولًا، ثم رجع إلى حديث القاسم فقال: هو أحب إليَّ. ا. هـ.
هذا ما تيسر من أدلة صلاة الخوف. والله الموفق.
صلاة العيد
(1)
فصل:
سُنَّ لِعِيدٍ رَكْعَتَانِ (2) لَمَأْمُورِ الجُمُعَةِ (3) من حِلِّ النَّافِلَةِ لِلزَّوالِ (4)، ولَا
(1)
في صلاة العيد، دليل مشروعية العيدين؛ حديث أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال:"قَدِمْتُ عَلَيْكمْ وَلَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أبْدَلَكم اللهُ بِهمَا خَيْرًا مِنْهُمَا؛ يَوْمَ النحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ". ا. هـ. قال البغوي هذا حديث صحيح. وهذا الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي.
(2)
وقوله: سن لعيد ركعتان؛ الدليل على عدم وجويه هو فتوى مالك في المدونة، أعني مستند المصنف فتوى مالك حيث يقول: وقال مالك فيمن فاتته صلاة العيدين مع الإمام؛ إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. قال: ورأيته يستحب له أن يصلي. ا. هـ. منه.
واستدل الإمام على عدم فرضية العيد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين ذكر خمس صلوات قال: هل علي غيرُهُنَّ؟. قال: "لَا، إلا أَنْ تَطَّوَّعَ". ولحديث عبادة: "خَمْسُ صَلَواتٍ كَتَبَهُن الله عَلَى الْعَبْدِ". نعم. صلاة العيد عند أصحابنا سنة على الكفاية، فإن الكفاية والأعيان، كما يتصوران في الواجبات، يتصوران في المستحبات؛ كالأذان، والإقامة، والسلام ورده، والتشميت، وما يفعل بالأموات من المندوبات، فهذه على الكفاية وعلى الأعيان؛ كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة، وصلاة العيدين، والطواف في غير النسك إلى غيرذلك، وقولي في العيد: هي سنة على الكفاية، أي بالنسبة لأهل البلد، وأما بالنسبة للأفراد فهي سنة على الأعيان.
وذهب الإمام أحمد إلى أنها فرض على الكفاية، إن اتفق أهل البلد على تركها قاتلهم الإمام. وبه قال أصحاب الشافعي، واستدلوا بقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(1)
. والأمر للوجوب. أضف إلى ذلك مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها. =
(1)
سورة الكوثر: 2.
ينادَى: الصَّلَاةُ جامِعَة (1). وَافْتَتَحَ بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ؛ بالإحْرَام ثم بِخَمْس غَيْرِ القِيَامِ، مُوالًى إِلَّا بتكبير المُؤَتَمِّ بلا قَوْلٍ (2). وتَحَرَّاهُ مُؤْتمٌّ لَمْ يَسْمَعْ، وَكَبَّرَ نَاسِيهِ
= (3) وقوله: لمأمور الجمعة؛ هو لفتوى مالك في المدونة: قال: وسألت مالكًا عن العبيد والإماء والنساء: هل يؤمرون بالخروج إلى العيدين، وهل يجب عليهم الخروج إلى العيدين، كما يجب على الرجال؟. قال: لا. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: من حل النافلة للزوال؛ أي بين وقتي النهي، فقوله: من حل النافلة، أي من وقت ارتفاع الشمس قيد رمح، أي بعد طلوعها لأنه وقت نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه، لحديث عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع. الحديث.
ويستحب تقديم صلاة الأضحى ليتسع وقت الضحية، وتأخير صلاة الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر؛ وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم:"أنْ أخِّرْ صَلَاةَ الْفِطْرِ وَعَجِّلْ صَلَاةَ الْأضْحَى".
(1)
وقوله: ولا ينادي: الصلاة جامعة؛ أي وبلا أذان ولا إقامة؛ لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيدين بغير أذان ولا إقامة. وعن جابر مثل ذلك، متفق عليهما. وعن جابر بن سمرة: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة. رواه مسلم. وعن عطاء: أخبرني جابر أن لا أذان يوم الفطر، حين يخرج الإمام، ولا بعد ما يخرج الإمام، ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء، ولا نداء يويئذ، ولا إقامة. رواه مسلم.
(2)
وقوله: وافتتح بسبع تكبيرات بالإحرام ثم بخمس غير القيام الخ. ودليله حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين؛ في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة. ا. هـ. أخرجه البغوي وقال: وروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا. قال أبو عيسى: حديث جد كثير حسن، وهو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم. واسمه عمرو بن عوف المزني.
إِنْ لَمْ يَرْكَعْ، وسَجَدَ بَعْدَهُ وإِلَّا تَمَادَى (1)، وَسَجَدَ غَيْرُ المؤتَمِّ قَبْلَهُ، وَمُدْرِكُ الْقِرَاءَةِ يُكَبِّرُ، فَمُدْرِكُ الثَّانية يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ سَبْعًا بِالْقِيَامِ، وإِن فاتَتْ قَضَى
= وفي الموطإ في العيدين، باب ما جاء في التكبير والقراءة في صلاة العيدين: عن نافع - مولى عبد الله بن عمر - قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة. ا. هـ.
قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم؛ أنه يكبر في صلاة العيد في الأولى سبعًا سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام قبل القراءة. روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وهو قول أهل المدينة، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو ثور: يكبر سبعًا مع تكبيرة الإحرام. وروي عن ابن مسعود أنه يكبر في الأولى ثلاثًا قبل القراءة سوى تكبيرة الاستفتاح، وفي الثانية ثلاثًا بعد القراءة سوى تكبيرة الركوع. وله أخذ سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وفي المدونة: وقال مالك: وتكبير العيدين - سواء التكبير قبل القراءة - في الأولى سبعًا وفي الآخرة خمسًا في كلتا الركعتين التكبير قبل القراءة.
وقوله: موالى لا بتكبير المؤتم بلا قول؛ يريد به لا فصل بين هذا التكبير إلا بقدر ما يكبر فيه المؤتم تبعًا لإمامه، وأنه لا ينبغي للإمام في سكتته بين التكبيرتين أن يقول قولًا كائنًا ما يكون؛ لا تسبيحًا ولا غيره. والله الموفق.
(1)
وقوله: وكبر ناسيه إن لم يركع، وسجد بعده وإلا تمادى وسجد غير المؤتم قبله؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك في الإمام إذا نسي التكبير في أول ركعة من صلاة العيدين حتى قرأ، قال: إن ذكر قبل أن يركع، عاد فكبر وقرأ وسجد سجدتي السهو بعد السلام. قال: وهذا قول مالك، قال: وإن لم يذكر حتى ركع، مضى ولم يكبر ما فاته من الركعة الأولى في الركعة الثانية، وسجد سجدتي السهو قبل السلام، قال: وهذا قول مالك. ا. هـ. منه.
الأولى بِسِتٍّ. وَهَلْ بغَيْرِ الْقِيَامِ؟. تَأوِيلَانِ (1)، وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ (2)، وغُسْلٌ وبَعْدَ الصبْح (3). وَتَطَيُّبٌ وتَزَيُّنٌ وِإن لغَيْر مُصَلٍّ (4)، ومَشْيٌ فِي ذهَابِهِ (5)، وفِطْرٌ قبلَهُ
(1)
وقوله: وإن فاتت قضى الأولى بست، وهل بغير القيام تأويلان؛ لفظ المدونة في ذلك: وقال مالك: من أدرك الجلوس من صلاة العيدين قال: يكبر التكبير كما كبر الإمام ويقضي إذا سلم الإمام كما صلى الإمام، أحبُّ إليَّ. قال: فقلت: أفيكبر في قول مالك أول ما يفتتح التكبير ككله تكبير الركعة الأولى؟. قال: إذا هو أحرم خلف الإمام جلس، فإذا قضى الإمام صلاته قام فكبر ما بقي عليه من التكبير، ثم صلى ما بقي عليه كما صلى الإمام. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ونُدِبَ إحياء ليلته؛ أي بالتكبير. قال البغوي: من السنة إظهار التكبير ليلتي العيد - مقيمين وسفرًا - في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم، وبعد الغدو في الطريق، وبالمصلى إلى أن يحضر الإمام.
والتكبير ليلة عيد الفطر آكد لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(1)
. قال بعض أهل العلم في تفسيرها: لتكملوا عدة رمضان، ولتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم. ومعنى إظهار التكبير رفع الصوت به، واستحب ذلك لما فيه من إظهار شعائر الإسلام وتذكير الغير.
(3)
وقوله: وغسل بعد الصبح؛ يعني أنه يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد. روي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال علقمة، وعروة وعطاء، والنخعي، والشعبيُّ، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر. وذلك لما روى ابن عباس والفاكه بن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى.
(4)
وقوله: وتطيب وتزين وإن لغير مصل؛ أي ويستحب أن يلبس المرءٌ أحسن ما يجد، وأن يتطيب يوم العيد؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد. أخرجه البيهقي في سننه من طريق الشافعي. وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد بردة حمراء. قال الهيثمي في الزوائد: رجاله ثقات. =
(1)
سورة البقرة: 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وللبيهقي في السنن عن الحجاج بن أرطاة عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم برد أحمر يلبسه في العيدين والجمعة. وعزاه ابن حجر في التلخيص إلى ابن خزيمة.
وقال البغوي: وقال نافع: كان ابن عمر يغتسل في يوم العيد كغسله من الجنابة، ثم يمس من الطيب إن كان عنده، ويلبس أحسن ثيابه، ثم يخرج حتى يأتي المصلى، فإذا صلى الإمام رجع.
وروي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا عَلَى أَحدِكُمْ أنْ يَكُونَ لَهُ ثَوبَانِ سِوَى ثَوبيْ مِهْنَتِهِ وَعِيدِهِ". وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد، والإمام بذلك أحق لأنه المنظور إليه من بينهم، إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى أثر العبادة والنسك. ا. هـ. من ابن قدامة.
(5)
وقوله: ومشى في ذهابه. قال البغوي: والسنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا إلا من عذر، لما روى الحارث عن علي قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيًا، وأن ياكلل شيئًا قبل أن يخرج. وأخرج الترمذي هذا الحديث في الصلاة؛ باب ما جاء في المشي يوم العيد. وحسنه مع أن في سنده الحارث الأعور.
قال ابن قدامة في المغني: وممن استحب المشي عمر بن عبد العزيز، والنخعي، والثوري والشافعي وغيرهم؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة؛ وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيًا. رواه ابن ماجه.
وإنما استحب المشي في الذهاب دون الرجوع؛ لأنه في ذهابه عبد ذاهب إلى طاعة مولاه، فالأولى به التذلل والتواضع، بخلاف رجوعه فقد انقضت الطاعة.
وروى عنه جابر وأبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي خرج فيه.
وهذا لفظ أبي هريرة عند البغوي، ورواه الترمذي، ولفظ جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق. وهذا الحديث في البخاري؛ باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد. ا. هـ.
قال البغوي: قيل: كان يفعل ذلك لأنه كان يذهب من الطريق الأطول؛ لأنه يقصد الطاعة فتحتسب خطاه، ويرجع من الأقصر؛ لأنه رجوع من الطاعة.
قال الشعبي: ائت العيد ماشيًا، فإذا رجعت فاركب إن شئت. ا. هـ. بلفظه.
في الْفِطْرِ (1). وَتأْخِيرُهُ فِي النَّحْرِ، وَخُروجٌ بَعْدَ الشمْسِ، وتَكْبِيرٌ فِيهِ حينئذٍ لَا قَبْلَهُ (2)، وصُحِّحَ خِلَافُهُ، وَجَهْرٌ بِه، وهَل لمَجيءِ الإمَام أَوْ لِقِيامِهِ لِلصَّلَاةِ؟. تَأْويلَانِ، وَنَحْرُهُ أُضْحِيتهُ بِالْمُصَلَّى (3) وَإيقَاعُهَا بِهِ إِلَّا بِمَكةَ (4) وَرَفْعُ يَدَيْه فِي أَولَاهُ
(1)
وقوله: وفطر قبله في الفطر؛ لما أخرجه البغوي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي. ا. هـ. وهذا الحديث في الترمذي، وأخرجه الإمام أحمد، وروي عن عبد الله بن بريدة أيضًا عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطْعم يوم الفطر قبل أن يخرج، وكان إذا كان يوم النحر لم يطْعم حتى يرجع فيأكل من ذبيحته.
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. وقال مُرَجَّى بن رجاء: حدثني عبيد الله، حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويأكلهن وترًا. أما حديث أنس فهو في البخاري في الصحيح. وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. وأما حديث مرجَّى؛ فقد أخرجه البخاري تعليقًا. قال ابن حجر: وصله ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما. ا. هـ.
(2)
وقوله: وخروج بعد الشمس وتكبيرفيه حينئذ لا قبله؛ هو لما في المدونة من فتوى الإمام: وقال مالك: التكبير إذا خرج لصلاة العيدين؛ يكبر حين يخرج إلى المصلى وذلك عند طلوع الشمس، فيكبر في الطريق تكبيرًا يسمع نفسه ومن يليه وفي المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع. ا. هـ. وقد تقدم مزيد بحث في التكبير عند قول المؤلف: وافتتح بسبع تكبيرات، فأغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد.
(3)
وقوله: ونحره أضحيته بالمصلى؛ أي ومن المستحب أن يذبح الإمام أضحيته بالمصلى؛ لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته بالمصلى. قال البغوي: وكان ابن عمر يفعله.
رواه بسنده إلى نافع عن ابن عمر الإمام البغوي. وهو في أبي داود، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه.
وقال ابن بطال: الذبح بالمصلى سنة خاصة عند مالك. قال مالك فيما رواه ابن وهب: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله. زاد المهلب: وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة. =
فَقَطْ (1)، وقراءَتُهَا بِكَسَبِّحْ والشَّمْسِ (2)، وخُطبتَانِ كالجُمُعَةِ وسَمَاعُهُمَا واسْتِقْبَالُهُ، وَبَعْدِيَّتُهُمَا، وأُعيدَتَا إِنْ قُدِّمَتَا، واسْتِفْتَاحٌ بِتَكْبِيرٍ وتَخَلُّلُهُمَا بِهِ بلا
= (4) وقوله: وإيقاعها به إلا بمكة؛ قال في المدونة: ولا يصلون في مسجدهم ولكن يخرجون كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى، ثم استن بذلك أهل الأمصار. ا. هـ.
وقوله: إلا بمكة؛ لعله لفضلها ولوجود عين الكعبة بالمسجد. والله أعلم بالمستند في هذا الخصوص.
(1)
وقوله: ورفع يديه في أولاه فقط؛ هو تابع فيه لمذهب المدونة حيث تقول: وقال مالك: لا يرفع يديه في شيء من تكبير العيدين إلا في الأولى. ا. هـ. منه.
قلت: اختلف العلماء في رفع اليدين في تكبير العيدين؛ فذهب مالك والثوري إلى ما تقدم، قالا: لأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فاشبهت تكبيرات السجود.
وذهب أحمد والشافعي وأبو حنيفة وعطاء والأوزاعي إلى أنه يستحب أن يرفع المرء يديه حال تكبيره، حسب رفعهما مع تكبيرة الإحرام مستدلين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه مع التكبير. قال الإمام أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله. وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد. رواه الأثرم ولا يعرف له مخالف في الصحابة. ا. هـ. من ابن قدامة في المغني.
(2)
وقوله: وقراءتها بكسَبِّحْ والشمس؛ هو لما في المدونة: وقال مالك يقرأ في صلاة العيدين بالشمس وضحاها وسبح ونحوهما. ا. هـ. منه.
قلت: روى النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما. رواه مسلم وهو في مصنف عبد الرزاق.
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر والأضحى؟. فقال: كان يقرأ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . ا. هـ. وهذا لفظ البغوي. والحديث في الموطإ. وفي مسلم. ولعل الأمر في ذلك واسع. وبالله تعالى التوفيق. =
حَدٍّ (1)، وإقامَة مَنْ لَمْ يَؤْمَرْ بِهَا أوْ فَاتَتْهُ، وتكبيرُهُ إثْرِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً، وسُجُودِهَا الْبَعْدِيِّ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لا نَافِلَةٍ ومَقْضِيَّةٍ فيها طلَقًا، وكَبَّر ناسِيهِ
(1)
وقوله: وخطبتان كالجمعة الخ. أي ومن سنن العيد خطبتان يجلس بينهما فإن كان فطرًا حثهم على الصدقة وبين لهم ما يخرجون، وإن كان أضحى حثهم على الأضحية وبين لهم ما يضحى به. ويستحب الإنصات لهما واستقبال الإمام أثناء الخطبة. وقوله: وبعديتهما، هو لحديث ابن عمر قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. متفق عليه. وروي مثله عن ابن عباس رواه مسلم، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة.
وروى طارق بن شهاب قال: قدّم مروان الخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: خالفت السنة؛ كانت الخطبة بعد الصلاة. فقال: ترك ذلك يا أبا فلان. فقام أبو سعيد فقال: أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه؟ قال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِره بِقَلْبِهِ، وَذلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ". رواه أبو داود الطيالسي. ورواه مسلم في صحيحه ولفظه: "فَلْيُغَيِّرْهَ". وعلى هذا فمن خطب قبل الصلاة فهوكمن لم يخطب، وذلك قول المؤلف: وأعيدتا إن قدمتا. والله الموفق.
إنْ قَرُبَ، والمؤتَمُّ إِنْ تَرَكَهُ إِمَامُهُ، ولَفَظُه وهو: اللهُ أكْبَرُ. ثلاثًا، وإن قال بَعْدَ تَكْبِيرتَيْنِ: لَا إلهَ إِلأ اللهُ. ثُمَّ تَكبيرتَيْنِ: ولله الحمد. فَحَسَن (1)، وكره تَنفُّلٌ بِمُصَلى قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (2). لَا بِمَسْجِدٍ فِيهِمَا.
(1)
وقوله: وتكبيره إثر خمس عشرة فريضة الخ. ولفظ المدونة هنا: وقال مالك في التكبير أيام التشريق قال: يكبر النساء والصبيان والعبيد، وأهل البادية والمسافرون وجميع المسلمين. - إلى أن قال: وأول التكبير دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخر التكبير في الصبح من آخر أيام التشريق؛ يكبر في الصبح ويقطع في الظهر. قال: وهذا قول مالك. وروى ابن وهب عن عبد الله بن لهيعة بن بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل أبا بكر بن محمد بن حزم عن التكبير في أيام التشريق؛ يبدأ بالتكبير في أيام الحج، دبر صلاة الظهر من يوم النحر، إلى دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. ا. هـ. منه.
وروي عن علي بن زياد عن مالك قال: الأمر عندنا أن التكبير خلف الصلوات بعد النحر؛ أن الإمام والناس يكبرون: اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ. ثلاثًا في دبر كل صلاة مكتوبة. وأول ذلك دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخر ذلك دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن قال بعد تكبيرتين: لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ الخ، قد أخرج البغوي في شرح السنة قال: وقال الأسود: كان عبد الله يكبر: اللَّهُ أكْبَر، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلهَ إلَّا اللهُ، اللَّهُ أكْبَر، اللَّهُ اكبَر وَللَّهِ الْحَمْدُ. ا. هـ.
واختلف العلماء في مدة التكبير؛ فذهب الإمام أحمد إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقال: يقوله الثوري، وابن عيينة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، والشافعي في بعض الروايات عنه. وذهب ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز إلى أن التكبيرمن صلاة الظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق. وبه قال مالك والشافعي في المشهور عنه، قالوا: لأن الناس تبع للحاج، والحاج يقطع التلبية مع أول حصاة، ويكبرون مع الرمي. ا. هـ.
(2)
وقوله: وكره تنفل بالمصلى قبلها وبعدها؛ أي وكره مالك أن يتطوع المرء في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها، وذلك لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. متفق عليه. وروى ابن عمر مثله. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في صلاة العيد سبعًا وخمسًا، ويقول:"لَا صَلَاةَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا". رواه ابن قدامة في المغني وقال: حكى ابن عقيل أن الإمام ابن بطة رواه بإسناده. ا. هـ. والله الموفق.
تنبيه: قد كثر أخيرًا ولا سيما في البلاد التي لم تتعود حكمًا شرعيًا يشملها مثل بلاد الصحراء الأفريقية، قد كثر اختلاف الناس في الصوم والفطر والأضحى، وما علموا أنه روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالْأضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث أن معنى هذا؛ الفطر والصوم مع الجماعة ومعظم الناس. انتهى منه بلفظه. وفيه دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس. انظر سبل السلام ونيل الأوطار وتفسير القرطبي عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
(1)
وبالله تعالى التوفيق.
(1)
سورة الحج: 78.
صلاة الكسوف والخسوف
(1)
فصل:
سُنَّ، وَإِنْ لِعَمُودِيٍّ وَمُسَافِرٍ لم يَجِدَّ سَيْرُهُ، لِكُسُوفِ الشَّمْسِ، رَكعَتَانِ سِرًّا (2)، بزيادة قِيامَيْنِ وَرُكوعَيْنِ، ورَكعَتَانِ رَكْعَتَانِ لِخُسُوفِ قَمَرٍ كَالنَّوافِلِ جَهْرًا، بِلا جَمْع (3)، وَنُدِبَ بالْمَسْجِدِ، وَقِرَاءَةُ البَقَرَةِ ثُمَّ مُوالياتِهَا فِي القياماتِ، وَوَعْظٌ (4) بَعْدَهَا وركع كَالْقِرَاءَةِ وَسَجَدَ كَالرُّكُوعِ، وَوَقتهَا كَالْعِيدِ (5)، وتُدْرَكُ الرَّكْعَةُ بالركُوعِ، ولَا تُكَرَّرُ، وإنْ انْجَلَتْ فِي أثْنَائِهَا فَفِي إتْمَامِهَا كالنَّوافِلِ قَوْلَانِ. وَقُدِّمَ فَرْضٌ خِيفَ فَوَاتُهُ، ثُمَّ كُسُوفٌ، ثُمَّ عِيدٌ، وأُخِّرَ الاسْتِسْقَاءُ لِيَوْم آخَر.
(1)
الكسوف والخسوف بمعنى واحد، وشاع في الاستعمال بالكاف في الشمس وبالخاء في القمر. يقال: انكسفت الشمس وكسفت، ورجل كاسف أي مهموم قد تغير لونه. ويقال: كسف باله أي حدثته نفسه بالشر. ويقال كسوف باله: أن يضيق عليه أمله. ومن ذلك قول الشاعر:
إنما الميت من يعيش كئيبًا
…
كاسفًا بالُه قليلَ الرجاءَ
وهما من الآيات التي يخوف الله بها الناس؛ ليفزعوا إلى التوبة والاستغفار. ففي الصحيحين والبغوي واللفظ له؛ عن أبي مسعود الأنصاري قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَات اللهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فافْزَغوا إلَى ذِكْرِ اللهِ، وَإلَى الصَّلَاةِ". وفي لفظ آخر من حديث أبي موسى قال: خسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته قط يفعله. وقال:"هذِهِ الآياتُ الَّتِي يُرسِلُ اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلَا لِحَيَاتهِ، وَلكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِبادَهُ. إذَا رَأَيْتُمْ شيْئًا مِنْ ذلِكَ فافْزَعْوا إلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِه". وهو متفق عليه أيضًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} . الآية.
(2)
وقوله: سُنَّ؛ فعل مركب للمجهول نائبه ركعتان، وهو كما أفتى به مالك في المدونة ففيها: قلت: فهل كان مالك يرى أن صلاة الخسوف سنة لا تترك، مثل صلاة العيدين سنة لا تترك؟. قال: نعم.
قال البغوي: صلاة الخسوف سنة، والأحاديث تدل على أنه يصليها جماعة. وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أصحاب الرأي: يصلون فرادى. وقال مالك: يصلون خسوف الشمس جماعة،، وخسوف القمر وحدانًا. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن لعمودي ومسافر لم يجد سيره؛ هو لما في المدونة أيضًا: قلت: فهل يصلي أهل القرى وأهل العمود والمسافرون صلاة الخسوف في قول مالك؟. قال: نعم. قال: وقال مالك في المسافرين: يصلون صلاة الخسوف جماعة إلا أن يعجل بالمسافرين السير. ا. هـ. منه.
وقوله: سرًا؛ هو أيضًا لفتوى مالك في المدونة ونصها: وقال مالك: لا يجهر بالقراءة في صلاة الخسوف. قال: وتفسير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو جهر بشيء فيها لعرف ما قرأ. ا. هـ. منه. وفي البغوي من حديث سمرة بن جندب قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف ولا نسمع له صوتًا. ا. هـ. وقال: هذا حديث حسن. وهو في الترمذي وقال: حديث صحيح. وأخرجه أبو داود، والنسائي.
وقوله: ركعتان؛ قال البغوي: اختلف أهل العلم في كيفية صلاة الخسوف؛ فذهب أصحاب الرأي وسفيان الثوري إلى أنه يصلي ركعتين؛ في كل ركعة ركوع واحد كسائر الصلوات. وذهب قوم إلى أنه يصلي ركعتين في كل ركعة ركوعان، على ما جاء في الحديث. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات. وروي عنه أيضًا أنه صلى ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات.
وقوله: بزيادة قيامين وركوعين؛ دليل ذلك الحديث المتفق عليه، ولفظه كما في المدونة: مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عباس قال: خسفت الشمس على عهد رسول =
. . . . . . . . . . . . . . . .
= الله صلى الله عليه وسلم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا دون الركوع الأول، ثم سجد ثم قام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهودون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم انصرف، وقد تجلت الشمس. فقال:"الشمْسُ والْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوتِ أَحدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ بهِمَا فَاذْكروا اللَّهَ". فقالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟. فقال: إنِّي رَأَيْتُ - أوْ أْرِيتُ - الْجَنةَ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا وَلَوْ أخَذتهُ لأكَلْتمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أرَ كَالْيوْمِ مَنْظَرًا قطُّ، وَرَأَيْتُ أكثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ". فقالوا يا رسول الله بِمَ؟. قال:"بِكفْرِهِنَّ". قيل: بكفرن بالله؟. قال: "يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفرنَ الإحْسَانَ، لَوْ أحْسَنْتَ إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئًا. قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ". ا هـ. منه.
(3)
وقوله: وركعتان ركعتان لخسوف قمر كالنوافل جهرًا بلا جمع؛ هو لما في المدونة: وقال مالك في صلاة خسوف القمر: يصلون ركعتين ركعتين كصلاة النوافل ويدعون ولا يجمعون، وليس في خسوف القمر سنة ولا جماعة كصلاة خسوف الشمس. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ووعظ بعدها؛ ودليل ذلك الحديث المتفق عليه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ففام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثما قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب في الناس؟ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"إن الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَإذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّروا، وَتَصَدَّقوا"، قال:"يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أحَدٍ أغْيَرَ مِنَ اللهِ أن يَزْنِيَ عَبْدُهُ أو تَزْنيَ أمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمْ لَضحِكتُمْ قَلِيلًا وَلَبكيتُم كَثيرًا". ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (5) وقوله: ووقتها كالعيد، قال في المدونة: ولا أرى للناس - إمامًا كان أو غيره - إن يصلوا صلاة الخسوف بعد زوال الشمس، وإنما سنتها أن يصلوها ضحوة إلى زوال الشمس، وكذلك سمعت سحنون وقد روى ابن وهب عن مالك أنها تصلى في وقت كل صلاة، وإن كان بعد زوال الشمس. ا. هـ. منه. والله الموفق.
صلاة الاستسقاء
(1)
فصل:
سُنَّ الاسْتِسْقَاءُ (2) لِزَرْعٍ أوْ شِرْبٍ بِنَهْرٍ أوْ غَيْر وَإِنْ بِسَفِينَةٍ رَكْعَتَانِ جَهْرًا (3)، وكُرِّرَ إِنْ تَأَخَّر (4)، وخَرَجُوا ضُحىً مُشَاةً بِبَذْلَةٍ وَتَخَشع (5) مَشَايخُ وَمُتَجَّالةٌ وَصِبْيَةٌ، لَا مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْهُمْ، وبَهِيمَةٌ وحَائِضٌ، ولَا يُمْنَعُ ذِمِّيٌّ وانْفَرَدَ، لَا بِيَوْمٍ، ثُمَّ خَطَبَ كالْعِيدِ (6) وبَدَّلَ التَّكْبِيرَ بِالاسْتِغْفَارِ، وَبَالَغَ فِي الاعَاءِ آخِرَ الثَّانِيَةِ مُسْتَقْبِلًا، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ يَمِينهُ يَسَارَهُ بِلَا تَنْكِيسٍ، وكَذَا الرِّجَالُ فَقَطْ قُعُودًا، ونُدِبَ خُطْبَة بِالْأرْضِ، وصِيامُ ثَلَاَثَةِ أيَام قَبْلَهُ، وصَدَقَةٌ، وَلَا يأْمُر بِهِمَا الإمَامُ، بَلْ بِتَوْبَةٍ وَرَدِّ تَبِعَةٍ، وجَازَ تَنَفُّلٌ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (7)، واخْتَارَ غيْرُ المُحْتَاجِ بِمَحَلِّهِ لِمُحْتَاجٍ قال: وفِيهِ نَظَرٌ.
(1)
الاستسقاء لغة: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير. وشرعًا: طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص. وهو أنواع؛ أدناها الدعاء المجرد، وأوسطها الدعاء خلف الصلوات، وأفضلها الاستسقاء بركعتين وخطبتين.
ومن أسباب الجدب جور السلطان، ونقص المكيال والميزان، ومنع الزكاة؛ ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَمْ يُنْقِصْ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أمْوَالِهم إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّماءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا". أخرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه ابن ماجه. قال الوكاني: قوله. ولولا البهائم الخ. فيه أن نزول الغيث عند وقوع المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم. وقد أخرج أبو يعلى والبزار من حديث أبي هريرة بلفظ: "مَهْلًا عَنِ اللهِ مَهْلًا، فَإنَّهُ لَوْلَا شَبَابٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَأطْفَال رُضَّعٌ لَصَبَّ عَلَيْكمْ الْعَذَابَ صَبًا". ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: سن الاستسقاء؛ دليل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم. أخرج البغوي من حديث عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة وحول رداءه وصلى ركعتين. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه.
(3)
وقوله: ركعتين جهرًا؛ دليله حديث تميم بن عباد عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي، فصلى بهم ركعتين جهرًا بالقراءة فيهما، وحول رداءه ورفع يديه واستسقى واستقبل القبلة. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه أخرجاه من طرق عن الزهري.
(4)
وكرر إن تأخر؛ أي لأن ذلك أبلغ في الدعاء والتضرع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّهِ يحبُّ الْملِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ". وإن قال قائل: إن النبي لم يخرج إلا مرة. فالجواب: أن ذلك لاستغنائه عن الخروج بإجابة دعائه أول مرة. وبهذا يقول مالك والشافعي وأحمد.
(5)
وقوله: وخرجوا ضحى مشاة ببذلة وتخشع، دليله حديث ابن عباس عند الترمذي: خرج رسول صلى الله عليه وسلم لاستسقاء متبذلًا، متواضعًا، متخشعًا، متعرضًا، حتى أتى المصلى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي المدونة: الاستسقاء إنما يكون ضحوة من النهار لا في غير ذلك. ا. هـ. منه.
وقوله: مشائخ ومتجالة وصبية، لا من لا يعقل منهم وبهيمة وحائض؛ هو لفتوى المدونة ونص ما فيها: قلت: وهل كان مالك يأمر بأن تخرج الحيض والنساء والصبيان في الاستسقاء؟. قال: لا أرى أن يؤمر بخروجهن، ولا يخرج الحيض على كل حال، وأما النساء والصبيان فإن خرجوا فلا أمنعهم أن يخرجوا، وأما من لا يعقل من الصبيان فلا يخرج، ولا يخرج إلا من كان منهم يعقل الصلاة. ا. هـ. منه.
قال ابن قدامة: ويستحب الخروج لكافة الناس، وخروج من كان ذا دين وستر وصلاح والشيوخ أشد استحبابًا: لأنه أسرع للإجابة، فاما النساء فلا بأس بخروج العجائز ومن لا هيئة لها، أما الشواب وذوات الهيئة فلا يستحب لهن الخروج؛ لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع، ولا يستحب إخراج=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البهائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وإذا عزم الإمام على الخروج استحب أن يَعِدَ الناس يومًا يخرجون فيه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والصيام، والصدقة، فإن المعاصي سبب الجدب، والطاعة سبب البركات، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(1)
.
وقوله: ولا يمنع ذمي؛ هو لفتوى مالك في المدونة: وقال مالك لا أرى أن يمنع النصارى إن أرادوا أن يستسقوا. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله ثم خطب كالعيد الخ. ففي المدونة ما نصه: وقال مالك في صلاة الاستسقاء: يخرج الإمام فإذا بلغ إلى المصلى، صلى بالناس ركعتين، يقرأ فيهما {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحو ذلك، ثم يستقبل الناس، ويخطب عليهم خطبتين يفصل بينها بجلسة، فإذا فرغ من خطبتيه استقبل القبلة مكانه وحول رداءه قائمًا، يجعل الذي على يمينه على شماله، والذي على شماله على يمينه، مكانه حين يستقبل القبلة، ولا يقلبه فيجعل الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل، ويحول الناس أرديتهم كما يحول الإمام ثم يدعوا الإمام قائمًا ويدعون وهم قعود، فإذا فرغوا من الدعاء انصرف وانصرفوا.
وقوله: وبدل التكبير بالاستغفار؛ قال البغوي: السنة في الاستسقاء أن يخرج إلى المصلى، فيبدأ بالصلاة فيصلي ركعتين مثل صلاة العيدين؛ يكبر في الأولى سبعًا سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام، ويجهر فيهما بالقراءة ثم يخطب. يروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعن عمر وعليٍّ، أنهم كبروا في العيدين والاستسقاء سبعًا وخمسًا وجهروا بالقراءة، وإليه ذهب ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول، وبه أخذ الشافعي وأحمد.
وذهب أصحاب الرأي إلى أنه لا يصلي بل يدعو، وذهب مالك إلى أنه يصلي ركعتين كسائر الصلوات. ا. هـ.
وفي أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا =
(1)
سورة الأعراف: 96.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبر صلى الله عليه وسلم وحمد الله عز وجل ثم قال:"إنكمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أمَرَكُمُ الله عز وجل أنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكمْ أنْ يَسْتَجِيبَ لَكمْ". ثم قال: "الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرحِيمِ ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَل مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الله لَا إلهَ إلَّا أنْتَ، أنْتَ الغَنِي وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ ما أنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِين". ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض أبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سألت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال:"أشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ". وإسناده حسن. وصححه ابن حبان والحاكم وقال أبو داود: إسناده جيد.
(7)
وقوله: وجاز تنفل قبلها وبعدها؛ هو لما في المدونة: وسألت مالكًا عن الذي يخرج إلى المصلى في صلاة الاستسقاء، فيصلي قبل الإمام أو بعده، أترى بذلك بأسًا؟. قال: لا بأس بذلك. ا. هـ. منه.
تنبيه: في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. أخرجه البخاري ومسلم كلاهما في الاستسقاء؛ باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء. وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكير عن شعبة: سمعت أنسًا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه، قال شعبة: فذكرته لعلي بن زيد، فقال: إنما ذلك في الاستسقاء.
وروى ابن عباس، قال البغوي: موقوفًا عليه ومرفوعًا: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما. والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة. والابتهال أن تمد يديك جميعًا. ا. هـ. أخرجه البغوي في شرح السنة، وهو في سنن أبي داود في الصلاة؛ باب الدعاء. وأخرجه الحاكم وسنده قوي.
تنبيه: قد ثبت في سنة المسلمين الاستسقاء بأهل الصلاح وأهل بيت النبوة، ففي البغوي عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب. فقال: اللهم إنا كنا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في الاستسقاء؛ باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. وأخرجه في فضائل الصحابة، في ذكر العباس بن عبد المطلب.
وقد يتشبث بهذا الحديث من يقول بالتوسل بذوات أهل العلم والصلاح، والحقيقة أن أمير المؤمنين إنما توسل بدعاء العباس، ويوضح ذلك ما أخرجه الزبير بن بكار أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوية، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوية، فاسقنا الغيث. قال: فأرخت السماء مثل الجبال. حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. انظر الفتح.
تنبيه: ومن السنة الاستسقاء في خطبة الجمعة؛ ففي الصحيحين من حديث أنس أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا، ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرسِ، فلما توسطت السماء. انتشرت ثم أمطرت. قال أنس: فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعُ الله يمسكْها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال:"اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأوْدِيَةِ وَمنَابِتِ الشَّجَرِ". قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟. قال: لا أدري. ا. هـ. قال البغوي: هذا الحديث أخرجه البخاري عن قتيبة، وأخرجه مسلم عن قتيبة، وابن حجر، ويحيى بن يحيى، كل عن إسماعيل بن جعفر.
فصل فيما يتعلق بالميت
(1)
فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْمَيتِ بِمُطَهِّرٍ وَلَوْ بِزَمْزَمَ والصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَدَفْنِهِ وَكَفْنِهِ وسنِّيَّتِهِمَا خِلَافٌ، وتَلَازَمَا (2)، وَغُسِّلَ كَالجنَابَةِ تَعَبُّدًا بِلَا نِيَّةٍ (3)، وَقدِّمَ الزَّوْجَان إِنْ صَحَّ
(1)
هناك حقوق واجبة للمسلم على أخيه المسلم وردت بها الأحاديث الصحيحة؛ ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدَّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَازَة، وإِجَابَة الدَّعْوَةِ". متفق عليه، أخرجه مسلم في السلام، باب حق المسلم للمسلم رد السلام، وأخرجه البخاري في الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز.
وتفرد مسلم عن علي بن حجر بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ الْمسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ". قيل: ما هن يا رسول الله؟. قال: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ". وقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض؛ أخرج البغوي من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الجنَّةِ". قالوا: وما خُرفَةُ الجنة يا رسول الله؟. قال: "جَنَاهَا". قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن زهير بن حرب. وقد صح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قال: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟. قَالَ: إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعْدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنَدَهُ". أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة والآداب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: "أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، اشْفِ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". وهذا حديث متفق عليه.
(2)
قوله: في وجوب غسل الميت الخ. قال في فتح الباري: وقد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور جدًّا عند المالكية. على أن=
النِّكَاحُ (1) إلَّا أَن يَفُوتَ فَاسِدُهُ بِالقَضَاءِ، وإِنْ رَقيقًا أَذِنَ سَيدُهُ، أَوْ قَبْلَ بِنَاءٍ أَوْ بأحَدِهِمَا عَيْبٌ، أَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ مَوْته، والأحَبُّ نَفْيُهُ إِنْ تَزَوَّجَ أُختهَا، أَوْ تَزوجَتْ غَيْرَهُ، لَا رَجْعِيةٌ وكِتَابِيةٌ إِلَّا بِحَضْرَةِ مُسْلِمٍ، وِإبَاحَةُ الْوَطْءِ لِلْمَوْتِ بِرِقٍّ تُبِيحُ الْغَسْلَ مِن الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ أَقْرَبُ أَوْليائهِ، ثُمَّ أَجْنَبِيٌّ، ثُمَّ امرأَةٌ مَحْرَمٌ، وَهَلْ
= القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة، ولكن الجمهور على وجويه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك، وقال: قد توارد به القول والعمل. ا. هـ. منه. بواسطة نقل الشوكاني.
(3)
وقوله: وغسل كالجنابة، قال ابن قدامة: الواجب في غسل الميت مرة مرة لأنه غسل واجب، من غير نجاسة أصابته، فكان مرة واحدة كغسل الجنابة والحيض، ويستحب أن يغسل ثلاثًا، كل غسلة بالماء والسدر، ويجعل في الماء كافور في الغسلة الثالثة، ليشده ويبرده ويطيبه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته:"اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا أوْ خَمْسًا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ، وَاجْعَلْنَ فِي الْغَسْلةِ الأخِيَرةِ كَافوُرًا".
(1)
وقول: وقدم الزوجان إن صح النكاح؛ هو لما ورد عن عائشة؛ قالت: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. أخرجه البغوي، وهو في مسند الشافعي، وأخرجه أبو داود وابن ماجه.
وروي أن لم سماء بنت عميس غسلت زوجها أبا بكر رضي الله عنه. أخرجه الموطأ، وأخرجه عبد الرزاق من حديث عبد الله بن أبي بكر؛ أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد، فهل على من غسل؟. فقالوا: لا. ا. هـ.
وأخرج البغوي أن أسماء بنت عميس قالت: إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصت أن تغسلها إذا ماتت، هي وعليٌّ. وهذا الحديث رواه الدارقطني وأبو نعيم والبيهقي؛ وروى أحمد، وابن ماجه، والدارمي، وابن هشام في السيرة عن عائشة: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسي وأنا أقول: واراسي. فقال: "بَلْ أنَا يَا عَائِشَةُ وَا راسَاهُ". ثم قال: "مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ". وأخرجه الدارقطني، والبيهقي. ا. هـ. =
تَسْتُرُهُ أَوْ عَوْرَتَهُ تأْويلَانِ. ثُمَّ يُمِّمَ لِمرْفَقيْهِ، كَعَدَمِ الْمَاءِ (1)، وتَقْطِيعِ الْجَسَدِ وتَزْليعِهِ، وَصُبَّ عَلَى مَجْروحٍ أَمكن مَاءٌ كمَجْدُورٍ إِنْ لَمْ يُخَفْ تَزلُّعُهُ (2) وَالْمرأَة
= وقال البغوي: وقال ابن عباس: الرجل أحق بغسل امرأته. ا. هـ.
وقد اتبع المصنف في أكثر ما أتى به هنا من التفاصيل مذهب المدونة، وهذا نص ما فيها في الموضوع: قال وسألته عن الرجل الذي يغسل امرأته في الحضر، وعنده نساء يغسلنها؟. فقال: نعم. قلت: والمرأة تغسل زوجها وعندها رجال؟. قال: نعم. قلت: أيستر كل واحد منهما عورة صاحبه؟. قال: نعم. قلت: ويفعل كل منهما بصاحبه كما يفعل بالموتى، لأن الموتى تستر عليهم فروجهم؟. قال: نعم. قال ابن القاسم: ولو مات عن امرأته وهي حامل فوضعت قبل أن يغسل لم يكن بأس أن تغسله، وإن كانت عدتها قد انقضت، وليس يعتبر في هذا العدة ولا يلتفت إليها، ولو كان كذلك إنما هو للعدة، ما غسل الزوج امرأته لأنه ليس في عدة منها. قال ابن القاسم: وأم الولد عندي بمنزلة الحرة؛ تغسل سيدها ويغسلها سيدها. قلت: أرأيت الرجل إذا طلق امرأته تطليقة يملك فيها الرجعة، فمات هل تغسله؟. قال: لا. إلى أن قال: وقد غسلت أسماء بنت عميس أبا بكر الصديق. وذكر ابن وهب عن عبد الله بن يزيد، عن رجل عن عبد الكريم عن أم عطية: أنا غسلت أبا عطية حين توفي. وذكر ابن نافع أن عليًا غسل فاطمة رضي الله تعالى عنهما. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ثم يمم لمرفقيه كعدم الماء؛ هو لما أخرجه في البيهقي من حديث أبي بكر بن عياش عن محمد بن أبي سهل عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِذَا مَاتَ الرجُلُ مَعَ النِّسَاءِ، وَالْمَرأَةُ مَعَ الرَّجالِ، فَإنهُمَا يُيَمَّمَانِ ويُدْفَنَانِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ". وقال عبد الرزاق بعد إيراده: وبه نأخذ. ا. هـ.
وفي المدونة في الموضوع ما نصه: وقال مالك: إذا مات الرجل في سفر وليس معه إلا النساء؛ أمه أو أخته أو عمته أو خالته أو ذات رحم محرم منه، فإنهن يغسلنه قال: ويسترنه، قال: وكذلك المرأة تموت مع الرجال في السفر، ومعها ذو محرم منها يغسلها من فوق الثوب، وهذا إذا لم يكن نساء، وفي المسألة الأولى إذا لم يكن رجال. قال: وقال مالك: سمعت من يقول من أهل العلم: إذا مات الرجل مع النساء وليس معهن رجل ولا منهن ذات محرم منه تغسله، يممنه بالصعيد؛ فيمسحن بوجهه =
أقْرَبُ امْرأةٍ ثُمَّ أَجْنَبِيَّةٌ، ولُفَّ شَعْرُهَا ولَا يُضْفَرُ (1)، ثُمَّ مَحْرَمٌ فَوْقَ ثَوْبٍ، ثُمَّ يُمِّمَتْ لِكَوْعَيْها، وسُتِرَ مِنْ سُرَّتِهِ لِركبَتيهِ وإِنْ زَوْجًا، وَرُكْنُهَا النِّيةُ وأَرْبَعُ تكبيراتٍ (2)
ويديه إلى المرفقين، يضربن بأكفهن الأرض ثم يمسحن بأكفهن على وجه الميت، ثم يضربن بأكفهن الأرض ثم يمسحن بأكفهن ذراع الميت إلى المرفقين، وكذلك المرأة مع الرجال إلا أن الرجال لا يمسحون المرأة إلا إلى الكفين فقط، ولا يبلغ بها إلى المرفقين. ا. هـ. منه.
وقوله: وتقطيع الجسد وتزليعه، هو عطف على حكم التيمم بالنسبة إليهما.
(2)
وقوله: وصب على مجروح أمكن ماء كمجدور إن لم يخف تزلعه؛ قال في المدونة: وسئل مالك عن الذي تصيبه القروح فيموت، وقد غمرت القروح جسده، وهم يخافون إن غسلوه أن يتزلع. قال: يصب الماء عليه صبًا على قدر طاقتهم. قلت: أليس مالك يقول: لا ييمم بالصعيد ميت إلا رجلًا مع نساء أو امرأة مع رجال، فأما مجروح أو مجدور أو جرب أو غير ذلك ممن بهم الأدواء فلا ييممون ويغسلون على قدر ما لا يتزلعون فيه ولا يتفسخون؟. قال: نعم. ا. هـ. منه.
والحاصل أن السنة في غسل الميت هو أن يبدأ بمواضع الوضوء منه، وأن يغسل بالسدر أو ما في معناه من أشنان ونحوه، إذا كان على بدنه شيء من الدرن أو الوسغ، ويسرح شعره ويغسل وترًا، ويجعل في الآخرة كافورًا ليكون أنقى لبدنه.
وقال مالك: ليس لغسل الميت حدُّ موقت ولا صفة ولكن ما يطهره. وقال الشافعي: إن أنقى الميت في أقل من ثلاث غسلات، وبماء قراح أجزأ، ولكن أحب أن لا ينقص عن ثلاث. وقال النخعي: غسل الميت كغُسْل الجنابة. وقال أحمد وإسحاق: تكون الغسلات كلها بماء وسدر، وفي الأخيرة شيء من الكافور. ا. هـ. البغوي.
(1)
وقوله: ولف شعرها ولا يضفر؛ فقد ثبت في الصحيحين عن أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم فضفرنا شعرها ثلاث قرون فألقيناها خلفها. أخرجه البغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته.
وقوله: ثم محرم فوق ثوب ويممت لكوعيها؛ قد تقدم نقل فتوى مالك في ذلك عند قول المؤلف: ثم يمم لمرفقيه كعدم الماء، فليراجع هناك. =
وإنْ زَادَ لمْ ينَتظَرْ. والدُّعَاءُ، وَدَعَا بَعْدَ الرابِعَةِ عَلى المختارِ (1)، وإِنْ والَاهُ أَوْ
(2)
وقوله: وركنها النية؛ لأنها عمل فاضل من فضائل الأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّمَا الْأعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". الحديث.
وقوله: وأربع تكبيرات؛ هو لحديث أبي هريرة عند البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَى لنا النَّجاشيَّ اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى فصفَّ بهم، فكبر أربع تكبيرات. ا. هـ. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك. ا. هـ.
والتكبير على الجنازة أربعًا هو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، وإليه ذهب الثوري، ومالك، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو آخر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قال سعيد ابن المسيب: يكبر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعًا.
وروى ابن عبد البر في الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعًا، وخمسًا، وسبعًا، وثمانيًا، حتى جاء موت النجاشي، فخرج إلى المصلى وصف الناس وراءه، وكبر عليه أربعًا، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله. ا. هـ.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكبر على الميت خمسًا، ولذلك قال الإمام أحمد وإسحاق: إذا كبر الإمام خمسًا اتبع. وقد يلاحظ قول المؤلف: وإن زاد لم ينتظر؛ أي سلموا ولم ينتظروا سلامه. وأين هذا القول من قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ "؟!. علمًا بأنه روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعًا، وإنه كبَّر على جنازة خمسًا، فسألناه عن ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها. ا. هـ. أخرجه مسلم في صحيحه وأخرجه أحمد، والطحاوي، والطيالسي، وأصحاب السنن. كذا قال المعلق على شرح السنة.
(1)
وقوله: والدعاء، ودعا بعد الرابعة على المختار؛ أي ومن أركان صلاة الجنازة الدعاء من إمام ومأموم وفذ، وهو عند أصحابنا بعد كل تكبيرة، وأقله:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ". وأحسنه دعاء أبي هريرة رضي الله عنه: وهو: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ عَبْدُكَ ابْن عَبْدِكَ ابْن أَمتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إله إِلَّا أَنْتَ وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولك وَأَنْتَ أَعلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْهُ فِي إحْسَانِهِ وإِنْ كَاَنَ مُسيئًا فَتَجَاوَزْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عَنْ سَيِّئاتِهِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ". ا. هـ. ويقول في الرابعة:"اللَّهُمَّ مَنْ أحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأحْيِهِ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ فَتَوَفَّهُ عَلَى الإسْلَامِ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالُمُسْلِمَاتِ".
ونص المدونة في الموضوع: قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أي شيء يقال على الميت في قول مالك؟. قال: الدعاء للميت. قلت: فهل يقرأ على الجنازة في قول مالك؟. قال: لا. قلت: فهل وقت لكم مالك ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؟. قال: ما علمت أنه قال إلا الدعاء للميت فقط. وروى ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن عمر بن الخطاب، وعليِّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبيد بن فضالة، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع، والقاسم، وسالم بن عبد الله، وابن المسيب، وربيعة، وعطاء، ويحيى بن سعيد أنهم لم يكونوا يقرؤون في الصلاة على الميت. وقال مالك: ليس ذلك بمعمول به، إنما هو الدعاء، أدركت أهل بلادنا على ذلك. ا. هـ. منه.
وذهب عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسهل بن حنيف، إلى قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة، بعد التكبيرة الأولى، وبه قال الشافعي وأحمد، وإسحاق بن راهويه، مستدلين بحديث طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، فلما سلم سألته عن ذلك فقال: سنة وحق. ا. هـ. رواه الشافعي، والبخاري، والنسائي، والترمذي، والدارقطني.
قلت: وحيث إن الفاتحة دعاء، فإني أرى أنه لا خلاف بين المذهبين إذا قرئت بنية الدعاء، فهي والحالة هذه أولى وأحسن من غيرها من الأدعية، مع ملاحظة نية الدعاء بها والثناء على الله تعالى، ولا وجه لمنعها في نظري: والله الموفق.
ومن الدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه يحيى بن أبي بكير عن أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَصغِيرِنَا وَكبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا". أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
سلَّمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَعَادَ، وإنْ دُفِنَ فَعَلَى الَقبْرِ (1)، وَتسْلِيمَةٌ خَفِيَفةٌ، وسَمَّعَ الإمَامُ مَنْ يَلِيهِ (2)، وصَبَرَ المَسْبُوقُ للتَّكْبِير وَدَعَا إِنْ تُرِكَتْ وإِلَّا وَالَى.
وكُفِّنَ بِملبُوسِهِ لِجُمُعَةٍ (3)، وَقُدِّمَ كَمَؤُوَنةِ الدَّفْنِ عَلَى دَيْنِ غَيْرِ المُرْتَهِنِ (4)، وَلَوْ
(1)
وقوله: وإن دفن فعلى القبر؛ هو لدليل حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلًا فقال: "مَتَى دُفِنَ هذَا"؟. قالوا: البارحة. قال: "أَفلَا آذَنْتُمُوني"؟. قالوا: دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك. فقام فصففنا خلفه. قال: ابن عباس وأنا فيهم، فصلى عليه. ا. هـ. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه. ا. هـ. وهو في البخاري في الجنائز، وصحيح مسلم في الجنائز أيضًا.
(2)
وقوله: وتسليمة خفيفة وسمع الإمام من يليه؛ هو لما روي عن عبد الله ابن عمر أنه كان إذا صلى على الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه، أخرجه الموطا في الجنائز وإسناده صحيح. وروي عن أبي هريرة أنه كان يسلم من صلاة الجنازة تسليمة واحدة، أخرجه الدارقطني، والحاكم من طريق أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر عليها أربعًا، وسلم تسليمة واحدة، وسنده حسن. وقال الحاكم: التسليمة الواحدة على الجنازة قد صحت الرواية فيها عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة أنهم كانوا يسلمون على الجنازة تسليمة واحدة. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة.
(3)
وقوله: وكفن بملبوسه لجمعة؛ روي عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الْمَيتُ يُبْعَث فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا". رواه أبو داود في الجنائز، وإسناده صحيح.
وأخرج البغوي في شرح السنة: قال عبد الله بن المبارك: أحب إليَّ أن يكفن في ثيابه التي يصلي فيها. وفي صحيح مسلم من حديث جابر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَفَّنَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ".
(4)
وقوله: وقدم كمؤنة الدفن على دين غير المرتهن؛ هو لما رواه خبَّاب بن الأرت، قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى فلم يأكل =
سُرِقَ ثُمَّ إِنْ وُجِدَ وَعُوِّضَ وُرِثَ إِنْ فُقِدَ الدِّيْنُ كَأَكْلِ السَّبُعِ المَيِّتَ، وَهُوَ عَلى المُنْفِقِ بِقَرابَةٍ أَوْ رقٍّ لَا زوجِيَّةٍ، والفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وإلَّا فَعَلَى المُسْلِمِينَ، ونُدِبَ تَحْسِينُ ظَنِّهِ بالله تعالى (1)، وَتَقْبِيلُهُ عِنْدَ إِحْدَادِهِ (2) على
= من أجره شيئًا؛ منهم مصعب ابن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا "وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ". قال: ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها. ا. هـ. قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه محمد - يعني البخاري - عن محمد بن كثير عن سفيان عن الأعمش.
والنمرة ضرب من الأكسية. وقوله: فهو يهدبها أي يجنيها. يقال هدب الثمرة يهدبها هَدْبًا إذا اجتناها وقطفها.
قال البغوي: وفيه دليل على أن كفن الميت من رأس المال، وإذا استغرق كفنه جميع التركة كان أحق به من الورثة، وبه قال عطاء والزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة وعامة أهل العلم، قال إبراهيم: يبدأ بالكفن، ثم بالدين، ثم بالوصية. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وندب تحسين ظنه بالله تعالى؛ فهو لحديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لَا يَمُوتُنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ". قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن يحيى بن زكريا عن الأعمش، وقد صح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ سبحانه وتعالى: أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي، فَإنْ ذَكَرَني فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرَتُهُ فِي مَلأ خَيْرٍ مِنْهُمْ". أخرجه البخاري ومسلم.
وروي بإسناد غريب عن جعفر بن سليمان، عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيْفَ تجِدُكَ؟. قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أعْطَاهُ الله ما يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ".
أخرجه الترمذي، وابن ماجه.
وعن ثابت البناني قال: مرض رجل من الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فوافقه وهو في =
أَيْمَنَ ثُمَّ على ظَهْرٍ، وتَجَنُّبُ حَايضٍ وجُنُبٍ له (1)، وتَلْقينُهُ الشَّهادَةَ (2)،
= الموت، فسلم عليه، وقال:"كَيْفَ تَجِدُكَ "؟. قال: بخير، أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَجْتَمِعَانَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ فِي مِثْلِ هذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أعْطَاهُ اللهُ مَا يَرجُوهُ وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ". ا. هـ. وقال ابن عباس: إذا رأيت الرجل يموت، ليلقى ربه وهوحسن الظن به، وإن كان حيًا فخوفوه بربه عزو جل. ا. هـ. البغوي.
(2)
وقوله: وتقبيله عند إحداده، أي توجيهه إلى القبلة عند حضور الموت؛ وذلك لما رواه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: توفي وأوصى بثلثه لك يا رسول الله، وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصَابَ الْفِطْرَةَ وَقدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ". ثم ذهب فصلى عليه وقال: "اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ وَقَدْ فَعَلْتَ". ا. هـ. قال البيهقي: ويذكر عن الحسن قال: ذكر عمر الكعبة فقال: والله ماهي إلا أحجار نصبها الله قبلة لأحيائنا ونوجه إليها موتانا. ا. هـ. وقال البيهقي قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون أن يستقبلوا به القبلة؛ يعني إذا حضر الميت. ا. هـ.
قلت: وأما تقبيل الميت من القُبلة - بضم القاف - فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه - بأبي وأمي هو - قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وبكى صلى الله عليه وسلم حتى سالت دموعه على خد عثمان. رواه البغوي من حديث عائشة ومن حديث عاصم، وهو في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. أخرجه البخاري في الجنائز، باب الدخول على الميت. وأخرجه في المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وقول الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .
(1)
(1)
وقوله: وتجنب حائض وجنب له، قال به مالك، وأحمد، وعلقمة، وروي نحوه عن الشافعي وقال به الحسن، وابن سيرين، وعطاء، إلا أن إسحاق وابن المنذر اعترضا على كراهة ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"الْمَؤْمنُ لَيْسَ يَنْجُسُ". قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم خلافًا بينهم في صحة =
(1)
سورة الزمر 30.
وتَغْمِيضُهُ وشَدُّ لَحْيَيْهِ (1) إِذَا قضَى، وتَلْيينُ مَفَاصِلِهِ بِرِفْقٍ ورَفْعُهُ عَن
= تغسيلهما وتغميضهما له، ولكن الأولى أن يكون المتولي لأموره في تغميضه وتغسيله طاهرًا لأنه أكمل وأحسن. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وتلقينه الشهادة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ". رواه مسلم وقال الحسن: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟. قال: "أنْ تَمُوتَ يَوْمَ تَمُوتُ وَلسَانكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ". رواه سعيد. وليكن بلطف، ولا يكرر عليه إلا أن يتكلم بشيء بعدها، فيعيد تلقينه لتكون "لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ" آخر كلامه. وذلك لما رواه الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ آخِرَ كلَامِه لَا إلهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". ورواه أبو داود. وقال أحمد بن حنبل: ويقرؤون عند الميت ليخفف عنه بالقراءة؛ يقرأ {يس} مثلًا وفاتحة الكتاب. روى سعيد: حدثنا فرج بن فضالة عن أسعد بن وداعة، لما حضر غُضيف بن حارث الموت، حضره إخوته، فقال: هل فيكم من يقرأ سورة {يس} ؟. قال رجل من القوم: نعم. قال: أقرأ ورتِّلْ، وأنصتوا. فقرأ ورتل وأسمع القوم، فلما بلغ:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . خرجت نفسه، قال أسد بن وداعة: فمن حضره منكم الموت، فشدد عليه، فليقرأ عنده سورة {يس} فإنه يخفف عنه الموت. ا. هـ. من المغني لابن قدامة بتصرف.
(1)
وقوله: وتغميضه وشد لحييه؛ أما تغميضه فإنه لما روي عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله {يس} على أبي سلمة وقد شقَّ بَصَرُه فأغمضه ثم قال: "إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تبِعَهُ الْبَصَرُ". فضجَّ ناس من أهله. فقال: "لَا تَدْعُو عَلَى أنْفسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ فَإنَّ الْمِلَائِكَةَ يُؤمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثم قال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمَةَ وَارْفع دَرَجَتَهُ في الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ". رواه البغوي وقال: هذا حديث صحيح. وهو في صحيح مسلم. ورواه أبو داود. ويستحب لمن يغمضه أن يقول بسم الله وعلى ملة رسول الله. انظر البيهقي.
وأما قوله: وشد لحييه؛ فهو لما روي أن عمرر ضي الله عنه قال لابنه حين حضرته الوفاة: ادن مني، فإذا رأيت روحي قد بلغت لهاتي: فضع كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني =
الأرْضِ (1)، وسَتْرُهُ بِثَوْبٍ، وَوَضْعُ ثَقِيلٍ على بَطْنِهِ (2)، وإِسْرَاعٌ بِتَجْهِيزِهِ إِلَّا الغَرِقَ (3)، وللغُسْلِ سِدْرٌ وتَجْرِيدُهُ وَوَضْعُهُ على مُرْتَفِعٍ وإِيتَارُهُ كَالْكَفَنِ لِسَبْعٍ (4)
= وأغمضني. رواه في المغني وقال: ويستحب شد لحييه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ورفعه عن الأرض، لما روي عن ابن عباس أنه لما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، رفع على سريره في بيته صلى الله عليه وسلم.
(2)
وروى البيهقي بسنده عن عبد الله بن آدم قال: مات مولى لأنس بن مالك عند مغيب الشمس فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدة. وذلك قول المصنف: ووضع ثقيل على بطنه.
وقوله: وستره بثوب؛ هو لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سُجِّيَ بِبُرْدٍ حبرة، رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، والبيهقي، والبغوي.
(3)
وقوله إسراع بتجهيزه إلا الغرق؛ هو لما أخرجه البيهقي وأبو داود عن حصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال:"إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْت فآذِنُوني بِهِ حَتَّى أشْهَدَهُ فَأُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَعَجّلُوه، فَإنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمِ أنْ تحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَي أهْلِهِ". ا. هـ. قال الشوكاني: وفي الباب عن عليٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثَ يَا عَليُّ لَا يُؤخَّرْنَ: الصَّلَاة إذَا آنَتْ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كفْؤًا". أخرجه أحمد وهذا لفظه، والترمذي ولكنه قال: لَا تؤَخِّرْهَا بدل: لَا يُؤخَّرْنَ. وأما قول المؤلف: إلا الغرق؛ فقد قال البيهقي: وروي في الاستيناء بالغريق حديث مرفوع لا يثبت مثله، وروي عن الحسن البصري في الاستيناء بالمصعوق، وكان الشافعي يستحب ذلك حتى يتبين موته. ا. هـ. منه. وبالله التوفيق.
(4)
قوله: وإيتاره كالكفن لسبع؛ هو لما رواه أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية في غسل إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديثها:"اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا، أوْ خَمْسًا، أوْ سَبْعًا". ا. هـ. وبالنسبة للكفن، فقد روي عن عائشة أن رسول صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. ا. هـ. =
وَلَمْ يُعِدْ كالوضُوءِ لِنَجَاسَةٍ، وغُسِلَتْ، وعَصْرُ بَطْنه بِرِفْقٍ (1) وَصَبُّ الْمَاءِ فِي غَسْلِ مَخْرَجَيْهِ بِخِرْقَةٍ، وَلَهُ الإفْضَاءُ إِنْ اضْطُرَّ لَهُ (2)، وَتَوْضِئتُهُ وَتَعَهدُ أَسْنَانِهِ وأَنْفِهِ بِخرْقَةٍ وإِمَاَلةُ رَأْسِهِ بِرِفْقٍ لِمَضْمَضَةٍ، وَعَدَمُ حُضُورِ غَيْر مُعِينٍ (3) وَكَافُورٌ
= وقال في المدونة: وكان مالك يستحب في الأكفان وترًا وترًا، إلا أن لا يوجد ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفِّن في ثلاثة أثواب، وأن أبا بكر كفِّن في ثلاثة أثواب أحدها ملبوس غسيل. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وعصر بطنه برفق؛ هو لما في المدونة: وقال مالك: يعصر بطن الميت عصرًا خفيفًا. ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد قال: إذا غسل الميت فطهر، فذلك غسل وطهر. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وصب الماء في غسل مخرجيه بخرقة، وله الإفضاء إن اضطر له؛ هو أيضًا لفتوى المدونة: وقال مالك: يجعل على عورة الميت خرقة إذا أرادوا غسله ويفضي الذي يغسله بيده إلى فرجه، إن احتاج إلى ذلك، ويجعل على يده خرقة إذا أفضى بها إلى فرجه، وإن احتاج إلى ترك الخرقة ومباشرة الفرج بيده فعل، كل ذلك وامع. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وعدم حضور غير معين؛ قال ابن قدامة: وإنما كره أن يحضره من لا يعين في أمره لأنه يكره النظر إلى الميت إلا لحاجة، ويستحب للحاضرين غض أبصارهم عنه إلا من حاجة؛ وسبب ذلك أنه ربما بكون للميت عيب يكتمه، ويكره أن يطلع عليه بعد موته، إلى غير ذلك. ولهذا أحببنا أن يكون الغاسل ثقة أمينًا صالحًا، ليستر ما يطلع عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لِيَغْسِلْ مَوْتَاكمْ الْمَأْمُونُونَ". رواه ابن ماجه. انتهى من المغني بتصرف. وروى ابن ماجه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا ثُمَّ لَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوِبِه كَيَوْمِ وَلَدَتة أمُّهُ".
وقوله قبل: وتوضئته وتعهد أسنانه وأنفه بخرقة الخ؛ قال ابن قدامة: وجملة ذلك أنه إذا أنجاه وأزال عنه النجاسة، بدأ بعد ذلك فوضأه وضوء الصلاة؛ فيغسل كفيه ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها ويجعلها على أصبعه فيمسح بها أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق، ثم وجهه ويتم وضوءه؛ لأن الوضوء يبدأ في غسل الحي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِينِهَا =
فِي الأخِيرَةِ، ونُشِّفَ، وَاغْتِسَالُ غَاسِلِهِ (1)، وبَيَاضُ الكَفَنِ (2)، وَتَجْمِيرُهُ (3)،
= وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". متفق عليه. وفي حديث أم سليم: "فَإذَا فَرَغْت مِنْ غَسْلِ سفلَتهَا نَقِيًا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، فَوَضِّئِيهَا وُضُوءَ الصَّلَاةِ ثمَّ اغسِلِيهَا". ا. هـ. منه بتصرف. واختلف في المضمضة والاستنشاق؛ فذهب الشافعي ومن وافقه إلى فعلهما لأنهما يفعلهما الحي، وقال: سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأبو حنيفة والحنابلة: لا يدخل الماء فاه ولا منخريه، لأن ذلك يفضي إلى المثلة به، إذا وصل جوفه، ولأنه لا يؤمن خروجه إلى أكفانه. ولم يحد مالك في ذلك شيئًا في المدونة. والله تعالى أعلم.
(1)
وقوله: واغتسال غاسله، أي وندب اغتسال غاسل الميت؛ تنشيطًا لنفسه وإذهابًا لفتورها؛ وذلك حملًا لحديث أبي هريرة عند الموطإ:"مَنْ غَسلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ": على الندب، فقد روى البيهقي بسنده عن ابن عباس:"لَيْسَ عَلَيْكمْ فِي مَيِّتِكُمْ غسْلٌ إن غَسِّلْتُمُوهُ" ا. هـ. قال: وروينا ذلك عن عطاء وسعيد بن جبير وابن عباس، قال: وروينا من وجه آخر عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا "لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُم فَإن المُسْلِمَ لَيْسَ بِنَجِس حَيًّا وَلَامَيتًّا". ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وبياض الكفن، لما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البسُوا مِنْ ثِيَابِكُم البيَاضَ فَإنَّهُ مِنْ خَيْرِ ثيَابكُم، وَكَفنوا فِيهِ مَوتاكُم، وَمِنْ خَيْرِ أكحَالِكُم الإثمِدُ، فَإنهُ يُنْبِت الشعْرَ وَيجْلُو البَصَرَ". ا. هـ. أخرجه البغوي وقال: قال أبو عيسى: هذا الحديث حسن صحيح. والحديث هذا أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي إلى غير ذلك.
(3)
وقوله وتجميره، قال في المدونة: قال مالك: وتجمر ثياب الميت. ا. هـ. ويروى أن أسماء بنت أبي بكر قالت لأهلها: أجمروا ثيابي إذا مت، ثم حنطوني، ولا تذرُّوا على كفني حنوطًا، ولا تتبعوني بنار. ا. هـ. أخرجه الغوي في شرح السنة، وهو في الموطإ عن هشام بن عروة عن أسماء.
وفي مصنف عبد الرزاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء. وفي مصنف ابن أبي شيبه، عن عبدة بن سليمان عن هشام عن فاطمة عن أسماء. ا. هـ.
وعَدَمُ تَأخُّرهِ عَنِ الْغَسْلُ (1)، والزِّيَادَةُ عَلى الْوَاحِدِ (2)، ولَا يُقْضَى بالزَّائدِ إِنْ شَحَّ الْوَارِث، إِلَّا أن يوصِيَ فَفِي ثُلُثِه، وَهَل الواجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُهُ أوْ سترُ العَوْرَة والبَاقِي سُنَّة خِلَافٌ (3)، وَوترُه (4)، والاثنانِ عَلى الْوَاحِدِ والثَلَاثةُ على
(1)
وقوله: وعدم تأخيره عن الغسل، قد تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: وإسراع بتجهيزه وعلاة على ذلك فإنه يستأنس له بما ورد في الإسراع بالجنازة؛ فقد روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرِعوا بِالْجَنَازَة فَإن تَكُ صَالِحَة، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُ إليهِ، وإنْ تَكُ سِوَى ذلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهَا عَنْ رِقَابِكُمْ". أخرجه البغوي وقال هذا حديث متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعْنَاقِهمْ؛ فَإن كَانَتْ صَالِحَةً قَالَت: قَدِّمُوني. وإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَة قَالَتْ لِأهْلِهَا: يَاوَيلَهَا أيْنَ تَذْهَبونَ بِهَا. يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَئٍ إلَّا الإنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَ الإنْسَان لَصَعِقَ". ا. هـ. رواه البغوي، وهو في البخاري.
(2)
وقوله: والزيادة على الواحد؛ قال في المدونة: أحب إليَّ أن لا يكفن الميت في أقل من ثلاثة أثواب إلا أن لا يوجد ثلاث أثواب. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وهل الواجب ثوب يستره، أو ستر العورة والباقي سنة خلاف؛ الظاهر من الخلاف الأول؛ ألا ترى إلى ما أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إِذَا كَفَّنَ أحَدُكمْ أخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ". فهل من المعقول أن يكون الأمر صادقًا على ستر عورته؟. وأيضًا لما كانت النمرة إذا وضعوها على رأس مصعب رضي الله عنه خرجت منها رجلاه، وإذا وضعت على رجليه خرجت منها رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجْعَلُوهَا مِمَّا يَلِي رَأسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذخِرِ". فلو أن غير العورة لا يجب ستره لما احتاجوا أن يغطوه بالإذخر، هكذا يظهر لي على قصوري. وبالله تعالى التوفيق.
(4)
وقوله: ووتره، تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: وإيتاره كالكفن لسبع. وقوله: والاثنان على الواحد؛ لعله لأنه أبلغ في الستر، وقوله: والثلاثة على الأربعة؛ غني عنه لأن الأربعة غير وتر=
الأرْبَعَةِ، وتَقْمِيصُهُ وتَعْمِيمُهُ وعَذَبَةٌ فيهَا وَإزْرَة ولفافَتَانِ، والسَّبْعُ للمَرأةِ، وحَنُوطٌ دَاخِلَ كُلِّ لفَافَةٍ وعلى قُطْنٍ يُلْصَقُ بِمَنَافِذِهِ (1) والْكَافُورُ فيهِ وَفي
= والثلاثة غاية في الكفن؛ لما علمت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب وأبو بكر كذلك.
وقوله: وتقميصه وتعميمه الخ. هو على مذهب المدونة: قال: والرجل أحب إليَّ أن يعمم. هذا في العمامة، أما في الأعداد الأخرى فإنها ليست في المدونة وإنما فيها: قال ابن القاسم: وكان مالك يستحب في الأكفان وترًا وترًا إلا أن لا يوجد ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وأن أبا بكر كفن في ثلاثة أثواب، أحدها ملبوس غسيل. ا. هـ. منه.
قلت: وحيث إنه روي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تَغالَوْا فِي الْكَفَنِ فَإنهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا". وحيث إن أصح الروايات في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه. والسحل الأبيض النقي من القطن. وحيث إن أكثر أهل العلم استحبوا التكفين في ثلاثة أثواب لفائف بيض من قطن. أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول القرآن في حقه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
(1)
. فإن الأفضل في كفن الرجل أن يكون في ثلاثة أثواب بيض من قطن، ولا بأس إن كان ذلك على ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: الميت يقمص ويؤزر ويلف في الثوب الثالث. أخرجه الموطأ، ورواه عبد الرزاق عن مالك وإسناده صحيح.
وأن المرأة تكفن في خمسة أثواب؛ لما روي عن ليلى الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاتها فأول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الآخر. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وحنوط داخل كل لفافة، وعلى قطن يلصق بمنافذه؛ قال في المدونة: وقال ابن القاسم يجعل الحنوط على جسد الميت، وفيما بين أكفانه ولا يجعل من فوقه. ا. هـ.
وروى ابن وهب قال عطاء بن أبي رباح: أحب الحنوط إليَّ الكافور، ويجعل منه في مراقه وإبطيه ومراجع رجليه ومأبضيه ورفغيه وما هنالك، وفي أنفه وفمه وعينيه وأذنيه. ا. هـ. منه.
(1)
سورة الأحزاب: 21.
مَسَاجِدِهِ وحَوَاسِّهِ ومَرَاقِّهِ، وإنْ مُحْرِمًا ومُعْتَدَّةً وَلَا يَتَوَلَّيَاهُ (1)، وَمَشْيُ مُشَيعٍ (2) وإسْرَاعُهُ وَتقَدُّمُهُ وَتأَخُّرُ رَاكِبٍ (3) وَامْرأَةٍ (4) وسترُهَا بِقُبةٍ (5)، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ بأولَى
(1)
وقوله: وإن محرمًا ومعتدة ولا يتولياه؛ قال في المدونة: وقال مالك في المحرم: لا بأس أن يحنط إذا كان الذي يحنطه غير محرم. ا. هـ. منه. وأما المعتدة فإنه لانقطاع تكليفها، وهو أمر وجيه بالنسبة إليها؛ لعدم ورود النهي عن أن تمس طيبًا بعد موتها، بخلاف المحرم فإنه ورد في الذي وقصته دابته وهو محرم قوله صلى الله عليه وسلم:"اغْسلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ كفِّنُوهُ فِي ثَوبَيهِ، وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ وَلَا تُخَمِّروا رَأسَهُ، فَإنهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبيًا". متفق عليه. من حديث ابن عباس؛ فالقول بجواز تطييب الميت المحرم بعد الوقوف على هذا الحديث الصحيح فيه ما فيه من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ولعل الإمام لم يبلغه هذا الحديث، ومعلوم أن القول بانقطاع إحرامه، لعدم تكليفه، اجتهاد مقدوح فيه بالقادح المسمى بفساد الاعتبار، الذي هو مخالفة الاجتهاد للنص. والله الموفق.
(2)
وقوله: ومشي مشيع وإسراعه وتقدمه؛ هو لما روى مالك في الموطإ: حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة والخلفاء هلم جرا. وعبد الله بن عمر. وحدثني عن مالك عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه أخبره أنه رأى عمر بن الخطاب يقدم الناس أمام الجنازة في جنازة زينب بنت جحش. ا. هـ.
وقوله: وإسراعه؛ هو للحديث المتفق عليه الذي تقدم "أسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ فَإنْ تَكُنْ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ". الحديث، وروي عن أبي هريرة قال:: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع الجنازة قال: "انْبَسِطُوا بِهَا وَلَا تَدِبِّوا بِهَا دَبِيبَ اليَهُود بِجَنَائِزِهَا". والمراد بذلك إسراعًا دون الخبب، لما روي عن ابن مسعود قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي بالجنازة فقال: "مَا دُونَ الْخَبَبِ". رواه أبو داود والترمذي، وقال: يرويه أبو حامد وهو مجهول. ا. هـ. ابن قدامة.
(3)
وقوله: وتأخر راكب؛ هو لما رواه أبو داود والترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، والْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأمَامَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَرِيبًا مِنْهُ". رواه أبو داود، ولفظ الترمذي نحو منه:"الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَة، وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطفْل يُصَلَّى عَلَيْهِ". وقال: هذا حديث صحيح - ويكره الركوب في اتباع الجنائز لما رواه ثوبان قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة =
التَّكْبِيرِ (1) وابْتِدَاءٌ بِحَمْدٍ وصَلَاةٍ عَلى نَبِيهِ عليه الصلاة والسلام، وإسْرَارُ دُعَاءٍ (2) وَرَفْعُ صَغِيرٍ عَلَى أكُفٍّ، وَوُقُوفُ إِمَام بِالْوَسَطِ ومَنْكبَي المَرأةِ وَرَأسُ الميِّتِ
= فرأى ركبانًا فقال: "ألَا تَسْتَحُونَ؟. إن مَلَائكَةَ اللهِ عَلَى أقْدَامِهِمْ وَأنتمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ". رواه الترمذي. وأما الركوب في الرجوع من الجنازة فلا بأس به، لما رواه جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم اتِّبعَ جنازة ابن الدَّحْدَاح ماشيًا ورجع على فرس. رواه مسلم، والترمذي وقال: حديث حسن.
(4)
وقوله: وامرأة؛ يريد تأخير المرأة المشيعة عن الراكب، وصوابه أن يقول بكراهة خروجها لما روي عن أم عطية قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. متفق عليه، وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا نسوة جلوس، قال:"مَا يُجْلِسُكُنَّ"؟. قلن: ننتظر الجنازة. قال: "هَلْ تُغَسَّلْنَ"؟. قلن: لا. قال: "هَلْ تَحْمِلْنَ"؟. قلن: لا. قال: "هَلْ تُدْلِينَ فِيمَنْ يُدْلِي"؟. قلن: لا. قال: "فَارْجِعنَ مَأزُورَاتٍ غَيْرَ مَأجُورَاتٍ".
(5)
وقوله: وسترها بقبة؛ لعله لما أخرجه حماد على الأنساب في شرح قول الناظم:
وتحته غزال بنت كسرى
…
وذات نعش حجبوه سترًا
قال: وأما ذات النعش: فهي بادنة أو بادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فذكر من شأنها. قول المخنث هيث فيها لمولاه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، إلى أن قال: وتزوجها عبد الرحمن بعد ذلك فولدت له جويرة بنت عبد الرحمن، وولدت للمسور بن مخرمة، وتوفيت بادنة في خلافة عمر بن الخطاب، فخرج في جنازتها، فلما رآها آذاه شحمها، فأمر بضرب قبة عليها، فكان مدرك شرع تغطية جنائز النساء. ا. هـ. فإن صح ما نقل فهو من سنة المسلمين. وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: ورفع اليدبن بأولى التكبير؛ تبع فيه رأي ابن القاسم وما يرويه عن مالك في المدونة؛ قال في المدونة: وقال مالك بن أنس: ترفع الأيدي في الصلاة على الجنازة في أول التكبير. قال ابن القاسم: وحضرته غير مرة يصلي على الجنائز فما رأيته يرفع يديه إلا في أول التكبير. ا. هـ. منه.
قال البغوي: رفع اليدين سنة في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة. واختلف أهل العلم في سائر التكبيرات؛ فذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن عمر أنه يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة. وعن أنس مثله. وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ويروى عن عطاء بن =
عَن يَمِينهِ (1) وَرَفْعُ قَبْرٍ كَشِبْرٍ مُسَّنمًا وتُؤُوِّلتْ أيْضًا عَلى كَرَاهَتِهِ فَيُسَطَّحُ (2)، وَحَثْوُ
= رباح، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول ابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
قلت: وهو رواية المدونة عن مالك؛ ففيها ما نصه: قال ابن وهب: وأن عمر بن الخطاب، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، وموسى بن نعيم، وابن شهاب، وربيعة، ويحيى بن سعيد، كانوا إذا كبروا على الجنازة رفعوا أيديهم في كل تكبيرة. قال ابن وهب: وقال لي مالك: إنه ليعجبني أن يرفع يديه في التكبيرات الأربع. ا. هـ. منه.
قال البغوي: وذهب قوم إلى أنه لا يرفع إلا في التكبيرة الأولى. وهو قول الثوري وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه. فلم يبق لطالب العلم إلا أن يرجح بين القولين. والله الموفق.
(2)
وقوله: وابتداء بحمده وصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام وإسرار دعاء، قد تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: والدعاء ودعا بعد الرابعة على المختار.
(1)
وقوله: ووقوف إمام بالوسط ومنكبي المرأة ورأس الميت عن يمينه؛ فهو يعني بذلك على ما للفقهاء من أصحابنا، أن وقوفه وسط المرأة ربما يتذكر في الصلاة ما ينافيها، وأجابوا على الاستدلال بوقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط المرأة؛ بأنه فعل ذلك لعصمته من تذكره ما ينافي الصلاة.
قلت: الأسوة به صلى الله عليه وسلم والعبرة بقوله وفعله وتقريره، ودعوى الخصوص تحتاج إلى دليل نقلي، وقد جاءت السنة الصحيحة من حديث سمرة قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأه ماتت في نفاسها، فقام وسطها. متفق عليه. وروي عن همام، عن أبي غالب قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاؤوا بجنازة امرأة فقام حيال وسط السرير. ويروى: عند عجيزتها. فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟. قال: نعم. وهذا الحديث أخرجه البغوي في شرح السنة، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأحمد، والطيالسي، وإسناده صحيح. وبه أخذ الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، وهو الذي تقتضي السنة الأخذ به. والله الموفق.
(2)
وقوله: ورفع قبر كشبر مسنمًا وتُؤُوِّلت أيضًا على كراهته فيسطح؛ يروى عن الشافعي قوله: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم، ولذلك ذهب الإمام الشافعي إلى تسطيح القبر؛ روي عن =
قَريبٍ فِيهِ ثلَاثًا (1)، وتَهْيئةُ طَعَامٍ لأهْلِهِ (2) وَعَدَمُ عُمْقِهِ، واللَّحْدُ (3) وَضَجْعٌ
= القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمًا وأبا بكر رأسه عند كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم هكذا أخرج البغوي في شرح السنة. وهو في سنن أبي داود، وأخرجه الحاكم في المستدرك. ومن يقول بتسنيم القبر يستدل بحديث سفيان بن التمار قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنَّمًا. رواه البخاري في الجنائز، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة وأحمد والمزني وكثير من أصحاب الشافعي، بل ادعى القاضي حسين اتفاق أصحابهم على ذلك.
قال البغوي: ويكره أن يرفع فوق الأرض مشرفًا. قال الشافعي: إلا قدر ما يعرف أنه قبر لكي لا يوطأ ولا يجلس عليه وهو قدر شبر. ا. هـ. منه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن عثمان بن مظعون وضع عند رأسه حجرًا وقال: "لِيُعْلَمَ قَبْرُ أَخِي وَأدْفِنُ إليْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي". أخرجه البغوي في شرح السنة وهو في سنن أبي داود وسنده حسن. وقال ابن حجر في التلخيص: أخرجه ابن ماجه، وسنده حسن. ا. هـ.
(1)
وقوله: وحثو قريب فيه ثلاثًا؛ هو لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حثا على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعًا. ا. هـ.
وروى ابن ماجه في الجنائز من حديث أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثًا، ورجاله ثقات، قاله ابن حجر في التلخيص.
(2)
وقوله: وتهيئة طعام لأهله؛ لما رواه سفيان بن عيينة عن جعفر عن أبيه عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِصْنَعُوا لآِلِ جَعْفَر طَعَامًا فَقَدْ أتَاهُمْ مَا يُشْغِلُهُمْ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
تنبيه: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر - يعني في الجاهلية - ولذلك قالوا: يكره عند الميت. روى عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا عَقْرَ فِي الإسْلَامِ". أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح.
وقوله: وعدم عمقه، مخالف لما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احْفُرُوا وَأَوسِعُوا وَاعْمِقُوا". =
فِيهِ عَلَى أَيْمَنَ مُقَبَّلًا (1)، وَتُدُورِكَ إِنْ خُولِفَ بِالْحَضْرَةِ كَتَنْكِيسِ رِجْلَيْهِ وَكَتَرْكِ
= (3) وقوله: واللحد، سمي لحدًا لأنه في ناحية ملتحدًا معدولًا، ولو كان مستقيمًا كان ضريحًا. قال البغوي، ودليل فضيلة اللحد ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان بالمدينة رجلان، أحدهما يلحِد والآخر لا يلحِد، فقالوا: أيهما جاء أولًا عمل عمله، فجاء الذي يلحِد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الحديث أخرجه بهذا اللفظ البغوي، وهو في الموطإ، وله شاهد عند ابن ماجه، وأحمد.
وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أبو عبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يلحد لأهل المدينة، فدعا العباس رجلين ثم قال: اذهب أنت إلى أبي عبيدة، واذهب أنت إلى أبي طلحة، اللهم خِرْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فلحد. ا. هـ. أخرجه بهذا اللفظ البغوي في شرح السنة، وهو في سنن ابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، وأخرجه البيهقي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات. ا. هـ.
وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّحْدُ لَنَا وَالشِّقُّ لِغَيْرِنَا". أخرجه البغوي في السنة، وأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن سعد في الطبقات، والبيهقي. ا. هـ.
(1)
وقوله: وضجع فيه على أيمن مقبَّلًا؛ قال البغوي في شرح السنة: ويدفن الميت مستقبل القبلة على جنبه الأيمن. قال عمر وذكر الكعبة: والله ما هي إلا أحجار نصبها الله قبلة لأحيائنا، ويوجه إليها موتانا. ا. هـ. منه.
واختلف أهل العلم في أخذ الميت من شفير القبر؛ فذهب بعضهم إلى أن الجنازة توضع في أسفل القبر، ويسل الميت من قبل رأسه، وبه قال الشافعي. ومنهم من قال: يؤخذ من قبل القبلة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرًا ليلًا فأسرج له سراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال:"رَحِمَكَ اللهُ إِنْ كُنْتَ لأوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ". قال البغوي: إسناده ضعيف، والأول هو المشهور بأرض الحجاز. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر، قال:"بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". وفي رواية "وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ". رواه بهذا اللفظ البغوي. وهو في ابن ماجه، والترمذي، وأبو داود أخرجه في سننه، وسنده صحيح. وأخرجه أحمد في المسند، وأخرجه الحاكم في المستدرك. ا. هـ.
الْغَسْلِ ودَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، إنْ لَمْ يُخَفْ التَّغَيُّرُ، وَسَدُّهُ بِلَبِنِ ثُمَّ لَوْحٍ ثُمَّ قُرْمُودٍ ثُمَّ آجُرٍّ، ثُمَّ قَصَبٍ، وَسَنُّ التُّرابِ أَوْلَى مِنَ التَّابوتِ، (1) وَجَازَ غَسْلُ امْرأَةٍ ابْنَ كَسَبْعٍ، ورَجُلٍ كَرَضِيعَةٍ (2)، والْمَاءُ المُسَخَّنُ وعَدَمُ الدَّلْكِ لكثْرَةِ المَوْتَى، وتَكْفِينٌ بِمَلْبُوسٍ أَوْ مُزَعْفَرٍ أَوْ مُوَرَّسٍ (3) وحَمْلُ غَيْر أرْبَعَةٍ وَبدْءٌ
(1)
وقوله: وسده بلبن؛ هو لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرض موته: إِلْحَدُوا لي لحْدًا، وانصبوا عليَّ اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم في صحيحه. باب اللحد ونصب اللبن علي الميت. وندب أن يسد خلله بالطين لئلا يصل التراب إلى الميت، وإن جعل مكان اللبن قصب فحسن، لأن الشعبي قال: جعل على لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنُّ قصب. والظنُّ: الحزمة، قال: فإني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك. ا. هـ. ابن قدامة.
(2)
وقوله: وجاز غسل امرأة ابن كسبع ورجل كرضيعة؛ قال في المدونة: وقال مالك: لا بأس أن يغسل النساء الصبي ابن سبع سنين وما أشبهه. ا. هـ. منه. قال ابن قدامة: وللنساء غسل الطفل بغير خلاف. فال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة لها أن تغسل الصبي الصغير. قال أحمد: لهن أن يغسلن من له دون سبع سنين. ا. هـ. منه.
قلت: لأنه لا عورة له وليس من مأموري الصلاة، وأما من بلغ عشرًا فلا يغسلنه قطعًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ". والخلاف فيما بين السبع والعشر فلا نص. والله تعالى أعلم.
أما الرجل فإنه لا يغسل الجارية، لما كان عليه السلف من النهي عن ذلك. انظر ابن قدامة.
(3)
وقوله: وتكفين بملبوس أو مزعفر ومورس؛ هو لما روي عن أبي رضي الله عنه أنه قال: خذوا هذا الثوب - لثوب عليه قد أصابه مِشْقٌ أو زعفران - فاغسلوه وكفنوني فيه، وفي ثوبين آخرين، الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهلة. ا. هـ. أخرجه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن عائشة. ا. هـ. من المعلق على شرح السنة.
قال البغوي: وقال عبد الله بن المبارك: أحب إليَّ أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها. ا. هـ.
بأيِّ جِهَةٍ، والْمُعيِّنُ مُبْتَدِعٌ (1)، وَخُروجُ مُتَجَالَّةٍ أو إِن لَمْ يُخْشَ مِنْهَا الفِتْنَةٌ في كَأبٍ وزوج وابْنٍ وأخٍ (2)، وسَبْقُهَا وَجُلُوسٌ قَبْلَ وَضْعِهَا (3) وَنَقْلٌ، وإنْ مِنْ بَدْوٍ
(1)
وقوله: وحمل غير أربعة وبدء بأي جهة والمعين مبتدع؛ هو لما في المدونة: قلت لمالك: من أي جوانب السرير حمل الميت، وبأي ذلك أبدأ؟. قال: ليس في ذلك شيء موقت، احمل من حيث شئت؛ إن شئت من قدام؛ وإن شئت من وراء؛ وإن شئت احمل بعض الجوانب ودع بعضًا، وإن شئت فاحمل وإن شئت فدع. ورأيته يرى أن الذي يذكر فيه الناس يبدأ باليمين بدعة. ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن منصور عن عبيدة بن بسطاس، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه قال: احمل الجنازة من جوانبها الأربعة فإنها السنة، ثم إن شئت فتطوع وإن شئت فدع. ا. هـ. منه.
وفي البغوي: قال عبد الله بن مسعود: إذا اتبع أحدكم الجنازة فليأخذ جوانب السرير الأربعة، ثم ليتطوع بعد أو ليذر، فإنه من السنة، أخرجه: أبو داود الطيالسي، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، والبيهقي.
قال الشافعي: فإن كثر الناس أحببت أن يكون أكثر حمله بين العمودين، ومن أين حمل فحسن. ا. هـ.
(2)
وقوله: وخروج متجالَّة أو إن لم يخش منها الفتنة، في كأب وزوج وابن وأخ؛ هو لما في المدونة: قال مالك: لا بأس أن تتبع المرأة جنازة ولدها ووالدها، ومثل زوجها وأختها إن كان ذلك مما يعرف أنه يخرج مثلها على مثله. فقلت لمالك: وإن كانت شابة؟. قال: نعم: وإن كانت شابة. قال: فقلت: أيكره أن تخرج على غير هؤلاء ممن لا ينكر لها الخروج عليهم من قرابتها؟. قال: نعم. ا. هـ. منه.
قلت: قد تقدم عند قول المؤلف: وتأخر راكب وامرأة، ما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا نسوة جلوس قال:"مَا يُجْلِسُكُنَّ"؟. قلن: ننتظر الجنازة. قال: "هَلْ تُغَسِّلْنَ"؟. قلن: لا. قال: "هَلْ تَحْمِلْنَ"؟. قلن: لا. قال: "هَلْ تُدْلِينَ فِيمَنْ يُدْلِي"؟. قلن: لا. قال: "فَارْجِعْنَ مَأزُوراتٍ غَيْرَ مَأجُورَاتٍ". والله الموفق. =
وبُكى عَليْهِ عندَ مَوْتهِ بِلَا رَفْعِ صَوْتٍ وَقَوْلٍ قَبِيحٍ (1)، وَجَمْعُ أمْوَاتٍ بِقَبْرٍ لِضَرُوةٍ وَوُلِّيَ القِبلَةَ الأفْضَلُ (2)، أَوْ بِصَلَاةٍ يَلِي الإمَامَ رَجُلٌ فَطِفْلٌ فَعَبْدٌ
= (3) وقوله: وسبقها والجلوس قبل وضعها؛ هو لما روي عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فوجدنا القبر لم يلحد، فجلس وجلسنا معه. وفي رواية: فجلس مستقبل القبلة وجلسنا معه. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وإسناده قوي. ا. هـ.
(1)
وقوله: وبكى عليه عند موته بلا رفع صوت وقول قبيح؛ لما روى أنس قال: شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله عليه الصلاة والسلام جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان. وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، ورفع رأسه وعيناه تهرقان. وروى أنس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأصِيبَ، ثُم أخَذَهَا جَعْفَرُ فأصِيبَ، ثم أخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رُوَاحَةَ فَأصِيبَ، وإنَّ عَيْنَيْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ".
وروي عن عائشة: دخل أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم بكى. وكلها أحاديث صحاح. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ولده إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟. فقال: "يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ". ثم أتبعها بأخرى، فقال:"إِن الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وإنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمحْزُونُونَ". متفق عليه.
وفي رواية الترمذي: فقال له عبد الرحمن بن عوف. أتبكي؟. أو لم تكن نهيت عن البكاء؟. قال: "لَا، وَلكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، صَوْتٍ عِنْدَ مُصيبَةٍ؛ وَخَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ الشَّيْطَانِ". قال الترمذي هذا حديث حسن. ا. هـ.
(2)
وقوله وجمع أموات بقبر لضرورة، وولي القبلة الأفضل؛ هو لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر رضي الله عنه، أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم بقول: "أيُّهُمْ أكثَرُ أَخذًا لِلْقرْآنِ؟. فإذا أشير إلى أحد قدمه في =
فَخَصِيٌّ فَخُنْثَى كَذلِكَ، وَفِي الصنف أيضًا الصف (1)، وزيارة القبور بِلَا حَدٍّ (2)، وَكُرِهَ حَلْقُ شَعْرِهِ وَقَلْمُ ظُفْرِهِ وَهُوَ بِدْعَةٌ، وضُمَّ مَعَهُ إِنْ فُعِلَ، ولَا تُنْكَأ قُروحُهُ، ويؤخَذُ عَفْوُهَا، وقراءَةٌ عند موته كتَجْمير الدَّارِ، وبَعْدَهُ عَلى قَبْرهِ، وصِياحٌ خَلْفَهَا، وقَوْلُ: اسْتَغْفِرُوا لَها، وانْصِرَافٌ عَنْهَا بِلَا صَلَاةٍ، أوْ بِلَا إِذْنٍ
= اللحد. وقال: "أنَا شَهِيدٌ عَلَى هؤلاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. ا. هـ. واللفظ للبغوي، وقال: هذا حديث صحيح. ا. هـ. وهو في البخاري، وفي سنن الترمذي.
قال البغوي: والحديث دليل على أنه يجوز دفن الجماعة في القبر الواحد، ويقدم إلى القبلة أفضلهم. روي عن هشام بن عامر. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد:"احْفُرُوا، وَأوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا". ويروى: "أعمِقُوا وَأحْسِنُوا وَادْفِنُوا الإثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبرٍ وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أكثَرَهُمْ قرْآنا". فمات أبي فقدم بين يدي رجلين. ا. هـ. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حسن صحيح.
(1)
وقوله: أو بصلاة يلي الإمام رجل الخ. قال البغوي: إذا وضعت جنائز للصلاة عليها، قرب إلى الإمام أفضلهم. روى عمار مولى الحارث بن نوفل أنه شهد جنازة أم كلثوم بنت علي، امرأة عمر بن الخطاب، وابنها زيد بن عمر، فجعل الغلام مما يلي الإمام، وفي القوم ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا: هذه السنة. ا. هـ. وهذا أثر صحيح أخرجه أبو داود، والنسائي، والبيهقي.
وروي عن عثمان وابن عمر أنهم كانوا يجعلون الرجال مما يلي الامام، والنساء مما يلي القبلة. وفي المدونة: قال مالك إذا اجتمعت جنائز رجال ونساء، جعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وزيارة قبور بلا حد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبورِ فَزُورُوهَا فَإنَّهَا تُذَكِّركُمُ الآخِرَةَ". وفي رواية: "فَزورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا". قال البغوي: زيارة القبور مأذون فيها للرجال، وعليه عامة أهل العلم. وأما النساء فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= زوارات القبور، أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان. ا. هـ.
قال البغوي: فرأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص في زيارة القبور، فلما رخص عمت الرخصة الرجال والنساء، ومنهم من كرهها للنساء لقلة صبرهن وكثرة. جزعهن. ا. هـ. منه.
قلت: والصناعة الأصولية تأبى احتمال النسخ، لأنه لا يثبت بالاحتمال. فالخطاب الشرعي باق شرعًا حتى يثبت نقلًا رفعه بخطاب شرعي متأخر عنه، لذلك، فإن الدليل إلى جانب من يمنع النساء من الزيارة للقبور لهذين الحديثين. وفي الحديث "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ". والله الموفق.
تنبيه: السنة أن يتبع في زيارة القبور ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في زيارته لها، فقد كان - بأبي وأمي هو - يزور شهداء أحد ويزور أهل بقيع الغرقد، فكان يقول:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الدّيَارِ مِنَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقونَ، نَسْألُ اللهَ لَنَا وَلَكمُ الْعَافِيَةَ". وفي حديث عائشة "وَيرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمسْتَأخِرِينَ". وفي حديث آخر: "اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ".
وروى ابن قدامة في المغني أنه لا بأس بقراءة القرآن عند القبر، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ دَخَلَ الْمَقابِرَ فَقَرأ سُورَةَ يَس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ". وأنه روي عنه عليه الصلاة والسلام: "مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ فَقَرَأ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَهُمَا يَسَ غُفِرَ لَهُ".
وقال ابن قدامة: وروي عن أحمد أنه قال: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا آية الكرسي وثلاث مرار: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم قل: اللهم إن فضله لأهل المقابر. وروي عن أحمد أنه قال القراءة عند القبر بدعة. ثم رجع عن ذلك عندما قال له محمد بن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مُبَشّر الحلبيّ؟. قال: ثقة. قال: أخبرني مبشر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يقرأ عنده بفاتحة سورة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. قال أحمد بن حنبل: فأرجع. ثم أمر من كان ينهاه عن القراءة أن يقرأ. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن قدامة: وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله. أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات (عنه)، فلا أعلم فيه خلافًا، إذا كانت الواجبات مما تدخله النيابة، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}
(1)
وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
(2)
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات. وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟. قال:"نَعَمْ". رواه أبو داود، وروي ذلك عن سعد بن عبادة. وجاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟. قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟. قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. وقال للذي سأله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟. قال: نَعَمْ. قال: فهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ يس، وتخفيف الله تعالى عن أهل المقابر بقراءتها.
قال: وخالف الشافعي - فيما عدا الواجب والصدقة والدعاء الاستعفار - قال: لا يفعل عن الميت لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(3)
. وقوله صلى الله عليه وسلم "إذَا مَاتَ ابْن آدَمَ انْقَطعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو عِلمٍ يُنْتَفَعُ به من بَعْده أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". ولأن نفعه لا يتعدى فاعله فلا يتعدى ثوابه. وقال بعض العلماء: إذا قرئ القرآن عند الميت، أو أهدى إليه ثوابه كان الثواب لقارئه، ويكون الميت كأنه حاضرها وترجى له الرحمة.
قال: ولنا ما ذكرناه، وأنه إجماع المسلمين، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، ولأن الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهلِهِ عَلَيْهِ". والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة. ا. هـ. منه بتصرف. وبالله التوفيق. =
(1)
سورة الحشر: 10.
(2)
سورة محمد:19.
(3)
سورة النجم: 39.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: ولا ينبغي الجلوس عند القبر، ولا الاتكاء عنده لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ إلَى قبْرٍ". رواه مسلم، قال ابن قدامة: قال الخطابي: وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا قد اتكأ على قبر، فقال:"لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ". ا. هـ.
تنبيه: ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة لما روى أبو داود بإسناده عن المطلب قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال:"أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي وَأدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أهْلِ". ا. هـ. ورواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أنس. ا. هـ.
تنبيه: ولا بأس بالوقوف على القبر بعد ما يدفن الميت للدعاء له؛ لما روى أبو داود عن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرجل وقف عليه وقال: "اسْتَغْفِرُوا لِأخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ".
وروي أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة قال: اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم، فإني أستأنس بكم. متفق عليه.
أما التلقين بعد الدفن؛ فقد أخرج فيه ابن قدامة: قال القاضي وأبو الخطاب: يستحب ذلك. ورويا فيه عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا مَاتَ أحَدُكُمْ فَسَوَّيتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ فَلْيَقِفْ أحَدُكُمْ عِنْدَ رَأَسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ ليَقُلْ: يَا فلَان ابْنَ فلَانَةٍ، يَسْمَعُهُ وَلَا يُجِيبُ، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فلانُ ابْنَ فلَانَةٍ الثَّانِيَةَ، فَيَسْتَوي قَاعِدًا، ثُمَّ لْيَقُلْ: يَا فُلَان ابْنَ فلَانَةٍ فإنَّهُ يَقُولُ: أرْشِدْنِا يَرْحَمْكَ الله. وَلكِنْ. لَا تَسْمَعُون. فَيَقولُ: اذكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا: شَهَادَةَ أنْ لَا إلهَ إلا الله وَأن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، وَأنَّكَ رَضِيتَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإسْلَامِ دِينًا، وَبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا. فَإنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَتَأخَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقُولُ: إِنْطَلْقِ فَمَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ هذَا وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، وَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى حُجَّتَهُ دُونَهُمَا". قال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟. قال:"فَلْيَنْسُبْهُ إلَى حَوَّاءَ". رواه ابن شاهين. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: وقراءة عند موته؛ تقدم الكلام على ذلك، وأنه لا بأس به. وذلك عند قول المؤلف: وتلقينه عند موته، فأغنى عن إعادته هنا والحمد لله.
وقوله: وبعده على قبره؛ تقدم الكلام على ذلك وجئنا بالأحاديث الواردة في جوازه في الكلام على قول المؤلف: وزيارة القبور بلا حد، عند التنبيه الأول فأغنى عن إعادته هنا. والمنة في ذلك لله تعالى وهو الموفق.
إنْ لَمْ يُطَوِّلُوا، وحَمْلُهَا بلا وُضُوءٍ، وإدْخَالُهُ بِمَسْجِدٍ والصَّلَّاةُ عَلَيْهِ فِيهِ (1) وتكْرَارُهَا، وتَغْسِيلُ جُنُبٍ كَسَقْطٍ وتَحْنِيطُهُ وتسْمِيَتُه، وصَلَاةٌ عَليْهِ ودَفْنُهُ بِدَارٍ وَلَيْسَ عَيْبًا (2)، بخلاف الْكَبِير، لَا حَائضٍ، وصَلَاةُ فَاضِلٍ عَلَى بِدْعِيٍّ أَوْ
(1)
وقوله: وإدخاله بمسجد والصلاة عليه فيه؛ قال في المدونة: وقال مالك: وأكره أن توضع الجنازة في المسجد، فإن وضعت قرب المسجد للصلاة عليها، فلا بأس أن يصلي من بالمسجد عليها بصلاة الإمام الذي يصلي عليها، إذا ضاق خارج المسجد بأهله. ا. هـ. منه.
قال البغوي: ودليل مالك على ذلك حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ". وفي رواية: "فَلَيْسَ لَهُ أجْرٌ". وهو ضعيف، ويُعَدُّ من أفراد صالح مولى التوأمة.
قلت: الحديث أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي، وأن معظم ما جرح به مولى التوأمة الاختلاط، لكنهم قالوا: إن سماع ابن أبي ذئب منه كان قبل الاختلاط. وفي التهذيب نقلًا عن ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن أبي ذئب وابن جريج، وزياد بن سعد، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه ولا وجه لرده إذًا. والله الموفق.
ومن يجيز الصلاة على الجنائز بالمسجد يحتج بأن أبا بكر وعمر صلى عليهما بالمسجد، وحديث عائشة رضي الله عنها. مما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عنها أنها لما توفي سعد بن أبي وقَّاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصليَ عليه. فأنكر ذلك عليها. فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد؛ سهيل وأخيه.
قلت: ويمكن الجمع بين الدليلين بحمل الجواز على من يؤمن تلوث المسجد منه وبحمل الكراهة على من لا يؤمن منه ذلك. والله الموفق.
(2)
وقوله: كسقط وتحنيطه الخ؛ قال في المدونة: وقال مالك: لا يصلى على الصبي ولا يرث ولا يورث، ولا يسمى ولا يغسل ولا يحنط حتى يستهل صارخًا، وهو بمنزلة من خرج ميتًا وقال ابن القاسم: وسألت مالكًا عن السقط يدفن في الدور، فكره ذلك. وروى مالك: حدثني ابن شهاب أن =
مُظْهِر كَبِيرِةٍ، والإمَامِ عَلَى مَنْ حَدُّه الْقَتْلُ بِحَدٍّ أَوْ قَوَدٍ وَلَوْ تَوَلَّاهُ النَّاسُ دُونَهُ (1)، وَإنْ مَاتَ قَبْلَهُ فتَردُّدٌ. وتَكْفِينٌ بحرِيرٍ أو بِنَجِسٍ وَكَأَخْضَرَ ومُعَصْفَرٍ (2) أَمْكَنَ غَيْرُهُ، وزيادَةُ رَجُلٍ على خَمْسَةٍ، واجْتِمَاعُ نِسَاءٍ لِبُكىً وإِنْ سِرًّا، وتَكْبِيرُ نَعْشٍ وَفَرشُهُ بحَرِيرٍ، وَإِتبَاعُهُ بَنارٍ (3)، وندَاءٌ بهِ بِمَسْجِدٍ (4) أوْ بابه لا
= السنة أن لا يصلى على المنفوس حتى يستهل صارخًا حين يولد. قال ابن وهب: قال يونس وقال ابن شهاب: لا يصلى على السقط، ولا بأس أن يدفن مع أمه. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: والإمام على من حدُّه القتلُ بحد أو قود وتولاه الناس دونه؛ قال في المدونة: وقال مالك: كل من قتله إمام في قصاص، أو في حد من الحدود فإن الإمام لا يصلي عليه، ولكن يغسل ويحنط ويكفن ويصلي عليه الناس غير الإمام. قلت: فما قول مالك فيمن ضربه السلطان حدًا مائة جلدة فمات من ذلك؟. قال: لا أحفظ هذا عن مالك؛ فيمن ضربه السلطان حدًا مائة جلدة فمات، ولكن أرى أن يصلي عليه الإمام. وقال: قال مالك يصلي على المرحوم أهله والناس، ولا يصلي عليه الإمام لأنه قال: من قتله الإمام على حد من الحدود فلا يصلي عليه الإمام، وليصل عليه أهله. وقال مالك: سمعت ربيعة يقول في الذي يقتل قودًا: إن الإمام لا يصلي عليه، ويصلي عليه أهله، وبه يأخذ مالك. ا. هـ. منه بتصرف.
(2)
وقوله: وتكفين بحرير الخ. قال ابن قدامة: قال أحمد: لا يعجبني أن تكفَّن في شيء من الحرير. وكره ذلك الحسن، وابن المبارك، وإسحاق. قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافه. وفي جواز تكفين المرأة بالحرير احتمالان أقيسهما الجواز؛ لأنه من لباسها في حياتها، لكن كرهناه لها لأنها خرجت عن كونها محلًا للزينة والشهوة، وكذلك يكره تكفينها في المعصفر ونحو ذلك. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وإتباعه بنار، لما روى أبو داود بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَا تُتَّبَعُ الْجَنَازَةُ بصَوْتٍ وَلَا نَارٍ". فإن دفنت الجنازة ليلًا فاحتاجوا إلى ضوء فلا بأس به، وإنما كرهت المجامر فيها البخور. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل قبرًا ليلًا، فأسرج له السراج. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. ا. هـ. =
بكحلق بِصَوْتٍ خَفيٍّ، وَقيامٌ لَهَا (1)، وتَطْيينُ قَبْرٍ أوْ تبييضُهُ، وبِنَاءٌ عَلَيْهِ وتَحْويزُهُ، وِإن يُوهِيَ بِه حَرُمَ (2)، وجازَ لِلتَّمْييزِ كحَجَرٍ أَوْ خشَبَةٍ (3) بَلَا نَقْشٍ،
= وفي المدونة: وقال مالك: أكره أن يتبع الميت بمجمرة أو تقلم أظافره أو تحلق عانته، ولكن يترك على حاله. قال: وأرى ذلك بدعة ممن فعله. وقال مالك عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، أنه نهى أن يتبع الميت بنار تحمل معه بعد موته. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ونداء به بمسجد الخ؛ هو لكراهة رفع الصوت بالعلم في المسجد - فوق المعتاد - أحرى غير ذلك، لاحترام بيوت الله.
(1)
وقوله: وقيام لها؛ دليله ما رواه مسعود بن الحكم عن عليٍّ بن أبي طالب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز، ثم جلس بَعْدُ. أخرجه مسلم وهو في الموطإ، وفي مسند أحمد، والنسائي.
وروي عن عبادة بن الصامت بإسناد غريب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبرٌ فقال: هكذا نصنع يا محمد. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "خَالِفُوهُمْ". أخرجه بهذا اللفظ البغوي في شرح السنة، وأخرجه الترمذي، وابن ماجه، وأخرجه أبو داود، وفي إسناده مقال. ا. هـ.
(2)
وقوله: وتطيين قبر أو تبييضه وبناء عليه وتحويزه، وإن بوهي به حرم؛ قال في المدونة: وقال مالك: أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي تبنى عليها، وروى ابن لهيعة عن بكر بن سواده قال: إن كانت القبور لتسوى بالأرض. وروى ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي زمعة البلوي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يصنع ذلك بقبره إذا مات. قال سحنون: فهذه آثار في تسويتها، فكيف بمن يريد أن يبني عليها. ا. هـ. منه.
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها وأن توطأ. ا. هـ.
ورأى ابن عمر فسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله. ا. هـ. أخرجه البخاري تعليقًا.
ورخص قوم في تطيين القبر؛ منهم الحسن البصري، وقال الشافعي: لا بأس أن يطين القبر. ا. هـ. من البغوي. =
ولَا يُغْسَّلُ شَهِيدٌ مُعْتَركٌ فَقَطْ، ولَوْ بِبَلَدِ الإسْلَامِ أوْ لَمْ يُقَاتِلْ وإنْ أجْنَبَ على الأحْسَن (1) لَا إِنْ رُفِعَ حَيًّا وإنْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ إِلَّا المَغْمُورَ (2)، ودُفِنَ بثيابه إِنْ
= (3) وقوله: وجاز للتمييز كحجر أو خشبة؛ تقدم الكلام عليه في التنبيه الثالث، عند قول المؤلف: وزيارة القبور بلا حد. والحمد لله.
(1)
وقوله ولا يغسل شهيد معترك فقط ولو ببلد الإسلام، أو لم يقاتل وإن أجنب على الأحسن؛ قال في المدونة: وقال مالك في الشهداء، من مات في المعترك فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويدفن بثيابه. ورأيته يستحب أن يترك عليه خفاه وقلنسوته. ا. هـ. منه.
وروى ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول:، "أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ" فإذا أشير إلى أحد قدمه في اللحد. وقال:"أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. ا. هـ. رواه بهذا اللفظ البغوي، وهو في صحيح البخاري، وأخرجه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. ا. هـ. أخرجه البغوي في شرح السنة، وهو في سنن أبي داود، وابن ماجه.
قال البغوي: اتفق العلماء على أن الشهيد المقتول في معركة الكفار لا يغسل، واختلفوا في الصلاة عليه، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصلى عليه لحديث جابر المتقدم، وهو قول أهل المدينة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد.
وذهب قوم إلى أنه يصلى عليه، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة. وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وإسحاق، وأجاب الأولون عن الصلاة على حمزة بأنها الدعاء. وأما المقتول ظلمًا في غير القتال، فإنه يغسل ويصلى عليه بلا خلاف. وإن كان شهيدًا في الثواب، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غسل وكفن وصُلّي عليه وكان شهيدًا. =
سَترَتْهُ، وإلَّا زيدَ (1)، بخُفٍّ وقَلَنْسُوِة ومِنْطَقَةٍ قَلَّ ثَمَنُهَا، وخَاتَمٍ قَلَّ فَضُّه (2)،
= أخرج مالك في الموطإ بإسناد صحيح أنه بلغه عن أهل العلم أنهم كانوا يقولون: الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ولا يصلى على أحد منهم، وأنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها. قال مالك: وتلك السنة فيمن قتل في المعترك فلم يدرك حتى مات، وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك، فإنه يغسل ويصلى عليه، كما عمل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: لا إن رفع حيًا وإن أنفذت مقاتله إلا المغمور؛ هذا محل خلاف بين العلماء فيمن أثخن في المعركة فحمل وبه رمق، فمات بعده: هل يصلى عليه أو لا؟، فذهب بعضهم إلى أنه يغسل ويصلى عليه. وبه قال مالك: ففي المدونة: روى ابن وهب عن ابن أبي ذئب، قال: صلَّى على ثابت بن شمَّاس بن عثمان يوم أحد بعد أن عاش يومًا وليلة.
وقوله: إلا المغمور؛ فهو لما في المدونة أيضًا: وقال: من عاش فأكل وشرب أو عاش حياة بينة، ليس كحال من به رمق، وهو في غمرة الموت، يغسل ويصلى عليه ويكفن، ويكون بمنزلة الرجل يصيبه الجرح فيعيش الأيام منه، ويقضي حوائجه ويشتري ويبيع ثم يموت فهو وذلك سواء. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ودفن بثيابه إن سترته، وإلا زيد؛ قال في المدونة: وقال مالك ما علمت أنه يزاد في كفن الشهيد أكثر مما عليه شيء. وقال مالك: لا ينزع عن الشهيد الفرو. قال: وما علمت أنه ينزع عنه شيء. قال ابن القاسم: تفسير قول مالك: لا يدفن معه السلاح، لا سيفه ولا درعه ولا شيء من السلاح، وإن كان للدرع لابسًا؛ ا. هـ. منه.
قال الخرقي: من علماء الحنابلة: ودفن بثيابه، وإن كان عليه شيء من الجلود والسلاح نحي عنه.
قال ابن قدامة هنا: أما دفنه في ثيابه فلا نعلم فيه خلافًا، وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ادْفِنوهُمْ بِثِيَابِهِمْ". وروى أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم. وليس هذا بحتم، لكنه الأولى. ا. هـ.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينزع عنه شيء لظاهر الخبر. =
لَا دِرْعٍ وسِلَاحٍ، ولَا دُونَ الْجُلِّ (1)، ولَا مَحْكُومٌ بكُفْرِهِ وَإِنْ صَغِيرًا ارْتَدَّ، "أَوْ
= (2) وقوله: بخف وقلنسوة ومنطقة قل ثمنها وخاتم قل فصُّه؛ قال في المدونة: ورأيته يستحب أن يترك عليه خفاه وقلنسوته.
قلت: وهي إحدى وقفات المختصر، فإن من لم يتأمل ظن المصنف يقول: إن الميت يدفن بثيابه إن سترته، فإن لم تستره زيد عليها بخف وقلنسوة، وليس الأمر كذلك، بل المراد أنه يدفن بثيابه إن سترته لا يزاد عليها شيء، فإن لم تستره زيد عليها ما يحصل به الستر لجميع الجسد، ولو كان إذخرًا. كما حصل مع مصعب، وهنا عند قوله: إلا زيد، وقف لازم ثم يبتدئ الكلام بعد ذلك بقوله: بخف وقلنسوة، أي ودفن أيضًا بخفه وقلنسوته. الخ.
ومن وقفات المختصر قوله في البيع: وجاز هرْ وسبع للجلد، فإن لم يقف الدارس عند قوله وجاز هر وعطف عليه السبع لظن أن جواز بيع الهر مثل جواز بيع السبع لينتفع بجلده فقط، وإنما مراد المؤلف، وجاز بيع هر وشراؤه، وجاز أيضًا بيع سبع لأجل الانتفاع بجلده بعد دبغه وهكذا، يتبين لك أن هذا المختصر من الصعب جدًّا على طلبة العلم أخذه عن وجادة، فلا بد في تعلمه من مدرس تعلم حل ألفاظه على شيخ، لأنه أشبه شيء بالألغاز.
ولقد أشفقت يومًا على بعض طلبة العلم، مررت على حلقته في أحد الحرمين الشريفين، فوجدت الدرس في المختصر، فإذا الشيخ - غفر الله لنا وله - يتبين منه أنه لا هو ولا تلميذه الذي يُسَمِّعُ له النص، لم يعان واحد منهما فيما قبل صعوبة حل ألفاظ هذا السفر العظيم، ولم يتبعا ألفاظه عند شيخ مارس نصوصه. والله يوفقنا جميعًا. ا. هـ.
(1)
وقوله: ولا دون الجل؛ قال في المدونة: وقال مالك ولا يصلى على يد ولا على رأس ولا على رجل، ويصلى على البدن، قال ابن القاسم: ورأيت قوله إنه يصلى على البدن إذا كان الذي بقي أكثر البدن. ا. هـ. منه.
قال البغوي في شرح السنة: وبلغنا أن طائرًا ألقى يدًا بمكة في وقعة الجمل، فعرفوها بالخاتم، فغسلوها وصلوا عليها. ا. هـ. وذكره الشافعي في الأم. ا. هـ.
نوَى به سَابِيهِ الإِسْلَامَ إلَّا أَن يُسْلِمَ (1)؛ كأَن أَسْلَمَ ونَفَرَ مِنْ أَبَويْهِ. وإِنْ اخْتَلَطُوا غُسِّلُوا وكُفِّنُوا، ومُيِّز المُسْلِمُ بالنِيَّةِ فِي الصَّلاةِ، ولا سِقْطٌ لَمْ يَسْتَهِلَّ ولَوْ تَحَرَّكَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بالَ أَوْ رَضَعَ إِلَّا أَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَيَاةُ، وغُسِلَ دَمُهُ وَلُفَّ بِخِرْقَةٍ وَوُورِيَ، ولَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ إِلَّا أَنْ يُدْفَنَ بِغَيْرِهَا (2)، ولَا غَائِبِ (3)،
= قلت هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه جويريه بنت أبي جهل، التي خطبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليتزوجها مع فاطمة رضي الله عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ بَنِي هِشَّامِ بْنِ الْمُغِيَرةِ اسْتَأْذَنُوني أَنْ يُزَوِّجُوا ابْنَتهُمْ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَلِبٍ، فَقَلْت: لَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ حَتَّى يُطَلِّقَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنَتِي". الحديث المتفق عليه. غير أن الشيخ أحمد البدوي ذكر في عمود النسب أن اليد سقطت في اليمامة، على خلاف ما ذكره البغوي من أنها سقطت بمكة. قال البدوي:
ومن أبي العيص وزير الهادى
…
بمكةٍ عتابُ ذو الأيادِي
وهو حليل بنت عمرو بن هشام
…
أنقذ منها بنت أفضل الأنام
وأنجبت بصاحب اليد التي
…
طار بها الطائر لليمامة
وعبد الرحمن بن عتاب هذا والد سعيد بن عبد الرحمن ممدوح الراعي. انظر إكمال تحفة الألباب على الأنساب، الذي أكملت به شرح حماد لعمود النسب. ا. هـ.
(1)
وقوله: ولا محكوم بكفره وإن صغيرًا ارتد؛ قال في المدونة: قلت: أرأيت الغلام إذا ارتد قبل أن يبلغ الحنث، أتؤكل ذبيحته ويصلى عليه إن مات في قول مالك؟. قال: لا يصلى عليه ولا تؤكل ذبيحته. ا. هـ.
وقوله: أو نوى به سابيه الإسلام إلا أن يسلم الخ؛ قال في المدونة: وسألت مالكًا عن المسلمين يصيبون السبي من العدو فيباعون، فيشتري الرجل منهم الصبي ونيته أن يدخله الإسلام وهو صغير فيموت، أترى أن يصلى عليه؟. قال: لا، إلا أن يكون أجاب إلى الإسلام. وقال غيره وهو معن بن عيسى: يصلى عليه. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: إلا أن يسلم؛ هو لما رواه في المدونة محمد بن عمرو عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة أنه سمع بالمدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى بني النجار، فرأى جنازة على خشبة، فقال "مَا هذَا"؟. فقيل: عبد لنا كان عبد سوء مسخوطًا جافيًا. قال: "أَكَانَ يُصَلِّي"؟. قالوا: نعم. قال: "أَكَانَ يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله"؟. قالوا: نعم: قال: "لَقَدْ كَادَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحُولُ بَيْنَي وَبَيْنَهُ، ارْجِعُوا فَأَحْسِنُوا وَكَفَّنَهُ وَدَفَنَهُ".
وقوله: ولا سقط لم يستهل الخ. تقدم الكلام عليه عند قول المؤلف: كسقط وتحنيطه، فأغنى ذلك عن إعادة الكلام عليه. والله المحمود.
(2)
وقوله: ولا يصلى على قبر إلا أن يدفن بغيرها، قد تقدم بعض الكلام عليه عند قول المؤلف: وإن دفن فعلى القبر، ونورد هنا ما روي عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وقَال: "إنَّ هذِهِ الْقبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أهْلِهَا وإنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ". أخرجه البغوي في شرح السنة، وهو في صحيح مسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر. ولفظه، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابًا، فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات. قال: "أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُوني"؟. قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. قال: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ". فدلوه، فصلى عليها ثم قال:"إنَّ هذَهِ الْقُبُورَ". الحديث، وقد أخرجه البخاري دون قوله:"إنَّ هذِهِ الْقُبُورَ". ا. هـ.
والذي عليه أكثر أهل العلم من أصحاب النبي فمن بعدهم أنه يجوز أن يصلى على القبر، وبه أخذ ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، ومنع ذلك مالك وأبو حنيفة والنخعي.
قلت: وحيث إنه ثبت تكرار ذلك الفعل من أسوتنا الحسنة صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه، وكما ثبت أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعد شهر من وفاتها، كما هو في البيهقي والبغوي، وإنه صلى على قبر بعد ثلاثة أيام؛ رواه البيهقي والبغوي أيضًا، وإنه - بأبي هو وأمي - صلى على أهل أحد بعد ثمان سنين من الواقعة، متفق عليه، فإنه لا وجه البتة لمنع الصلاة على القبر بعد الوقوف على هذه الأحاديث والله الموفق. =
ولَا تُكَرَّرُ. والأَوْلَى بالصَّلَاةَ وَصِيٌّ رُجِيَ خَيْرُه، ثُمَّ الْخَليفَةُ لا فَرْعُهُ إِلَّا مَعَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، وأَفْضَلُ وَليٍّ ولَوْ وَليَّ امْرأَةٍ (1). وصَلَّى النِّسَاءُ
= (3) وقوله: ولا غائب، أما الصلاة على الغائب فقد وردت في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي، اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، فكبر أربع تكبيرات. قال البغوي: ومن فوائد هذا الحديث جواز الصلاة على الميت الغائب، ويتوجهون إلى القبلة، لا إلى بلد الميت، إن كان في غير جهة القبلة. قال: وذهب بعضهم إلى أن الصلاة على الميت الغائب لا تجوز، وهو قول أصحاب الرأي. وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا به، وهذا ضعيف، لأن الاقتداء به في أفعاله واجب على الكافة، ما لم يقم دليل على الخصوص. ولا تجوز دعوى التخصيص ها هنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وحده، وإنما صلى مع الناس. ا. هـ. منه.
وقوله: ولا تكرر، هو جري على ما عرفوا به فرض العين وفرض الكفاية من أن الأول هو الذي يتكرر الفائدة بتكراره بخلاف الثاني، قال في المنهج المنتخب:
وفرض عين الذي تكررا
…
نفعٌ به غير كفائيٌّ يرى
وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وأولى الناس بالصلاة وصي رجي خيره؛ هذا خلاف ما في المدونة: قلت لابن القاسم: أيهم أولى بالصلاة؛ الجد أم الأخ؟. قال: الأخ. قال ابن القاسم قال مالك: إنما ينظر في هذا إلى من هو أقعد بالميت، فهو أولى بالصلاة عليه. ا. هـ. منه، غير أن مذهب المصنف هنا أولى بالصواب، لما نقله ابن قدامة عند قول الخرقي: وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى له أن يصلي عليه. قال: هذا مذهب أنس، وزيد بن أرقم، وأبي برزة، وسعيد بن زيد، وأم سلمة، وابن سيرين، إلى أن قال: وروي أن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر. قاله أحمد. قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة. وقال غيره. وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة. وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير، ويونس أوصى أن يصلي عليه أنس بن مالك. وأبو سريحة أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حُرَيْث أمير الكوفة فتقدم ليصلي عليه، فقال ابنه: أيها الأمير، إن أبي أوصى أن=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يصلي عليه زيد بن أرقم. فقدم زيدًا. فهذه قضايا انتشرت فلم يظهر لها مخالف فكان إجماعًا. ا. هـ. منه.
وقوله: ثم الأمير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَؤُمُّ الرَّجُل الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ". وحكى أبو حازم قال: شهدت حُسْينًا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول: تقدّمْ لولا السنة ما قدمتك، وسعيد أمير المدينة. وروى الإمام أحمد بإسناده عن عمار مولى بني هاشم، قال: شهدت جنازة أم كلثوم بنت عليٍّ وزيد بن عمر، فصلى عليها سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة، وخلفه يومئذ ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر، والحسن والحسين، وروي عن عليٍّ رضي الله عنه: الإمام أحق من صلى على الجنازة. قال: وهذا شيء اشتهر فكان إجماعًا. ا. هـ. منه بتصرف.
وقوله: ثم أقرب العصبة، وأفضل ولي ولو ولي امرأة؛ قد تقدم قول مالك: إنما ينظر في هذا إلى من هو أقعد بالميت، فهو أولى بالصلاة عليه. وقال مالك في المدونة: العصبة أولى بالصلاة على المرأة من زوجها، وزوجها أحق بإدخالها في قبرها من عصبتها. وقال في المدونة: إن ابن عمر بن الخطاب وابن شهاب وربيعة وعطاء وبكير بن الأشج ويحيى بن سعيد كانوا لا يرون لزوج المرأة إذا توفيت حقًا أن يصلي عليها، وثم أحد من أقاربها. ا. هـ. منه.
دَفْعَةً، وصُحِّحَ تَرْتُّبُهُنَّ (1) والْقَبْرُ حُبُسٌ لَا يُمْشَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْبَشُ مَا دَامَ بِه، إلَّا أَن يَشُحَّ رَبُّ كَفَنٍ غُصِبَهُ، أَو قَبْرٍ بِمِلْكِهِ، أَوْ نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ، وإنْ كَان بِمَا يَمْلِكُ فِيهِ الدَّفْنَ بُقِّي وعَلَيْهِمْ قِيمُتهُ (2). وَأَقُّلهُ مَا مَنَعَ رَائِحَتَهُ وَحَرَسَهُ (3)، وبُقِرَ عن مَالٍ كَثُرَ وَلَوْ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ لَا عَنْ جَنينٍ، وتُؤُوِّلَتْ أَيْضًا عَلَى الْبَقْرِ إِنْ رُجِيَ وَإنْ قُدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مَحَلِّهِ فُعِلَ، والنَّص عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهِ لِمُضطَّر وصُحِّحَ أكْلُهُ أَيْضًا.
(1)
وقوله: وصلى النساء دفعة وصحح ترتبهن، قال في المدونة: قلت له فهل يصلي النساء على الرجل إذا مات معهن وليس معهن رجل؟. قال: نعم، ولا تؤمهن واحدة منهن، وليصلين وحدانًا واحدة واحدة، وليكن صفوفًا. ا. هـ.
(2)
وقوله: والقبر حبس الخ. يكره الجلوس على القبر والاتكاء عليه، والاستناد عليه والمشي عليه، والتغوط بين القبور؛ لحديث أبي مرثد الغنوي:"لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تصَلُّوا إِلَيْهَا". وهو صحيح، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لَعَنَ الله الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". متفق عليه.
وقوله: ما دام به، يفيد بأنه إن تيقن أن الميت قد بلي وصار رميمًا جاز نبشه ودفن غيره فيه، ولا نص في ذلك، والظاهر جوازه. والله الموفق.
(3)
وقوله: وأقله ما منع رائحته وحرسه؛ ففي ابن قدامة: وقال سعيد: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر، أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة، ولا يعمقوا، فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها. قال الشافعي: أستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا". رواه أبو داود. ولأنه أحرى أن لا تناله السباع. وقال أحمد: إلى الصدر؛ لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة. ا. هـ. منه.
والحاصل أنه لذلك يستحب تحسينه وتعميقه وتوسيعه للخبر الذي رواه أبو داود، ولما روي عن معمر أنه قال: وبلغني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وَلكِنَّهُ أَطيبُ لأنْفُسِ أَهْلِهِ". رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز.
وَدُفِنَتْ مُشْرِكَةٌ حَمَلَتْ مِنْ مُسْلِمٍ بِمَقْبَرَتِهِمْ وَلَا يُسْتَقْبَلُ بِهَا قِبْلتَنَا ولَا قِبْلَتَهُم (1)، ورُمي مَيْتُ الْبَحْرِ بِهِ مُكفَّنًا إِنْ لَمْ يُرْجَى البَرُّ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ (2)، وَلَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءٍ لَمْ يُوصِ بِهِ (3)، ولَا يُتْركُ مُسْلِم لِوَليِّه الْكَافِر (4)، وَلَا يُغَسَّلُ مُسْلِمٌ أبًا كَافِرًا، ولَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ، إِلَّا أنْ يَضيعَ فَلْيُوارِهِ، والصَّلَاةُ أحَبُّ مِن النَّفْلِ إذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ إن كان كَجار أو صالحًا (5).
(1)
وقوله: ودفنت مشركة حملت من مسلم بمقبرتهم، ولا يستقبل بها قبلتنا ولا قبلتهم؛ الله تعالى أعلم بمستنده في ذلك، والذي وقفت عليه أنه روي ان عمر دفن امرأة من أهل الكتاب في بطنها ولد مسلم في مقبرة المسلمين. أخرجه البغوي في شرح السنة، وأخرجه الدارقطني من حديث سفيان عن عمرو بن دينار، أن امرأة نصرانية ماتت وفي بطنها ولد مسلم، فأمر عمر أن تدفن في مقابر المسلمين من أجل ولدها. ورواه البيهقي من حديث ابن جريج عن عمرو عن شيخ من أهل الشام عن عمر وعن واثلة بن الأسقع أنه دفن امرأة نصرانية في بطنها ولد مسلم في مقبرة ليست بمقبرة النصارى ولا المسلمين. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله: ورمي ميت البحر به مكفنًا إن لم يرجَ البر قبل تغيره؛ هو رأي أحمد أيضًا وعطاء والحسن، ولا نص، وإنما هو الاجتهاد. والله أعلم وبيده التوفيق.
(3)
وقوله: ولا يعذب ببكاء لم يوص به، هو لما رواه ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان بن عفان بمكة، فجئنا نشهدها، وحضرها ابن عباس وابن عمر، فقال: وإني لجالس بينهما جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إليَّ: فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهي عن البكاء؟. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". قال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث ابن عباس قال: صدرت مع عمر بن الخطاب من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا بركب تحت ظل شجرة، قال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب. فذهبت، فإذا صهيب، قال: ادعُهُ. فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل والحق بأمير المؤمنين. فلما أصيب عمر سمعت صهيبًا يبكي ويقول: وا أخياه، واصاحباه. قال عمر يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ"؟. قال: فلما مات عمر، ذكرت ذلك لعائشة فقالت: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رحم الله عمر، لا والله، ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". فقالت عائشة: حسبكم القرآن. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(1)
قال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكي. قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شيء. ا. هـ. وهذا اللفظ للبغوي، والحديث متفق عليه.
قال البغوي: قال الشافعي: ما روت عائشة أشبه بدلالة الكتاب، ثم بالسنة، وما زيد في عذاب الكافر فباستجابه لا بذنب غيره. وفسر المزني هذا الكلام قال: بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليهم وبالنياحة، وهي معصية. ومن أمر بها فعملت بعده كانت له ذنبًا، فيجوز أن يزاد بذنبه عذابًا - كما قال الشافعي - لا بذنب غيره، ويمكن تصحيح رواية ابن عمر على هذا التأويل، وقد ذكره بعض أهل العلم؛ ذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء عليهم والنوح، قال قائلهم:
إذَا مِتُّ فانْعَيْني بِمَا أنا أهْلُه
…
وَشُقِّي عَلَيَّ الجَيْبَ يا ابْنَةَ مَعَبدِ
وكذا إذا كان يعلم أن البكاء من سنتهم فلم ينههم عنه، فيعاقب بعد موته ببكائهم عليه، إذ كان من واجبه نهيهم عن ذلك فلم يفعل، وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}
(2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
فأما إذا لم يكن البكاء عن أمره، ولا هو من سنته، فهو على ما قالت عائشة. قال ابن المبارك: أرجوا إن كان ينهاهم في حياته، أن لا يكون عليه من ذلك شيء. ا. هـ. من شرح السنة للبغوي.
(4)
وقوله ولا يترك المسلم لوليه الكافر، صوابه: لقريبه الكافر؛ لأنه لا ولاية بين المسلم والكافر مهما تكن درجة القرابة. قال في المدونة: وقال مالك ولا يغسل المسلم والده إذا مات الوالد كافرًا، ولا يتبعه ولا يدخله قبره إلا أن يخشى أن يضيع فيواريه. قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك أنه قال في كافر مات بين المسلمين، ليس عندهم كافر يدفنه، قال يلفونه في شيء ويوارونه. قال الليث: قال ربيعة: عليهم أن يواروه ولا يستقبل به القبلة ولا قبلتهم. وقال يحيى بن سعيد: يوارونه. ا. هـ. منه.
وهذا مراد المؤلف بقوله: ولا يغسل مسلم أبًا كافرًا، ولا يدخله قبره إلا أن يضيع فيواريه. والله الموفق. =
(1)
سورة الإسراء: 15.
(2)
سورة التحريم: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (5) وقوله: والصلاة أحب من النفل إذا قام بها الغير إن كان كجار أو صالحًا؛ قال في جواهر الإكليل عند هذا المحل: قال ابن القاسم: سألت مالكًا رضي الله عنه: أي شيء أعجب إليك القعود في المسجد، أم شهود الجنائز؟. قال: القعود في المسجد أعجب إليَّ؛ لأن الملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه، إلا أن يكون له حق من جوار أو قرابة، أو أحد ترجى بركة شهوده فيحضره.
ابن رشد: ذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إلى أن صلاة النوافل والجلوس في المسجد أفضل من شهود الجنازة جملة من غير تغسيل، فمات حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فقام الناس لجنازته من المسجد إلا سعيد بن المسيب فإنه لم يقم من مجلسه، فقيل له: ألا تشهد هذا الرجل الصالح من البيت الصالح؟. فقال لأن أصلي ركعتين أحب إلي من أن أشهد هذا الرجل الصالح. ا. هـ. بلفظه.
تنبيه: المقتول في حدّ يغسل ويصلى عليه عند أكثر أهل العلم؛ قال الشافعي: ولا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة.
تنبيه: قال مالك: من قتله الإمام في حد، لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه غيره إن شاء، لما روي عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه. أخرجه أبو داود في الجنائز، وإسناده ضعيف. والصحيح ان شاء الله ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له خيرًا وصلى عليه. أخرجه البخاري في الفرائض؛ باب الرجم بالمصلى، من حديث محمود بن غيلان عن عبد الرزاق.
وأخرج عبد الرزاق وأصحاب السنن لأبي قرة عن أبي أمامة سهل بن حنيف في قصة ماعز قال: فقيل يا رسول الله أتصلي عليه؟. قال: لا. قال: فلما كان من الغد قال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس. وأخرج مسلم من حديث عمران بن حصين، في قصة الجهنية التي زنت ورجمت، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟. فقال: "لَقَد تابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ لَوَسِعَتْهُمْ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: واختلفوا في من قتل نفسه، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يصلى عليه. قال أحمد: لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه غيره؛ لما روي من حديث جابر بن سمرة أن رجلًا قتل نفسه، فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي. وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الزكاة
(1)
تَجِبُ زَكَاةُ نِصَابِ النَّعَمِ بِمِلْكٍ وحَوْلٍ كَمُلَا (2)، وإنْ مَعْلُوفَةً وعَامِلَةً (3) وَنِتَاجًا، لَا مِنْهَا ومنَ الْوَحْشِ وَضُمَّتِ الفَائدَةُ لَهُ وإنْ قَبْلَ حَوْله بِيَوْمٍ لا لأقَلَّ (4).
(1)
الزكاة: قال ابن قتيبة: من الزكاء، والنماء، والزيادة. قال: سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه. يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها. وهي في الشريعة حق يجب في المال، فإذا أطلقت في موارد الشريعة انصرفت إلى ذلك.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، وهي واجبة بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمته. ووجوب الزكاة أمر مقطوع به في الشرع، غني عن تكلف الاحتجاج له، وعلى كل حال فإن من أدلة وجوبها نصًا بكتاب الله قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . الآية، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال:"إنكَ تَأتِي قومًا أهْلَ كتابٍ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أنْ لَا إله إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسُولُ اللهِ فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنْ اللهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإن هُمْ أَطاعُوا لِذلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةَ أمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذلِكَ، فَإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنَّهَا لَيْس بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ". هذا لفظ البغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته. ا. هـ.
وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها، واتفق الصحابة رضوان الله عليهم على قتال مانعيها، روي عن أبي بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. وفي رواية عِقالًا بدل عناقًا. قال ابن قدامة: رواه البخاري عن أبي هريرة، وهو في أبي داود. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: من أنكر وجوب الزكاة جهلًا به، وكان ممن يجهل ذلك، إما لأنه حديث عهد بالإسلام، وإما لأنه جاهل نشأ في بادية نائية عن الأمصار، عرف وجوبها ولا يحكم بكفره؛ لعذره بالجهل في هاتين الحالتين، وإن كان جاحدها مسلمًا ناشئًا في بلاد الإسلام بين أهل العلم، فهو مرتد تجري عليه أحكام الردة؛ يستتاب ثلاثًا فإن تاب وإلا قتل كافرًا؛ لأن أدلة الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة والإجماع، فهي مما علم من الدين بالضرورة، فمن جحدها لا يكون ذلك إلا لتكذيبه الكتاب والسنة ولكفره بهما.
تنبيه: فإن منعها معتقدًا وجوبها، وقدر الإمام على أخذها منه، أخذها وعزره، ولم يأخذ منه زيادة عليها من ماله، في قول أكثر أهل العلم. منهم: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأتباعهم، وكذلك إن جحد ماله حتى لا تؤخذ منه الزكاة فظهر عليه الإمام، أخذ زكاة ماله وعزره على الجحد. وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن عبد العزيز: يأخذ الزكاة وشطر ماله لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "فِي كُلِّ سَائِمَةِ الإبِلِ فِي كُلِّ أربَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ لَا تفرقُ عَنْ حِسَابِهَا مَنْ أعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أجْرُهَا، وَمَنْ أبَاهَا فَإنِّي آخِذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، وَلَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ". قال ابن قدامة: وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: لا أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده، فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي. ا. هـ. منه.
ودليل مالك ومن وافقه على أخذ الواجب منه، وعدم الزيادة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لَيْس فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ". ولأنه لم ينقل عن الصحابة أنهم أخذوا من مانع الزكاة أكثر من الواجب، ولا قول بذلك عن أحدهم، وأجيب عن حديث بهز بأنه كان في صدر الإسلام فنسخ بقوله صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ".
تنبيه: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". لأن الضمير فيه يعود بعمومه على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث. ورجحه ابن دقيق العيد بقوله: إنه وإن لم يكن الأظهر، إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية، لا تعتبر في الزكاة كما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة، وقد أجاز النقل أيضًا الليث وأبو حنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره. وهو مكروه عند أصحابنا على أنه إن فعل أجزأ. ا. هـ.
تنبيه: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(1)
قال ابن عمر: كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفونًا. أخرج مالك في الموطإ نحوه، من حديث عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، وإسناده صحيح. وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن عمر. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ، مُثَّلَ لَهُ مَالهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ شجَاعًا أقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ثُم يَأخُذُ بِلِهْزِمَيْهِ - يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}
(2)
من سورة آل عمران.
والشجاع: الحية الذكر. والأقرع: الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمه. والزبيبتان: هما النكتتان السودوان فوق عينيه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤدِّي مِنْهَا حَقِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فأحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وإمِّا إلَى النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالإبِلُ؟. قَالَ: وَلَا صَاحِبُ إبِلٍ لَا يُؤدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَر أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بَأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأفْوَاهِهَا كُلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ أُخراهَا رُدَّ عَلَيْهِ أولَاهَا فِي يَوْم كان مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةَ وإمَّا إلَى النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْبَقَر وَالْغَنَمُ؟. قَالَ: وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ ولَا غَنَمٍ لَا يُؤدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاع قَرْقرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا =
(1)
سورة التوبة: 34.
(2)
سورة آل عمران: 180.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونهَا وَتطَؤُهُ بِأظْلَافِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخراهَا رُدَّ عَلَيْهِ أولَاهَا فَي يَومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ حَتى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيرَى سَبِيلَه إمَّا إلَى الجَنَّةِ وإمَّا إلَى النَّارِ". ا. هـ. أخرجه مسلم، باب اثم مانع الزكاة. ا. هـ.
(2)
وقوله: تجب زكاة نصاب النعم بملك وحول كملا؛ أما بالنسبة لاشتراط الحول؛ فهو ما رواه في المدونة عن جرير رضي الله عنه حيث يقول: إلا أن جريرًا قال في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيْس فِي مَالٍ زَكَاة حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ". وأما بالنسبة لاشتراط مالك النصاب؛ فهو ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْس فِيمَا دُونَ خْمَسْةِ أَوسُقٍ مِن التَّمْر صَدَقَةٌ، وَليَسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ، ولَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَودٍ مِنْ الإبِلِ صَدَقَةٌ". ولفظه في الموطإ: حدثني عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَودٍ صَدَقَةٌ، وَلَيسَ فِيمَا دُونَ خَمسِ أوَاقٍ صَدَقةٌ، وَليسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسقٍ صَدَقَةٌ". ثم جاء في الحديث الذي يليه برواية الشيخين المتقدمة.
(3)
وقوله: وإن معلوفة وعاملة، مستنده في ذلك قول مالك في الموطإ في الإبل النواضح، والبقر السواني، وبقر الحرث: اني أرى أن يؤخذ من ذلك كله إذا وجبت فيه الصدقة.
قلت: رأي الإمام هنا مبني على أن النصاب هنا عيّن بصيغة الإطلاق: "في أرْبَعِينَ شَاةٌ شَاةٌ". "في أربَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ في كُلِّ خَمْس شَاةٌ". فلم يقل الإمام بتقييد هذا الإطلاق المنطوق بمفهوم المخالفة في قوله: "في الغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةَ". وأيضًا فإن علة الزكاة نعمة الملك، وهي حاصلة في المعلوفة كما هي حاصلة في السائمة، إلا أن السوم وصف مكمل، فإن نعمة الملك مع السوم أتم، فلو قلنا: إن السوم وصف تترتب عليه الزكاة، لوجبت الزكاة في الوحوش السائمة في أرض تملكها، ولا أحد يقول بذلك، فعلم أن علة الزكاة متمحضة في نعمة الملك، وهي حاصلة في معلوفة الأنعام وعاملتها. والله الموفق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: وضمت الفائدة له وإن قبل حوله بيوم لا لأقل؛ قال في الموطإ: قال مالك: من أفاد ماشية من إبل أو بقر أو غنم، فلا صدقة عليه فيها حتى يحول عليها الحول من يوم أفاد، إلا أن يكون له قبلها نصاب ماشية؛ والنصاب ما تجب فيه الصدقة؛ إما خمسة ذود من الإبل، أو ثلاثون بقرة أو أربعون شاة. فإذا كان للرجل خمس ذود من الإبل، أو ثلاثون بقرة أو أربعون شاة، ثم أفاد إليها إبلًا أو بقرًا أو غنمًا باشتراء أو هبة أو ميراث، فإنه يصدقها مع ماشيته حين يصدقها، وإن لم يحل على الفائدة الحول، وإن كان ما أفاد من الماشية إلى ماشيته قد صدقت قبل أن يشتريها بيوم واحد، أو قبل أن يرثها بيوم واحد، فإنه يصدقها مع ماشيته حين يصدق ماشيته اهـ منه.
وقوله: لا لأقل، قال في الموطإ: قال مالك في الرجل إذا كانت له غنم لا تجب فيها الصدقة، فاشترى إليها غنمًا كثيرة تجب في دونها الصدقة، أو ورثها؛ إنه لا تجب عليه في الغنم كلها الصدقة، حتى يحول عليها الحول من يوم أفادها باشتراء أو ميراث، وذلك أن كل ما كان عند الرجل من ماشية، لا تجب فيها الصدقة من إبل أو بقر أو غنم، فليس بعد ذلك نصاب مال حتى يكون في كل صنف منها ما تجب فيه الصدقة، فذلك النصاب الذي يصدق معه ما أفاد إليه صاحبه من قليل أو كثير. ا. هـ. منه.
الإبِلُ في كل خمس ضَائِنَةٌ إِن لَمْ يَكُنْ جُلَّ غَنَمِ الْبَلَد المَعْزُ، وَإنْ خَالَفَتْهُ، والْأصَحُّ إجْزَاءُ بَعِيرٍ، إِلَى خَمْس وعِشْرينَ فَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُن لَهُ سَلِيمَةً فَابْنُ لَبُونٍ، وَفِي سِتٍّ وثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَسِتٍ وَأرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وإحْدَى وسِتِّينَ جَذَعَةٌ، وسِتٍّ وسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ، وإحْدَى وتسْعِينَ حِقَّتَانِ، ومائة وإِحْدَى وعِشْرينَ إلَى تِسْعٍ وعِشْرِينَ حِقَّتَانِ أوْ ثلاث بنات لَبُونٍ، الْخِيَارُ للسَّاعِي، وتَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا، ثم في كل عَشْرٍ يَتغَيَّرُ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ أرْبَعينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَةٌ؛ وبِنْتُ المَخاضِ الموفِيةُ سنةً (1).
(1)
قوله: الإبل في كل خمس ضائنة الخ. بدأ المصنف بزكاة الإبل لأنها أعظم النعم قيمة وأجسامًا، وهي أكثر أموال العرب، ووجوب زكاتها مما أجمع عليه وصحت فيه السنة. ومن أحسن ما روي في ذلك ما رواه مالك في الموطإ، أنه قرأ كتاب عمر بن الخطاب في الصدقة قال: فوجدت فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الصدقة: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة، وفيما فوق ذلك إلى خمس وثلاثين ابنة مخاض، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين بنت لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة حقتان طروقنا الفحل، فما زاد على ذلك من الإبل ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ا. هـ. محل الغرض منه. قال ابن قدامة: وهذا كله مجمع عليه. قال: وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أربَعٌ مِنَ الإبِلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا صَدَقَةَ الَّا أن يَشَاءَ رَبُّهَا". وقال: "لَيْسَ دُونَ خَمْسِ ذَودٍ صَدَقَةٌ". متفق عليه. والذين يشترطون السوم في الأنعام اختلفوا في قدره من السنة، فقال الحنابلة: إن أسامها أكثر السنة. وقال الشافعي: إن لم تكن سائمة في جميع السنة فلا زكاة فيها، لأن السوم عنده شرط في الزكاة، فاعتبر في جميع =
البَقَرُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ ذُو سَنَتَيْنِ، وفي أَربَعِينَ مُسِنَّةٌ ذَاتُ ثَلَاثٍ، ومائة وعشرين كَمِائَتَيْ الإبِلِ (1).
= الحول المِلْك وكمال النصاب. قال: ولأن السوم موجب، والعلف مسقط، فإذا اجتمع غلب الإسقاط.
تنبيه: اختلف العلماء فيما لو زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة، فذهب قوم إلى أنها يجب فيها ثلاث بنات لبون، ثم إذا بلغت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وبه قال الشافعي وإسحاق. قالا: لأنه قال: فإذا زادت على عشرين ومائة، وقد حصلت الزيادة بالواحدة، وبذلك كان عمل عمر بن بن عبد العزيز الذي أمر عماله بالعمل به أخذًا من كتاب عمر بن الخطاب. وذهب بعضهم إلى أنه لا تتغير الفريضة بالزيادة على مائة وعشرين ما لم تبلغ مائة وثلاثين، فحيئنذ تجب فيها حقة وبنتا لبون. وهو قول مالك وأحمد بن حنبل.
(1)
وقوله: البقر في كل ثلاثين تبيع ذو سنتين، وفي أربعين مُسنّةٌ ذَاتُ ثلاث؛ قال في الموطإ: وحدثني يحيى عن مالك عن حميد بن قيس المكي عن طاوس اليماني أن معاذ بن جبل الأنصاري أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأُتي بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئًا وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا حتى ألقاه فأسأله. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ بن جبل. ا. هـ.
وفي المدونة: قلت لابن القاسم: أيأخذ مالك بحديثه الذي يذكر عن طاوس عن معاذ بن جبل في البقر؟. قال: نعم. وفي المدونة: روى ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن أبي بكر، أخبره أن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، فرائض البقر: ليس فيما دون ثلاثين من البقر صدقة، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل رابع جذع إلى أن تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنة إلى أن تبلغ سبعين، فإذا بلغت سبعين ففيها بقرة مسنة وعجل جذع. حتى تبلغ ثمانين، فإذا بلغت ثمانين ففيها مسنتان، ثم على نحو هذا يعد ما كان من البقر، إن زاد أو نقص فعلى نحو فرائض أولها. ا. هـ. منه.
الغَنَمُ فِي أرْبَعِينَ شَاةً جَذَعٌ أو جَذَعَةٌ ذو سَنَةٍ ولَوْ معْزىً، وَفي مائَةٍ وإِحْدَى وعِشْرِينَ شاتان، وفي مائَتَيْنِ وَشَاةٍ ثَلَاثٌ، وفي أربَعمئةٍ أربَعٌ، ثم لكل مائة شَاةٌ (1)، وَلَزِمَ الْوَسَطُ ولو انْفَرَدَ الخيارُ أوِ الشرارُ، إِلَّا أن يَرى السَّاعِي أخذ المعيبة لا الصَّغِيرَة (2)، وَضُمَّ بُخْتٌ لِعِرَابٍ، وجَامُوسٌ لِبَقَرٍ، وَضَأْنٌ لمَعزٍ (3)
(1)
وقوله الغنم في أربعين شاة جذع أو جذعة الخ. قال في حديث أنس الذي ذكر فيه أن أبا بكر كتب له كتابًا لما وجهه إلى البحرين قال فيه: وَفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أرْبَعِينَ إلَى عِشرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإذَا زَادَتْ عَلَى عِشرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، شاتَانِ، فَإذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَنْ ثَلَاثمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاة، فَإذَا كَانَتْ سَائِمَة الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَربَعِينَ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَة إلَّا أن يَشَاءَ رَبُّهُا. ا. هـ. محل الغرض منه، قال البغوي: وقوله: فَإِذَا زَادَتْ عَنْ ثَلَاثِمَائِةٍ، فَفِي كل مِائَةٍ شَاةٌ؛ فإنما معناه أن تزيد مائة أخرى، فتصير أربعمائة، فيجب فيها أربع شياه. وهو قول عامة أهل العلم، خلافًا للحسن بن صالح بن حي قال: إذا زادت عن ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه. والله أعلم.
(2)
وقوله: ولزم الوسط ولو انفرد الخيار أو الشرار إلا أن يرى الساعي أخذ المعيبة لا الصغيرة؛ دليله قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ "فَإِنْ هُمْ أطَاعُوكَ لِذلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإنهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ". قال البغوي: قوله: وإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ؛ فيه دليل على أنه ليس للساعي أن يأخذ خيار ماله، إلا أن يتبرع رب المال، وليس لرب المال أن يعطي الأردأ، ولا للساعي أن يرضى به فيبخس بحق المساكين، بل حقه في الوسط. ا. هـ. منه.
وقوله: إلا أن يرى الساعي أخذ المعيبة؛ يشترط أصحابنا أن تكون معيبة بغير مرض، وليس له أن يأخذ مريضة بحال من الأحوال، ولو كان مال المتصدق كله مريضًا، فعليه أن يشتري العين المطلوبة منه صحيحة غير مريضة.
تنبيه: فإن لزمه شاة في زكاة الإبل فأخرج بدلها بعيرًا أجزأه، بناء على أن الأصغر يندرج في الأكبر، وهي من قواعد الخلافيات. قال المنهج: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ......... هل أصغر
…
مندرج في أكبر قد قرروا
عليه غسلًا وقرانًا وزكاة
…
شفع إقامة حدود أو ذكاة
فمن الفروع المقررة على هذه القاعدة، مسألتنا هذه التي نحن بصددها وهي إخراج بعير عن شاة في زكاة خمسة أبعر، وهي ما أشار إليها الناظم بقوله: زكاة. وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي. وهو ما يعنيه المصنف بقوله: والأصح إجزاء بعير، وعدم الإجزاء هو مذهب أحمد، وحكي عن مالك وداود كما ذكر ابن قدامة.
(3)
وقوله وضم بخت لعراب وجاموس لبقر وضأن لمعز؛ لما قال مالك في الموطإ: وقال مالك في الرجل يكون له الضأن والماعز، أنها تجمع عليه في الصدقة؛ فإن كان فيها ما تجب فيه الصدقة صدِّقت، وقال: إنما هي غنم كلها. وفي كتاب عمر بن الخطاب: وَفي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ. قال مالك: فإن كانت الضأن هي أكثر من المعز، ولم يجب على ربها إلا شاة واحدة، أخذ المصدق تلك الشاة التي وجبت على رب المال من الضأن، وإن كانت المعز أكثر من الضأن أخذ منها، فإن استوت الضأن والمعز أخذ الشاة من أيتهما شاء، قال مالك: وكذلك الإبل العراب والبخت تجمعان على ربهما في الصدقة. وقال: إنما هي إبل كلها، فإن كانت العراب هي أكثر من البخت، ولم يجب على ربها إلا بعير واحد، فليأخذ من العراب صدقتها، فإن كانت البخت أكثر فليأخذ منها، فإن استوت فليأخذ من أيتهما شاء. قال مالك: وكذلك البقر والجاموس تجمع في الصدقة على ربها. وقال: إنما هي بقر كلها، فإن كانت البقر أكثر من الجاموس، ولا تجب على ربها إلا بقرة واحدة فليأخذ من البقر صدقتهما، فإن كانت الجواميس أكثر فليأخذ منها، فإن استوت فليأخذ من أيتهما شاء، فإذا وجبت في ذلك الصدقة صدق الصنفان جميعًا. ا. هـ. منه. =
وخُيِّرَ السَّاعِي إِن وَجَبَتْ واحِدَةٌ وتَسَاوَيَا، وإلَّا فمنَ الأكْثَرِ، وثنْتَانِ مِن كُلٍّ إِنْ تَسَاوَيَا، أو الأقلُّ نِصَابٌ غَيْرُ وَقْصٍ، وإِلَّا فَالأكْثَرُ، وثلاث وَتَسَاوَيا فَمِنْهُمَا، وَخُيِّرَ في الثَّالثَةَ وإِلَّا فكذلك، واعْتُبِرَ في الرَّابِعَةِ فأَكْثَرَ كُلُّ مِائةٍ، وفِي أَربعين جَامُوسًا وعشرين بقرة مِنْهُمَا، ومَنْ هَرَبَ بِإِبْدَالِ مَاشِيَةٍ أُخِذ بِزَكَاتِهَا ولو قبل الحَوْلِ على الْأرْجَحِ (1).
وَبَنَى في رَاجِعَةٍ بِعَيْبٍ أوْ فَلَسٍ (2)، كَمُبْدِلِ مَاشِيَةٍ تجارةً، وإنْ دُونَ نِصَابٍ بِعَيْنِ أو نَوْعِهَا (3)، ولو لاسْتِهْلَاكٍ كَنِصَابِ قِنْيَةٍ، لَا بِمُخَالِفِهَا، أو
(1)
وقوله: ومن هرب بإبدال ماشية أخذ بزكاتها ولو قبل الحول على الأرجح؛ هو جري على القاعدة العظيمة التي تقول بمعاملته بنقيض قصده الفاسد، فروع هذه القاعدة كثيرة منها: عدم توريث القاتل من مال ولا دية المقتول، ومن ارتدت عن الإسلام تريد فسخ نكاحها تعامل بنقيض قصدها الفاسد حيث لا يفسخ، ومن هرب بإبدال ماشية ببيعها أو إبدالها بغيرها لئلا تلزم فيها الزكاة عنده. وقد عقدها في المنهج بقوله:
وبنقيض القصْدِ عَامِلْ إنْ فَسَد
…
في قاتل موصٍ كذا الذَّي قصَدْ
فَسادًا أوْ إفاتةً في الْبَيع
…
نهْجَ عِياضٍ ذا بدا لا الرِّبْعي
وَهَارِبٍ ومَنعِ مَنْ تَصَدَّقَا
…
................. الخ
(2)
وقوله: وبني في راجعة بعيب أو فلس؛ هو لاعتبار رجوعها بعيب لا يعلمه المشتري فسخًا للبيع، فصارت كأنها لم تخرج من ملكه، وكذا في الفلس، فيبني فيهما على حوله الأول.
(3)
وقوله: كمبدل ماشية تجارة وإن دون نصاب بعين أو نوعها ولو لاستهلاك؛ هو تشبيه في عدم استئناف الحول، وأنه يبني في ذلك على حول ملكه لأصوله.
رَاجِعَةٍ بإِقاَلةٍ أو عَيْنًا بِمَاشِيَةٍ (1)، وخُلَطَاءُ الْمَاشِيةِ كمالك فيما وجب مِن قدر وسنٍّ وصِنْفٍ إِنْ نُوِيَتْ، وَكُلٌّ حُرٌّ مُسْلِم مَلَكَ نِصَابًا بِحَوْلٍ، واجْتَمَعَا بِمِلْكٍ أو مَنْفَعَةٍ في الأكثر مِنْ مَاءٍ وَمَراحٍ ومَبيتٍ ورَاع بِإِذْنِهِمَا، وفَحْلٍ بِرِفْقٍ وَرَاجَعَ الْمَأخُوذُ مِنْهُ شرِيكَه بنسبَةِ عَدَدَيْهمَا، ولو انْفَرَدَ وَقْصٌ لأحَدِهِمَا فِي القيمَةِ؛ كَتأوُّلِ السَّاعِي الأخْذَ مِن نِصَابٍ لَهُمَا أو لأحَدِهِمَا وزاد لِلْخُلْطَةِ، لَا غَصْبًا أو لَمْ يَكْمُلْ لَهُمَا نصَابٌ. وذو ثَمانِينَ خَالَطَ بِنِصْفيْهَا ذَوَيْ ثَمَانين، أو بِنِصْفٍ فَقَطْ ذَا أَرْبَعينَ كَالْخلِيطِ الْوَاحِدِ، عَلَيْهِ شَاةٌ وَعَلَى غيْرِهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ (2).
(1)
وقوله لا بمخالفها أو راجعة بإقالة، أو عينًا بماشية، هو عطف على المغايرة لأنه في هذه الصور يستقبل بها حولًا جديدًا من يوم ملكه للأخيرة.
وقد تبع المؤلف في ذلك مذهب المدونة. ففيها: أرأيت لو أن رجلًا أبدل، اشترى غنمًا للتجارة فبارت عليه، وأقامت عنده سنين، أيقومها كل سنة فيزكيها زكاة التجارة؟. أم يزكيها زكاة السائمة كلما حال عليها الحول عنده وجاءه المصدِّق؟. فقال: بل يزكيها زكاة السائمة. فهذا قوله: أو عينًا بماشية. قلت: فإن أخذ منها المصدق اليوم الزكاة زكاة السائمة، وباعها صاحبها من الغد أعليه في ثمنها زكاة؟. فقال: لا شيء عليه في ثمنها حتى يحول عليها الحول. وهذا قول المؤلف لا بمخالفها.
(2)
وقوله: وخلطاء الماشية كمالك فيما وجب الخ؛ قال في الموطإ: وقال مالك في الخليطين، إذا كان الراعي واحدًا والفحل واحدًا والدلو واحدًا، فالرجلان خليطان وإن عرف كل واحد منهما ماله من مال صاحبه قال: والذي لا يعرف ماله من مال صاحبه ليس بخليط وإنما هو شريك، قال مالك: ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وتفسير ذلك أنه إذا كان لأحد الخليطين أربعون شاة فصاعدًا، وللآخر أقل من أربعين شاة، كانت الصدقة على الذي له الأربعون شاة، ولم تكن على الذي له أقل من ذلك، فإن كان لكل واحد منهما ما تجب فيه الزكاة، جمعا في الصدقة ووجبت الصدقة عليهما جميعًا، فإن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كان لأحدهما ألف شاة أو أقل من ذلك، مما تجب فيه الصدقة، وللآخر أربعون شاة أو أكثر، فهما خليطان يترادَّان الفضل بينهما بالسوية على قدر عدد أموالهما؛ على الألف بحصتها، وعلى الأربعين بحصتها.
قال مالك: الخليطان في الإبل بمنزلة الخليطين في الغنم، يجتمعان في الصدقة جميعًا إذا كان لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ فِيمَا دُونِ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِل صَدَقَةٌ". وقال عمر بن الخطاب في سائمة الغنم: إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ. وقال مالك: هذا أحب ما سمعت إليَّ في ذلك. قال مالك: وقال عمر بن الخطاب: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. إنه إنما يعني بذلك أصحاب المواشي. قال مالك وتفسير: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ؛ أن يكون النفر الثلاث الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجبت على كل واحد منهم في غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة فنهوا عن ذلك. وتفسير قوله: وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتمِعٍ؛ أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاثة شياه فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة فنهى عن ذلك، فقيل: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، قال مالك: فهذا الذي سمعت في ذلك. ا. هـ. منه.
تنبيه: لا يشترط الشافعي وأحمد أن يكون كل من الشريكين مالك نصاب، ولا أن يتميز مال كل واحد منهما، فهي عندهما إما أن تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما نصيب مشاع؛ مثل أن يرثا نصابًا أو يشترياه، أو يوهب لهما فيبقياه بحاله، وإما أن تكون خلطة أوصاف؛ وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزًا، فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي ذكرها، وسواء استويا في الشركة أو اختلفا؛ متل أن يكون لرجل شاة ولآخر تسع وثلاثون. وبهذا قال عطاء والأوزاعي والليث وإسحاق.
واختار ابن المنذر ما ذهب إليه مالك وبه قال الثوري وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: لا أثر للشركة مطلقًا؛ لأن كل واحد منهما لا يملك نصابًا، فلا شيء عليه، وإن كان كل واحد منهما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يملك أربعين من الغنم، فوجب عليه شاة لقوله صلى الله عليه وسلم:"فِي أَرْبعِينَ شَاةً شَاةٌ".
تنبيه: لا زكاة على المسلم في عبده ولا في فرسه؛ لحديث أبي هريرة عند الموطإ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْس عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ". وفي رواية له متفق عليها: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي مَمْلُوكِهِ صَدَقَةٌ". هذا قول أكثر أهل العلم، إلا أن تكون للتجارة فتجب في قيم ذلك زكاة التجارة. يروى ذلك عن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال حماد بن أبي سلمة: في الخيل صدقة، وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في الإناث منها، في كل فرس دينار، وإن شئت قومتها فجعلت في كل مائتي درهم خمسة دراهم. ا. هـ. من البغوي.
وَخَرَجَ السَّاعِي، وَلَوْ بِجَذْبٍ، طُلُوعَ الثُّرَيَّا بِالْفَجْرِ، وَهُوَ شَرْطُ وُجُوب إنْ كَانَ وَبَلَغَ (1) وَقَبْلَهُ يَسْتَقْبِلُ الْوَارِثُ، ولَا تُبَدَّأُ إن أَوْصَى بِهَا ولَا تُجْزِئُ (2) كَمُرورِهِ بِهَا ناقِصَةً، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ كَمُلتْ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وأُخْرِجَتْ أَجْزأَ، عَلى المخْتَارِ (3)، وإِلَّا عَمِلَ عَلى الزَّيْدِ والنَّقْصِ لِلْمَاضِي بَتَبْدِيَةِ الْعَامِ الأَوَّلِ، إِلَّا انْ يَنْقُصَ الأَخْذُ النِّصَابَ أو الصِّفَةَ فيعْتَبرُ كتَخْلُّفِهِ عَنْ أَقَلَّ فَكَمُلَ وَصُدِّقَ، لَا إِنْ نَقَصَتْ هَارِبًا، وإن زادَتْ لَهُ فَلِكُلٍّ مَا فِيهِ بتَبْدِئةِ الأَوَّلَ. وَهَلْ يُصَدَّقُ؟. قَوْلَانِ. وإنْ سَأَلَ فنقصَتْ أَوْ زَادَتْ فَالْمَوْجُودُ إِنْ لَمْ يُصَدِّقْ أوْ صَدَّقَ وَفي الزَّيْدِ تَرَدُّدٌ.
(1)
وقوله: وخرج الساعي ولو بجدب طلوع الثريا بالفجر؛ دليل وجوب خروجه ما أخرجه البيهقي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عام الفتح فذكر الحديث وفيه قال: "لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ". وقوله طلوع الثريا بالفجر؛ لأنه مظنة اجتماعهم على مياههم، ومظنة أن من لم تكن عنده الذات المطلوبة وجدها عند غيره.
وقوله: وهو شرط وجوب إن كان وبلغ؛ الظاهر والله تعالى أعلم أنه لا يكون بهذه المثابة إلا في عهد من هو كعمر بن عبد العزيز في العدل، ذلك أن الزكاة واجب مطلق بعد تحقق شروط الوجوب، معناه أنها - في الأصل - ورد النص فيها بالإطلاق كأختها الصلاة. قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
(1)
. إلا أن السنة بينت أنها من الواجب المشروط، لأنها لا تجب إلا بملك النصاب وحلول الحول عليه، ولم أقف على سنة تشترط في وجوب الزكاة بلوغ المصدِّق، غير أنه لما كان ولي أمر المسلمين ورد خطابه في التنزيل بالأمر بأخذها بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
(2)
فوجب عليه لذلك بعث مصدِّقين من أهل العدالة لأخذ صدقة الناس، فإن كان ولي الأمر من أهل العدالة وجب انتظار مبعوثه بها. قال في المدونة: أرأيت إذا كان مصدِّق عدل، يعدل على الناس، فأتى المصدِّق إلى رجل له ماشية =
(1)
سورة البقرة: 83.
(2)
سورة التوبة: 103.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تجب في مثلها الزكاة، فقال له الرجل: قد أديت صدقتها إلى المساكين؟. فقال: لا يقبل قوله هذا لأن الإمام عدل فلا ينبغي لأحد أن يمنعه صدقتها. قلت: هذا قول مالك؟. قال: نعم. إذا كان مثل عمر بن عبد العزيز. قلت: أرأيت إذا حال الحول على ماشية الرجل عنده، أيجب عليه أن يزكيها أم ينتظر الساعي حتى يأتي؟. قال: إن خفي له فليضعها مواضعها، إذا كان الوالي ممن لا يعدل، وإن كان من أهل العدل انتظره حتى يأتي له، ولا ينبغي له أن يخرجها، وإن كان ممن لا يعدل وخاف أن يأتوه، ولا يقدر أن يخفيها عنهم، فليؤخر ذلك حتى يأتوه. قال مالك: إذا خفي لرب الماشية أمر ماشيته عن هؤلاء السعاة - ممن لا يعدل - فليضعها مواضعها، إن قدر على ذلك، فإن أخذوها منه أجزأه، وأحب إليَّ أن يهرب بها عنهم إن قدر على ذلك. قال وأخبرني مالك أن ابن هرمز كان إذا جاءت غنم الصدقة المدينة، امتنع من شراء اللحم من السوق تلك الأيام.
قلت: وبنظرة إلى هذه النقول المنسوية لمالك في المدونة، يشكل عندك إطلاق وصف الساعي بأنه شرط وجوب للزكاة إن كان وبلغ، نعم، يمكن وصفه بأنه شرط أداء أو شرط صحة أو هما سواء لقول مراقي السعود:
الشرط في الصحة شرط في الأدا .. وعزوه للاتفاق وجدا
وإلا، فكيف يتصور بأنه شرط وجوب لا يتوجه الخطاب بالزكاة إلى المكلف قبل وصوله، في الوقت الذي يفتي فيه مالك بقوله: وأحب إليَّ أن يهرب بها عنهم إن قدر على ذلك؟. فهل يمكن لأحدنا أن يتهرب من الصلاة بعد دخول الوقت، الذي هو شرط وجوبها؟. وهل تستطيع امرأة أن تتهرب من الصلاة بعد نقائها من دم الحيض قبل خروج الوقت؟. ومعلوم أن شرط الوجوب هو ما يتوجه بموجبه الخطاب إلى المكلف. قال في مراقي السعود:
شرط الوجوب ما به يُكلِّف
…
وعدم الطلب منه يُعرف
مثل دخول الوقت والنقاء
…
وكبلوغ بعث الأنبياء =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومستندي فيما رأيته؛ من أنه يمكن القول بأن الساعي إن كان وبلغ، هو شرط صحة أو شرط أداء، ما رواه في المدونة عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال عمن حدثه عن أنس بن مالك قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد تبرأت منها إلى الله ورسوله؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، إذا أدَّيْتَهَا إلَى رَسُولي فَقَدْ تَبَرأتَ مِنْهَا وَلَكَ أجرُهَا، وإثْمهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا". قال ابن وهب: وأخبرني رجال من أهل العلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وأبا قتادة، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة، وعائشة، وأم سلمة، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهدًا، وعطاء، والقاسم، وسالمًا، ومحمد بن المنكدر، وعروة بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومكحولًا، والقعقاع بن حكيم، وغيرهم من أهل العلم كلهم يأمر بدفع الزكاة إلى السلطان ويدفعونها إليهم. ا. هـ. منه.
ولعله لا يخفى عليك أن هذه النقول إنما تتضمن أن من دفعها إلى المصدِّق برئت ذمته منها، ولا تدل بتاتًا - لا بدلالة المطابقة، ولا بالاشارة، ولا بالإيماء - إلى أن السَّاعي شرط في وجوب الزكاة أصلًا إن كان وبلغ، وكل قول منه مقبول ومردود إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعصمة في الخلق للأنبياء. والله الموفق.
(2)
وقوله: وقبله يستقبل الوارث ولا تبدأ إن أوصى بها ولا تجزئ؛ قال في الموطإ في زكاة الميراث: يحيى عن مالك أنه قال: إن الرجل إذا هلك ولم يؤد زكاة ماله؛ إني أرى أن يؤخذ ذلك من ثلث ماله، ولا يجاوز بها الثلث، تبدى على الوصايا، وأراها بمنزلة الدين عليه، فلذلك رأيت أن تبدى على الوصايا. قال: وذلك إذا أوصى بها الميت. قال: فإن لم يوص بذلك الميت، ففعل ذلك أهله فذلك حسن، وإن لم يفعل ذلك أهله لم يلزمهم ذلك. قال: والسنة عندنا - التي لا اختلاف فيها - أنه لا يجب على وارث زكاة في مال ورثه؛ في دين ولا عرض ولا دار ولا عبد ولا وليدة، حتى يحول - على ثمن ما باع من ذلك أو اقتضى - الحول من يوم باعه وقبضه. وقال مالك: السنة عندنا أنه لا يجب على وارث في مال ورثه الزكاة، حتى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يحول عليه الحول. ا. هـ.
(3)
وقوله: فإن تخلف وأخرجت أجزأ على المختار؛ هو تناقض منه في نظري؛ لأنه قرر أن الساعي، وجوده وبلوغه شرط في الوجوب، فكيف يقول بعد ذلك: فإن تخلف وأخرجت أجزأ على المختار؟!. فما هو الموصوف هنا بالإجزاء، إذا اعتبرنا أن التكليف بالزكاة لا يتوجه إلى المكلف إلا بعد بلوغ الساعي؟. فلابد أنه يلزم من الوصف بالإجزاء هنا، أن هناك خطابًا ترتب عليه الوجوب غير مجيءِ الساعي لأنه تخلف، فيكون المصنف تناقض في وصفه بلوغ الساعي بأنه شرط وجوب، ثم يرتب حكمًا بالإجزاء مع عدم توجه الخطاب أصلًا، لتخلف شرط وجوبه. والله الموفق.
وكذلك قوله: وإلا عمل على الزيد والنقص للماضي بتبدية العام الأول، إلا أن ينقص الأخذ النصاب أو الصفة؛ فهذه عمليات موجبها تخلفه، فعلى أنه شرط وجوب، لا تصح بتاتًا، إذ لم يترتب بذمة المكلف شيء، فهل تتصور مطالبة المكلف بقضاء ما مر عليه من صوم في صبوته قبل بلوغه، أو بقضاء ما ضاع من أوقاته قبل البلوغ؟. ذلك أنه ليس من أهل الخطاب أصلًا لقوله صلى الله عليه وسلم "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ" ثم عد منهم "الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ". والمختصر يقول أن الساعي شرط وجوب، إن كان وبلغ، ثم يرتب في الذمم ما بلوغه شرط في وجوبه أصلًا، أمر غريب!!.
وَأخِذَ الخوارِجُ بِالْمَاضِي إِنْ لَمْ يَزْعُمُوا الأدَاءَ، إِلا أَنْ يخرجوا لمنعها (1). وَفي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فأكْثَر، وإنْ بأَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ، أَلفٌ وسِتُّمَائَةِ رِطْلٍ، مِائة وثمانية وعِشْرُونَ دِرْهَمًا مَكَيًّا، كُلٌّ خَمْسُونَ وخُمُسَا حَبَّةٍ مِن مُطْلَقِ الشَّعِير، مِنْ حَبٍّ، وَتَمْرٍ فَقَطْ؛ مُنَقّىً مُقَدَّرَ الجَفَافِ، وإنْ لم يَجِفَّ، نِصْفُ عُشُرِهِ، كزيت ما له زَيْتٌ، وثمَنِ غَيْرِ ذِي الزيْتِ، ما لا يَجِفُّ، وفُولٍ أخْضَر إِنْ سُقِيَ بآلَةٍ، وإِلَّا فالْعُشُرُ، ولو اشْتُرِيَ السَّيْحُ أوْ أُنفِقَ عَلَيْهِ، وإنْ سُقِيَ بِهما، فَعَلى حُكْمَيْهمَا، وهَلْ يُغَلَّبُ الأكْثَر؟. خِلَافٌ.
(1)
وقوله: وأخذ الخوارج بالماضي إن لم يزعموا الأداء، إلا أن يخرجوا لمنعها؛ قال ابن قدامة: وإن منعها معتقدًا وجوبها، وقدر الإمام على أخذها منه، أخذها وعزَّره، ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأصحابهم. وقال إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"فِي كُلِّ سَائِمَةِ الإبِلِ؛ فِي كُلِّ أربَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أعطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ أبَاهَا فَإِنِّي آخِذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَئٌ". وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟. وسئل عن إسناده، فقال: هو عندي صالح. رواه أبو داود والنسائي. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: فإن كان مانع الزكاة خارجًا عن قبضة الإمام قاتله؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. فإن قاتله وظفر به وبماله أخذها من غير زيادة، ولم تسب ذريته، لأن الجناية في غيرهم، ولأن المانع لا يسبى فذريته أولى، وإن ظفر به دون ماله دعاه إلى أدائها، واستتابه ثلاثًا، فإن تاب وأدى وإلا قتل، ولم يحكم بكفره، وعن أحمد ما يدل على أنه =
وتُضَمُّ القَطَانِي كَقَمْحٍ وشَعِير وَسُلْتٍ - وإنْ بِبُلْدَانٍ، إِنْ زُرِعَ أَحدُهُمَا قَبْلَ حَصَادِ الآخَر - فيُضَمُّ الْوَسَطُ لَهُمَا، لا أوَّلٌ لِثَالِثٍ، لا لِعَلَسٍ ودُخْنٍ وذرَةٍ وأُرْزٍ، وَهيَ أَجْنَاسٌ، والسِّمْسِمُ وَبِزْرُ الفجْلِ، والقُرْطُمُ كالزيْتُونِ لَا الكتَّانِ. وحُسِبَ قشر الأرْزِ والْعَلَسِ وما تُصُدِّق به واستأجر قتًّا، لَا أكْلُ دَابَّةٍ فِي دَرْسِهَا. والْوُجُوبُ بإِفْرَاكِ الحَبِّ، وَطِيبِ الثَّمَرِ، فلا شِئَ عَلَى وَارِثٍ قَبْلَهُمَا لَمْ يَصِرْ لَهُ نِصَابٌ، والزكاةُ على البَائِعِ بَعْدَهُمَا، إِلَّا أنْ يُعْدِمَ فعَلَى المشْتَرِي. والنَّفَقَةُ عَلى المُوصَى له، المُعَيَّنَ بِجُزْءٍ لَا المَساكِينِ أَو كيْلٍ فعلى الميِّتِ (1).
= يكفر بقتاله عليها؛ فروى الميموني عنه: إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر، وقاتلوا عليها، لم يورثوا ولم يصل عليهم. قال عبد الله بن مسعود: ما تارك الصلاة بمسلم، ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا: نؤديها. قال: لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ولم ينقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة، فدل على كفرهم. ا. هـ. منه بلفظه.
(1)
وقوله: وفي خمسة أوسق فأكثر الخ؛ هو في زكاة الثمار والحبوب والزيوت. ودليل وجوب الصدقة في ذلك من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} - إلى أن قال - {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
(1)
من سورة الأنعام. قال مالك: سمعت من يقول: إن ذلك الزكاة. وهو مروي عن أنس بن مالك وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن وطاوس وجابر بن زيد، ومحمد بن الحنفية وقتادة في آخرين.
وقال عطاء ومجاهد: إنه حق غير الزكاة، فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر. =
(1)
سورة الأنعام: 141.
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال القاضي أبو بكر بن العربي: امتنَّ الله على خلقه في إنبات الأرض ثم قال لهم: كلوا مما أنعمت به عليكم، وآتوا حقه إذا جمعتموه بأيديكم وآويتموه إلى رحالكم، فكما خلقه نعمة، ومكن منه نعمة، أوجب فيه الحق. قال مالك: الحق هنا الزكاة، وصدق، ومن قال غير هذا فقد وهم، وتعين حمل هذا على عمومه، إلا ما خصه دليل يصح تخصيصه هنالك حسب ما ذكرناه وحققناه هناك، فأما من حمله على عمومه فاستثنى الحطب والقضب والحشيش، فلا يقال: إنه تخصيص لأنه قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فإنما أوجب إيتاء الحق فيما يؤكل. ا. هـ. منه. العارضة.
وروى البغوي بسنده عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكَرْم: "يُخْرَص كَمَا يُخْرَص النَخْلُ ثُمَّ تؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النخْلِ تَمْرًا". وفي الموطإ: حدثني يحيى عن مالك عن الثقة عنده، عن سليمان بن يسار عن يسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلِ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ". وفي الموطإ كذلك قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يخرص من الثمار إلا النخيل والأعناب، فإن ذلك يخرص حين يبدو صلاحه ويحل بيعه، وذلك أن ثمر النخيل والأَعناب يؤكل رطبًا وعنبًا، فيخرص على أهله للتوسعة على الناس، ولئلا يكون على أحد في ذلك ضيق، فيخرص ذلك عليهم ثم يخلى بينهم وبينه يأكلونه كيف شاؤوا، ثم يؤدون منه الزكاة على ما خرص عليهم. قال مالك: فأما ما لا يؤكل رطبًا وإنما يؤكل بعد حصاده، من الحبوب كلها فإنه لا يخرص وإنما على أهلها فيها فإذا حصدوها ودقوها وطيبوها وخلصت حبًا، فإنما على أهلها فيها الأمانة، يؤدون زكاتها إذا بلغ ذلك ما تجب فيه الزكاة، وهذا الأمر لا اختلاف فيه عندنا. قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن النخل يخرص على أهلها، وثمرها في رؤوسها، إذا طاب وحل ببعه، ويؤخذ منه صدقته تمرًا عند الجذاذ، فإن أصابت الثمرة جائحة - بعد أن تخرص على أهلها، وقبل أن تجذ - فأحاطت الجائحة بالثمر كله فليس عليهم صدقة، فإن بقي من الثمر شيء يبلغ خمسة أوسق فصاعدًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم زكاته، وليس عليهم فيما أصابت الجائحة زكاة، وكذلك العمل في الكرم أيضًا. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال البغوي في الكلام على حديث عتاب بن أسيد المتقدم: هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم. وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: إنه تخرص الثمار على أربابها، فبعد بدو الصلاح في العنب والرطب، يبعث الإمام خارصًا يخرص عليهم، ويقول: يحصل من هذا الرطب كذا من التمر، ومن هذا العنب كذا من الزبيب. فيحصي على أرباب الأموال، ثم يخلي بينهم وبينها يصنعون بها ما شاؤوا ثم يأخذ منهم العشر بعد ما أدرك وجفَّ، فإن ادعى رب المال نقصانًا عما خرص فالقول قوله.
وقال الثسعبي: الخرص بدعة. وأنكر أصحاب الرأي الخرص. والخرص أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل به، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي. وعمل به الصحابة من بعده رضي الله عنهم، وعامة العلماء على تجويزه. ا. هـ. منه بتصرف.
تنبيه: وقد روي عن سهيل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثلُثَ، فَانْ لَمْ تَدَعُوا الثلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ". قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للخرفة. وكذا قال يحيى القطان. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الثلث والربع متروك لهم على عرض المال توسعة لهم، فقد يكون منها الساقطة، وينتابها الطير، ويخترفها الناس للأكل. وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك. وبه قال أحمد وإسحاق. ا. هـ. من شرح السنة.
وحديث سهيل بن أبي حثمة هذا أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ا. هـ.
تنبيه: قال البغوي: اتفق أهل العلم على وجوب العشر في النخيل والكروم، وفيما يقتات من الحبوب مما يزرعه الآدميون، واختلفوا فيما سواها من الثمار والزرع، فذهب الشافعي، وابن أبي ليلى إلى أنه لا عشر في شيء منها، وقال مالك: لا يجب في شيء من الفواكه والبقول العشر. وقال أبو حنيفة: يجب العشر في جميعها. وذهب الشافعي في القديم إلى إيجاب العشر في الزيتون. وبه قال الزهري. وهو قول مالك والأوزاعي، والثَّوْريُّ وأصحاب الرأي. وأما الزيتون فقد اختلفوا في كيفية الأخذ منه؛ فقال مالك والأوزاعي: يؤخذ بعد العصر من الزيت، إذا بلغ زيتونه خمسة أوسق. وقال أصحاب الرأي يؤخذ من ثمره. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي الموطإ ما نصه: زكاة الحبوب والزيتون؛ حدثني يحيى عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون فقال: فيه العشر. قال مالك: وإنما يؤخذ من الزيتون العشر بعد أن يعصر ويبلغ زيتونه خمسة أوسق، فما لم يبلغ زيتونه خمسة أوسق فلا زكاة فيه، والزيتون بمنزلة النخيل؛ ما كان منه سقته السماء والعيون أو كان بعلًا ففيه العشر، وما كان يسقى بالنضح ففيه نصف العشر، ولا يخرص شيء من الزيتون في شجره.
والسنة عندنا في الحبوب التي يدخرها الناس ويأكلونها، أنه يؤخذ مما سقته السَّماء من ذلك، وما سقته العيون وما كان بعلًا، العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر، وإذا بلغ ذلك خمسة أوسق، بالصاع الأول صاع النبي صلى الله عليه وسلم وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك. قال مالك: والحبوب التي فيها الزكاة. الحنطة والشعير، والسُّلْتُ، والذرة والدخن والأرز، والعدس، والجلبان، واللوبيا، والجلجلان. وما أشبه ذلك من الحبوب التي تصير طعامًا، فالزكاة تؤخذ منها بعد أن تحصد وتصير حبًا. قال: والناس مصدقون في ذلك يقبل منهم في ذلك ما دفعوه.
وسئل مالك: متى يخرج من الزيتون العشر أو نصفه، أقبل النفقة أم بعدها؟. فقال: لا ينظر إلى النفقة، ولكن يسأل عنه أهله، كما يسأل أهل الطعام عن الطعام، ويصدقون فيما قالوا فيه، فمن رفع من زيتونه خمسة أوسق فصاعدًا أخذ من زيته العشر بعد أن يعصر، ومن لم يرفع من زيتونه خمسة أوسق لم يجب عليه في زيته الزكاة. قال مالك: ومن باع زرعه وقد صلح ويبس في أكمامه فعليه زكاته، وليس على الذي اشتراه زكاة، ولا يصلح بيع الزرع حتى ييبس في أكمامه ويستغني عن الماء. قال مالك في قول الله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
(1)
إن ذلك الزكاة. وقد سمعت من يقول ذلك.
قال مالك: ومن باع أصل حائطه أو أرضه، وفي ذلك زرع أو ثمر لم يبد صلاحه، فزكاة ذلك على المبتاع، وإن كان قد طاب وحل بيعه فزكاة ذلك على البائع، إلا أن يشترطها على المبتاع.
وقوله: وتضم القطاني كقمح وشعير وسلت الخ. قال مالك في الموطإ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوسقٍ مِنَ التَمْرِ صَدَقَةٌ". وإن كان في الصنف الواحد من تلك الأصناف ما يبلغ=
(1)
سورة الأنعام 141.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= خمسة أوسق ففيه الزكاة، فإن لم يبلغ خمسة أوسق فلا زكاة فيه. وتفسير ذلك أن يجذ الرجل من التمر خمسة أوسق، وإن اختلفت أسماؤه وألوانه، فإنه يجمع بعضه إلى بعض ثم يؤخذ من ذلك الزكاة، فإن لم يبلغ ذلك فلا زكاة فيه. وكذلك الحنطة كلها. السمراء والبيضاء والشعير والسلت، كل ذلك صنف واحد، فإذا حصد الرجل من ذلك كله خمسة أوسق جمع عليه بعض ذلك إلى بعض ووجبت فيه الزكاة، فإن لم يبلغ ذلك فلا زكاة فيه. وكذلك الزبيب كله أسوده وأحمره، فإذا قطف الرجل منه خمسة أوسق وجبت فيه الزكاة، فإن لم يبلغ ذلك فلا زكاة فيه. وكذلك القطنية هي صنف واحد مثل الحنطة والتمر والزبيب، وإن اختلفت أسماؤها وألوانها. والقطنية: الحمص والعدس واللوبيا والجلبان وكل ما ثبت عند الناس أنه قطنية، فإذا حصد الرجل من ذلك خمسة أوسق بالصاع الأول، صاع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من أصناف القطنية كلها، ليس من صنف واحد من القطنية، فإنه يجمع ذلك بعضه إلى بعض وعليه فيه الزكاة. قال مالك: وقد فرق عمر بن الخطاب بين القطنية والحنطة فيما أخذ من النبط، ورأى أن القطنية كلها صنف واحد، فأخذ منها العشر، وأخذ من الحنطة والزبيب نصف العشر، قال مالك: فإن قال قائل: كيف يجمع القطنية إلى بعض في الزكاة حتى تكون صدقتها واحدة، والرجل يأخذ منها اثنين بواحد يدًا بيد، ولا يؤخذ من الحنطة اثنان بواحد يدًا بيد؟. قيل له: فإن الذهب والورق يجمعان في الصدقة، وقد يؤخذ بالدينار أضعافه في العدد من الورق يدًا بيد.
وقال مالك: والسنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها، الحنطة والتمر والزبيب والحبوب كلها، ثم أمسكه صاحبه - بعد أن أدى صدقته - سنين ثم باعه ليس عليه في ثمنه زكاة، حتى يحول على ثمنها الحول من يوم باعه، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها، وأنه لم يكن للتجارة وإنما ذلك بمنزلة الطعام والحبوب والعروض، يفيدها الرجل ثم يمسكها سنين ثم يبيعها بذهب أو ورق، فلا يكون عليه في ثمنه زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم باعها، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة، فعلى صاحبها فيها الزكاة ببيعها، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به.
وإِنّمَا يُخْرَصُ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ إذَا حَلَّ بَيْعُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ حَاجَةُ أَهْلِهِمَا نَخْلَةً نَخْلَةً، بِإسْقَاطِ نَقْصِهَا لَا سَقَطِهَا، وَكَفى الْوَاحِدُ، وَإِن اخْتَلَفُوا فَالْأعْرَفُ. وَإِلَّا فَمِنْ كُل جُزْءٌ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَة اعْتُبِرَتْ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى تَخْرِيص عَارِفٍ فَالْأحَبُّ الْإِخْرَاجُ. وَهَلْ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ الْوُجُوب؟. تَأْوِيلَانِ (1) وَأُخِذَ مِنَ الْحَبِّ كَيْفَ كَانَ التمْرُ نَوْعًا أَو نَوْعَيْنِ وإلَّا مِنْ أَوْسَطِهَا. وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَم شَرْعيٍّ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَكْثَرَ، أَوْ مُجَمَّع مِنْهُمَا بِالجُزْءِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَإِنْ لِطِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ بِرَدَاءَةِ أَصْل أوْ بإِضَافَةٍ وَرَاجَتْ كَكَامِلَةٍ، وَإِلَّا حُسِبَ الْخَالِصُ تَمَّ المِلْكُ وَحُوّل غير المعْدِنِ (2). وتَعَدَّدَتْ بتَعَدُّدِهِ
(1)
وقوله: إنما يخرص التمر والعنب ألخ. تقدم الكلام عليه في زكاة الثمار والحبوب.
تنبيه: قال مالك في الموطإ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعت من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة؛ الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه. قال: ولا في القصب ولا في البقول كلها صدقة، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب. ا. هـ. منه. بلفظه.
قال البغوي في شرح السنة: أما الخضروات فلا عشر فيها عند أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: يجب فيها العشر، إلا الحطب والحشيش والقصب الفارسي. وخالفه صاحباه فلم يوجبا فيه العشر. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وفي مائتي درهم شرعي أو عشرين دينارًا فأكثر الخ؛ هو في زكاة العين من الذهب والوَرِق، وقد تقدم حديث أبي سعيد الخدري ولفظه عند مالك: وحدثني عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني، عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ مِنَ التمْرِ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْس ذَوْدٍ مِنَ الْإبِلِ صَدَقَة". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي حديث أنس عند البخاري أن أبا بكر كتب له كتابًا حين وجهه إلى البحرين مصدقًا: ففي هذا الحديث ما نصه: وَفي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ، فَإنْ لَمْ تَكنْ إلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أنْ يَشَاء رَبُّهَا.
وفي حديث عليٍّ رضي الله عنه عند البغوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ عَفَوْت عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرِّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ، مِنْ كُل أرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَليس فِي تِسْعِينَ وَمِائةٍ شَيْءٌ، فَإذَا بَلَغَ مِائَتَينِ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِمَ". وهذا الحديث رواه الترمذي، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه. اهـ.
وقال مالك في الموطإ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا، كما تجب في مائتي درهم. قال مالك: ليس في عشرين دينارًا ناقصة بينة النقصان زكاة، فإن زادت حتى تبلغ زيادتها عشرين دينارًا وازنة ففيها الزكاة، وليس فيما دون عشرين دينارًا عينًا زكاة، وليس في مائتي درهم ناقصة بينة النقصان زكاة، فإن زادت حتى تبلغ بزيادتها مائتي درهم وافية ففيها الزكاة، فإن كانت تجوز بجواز الوازنة رأيت فيها الزكاة، دنانير كانت أو دراهم. قال مالك في رجل كانت عنده ستون ومائة درهم وازنة، وصرف الدراهم ببلده ثمانية دراهم، إنها لا تجب فيها الزكاة وإنما تجب الزكاة في عشرين دينارًا أو مائتي درهم. وقال مالك في رجل كانت له خمسة دنانير من فائدة أو غيرها فتجر فيها فلم يأت الحول حتى بلغت ما تجب فيه الزكاة، أنه يزكيها وإن لم تتم إلا قبل أن يحول عليها الحول بيوم واحد، أو بعد ما يحول عليها بيوم، ثم لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول من يوم زكيت. وقال مالك في الذهب والوَرِق يكون بين الشركاء: إن من بلغت حصته منهم عشرين دينارًا عينًا أو مائتي درهم فعليه فيها الزكاة، ومن نقصت حصته عما تجب فيه الزكاة فلا زكاة عليه، وإن بلغت حصصهم جميعًا ما تجب فيه الزكاة وكان بعضهم في ذلك أفضل نصيبًا من بعض، أخذ من كل إنسان منهم بقدر حصته، إذا كان في حصة كل إنسان منهم ما تجب فيه الزكاة. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوْاقٍ مِن الْوَرقِ صَدَقَةٌ". قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إليَّ في ذلك.
وقال مالك: وإذا كان لرجل ذهب أو ورق متفرقة بأيدي أناس شتَّى، فإنه ينبغي له أن يحصيها جميعًا، ثم يخرج ما وجب عليه من زكاتها كلها. قال مالك: ومن أفاد ذهبًا أوورقًا إنه لا زكاة عليه فيها، حتى يحول الحول عليها من يوم أفادها. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: وإن لطفل؛ هو لما ثبت عن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْركْهُ تَأْكُلُهُ الصَّدَقَةُ".
قال البغوي: اختلف العلماء في وجوب زكاة مال الصبي؛ فذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجوبها، منهم: عمر، وعليٌّ، وابن عمر، وعائشة، وجابر، وهو قول عطاء، وطاوس، ومجاهد، وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعي، وابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي: لا زكاة في مال الصبي. واتفقوا على وجوب العشر فيما أخرجته أرضه، وعلى وجوب صدقة الفطر عنه.
وفي الموطإ: حدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة. وحدثني عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: كانت عائشة تليني وأخًا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة. ا. هـ.
تنبيه: في ما لا زكاة فيه من التبر والحلي والعنبر، قال في الموطإ: حدثني يحيى عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحليُّ، فلا تخرج من حليهن الزكاة. وحدثني عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. قال مالك: من كان عنده تبر أو حلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس، فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، يوزن فيؤخذ رُبُعُ عُشرِه أن ينقص من الوزن عشرين دينارًا عينًا أو مائتي درهم، فإن نقص من ذلك فليس فيه الزكاة، وإنما تكون فيه الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة. وقال مالك: ليس في اللؤلؤ ولا في المسك ولا العنبر زكاة. ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: وحول غير المعدن، أي وإن تم حول غير معدن، أما المعدن فإن زكاته تؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع. قال في الموطإ: حدثني يحيى عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لبلال بن الحارث المزنيِّ معادن القَبْلِيَّةِ، وهي من ناحية الفرع، فتلك=
في مُودَعَةٍ، ومُتَّجَرٍ فيهَا بِأَجْرٍ، لَا مَغْصُوبَةٍ، ومَدْفُونَةٍ وضَائِعَةٍ وَمَدْفُوعَةٍ عَلى أَنَّ الرِّبْحَ للعَامِلِ بِلَا ضَمَانٍ، ولا زكاةَ في عَيْنِ فقط وُرِثَتْ إِن لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَوْ لَمْ تُوقَفْ إِلَّا بَعْدَ حَوْل بَعْدَ قَسْمِهَا أَوْ قَبْضِهَا، ولَا مُوصًى بتفرقَتِهَا، ولَا مَالِ رَقيقٍ (1) ومَدِينٍ (2)، وسِكَّةٍ، وَصِياغَة وجَوْدَةٍ وَحَلْيٍ، وإِنْ تَكَسَّرَ إِن لم يَتَهَشَّمْ ولمْ ينوِ عَدَمَ إِصلاحه أَو كَانَ لِرَجُل، أَو كِراءٍ، إلَّا مُحَرَّمًا أَو مُعَدًّا لِعَاقبةٍ، أَو
المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلَّا الزكاة. قال مالك: أرى والله أعلم، أنه لا يؤخذ من المعادن مما يخرج منها شيء، حتى يبلغ ما يخرج منها قدر عشرين دينارًا عينًا أو مائتي درهم، فإذا بلغ ذلك ففيه الزكاة مكانه، وما زاد على ذلك أخذ بحساب ذلك ما دام في المعدن نيلٌ، فإذا انقطع عرقه ثم جاء بعد ذلك نيلٌ فهو مثل الأول؛ يبتدأ فيه الزكاة كما ابتدئت في الأول. قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع؛ يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك، ولا ينتظر به الحول كما يؤخذ من الزرع - إذا حصد - العشر، ولا ينتظر أن يحول عليه الحول. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ولا مال رقيق؛ قال في المدونة: ما قول مالك في أموال العبيد والمكاتبين وأمهات الأولاد، أعليهم صدقة في عبيدهم وحروثهم وفي ناضهم وفيما يديرون للتجارة زكاة؟. فقال: لا. قلت: وهو قول مالك؟. قال: نعم، هو قول مالك. وقال مالك: ليس عليهم إذا عتقوا وأموالهم في أيديهم زكاة، حتى يحول الحول على أموالهم التي في أيديهم من يوم عتقوا. وفيها، قلت: أرأيت إن قبض الرجل مال عبده، أيزكيه مكانه أم حتى يحول عليه الحول؟. قال: لا زكاة على السيد فيه حتى يحول الحول عليه من يوم قبضه. قلت: وهذا قول مالك؟. قال: نعم. قلت المكاتب، أعليه عشر ما أخرجت الأرض؟. قال: لا. قلت: وليس عليه في شيء من الأشياء زكاة؟. قال: نعم. قال مالك: ليس عليه في شيء من الأشياء زكاة. ا. هـ. منه.
وأخرج البيهقي بسنده عن نافع عن ابن عمر قال: ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق. قال: هذا لفظ حديث أبي نمير. وفي رواية أبي معاوية: ليس في مال مملوك زكاة، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج البيهقي أيضًا بسنده عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُه لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ". وقال: رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى، ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث.
وفي سنن البيهقي أيضًا؛ باب ليس في مال المكاتب زكاة: روي ذلك عن نافع عن ابن عمر، وعن أبي الزبير عن جابر، وذلك فيما أجاز لي أبو عبد الله روايته عن أبي الوليد الفقيه: ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر قال:"لَيْسَ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَلَا الْمُكَاتَبِ زَكَاةَ". ثم ساق سندًا آخر إلى أبي الزبير عن جابر قال: "لَيْسَ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَلَا الْمُكَاتَبِ زكَاة حَتَّى يُعْتَقَ". وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: ومدين؛ قال في الموطإ: وحدثني عن مالك عن يزيد بن خصيفة، أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله، أعليه زكاة؟. فقال: لا. قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا في الدين؛ أن صاحبه لا يزكيه حتى يقبضه، وإن أقام عند الذي هو عليه سنين ذوات عدد، ثم قبضه صاحبه، لم تجب عليه إلا زكاة واحدة، فإن قبض منه شيئًا لا تجب فيه الزكاة، فإنه إن كان له مال سوى الذي قبض تجب فيه الزكاة، فإنه يزكَّى مع ما قبض من دينه. قال: فإن لم يكن له ناض غير الذي اقتضى من دينه، وكان الذي اقتضى لا تجب فيه الزكاة، فلا زكاة عليه فيه، ولكن ليحفظ عدد ما اقتضى، فإن اقتضى بعد ذلك عدد ما تتم به الزكاة مع ما قبض قبل ذلك فعليه الزكاة فيه - إلى أن قال - وقال مالك: الأمر عندنا في الرجل يكون عليه دين، وعنده من العروض ما فيه وفاء لما عليه من الدين، ويكون عنده من الناض سوى ذلك ما تجب فيه الزكاة، فإنه يزكي ما بيده من ناض تجب فيه الزكاة، وإن لم يكن عنده من العروض والنقد إلا وفاء دينه، فلا زكاة عليه حتى يكون عنده من الناض - فضل عن دينه - ما تجب فيه الزكاة، فعليه أن يزكِّيه. ا. هـ. منه.
صَدَاقٍ، أَو منويًّا به التِّجَارُة (1)، وإِن رُصِّعَ بِجَوْهَرٍ وَزَكَّى الزِّنَةَ إن نُزِعَ بِلَا ضَرَرٍ، وإِلَّا تَحَرى وَضُمَّ لأَصْلِهِ؛ كَغَلًةِ مُكْتَرىً لِلتِّجَارَةِ ولو رِبْحَ دَيْنٍ لَا عِوَضَ له عِنْدَهُ، ولمُنْفِقٍ بَعْدَ حَوْله مَعَ أَصْلِهِ وَقْتَ الشِّراءِ، واسْتَقْبَلَ بفائدَةٍ تَجَدَّدَتْ لَا عَنْ مَالٍ كَعَطِيَّةٍ، أَوْ غَيْرِ مُزَكَّى كثَمَنِ مُقْتَنَى، وتُضَمُ نَاقِصَةٌ وإِنْ بَعْدَ تَمَام لِثَانِيةٍ أو ثَالِثَةٍ، إِلأ بَعْدَ حَوْلهَا كَامِلَةً، فَعَلَى حَوْلهَا كالْكَامِلَةِ أَوَّلًا، وإِنْ نَقَصَتَا فرَبِحَ فيهما أو في إحْدَاهُمَا تَمَامَ نصاب عند حَوْلِ الأُولَى أَو قَبْلَهُ فَعَلى حَوْلَيْهِمَا وَفُضَّ رِبْحُهُمَا، وبَعْدَ شَهْرٍ فَمِنْهُ، والثَّانِيةُ عَلَى حَوْلِهَا وَعِنْدَ حَوْلِ الثانِيَةِ أوْ شَكَّ فيه لأيِّهِمَا فمِنْهُ كَبَعْدَهُ، وإِنْ حَالَ حَوْلُهَا فأَنْفَقَهَا ثُمَّ حَالَ حَوْلُ الثانِيَةِ نَاقِصَة فلا زكَاة.
(1)
وقوله: وإن لم يتهشم، ولم ينو عدم إصلاحه، أو كان لرجل، أو كراء، إلخ؛ هذه استثناءات من الحلي الذي لا تلزم فيه الزكاة وقد تقدم أن الذي لا زكاة فيه عند أصحابنا؛ هو ما كان حليًا مباحًا معدًا للزينة. ومعلوم أنه إن تهشم ولم ينو إصلاحه خرج عن كونه معدًا للزينة، وان كان لرجل خرج عن كونه حليًا مباحًا، لأنه يحرم على الرجل اقتناء الحلي، وأنه إن أعد للكراء، أخرجه ذلك عن كونه معدًا للزينة، فكان كالمال المدار للفائدة التي تحصل منه بالكراء، فوجبت فيه وفي فائدته الزكاة. والله أعلم.
وقوله: وتضم فاقصة ولو بعد تمام لثانية ألخ، هذه أمور بمحض الاجتهاد - على احتمال فرض وقوعها - وليست مما التزمت الإتيان ببعض أدلته، بل هي يشملها من حيث الدليل ما استجلبته من أدلة زكاة العين. وسوف لا ألقي لها بالًا، ولما يأتي في المختصر بعد من أمثالها من العمليات المفصلة على سبيل الفرض، وقد كنت تكلفت في باب سجود السهو حل ألفاظ المختصر لصعوبتها في ذلك المحل، ولأن الموضوع الصلاة وهي فروع معمول بها يوميًا، فأحببت أن أشارك في حل ألفاظها، ولا كذلك هنا. والله الموفق. =
وبالمُتَجَدِّدِ عَنْ سِلَعِ التِّجَارَة بِلَا بَيْع، كَغَلَةِ عَبْدٍ وكِتَابَةٍ وثَمْرَةِ مُشْترىً إِلَّا المؤبَّرةَ والصُّوفَ التَّامَّ، وإِن اكْتَرَى وَزرَعَ لِلتَجَارَةِ زَكَّى، وَهَلْ يُشْتَرَطُ كوْنُ البَذْرِ لَهَا؟. تَرَدُّدٌ، لَا إِنْ لمْ يَكُنْ أحَدُهُمَا للتَجَارَةِ، وإِنْ وجَبَتْ زَكاةٌ في عَيْنِهَا زَكَّى ثُمَّ زكَّى الثَّمَنَ لِحَوْلِ التَزْكية. وإِنَّمَا يزكَّى دَيْنٌ وإِنْ كانَ أَصْلُه عَيْنًا بِيَدِه، أَوْ عَرْضَ تِجَارِةٍ وقُبِضَ عَيْنًا ولَوْ بِهِبَةٍ أو إِحَالَةٍ، كَمُلَ بِنفْسِهِ ولو تَلِفَ المَتمُّ أَوْ بفائدَةٍ، جَمَعَهُمَا ملك وَحَوْلٌ، أَوْ بِمَعْدِنٍ عَلى الْقَوْلِ، لِسَنَةٍ مِنْ أَصْلِهِ، ولو فَر بِتَأْخيره إِنْ كانَ عَن كَهِبَةٍ أوْ أَرْشٍ، لَا عَن مُشْتَرىً لِلْقُنْيَةِ
= ونورد لك هنا ما وقفنا عليه من أدلة زكاة التجارة؛ قال الله تعالى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
(1)
قال البغوي: قال مجاهد: هي التجارة.
وأخرج البغوي بسنده عن عمرو بن حماس عن أبيه أنه قال: مررت بعمر بن الخطاب وعلى عنقي أَدَمَةٌ أحملها، فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟. فقلت: يا أمير المؤمنين مالي غير هذه التي على ظهري وآهِبةَ في القرظ. قال: ذاك مال، فَضَعْ.
قال فوضعتها بين يديه، فحسبها، فوجدت قد وجبت فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة. وأخرجه الشافعي، وعبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي.
قال البغوي في شرح السنة: وروي عن سمرة بن جندب: أما بعد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعدُّ للبيع. وقال ابن عمر ليس في العرض زكاة إلا أن يراد به التجارة. ا. هـ.
وهذا الحديث أخرجه البيهقي من طريق أحمد بن حنبل، وأخرجه الشافعي في مسنده، ولفظه: أخبرني الثقة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر الحديث، وأخرج أبو عبيد في الأموال ص 425 قال: حدثني سعيد بن عفير، عن يعقوب بن عبد الرحمن القارِّي، عن موسى بن عقبة، لا أدري أذكره عن نافع أم عن غيره، قال: قال ابن عمر: ما كان من رقيق أو بز يراد به التجارة ففيه الزكاة. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن جريج، أخبرني موسى بن عتهبة عن نافع عن ابن عمر أنه =
(1)
سورة البقرة: 267.
وبَاعَهُ لأجَلٍ فَلِكُلٍّ، وَعَنْ إِجَارَءة أَوْ عَرْضٍ مُفَادٍ قَوْلَانِ، وَحَوْلُ المُتَمِّ مِنَ التَّمَامِ، لَا إِنْ نَقَصَ بَعْدَ الْوُجُوبِ ثُمَّ زَكى المَقْبُوضَ وإِنْ قَلَّ وإِن اقتضَى دِينَارًا فآخَر فاشْتَرَى بِكُلٍّ سِلْعَةً بَاعَهَا بعِشْرِينَ، فَإِنْ بَاعَهُمَا مَعًا أَو إِحْدَاهُمَا بَعْدَ شِرَاءِ الأخْرَى زَكَّى الأَرْبعِينَ وإِلَّا أَحدًا وعِشْرِينَ، وضُمَّ لاخْتِلَاط أحوَالِهِ آخِرٌ لأوَّلٍ عَكْسَ الْفَوَائدِ، والاقْتِضَاءُ لِمِثْلِهِ مُطْلَقًا، والفَائدَةُ للمتَأَخَرِ مِنْهُ، فإِنِ اقْتَضَى خمْسَةً بَعْدَ حَوْلٍ، ثُمَّ اسْتفَادَ عَشَرةً وأَنْفَقَهَا بَعْدَ حَوْلهَا ثُمَّ اقْتَضَى عَشَرَة، زَكَى الْعَشْرتَيْنِ، والأَولى إِن اقْتَضَى خَمْسةً.
= كان يقول: في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو بز للتجارة تدار، الزكاة فيه كل عام. وإسناده صحيح. وأخرجه أيضًا عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم قالوا: في العروض تدار، الزكاة كل عام، لا تؤخذ منها الزكاة حتى يأتي ذلك الشهر عام قابل. وفي الأموال ص 426: حدثنا يزيد عن هشام عن الحسن قال: إذا حضر الشهر الذي وقت الرجل أن يؤدي فيه زكاته، أدى عن كل مال له وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلا ما كان ضمارًا - وهو الغائب الذي لا يرجى حصوله - لا يرجوه. وفي الموطإ: عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حبان - وكان زريق على جواز مصرفي زمان الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز - فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: أن انظر من مربك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات؛ من كل أربعين دينارًا دينارًا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارًا، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة.
وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، واتفقوا على وجوبها في قيمتها لا في عينها، وعلى أنها تجب فيها الزكاة إذا حال حولها، إلا أن الحنفية والشافعية والحنابلة قالوا: تجب بمضي كل حول، ووافقهم المالكية فيما إذا كان التاجر مديرًا؛ وهو الذي يبيع كيفما اتفق، ولا ينظر ارتفاع الأسعار كأرباب الحوانيت، بخلاف ما إذا كان محتكرًا؛ وهو الذي ينتظر بالسلع ارتفاع الأسعار، فإنه يزكيها إذا باعها من عام واحد ولو كانت عنده أعوامًا. ا. هـ. من التعليق على شرح السنة.=
وإنَّما يزكَّى عَرْضٌ لا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ، مُلِك بِمُعَاوَضَةٍ بِنِيَّةِ تَجْرٍ، أَوْ مَعَ نِيَّةِ غَلَّةٍ أَوْ قُنْيَةٍ عَلَى المُخْتارِ، والمرجَّحُ لَا بِلَا نِيَّةٍ أو نِيَّةِ قُنْيةٍ أَو غَلَّة أَو هُمَا، وكَانَ كَأَصْلِهِ أوْ عَيْنًا وإِنْ قَلَّ وبيعَ بِعَيْنٍ وِإن لاسْتِهْلَاكٍ، فَكالدَّينِ وإِنْ رَصَدَ به السُّوقَ، وإِلَّا زكَّى عَيْنَهُ ودَيْنَهُ النَّقْدَ الحَالَّ المَرْجُوَّ، وإِلَّا قَوَّمَهُ ولوْ طَعَامَ سَلَمٍ، كَسِلَعِهِ وَلَوْ بارَتْ، لَا إِنْ لَمْ يَرْجُهُ أَوْ كَانَ قَرْضًا، وتؤولَتْ أَيْضًا
= وقال البغوي: وينعقد الحول في مال التجارة يوم يشتريه للتجارة، فإن لم يكن رأس ماله يومئذ نصابًا، فإذا تمَّ الحول يقوَّم ما في يده من العروض بنقد البلد - إن كان رأس ماله عرضًا حين ابتدأ التجارة - وإن كان رأس ماله ناضًا فيقوم بجنسه، فإن بلغت قيمته نصابًا أخرج ربع العشر من قيمته، وإن لم يبلغ فلا زكاة عليه حتى يتم النصاب. ا. هـ. منه.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
(1)
قال: التجارة. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}
(2)
. قال: النخل. وأخرج أيضًا بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي الْإبِلِ صَدَقَتُهَا وَفي الْغَنَم صَدَقَتُهَا وَفي الْبَزِّ صَدَقَتُه".
تنبيه: فإذا تقرر أن كل مال أداره صاحبه تجب فيه الزكاة، فأين مدرك من يفتي الناس اليوم، بعدم زكاة العملة المتداولة اليوم في أيدي الناس، المعروفة بورق البنكنوت؛ بفتح الراء؟. فإنها يشملها لفظ المال. والله تعالى يقول:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
(3)
الآية، وهي تحصل بها نعمة الملك التي هي العلة في الزكاة. وهي أقل ما توصف به أن تكون من عروض التجارة المدارة، التي يتوجه فيها الخطاب. بقوله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} . الآية علمًا بأنها تتوفر فيها إحدي صور العلة القاصرة، التي ذكرها شيخ مشائخنا في مراقي السعود بقوله:
منها محل الحكم أو جزء وزِد
…
وصفًا إذا كل لُزوميًّا يرد
قال شيخنا عليه رحمة الله فيما أملاه عليَّ في شرح هذا البيت: ذكر في هذا البيت ثلاث صور من صور العلة القاصرة: الأولى أن تكون القاصرة محل الحكم؛ كتعليل الربا في الذهب والفضة بالذهبية والفضية، وهذا معنى قوله: منها محل الحكم.=
(1)
سورة البقرة: 267.
(2)
سورة البقرة: 267.
(3)
سورة التوبة: 103.
بِتَقْويمِ الْعَرْضِ، وهَلْ حَوْلهُ لِلأَصْلِ أَو وَسَطٍ منه ومن الإِدَارَة؟. تأْويلَانِ، ثم زيادَتُه مُلْغَاةٌ بِخِلَافِ حَلْي التَحَرِّي، والْقَمْحُ والمرتَجَعُ من مُفلَّسٍ والمكاتبُ يَعْجُزُ كَغَيْره، وأَنْقدَ المُدارَ لِلاحْتِكَارِ وهُمَا للقُنْيةِ بالنِّيةِ لا العَكْسِ، وَلَوْ كانَ أَوَّلًا لِلْتِجَارَة، وإِن اجتمع إِدَارَةٌ واحْتِكَارٌ وَتَسَاوَيَا، أَو احْتُكِرَ الأَكْثَرُ فَكُلٌّ عَلى حُكْمِهِ، وإِلَّا فَالْجَمِيعُ لِلإِدَارَة، وَلَا تَقَوَّمُ الأَوَانِي، وَفَي تَقْوِيمِ الْكَافِر لِحَوْلٍ مِنْ إِسْلَامِهِ أَو اسْتِقْبَالِهِ بِالثَّمَنِ قَوْلَانِ.
= الثانية: أن تكون جزء محل الحكم الخاص به دون غيره؛ كتعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج منهما، فالخروج جزء معنى الخارج؛ إذ معناه ذات متصفة بالخروج كما تقدم إيضاحه في شرحنا لقوله: وإن يكن بهم فقد عهد ألخ.
والثالثة: وصف محل الحكم الخاص به أيضًا؛ كتعليل الربا في الذهب والفضة بكونهما أثمان الأشياء، لأن ذلك وصف لازم لهما في غالب أقطار الدنيا. ا. هـ. منه بلفظه.
وإذن فإنه انطلاقًا من جواز التعليل بوصف محل الحكم، يستطاع أن تلحق هذه الأوراق بالنقد، تعليلًا لها بأنها أثمان الأشياء في جميع أقطار الدنيا.
قلت: وإن عجبي لا ينقضي من بعض من يفتي اليوم بعدم وجوب الزكاة في هذه الأموال مهما أدارها صاحبها ما لم يشتر منها نقًدا، فالذي عليه المذهب عندنا أن التاجر المدير لعروضه تجب عليه زكاتها كلما دار عليها الحول، والمدير تقدم تعريفه بأنه هو الذي يبغ كيفما اتفق، ولا ينتظر ارتفاع الأسعار كأرباب الحوانيت، لكنه إذا كان يشتري السلع ثم ينتظر بها ارتفاع الأسعار، فهو المحتكر الذي ينتظر بزكاته لعروضه بيعها ولعام واحد، مهما مكثت محتكرة عند مالك.
إنَّ الذي يظهر حسب الأدلة، والذي تجب به الفُتيا - في نظري - أن هذه الأوراق مال مدار، تجب زكاته كلما حال عليه الحول، يلزم فيه ربع العشر لله تعالى، وإن من امتنع عن زكاته يصدق فيه الوعيد الوارد في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(1)
. والله تعالى أسأل أن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه رضاه عز وجل. وهو ولي التوفيق.
(1)
سورة التوبة: 34.
وَالْقِرَاضُ (1) الْحَاضِرُ يُزَكِّيهِ رَبُّهُ إِنْ أَدَارَ، أَو الْعَامِلُ مِنْ غَيْرِهِ، وصَبَرَ إِنْ غَابَ فَيُزَكِّي لِسَنَةِ الْفَصْلِ مَا فِيهَا، وسَقَطَ مَا زَالَ قَبْلَهَا، وَإِنْ نَقَصَ فَلِكل مَا فِيهَا وأَزْيَدَ وأَنْقَصَ قُضِيَ بالنَّقْصِ عَلى مَا قَبْلَهُ، وإِن احْتَكَرَا أَوْ الْعَامِلُ فَكَالدَّيْنِ، وعُجِّلتْ زَكَاةُ مَاشيةِ الْقِرَاضِ مُطْلَقًا وحُسِبَتْ عَلى رَبِّهِ، وَهَلْ عَبيدُهُ كَذلِكَ أَوْ تُلْغَى كالنفقة؟. قَوْلَانِ. وزُكِّيَ رِبْحُ الْعَامِلِ وإِن قَلَّ، إِنْ قَامَ بِيَدِهِ حَوْلًا، وكَانَا حُرَّيْنِ مُسْلمينِ بلَا دَيْنٍ، وحِصَّةُ رَبِّه بِرِبْحِهِ نِصَابٌ، وفي كوْنهِ شَرِيكًا أَوْ أجِيرًا خِلَافٌ. ولَا تَسْقُطُ زَكَاةُ حَرْثٍ ومَعْدِنٍ ومَاشِيةٍ بدين أوْ فَقْدٍ أوْ أَسْرٍ.
(1)
وقال في المدونة في زكاة القراض: قلت أرأيت الرجل يأخذ مالًا قراضًا على أن الزكاة على رب المال - زكاة الربح ورأس المال، أو زكاة الربح ورأس المال على العامل - أيجوز هذا في قول مالك؟. قال: لا يجوز لرب المال أن يشترط زكاة المال على صاحبه، ألا ترى أن العامل لو لم يربح في المال إلا دينارًا واحدًا، وكان القراض أربعين دينارًا، فأخرج لك الدينار في الزكاة لذهب عمله باطلًا؟. فلا يجوز هذا.
قال: ولو اشترط صاحب المال على العامل أن عليه زكاة الربح لم يكن ذلك بأس. ويجوز للعامل أن يشترط على رب المال زكاة الربح، لأن ذلك يصير جزءًا مسمى كأنه أخذه على أن له خمسة أجزاء من عشرة، ولصاحب المال أربعة أجزاء من عشرة، وعلى رب المال الجزء الباقي يخرجه من الربح عنهما للزكاة.
وكذلك إذا اشترط العامل في المساقاة الزكاة على رب الأصل فيكون ذلك جائزًا؛ لأن ذلك يصير جزءًا مسمى، وهو خمسة أجزاء من عشرة، ولرب المال أربعة أجزاء من عشرة أجزاء، والجزء الفاضل في الزكاة. وقد روي أيضًا أنه لا خير في اشتراط زكاة الربح من واحد منهما على صاحبه، ولا في المساقاة أيضًا، لأن المال ربما كان أصله لا تجب فيه الزكاة، وإن كان أصله تجب فيه الزكاة، ربما استغرقه الدين فأبطل الزكاة. والمساقاة ربما لا تخرج من الحائط إلا أربعة أوسق، وربما أخرج عشرة فتختلف الأجزاء، فيصير العامل في غير جزء مسمًى. =
وإِن سَاوَى مَا بِيَدِهِ إِلَّا زكاة فِطْرٍ عن عَبْدٍ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْعَيْنِ، ولو دينَ زَكَاةٍ أو مُؤجَّلًا أَوْ كَمَهْرٍ أوْ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ مُطَلَّقًا أَوْ وَلَدٍ إِنْ حُكِمَ بِهَا، وهل إن تَقَدَّمَ يُسْرٌ؟. تأُوِيلَانِ،
= قال: وسئل مالك عن الرجل يدفع إلى الرجل المال قراضًا، فيتجر به إلى بلاد، فيحول عليه الحول، أترى أن يخرج زكاته المقارض؟. قال لا، حتى يؤدي إلى الرجل رأس ماله وربحه. قلت أرأيت هذا المقارض إذا أخذ ربحه، وإنما عمل في المال شهرًا واحدًا، فكان ربحه الذي أخذ أقل من عشرين دينارًا، أو عشرين دينارًا فصاعدًا؟. فقال: لا زكاة عليه، ويستقبل بما أخذ من ربحه سنة من ذي قبل بمنزلة الفائدة، وإنما تكون الزكاة على العامل في القراض إذا عمل به سنة - من يوم أخذه - فتكون في المال الزكاة، وكانت حصته - أي العامل - من ذلك ما تجب فيه الزكاة أولا تجب فيه فهو سواء، يؤدي الزكاة على كل حال إذا عمل به سنة. وهو قول مالك.
وقال مالك: ولو حال الحول على العامل من يوم قبض المال وأخذ ربحه، وعليه من الدين ما يستغرق حصته من المال، فإنه لا زكاة عليه فيه، حال الحول في ذلك أو لم يحل. وقال ابن القاسم: وإن كان على رب المال دين يستغرق رأس ماله وربحه، لم يكن على العامل أيضًا في حصته زكاة، وإن كان قد حال الحول على المال من يوم أخذه، لأن أصل المال لا زكاة فيه حين كان الدين أولى به.
قال: وسألت مالكًا عن الرجل يزكي ماله، ثم يدفعه إلى الرجل يعمل به قراضًا، فيعمل فيه سبعة أشهر أو ثمانية أو أقلَّ من الحول، فيقتسمان؛ فيدفع العامل إلى رب المال رأس ماله وربحه، ويأخذ هو ربحه، وفيما صار للعامل فيه الزكاة أو لا يكون، فيحول على مال رب المال وربحه الحول فيؤدي الزكاة، هل ترى على العامل في المال - فيما في يده مما أخذه من ربحه - زكاة؟. قال مالك: إذا قسمه قبل أن يحول على المال الحول، من يوم زكاه رَبه، ودفع العامل إلى رب المال رأس ماله وربحه، استقبل العامل بما في يديه سنة مستقبلة، لأنها في هذا الوجه فائدة، ولا يجب عليه فيها الزكاة إلا أن يحول عليها الحول عنده، من يوم قبض ربحه، وفيه ما تجب فيه الزكاة. ا. هـ. منه.
أَوْ وَالِدٍ بِحُكْمٍ إِنْ تَسَلَّفَ لَا بِدَيْن كَفَارَةٍ أوْ هَدْي (1) إِلَّا أَن يَكُونَ عِنْدَهُ مُعَشَّرٌ زُكِّيَ أَو مَعْدِنٌ أَوْ قيمة أَو قِيمَةُ كِتَابَةٍ أَوْ رَقَبَةُ مُدَبَّرٍ أَوْ خِدْمَةُ مُعْتَقٍ لِأجَل أَو مُخْدَم أَو رَقَبَته لِمَنْ مَرْجِعُهَا إِلَيْهِ، أَو عَدَدُ ديْنٍ حَلَّ، أَو قيمَةُ مَرْجُوٍّ. أَوْ عَرْضٌ حَلَّ حَوْلُهُ، إِنْ بِيعَ وقُوِّمَ وَقْتَ الوُجُوبِ عَلى مُفْلِس لَا آبِقٌ وإِنْ رُجِيَ، أَو دَيْن لم يُرْج.
(1)
وقوله: لا بدين كفارة أو هدي؛ يريد به - والله تعالى أعلم - أن زكاة العين لا تسقط عن مالكها بدين كفارة وجبت عليه؛ لقتل خطأ أوظهار أو فطر في رمضان، أو هدي وجب لتمتع أو قران، أو لترك واجب من واجبات الحج أو العمرة. قالوا: والفرق بين دين الكفارة ودين الزكاة هو أن الزكاة يطلبها الإمام ويأخذها كرهًا بخلاف الكفارة. وذكروا عن اللخمي أنه قال: إنما يقتضيه المذهب أن الكفارة مما يجبر المرء على إخراجه، ولا يوكل لأمانه، لأن هذا هو الأصل في حقوق الله في الأموال، وإذن فلا فرق بين الكفارة والزكاة، وكل من لم يؤد زكاته أو وجبت عليه كفارة أو هدي، وامتنع من أداء ذلك، وجب عليه جبره. انظر جواهر الإكليل. والله تعالى أعلم بمستنده في ذلك. وليس هو مما التزمت القيام به.
وأعتذر عن التعرض لحل ألفاظ المختصر، فيما دخل فيه من مسائل بمحض الاجتهاد، في زكاة الحبوب والعين لأنه يخرج بنا عن المقصود، وقد تعرض الشراح لحل ألفاظ المختصر فيه، فلا داعي للتورط به، وقد يقال: فما بالك تعرضت لحل ألفاظ المختصر في الاجتهاديات في الصلاة؛ كالسهو ومسائله، وقضاء الفائتة؟. فالجواب: إن تلك المسائل ليست في الاحتياج إلى معرفتها مثل هذه، فالصلاة من اللوازم اليومية. والله الموفق.
وإِنْ وُهِبَ الدَّيْنُ أَو مَا يُجْعَلُ فِيهِ، وَلَمْ يَحِلَّ حَوْلُهُ، أَوْ مَرَّ - لِكَمُؤَجِّرٍ نَفْسَهُ بِستِّينَ دِينَارًا ثَلَاثَ سَنِينَ حَوْلٌ فَلَا زَكَاةَ. ومَدِينُ مِائةٍ له مِائةٌ مُحَرَّمِيَّةٌ ومائةٌ رَجَبيَّةٌ، يزَكِّى الأولَى. وزُكِّيَتْ عَيْنٌ وقِّفَتْ لِلسَّلَفِ كنَبَاتٍ وَحَيَوانٍ أَو نَسْلِه عَلى مَسَاجِدَ أَوْ غَيْر مُعَيَّنِينَ كَعَلَيْهِمْ إِنْ تَوَلَّى الْمَالِك تَفْرقَتَهُ، وإِلَّا إِن حَصَلَ لِكُلٍّ نِصَابٌ، وفي إِلْحَاقِ وَلَدِ فُلَانٍ بالْمُعَيَّنينَ أَوْ غَيْرِهِمْ قوْلَان، وإِنَّمَا يُزَكَّى مَعْدِنُ عَيْنٍ (1)، وحُكْمُهُ لِلإِمَامِ وَلَوْ بأَرْضِ مُعَيَّنٍ إِلا مَمْلُوكَةٍ لِمَصَالِحَ فَلَهُ، وَضُمَّ بَقِيةُ عِرقِهِ وإِن تَراخَى الْعَمَلُ، لَا مَعَادِنُ ولا عِرْقٌ آخَرُ، وفِي ضَمِّ فائدَةٍ
(1)
وقوله: وإنما يزكَّى مَعْدِنُ عين؛ هو في زكاة المعدن، وهذا ما تيسر من أدلة زكاة ذلك، علمًا بأنه تقدم الكلام عليه عند زكاة النقدين.
قال البغوي في شرح السنة: باب الركاز والمعدن، ثم أخرج بسنده عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْبِئْر جُبَارٌ، وَالْمَعْدِن جُبَارٌ، وَفي الركَازِ الْخُمُسُ"، قال البغوي: هذا حديث متفق عليه، وهو في الموطإ أيضًا.
وقوله: جبار؛ أي هدر. والمراد بذلك ما أتلفت البهيمة من الأشياء، إذا لم يكن المالك معها وكان نهارًا، فلا ضمان على صاحبها، ومن استأجر رجلًا لحفر بئر أو معدن فانهار عليه فلا ضمان.
حَالَ حَوْلُهَا، وتَعُلُّق الْوُجُوبِ بإِخْرَاجِه أَو تصفيته تَرَدُّدٌ، وجاز دفعه بِأُجْرِة غَيْرِ نَقْدٍ عَلى أَنَّ المخرجَ لِلْمَدْفُوعِ له، واعْتُبِرَ مِلْك كُلٍّ، وَفِي بِجزءٍ كالقِراضِ قَوْلَانِ، وفي ندْرَتهِ الخُمسُ كَالرِّكَازِ (1)، وهُوَ مَدْفُونُ جَاهِلِي وإن بِشَكٍّ أَو قَلَّ أَو عَرْضًا أَو وَجَدَهُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ، إِلَّا لِكَبِيرِ نَفَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ فَقَطْ، فالزكاةُ. وكُرِهَ حَفْرُ قَبْرهِ والطلبِ فيهِ وبَاقِيهِ لِمَالِكَ الأرْضِ ولَوْ جَيْشًا وإِلا فلِوَاجِدِهِ، وإِلا دِفْنُ الصَالحينَ فَلَهُمْ، إِلَا أَن يَجِدَهُ ربُ دَارٍ بها فَلَهُ، وَدِفْنُ مسلم أَو ذميٍّ لُقطَةٌ، وما لفظه البَحْرُ كَعَنْبَرٍ فلِوَاجِدِه بلا تَخْمِيسٍ.
(1)
قال البغوي: والركاز اسم للمال المدفون في الأرض. والمعدن اسم للمخلوق في الأرض. وقد يقع اسم الركاز عليهما جميعًا من حيث أن المدفون ركزه صاحبه في الأرض، والمخلوق ركزه الله في الأرض. ا. هـ.
وأخرج البغوي أيضًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة جاهلية: "إنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ أَو سَبِيل مَيْتَاءٍ فَعَرِّفْهُ، وإِنْ وَجَدْتَهُ فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الركَازِ الْخُمُسُ". وهذا الحديث أخرجه الشافعي وأخرجه أبو داود في اللقطة، وأخرجه أبو عبيد في الأموال، وأخرجه أحمد، وأخرجه البيهقي. وسنده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
في البغوي أيضًا بسنده عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث المزني معادِن القَبَلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. ا. هـ. وهذا الحديث في الموطإ؛ باب الزكاة في المعدن. وأخرجه أبو داود. وأخرجه أبو عبيد في الآموال.
قال عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي في المستخرج من الأرض: المعدن إن كان ذهبًا أو فضة بجب فيه ربع العشر، بعد أن يكون نصابًا، ولا يشترط فيه الحول؛ كالزرع تؤخذ منه الزكاة حين يحصد، ولم يجب الخمس لكثرة مؤونته. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي رواية أخرى للشافعي وهي المذهب عند أبي حنيفة: يجب من المستخرج من المعدن الخمس كالركاز. وبه يقول إسحاق. ا. هـ.
وقال البيهقي: باب من قال: لا شيء في المعدن حتى يكون نصابًا، ثم ساق سندًا بلغ به جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَأْتي أحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِك فَيَقُول: هذِهِ صَدَقَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِف النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً". قال البيهقي: فيحتمل أن يكون إنما امتنع من أخذ الواجب منها لكونها ناقصة عن النصاب، ويحتمل غيره. ا. هـ.
ثم قال: باب من قال لا شيء فيه حتى يحول عليه الحول من يوم استفاده، وقال: هذا قول مذكور في مختصر البويطي والربيع وابن أبي الجارود، منصوص عليه في رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي البغدادي عن الشافعي واحتج بحديث مالك في المعادن القبلية، وقد ذكرناه.
قال: وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بخمس أواق من معدن فلم يأخذ منها شيئًا، وهذا خلاف رواية عبد الله بن سعيد، قال: وهذا الحديث قد أخبرناه موصولًا أبو بكر بن الحارث الفقيه، ثم ساق سندًا، بلغ به ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة أن رجلًا جاء بخمس أواق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت هذا من معدن فخذ منه الزكاة. قال:"لَا شَئَ فِيهِ". ورده إليه. ا. هـ. منه.
وقال البيهقي: باب ما روي عن علي رضي الله عنه في الركاز؛ أخبرنا أبو زكريا ثم ساق سندًا بلغ به الشعبي قال: جاء رجل إلى علي رضي اله عنه فقال: إني وجدت ألفًا وخمسمائة درهم في خربة في السواد. فقال علي رضي الله عنه: أما لأقضين فيها قضاء بينًا: إن كنت وجدتها في قرية تؤدي خراجها قرية أخرى فهي لأهل تلك القرية، وإن كنت وجدتها في قرية ليست تؤدي خراجها قرية أخرى فلك أربعة أخماسه ولنا الخمس ثم الخمس لك. قال الشافعي: قد رووا عن علي رضي الله عنه بإسناد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= موصول أنه قال: أربعة أخماسه لك، واقسم الخمس في فقراء أهلك. هذا الحديث أشبه بعلي رضي الله عنه والله أعلم.
قال البيهقي: هو كما قال فقد روى سعيد بن منصور المكي في كتابه عن ابن عيينة عن عبد الله بن بشير الخثعمي عن رجل من قومه يقال له حممه قال: سقطت عليَّ جرة من دير قديم بالكوفة فيها أربعة آلاف درهم، فذهبت بها إلى علي رضي الله عنه، فقال: اقسمها خمسة أخماس. فقسمتها، فأخذ منها علي رضي الله عنه خمسًا وأعطاني أربعة أخماس، فلما أدبرت دعاني فقال: في جيرانك فقراء ومساكين؟. قلت: نعم. قال: خذها فاقسمها بينهم. ثم قال: وأخبر الشريف أبو الفتح: أنبأ أبو القاسم عبيد الله محمد السقطي بمكة، ثنا أبو جعفر محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن حرب، ثنا علي بن حرب، ثنا سفيان عن عبد الله بن بشير الخثعمي عن رجل من قومه أن رجلًا سقطت عليه جرة من دير بالكوفة، فأتى بها عليًا رضي الله عنه فقال: اقسمها أخماسًا. ثم قال: خذ منها أَرْبَعَةَ أخماس ودع واحدًا. ثم قال: في حيك فقراء ومساكين؟. قال: نعم. قال: خذها فاقسمها فيهم.
مصرف الزكاة
وَمَصْرِفُهَا فَقِيرٌ وَمِسْكينٌ وَهُوَ أَحْوَجُ (1) وصُدِّقَا إِلًا لِريبَةٍ (2) إِنْ أَسْلَمَ وَتَحَرَّرَ وعَدِمَ كِفَايَةً بِقَلِيلٍ أَوْ إِنْفَاقٍ أَو صَنْعَةٍ، وعَدِمَ بُنُوَّةً لِهَاشِم، (3) لَا المُطَّلَبِ كَحَسَبٍ
(1)
وقوله: ومصرفها فقير ومسكين؛ روي عن زياد بن الحارث الصُّدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال: اعطني من الصدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فجزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أجْزَاء، فَإِنْ كنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأجْزَاءِ أعْطَيْتُكَ حَقَّكَ". ا. هـ. البغوي في شرح السنة.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وَهُوَ ضَعِيفٌ. إلا أن معناه صحيح موافق لآية التوبة وهي قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
(1)
فهؤلاء الثمانية هم أهل الصدقة الذين ذكرهم الله في كتابه؛ وأول هؤلاء الفقير والمسكين، فإن لكل واحد منهما سهمًا من الصدقة، واختلف العلماء فيهما؛ فقال ابن عباس: المسكين، الطواف، وقال: مجاهد وعكرمة والزهري: المسكين، الذي يسأل، والفقير الذي لا يسأل. وقال قتادة: المسكين الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال الشافعي: الفقير، الذي لا مال له، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه، سائلًا كان أو غير سائل، فالمسكين عنده أحسن حالًا من الفقير لأن الله تعالى قال:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}
(2)
فقد أثبت لهم ملك السفينة مع اسم المسكنة.
وذهب قوم إلى أن المسكين أحوج من الفقير، وهو المذهب عند أصحابنا. قال في المختصر: وهو أحوج. أي والمسكين أحوج من الفقير، قال تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}
(3)
قال ابن جزي الكلبي: أي ذا حاجة. يقال تَرِبَ الرجل إذا افتقر. وهو مأخوذ من التصاقه بالأرض. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الذي مأواه المزابل. ا. هـ. منه.
(1)
سورة التوبة: 60.
(2)
سورة الكهف: 79.
(3)
سورة البلد: 16.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ألا ترى إلى حديث أبي هريرة المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْس الْمِسْكِين بِهذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتمْرَتَانِ". قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟. قال: "الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى فَيُغْنِيَهُ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْألَ النَّاسَ".
وله في رواية أخرى متفق عليها أيضًا: "إِنمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجَدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ويَسْتَحْيِ أَنْ يَسْألَ النَّاسَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ".
وروي عن عبد الله بن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم، والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه، لا يقدر على شيء:"يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهمْ، لَا يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا"
(1)
فذلك الفقير.
(2)
وقوله: وصُدِّقا إلا لريبة؛ أي صدقا فيما يدعيانه من الفقر والمسكنة اللذين تستحق بهما الصدقة، إلا إذا ظهر عليهما ما يريب في دعواهما. ولعل ذلك التصديق إلا لريبة، لدليل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه من الصدقة، فصعَّد فيهما وصوب، فقال:"إِنْ شِئْتُمَا أَعطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ". وهذا الحديث إسناده صحيح، وهو في البغوي وأبي داود، والنسائي، وعبد الرزاق.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتمَا أَعطَيْتُكُمَا". وقوله: إن أسلم وتحرر قال ابن المترجم كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذميَّ لا يعطى من زكاهَ الأموال شيئًا لقوله صلى الله عليه وسلم "تُؤْخَذُ مِنْ أموالِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فقَرَائِهِمْ". ا. هـ. ابن قدامة. وأما المملوك فلأن نفقته واجبة على سيده.
(3)
وقوله: وعدم بنوه لهاشم؛ دليله حديث شعبة عن محمد بن زياد: سمعت أبا هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كِخْ، أَلْقِهَا، أَمَا شَعرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ"؟. متفق عليه، وقد صح عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِن هذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوسَاخُ النَّاسِ، وإنَّهَا لَا تَحِل لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ محَمدٍ".
هو في شرح السنة، وأخرجه مسلم في صحيحه. ا. هـ. وقوله: لا المطلب، لأنهم ليسوا من آل محمد صلى الله عليه وسلم ويشملهم عموم قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}
(2)
. ولا يصح قياسهم=
(1)
سورة البقرة: 273.
(2)
سورة التوبة 60.
على عَدِيمٍ، وَجَازَ لمَوْلَاهُمْ (1)، وقَادِرٍ عَلَى الكَسْبِ (2)، ومالك نِصَابٍ، ودَفْعُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وكِفَايَةِ سَنَةٍ (3)، وفي جَوَازِ دَفْعِهَا لِمَدِينِ ثُمَّ أَخْذِهَا، تَرَدُّدٌ، وَجَابٍ وَمُفَرِّقٌ حُرٌّ عَدْلٌ عَالِمٌ بِحُكْمِهَا غَيْرُ هَاشِمِيٍّ وَكَافِرٍ، وإِنْ غَنِيًّا، وبُديء
في ذلك على بني هاشم؛ لأن أولئك أخرجهم من العموم دليل منفصل هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا هِي أَوْسَاخُ النَّاسِ وإنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ" ولأنهم في القرابة إليه صلى الله عليه وسلم ليسوا سواءًا، وأما من احتج بمشاركة بني المطلب لبني هاشم في خمس الخمس، فالجواب أنهم لم يستحقوا ذلك بالقرابة منه صلى الله عليه وسلم بدليل أنهم وبني نوفل وبي عبد شمس سواء في القرابة منه نسبًا صلى الله عليه وسلم، وإنما استحق بنو المطلب ذلك دون عبد شمس ونوفل، لما قاموا به من مناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم بني هاشم محنتهم. ا. هـ.
(1)
وقوله: وجاز لمولاهم؛ هذا المذهب عند أصحابنا، قال ابن قدامة: وعليه أكثر العلماء. قالوا: لأنهم ليسوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس، ولأنهم لا حظ لهم في خمس الخمس.
قلت: وهذا وجيه جدًّا لولا أنه اجتهاد في محل النص فهو فاسد الاعتبار، مردود على صاحبه.
قال في مراقي السعود.
والخلفَ للنص أو اجماع دعا
…
فساد الاعتبار كل من وعى
فإذا تقرر ذلك، فاعلم أنه روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها. فقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأساله. فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال:"إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وإِنَّ مَوَاليَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ". أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولأن ولاءهم لبني هاشم، فهم بمنزلة القرابة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الوَلَاءُ لُحْمَةَ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ". والله تعالى الموفق.
(2)
وقوله: وقادر على الكسب؛ هو عطف على الجواز، والظاهر أنه بشرط أن يضم إلى الكسبِ الكسبَ، لأن الرجل قد يكون ظاهر القوة غير أنه أخرق لا كسب له، فتحل له الزكاة، فإذا رأى الإمام السائل جلدًا قويًا وشك في أمره، أنذره وأخبره؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجلين؛ قال عبيد الله بن عدي بن الخبار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه من الصدقة
…
الحديث، وقد تقدم =
بهِ، وأخَذ الَفقِيرُ بِوَصفيْهِ (1)، ولا يُعْطَى حَارِسُ الفِطْرَةِ منهَا، ومُؤَلَّفٌ كَافِرٌ لِيُسْلِمَ وحُكْمُهُ بَاقٍ (2)، ورقيقٌ مُؤمنٌ وَلَوْ بِعَيْبٍ يُعْتَقُ منهَا، لَا عَقْدَ حُرِّيَّةٍ
= عند الكلام على قول المؤلف: وصدِّقا إلا لريبة. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن القادر على الكسب لا تحل له الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرةٍ سَوِيٍّ". والمرة. القوة. وأصلها من شدة فتل الحبل. ا. هـ.
(3)
وقوله: ومالك نصاب ودفع أكثر منه وكفاية سنة. قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن الزكاة لا تحل للأغنياء إلا لخمسة استثناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة؛ فذهب قوم إلى أنه من ملك خمسين درهمًا أو عدلها من الذهب، وذلك تمسكًا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَأَل مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقيَّةٌ أو عَدْلُها فَقَدْ سَأل إِلْحَافًا". ولحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَألَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْألَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أوْ خذوشٌ أوْ كُدُوحٌ" قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟. قال:"خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ". وبهذا قال سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق. قالوا: لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين، للحديث. وذهب الأكثرون إلى أن حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله، وهو قول مالك والشافعي، قالوا: قد يكون الرجل غنيًا بالدرهم مع كسب، ولا يكون غنيًا بألف لضعفه في نفسه ولكثرة عياله. كذلك قالوا: يجوز أن يعطى الفقير من الصدقة إلى أن يزول عنه اسم الفقر والحاجة من غير تحديد. ا. هـ. منه. بتصرف.
(1)
وقوله: وجاب ومفرق ألخ. هذا هو الصنف الثالث من الثمانية الذين قسم القرآن عليهم الزكاة؛ وهو صنف العاملين عليها، فللعامل على الصدقة من الصدقة أجر مثل عمله؛ فقيرًا كان أو غنيًا. روي عن بسر بن سعيد عن عبد الله بن السعدي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت أمر لي بعُمالة فقلت: إنما عملت لله. فقال: خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمَّلني، أي أعطاني العُمالة. هذا الحق للعامل الذي يتولى أخذ الصدقات وتفرقتها. لا للإِمام ولا للوالي لأنهما لا يليان أخذها؛ لقد شرب عمر بن الخطاب لبنًا يومًا فأعجبه، فأخبر أنه من نعم الصدقة، فأدخل إصبعه فاستقاءه. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: إذا تولى، لرجل إخراج زكاته بنفسه، سقط منها حق العامل، لأنه إنما يأخذ أجرًا عن عمله، فإذا لم يعمل فيها شيئًا فلا حق له منها، إلا بوصف آخر غير العمالة، كأن يكون فقيرًا أو مسكينًا مثلًا. ا. هـ
تنبيه: أربعة أصناف من الثمانية يأخذون الزكاة أخذًا مستقرًا، بمعنى أنهم لا يراعى حالهم بعد الدفع، فمتى أخذوها ملكوها ملكًا دائمًا مستقرًا لا يجب عليهم ردها بحال من الأحوال وهم: الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، وأربعة منهم يأخذونها أخذًا مراعًى، فإن صرفوها فيما استحقوا الأخذ من أجله وإلا استرجع منهم، وهم: الغارمون، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل. قاله ابن قدامة، انظر تعليله لذلك فيه.
(2)
وقوله: ومؤلف كافر ليسلم ألخ. قال البغوي: الصنف الرابع المؤلفة قلولهم. وهم قسمان: قسم مسلمون، وقسم كفار، فأما المسلمون منهم فقسمان: قسم دخلوا في الإِسلام ونيتهم ضعيفة، يريد الإمام أن يعطيهم مالًا تَألفًا لهم؛ كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، أو تكون نيتهم قوية في الإِسلام وهم شرفاء في قومهم، ويريد الإمام أن يعطيهم ترغيبًا لأمثالهم في الإِسلام كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فهذا واسع، فللإمام أن يفعل فيه ما يريد على أن يكون من خمس الخمس، أما الكفار من المؤلفة، وهم من يخشى شرهم منهم، أو يرجى إسلامه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية من خمس الخمس، لما يرى من ميله إلى الإسلام ترغيبًا له فيه. واختلف العلماء في إعطاء المشرك سهم المؤلفة؛ فقال كثير من أهل العلم: ساقط سهم المؤلفة اليوم. وهو رأي أصحابنا. وهو مروي عن الشعبي والثوري وأصحاب الرأي. قالت طائفة أخرى: سهمهم ثابت وهو قول الحسن البصري. وقال أحمد: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. ا. هـ
فِيهِ (1)، وَوَلاؤهُ للمُسْلِمِينَ وَإِن اشترطَهُ له، أَوْ فَكَّ أَسيرًا لم يُجْزِهِ، ومَدِينٌ ولَوْ مَاتَ، يُحْبَسُ فيه (2)، لَا في فَسَادٍ، ولا لأخْذِهَا إِلَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَى الْأحْسَنِ إِنْ أَعْطَى مَا بِيَدِهِ مِنْ عَيْنٍ وَفَضْلِ غَيْرِهَا، ومُجَاهِدٌ وآلتُهُ ولَوْ غَنِيًّا كَجَاسُوسٍ (3) لَا سُورٍ وَمَرْكَبٍ، وغَرِيبٌ مُحْتَاجٌ لِمَا يُوَصَّلُه فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ (4) ولم يَجِدْ مُسَلِّفًا وهو مَلِيٌّ بِبَلَدِهِ وصُدِّقَ، وإِنْ جَلَسَ نُزِعَتْ مِنْهُ كغَازٍ، وفي غَارِمٍ
(1)
وقوله: ورقيق مؤمن ولو بعيب يعتق منها، هو الصنف الخامس، وهم المكاتبون لهم سهم في الصدقة، ولا يعطون أكثر مما يحصل لهم بأدائه العتق. والمذهب عندنا أنه يجوز شراء عبيد للعتق بسهم أهل الصنف الخامس المذكور في الآية بقوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} فلم يخصصها مالك بالمكاتبين.
(2)
وقوله: ومدين ولو مات يحبس فيه؛ هو القسم السادس؛ وهم الغارمون، وقسِّم هؤلاء إلى قسمين: قسم ادَّانوا لأنفسهم فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم، وقسم ادَّانوا في إصلاح ذات البين، فإنهم يعطون ولو كانوا أغنياء.
(3)
وقوله: ومجاهد وآلته ولو غنيًا كجاسوس، هو الصنف السابع، سهم سبيل الله؛ قال أهل العلم: هم الغزاة فإنهم إذا أرادوا الخروج إلى الغزو يعطون ما يستعينون به؛ من الحمولة والسلاح والنفقة والكسوة وإن كانوا أغنياء.
قال البغوي: ولا يجوز صرف شيء من الزكاة إلى الحج عند أكثر أهل العلم. وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وروي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج. ومثله عن ابن عمر، وهو قول الحسن، وبه قال أحمد وإسحاق. روي عن ابن سيرين أنه قال: أوصى إليَّ رجل بماله أن أجعله في سبيل الله، فسألت ابن عمر فقال: إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه. واحتجوا بما روي عن أم معقل قالت: يا رسول الله، إن عَلَيَّ حجة، وإن لأبي معقل بكرًا، قال أبو معقل: صدقت جعلته في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعْطِهَا فَلتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ" =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فأعطاها. أخرجه أحمد. وأبو داود والنسائي، والزيلعي في نصب الراية. ويذكر عن أبي لاس الخزاعي - قيل اسمه زياد وقيل عبد الله بن عَنَمَة - بفتح العين والنون - قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج. وهذا الأثر علقه البخاري في صحيحه. وقال الحافظ: قد وصله أحمد وابن خزيمة والحاكم وغيره من طريقه، ولفظ أحمد: على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج، فقلنا يا رسول الله، ما نرى أن تحمل هذه، فقال:"إنَّمَا يَحْمِلُ اللهُ" الحديث ورجاله ثقات. ا. هـ. من التعليق على البغوي.
وعن ابن عباس قال: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وهذا الحديث أيضًا علقه البخاري، ووصله أبو عبيدة في الأموال ص 566 من حديث حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس بلفظ: أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق من الرقبة. ورجاله ثقات.
(4)
وقوله: وغريب محتاج لما يوصله في غير معصية؛ هو الصنف الثامن من أهل الزكاة الذين قسمتها الآية بينهم، وهم أبناءُ السبيل؛ فكل من يريد منهم سفرًا مباحًا يعطى إليه قدر ما يقطع تلك المسافة، إذا لم يكن له ما يقطع به المسافة، سواءًا كان مليئًا في بلده المنتقل إليه أولا، وإن كان له مال في بلد دون بلده أعطي بقدر ما يبلغ به ماله الذي في الطريق فقط.
تنبيه: اختلف أهل العلم في جواز صرف الرجل جميع زكاته إلى صنف واحد من هذه الأصناف الثمانية مع وجود سائرها؛ فذهب عكرمة والشافعي إلى أن ذلك لا يجوز، وقال: يجب على الرجل أن يقسم سهم كل صنف من ماله على الموجودين منهم. وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز. روي ذلك عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطاء، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي وبه قال الإمام أحمد، واحتجوا بحديث سلمة ابن صخر في الظهار، حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أَطعِمْ وِسْقًا مِنْ تَمْر بينَ سِتينَ مِسْكِينًا". قال: ما أملك. قال: "فَانْطَلِقْ الَي صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ، فَأَطعِمْ سِتَينَ مِسْكِينًا وِسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَكُلْ أنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَها". فهذا يدل على جواز وضعها في صنف واحد. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى فالأولى من أهل الحاجة والفاقة، فإن رأى الحاجة في عام في الفقراء قدمهم، وإن رآها في ابن السبيل في عام آخر حولها إليهم. قال مالك: وعلى هذا أدركت من بأرضي من أهل العلم. ا. هـ.
تنبيه: قال صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى المِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ، أوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا". الحديث رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، وهو في الموطإ والبغوي وأبي داود، وابن ماجه.
يَسْتَغْنِي تَرَدُّدٌ. ونُدِب إِيثَارُ المُضْطَرِّ دُونَ عُمُومِ الأَصْنَافِ، والاسْتِنَابَةُ (1) وقد تَجِبُ، وَكُرِهَ لَهُ حينَئذٍ تخصِيصُ قريبِهِ، وَهَلْ يُمْنَعُ إِعْطَاءُ زَوْجَةٍ زَوْجًا أَوْ يُكْرَهُ؟. تأْويلَانِ (2). وَجَازَ إِخْراجُ ذهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وعَكْسُهُ (3)، بِصَرْفِ وَقْتِهِ
(1)
وقوله: وندب إيثار المضطر دون عموم الأصناف؛ تقدم ذكر ذلك في التنبيه الأول، في الكلام على قول المؤلف: وغريب محتاج.
وقوله: والاستنابة وقد تجب ألخ؛ هو لما في المدونة فقال: ما يعجبني أن يلي هو ذلك بالدفع إليهم، وما يعجبني لأحد أن يلي قسمة صدقته؛ لأن المحمدة تدخل فيه والثناء، وعمل السر أفضل، ولكني أرى أن ينظر رجلًا ممن يثق به، فيدفع إليه ذلك يقسمه، فإن رأى أن ذلك الرجل الذي من قرابته، الذي لا تلزمه نفقته، أهلًا لها أعطاه كما يعطي غيره، من غير أن يأمره بشيء من ذلك، ولكن يكون الرجل الذي دفع ذلك إليه ليفرقه هو الناظر في ذلك على وجه الاجتهاد.
(2)
وقوله: وهل يمنع إعطاء زوجة زوجًا أو يكره تأويلان؛ قال في المدونة: قلت: أتعطي المرأة زوجها من زكاتها؟. قال: لا. قلت: أتحفظه عن مالك؟. قال: لا، وهذا أبين من أن أسأل مالكًا عنه.
قلت: قول المؤلف عليه رحمة الله: وكره له حينئذ تخصيص قريبه، وهل يمنع إعطاء زوجة زوجًا أو يكره؛ أين هو بما أخرجه ابن خزبمة بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدّقَة، وَإنَّها عَلَى ذِي رَحِم اثْنَتَانِ؛ إنَّهَا صَدَقَة وَصِلَةَ". وهو في النسائي أيضًا من حديث حفصة، وإسناده حسن؟!. وأين هو كذلك مما أخرجه أيضًا ابن خزيمة: باب فضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح؟ ثم ساق سندًا وصل به أم كلثوم بنت عقبة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَل الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ". وأيضًا فقد أخرج الشيخان والبغوي - واللفظ له - عن زينب امرأة عبد الله قالت: كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ". وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيجزيءُ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟. فقال: سلي =
مُطلقًا بِقيمَةِ السِّكَة وَلَوْ في نَوْعٍ لَا صِيَاغَةٍ فيهِ، وَفي غَيْرِه تَرَدُّدٌ، لَا كَسْرُ مَسْكُوكٍ إِلَّا لِسَبْكٍ، وَوَجَبَ نِيَّتُها (1). وتَفرقَتُها بِمَوْضِع (2) الْوُجُوبِ، أَو قُرْبِه
= أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال فقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟. وقلنا: لا تخبره بنا. فدخل فسأله. فقال: "مَنْ هُمَا" قال: زينب. قال: "أَيُّ الزيَانِبِ"؟. قال: امرأة عبد الله. فقال: "نَعَمْ، لَهَا أجْرَانِ أَجْر الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ".
أخرجه البخاري في الزكاة: باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر. وأخرجه مسلم في الزكاة: باب فضل النفقة على الأقربين، واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها الفقير. وهو مذهب الشافعي والثوري وأبي يوسف ومحمد، وهو إحدى الروايتين عن مالك وأحمد. وفي الحديث بيان أنها الصدقة الواجبة لقولها: أتجزئ عني؟. وبه جزم المازري. ا. هـ.
فلم يبق إلا أن تحسن الظن بابن القاسم، أنه لم تبلغه هذه الأحاديث، وكذلك كل من يفتي بكراهة تخصيص القرابة بالصدقة، وبحرمة زكاة المرأة على زوجها الفقير. والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(3)
وقوله: وجاز إخراج ذهب عن ورق وعكسه، قال في المدونة: وقال مالك بن أنس: من كانت له دنانير وجبت فيها الزكاة، فأراد أن يخرج ما وجب عليه من زكاة الدنانير دراهم بقيمتها فلا بأس. ا. هـ.
(1)
وقوله: ووجبت نيتها، هو لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأعْمَال بِالنِّيَّاتِ" الحديث.
(2)
وقوله: وتفرقتها بموضع الوجوب ألخ؛ كره أهل العلم نقلها من محلها مع وجود المستحقين فيه، واتفقوا مع الكراهة على أنه إذا نقل وأدى سقط عنه الفرض. وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: "فَتُرَد فِي فقَرَائِهِمْ". لأن الضمير فيه عائد على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان فقد وافق عموم الحديث. ورجح رأي البخاري هذا ابن دقيق العيد، وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الباب. والله الموفق.
إِلَّا لِأعْدَمَ فأَكثَرُهَا لَهُ بأُجْرَةٍ مِن الفَئِ، وإِلَّا بِيعَتْ واشْتُري مِثْلُهَا كَعَدَم مُسْتَحِقٍّ، وَقُدِّم لِيَصِلَ عِنْدَ الْحُلُولِ، وإِن قَدَّمَ مُعَشَرًا أَوْ دَيْنًا أَوْ عَرْضًا قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ نُقِلَتْ لِدُونهِمْ، أَوْ دُفِعَتْ بِاجْتِهَادٍ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ (1) وتَعَذَّرَ رَدُّهَا إِلَّا الإِمَام، أَوْ طَاعَ بِدَفْعِهَا لِجَائِرٍ فِي صَرْفِهَا. أَو بِقِيمَةٍ، لَمْ تُجِزْ، لَا إِنْ أُكْرهَ أَوْ نُقِلَتْ لِمِثْلِهِمْ أَوْ قُدِّمَتْ بِكَشَهْرٍ (2) فِي عَيْنٍ وَمَاشِيةٍ، فإِنْ ضَاعَ المَقدَّمُ فَمِنَ
(1)
وقوله: أو دفعت باجتهاد لغير مستحق؛ هو عطف على عدم الإجزاء، وقد بني على شطر قاعدة خلافية، قال البغوي: اختلفوا فيمن أعطي من الزكاة على أنه فقير فبان غنيًا؛ روي عن الحسن البصري أنه أجازه، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز، وهو قول الثوري وابن يوسف وأظهر قولي الشافعي. ا. هـ. منه.
قلت: هذا الخلاف مبني على القاعدة الخلافية: هل الواجب على الإنسان في الأمور أن يجتهد فيها، فيعمل بما أداه إليه اجتهاده، أو لابد من إصابته ما في نفس الأمر؟. وقد عقدها علي الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
هل اجتهادٌ أو إصابةٌ تَجبْ
…
عَلَيْهِ قبلةَ كمسكين كذب
إن لم يلي الوالي وإلَّا جَوزا
…
كَرَاعِفٍ وخَارِص ذِبْحٍ جزا
وقوله عليه قبلة ألخ. أي يبنى على هذا الأصل القبلة؛ يجتهد فيها ثم يتبين خطؤه، هل تلزمه الإعادة؟. ومن حضر لديه مسكين يدعي أنه مصرف، فاجتهد في تحري أمره فظنه كما زعم، فدفع إليه زكاته ثم تبين كذبه، هل تجزئه تلك الزكاة أولا؟. وهذا بناءً على أنه هو الذي تولى تفرقة زكاته بنفسه.
أما إذا كان الوالي هو الذي تولى تفرقة الزكاة، فلا خلاف في الإجزاء. ا. هـ
(2)
وقوله: أو قدمت بكشهر؛ هو عطف على الإجزاء مع الكراهة، وهو مبني أيضًا على القاعدة الخلافية، وهي: إذا سبق الحكم شرطه، هل يعد ذلك مغتفرًا أولا؟. وعقدها في المنهج المنتخب بقوله:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هَلْ سَبْق حُكْم شَرْطه مُغْتَفَرُ
…
عَلَيْهِ مَنْ زكى وَمَنْ يُكَفِّرُ
أي يبنى على هذا الأصل من زكَّى قبلَ الحول بيسير، هل تجزئه زكاته أولا؟. ومن يكفر بعد اليمين قبل الحنث.
قلت والخلاف في تقديم الزكاة مطروق، قال البغوي: ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز تقديم الزكاة قبل تمام الحول، منهم الزهري، والأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأصحاب الرأي. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز التعجيل، ويعيد لو عجل. وهو قول الحسن ومذهب مالك. ا. هـ منه بتصرف.
والأصل في هذا الخلاف أن الأوامر إما تعبدية وإما تعليلية؛ فما كان منها موقوتًا - وهو تعبدي - لا يجوز تقديمه عن وقته، ولا يجزىُ فعله قبل وقته، كالصلاة مثلًا، وما كان منه تعليلي جاز وأجزأ قبل وقته، لحصول المراد منه البين بفعله؛ كقضاء الدين قبل أجله ونحو ذلك. وما كان من هذه الأوامر متردد بين التعبدية والعلة اختلف فيه كالزكاة مثلًا، فمن اعتبرها أمر بها لسد خلة الفقير قال: هي تعليلية، ويجوز تقديمها عن وقتها، ومن قال: هي تعبدية، بالنظر إلى الأنصباء، فإن في أرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وفي ثمانين شاة، فلو كانت العلة ملك الأربعين للزمه شاتان، وفي مائة وعشرين شاة واحدة، لا جرم إذا زادت بعد المائة والعشرين شاة واحدة لزمه أن يدفع شاتين، ونحو ذلك فإنه بالنظر إلى هذه الناحية أشبهت الزكاة أن نكون تعبدية، فيمتنع تقديمها عن وقتها، وكذلك الإِجزاء لو قدمت. فكان المذهب عند أصحابنا إلحاقها بالتعبدات - من حيث عدم التقديم - إلا أنه يغتفر تقديمها بكشهر نظرًا للقاعدة المتقدمة وللأخرى التي يقول: ما قارب الشيء يعطى حكمه. وقد بين في مراقي السعود هذا التفصيل المتقدم في الأوامر قال:
والأمر قبل الوقت قد تعلقا
…
بالفعل للإِعلام قد تحققا
وبعدُ للإِلزام يستمر
…
حال التلبس وقوم فروا
فليس يجزي من له يقدمُ
…
ولا عليه دون حظر يُقْدَمُ
وذا التعبُّدُ، وما تَمَحَّضا
…
للفعل فالتقديم فيه مرتضى
وما إلى هذا وهذا ينتسب
…
ففيه خُلْفٌ دُون نصٍّ قَدْ جُلِبْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: دون نص قد جلب؛ يعني أن محل الخلاف في المتردد بين التعبد والمفعولية، هل يقدم قبل وقته أم لا؟. هو فيما لم يرد نص بجواز التقديم فيه، وإلا جاز تقديمه بلا خلاف، مثل الوضوء فإنه متردد بين التعبد والمفعولية، لأن خصوص هذه الأعضاء دون غيرها، ولزوم غسلها للحدث ولو نظيفة أمر تعبدي، لا تظهر فيه حقيقة نتيجة الفعل، كظهورها في غير التعبدي، وكون الوضوء ينظف هذه الأعضاء معقول المعنى، لأن التنظيف تحصل ثمرته بمجرد الفعل، غير أن الوضوء أجمع المسلمون على جواز تقديمه قبل دخول وقت الصلاة، فإذا تقرر ذلك فاعلم أنه قد ورد النص بتقديم الزكاة عن وقتها، فلا ينبغي إذن أن يجري الخلاف في جواز ذلك. لما تقرر من قوله: دُون نص قد جُلِبَ فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيل إلَّا أَنَّهُ كَان فَقِيرًا فَأغْنَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ، فَإنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأمَّا الْعَبَّاسُ بْن عَبْدِ الْمُطلِبِ عَمَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثْلُهَا مَعَهَا". هذا الحديث بهذا اللفظ للبغوي وقال: متفق على صحته، أخرجه مسلم عن زهير بن حرب عن علي بن حفص، عن ورقاء، عن أبي الزناد، وقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، وقال:"قَدِ احْتَبَسَ أَدرَاعَهُ وَأعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَي ومِثْلُهَا مَعَهَا". ثم قال: "يَاعُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ". ا. هـ.
وهو في البخاري في الزكاة؛ باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
(1)
أما مسلم فقد خرجه في الزكاة؛ باب في تقديم الزكاة ومنعها. ا. هـ.
وأخرج البغوي أيضًا بسنده عن جُحيبة بن عدي عن عليٍّ أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته، قبل أن يحلَّ، فرخَّص له في ذلك، وقال: هذا حديث حسن. وهو في الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي. ا. هـ.
وفي حديث الشيخين، لا سيما في رواية مسلم "هِيَ عَلَى وَمثْلُهَا مَعَهَا". دليل على جواز تقديم الصدقة؛ لأنهم أولوه تأويلين، أحدهما: أنه كان تسلف منه صدقة سنتين، فصارت دينًا عليه، وفيه =
(1)
سورة التوبة: 60.
الْبَاقِي، وَإِنْ تَلِفَ جزءُ نِصَابٍ وَلَمْ يُمْكِن الأَدَاءُ سَقَطَتْ (1)، كعَزْلِهَا فَضاعَتْ، لَا إِنْ ضَاعَ أَصْلُهَا، وَضَمِنَ إِنْ أَخَّرَهَا عَنِ الحَوْلِ أَوْ أَدْخَلَ عُشْرَهُ مُفَرِّطًا لَا مُحَصَّنًا وإِلَّا فتَرَدُّدٌ. وأُخِذَتْ مِنْ تَرِكَةِ الميِّتِ، وكَرْهًا وَإنْ بِقِتَالٍ، وأُدِّبَ ودُفِعَتْ لِلإِمَامِ الْعَدْلِ (2) وإِن عَيْنًا، وإنْ غَرَّ عَبْدٌ بِحُريَّةٍ فجِنَايَة على الأرْجَحِ، وزَكَّى مُسَافِرٌ مَا مَعَهُ ومَا غَابَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْرِجٌ وَلَا ضَرُورَة.
= دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل وقتها، وبه أخذ من جوز تعجيلها لعامين.
والاحتمال الآخر أن يكون صلى الله عليه وسلم أخذ منه صدقة هذا العام الذي شكاه فيه، وتعجل منه صدقة عام ثاني، فقال: هِيَ عَلَيَّ، أي الصدقة المذكورة مع مثلها من صدقة عام لم يحل بعد، وفي كلا الاحتمالين دليل على جواز تقديمها قبل حلولها، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وإن تلف جزء نصاب ولم يمكن الأداء سقطت، كعزلها فضاعت، هذان الفرعان مبنيان على القاعدة القائلة: إمكان الأداء، هل هو شرط في الوجوب أو هو شرط في الأداء؟. وعقدها في المنهج المنتخب بقوله:
شرط وجوب أو أدا إمكانهُ
…
فتالِفٌ هل ينتفي ضمانه
فقوله: فتالف هل ينتفي ألخ. يريد به أنه يبنى على هذه القاعدة؛ ما لو تلف المال بعد الحول وقبل إمكان الأداء، هل يسقط ضمانه عن رب المال، فلا زكاة عليه؟. وعلى ذلك مشى المصنف. أو هو يلزمه الزكاة ولو لم يمكن الأداء؟. ويبنى عليه أيضًا ما إذا عزلها بعد حلول الحول ولم يمكن الأداء فضاعت، فعلى أن إمكان الأداء شرط وجوب تسقط عنه وعليه بنى المصنف مذهبه. والله الموفق.
(2)
وقوله: وأخذت من تركة الميت وكَرهًا وإن بقتال إلخ؛ قد تقدم الكلام في وجوب أخذها في التنبيهات في أول الباب. وبالله تعالى التوفيق. =
زكاة الفطر
(1)
فصل:
يَجِبُ بِالسُّنَّةِ صَاعٌ أَوْ جُزْؤُهُ عَنْهُ، فَضَلَ عَنْ قُوتهِ وقُوتِ عِيالِهِ وإنْ بِتَسَلُّفٍ. وَهَلْ بِأَوَّلِ لَيْلَةِ الْعِيدِ أَوْ بِفَجْرِهِ؟. خِلَافٌ، مِنْ أَغْلَبِ الْقُوتِ، مِن مُعَشَّرٍ أَوْ أقطٍ (2) غَيْرِ عَلَسٍ إلَّا أَنْ يقتاتَ غَيْرُهُ، عَنْ كل مُسْلِمٍ يَمُونُهُ بِقَرابةٍ أَوْ زوجِيَّةٍ (3) وإِنْ لِأبٍ وخَادِمِهَا أَو رِقٍّ، وَلَوْ مُكَاتَبًا وآبِقًا رُجِيَ، ومبيعًا بِمُوَاضَعَةٍ أَوْ خِيارٍ وَمُخْدَمًا، إلَّا لِحُريَّةٍ فَعَلَى مُخْدَمِهِ، والْمُشْتَرَكُ وَالْمُبَعَّضُ بِقَدْرِ المُلْكِ، ولا شيءَ عَلى الْعَبْدِ، والمُشْتَرَى فَاسِدًا على مُشْتَرِيهِ، وَنُدِبَ إخْراجُهَا بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ (4)، ومنْ قُوته الأحْسَنِ، وغَرْبَلَةُ الْقَمْحِ إلَّا الْغَلِثَ، ودَفْعُهَا لِزَوالِ فَقْرٍ وَرِق يَوْمَهُ، وللإمَامِ الْعَدْلِ، وعَدَمُ زِيادَةٍ، وإِخْرَاجُ المُسَافِرِ وجَازَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ عَنْهُ، ودَفْعُ صَاع لِمَسَاكِينَ وآصُعٍ لِوَاحِدٍ ومنْ قُوتهِ الأَدْوَنِ إلَّا لِشُحٍّ، وإِخْرَاجُه قَبْلَهُ بكاليَوْمَيْنِ (5). وَهَلْ مُطْلَقًا أو لمفَرِّقٍ؟. تَأْويلانِ، ولَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ زمَنِهَا وإِنما تُدْفَعُ لِحُرٍّ مسلم فَقير (6).
(1)
زكاة الفطر فريضة عند عامة أهل العلم، وذهب أصحاب الرأي إلى أنها واجب - وهو عندهم أحط من رتبة الفرض - ودليل كونها فرضًا ما أخرجه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على كل حر، أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. أخرجه مالك في الموطإ، وأخرجه مسلم والبخاري كلاهما في باب زكاة الفطر.
وفي رواية عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وهو متفق عليه أيضًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال البغوي: وفيه دليل على أن ملك النصاب ليس بشرط لوجوبها، بل هي واجبة على الفقير والغني، وهو قول الشعبي، وابن سيرين، وعطاء، والزهري، ومالك، قال الشافعي: إذا فضل عن قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته قدر صدقة الفطر يلزمه أن يخرج صدقة الفطر. وكذلك قال ابن المبارك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه إلا إذا ملك نصابًا.
وقال البغوي: والحديث فيه دليل على أنه يجب أداؤها عن الصغير والمجبون ومن أطاق الصوم أو لم يطق.
(2)
وقوله: من معشر أو أقط؛ هو لما روي عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب. قال مالك: وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك، وأراد بالطعام البر. ا. هـ.
والحديث دليل على أنه لا يجوز فيها أقل من صاع من أي نوع أخرج. وهو قول جماعه من الصحابة، منهم أبو سعيد الخدري، وبه قال الحسن وجابر بن زيد، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد وإسحاق.
وذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى أنه يجوز من البر نصف صاع ولا يجوز من غيره أقل من صاع. وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي. وذلك لما رواه داود بن قيس الفراء عن عياض بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر يوم الفطر؛ صاعًا من طعام أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية من الشام حاجًا أو معتمرًا، وهو يومئذ خليفة، فخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الزكاة فقال: إني أرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فكان أول ما ذكر الناس من المدين حينئذ. قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن داود بن قيس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروى ابن عجلان عن عياض قال: ثم أنكر ذلك أبو سعيد وقال: لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم. ا. هـ.
(3)
وقوله: أو زوجته؛ ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق إلى وجوب صدقة فطر المرأة على زوجها، لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى ممن يمونه. أخرجه الشافعي وأخرجه البيهقي أيضًا من طريق الشافعي. ا. هـ.
وذهب جماعة إلى أنها لا تجب عليه، وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي.
(4)
وقوله: وندب إخراجها بعد الفجر قبل الصلاة، قال في المدونة: قال: وقد أخبرني مالك قال: رأيت أهل العلم يستحبون أن يخرجوا صدقة الفطر إذا طلع الفجر من يوم الفطر، قبل الغدو إلى الصلاة. قال مالك: وذلك واسع إن شاء الله أن يؤدى قبل الصلاة أو بعدها. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وإخراجه قبله بكاليومين؛ قال في المدونة: قال مالك: وأخبرني نافع أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده، قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. ا. هـ. منه.
تنبيه: قال البغوي: والسنة أن تخرج صدقة الفطر يوم العيد، قبل الخروج إلى المصلى، ولو عجلها بعد دخول شهر رمضان، قبل يوم الفطر يجوز، قال: وكان ابن عمر يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. ا. هـ. وهو حديث الموطإ، وأخرجه الشافعي وإسناده صحيح.
ورخص ابن سيرين والنخعي في إخراجها بعد يوم الفطر. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس.
تنبيه: والصاع الذي تخرج به زكاة الفطر عند أكثر أهل العلم، هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم المشهور عند أهل الحجاز، وتقديره أنه أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ملء اليدين المتوسطتين، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين. ووزن الصاع، قال البغوي، هو خمسة أرطال وثلث. قلت: والرطل وزنه أربعمائة وخمسون غرامًا.
تنبيه: قال البغوي: والاعتبار بوزن الإِسلام فيما تتعلق به الزكاة من الدراهم والدنانير، لما روي عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَزْنُ وَزْنُ أهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَال أَهْلِ الْمَدِينَةِ". أخرجه أبو داود في البيوع، باب مكيال المدينة. وأخرجه النسائي في الزكاة؛ باب كم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الصاع. قال ابن حجر في التلخيص: وصححه ابن حبان، والدارقطني، والنووي، وأبو الفتح القشيري.
قال البغوي: وأراد به أن الدراهم مختلفة الأوزان في الأماكن والبلدان؛ فمنها البغلي؛ كل درهم منها ثمانية دوانق، ومنها الطبري؛ كل درهم أربعة دوانق. ووزن الإسلام كل درهم ستة دوانق، وهو وزن أهل مكة. وكذلك المكيال مختلف؛ فصاع أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وصاع أهل العراق ثمانية أرطال، وهو صاع الحجاج، الذي سعر به على أهل الأسواق، وصاع أهل البيت تسعة أرطال وثلث، كما يزعم الشيعة، نسبته إلى جعفر بن محمد.
قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَكْيَالُ مَكْيَالُ أهْلِ الْمَدِينَةِ". أراد به فيما تتعلق به الأحكام الشرعية من حقوق الله سبحانه وتعالى، دون ما يتعلق به الناس، ومعنى ذلك أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة في النقود وزن أهل مكة؛ كل عشر دراهم منها بوزن سبعة مثاقيل، فإذا ملك منها مائتي درهم وجبت فيها الزكاة.
قلت: وزن سبعة مثاقيل المتعارف عليه الآن؛ تسعة وأربعون غرامًا، وعليه فإن وزن الدرهم الشرعي هو أربعة وتسعة أعشار الغرام. فيتحصل منه أن وزن مائتي درهم من الفضة بالميزان المتعارف عليه اليوم تسعمائة وثمانون غرامًا.
قال البغوي: وكذلك الصاع الذي يعتبر في الكفارات، وصدقة الفطر، وتقدير النفقات وما في معناها، صاع أهل المدينة؛ كل صاع خمسة أرطال وثلث.
قلت: ومعنى ذلك أن وزن الصاع اليوم ألفان وأربعمائة غرام.
قال البغوي: وأما في المعاملات فيعتبر صاع البلد الذي تتعامل به الناس ووزنهم - المتعارف عندهم - حتى ولو أسلم في عشرة مكاييل قمح، أو تمر أو شعير وفي البلد مكيلة معروفة حمل عليها، وإن كان في البلد مكاييل مختلفة ولم يقيد بواحد منها، كان السلم فاسدًا. ا. هـ. منه بتصرف.
(6)
وقوله: وإنما تدفع لحر مسلم فقير؛ قال في المدونة: وقال مالك: لا بأس أن يعطي صدقة الفطر عنه وعن عياله مسكينًا واحدًا. قال: وقال مالك: لا يعطى أهلَ الذمة ولا العبيد من صدقة الفطر شيء. ا. هـ. منه.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: أخرج البغوي في شرح السنة: وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي قوله: إن في هذا المال حقًا غير الزكاة. قال: وهذا أصح. يعني من حديث فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: "إِن فِي الْمَالِ لَحَقًا سِوَى الزكَاةِ". ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}
(1)
الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. ا. هـ.
قال البغوي: ويروى: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟. قال: "الْمَاءُ" قيل: ما الشئ الذي لا يحل منعه؟. قال: "الْمِلْحُ". قيل: ذلك إن كان في أرض أو جبل غير مملوك.
قال البغوي: في تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
(2)
قال عبد الله بن مسعود: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر. ويقال الماعون: المعروف كله. وقال عكرمة: أعلاها الزكاة المفروضة، وأدناها عارية المتاع. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله عكرمة حسن، فإنه يشمل الأقوال كلها، فترجع كلها إلى شيء واحد وهو ترك المعونة بمال أو منفعة. ا. هـ.
تنبيه: مدح الله أناسًا بالتعفف عن السؤال فقال: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي الجاهل بحالهم، وفي حديث متفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَأْتِيَ بِهِ، فَيَبِيعَهُ، فَيَأْكُلَ مِنْهُ، ويتَصَدَّقَ مِنْهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَيَسْألَهُ أعْطَاهُ أوْ مَنَعَهُ".
تنبيه: قال البغوي: أما السؤال لذوي الحاجة، فحسبة يؤجر عليه، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل ابن وهب عن الرجل يعرف في موضع محتاجين، وليس عنده ما يسعهم، وهو إذا تكلم يعلم أنه يُعطى، ترى هل له أن يسأل لهم؟. قال:"نَعَمْ، وَآجَرَهُ الله عَلَى قَدْرِ ذلِكَ". قال: وكان مالك يفعل ذلك حتى أوذي، وأنا أفعله. ا. هـ. منه بلفظه. والله ولي التوفيق.
(1)
سورة البقرة: 177.
(2)
سورة الماعون: 7.
انتهى الجزء الأول من [مواهب الجليل من أدلة خليل] ويليه بإذن الله تعالى الجزء الثاني أوله كتاب الصيام. وبذلت الجهد فيه لأختصر، ولم أجد فيما مضي مسائل اجتهادية بحتة لا يستطاع التدليل عليها إلا في ثلاثة مواضع: في السهو في الصلاة، وفي قضاء الفوائت، وفي الزكاة في النقدين والحبوب والعروض والقراض ونحو ذلك، وعلى كل حال فهذا جهد المقل، وفاقد الشيء لا يعطيه. فالمعذرة المعذرة، وما لا يدرك كله لا يترك كله. والله حسبنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *