الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواهب الجليل من أدلة خليل
تأليف
الشيخ أحمد بن المختار الجكني الشنقيطي
الجزء الثاني
عنى بمراجعته خادم العلم
عَبد الله إبراهيم الأنصَارى
من مطبوعات
إِدارة إِحياء التراث الإِسلامي بدولة قطر
1403 هـ - 1983 م
رقم الإِيداع بدار الكتب القطرية
27 -
لسنة 1983 م
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصوم
الصوم لغة: هو الإِمساك مطلقًا. فمن استعماله في الإِمساك عن الحركة قول امرئ القيس:
كان الثريا عُلِّقت في مصامها
…
بأمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جندل
أي في محل إمساكها عن السير. وقال نابغة ذبيان:
خيل صيامٌ وخيل غيرُ صائمة
…
تحت العجاج، وأخرى تعلك اللُّجُمَا
قيل: خيل صيام؛ أي ممسكة عن الجري، وقيل ممسكة عن الصهيل.
وقال الراجز:
شر الدلاءِ الولْغة الملازمة
…
والبكراتُ شرهنَّ الصائمة
أي شر البكرات التي لا تدور.
ومن استعماله في الإِمساك عن الكلام قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}
(1)
أي إمساكًا عن الكلام. بدليل قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} .
والصوم في الشرع هو إمساك البطن والفرج عن شهوتيهما، من وقت مخصوص إلى وقت مخصوص. وصوم رمضان - أحد أركان الإِسلام الخمسة - واجب كتابًا وسنة وإجماعًا.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ - إلى قوله تعالى - فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(2)
.
وأما السنة، فحديث ابن عمر رضي الله عنهما:"بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ. وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا". وفي الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا
(1)
سورة مريم - 26.
(2)
سورة البقرة: 183 - 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصيام؟. قال:"شَهْرَ رَمَضَانَ". قال: هل عليَّ غيره؟. قال: "لَا إِلَّا أنْ تَطوَّعَ شَيْئًا"
…
الحديث.
وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.
تنبيهٌ: ورد في فضل رمضان ما أخرجه البغوي بسنده في شرح السنة؛ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ. وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"
وأخرج أيضًا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ". قال البغوي: هذا الحديث متفق على صحته. أخرجاه جميعًا عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر. وأخرجه مسلم عن علي بن حُجر. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أوَّل لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ. وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِي الشَّرِّ أَقْصِرْ. وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذلِكَ كُل لَيْلَةٍ". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. وهذا الحديث أخرجه الترمذي في أول كتاب الصوم. وأخرجه ابن ماجه وأخرجه الحاكم ورجاله ثقات إلا أن في سنده أبا بكر بن عياش، ويقال: إنه ساء حفظه لما كبر. غير أن له شاهدًا يقويه من حديث عطاء بن السائب، عن عرفجة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أحمد والنسائي. انظر شرح السنة للبغوي.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَة مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". قال البغوي: هذا حديث متفق على
صحته. أخرجه محمد عن علي بن عبد الله عن سفيان. وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، عن معاذ
بن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.
قال البغوي: قال الخطابي: قولُهُ "إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا". أي: نية وعزيمة. وهو أن يصومه على التصديق به، والرغبة في ثوابه، طيبة نفسه، غير كارهة له، ولا مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه. لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب. =
يَثْبُتُ رَمَضَانُ بِكَمالِ شعبانَ، أو بِرُؤْيةِ عَدْليْن (1). ولو بصحوٍ بمصر (2).
= وجاء في فضل الصيام قوله تعالى: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ}
(1)
في التوبة. قال البغوي: والسائحون هم الصائمون، وقيل في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}
(2)
أي: الصوم. قال البغوي: وسمي رمضان شهر الصبر. وأصل الصبر الحبس. قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}
(3)
. ففي الصوم حبس النفس عن المطاعم وبعض اللذات.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، مِنْهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ". أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل الصيام. وأخرجه محمد في بدء الخلق، باب: صفة أبواب الجنة. وفي الصوم. باب: الريَّان للصائمين.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ. الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ. وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللهِ أطيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ". أخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى عن أبي وهب، عن يونس عن ابن شهاب. وهو في مصنف عبد الرزاق.
تنبيه: سئل سفيان بن عيينة عن قوله: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي". فقال: إذا كان يوم القيامة، يحاسب الله تعالى عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة. ويحكى عن سفيان أيضًا في قوله:"الصَّوْمُ لِي" قال: لأن الصوم هو الصبر؛ يصبر الإِنسان عن المطعم والمشرب والنكاح.
وثواب الصبر ليس له حساب. ثم قرأ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(4)
. ا. هـ. من البغوي.
(1)
قوله رحمه الله: يثبت رمضان بكمال شعبان، أو برؤية عدلين. دليله في اشتراط الرؤية للصوم، وأن يكمل شعبان ثلاثين يومًا - إن لم يُر - هو ما رواه مالك في الموطإِ، عن ثور بن زيد الديلي، عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال:"لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ. وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ". =
(1)
سورة التوبة: 112.
(2)
سورة البقرة: 45.
(3)
سورة الكهف: 28.
(4)
سورة الزمر: 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ". رواه مالك في الموطإِ. والبخاري في صحيحه في عدة مواضع. ورواه مسلم في الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.
قال البغوي: هكذا رواه معن بن عيسى وابن بكير. كما روى الشافعي عن مالك بإسناده وروى أبو مصعب عن مالك قال: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأكمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ". وكذا رواه محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن مسلمة عن مالك.
وأما اشتراط العدلين فإنه المذهب، والعمل عليه عندنا، ومأخذه القياس على هلال شوال.
قال أبو الوليد الباجي:
مسألة: ولا يثبت هلال رمضان بشهادة شاهد واحد، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي. والدليل على ما نقوله، أن هذه شهادة علي هلال، فلم يقبل فيها أقل من اثنين. أصل ذلك الشهادة على هلال شوال وذي الحجة. ا. هـ.
قلت: لكن الدليل هنا إلى جانب المخالف المثبت لرؤية هلال رمضان بشهادة واحد، ففي البغوي ما نصه: عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. فقال: "أَتَشْهَدُ لأَنْ لَا إلهِ إِلا اللهُ؛ أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ؟ " قال: نعم .. قال: "يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا". ا. هـ. وهذا الحديث في سنن الترمذي في الصوم. وأخرجه أبو داود في الصوم، باب: في شهادة واحد على رؤية هلال رمضان. وأخرجه النسائي في الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان. وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم.
فإذا ثبت أن المأخذ عندنا في وجوب رؤية عدلين اجتهاد، وعلمت أن النص ثبت بقبول شهادة الواحد في هلال رمضان، تعين القدح في ذلك الإحتهاد بالقادح المسمى فساد الإعتبار؛ وهو القياس في محل النص.
قال في مراقي السعود:
والخلف للنصِّ أو اجماع دعا
…
فسادَ الاعتبار كلُّ من وعى
فالذي تقضي الصناعة الأصولية بالقول به، هو قبول الواحد في رؤية رمضان. على أن الأصل الذي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قسنا عليه في وجوب تعدد الشهود لرؤية هلال رمضان، وهو وجوب ذلك بالنسبة إلى هلال شوال وذي الحجة. ذكر البغوي أنه قد روي عن عمر بن الخطاب، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه أجاز شهادة واحد في أضحى أو فطر. قال: ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث.
والذي عليه عامة أهل العلم، أن هلال شوال لا يثبت إلا بقول رجلين عدلين.
(2)
وقوله: ولو بصحو بمصر، هو إشارة إلى عدم الأخذ بما روي عن نافع. قال: كان ابن عمر إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نظر له، فإن رئي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب أو قترة، أصبح مفطرًا. وإن حال دون منظره سحاب أو قترة، أصبح صائمًا.
قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. أراد به أنه يفعل هذا في شعبان احتياطًا للصوم.
وذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يصوم ويفطر إلا برؤية الهلال، أو إكمال العدد ثلاثين وأخرج البيهقي بسنده عن طاوس قال: شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس، قال: فجاء رجل إلى واليها فشهد عنده على رؤية هلال رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته، فأمراه أن يجيزه وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل على رؤية هلال رمضان؛ قالا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين. اهـ. جـ 4/ ص 212 من السنن الكبرى للبيهقي.
وذهب أحمد بن حنبل إلى ما ذهب إليه ابن عمر؛ من أنه إذا لم ير الهلال لتسع وعشرين من شعبان؛ لعلة في السماء، صام الناس. وإن كان صحوًا لم يصوموا. قال الخرقي: وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يومًا طلبوا الهلال، فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم، وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إن كان من شهر رمضان. ا. هـ. منه.
وهو رد أيضًا لما ذهب إليه أبو حنيفة. وبه قال سحنون من أصحابنا؛ من أنه إذا كانت السماء مصحية، لا يثبت الهلال بشهادة عدلين.
والحاصل، إنه إن عدمت الرؤية لزم إتمام شعبان ثلاثين، سواء كانت السَّماء صحوًا أو غيمًا.
وبهذا قال جمهور الفقهاء. وقال أحمد بن حنبل: إن كان غيمًا صام آخر يوم من شعبان احتياطًا.
وسيأتي رد ذلك للمؤلف إن شاء الله.
فَإنْ لَمْ يُرَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ صَحْوًا كُذِّبا (1).
(1)
قوله رحمه الله: فإن لم ير بعد ثلاثين صحوًا كُذِّبا، اعتمد فيه على ما روى ابن نافع في المجموعة عن مالك في شاهدين شهدا على هلال شعبان، فعد لذلك ثلاثون يومًا والسماء صاحية فلم ير، قال: هذان شاهدا سوء. واعتبر الباجي هذه الكلمة ردًا لشهادة الشاهدين، واستدل بذلك على أن الشهادة والحكم على شوال بعد ذلك، حكم واحد بالنسبة للأول. قال: وهذا يدل على أن الحكم واحد ولو كانا حكمين؛ لما كان في ذلك تكذيب للشاهدين. وبالله التوفيق. ا. هـ. انظره جـ 2 - ص 36.
وذكر الحطاب على المختصر هذه الرواية عن ابن نافع وقال: هو في سماع أشهب، ثم قال: ولم أقف على هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب الصيام. ولا من كتاب الأقضية. ولا من كتاب الشهادات، ولعلها من سماعه في غير هذا الكتاب. ا. هـ. منه. جـ 2 - ص 383.
قلت: والذي يظهر لي، والله تعالى أعلم، أن الصواب في هذه المسألة مع الإِمام الشافعي. قال الدسوقي في حاشيته على الدردير: الشافعي يقول: لا يكذب العدلان ويعمل في الفطر على رؤيتهما أولًا. ا. هـ. منه.
واعتمادي في ذلك على الله تعالى، ثم على أن شهادة الشاهدين التي اعتبرت أولًا وثبت بها رمضان إنما تحصل ظنًا بذلك الحكم، الذي تحتم بموجبه على المسلمين صوم اليوم الأول على أنه من رمضان، ووجب عليهم بموجبه إفطار اليوم الحادي والثلاثين بالنسبة لذلك اليوم إن لم ير الهلال قبل ذلك، على أنه يوم الفطر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ". فإن حكمنا بكذب هذين الشاهدين، بناءًا على أننا لم نر الهلال ليلة الحادي والثلاثين، من رؤيتهما لهلال رمضان، كان حكمنا ذلك مبنيًا على ظن أيضًا، لاحتمال كونه في السَّماء ولم نره لعائق ما؛ من دقته مثلًا، والأهلة ليست بمقدار؛ فإن منها الكبير ومنها الدقيق جدًّا. ولتغير مطالعه؛ فربما حالت تضاريس أرضية دون رؤية هلال شوال لطلوعه خلفها، إلى غير ذلك من العوائق.
وإذا ثبت أن صومنا بشهادتهما أولًا كان حكَمًا ظنيًا، وأن حكمنا عليهما في ثاني حال كان ظنيًا أيضًا، فكيف يسوغ نقض الظن بالظن؟. علمًا بأنه سوف يترتب على تكذيبهما إبطال عمل المسلمين يومًا على الأقل، وحملهم على صوم يوم وجب عليهم فطره، باعتباره يوم العيد، فعدم صومه إذًا مقدم =
أوْ مُسْتَفيضةٍ. وَعَمَّ إِنْ نُقِلَ بِهِمَا عَنْهُمَا (1)، لَا بِمُنْفَرِدٍ إلَّا كَأَهْلِهِ ومَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُمْ بِأمِرِه (2).
= على غيره؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. والله ولي التوفيق.
تنبيه: فيما لو أخطأ القوم الهلال، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَاسُ، وَالأضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ".
قال البغوي: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وهذا الحديث كما أخرجه البغوي بسنده، فقد أخرجه الترمذي، وأخرجه الشافعي في مسنده. ويشهد له ما رواه عثمان بن محمد عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ". أخرجه البغوي. وقال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وهو في سنن الترمذي وفي سنن أبي داود، وأخرجه ابن ماجه.
قال البغوي: وفسر بعض العلماء هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. ا. هـ.
وذكر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
الآية: إن بعض أهل العلم قال: هي في اختلاف الناس في الأهلة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله رحمه الله: وعمّ إن نقل بهما عنهما. قال الدردير: وعم الصوم سائر البلاد قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر ولا اتفاق المطالع ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه إن نُقل ثبوته بهما. أي بالعدلين أو المستفيضة عنهما؛ أي عن العدلين والمستفيضة. ا. هـ. منه.
ولا يخفى أن ذلك القيد بالتعدد في الناقل والمنقول عنه، مبني على ما تقدم لك أنه المذهب، وأنه مبني على اجتهاد في محل نص، مقدوح فيه بفساد الاعتبار. راجع ما تقدم عند قول المؤلف: أو برؤية عدلين.
(2)
وقوله: لا بمنفرد ألخ. قال البغوي: اختلف أهل العلم فيمن رأى الهلال وحده؛ فذهب =
(1)
سورة الحج: 78.
وَعَلَى عَدْلٍ أوْ مَرْجُوٍّ رَفْعُ رُؤيَتِهِ، والمُخْتَارُ وَغَيْرِهِمَا، وإن أفْطَرُوا فَالْقَضَاءُ وَالكَفَّارَةُ، إِلَّا بِتأوِيلٍ فتأْويلان (1).
= أكثرهم إلى أنَّ عليه الصومَ والفطر وبه قال الشافعي؛ كمن علم طلوع الفجر، عليه أن يمسك عن الأكل بعلمه وحده.
وقال الحسن وعطاء: لا يصوم ولا يفطر برؤيته وحده؛ لظاهر هذا الحديث.
يعني حديث: "الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأضحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ".
وقال أبو حنيفة: يصوم برؤيته وحده ولا يفطر. ا. هـ.
قلت: وحيث وقع الخلاف تبين لك أن لا نص يرجع إليه في المسألة، ولعله في الذي لم يرفعه للناس، أو الذي لم تعتبر الناس رؤيته لعلة. والله أعلم.
أما إذا كان المراد أنه لا يثبت هلال رمضان بعدل واحد، فقد تقدم التحقيق إن شاء الله في ذلك. ا. هـ.
(1)
وقوله رحمه الله: وعلى عدل أو مرجوّ رفع رؤيته ألخ. قال في المدونة ما نصه:
قلت: أرأيت من رأى هلال رمضان وحده، أيردّ الإِمام شهادته؟. فقال: نعم. قلت: وهذا قول مالك؟. قال: نعم. قلت: أفيصوم الذي رأى هلال رمضان وحده إذا ردّ الإِمام شهادته؟ فقال: نعم. قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قلت: فإن أفطر أيكون عليه الكفارة مع القضاء في قول مالك؟. قلت: فإن رآه وحده، أيجب عليه أن يعلم الإمام في قول مالك؟ قال: نعم، لعل غيره رآه معه فتجوز شهادتهما. ا. هـ
ولعل أفضل دليل على وجوب رفعه إلى الإمام، ما ثبت بالسنة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا رأى أحدهم الهلال أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر في حديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. فقال: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ؛ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ " قال: نعم. قال: "يَا بِلَالُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أنْ يَصُومُوا غَدًا". وقد تقدم تخريجه. وروي عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. أخرجه أبو داود في الصوم، باب: شهادة الواحد. والدارقطني. وإسناده قوي وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي. وهو دليل على قبول الواحد في هلال رمضان.
لَا بِمُنَجِّمٍ (1). ولَا يُفْطِرُ مُنْفَرِدٌ بِشَوالٍ، وَلَوْ أمِنَ الظُّهُورَ، إلَّا بِمُبيحٍ (2) وَفِي تَلْفِيقِ شَاهِدٍ أوَّلَهُ لآخَرَ آخِرَه (3)، ولزُوُمه بِحُكْمِ المُخَالِفِ بِشَاهِدٍ تَرَدُّدٌ (4).
(1)
وقوله رحمه الله: لا بمنجّم، دليل ذلك ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا. وإِذَا رَأيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا". أخرجه مسلم في الصيام، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في صحيحه بلفظ:"فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ".
وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشَّام والمغرب؛ منهم مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة أهل الحديث.
وقول المختصر هنا: لا بمنجّم، رد لما ذهب إليه بعض أهل العلم، من أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"فَاقْدُرُوا لَهُ". التقدير بحساب سير القمر في المنازل. أي قدِّروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون.
قال ابن سريج: هذا خطاب لمن خصه الله بهذا العلم. وقوله: "فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ". خطاب للعامة التي لم تعن به. ا. هـ. البغوي.
قلت: ولا يخفى ما في قول ابن سريج هذا من السقوط؛ لأنه يجعل اعتبارًا لقول المنجم. وفي الحديث: "كَذِبَ الْمُنَجِّمُونَ وَلَوْ صَدَقُوا". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: "فَاقْدُرُوا لَهُ" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسره حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب النجوم؛ لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشارع إنما يأمر الناس بما يعرفه جماهيرهم. ا. هـ. شرح السنة. من التعليق. ص 230/ جـ 6.
(2)
وقوله: ولا يفطر منفرد بشوال ولو أمن الظهور، هو لما في الموطإ ونصه: قال: ومن رأى هلال شوال وحده فإنه لا يفطر؛ لأن الناس يتهمونه على أن يفطر منهم من ليس مأمونًا. ويقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. ا. هـ. منه. بلفظه.
قال الباجي: وقال أشهب يفطر بالنية ويمسك عن الأكل وهذا هو الصحيح؛ لأن الإِمساك عن الأكل يخرج عما خيف عليه. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وفي تلفيق شاهد أوله لآخر آخره، هذه مسألة ليس فيها إلَّا الاجتهاد. والذي عليه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الجمهور أن الفطر لا يقع إلا بشهادة عدلين على رؤية هلال شوال.
وقد قال ابن رشد في المقدمات هنا ما نصه: فإن شهد شاهد عدل على هلال شعبان، وشاهد على هلال رمضان، فقد قال يحيى بن عمر: لا تجوز الشهادة. وقال غيره من أهل العلم تجوز. ومعنى ذلك؛ إذا شهد الشاهد على هلال رمضان أنه رآه بعد ثلاثين يومًا من رؤية الشاهد على هلال شعبان، إنه ليس في شهادة الشاهد الثاني تصديق الشاهد الأول. وأما لو رآه الشاهد الثاني بعد تسعة وعشرين يومًا من رؤية الأول، لوجب أن تجوز شهادتهما؛ لأن الشاهد الثاني يصدق الشاهد الأول. ا. هـ. وذكروا أنه معنى خفي، لكن ابن رشد قال: وليس هو عندي بيّن في المعنى. وعلل ذلك بأنه لا فرق عنده بين الشهادتين.
قلت: ولم يتبين عندي - على قصوري - الفرق بين الشهادتين تمامًا، مثل ما هو الحال لابن رشد، غير أني أزيد عليه قائلًا: وما هو الحافز الذي اضطر هؤلاء إلى هذا العسف والتقديرات، طالما أن السنة جاءت بثبوت هلال رمضان برؤية عدل واحد؟. فأي حاجة تلجئنا إلى ضم شهادة شاهد رأى هلال شعبان؟. وقد ثبت السنة بقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية الواحد في رمضان. وإذا كان التلفيق مرادًا في ثبوت هلال شوال، فأي مندوحة يمكن أن يراها المرء بعد ثبوت الحديث المتفق على صحته؛ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال:"لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
إن الأمر، والحالة هذه، لا يخلو إما أن نكون على مذهب الجمهور القائل بأن هلال شوال لابد فيه من تعدد العدول إلى اثنين على الأقل، فلا يمكن تلفيق الأول؛ الذي رأى رمضان مع من رأى شوال، وإما أن نكون ممن يقبل شموال برؤية عدل واحد، فلا حاجة لنا في التلفيق. والله تعالى أعلم، وهو الموفق.
(4)
وقوله: ولزومه بحكم المخالف تردد. الذي يظهر لى - والله تعالى أعلم - أن طاعة أولي الأمر الواجبة بموجب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(1)
الآية. لا نعلم ولم =
(1)
سورة النساء: 59.
وَرُؤيتُه نَهَارًا لِلْقَابِلَةِ (1). وَإِنْ ثَبَتَ نَهَارًا أمْسَكَ وَإلَّا كَفَرَ إِنِ انْتَهَكَ (2).
= يقل أحد فيما علمت أنها يشترط فيها أن يكون غير مخالف في الفروع، وإذًا فأين وجه التردد يا ترى؟.
(1)
وقوله رحمه الله: ورؤيته نهارًا للقابلة، دليله ما ثبت في الموطإ ونصه: ومن رأى هلال شوال نهارًا، فلا يفطر ويتم صيام يومه ذلك، فإنما هو هلال الليلة التي تأتي. ا. هـ.
وفي شرح السنة للبغوي ما نصه: وإن رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة، سواء رأوه قبل الزوال أو بعده، واليوم من الشهر الماضي.
قال شقيق بن سلمة: كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بخانقين: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس. وهذا الأثر أخرجه الدارقطني ورجاله ثقات. ا. هـ.
وفي الموطإ أيضًا عن مالك أنه بلغه أن الهلال رئي في زمن عثمان بن عفان بعشى، فلم يفطر عثمان حتى أمسى وغابت الشمس. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وإن ثبت نهارًا أمسك، وإلا كفّر إن انتهك، نقل المواق. من المدونة: قال مالك: إن أصبح ينوي الفطر، ولا يعلم أن يومه ذلك من رمضان، ثم علم أول النهار أو آخره - قبل أن يأكل أو يشرب، أو بعد ما أكل أو شرب - فليكف عن الأكل بقية يومه [ذلك]. ثم إن أكل بعد علمه بذلك لزمه القضاء بلا كفارة، إلا أن يأكل منتهكًا لحرمته، عالمًا بما على متعمد الفطر فيه، فليكفّر. ا. هـ.
وأيضًا فقد روي عن ربعي بن خراش، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلّا الهلال أمس عشية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا. رواه أحمد وأبو داود. قال في المنتقى: وزاد في رواية: وأن يغدوا إلى مصلاهم. ا. هـ. أنظر نيل الأوطار. جـ 4/ ص 260.
ولا يخفى أن ثبوت رمضان نهارًا هو مفهوم موافقة؛ لثبوت شوال نهارًا فيلحق به. بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى النص. والله تعالى ولي التوفيق.
وَإنْ غيَّمَتْ وَلَمْ يُرَ فَصَبِيحَتُهُ يَوْمُ الشَّكِّ، وَصِيمَ عَادَةً وَتَطَوُّعًا وقَضاءً وَكَفَارَةً وَلَنِذْر صَادَفَ، لَا احْتِياطًا (1).
(1)
قوله: وإن غيمت ولم ير فصبيحته يوم الشك ألخ. في الموطإ ما نصه: عن مالك أنه سمع أهل العلم ينهون أن يصام اليوم الذي يشك فيه من شعبان؛ إذا نوى به صيام رمضان، ويرون على ان من صامه على غير رؤية، ثم جاء الثبت أنه من رمضان، أن عليه قضاءه، ولا يرون بصيامه تطوعًا بأسًا. قال مالك: وهذا الأمر عندنا، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا. ا. هـ. منه.
وأخرج البغوي بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ ظُلْمَةٌ أَوْ هَبْوَةٌ فَأَكْمِلُوا اتَقَدَّمُوا وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا وَلَا تَصِلُوا رَمَضَانَ بِيَوْم مِنْ شَعْبَانَ". وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي في الصيام. وأخرجه البيهقي والطيالسي. وأخرجه الرمذي بنحوه من طريق أبي الأحوص، عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس وقال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. ا. هـ.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ". وهذا حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في الصيام، باب: لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين. وأخرجه مسلم في الصيام كذلك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ وَلَا تَصِلُوا رَمَضَانَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذلِكَ يَوْمًا كَانَ يَصومُهُ أَحَدُكمْ". أخرجه البغوي وإسناده جيد. وأخرجه الترمذي في الصوم. ا. هـ.
وعن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأُتي بشاة مصلية فقال: كلوا. فتنحى بعض القوم فقال: إنِّي صائم. فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البغوي، وأبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي وابن ماجه. وعلقه البخاري بصيغة الجزم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وعلى هذا العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم؛ أنه لا يصوم يوم الشك عن رمضان؛ منهم مالك، وسفيان، وابن المبارك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. قالوا جميعًا: لو صامه ثم ظهر أنه كان من رمضان، كان عليه أن يقضي يومًا مكانه. =
وَنُدِبَ إِمْسَاكُهُ لِيُتَحَقَّقَ، لا لِتَزْكِيَةِ شاهِدَيْنِ، أَوْ زَوالِ عُذْرٍ مُبَاحٍ لَهُ الْفِطْرُ مَعَ الْعِلِمْ بِرمَضَانَ كُمُضْطَرٍّ؛ فَلِقَادِمٍ وَطءُ زَوْجَةٍ طَهُرَتْ، وكَفُّ لِسَانٍ (1)، وَتَعْجِيلُ
= وقول المؤلف: وصيم عادة وتطوعًا إلخ. يرد به قول طائفة من أهل العلم؛ لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع ولا غير ذلك، للنهي عن صومه. يروى ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس. وبه قال عكرمة.
وقوله رحمه الله: لا احتياطًا، رد منه لما ذهب إليه أحمد بن حنبل، مما كان ابن عمر يفعله؛ من صيام يوم الشك من رمضان؛ إذا كانت السماء فيها سحاب أو قترة، وإن كانت السماء صحوًا ترك صيامه. وقد تقدم ذكر ذلك. والله تعالى الموفق.
(1)
قوله رحمه الله: وندب إمساكه ليتحقق، يريد به - والله تعالى أعلم - أنه يستحب الإِمساك عن الإِفطار في يوم الشك، إلى أن يتحقق الأمر؛ بأن يأتي المسافرون من نواحي البلد، وينتشر الناس، وتسمع الأخبار. فإن ارتفع النهار ولم يظهر موجب الصيام أفطر الناس. ا. هـ. الحطاب.
وقوله: لا لتزكية شاهدين، ظاهر كلامه هنا الإِطلاق، وينبغي أن يقيد بما إذا كان أمر الشاهدين في التزكية يتأخر ليوافق ذلك المنقول. ا. هـ. الحطاب.
وقوله: أو زوال عذر مباح له الفطر مع العلم برمضان، يريد به - والله تعالى أعلم - أنه إذا كان مفطرًا لأجل عذر - يباح لأجله الفطر. مع العلم برمضان - ثم زال عذره، فلا يستحب له الإِمساك. فإذا زال الحيض أو النفاس مثلًا في أثناء نهار رمضان، أو زال اضطرار المضطر للأكل أو الشرب، فلا يستحب لهم الإِمساك، ويجوز لهم التمادي على تعاطي المفطر. واحترز بقوله: مع العلم برمضان عن الناس، ومن أفطر يوم الشك ثم ثبت أنه من رمضان، فيجب الإِمساك.
وقوله: وكف لسان، يريد به - والله تعالى أعلم - أنه يستحب للصائم أن يكف لسانه عن الإكثار من الكلام المباح، أي أن يكف عن فضول الكلام. وأما الكلام المحرم فيجب كف اللسان عنه في غير رمضان، ويتأكد ذلك في رمضان؛ لما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خَمْسٌ يُفَطِّرْنَ الصَّائِمَ: الْكَذِبُ وَالْغَيْبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ وَالنَّظَر بِشَهْوِةٍ" قال الحطاب: ذكره في الإِحياء. وقال العراقي في تخريجه: ذكره الأزدي في الضعفاء.
وقال القسطلاني في شرح البخاري: والجمهور على أن الكذب والغيبة والنميمة لا تفسد الصوم. =
فِطْرٍ (1). وتَأْخِيرُ سُحُورٍ (2).
= والمعروف عن مجاهد خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب. رواه ابن أبي شيبة. ثم نقل عن السبكي أن ملابسة المعاصي تمنع ثواب الصوم إجماعًا. قال: وفيه نظر لمشقة الإِحتراز. قال الحطاب: ويشهد لما ذكره السبكي حديث البخاري: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزَّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". وروى أصحاب السنن، ورواه الطبراني بلفظ:"مَنْ لَمْ يَدَعِ الْخَنَا وَالْكَذِبَ فَلَا حَاجَةَ لِلَّهِ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". ذكره في الترغيب والترهيب. وحديث ابن ماجه والنسائي: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ". رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. ا. هـ. بواسطة نقل الحطَّاب وبتصرف.
(1)
وقوله رحمه الله: وتعجيل فطر، دليله حديث سهل بن سعد السَّاعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَزَال النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ". وهو حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في الصيام، باب: تعجيل الفطر. وأخرجه مسلم، وأخرجه مالك في الموطإ، والعمل عليه عند أهل العلم؛ استحبوا تعجيل الفطر بعد ما يتيقن غروب الشمس. قال البغوي: قال عبد الكريم بن أبي المخارق: من عمل النبوة تعجيل الفطر والاستيناء بالسحور. ا. هـ.
وفي صحيح مسلم، وفي البغوي عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإِفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإِفطار ويؤخر الصلاة؟.
قالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟. قلنا: عبد الله بن مسعود. قالت: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآخر أبو موسى.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف من حديث عمرو بن ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطارًا وَأبطأهم سحورًا. وإسناده صحيح، كما قال ابن حجر في فتح الباري جـ 4/ ص 173.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ سبحانه وتعالى: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا". وفي رواية: "قَالَ اللهُ عز وجل" .. الحديث. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: وتأخير سحور، هو فضيلتان؛ فضيلة السحور وفضيلة تأخيره. أما في فضل السحور، فقد قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}
(1)
.
قال البغوي: فالخيط الأبيض بياض النهار، والخيط الأسود سواد الليل. وأخرج البغوي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ". وقال: هذا حديث صحيح.
وأخرج كذلك عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً". وهذا حديث متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فَصْلُ مَا بَيْنَ صيَامِنَا وَصيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ". رواه البغوي، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
واستحب أهل العلم تأخير السحور، كما تقدم عند الكلام على تعجيل الفطور. قال البغوي: وروى أنس. قال زيد بن ثابت: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟. قال: خمسين آية. أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه. وفي مصنف عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَحِّرْنَا يَا أَنَسُ؛ إِنِّي أُرِيدُ الصَّيَامَ فَأَطْعِمْنِي شَيْئًا". فجئته بتمر وإناء فيه ماء، بعد ما أذَّن بلال. فقال:"يَا أَنَسُ، أُنْظُرْ إِنْسَانًا يَأْكُلْ مَعِي". فدعوت زيد بن ثابت فقال: يا رسول الله، إِني شربت شربة من سويق، وأنا أريد الصيام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ". فتسحر معه. ثم صلّى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم خرج فأقيمت الصلاة. وهذا الحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان، كما نسبه إليهما الدكتور الأعظمي في تعليقه على المصنف، وعزاه للفتح جـ 2/ ص 36.
وفي المصنف كذلك عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر فقال: الصلاة يا رسول الله. قال: فثبت كما هو يأكل. ثم أتاه فقال: الصلاة. وهو حاله. ثم أتاه الثالثة فقال: الصلاة يا رسول الله! قد والله أصبحتَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَم اللهُ بِلَالًا. لَوْلَا بِلَالٌ لَرَجَوْنَا أَنْ يُرَخَّصَ لَنَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ". =
(1)
سورة البقرة: 187.
وَصَوْمٌ بِسَفَرٍ وَإِنْ عَلِمَ دُخُولَهُ بَعْدَ الْفَجْرِ (1).
= وأخرج عبد الرزاق في المصنف أيضًا عن ابن عيينة عن شبيب بن غرقدة عن حِبَّان ابن الحارث قال: أتيت عليًا وهو معسكر بدير أبي موسى، وهو يتسحر، فقال: ادْنُ، قال: قلت: إني أريد الصيام. قال: وأنا أريد الصيام. فلما فرغ قال للمؤذن: أقم الصلاة. ا. هـ. ولولا الاختصار وخشية الطول لجئت بمزيد من ذلك.
(1)
وقوله رحمه الله: وصوم بسفر، في المدونة: قال مالك: الصوم في السفر أحب إليَّ لمن قوي عليه، وكل واسع. ا. هـ. بنقل المواق.
ودليل أن الصوم أفضل للمسافر من الفطر قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
(1)
الآية. وقول الإمام: وكل واسع، دليله الحديث المتفق عليه؛ عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟. وكان كثير الصيام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ". ومن أدلة ذلك أيضًا الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك أنه قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
وعن أبي سعيد قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؛ فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، أخرجه البغوي وقال: رواه مسلم عن عمرو النقاد، عن إسماعيل عن إبراهيم عن الجريري. وهذه الأحاديث تدل على ما نقلناه عن إمام دار الهجرة؛ من أن الكل واسع. وهوقول عامة أهل العلم إلا ما نقل عن ابن عمر قوله: إن صام في السفر قضى في الحضر. وعن ابن عباس أنه قال: لا يجوز الصوم في السفر. وإليه ذهب من المتأخرين داود بن علي الظاهري.
ثم إن أهل العلم اختلفوا في أفضل الأمرين، فذهب مالك إلى أن الصوم أفضل لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
(2)
. وهو قول أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص. وبه قال النخعي، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب ابن المبارك، والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي.
وقال قوم: الفطر أفضل. يروى ذلك عن ابن عمر. وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي. وبه قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 184.
وَصَوْمُ عَرَفَةَ إِنْ لَمْ يَحُجَّ، وَعَشْرِ ذِي الحجة (1)، وعاشوراءَ وتَاسُوعَاءَ وَالْمُحَرَّمِ (2) وَرَجَبٍ (3) وَشَعْبَانَ (4)
= وقال قوم: أفضل الأمرين أيسرهما عليه، لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(1)
، قال قتادة وعمر بن عبد العزيز، أما الذي يجهده الصوم ولا يطيقه، فالأولى به أن يفطر؛ لحديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه، فقال:"مَا هذَا"؟ قالوا: صائم. فقال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ". هذا حديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ويحتج به من لا يرى الصوم في السفر. وهو عند عامة العلماء مقصور على من يجهده الصوم، ويؤديه إلى مثل الحالة التي صار إليها الرجل الذي جاء في الحديث.
وقوله: وإن علم دخوله بعد الفجر، هو لبيان أن الندب مستصحب، أي ندب صوم المسافر، ولو علم أنه يدخل أول النهار؛ إذ قد يتوهم أن الصوم حينئذ واجب، وليس كذلك. انظر المواق.
(1)
وقوله رحمه الله: وصوم عرفة إن لم يحج، دليله قوله صلى الله عليه وسلم:"وَصِيَامُ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ". رواه مسلم وأبو داود.
أما إذا كان حاجًا فإنه يكره له صومه لحديث أبي داود: نهى عليه الصلاة والسلام عن صيام عرفة بعرفة، ولأنه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة، وكان به مفطرًا.
أخرج عبد الرزاق في المصنف، عن معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة؛ هيأت له أم الفضل لبنًا فشرب بعرفة. ا. هـ.
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن عمرو الثوري، عن سالم أبي النضر، عن عمير مولى أم الفضل قال: شكُّوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقالت أم الفضل: أنا أعلم لكم ذلك. فأرسلت إليه بقعب من لبن فشرب منه. أخرجه مالك وأخرجه الشيخان من طريقه.
وأخرج المجد في منتقى الأخبار حديث حفصة رضي الله عنها قالت: أربع لم يكن يدعهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة، وقال: رواه أحمد والنسائي. =
(1)
سورة البقرة: 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله رحمه الله: وعشر ذي الحجة، أي لما جاء في فضل العبادة والترغيب فيها. ولا يخفى أن المستحب صوم تسعة أيام منها لورود النهي عن ححوم يوم النحر.
وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة؛ يضاعف العمل فيها، ويستحب الإِجتهاد في العبادة فيها؛ لما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ". قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذلِكَ بِشَئٍ". قال ابن قدامة: وهذا حديث صحيح. وروى أبو داود عن بعض أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء.
(2)
وقوله رحمه الله: وعاشوراء وتاسوعاء والمحرم، أما دليل فضيلة صوم عاشوراء، فحديث ابن عباس المتفق عليه قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم يبتغي فضله إلا صيام رمضان وهذا اليوم؛ يومَ عاشوراء. ا. هـ.
وعن ابن عباس أيضًا قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك فقالوا: هو اليوم الذي أظفر الله موسى وبني اسرائيل على فرعون. ونحن نصومه تعظيمًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أولَى بِمُوسَى". وأمر بصومه. أ. هـ. وهذا حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع، وأخرجه مسلم في الصيام.
وكان صوم يوم عاشوراء فرضًا في الإِبتداء، قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان، فمن شاء صام عاشوراء ومن شاء ترك؛ روي ذلك عن عائشة وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة رضي الله عنهم أجمعين، فأما حديث عائشة وابن عمر ففي الصحيحين، وأما حديث عبد الله بن مسعود وجابر بن سمرة ففي صحيح مسلم.
وقوله رحمه الله: وتاسوعاء، هو اليوم التاسع من المحرم؛ فقد جاء في صومه ما رواه وكيع عن حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس - وهو متوسد رداءه في زمزم - فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، أي يوم أصومه؟. قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، ثم أصبح من التاسع صائمًا. قال: أهكذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم؟. قال: نعم. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال البغوي: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بن الجراح.
واستحب جماعة من أهل العلم أن يصوم المرء اليوم التاسع. يروى عن ابن عباس أنه قال: صوموا اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. وإسناده صحيح. وصح أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، صُمْنَا يَوْمَ التَّاسِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ". قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن سعيد بن أبي مريم.
وقوله رحمه الله: والمحرم، هو لما ثبت في صحيح مسلم عن قتيبة، عن أبي عوانة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَّرمُ". ا. هـ.
(3)
وقوله رحمه الله: ورجب، نقل الحطاب هنا عن ابن حجر أنه لم يرد في فطر رجب، ولا في صيامه ولا في صيام شيءٍ منه معين، حديث صحيح يصلح للإِحتجاج به. انظره. ولذا قال: ولو قال المصنف: والمحرم وشعبان لوافق النصوص. ا. هـ. الدسوقي.
تنبيه: لقد نقل الحطاب هنا موجزًا من [تبيين العجب مما ورد في فضل رجب] ذكر فيه كثيرًا مما ورد من الأحاديث الموضوعة والواهية، التي لا يعول عليها، والتي أخرجها ابن حجر العسقلاني في تأليفه آنف الذكر. راجعه إن شئت فهو مهم. وبالله تعالى التوفيق.
(4)
وقوله رحمه الله: وشعبان، دليله أن أم سلمة قالت: إِن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًّا إلا شعبان يصل به رمضان. قال في المنتقى: رواه الخمسة. ولفظ ابن ماجه: كان يصوم شهري شعبان ورمضان.
وعن عائشة قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان؛ فإنه كان يصومه كله. وفي لفظ. ما
كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلًا، بل كان يصومه كله. وفي لفظ: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان. متفق على جميع رواياته.
واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان. انظر تفصيل ذلك في نيل الأوطار.
تنبيه: نفي ورود شيء يعول عليه في خصوص رجب، أو يوم من أيامه، لا يمنع من دخوله مما =
وَإمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ اسْلَمَ. وَقَضَاؤُهُ (1)، وَتَعجِيلُ قَضَاءٍ، وَتَتَابُعُهُ؛ كَكُلِّ صَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْ تَتَابُعُهُ (2). وَبَدْءٌ بِكَصَوْمِ تَمَتُّعٍ، إِنْ لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ (3). وَفدْيَةٌ لِهَرِمٍ أو عَطِشٍ (4).
= ورد عمومًا؛ مثل حديث أبي داود: "صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ. صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ. صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرَكْ". لأن رجب أحد هذه الأشهر الحرم. والله تعالى ولي التوفيق.
(1)
وقوله رحمه الله: وإمساك بقية اليوم لمن أسلم، وقضاؤه، هو عطف على ما يستحب. وتبع فيه مذهب المدونة ففيها ما نصه: وقال مالك: من أسلم في رمضان فليس عليه قضاء ما مضى منه، وليصم ما بقي؛ قلت: أرأيت اليوم الذي أسلم فيه؟. فقال: قال مالك: أحب إليَّ أن يقضيه. ولست أرى عليه قضاءه واجبًا. ا. هـ. منه. بلفظه.
وفي مصنف عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: إذا أسلم النصراني في بعض رمضان صام ما مضى منه، وإن أسلم في آخر النهار صام ذلك اليوم. ا. هـ. وفي المصنف أحاديث أخر تشهد لذلك. والله الموفق.
(2)
وقوله وتعجيل قضاء وتتابعه، دليل جواز تأخير القضاء ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أخبرني يحيى بن سعيد أنه سمع أبا مسلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت عائشة تقول: قد كان يكون عليّ الشيء من رمضان، ثم لا أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان. قال: فظننت أن ذلك لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم.
ودليل جواز عدم التتابع في القضاء ما أخرجه عبد الرزاق أيضًا قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن ابن المسيب قال: صمه كيف شئت، واحص العدد.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: صم كيف شئت. قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(1)
الآية.
وندب تعجيل القضاء هو للمبادرة إلى امتثال الطاعات، وذلك أولى من التراخي فيه. =
(1)
سورة البقرة: 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: ككل صوم يلزم تتابعه، في المدونة ما نصه: ما كان من صيام الشهور فهو متتابع؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
(1)
وما كان من صيام الأيام التي في القرآن؛ مثل قوله في قضاء رمضان: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(2)
. قال: فأحب إليَّ أن يتابع بين ذلك، فإن لم يفعل أجزأه. قلت: فإن صام رجل كفارة اليمين متفرقًا، أيجزئه في قول مالك؟. فقال: نعم. وقال مالك: وإن فرق صيام ثلاثة أيام في الحج أجزأه. قال مالك: وإن صام يوم التروية ويوم عرفة ويومًا من آخر أيام التشريق أجزأه. قلت: أرأيت صيام الصيد والمتعة، أيتابع بينه في قول مالك، أم يفرقه إن أحب؟. فقال مالك: أحب إليَّ أن يتابع؛ فإن فرق لم يكن عليه شيء وأجزأ عنه. ا. هـ. منه بلفظه.
(3)
وقوله: وبدء بكصوم تمتع إن لم يضق الوقت، من المدونة: ومن عليه صوم هدي وقضاء رمضان، فليبدأ بصوم الهدي إن لم يرهقه رمضان الثاني، فليقض رمضان ثم يقضي صيام الهدي بعد ذلك. ا. هـ. منه بنقل المراق.
(4)
وقوله: وفدية لهرم أو عطش، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن ثابت البناني قال: كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصيام، فكان يفطر ويطعم. ا. هـ. علقه البخاري. قال ابن حجر: رواه عبد بن حميد من طريق النضر بن أنس عن أنس. "بمعناه". وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير قال: كان يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}
(3)
قال: هي في الشيخ الكبير والعجوز إذا لم يستطيعا الصيام، فعليهما أن يطعما كل يوم مسكينًا - كل واحد منهما - فإن لم يجدا فلا شيء عليهما. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة بن عمار قال: سألت طاوسًا عن أمي - وكان بها عُطاش - فلم تستطع أن تصوم رمضان، فقال: تطعم كل يوم مسكينًا مُدَّ بُرٍّ. قال: قلت: بأَيِّ مُدٍّ؟. قال: مُدّ أرضك. ا. هـ.
(1)
سورة النساء: 92.
(2)
سورة البقرة: 185.
(3)
سورة البقرة: 184.
وَصوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (1)، وكُرِهَ كَوْنُهَا الْبِيضَ (2)، كَسِتَّةٍ مِنْ
(1)
وقوله رحمه الله: وصوم ثلاثة من كل شهر؛ أخرج البغوي بسنده عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَاكَ صِيَامُ الدَّهْرِ. فَأَنْزَل اللهُ سبحانه وتعالى تَصْدِيقَ ذلِكَ في كِتَابِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
(1)
. الْيَوْمُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ". ا. هـ. وهو في سنن الترمذي. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وصححه ابن خزيمة.
وعن أبي هريرة: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. ا. هـ. أخرجه البخاري ومسلم.
وفي البغوي عن شعبة عن يزيد الرِّشكِ. قال: سمعت معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم. قلت: من أيه كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيِّهِ صام. وقال الهيثم: من أيِّهِ كان يصوم. ا. هـ. وهذا الحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي.
(2)
وقوله رحمه الله: وكره كونها البيض، لم أقف إلا على دديل استحباب صومها؛ ففي البغوي ما نصه: عن أبي ذرٍّ قال صلى الله عليه وسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ صَائِمًا مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ اثامٍ، فَلْيَصُمِ الثَّلَاثَ الْبِيضَ". قال البغوي هذا حديث حسن. ا. هـ.
وهو في مسند أحمد في موضعين. وصححه ابن حبان. وأخرجه النسائي أيضًا.
وفي الحطاب: وكذلك كره مالك رحمه الله أن يتعمد صيام الأيام البيض - وهو يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، على ما روي فيها - مخافة أن يجعل صيامها واجبا. ا. هـ. منه.
قلت: وهل لمالك أن يكره ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم؟!. أما أنا فإني أقول: إذا ثبت صحة نقل كراهة صيامها عن مالك، تعين القول بأن الحديث بالأمر بصومها لم يبلغه؛ وذلك لشدة ورع مالك، وحرصه على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت أنه سأله سائل عن مسألة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا .. فقال السائل: أرأيت؟. فغضب مالك وقال: أقول لك: قال رسول الله، فتقول لي أرأيت؟!. وقرأ:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(2)
. وبالله تعالى التوفيق. انظر البغوي جـ 1.
(1)
سورة الأنعام: 16.
(2)
سورة النور: 63.
شَوَّالٍ (1)، وذَوْقُ مِلْحٍ وعِلْكٍ ثُمَّ يَمُجُّهُ (2). ومُدَاواةُ حَفْرٍ زمَنَهُ إِلَّا لِخَوْفِ ضَرَرٍ (3).
(1)
وقوله: كستة من شوال، الرأي عندي - والذي يليق برسوخ قدم الإِمام مالك في العلم - أنه إنما كره صومها مباشرة بعد الفطر، خشية التلبيس على العوام، وأن يظنوا أنها من رمضان، كما هو مشاهد الآن في بعض الأقاليم في المشرق، وإن كراهة ذلك أيضا مقيدة بمن يقتدى به، وإلا فكيف يتصور من مالك أن يقول بكراهة صوم ستة أيام من شوال مطلقًا؟! بعد ما يصله قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَذلِكَ كصِيَامِ الدَّهْرِ". أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي.
ونقل ابن القيم في تهذيب السنن: قال ابن عبد البر: لم يبلغ مالكًا حديث أبي أيوب؛ على أنه حديث مدني، والإِحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه مالك قد بينه وأوضحه؛ خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يسبق ذلك إلى العامة. ا. هـ. محل الغرض بواسطة نقل المعلق على شرح السنة جـ 6/ ص 332.
قلت: ويؤيد كراهة اتصال الصوم بيوم الفطر ما أخرجه عبد الرزاق قال: وسألت معمرًا عن صيام الست التي بعد يوم الفطر، وقالوا له: تصام بعد الفطر بيوم؟. فقال: معاذ الله!. إنما هي أيام عيد وأكل وشرب، ولكن تصام ثلاثة أيام قبل أيام الغر، أو ثلاثة أيام الغر أو بعدها. وأيام الغر: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر. وسألنا عبد الرزاق عمن يصوم يوم الثاني فكره ذلك، وأباه إباء شديدًا. ا. هـ.
(2)
وقوله: وذوق كملح وعلك ثم يمجه، من المدونة ما نصه: كره مالك للصائم ذوق العسل والملح وشبهه إن لم يدخل جوفه، وكره مضغ العلك أو مضغ الطعام للصبي. ا. هـ. بنقل المواق.
وفي المصنف أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: سمعت قتادة يسأل عن العلك، فقال: إني لأكرهه للصائم وغير الصائم. ا. هـ. وفيه غير ذلك مما يشهد له.
وأما بالنسبة لمضغ الطعام للصبي، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف: بابُ المرأة تمضغ لصبيها؛ وهي صائمة وتذوق الشيء؛ عبد الرزاق عن معمر قال: سألت حمادًا عن المرأة الصائمة تذوق المرقة، فلم ير عليها في ذلك بأسًا. قال: وإنهم ليقولون: ما شيء أبلغ في ذلك من الماء يمضمض به الصائم. ا. هـ. =
وَنَذْرُ يَوْمٍ مُكَّررٍ (1)، وَمُقَدِّمَةُ جِمَاعٍ كَقُبْلَةٍ وَفكْرٍ - إنْ عُلِمَتِ السَّلَامَةُ - وإلَّا حَرُمَتْ (2). وحِجَامَةُ مَرِيضٍ فَقَطْ (3)، وتَطَوُّعٌ قَبْلَ نَذْرٍ أوْ قَضَاءٍ (4).
= وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم: كان لا يرى بأسًا أن تمضغ المرأة الصائمة لصبيها. ا. هـ. وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن فضيل، عن مغيرة عن إبراهيم وزاد: ما لم يبلغ حلقها.
وأخرج عبد الرزاق عن إسماعيل بن عبد الله عن يونس عن الحسن قال: رأيته يمضغ للصبي طعامًا وهو صائم. قال: يمضغه ثم يخرجه من فيه، يضعه في فم الصبي. قال يونس:
وكنت أدخل عليه وهو صائم في شدة الحر، فيتمضمض بالماء يمجه من الظهر إلى العصر، وذلك في رجب. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: ومداواة حَفْر زمنه إلا لخوف ضرر، قال في المدونة هنا عاطف على ما يكره: أو يداوي الحفر في فيه ويمج الدواء. وقوله: إلا لخوف ضرر؛ أي لأن الضرر يزال؛ وهي إحدى القواعد الخمس أمهات الفقه. والله الموفق.
(1)
وقوله رحمه الله: ونذر يوم مكرر، قال المواق: من المدونة قال مالك: من نذر صوم كل خميس يأتي لزمه، فإن أفطر منه خميسًا متعمدًا قضاه. وكره مالك أن ينذر صوم يوم يوقته. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ومقدمة جماع كقبلة وفكر إن علصت السلامة وإلا حرمت، جاء في مصنف عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن قبلة الصائم، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. فقال: ومن ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار أنه أخبره أنه قبَّل امرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فأمر امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ رَسُولَ اللهِ يَفْعَلُ ذلِكَ". فأخبرته امرأته فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يرخص له في أشياء، فارجعي إليه فقولي له ذلك. فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللهِ".
وفي الصحيحين عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم، ولكن كان أملكَكُم لإِرْبهِ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والحاصل أن أهل العلم اختلفوا في جواز القبلة للصائم؛ فرخص فيها عمر بن الخطاب وأبو هريرة وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وإليه ذهب عطاء والشعبي والحسن. وقال الشافعي: لا بأس إذا لم تحرك القبلة شهوته. وبه قال أحمد وإسحاق. وقال ابن عباس: يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ. وإليه ذهب مالك بن أنس.
أما المباشرة للصائم، فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: ينهى عن لمس الصائم وتجريده.
وأخرج عبد الرزاق عن مالك عن نافع عن ابن عمر: كان ينهى عن المباشرة للصائم. وهذا الأثر أخرجه مالك في الموطإ.
(3)
وقوله رحمه الله: وحجامة مريض فقط، قال في المدونة: وقال مالك: إنما أكره الحجامة للصائم لموضع التغرير؛ فلو احتجم رجل فسلم لم يكن عليه شيء. ابن وهب: عن هشام بن سعد وسفيان الثوري عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرُ مِنْهُنَّ الصَّائِمُ: الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالْحُلُمُ". ابن وهب.
وذكر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. ا. هـ.
قلت: اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في الحجامة للصائم؛ فرخص فيها قوم، محتجين بحديث ابن عباس المتقدم. وهو صحيح أخرجه محمد في صحيحه، باب: الحجامة والقيء للصائم. وفي الطب، باب: أي ساعة يحتجم. وهو مروي عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صيامًا.
وقال بكير عن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهى. علقه البخاري في الصحيح. وقد وصله في التاريخ من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه.
واحتجم ابن الزبير وهو صائم. أخرجه مالك في الموطإ وإسناده صحيح. وهو في مصنف عبد الرزاق. وإلى هذا ذهب مالك وسفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وكره قوم الحجامة للصائم. وإليه ذهب مسروق والحسن وابن سيرين. وروي عن جماعة من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الصحابة أنهم كانوا يحتجمون بالليل، منهم ابن عمر. أخرجه عنه مالك وعبد الرزاق. ومنهم أبو موسى الأشعري وأنس بن مالك.
وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي: إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وعن أنس أنه سئل: أكنتم تكرهرن الحجامة للصائم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟. قال: لا، إلَّا من أجل الضعف. أخرجه البخاري.
وقال أحمد وإسحاق: إن الحجامة تفطر الصائم. وقالا: يجب القضاء على الحاجم والمحجوم، ولا كفارة عليهما. والحجة في ذلك حديث شداد بن أوس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلًا يحتجم لثمانِ عشرة خلت من رمضان، فقال وهو آخذ بيدي:"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ". أخرجه أبو داود، والدارمي، وعبد الرزاق، وابن ماجه، والبيهقي، وروي مثله عن رافع بن خديج وثوبان.
وتأول بعض من رخص في الحجامة للصائم هذا الحديث فقال: معنى أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُورمُ، أي تعرضا للإِفطار؛ أما الحاجم، فلأنه لا يؤمن أن يصل الدم إلى جوفه. وأما المحجوم، فلتعرضه للضعف. وقيل في تأويله غير ذلك. ا. هـ. بتصرف من شرح السنة للبغوي.
(4)
وقوله رحمه الله: وتطوع قبل نذر أو قضاء، قال المواق: في الموطإ: سئل ابن المسيب عن رجل نذر صيام شهر، له أن يتطوع؟. قال: ليبدأ بالنذر.
قاق الباجي: النذر هو ما ينذره الإِنسان، ويلزمه نفسه بالقول قبل الدخول فيه. والتطوع ما لا يلزمه بالقول، وإنما يدخل فيه اختيارًا، فيلزمه بالدخول فيه إتمامه، فمن النظر أن يبدأ بما لزمه لتبرأ ذمته منه، ثم يتطوع. ا. هـ. منه.
وَمَنَ لَا تُمْكِنُهُ رُؤْيةٌ وَلَا غَيْرُهَا - كَأسِيرٍ - كَمَّلَ الشُّهورَ، وَإِنِ الْتَبسَتْ وظَنَّ شَهْرًا صَامَهُ وإِلَّا تَخَيَّرَ وَأَجْزَأَ مَا بَعْدَهُ بالْعَدَدِ لَا قَبْلَهُ، أَوْ بَقِيَ عَلَى شَكِّهِ. وفِي مُصَادَفَتِهِ تَرَدُّدٌ (1).
وَصِحَّتُهُ مُطْلَقًا بِنِيَّةٍ مُبَيَّتَةٍ أوْ مَعَ الْفَجْرِ (2)، وَكَفَتْ نِيَّةٌ لِمَا يَجِبُ تَتَابُعُهُ (3).
(1)
وقوله رحمه الله: ومن لا تمكنه رؤية ولا غيرها كأسير كمّل الشهور ألخ، ليس فيه نص، فما هو إلا اجتهاد. وتقريب ذلك للذهن أن من علم الشهور لا تمكنه رؤية للهلال ولا غيرها من إخبار عنه - كأسير وسجين - بنى في صيام رمضان بعينه على الشهور كلها، كاملة، كما لو توالى غيمها، وصام رمضان كذلك. وهذا عرف رمضان من غيره ولم تلتبس عليه الشهور، وإنما التبست عليه معرفة كمال الأهلة. وإن التبست عليه الشهور، فلم يعرف رمضان من غيره، وظن شهرًا أنه رمضان صامه، وإلَّا يظن بل تساوت عنده الاحتمالات تخيَّر شهرًا وصامه، فإن فعل ما طلب منه فله أحوال أربعة هي: إنه إن تبين أن ما صامه في صورتي الظن والتخيير هوما بعد رمضان، أجزأ ويكون قضاء عنه، ونابت نية الأداء عن القضاء. وإن تبين أن ما صامه شوال، وكانا هو ورمضان كاملين أو ناقصين، قضى يومًا عن يوم العيد. وإن كان الكامل رمضان فقط قضى يومين، وبالعكس لا قضاء. وإن تبين أن ما صامه قبله وإن تعددت السنون، أو بقي على شكله في صومه؛ لظن أو تخير فلا يجزئ فيهما. وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: يجزئه في البقاء على الشك، لأن فرضه الاجتهاد، وقد فعل ما يجب عليه، فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه. ورجحه ابن يونس.
وإن صادف الشهر في تخيره أجزأ صومه على المعتمد. ا. هـ. الدردير بتصرف. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله رحمه الله: وصحته مطلقًا بنية مبيتة أو مع الفجر، في الحطَّاب ما نصه: يعني أن شرط صحة الصوم مطلقًا، أي فرضًا كان أو نفلًا، معينًا أو غير معين، أن يكون بنية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". رواه الشيخان. وقوله: "لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ". رواه أصحاب السنن الأربعة. ولا يقال: الصوم ليس بعمل فلا يتناوله الحديث. وإنما هو كف، لأننا نقول: الكف عمل. ولقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ". وقول الطحاوي: إن الاستثناء منقطع بعيد. قاله في التوضيح.
ويشترط في صحة الصوم أيضًا أن تكون النية مبيتة من الليل؛ للحديث المتقدم. ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر؛ لأن الأصل في النية أن تكون مقارنة لأول العبادة، وإنما جوز الشرع تقديمها لمشقة تحرير الاقتران. وحكى في البيان قولًا بأنه لا يصح إيقاعها مع الفجر. وقال في فرض العين: وصفتها أن تكون مبيتة من الليل للحديث المتقدم. ويصح أن يكون اقترانها مع الفجر للصوم، سواء كان صوم واجب أو تطوع أو نذر أو كفارة، وأن تكون مبيتة من الليل أو مقارنة للفجر؛ وأن تكون جازمة من غير تردد. وينوي أداء فرض رمضان. ا. هـ. منه بلفظه.
قلت: أخرج البغوي، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد، والدارقطني، والطحاوي، والبيهقي، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ لَمْ يُجْمِعْ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيامَ لَهُ". وهذا لفظ البغوي. وقال: اتفق أهل العلم أن الصوم المفروض إذا كان قضاءًا أو كفارة أو نذرًا مطلقًا، أنه لا يصح إلا بان ينوى له قبل طلوع الفجر، أما أداء صوم شهر رمضان، والنذر المعين، فاختلفوا فيه؛ فذهب أكثرهم إلى أن تبييت النية فيه شرط؛ لأنه صوم مفروض كالقضاء والنذر المطلق. وهو قول عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. إلى أن قال: وذهب أصحاب الرأي إلى أن أداء رمضان، والنذر المعين، يجوز بنية من النهار قبل الزوال. أمّا صوم التطوع، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يجوز بنية من النهار قبل الزوال. وروي أن حذيفة بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس فصام.
وقال جابر بن زيد: لا يجوز صوم التطوع إلا بنية من الليل كالفرض. وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصوم تطوعًا حتى يجمع من الليل.
واستدل من أجاز صوم التطوع بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: "أعِنْدَكِ غَدَاءٌ"؟. فأقول: لا. فيقول: "إنِّي صَائِمٌ"؟. قالت: فأتاني يومًا فقلت: يا رسول الله، إنه أهديت لنا هدية. قال:"وَمَا هِيَ"؟. قلت: حيسٌ. قال: "أَمَّا إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا". قالت: ثم أكل. ا. هـ. وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة، عن وكيع عن =
لَا مَسْرُوِدٍ وَيَوْمٍ مُعَيَّنٍ. ورُوَيتْ عَلَى الإِكِتِفَاءِ فِيهِمَا (1)، لَا إِنِ انْقطَعَ تَتابُعُهُ
= طلحة بن يحيى. قال البغوي: وفيه دليل جواز نية التطوع من النهار، وأن المطوع بالصوم جائز له أن يفطر. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وكفت نية لما يجب تتابعه، قال الحطاب: يعني أن الصوم الذي يجب تتابعه، يكفي فيه نية واحدة في أول ليلة من بعد الغروب، والصوم الذي يجب تتابعه هو؛ رمضان في حق الصحيح، وكفارة القتل، والظهار، والفطر في رمضان، والصوم المنذور، فتكفي في ذلك كله نية واحدة في أول ليلة منه على المشهور، وعن مالك وجوب التبييت كل ليلة، قال في البيان: وهو شذوذ في المذهب. ا. هـ. منه.
وذكر البغوي: وحكي عن إسحاق أنه قال: إذا نوى أول ليلة من شهر رمضان صوم جميع الشهر أجزأه. قال: وظاهر الحديث يرده - يعني حديث صفية المتقدم - ويدل على ما قاله العامة؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفردة، فيقتضي نية على حدة.
قلت: يتخرج هذا الخلاف على القاعدة الخلافية التي عقدها علي الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
هل رمضان بعبادةٍ عُرِف
…
واحدة أم بعبادات ألف
عليه الإِكتفاءُ والتجديد
…
بنية وهل كذا المسرود
واليوم إن عيِّنَ أم تَجَدَّدُ
…
كَمتتابع بعذر يفقدُ
ومعنى الأبيات: هل رمضان عرف في الشرع بعبادة واحدة، أو هو عرف بأنه عبادات؟. ويبنى على ذلك من الفروع الاكتفاء بنية واحدة، أول ليلة من رمضان لجميع الشهر، هل يجزئ بناء على أنه عبادة واحدة، أو لا يجزئ بناء على أنه عبادات، فلابد من النية لكل ليلة؟. وهل الصوم المسرود يكتفي بنية واحدة، أو لابد من تجديد النية كل ليلة؟. إلى غير ذلك. ا. هـ.
(1)
وقوله: لا مسرود ويوم معين ألخ. يريد به - والله تعالى أعلم - أنه لا يكتفي بنية واحدة لصوم مسرود، أي متتابع؛ بلا وجوب؛ كصيام الدهر أو عام أو شهر أو أسبوع، تطوعًا بلا نذر، ويوم مكرر معين؛ ككل خميس أو اثنين، ولو عينه بالنذر، وكل ما لا يجب تتابعه؛ كقضاء رمضان وكفارة يمين وفدية وهدي وجزاء، وصيام رمضان في السفر أو المرض، فلابد في ذلك كله من تجديد النية كل ليلة. =
بِكَمَرضٍ أَوْ سَفَرٍ وَبنَقَاءٍ (1). ووجب إِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الفَجْرِ وإِنْ لَحْظَةً، وَمَعَ الْقَضَاءِ إن شَكّت. وبعقل (2).
= ورويت المدونة على الاكتفاء بنية واحدة في المسرود والنذر المعين، وهي رواية ضعيفة، حتى أن الحطاب قال: لم أقف على من رواها بالاكتفاء فيهما. وتكفي نية واحدة في واجب التتابع إن استمر تتابعه، لا إن انقطع التتابع بكمرض أوسفر، فلابد والحالة هذه من تجديد النية لو استمر في صومه.
وفي العتبية وفي المبسوطة: إن استمر المريض أو المسافر صائمًا فلا يحتاج إلى تجديد نية. وأدخلت الكاف - في قوله: بكمرض - الحيض والنفاس والجنون والإغماء والسكر؛ فتقطع النية وتجدد بعد زوالها لما بقي. ا. هـ. الإِكليل بتصرف. والله أعلم بأدلة ذلك.
(1)
وقوله: وبنقاء، يريد به - والله تعالى أعلم - أن النقاء من الدم شرط في صحة الصوم، بل وفي وجوبه. والدليل على عدم خطاب الحائض بالصوم الحديث المتفق عليه، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ"؟. قلن: بلى. قال: "ذلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا". ا. هـ. وقد تقدم الحديث بكامل لفظه، عند قول المصنف في الحيض: ومنع صحة صلاة وصوم ووجوبهما. ألخ.
وقوله: ووجب إن طهرت قبل الفجر وإن لحظة، يريد به - والله أعلم - أنها إن رأت القصة أو الجفوف مع طلوع الفجر، ونوت الصوم صح صومها، عملًا بقوله: أو مع الفجر. ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، أو لم تغتسل أصلًا؛ لأن الطهارة ليست شرطًا في صحة الصوم.
وقوله: ووجب مع القضاء إن شكت: هو على سبيل الاحتياط.
قال ابن رشد: وهذا بخلاف الصلاة التي شكت؛ هل طهرت في وقتها أو بعده؟. فلا تجب عليها. فإن قلت: الحيض مانع من وجوب الصلاة والصوم، والشك فيه موجود فيهما، فلِمَ وجب أداء الصوم دون الصلاة؟. قلت: سلطان الصلاة ذهب بخروج وقتها، بخلاف الصوم، فوقته إلى الغروب، وله حرمة، فلذا وجب إمساكه. ا. هـ. من الإِكليل. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله: وبعقل، يريد به - والله أعلم - أن العقل شرط في صحة الصوم.
وَإِنْ جُنَّ وَلَوْ سِنِينَ كَثِيرَةً، أو أُغْمِيَ يَوْمًا أو جُلَّهُ أو أقَلَّهُ ولَمْ يَسْلَمْ أَولَهُ فَالْقَضَاءُ، لَا إِنْ سَلِمَ ولَوْ نِصْفَهُ (1)، وَبِتَرْكِ جِمَاعٍ (2) وإخْرَاجِ مَنِيٍّ أو مَذِيٍّ وقَىْءٍ وَإيصَالِ مُتَحَلِّلٍ أوْ غَيْرِهِ - عَلَى المخْتَارِ - لِمَعِدَةٍ بِحُقْنَةٍ بِمَائِعٍ، أوْ حَلْقٍ وإنْ مِنْ أَنْفٍ وأُذُنٍ وعَيْنٍ، وبُخُورٍ وقَيْءٍ وبَلْغَمٍ أمْكَنَ طَرْحُهُ مُطْلَقًا.
(1)
وقوله: وإن جن ولو سنين ألخ. يريد به - والله أعلم - إن المكلف إن جن وترك الصوم لذلك، لعدم صحته منه، وأفاق بعد جنونه، قضى ما فاته من الصوم وجوبًا، شأنه في ذلك شأن الحائض والنفساء.
قلت: ومعلوم أن القضاء تدارك لما فات مما علم وجوبه. قال شيخ مشائخنا في مراقي السعود:
…
ثم القضا تداركًا لما
…
سبق الذي أوجبه قد علما
وعليه، فلا يتجه وجوب القضاء على فاقد العقل؛ لأنه ليس من أهل التكليف أصلًا، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ"
…
الحديث، وذكر منهم المجنون حتى يفيق، ولا يرد عليه تكليف الحائض بقضاء الصوم، وتكليف النائم بقضاء الصلاة؛ لورود النص بوجوب قضاء الإِثنين عنه صلى الله عليه وسلم وكلاهما معروف. نعم، إن قلنا: إن ذلك مفرع على شطر القاعدة الخلافية: هل القضاء بالأمر الأول وجوبه، أو هو لا يجب إلا بأمر جديد؟. أعني شطرها الأول حيث يقال: إنه وقت توجه الخطاب بوجوب رمضان كان بالغًا، فترتب في ذمته إلى أن يفيق فيجب عليه القضاء. وهذا تعسف بالنسبة لمن جن وهو بالغ، أما من جن وهو صبي، فلا يتوجه عليه بحال من الأحوال. والعلم عند الله تعالى. وهو ولى التوفيق.
(2)
وبترك جماع ألخ. قال الحطاب: ظاهر كلامه أن هذا شرط رابع. وقال الشارح: الأحسن أن يعد هذا من الأركان، إلا أن يكون المراد بالشرط؛ ما لا تصح الماهية بدونه، سواء كان داخلًا أو خارجًا. وهذا جار في أكثر الشروط التي ذكرها في هذا الباب.
قال: وفي الشامل: وركنه إمساك من طلوع الفجر الصادق للغروب، عن إيلاج حشفة أومثلها من مقطوعها، ولو بدبر أو فرج ميتة أو بهيمة، وإخراج مني ولا أثر للمستنكح منه ومن المذي. ا. هـ. انتهى منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال المواق: أما مسألة الجماع وإخراج المني فقال ابن بشير: لا خلاف أن الجماع وما في معناه - من استدعاء المني - محرم في الصوم.
وقال اللخمي: يجب الإِمساك عن الجماع وإن لم يكن إنزال، وعن الإِنزال وإن لم يكن جماع؛ كالذي يستمتع خارج الفرج. ولا يفسد بالإنزال عن الاحتلام، وإن كان ذلك مما يوجب الغسل.
وأما مسألة المذي فقال ابن رشد: المذي عن تذكر أو نظر - دون قصد اللذة - إن توبع ناقض، وأمَّا إن نظر على غير قصد أو تذكر، فأمذى دون أن يتابع النظر أو التذكر فقيل: عليه القضاء. وسمعه ابن القاسم في النظر، والتذكر محمول عليه. وقيل: إنه لا قضاء عليه إلا أن يتابع ذلك. وهذا القول رواه ابن القاسم عن مالك في التذكر، والنظر محمول عليه، إذ لا فرق بينهما. قال: وهذا القول أظهر؛ لأن المذي لا يجب به القضاء. عن الشافعي وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقد قال البغداديون: إن القضاء على من قبَّل أو أمذى - في مذهب مالك - إنما هو استحباب.
قال: وأما مسألة القيء، ففي المدونة. قال مالك: من ذرعه القيء في رمضان فلا شيء عليه، وإن تقيأ فعليه القضاء.
ابن رشد: قال ابن القاسم: والفريضة والنافلة في ذلك سواء.
ابن يونس: وعلل بعض أصحابنا هذا بأن الذي ذرعه القيء، يأمن أن يجوز ذلك منه إلى حلقه؛ لأنه يندفع اندفاعًا، ولأنه لا صنع له فيه، فأشبه الاحتلام، بخلاف الذي استدعى القيء. ا. هـ. منه. هذا، ولا يخفى أن مصدر هذا الاجتهاد. وبالله تعالى التوفيق.
قلت: أخرج الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والبغوي - واللفظ له - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ ذَرَعَهُ الْقَىْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضاءٌ. وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ". وأخرج ابخوي والترمذي - وإسناده ضعيف، وعلته من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ، وَالْقَئُ، وَالْاحْتِلَامُ".
أوْ غَالِبٍ مِنْ مَضمَضَةٍ أوْ سِوَاكٍ (1). وقَضَى فِي الْفَرْضِ مُطْلَقًا (2) وإِنْ بِصَبٍّ فِي حَلْقِهِ نَائِمًا؛ كَمُجَامَعَةِ نَائِمَةٍ.
(1)
وقوله: أو غالب من مضمضة أو سواك ألخ، فقد جاء في مصنف عبد الرزاق ما نصه: باب المضمضة للصائم: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن المضمضة للصائم لغير الصلاة فقال: ما أكرهه إلا لقول أبي هريرة، سمعته يقول: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم؟. قال: لا يضره، وماذا بقي في فيه؟.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول: رأيت عثمان بن أبي العاصر بعرفة - وهو صائم - يمجُّ الماء ويصب على نفسه الماء. قال: وكان الحسن يمضمض وهو صائم ثم يمجُّه، وذلك في شدة الحر.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرت عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالعَرْجِ، كان يصب على رأسه من الماء وهو صائم. ا. هـ.
وهذا حديث أخرجه مالك عن سُميّ، عن أبي بكر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولما ذكر قال البغوي: لو صب الماء على رأسه، أو انغمس في الماء، لم يفسد صومه، وإنْ وجد برده في باطنه.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصب الماء على رأسه - وهو صائم - من العطش. وعن أنس: لي أَبزَنٌ أَتَقَحم فيه وأنا صائم. والأبزن - بفتح فسكون ففتح - حجر محفور فيه نحو الحوض - وهي كلمة فارسية.
وقوله: أو سواك، أخرج البغوي بسنده عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم. وقال: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. والحديث أخرجه أحمد أيضًا وأبو داود. وعلقه البخاري وفي سنده عاصم بن عبد الله، وقد ضعفه البخاري وابن معين والذهلي. ونقل ابن حجر في فتح الباري أن ابن خزيمة أخرجه في صحيحه وقال: كنت لا أخرج حديث عاصم، ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه. وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف هذا الحديث أيضًا. وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن أبي نهيك، عن زياد بن حدير الأسدي قال: ما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رأيت رجلًا أدأب للسِّواك من عمر بن الخطاب وهو صائم، ولكن بعود قد ذَوِيَ. يعني يابس. وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر والثوري. وأخرجه البيهقي من طريق مسعر.
قال البغوي: أكثر أهك العلم لم يروا بأسًا بالسواك للصائم أول النهار وآخره، إلا أن قومًا كرهوا له أن يستاك بالعود الرطب.
وذهب قوم إلى كراهية السواك له بعد الزوال؛ لما فيه من إزالة الخلوف، يروى ذلك عن ابن عمر، وإليه ذهب عطاء ومجاهد. وبه قال الأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق. ولو استاك - قال عطاء وقتادة: يبتلع ريقه. علقه عنهما البخاري ووصله عبد الرزاق. ا. هـ. والله الموفق.
(2)
وقوله: وقضى في الفرض مطلقًا، يريد به - والله أعلم - أن من أفطر في الفرض عليه القضاء. ومراده بالإطلاق؛ سواء كان أفطر عمدًا أو سهوًا أو غلبة أو إكراهًا، حرامًا أو جائزًا أو واجبًا. كان الفرض أصليًا أو نذرًا. والمذهب أنه يجب عليه الإِمساك، إن كان فرضًا معينًا زمنه؛ - كرمضان أو نذر معين - أو تطوعًا أفطر فيه ناسيًا، أو كفارة ظهار أو قتل، أو فطر رمضان. وخيّر في الإِمساك فيما عدا هذه.
قلت: الدليل إلى جانب من يقول: إن من أفطر من صومه سهوًا، لا قضاء عليه ولا إثم ولا كفارة. قال في المنتقى للمجد: باب من أكل أو شرب ناسيًا؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأكلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا اللهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ". رواه الخمسة إلا النسائي. وفي رواية: "إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَإِنَّمَا هُوَ رِزْق سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. وفي لفظ: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةً". قال الدارقطني: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري. ا. هـ.
قال الشوكاني هنا - بعدما تكلم على تخريج الحديث، وحكم على سنده بالصحة - قال: ويتعضد أيضًا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالف. كما قال ابن المنذر وابن حزم وغيرهما، منهم: علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
(1)
. فالنسيان ليس من كسب القلوب. وموافق للقياس في إبطال
(1)
سورة البقرة: 225.
وَكَأَكْلِهِ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ أوْ طَرأَ الشَّكُّ، ومَنْ لَمْ يَنْظُرْ دَلِيلَهُ اقْتَدَى بالْمُسْتَدِلِّ وَإِلَّا احْتَاطَ (1)، إلَّا المُعَيَّنَ لِمَرضٍ أو حَيْضٍ أوْ نِسْيَانٍ (2). وفي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الحَرَامِ وَلَوْ بِطَلَاقِ بَتٍّ إِلَّا لِوَجْهٍ (3)؛ كَوَالِدٍ وشَيْخٍ وَإِنْ لَمْ يحْيفَا.
= الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه. ا. هـ. منه. نقلًا عن الحافظ ابن حجر. وقد ذهب إليه الجمهور، وخالف مالك وابن أبي ليلى قالا: من أكل ناسيًا فقد فسد صومه ولزمه القضاء. وهما محجوجان بالنص الصحيح. وبالله التوفيق. انظر المبحث في نيل الأوطار جـ 4/ ص 283، 284.
تنبيه: في الحطاب؛ أحكام الإِفطار على الإجمال سبعة: الإِمساك، والقضاء، والإطعام، والكفارة، والتأديب، وقطع التتابع، وقطع النية الحكمية. والله أعلم.
وقال الجزولي: مفسدات الصوم عشرون: عشرة متفق عليها، وعشرة مختلف فيها.
فالمتفق عليها هي: تعري الصوم من النية، والأكل، والشرب، والجماع - وإن لم يكن أنزل - والإنزال - وإن لم يكن جماع - والمذي مع تقدم سببه ومداومته، والحيض، والنفاس، وخروج الولد، والاستيقاء؛ إذا رجع من القيء شيء إلى جوفه.
والمختلف فيها هي: الفلقة من الطعام، وغبار الدقيق، وغبار الطريق، وما وصل من غير مدخل الطعام والشراب، بل من أنف وأذن أو عين، وما يتحدر من الرأس، وابتلاع ما لا يتحلل مثل الحصاة، والمذي إذا لم يتعمد سببه، والاستيقاء إذا لم يرجع من القيء شيء، والقيء غلبة إذا رجع منه شيء، والردة، ورفض النية. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وكأكله شاكًا في الفجر، في المواق ما نصه من المدونة: كره مالك لمن شك في الفجر أن يأكل. ابن عرفة: فإن فعل فبان كون أكله قبل أو بعد، فواضح، وإلا ففي المدونة يقضي. عياض: حمل بعض أصحابنا قول مالك: يقضي على الاستحسان. وقال أبو عمران: بل القضاء واجب عليه. ابن يونس: لأن الصوم في ذمته يبقى، فلا يزول عن ذمته إلا بيقين، ولا كفارة عليه؛ لأنه غير قاصد لانتهاك حرمة الشهر، وقال ابن يونس: قوله تعالى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ}
(1)
. أي حتى تقاربوا بيان
(1)
سورة البقرة: 187.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخيط. كما قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
(1)
. يريد: قاربن، ولا فرق بين أول النهار وآخره، فكما لا يجوز أن يفطر حتى يدخل جزء من الليل، فكذلك لا يأكل إلى دخول جزء من النهار. ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: أو طرأ الشك، من المدونة، قال مالك: من أكل في رمضان، ثم شك أن يكون أكل قبل الفجر أو بعده فعليه القضاء. ابن يونس: إذ لا يرتفع فرض بغير يقين. قال ابن العربي: كما أن السنة تعجيل الفطر، كذلك السنة تقديم الإمساك إذا قرب الفجر. وقوله صلى الله عليه وسلم:"كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" وكان رجلًا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت. أوله علماؤنا: قارب الصباح. ا. هـ. من المواق.
وقوله: ومن لم ينظر دليله اقتدى بالمستدل وإلا احتاط، قال ابن يونس: مريد الصوم - إن كان بحيث لا دليل له على الفجر - فله أن يقتدي بالمستدل. وفيه ورد الحديث: "إِنَ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ". الحديث، وإن لم يكن له من يسمعه، فله التحري والأخذ بالأحوط، ا. هـ. المواق.
(2)
وقوله: إلا المعين لمرض أو حيض أو نسيان، أما بالنسبة للمرض، ففي المدونة: قال ابن القاسم: من نذر صوم شهر بعينه، فمرضه كله، لم يقضه، وإن أفطره متعمدًا يريد، أو ناسيًا، قضى عدد أيامه. ا. هـ. وأما إنها لا تقضي المعين لحيض، ففي المدونة: إن نذرت امرأة صوم سنة ثمانين، فلا تقضي أيام حيضتها؛ لأن الحيضة كالمرض. ا. هـ. المواق.
وقوله: أو نسيان، قال الحطاب: تبع فيه مذهب ابن الحاجب في تشهير القول بعدّ النسيان من مسقطات القضاء في النذر المعين، وهو خلاف مذهب المدونة، قال فيها: ومن تسحر بعد الفجر، ولم يعلم بطلوعه، أو أكل ناسيًا لصومه، فإن كان في تطوع فلا شيء عليه، ولا يفطر بقية يومه، فإن فعل قضاه. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وفي النفل بالعمد الحرام ألخ. يريد به - والله أعلم - وقضى في النفل وجوبًا بالفطر العمد، ولو لسفر طرأ عليه؛ لأن رخصة الفطر في السفر خاصة برمضان، ويجب القضاء بالعمد الحرام؛ أي إذا كان ذلك الفطر عمدًا حرامًا. قال المواق: ابن رشد: وفي الحديث ما يدل على جواز =
(1)
سورة البقرة: 234.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الفطر إن أصبح صائمًا متطوعًا. وإلى هذا ذهب ابن عباس. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب بعد ما قرر مذهب المصنف: ابن عبد السلام: هذا هو المذهب، ومذهب المخالف عندي أظهر للأحاديث الواردة في ذلك. ا. هـ. منه.
واحترز بقوله العمد من النسيان والإكراه، وبالحرام، من الفطر لشدة الجوع والعطش، والحر الذي يخاف منه تجدد مرض أو زيادته، وفطره لأمر والديه وشيخه. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب: واعلم أن فطره للوالدين مقيد بأن يكون رقة عليه لإدامة صومه. وأن المراد بالشيخ، الشيخ الذي أخذ على نفسه أن لا يخالفه. كذا قيده في التوضيح. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة، بعد مسألة الوالد، قلت: ظاهر المذهب أن شيخه الذي يتعلم عليه العلم، لا يتنزل منزلة الأب، وكان بعض من لقيته يفتي بأنه كهو. ا. هـ.
قلت: وأي اعتبار شرعي لشيخ لا يعلّم العلم، وما مزيته الشرعية حتى ينزله الشرع منزلة الوالد؟!. ولا ينقضي عجبي بتخصيص هذا الشيخ بشيخ الطريقة الذي أخذ على نفسه العهد أن لا يخالفه. وأعجب من ذلك قول الدردير: وألحق بعضهم به شيخ العلم الشرعي. انظر - رحمك الله - ترويج هذا الباطل، بجعله الأصل؛ ليلحق به شيخ العلم الشرعي. وهل كان شيخ الطريقة موجودًا في القرون المشهود لها بالخير؟!. هل كان موجودًا بين أظهر الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان؟!. علمًا بأن كل ترهاتهم يزعمون أنها تتصل بالحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فهل كان إلا شيخ علم؟!. ولعل ما قيده في التوضيح من كونه شيخه، الذي أخذ على نفسه أن لا يخالفه، لعل أن يكون ذلك التقييد هفوة منه رحمه الله، أصابته بها غفلة الصالحين، كما أصابته بقوله في المختصر:(وهل هو العباسي)؟!. ذلك أنه عاش في عهد بلغت فيه طرق الصوفية أوجها، فظن أن لا حقوق لشيخ غير شيخها، وهو غير معصوم، كما ظن الحكم العباسي - الذي عاش إلى أيامه هو - لن ينقطع أبدًا، فقال: وهل هو - أي الإِمام الذي يتوقف الذبح على ذبحه - العباسي؟. ويريد به ولي الأمر. تأمل هذه. والله يغفر لنا وله. ولا غرابة في أن يتلقاها الدردير ومحشّيه بالترويج؛ لأن الإثنين كل منهما شيخ تصوّف، أخذها الثاني عن الأول، وهو أخذ الطريقة الخلوتية عن شيخه الحفني. والله أرجو التوفيق لما يرضاه من القول والعمل، وأن يغفر لنا ولهم جميعًا وللمسلمين.
وَكَفَّرَ إنْ تَعَمَّدَ بِلَا تَأْويلٍ قَرِيبٍ وَجَهْلٍ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ، جِمَاعًا (1) أوْ رَفْعَ نِيَّةٍ نَهَارًا أوْ شُرْبًا بِفَمٍ فَقَطْ (2) وإِنْ باسْتِيَاكٍ بِجَوْزَاءَ أوْ مَنِيًّا، وإنْ بإِدَامَة فِكرٍ، إلَّا أنْ يُخَالِفَ عَادَتَهُ عَلَى المختار. وإِنْ أمْنَى بِتعَمُّدِ نَظَرٍ فَتأويلَانِ (3). بإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكينًا لِكُلٍّ مُدٌّ (4). - وَهُوَ الأفْضَلُ - أوْ صِيامِ شَهْرينِ، أوْ عِتْقِ رَقَبَةٍ كالظِّهَارِ (5).
(1)
وقوله عليه رحمة الله: وكفّر إن تعمد - بلا تأويل قريب وجهل في رمضان فقط - جماعًا، في المواق: ابن عرفة: تجب الكفارة في إفساد صوم رمضان انتهاكًا له. الكافي؛ وكل واجب غير رمضان لا كفارة على المفطر فيه عامدًا. ا. هـ. منه.
وقوله جماعًا مفعول تعمد، أي أن من انتهك حرمة رمضان بموجب الغسل وطءًا وإنزالا تجب عليه الكفارة. ودليله ما رواه الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم: إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكتُ. قال:"مَا لَكَ"؟. قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ " قال: لا. قال: "فَهَل تَسْتَطِيع أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ؟ ". قال: لا. قال: "فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا". قال: لَا.
فمكث النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما نحن على ذلك أتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال:"أيْنَ السَّائِلُ؟ ". فقال: أنا، قال:"خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ به". فقال الرجل: على أفقر مِنِّي يا رسول الله؟. فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:"أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ". متفق عليه. وفي بعض رواياته بعد: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قال: لا. "اجْلِسْ" فجلس. فأوتي النبي بِعَرَق فيه تَمر - والعرق المكتل الضخم - قال: "فَتَصَدَّقْ بِهِ". قال: ما بين لابتيها أحد أفقر منا. قال: فضحك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابهُ، قال:"خُذْهُ فَأطْعِمْهُ أهْلَكَ".
لذلك، فقد أجمعت الأمة على أن من جامع متعمدًا في نهار رمضان، يفسد صومه وعليه القضاء، ويعزر على سوء فعله. وذهب عامة أهل العلم إلى أن عليه الكفارة؛ إذا أفسد صومه بالجماع، بدليل هذا الحديث. ولم نعلم مخالفًا في ذلك إلا ما روي عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وقتادة أنهم قالوا: لا كفارة عليه. قال البغوي: ويشبه أن يكون الحديث لم يبلغهم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: ورفْعَ نية نهارًا أو أكلًا أو شُرْبًا بفم فقط - رفع: مفعول به لتعمد، وأكلًا أو شربًا عطف عليه - دليله عند المالكية في إيجاب الكفارة بالأكل والشرب، ما أخرجه الموطأ عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا. فقال: لا أجد. فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ من تمر فقال: "خُذْ هذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ". فقال: يا رسول الله، ما أجد أحوج مني. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال:"كُلْهُ".
قال أبو الوليد الباجي: الفطر يكون بأحد ثلاثة أشياء؛ بداخل: وهو الأكل والشرب. أو بإيلاج: وهو مغيب الحشفة في الفرج وهوائه. أو بخارج: وهو المني والحيض. فهذه معان يقع بجميعها الفطر وإفساد الصوم. فإذا وجد شيء من ذلك في يوم من رمضان فسد الصوم، سواء كان بعذر أو بغير عذر. فأمَّا المعذور فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأما غير المعذور، فإن الكفارة تلزمه بذلك كله عند مالك، على أي وجه وقع فطره من العمد والهتك لحرمة الصوم. وقال أبو حنيفة مثل قولنا في ذلك كله، إلا خروج المني بغير إيلاج فإنه لا كفارة عليه عنده. وقال الشافعي: لا كفارة على من أفسد صومه بشيء من ذلك إلا بالإيلاج. والدليل على ما نقوله؛ أن هذا قصد إلى الفطر، وهتك حرمة الصوم بما يقع به الفطر، فوجبت الكفارة كالمجامع، فإذا ثبت ذلك، فالفطر بالداخل هو الواقع بالأكل والشرب، وما وصل إلى الجوف من الفم على وجه الاختيار، والقصد إلى وضعه في الفم وازدراده مما يقع به الاغتذاء. ا. هـ. منه. بلفظه.
قلت: وذهب إلى الأخذ بقول مالك هذا - بوجوب الكفارة بالأكل والشرب عمدًا - أبو حنيفة والثوري وابن المبارك وإسحاق، غير أن الدليل إلى جانب من أوجبها بالإيلاج فقط؛ لورود النص فيه دون غيره، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل نشوان في رمضان، فضربه الحد وسيره إلى الشام. قالوا: وكان عمر إذا غضب على أحد سيره إلى الشام، فلو أن الكفارة تلزم بغير الجماع في رمضان لألزمه عمر ذلك. وهذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا. بلفظ: وقال عمر لنشوان في رمضان: ويلك، وصبياننا صيام؟! فضربه. قال ابن حجر: وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في الجعديات، من طريق عبد الله بن أبي الهذيل: أن عمر بن الخطاب - أتي برجل شرب: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم. وفي رواية للبغوي: فلما رفع إليه عثر، فقال عمر: على وجهك، ويحك وصبياننا صيام؟!. ثم أمر به فضرب ثمانين سوطًا، ثم سيره إلى الشام. وفي رواية للبغوي فضربه الحد. - وكان عمر إذا غضب على أحد سيره إلى الشام - فسيره إلى الشام. ا. هـ.
ولا يخفى أن الإجمال في رواية الموطإ: - إن رجلًا أفطر في رمضان - يجب حمله على البيان في رواية الصحيحين؛ بأن ذلك المفطر قال: وقعت على أهلي وأنا صائم. لا سيما أن رواة المجمل هم عين رواة المبين، فكلاهما عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، فتعين اتحاد الحادثة، واستحال تعددها من هذا الوجه. والله الموفق.
(3)
وقوله: أو منيًّا وإن بإدامة فكر ألخ، هو عطف عل مفعول تعمد، أي بدون جماع. قال ابن قدامة في المجامع دون الفرج: إذا أنزل الكفارة. وهذا قول مالك، وعطاء، والحسن وابن المبارك، وإسحاق، وهو رواية عن الإمام أحمد. قالوا: لأنه فطر بجماع فأوجب الكفارة؛ كالجماع في الفرج.
والرواية الأخري عن أحمد: لا كفارة عليه. وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. قالوا: لأنه فطر بغير جماع تام فأشبه القبلة، ولأن الأصل عدم وجوب الكفارة، ولا نص يوجبها، ولا إجماع، ولا يصح القياس فيه على الجماع في الفرج لأنه أبلغ، حيث إنه يوجب الكفارة وإن لم ينزل، ويجب به الحد إذا كان محرّمًا، فتحقق الفرق بينهما، ولا قياس مع الفارق. ا. هـ. منه. بتصرف.
قلت: ولم يبق عليك إشكال في رجحان مذهب المخالف في هذه المسألة. والله الموفق.
(4)
وقوله: بإطعام ستين مسكينًا لكلٍ مدّ، هو مبني على أن كفارة رمضان على التخيير عند مالك؛ محتجًا له بما رواه في الموطإ أن رجلًا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. قال: إن ذلك يقتضي التخيير لأن [أوْ] في مثل هذا إنما للمساواة بين الأشياء، فيما تناولته من حظر، أو إباحة أو جزاء، أو غير ذلك من الأحكام، ولا يجوز أن تكون للشك ههنا، لأنه لا خلاف أنه لم يأمر بواحد من ذلك فيشك فيه الراوي، بل الإجماع منعقد على أنه قد أمر بجميعها، وإنما اختلف العلماء في صفة أمره بها، فقال مالك: هي على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= التخيير. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. ذكره الباجي وقال: إذا قلنا الكفارة على التخيير، فقد روى ابن الماجشون عن مالك أنه قال: الإِطعام أفضل. وجرى عليه العراقيون. ووجه ذلك أن الإِطعام أعم نفعًا؛ لأنه يحيى به جماعة لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات. ا. هـ. منه.
قلت: وأكثر أهل العلم على أن كفارة رمضان على الترتيب مثل الظهار، فعليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فعليه أن يطعم ستين مسكينًا. والدليل على الترتيب لفظ الحديث المتقدم المتفق عليه:"هَلْ تَسْتَطِيعُ أن تُعْتِقَ رَقَبَةً؟ ". قال: لا. قال: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ ". قال: لا، قال:"فَهَلْ تَسْتَطِيْع أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ ". قال: لا.
ولا يخفاك ما في هذه الرواية التي هي في قمة الصحيح من الترتيب بالفاء. وإذا رجعنا إلى المقارنة بينها وبين رواية الموطإ، وجدنا أن كلا الروايتين مروية عن الزهري، وقد رجح الجمهور رواية الترتيب، بأن الذين رووه عن الزهري أكثر ممن روى التخيير.
وقوله: لكلٍّ مد، دليله حديث الأعرابي، لأن في بعض رواياته عن هشام بن سعد عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: فأوتي بعرق قدر خمسة عشر صاعًا. وفيه دلالة من حيث الظاهر أن طعام الكفارة مد لكل مسكين، لا يجوز أقل منه، ولا يجب أكثر منه؛ لأن خمسة عشر صاعًا إذا قسمت بين ستين يخص كل واحد منهم مد. وإلى هذا ذهب مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد. وكذلك في جميع الكفارات إلا فدية الأذى يجب فيها لكل مسكين مدان؛ لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه المتفق عليه. وفيه:"أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ".
(5)
وقوله: وهو الأفضل، هو مبني على مذهب التخيير في كفارة رمضان بين العتق والصوم والإطعام، وقد تقدم نقلنا لكلام الباجي: وإذا قلنا أن الكفارة على التخيير، فقد روى ابن الماجشون عن مالك أنه قال: الإِطعام أفضل. ووجه ذلك أن الإِطعام أَعم نفعًا، لأنه يحيى به جماعة لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات - إلى أن قال: والمتأخرون من أصحابنا يراعون في ذلك الأوقات والبلاد، فإن كانت أوقات شدة مجاعة فالإِطعام عندهم أفضل، وإن كان وقت خصب ورخاء فالعتق أفضل. ا. هـ. منه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي الحطاب هنا ما نصه:
تنبيه: قال ابن عرفة: الباجي: أفتى متأخرو أصحابنا بالإِطعام في الشدة والعتق في الرخاء. وأبو إبراهيم بصوم ذي سعة. وبادر يحيى بن يحيى الأمير عبد الرحمن - حين سأل الفقهاء عن وطء جارية له في رمضان - بكفارته بصومه، فسكت حاضروه ثم سألوه: لم لم تخيره في أحد الثلاثة؟. قال: لو خيرته وطئ كل يوم وأعتق. فلم ينكروه. ا. هـ. منه.
قلت: ومن القواعد أن الأحكام المعللة بالمظان لا تتخلف بتخلفها، وعليه فقد تقدم أن حجة من يرى الترتيب أرجح بالدليل، أي أن الواجب العتق، فإن عجز عنه وجب الصوم، فإن لم يستطع وجب الإِطعام. لذلك، فإني أرى فتوى هؤلاء الأجلاء في غير موضعها - وقد يخفى على الفطن الصواب - فإن المشرع أعلم وأحكم؛ وقد بين أن كفارة انتهاك رمضان بالوطء هي عتق رقبة أولًا، إلا إذا عجز عنها، فلمَ يرى هؤلاء القدرة على العتق مسوغًا للإنتقال عنه إلى الصوم، وهو لا يجزيء على التحقيق، إلا عمن عجز عن العتق؟!. تأمل. علمًا بأنه إن أعتق عن كل يوم رقبة مؤمنة، كان في ذلك من المصلحة والأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله. والدين يسر، والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
. ويقول سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(2)
. ورحم الله يحيى بن يحيى، فلو كان أفتاه بالعتق. والله نرجو أن يجزيه كامل المثوبة فيما أخلص فيه النصيحة للدين، فإن له أجر اجتهاده.
وقوله: أو صيام شهرين أو عتق رقبة كالظهار، التشبيه فيه راجع إلى تتابع الصوم ونيته، وإيمان الرقبة وسلامتها من العيوب.
وقال الفقهاء: هذا التخيير إنما هو في حق الحر، أما العبد فإنما يكفر بالصوم، فإن عجز عنه بقيت دينًا عليه حتى يأذن له سيده في الإطعام. والله الموفق وهو أعلم.
(1)
سورة الحج: 78.
(2)
سورة البقرة: 185.
وَعَنْ أمَةٍ وَطِئَهَا، أوْ زَوْجَةٍ أكْرَهَهَا (1) نِيابَةً، فَلَا يَصُومُ وَلَا يَعْتِق عَنْ أمَتِهِ. وَإنْ أعْسَرَ كَفَّرَتْ وَرَجَعَتْ - إنْ لَمْ تَصُمْ - بالأقَلِّ مِنَ الرقَبَةِ وَكَيْلِ الطعَامِ. وفي تَكْفِيرِهِ عَنْهَا إِنْ أكْرَهَهَا عَلَى الْقُبْلَةِ حَتَّى أنْزلَا تأويلانِ. وَفي تَكْفِيرِ فكْرِهِ رَجُلٍ لِيُجَامِعَ قَوْلَانِ (2).
(1)
وقوله: وعن أمة وطئها أو زوجة أكرهها، لا خلاف نعلمه في المذهب أن المرأة يفسد صومها بالجماع؛ لأنه نوع من المفطرات بلا خلاف، فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل، ولكن هل تلزمها الكفارة إن جامعت في رمضان؟.
يقول إمام دار الهجرة: نعم، تلزمها الكفارة لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجبت عليها الكفارة كالرجل. وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، وابن المنذر. وهو رواية عن أحمد والشافعي.
وقال أبو داود: سئل أحمد عمن أتى أهله في رمضان أعليها كفارة؟. قال: ما سمعنا أن على امرأةٍ كفارةً. وبه يقول الحسن، وهو مروي أيضًا عن الشَّافعي.
ودليل هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطن في رمضان أن يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشيء، مع علمه بصدور ذلك منها. قالوا: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه، فكان على الرجل كالمهر. تأمل .. ا. هـ. ابن قدامة بتصرف.
فإذا علمت ذلك، فاعلم أن المرأة المكرهة اتفقوا أن عليها القضاء قولًا واحدًا. وقال أحمد، والثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي: لا كفارة عليها كالموطوءة وهي نائمة. وقال مالك: على المكرهة القضاء والكفارة. وفرق الشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. قالوا: إن كان الإكراه بوعيد ففعلت فعليها القضاء والكفارة، وإن كان إلجاءً لم تفطر، وكذلك إن وطئها نائمة. ولا نص في المسألة. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله: وفي تكفير مُكره رجلٍ ليجامع قولان، قال في جواهر الإكليل: اعلم أن من أكره غيره على مجامعة شخص آخر، فإنه لا كفارة على المكرَه - بالفتح - وكذا لا كفارة على المكرِه - بالكسر - إن كان المكرَه - بالفتح - رجلًا، وإن كان امرأة كفر عنها اتفاقًا. وإنما لم تلزم الكفارة المكرِه - بالكسر - فيما إذا كان المكرَه - بالفتح - رجلًا؛ نظرًا لانتشاره. وسقطت عن المكره - بالفتح - نظرًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لإِكراهه بالجملة.
قلت: وهو يتخرج الخلاف فيه على شطري القاعدة الخلافية التي عقدها علي الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
وَهَلْ في الانتشار معنى الاختيارْ
ومعناه. هل في الإِنتشار معنى يدل على أن صاحبه مختار؟. أي هل انتشار المكره دليل على أنه فاعل مختار؟.
وأشار في المنهج إلى الفروع المبنية على هذه القاعدة في البيت الذي يقول فيه:
................. وما
…
لثانٍ الصَّوْمُ وحدٌّ علما
قال شيخ مشائخنا ابن عمنا الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان في شرح هذا البيت ما نصه: وعلى الأصل الثاني من الفروع؛ من أكره على الجماع وهو صائم في رمضان، هل عليه كفارة؟. ومن أكره على الزنا هل عليه حد أو لا؟. قولان، ثالثها: إن انتشر حد، وإن لم ينتشر فلا، بخلاف المكرهه. ا. هـ. منه بلفظه.
وفي الحطاب هنا: قال عبد الحق فيمن غر رجلًا وقال له: لم يطلع الفجر. وجعل يأكل: إنه لا كفارة على الغار؛ لأنه غرور بالقول. قال: ولو أطعمه لقمة بيده وجعل الطعام في فيه، فها هنا يكفر عنه، لأنه غرور بالفعل. ا. هـ.
قلت: وهذه الفتيا تتخرج على القاعدة التي عقدها الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ أو تَعَدَّى
…
أوْ غَرَّ بِالْفِعْلِ كَمن قَدْ شَدَّا
أوْ صَبَّ أَوْ قَطَعَ أوْ قَدْ أنْكَحَا
…
لَا غَرَّ بِالْقَوْلِ عَلَى مَا صُحِّحَا
ضَمِّنْهُ ........... ألخ
قال العلامة شيخ مشائخنا في الفقيه المالكي، محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني، في شرحه لهذه القاعدة ما ضمّنه: فقوله: ضمّنه، راجع لهذه الأمثلة المتقدمة. أي كل من فعل شيئًا مما تقدم، =
لَا إِنْ أفْطَرَ ناسِيًا (1)، أوْ لَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ (2)، أو تَسَحَّرَ قُرْبَهُ (3)، أوْ قَدِمَ لَيْلًا، أو سَافَرَ دُونَ الْقَصْرِ، أوْ رأى شوّالًا نَهَارًا فَظنُّوا الإباحَةَ (4).
= مما مثل به للغرور بالفعل، ضمّنْه. أي ألزمه ضمان ما غر فيه بفعله. أما من غر بالقول فإنه لا ضمان عليه، على ما صححه غير واحد من الشيوخ؛ وذلك مثل أن يقول: الإناء صحيح ولم يصب. أو يقول: الشقة تقطع قميصًا. ولم يباشر هو قطعها. أو يقول: فلانة حرة. ودم يزوجها هو منه، فلا ضمان عليه في هذه على الصحيح. ا. هـ. منه. بلفظه.
(1)
وقوله: لا إن أفطر ناسيًا، هو استثناء من لزوم الكفارة. والمذهب أن من أكل ناسيًا لصومه أو شرب لا كفارة عليه وعليه القضاء. والقول بعدم فساد صومه أدل، لحديث أبي هريرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا نَسِي فَأكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ"، قال البغوي: قال الخطابي: معناه أن النسيان ضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، وهو غير مؤاخذ بها.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا. وأخرجه مسلم في الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر. وأخرجه أصحاب السنن. ا. هـ.
(2)
وقوله: أو لم يغتسل إلا بعد الفجر، هو أيضًا من التأويل القريب الذي لا يكفر صاحبه؛ أي من أصبح جنبًا، فلم يغتسل من جنابة أو حيض، فظن فساد صومه، وأنه لا يجب عليه الإِمساك؛ فأكل أو شرب، فلا كفارة عليه.
والدليل على جواز وصحة صوم من أصبح جنبًا، الحديث المتفق عليه عن عائشة وأم سلمة - زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم.
أخرجه البخاري في الصوم. باب الصائم يصبح جنبًا. وباب اغتسال الصائم. وأخرجه مسلم في الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وهو في الموطإ. باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبًا في رمضان. ا. هـ.
وهو قول عامة أهل العلم إلا ما حكي عن النخعي أنه قال: يجزئه في التطوع، ويقضي في الفرض. وقال البغوي: كان أبو هريرة يروي: من أدركه الفجر جنبًا فلا يصوم. فبعث مروان إليه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقال: أخبرنيه الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البغوي: فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمر الأول ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع حديث عائشة وأم سلمة صار إليه. روي عن ابن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه، فيمن أصبح جنبًا أنه لا يصوم.
قلت: أخرج عبد الرزاق في المصنف، عن معمر عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدركه الصبح جنبًا فلا صوم له. قال: فانطلقت أنا وأبي فدخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألناهما عن ذلك فأخبرتانا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم. قال: ثم دخلنا على مروان فأخبرناه بقولهما وقول أبي هريرة فقال: عزمت عليكما لما ذهبتما إلى أبي هريرة فأخبرتماه بقولهما. قال: فلقينا أبو هريرة عند باب المسجد فقال له أبي: إن الأمير عزم علينا في أمر لنذكره لك. قال: ما هو؟. قال: فحدثه أبي. قال: فتلون وجه أبي هريرة ثم قال: هكذا حدثنا الفضل بن العباس وهو أعلم. قال الزهري: فحول الحديث إلى غيره. ا. هـ.
قال البغوي: وقد قيل في حديث أبي هريرة: إنه منسوخ وكان ذلك في ابتداء الإسلام؛ حين كان الجماع محرمًا في ليالي رمضان بعد النوم؟ كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر، جاز الصوم وإن وقع الغسل بالنهار. ا. هـ. منه.
قلت: وهو مأخوذ أيضا من القرآن بدلالة الإشارة من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
(1)
. فإن هذه الآية أباحت الوقاع في آخر جزء من الليل، بحيث لم يبق بعده من الليل ما يسع الاغتسال قبل الصبح، فدلت بالإشارة على جواز صوم من أصبح جنبًا. والله تعالى الموفق.
(3)
وقوله: أو تسحر قربه. قال الحطاب هنا: يعني أن من تسحر قرب الفجر، فظن أن صومه بطل، وأن ذلك يبيح له الإِفطار فأفطر بعد ذلك متعمدًا، فعليه القضاء ولا كفارة. والعذر في هذا أضعف من المسألتين قبله؛ إذ لم يقل أحد: إن من تسحر قرب الفجر يبطل صومه. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: أو قدم ليلًا ألخ. كلها أمثلة للتأويل القريب الذي لا كفارة على صاحبه.
(1)
سورة البقرة: 187.
بِخِلَافِ بَعِيدِ التَّأوِيلِ كَرَاءٍ وَلَمْ يُقْبَلْ، أو أفْطَرَ لِحُمَّى ثُمَّ حُمَّ، أو لحَيْضٍ ثُمَّ حَصَلَ (1)، أوْ حِجَامَةٍ (2)، أوْ غِيبَةٍ (3).
(1)
وقوله كَراءٍ ولم يقبل، قال المراق: الظاهر من ابن يونس أن هذا لا كفارة عليه، وجعله اللخمي المذهب. ا. هـ. منه.
وقوله: أو أفطر لحمّى ثم حمَّ، أو لحيض ثم حصل، قال المواق: من المدونة؛ قال ابن القاسم: ما رأيت مالكًا يجعل الكفارة في شيء من هذا الوجه على التأويل، إلا امرأة قالت: غدًا أحيض. فأفطرت أول النهار وحاضت آخره، والذي قال: اليوم أحَمُّ. فأفطر ثم حُمُّ. ا. هـ. منه.
قلت: هو مبني على أَن حكمة التكليف دائرة بين الامتثال تارة والإِبتلاء أخرى.
قال في مراقي السعود:
للامتثال كلّف الرقيب
…
فموجب تمكنًا مصيب
أو بينه والابتلا ترددا
…
شرط تمكن عليه انفقدا
عليه تكليف يجوز ويقع
…
في علم من علم أنه امتنع
في علم من أمر كالمأمور
…
في المذهب المحقق المنصور
ويمثلون هنا للتكليف الذي ورد لحكمة الإبتلاء، بأمر أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل، والذي أمره - جل وعلا - يعلم أن المأمور عليه الصلاة والسلام لا يتمكن من فعل ما أمره به، ولكنه ابتلاء منه تبارك وتعالى؛ ليكون عزمه وتصميمه مناط المثوبة. وهو واضح من قوله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}
(1)
. ويمثلون لها أيضًا بمن أفطرت لحيض ثم حصل، ومن أفطر لحمى ثم حمَّ. والله ولي التوفيق.
(2)
وقوله: أو حجامة، مراده به - والله تعالى أعلم - أن من احتجم في نهار رمضان، فظن أن صومه قد بطل فأفطر، عليه القضاء مع الكفارة، لأنه من التأويل البعيد. =
(1)
سورة الصافات: 103 - 106.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والعجب منه رحمه الله كيف يراه من التأويل البعيد؟! وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالمُحْتَجِمُ". رواه أصحاب السنن. وهو في البخاري تعليقًا، وأخرج البغوي بسنده عن شداد بن أوس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلًا يحتجم. لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال وهو آخذ بيدي:"أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ". وقال البغوي: وقد روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وثوبان. وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج. وقال علي بن عبد الله: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس.
ولا يفهم من هذا أني أريد نصر مذهب من لم يرخص للصائم في الحجامة، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس، من طريق عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم. وأخرج البغوي بسنده عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم، ولذلك فقد رخص في الحجامة للصائم سعد، وزيد بن أرقم، وأم سلمة. وفي الموطإ عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي.
إنما القصد مني هنا استغراب عدّ من أفطر ظانًا فساد صومه لأجل الحجامة من التأويل البعيد. والله تعالى نرجو التوفيق والسداد والرشاد.
(3)
وقوله: أو غيبة، يعني أن من اغتاب شخصًا في نهار رمضان، فظن إباحة الفطر لأكله لحم أخيه فأفطر عليه الكفارة.
قال الحطاب: لو جرى في هذا من الخلاف ما جرى في الحجامة ما بعُدَ، لكن لم أر فيها إلا قول ابن حبيب بوجوب الكفارة. ا. هـ. الدسوقي.
قلت: وقد يستند المتأول في ذلك إلى ما أخرجه البخاري والبغوي وأبو داود وغيرهم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ عز وجل حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". والله أعلم.
وَلَزِمَ مَعَهَا القَضَاءُ إِنْ كَانَتْ لَهُ (1)، والقضاءُ فِي التَّطَوُّعِ بِمُوجِبِهَا (2)، ولَا قَضَاءَ فِي غَالِبِ قَئٍ أَوْ ذُبَابٍ، أَوْ غُبَارِ طَريقٍ أوْ دَقِيقٍ أوْ كَيْلٍ أوْ جِبْس لِصَانِعِهِ، وَحُقْنَةٍ مِن إحْلِيلٍ أوْ دُهْنِ جَائفَةٍ، ومَنِيّ مُسْتَنكحٍ أوْ مَذِي، وَنَزْعِ مَأكولٍ أو مَشْرُوبٍ أوْ فَرْجٍ طُلُوعَ الْفَجْر (3).
(1)
وقوله: ولزم معها القضاء إن كانت له، يعني - والله أعلم - أن كل من لزمته الكفارة يلزمه معها القضاء، إذا كانت الكفارة له - أي للمكفر نفسه - أما إذا كان مكفرًا عن الغير فلا قضاء عليه لأن الصوم لا يقبل النيابة. وعليه المذهب. وسوف يأتي مزيد بيان لذلك. والله الموفق.
(2)
وقوله: والقضاء في التطوع بموجبها، يريد به - والله أعلم - أن كل ما يوجب الكفارة في الفرض يوجب القضاء في النفْل، ويدل لذلك ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرتني إليه حفصة - وكانت ابنة أبيها - فقالت: يا رسول الله، إنا كُنَّا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناهُ، فأكلنا منه. قال:"اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ". والحديث بهذا اللفظ للبغوي وقال: قال أبو عيسى: وروى صالح بن أبي الأخضر، ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا.
ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّا خبَّأنا لك حيسًا. قال: "أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ. وَلكِنْ قَرِّبِيهِ". قال البغوي: وهذا الحديث صحيح. أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن طلحة بن يحيى. ا. هـ.
ثم قال: وروي في حديث أم هانيء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ؛ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ". وهو يدل على المتطوع بالصوم إذا أفطر، لا قضاء عليه إلا أَنْ يشاء. وكذلك التطوع بالصلاة إذا أبطلها. وهو قول عمر وابن عباس وجابر. وإليه ذهب الثوري والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أهل الرأي: يلزمه القضاء. وقال مالك: إن أفطر أوخرج من الصلاة من غير علة يلزمه القضاء. ودليله ما تقدم عن الزهري عن عروة عن عائشة. والله تعالى أعلم.
(3)
وقوله: ولا قضاء في غالب قيء ألخ .. كل هذه المسائل لا نص فيها. والله تعالى أعلم بدليله عليها.
وَجَازَ سِوَاكٌ كُلَّ النَّهَارِ، ومَضَمَضَةٌ لِعَطِسٍ (1) وَإِصْبَاحٌ بِجَنَابَةٍ (2)، وصَوْمٌ دَهْرِ (3) وجُمُعَةٍ فَقَط (4).
(1)
وقوله: وجاز سواك كل النهار ومضمضة لعطِش، قد تقدم مزيد الكلام عليه عند قول المؤلف: أو غالب من مضمضة أو سواك. راجعه ان شئت. والله الموفق.
(2)
وقوله: أو إصباح بجنابة، قد قدمنا الكلام عليه بما فيه كفاية إن شاء الله، عند قول المصنف: أو لم يغتسل إلا بعد الفجر. فأغنى عن إعادته هنا. والله الهادي إلى سواء السبيل.
(3)
وقوله: وصوم دهر، قال المواق: قال مالك وابن القاسم: لا بأس بصيام الدهر، وقد سرده قوم صالحون، إلا الأيام التي منع صومها. وقال ابن حبيب: حسن لمن قوي عليه. فحملوا النهي على ذي مشقة. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب: وذكر البرزلي عن عز الدين بن عبد السلام الشافعي أن صوم الدهر أفضل لمن قوي عليه؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
(1)
. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
(2)
. ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: "لَا أَفْضَل لَكَ مِنْ ذلِكَ". ا. هـ. منه.
قلت: هذا المذهب، غير أن البخاري ومسلم والبغوي - واللفظ له - أخرجوا حديث عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنِ عَمْروٍ، إِنّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لا صَامَ مَنْ صَامَ الأبَدَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ؛ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى". ا. هـ
قال البغوي: وقوله: "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ" بمعنى الدعاء عليه. وقد تكون "لا" بمعنى "لم" كقوله سبحانه وتعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}
(3)
. قال أبو بكر بن العربي المعافري في العارضة ج 3/ ص 299: فيا بؤس من أصابه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما من قال: إنه خبر، فيا بؤس من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم؛ فقد علم أنه لا يكتب له ثواب؛ لوجوب الصدق في خبره صلى الله عليه وسلم، وقد =
(1)
سورة الأنعام: 160.
(2)
سورة الزلزلة: 7.
(3)
سورة القيامة: 31.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نفى الفضل عنه، فكيف يطلب ما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. منه، بنقل شعيب الأرناؤوط.
وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن هارون بن سعد عن أبي عمرو الشيباني قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فأتي بطعام له، فاعتزل رجل من القوم، فقال: ما له؟. قالوا: إنه صائم. قال: وما صومه؟. قال: الدهر. قال: فجعل يقرع رأسه بقناة معه ويقول: كُلْ يا دهر، كل يا دهر. ا. هـ. وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة، وإسناده صحيح. والله حسبنا ونعم الوكيل.
(4)
وقوله: وجمعة فقط، قال المواق هنا ما نصه: الباجي: مذهب مالك أن صيام يوم الجمعة يجوز لمن أراد صيامه، لأنه يوم من الأسبوع، فجاز إفراده بالصوم كغيره من أيام الأسبوع. ومنع الشافعي صيامه لمن لم يصله بصيام قبله أو بعده للحديث، وقال الداودي: لعل مالكًا لم يبلغه الحديث. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
قلت: وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان أبو الدرداء يُحيي ليلة الجمعة، ويصوم يومها، وأتاه سلمان - وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما - فنام عنده، فأراد أبو الدرداء أن يقوم ليلته، فقام إليه سلمان فلم يدعه حتى نام وأفطر. قال: فجاء أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عُوَيْمِرُ، سَلْمَانُ أَعْلَمُ مِنْكَ، لَا تَخُصَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ وَلَا يَوْمَهَا بِصِيَامٍ". ا. هـ.
وفي مصنف عبد الرزاق أيضا عن معمر، عن قتادة عن ابن المسيّبِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال:"أَصُمْتِ أمْسِ"؟. قالت: لا. فقال: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومي غَدًا"؟. قالت: لا. فأمرها أن تفطر. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه البخاري من حديث جويرية.
وحيث إن مالكًا يظهر من كلامه أنه لم تبلغه أحاديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بصيام، لأن نص كلامه في الموطإ في الصيام: ولم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه. ا. هـ.
وقد ثبت عنه: ما وافق الكتاب والسنة من رأي خذوا به، وما لا فاضربوا به الجدار. فإنه يتعين هنا العمل بالسنة الثابتة الناهية عن إفراد ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام. وباللّه تعالى التوفيق.
وَفِطْرٌ بِسَفَرِ قَصْرٍ؛ شَرَعَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَنْوِهِ فِيهِ، وَإلَّا قَضَى وَلَوْ تَطَوُّعًا، ولَا كَفَّارَةَ إِلَّا أن يَنْوِيَهُ بِسَفَرٍ؛ كَفِطْرِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ (1)، وبِمَرَضٍ خَافَ زيَادَتهُ أوْ تَمَادِيَهُ (2).
(1)
وقوله: وفطر بسفرِ قصرٍ شرع فيه قبل الفجر، قال المواق هنا: من المدونة. قال مالك: من سافر سفرًا مباحًا تقصر في مثله الصلاة، فإن شاء أفطر وإن شاء صام. والصوم أحب إليَّ.
وقال أيضًا: الباجي: من سافر قبل الفجر، فلا خلاف أنه يجوز له الفطر؛ لأن وقت انعقاد الصوم كان مسافرًا؛ فكان له الفطر. ا. هـ. منه.
وقوله: ولم ينوه فيه، وإلا قضى ولو تطوعًا ولا كفارة إلا أن ينويه بسفر، قال المواق: من المدونة: من أصبح في حضره صائمًا في رمضان، وهو يريد سفرًا، فلا يفطر في ذلك اليوم قبل خروجه ولا بعد خروجه، لكن إن أفطر قبل خروجه وجبت عليه الكفارة. قاله في المختصر. وإن أفطر بعد أن سافر لزمه القضاء بلا كفارة. قاله في المدونة. قال مالك: وإن أصبح في السفر صائمًا في رمضان، ثم أفطر لغير عذر، فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه كان في سعة أن يفطر أو يصوم، فلما صام لم يمكن أن يخرج منه إلا لعذر. قال مالك: وإن أصبح في الحضر صائمًا متطوعًا ثم سافر فأفطر، فإن كان من عذر فلا قضاء عليه، وإلا فليقض. ا. هـ. منه.
قلت: قد تقدم الكلام على الصوم في السفر، عند قول المصنف: وصوم بسفر، كما تقدم الكلام على قضاء المتطوع وعدمه عند قول المصنف: والقضاء في التطوع بموجبها. فأغنى ذلك عن الإعادة هنا. والله الموفق.
(2)
وقوله: وبمرض خاف زيادته أو تماديه، قال المواق: قال أشهب في مريض لو تكلف الصوم لقدر، أو الصلاة قائمًا لقدر، إلا أنه بمشقة وتعب: فليفطر وليصل جالسًا، ودين الله يسر. انتهى من ابن يونس. وكأنه لا معارض لهذا بل أتبعه بقول مالك: رأيت ربيعة أفطر في مرض به، لو كان غيره لقلت: يقوى على الصوم. ا. هـ. منه.
وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي وجع يفطر في رمضان؟. قال: منه كله. قلت: يصوم حتى إذا غلب عليه أفطر؟. قال: نعم، كما قال الله. وهذا الحديث أخرجه البخاري تعليقًا. ا. هـ. والله الموفق. =
وَوَجَبَ إنْ خَافَ هَلَاكًا أوْ شَديدَ أذىً (1)؛ كَحَامِلٍ وَمُرْضِعٍ لَمْ يُمْكِنْهَا اسْتئْجَارٌ أوْ غَيْرهُ، خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهمَا. والأجْرَةُ فِي مَالِ الْوَلَدِ ثُمَّ هَلْ فِي مَالِ الْأب أوْ مَا لِهَا؟. تأويلَان (2).
= على أن القرآن أباح الفطر للمريض مطلقًا. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(1)
.
(1)
وقوله: ووجب إن خاف هلاكًا أو شديد أذىً، قال الدردير: ووجب الفطر لمريض وصحيح إن خاف على نفسه - بصومه - هلاكًا أو شديد أذىً؛ كتعطيل منفعة من سمع أو بصر أو غيرهما، لوجوب حفظ النفس. وأما الجهد الشديد فيبيح الفطر للمريض قيل: والصحيح أيضًا. ا. هـ. منه.
قلت: واللّه تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
. ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(3)
.
(2)
وقوله: كحامل ومرضع ألخ. قال في جواهر الإكليل هنا: كحامل جنينًا في بطنها، ومرضع لم يمكنها استئجار لمرضع ترضع ولدها؛ لعدم مال أو لعدم مرضعة أو لعدم قبول ولدها لغيرها، ولم يمكنها إرضاعه بنفسها. والحال أنها - أي المرأة الحامل أو المرضع - خافت ضررًا بالصوم على ولدها، فيجوز الفطر إن كان الضرر المخوف يسيرًا، وأما إن كان خوف هلاك أو شديد أذىً، فإنه يجب الفطر عليها. قال: وإذا كانت الشدة مبيحة للفطر من المريضر، فالحامل والمرضع أولى بذلك. ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: دليل الرخصة في الإِفطار للحامل والمرضع، ما أخرجه البغوي بسنده عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب - قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدَّى فقال: "ادْنُ فَكُلْ". فقلت: إنِّي صائم. فقال: "ادْنُ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّوْمِ - أَوِ الصِّيَامِ إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنِ الْحَامِلِ والْمُرْضِع الصَّوْمَ، أَوِ الصَّيَامَ". والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما، فيا لهف نفسي أَلَّا أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وهذا الحديث رواه الترمذي، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. قال =
(1)
سورة البقرة: 184.
(2)
سورة الحج: 78.
(3)
سورة البقرة: 185.
وَالْقَضَاءُ بِالْعَدَدِ (1) بِزَمَنٍ أُبِيحَ صَوْمُهُ غَيْرِ رَمَضَانَ (2)، وإتْمَامُهُ إنْ ذَكَرَ
= الترمذي: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن. وقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر؛ أن رجلًا قدم المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة له والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ادْنُ". فقال: أنا صائم. ثم قال: "ادْنُ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ وُضِعَ عَنْهُ الصَّوْمُ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ وَعَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ". ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: تفطر الحامل التي في شهرها، والمرضع التي تخاف على ولدها، تفطران وتطعمان كل واحدة منهما كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما: قال معمر: وأخبرني من سمع القاسم بن محمد يقول: إن لم تستطيعا الصيام فلتطعما. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن قتادة قال: تفطر الحامل التي تخاف على ولدها، وتفطر المرضع التي تخاف على ولدها، وتطعم كل واحدة منهما كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما. ا. هـ. وفيه غير ذلك مما يشهد له. والله أعلم.
(1)
وقوله: والقضاء بالعدد، يريد به - والله أعلم - أن من أفطر رمضان كله، وكان ثلاثين يومًا، وقضاه بالهلال، فكان تسعة وعشرين يومًا، وجب عليه صوم يوم آخر، وكذا لو كان رمضان الذي أفطره تسعة وعشرين، وقضاه بالهلال فكان ثلاثين يومًا، أجزأه منه تسعة وعشرون يومًا.
وهذا دليله من القرآن الكريم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
(1)
. الآية. وفي الأثر: "صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَهُ". ا. هـ. عبد الرزاق.
(2)
وقوله: بزمن أبيح صومه غير رمضان، قال المواق هنا: اللخمي: قضاء رمضان يصح في كل زمان يصح فيه صوم التطوع، ولا يجوز في الأيام المنهي عن صيامها، ولا في شهر نذر صومه. ومن المدونة قال مالك: يصوم اليوم الرابع من أيام النحر مَنْ نذَرَهُ، أو نذر صوم ذي الحجة. ولا يصومه متطوعًا، ولا يكون قضاء عن رمضان. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
وقوله: غير رمضان، أي فلا يقضي المسافر فيه رمضان السابق، لأن هذا تعين للأداء، فإن قضاه فيه لم يجز عن واحد منهما اتفاقًا، والله أعلم. ولا نص في الموضوع يرجع إليه. وبالله التوفيق.
(1)
سورة البقرة: 184.
قَضَاءَهُ. وَفِي وُجُوب قَضَاءِ الْقَضَاءِ خِلافٌ (1)
(1)
وقوله: وإتمامه إن ذكر قضاءه، هو مفرع على وجوب الصوم بالشروع، وهو المذهب عند أصحابنا، علمًا بأن القاعدة أن النفل لا يجب بالشروع، كما عقده الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في مراقي السعود بقوله:
والنفل ليس بالشروع يجبُ
غير أن أصحابنا أخذوا من قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
(1)
. الآية، أن من شرع في عبادة وجب عليه إتمامها. قال في مراقي السعود:
قف واستمع مسائلًا قد حكموا
…
بأنها بالإِبتداء تلزم
صلاتنا وصومنا وحجنا
…
وعمرة لنا كذا اعتكافنا
طوافنا مع ائتمام المقتدي
…
فيلزم القضا بقطع عامد
قلت: وهذا اللزوم هو على سبيل الاحتياط، استنباطًا من الآية آنفة الذكر، وإلا فقد وردت آثار بعدم وجوب إتمام ذلك، ففي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يفطر إنسان التطوع، ويضرب لذلك أمثالًا: رجل طاف سبعًا، فقطع ولم يوفه فله ما احتسب. أو صلى ركعة ولم يصل أخرى بعدها فله ما احتسب. أو يذهب بمال يتصدق به، ويتصدق ببعضه وأمسك بعضه. ا. هـ.
وفي المصنف كذلك: عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس قال: الصوم كالصدقة؛ أردت أن تصوم فبدا لك، وأردت أن تصدق فبدا لك. ا. هـ. وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية، أن عمر بن الخطاب قال لأصحابه يومًا: ما ترون عليَّ؟. فإني أصبحت اليوم صائمًا، فرأيت جارية لي فوقعت عليها؟. فقال عليَّ: صمت تطوعًا فأتيت حلالًا، لا أرى عليك شيئًا. ا. هـ. وفيه غير ذلك مما يشهد لما ذكرنا. والله الموفق.
(1)
سورة محمد: 33.
وأدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا إِلَّا أنْ يَأتِيَ تائبًا (1). وإطْعَامُ مُدِّهِ عليه الصلاة والسلام لِمُفَرِّطٍ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لِمِثْلِهِ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِمسْكينِ وَلَا يُعْتَدُّ - إِنْ أَمْكَنَ قَضَاؤهُ - بشَعْبانَ (2).
(1)
وقوله: وأدّب المفطر عمدًا، هو على ولي أمر المسلمين لإقامة حدود الله وشعائر الإِسلام؛ وهو لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ". الحديث.
وقوله: إلا أن يأتي تائبًا، دليله عدم تأديب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت؛ وقعت على أهلي وأنا صائم؟ الحديث.
(2)
وقوله: وإطعام مده عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله، قال المواق هنا: من المدونة: قال مالك: من أفطر في رمضان لمرض أو سفر، ثم صح أو قدم قبل دخول رمضان الثاني أيام أقل من شهر، فلم يصمها حتى دخل عليه رمضان المقبل، فعليه عدد هذه الأيام التي فرط فيها مدادًا يفرقها، إذا أخذ في القضاء أو بعده. ا. هـ. منه.
قلت: وقت قضاء رمضان موسع في الأشهر العشرة بعد رمضان، فإذا كان شعبان كان وقت القضاء ضيقًا يتعين قضاؤه فيه، ولذلك أوجب بعض أهل العلم الفدية إذا أخر قضاء رمضان عن شعبان اختيارًا من غير عذر. قالوا: إن عليه إطعام مسكين عن كل يوم. يروى ذلك عن أبي هريرة وابن عباس. وبه أخذ عطاء، والقاسم بن محمد، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. انظر البغوي.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن أبي هريرة قال: إنسان مرض في رمضان ثم صحَّ، فلم يقضه حتى أدركه شهر رمضان آخر، فليصم الذي أحدث ثم يقضي الآخر ويطعم مع كل يوم مسكينًا. ا. هـ.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: يطعم مكان الشهر الذي مضى؛ من أجل أنه صحَّ وفرط في قضائه حتى أدركه شهر رمضان. قلت لعطاء: كم بلغك يطعم؟. قال: مد. زعموا. ا. هـ.
وقوله: ولا يعتد بالزائد، قال المواق: من المدونة قال مالك: لا يجزئ أن يطعم أمدادًا كثيرة =
لَا إنِ اتّصَلَ مَرَضُهُ (1) مَعَ الْقَضَاءِ أوْ بَعْدَهُ (2)، وَمَنْذُورُهُ (3)، والأكْثَرُ إن احْتَمَلَهُ لَفْظُهُ بِلَا نيَّةٍ؛ كَشَهْرٍ فَثَلَاثِينَ إِنْ لَمْ يَبْدَأ بِالْهِلَالِ (4)، وابْتِدَاءُ سَنَةٍ، وقَضَى مَا لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ إِلَّا أنْ يُسَمِّيَهَا (5).
= لمسكين واحد، ولكن مدًا لكل مسكين. ا. هـ. منه.
وقوله: إن أمكن قضاؤه في شعبان، هو بيان لمحل وجوب الإطعام، بأن يبقى من شعبان بقدر ما عليه من رمضان، وهو غير معذور.
(1)
وقوله: لَا إن اتصل مرضه، يريد به - والله أعلم - أنه لا إطعام عليه إن اتصل مرضه حتى دخل رمضان الآخر؛ لأن مناط التكليف بلا إطعام هنا التفريط، فإن لم يكن فرط فلا إطعام، ولو كان عدم التفريط ذلك باتصال المرض حكمًا؛ كحمل وإرضاع.
قال في جواهر الإكليل: ومثل المرض السفر بشعبان، والإغماء والجنون، والحيض والنفاس والإكراه. والمعتبر التفريط في العام الأول، فإن لم يفرط فيه وفرط فيما بعده فلا إطعام عليه. ا. هـ. منه.
والدليل على أنه إن اتصل مرضه فلا إطعام عليه، ما أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: فرجل مرض رمضان كله، فلم يزل مريضًا حتى مر به رمضان آخر؟. قال: يطعم مرة واحدة قط. قلت له: فرجل مرض رمضان كله، فلم يزل مريضا حتى أدركه الآخر مريضًا؟. قال: يقضي الأول قط ولا يطعم. ا. هـ.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إذا مرض الرجل في رمضان، فلم يزل مريضًا حتى يموت، فليس عليه شيء، فإن صحَّ فلم يقضه، أطعم عنه كل يوم مسكينًا مُدبر. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق عن الأسلمي عن الحجاج بن أرطأة، عن عبادة بن نُسيٍّ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُطْعَمْ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ". ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: مع القضاء أو بعده، قال المواق: من المدونة: يفرق هذه الأمداد إذا أخذ في القضاء، في أوله أو في آخره، وإن لم يفرقها حتى فرغ من القضاء فليفرقها بعد ذلك. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن حبيب: المستحب في تفريق هذا الطعام كلما صام يومًا أطعم مسكينًا. قال أشهب: ومن عجل كفارة التفريط قبل وجوبها لم يجزه، فإن كان عليه عشرون يومًا، فلما بقي لرمضان الثاني عشرة أيام، كفَّر عن عشرين يومًا، لم يجزه إلا عشرة أيام. ا. هـ. منه. والله أعلم بدليل ذلك.
(3)
وقوله: ومنذوره، يريد به - والله أعلم - ووجب صوم منذور الصوم؛ أي وجب الوفاء بذلك النذر، شأنه في ذلك شأن كل مستحب إذا نذر. ودليل وجوب الوفاء بنذر الصوم، حديث ابن عباس أن امرأة قالت: يا رسول الله، إنَّ أمِّي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟. فقال:"أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضيْتِهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذلِكَ عَنْهَا"؟. قالت: نعم. قال: "فَصُومي عَنْ أُمَكِ". قال المجد في المنتقى: أخرجاه. وقال: وفي رواية أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرًا. فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال:"صُومِي عَنْهَا". أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود.
(4)
وقوله: والأكثر إن احتمله لفظه بلا نية؛ كشهر فثلاثين إن لم يبدأ بالهلال، قال المواق هنا: الأصل في النذر أنه التزام من المكلف على نفسه، فيحاذي فيه قصده وما نص عليه، فإن لم يقصد شيئًا وكان اللفظ يحتمل الأقل والأكثر، فقيل: إنه يلزم الأكثر؛ لأنه لا تبرأ ذمته إلا به، وقيل: تبرأ ذمته بالأقل حتى ينص على الأكثر، ومن هذا أن ينذر صوم شهر، ويبدأ في أثناء الشهر، فقيل: تجزئه تسعة وعشرون يومًا؛ لأنها الأقل. وقيل: يلزمه إكمال ثلاثين لأنها الأكمل. ا. هـ.
ونص المدونة: قال مالك: من نذر صوم أيام أو شهر أو شهور غير معينة، فليصم عدد ذلك، إن شاء تابعه أو فرقه. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
قلت: ولعل دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ". والله تعالى أعلم.
(5)
وقوله: وابتدأ سنة، وقضى ما لا يصح صومه في سنة إلا أن يسميها، قال المواق: من المدونة: من نذر صوم سنة بغير عينها، صام اثني عشر شهرًا ليس فيها رمضان ولا يوم الفطر ولا أيام النحر. ا. هـ. منه.
أما إذا سمى السنة، فقال في المدونة: قال مالك: إن نذر صوم سنة بعينها صامها، وإن أفطر منها يوم الفطر وأيام الذبح، ويصوم آخر أيام التشريق؛ لأنه قد نذره، ولا قضاء عليه فيهن ولا في رمضان، إلا أن ينوي قضاء ذلك. ا. هـ. بنقل المواق.
أوْ يَقُولَ: هذِهِ. وَينْوي باقِيَها فَهُوَ، ولا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ (1) بِخَلَافِ فِطْرِهِ لِسَفَرٍ (2) وصبيحةَ الْقُدُوم فِىِ يَوْمِ قُدُومِهِ - إِنْ قَدِمَ لَيْلَةً غَيرَ عِيدٍ - وإلَّا فَلَا (3)، وصِيَامُ الْجُمُعَةِ إن نَسِيَ الْيَوْمَ عَلَى المختَار (4)، وَرَابعُ النَّحْرِ لِنَاذِرِهِ وَإِنْ تَعْيِينًا (5)،
(1)
قوله: أو يقول: هذه، وينوي باقيها فهو، ولا يلزم القضاء: قال المواق: قال ابن القاسم: وما أفطر من السنة المعينة - لعذر من مرض أوغيره - فلا قضاء عليه فيه. وإن أفطر منها شهرًا لغير عذر قضاه، فإن كان الشهر تسعة وعشرين يومًا قضى عدد أيامه. قال ابن القاسم: وأحب إليَّ أن يقضيه متتابعًا، فإن فرقه أجزأه. قال مالك: وإن أفطر منه يومًا قضاه إلا أن يكون لمرض. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: بخلاف فطره بسفر، قال في المدونة: قال مالك: من نذر صيام شهر بعينه فلا يقضي أيام مرضه، وكذلك من نذرت صوم سنة بعينها لا تقضي أيام حيضتها. وأما السفر فلا أدري ما هو؟. قال ابن القاسم: وكأني رأيته يستحب له القضاء. ا. هـ. بنقل المواق.
(3)
وقوله: وصبيحة القدوم في يوم قدومه - إن قدم ليلةً غير عيد - وإلا فلا، قال في المدونة: قال ابن القاسم: من نذر صوم يوم قدوم فلان، فقدم ليلًا فليصم صبيحة تلك الليلة، ولو قدم نهارًا ونية الناذر الفطر فلا قضاء عليه لذلك اليوم. اهـ. المواق.
(4)
وقوله: وصيام الجمعة إن نسي اليوم على المختار، قال المواق: الذي رجع إليه سحنون؛ أن من نذر صوم يوم بعينه فنسيه، أنه يصوم الجمعة كلها.
وفي الحطاب (فرع) فإن صام اليوم المعين الذي نذره، ثم أفطر فيه ناسيًا، ثم نسي أي يوم كان من الجمعة، قال في المقدمات في قضاء الصلوات الفوائت: يجزئه يوم واحد ينوي به ذلك اليوم. ا. هـ. منه.
قلت: وكل هذه الفروع لا نص فيها، فليس إلا الإجتهاد. وبالله تعالى التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
(5)
وقوله: ورابع النحر لناذره، وإن تعيينًا، قال المواق: أما اليوم الرابع من أيام النحر، فلا خلاف أن من نذره منفردًا أنه يلزمه صومه، وأما من نذر صوم ذي الحجة، ففي صومه رابع يوم النحر خلاف؛ فقال ابن القاسم: يصومه. وقال ابن الماجشون: لا يصومه. ا. هـ. منه. وبذلك تعلم أنه =
لا سَابِقَيْهِ إِلَّا لِمُتَمَتِّعٍ (1)، لَا تَتَابُعُ سَنَةٍ أوْ شَهْرٍ أوْ أيَّامٍ، وَإِنْ نَوَى بِرَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ غَيْرَهُ، أوْ قَضَاءَ الْخَارِجِ، أوْ نَوَاهُ وَنَذْرًا، لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (2). وَلَيْسَ لامْرَأةٍ يَحْتَاجُ لَهَا زَوْجٌ تَطَوُّعٌ بلا إذْنٍ (3).
= لا نص في المسألة يرجع إليه فيها.
(1)
وقوله: لا سابقيه إلا لمتمتع، قال المواق: الباجي: الذي قال به مالك وفقهاء الأمصار: إن أيام التشريق لا يصومها إلا المتمتع الذي لا يجد هديًا. ا. هـ.
قلت: أخرج البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أهْلَ الإسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشرْبٍ". قال البغوي: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صَحيح. وروي عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيَّامُ التشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ". وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. وفيه من حديث كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: "إِنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ. وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ". ا. هـ. أنظر تعليق الأرناؤوط على البغوي.
(2)
وقوله: وإن نوى برمضان في سفره، إلى قوله عن واحد منهما، هو بمحض الإجتهاد. وفي المواق هنا بحوث في الموضوع لبعض شيوخ المذهب، لم ينسب فيها قولًا لأحد من الصحابة ولا من التابعين.
(3)
وقوله: وليس لامرأة يحتاج لها زوج تطوع بلا إذن، قال المواق: من المدونة، من علمت حاجة زوجها لم تصم إلا بإذنه، وإن علمت عدمها فلا بأس. ابن عرفة: الأقرب الجواز إن جهلت؛ لأنه الأصل. ا. هـ. منه.
قلت: قد تقدم الحديث المتفق عليه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: إن كان ليكون علي صيام من رمضان، فما أسطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان. ا. هـ.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ". أخرجه البغوي وقال: هذا حديث صحيح. وهو في الترمذي، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف، وأخرجه مسلم عن معمر عن همام أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " لَا تَصُومَنَّ امْرَأَةٌ تَطَوُّعًا وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإن نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ" ا. هـ. انظر تعليق الأرناؤوط.
تنبيه: ورد في صوم يوم الإثنين والخميس، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين والخميس، فقلت له؟. فقال صلى الله عليه وسلم:"هُمَا يَوْمَانِ يُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ". وفي رواية أخرى: "فَأَحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأنا صَائِمٌ".
وورد في خصوص صوم يوم الإثنين؛ عن أبي قتادة أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين؟. قال: "ذلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيوْمٌ أَنْزِلَتْ عَلَيَّ فِيهِ النُّبُوَّةُ". قال البغوي: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن زهير بن حرب، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن ميمون بن مهران، عن غيلان.
قلت: وهذا نص في أن الأولى أن تخص مناسبة مولده صلى الله عليه وسلم بالصوم شكرًا لله تعالى على مولده صلى الله عليه وسلم وبعثه، بدلًا مما جرت به العادة اليوم مما الله أعلم به. وبالله تعالى التوفيق.
خاتمة وهي في ليلة القدر
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} قال البغوي: قال ابن عيينة: ما في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أعلمه، وما قال:{وَمَا يُدْرِيكَ} فإنه لم يعلم. قال الأرناؤوط: علقه البخاري عنه في صحيحه، وقال الحافظ: وصله محمد بن يحيى بن أبي عمر في كتاب - الإيمان - له من رواية أبي حاتم الرازي عنه قال: حدثنا سفيان بن عيينة فذكره بلفظ: كل شيء في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} ، فقد أخبر به، وكل شيء فيه:{وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبر به. ومقصود ابن عيينة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف تعيين ليلة القدر. قال الحافظ: وقد تعقب هذا الحصر بقوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإنها نزلت في ابن أم مكتوم، وقد علم صلى الله عليه وسلم بحاله، وأنه ممن تزكى، ونفعته الذكرى. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . قال ابن جزي الكلبي: معناه أن من قامها كتب الله له أجر العبادة في ألف شهر. قال: وسبب نزول الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا ممن تقدم عَبَدَ اللهَ ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، ورأوا أن أعمارهم تنقص عن ذلك، فأعطاهم الله ليلة القدر، وجعلها خيرًا من العبادة في تلك المدة الطويلة. ا. هـ. منه.
(1)
. قال ابن الجزي: يعني ليلة القدرمن رمضان، وكيفية إنزاله فيها؛ إنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد شيء. قال: وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وذلك باطل لقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . مع قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
(2)
. ا. هـ. منه.
وأخرج البخاري في التراويح، باب فضل ليلة القدر، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
واتفق الشيخان كذلك على حديث أنس قال: أخبرني عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبرنا =
(1)
سورة الدخان: 3، 4
(2)
سورة البقرة: 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال:"إِنِّي خَرَجْتُ لأِخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالتَمِسُوهَا فِي التَّسْعِ وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ". أخرجه البخاري عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد، وأخرجه مسلم من رواية أبي سعيد الخدري.
واتفق الشيخان أيضًا على حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".
واتفق الشيخان أيضًا على حديث عبد الله بن عمر؛ أن رجالًا من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي أَرَى رُؤْياَكُمْ قَدْ تَوَاطَأتْ فِي السَّبْعِ الْأوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأوَاخِرِ". أخرجه البخاري عَنْ عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك. ا. هـ.
قال البغوي: قال أبو عيسى: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان.
قال الشافعي: كأن هذا عندي - والله أعلم - ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه؛ يقال له: أنلتمسها في ليلة كذا؟. فيقول: "الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا"، قال: وأقوى الروايات عندي فيها أنها ليلة إحدى وعشرين. ا. هـ. منه. في شرح السنة.
تتمة: ذكر عبد الرزاق في مصنفه في آخر كتاب الصوم: باب خضاب النساء، عبد الرزاق عن معمر عن بديل العقيلي عن أبي العلاء بن عبد الله بن شخير قال: حدثتني امرأة أنها سمعت عمر بن الخطاب - وهو يخطب - وهو يقول: يا معشر النساء، إذا اختضبتن فإِيَّاكُنَّ النقش والتطريف. ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار. ا. هـ.
وفي المصنف أيضًا هنا: باب المرأة تصلي وليس في رقبتها قلادة، عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أنه كره أن تصلي المرأة وليس في عنقها قلادة. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
الاعتكاف
باب:
الْاعْتِكَافُ (1) نَافِلَةٌ (2). وصِحَّتُهُ لِمُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ بِمُطْلَقِ صَوْمٍ (3) وَلَوْ نَذْرًا (4)، وَمَسْجدٍ إِلَّا لِمَنْ فَرْضُهُ الجُمُعَةُ، وتَجِبُ بِهِ (5)، فَالجَامِعُ مِمَّا تَصِحُّ فِيهِ الجُمُعَةُ، وَإِلَّا خَرَجَ (6) وَبَطَلَ؛ كَمَرَضِ أَبَويهِ لَا جَنَازَتهِمَا مَعًا، وَكَشَهَادَةٍ وَإنْ وَجَبَتْ، وْلتُؤَدَّ بِالْمَسْجِدِ أوْ تُنْقَلُ عَنْهُ، وَكَردَّةٍ، وَكَمُبْطِلٍ صَوْمَهُ، وَكَسُكْرِهِ لَيْلًا. وفِي إلْحَاقِ الكَبَائِرِ بِهِ تَأويلَانِ، وَبِعَدَمِ وَطْءٍ وَقُبْلَةِ شَهْوِة، وَلَمْسٍ ومُبَاشَرَةٍ (7) وإنْ لحَائِض نَاسِيَةٍ وَإِن أَذِنَ لِعَبْدٍ أو امْرأةٍ فِي نَذْرٍ (8) فَلَا مَنْعَ كَغَيْرهِ إِنْ دَخَلَا، وأَتَمَتْ مَا سَبقَ مِنْهُ، أوْ عِدَّةٍ إِلَّا أَنْ تُحْرِمَ، وَإِنْ بِعِدَّةِ مَوْتٍ فَينْفُذُ وتبطُلُ، وإنْ مَنَعَ عَبْدَهُ نَذْرًا فَعَلَيْهِ إِنْ أَعْتَقَ، ولَا يُمْنَعُ مكاتَبٌ يَسِيرَهُ، وَلَزِمَ يَوْمٌ إِنْ نَذَرَ لَيْلَةً، لَا بَعْضَ يَوْمٍ (9)، وتتابُعُه فِي مُطْلَقِهِ، ومنويُّهُ حِينَ دُخُولِهِ كَمُطْلَقِ الْجِوَارِ لَا النَّهَارِ فقط فباللفظ. ولَا يْلَزَمُ فِيهِ حينئذٍ صَوْمٌ، وفي يَوْمِ دُخُوله تأْوِيلَانِ، وإِتْيَانُ سَاحِلٍ لِنَاذِرِ صَوْمٍ بِهِ مُطْلَقًا، وَالمَسَاجِدِ الثلَاثَةِ فَقَطْ لِنَاذِرِ عُكوفٍ بِهَا،
(1)
الاعتكاف لُغَةً هو الإقامة على الشيء ولزومه، وحبس النَّفْس عليه، برًّا كان أو غيره. ومن هذا الاستعمال قوله تعالى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
(1)
. وقوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}
(2)
. يُقَالُ: عَكَفَ - بفتح العين - يعكُف - بالضم ويعكِفُ بالكسر.
وهو في الشرع: الإِقامة في المسجد على وصف مخصوص. ومن هذا الإستعمال قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}
(3)
الآية. =
(1)
سورة الأنبياء: 52.
(2)
سورة الأعراف: 138.
(3)
سورة البقرة: 125.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال في جواهر الإكليل: وحقيقته لزوم مسلم مميز مسجدًا مباحًا بصوم، ليلة ويومًا لعبادة قاصرة بنية، كافًا عن الجماع ومقدماته.
(2)
وقوله: نافلة، قال الحطاب: قوله نافلة أي مستحبة، قال ابن الحاجب: الاعتكاف قربة. قال في التوضيح: لم يبين ما رتبته في القُرَب، والظاهر أنه مستحب؛ إذْ لو كان سنة لم يواظب السلف على تركه. ا. هـ. وقال ابن عرفة القاضي: هو قربة. كالشيخ. نقل خير.
الكافي: في رمضان سنة وفي غيره جائز.
العارضة: سنة لا يقال فيه مباح. وقول أصحابنا في كتبهم: جائز، جهل. ابن عبدوس: روى ابن نافع: ما رأيت صحابيًا اعتكف، وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قبض، وهم أشد الناس اتباعًا، فلم أزل أفكر حتى أخذ بنفسي أنه لشدته نهاره وليله سواء، كان كالوصال المنهي عنه مع وصاله صلى الله عليه وسلم فأخذ ابن رشد منه كراهية مالك. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال ابن قدامة: قال أبو داود: قلت لأحمد رحمه الله: تعرف في فضل الإعتكاف شيئًا؟. قال: لا، إلا شيئًا ضعيفًا، ولا نعلم بين العلماء خلافًا في أنه مسنون. ا. هـ. المغني.
قلت: ودليل مشروعيته قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} . الآية وقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
(1)
. وأنه صلى الله عليه وسلم اعتكف وداوم عليه تقربًا إلى الله وطلبًا لثوابه، وأنه اعتكف أزواجه معه وبعده صلى الله عليه وسلم وعلى أزواجه وذريته وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم القيامة.
(3)
بمطلق صوم، هو لما في الموطإ عن مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد ونافعًا مولى ابن عمر قالا: لا اعتكاف إلا بصيام؛ يقول الله تعالى في كتابه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
(2)
. فإنما ذكر الله الإعتكاف مع الصيام. قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، إنه لا اعتكاف إلا بصيام. ا. هـ. =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 187.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال أبو الوليد: قولهما: إنه لا اعتكاف إلا بصيام، نفي لوجود اعتكاف شرعي دون صيام، وهذا مذهب فقهاء المدينة، وأهل الكوفة، وأبي حنيفة، والثوري وغيرهما. ا. هـ. منه. وفي مصنف عبد الرزاق: باب لا اعتكاف إلا بصيام: عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر وابن عباس قالا: لا جوار إلا بصيام.
وفيه أيضًا: عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس قال: من اعْتكف فعليه الصوم. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن ابن أبي ليلى بهذا الإِسناد، ولفظه: لا اعتكاف إلا بالصوم. وأخرجه أيضًا أبو داود عن ابن علية عن ليث، عن طاوس عن ابن عباس قال: الصوم عليه واجب. ا. هـ. الأعظمي في تعليقه على المصنف. وفي المصنف أيضًا: عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء عن عائشة قالت: من اعتكف فعليه الصوم. ا. هـ. وفيه غير ذلك، أنظره.
(4)
قوله: ولو نذرًا، أي ولو كان الاعتكاف نذرًا فلا يحتاج المنذور إلى صوم يخصه، بل يجوز فعله في رمضان وغيره على المشهور. ا. هـ الدردير. قال الحطاب: ومقابل المشهور أن المنذور لا يكفي فيه مطلق الصوم، فلا يصح في رمضان. والله أعلم. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: أو مسجد إلا لمن فرضه الجمعة وتجب به فالجامع، تقريره أن صحة الإعتكاف مشروطة بوقوعه بمطلق مسجد مباح لعموم الناس، كانت الجمعة تصلى فيه أو لا، إلَّا لمن فرضه الجمعة؛ من ذكر حر بالغ مقيم، والحال أن الجمعة تجب أثناء اعتكافه ذلك، فإنه يجب عليه أن معتكف بجامع تصح فيه الجمعة، أي في وسطه لا في رحبته الخارجة عنه، ولا في طرقه المتصلة به.
ودليل اشتراط المسجد للإعتكاف، هو ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب لا جوار إلا في مسجد جماعة: عبد الرزاق عن الثوري عن جابر الجعفي عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود عن وكيع عن الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي. ا. هـ من تعليق الأعظمي على المصنف.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد، إذا كان المعتكف رجلًا. لا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نعلم في هذا بين أهل العلم خلافًا. والأصل في ذلك قوله تعالى. {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}
(1)
الآية. فخصها بذلك، فلو صح الإعتكاف في غيرها لم يخصَّ تحريم المباشرة فيها؛ فإن المباشرة محرمة في الإعتكاف مطلقًا، إلى أن قال: وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري، عن عروة، وسعيد بن المسيب، عن عائشة في حديث: وإن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإِنسان، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة؛ ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وإلَّا خَرَجَ وبَطَلَ، هذه مسألة خلاف لأنه لا نص فيها يرجع إليه قال البغوي، أَمَّا الخروج للجمعة فواجب عليه لا يجوز له تركه، واختلفوا في بطلان اعتكافه به. ا. هـ. فالمذهب عند أصحابنا بطلانه؛ وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور. وذهب قوم إلى عدم بطلان اعتكافه بخروجه للجمعة، وهو قول الثوري، وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل. قال الخرقي: ولا يخرج إلا لحاجة الإِنسان أو صلاة الجمعة، ولا يخرج المعتكف لجنازة، ولو لجنازة أبويه، لما في الموطإ: وقال مالك: ولا يخرج المعتكف لجنازة أبويه ولا غيرهما. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: وبعدم وطء وقبلة وشهوة ولمس ومباشرة، جملة القول فيه أن الوطء في الإعتكاف محرم إجماعًا، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}
(2)
الآية، ولأن أبا داود روى عن عائشة: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، انظر المغني.
وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يأتي المعتكف أهله بالليل ولا بالنهار. يقول: لا يصيب أهله، ولا يقبّل، ولا يباشر، ولا يمس، ولا يجسُّ، ليعتزلها ما استطاع. قال ابن جريج: وقاله عمرو بن دينار أيضًا. ا. هـ. منه.
(8)
وقوله: وإن لحائض ناسية ألخ، قال في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إذا حاضت وهي معتكفة، رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت فلترجع إلى جوارها. قال ابن جريج: وقاله عمرو بن دينار. =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 187.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: ولا يمسها زوجها حتى تفرغ من جوارها. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت إن طهرت وهي في بيتها، أيمسها زوجها ذلك اليوم؟. قال: لا، إلا أن يقطع ذلك جوارها.
قلت: ولا يقبلها؟. قال: لا. قلت: في حيضتها يقبلها زوجها؟. قال: نعم. قلت: ويباشر جزلتها العليا؟. قال: نعم. قال ابن جريج: وقاله عمرو بن دينار. قال عطاء: وينال منها ما ينال الرجل من امرأته حائضًا في غير جوار. ا. هـ. منه
(9)
وقوله: ولزم يوم إن نذر ليلة، قال الحطاب: قال في المدونة: ومن نذر اعتكاف يوم أو ليلة لزمه يوم وليلة. قال ابن يونس: قال سحنون: فأما إن نذر اعتكاف يوم، لزمه يوم وليلة، ويدخل اعتكافه عند غروب الشمس من ليلته، وإن دخل فيه قبل الفجر فاعتكف يومه لم يجزه. ابن يونس: لأنه نذر اعتكاف يوم فيلزمه يوم تام؛ وذلك يوم وليلة. ا. هـ. منه.
قلت: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنَّ عمر سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية اعتكاف ليلة في المسجد الحرام، قال:"فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ". وهذا نص على جواز نذر ليلة دون يومها، وهو من أدلة من لم ير لزوم الصوم للاعتكاف؛ لأن الليل غير قابل للصوم. وفي رواية البخاري التصريح بأنه اعتكف ليلة. والله تعالى هو ولي التوفيق.
وقوله رحمه الله: وأتمت ما سبق منه أو عدة إلا أن تُحْرِمَ وإن بعدة موت، فينفذ وتبطل، تقريره على مراد المؤلف - والله أعلم - أن المرأة إذا اعتكفت ثم طرأ عليها ما يوجب العدة؛ من طلاق أو موت، فإنها تتم اعتكافها ولا تخرج لأجل العدة، وأما إن سبق موجب العدة فلا تعتكف حتى تتم العدة. قال مالك في المدونة: إذا طلقت المعتكفة أو مات زوجها فلتمض على اعتكافها تتمه، ثم ترجع إلى بيت زوجها فتتم فيه باقي العدة، فإن سبق الطلاق الاعتكاف، فلا تعتكف حتى تحل. ا. هـ. بنقل المواق. وانظر أين هذا التفصيل مما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب المعتدة لا تعتكف حتى تنقضي عدتها، ثم ساق سندًا إلى أبي الزناد عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير عن جابر قال: سألت جابرًا عن المطلقة تعتكف؟. قال: لا، ولا المتوفى عنها حتى تحل. ا. هـ. منه.
وإِلَّا فَبِمَوْضِعِهِ (1). وَكُرِهَ أَكَلُهُ خَارِجَ المسْجِدِ، وَاعْتِكَافُهُ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَدُخُولهُ مِنْزِلهُ وإنْ لِغَائِطٍ (2) واشْتِغَالُهُ بِعِلْمٍ، وَكِتَابتُهُ وَإنْ مُصْحَفًا إِنْ كَثُرَ، وفِعْلُ غَيْرِ ذِكْرٍ وَصَلَاةٍ وتِلَاوَةٍ - كَعِيَادَةٍ - وَجَنَازَةٍ وَلَوْ لَاصَقَتْ (3)، وصُعُودُهُ لِتأْذِين بِمَنَارٍ أوْ سَطْحٍ، وتَرَتُّبُهُ لَلإمَامَةِ، وَإِخْراجُهُ لَحُكُومَةٍ، إِنْ لَمْ يَلِدَّ بِهِ. وجَازَ إقْرَاءُ قُرْآنٍ، وسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِ، وتَطَيُّبُهُ، وَأنْ يَنْكِحَ ويُنْكِحَ بِمَجْلِسِهِ (4)، وأخْذُهُ (5) - إِذَا خَرَجَ لِكَغُسْل جُمُعَةٍ - ظُفْرًا أو شَارِبًا، وانْتِظَارُ غَسْلِ ثَوبِهِ أو تَجْفِيفِهِ. وَنُدِبَ إعْدَادُ ثَوْبِ، ومُكْثُهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ (6)، وَدُخُولهُ قَبْلَ الغُرُوبِ، وصَحَّ إنْ دَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ (7)، وَاعْتِكَافُ عَشَرَةٍ وَبآخِر المسْجِدِ، وبِرَمَضَانَ (8)، وبِالْعَشْرِ الأخِيرِ لِليْلَةِ الْقَدْرِ الْغَالِبِةِ بِهِ، وفِي كَوْنهَا بِالْعَامِ أو بِرمَضَانَ خِلَافٌ (9) وانْتَقَلَتْ، والمراد بِكسَابِعَةٍ ما بَقِيَ. وبَنىَ بِزَوالِ إغْمَاءٍ أوْ جُنُونٍ؛ كَانْ مُنِعَ مِنَ الصَّوْمِ لِمَرضٍ أوْ حَيْضٍ أوْ عِيدٍ وخَرَجَ وعَلَيْهِ حُرْمَتُهُ، وإنْ أخَّرهُ بَطَلَ إِلَّا لَيْلَةَ العِيدِ ويَوْمَهُ، وَإنِ اشْتَرَطَ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَمْ يُعِدْهُ (1).
(1)
وقوله: والمساجد الثلاثة فقط لناذر عكوف بها، وإلا فبموضعه، تقريره - والله أعلم - ولزم إتيان المساجد الثلاثة لناذر اعتكاف أو صوم أو صلاة فيها، فإن نذر شيئًا من ذلك بغير واحد من هذه المساجد الثلاثة؛ مسجد المدينة المنورة، ومسجد مكة المكرمة، ومسجد بيت المقدس، فعله بموضعه الذي نذره فيه، وذلك لفضل هذه المساجد عن غيرها، وقد روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد الثلاثة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، وبيت المقدس.
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن واصل الأحدب عن إبراهيم، قال: جاء حذيفة إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري؟. قال عبد الله: لعلهم أصابوا وأخطأت. فقال حذيفة: ما أبالي أفيه أعتكف أو في بيوتكم هذه، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة؛ المسجد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، وكان الذين اعتكفوا - فعاب عليهم حذيفة - في مسجد الكوفة الأكبر. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ودخول منزله وإن لغائط، فيه ما فيه من الحرج، والله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(1)
، وانظر ما لو كان المسجد الذي اعتكف فيه ليس به بيت للراحة، فكيف يتصور كراهة دخوله منزله كذلك العرض أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. فقد اتفق الشيخان على حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه: وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الإنْسَانِ.
قال البغوي: وفيه دليل على أنه يخرج من المسجد للغائط والبول ولا يفسد اعتكافه، وهو إجماع. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: كعيادة وجنازة ولو لاصقت، قال الدردير: وشبه في الكراهة قوله: كعيادة لمريض بالمسجد إن بعد عنه، وجنازة ولو لاصقت؛ بأن وضعت بقربه، أو انتهى زحامها إليه. ا. هـ. منه. ولست أدري من أين مأخذ هذا التشديد؟. وكيف أخرجوا صلاة الجنازة عن كونها عبادة وذكر لله تعالى؟!. غير أن عبد الرزاق أخرج في مصنفه ما نصه: عن الثوري عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة عن عليٍّ قال: من اعتكف فلا يرفث في الحديث، ولا يسابَّ، ويشهد الجمعة والجنازة، وليوص أهله إذا كانت له حاجة، وهو قائم، ولا يجلس عندهم. وبه يأخذ عبد الرزاق. ا. هـ.
وأخرج كذلك: عبد الرزاق عن الثوري، عن سليمان الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: المعتكف يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب أميرًا إذا دعاه، ا. هـ. وبالله التوفيق.
(4)
وقوله: وأن يَنكح ويُنكح بمجلسه، قال في الموطإ: لا بأس بنكاح المعتكف نكاح الملك، ما لم يكن المسيس، والمرأة المعتكفة أيضًا تنكح نكاح الخطبة، ما لم يكن المسيس. ويحرم على المعتكف من أهله بالليل ما يحرم عليه منهن بالنهار، ولم أسمع أحدًا يكره للمعتكف ولا للمعتكفة أن ينكحها في اعتكافها ما لم يكن المسيس فيكره. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وأخذه - إذا خرج كغسل جمعة - ظفرًا وشاربًا، أخرج البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليَّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. ا. هـ. =
(1)
سورة الحج: 78.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال البغوي هذا حديث متفق على صحته، وفيه من الفقه أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لا يخرج عن اعتكافه، وفيه أن المعتكف يجوز له غسل الرأس، وترجيل الشعر، وفي معناه حلق الرأس وتقليم الظفر، وتنظيف البدن من الشعث والدرن. ا. هـ. منه. بتصرف.
(6)
وقوله: ومكثه ليلة العيد، هو لما في الموطإ: عن زياد بن عبد الرحمن قال: حدثنا مالك عن سميٍّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، أن أبا بكر بن عبد الرحمن اعتكف، فكان يذهب لحاجته تحت سقيفة في حجرة مغلقة في دار خالد بن الوليد، ثم لا يرجع حتى يشهد العيد مع المسلمين. وحدثني زياد عن مالك أنه رأى بعض أهل العلم إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان، لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا الفطر مع الناس. قال زياد: قال مالك: وبلغني ذلك عن أهل الفضل الذين مضوا. وهذا أحب ما سمعت إليَّ في ذلك. ا. هـ. منه. قال الباجي: وهذا لمن شهد صلاة العيد مع الناس، فأما من لم يشهدها من مريض يقدر على الاعتكاف، ولا يقدر على المشي إلى موضع صلاة العيد، فلم أرَ فيه نصًا لأصحابنا. والله أعلم وأحكم. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: ودخوله قبل الغروب، وصحَّ إن دخل قبل الفجر، قال الدردير: ندب لمريد الاعتكاف دخوله المسجد من الليلة التي يريد ابتداء اعتكافه منها قبل الغروب، في الاعتكاف المنوي ولو يومًا فقط أو ليلة، بناء على أن أقله يوم، والراجح الوجوب، وأما المنذور فيجب دخوله قبل الغروب أو معه، للزوم الليل له، وصحَّ في المنوي والمنذور إن دخل قبل الفجر، بناء على ان أقله يوم فقط، والراجح أنه لا يصح، بناء على الراجح من أن أقله يوم وليلة. ا. هـ. منه.
وفي المواق: ابن عرفة: معنى قول مالك: يدخل المعتكف معتكفه قبل الغروب، الاستحباب لا اللزوم. وفي المعونة: إذا دخل معتكفه قبل طلوع الفجر، في وقت يصح له الصوم، أجزأ. ا. هـ. منه.
قلت: والذي وقفت عليه حديث متفق عليه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، وإذا صلَّى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه. الحديث. قال البغوي - وهذا اللفظ له: في هذا الحديث أن المعتكف يبتدئ الاعتكاف من أول النهار؛ فيدخل المعتكف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بعدما صلَّى الصبح. وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وذهب قوم إلى أنه يدخل قبل الغروب من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد. وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه. وفي ابن ماجه بسنده عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرأد أن يعتكف صلَّى الصبح، ثم دخل المكان الذي يريد أن يعتكف فيه
…
الحديث.
(8)
وقوله: واعتكاف عشرة، وبآخر المسجد، وبرمضان، وبالعشر الأخير، أما قوله واعتكاف عشرة، فلم أرها مطلقة إلا في حديث أبي هريرة، ولفظه عند البغوي: قال: كان يعرض على النبي القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض. وكان يعتكف كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض. ا. هـ. وهو في البخاري. وأخرجه الدارمي، وابن ماجه، وأحمد.
وأما قوله بآخر المسجد، فهو واضح أنه للحرص على عدم التشويش. وأما قوله: وللعشر الأخير؛ أي من رمضان، ففي الصحيحين عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده. ا. هـ.
(9)
وقوله: لليلة القدر الغالبة به، وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف، تقريره - والله أعلم - أن ندب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان هو لطلب ليلة القدر؛ الغالبة الوجود بالعشر الأخير؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم على اعتكافه التماسًا لليلة القدر؛ فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول منه، فأتاه جبريل فقال له: إن الذي تريد أمامك. فاعتكف العشر الأوسط، فأتاه جبريل فقال له: إن الذي تطلب أمامك. فاعتكف العشر الأواخر. ا. هـ. جواهر الإكليل.
وقوله: وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف وانتقلت، التحقيق فيه - إن شاء الله - أنها في رمضان في العشر الأواخر منه، وذلك بدلالة القرآن على أنها في رمضان قطعًا لقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . مع قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
(1)
الآية. وقد =
(1)
سورة البقرة: 185.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقدم الكلام في ذلك في خاتمة كتاب الصوم، ولم تبق إذًا قيمة لهذا الخلاف، طالما أن الدليل شاهد على أنها في رمضان. وبالله تعالى التوفيق.
(10)
وقوله: وإن اشترط سقوط القضاء لم يعده، قال المواق هنا: الرسالة، ولا شرط في الاعتكاف. ابن عرفة: شرط منا فيه لغو، بعض البغداديين: لو نذره كذلك لم يلزمه إلا بدخوله فيبطل شرطه. ا. هـ. منه.
قلت: قال عبد الرزاق في مصنفه: باب للمعتكف شرطه: عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: للمعتكف ما اشترط عند اعتكافه. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: له شرطه. ا. هـ.
وعلق الأعظمي فقال: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن علية، عن ابن أبي عروبة عن قتادة أنه كان لا يرى بأسًا للمعتكف أن يشترط أن يتعشى في أهله ويتسحر. ا. هـ. وقال: ورواه أبو داود. ا. هـ. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق.
كتابُ الحج
(1)
فُرِضَ الْحَجُّ (2) وَسُنَّتِ الْعُمْرَةُ (3) مَرَّةً.
(1)
الحج في اللغة القصد. قال الخليل: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه. قال الشاعر:
وأشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُئُولًا كثيرة
…
يَحُجونَ سِبَّ الزِّبْرقَانِ المُزَعْفَرَا
أي يقصدون. والسِّبُّ: العمامة.
وفي الحج لغتان، بالفتح وبالكسر. قاله ابن قدامة.
قلت وبهما قرئ القرآن. والحج في الشرع ركن من أركان الإِسلام الخمسة، وهو عبارة عن مجموعة من الأفعال المخصوصة. قال المواق: ينحصر النظر في هذه الأفعال من ثلاثة أقسام:
الأول في المقدمات وهي اثنتان: المقدمة الأولى في الشرائط، والمقدمة الثانية في المواقيت؛ وهي زمانية ومكانية.
القسم الثاني: في المقاصد؛ وفيه ثلاثة أبواب:
الأول في أداء النسكين؛ من إفراد أوقران أو تمتع.
الباب الثاني: في أعمال الحج؛ من الإحرام وسننه، وسنن دخول مكة، وواجباته، والسعي والوقوف بعرفة، وأسباب التحلل، والمبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الوداع، وبيان ما يجبر بالدم، وحكم الصبي.
الباب الثالث: في محظورات الحج والعمرة؛ من اللبس، والتطيب، وترجيل الشعر، والحلق، والجماع، ومقدماته، وإتلاف الصيد.
القسم الثالث: في اللواحق، وفيه بابان:
الأول: في موانع الحج من الإحصار، والحبس، والرق، والزوجية، والأبوة، والديْن.
والباب الثاني: في الدماء وأحكام الهدايا، وأنواع الدماء، وأزمان إراقتها. ا. هـ. منه.
وقال ابن رشد: الحج في اللغة القصد مرة بعد أخرى. فقيل: حج البيت؛ لأن الناس يأتونه في كل سنة. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
(1)
. الآية. أي مرجعًا يأتونه في كل سنة.=
(1)
سورة البقرة: 125.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثم يرجعون إليه فلا يقضون منه وطرًا، أي لا يدعه الناس إذا أتوا إليه أن يعودوا إليه ثانية. وقيل للحاج: حاج؛ لأنه يتكرر قصده للبيت مرة بعد أخرى: يأتي البيت لطواف القدوم ثم للإفاضة ثم للوداع.
(2)
قوله: فرض حج، يعني أن الحج يجب مرة واحدة في العمر، وهذا هو المعروف من مذاهب أهل العلم، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا: "يأَيُّهَا النَاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ". فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟. فسكت عنه حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ". ثم قال: "ذَرُوني مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ واخْتِلَافِهِمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". أخرجه مسلم في صحيحه، باب فرض الحج مرة في العمر.
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً}
(1)
. قرأها حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. بكسر الحاء. وقرأ الباقون بفتح الحاء. انظر زاد المسير.
وفي الصحيحين عن ابن عمر واللفظ للبخاري: "بُنِيَ الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وَأنَ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلَاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاهَ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
وقول المصنف: فرض الحج وسنت العمرة مرة؛ معناه: فرض بأن يحج مرة، وسن أن يعتمر مرة.
هذا وقد أجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع مرة واحدة.
قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط: الإِسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة. لا نعلم في هذا كله اختلافًا. فأما الإِسلام والعقل؛ فهما شرطان في الوجوب والصحة معًا، فلا يصح الحج من مجنون ولا كافر، لأنهما ليسا من أهل العبادات. وأما البلوغ والحرية فهما شرطان في الوجوب والأداء، وليسا شرطًا في الصحة؛ بدليل أنه لو حج العبد والصبي صح حجهما ولم يجزهما عن حجة الإِسلام إذا زال المانع. ومنها ما هو=
(1)
سورة آل عمران: 97.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شرط في الوجوب فقط، وهو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة فحج بغير زاد ولا راحلة، كان حجه صحيحًا مجزئًا. ا. هـ. ابن قدامة.
(3)
وقوله: وسنت العمرة مرة، أي وسن أن يعتمر المرء مرة، وهو راجع لهما.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: والعمرة في وجوبها قولان للعلماء؛ المشهور عن أحمد والشافعي وجوبها. وهي غير واجبة عن مالك وأبي حنيفة. قال: وهذا القول هو الراجح، فإن الله إنما أوجب الحج بقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
(1)
. الآية. ولم يوجب العمرة. وإنما أوجب إتمامها لمن شرع فيها. وفي الابتداء إنما أوجب الحج، وسائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب. ا. هـ. منه بتصرف.
(1)
سورة آل عمران: 97.
وَفِي فَوْرِيَّتِهِ وَتَرَاخيهِ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ خِلَافٌ (1).
(1)
وقوله: وفي فوريته وتراخيه لِخوف الفوات خلاف، تقريره: وفي كون الحج واجبًا على الفور في أول عام من أعوام القدرة، فإن أخره أثم ولو لم يخف الفوات، أو هو واجب على التراخي، حتى يخاف فواته بالتأخير خلاف.
قلت: قد نقلت في كتابي - الحج والعمرة على ضوء السنة المطهرة - أدلة وجوبه على الفور، ولا بأس بإيراد هنا ما استجلبته هناك من أدلة، حرصًا على الفائدة. ذكرت في كتابي آنف الذكر ما نصه: الذي يؤيده الدليل أن الحج واجب على الفور لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
(1)
الآية. ولحديث أبي هريرة عند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا".
والأمر للوجوب عند جمهور علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره عليه الصلاة والسلام واجب الامتثال لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ}
(2)
. ولقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}
(3)
. ولقوله صلى الله عليه وسلم. "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا".
ولقد وردت أحاديث - يعضد بعضها بعضًا - تدل على وجوبه على الفور منها: ما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يعني الفريضة - فَإِن احَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ". رواه أحمد.
ومنها ما روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن الفضل - أو أحدهما عن الآخر - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أرادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الراحِلَةُ، وتَعْرِضُ الْحَاجَة".
رواه أحمد وابن ماجه، ومنها مرسل ابن ساباط عند أحمد وابن أبي شيبة، قال الشوكاني: وله طريق أخرى عن عليّ مرفوعًا عند الترمذي بلفظ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجُّ فلَا عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ يَهُودِيًا أَوْ نَصْرَانِيًا؛ وَذلِكَ لِأنَ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ". ومعلوم أن آيات من كتاب الله جاءت في الحث على مبادرة أوامر الله تعالى. منها قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
(4)
. الآية. وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
(5)
. الآية.=
(1)
سورة آل عمران: 97.
(2)
سورة الحشر: 7.
(3)
سورة النور: 63.
(4)
سورة الحديد: 21.
(5)
سورة آل عمران: 133.
وصِحَّتُهُمَا بِإِسْلَامٍ (1)، فَيُحْرِمُ وَليٌّ عَنْ رَضِيعٍ، وَجُرِّدَ قُرْبَ الْحَرَمِ (2)، ومُطْبَقٍ (3)، لَا مُغْمىً (4).
= وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
(1)
.
يتحصل منه أن الذي يؤيده الدليل كون الحج فرض على فور وهو قول أكثر أهل العلم. وبالله تعالى التوفيق. ا. هـ. منه بلفظه.
قال جواهر الإكليل: سوَّى المصنف هنا بين القولين، وفي التوضيح والظاهر قول من شهر الفورية، وفي كلام ابن الحاجب ميل إليه؛ لأنه ضعَّف حجة التراخي، ولأن الفور مروي عن الإِمام، والتراخي لم يرو عنه. ا. هـ. منه. وقد عزاه للحطاب.
(1)
وقوله: وصحتهما بإسلام، يعني أن الإِسلام شرط صحة في كل من العمرة والحج، وهذا لا خلاف فيه. وظاهر كلام المصنف أن الإِسلام ليس شرطًا في وجوبهما. وهو مشهور المذهب عند أصحابنا، بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة. قال في مراقي السعود:
ذو فترة بالفرع لا يراع
…
وفي الأصول بينهم نزاع
وقد تقدم نقل كلام ابن قدامة؛ إن الإِسلام شرط وجوب وصحة في الحج والعمرة. والمسألة طويلة الذيل، تكلم عليها المفسرون عند قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
(2)
. والكلام عليه هنا يخرجنا من الموضوع. وقد جمعت فيها نقولًا في [التعليق الصواب على تحفة الألباب على الأنساب] للعلامة السيري المؤرخ حماد بن الأمين المجلسي، على عمود النسب لعمه الشيخ أحمد البدوي. والله الموفق.
(2)
وقوله: فيحرم ولي عن رضيع، وجرد قرب الحرم، قال المواق: من المدونة: ويصح الحج لغير المميز وللمجنون، ويحرم عنهما وليهما بتجريدهما ناويه، ولا بلبي عنهما، ويجرد المناهز من ميقاته، وأما من لا ينتهز فيجرد من قرب الحرم. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: ومطبق، قال المواق: تقدم نصها: يحرم عن المجنون وليه. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: لا مغمى: من المدونة: إن أحرم عن المغمى عليه أصحابه، فلم يفق حتى طلع الفجر من ليلة النحر، لم يجزه حجه. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة البقرة: 148.
(2)
سورة الإسراء: 15.
والمُمَيِّزُ بإِذْنِهِ وإِلَّا فَلَهُ تَحْلِيلُهُ ولَا قَضَاءَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وأمَرَهُ مَقْدُورَهُ وإلَّا نَابَ عَنْهُ إِنْ قَبِلهَا كطَوافٍ، لَا كَتَلْبِيةٍ ورُكُوعٍ، وأحْضَرَهُمُ الْمَواقِفَ. وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، إنْ خِيفَ ضَيْعَةٌ، وَإلَّا فَوَليُّهُ، كَجَزاءِ صَيْدٍ وفِدْيَةٍ بِلَا ضَرُورَةٍ (1).
(1)
قوله: والمميز بإذنه وإلا فله تحليله الخ. هو في تقريره معناه أن الشخص الصغير المميز - الذي يفهم الخطاب، ويحسن رد الجواب - يحرم بإذن وليه من الميقات إن ناهز، أو قرب الحرم إن لم يقارب البلوغ، كابن ثمان مثلًا، فإن أحرم بإذنه فليس له تحليله، وان أحرم بغير إذنه فله تحليله من احرامه، بالنية والحلق أو التقصير؛ بأن ينوي إخراجه مما أحرم به إن رأى المصلحة في ذلك، وإن رأى المصلحة في إبقائه على إحرامه أبقاه عليه. وإن حلل الولي صغيره المميز، فلا قضاء عليه إن بلغ، بخلاف العبد إن أحرم بغبر إذن سيده وحلله منه، فإن عليه قضاء ما أحرم به، إن أذن له سيده في ذلك أو عتق. وإن أحرم المميز بإذن وليه، أمره بما يقدر عليه من الأفعال والأقوال اللازمة للحج والعمرة، ويلقنه التلبية إن قبلها، وإلا يكن مميزًا، أو كان الفعل في غير مقدوره، ناب الولي عنه إن كان ذلك الفعل أو القول مما يقبل النيابة؛ كطواف وسعي ورمي.
قالوا: وفي جعل الولي نائبًا عنه في الطواف والسعي نظر؛ فإن حقيقة النيابة فعل النائب دون المنوب عنه، والطواف والسعي يفعلهما الولي حاملًا للمحجور، ويقف به بعرفة والمشعر الحرام، فالنيابة إذًا تتلخص في الرمي والذبح، فإن لم يقبل الفعل النيابة؛ كالتلبية وركعتي الإحرام، والطواف، سقط ذلك الفعل. وضابط ذلك أن كل ما يمكن المميز فعله مستقلًا بفعله، وما لا يمكن فعله مستقلًا فعله به وليه؛ كطواف وسعي، وما لا يمكنه فعله مستقلًا ولا أن يفعل به - إن كان مما يقبل النيابة كالرمي - فعله وليه، وإن كان مما لا يقبل النيابة كالتلبية والصلاة سقط، وإن كان هذا المحجور يخاف عليه الضيعة، إن لم يسافر به وليه للحج أو العمرة، فإن زيادة نفقة السفر عليه هي في ماله الخاص به، وإن لم تُخَفْ عليه الضيعة فالنفقة الزائدة على الولي؛ ومثل ذلك ما لو صاد صيدًا في الحرم، فإن كان اصطياده في الحل وهو محرم فالجزاء على الولي. ا. هـ. الإكليل بتصرف.
قلت: والأصل في أن الصبي له حج، ما أخرجه البخاري في العمرة: باب حج الصبيان، وأخرجه البغوي بهذا اللفظ: قال السائب بن يزيد: حج بي أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع =
وَشَرْطُ وُجُوبِهِ كَوُقُوعِهِ فَرْضًا حُرِّيَّةٌ وَتَكْلِيفٌ وَقْتَ إِحْرَامِهِ بِلَا نِيَّةِ نَفْلٍ (1).
= سنين. ا. هـ. قال البغوي: فيه دليل على أن الصبي له حج من ناحية الفضيلة، كان لم يحسب عن الفرض.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قفل، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا فسلم عليهم، وقال:"مَنِ الْقَوْمُ"؟. فقالوا: المسلمون، فمن القوم؟. قال:"رَسَولُ اللهِ". فرفعت إليه امرأة صبيًا لها من محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟. قال:"نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ". قال البغوي: وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة.
وفي الموطإ في الحج، باب جامع الحج، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها، فقيل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذت بعضد صبي كان معها، فقالت: ألهذا حج؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ". قال البغوي هذا حديث صحيح.
(1)
وقوله: وشرط وجوبه كوقوعه فرضًا حرية ألخ، قال الحطاب هنا: شروط الحج على ثلاثة أضرب: شرط في الصحة وشرط في الوجوب، وشرط في وقوعه فرضًا، فذكر المصنف أولًا شرط الصحة؛ وهو الإِسلام فقط، وذكر هنا شروط وجوبه وشروط وقوعه فرضًا. ويعني بما ذكره هنا أن شروط وجوب الحج: الحرية والتكليف. أي كون الشخص مكلفًا؛ وهو العاقل البالغ. وشروط وقوعه فرضًا: الحرية والتكليف، وخلوه عن نية النفل، فيتحصل منه أن شروط وجوبه ثلاثة: الحرية والبلوغ، والعقل، وأن شروط وقوعه فرضًا أربعة: الثلاثة المتقدمة والرابع: خلوه من نية النفل.
أما الدليل على أن الحرية شرط وجوله فهو أمران:
الأول: إجماع أهل العلم على ذلك، ولكنه إذا حج صح حجه ولا يجزئه عن حجة الإِسلام، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام. قال النووي في التهذيب: أجمعت الأمة أن العبد لا يلزمه الحج، لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعًا، ويصح منه الحج بإذن سيده، وبغير إذنه عندنا بلا خلاف. قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء كافة. وقال داود: لا يصح بغير إذنه. ا. هـ. منه بنقل أضواء البيان.
والأمر الثاني: حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حِجَّةُ الإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيْهِ حِجَّةُ الإسْلَامِ". قال شيخنا في أضواء البيان: قال ابن حجر في =
وَوَجَبَ بِاسْتِطَاعَةٍ بِإمْكَانِ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَةٍ، وَأمْنٍ عَلَى نَفْسٍ ومَالٍ (1).
= التلخيص في هذا الحديث: رواه ابن خزيمة والإسماعيلي في مسند الأعمش والحاكم، والبيهقي، وابن حزم وصححه، والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال. عن يزيد بن زريع، عن شعبة، عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه. قال ابن خزيمة: الصحيح موقوف. ا. هـ. منه.
وأما الدليل على أن التكليف شرط في وجوب الحج فهو واضح؛ لأن غير العاقل غير مكلف، والصبي مرفوع عنه القلم حتى يبلغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ" الحديث. فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب.
وأما الدليل على أنه إن نواه نفلًا لم يجز عن الفرض. فهو حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه: "إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: ووجب باستطاعة ألخ. أما شرط الاستطاعة في وجوب الحج فقد بينه تعالى بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
(1)
الآية. قال ابن جزي الكلبي: والاستطاعة عند مالك هي القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلًا وإما راكبًا، مع الزاد المبلغ والطريق الآمن. وقيل الاستطاعة: الزاد والراحلة. وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديث ضعيف. ا. هـ. منه. بلفظه.
قال شيخنا محمد الأمين بن محمد المختار عليه رحمة الله: الاستطاعة في مشهور مذهب مالك، الذي به الفتوى، هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، مع الأمن على النفس والمال، ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة، بل يجب عندهم الحج على القادر على المشي، إن كانت له صنعة يحصل منها على قوته في الطريق؛ كالحمال، والخراز، والنجار، ومن أشبههم. وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره: ووجب باستطاعة ألخ. ما نصه: وقال مالك في كتاب محمد، وفي سماع أشهب - لما سئل عن قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} - أذلك الزَّادُ والراحلة؟. قال: لا والله، ما ذلك إلا طاقة الناس؛ الرجل يجد الزاد والراحلة ولا بقدر على المسير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه، ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . وزاد في كتاب محمد: ورب صغير أجلد من كبير. ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده: فمن قدر =
(1)
سورة آل عمران: 97.
إلَّا لِأخْذِ ظَالِمٍ مَا قَلَّ، لَا يَنْكُثُ عَلَى الأظهَرِ (1) وَلَوْ بِلَا زَادٍ وَرَاحِلةٍ لِذِي صنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ وقَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ؛ كأعْمَى بقَائِدٍ، وَإلَّا اعْتُبِرَ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ مِنْهُمَا (2).
= على الوصول إلى مكة إمَّا راجلًا بغير كبير مشقة، أو راكبًا بشراء أوكراء، فقد وجب عليه الحج. ونقله في التوضيح. ا. هـ. من الحطاب. انتهى من أضواء البيان.
(1)
وقوله: إلا لأخذ ظالم ما قل لا ينكث على الأظهر، قال المواق: ابن يونس: قال ابن القصار: اختلف اصحابنا فيمن لا يمكنه الوصول إلى الحج إلا بإخراج المال إلى السلطان الجائر، فقال بعضهم: لا يجب عليه الحج. وقال شيخنا أبو بكر الأبهري: إن لم يمكنه إلا بإخراج المال الكثير، الذي يشق ويخرج عن العادة، لم يلزمه؛ كالثمن في ماء الطهارة، والثمن في رقبة الكفارة، وإن كان شيئًا قريبًا فالحج واجب عليه.
ووجه القول الأول؛ أنه لا يؤمن أن يخفرهم ويأخذ أموالهم، فيصيرون قد غروا بانفسهم.
ووجه القول الثاني؛ أنه يغلب من غالب عادته، أنه لا يخفر الناس ما عاهدهم عليه. قال أبو إسحاق: وهذا أشبه. ا. هـ. منه. بلفظه.
قلت: وعجبي لا ينقضي ممن بلغني عنهم أنهم يفتون بسقوط فريضة الحج عمن يلزمه دفع مصاريف جواز السفر الحقيرة، وما إلى ذلك من أخذ إبر الوقاية اللازمة للسفر، فإن ذلك في نظري صد عن سبيل الله. والله الموفق.
وها أنا أنقل كلامًا لابن العربي ذكره الحطاب هنا، قال: العجب ممن يقول الحج ساقط عن أهل المغرب، وهو يسافر من قطر إلى قطر، ويقطع المخاوف، ويخرق البحار في مقاصد دينية ودنيوية، والحال واحد في الخوف والأمن، والحلال والحرام وإنفاق المال وإعطائه في الطريق وغيره لمن لا يرضى. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ولو بلا زاد وراحلة ألخ. قد تقدم ما نقلته من كلام الإمام مالك حين سئل عن الاستطاعة من قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} أهي الزاد والراحلة؟. فقال: لا والله، ما ذلك إلا طاقة الناس؛ الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المسير، إلى آخره. علمًا بأنه وردت أحاديث عن =
وَإنْ بِثَمَنِ وَلَدِ زِنىً أوْ مَا يُبَاعُ عِلى الْمُفَلَّسِ، أوْ بافْتِقَارِه، أو تَرْكِ وَلَدِهِ للِصَّدَقَةِ، إِنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا، لَا بِدَيْنٍ أوْ عَطِيَّةٍ أوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا (1)، واعْتبِرَ مَا يُرَدُّ
= النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة، وذلك حجة الأكثرين الذين يشترطون لوجوب الحج وجود الزاد والراحلة، وهذه الأحاديث منها ما روي عن ابن عمر بسند لا ينهض، لوجود إبراهيم الخوزي به، وهو لا يحتج به، أخرجه ابن ماجه والترمذي عن طريقه، ومنها ما روي عن ابن عباس مرسلًا عن طريق الحسن البصري، وقد علمت ما تقول الحفاظ في مراسيل هذا الطود الشامخ. وحديث ابن عباس هذا رواه ابن ماجه في سننه: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا هشام بن سليمان القرشي، عن ابن جريج، قال: وأخبرنيه أيضًا عن ابن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ". يعني قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .. قال شيخنا في أضواء البيان: حديث ابن عباس عند ابن ماجه، لا يقل عن درجة الحسن. ا. هـ. منه، وهو مروي أيضًا عن أنس؛ فقد أخرجه الحاكم في المستدرك بسنده عن طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى:{النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . قال: قيل يا رسول الله، ما السبيل؟. قال:"الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ". ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لم يخرجاه. وذكر الحاكم متابعة حماد بن سلمة لرواية سعيد بن أبي عروبة.
قال شيخنا في الأضواء: الظاهر أن حديث الزاد والراحلة، ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج به؛ لأن الطريقتين اللتين أخرجه بهما الحاكم في المستدرك عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإِسناد. وأقره الذهبي على صحتهما. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: أو ما يباع على المفلس، قال الحطاب: يعني أنه ليس من شروط الاستطاعة أن يكون عنده من الدنانير أو الدراهم ما يصرفه في حجه، بل يلزمه أن يبيع من عروضه ما يبيعه القاضي على المفلس في رَبْع وعقار وماشية وخيل ودواب وسلاح ومصحف وكتب علم. ا. هـ. منه.
وقوله: أو بافتقاره أو ترك ولده للصدقة، قال المواق: سئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القرية، ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإِسلام؟. قال: نعم، ذلك عليه، ويترك ولده للصدقة إن لم يخش هلاكًا. قال محمد بن رشد، وقول ابن القاسم: ويترك ولده في الصدقة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذا إن أمن ضيعتهم. قال الحطاب هنا نقلًا عن ابن رشد: لأن الله تعالى أوجب عليه نفقتهم في ماله، كما أوجب عليه الحج فيه، فهما حقان لله تعينا عليه في ماله، فإذا ضاق عنهما ولم يحمل إلا أحدهما، وجب عليه أن يبدأ بنفقة الولد لئلا يهلكوا، لأن خشية الهلاك عليهم تسقط عنه فرض الحج، كما لو خشي الهلاك على نفسه. ا. هـ. منه.
قلت: وهذا الاجتهاد تؤيده القاعدة العامة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقًا، قال الحطاب عند قول المؤلف: لا بدين أو عطية ما نصه: يعني أن من لا يمكنه الوصول إلى مكة، إلا بأن يستدين مالًا في ذمته، ولا جهة وفاء له، فإن الحج لا يجب عليه؛ لعدم استطاعته. وهذا متفق عليه. وأما من له جهة وفاء فهو مستطيع، إذا كان في تلك الجهة ما يمكنه به الوصول إلى مكة - إلى أن قال:
وقوله: أو عطية يعني به أنه إذا أعطي له مال يمكنه به الوصول إلى مكة، على جهة الصدقة أو الهبة، فلا يقبله ويحج به؛ لأن الحج ساقط، وظاهر كلام صاحب الطراز أنه متفق عليه أيضًا لما في ذلك من تحمل المنة.
قلت: بل لأن أسباب الوجوب لا يجب على أحد تحصيلها. قال في ألفية مراقي السعود، لشيخ مشائخنا الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي ثم الشنقيطي:
وما وجوبه به، لم يجب
…
في رأي مالك وكل مذهب
وبالله تعالى توفيقي، عليه توكلت هو حسبي ونعم الوكيل.
وقوله: أو سؤال مطلقًا، يعني أن من لم يمكنه وصول مكة إلا بسؤال الناس مطلقًا، إنه لا يعدّ بذلك مستطيعًا، ولا يجب عليه الحج. ويعني بالإطلاق في قوله: أو سؤال مطلقًا؛ سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا، وسواء كان عادة الناس إعطاءه أو لا. قال شيخنا في أضواء البيان: ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}
(1)
. الآية. ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد ثبت في صحيح =
(1)
سورة التوبة: 91.
بِهِ إنْ خَشِيَ ضَيَاعًا (1). وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ إلَّا أنْ يَغْلِبَ عَطَبُهُ أوْ يُضَيِّعَ رُكْنَ صَلَاةٍ لِكَمَيْدٍ (2). وَالْمَرْأةُ كَالرَّجُل إلَّا فِي بَعِيدِ مَشْيٍ وَرُكُوبِ بَحْرٍ (3)، إلَّا أن تَخْتَصَّ
= البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون. فإذا قدموا المدينة سألوا الناس، فانزل الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(1)
. قال ابن حجر في كلامه على هذا الحديث: قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى. انتهى من أضواء البيان بتصرف.
(1)
وقوله: واعتبر ما يرد به إن خشي ضياعًا، قال الحطاب: يعني أنه يعتبر في الاستطاعة ما يوصل المكلف إلى مكة، وما يرد به أن يخشى على نفسه الضياع في مكة. ومراده ما يرد به إلى أقرب المواضع مما يمكنه التمعيش فيه. كذا قال اللخمي وساقه على أنه المذهب.
قلت: ولعله، إن حصل على إذن المقام بمكة في هذا الزمن، أن لا يعتبر ما يرد به، أما إن كان دخوله الحرم، بإذن الحج فقط، فإنه يتعين عليه ما يرد به إلى بلده؛ لما يترتب على بقائه بالحرم بدون إذن المقام من الضرر، ولقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(2)
. الآية. ولا يحل لامرئ مسلم أن يذل نفسه. وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: والبحر كالبر إلا أن يغلب عطبه أو يضيع ركن صلاة لكميد، يعني أن البحر طريق إلى الحج كالبر، فيجب سلوكه إذا تعين ولم يكن طريق سواه، كمن يكون في جزيرة، أو إن تعذر عليه سلوك البر لخوف أو نحوه. وإن لم يتعين سلوكه فيخير في سلوكه وفي سلوك البر. والدليل على جواز ركوب البحر قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
(3)
. الآية. ونحوها. وبعيد جدًّا أن يمن الله على عباده بما حظره عليهم ولم يبحه لهم.
ومن أدلة جواز ركوب البحر حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه، أنه صلى الله عليه وسلم نام عند أم حرام، ثم استيقظ وهو يضحك فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟. فقال: "أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأسِرَّةِ". الحديث. وما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لَا =
(1)
سورة البقرة: 197.
(2)
سورة البقرة: 195.
(3)
سورة يونس: 22.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلَّا حَاجٌّ أو مُعْتَمِرٌ أو غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ". انظر الحطاب في هذا المحل.
وأما قول المؤلف: إلا أن يغلب عطبه، فهو داخل في قول المؤلف قبل: وأمن على نفس ومال.
وأما قوله: أو يضيع ركن صلاة لكميد، فمعناه أن شرط ركوب البحر - فأحرى لغيره - أن يعلم الراكب أنه يوفي بصلاته في أوقاتها، من غير أن يضيع شيئًا من فروضها، وهذا ليس خاصًا بالبحر، بل هو شرط في وجوب الحج مطلقًا. قال في المدخل. قال علماؤنا: إذا علم المكلف أنه تفوته صلاة واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط الحج. ا. هـ. من الحطاب.
قلت: والجو مثل البر والبحر في جواز ركوبه، واتخاذه وسيلة للوصول في أمن إلى مكة المكبرمة لأداء فريضة الحج، والاستئناس في ذلك بدلالة الاقتران في قوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
. فإن اقتران الامتنان بهذا الخلق، الذي لا يعلم في ذلك الوقت بالامتنان بالمركوبات، يدل على أنه من جنس المركوبات، علمًا بأن ركوب الجو اليوم أقل خطرًا من ركوب سفن البر، إن لم نقل: وسفن البحر، وبإمكان الراكب أداء صلاته في الطائرة بكل أركانها. ولشيخنا محمد الأمين بن محمد المختار عليه رحمة الله تعالى، رسالة في جواز الصلاة بالطائرة. ومن التحدث بنعمة الله أن نقول: إنه لم يسبق أن ضاع لنا وقت فيها، على كثرة ركوبنا لها، والله المحمود على ذلك. وهو الموفق.
وعجبي لا ينقضي من أناس بموريتانيا، معلوماتهم لا تخولهم جواز الفتيا، وتجاربهم محدودة جدًّا، يفتون العامة بعدم جواز ركوب الطائرة لأداء فريضة الحج؛ لاحتمال ضياع وقت للصلاة فيها، علمًا بإطلاقهم الإذن في ركوبها مطلقًا في الحوائج الدنيوية، وقد فات هؤلاء أن قول المرء على الله ما لا يعلم هو طاعة للشيطان:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
. الآية. أما علم هؤلاء المفتون المفتنون أن الحجاج باستطاعتهم أن يشترطوا على شركة الطيران التي يجري التعاقد معها لنقل الحجاج، التوقف في محطة كذا لأداء الفريضة التي =
(1)
سورة النحل: 8.
(2)
سورة البقرة: 169.
بِمَكَانٍ وزيادَةِ مَحْرَمٍ، أوْ زَوْجٍ لَهَا؛ كرُفْقَةٍ أُمِنَتْ بِفَرْضٍ (1)، وفِي الاكْتفَاء بِنِساءٍ أوْ رِجَالٍ أوْ بِالمَجْمُوعِ تَرَدُّدٌ.
= تعرض، هذا بالإضافة إلى أن الراكب بإمكانه أداء فرضه بركوعه وسجوده، وكل ما يلزم من طمأنينة، على متن الطائرة. والتجربة خير دليل. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: والمرأة كالرجل إلا في بعيد مشي الخ. قال الحطاب: يعني أن حكم المرأة كحكم الرجل في جميع ما تقدم؛ من وجوب الحج عليها مرة في العمر، وسنية العمرة كذلك، وفي فورية الحج وتراخيه، وشروط صحته وشروط وجوبه وغير ذلك، لدخولها في عموم قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . وفي عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ". الحديث إلا أنها لضعفها وعجزها اعتبر الشرع في حقها شروطًا أشار المصنف إليها بقوله: إلا في بعيد مشي ألخ. أي فلا يجب الحج عليها ماشية من المكان البعيد لخوف عجزها. ا. هـ. منه.
قال المواق: ابن المواز: ليس النساء كالرجال وإن قوين؛ لأنهن عورة في مشيهن إلا المكان القريب؛ مثل أهل مكة وما حولها أقرب منها إذا أطلقن المشي، وكره مالك حج المرأة في البحر لأنها تنكشف. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وزيادة محرم أو زوج كرفقة مأمونة بفرض، يعني أنه يشترط في وجوب الحج على المرأة أيضًا وجود زوج أو محرم، فإن لم يكن لها محرم ولا زوج، فالمذهب وجوب الخروج عليها - لحجة الفرض - مع رفقة مأمونة، ودليل اشتراط المحرم في وجوب الحج على المرأة، ما رواه مالك في الموطإ عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا". وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم بروايات مختلفة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ". هو من قبيل التغليظ يريد - والله أعلم - أن مخالفة هذا ليس من أفعال من يؤمن بالله واليوم الآخر.
وقال الباجي: والعلة في منعها من السفر مع غير ذي محرم هي كونها عورة يجب عليها التستر ويحرم عليها التبرج. ا. هـ. الحطاب. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي الموطإ: وقال مالك: في الصرورة من النساء التي لم تحج قط: إنها إن لم يكن لها محرم يخرج معها، أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها، أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج. لتخرج مع جماعة النساء. ا. هـ. منه.
وفي صحيح مسلم من طريق الأعمش، عن أبي صالح عن أبي نسعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ سَفَرًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلَّا مَعَ ابْنِهَا، أَوْ أَبِيهَا، أَوْ أَخِيهَا، أَو زَوْجِهَا أَوْ ذِي مَحْرَمٍ".
وفي حديث متفق عليه عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرأَةٍ. وَلَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحرَمٍ". فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة؟. فقال:"انْطَلِقْ فَاحْجُجْ بِامْرَأَتِكَ".
وقد تمسك بهذه الأحاديث من جعل المحرم شرطًا في وجوب الحج على المرأة. وهو قول النخعي والحسن البصري، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وقال أصحابنا: تخرج لأداء الفرض مع رفقة مأمونة، وهو مذهب الإِمام الشافعي، ويستأنس لهذا القول بما روي أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف. أخرجه البخاري في صحيحه في العمرة، باب حج النساء.
قال الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة ج 6/ ص 21 ما نصه: وأخرج ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق أبي إسحاق السبيعي قال: رأيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن في هوادج عليها الطيالسة زمن المغيرة، يعني ابن شعبة في زمن ولايته على الكوفة، وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها.
وروى أحمد ج 5/ ص 218. وأبو داود - 1722 - من طريق واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجة الوداع: "هذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصُرِ". وإسناده صحيح. وزاد ابن سعد من حديث أبي هريرة: فكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحججن إلا سودة وزينب. قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. منه. وبالله تعالى التوفيق.
وَصَحَّ بِالْحَرَامِ وعَصَى (1). وفُضِّلَ حَجٌّ عَلى غَزوٍ إلَّا لِخَوْفٍ (2). ورُكُوبٌ، ومُقَتَّبٌ، وَتَطَوُّعُ وَليِّهِ عَنْهُ بِغَيْرهِ؛ كَصَدَقَةٍ وَدُعَاءٍ (3). وإجَارَةُ ضَمَانٍ على بَلَاغٍ فَالْمَضْمُونَةُ كَغَيْرِهِ، وتَعَيَّنَتْ فِي الإطْلَاقِ كَمِيقَاتِ الْمَيِّتِ (4).
(1)
وقوله: وصح بالحرام وعصى، هذا مذهب الجمهور. قال به مالك والشافعي وأبو حنيفة خلافًا لابن حنبل. وإنما عبر المصنف بقوله: صح، ولم يقل: وسقط؛ ليشمل ذلك الفرض والنفل، فإن الحكم بالصحة يشملهما، والسقوط خاص بالفرض. والمأخذ هنا من مسائل الاجتهاد. قالوا: وجاز اجتماع الصحة والعصيان لانفكاك الجهة، لأن الحج أفعال بدنية، وإنما يطلب المال ليتوصل به إليه، فإذا فعله لم يقدح فيه ما تقدمه من التوصل إليه.
وقال ابن حنبل: لا يجزئه لأنه سبب غير مشروع، وهذا جار على نحو ما تقدم عند قول المصنف في الصلاة: وعصى وصحت إن لبس حريرًا ألخ.
ونقل الحطاب عن ابن فرحون في مناسكه قولًا عن مالك بعدم الإجزاء، وأنه وقف بالمسجد الحرام ونادى: أيها الناس. من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، من حج بمال حرام فليس له حج. أو كلام هذا معناه. ا. هـ. منه.
تنبيه: يجب على من يريد الحج أن يحرص على أن تكون نفقته حلالًا لا شبهة فيها، وما أصعب ذلك اليوم، وذلك لقوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(1)
. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
(2)
. وقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
(3)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِللهُ الطَّيِّبَ". الحديث المتفق عليه. ولقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "إنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبُ لَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ". ولما نقله الحطاب عن القرطبي في شرح مسلم أن الصديق رضي الله عنه شرب جرعة لبن فيه شبهة وهولا يعلم، فلما علم استقاءها فأجهده ذلك، فقيل له: أكلّ ذلك في شربة لبن؟. فقال: والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَولَى بِهِ".
قال الحطاب: وإذا كانت الحال هذه، فسبيل المرء أن يتقي الله في سره وعلانيته، وأن =
(1)
سورة البقرة: 197.
(2)
سورة المائدة: 27.
(3)
سورة البقرة: 267.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يحافظ على شروط قبول عبادته. وقد قال بعض العلماء: إن أعمال الجوارح في الطاعات، مع إهمال شروطها، ضحكة للشيطان؛ لكثرة التعب وعدم النفع. ا. هـ. منه. لذلك، يتجه القول بعدم قبول حج من حج بمال حرام؛ لاقتران عمله بالمعصية، وفقدان شرط قبول الطاعة؛ الذي هو التقوى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . الآية. ولله در القائل، وقيل إنه ابن حنبل الإِمام:
إذا حججت بمال أصلُهُ سُحُتٌ
…
فما حججْتَ ولكن حجت العيرُ
لا يقبلُ الله إلا كلَّ طيبةٍ
…
ما كل من حج بيت الله مبرورُ
وبالله تعالى توفيقي، عليه توكلت. هو حسبي ونعم الوكيل.
(2)
وقوله: وفضل حج على غزو إلَّا لخوف، قال الحطاب في هذا المحل ما نصه: وأصل هذه المسألة في الموازية، وفي رسم يوصى من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات من العتبية ونصها: وسئل مالك عن الغزو والحج أيهما أحب إليك؟. قال: الحج، إلَّا أن يكون سنة خوف. قيل: فالحج والصدقة؟. قال الحج إلا أن تكون سنة مجاعة. قيل له: فالصدقة العتق؟. قال: الصدقة.
قال ابن رشد: قوله: الحج أحب إليَّ من الغزو إلا أن يكون خوف؛ معناه في حج التطوع لمن قد حج الفريضة. وإنما قال ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعُمْرةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهُمَا. وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ". أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأخرجه مالك في الموطإ.
قال الحطاب: ولأن الجهاد - وإن كان فيه أجر عظيم - إذا لم يكن خوف، قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات عند الموازنة، فلا يستوجب به الجنة كالحج، وأما الغزو مع الخوف فلا شك أنه أفضل من الحج التطوع - والله أعلم - لأن الغازي مع الخوف قد باع نفسه من الله عز وجل، فاستوجب به الجنة والبشرى من الله بالفوز العظيم. قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}
(1)
. الآية. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة التوبة: 111.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: وأين هذا التفضيل للحج على الجهاد، من منطوق الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟. قال: "إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولهِ". قيل: ثُم مَاذَا؟. قال: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ". قيل: ثُمَّ مَاذا؟. قال: "ثُمَّ حَجُّ مَبْرُورُ". أخرجه البخاري ومسلم. وقد نص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجهاد في سبيل الله أفضل من الحج المبرور. فهو مستند قوي لما روي عن ابن وهب أن تطرع الجهاد أفضل من تطوع الحج.
قال الحطاب: قال ابن عرفة في أوائل الجهاد: ابن سحنون: وروى ابن وهب: تطوع الجهاد أفضل من تطوع الحج. ا. هـ. منه. وهو في نظري القاصر أجرى على الدليل من غيره. والله الموفق.
(3)
وقوله: وركوب، ومقتَّب، يعني أن الركوب في الحج أفضل من المشي فيه. والمقتب - بالتشديد - اسم مفعول من باب التفعل، من أقتب بالبعير. قال الحطاب: وقياسه أن يقال: مقتب - بالتخفيف كمكرم - اسم مفعول من باب الإفعال. قال: ولعل المصنف وقف عليه، وعلى كل حال فهو على حذف مضاف، أي وفضل ركوب على مقتب - وهو الذي جعل له قتب - بفتح القاف المثناة الفوقية - هو رحل صغير على قدر السنام. أي والركوب على مقتب أفضل من الركوب على المحمل - كمجلس - وذلك لموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه - بأبي هو وأمي - حج على رحله، وكان أصحابه رضي الله عنهم يحجون على رحالهم. وأول من ابتدع المحمل الحجاج بن يوسف فركب الناس سنته.
قال الحطاب: وكان العلماء في وقته يتركونها ويكرهون الركوب فيها، إلى أن قال: وعن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: صدرت مع ابن عمر رضي الله عنهما يوم الصدر، فمرت بنا رفقة يمانية رحالهم الأدم، فقال عبد الله بن عمر: من أراد أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت الحج العام برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا قدموا في حجة الوداع، فلينظر إلى هذه الرفقة. رواه البيهقي. قال: وفي منسك ابن جماعة: ويستحب الحج على الرحل - والمقتب دون المحمل لمن قوي على ذلك ولم يشق عليه - اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بالتواضع والمسكنة، ولا يليق بالحاج غير ذلك. وعن أنس رضي الله عنه قال: حج النبيُّ صلى الله عليه وسلم على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - أو تسوى - ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ حِجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةً". رواه ابن ماجة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة أخاها عبد الرحمن رضي الله عنهما، فأعمرها من التنعيم، وحملها على قتب. رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم. ا. هـ. منه.
قلت: الخلاف في أفضلية الركوب في الحج أو المشي، يتخرج على قاعدة أصولية؛ وهي أن أفعاله صلى الله عليه وسلم التي تقتضيها الجبلّة البشرية، لا تدخل في حد السنة إلا في ملامح الصفة؛ مثل الأكل والشرب والركوب والاضطجاع، فإن الخلقة البشرية تطلب هذه الأمور، فليس لقائل أن يقول. الأكل سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يأكل. بل السنة في ذلك ملامح صفات أكله؛ من حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل بيمينه، وبثلاثة أصابع، وربما استعان بالرابع، إلى غير ذلك.
ولذلك كان كلما اقترنت عبادة بفعل من أفعاله الجبلّية، جرى الخلاف فيها؛ كالركوب في الحج، فمن قال: سنة. يقول: لأنه صلى الله عليه وسلم ركب في حجه وقال: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". ومن قال: غير سنة. يقول: ركب لأن الطبيعة البشرية تقتضي ذلك. وهذا التفصيل هو ما عناه شيخ مشائخنا في ألفية مراقي السعود بقوله في كتاب السنة:
وفعله المركوز في الجبلّه
…
كالأكل والشرب فليس مِلَّه
فالحجُّ راكبًا عليه يجري
…
كضجعة بعد صلاة الفجر
أي ويجري الخلاف بموجب هذه القاعدة، في أفضلية الركوب في الحج، وفي سنية الضجعة بعد صلاة ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح، فمن يقول هي سنة، قال: لدوامه صلى الله عليه وسلم عليها. ومن قال: هي غير سنة يقول: لأنها استراحة جبلية من تعب قيام الليل. وبالله التوفيق.
ولذلك فقد جرى الخلاف وصار له وجه من النظر.
قال القرطبي: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلف في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل. ولا خلاف أن الركوب في الموقف بعرفة أفضل. واختلفوا في الطواف والسعي؛ فالركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الحطاب: وكلامه الأخير يوهم أن الركوب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عند مالك في الطواف والسعي أفضل، وليس كذلك، بل المشي فيهما عنده من السنن المؤكدة، ومن واجبات الحج التي يجب بتركها دم. والله أعلم. ا. هـ. منه.
واختار اللخمي وصاحب الطراز أن المشي أفضل؛ للآثار الواردة في فضله. وأجابا عن ركوبه بأجوبة وجيهة جدًّا؛ منها أن ركوبه كان ليظهر للناس فتأخذ عنه المناسك، ولذلك فقد طاف راكبًا على بعيره، وإن كان ذلك ممنوعًا لغيره. واستدل أهل هذا القول بما في البخاري:"مَا اغْبَّرتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ". حديث شريف، وبما روي عن ابن عباس: وددت أني حججت ماشيًا. وبأنه ورد عن جماعة من الأفاضل فعل ذلك؛ منهم الحسن بن علي رضي الله عنهما، وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج لجنازة ماشيًا ورجع راكبًا، وبما رواه الترمذي عن علي: من السنة أن يخرج للعيدين ماشيًا، إلى غير ذلك. انظر المبحث في الحطاب.
وقوله: وتطوع وليه عنه بغيره كصدقة ودعاء، يعني أنه يفضَّلُ تطوع ولي الميت عنه بغير الحج، كالصدقة عنه، والعتق عنه، والإِهداء عنه، والدعاء له على تطوعه عنه بالحج.
ونص المدونة في ذلك: ومن مات وهو صرورة، ولم يوص أن يحج عنه أحد، فأراد أن يتطوع عنه بذلك ولد أو والد أو زوجة أو أجنبي، فليتطوع عنه بغير هذا؛ يهدي عنه أو يتصدق، أو يعتق. انتهى. وقوله: وهو صرورة، نبه به أن غير الصرورة أولى أن لا يحج عنه. ا. هـ.
قلت: قد وردت أحاديث صحيحة صريحة في جواز النيابة في الحج عن الحي العاجز؛ الذي يعرف عند أصحابنا بالمعضوب - بالعين المهملة بعدها ضاد معجمة - وعن الميت، من ذلك حديث متفق عليه عن ابن عباس وأخرجه البغوي: ولفظه عنده: عن عبد الله بن عبَّاس أنه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟. قال:"نَعَمْ". وذلك في حجة الوداع. ا. هـ.
وفي البغوي أيضًا بسنده إلى ابن العباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال له: إن أختي نذرت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أن تحج، وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكنتَ قَاضِيَةُ". قال: نعم. قال: "فَاقْضِ اللهَ فَهُوَ أحَقُّ بِالْقَضَاءِ". وقد أخرج البخاري هذا الحديث في الأَيمان والنذور. باب من مات وعليه نذر. وفي الحج في مواضع أخرى.
غير أن إمامنا مالك بن أنس ومن وافقه، لم يعملوا بظاهر الأحاديث الدالة على جواز النيابة عن الحي العاجز ولا عن الميت؛ وذلك لأن هذه الأحاديث مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(1)
. ولأنه تعالى يقول: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . والمعْضُوبُ والميت ليس واحد منهما يستطيع سبيلًا إلى الحج؛ لصدق قول من يقول: إنه غير مستطيع بنفسه، فلا فرض على واحد منهما أصلًا حتى تقع النيابة عنه. لذلك، فإن الحج عن هذين من مالهما لا يلزم عند أصحابنا إلا بوصية، فإن أوصى به، صحت الوصية بذلك من الثلث، وأما تطوع ولي الميت عنه بالحج فهو خلاف الأولى، بل مكروه، والأفضل عند مالك أن يجعل ذلك المال، الذي يحج به عنه، في غير الحج؛ كان يتصدق به عنه، أو يعتق به عنه ونحو ذلك، لكنه إن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه. والحاصل أن النيابة عن الصحيح في الفرض عند مالك ممنوعة، وفي غير الفرض مكروهة، وأن العاجز عند مالك لا فرض عليه أصلًا. وبالله تعالى التوفيق.
(4)
وقوله: وإجارة ضمان على بلاغ، فالمضمونة كغيره، قال المواق: عبد الوهاب: تصح الإجارة عندنا على الحج. القرافي: إنما صححناها لأنها محل اجتهاد فلا يقطع بالبطلان، وهي على ثلاثة أوجه:
على وجه الجعالة، وهي أن لا يلزم نفسه شيئًا، ولكن إن حج كان له كذا وإلَّا فلا.
والقسم الثاني: أن تكون بالنفقة، وتسمى البلاغ؛ وهو أن يدفع إليه مالًا ليحج به، فإن احتاج إلى زيادة رجع بها، وإن فضل شيء رده.
والقسم الثالث: أن تكون بأجرة معلومة. قال محمد: وهذا أحب إليَّ من البلاغ. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة النجم: 39.
وَلَهُ بالْحِسَابِ إنْ مَاتَ وَلَوْ بِمكَّةَ أوْ صَدَّ، والْبَقَاءُ لِقَابِلٍ، واسْتُؤْجِرَ مِنَ الْانْتِهَاء، ولَا يَجُوزُ اشْتِراطُ كَهَدْيِ تَمَتُّعٍ عَليْهِ، وَصَحَّ إِنْ لَمْ يُعَينِ الْعَامَ، وَتَعَيَّنَ الْأوَّلُ وَعَلَى عَام مُطْلَقِ وَعَلَى الْجَعَالَةِ وَحَجَّ عَلَى مَا فُهِمَ وَجَنَى إنْ وَفَّى دَيْنَهُ وَمَشَى، وَالْبَلَاغُ إِعْطَاءُ مَا يُنْفِقُهُ بَدْءًا وَعَوْدًا بِالْعُرْفِ، وَفِي هَدْيٍ وَفِدْيَةٍ لَمْ يَتَعَمَّدْ مُوجِبَهُمَا، وَرُجِعَ عَلَيْهِ بِالسَّرَفِ، وَاسْتَمَرَّ إنْ فَرَغَ، أوْ أحْرَمَ، أوْ مَرِضَ، وَإِنْ ضَاعَتْ قَبْلَهُ رَجَعَ وَإِلَّا فَنَفَقَتُهُ عَلَى آجِرِهِ، إلَّا أنْ يُوصِيَ بِالْبَلَاغِ، فَفِي بَقِيَّةِ ثُلُثُهِ وَلَوْ قُسِمَ، وَأجْزَأ إنْ قُدِّمَ عَلَى عَامِ الشَّرْطِ، أوْ تَرَكَ الزَيارَةَ وَرَجَعَ بِقِسْطِهَا، أوْ خَالَفَ إفْرادًا لِغَيْرِهِ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ الميِّتُ وإِلَّا فَلَا؛ كَتَمَتُّعٍ بِقِرَانٍ أوْ عَكْسِهِ، أوْ هُمَا بِإِفْرادٍ، أوْ مِيقَاتًا شُرِطَ، وَفُسِخَتْ إنْ عُيَّنَ العَامُ أوْ عُدِمَ كَغَيْرِهِ، وَقَرَنَ أوْ صَرَفَهُ لِنَفْسِهِ، وَأعَادَ إنْ تَمَتَّعَ، وَهَلْ تَنَفَسِخُ إنِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْمُعَيَّنِ، أوْ إلَّا أن يَرْجِعَ لِلْمِيقَاتِ فَيُحْرِم عَنِ الْمَيتِ فَيُجْزِيهِ؟. تأوِيلَانِ.
= وهذا الوجه الأخير هو الذي سماه المصنف إجارة ضمان، وفضَّلها على البلاغ لكونها أحوط؛ لوجوب محاسبة الأجير إذا لم يتم عمله لمانع من موت أو صد أو مرض، ولأن الأجرة فيها تتعلق بذمة الأجير إذا عجلت له.
وقوله: فالمضمونة كغيره، يعني - والله أعلم - أن الإجارة المضمونة على الحج، كالإجارة على غير الحج في الضمان وعدمه، فيكون له الفضل والنقصان عليه. قال المواق: الإجارة المضمونة هو أن يستأجر الرجل على حجة مضمونة من مكان معلوم بأجرة معلومة، فيكون الفضل له والنقصان عليه، فإن مات قبل الفراغ من الحج كان له من الأجرة بحساب عمله، وأخذ الباقي من ماله. ابن شاس: وهي كالإجارة كلها.
وقوله: وتعينت في الإطلاق، يعني أن الإجارة المضمونة تتعين في إطلاق الموصى؛ ذلك أنه إذا أوصى الميت أن يحج عنه، ولم يبين هل ذلك على البلاغ أو على ضمان، تعين أن تكون الإجارة على الضمان. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: كميقات الميت، قال المواق في العتبية: من استؤجر على الحج عن ميت، فعليه أن يحرم من ميقات الميت.
قال الحطاب: يعني أن من استؤجر على أن يحج عن ميت، من بلد ذلك الميت، فإنه يتعين عليه أن يحرم من ميقات الميت، وإن لم يشترط عليه ذلك في العقد. يريد: وكذلك أن استؤجر على أن يحج عن الميت من بلد غير بلد الميت، فإنه يتعين عليه الإحرام من ميقات ذلك البلد. قال اللخمي: ابن القاسم: ويحرم من ميقات الميت وإن لم يشترطوا ذلك عليه. ا. هـ. منه.
قال مقيده - عفا الله عنه -: هذه صفحة ليس فيها إلا الاجتهاد لعدم النصوص في هذا المحل، غير أنه لما كان يصعب على من لم يمارس دروس المختصر حك ألفاظه عن وجادة أحببت أن أتعرض لمجرد حل هذه الألفاظ باختصار، وإن كان ذلك من غير ما التزمت به.
فقوله: وله بالحساب إن مات، يعني؛ ولأجير الضمان من الأجرة - إن كان العقد متعلقًا بعينه بالحساب - إن مات قبل الإتمام، سواء كان ذلك قبل الإحرام أو بعده. مثال ذلك أن يقال: بكم يحج مثله في زمن الإجارة من موضع الاستئجار؟. فإن قيل: بعشرة. قيل: وكم يحج مثله في زمنها من موضع موت الأجير؟. فإن قيل: بثمانية. علمنا أن الأجير استحق من الأجرة خمسها، فيرد من تركته أربعة أخماس الأجرة إن كان قبضها، وإلا دفع لوارثه خمس الأجرة، أما إذا كانت أجرة الضمان تتعلق بذمته، ومات قبل التمام، فيقوم وارثه مقامه، فإن امتنع أخذ من تركة الميت أجرة حجة بالغة ما بلغت. نسبه جواهر الإكليل للمتيطي وسند.
وقوله: ولو مات بمكة أو صُد، أي ولو كان موته بمكة فليس له في أجرة الضمان إلا بالحساب - إن كان موته وقع قبل التمام - خلافًا لابن حبيب، وأما أجير البلاغ فله ذلك بقدر ما أنفق، ولا شيء للمجاعل إن مات قبل التمام.
وقوله: أو صُد، يعني وإن منع الأجير في الضمان من التمام - بمرض أو عدو - حتى فاته الحج، فله من الأجرة بالحساب ويتحلل، لكنه إن كان العام غير معين، يكون له الخيار دون مستأجره؛ بين فسخ الأجرة والأخذ بالحساب، وبين البقاء على عقد الإجارة لقابل، وإن كان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= العام معينًا وتراضيا على البقاء جاز أيضًا، وإلا فالقول لمن طلب فسخ الإجارة.
وقوله: واستؤجر من الانتهاء، يعني أنه إن مات الأجير أو صد قبل التمام، استؤجر أجير على الحج من موضع الانتهاء من الأول، أي يبتدئ الأجير الثاني الحج من حيث استؤجر في المسافة لا العمل، فيبتدئه الثاني ولا يبني على ما سبق من عمل الأول، ولو لم يبق إلا طواف الإفاضة. وهذا إذا كان العام غير معين، فإن كان معينًا وحصل المانع بعد الوقوف، تعين الفسخ فيما بقي ورد حصته، فمحمل الاستئجار إذًا، حيث أمكن فعل الحج ولو في ثاني عام، لا إن كان العام معينًا، ولم تمكن الإعادة في ذلك العام.
وقوله: ولا يجوز اشتراط كهدي تمتع عليه يريد به - والله أعلم - أنه لا يجوز للمستأجر في إجارة الضمان أن يشترط هدي التمتع أو القران على الأجير؛ ومحل هذا إذا تمتع أو قرنَ بإذن المستأجر، لما في ذلك من الجهل الحاصل في الأجرة للجهل بثمن الهدي، فإن تمتع الأجير أو قرن بغير إذن المستأجر فهو على الأجير.
وقوله: وصح إن لم يعين العام وتعين الأول، يريد به - والله أعلم - وصح عقد الإجارة على الحج؛ إن لم يعين العام الذي يحج فيه الأجير، وحيث لم يعين العام، تعين على الأجير العام الأول للحج، فإن لم يحج فيه أثم ولزمه فيما يليه.
وقوله: وعلى عام مطلق، يريد به - والله أعلم - وفُضِّل تعين العام الذي يراد الحج فيه، على عام مطلق من التعيين؛ لأن ذلك أحوط، لاحتمال موت الأجير، ونفاد المال الذي بيده، ولا تركة له. فالمفضل نحو: استأجرتك أن تحج عني، أو عن فلان في عام كذا.
والثاني المفضول: نحو استأجرتك أن تحج عني، أو عن فلان في أي عام شئت.
وقوله: وعلى الجُعالة. يريد به - والله أعلم - وفضلت الإجارة - سواء كانت إجارة ضمان أو إجارة بلاغ - على الجعالة لأنها أحوط. وقال الدسوقي: الصواب أن معنى كلام المصنف: وصح العقد على الجعالة. قال المواق هنا: ابن عرفة: النيابة بعوض إجارة إن كانت عن مطلق العمل، وجُعْلٌ إن كانت على تمامه، وبلاغٌ إن كانت بقدر نفقته.
وقوله: وحج على ما فهم، يريد به - والله أعلم - وحج الأجير ضمانًا أو بلاغًا، على ما فهم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= من حال الموصي، بقرينة لفظية أو حالية من ركوب، فلا يركب إلا على ما كان يركبه الميت؛ لأنه كذلك أراد الميت أن يوصي، فلا ينبغي لمن أخذ أجرة الحجة أن يقضي بها دينه، أو يصنع بها ما أحب ويحج ماشيًا وكيفما تيسر له. كذا قاله الحطاب. ونسبه للخمي. ولذلك قال المصنف: وجنى إن وفَّى دينه ومشى، يريد - والله أعلم - وجنى الأجير، أي أثم إن قضى دينه بالأجرة ومشى في الحج. قال في جواهر الإكليل: فإن اطلع عليه قبل الحج، نزع المال من رب الدين، وألزم أن يحج به على ما فهم، أو يستأجر به غيره.
وقوله: والبلاغ إعطاء ما ينفقه بدْءًا وعودًا بالمعروف، يريد به - والله أعلم - وحقيقة البلاغ - أي إجارة البلاغ - أنها إجارة على الحج؛ أجرتها إعطاء ما ينفقه الأجير على نفسه في سفره للحج بدْءًا - أي ذهابًا من البلد إلى مكة ومنى وعرفة - وعودًا: أي رجوعًا من مكة إلى البلد، حالة كون ذلك إنفاقًا بالعرف بين الناس، بلا إسراف ولا تقتير.
قال الحطاب: قوله: بالعرف، أي بعد الوقوع. وأما أولًا، فينبغي أن يبين له النفقة بأن يقول له: حج عني وأدفع لك مائة دينار مثلًا، تنفق منها على نفسك كل يوم عشرة دراهم مثلًا. فإن لم يبين له ذلك أنفق بالعرف على نفسه. ا. هـ. جواهر الإكليل.
وقوله: وفي هدي وفدية لم يتعمد موجبهما، تقرير معناه كما في الدردير: فإن لم يكفه ما أخذه، رجع بما أنفقه فيما يحتاج إليه. وفي هدْيٍ وفدية لم يتعمد موجبهما بل فعله سهوًا أو اضطرارًا، فإن تعمد موجبهما فلا رجوع. ا. هـ.
وقوله: ورُجع عليه بالسرف - هو بالبناء للمفعول - أي ورجع على الأجير بعوض السرف الزائد على العرف، فيما أنفقه على نفسه من المال الذي دفع له، وهو ما لا يليق بحاله، وإن كان لائقًا بحال الموصي.
وقوله: واستمر إن فرغ أو أحرم أو مرض، تقريره: واستمر أجير البلاغ إلى تمام الحج، إن فرغ ما أخذه من النفقة قبل الإحرام أو بعده، كان العام معينًا أو مطلقًا، ويرجع بما ينفقه على نفسه من ماله على الوصي الذي استأجره؛ لتفريطه بالعدول عن إجارة الضمان، لا على الموصي، إلا إذا كان أوصى بالبلاغ، ففي باقي ثلثه. أو أحرم ومرض أو صد حتى فاته الحج، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فإنه يستمر في الثلاثة إن كان العام غير معين وإن كان العام معينًا انفسخت الإجارة وسقطت أجرته عن مستأجره.
وقوله: وإن ضاعت قبله رجع، وإلا فنفقته على آجره، إلا أن يوصي بالبلاغ، ففي بقية ثلثه، معناه - والله أعلم - وإن ضاعت النفقة من أجير البلاغ، وعلم بالضياع قبل الإحرام وأمكنه الرجوع، رجع للبلد الذي استؤجر منه. فإن خالف واستمر، فلا نفقة له اعتبارًا من الموضع الذي علم فيه بالضياع، إلى عوده إلى ذلك البلد، فإن وصله كانت نفقته على مستأجره منه - أي موضع الضياع - إلى بلده. ومحل هذا التفصيل إذا كان الميت لم يوص بالبلاغ، فإن كان أوصى به، استمر الأجير وله نفقته في بقية ثلث الموصي. وإن كانت النفقة ضاعت بعد إحرامه أو قبله، ولم بعلم بالضياع إلا بعد الإحرام، أو علم قبله ولم يمكنه الرجوع لعائق، فالواجب أن يستمر إلى تمام الحج، ونفقته على من استأجره لا على الموصي، إلا إذا كان أوصى بالبلاغ، فتلزم النفقة حينئذ في بقية الثلث، ولو كانت تركته قد قسمت بين ورثته.
وقوله: وأجزأ إن قدم على عام الشرط، أو ترك الزيارة ورجع بقسطها، معناه - والله أعلم - وأجزأ حج الأجير إن شرط عليه عام معين وقدم الحج على عام الشرط، لأنه بمثابة دين قدم قضاؤه قبل حلول أجله، وأما إن أخره عن عام الشرط فلا يجزئ. وأجزأ أيضًا حج الأجير إن ترك زيارة النبي صلى الله عليه وسلم المشترطة أو المعتادة، ورجع عليه بمقابلها من الأجرة، وكذا إن ترك العمرة. قال الدسوقي: ولا يطالب بالرجوع لذلك. نعم، يرجع عليه بقسطها، أي بعدل مسافتها.
وقوله: أو خالف إفرادًا لغيره إن لم يشترطه الميت وإلا فلا، تقريره - والله أعلم - وإن خالف الأجير في حجه إفرادًا اشترطه عليه الوصي أو الوارث لقران أو تمتع، أجزأ حجه ذلك فيهما، ما لم يكن الميت حين وصيته أوصى أن يحج عنه إفرادًا مثلًا، فلا يجزئ إلا ما اشترط.
وقوله: كتمتع بقران أو عكسه أو هما بإفراد أو ميقاتًا شرط، تقريره - والله أعلم - وشبه في عدم الإجزاء مخالفة تمتع مشترط وإبداله بقران، أو إبدال قران مشترط بتمتع، أو هو اشترط التمتع أو القران، فأبدل المشترط منهما بإفراد فلا يجزئ في شيء من ذلك. ولا فرق في ذلك بين كون الشرط من الوصي أو الموصي. قاله الإكليل. وإن خالف الأجير ميقاتًا شرط عليه الإحرام منه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فأحرم من غيره، فلا يجزئه، وإن كان الذي أحرم منه ميقات الميت، وكذا الإحرام بعد الميقات المشترط.
وقوله: وفسخت إن عُيِّن العام أو عدم، كغيره وقرن، أو صرفه لنفسه، أي وحيث قلنا بعدم الإجزاء في المسائل السابقة فسخت الإجارة فيها، بلاغًا كانت أو ضمانًا إن عُين العام ورد المال. وكذا إن عدم الحج بأن لم يأت به لمرض أو غيره؛ بأن فاته أو أفسده - والحال أن العام معين - فسخت الإجارة. كما تفسخ الإجارة في غير العام المعين، إذا خالف ما شرطه عليه الميت من إفراد، أو شرطه عليه الميت أو غيره من تمتع وقران. وكذا إذا اشترط عليه القران أو التمتع من الميت أو غيره فأفرد، وهذا مراده بقوله: كغيره أو قرن وأشار بقوله: أو صرفه لنفسه، إلى أنه إن أحرم عن الميت، ثم صرفه لنفسه لم يجز عن واحد منهما، ويفسخ مطلقًا عين العام أو لا ويرد الأجرة.
وقال المواق عند قوله: كغيره، الجلاب: من استؤجر على أن يحج عن غيره فلا يجوز له أن يستأجر في ذلك غيره إلا بإذن من استأجره. والله أعلم.
وقوله: وأعاد إن تمتع، يريد به - والله أعلم - وإن اشترط على الأجير قران أو إفراد فخالف بتمتع، أعاد الأجير الحج قارنًا أو مفردًا، ولا تنفسخ الإجارة إن تمتع بدلًا من القران أو الإفراد؛ لأن عداءه ظاهر يمكن الاطلاع عليه، بخلاف لو كانت مخالفته بالقران في شرط الإفراد عليه.
قال جواهر الإكليل: ويؤخذ من هذا أن من خالف الميقات في غير معين لا تفسخ إجارته، ويجب أن يعيده من قابل من الميقات المشترط.
وقوله: وهل تنفسخ إن اعتمر عن نفسه المعين، أو إلا أن يرجع للميقات فيحرم عن الميت فيجزئه؟. تاويلان. قال المواق هنا: الذي في المدونة: إذا استؤجر على الحج فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت، لم يجزه عن الميت وعليه حجة أخرى. ابن يونس: والذي أرى أنه إن رجع فأحرم من ميقات الميت فإنه يجزئه، لأنه منه تعدى فأحرم عن نفسه. - ا. هـ. - منه. =
وَمُنِعَ اسْتِنَابَةُ صَحِيحٍ فِي فَرْضٍ وإلَّا كُرِهَ؛ كَبَدْءِ مُسْتَطِيعٍ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإجَارَةِ نَفْسِهِ، ونَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنَ الثُّلُثِ؛ وَحُجَّ عَنْهُ حِجَجٌ إنْ وَسِعَ وَقَالَ: يُحَجُّ بِهِ لَا مِنْهُ. وإلَّا فَمِيراثٌ كَوُجُوده بِأقَلَّ أوْ تَطَوَّعَ غَيْرٌ، وَهَلْ إلَّا أنْ يَقُولَ: يُحَجُّ عَنِّي بِكَذَا فَحِجَجٌ؟. تَأويلَانِ. وَدُفِعَ المُسَمَّى وَإنْ زَادَ عَلَى أجْرَتِهِ لِمُعَيَّنِ لَا يَرثُ فُهِمَ إعْطَاؤُهُ لَهُ، وإنْ عَيَّنَ غَيْرَ وَارِثٍ وَلَمْ يُسَمِّ زِيدَ - إن لَمْ يَرْضَ بأُجْرَةِ مِثْلِهِ - ثُلُثُهَا، ثُمَّ تَرَبَّصَ، ثُمَّ أُوجِرَ لِلضَرُورَةِ فَقَطْ، غَيْرُ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ وَإنِ امْرأَةً، وَلَمْ يَضْمَنْ وَصِيٌّ دَفَعَ لَهُمَا مُجْتَهدًا. وَإنْ لَمْ يُوجَدْ بِمَا سَمَّى مِنْ مَكَانِهِ، حُجَّ مِنَ الْمُمْكِنِ وَلَوْ سَمَّى إلَّا أنْ يَمْنَعَ فَمِيرَاثٌ، وَلَزِمَهُ الحَجُّ بِنَفْسِهِ لَا الإشْهَادُ، إِلَّا أن يُعْرَفَ، وقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِيمَنْ يَأخُذُهُ فِي حَجَّةٍ، وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ مَنْ حُجَّ عَنْهُ، ولَهُ أَجرُ النَّفَقَةِ وَالدُّعَاءِ.
وقوله: ومنع استنابة صحيح في فرض وإلا كره، قال المواق: القرافي: قال سند: اتفق أرباب المذاهب أن الصحيح لا يجوز استنابته في فرض الحج، والمذهب كراهتها في التطوع، فإن وقعت صحت. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب: فرع: قال في شرح العمدة: النيابة في الحج إن كانت بغير أجرة فحسنة لأنه فعل معروف، وإن كانت بأجرة فاختلف المذهب فيها، والمنصوص عن مالك الكراهة؛ رأى أنه من باب أكل الدنيا بعمل الآخرة. ا. هـ. منه. وقد قدمنا الكلام على ذلك عند قول المصنف: وتطوع وليه عنه بغيره، بما فيه كفاية، فأغنى عن إعادته هنا. والحمد لله.
وقوله: كبدء مستطيع به عن غيره، هو تشبيه في الكراهة، يقول: إن الصرورة المستطيع للحج يكره له أن يبدأ بالحج عن غيره، ولا تتصور هذه الكراهة إلا على القول المرجوح، من أن وجوبه على التراخي، أما على ما عليه الجمهور من أن وجوبه للفور فهو حرام؛ بدليل حديث ابن عباس عند أبي داود، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة. قال "مَنْ شُبْرُمَهُ". قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: "حَجَجْتَ عَنْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نَفْسِكَ"؟. قال: لا. قال: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ". قال شيخنا في أضواء البيان: هذا الحديث صالح للاحتجاج، وفيه دليل على أن النائب في الحج لابد أن يكون قد حج عن نفسه. ا. هـ. منه.
وقوله: وإجارة نفسه، أي يكره للمرء أن يؤجر نفسه في عمل طاعة من الطاعات، سواء في ذلك الحج أو غيره، لقول مالك: لأن يؤجر الرجل في عمل اللَّبن وقطع الحطب وسوق الإبل، أحب إلي من أن يعمل عملًا لله بأجرة. ومحل الخلاف في غير تعليم القرآن للأطفال والأذان؛ لجواز الإجارة على ذلك اتفاقًا. والله ولي التوفيق.
وقوله: ونفذت الوصية به من الثلث، وحج عنه حجج إن وسع. وقال: يُحج به لا منه، أي: ونفذت الوصية بالحج من الثلث، سواء كان الموصي صرورة أو غير ذلك. ويُحج عن الموصي بذلك الثلث حجج، إن كان في وصيته سمى الثلث، وكان يسع ذلك، والحال أنه قال في وصيته: يحج به. أي بالثلث، لا إن قال: يحج عني منه. فإنه يحج عنه منه حجة واحدة؛ لأن مِنْ للتبعيض. وبالله التوفيق.
وقوله: وإلا فميراث كوجوده بأقل أو تطوع غيرٌ، يريد به - والله أعلم - وإن لم يسع الثلث حججًا، أو وسع ذلك إلا أنه قال: يحج منه فالزائد على حجة يعتبر ميراثًا، كما يعتبر الزائد ميراثًا إن وجد الأجير بأقل مما سمى الموصي من مال لمن يحج عنه، وكان تطوع غير - من ولد أو والد أو قريب - بالحج عن الموصي بلا أجر، فإن ما أوصى به لمن يحج عنه يعتبر ميراثًا، سواء كان ثلثًا أو قدرًا معينًا من المال.
وقوله: وهل إلا أن يقول: يحج عني بكذا فحجج تأويلان، مراده به أن أهل المذهب اختلفوا في الصورة التي يرجع فيها المال ميراثًا؛ قيل: يرجع ميراثًا إذا وجد بأقل مما سماه، ونعني الزائد عن المسمى. ويرجع جميعه ميراثا إذا تطوع أحد بالحج عنه، سواء قيد بالمرة أو أطلق. وقيل لا يرجع ميراثًا إلا إذا قيد بالمرة، بأن قال: يحج عني به حجة أو منه حجة. فإن أطلق بأن قال: يحج عني بكذا. فيحج عنه حجج حتى ينفذ، ولا يرجع الزائد ميراثًا. والله تعالى أعلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ونص مناسك المصنف: وإن سمى قدرًا حج عنه به، فإن وجد من يحج عنه بدونه كان الفاضل ميراثًا، إلا أن يفهم إعطاء الجميع. هذا إن سمى حجة، وإن لم يسم فكذلك عند ابن القاسم. وقال ابن المواز: يحج به حجج. ا. هـ. جواهر الإكليل.
وقوله: ودفع المسمى وإن زاد على أجرته لمعين لا يرث فُهم إعطاؤه له، نقل المواق هنا عن ابن يونس ما نصه: من المدونة، قال ابن القاسم: إن قال: أعطوا فلانًا أربعين دينارًا يحج بها عني. فاستأجره بثلاثين، فحج عنه بها، فالعشرة الباقية ميراث؛ لأن مالكًا قال فيمن أوصى أن يشترى له غلام بمائة دينار فيعتق، فاشتروه بثمانين: إن البقية ميراث. قال ابن المواز: إنما هذا إذا عرف صاحب الغلام والذي يحج بما أوصى له به من الثمن فرضي بدونه، وإلا فالوصية نافذة. ونقل من الكافي: وإذا أوصى أن يحج عنه وارثه، فذلك جائز له، وله أجرة مثله، وما زاد على ذلك فهو وصية؛ إن أجاز الورثة جاز وإلا رجع ميراثًا. ونقل عن ابن شاس: إن وجدوا بدون ما أوصى به من يحج عنه كان الفاضل لهم، إلا أن يظهر من قصده أنه أراد إعطاء جملة ما عين من المال إلى رجل بعينه فيعطاه. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن عين غير وارث ولم يسم زِيد - إن لم يرض بأجرة مثله - ثُلُثُها، ثم تربص، ثم أوجر للصرورة فقط، غير عبد وصبي وإن امرأة، يريد به - والله أعلم - إن الموصي إن عين شخصًا غير وارث للحج عنه، فإن سمى له شيئًا فلا يزاد عليه، وإن لم يسم له شيئًا يدفع له في حجه عنه، فإن رضي بأجرة مثله أو أقل منها فالأمر واضح، وإن لم يرض بأجرة مثله، زيد عليها بقدر ثلثها، فإن رضي فواضح، فإن لم يرض انتظر قبل سنة، وقيل بالاجتهاد فإن استمر ممتنعًا، أجر للحج عن الموصي الصرورة - وهو الذي لم يحج قط حجة الإِسلام - من يحج عنه، حالة كونه ممن يجب عليهم الحج، وذلك مراده بقوله: غير عبد وصبي، وإن كان الأجير امرأة عن رجل لمشاركتها للرجل في وجوب الحج. وإن خالفته في بعض محرمات الإحرام، وفي الرمل في الطواف والسعي.
وقوله: ولم يضمن وصي دفع لهما مجتهدًا، يريد به - والله أعلم - إن الوصي إن استأجر من يحج عن صرورة، ودفع المال، ثم ظهر الأجير رقيقًا أو صبيًا، لا ضمان عليه في ذلك المال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الذي دفعه باجتهاده، حين كان يظن الرقيق حرًا؛ لبياضه وفصاحته مثلًا، أو يظن الصبي بالغًا لطوله وغلظه. والضمان هنا على العبد إن غر، ويكون جناية في رقبته. وإن لم يوجد أجير يحج عن الموصي بالمال الذي سماه، لمن يحل عنه به من محل موته، حُجَّ عنه من المكان الممكن الحج منه عنه بما سماه، إن لم يسم مكانًا، بل ولو سمى مكانًا للحج عنه، ولا يورث المال الذي سماه على كل حال، إلا أن يمنع الموصي أن يحج عنه من غير المكان الذي سماه؛ كان يقول: لا تحجوا عني إلا من مكان كذا. فالمسمى حينئذ ميراث ولا يحج عنه من المكان الممكن.
وقوله: ولزمه الحج بنفسه، يعني أن الأجير للحج إن نص الموصي عليه بعينه؛ كاستأجرتك لتحج عني بنفسك. أو قامت قرينة على تعيينه؛ ككونه ممن يرغب فيه لعلمه أو لصلاحه، لا يجوز له استئجار غيره، ولا يقوم وارثه مقامه.
وقوله: لا الإشهاد إلَّا أن يعرف، يريد به - والله أعلم - أنه لا يلزم أجير الحج الإشهاد عند إحرامه، على أنه أحرم عن فلان، إلا أن تجري العادة بين الناس بذلك، أو يشترط المستأجر ذلك، فيلزم الإشهاد حينئذ، ولا يصدق بدونه ولو أمينًا وحلف، فلا يستحق الأجرة ولو قبضها.
وقوله: وقام وارثه مقامه فيمن ياخذه بحجة، يريد به - والله أعلم - أن المضونة بالذمة إذا مات الأجير فيها قبل التمام، قام وارثه مقامه في تتميم الحج أو استئجار من يتممه، في مثل فول الموصي: ادفعوا كذا دينارًا لمن يأخذه في حجة، فرضي إنسان فأخذه فيها ومات قبل تمام الحج، فلا ينفسخ العقد بموته ويقوم وارثه مقامه، فيحج بنفسه أو يستأجر من يحج، وله الفضل وعليه النقص، ويستأنف القائم بالإتمام الإحرام، سواء كان الوارث بنفسه أو من استأجره، ولا يكمل على ما فعله الأول، ويكون استئنافه من الموضع المشترط الإحرام منه، أو من ميقات المستأجر، حيث اتسع الوقت، وإلا فمن موضع يدرك منه.
وقوله: ولا يسقط فرض من حُجَّ عنه، وله أجر النفقة والدعاء، يريد به - والله أعلم - أن من حُجَّ عنه - حيًا كان أوميتًا - لا يسقط عنه الفرض بذلك الحج، ولا يكتب له غير أجر النفقة التي أنفقها الأجير في الحج عنه، وله أجر حمله على الدعاء. قال ابن فرحون: ثواب الحج للحاج، وإنما للمحجوج عنه بركة الدعاء، وثواب المساعدة. =
وَرُكُنُهُمَا الْإِحْرَامُ، وَوَقْتُهُ لِلْحَجِّ شَوَّالٌ لآخِر الْحِجَّةِ، وَكُرِهَ قَبْلَهُ (1)،
= قلت: عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمَّي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟. قال:"نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا. أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أكنْتِ قَاضِيَتَهُ؟. اقْضُوا اللهَ فَاللهُ أحقُّ أنْ يقْضَى". أخرجه المنتقى وقال: رواه البخاري والنسائي بمعناه. وفي روايه لأحمد والبخاري بنحو ذلك وفيها قال: جاء رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج. قال المجد: وفيه صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره؛ حيث إنه لم يستفصله أوارث هو أو لا. وشبهه بالديْن. قال المجد في المنتقى: وعن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإِسلام، أفأحج عنه؟. قال:"أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَبَاكَ تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ أقَضَيْتَهُ عَنْهُ". قال: نعم. قال: "فَاحْجُجْ عَنْ أَبيكَ". رواه الدارقطني.
إن هذه الأحاديث وغيرها، لتدل على أن من حج عنه وليه، أو استأجر من يحج عنه من ماله، سواء كان ذلك بوصية منه أو كان تطوعًا من الولي، سقطت عنه حجة الإِسلام؛ لأنه لا خلاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعي ما يقول حين شبه ديْن الحج - الذي هو عمل بدني، والحق فيه لله تعالى - بدين مخلوق على ذلك الميت. ولا خلاف أن الدين الذي شبه به الحج، يسقط عن صاحبه بمجرد قضائه. وإذا قلنا برأي إمامنا ومن وافقه، أن هذه الأحاديث آحاد، وقد عارضت القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(1)
. فهلا كان لنا أن نقول: إن ولد المرء هو من عمله الذي يجري عليه بعد موته، لقوله صلى الله عليه وسلم عند الشيخين:"إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ". الحديث، وذكر منها:"وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ". وإذا، فإن حج الولد عن والده الصرورة، بعد موته أو في حياته، حين عجزه، يسقط عنه حجة الإِسلام، للأدلة البينة من السنة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله رحمه الله: وركنهما الإحرام، يعني بالتثنية هنا الحج والعمرة. يقول: إن الأركان التي يتفقان فيها ثلاثة وهي: الإحرام، والطواف، والسعي، ويزيد الحج بركن رابع ليس في العمرة، وهو الوقوف بعرفة. ويريد بالركن: ما لابد منه ولا يجزئ بدلًا عنه دم ولا غيره.=
(1)
سورة النجم: 39.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهذه الأركان على ثلاثة أقسام:
قسم يفوت الحج بتركه، ولا يؤمر بشيء من أجل تركه، وهو الإحرام.
وقسم يفوت الحج بفواته، ويؤمر بالتحلل بعمرة من فاته، وبالقضاء في العام القادم، وهو الوقوف بعرفة.
وقسم لا يفوت الحج بفواته، ولا يتحلل من الإحرام قبل فعله، ولو وصل أقصى المشرق أو المغرب قبل فعله رجع حتى يفعله، وهو طواف الإفاضة والسعي.
والإحرام هو نية الدخول في حرمات الحج أو العمرة، المنسحبة حكمًا لآخر النسك.
واختلفوا في وقت الإحرام؛ فقال قوم: يحرم إذا استوت به راحلته أهلَّ. ومستند هؤلاء حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استوت به ناقته، أهلَّ من عند مسجد ذي الحليفة. وقال قوم: يحرم بعد الصلاة، ولكنه إذا استوت به راحلته أهل بالتلبية. وروي في ذلك حديث عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري فقال: فلما صلَّى في مسجد ذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا من شرف البيداء. وحديث خصيف هذا رواه عن ابن عباس. أخرجه أحمد وأبو داود. وهو ضعيف. قال البغوي: والعمل على هذا عند أهل العلم؛ يستحبون أن يكون إحرامه عقيب الصلاة، ثم منهم من يذهب إلى أنه يحرم في مكانه إذا فرغ من الصلاة، ومنهم من يقول: يحرم إذا ركب واستوت به ناقته، والله تعالى ولي التوفيق.
وقوله: ووقته للحج شوال لآخر ذي الحجة، قال الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(1)
. قال ابن الجزي الكلبي هنا: التقدير أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر؛ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة. وقيل العشر الأول منه. ويبنى على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة فعليه دم، على القول بالعشر الأول، ولا شيء عليه على القول بجميع الشهر. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة البقرة: 197.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج البغوي بسنده عن ابن جريج قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عمر يسمي أشهر الحج؟. فقال: نعم. كان يسمي شوالًا وذا القعدة، وذا الحجة. قلت لنافع: فإن أهل إنسان قبلهن؟. قال: لم أسمع منه في ذلك شيئًا. قال الأرناؤوط: أخرجه الشافعي، ومسلم بن خالد شيخ الشافعي كثير الأوهام، لكن أخرجه الطبري من طريق ابن بشار عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، وإسناده صحيح. قال البغوي: ويروى عن ابن عمر قال: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، علقه البخاري.
وقوله: وكره قبله: قال ابن الجزي: واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك على كراهة، ولم يجزه الشافعي وداود، لتعيين هذا الاسم كذلك، فكأنها كوقت الصلاة. ا. هـ. منه.
وقال المواق عند قول المؤلف: وكره قبله كمكانه: فيها كره مالك أن يحرم أحد قبل أن يأتي ميقاته، أو يحرم بالحج قبل أشهر الحج، فإن فعل في الوجهين جميعا لزمه ذلك. ابن عرفة: لا يحرم قبل ميقاته الزماني، فإن فعل انعقد .. ونقل اللخمي: لا ينعقد. ومال إليه، ومن الحج الأول لابن يونس: ومن أحرم من بلده وقبل الميقات فلا بأس بذلك، غير أنا نكره لمن قارب الميقات أن يحرم قبله. وقد أحرم ابن عمر من القدس. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة في المغني: فإن أحرم قبل أشهر الحج صح، وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج جاز. نص عليه أحمد. وهو قول النخعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة وإسحاق. ا. هـ. وقال العيني في العمدة: والقول بصحة الإحرام في جميع السنة هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وهو مذهب إبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد. ا. هـ. قاله عنهما الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة: ج 6/ ص 34.
قلت: ويمكن أن يستأنس للقول بجواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بقوله تعالي: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
(1)
. الآية، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(2)
. الآية، لاحتمال أن يكون المراد بالحج في =
(1)
سورة البقرة: 198.
(2)
سورة البقرة: 197.
كَمَكَانِهِ، وَفي رَابغٍ تَرَدُّدٌ (1)، وَصَحَّ وَللْعُمْرَةِ أَبَدًا (2) إِلَّا لِمُحْرِمٍ بِحَجٍّ فَلِتَحَلُلِهِ، وَكُرِهَ بَعْدَهُمَا، وَقَبْلَ غُرُوب الرَّابعِ (3).
وَمَكَانُهُ لَهُ لِلْمُقِيمِ مَكَّةُ، وَنُدِبَ بِالْمَسْجِدِ (4)، كَخُرُوجِ ذِي النَّفَسِ
= الأشهر المعلومات، هو الحج الكامل الذي لا كراهة فيه، والذي في آية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الحج الأعم من ذلك، الشامل للكامل والمكروه. قاله في جواهر الإكليل.
(1)
وقوله: وفي رابغ تردد، أي وفي كراهة الإحرام بالحج أو العمرة من رابغ - قرية بساحل البحر الأحمر - ذلك لأنها قبل الجحفة التي هي ميقات أهل الشام ومصر ونحوهم، وعدم الكراهة تردد لعدم نص في ذلك، والجحفة تحاذي رابغًا.
(2)
وقوله: وصح للعمرة أبدًا، تحليل معناه، وصح - أي الإحرام بالحج أو العمرة - قبل الميقات الزمني والمكاني. وفي رابغ وإن كان ذلك مع الكراهة. ووقت الإحرام للعمرة أبدًا أي في أي وقت من السنة. قال المواق: قال القرافي: أما العمرة فجميع السنة وقت لها، لكن تكره في أيام منى لمن حج.
(3)
وقوله: إلا لمحرم بحج فلتحلله، وكره بعدهما، وقبل غروب الرابع، قال المواق: الكافي: لا يعتمر أحد من الحاج حتى تغرب الشمس من آخر أيام التشريق، فإن رمى في آخر أيام التشريق، وأحرم بعمرة بعد رميه وقبل غروب الشمس لزمه الإحرام بها ومضى فيها، فإن أتمها قبل غروب الشمس لم تجزه، وإن أحرم بها قبل رميه لم يلزمه عملها ولا قضاؤها.
قال مالك: وتجوز العمرة في أيام السنة كلها، إلا الحاج فيكره لهم أن يعتمروا حتى تغيب الشمس من أيام الرمي، وكذلك من تعجل في يومين أو خرج حتى زالت الشمس من آخر أيام الرمي. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ومكانه للمقيم مكة وندب بالمسجد، يعني ومكان الإحرام بالحج بدون قران للمقيم بمكة - سواء كانت إقامته تقطع السفر أو لا، كما هو ظاهر المدونة - هو مكة بالذات، أي الموضع الذي هو به منها، وسواء في ذلك جميع من في حدود حرمة مكة؛ من أهل مني ومزدلفة وغير ذلك. ويندب الإحرام بالحج من نفس مسجد مكة؛ يحرم من الموضع منه الذي صلى به ركعتي الإحرام، ويلبي وهو به. =
لِمِيقَاتِهِ (1)، وَلَهَا، وَللْقِرَانِ الْحِل، وَالْجِعِرَّانَةُ أَوْلَى، ثُمَّ التَّنْعِيمُ (2)، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ أعَادَ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ بَعْدَهُ، وَأَهْدَى إِنْ حَلَقَ (3).
(1)
وقوله: كخروج ذي النفس لميقاته، هو تشبيه منه على الندب، أي كما يندب للغريب المقيم بمكة، الذي بقي معه وقت يسافر فيه إلى ميقاته الأصلي، أن يسافر إليه، ويحرم ويعود إلى مكة قبل يوم التروية.
قلت: قال المواق: فيها: إحرام أهل مكة ومن دخلها بعمرة من داخل الحرم، واجب لآفاقي حل بعمرة في أشهر الحج له نفس أن يحرم من ميقاته. ا. هـ -. منه. ولا يخفى ما في هذا الاستحباب من التعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ". فإنه نص صريح بأن هذه المواقيت تكون مواقيت أصلية، لكل من مر عليهن من غير أهلهن. فهل يبقى بعد ذلك لمن يريد، من حل بعمرة بمكة، الرجوع إلى ميقاته الأصلي، إلا إرادة العسر والحرج على هذا الحاج؟. والله ولي التوفيق.
(2)
وقوله: ولها وللقارن الحل، والجعرانة أولى ثم التنعيم، أي ومكان الإحرام للمعتمر وللقارن، وذلك بالنسبة لمن بمكة ممن يريد إنشاء إحرام بعمرة أو بقران - وهو الإحرام بالحج والعمرة معًا - مكان الإحرام بذلك الحل؛ وهو الأرض التي يجوز الاصطياد بها، ولا يجوز الإحرام بأحدهما في الحرم. قال الدردير: وانعقد إن وقع، ولا دم عليه، ولابد من خروجه للحل. والإحرام من الجعرانة أولى من الإحرام بها من باقي الحل؛ وذلك لاعتماده صلى الله عليه وسلم منها في ذي القعدة حين قسم غنائم هوازان. ثم يلي الجعرانة - في ندب الإحرام بالعمرة منها - التنعيم؛ وذلك لاعتمار عائشة رضي الله عنها منه، حين أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في حجة الوداع.
(3)
وقوله: وإن لم يخرج أعاد طوافه وسعيه بعده وأهدى إن حلق، يريد به - والله أعلم - أن المقيم بمكة إن لم يخرج من الحرم، وأحرم بالعمرة من الحرم، انعقد إحرامه، ووجب عليه الخروج للحل قبل أن يطوف طواف العمرة، وقبل الخروج المني يوم التروية، بالنسبة للقارن، فإن لم يخرج وطاف وسعى للعمرة، فهما فاسدان، ويجب عليه الخروج إلى الحل وإعادة =
وَإِلَّا، فَلَهُمَا ذُو الْحُلَيْفَةِ، والجُحْفَةُ، وَيَلَمْلَمُ، وَقَرْنٌ، وَذَاتُ عِرْقٍ، وَمَسْكَنٌ دُونَهَا، وَحَيْثُ حَاذَى واحدًا أوْ مَرَّ وَلَوْ بِبِحْرٍ (1).
إِلَّا كَمِصْريٍّ يَمُرُّ بِذي الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ لِحَيْضٍ رُجِيَ رَفْعُهُ (2)؛
= الطواف والسعي بعد الخروج للحل، هذا بالنسبة للمعتمر، وأما القارن إن خرج قبل الخروج إلى عرفة هو أولى، وإن لم يفعل أجزأه بخروجه إلى عرفة، لاندراج أعمال العمرة في الحج، وإن حلق المعتمر رأسه أو قصر بعد طوافه وسعيه الفاسدين، لزمته فدية من صيام أو صدقة أو نسك. والله تعالى أعلم بأدلة ذلك.
(1)
وقوله: وإلَّا، فلهما ألخ، يريد به - والله أعلم - وإلا يكن المحرم من المقيمين بمكة فمكان الإحرام لهما - أي للحج والعمرة - هو هذه المواضع. ودليل ذلك معروف؛ منه حديث ابن عمر المتفق عليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وَيُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". ومنه حديث ابن عباس المتفق عليه أيضًا قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهلّه من أهله، وكذا وكذا حتى أهل مكة يهلون منها.
ومنها حديث البخاري عن ابن عمر، وأخرجه البغوي أيضًا ولفظه: عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرن، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: انظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لهم ذات عرق. ا. هـ.
(2)
وقوله: إلا كمصري يمر بذي الحليفة الخ، قال المواق: ابن عرفة: من مر بميقات غيره أحرم منه، إلا ذا ميقات الجحفة إن مر بذي الحليفة فهي أفضل له من أن يؤخر للجحفة. وإن لحيض رجي. في النوادر: إذا مرت الحائض بذي الحليفة وترجو أن يحصل لها الطهر قبل الجحفة، فإنها لا تؤخر إحرامها إلى الجحفة، والأولى لها أن تحرم من ذي الحليفة.
قلت: قوله فهو أولى، تسامح منه رحمه الله في نظري؛ لأن من مر بميقات، وهو من =
كَإِحْرَامِهِ أوَّلَهُ (1)، وَإِزَالَةِ شَعَثِهِ (2)، وَتَرْكِ اللَّفْظِ بِهِ (3) والْمَارِّ بِهِ. إِنْ لَمْ يُرِدْ مَكَّةَ،
= غير أهله، والحال أنه مر به يريد الحج، أصبح ذلك الميقات ميقاتًا بالنسبة إليه، أخذًا من منطوق قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه:"هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ". وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: كإحرامه أوله، يريد به - والله أعلم - أن الإِحرام من أول الميقات أولى؛ لأن المبادرة إلى الطاعة مستحبة. قال الحطاب: في النوادر: ومن كتاب ابن المواز، قيل لمالك في ميقات الجحفة: أيحرم من وسط الوادي أو آخره؟. قال: كله مهل، وليحرم من أوله أحب إليَّ. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب أيضًا: تنبيه: يستثنى من هذا من أحرم من ذي الحليفة فإن الأفضل له أن يركع للإِحرام من مسجدها، ثم يحرم إذا خرج منه. إلى أن قال: وعن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟. قال: أحرم من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارًا وقال: فإن زدت على ذلك؟. قال: فلا تفعل: فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها؟. فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
. قال: وأي فتنة في هذا؟. قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلًا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو ترى أن اختيارك لنفسك في هذا خير من اختيار الله لك واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم هـ. ا. هـ. منه بقليل تصرف.
(2)
وقوله: وإزالة شعثه، الضمير فيه عائد إلى الذي يريد الإِحرام، يعني أن الأفضل للذي يريد الإِحرام، أن يزيل شعثه، بأن يقلم أظفاره، ويقص شاربه، ويحلق عانته، وينظف إبطه، وأن يزيل شعر بدنه إلا شعر رأسه، فالأفضل إبقاؤه طلبًا للشعث في الحج، والشعث: الدرن والوسخ.
(3)
وقوله وترك اللفظ به، قال في المواق: فيها، يجزئ من أراد الإِحرام التلبية، وينوي بها ما أراد من حج أو عمرة وتكفيه النية في الإِحرام، ولا يسمي عمرة ولا حجة، ذلك أحب إلى =
(1)
سورة النور: 63.
أوْ كَعَبْدٍ فَلَا إِحْرَامَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ وَإِنْ أَحْرَمَ (1). إِلَّا الصَّرُورَةَ المُسْتَطِيعَ فتأْويلَان.
وَمُرِيدُهَا إِنْ تَرَدَّدَ (2) أَوْ عَادَ لَهَا لأَمْرٍ فَكَذلِكَ، وَإِلَّا وَجَبَ الإِحْرَامُ. وأساء تارِكُهُ، ولا دَمَ إن لَمْ يَقْصِدْ نُسُكًا،
= مالك من تسمية ذلك. ا. هـ. منه. وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". الحديث المتفق عليه.
(1)
وقوله: والمار به إن لم يرد مكة. أو كعبد فلا إحرام عليه ولا دم وإن أحرم، يعني به - والله أعلم - أن المار بالميقات إذا لم يرد دخول مكة بل كانت حاجته دونها، فإنه لا إحرام عليه، ولو بدا له بعد أن جاوز الميقات دخول مكة وأحرم بعد مجاوزة الميقات، لا دم عليه وهذا لا خلاف فيه. وكذا لا يجب الإحرام على من لا يخاطب بفريضة الحج؛ كالعبد، والجارية، والصبي، والمجنون، والمغمى عليه، ومن لا يصح منه الإِحرام به كالكافر، إلا الصرورة المستطيع الذي أحرم في أشهر الحج بعد مجاوزة الميقات حلالًا، وكان حال مروره غير مخاطب لعدم إرادته دخول مكة، فإن المؤلف أجرى قولين في إلزامه الدم وعدم ذلك. واللّه أعلم. بأدلة هذه التفاصيل.
قلت: سألت شيخنا العلامة أمير المؤمنين في المعقول والمنقول في وقته، فضيلة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني ثم اليعقوبي عليه رحمة الله، سألته عن مسألة لا يدخل مكة إلا محرم فقال: أما الجمهور فإنهم على ذلك القول. والذي أراه أن الدليل مع من يقيد ذلك بإرادة الحج أو العمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ". وبالله التوفيق.
(2)
وقوله: ومريدها إن تردد ألخ، يعني أن المتردد على مكة متسببًا بفاكهة أو حطب أو غير ذلك، والعائد إليها من مسافة فما دون القصر، بعد خروجه منها لا يريد العودة إليها، وذلك لأمر عاق عن متابعة سفره، هو كالمار بالميقات الذي لا يريدها في عدم لزوم الإحرام عليه، وعدم الدم إن أحرم. وأما من أرادها لنسك أو تجارة، أو لأنها بلده، فإنه يجب عليه الإحرام من الميقات - إن وصله - أو من دونه. وأثم إن لم يحرم ولا دم عليه إن لم يقصد نسكًا بحج أو عمرة. =
وَإِلَّا رَجَعَ وَإِنْ شَارَفَهَا، وَلَا دَمَ وَإِنْ عَلِمَ - مَا لَمْ يَخَفْ فَوْتًا - فالدَّمُ؛ كَرَاجِعٍ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، وَلَوْ أَفْسَدَ لَا فَاتَ (1)، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا لَفْظُهُ، وَلَا دَمَ وَإِنْ بِجِمَاعٍ مَعَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَعَلَّقَا بِهِ، بَيَّنَ أَوْ أَبْهَمَ، وَصَرَفَهُ لِحَجٍّ، والْقِياسُ لِقِرَانٍ، وَإِنْ نَسِيَ فَقِرَانٌ (2).
= وقد تقدم لك أن الدليل إلى جانب من يقول: إن حرمة دخولها بغير إحرام هي في خصوص من يريدها لأحد النسكين. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وإلا رجع وإن شارفها ألخ. يريد به - والله تعالى أعلم - وإلا، بأن قصد بدخوله مكه نسكًا، ولم يتردد وتعدى الميقات جهلًا به، أو عن قصد ولم يحرم به، وجب عليه الرجوع للميقات ليحرم منه، وإن قارب مكة، بل وإن دخلها كما هو ظاهر المدونة، ولا دم عليه إن رجع قبل إحرامه، فإن خاف برجوعه فواتًا لحجه أو لرفقته، وجب عليه الدم وسقط عنه الرجوع إلى الميقات، ويحرم من مكانه. قالوا: لأن محظورات الإِحرام تباح بالعذر.
وقوله: كراجع بعد إحرامه، هو تشبيه منه في لزوم الدم على الذي تعدى الميقات بلا إحرام منه، بعد أن أحرم بعده. يقول: فإن الدم تخلد في ذمته، ولا يسقطه عنه رجوعه بعد إحرامه. ولو أفسد إحرامه بجماع أو إنزال، فيتمادى على إحرامه ذلك إلى تمام حجه ويقضيه، وعليه هديان؛ هدي لتعدي الميقات، وهدي للإفساد. أما إن تحلل من الحج بعمرة لأنه فاته. فإنه يسقط عنه دم التعدي؛ لأنه بتحلله صار بمنزلة من لم يحرم أصلًا.
(2)
وقوله: وإنما ينعقد بالنية وإن خالفها لفظه، هو كقوله رحمه الله في باب الصلاة: وإن تخالفا فالعقد. يقول: وإنما ينعقد الإحرام بحج أو عمرة بالنية؛ للدخول في عبادة الحج أو العمرة، وإن خالف لفظه نيته فالمعتبر نيته، ولا دم عليه لهذه المخالفة. ومعلوم أن دليل ذلك حديث عمر المتفق عليه:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". الحديث.
وقوله: وإن بجماع مع قول أو فعل تعلقا به بيّن أو أبهم، يريد به - واللّه أعلم - وينعقد الاحرام بالنية، وإن حصلت منه تلك النية حالة الجماع، لكنه ينعقد فاسدًا فيتمه ويقضيه ويهدي. =
وَنَوى الْحجَّ وَبَرِئَ مِنْهُ فَقَطْ، كَشَكِّهِ أفْرَدَ أوْ تَمَتَّعَ، وَلَغَا عُمْرةٌ عَلَيْهِ كَالثَّانِي فِي حَجَّتَيْنِ أوْ عُمْرَتينِ، وَرَفْضُهُ، وَفي كَإِحْرَامِ زَيْدٍ تَرَدُدٌ (1).
= وقوله: مع قول أو فعل تعلقا به - أي بالإِحرام من تعلق الجزء بالكل - إذ كل من القول كالتلبية، أو الفعل كالتجرد من المخيط والإِشعار مثلًا، جزء من الإِحرام؛ لأنه عبارة عن النية مع قول أو فعل، علمًا بان الراجح أن الإِحرام هو النية فقط. وإن ما مشى عليه المصنف ضعيف، قاله الدردير، قال: وينعقد الإحرام بما ذكر سواء بيّن ما أحرم به من حج أو عمرة أو هما معًا، أو أبهم ما أحرم به كان يقول: أحرمت لله. لكنه لا يفعل شيئًا إلا بعد التعيين. ويندب عند أصحابنا صرفه لإفراد الحج، إن وقع الصرف قبل طواف القدوم، وقد أحرم في أشهر الحج. وإن كان إحرامه قبل أشهر الحج صرفه ندبًا للعمرة، وكره صرفه حينئذ للحج، فإن طاف صرفه للإِفراد. قال: والقياس صرفه للقران لأنه أحوط لاشتمالِه على النسكين. وإن عين ما أحرم به ونسيه، فلم يدر أحرم بإفراد أو بقران أو بعمرة، فقران، يعمل عمله لأنه أجمع، ويهدي له، لا إنه ينوي القران، بدليل قوله: ونوى الحج فقط، أي يحدث نيته ويعمل عمل القران احتياطًا. فإن كان أحرم أولًا بحج أو قران لم يضره ذلك، وإن كان أحرم بعمرة، فقد أردف الحج عليها، وبرئ من الحج فقط لا من العمرة؛ لاحتمال أن يكون إحرامه الأول بإفراد. والله تعالى أعلم بأدلة هذه التفاصيل.
(1)
وقوله: كشكه أفرد أو تمتع ألخ، هو تشبيه في براءته من الحج فقط؛ أي كما لو أحرم ثم شك: هل كان أحرم بإفراد أو بعمرة، وهو مراده بالتمتع؟. فإنه ينوي الحج ويبرأ منه فقط، ويأتي بالعمرة لاحتمال أن يكون أحرم أولا مفردًا.
وقوله: ولغا عمرة، قال الدردير: لغا - بفتح اللام والغين المعجمة كرمى - فعل لازم بمعنى بطل، وعمرة فاعله. أي وبطلت عمرة أردفت عليه - أي على الحج - لضعفها وقوته. ثم شبه في البطلان بقوله: كالثاني في حجتين أو عمرتين؛ لأن الثاني حاصل بالأول، وأما لو أردف الحج على العمرة لصح؛ لقوته ووضعفها.
وقوله: ورفضه، أي ولغا رفضه - أي رفض الإِحرام بالحج أو بالعمرة - بعد الفراغ أو في الأثناء، فيجب إتمامه صحيحًا، بنية متعلقة به، ولا يلزمه هدي بذلك الرفض. =
وَنُدِبَ إِفْرَادٌ (1) ثُمَّ قِرَانٌ (2). بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا وَقَدَّمَهَا، أَو يُرْدِفُهِ بِطَوَافِهَا - إِنْ صَحَّتْ - وَكَمَّلَهُ وَلَا يَسْعَى وَتَنْدَرِجُ. وَكُرِهَ قَبْلَ الرُكُوعِ لَا بَعْدَهُ. وَصَحَّ بَعْدَ سَعْيٍ
= وقوله: وفي كإِحرام زيد تردد، لا محل لهذا التردد لما ثبت في صحيح البخاري من إهلال علي وأبي موسى رضي الله عنهما حين قدما من اليمن، بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأمر عليًا رضي الله عنه بصرف إحرامه إلى حج لسوقه الهدي، وأمر أبا موسى بصرفه إحرامه لعمرة؛ لأنه لم يسق هديًا. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ونُدِبَ إِفْرَادٌ، أي وندب الإِحرام بحج مفرد؛ لما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأمَّا من أهل بعمرة فحلَّ، وأمَّا من أهل بالحج، أو جمع بين الحج والعمرة، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجه محمد عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك.
وجاء في حديث جابر وهو يحدث عن حجة الوداع. قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى البيداء، فنظرت مدَّ بصري من بين راكب وراجل؛ بين يديه وعن يمينه وعن شماله، ومن ورائه، كلهم يريد أن يأتم به، يلتمس أن يقول كما يقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج، ولا نعرف غيره، فلما طفنا فكنا عند المروة قال:"أَيُّهَا النَّاسُ مَنَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيُ فَلْيَحْلِلْ، ولْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، ولو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أهْدَيْتُ". فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُن مَعَهُ هَدْيٌ. قال البغوي: هذا حديث صحيح. أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد في قصة حجة الوداع، وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. أخرجه الترمذي والدارقطني. وهو في مسلم من حديث يحيى بن أيوب، وعبد الله بن عون الهلالي، عن عباد بن عباد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا. ا. هـ. الأرناؤوط.
(2)
وقوله: ثم قران، أي ثم يلي الإِفراد في الفضل القران؛ لمشابهته الإِفراد في العمل.
وقوله: بأن يحرم بهما، هو تفسير لصورة القران، وهو أن يحرم بالحج والعمرة معًا بنية =
وَحَرُمَ الْحَلْقُ وَأَهْدَى لِتَأخِيرِهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ. ثُمَّ تَمَتَعَ بِانْ يَحُجَّ بَعْدَهَا وَإِنْ بِقِرَانٍ (1).
= واحدة، وإذا كان ذلك بنيتين فذلك قوله: وقدمها أو يردفه، أي وقدم نيتها - أي العمرة - وجوبًا ليردف الحج عليها، أو يحرم بالعمرة وحدها ويردف الحج عليها، وقبل طوافها، أو أثناء طوافها قبل تمامه. ويشترط في الإرداف صحة العمرة، فإن فسدت لم يصح الإِرداف.
وقوله: وكمله، يعني الطواف الذي أردف الحج أثناءه، وصلى ركعتين، ولا يسعى حينئذ للعمرة لاندراجها في الحج، ويؤخر السعي للإِفاضة، وتندرج العمرة في الحج أي يستغني بطوافه وسعيه وحلاقه عما وافق ذلك من عملها.
وقوله: وكره قبل الركوع أي وكره الإِرداف بعد الطواف وقبل الركوع، ويصح إردافه إن وقع لا بعد الركوع.
وقوله: وصح بعد سعي، أي وصح إحرامه بالحج بعد سعي العمرة، قبل أن يحلق وحينئذ وجب عليه الهدي؛ لتأخر الحلق عليه بموجب الإِحرام.
(1)
وقوله: ثم تَمَتُّعٌ بأن يحج بعدها وإن بقران، يعني ثم يلي القران في الفضل التمتع، وصورته أن يحرم بعمرة ويتممها في أشهر الحج، ثم يحج بعدها في عامه ذلك بإفراد أو بقران، فإن كان بقران صار متمتعًا قارنًا. وقال الدردير: وعليه هديان؛ هدي التمتع وهدي القران.
قلت: ولعل الهدي لا يتكرر عليه هنا؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: إن تعدد السبب مع اتحاد الموجب، يكتفى فيه بموجب واحد. قال ميارة في تكميله:
إن يتعدد سبب والموجب
…
متحدٌ كفى لهنَّ موجب
ومعلوم أن هدي القارن لأنه أتى بعمرة في أشهر الحج وحج من عامه فهو هدي التمتع بعينه. والله تعالى أعلم وأحكم.
وشرط وجوب دم القران ودم التمتع، هو عدم الإِقامة بمكة المكرمة وما في حكمها، مما هو في حدود حرم مكة والمعتبر في ذلك وقت فعلهما - أي الإحرام بالقران والعمرة - فلو قدم آفاقي بعمرة في أشهر الحج أو قارنًا ونيته السكنى بمكة المكرمة، ثم حج من عامه ذاك فعليه هدي التمتع؛ لأنه وقت إحرامه لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فالمقيم بمكة لا دم عليه. ودليل =
وَشَرْطُ دَمِهِمَا عَدَمُ إِقَامَةٍ بِمَكَّةَ أوْ ذِي طُوًى وَقْتَ فِعْلِهِمَا، وَإِنْ بِانْقِطَاع بِهَا، أَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ لَا انْقَطعَ بِغَيْرِهَا، أَوْ قَدِمَ بِهَا يَنْوِي الإقَامَةَ. وَنُدِبَ لِذِي أهْلَيْنِ، وَهَلْ إلَّا أنْ يُقِيمَ بِأَحَدِهِمَا أكْثَرَ فَيُعْتَبرُ؟. تَأْوِيلَانِ. وحَجَّ مِنْ عَامه. وللْمُتَمَتِّعِ عَدَمُ عَوْدهِ لِبَلَدِهِ أَوْ مِثْلِهِ وَلَوْ بِالحِجَاز، لا أقَلَّ، وَفعْلُ بَعْضِ رُكْنِهَا في وقْتِهِ.
= وجوب دم التمتع قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(1)
.
وأما الدليل على أن دم التمتع ليس على أهل المسجد الحرام، وكذلك دم القران، فهو قوله تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
(2)
. قال البغوي: والعبرة بالمقام لا بالمولد والمنشإ، حتى أن المكي إذا كان مقيمًا بالعراق فخرج وتمتع، وجب عليه الدم، ولو أقام عراقي بمكة فلا دم عليه. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
وقوله في القارن: ولا يسعى، هو ما عليه جمهور العُلماء بأن القارن يكفيه سعي واحد وطواف واحد لحجه وعمرته. قال به مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه. ودليله ما ثبت في صحيح مسلم قال: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا بهز، حدثنا وهب، حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجَّكِ وَعُمْرَتِكِ". الحديث، ففيه التصريح بأنها كانت محرمة أولًا، ومنعها الحيض من الطواف، فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة، ومع ذلك قال لها صلى الله عليه وسلم أنها يكفيها طواف لعمرتها وحجها. وفي حديث جابر في صفة حجة الوداع قال: ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال:"مَا شَأْنُكِ"؟. قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحْلِلْ ولم أطُفْ بِالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن. فقال:"إِنَّ هذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلي ثُمَّ أهلِّي بِالْحَجِّ". ففعلت ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة. ثم قال:"قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّكِ وَعُمْرَتِكِ جَميعًا". قالت يا رسول الله، إنِّي أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججتُ. قال:"فَاذَهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرحْمنِ فَأعمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ". وذلك ليلة الحصبة. وهذا الحديث =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 196.
وَفي شَرْطِ كَوْنهِمَا عَنْ وَاحِدٍ تَرَدُّدٌ. وَدَمُ التَّمَتُّعِ يَجِبُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَأجْزَأَ قَبْلَهُ. ثُمَّ الطَّوَافُ لَهُمَا سَبْعًا بِالطُّهْرَيْنِ والسَّتْرِ (1). وَبَطَلَ بِحَدَثٍ بِنَاءٌ، وَجَعْلِ
صحيح. وهو دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد بعد الوقوف بعرفة.
يروى عن ابن عمر أنه أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إنا نخاف أن يصدوك. فقال: إذًا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة. ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي. فطاف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا حتى حل منهما جميعًا. ا. هـ. البغوي.
قال الأرناؤوط: أخرجه مالك في الموطإ جـ 1/ ص 360 في الحج، باب ما جاء فيمن أحصر بعدو. وأخرجه البخاري جـ 3/ ص 395، 396 في الحج، باب طواف القارن، وباب إذا أحصر المعتمر. إلى غير ذلك. ا. هـ.
والقول بأن القارن يكتفي بطواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته، هو قول عطاء، مجاهد، والحسن، وطاوس. وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ثم الطواف لهما سبعًا بالطهرين والستر، دليل وجوب الطواف قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(1)
. قال ابن الجزي الكلبي: المراد هنا طواف الإِفاضة عند جميع المفسرين؛ وهو الطواف الواجب.
وكيف الطواف يبينه حديث ابن عمر المتفق عليه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة - أول ما يقدم - سعى ثلاثة، ومشى أربعًا ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة. ا. هـ.
وأما اشتراط الطهارة في صحة الطواف، واشتراط ستر العورة، فمن ذلك حديث عائشة: إن أول شيء بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، أنه توضأ ثم طاف بالبيت. متفق عليه. وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَطوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ". متفق عليه أيضًا. ومن =
(1)
سورة الحج: 29.
الْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ (1)، وخُروجِ كُلِّ الْبَدَنِ عَنِ الشَّاذَرْوانِ وسِتَّةِ أذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، ونَصَبَ الْمُقَبِّلُ قَامَتَهُ داخِلَ الْمَسْجِدِ، وِلَاءً، وابْتَدَأ إنْ قَطَعَ لِجَنَازَةٍ أوْ نَفَقَةٍ، أوْ نَسِيَ بَعْضَهُ، إنْ فَرَغَ سَعْيُهُ، وَقَطَعَهُ لِلْفريضَةِ. ونُدِبَ كَمَالُ الشَّوْطِ، وَبَنَى إنْ رَعَفَ أوْ عَلِمَ بِنَجَسٍ، وأعَادَ ركْعَتَيْهِ بِالْقُرْبِ، وعلى الأقَلِّ إنْ شَكَّ، وَجَازَ
= ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنىً: "لا يَحُجُّ بعد العام مشركٌ، ولا يطوفُ بالبيت عُريان" الحديث. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه.
ومن ذلك أيضًا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض؛ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي".
(1)
وقوله: وجعل البيت عن يساره، دليله حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاسْتَلَمَهُ، ثم مَشَى عَنْ يَمينِه، فَرَمَل ثَلَاثًا، ومَشَى أَرْبَعًا، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم.
وقوله: وخروج كل البدن عن الشاذروان، قال الحطاب: الشاذروان - بفتح الذال المعجمة وسكون الراء - هو بناء لطيف جدًّا ملصق بحائط الكعبة. قاله النووي. واعتمد المُصَنِّف فيه ما قاله صاحب الطراز وابن شاس ومن تبعهما؛ قال صاحب الطراز في شرح قوله في المدونة: وسئل عن ممر الطائف في الحجر فقال: قال مالك: ليس بطواف. ويلغيه ويبني على ما طاف. وهذا أبين لأن الطواف إنما شرع بجميع البيت إجماعًا، فإذا سلك في طواف الحجر، أو على جداره، أو على شاذوران البيت لم يعتد بذلك. وهو قول الجمهور؛ لأنه لم يطف بجميع الكعبة. وقد حيز ذلك بالحواجز لاستكمال الطواف. وعند أبي حنيفة يجزئه. ا. هـ. قال: وهذا هو المعتمد عند الشافعية. وقد أنكر جماعة من العُلماء المتأخرين - من المالكية والشافعية - كون الشاذروان من البيت. منهم من المالكية العلامة الخطيب أبو عبد الله بن رشيد - بضم الراء وفتح الشين - ذكر ذلك في رحلته، وبالغ في إنكاره وقال: لا توجد هذه التسمية، ولا ذكر مسماها في حديث صحيح ولا سقيم، ولا عن صحابي، ولا عن أحد من السلف فيما علمت. ولا لها ذكر عند =
بِسَقَائِفَ لِزَحْمَةٍ، وَإِلَّا أعَادَ وَلَمْ يَرْجِعْ لَهُ وَلَا دَمَ، وَوَجَبَ كالسَّعْي قَبْلَ عَرَفَةَ إنْ أحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ وَلَمْ يُرَاهِقْ (1)، وَلَمْ يُرْدِفْ بِحَرَمٍ، وَإِلَّا سَعَى بَعْدَ الإِفَاضَةِ، وَإِلَّا فَدَمٌ إنْ قَدَّمَ وَلَمْ يُعِدْ.
= الفقهاء المالكيين المتقدمين والمتأخرين، إلا ما وقع في جواهر ابن شاس، وتبعه ابن الحاجب.
ولا شك أن ذلك منقول من كتب الشافعية. وأقدم من ذكره - فيما وقفت عليه - المزني. ووقع لها ذكر مقتطف في كتاب التصريح من شرح الصحيح للقاضي أبي بكر بن العربي، من غير تعرض لبيان حكم، وهو أقدم من ابن شاس، إلى أن قال: انعقد إجماع أهل العلم، قبل طرو هذا الاسم الفارسي، على أن البيت متمم على قواعد إبراهيم من جهة الركنين اليمانيين، ولذلك استلمهما النبي صلى الله عليه وسلم دون الآخرين. ا. هـ. محل الغرض منه باختصار.
قلت: وحديث ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال: لم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين - وهو متفق عليه - دليل على أن الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم، لم يبق من البيت من جهتهما شيء؛ لأن عبد الله بن عمر قال: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى - يعني رسول صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام. وهذا حديث في الموطإ، واتفق الشيخان عليه. فلو أن الشاذروان من قواعد إبراهيم قصرت النفقة عن إدخاله في البيت لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركنين اليمانيين. وهو وجيه في نظري. والله أعلم وأحكم.
(1)
وقوله ووجب كالسعي قبل عرفة إن أحرم من الحل، ولم يراهق، ولم يردف بحرم، تقريره، ووجب الطواف على من دخل مكة المكرمة محرمًا بالحج مفردًا أو قارنًا، وليس حائضًا ولا نفساء ولا مجنونًا ولا مغمى عليه ولا ناسيًا. ويسمى هذا الطواف الواجب طواف القدوم، وشبه في الوجوب فقال: كالسعي، أي كما يجب تقديم السعي - الذي هو ركن - قبل وقوف عرفة؛ إن كان الإِحرام وقع بالحج وحده، أو مع العمرة من الحل، فإن كان أحرم بالحج وحده من الحرم لإقامته به، فلا يجب عليه طواف القدوم.
ودليل وجوب طواف القدوم حديث متفق عليه، ولفظه عند البغوي: عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أنه أول =
ثُمَّ السَّعْيُ سَبْعًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة؛ مِنْهُ الْبَدْءُ مَرَّةُ وَالْعَوْدُ أُخْرَى (1).
= شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم لم يكن غيره. ثم حجّ أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره. ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره. ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره. ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره. ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها بعمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟. ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم، من الطواف بالبيت ثم لا يحلون. وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من البيت تطوفان به، ثم لا تحلان. وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها، والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا. انتهى، وهذا الحديث أخرجه في الحج البخاري ومسلم.
قلت: ويكفي منه دليلًا قوله: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به - حين قدم - أنه توضأ ثم طاف بالبيت. وذلك بضميمته إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وتواتر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة من الأنصار والمهاجرين على فعل ذلك، دليل آخر على وجوب هذا الفعل. والله الموفق.
وأما الدليل على أن من راهق لا طواف قدوم عليه، فهو ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان إذا دخل مكة مراهقًا، خرج إلى عرفة قبل أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يطوف بالبيت بعد أن يرجع. أخرجه مالك في الموطإ بلاغًا وقال بعده: وذلك واسع إن شاء الله. ورواه البغوي في شرح السنة. جـ 6/ ص 103.
والدليل على أن من أحرم بالحرم، لا طواف عليه بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع، هو ما رواه نافع أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى. أخرجه البغوي. قال في التعليق: أخرجه مالك في الحج. وإسناده صحيح.
(1)
وقوله: ثُمَّ السعي سبعًا الخ: هو معطوف على الإِحرام في قوله: وركنها الإِحرام؛ يعني =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أن الركن الثالث من الأركان التي تشترك فيها الحج والعمرة هي السعي، وهو آخر أركان العمرة.
وصفته أن يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة، حالة كونه مؤديًا بينهما سبعة أشواط؛ يقف على هذه أربعًا وعلى هذه أربعًا. ودليل ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
(1)
.
قال البغوي: قال الأزهري: الشعائر: المعالم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها.
والدليل من السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر وفيه: ثم استلم الركن، ثم خرج فقال:" {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} نَبْدَأ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ". فأتى الصفا، ورقي عليه حتى بدا له البيت، ثم وحَّد الله وكبَّره، وقال:"لَا إِلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَريكَ لَه، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ". ثم مشى حَتَّى إذا انصبت قدماه، سعى حتى إذا أصعدت قدماهُ، مشى حتى أتى المروة، ففعل عليها كما فعل على الصفا حتى قضى طوافه. الحديث.
وفي حديث أخرجه البغوي في السنة عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة قال: أخبرتني بنت أبي تِجْرَاةَ - إحدى نساء بني عبد الدار - قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حُسين، ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة؛ فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه. وسمعته يقول: "اسْعَوْا فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ".
وإخرج البغوي أيضًا بسنده عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة على بعير، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك، إليك. ا. هـ.
والحاصل أنه بموجب هذه الأدلة الثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم وضميمة ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". ثبت وجوب الطواف بين الصفا والمروة في الحج والعمرة. وقال بعض أهل العلم: إنه ركن لا يتحلل المحرم بالحج ولا بالعمرة إلا به، وأنه لا يجبر بشيء. وهذا قول عائشة وابن عمر، وجابر، وبه قال الحسن، وإليه ذهب مالك والشافعي وإسحاق، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: على من تركه مِن دم. وحجتهم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ =
(1)
سورة البقرة: 158.
وَصِحَّتُهُ بِتَقَدُّمِ طَوَافٍ، وَنَوَى فَرْضِيتَهُ (1)، وَإِلَّا فَدَمٌ. وَرَجَعَ إنْ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُ عُمْرة حِرْمًا، وافْتَدَى لِحَلْقِهِ. وَإنْ أحْرَمَ بَعْدَ سَعْيِهِ بِحَجٍّ فَقَارِنٌ (2)؛
= بِهِمَا}
(1)
. قالوا: ورفع الحرج يدل على الإِباحة لا على الوجوب. والله أعلم وأحكم.
(1)
وقوله: وصحته بتقدم طواف ونوى لرضيته، يعني أن شرط صحة السعي أن يتقدمه طواف. قال ابن عبد السلام: وذلك متفق عليه. قال ابن عرفة: والمذهب شرط كونه بعد طواف، فلو سعى من غير طواف لم يجزه ذلك السعي بلا خلاف.
وقوله ونوى فرضيته وإلا فدم، يعني ويجب في الطواف الذي سعى بعده أن يكون فرضًا، فإن أوقع السعي بعد طواف ليس بفرض فعليه دم. قال المواق: من المدونة: لا يجزئ السعي إلا بعد طواف ينوي فرضه. قال أبو عمر: لا يجوز السعي بين الصفا والمروة إلا بنية لما قصد له من حج أو عمرة، ولا يجوز إلا بعد طواف الدخول، أو بعد طواف الإِفاضة، فإن لم يصل سعيه بأحد هذين الطوافين حتى أتى بلده أجزأه سعيه، وكان عليه دم.
قلت: الخلاف في وجوب طواف القدوم وسنيته معروف بين أصحاب المذاهب، ولا خلاف بين هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسعون بعد طواف القدوم، ولم ينقل إلينا أن أحدًا أهدى لسعيه بعد هذا الطواف - على فرض عدم وجوبه - فمن أين جاء اشتراط نية وجوب الطواف الذي يسبق السعي إذًا؟. الله تعالى أعلم بذلك. وهو العليم الحكيم.
(2)
وقوله: ورجع إن لم يصح طواف عمرته حرامًا وافتدى لحلقه، قال المواق هنا: فيها: من طاف لعمرته على غير وضوء، فذكر بعد أن حل منها بمكة أو ببلده، فليرجع حرامًا كما كما كان، وهو بمثابة من لم يطف، فيطوف بالبيت ويرجع ويسعى ولا دم عليه إذا لم يطأ وإن كان قد حلق بعد طوافه افتدى.
وقوله: وإن أحرم بعد سعيه بحج فقارن، يعني وإن أحرم هذا الذي لم يصح طواف عمرته، بعد سعيه الذي سعاه بعد ذلك الطواف الفاسد، وكان إحرامه بحج، فإنه يعتبر قارنًا؛ لأن طوافه الفاسد كالعدم. وإذا كان سعيه بعده كالعدم لأنه فقد شرط صحته - وهو صحة الطواف قبله - فلم يبق معه إلا مجرد الإحرام، والإرداف عليه صحيح. والله أعلم وأحكم.
(1)
سورة البقرة: 158.
كَطَوَافِ الْقُدُومِ إنْ سَعَى بَعْدَهُ واقْتَصَرَ (1) والْإِفَاضَةِ إِلَّا أنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَهُ (2). وَلَا دَمَ (3)، حَلَالًا إِلَّا مِنْ نِسَاءٍ وَصَيْدٍ، وَكُرِهَ الطِّيبُ (4).
(1)
وقوله: كطواف القدوم إن سعى بعده واقتصر، يعني أن من طاف للقدوم، ولم يصح طوافه لفقد شرط من شروطه؛ فإنه يرجع لذلك إن كان أوقع السعي بعده، واقتصر على ذلك السعي، وهو في الحقيقة إنما يرجع للسعي.
وقوله: واقتصر، احترز به مما لو ذكر أن طواف قدومه لم يصح، فأعاد السعي بعد طواف الإفاضة، فلا شيء عليه، ولا يلزمه دم لترك طواف القدوم، لأنه لم يتعمد تركه. قاله في المدونة. ويدخل فيه أيضًا ما لو أعاد السعي بعد إفاضته مع عدم علمه ببطلان طواف القدوم ثم علم بذلك، فإن ابن يونس نقل عن بعض شيرخه أنه يجزئه. قال: وقال بعض أصحابنا: لا يجزئه؛ لأن السعي لا يكون إلا في حج أو عمرة. قال ابن يونس: والذي أراه أنه يجزئه؛ لأنه كان عليه أن يأتي به فقد أتى به، وإنما عدم النية فيه. انتهى. من الحطاب.
(2)
وقوله: والإِفاضة، إلا أن يتطوع بعده، يعني أن من طاف للإِفاضة، ثم تبين له أن طوافه غير صحيح، لفقد شرط من شروطه، فإنه يرجع لذلك من بلده، إلا أن يكون طاف بعد طواف الإِفاضة طوافًا صحيحًا تطوعًا أو لوداع، فإنه لا يرجع حينئذ لطواف الإِفاضة، ويجزئه ما طافه تطوعًا من طواف الإفاضة. قال في المدونة: ومن طاف للإِفاضة على وضوء، رجع لذلك من بلده فيطوف للإِفاضة، إلا أن يكون قد طاف بعد ذلك تطوعًا، فيجزئه عن طواف الإِفاضة. انتهى من الحطاب.
(3)
وقوله: ولا دم، راجع لقوله: ورجع إن لم يصح طواف عمرة حرامًا، ولقوله: كطواف القدوم إن سعى بعده واقتصر. ولقوله: والإِفاضة. هكذا قاله الدسوقي والذي يقتضيه ما شرح عليه الدردير أن قوله: ولا دم، راجع لقوله: إلَّا أن يتطوع بعده، أي فإن تطوع بعده أجزأه، ولا دم عليه لما تركه من النية، لأن هذا التطوع في الحقيقة هو طواف الإفاضة، فلا يلزمه دم لملاحظة كونه. ا. هـ. الدسوقي.
(4)
وقوله: حلَالًا إلا مِن نساء، هو حال من فاعل يرجع المقدر بعد الكاف، أي يرجع حلالًا من ممنوعات الإحرام؛ لأن كلًا منهما حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة، فيكمل ما =
وَاعْتَمَرَ، وَالأكْثَرُ إِنْ وَطِئَ (1)، وللْحَجِّ حُضُورُ جُزْءِ عَرَفَةَ سَاعَةً لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَلَوْ مَرَّ إِنْ نَوَاهُ، أوْ بِإِغْمَاءٍ قَبْلَ الزَّوالِ، أوْ أخْطَأَ الْجَمُّ بِعَاشِرٍ فَقَطْ، لَا الْجَاهِلُ،
= عليه بإحرامه الأول، ولا يجدد إحرامًا لأنه باق على إحرامه الأول فيما بقي عليه. فالذي لم يصح طواف قدومه، يعيد طواف الإِفاضة ثم يسعى، والذي لم يصح طواف إفاضته يعيد الإِفاضة، ولا يحلق واحد منهما لأنه حلق بمنى، ولا يلبي حال رجوعه لأن التلبية قد انقضت. ا. هـ. الدردير.
وقوله: إلا من نساء وصيد، أي لأنهما لا يحلان إلا بالتحلل الأكبر، الذي لا يقع إلا بعد الإِفاضة والسعي، والإِفاضة باقية عليه.
وقوله: وكره الطيب، استدل المانعون من الطيب بعد الرمي، بما أخرجه الحاكم عن ابن الزبير أنه قال: إذا رمى الجمرة الكبرى، حل له كل شيء حرم عليه إِلَّا النساء والطيب. حتى يزور البيت. وقال إن ذلك من سنة الحج. ا. هـ. واحتجوا أيضًا بما أخرجه النسائي عن ابن عمر أنه قال: إذا رمى وحلق حل له كل شيء إلا النساء والطيب. قال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا يخفى أن هذين الأثرين لا يصلحان لمعارضة أحاديث الباب. يريد بذلك ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت، بطيب فيه مسك. متفق عليه. وللنسائي: طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله بعد ما رمى جممهة العقبة، قبل أن يطوف بالبيت. ولأحمد: وعن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ". فقال رجل: والطيب. فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟. ا. هـ. قال الشوكاني: حديث ابن عباس رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، من حديث الحسن العرني عنه، قال في البدر المنير: إسناده حسن. كما قاله المنذري. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: واعتمر، والأكثر إن وطئ، يعني إن لم يصح طواف قدومه أو إفاضته، ورجع حلالًا وأكمل ما كليه، فإنه يطلب من بعد ذلك الإِتيان بعمرة، سواء حصل منه وطء قبل إكماله أم لا. وإن الأكثر من العُلماء قال: إنه يعتمر إن كان وطئ قبل إكمال ما عليه، فإن لم يكن وطئ فلا عمرة عليه. قال الحطاب: ومن هذا الأكثر الذي يقول: لا عمرة عليه، سعيد بن المسيب، =
كَبَطْنِ عُرْنَةَ، وَأَجْزأَ بِمَسْجِدِهَا بِكُرْهٍ، وَصَلَّى وَلو فَاتَ (1).
= والقاسم بن محمد، وعطاء. قال: وقال أبو إسحاق: والأشبه ما قال جل الناس: أنه لا عمرة عليه، وإنما روى مالك ذلك عن ربيعة، وحكى عن ابن عباس، ولابن عباس خلافه؛ أنه ينحر بدنة. وقال ابن المسيب والقاسم وعطاء: ليس عليه إلا نحر بدنة. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وللحج، حضور جزء عرفة ساعة ليلة النحر، هذا هو الركن الرابع بالنسبة إلى الحج خاصة دون العمرة، وهو الوقوف بعرفة، أي الاستقرار بقدر الطمأنينة في أي جزء من أجزائها، والوقوف في المكان الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل، وذلك عند الصخرات العظام المفروشة في أسفل جبل الرحمة.
ودليل وجوب الوقوف بعرفة من القرآن العظيم هو قوله تعالى في البقرة: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
(1)
. وروت عائشة رضي الله عنها في سبب نزول هذه الآية قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون بالحُمْسِ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإِسلام، أمر الله نبيه عليه السلام أن يأتي عرفات ثم يقفَ بها، ثم يفيضَ منها، وذلك قوله عز وجل:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} . وهذا الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في التفسير وفي الحج. وأخرجه مسلم في الحج.
وقوله: جزء عرفة، دليله قوله صلى الله عليه وسلم:"وَقَفْتُ هَا هُنَا وعَرَفةُ كُلُهَا مَوْقِفٌ". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه.
وقوله: ساعة ليلة النحر، هو في تحديد وقت الوقوف، الذي هو ركن، ودليله فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله؛ أما فعله فقد ثبت في حديث جابر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس. وأما قوله: فهو ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ". بهذا اللفظ أخرجه ابن قدامة في المغني. وفي الموطإ عن مالك، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة - قبل أن يطلع الفجر - فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة - من =
(1)
سورة البقرة: 199.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قبل أن يطلع الفجر - فقد أدرك الحج. وفيه أيضًا: عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قال: من أدركه الفجر من ليلة المزدلفة، ولم يقف بعرفة، فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة، قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك الحج. ومعلوم أن هذا مما لا مجال للرأي فيه، وإذًا فإن له حكم الرفع. وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: ولو مرّ، قال المواق هنا: قال ابن القاسم: من مر بعرفة مارًا بعد دفع الإِمام ولم يقف بها، أجزأه إن نوى بمروره وقفًا. قال ابن المواز: ولو كان وقوفه بها وهو لا يعرفها لم يجزه. من ابن يونس.
قلت: ولعل حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي، يرد على ابن المواز، فيما عزاه لابن يونس لأن في لفظه: أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟. فهذا اللفظ ظاهر في كونه لا يعرف عرفة، ويسأل: هل إن وقف بها بالصدفة في وقت الوقوف، يكون مجزيًا عنه في حجه؟. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هذِه، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ". رواه أصحاب السنن الأربعة، وأحمد. وهو حجة من قال أن نهار يوم عرفة وقت للوقوف. والله تعالى أعلم وأحكم.
وقوله: أو أخطأ الجم بعاشر فقط، يريد - والله تعالى أعلم - أنه إذا أخطأ جميع أهل الموقف، فوقفوا بعاشر ذي الحجة في نفس الأمر ظانين أنه التاسع، وتبين بعد ذلك أنه العاشر، فإنه يجزئهم، ومحل الإِجزاء إن كان الخطأ واقعًا من الجميع، وكان الوقوف واقعًا بالعاشر فقط، لا بالثامن ولا بالحادي عشر.
قلت: والله تعالى أعلم، إن هذا اجتهاد في محل النص، مقدوح فيه بالقادح المعروف بفساد الاعتبار، الذي تقدمت الإِشارة إليه في كتابنا هذا المبارك عدة مرات. وإن مراقي السعود عقده بقوله:
والخلفُ للنص أو اجماع دعا
…
فساد الاعتبار كلُّ من وعى
يتحصل أنه ورد النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا أخطأ الناس العدد؛ فوقفوا في غير ليلة عرفة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أجزأهم ذلك. لما روى الدَّارقُطْنِي بإسناده عن عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي يُعَرِّفُ فِيهِ النَّاسُ". وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ". رواه الدار قطني. انتهى من مغنى ابن قدامة.
قال في تحفة الأشراف: حديث: الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، رواه النسائي في الصوم عن محمد بن إسماعيل، عن إبراهيم بن المنذر، عن إسحاق بن جعفر بن محمد، عن عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأحنسي عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقال: حسن غريب. ا. هـ. منه.
وقد تقدم كلامي على هذا الموضوع عند قول المُصَنِّف: فإن لم ير بعد ثلاثين صحوًا كذبا، وذلك في الصوم، وبينت هناك أن هذا الحديث أخرجه البغوي وقال،: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وهذه المسألة مما يكثر في البلاد التي دأبت على الفوضى، ولم تكن فيها حكومات تعتني بالشعائر الإِسلامية وإظهارها؛ مثل الحكومات التي هي وليدات الإِستعمار، وإنه لمن المؤسف جدًّا أن ترى البلد الواحد، بل القرية، بل العائلة الواحدة، بعضها يقيم شعائر العيد، وبجنبه من هو صائم لا يعتبر ما أفطرت به جماعة الناس، وما ذلك في نظري إلا نتيجة جهله وإعجابه بنفسه، اللذان يؤولان به إلى شق عصا المسلمين، وإلى ارتكاب كبيرة صوم يوم العيد، المنهي عنها شرعًا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} .
(1)
الآية.
وقوله: كبطن عرنة، هو تشبيه في عدم الإِجزاء، أي كما لايجزئ الوقوف ببطن عرنة - بضم العين المهملة وفتح الراء والنون، واد بين العلمين اللذين على طرف الحرم، واللذين على طرف عرفة - فليس هو من الحرم ولا من عرفة، ولا يجزئ الوقوف به.
قال شعيب في تعليقه على شرح السنة للبغوي: قال ابن عبد البر فيما نقله عنه ابن قدامة في المغني: أجمع العُلماء على أن من وقف به لا يجزئه. وحكي عن مالك أنه يهريق دما وحجه تام. ا. هـ. وقال البغوي: واختلفوا فيمن وقف ببطن عرنة؛ فقال الشافعي: لا يجزئ حجه. =
(1)
سورة النور: 63.
والسُّنَّةُ غُسْلٌ مُتَّصِلٌ، وَلَا دَمَ، ونُدِبَ بِالْمَدِينَةِ لِلْحُلَيْفيِّ وَلدُخُولِ غَيْرِ حَائضٍ مَكَّةَ بِطُوَى وللْوُقُوفِ (1)، وَلُبْسُ إزَارٍ وَرِدَاءٍ ونَعْلَيْنِ (2)، وَتَقْلِيدُ هَدْيٍ ثُمَّ إشْعَارُه (3). ثُمَّ رَكْعَتان، والْفَرْضُ مُجْزٍ (4).
= وقال مالك: حجه صحيح وعليه دم. ا. هـ.
قال: الذي به الفتوى عند أصحابنا هو عدم إجزاء الوقوف به. فهذا خليل يقول في مختصره: كبطن عرنة، مشبهًا في عدم الإِجزاء. وفي الموطإ عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرنَةَ". الحديث. وعن مالك، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: اعلموا أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة. الحديث، ولا أعلم أن لمالك مؤلفًا في متناول أيدي الناس اليوم إلا الموطإ. ولعل هذه النسبة إليه أنه يقول بصحة حج من وقف بعُرنَةَ، شبيهة بمسألة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، مع الفارق الذي يظهر في كون خليل نصر السدل في مختصره، وصرح بعدم إجزاء الوقوف بعرنة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقوله: وأجزأ بمسجدها بكره، يعني أنه يجزئ الوقوف بمسجد عرفة. والهاء في مسجدها راجع إلى عرنة، نسبة إليها لقربه منها؛ لأن حائطه القبلي - الذي يلي جهة الحرم - لو سقط لسقط في بطن عرنة. ومعلوم أن الإِضافة تقع بأدنى سبب، وإلا فهو من عرفة. وكرهوا الوقوف به لشدة قربه من عرنة. وباللّه تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: والسنة غسل متصل، يريد به - والله أعلم - أن السنة لمن أراد الإِحرام بحج أو عمرة أن يغتسل غسلًا متصلًا بالإِحرام، ويغتفر الفصل اليسير كإصلاح المتاع مثلًا. ويستوي في ذلك الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والحائض والنفساء.
وقال: ولا دم، مبينًا به أن من ترك الغسل ولو عمدًا، لا شيء عليه. روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإِهلاله واغتسل. ذكره البغوي في شرح السنة. وقال شعيب في التعليق: أخرجه الترمذي في الحج وقال: هذا حديث حسن غريب. وفي الموطإ عن مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخول مكة ولوقوفه عشية بعرفة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ودليل استحباب الغسل للمحرمة النفساء ونحوها، حديث جابر عند مسلم في حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلما كنا بذي الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل والإِحرام. وفي الموطإ عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول اللهُ صلى الله عليه وسلم فقال:"مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهِلَّ". قال البغوي: الغسل للإحرام مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بالغسل في حال نفاسها، مع أن الغسل لا يبيح لها شيئًا حرمه النفاس عليها، فالطاهر به أولى. وكذلك الحائض يستحب لها الغسل للإحرام.
قلت: محل ذلك ما لم تخشيا ضررًا به؛ مثل أن يسبب لهما استعمال الماء نزيفًا ونحو ذلك، وقد يقع. والله تعالى أعلم وأحكم.
وقوله: وندب بالمدينة للحليفي، يريد به - والله أعلم - أن من أراد أن يحرم بحج أو عمرة من ذي الحليفة، ندب له أن يتجرد من المخيط، ويغتسل بالمدينة المنورة؛ وذلك اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم فإذا وصل ذا الحليفة صلى ركعتي الإِحرام وأحرم.
وقوله: ولدخول غير حائض مكة بذي طوى وللوقوف، يريد - والله أعلم - أنه يندب بالغسل لكل من أراد دخول مكة بإحرام، ولا يدخل في ذلك الحائض ولا النفساء؛ لأن الغسل هنا في الحقيقة للطواف وهم ليستا من أهله، وندب أن يكون الغسل لدخول مكة من ذي طوى. ويندب الغسل أيضًا للوقوف بعرفة، قالوا: ولو حائض ونفساء. ووقته بعد الزوال. وقد تقدم من دليل ذلك الأثر الذي أخرجه في الموطإ عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخول مكة، وللوقوف عشية عرفة.
(2)
وقوله: ولبس إزار ورداء ونعلين، يريد به - والله أعلم - أن خصوصية هذه الهيئة من إزار رداء ونعلين مستحبة؛ لأنها فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لبس غير ذلك أجزأه؛ كما لو التحف برداء أو بكساء. أما التجرد من المخيط، فلا ينبغي عده من المستحبات؛ لأنه من واجبات الإِحرام التي يأثم فاعلها بدون عذر والتي تجبر بالدم، وهو يجب عند إرادة الإحرام قبل الإحرام؛ لأن المحرم ممنوع من لبس المخيط. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: يجوز لبس النعال كيفما كان بدون حرج، وذلك لما أجاز صلى الله عليه وسلم لمن لم يجد النعلين إن يلبس الخفين، وأن يقطعهما أسفل من الكعبين. علمنا أنه ليس شيء من النعل المتعارف يبلغ مبلغ الخف المقطوع من أسفل الكعبين، في تغطية القدم. والله تعالى أعلم وأحكم.
(3)
وقوله: وتقليد هدي وإشعاره، يريد به - والله أعلم - أنه يسن لمن أراد الإِحرام وكان معه هدي، أن يقلده بعد غسله وتجرده من المخيط وقبل الإِحرام، وقد تبع في ذلك مذهب المدونة، ولمالك في المبسوط أن الركوع مقدم على التقليد والإِشعار. والهدي مستحب، قال تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(1)
. والهدي - بتخفيف الدال، والهدي بكسرها وتشديد الياء - هو ما يهدى إلى بيت الله عز وجل من بدنة أو غيرها. الواحدة: هدْيةٌ - بسكون الدال - وهدِيَّة - بكسر الدال وتشديد الياء - قال البغوي: أهل الحجاز يخففون الهدي، وتميم يثقلون الياء، وفي الصحيحين من حديث مجاهد عن أبي ليلى أن عليًّا حدثه قال: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني بجلالها. فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها. وزاد عبد الكريم بن الجزري في روايته عن مجاهد: وأمرني أن لا أعطي الجزار منها. قال: نحن نعطيه من عندنا. قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة عن عبد الكريم بن الجزري. وقال شعيب: أخرجه البخاري في الحج في مواضع، وأخرجه مسلم في الحج، باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها.
(4)
وقوله: ثم ركعتان والفرض مجز، قال المواق هنا: من أتى الميقات فليحرم أي وقت شاء، ولا يحرم إلا بأثر صلاة نافلة، أو بأثر فريضة كان بعد نافلة أم لا، وأحب إليَّ أن يحرم إثر النافلة. وقال ابن قدامة: المستحب أن يحرم عقيب صلاة، فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها، وإلا صلى ركعتين تطوعًا وأحرم عقيبها. استحب ذلك عطاء، وطاوس، ومالك، والشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، ا. هـ. منه.
(1)
سورة البقرة: 196.
فَيُحْرِمُ الرَّاكِبُ إذَا اسْتَوَى، وَالْمَاشِي إِذَا مَشَى (1)، وتَلْبِيَة، وَجُدَّدَتْ لِتَغَيُّرِ حَالٍ (2)، وَخَلْفَ صَلَاةٍ. وَهَلْ لِمَكَّةَ أو لِلطَّوَافِ خِلَافٌ، وَإنْ تُرِكَتْ أوَّلَهُ فَدَمٌ إنْ طَالَ، وَتَوسُّطٌ فِي عُلُوَّ صَوْتِهِ وَفِيهَا.
(1)
وقوله: فيحرم الراكب إذا استوى، والماشي إذا مشى، هو لتبيين الوقت الذي يحرم فيه، ندبًا بعد فعل ما تقدم. فقال: يحرم الراكب إذا استوى على ظهر دابته، ولا يتوقف ذلك على سيرها. ويحرم الماشي إذا استوى ماشيًا، ولا ينتظر الخروج إلى البيداء، وقد روي عن الإِمام أحمد: أن الإِحرام عقيب الصلاة، وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير؛ كل ذلك سواء لأن الجميع قد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله: أيُّما أحب إليك؟. الإِحرام في دبر الصلاة، أو إذا استوت به راحلته؟. فقال: كل ذلك قد جاء: في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به راحلته. فوسَّع في ذلك كله. قال ابن عباس: ركب النبي صلى الله عليه وسلم راحلته حتى إذا استوت على البيداء أهلَّ هو وأصحابه. وقال أنس: لما ركب راحلته واستوت به أهلَّ. وقال ابن عمر: أهلَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة. رواهن البخاري. والْأوْلى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلالَ رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، ثم خرج، فلما ركب رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم راحلته واستوت به قائمة أهلَّ، فأدرك ذلك منه قوم. فقالوا: أهل حين استوت به الراحلة؛ وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى علا البيداء، فأهَلَّ، فأدرك ذلك قوم فقالوا: أهل حين علا البيداء. رواه أبو داود، والأثرم واللفظ للأثرم. ا. هـ. من مغني ابن قدامة.
قلت: وهذا بيان وجيه جدًّا يمكن به الجمع بين الروايات المختلفة في ظاهرها فيتعين حمل الأمر عليه. وهو على سبيل الاستحباب، وكيف ما أحرم جاز، لا نعلم أحدًا يخالف في ذلك.
(2)
وقوله: وتلبية، وجددت لتغيير حال وخلف صلاة، أي واتصال تلبية بالإحرام، ويستحب تجديدها لتغير حال؛ كقيام وقعود، وصعود وهبوط، وركوب وملاقاة رفاق، وعقيب صلاة ولو نافلة، ويوهم عدها هنا مع السنن أنها في المذهب سنة، وليس الأمر كذلك، فهي عند =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أصحابنا واجب يجبر بدم. ولفظ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روي عن عبد الله بن عمر هي: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". وهذا الحديث متفق عليه. قال البغوي: قوله: لبيك اللهم لبيك، فيه أربعة أقوال:
أحدها: إجابتي لك يا رب، وإقامتي معك. مأخوذ من: ألَبَّ بالمكان، إذا أقام به. ومعنى التثنية فيه أي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة. كما يقال: حنانيك، أي رحمة بعد رحمة.
والثاني: اتجاهي إليك وقصدي، من قولهم: داري تَلُبُّ دَارَ فلان أي تواجهها. والتثنية فيه للتأكيد.
والثالث: محبتي لك. من قول العرب: امرأة لَبَّةٌ: إذا ما كانت محبة لولدها.
والرابع: إخلاصي لك، من لب الطعام ولبابه، ثم قلبت الباء الثانية ياء طلبًا للخفة؛ كما قالوا: تظنيت. وأصلها تظننت. ا. هـ. منه.
وقوله: وإن تركت أوله فدم إن طال، يريد - والله أعلم - وإن تركت التلبية أولًا أي بأن ترك اتصالها بالإحرام - عمدًا أو سهوًا - وجب الدم إن طال زمن الفصل بينها وبين وقت الإِحرام. وهذا يقضي أن اتصال التلبية بالإِحرام ليس سنة كما درج عليه المُصَنِّف أولًا، وإنما ذلك واجب؛ بدليل أنه يجبر بدم. والله أعلم.
ودليل وجوب التلبية ووجوب إردافها على الإِحرام، فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجته وقد قال:"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". والأمر حقيقة في الوجوب.
وقوله: وتوسط في علو صوته وفيها: يعني وندب توسط في رفع صوت الملبي بالتلبية، فلا يسرها ولا يبالغ في رفعه. وندب كذلك التوسط فيها - أي في التلبية - فلا يكثرها جدًّا حتى يملها، ولا يقللها؛ ففي الموطإ في الحج، باب رفع الصوت بالإِهلال، وفي شرح السنة، باب رفع الصوت بالتلبية، واللفظ له، عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمرَني أَنْ آمُرَ أصْحَابِيَ، أَوْ مَنْ مَعِيَ، أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيةِ، أَوْ بِالْإهْلَالِ". يريد أحدهما. قال البغوي: قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ثم قال: ورفع الصوت بالإِهلال مشروع في المساجد وغيرها. وقال مالك: لا يرفع صوته بالإِهلال في =
وَعَاوَدَهَا بَعْدَ سَعْيٍ، وَإِنْ بِالْمَسْجِدِ لِرَواحِ مُصَلّى عَرَفَةَ وَمُحْرِمُ مَكَّةَ يُلَبِّي بِالْمَسْجِدِ (1)، وَمُعْتَمِرُ المِيقَاتِ وَفَائتِ الْحَجِّ لِلحَرَمِ، وَمنَ الجِعِرَّانَةِ وَالتَّنْعِيمِ لِلْبُيُوتِ، وَلِلطَّوَافِ الْمَشْيُ وَإِلَّا فَدَمٌ لِقَادِرٍ وَلَمْ يُعِدْهُ، وَتَقْبِيلُ حَجَرٍ بِفَمٍ أوَّلَهُ. وَفِي الصَّوْتِ قَوْلَانِ (2) وَللزَّحْمَةِ لَمْسٌ بِيَدٍ ثُمَّ عُودٍ وَوُضِعَا على فِيهِ ثُمَّ كَبَّرَ.
= مساجد الجماعات، ليسمع نفسه ومن يليه، إلا في المسجد الحرام، ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وعاودها بعد سعي وإن بالمسجد لرواح مصلى عرفة، يعني - والله أعلم - أن على الحاج أن يعاود التلبية بعد فراغه من السعي، وهذا إن كان مفردًا أو قارنًا، وإن كان الملبي بالمسجد الحرام. وعليه أن يداوم عليها حتى يروح أي يذهب من مصلى عرفة، أي حتى بعد الزوال.
قلت: قد ورد الخبر في وقت انتهاء التلبية؛ فقد روى ابن المنذر، وسعيد بن منصور، عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعلي رضي الله عنهم أن الملبي يقطع التلبية، إذا راح إلى الموقف. وقيده مالك بزوال الشمس يوم عرفة. وهو قول الأوزاعي، والليث. وقال قوم: يستمر الحاج ملبيًا حتى يرمي جمرة العقبة. وحجتهم حديث الفضل بن العباس الصحيح قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. ا. هـ. وروى عطاء عن ابن عباس قال يرفع الحديث: إنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر. رواه الترمذي وصححه. وروى أبو داود أيضًا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يُلَبِّي الْمُعْتَمِرُ حَّتَى يَسْتَلِمَ الْحَجَر".
وهذه أدلة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي العدول عنها إلى قول كائن من يكون، لأنه القدوة والأسوة الحسنة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(2)
وقوله: وللطواف المشي وإلا فدم لقادر لم يعده، هو شروع منه في تعداد سنن الطواف؛ فقال أن منها المشي لقادر عليه، وهو واجب، بدليل أن من طاف راكبًا، وتعذرت عليه الإعادة، عليه أن يجبر ذلك بدم. ومن سنن الطواف تقبيل الحجر الأسود في ابتداء الطواف، =
والدُّعَاءُ بِلَا حَدٍّ. وَرَمَلُ رَجُلٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأوَلِ وَلَوْ مَرِيضًا وَصَبيًّا حُمِلَا، وللْزَّحْمَةِ الطَّاقَةُ.
= وكذا يسر استلام الركن اليماني، ويستحب في بقية الطواف فعل ذلك. فإذا زوحم الطائف عن تقبيل الحجر لمسه بيده أو بعصى، ويضع ما لمسه به على فمه من غير تقبيل، فإن تعذر اللمس باليد أو بالعود كبَّر من غير إشارة بيده. ومن سنن الطواف الدعاء بلا حد، والأولى أن يكون بالمأثور. ومن سنن الطواف - وهي مخصوصة بالقادم من الميقات بحج أو عمرة - الرمل للرجال دون النساء، في الأشواط الثلاثة الأول فقط.
أما دليل الرمل؛ فهو حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة - أول ما يقدم - سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعًا. الحديث المتفق عليه. وحديث جابر عند مسلم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف. ا. هـ.
وأما دليل استلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود، فهو حديث ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال: لم أرَ رسول الله يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين. متفق عليه، وحديث الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر بن الخطاب استقبل الحجر ثم قال: إني لأعلم أنك حجر، لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ثم تقدم فقبله. قال البغوي: هذا حديث صحيح متفق عليه. أخرجه محمد عن محمد بن كثير عن سفيان، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى وغيره، عن أبي معاوية كلاهما عن الأعمش. ا. هـ.
وأما دليل استحباب الدعاء في الطواف، هو ما رواه ابن جريج عن يحيى بن عبيد، مولى السائب، عن أبيه عن عبد الله بن السائب، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود:"رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". قال شعيب: هذا الحديث رواه أحمد ج 3/ ص 411. وأبو داود في المناسك، باب الدعاء بين الطواف. وعبد الرزاق. ا. هـ. منه.
وأما دليل استلام الركن بعود، فهو الحديث الصحيح المتفق عليه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على راحلته، واستلم الركن بمحجنه.
وأما دليل الإِشارة إلى الحجر مع التكبير، إذا لم يتيسر استلامه ولو بعود، هو الحديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الصحيح المروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير، كلما أتى على الركن، أشار إليه بشيء في يده وكبَّر، قال البغوي: هذا حديث صحيح. وقال شعيب: هو في صحيح البخاري في الحج، باب المريض يطوف راكبًا. ا. هـ.
أما القول بسنية الطواف ماشيًا للقادر على المشي، ولزوم الدم للقادر على المشي إذا طاف راكبًا ولم يعد طوافه، فهو بالاجتهاد. قالوا: لا يطوف راكبًا إلا المعذور. وأجابوا عما ورد من طوافه صلى الله عليه وسلم راكبًا، بأنه لأجل أن يتبلغ الناس من رؤيته ليتعلموا منه ماسكهم، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم عن عبد بن حميد عن محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضربُ الناس بين يديه، فلما كثر عليه ذلك ركب، والمشي أفضل. ا. هـ. شرح السنة.
قلت: هناك سنة خامسة من سنن الطواف ينبغي عدها، على رغم أنف المذهب، وذلك لما رواه يعلى بن أمية قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مُضطبعًا ببردٍ أخضر. أخرجه البغوي في شرح السنة. وقال شعيب: أخرجه أحمد، وأبو داود في المناسك، باب الاضطباع في الطواف، وأخرجه الترمذي في الحج، باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعًا، وأخرجه ابن ماجة، ورجاله ثقات. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى أبو داود من حديث حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى. وإسناده قوي. ا. هـ. منه بلفظه.
ولهذا، فإني لا أتحرج أن أقول: إن الاضطباع من سنة الطواف لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علمت. وصفته: أن يشتمل الطائف بردائه على منكبه الأيسر من تحت منكبه الأيمن، فيكون منكبه الأيمن مكشوفًا، فلا يزال كذلك حتى يفرغ من الطواف والسعي بين الصفا والمروة. والله الموفق.
وَللسَّعْيِ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ، وَرُقِيُّهُ عَلَيْهِمَا، كَامْرَأةٍ إِنْ خَلَا، وَإسْرَاعٌ بَيْنَ الْأخْضَرَيْنِ فَوْقَ الرَّمَلِ، وَدُعَاءٌ (1)، وَفي سُنِّيَّةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَوُجُوِبهِمَا تَرَدُدٌ، وَنُدِبَا كَالإِحْرَامِ بِالْكَافِرُونَ وَالإِخْلَاصِ، وبِالْمَقَامِ (2)، وَدُعَاءٌ بِالْمُلْتَزَمِ (3)، واسْتِلَامُ الْحَجَرِ والْيَمَانيِ (4) بَعْدَ الأوَّلِ، وَاقْتِصَارٌ عَلَى تَلْبِيَةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم (5)،
(1)
وقوله: وللسعي تقبيل الحجر ألخ. هو تعداد لسنن السعي، ولا يكون السعي إلا ركنًا لحج أو عمرة فقال: والسنة الأولى من سننه تقبيل الحجر الأسود بعد الفراغ من الطواف وركعتيه، وقبل الشروع فيه. قال الدردير: وندب أن يشرب من زمزم، وأن يخرج إلى الصفا من باب الصفا. والسنة الثانية من سنن السعي رقي الساعي الذكر على الصفا والمروة كلما وصل إلى واحدة منهما. كما يستحب للمرأة الرقي عليهما إن كان المحل خاليًا من زحمة الرجال، وإلا اكتفت بالوقوف أسفلهما. والثالثة: الإِسراع بين الميلين الأخضرين، اللذين هما على حدّي بطن المسيل للدلالة على موضع الإِسراع. قال المواق: وشرع الرجال دون النساء في المشي في بطن المسيل. والسنة الرابعة هي الدعاء أثناء سعيه بلا حد وعلى الصفا والمروة. ودليل ذلك حديث جابر عند مسلم في صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم استلم الركن، ثم خرج فقال:"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ". فأتى الصفا ورَقيَ عليه حتَّى بدا له البيت، ثم وحَّد الله وكبره، وقال:"لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ". ثم مشى حتى إذا انصبت قدماه، سعى حتى إذا أصعدت قدماه، مشى حتى أتى المروة، ففعل عليها كما فعل على الصفا حتى قضى طوافه. الحديث.
(2)
وقوله وفي سنية ركعتي الطواف ألخ. دليل صلاة ركعتي الطواف وقراءة فيهما بسورتي الإِخلاص ما روي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي:{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه النسائي في الحج، باب القراءة في ركعتي الطواف. وأما التحقيق من الخلاف في المذهب في وجوبهما وسنيتهما هو أنهما سنة مؤكدة، والدليل على عدم وجوبهما قوله صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الْجَنَّةَ" الحديث، وهذه ليست منها، ويدل على عدم وجوبهما حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرائض، فذكر له الصلوات الخمس، قال: هل عليَّ غيرها؟. قال: "لَا إِلَّا ان تَطَّوَّعَ".
وأما استحباب صلاتهما خلف المقام؛ فلأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل في حجته وقال: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". قال جابر في حديثه الصحيح: فطاف بها سبعًا؛ رمل فيها ثلاثًا ومشى أربعًا ثم قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(1)
. فصلى ركعتين، جعل المقام بينه وبين البيت. الحديث.
ويجوز أن يصلي المرء ركعتي الطواف خارج المسجد بالحرم، ففي الموطإ عن مالك عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري أخبره أنه طاف مع عمر بن الخطاب بعد صلاة الصبح، فلما قضى عمر طوافه نظر فلم ير الشمس طلعت فركب حتى أناخ بذي طوى، فصلى ركعتين سنة الطواف. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: ودعاء بالملتزم يعني بالملتزم ما بين الركن والمقام من البيت. قال أبو عمر: كان صلى الله عليه وسلم يضع صدره ووجهه بالملتزم. كذا في جواهر الإِكليل.
(4)
وقوله: واستلام الحجر واليماني، يعني أنه يندب استلام وتقبيل الحجر الأسود بكل شوط غير الأول، وندب لمس الركن اليماني بآخر كل شوط بعد الشوط الأول، بعد مرور الطائف على الركنين الشاميين المقابلين للحجر - بكسر فسكون - قال شيخنا في أضواء البيان: لا خلاف بين العُلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف، وجماهيرهم على تقبيله، وإن عجز وضع يده عليه وقبلها خلافًا لمالك قائلًا: إنه يضعها على فيه من غير تقبيل. وقال النووي: أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود - إلى أن قال - وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: إنه يستحب استلامه باليد، ولا يقبل بل تقبل اليد بعد استلامه. وهذا مذهب الشافعي. قال النووي: ويروى عن جابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة. =
(1)
سورة البقرة: 125.
ودُخُولُ مَكَّةَ نَهَارًا والْبَيْتِ، وَمنْ كَدَاءٍ لِمَدَنِيٍّ، والمسْجِدِ مِنْ بَاب بَنِي شَيْبَةَ، وخروجُه مِنْ كُدىً (1) وَرُكُوعُهُ للطَّوَافِ بَعْدَ المَغْرِب قَبْلَ تَنَفُّلِهِ (2) وَبِالْمَسْجِدِ، وَرَمَلُ مُحْرِمٍ مِنْ كالتَّنْعِيمِ
= الثاني: إنه يستلمه ولا يقبل يده بعده، بل يضعها على فيه من غير تقبيل. وهذا مشهور مذهب مالك، وأحمد. وعن مالك رواية أنه يقبل يده بعد استلامه.
والقول الثالث: إنه يقبله. وهو مروي عن أحمد. ا. هـ. منه باختصار.
(5)
وقوله: واقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم دليله الحديث المتفق عليه؛ عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". أخرجه الموطأ، والبخاري، ومسلم. ومعلوم أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع: قال الطحاوي والقرطبي: أجمع العُلماء على هذه التلبية. ا. هـ. منه. والأمر ظاهر في أن ذلك لاختياره صلى الله عليه وسلم لهذا اللفظ، وهو القدوة والأسوة.
(1)
وقوله: ودخول مكة نهارًا، والبيت، ومن كداء لمدني، والمسجد من باب بني شيبة، وخروجه من كدى، هو لما ثبت عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى، متفق عليه. وثبت عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها، متفق عليه أيضًا.
وقوله: والبيت، أي يستحب دخول البيت من غير تقييد بليل ولا نهار، أما دخولها نهارًا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل البيت نهارًا. قال الحطاب: فقد أخذ جواز دخولها ليلًا من كونه صلى الله عليه وسلم جاء إلى عثمان بن شيبة بالسيدة عائشة ليفتحها لها ليلًا، فاعتذر له بأنه لم يفتحها ليلًا لا في الجاهلية ولا في الإِسلام، فوافقه صلى الله عليه وسلم وجاء بها إلى الحجر وقال لها:"صَلِّي فيه". ولا يقال: يؤخذ من موافقته له صلى الله عليه وسلم على ذلك كراهة دخولها ليلًا، وأنه خلاف الأولى، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما وافقه تطييبًا لقلبه وتأليفًا له؛ بدليل إتيانه بها إلى الحجر. ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: ومن كداء لمدني إلى آخره، هو ظاهر المدونة والرسالة، غير أن هذا الفرع وأمثاله هو مما يتخرج على الخلاف الواقع في أفعاله صلى الله عليه وسلم المركوزة في الجبلة البشرية إذا اقترنت بالعبادة، هل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تعتبر سنة أو لا؟. نحو الضجعة بعد صلاة ركعتي الفجر، والركوب في الحج، والخروج إلى المصلى. يوم العيد من طريق والرجوع من آخر، ونحو ذلك. والتحقيق إن شاء الله في ذلك أنه لا يعتبر من ذلك سنة إلا ملامح الوصف؛ فلا يقال: الأكل سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل. ولكن يقال: الأكل باليمين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل بيمينه، ونحو ذلك. وقد تقدم مرارًا التنبيه على ذلك، وعلى أن شيخ مشائخنا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، عقد ذلك في مراقي السعود بقوله:
وفعله المركوز في الجبلّة
…
كالأكل والشرب فليس ملة
فالحج راكبًا عليه يجري
…
كضجعة بعد صلاة الفجر
وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: وركوعه للطواف بعد المغرب قبل تنفله، قال المواق هنا: روى ابن القاسم: إن طاف بعد العصر صلى ركعتي الطواف بعد أن يصلي المغرب، وإن ركعهما قبل المغرب فجائز، وبعد المغرب أحب إلينا. القرافي: إن طاف بعد الصبح، فالمشهور يؤخر الركوع حتى تطلع الشمس. ا. هـ. منه بلفظه.
قلت: هذا المذهب. وقد قدمنا في الكلام على أوقات النهي الدليل على أن الطائف يصلي ركعتي الطواف في أي وقت طاف فيه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالمراعاة لأنه الأسوة والقدوة - بأبي وأمي هو - صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وبالمسجد، يريد به - والله تعالى أعلم - أنه يستحب للطائف أن يصلي ركعتي الطواف بالمسجد الحرام، أو بمكة، وذلك لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلاهما بالمسجد خلف المقام، وقد قدمنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بعد صلاة الصبح، وسافر حتى طلعت الشمس فصلاهما بذي طوى.
وقوله: ورمل محرم من التنعيم أو بالإِفاضة لمراهق، لا تطوع، يريد به - والله تعالى أعلم - أن الرمل في حق من أحرم من التنعيم أو من الجعرانة مثلًا مستحب، سواء أحرم بحج أو بعمرة أو =
أوْ بِالإفَاضَةِ لِمُرَاهِقٍ، لَا تَطَوُّع، وَوَدَاعٍ، وَكَثْرَةُ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ ونَقْلُهُ (1)،
= بقران، وفي حق المراهق الذي لم يطف طواف القدوم يستحب له أن يرمل في طواف الإِفاضة، وكذا يستحب لمن أحرم بحج من مكة مكيًا كان أو آفاقيًا؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح مسلم من طريق جعفر في الحج أنه رمل ثلاثًا ومشى أربعًا. وكذا أخرجه مسلم أيضًا من طريق مالك. وفي صحيح ابن خزيمة أن العلة التي من أجلها رمل صلى الله عليه وسلم أن أهل مكة قالوا: إن محمدًا وأصحابه قد وهنتهم حمّى يثرب. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَكُمْ". فلما رملوا. قال المشركون: ما وهنتهم.
والرمل من الحجر إلى الحجر لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك، وهو في صحيح ابن خزيمة: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، أخبرنا مالك، وحدثنا علي بن خشرم، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر، أن رسول ل لله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر زاد علي: ثلاثًا ومشى أربعًا. ا. هـ. قال مالك في الموطإ: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وكثرة شرب زمزم ونقله، دليله ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: باب استحباب الشرب من ماء زمزم بعد الفراغ من طواف الزيارة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا حاتم بن إسماعيل، ثنا جعفر عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فذكر الحديث بطوله وقال: ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت - يعني يوم النحر - فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: "انْزِعُوا بَني عَبْدِ الْمُطلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ". فناولوه دلوًا فشرب مه. ا. هـ. مه. بلفظه. والحديث في مسلم من حديث جابر في الحج. وقد ورد في الحديث: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ". قال الحطاب: قال فيه الحافظ السخاوي: رواه الحاكم وقال فيه: إنه صحيح الإِسناد. وقد صحح هذا الحديث من المتقدمين ابن عيينة، ومن المتأخرين الحافظ الدمياطي قال: وقد رأيت لابن حجر كلامًا جوابًا لسؤال سئل فيه عن هذا الحديث، قال في آخره بعد أن ذكر طرق هذا الحديث قال: إذا تقرر هذا فمرتبة هذا الحديث عند الحفاظ بإجماع هذه الطرق أنه يصلح للاحتجاج به على ما عرف من قواعد الحديث. انتهى مه بلفظه. وقد أخرج عبد الرزاق في المُصَنِّف، عن ابن جريج قال: =
ولِلسَّعْيِ شُرُوطُ الصَّلاةِ (1)، وخُطْبَةٌ بَعْدَ ظُهْر السَّابعِ بِمَكَّةَ؛ وَاحِدَةٌ يُخْبِرُ فِيهَا بالْمَنَاسِكَ (2)، وخُرُوجُهُ لِمِنىً قَدْرَ مَا يُدْرِكُ بِهَا الطهْرَ، وَبَيَاتُهُ بِهَا، وَسَيْرُهُ لِعَرَفَةَ بَعْدَ الطُّلُوعِ، ونُزُولُهُ بِنَمِرَةَ، وخُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ أُذِّنَ وجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرَيْنَ إثْرَ الزَّوَالِ، وَدُعَاءٌ وَتَضَرُّعٌ لِلْغُرُوبِ، وَوُقُوفُهُ بِوُضوءٍ، وَرُكُوبُهُ بِهِ، ثُمَّ قِيامٌ إلَّا لِتَعَبٍ، وَصَلَاتُهُ بِمُزْدَلِفَةَ الْعِشَاءَيْنِ، وَبَيَاتُهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ فَالدَّمُ، وَجَمَعَ وَقَصَرَ إِلَّا أهْلَهَا كَمِنىً وَعَرَفَةَ، وَإنْ عَجَزَ فَبَعْدَ الشَّفَقِ إنْ نَفَرَ مَعَ الإِمَامِ، وَإلَّا فَكُلٌّ لِوَقْتِهِ، وَإِنْ قُدِّمَتَا عَلَيْهِ أعَادَهُمَا، وَارْتحَالُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ مُغَلِّسًا، وَوُقُوفُهُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يُكَبِّرُ وَيَدْعُو لِلإسْفَارِ، وَاسْتِقْبَالُهُ بِهِ، وَلَا وُقُوفَ بَعْدَهُ وَلَا قَبْلَ الصُّبْحِ، وإِسْرَاعٌ بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَرَمْيُهُ العَقَبَةَ حِينَ وُصولِهِ وَإنْ رَاكِبًا، وَالْمَشْيُ
= حدثني ابن أبي حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمر: إن جاءك كتابي هذا ليلًا فلا تصبحن، أو نهارًا فلا تمسين حتى تبعث إليَّ ماء من زمزم. قال الأعظمي: أصله في الطبراني الكبير والأوسط عن ابن عباس. قال: وهو مرسل أخرجه الأزرقي من طريق عثمان بن ساج عن ابن جريج. ا. هـ.
(1)
وقوله: وللسعي شروط الصلاة، يريد به - والله تعالى أعلم - أنه يستحب للسعي شروط الصلاة؛ من طهارة حدث وخبث وستر عورة، دون استقبال القبلة فإنه غير ممكن. فقد استحب مالك لمن انتقض وضوؤه أن يتوضأ ويبني، فإن لم يتوضأ فلا شيء عليه. قال الحطاب: ومن العتبية، قال مالك: ومن أحدث في سعيه فتمادى فلا إعادة عليه، وأحسن ذلك أن يتوضأ ثم يتم. انتهى. ونحوه في الطراز عن الواضحة. انتهى منه بلفظه.
(2)
وقوله: وخطبة بعد ظهر السابع بمكة واحدة يخبر فيها بالمناسك، دليله ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، باب خطبة الإِمام يوم السابع من ذي الحجة ليعلم الناس مناسكهم، قرأت على أحمد بن أبي سُريج الرازي: أن عمرو بن مجمع أخبرهم، عن موسى بن عقبة عن نافع، عن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم. ا. هـ. وهو حديث قال البيهقي: إسناده ضعيف. أخرجه في السنن الكبرى، عن طريق أبي قرة عن موسى بن عقبة. ا. هـ.
وقوله: وخروجه لمنىً قدر ما يدرك فيها الظهر، هو للاقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن خزيمة: حدثنا عبد الجبار بن العلاء، ثنا سفيان، عن يحيى قال: سمعت القاسم يقول: سمعت ابن الزبير يقول: من سنة الحج - وقال مرة من سنة الإِمام - أن يصلي الظهر والعصر والغروب والعشاء والصبح بمنى. قال محمد المصطفى الأعظمي تعليقًا على هذا الحديث: إسناده صحيح. أشار الحافظ في الفتح جـ 3/ ص 508 إلى رواية ابن خزيمة، وأسند ابن خزيمة أيضًا حديثًا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمس صلوات بمنى. قال الأعظمي في التعليق: إسناده صحيح لغيره. رواه الترمذي في الحج من طريق الأعمش، وهو في المستدرك. ا. هـ.
وعلى كل حال فإن قوله: وخروجه لمنى إلى آخره كأنه يروي به حديث جابر رضي الله عنه، الذي يروي حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم، ونص هذا المحل منه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منىً، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر، والعصر والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوَعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ".
قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس:"اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ". ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء الزِّمام، حتَّى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى:"أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ". كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتَّى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاهُ وكبَّرَهُ وهلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس - وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا - فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن مُحَسِّر، فحرك قليلًا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر. ا. هـ. محل الغرض منه. وهكذا بتتبع ألفاظ هذا الحديث يتبين لك دقة متابعة ألفاظ المختصر له. فلله دره عليه رحمة الله.
فِي غَيْرِهَا، وَحَل بِهَا غَيْرُ نِسَاءٍ وَصَيْدٍ (1)، وَكُرِهَ الطِّيبُ (2) وَتَكْبِيرُهُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَتَتَابُعُهَا، ولَقْطُهَا، وَذَبْحٌ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَطَلَبُ بَدَنَتِهِ لَهُ لِيَحْلِقَ، ثُمَّ حَلْقُهُ وَلَوْ بِنُورَةٍ إنْ عَمَّ رَأْسَهُ والتَّقْصِيرُ مُجْزٍ، وَهُوَ سُنَّةُ الْمَرْأَةِ تَأْخُذُ قَدْرَ الأنْمُلَةِ، والرَّجُلُ مِنْ قُرْبِ أصْلِهِ (3) ثُمَّ يُفِيضُ، وَحَلَّ بِهِ مَا بَقِيَ إنْ حَلَقَ (4).
(1)
وقوله: ورميه العقبة حين وصوله وإن راكبًا، هو لدليل حديث جابر عند مسلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هذِهِ". ا. هـ.
وقوله: والمشي في غيرها، أي ويمشي إلى الرمي في سائر الأيام، هو لما روي عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة - بعد يوم النحر - ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، أخرجه البغوي في شرح السنة وقال شعيب: هو في أبي داود في المناسك.
وقوله: وحل بها غير نساء وصيد، دليله حديث ابن عباس عند الإِمام أحمد وأبي داود، والنسائي وابن ماجة، من حديث الحسن العرني عنه، قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ كُل شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ". فقال رجل: والطيب؟. فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟!. كذا لفظ منتقى الأخبار. وقال: رواه أحمد.
(2)
وقوله: وكره الطيب، هو لما أخرجه الحاكم عن ابن الزبير أنه قال: إذا رمى الجمرة الكبرى، حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب، وأخرج النسائي أيضًا عن ابن عمر مثل ذلك. وحيث إن هذين الأثرين ليس لهما قوة معارضة، لما ورد من صحيح الأخبار من أنه صلى الله عليه وسلم تضمخ بالطيب بعد رمي الجمرة قبل الإِفاضة، فقد حمل أهل المذهب الأمر في هذين الأثرين على كراهة الطيب احتياطًا. وهو مذهب عمر بن الخطاب. فقد روي عنه أنه يحل له كل شئ إلا النساء والطيب. قالوا لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة. قاله ابن قدامة في المغني. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: ثم حلقه ولو بنورة إن عم رأسه والتقصير مجز، هو لما ثبت في الكتاب والسنة؛ قال تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ رُؤُوَسهُمْ" ثلاثًا. قالوا: يا رسول اللّه، والمقصرين؟. في كل مرة من المرات، فقال بعد الثالثة:"والمُقَصِّرِينَ". فقد أشار المختصر بقوله: والتقصير مجز، إلى أنه نسك غير أن الحلق أفضل منه. كما علمت.
وقوله: وهو سنة المرأة تأخذ قدر الأنملة، قال ابن قدامة في المغني: والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق، لا خلاف في ذلك. قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم؛ وذلك أن الحلق في حقهن مُثْلَةٌ. وقد روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ لْحَلْقُ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ". رواه أبو داود. وعن عليٍّ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها. رواه الترمذي. وكان أحمد يقول: تقصر من كل قرن قدر الأُنملة. وهو قول ابن عمر، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، انتهى محل الغرض منه.
(4)
وقوله: ثم يفيض وحل به ما بقي، يريد به - والله تعالى أعلم - أن الحاج إن رمى الجمرة ونحر وحلق، يفيض إلى مكة لطواف الإِفاضة، فإذا فرغ منه رجع إلى منى. وسمي هذا الطواف طواف الإِفاضة؛ لأنه يأتي به بعد إفاضته من منىً إلى مكة، وهو ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، لا خلاف في ذلك. قال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
(2)
قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَحابِسَتُنَا هِي"؟!. دليل على أنه لابد منه.
ووقت هذا الطواف المفضل يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق لفعله صلى الله عليه وسلم كما يبينه حديث جابر. قال: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فإن أخر الإِفاضة إلى الليل فلا بأس، فإن أبا داود والترمذي أخرجا عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل. وقال الترمذي في كل واحد منهما: حديث حسن. واختلف في آخر وقت طواف الإِفاضة، قال ابن ندامة في المغني: والصحيح أن آخر وقته غير محدود، فإنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما =
(1)
سورة الفتح: 27.
(2)
سورة الحج: 29.
وَإِنْ وَطِئَ قَبْلَه فَدَمٌ، بِخلَافِ الصَّيْدِ، كَتَأْخِير الْحَلْقِ لِبَلَدِهِ أوْ الإِفَاضَةِ لِلْمُحَرَّمِ، وَرَمْيُ كُلِّ حَصَاةٍ أو الْجَمِيعِ لِلَّيْلِ، وإِنْ لِصَغِيرٍ لَا يُحْسِنُ الرَّمْيِ، أوْ عَاجِزٍ، وَيَسْتَنِيبُ فَيَتَحَرَّى وَقْتَ الرَّمْي ويُكَبِّرُ. وَأَعَادَ إنْ صَحَّ قَبْلَ الْفَوَاتِ بِالْغُرُوب مِنَ الرَّابعَ، وقَضَاءُ كُلٍّ إلَيْهِ (1).
= الخلاف في وجوب الدم، وعدم ذلك أظهر، فإنه متى أتى به صح ولا شيء عليه.
وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم، إلا أنه لا رمل فيه ولا اضطباع، والنية شرط فيه؛ ينوي الحاج ول طواف الإِفاضة لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". الحديث، خلافًا للشافعي وأصحاب الرأي.
وإذا طاف المرء طواف الإِفاضة، حل له كل شيء حرم عليه بالإِحرام. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر وأفاض بالبيت، ثم حل له كل شيء حرمه. متفق عليه. وعن عائشة نحوه متفق عليه أيضًا. وبالله التوفيق.
تنبيه: يحل الحاج بطواف الإِفاضة التحلل الثاني، إذا كان قدم السعي مع طواف القدوم، أما من عليه السعي فإنه لا يتحلل إلا بعد الفراغ من سعيه.
(1)
قوله: وإن وطئ قبله فدم، الضمير في قبله يعود على الحلق، يريد به - والله أعلم - أن من وطئ بعد أن أفاض وقبل الحلق، عليه دم، بخلاف اصطياده في الحل، بعد الإِفاضة وقبل الحلق، فإنه لا دم فيه عليه لخفته بالنسبة للوطء. وأما لو وطئ أو صاد قبل السعي، فإنه يجب عليه الدم، كما لو أخر الحلق لبلده ولو سهوًا، ولو قرب بلده، فدم. وكذا لو أخر الحلق حتى خرجت أيام التشريق، ولو كان مقيمًا بمنىً. وإن أخر الإِفاضة أو السعي إلى أن انقضى شهر ذي الحجة ودخل المحرم، فعليه دم، وإن أخر حصاة من العقبة أو غيرها، أو أخر جميع الحصيات عن وقت أدائها بالنهار، إلى أن دخل الليل فدم، ولو كان التأخير لصغير لا يحسن الرمي أو مجنون، أخره وليهما والدم على الولي، أو من عاجز والدم واجب في ماله، وله أن يستنجب من يرمي عنه، فإذا فعاد، تحرى وقت رمي النائب عنه ويكبر لكل حصاة، ويتحرى وقت دعاء نائبه =
والَّليْلُ قَضَاءٌ، وَحُمِلَ مُطِيقٌ وَرَمَى. ولَا يْرمِي فِي كَفِّ غَيْرِهِ. وتَقْدِيمِ الْحَلْقِ أو الإفَاضَةِ على الرَّمْي لَا إِنْ خَالَفَ فِي غَيْرٍ، وَعَادَ لِلمَبِيتِ بِمِنىً فَوْقَ الْعَقَبَةِ ثَلَاثًا (1). وإنْ تَرَكَ جُلَّ لَيْلَةٍ فَدَمٌ، أوْ لَيْلَتَيْنِ إنْ تَعَجَّلَ، وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ أوْ
ويدعو، فإن صح العاجز قبل فوات وقت الرمي أعاد رميه قبل الفوات الحاصل بغروب شمس اليوم الرابع. وينتهي قضاء رمي كل الجمار إلى غروب اليوم الرابع. ورمي كل عقبة بليل عقب كل يوم، قضاء لذلك اليوم يجب به الدم. وحمل للرمي مريض مطيق له ورمى بنفسه وجوبًا، ولا يجزئ عنه رمي الحصاة في كف غيره ليرميها عنه. وكتقديم الحلق أو الإِفاضة على الرمي، فإن فيه الفدية لوقوعه قبل التحلل؛ فإذا رمى العقبة بعد ذلك أمرّ موسى على رأسه، لأن حلقه الأول وقع قبل محله، ولا يلزمه شيء إن خالف الترتيب السابق في غير تقديم الحلق أو الإِفاضة على الرمي؛ كحلقه قبل النحر ونحره قبل الرمي وإفاضته قبل النحر أو الحلق، فلا دم عليه في صورة من هذه الصور، لخبر حجة الوداع: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر إلا قال: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ".
قلت: كل هذه الأمور المتقدمة قبل قوله: ولا إن خالف في غير، هي أمور بمحض الاجتهاد، لم يرد فيها نص يرجع إليه. ومعلوم أن مذهب أصحابنا احتياطات وسد ذرائع ونحو ذلك. أثاب الجميع ووفقه إلى السداد.
(1)
وقوله: وعاد للمبيت فوق العقبة ثلاثًا، هو لما روي عن القاسم، عن عائشة قال: أفاض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منىً فمكث بها ليالي أيام التشريق. الحديث. أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود.
وقوله: فوق العقبة، هو لما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا يبيتنَّ أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة. أخرجه مالك في الموطإ. وإسناده صحيح. وأما صفة رمي الجمرات فقد ورد فيها ما روي عن ابن عمر أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يقوم طويلًا ويدعو، ويرفع يديه حتى يرمي الوسطى، ثم يأخذ بذات الشمال فيسهل، ثم يقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلًا، ثم =
مَكِّيًّا قَبْلَ الْغُرُوبِ مِنَ الثاني، فَيسْقُطُ عنه رَمْيُ الثَّالِثِ. وَرُخِّصَ لِرَاعٍ - بَعْدَ الْعَقَبَةِ - أنْ يَنْصَرِفَ وَيأتي الثَّالِثَ فَيَرْمِيَ لِلْيَوْمَيْنِ (1). وتَقْدِيمُ الضَّعَفَةِ (2) فِي الرَّدِّ لِلْمُزْدَلِفَةِ، وتَرْكُ التَّحْصِيبِ لِغَيْرِ مُقْتَدىً بِهِ (3)، ورَمَى كُلَّ يَوْمٍ الثَلَاثَ وَخَتَمَ بالْعَقَبَةِ، مِنَ الزَّوَالِ لِلْغُرُوبِ، وصِحَّتُهُ بِحَجَرٍ كَحَصَى الخَزفِ. وَرَمَى وَإنْ بِمُتَنَجِّسٍ عَلَى الْجَمْرَةِ وَإنْ أصَابَتْ غَيْرَهَا إنْ ذَهَبَتْ بِقُوَّةٍ، تَرَدُّدُ. وبَتَرَتُّبِهِنَّ وَأَعادَ
= يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها. ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه البخاري.
(1)
وقوله: ورخص لراعٍ بعد العقبة ألخ. دليله ما أخرجه الموطأ والبغوي واللفظ له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاة الإِبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين.
والمذهب عندنا والاختيار أنه يرمي يوم النحر، ويترك يوم القر، ثم يرمي النفر الأول لليوم الذي مضى، وللذي فيه، لأنه لا يقضي أحد شيئًا حتى يجب عليه أولًا. وهو المذهب عند الشافعية أيضًا.
(2)
وقوله: وتقديم الضعفة، هو لما روى مالك في الموطإ، عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر، أن أباهما كان يقدم نساءه - صبيانه ونساءه - من المزدلفة إلى منى حتى يصلوا الصبح بمنى، ويرموا قبل أن يأتي الناس.
وفي صحيح مسلم في الحج باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهن، من حديث سالم بن عبد اللّه بن عمر، أن أباه كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإِمام. وقيل: أن يدفع. فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك. فإذا قدموا رموا الجمرة. وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. شعيب.
(3)
وقوله: وترك التحصيب لغير مقتدى به: التحصيب، هو أنه إذا نفر من منى إلى مكة للتوديع - بعد الفراغ من الرمي - أن يقيم بالعب الذي يخرجه إلى الأبطح، حتى يرقد ساعة من =
مَا حَضَرَ بَعْدَ المنْسِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي يَوْمِهَا فَقَطْ، وَنُدِبَ تَتَابُعُهُ، فَإِنْ رَمَى بِخَمْسٍ خَمْسٍ اعْتَدَّ بَالْخَمْسِ الأوَلِ. وَإِنْ لَمْ يَدْرِ مَوْضِعَ حَصَاةٍ اعْتَدَّ بِسِتٍّ مِنَ الأولَى، وَأجْزَأ عَنْهُ وعَنْ صَبيٍّ وَلَوْ حَصَاةً حَصَاةً، وَرَمَى الْعَقَبةَ أوَّلَ يَوْمٍ، طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَإِلَّا إثْرَ الزَّوالِ قَبْلَ الظُهْرِ، وَوُقُوفُهُ إِثْرَ الأُولَيَيْنِ، قَدْرَ إسْرَاعِ الْبَقَرَةِ، وتَيَاسُرُهُ فِي الثَّانِيَةِ (1).
= الليل، ثم يدخل مكة، فكان ابن عمر يراه سنة. روى نافع عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ينزلون الأبطح. ولذلك فإن جماعة ذهبوا إلى أن التحصيب سنة. والمذهب عند أصحابنا كذلك. وسوف يقول المُصَنِّف بعد قليل: وتحصيب الراجع ليصلي أربع صلوات، غير أنه هنا يقول: أن غير المقتدى به يجوز له ترك التحصيب، وذلك - في نظري - مراعاة لقول القائلين بعدم سنيته، وهو قول عائشة: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج. أخرجه البخاري ومسلم.
قلت: وهذا الخلاف مبني على ما تقدمت الإِشارة إليه مرارًا؛ من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي تقتضيه الجبلة البشرية ليس داخلًا في حد السنة، فإن اتفق أن اقترنت عبادة بذلك الفعل، جرى الخلاف فيها؛ فمن يقول: سنة، قال: لفعله صلى الله عليه وسلم. ومن يقول: ليس بسنة، يقول: فعل فعله لأن الجبلة البشرية تقتضيه، ولذلك قالت عائشة ما تقدمت الإِشارة إليه. وروي عن ابن عباس: التحصيب ليس بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري ومسلم. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ورمى كل يوم الثلاث إلى آخره، هو تفصيل يبين فيه كيفية ووقت الرمي. أما أدلة وقت الرمي؛ فإنه بالنسبة لجمرة العقبة؛ أخرج مسلم في صحيحه، وأخرج البخاري تعليقًا بصيغة الجزم والبغوي - وهذا اللفظ له - عن جابر قال: رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعده فإذا زالت الشمس. ا. هـ.
ويعني بقوله: بعده، أي بعد يوم النحر، فهو توقيت منه لرمي الجمار أيام التشريق. وفي ذلك أخرج الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا نرمي الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس. وهو في شرح السنة للبغوي. وأخرج البغوي أيضًا بسنده عن مسعر عن وبرة، قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟. قال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا.
وأما صفة رمي الجمار؛ فقد روي فيها ما أخرجه البخاري في صحيحه. والبغوي، وهذا لفظه: عن سالم عن ابن عمر أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو ويرفع يديه حتى يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلًا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. ا. هـ.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقد وقع تفسيره لهذا الطول فيما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة. ا. هـ.
قلت: وذلك ما عناه المختصر بقوله هنا: ووقوفه إثر الأوليين قدر إسراع البقرة، أي قدر إسراع قراءة سورة البقرة.
وأما من أين يأتي جمرة العقبة، فقد ورد فيه حديث متفق عليه أن الأعمش قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. ثم قال: من ههنا - والذي لا إله غيره - قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
وأما صفة الحصى التي يقع الرمي بها، فقد ورد فيها ما رواه مسلم في صحيحه والبغوي عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار مثل حصى الخَذْفِ. قال البغوي: هذا حديث صحيح مسلم، عن محمد بن حاتم، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج.
وأخرج البغوي بسنده عن سلمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بطن الوادي وهو يرمي الجمرة، وهو يقول:"أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، إِذَا رَمَيْتُمْ الْجِمَرَةَ، فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ". قال شعيب: أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. ا. هـ. وبالله التوفيق.
وَتَحْصِيبُ الرَّاجِعِ لِيُصَلِّيَ أرْبَعَ صَلَوَاتٍ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ (1) إنْ خرجَ لِكَالْجُحْفَةِ لَا كالتَّنْعِيمَ وَإنْ صَغيرًا. وَتَأَدَّى بالإفَاضَةِ وَالْعُمْرَة، وَلَا يَرْجِعُ القَهْقَرَى. وَبَطَلَ بِإِقَامَةِ بَعْضِ يَوْمٍ بِمَكَةَ، لَا بِشُغْلٍ خَفَّ، وَرَجَعَ لَهُ إنْ لَمْ
(1)
وقوله: وطواف وداع، أي ومن المستحب طواف الوداع - ويقال له: طواف الصدَر - ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ". رواه مسلم في صحيحه. وهو في شرح السنة للبغوي بهذا اللفظ عن ابن عباس. قال: كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. والدليل على أن الأمر فيه ليس عزيمة، كونه صلى الله عليه وسلم رخص للحائض والنفساء في تركه. قالوا: ولم يرخص في ترك واجب، فلم يرخص في تركه إلا لأن الأمر للإِستحباب. والله تعالى أعلم وأحكم.
وإذا فرغ من طواف الوداع يستحب له أن يقف في الملتزم بين الركن والباب ويقول: اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني، فازدد عليّ رضى، وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فاصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيرَيْ الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. ويدعو بما أحب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الدعاء لا يرد حيث يقترن بها.
وقوله ولا يرجع القهقرى، قال الحطاب: لأنه خلاف السنة، وكثير من الناس يفعل ذلك هنا في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا أصل لذلك في الشرع الشريف، وأدت هذه البدعة إلى أن صاروا يفعلونها مع مشائخهم، وعند المقابر التي يحترمونها، ويزعمون أن ذلك من الأدب. انتهى منه بلفظه.
تنبيه: في طواف الرجال والنساء معًا، أخرج عبد الرزاق في المصنف، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، فأخبرني وقال: كيف يمنعهن الطواف؟. وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟. قلت: أبعد الحجاب؟. قال: أي =
يَخَفْ فَوَاتَ أصْحَابِهِ، وَحُبِسَ الْكَرِيُّ وَالْوَليُّ لِحَيْضٍ أوْ نِفَاسٍ قَدْرَهُ (1)، وَقُيِّدَ إنْ أَمِنَ والرُّفْقَةُ فِي كَيَوْمَيْنِ؛ وَكُرِهَ رَمْيٌ بِمَرْمِيٍّ بِهِ، كَانْ يُقَالُ لِلإِفَاضَةِ: طَوَافُ الزيارَةِ. أوْ زُرْنَا قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم. ورُقيُّ الْبَيْتِ أَوْ عَلَيْهِ أوْ عَلَى مِنْبَرِه عليه الصلاة والسلام بِنَعْلٍ (2)، بِخِلَافِ الطَّوَافِ والْحِجْرِ، وَإنْ قَصَدَ بِطَوَافِهِ نَفْسَهُ مَعَ مَحْمُولهِ لَمْ يُجْزِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأجزأ السَّعْيُ عَنْهُمَا كَمَحْمُولَيْنِ فِيهِمَا.
= لعمري، أدركت لعمري بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟. قال: لم يكن يفعلن، كانت عائشة تطوف حَجِزَةً من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة معها: انطلقي بنا يا أمَّ المؤمنين نستلم، فجذبتها وقالت: انطلقي عنك. وأبت أن تستلم. وكن يخرجن متسترات بالليل يطفن مع الرجال، لا يخالطْنَهُمْ، قال: ولكنهن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن، ثم أخرج عنه الرجال. قال: وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير، وهي مجاورة في جوف ثبير. قلت: فما حاجبها حينئذ؟. قال: هي في قبة لها تركية؛ عليها غشاء لها بيننا وبينها. قال: ولكن قد رأيت عليها درعًا معصفرًا وأنا صبي. ا. هـ. بلفظه. قال المعلق على هذا الأثر: أخرجه البخاري من طريق أبي عاصم عن ابن جريج دون قوله: وأنا صبي.
(1)
وقوله: وحبس الكري والولي لحيض أو نفاس قدره، دليله حديث عائشة أم المؤمنين المتفق عليه؛ أن صفية بنت حيٍّ - زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أَحَابِسَتُنَا هِيَ"؟ فقيل له: إنها قد أفاضت. فقال: "فَلَا إِذًا". قال البغوي بعد أن ساق هذا اللفظ: هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد عن عبد الله بن يوسف عن مالك. وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب عن سفيان. كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم.
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ"؟. حين أخبر أنها حائض، دليل على وجوب طواف الإِفاضة، وأنه لا يمكن التحلل بدونه، وأن الطهارة من الحيض شرط في أدائه، فلا يمكنها أداؤه قبل أن تطهر. وفيه دليل أيضًا أن طواف الإِفاضة قابل للتأخير؛ حيث جعلها صلى الله عليه وسلم حابسة لهم إلى أن تطهر، مهما كان موعد ذلك الطهر. والله ولي التوفيق.
(2)
وقوله في مجال المكروهات: كأن يقال للإِفاضة طواف الزيارة، أو زرنا قبره صلى الله عليه وسلم. قال الحطاب: =
محرمات الإِحرام والحرم
حَرُمَ بِالإحْرَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ قُفَّازٍ وَسَتْرُ وَجْهٍ (1)، إلَّا لِسَتْرٍ بِلَا غَرْزٍ وَرَبْطٍ، وَإِلَّا فَفِدْيَةٌ. وعَلَى الرَّجُلِ مُحِيطٌ بِعُضْوٍ، وإنْ بِنَسْجٍ، أوْ زَرٍّ أوْ عَقْدٍ كَخَاتَمٍ وَقبَاءٍ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ كُمًّا،
= استعظم مالك رحمه الله إطلاق هذه اللفظة في حقه صلى الله عليه وسلم. وفي حق بيت اللهُ تعالى؛ من حيث إنها إنما تستعمل بين الأكفاء، وفي السعي غير الواجب، ويعد الزائر متفضلًا على من زاره. ولا يقول من ذهب إلى السلطان لإقامة ما يجب من حقه: أتيت السلطان لأزوره. ولا زرت السلطان. ا. هـ. محل الغرض منه.
(1)
وقوله: حرم بالإحرام على المرأة لُبْس قفاز وستر وجه، اختلف أهل العلم في جواز لبس المرأة للقفازين، فأظهر قولي الشافعي جوازه، وأنه لا شيء عليها في ذلك. والمذهب عند أصحابنا حرمة ذلك عليها؛ لما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر قال: ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين. أخرجه في الموطإ بإسناد صحيح.
أما ستر وجهها فلا خلاف بين العُلماء في حرمة ستر وجه المحرمة؛ فإن المرأة حُرْمُها في وجهها، لا يجوز لها ستر وجهها ويجوز لها ستر رأسها.
قال الحطاب: قال في الطراز: للمرأة أن تستر وجهها عن الرجال، فإن أمكنها بشيء في يديها، كالمروحة وشبهها فحسن، وإن لم يمكنها وكان لها جلباب، سدلته على رأسها، فإن لم يكن لها جلباب، فلها أن تنصب بعض ثوبها تجاهها بيدها، ولها أن تلقي كمها على رأسها وتسدل بعضه على وجهها، فإن لم تجد إلا خمارها الذي على رأسها، فإن كان فيه فضل ترفعه على رأسها فتسدله على وجهها فعلته. انتهى منه.
ولعل الدليل على ذلك ما روي عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا. وقالت: لا تلثَّمْ ولا تتبرقعْ. وهذا الحديث أخرجه البخاري تعليقًا، ووصله البيهقي. وقد قال تسدل الثوب: مالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق كما في البغوي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والعجب كل العجب من بعض متأخري الحنابلة، الذين يحاولون الحكم على وجه المرأة بأنه عورة، أخذًا من حديث أم المؤمنين آنف الذكر الذي أخذ منه الجهابذة الأعلام جواز سدل الثوب للمحرمة، بينها وبين الرجال، فإذا جاوزوها كشفت، على أن هذا الدليل يتطرقه الاحتمال، بأنه من الأحكام التي تختص بها أمهات المؤمنين، ومعلوم أن لهن أحكامًا تخصهن، والمقرر في فن الأصول في مباحث الألفاظ، أن وقائع الأحوال إذا تطرقها الإِحتمال كساها ثوب الإِجمال، فيسقط بها الإِستدلال. على أني لا أمانع في أن الفاتنة عليها أن تستر وجهها عن الرجال على سبيل الاحتياط، كما ذهب إليه ابن خويزمنداد من أصحابنا، ومن وافقه على رأيه هذا. وقولي: على سبيل الإِحتياط؛ هو لأن الله أباح لها كشفه، وخاطب الرجال بأنهم إن صادفوا منظرًا استهواهم، فعليهم الغض من أبصارهم. كما خاطب النساء بأنهن إن أبصرن منظرًا يستهويهن، مما أبيح للرجال كشفه، فعليهن أن يغضضن من أبصارهن، وقد تقدم بعض البحث في عورة المرأة الحرة عند قول المختصر: ومع أجنبي، غير الوجه والكفين. ولعلي هنا أنقل قول جهابذة الحنابلة في وجوب كشف المحرمة وجهها. قال ابن مفلح في المبدع في شرح المقنع جـ 3/ ص 168 ما نصه: فصل والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره، لما روي عن ابن عمر مرفوعًا "لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ". رواه البخاري. وقال ابن عمر: إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه. رواه الدَّارقُطْنِي بإسناد جيد؛ يجب عليها تغطية رأسها كله، ولا يمكنها إلا بجزء من الوجه، ولا يمكنها كف جميع وجهها إلا بجزء من الرأس، والمحافظة على ستر الرأس أولى الأنه آكد لوجوب ستره مطلقًا، وألحق أبو الفرج به الكفين. وحكاه في المبهج رواية، فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها، جاز أن تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها، لفعل عائشة. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وشرط القاضي في الساتر أن لا يصيب بشرتها، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها، وإلا فدت؛ لاستدامة الستر. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وفي المغني لابن قدامة عند قول الخرقي: والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها، ما نصه: وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها، كما يحرا على الرجل تغطية رأسه، لا نعلم في هذا خلافًا، إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة، فلا يكون اختلافًا. قال ابن المنذر. وكراهِية البرقع ثابتة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن سعد، وابن عمر، وابن عباس وعائشة، ولا نعلم أحدًا خالف فيه. وقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ". فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها، على وجهها، روي ذلك عن عثمان، وعائشة، وبه قال عطاء، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافًا، وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أبو داود والأثرم. ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإِطلاق كالعورة. وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيًا عن وجهها، حيث لا يصيب البشرة، فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ثم عاد بسرعة، لا تبطل الصلاة، فإن لم ترفعه مع القدرة افتدت، لأنها استدامت الستر. انتهى منه محل الغرض بلفظه.
لطيفة: إن مما يدعو إلى السخرية بهؤلاء، تقريرهم أن وجه المرأة عورة إلا في الحج والصلاة، فهل من المعقول جواز كشف العورة في الصلاة - التي يشترط في صحتها ستر العورة؟ عذيري من هؤلاء!!.
لقد تعرض لي بعضهم في دائرة الطواف، ومعي أهلي محرمة، فقال: المرأة التي معك، مرها لتغطي وجهها. فأحسنت به الظن ودعوت له بخير وقلت له: إنها محرمة. فقال لي: وإن كانت. وهددني بإخراجها من دائرة الطواف إن هي تمادت على كشف وجهها حالة إحرامها، وكأنها تطوف ببيت أبيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هو حسبنا ونعم الوكيل.
والحاصل أن كون وجه الحرة غير عورة هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحاب هؤلاء، ومن اقتدى بهم، وهو الذي تقتضيه سماحة هذا الدين الحنيف، الذي جاء بالسماحة واليسر. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(1)
. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
. وبالله تعالى التوفيق. =
(1)
سورة البقرة: 185.
(2)
سورة الحج: 78.
وَسَتْرُ وَجْهٍ أَوْ رَأْسٍ، بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، كَطِينٍ (1). ولَا فِدْيَةَ فِي سَيْفٍ وَإِنْ بِلَا عُذْرٍ وَاحْتِزَامٍ وَاسْتِثْفَارٍ لِعَمَلٍ فَقَطْ. وَجَازَ خُفٌّ قُطِعَ أسْفَلَ مِنْ كَعْبٍ لِفَقْدِ نَعْلٍ (2)، أوْ غُلُوِّهِ فاحِشًا، واتِّقَاءُ شَمْسٍ أوْ رِيحٍ بِيَدٍ، أوْ مَطَر بِمُرْتَفِعٍ، وَتَقْلِيمُ
= فائدة: ذكر الحطاب أن المرأة تخالف الرجل في عشرة أشياء في الحج هي: تغطية الرأس، وحلقه، ولبس المخيط، ولبس الخفين، وعدم رفع الصوت بالتلبية، وعدم الرمل في الطواف والخبب في السعي بين الصفا والمروة، وفي الوقوف بعرفة والركوب، فالقيام أفضل للرجل والقعود أفضل للنساء، وفي البعد من البيت في الطواف، والقرب منه أفضل للرجال والبعد أفضل للنساء، وفىِ الإِرتقاء على الصفا والمروة. ا. هـ.
(1)
وقوله: وستر وجه ورأس، قال المواق: ابن شاس: إحرام الرجل في رأسه ووجهه؛ فيحرم عليه أن يستر رأسه بما يعد ساترًا من خرقة أو رداء. مالك: ولا يستر المحرم على رأسه ولا على وجهه من الشمس بعصا فيها ثوب فإن فعل افتدى. ا. هـ
قلت: أما وجوب عدم ستر رأس المحرم فلا خلاف فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "لَا يَلْبَسُ - المحرم - القُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ". الحديث، فهو دليل على أنه لا يجوز تغطية رأس المحرم، لا بمعتاد اللباس ولا بنادره. أما تغطية وجه الرجل المحرم فقد جرى الخلاف في ذلك؛ قال الشافعي: يجوز لحديث الموطإ؛ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه غطى وجهه وهو محرم. وقال الإِمام مالك: لا يجوز تغطية وجه المحرم، لما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم.
أما ما نسبه المواق للإِمام هنا من عدم جواز الإِستظلال للمحرم من الشمس، يرد عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي عن طريق عبده بن سليمان عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عامر قال: خرجت مع عمر، فكان يطرح النطع على الشجرة فيستظل به. يعني وهو محرم. ا. هـ.
وأيضًا فإن في حديث جابر الصحيح في صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزلها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له. . الحديث.
(2)
وقوله: وجاز خُفٌّ قطع أسفل من كعب لفقد نعل، هو لدليل الحديث المتفق عليه، عن =
ظُفُرٍ انْكَسَرَ (1) وَارْتِدَاءٌ بِقَمِيصٍ، وَفِي كُرْهِ السَّرَاويلِ رِوَايَتَانِ (2)، وَتَظَلُّلٌ بِبِنَاءٍ وَخِبَاءٍ وَمَحَارَةٍ (3). لَا فِيهَا، كَثَوْبٍ بِعَصَا، فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ خِلَافٌ، وَحَمْلٌ
= عبد الله بن عمر أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟. ومن بعض فقرات هذا الحديث قال: "وَلَا يَلْبَسُ الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبِسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ". الحديث.
(1)
وقوله: وتقليم ظُفر انكسر، هو لما أخرجه مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم، أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسرت وهو محرم، فقال سعيد: اقطعه. ا. هـ.
قال أصحابنا: محل جواز قطع هذا الظفر المنكسر هو إذا تدلى وصار يتأذى به، وذلك لما رواه ابن وهب: أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي مريم، قال: انكسرت ظفري وأنا محرم فتعلق فآذاني، قال: فذهبت إلى سعيد بن المسيب فسألته فقال: اقطعه. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ففعلت، اهـ. المنتقى للباجي.
(2)
وقوله: وفي كره السراويل روايتان، الذي في الموطإِ، قال يحيى: سئل مالك عما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّراوِيلَ".
فقال: لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويلات، فيما نهى عنه من لبس الثياب، التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين. ا. هـ.
قلت: قد تبين لك من خلال ألفاظ الإِمام في الموطإِ أنه لم تبلغه رواية ابن عباس المتفق عليها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ السَّراوِيلَ". وإذًا، فإن النهي الوارد عن السراويلات؛ في حديث ابن عمر، محله لواجد الإِزار، وإن الإِذن في لبس السراويل، الوارد في رواية ابن عباس، محله لمن لم يجد الإِزار، وعليه فلا إشكال في الموضوع. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: وتظلل ببناء وخباء ومحارة، هو منه لبيان الجائز، وذلك قول جابر عند مسلم: فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزلها حتى زاغت الشمس. الحديث. والمحارة، ذكر جواهر الإِكليل أن في القاموس: المحارة شبه الهودج. قال: والهودج مركب للنساء.
لِحَاجَةٍ أو فَقْرٍ (1) بِلَا تَجْرٍ، وَإبْدَالُ ثَوْبِهِ أوْ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ غَسْلِهِ إلا لِنَجَسٍ، فَبِالْمَاءِ فَقَطْ، وَبَطُّ جُرْحِهِ، وَحَكُّ مَا خَفِيَ بِرِفْقٍ (2)، وفَصْدٌ إن لَمْ يَعْصِبْهُ، وَشَدُّ مِنْطَقَةٍ لِنَفَقَتِهِ عَلَى جِلْدِهِ، وَإضَافَةُ نَفَقَةِ غَيْرِهِ، وإلَّا ففديةٌ؛ كَعَصْبِ جُرْحِهِ أوْ رَأْسِهِ، أوْ لَصْقِ خِرْقَةٍ - كَدِرْهَمٍ - أَوْ لَفِّهَا عَلَى ذَكَرٍ أوْ قُطْنَةٍ بِأُذُنَيْهِ، أوْ قِرطَاسٍ بِصُدْغَيْهِ، أوْ تَرْكِ ذِي نَفَقَةٍ ذَهَبَ، أو رَدِّهَا لَهُ، وَلِمَرْأَةٍ خَزٌّ وَحُلِيٌّ (3). وَكُرِهَ شَدُّ نَفَقَتِهِ بِعَضُدِهِ أو فَخِذِهِ، وَكَبُّ رَأْسٍ عَلَى وِسَادَةٍ، وَمَصْبُوغٌ لِمُقْتَدىً بِهِ (4)، وَشَمٌّ كَرَيْحَانٍ، ومُكْثٌ بِمَكَانٍ فِيهِ طِيبٌ، واسْتصْحَابُهُ، وَحِجَامَةٌ بِلَا عُذْرٍ، وغَمْسُ
(1)
وقوله: وحمل لحاجة أو فقر، هو أحد فروع القاعدة العامة العظيمة: الضرورات تبيح المحظورات. المأخوذة من قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(1)
. وهذه القاعدة مظهر عظيم من مظاهر يسر هذا الدين وسماحته.
(2)
وقوله: وبط جرحه - وفي بعض نسخ المختصر: وربط جرحه - قال في الموطإ: قال مالك: ولا بأس أن يبط المحرم خراجه، ويفقأ دمله، ويقطع عرقه، إذا احتاج إلى ذلك. قال الباجي: وهو مباح للضرورة كالحجامة، وقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. ا. هـ. منه.
وقوله: وحكّ ما خفي برفق، أخرج في الموطإ عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه أنها قالت: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم: أيحكّ جسده؟. فقالت: نعم. فليحككه. ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت. ا. هـ.
(3)
وقوله: ولامرأة خز وحلي، أخرج البيهقي: سئلت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟. قالت: تلبس من خزها وقزها وأصباغها وحليها. ا. هـ.
(4)
وقوله ومصبوغ لمقتدىً به، هو لما جاء في الموطإ عن نافع أنه سمع مولى عمر بن الخطاب يحدث عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا وهو محرم، فقال عمر: ما هذا الثوب يا طلحة؟. فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر. فقال عمر. إنكم أيها =
(1)
سورة الأنعام: 119.
رَأْسٍ أَوْ تَجْفِيفُهُ بِشِدَّةٍ، وَنَظَرٌ بِمِرْآةٍ (1)، ولُبْسُ مَرْأةٍ قَباءً مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِمَا دَهْنُ اللِّحْيَةِ والرَّأسِ وَإنْ صَلَعًا، وإبانَةُ ظُفُرٍ أوْ شَعَرٍ أوْ وَسَخٍ إلَّا غَسَلَ يَدَيْهِ بِمُزِيلِهِ، وَتَسَاقُطَ شَعَرٍ لِوُضُوءٍ أوْ رُكُوبٍ،
وَدَهْنُ الْجَسَدِ كَكَفٍّ وَرِجْلٍ بِمُطيِّبٍ، أوْ لِغْيرِ عِلَّةٍ، وَلَهَا، قَوْلَانِ اخْتُصِرَتْ عَلَيْهِمَا، وتَطَيُّبٌ بِكَوَرْسٍ وَإنْ ذَهَبَ رِيحُهُ، أوْ لِضَرُورَةِ كُحْلٍ وَلَوْ فِي طَعَامٍ، أوْ لَمْ يَعْلَقْ، إلَّا قَارُورَةً سُدَّتْ، ومَطْبُوخًا وبَاقيًا مِمَّا قَبْلَ إحْرَامِهِ، ومُصِيبًا مِنْ إلْقَاءِ ريحٍ أوْ غَيْرهِ، أوْ خَلُوقِ كَعْبةٍ، وَخُيِّرَ فِي نَزْعِ يَسِيِرهِ، وَإلَّا افْتدَى إنْ تَراخى.
= الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلًا جاهلًا رأى هذا الثوب فقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإِحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئًا من هذه الثياب المصبغة. ا. هـ.
قال الباجي: وهذا أصل في أن الإِمام المقتدى به يلزمه أن يكف عن بعض المباح المشابه للمحظور، ولا يفرق بينهما إلا أهل العلم، لئلا يقتدي به من لا يعرفه. ا. هـ. منه.
وقوله: وشم كريحان ومكث بمكان فيه طيب واستصحابه، هذه المكروهات بمحض الإِجتهاد للإِحتياط في الدين، ولا فدية فيها عند أصحابنا. والله أعلم.
(1)
وقوله: ونظر بمرآة، فقد ثبت في الموطإ عن مالك عن أيوب بن موسى أن عبد الله بن عمر نظر في المرآة، لشكو كان بعينيه وهو محرم؛ ا. هـ. ونقل الباجي في المنتقى. قال: وروى محمد عن مالك: ليس من شأن المحرم النظر في المرآة إلا من وجع. قال: ومعنى ذلك أن النظر في المرآة إنما يكون غالبًا لإِصلاح الوجه وتزيينه، وإزالة ما فيه من شعث. وذلك من ممنوعات الإِحرام، فإذا نظر فيه لوجع فلا بأس بذلك؛ لأنه قد قصد به ما هو مباح له. ا. هـ. منه.
وقوله: ولبس امرأة قباء مطلقًا، أي سواء كانت محرمة أو كانت حلالًا، وسواء كانت حرة أو أمة؛ لما في القباء من وصف أجسامهن، وإثارة الفتنة بذلك. وقد عمت به البلوى اليوم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومحل منع لبس القباء على المرأة، إذا لم يكن عليه شيء كالعباءة والملحفة، وإلا جاز كالسراويل، فلهن لبس السراويل - محرمات كن وغير محرمات - وفي =
كَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ نَائِمًا، ولَا تُخَلَّقُ الْكَعْبَةُ أيَّامَ الْحَجِّ، ويُقَامُ الْعَطَّارُونَ فِيهَا مِن المَسْعَى، وافْتَدَى الْمُلْقِي الْحِلُّ إنْ لَمْ تَلْزَمْهُ بِلَا صَوْمٍ، وإنْ لَمْ يَجِدْ فلْيفْتَدِ الْمُحْرِمُ، كأنْ حَلَقَ رَأسَهُ وَرَجَعَ بِالْأقَلِّ إنْ لَمْ يَفْتَدِ بِصَوْمٍ، وعَلَى المُحْرِمِ الْمُلقي فِدْيتَانِ على الأَرْجَحِ، وإنْ حَلَقَ حِلٌّ مُحْرِمًا بإذْنٍ، فَعَلَى المُحْرِمِ وَإلَّا فَعَلَيْهِ، وإنْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ حِلٍّ أطْعَمَ، وهَلْ حَفْنَةٌ أوْ فِدْيَةٌ؟. تأويلَانِ. وفِي
= الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ الْمُتَسَرْوِلَاتِ مِنْ أُمَّتِي". لكن بشرط أن يكون لبسهن لها من تحت العباءة أو الملحفة، وإلا كان أشد فتنة من القباء؛ لها يصف من أجسامهن.
قال الحطاب: ويجوز للمرأة لبسه - يعني القباء - في بيتها وبين يدي زوجها، وبين من يجوز لها أن تكشف بدنها عليه، إن كانت في أرض ذلك زي نسائها، وإلا فيكره للمرأة أن تشبه بالرجال في زيهم. ا. هـ. منه.
وقوله: وإلا فيكره أن تتشبه. ألخ. هذه الكراهة للتحريم قطعًا، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَعَنَ اللهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ مِنَ النِّساءِ".
قلت: وقد عمت البلوى اليوم في العالم الإِسلامي بتشبه نسائه بالأزياء الأفرنجية الوقحة؛ من لبس الضيق الواصف لمحاسنهن، والقاصر عن سترهن، والرقيق الشفاف الواصف للبشرة من تحته. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا شك أنه تتجلى في ذلك إحدى علامات نبوته صلى الله عليه وسلم من ظهور إخباره بالأمور الغيبية؛ حيث إنه قد صح عنه - بأبي هو وأمي - قوله صلى الله عليه وسلم:"لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ". قالوا: آليهود والنصارى؟. قال: "فمن .. ؟.". ولله در المرحوم خالنا وابن عمنا الشيخ محمد حبيب الله بن مايابا، لقد أجاد في كلامه على هذا الحديث المتفق عليه، في كتابه - فتح المنعم على زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم - فليراجعه من شاء في هذا المحل. وبالله تعالى التوفيق.
أما الطيب، فإنه يحرم على المحرم والمحرمة التطيب بالطيب المؤنث، والمراد به ما يظهر أثره وريحه معًا؛ كالورس، والزعفران، والمسك، والكافور، والعنبر، والعود. وتجب الفدية باستعمال ذلك. واستعمال المحرم الطيب الممنوع منه هو إلصاقه له باليد أو بالثوب. فإن علقت رائحة الطيب بالمحرم دون =
الظُّفُرِ الْوَاحِدِ لَا لإِمَاطَةِ الْأذَىَ حَفْنَةٌ كَشَعْرَةٍ أوْ شَعَرَاتٍ أوْ قَمْلَةٍ أوْ قَمْلَاتٍ وَطَرْحِهَا، كَحَلْقِ مُحْرِمٍ لِمِثْلِهِ مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ إلَّا أن يَتَحَقَّقَ نَفْيَ الْقَمْلِ، وتَقْرِيدِ
= عينه وذلك بجلوسه مثلًا في حانوت عطار، أو في بيت تجمر أهله، فلا فدية عليه، مع كراهة التمادي على ذلك. انظر الحطاب.
ومحل ما تقدم إن كان تطيب وهو محرم، فعليه الإِثم والفدية معًا، وهذا لا خلاف فيه، وإن تطيب عند إحرامه قبل أن يحرم، ثم أحرم وبقي به أثر الطيب، فهذا لا يجوز عند أصحابنا، خلافًا لأكثر الصحابة رضوان الله عليهم، وللشافعي، وأحمد، وإسحاق من أصحاب المذاهب، والدليل على ما ذهب إليه الإمام مالك هو ما رواه في الموطإ عن نافع، عن أسلم مولى عمر أن عمر وجد ريح طيب من معاوية وهو محرم، فقال له عمر: ارجع فاغسله. وقد استدل القائلون بجواز الطيب قبل الإِحرام بما يبقى أثره بعد الإِحرام بحديث عائشة المتفق عليه. قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث من إحرامه. فهو نص في الموضوع يجب الرجوع إليه في نظري. وما أجاب به أبو الوليد هنا عما ثبت من أن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف؛ بأنه يحتمل أن تكون طيبته بطيب لا تبقى رائحته، يرد عليه حديثها المتفق عليه: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث من إحرامه. فلم يبق لهذا الاحتمال أثر ولا عيثر، كما يرتفع احتماله الثاني الذي أجاب به؛ من أنه يحتمل أن يكون خاصًا به صلى الله عليه وسلم، بأن الخصوصية لا تثبت بالاحتمال، والأصل عدم الخصوصية، فلا بد من ثبوتها نصًا، علمًا بأن عمل كثير من الصحابة بذلك - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن ذلك حكم عام، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وعائشة، وروى الشافعي في المسند والأم: رئي ابن عباس محرمًا وعلى رأسه مثل الرُبِّ من الغالية. وسائغ جدًا أن يجاب عن أمر عمر بن الخطاب لمعاوية بغسل أثر الطيب، بأنه لم يبلغه حديث عائشة المتفق عليه. وقد اتفق البخاري ومسلم على إنكارها على ابن عمر قوله: ما أحب أن أصبح محرمًا أنضخ طيبًا؛ لأن أطلى بقطران أحب إليَّ من أن أفعل ذلك. فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا. وفي لفظ لهما: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبًا. ا. هـ. والله ولي التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بَعِيرِهِ (1)، لَا كَطَرْحِ عَلَقَةٍ أوْ بُرْغُوثٍ، والْفِدْيةُ فِيمَا يُتَرَفَّهُ بِهِ أوْ يزيلُ أذى، كَقَصِّ الشَّارِبِ أوْ ظُفُرٍ وَقَتْلِ قَمْلٍ كَثُرَ، وَخَضْبٍ بِكَحِنَّاءٍ وَإنْ رُقْعَةً إنْ كَبُرَتْ وَمُجَرَّدُ حَمَّامٍ عَلَى المُخْتَارِ، واتَّحَدَتْ إنْ ظَنَّ الإِبَاحَةَ، أوْ تعدَّدَ مُوجِبُهَا بِفَوْرٍ، أوْ نَوَى التَّكْرَارَ، أوْ قَدَّمَ الثَّوْبَ عَلَى السَّرَاوِيلِ، وَشَرْطُهَا فِي اللُّبْسِ انْتِفَاعٌ مِنْ حَرٍّ أو بَرْدٍ، لَا إنْ نَزَعَ مَكَانَهُ. وَفِي صَلَاةٍ قَوْلَانِ، وَلَمْ يأْثَمْ إنْ فَعَلَ لِعُذْرٍ، وَهِيَ نُسُكُ شَاةٍ فأعْلَى، أوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلٍّ مُدَّانِ كَالْكَفَارةِ، أوْ صِيامُ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ (2)، وَلَوْ
(1)
وقوله: وتقريد بعيره، الذي في الموطإ: حدثني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير أنه رأى عمر بن الخطاب يقرد بعيرًا له في طين بالسقيا وهو محرم. قال مالك: وأنا أكرهه.
قلت: لم يتبين وجه وجوب الإِطعام على من قرد بعيره من غير قتل القراد، طالما أن ذلك سنة عمرية، وقد علمت شدة عمر في الدين، وحرصه على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم:"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي". أو كما قال صلى الله عليه وسلم وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "اقَتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسع عمر.
(2)
وقوله: وهي نسك شاة فأعلى أو إطْعَامُ سِتَّةِ مساكين لكل مدّان كالكفارة، أو صيام ثلاثة أيام، أصل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
(1)
. أي فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه فحلق، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك. قال ابن جزي: نزلت في كعب بن عجرة، حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"لَعَلَّكَ يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ". قال ابن جزي: وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء، التي يمنع الحاج منها إلا الصيد والوطء. وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة البقرة: 196.
أيَّامَ مِنىً، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِزمَانٍ أوْ مَكَانٍ إلَّا أنْ يَنْويَ بِالذِّبْحِ الْهَدْيَ فَكَحُكْمِهِ، ولَا يُجْزِئُ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ إنْ لَمْ يَبْلُغْ مُدَّيْن. وَالجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ (1)، وأفْسَدَ مُطْلَقًا
= وقوله: نسك شاة، أي ذَبْحُ شاة. يقال: نسك ينسُك نَسْكًا، أي ذَبَح.
وقوله: لكل مدان هو لحديث كعب بن عجرة المتفق عليه، فإن في بعض ألفاظه: مما أخرجه مسلم، مما رواه أبو قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب:"فَاحْلِقْ رَأْسَكَ وَأَطْعِمْ فَرَقًا بِيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ". والفرق ستة آصع. الحديث. وفي رواية له أخرى عن عبد الله بن مغفل قال: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ".
قال البغوي في هذا الحديث: إنه إن اختار الإِطعام؛ يطعم كل مسكين نصف صاع، سواء أطعم حنطة أو شعيرًا، أو تمرًا، أو زبيبًا، خلافًا للثوري وأصحاب الرأي قالوا: إذا تصدق بالبر أطعم كل مسكين نصف صاع، وإذا تصدق بتمر أو زبيب ونحو ذلك أطعم كل واحد صاعًا. ا. هـ. منه بتصرف.
وقال البغوي أيضًا. وفي الحديث دليل على أن فدية الأذى مخيرة؛ يخير الرجل فيها بين الهدي الإِطعام والصيام، على ما نطق به القرآن. ا. هـ. منه.
هذا، ولا نص في كتاب الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فدية شيء من محرمات الإِحرام غير ما تقدم لك في قول ابن جزي: وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج من فعلها إلا الصيد الوطء، غير أني أنقل هنا ما أفتى به مالك في الموطإ، تحت عنوان: جامع الفدية، قال مالك فيمن أراد أن يلبس شيئًا من الثياب التي لا ينبغي له أن يلبسها وهو محرم، أو يقصر شعرًا ويمس طيبًا من غير ضرورة، يسارة مئونة الفدية عليه، قال: لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك، وإنما أرْخِصُ فيه للضرورة على أن فعل لك عليه الفدية. وسئل مالك عن الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك، أصاحبه بالخيار؟. وما النسك؟. وكم الطعام؟. وبأي مُدٍّ هو؟. وكم الصيام؟. وهل يؤخر شيئًا من ذلك، أم يفعله في فوره لك؟. قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا، فصاحبه مخير في ذلك أيُّ شيء حبَّ أن يَفْعَلَ ذلك فَعَلَ. قال: وأمَّا النُّسك فشاةٌ وأما الصيام فثلاثة أيام، وأما الطعام فيطعم ستة مساكين كل مسكين مدَّان بالمدِّ الأول؛ مدِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
وقوله: والجماع ومقدماته وأفسد مطلقًا، يعني ومن محظورات الإِحرام، ويترتب عليه الفساد والقضاء والهدي. ومن محظوراته أيضًا مقدمات الجماع؛ وهي الاستمتاع بما دون الفرج =
كاسْتِدْعَاءِ مَنِيٍّ وَإنْ بِنَظَرٍ، وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ مُطْلَقًا أوْ بَعْدَه، إن وَقَعَ قَبْلَ إفَاضةٍ وَعَقَبَةٍ، يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ وَإِلَّا فَهَدْيٌ؛ كَإِنْزالِهِ ابْتِداءً، وَإِمْذَائِهِ وَقُبْلَتِهِ وَوُقوعِهِ بَعْدَ سَعْي في عُمْرَتِهِ وإلَّا فَسَدَتْ. وَوَجَبَ إتْمَامُ الْمُفْسَدِ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَيْهِ وَإنْ أحْرَمَ وَلَمْ يَقَعْ قَضَاؤُهُ إلَّا فِي ثَالِثَةٍ، وَفَوْريَّةُ الْقَضَاءِ وَإنْ تَطوُّعًا، وقَضَاءُ القَضَاءِ، وَنَحْرُ هَدْيٍ فِي القَضَاءِ واتَّحَدَ وإنْ تَكَرَّرَ لِنِسَاءٍ بِخِلَافِ صَيْدٍ وَفِدْيَةٍ، وأجْزأ إنْ عَجَّلَ، وَثَلَاثَةٌ إِنْ أفْسَدَ قَارنًا ثُمَّ فَاتَهُ وقَضَى، وَعُمْرَةٌ إنْ وَقَعَ قَبْلَ رَكْعَتَي الطَّوَافِ، وَإحْجَاجُ مُكْرَهَةٍ وإنْ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهَا إنْ أعْدَمَ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ كالمتَقَدِّمِ، وَفَارَقَ مَنْ أفْسَدَ مَعَهُ مِنْ إحْرامِهِ لِتَحَلُّلِهِ. ولَا يُراعَى زَمَنُ إحْرامِهِ بِخلَافِ مِيقَاتٍ إنْ شُرِعَ، وإنْ تَعَدَّاهُ فَدَمٌ. وَأجْزَأ تَمَتُّعٌ عَنْ إفْرادٍ وَعَكْسُهُ، لَا قِرانٌ عَنْ إفْرادٍ أوْ تَمَتُّعٍ وعَكْسُهُمَا، وَلَمْ يَنُبْ قَضَاءُ تَطَوُّعٍ عَنْ وَاجِبٍ، وَكُرِهَ حَمْلُهَا لِلْمَحْمِلِ، ولِذلِكَ اتُّخِذَتِ السَّلَالِمُ، ورُؤْيَة ذِراعَيْهَا لَا شَعَرِهَا وَالْفَتْوىَ فِي أمُورِهِنَّ.
= وهو مكروه، وإن نتج عنه إنزال أفسد الحج. أما ما ورد في ذلك فإليك منه ما في الموطإ: عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعليَّ بن أبي طالب وأبا هريرة، سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا: ينفذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما، ثم عليهما حج قابل والهدي. قال: قال علي بن أبي طالب: وإذا أهلَّا بالحج من عام قابل، تفرَّقا حتى يقضيا حجهما. ا. هـ. ثم ذكر مثل هذه الفتيا عن سعيد بن المسيب، ثم قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج، ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ويرمي الجمرة: إنه يجب الهدي وحج قابل. قال: فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة فإنما عليه أن يعتمر ويهدي، وليس عليه حجٌّ قابل. قال مالك: والذي يفسد الحج أو العمرة حتى يجب عليه في ذلك هدي في الحج أو العمرة، التقاء الختانين وإن لم يكن ماء دافق. قال: ويوجب ذلك الماء الدافق إذا كان من مباشرة. أما رجل ذكر شيئًا حتى خرج منه ماء =
وَحَرُمَ بِهِ وِبِالْحَرَمَ (1) - مِنْ نَحْو الْمَدِينَةِ أرْبَعَةُ أمْيالٍ أوْ خَمْسَةٌ لِلتَّنْعِيمِ، وَمِنَ الْعِراقِ ثَمَانِيةٌ لِلْمَقْطَعِ، وَمِنْ عَرَفَةَ تِسْعَةٌ، وَمِنْ جُدَّةَ عَشَرَةٌ لآخِر الْحُدَيْبِيَةِ.
= دافق فلا أرى عليه شيئًا. ولو أنَّ رجلا قبَّل امرأته ولم يكن من ذلك ماء دافق، لم يكن عليه في القبلة إلا الهدي، وليس على المرأة التي يصيبها زوجها وهي محرمة مرارًا في الحج أو العمرة، وهي له في ذلك مطاوعة إلَّا الهدي وحجٌّ قابلٌ إن أصابها في الحج، وإن كان أصابها في العمرة فإنما عليها قضاء العمرة التي أفسدت الهدي. ا. هـ.
والبغوي أخرج بسنده عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أنه كان في حلقة مع ابن عباس، فجاء رجل، فذكر أنه وقع على امرأته وهو محرم، فقال له: لقد أتيت عظيمًا. قال: والرجل يبكي. فقال: إن كانت توبتي أن آمر بنار فأججها، ثم ألْقِي نفسي فيها فعلت. فقال: إن توبتك أيسر من ذلك، اقضيا نُسُكَكُمَا، ثم ارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل، فاخرجا حاجين، فإذا أحرمتما فتفرقا، فلا تلتقيا حتى تقضيا نسككما، واهديا هديًا. ا. هـ. قال شعيب: أخرجه البيهقي في سننه ورجاله ثقات، وإسناده صحيح. ا. هـ.
(1)
وقوله: وحرم به وبالحرم، فاعله قوله بعد: تعرض بري، وهذا أوان التعرض لحرمة صيد الحرم وحرمة صيد المحرم. قال المواق: والسابع من محظورات الحج والعمرة إتلاف الصيد، قال: والصيد يحرم بسببين؛ بالإحرام وبالحرم. ثم لما كان الحرم محرمًا للصيد ولو على الحلال، شرع المصنف يبين لك حدود الحرم الذي يمنع التعرض فيه للصيد البري. فقال: من نحو المدينة أربعة أميال وخمسة للتنعيم، ومن العراق ثمانية للمقطع، ومن عرفة تسعة ومن جدة عشرة لآخر الحديبية.
قال الحطاب: سمَّاه التادلي منقطع الأعشاش، يعني الحديبية. قال: وزاد المصنف في مناسكه حدين آخرين، أحدهما مما يلي اليمن سبعة أميال إلى موضع يقال له: أضاة - بفتح الهمزة والضاد المعجمة، على وزن قناة - وقال التادلي: أضاة لِبْنِ - بكسر اللام وسكون الباء - في ثنية لِبْنٍ، والحد الثاني من طريق الجعرانة تسعة أميال، وسماه التادلي شعب أبي عبد الله بن خالد. ا. هـ. منه.
قلت: وفي أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار لأبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي ما يلي: =
وَيقِفُ سَيْلُ الحل دُونَهُ - تَعَرُّضُ بَرِّيٍّ وَإنْ تَأنَّسَ أوْ لَمْ يُؤْكَلْ، أوْ طَيْرِ مَاءٍ وَبَيْضِهِ وَجُزْئِهِ، ولْيُرْسِلْهُ، بيدِه، أوْ رُفْقَتِهِ، وزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ لا بِبَيْتِهِ وَهَلْ وإنْ أحْرَمَ مِنْهُ؟. تأويلَانِ؛ فَلَا يَسْتَجِدُ مِلْكَهُ وَلَا يَسْتَودِعُهُ، وَرَدَّهُ إِنْ وَجَدَ مُودِعَهُ، وَإِلَّا بُقِّي. وَفِي صِحَّةِ شِرائهِ قَوْلَانِ، إلَّا الْفَأرَةَ، والحيَّةَ، والْعَقْرَبَ، مُطْلَقًا وغُرابًا، وحِدْأةً، وفي صَغيرهِما خِلَافٌ، كَعَادِيِّ سَبُعٍ؛ كَذِئْبٍ إنْ كَبُرَ، كَطيْرٍ خِيفَ إلَّا بِقَتْلِهِ، وَوَزَغًا لِحِلٍّ بِحَرَمٍ؛ كَإنْ عَمَّ الْجَرادُ، واجْتَهَدَ. وإلَّا فَقيمَتُهُ وَفِي الواحدة حَفْنَةٌ.
= ذكر حدود الحرم الشريف: من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت غفار على ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن، طرف أضاة لِبْنٍ في ثنية لِبْنٍ، على سبعة أميال، ومن طريق جدة، منقطع الأعشاش على عشرة أميال، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة، على أحد عشر ميلًا، ومن طريق العراق، على ثنية خل بالمقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد، على تسعة أميال. ا. هـ. منه. جـ 2/ ص 130/ 131.
قال المصنف: ويقف سيل الحل دونه. قال الحطاب: كذا نقل في النوادر عن ابن القاسم وكذا ذكر الأزرقي في تاريخه مكة - إلى أن قال: ورأيت في تاريخ الشيخ سراج الدين عمر بن فهر من أهل المائة التاسعة، في ترجمة الشيخ شمس الدين محمد بن عزم، ومما أنشدنيه من نظمه:
إن رمت للحرم المكي معرفة
…
فاسمع وكن واعيًا قولي وما أصفُ
واعلم بأن سيول الحل قاطبة
…
إذا جرت نحوه فدونه تقف
ا. هـ. منه.
قال المصنف رحمه الله: وحرم به - أي بالإِحرام - وبالحرم - أي وحرم بدخول حدود الحرم - على الحلال غير المحرم، تعرض صيد بري، يحترز به من صيد البحر فهو حلال للحلال والحرام، وأصل ذلك قوله تعالى في المائدة:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}
(1)
. قال ابن جزي الكلبي: الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر =
(1)
سورة المائدة: 96.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم، فلا يحل له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاده غيره. ا. هـ. منه.
ولنضرب الذكر صفحًا عن تتبع ألفاظ المختصر المنبثقة عن الإِجتهاد البحت، والتي لم نلتزم بحلها، غير أني سوف أبذل ما في وسعي من الكلام على صيد المحرم، من حيث بيان ما يجتنب من الصيد، وجواز أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد من أجله ولم يأمر به، وما يجوز للمحرم قتله من الوحش، ثم على جزاء الصيد بالنسبة للمحرم والحلال، فأقول وبالله توفيقي:
إنه يجب على المحرم أن يتجنب الصيد؛ قتله وأكله بتاتًا. أما وجوب تجنب قتله عليه فلدليل قوله تعالى في المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
(1)
الآية. وقوله: حُرُمٌ، جمع حرام. يقال رجل مُحْرمٌ، وحَرَامٌ، وحِرْمٌ، ومُحِلٌّ، وحَلَالٌ، وحِلٌّ. وأما وجوب تجنب أكله فهو لحديث الصعب بن حثامة رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا وهو بالأبواء أو بودَّان، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه قال: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ" متفق عليه.
وقال مالك في الموطإ، بعد أن ساق حديث الصعب بن حثامة المتقدم: عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفَّان بالعرج وهو محرم، في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أو لا تأكل أنت؟. فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي. ا. هـ
وفي الموطإ أيضًا: وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى أكل الميتة وهو محرم، أيصيد الصيد فيأكله أم يأكل الميتة؟. فقال: بل يأكل الميتة؛ وذلك بأن الله تعالى لم يرخص للمحرم في أكل الصيد ولا في أخذه في حال من الأحوال، وقد أرخص في الميتة في حال الضرورة. قال مالك: وأما ما قتل المحرم أو ذبح من الصيد، فلا يحل أكله لحلال ولا لمحرم لأنه ليس بذكيٍّ - كان خطأ أو عمدًا - فأكله لا يحل، وقد سمعت ذلك من غير واحد. =
(1)
سورة المائدة: 95.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، فهو ما لم يصد من أجله ولم يأمر به. دليل ذلك حديث أبي قتادة بن ربعي الأنصاري أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة، تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حمارًا وحشيًا، فاستوى على فرسه، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه وشدَّ على الحمار فقتله. فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبى بعضهم. فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك، فقال:"إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ". ا. هـ. وهو بهذا اللفظ للبغوي. وفي بعض روايات هذا الحديث عن عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه قال: فبصر أصحابي بحمار وحشي، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته، قال عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ"؟. قلنا: معنا رجله. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها. ا. هـ. أخرج هذه الرواية مسلم. وفي البخاري بلفظ: فخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك، فقال:"مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ"؟. فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفدها وهو محرم. ا. هـ. شعيب على شرح السنة.
وفي الموطإ: أخرج مالك، حديث أبي قتادة بن ربعي هذا بروايتيه، أعني قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ"؟. وأخرج عن هشام بن عروة عن أبيه، أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم. قال مالك: والصفيف القديد.
وأخرج مالك بسنده عن البهزيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ". فجاء البهزيُّ - وهو صاحبه - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزه. ا. هـ.
وسئل مالك عما يوجد من لحوم الصيد على الطريق هل يبتاعه المحرم؟. فقال: أما ما كان =
وَإِنْ فِي نَوْمٍ كَدُودٍ، وَالْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ وَإنْ لِمَخْمَصَةٍ وَجَهْلٍ وَنِسْيَانٍ، وتَكَرَّرَ كَسَهْمٍ مَرَّ بِالْحَرَمِ، وَكَلْبٍ تَعَيَّنَ طَريقُهُ، أوْ قَصَّرَ فِي رَبْطِهِ، أوْ أرْسَلَ بِقُرْبِهِ فَقَتَلَ خَارِجَهُ، وَطَرْدِهِ مِنْ حَرَمٍ، وَرَمْيٍ مِنْهُ أوْ لَهُ، وتَعْريضِهِ لِلتَّلَفِ، وجَرْحِهِ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ سَلَامَتُه وَلَوْ بِنَقْصٍ، وكَرَّرَ إنْ أخْرَجَ لِشَكٍّ ثُمَّ تُحُقِّقَ مَوْتُهُ كَكُلٍّ مِنْ المشْتَرِكِينَ، وبإِرْسَالٍ لِسَبُعٍ أوْ نَصْبِ شَرَكٍ له، وبِقَتْلِ غُلَامٍ أُمِرَ بِإِفْلَاتِهِ فَظَنَّ الْقَتْلَ، وهَلْ إِنْ تَسَبَّبَ السَّيِّدُ فِيهِ أوْ لَا؟. تأْويلان، وَبِسَبَبٍ وَلَو اتّفَقَ كَفَزعِهِ
= من ذلك يعترض به الحاجُّ ومن أجلهم صيد، فإني أكرهه وأنهي عنه، فأما أن يكون عند رجل لم يرد به المحرمين، فوجده محرم فلا بأس به. ا. هـ. منه.
وأما ما يجوز للمحرم قتله من الوحش
ففي الموطإ ما نصه: مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، والْحِدَأَةُ، والْعَقْرَبُ، والْفَأْرَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ". ورواه بهذا اللفظ أيضًا عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ والْغُرَابُ، والْحِدَأَةُ والْكَلْبُ الْعَقُورُ".
وعن مالك عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب أمر بقتل الحَيَّات في الحرم. وقال مالك في الكلب العقور، الذي أمر بقتله في الحرم: إِنَّ كُلَّ ما عقر الناس وعَدَا عليهم وأخافهم؛ مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو الكلب العقور. وأما ما كان من السباع لا يعدو مثلُ الضَّبُعَ والثعلب والهر وما أشبههن من السباع، فلا يقتلهن المحرم، فإن قتله فداه. وأما ما ضر من الطير فإن المحرم لا يقتله، إلا ما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم: الغرابُ والحِدَأةُ، وإن قتل المحرم شيئًا من الطير سواهما فداه. ا. هـ. منه.
وفي مصنف ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن إبراهيم بن نافع قال: سمعت الحسن بن مسلم يقول: سئل طاوس عن الجعل والوزغ يقتله المحرم، قال: لا بأس به. =
فَمَاتَ، والأظهر والأصَحُّ خِلَافُهُ؛ كَفُسْطَاطِهِ وَبِئْرٍ لماء، وَدِلَالَةِ مُحْرِمٍ أوْ حِلٍّ وَرَمْيِه عَلَى فَرْعٍ أصْلُهُ بِالْحَرَمِ أوْ بِحِلٍّ، وَتَحَامَل فَمَاتَ بِه، إِنْ أنْفَذَ مَقْتَلَهُ، وكذا إنْ لَمْ يُنْفِذْ عَلَى الْمُخْتَارِ، أوْ أمْسَكَهُ لِيُرْسِلَهُ فَقَتَلَهُ مُحْرِمٌ. وَإِلَّا فَعَلَيْهِ وَغَرِمَ الْحِلُّ لَهُ الأَقَلَّ. وَللْقَتْلِ شَرِيكَانِ. وَمَا صَادَهُ مُحْرِمٌ أوْ صِيدَ لَهُ مَيْتَةٌ كَبَيْضِهِ وَفِيهِ الْجَزاءُ إنْ عَلِمَ وأكَلَ لَا فِي أكْلِهَا. وَجَازَ مَصِيدُ حِلٍّ لِحِلٍّ وإنْ سَيُحْرِمُ، وَذَبْحُهُ بِحَرَمٍ مَا صِيدَ بِحِلٍّ، ولَيْسَ الإِوَزُّ والدَّجَاجُ بِصَيْدٍ بِخِلَافِ الْحَمامِ.
= وحدثنا وكيع عن إبراهيم قال: سألت عطاء عن الوزغ يقتل في الحرم قال: إذا آذاك فلا بأس به.
وحدثنا أبو بكر قال: نا حفص عن ليث عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اقتل الوزغ في الحل والحرم. ا. هـ. بلفظه.
وأمَّا جزاء الصيد
فقد جاء في ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}
(1)
.
قال مالك في الموطإ: والذي عليه الأمر عندنا أن من أصاب الصيد، وهو محرم، حكم عليه بالجزاء. قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه؛ أن يقوّم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام؟. فيطعم كل مسكين مدًّا، أو يصوم مكان كل مد يومًا، وينظر كمْ عِدَّةُ المساكين؟. فإن كانوا عشرة صام عشرة أيَّام، وإن كانوا عشرين مسكينًا، صام عشرين يومًا. عددهم ما كانوا، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينًا. قال مالك: سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال، بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة المائدة 95.
وَحَرُمَ بِهِ قَطْعُ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ والسَّنَا كَمَا يُسْتَنْبَتُ وَإنْ لَمْ يُعَالَجْ، وَلَا جَزَاءَ كَصَيْدِ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْحِرَارِ وشَجَرِهَا بَريدًا فِي بَرِيدٍ. وَالجَزَاءُ بِحُكْمِ عَدْلَيْنِ فَقيهَيْنِ بِذلِكَ، مِثْلُهُ مِنَ النِّعَمِ أوْ إطْعَامٌ بِقِيمَة الصَيْدِ يَوْمَ التَّلَفِ، بِمَحَلِّهِ وَإلَّا فَبِقُرْبِهِ، وَلَا يُجْزئُ بِغَيْرِهِ، ولَا زَائِدٌ عَلى مُدٍّ لِمِسْكِينٍ إلَّا أنْ يُسَاوِيَ سِعْرَهُ فَتَأْوِيلَانِ. أوْ لِكُلِّ مُدٍّ صَوْمُ يَوْمٍ، وَكَمَّلَ لِكَسْرِهِ، فَالنَّعَامَةُ بَدَنَةٌ، والْفِيلُ بِذَاتِ سَنَامَيْنِ، وَحِمَارُ الْوَحْشِ وَبَقَرُه، بَقَرَةٌ، والضَّبُعُ والثَّعْلَبُ شَاةٌ.
= وقد ورد في بعض الصيد تقدير اللازم فيه عن بعض الصحابة - ومنهم من يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما روي عن ابن أبي عمار. قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هو؟. فقال: نعم. فقلت: أيؤكل؟. فقال: نعم. فقلت سَمِعْتَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال: نعم. ا. هـ. هذا الحديث رواه الشافعي، وأخرجه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. والبغوي، وهذا اللفظ له.
وفي البغوي أيضًا بسنده عن مالك عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعَناق، وفي اليربوع بجفرة. قال شعيب في تعليقه: أخرجه الموطأ في الحج، وعبد الرزاق، وفيه عنعنة أبي الزبير، ومع ذلك فقد صححه الحافظ في التلخيص. وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: في بقرة الوحش بقرة، وفي الشاة من الظباء شاة. قال شعيب: هو في الموطإ، وإسناده صحيح.
قال البغوي: قال مالك؛ ولم أزل أسمع أن في النعامة - إذا قتلها المحرم - بدنة. وهذا كله دليل على أن المثل المجهول في الصيد، إنما هو من طريق الخلقة لا من طريق القيمة. فإن هذه الأعيان من الغنم جزاء لما أصابه من هذه الصيود سواء وفت بقيمتها أو لم تف بها، ولو كان الأمر موكولًا إلى الاجتهاد لأشبه أن لا يكون بدله مقدرًا. ا. هـ. منه.
وقول المصنف: والجزاء بحكم عدلين فقيهين، وهو لقوله تعالى في المائدة:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(1)
. الآية. =
(1)
سورة المائدة: 95.
كَحَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِمَا بِلَا حُكْمٍ، وَلِلْحِلِّ. وَضَبٍّ وأرْنَبٍ ويَرْبُوعٍ وَجَمِيعِ الطَّيْرِ، الْقيمَةُ، طَعَامًا. والصَّغيرُ والْمَرِيضُ والْجَمِيلُ كَغَيْرِهِ، وَقُوِّمَ لِرَبِّهِ بِذلِكَ مَعَهَا، وَاجْتَهَدَا وَإنْ رُوِيَ فِيهِ فِيهِ، وَلَهُ أنْ يَنْتَقِلَ إلَّا أن يَلْتَزِمَ فتأوِيلَانِ، وَإن اخْتَلَفَا ابْتُدِئَ، والأوْلَى كَوْنُهُمَا بِمَجْلِسٍ، وَنُقِضَ إنْ تَبيَّنَ الْخَطَأُ. وَفِي
= قال الحطاب في هذا المحل من شرحه لخليل ما نصه: يعني أنه يشترط في الجزاء حكم حكمين، وتشترط فيهما العدالة، ويشترط فيهما الفقه بأحكام الصيد. قال ابن جزي الكلبي في تفسيره لقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(1)
. قال: مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي. وبذلك قال أهل الظاهر. وقال جمهور الفقهاء: المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء. قالوا: الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن، والجزاء على الناسي ثبت بالسنة. قال ومعنى الآية عند مالك والشافعي: إن من قتل صيدًا وهو محرم، أن عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر؛ ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الغزالة شاة. فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام.
قال: وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه، فعليه إعادته بالحكم، إلَّا حمام مكة فإنه لا يحتاج إلى حكمين. قاله مالك.
قلت: لما روي عن ابن عباس أن غلامًا من قريش قتل حمامة من حمام مكة، فأمر أن يفدي عنه بشاة. قال شعيب: أخرجه الشافعي، وإسناده صحيح. وأخرج عبد الرزاق أن عمر وابن عباس حكما في حمام بشاة. وروي مثل ذلك عن عثمان. ا. هـ.
قال ابن جزي: ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا فيه لعموم الآية. وقال الشافعي: يكتفى في ذلك بما حكمت به الصحابة. ا. هـ. منه.
(1)
سورة المائدة: 95.
الجَنِينِ والْبَيْضِ عُشُرُ دِيَة الأمِّ وَلَوْ تَحَرَّكَ، وَدِيَتُهَا إن اسْتَهَلَّ. وَغَيْرُ الْفِدْيَةِ والصَّيْدِ مُرَتَّبٌ (1)، هَدْيٌ، ونُدِبَ إِبِلٌ فَبَقَرٌ، ثم صِيامُ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِنْ إحْرَامِهِ؛ وَصَامَ أيَّامَ مِنىً بِنَقْصٍ بِحَجٍّ، إنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوُقُوفِ، وسَبْعَةً إذَا رَجَعَ مِنْ مِنىً. وَلَمْ تُجْزِ إنْ قُدِّمَتْ عَلى وُقُوفِهِ، كَصَوْمٍ أيْسَرَ قَبْلَهُ، أوْ وَجَدَ مُسَلِّفًا لِمَالٍ بِبَلَدِهِ، وَنُدِبَ الرُّجُوعُ لَهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَوُقُوفُه بِهِ الْمَوَاقِفَ، وَالنَّحْرُ بِمِنىً إنْ كانَ فِي حَجٍ، وَوَقَفَ بِهِ هُوَ أوْ نائِبُهُ كَهُوَ بأيَّامِهَا وَإلَّا فَمَكَّةُ، وَأجْزَأَ إِنْ أُخْرِجَ لِحِلٍّ، كَإِنْ وَقَفَ بِهِ فَضَلَّ مُقَلَّدًا ونُحِرَ، وَفي الْعُمْرَةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ سَعْيِهَا ثُمَّ حَلَقَ، وَإِنْ أرْدَف لِخَوْفِ فَوَاتٍ أوْ لِحَيْضٍ أجْزَأ التَّطَوُّعُ لِقِرانِهِ؛ كأن سَاقَهُ فيهَا ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ وتُؤُوِّلَتْ أيْضًا بِمَا إذَا سِيقَ لِلتَّمَتُّعِ، والْمَنْدُوبُ بِمَكَّةَ الْمَرْوَةُ، وكُرِهَ نَحْرُ غَيْرِه، كالْأضْحِيَةِ.
(1)
وقوله: وغير الفدية والصيد مرتب، يريد به - والله أعلم - أن غير جزاء الصيد وما يلزم من الفدية، وذلك هو ما يلزم من نية القران أو التمتع، أو من ترك واجب في حج أو عمرة، مرتب مرتبتين لا ثالث لهما، لا ينتقل عن المرتبة الأولى منهما إلا بعد عجزه عنها؛ وهما لزوم الدم أولًا، ثم صيام عشرة أيام.
وقوله: هدي وندب إبل، يريد به - والله أعلم - أن غير الفدية والصيد يقال له: الهَدْيُ، وإنه يندب أن يكون إبلًا، لمن قدر على ذلك، بمعنى أن الأفضل أن يكون الهدي إبلًا فيلي ذلك البقر، فالضأن، فالمعز.
قال البغوي: قال علي وابن عباس في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
(1)
هي بدنة أو بقرة. قال: والهَدْيُ والْهَدِيُّ ما يهدى إلى بيت الله عز وجل من بدنة أو غيرها. الواحد هَدْيَةٌ وهَدِيَّةٌ؛ أهل الحجاز يخففون الهدي، وتميم يثقلون الياء. وفي الحديث المتفق عليه عن علي =
(1)
سورة البقرة: 196.
وَإنْ مَاتَ مُتَمتِّعٌ فالْهَدْيُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إنْ رَمَى الْعَقَبَةَ، وسِنُّ الْجَمِيع وعَيْبُهُ كالضَّحِيَّةِ، والمُعْتَبَرُ حِينَ وُجُوبِه وتَقْلِيدِهِ، فَلَا يُجْزئ مُقَلَّدٌ بِعَيْبٍ ولَوْ سَلِمَ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ إنْ تَطَوَّعَ، وَأرْشُهُ وَثَمَنُهُ فِي هَدْيٍ إن بَلَغَ، وَإِلَّا تُصُدِّقَ بِهِ. وفي
= رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة؛ فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها. ا. هـ.
قال البغوي: وهذا الحديث دليل على أن ما ذبح قربة لله تعالى لا يجوز بيع شيء منه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يجوّز أن يعطى الجزار شيئًا من لحم هديه في مقابلة عمله، وكذلك ما ذبح لله تعالى من أضحاة وعقيقة ونحو ذلك، ولا مانع من أن يعطى الجزار شيئًا من لحومها يتصدق به عليه، أما لأجل عمله فلا.
وقال مالك: يجوز أن يأكل المتمتع من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى، وجزاء الصيد، والمنذور. وقال الشافعي: يأكل من هدي التطوع فقط، ومن تطوع الأضحية، أما ما كان واجبًا بالشرع من الهدي؛ مثل دم التمتع، والقران، والواجب بإفساد الحج، وفواته، وجزاء الصيد، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئًا. وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، بل يتصدق بجميع ذلك.
وقد ورد في أكل لحوم الهدي قوله تعالى في سورة الحج: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا}
(1)
. الآية.
ومن حديث جابر عند مسلم والبخاري: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"كُلُوا وَتَزَوَّدُوا". فأكلنا وتزودنا. وورد في الهدي إذا عطب، ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه، أن صاحب هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع بما عطب من الهدي؟. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْحَرْهَا ثُمَّ أَلْقِ قِلَادَتَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُونَهَا". وروى عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي، قال: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع بما عطب من البدن؟. قال:"انْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُونَهَا". =
(1)
سورة الحج: 36.
الْفَرْضِ يَسْتَعِينُ بِهِ في غَيْرٍ. وسُنَّ إشْعَارُ سُنُمِهَا مِنَ الأَيْسَرِ لِلْرَّقَبَةِ مُسَمِّيًا، وتَقْلِيدٌ. وَنُدِبَ نَعْلَانِ بِنَبَاتِ الأَرْضِ، وتَجْلِيلُهَا وَشَقُّهَا إنْ لَمْ تَرْتَفِعْ. وقُلِّدَتِ الْبَقَرُ فَقَطْ إلَّا بأسْنِمَةٍ، لَا الْغَنَمُ، ولَمْ يُؤْكَلْ مِنْ نَذْرِ مَسَاكِينَ عُيِّنَ مُطْلَقًا، عَكْسُ الْجَمِيعِ، فَلَهُ إِطْعَامُ الْغَنِيِّ والْقَرِيبِ، وَكُرِهَ لِذِمِّيٍّ إِلَّا نَذْرًا لَمْ يُعَيَّنْ، والْفِدْيَةَ والجزاءَ بَعْدَ الْحِلِّ وَهَدْيَ تَطَوُّعٍ إِنْ عَطِبَ قَبْل مَحَلِّهِ، فَتُلْقَى قِلَادَتُهُ بِدَمِهِ ويُخَلَّى لِلنَّاسِ، كرَسُولِهِ، وَضَمِنَ فِي غَيْرِ الرَّسُولِ بِأَمْرِهِ بِأَخْذِ شَيْءٍ؛ كَأَكْلِهِ مِنْ مَمْنُوعٍ، بَدَلَهُ، وَهَلْ إلَّا نَذْرَ مَسَاكِينَ عُيِّنَ فَقَدْرُ أَكْلِهِ؟. خِلَافٌ، والخطَامُ والْجِلَالُ كاللَّحْمِ، وَإِنْ سُرِقَ بَعْدَ ذَبْحِهِ أجْزَأَ، لَا قَبْلَهُ، وَحُمِلَ الْوَلَدُ عَلى غَيْرٍ ثُمَّ عَلَيْهَا، وإلَّا، فإنْ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُهُ لِيَشْتَدَّ فكالتَّطَوُّعِ. وَلَا يَشْرَبُ مِنَ اللَّبَنِ وَإِنْ فَضَلَ. وغَرِمَ إنْ أَضَرَّ بِشُرْبِهِ الأُمَّ أوِ الْوَلَدَ، مُوجَبَ فِعْلِهِ، ونُدِبَ عَدَمُ رُكُوبهَا بلا عُذْرٍ، وَلَا يَلْزَمُ النُّزولُ بَعْدَ الرَّاحَةِ، وَنَحْرُهَا قائمَةً أوْ مَعْقُولةً، وأجْزأ إن ذَبَحَ غَيْرُهُ عَنْهُ مُقَلَّدًا، وَلَوْ نَوى عَنْ نَفْسِهِ إِنْ غَلِطَ. وَلَا يُشْتَركُ فِي هَدْيٍ. وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ نَحْرِ بَدَلِهِ نُحِرَ إِنْ قُلِّدَ، وقَبْلَ نَحْرِهِ، نُحِرَا مَعًا إنْ قُلِّدَا وَإِلَّا بِيعَ واحد.
= وجاء في ركوب الهدي حديث أبي هريرة عند مسلم: بينما رجل يسوق بدنة مقلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارْكَبْهَا". فقال: إنها بدنة يا رسول الله. قال: "وَيْلَكَ ارْكَبْهَا. وَيْلَكَ ارْكَبْهَا". قال البغوي: وفيه دليل على أن من ساق بدنة هديًا، جاز له ركوبها غير مضرّ بها ويحمل عليها. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
والسنة أن يذبح هديه بيده إن قدر عليه؛ لما روى جابر قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنةٍ، فنحر منها ثلاثًا وستين بيده. ا. هـ.
والسنة نحر الإِبل قيامًا مقيدة؛ للحديث المتفق عليه عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة، سنة محمد صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما ضياع الهدي أو موته، فقد ورد فيه ما روي عن ابن عمر أنه قال: مَن أهدى بدنة فضلّت أو ماتت، فإنها إن كانت نذرًا أبدلها، وإن كانت تطوعًا؛ فإن شاء أبدلها، وإن شاء تركها. وهو في الموطإ في الحج، باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل.
وقوله: والخطام والجلال كاللحم، هو لحديث علي المتفق عليه الذي تقدم آنفًا. ولما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه كان يجلِّلُ بدنه القباطيَّ والأنماط والحلل، ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها. وسأل مالك عبد الله بن دينار: ما كان عبد الله بن عمر يصنع بجلال بُدُنِه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة؟. قال: كان يتصدق بها. ا. هـ. وهو في الموطإ أيضًا.
وقوله: ولا يشرب من اللَّبن وإن فضل ألخ، قال عروة بن الزبير: إذا اضطررت إلى بدنتك، فاركبها ركوبًا غير فادح. وإن اضطررت إلى لبنها فاشرب ما بعد ريِّ فصيلها، فإذا نحرتها فانحر فصيلها معها. أخرجه مالك في الموطإ.
وقوله: وحمل الولد على غير ثم عليها ألخ. قال عبد الله بن عمر: إذا أنتجت البدنة، فليحمل ولدها حتى ينحر معها، فإن لم يوجد له محمل فليحمل على أمه حتى ينحر معها. أخرجه مالك في الموطإ أيضًا.
وقوله: ولا يشرك في هدي، قال البغوي: الهدي الواجب بالشرع أو بالنذر المطلق مختص بالنعم؛ وهي الإِبل والبقر والغنم. فإن نذر أن يهدي شيئًا آخر من ثوب أو متاع يلزم، وعليه حمله إلى مكة والتصدق به على مساكينها، فإن لم يمكن نقله، باعه وتصدق بثمنه على مساكين الحرم.
أما عدم الإِشراك في الهدي، إن كان المصنف يريد به في الشاة الواحدة، فهو كما قال؛ فإنه لا تجوز الشاة في الهدي إلا عن واحد، وإن كان يريد به الإِطلاق، فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرةً بينهن. أخرجه أبو داود في المناسك، باب هدي البقر. وابن ماجه في الأضاحي. باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة.
وفي الموطإ، والبخاري، ومسلم من حديث عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أن يحل. قالت عائشة: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟. فقالوا: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
وقوله قبْلُ: وسن إشعاره ألخ، هو لما أخرجه أبو مصعب، عن مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة، قلده وأشعره بذي الحليفة؛ يقلد قبل أن يشعره في مكان واحد، وهو موجهه للقبلة؛ يقلِّدُه نعلين ويشعره من الشِّقِّ الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف بعرفة بين الناس، ثم يدفع به، فإذا قدم منى غداة النحر، نحره قبل أن يحلق أو يقصر. وكان ينحر هديه بيده؛ يصفهّن قيامًا، ويوجههن للقبلة، ثم يأكل ويطعم. أخرجه الموطأ، باب العمل في الهدي حين يساق. قال البغوي: قال نافع: كان إذا وخز في سنام بُدُنه قال: بسم الله، والله أكبر. قال مالك: من اشترى الهدي بمكة يخرجه إلى الحل ثم يسوقه إلى مكة فينحر بها.
تنبيه: اختلف العلماء؛ متى تقطع التلبية؟. قال مالك فيمن أحرم بالعمرة من بعض المواقيت؛ فإنه يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم. ومن أحرم من التنعيم يقطعها حين يرى البيت. وقال مالك فيمن أحرم بالحج: يلبي حتى تزول الشمس من يوم عرفة، فإذا زالت الشمس قطعها. ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وعن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تترك التلبية إذا راحت إلى الموقف. قاله البغوي.
غير أنه اتفق الشيخان عن عبد الله بن عباس قال: أخبرني الفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه من جمع إلى منى، فلم يزل يلبِّي حتَّى رمى الجمرة. قال البغوي: هذا حديث متفق عليه، أخرجه محمد عن الضحاك بن مخلد، وأخرجه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس، كلاهما عن ابن جريج. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم؛ أن الحاج لا يزال يلبي حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يقطعها، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: يقطعها مع أول حصاة. وبه قال الثوري والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال أحمد وإسحاق: يلبي حتى يرمي الجمرة، ثم يقطعها.
وأما المعتمر، فقد ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأكثر أهل العلم: يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف، مستلمًا وغير مستلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروي عن ابن عمر أنه كان يترك التلبية في العمرة إذا دخل الحرم. وروي مثل ذلك عن عروة بن الزبير. اهـ. أنظر البغوي. وبالله التوفيق.
تتمة: في الكلام على شجر حرم مكة وقول المؤلف: وحرم به قطع ما ينبت بنفسه إلا الإِذخر والسنا ألخ قال الحطاب: أي وحرم بالحرم قطع الذي جنسه ينبت بنفسه، ولو استنبته الناس؛ كما لو استنبتت البقول البرية وشبه ذلك. وظاهر كلام المصنف أن الاحتشاش في الحرم حرام. وقد صرح في المدونة أنه مكروه. قال فيها: وجائز الرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر، وأكره أن يحتش في الحرم - حلال أو حرام خيفة قتل الدواب - وكذلك المحرم في الحل - فإن سلموا من قتل الدواب فلا شيء عليهم. وأكره لهم ذلك. ا. هـ. منه.
وقال المواق: ولا يقطع أحد من شجر الحرم شيئًا يبس أو لم ييبس - من حرم مكة أو من حرم المدينة - فإن فعل فليستغفر الله ولا جزاء فيها. وفيها: ولا بأس بقطع ما أنبته الناس في الحرم من الشجر مثل النخل والرمان والفاكهة كلها والبقل كله، والكراث، والخس، والسلق، وشبهه، والقثاء، والإِذخر. ابن يونس: لأن ما أنبته الناس إنسي مثل إنسي الحيوان.
وقول المصنف: ولا جزاء، يقرر به أنه لا جزاء على من قطع في الحرم ما يحرم قطعه. قيل: لأن الجزاء قدر زائد على التحريم فلا فيه من دليل، ولا دليل، فليس فيه إلا الاستغفار. وبذلك قال مالك، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، قال: لا أجد دليلًا أوجب به في شجر الحرم فرضًا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وأقول كما قال مالك: يستغفر الله. أنظر ابن قدامة في المغني.
وقول المصنف رحمة الله عليه: والسنا، يعني النبت المعروف المدر للصفراء والمسهل. قال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السَّنا يستمشى به ولا ينزع من أصله. ورخص فيه عمرو بن دينار. ا. هـ. منه بلفظه.
الكلام على حرم المدينة، وعلى صيده وشجره
قول المؤلف عليه رحمة الله: كصيد المدينة بين الحرار، وشجرها، بريدًا فىِ بريد. قال المواق: الاصطياد في حرم المدينة حرام، فإن صاد، ففي المدينة لا جزاء فيه. والأقيس أن فيه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الجزاء ولا يؤكل. قال: وفي الموطإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا". قال الباجي: يريد حرتيها. واللابة: الحرة. وهاتان الحرتان؛ إحداهما حيث ينزل الحاج، والأخرى تقابلها شرقي المدينة. قال ابن نافع: وحرتان أخريان أيضًا من ناحية القبلة والجرف. قال ابن نافع: فما بين هذه الحرار في الدور كله يحرم أن يصاب فيه صيد، وحرم قطع الشجر منها على بريد من كل شق حولها كلها. ا. هـ. من بتصرف قليل.
وفي مغني ابن قدامة، قال أحمد: ما بين لابتيها حرام بريدٌ في بريدٍ، كذا فسر مالك بن أنس. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلًا حمىً. رواه مسلم. ا. هـ.
قال ابن قدامة: فمن فعل مما حُرِّم عليه شيئًا ففيه روايتان: إحداهما: لا جزاء فيه وهذا قول أكثر أهل العلم، وهو قول مالك والشافعي في الجديد؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فلم يجب فيه جزاء كصيد وَجٍّ.
والثانية: يجب فيه الجزاء. روي ذلك عن ابن أبي ذئب، وهو قول الشافعي في القديم وابن المنذر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ". فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك، إذ لم يظهر بينهما فرق. ا. هـ. قال: ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين:
الأول: إنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛ لما روى الإِمام أحمد عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرّم المدينة قالوا: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضًا غير أرضنا، فرخِّصْ لنا. فقال:"الْقَائِمَتَانِ وَالْوِسَادَة وَالْعَارِضَةُ وَالْمَسْنَدُ، فَأَمَّا غَيْرُ ذلِكَ فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا يُخْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ". قال خارجة. رواه عنه إسماعيل بن أويس. المسند: مرود البكرة. فاستثنى ذلك وجعله مباحًا كاستثناء الإِذخر بمكة.
الثاني: أن من صاد صيدًا خارج المدينة، ثم أدخله إليها لا يلزمه إرساله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"؟. فقد أقره على اللعب به. ا. هـ. منه بتصرف. =
موانع الحج والعمرة الطارئة بعد الإِحرام
وَإن مَنَعَهُ عَدُوٌّ، أوْ فِتْنَةٌ، أوْ حَبْسٌ لَا بِحَقٍّ، بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ - إن لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وأيِسَ مِنْ زَوَالِهِ قَبْلَ فَوْتِهِ، وَلَا دَمَ - بِنَحْرِ هَدْيِهِ وَحَلْقِهِ، وَلَا دَمَ إنْ أخَّرَهُ (1). وَلَا يَلْزَمُهُ طَرِيقٌ مَخُوفٌ، وَكُرِهَ إِبْقَاءُ إحْرَامِهِ إنْ قَارَبَ مَكَّةَ أوْ دَخَلَهَا، وَلَا يَتَحَلَّلُ إنْ دَخَلَ وَقْتُهُ، وإلَّا، فثَالِثُهَا يَمْضِي وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَلَمْ يَفْسُدْ بِوَطْءٍ إنْ لَمْ يَنْوِ الْبَقَاءَ، وَإِنْ وَقَفَ وَحُصِرَ عَن الْبَيْتِ فَحَجُّهُ تَمَّ، وَلَا يَحِلُّ إلَّا بالْإِفاضَةِ، وَعَلَيْهِ لِلرَّمْيِ وَمَبِيتِ مِنىً وَمُزْدلِفَةَ هَدْيٌ؛ كَنِسْيَانِ الْجَمِيعِ. وَإِنْ حُصِرَ عَنِ الْإِفَاضَةِ أوْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِغَيْرٍ؛ كَمَرَضٍ أوْ خَطَإ عَدَدٍ، أوْ حَبْسٍ
= قلت: ويفارق حرم المدينة حرم مكة بشيء ثالث، وهو وجود النص على جواز أخذ سلب من وجد يقطع شيئًا من شجر حرم المدينة، وعدم وجود ذلك بالنسبة لحرم مكة؛ فقد روى مسلم بإسناده عن عامر بن سعد، أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا ويخبطه، فسلبه. فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم. فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى أن يرد عليهم. ا. هـ. المغني.
(1)
وقوله: وإن منعه عدو أو فتنة، أو حبس، لا بحق، بحج أو عمرة، فله التحلل - إن لم يعلم به، وأيس من زواله قبل فوته، ولا دم - بنحر هديه وحلقه ولا دم إن أخره. قال المواق: لا خلاف فيمن أحصر بعدو، وهو محرم بحج أو عمرة، أن له أن يحل ولا قضاء عليه إذا لم تكن حجة الإِسلام. قال: وفيها لمالك: والمحصر بعدو غالب، أو فتنة، في حج أو عمرة يتربص مارجا كشف ذلك، فإذا أيس فليحل بموضعه حيث كان من البلاد؛ في الحرم أو في الحل، ولا هدي عليه، إلا أن يكون معه هدي فينحره هناك، ويحلق ويقصر ويرجع إلى بلده، ولا قضاء عليه لحج ولا عمرة، إلا أن يكون صرورة فلا يجزئه ذلك لحجة الإِسلام. وإن أخر حلاق رأسه حتى رجع لبلده حلق، ولا دم عليه. =
بِحَقٍّ، لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِفِعْلِ عُمْرَةٍ بِلَا إحْرَامٍ، وَلَا يَكْفِي قُدُومُه، وحَبسَ هَدْيَهُ مَعَهُ إنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَوَاتٍ، وَخَرَجَ لِلْحِلِّ إِنْ أحْرَمَ بِحَرَمٍ، أو أرْدَفَ، وأخَّر دَمَ الْفَوَاتِ لِلْقَضَاءِ، وَأجْزَأ إِنْ قُدِّمَ، وَإن أفْسَدَ ثُمَّ فَاتَ أوْ بالْعَكْسِ، وإنْ بِعُمْرةِ التَّحَلُّلِ، تَحَلَّلَ وَقَضَاهُ دُونَهَا وَعَلَيْهِ هَدْيَانِ، لَا دَمُ قِرَانٍ ومُتْعَةٍ لِلْفَائِتَ، ولا يُفِيدُ لِمَرَضٍ أوْ غَيْرِهِ، نِيَّةُ التَّحَلُّلِ بِحُصُولِهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ
= ا. هـ. منه. ودليل ذلك القرآن والسنة. أما القرآن فقوله تعالى في سورة البقرة: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
(1)
. الآية قال ابن جزي في تفسيره: المشهور في اللغة: أحصره المرض - بالألف - وحصره العدو. وقيل: بالعكس. وقيل: هما بمعنى واحد. فقال مالك: هنا أحصرتم بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدي، ولم يوجبه على من حصره عدو. وقال الشافعي وأشهب: يجب الهدي على من حصره العدو، وعمل الآية على ذلك، واستدل بنحر النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية. ا. هـ منه.
وقد ثبت في الصحيح عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلق، وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلًا. قال البغوي: هذا حديث صحيح. قلت: هو في البخاري في الحج، إذا أحصر المعتمر.
وقوله: ولا يسقط عنه الفرض، قال البغوي: ثم المحصر إن كان حجه حج فرض قد استقر عليه، فذلك الفرض في ذمته، وإن كان هذا أول سنة الوجوب، أو كان تطوعًا، فهل يجب عليه القضاء؟. اختلف أهل العلم فيه؛ فذهب جماعة إلى أن لا قضاء عليه. وهو قول مالك والشافعي. وذهب قوم إلى أن عليه القضاء، محتجين بما روي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروه عام الحديبية، في عمرة القضاء. قال شعيب: أخرجه أبو داود، وفيه عنعنة ابن إسحاق.
وقوله: وإن أحصر عن الإِفاضة، إلى قوله: لم يحل إلا بفعل عمرة، قال البغوي: لو أحصر عن الوقوف بعرفة، وعن دخول مكة، ثم انكشف العدو بعد الفوات لوقت الوقوف بعرفة، قبل أن يتحلل،=
(1)
سورة البقرة: 196.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فعليه أن يتحلل بعمل العمرة. وفي وجوب القضاء عليه قولان؛ فإن أوجبنا عليه القضاء، فعليه دم شاة، فإن لم يجد صام عشرة أيام كما في التمتع، واستدل على ذلك بما رواه سالم عن ابن عمر أنه كان يقول: أليس حَسْبَكُمْ سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدُكم عن الحج، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عامًا قابلًا؛ فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا. ا. هـ. وهو في البخاري، باب الإِحصار في الحج.
وقول المصنف: ولا يفسد بوطء، هو لفتوى الإِمام في المبسوطة: من حل له التحلل فلم يفعل حتى أتى النساء، إنه إن نوى أن يحل فلا شيء عليه، وإن نوى أن يقيم إلى إحرامه لقابل، فسد حجه وعليه القضاء. انتهى.
وقوله: وإن وقف وحصر عن البيت فحجه تم ألخ. قال المواق: قال ابن القاسم: إن أحصر بعد أن وقف بعرفة، في كتاب محمد؛ إنه إن أحصر بمرض فقد تم حجه، ويجزئه عن حجة الإِسلام، ولا يحله إلا طواف الإِفاضة. وعليه لجميع ما فاته من رمي الجمار والمبيت بمزدلفة وبمنى هديٌ واحد؛ كمن ترك ذلك ناسيًا حتى زالت أيام منى. قال ابن المواز: ولو كان بعدو لم يهد. ا. هـ. منه. والله تعالى أعلم وأحكم.
وقوله: أو فاته الوقوف بغير كمرض أو خطإ عدد ألخ. هو لأن الحج عرفات، أي معظم الحج عرفات؛ يعني الوقوف بها. وقوله بغير - بالتنوين - أي بغير عدو وفتنة وحبس بغير حق، قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن الحاج إذا فاته الوقوف بعرفة في وقته فقد فاته الحج، ووقته ما بين الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر. قال مالك عن نافع: إن عبد الله بن عمر كان يقول: من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة، فأتاه قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج. أخرجه في الموطإ. فمن فاته الوقوف في هذا الوقت يجب عليه التحلل بعمل العمرة، من غير أن يكون ذلك محسوبًا عن العمرة، وعليه قضاء الحج من قابل، وعليه دم شاة، فإن لم يجد، صام ثلاثة أيام في الحج - في القضاء - وسبعة أيام إذا رجع. قاله البغوي.
وقوله: أو خطإ عددٍ يشير به إلى ما رواه مالك عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر - وعمر بن الخطاب ينحر هديه - فقال: يا أمير المؤمنين، أخطأنا العِدَّة؛ كنا نظن أن =
مَالٍ لِحَاصِرٍ إِنْ كَفَّرَ، وَفِي جَوَازِ الْقِتَالِ مُطْلَقًا تَرَدُّدٌ، وللْوَليِّ مَنْعُ سَفِيهٍ كَزَوْجٍ فِي تَطَوُّعٍ، وَإِنْ لَمْ يَأذَنْ فَلَهُ التَّحَلُّلُ وعَلَيْهَا القَضَاءُ، كَعَبْدٍ. وَأثِمَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَلَهُ مُباشَرَتُهَا، كَفَرِيضَةٍ قَبْلَ المِيقاتِ، وإلَّا فَلَا إِنْ دَخَلَ، وَللْمُشْتَرِي - إن لَمْ يعلم - رَدُّهُ لَا تَحْلِيلُهُ، وَإنْ أذِنَ فَأفْسَدَ لَمْ يَلْزَمْهُ إذنٌ لِلْقَضَاءِ عَلَى الأصَحِّ، وَمَا لَزِمَهُ عَنْ خَطَإ أوْ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ أذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الإِخْرَاجِ وَإلَّا صَامَ بِلَا مَنْعٍ، وَإِنْ تَعَمَّدَ فَلَهُ مَنْعُهُ إنْ أضَرَّ بِه في عَمَلِهِ.
= هذا اليوم يوم عرفة. فقال له عمر: اذهب إلى مكة، فطف أنت ومن معك بالبيت، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هديًا إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإن كان عام قابلٍ فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. ا. هـ. وفي الموطإ أن عمر رضي الله عنه قال مثل ذلك لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
قال المواق هنا: المنع لسبب عام فله حكم الحصر، وإن كان بسبب خاص - كالمسجون في ديْن والمريض ومن ضل عن الطريق أو أخطأ العدد - فلا يحل إلا بالبيت، إلى أن قال: ولو أقام سنين فيتحلل بأفعال العمرة عن إهلاله الأول، ولا يعتبر بما فعله قبل الحصر، ويعيد من غير تجديد إحرام. ا. هـ. منه. والله أعلم وأحكم.
وقوله: ولولي منع سفيه، قال المواق: قال مالك: لا يحج السفيه إلا بإذن وليه، إن رأى ذلك نظرًا أذن وإلَّا فلا، وإن حلله الولي فلا قضاء عليه.
وقوله: كزوج في تطوع وإن لم يأذن فله التحلل، قال المواق أيضًا: عد القرافي من موانع الحج الزوجية. ابن شاس: المستطيعة لحجة الإِسلام ليس للزوج منعها من الخروج؛ لها إن قلنا: إن الحج على الفور. وإلا فقولان للمتأخرين، إلى أن قال: فأما لو أحرمت بالتطوع من غير إذنه، لكان له منعها وتحليلها؛ فتتحلل كالمحصر، فإن لم تفعل فللزوج مباشرتها والإِثم عليها دونه، وعليها القضاء. ا. هـ. منه.
وقوله: كالعبد، قال الحطاب: يعني أن العبد إذا لم يأذن له سيده في الإِحرام فله أن يحلله، ويجب عليه القضاء، يعني إذا عتق أو أذن له السيد على المشهور. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: وهذا ليس مما التزمت به؛ لأنها مسائل اجتهادية بحتة لا نص فيها. فالله أعلم بها. وجزى الله أئمة الاجتهاد خير الجزاء.
تذييل: تأمل قول المصنف - رحمة الله عليه - في الركن الرابع من الحج: وللحج حضور جزء عرفة ساعة لية النحر، ولو مر إن نواه، أو بإغماء قبل الزوال، أو أخطأ الجم بعاشر فقط، يريد بقوله: فقط: إنه إن كان وقوفهم وقع خطأ في الثامن، فإنه لا يجزئهم. وقد وقفت على نص المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل في الموضوع. قال: وإن أخطأ الناس؛ فوقفوا في غير يوم عرفة، أجزأهم. قال ابن مفلح في المبدع في شرح المقنع هنا: وإن أخطأ الناس في غير يوم عرفة؛ كالثامن والعاشر، أجزأهم. نص عليه؛ لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي يُعَرِّفُ النَّاسُ فِيهِ". قال: وذكر الشيخ تقي الدين خلافًا في مذهب أحمد؛ هل هو يوم عرفة باطنًا، على أن الهلال اسم لما يطلع في السماء، أو لما يراه الناس ويعلمونه؟. والثاني الصواب؛ ويدل عليه لو أخطؤوا لغلط في العدد، أو في الطريق ونحوه، فوقفوا العاشر، لا يجزئهم إجماعًا، ا. هـ. منه.
انظر - رحمك الله - إلى أين وصل التناقض بين المذهبين في هذه المسألة. أمَّا أصحابنا فإنهم قد قصروا الإِجزاء على المخطئ الواقف بالعاشر فقط، وأمَّا السادة الحنابلة فقد حكى بعضهم الإِجماع على بطلان من وقف بالعاشر وإن كان الجم الغفير. أليس الخيار أن يتبع في ذلك ما ورد فيه سند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
(1)
الآية. أما الكتاب فلم يرد فيه شيء في محل النزاع، وأما السنة فقد أخرج الدارقطني في سننه ما نصه: نا أحمد بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الجنيد، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن السفاح بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي يُعَرِّفُ النَّاسُ فِيهِ". وحدثنا محمد بن عمرو بن البختري، نا أحمد بن الخليل، نا الواقدي، نا ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ يَوْمَ يُعَرِّفُ =
(1)
سورة النساء: 59.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= النَّاسُ". وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، نا العباس بن محمد بن هارون وعلي بن سهل، قالا: نا إسحاق بن عيسى الطباع، عن حماد بن زيد، عن أيوب عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِروُنَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ".
وحدثنا ابن صاعد ومحمد بن هارون أبو حامد قالا: نا أزهر بن جميل، نا محمد بن سواء، ثنا روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ".
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، نا أبو هشام الرفاعي، نا يحيى بن اليمان، عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة، قال أبو هشام، أظنه رفعه، قال:"الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحِّي النَّاسُ".
قال في التعليق المغني على سنن الدارقطني: أما حديث "عَرَفَةُ يَوْمَ يُعَرِّفُ النَّاسُ". أي يعرف فيه. وهذا الحديث مرسل. قلت: ونحن ممن يحتج بالمراسيل. قال: كذا ما بعده، وفيه الواقدي وهو ضعيف جدًا - يعني حديث زيد بن طلحة التيمي. قلت: وإن كان ضعيفًا فقد تابعه غيره.
قال وقوله: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ". يعني حديث محمد بن المنكدر عن أبي هريرة. قال: إسناده صحيح وكذا ما بعده، والحديث أخرجه أبو داود أيضًا من حديث محمد بن المنكدر عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:"الْفِطْر يَوْمَ تُفْطِروُنَ، والْأضْحَى يَوْمَ تضَحُّونَ". وابن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة، ورواه الترمذي من حديث المقبري عنه، وابن ماجه من حديث ابن سيرين عنه، ورواه مجاهد بن إسماعيل عن سفيان عن ابن المنكدر عن عائشة مرفوعًا بلفظ:"عَرَفَةُ يَوْمَ يُعَرِّفُ الْإِمَامُ". تفرد به مجاهد. قاله البيهقي. قال: ومحمد بن المنكدر عن عائشة مرسل. كذا قال. وقد نقل الترمذي عن البخاري أنه سمع منها، وإذا ثبت سماعه منها أمكن سماعه من أبي هريرة، فإنه مات قبلها. ا. هـ. منه. بلفظه.
قلت: قد تقدم مني الكلام في هذا الكتاب المبارك على هذه المسألة، عند قول المصنف في الحج: أو أخطأ الجم الغفير بعاشر فقط، وفي الصوم عند قول المصنف: فإن لم ير بعد ثلاثين صحوًا كذبا. وها أنا تكلمت عليها هنا، والله يعلم أنه ما حملني على الاهتمام بها هذا الاهتمام، إلا ما شاهدته من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تلاعب الشيطان ببعض إخواني في بعض أقطار الإِسلام، من عدم اعتبار إعلان السلطات الشرعية إعلانًا شرعيًا؛ يجب به الفطر، والوقوف بعرفة، وتضحي بموجبه الناس. ولا يخفى عند من له أدنى مسكة من علم، أن السلطان التي تجب طاعته، هو صاحب السلطة، سواء تقلدها ببيعة أو بتغلب، وإنه لا يشترط في طاعته ووجوبها إِلا الإِسلام فقط، اللهم إلا إذا أمر بمعصية الله.
قال في النوازل:
ومن تغلب وعمَّت طاقتُه
…
قد وجبت على الجميع طاعته
لذلك، فإني أرى أن من بلغه إعلان السلطات الفطر، وأصبح صائمًا على الرغم من ذلك، إنه عاصٍ بصومه ذلك؛ لأنه صام العيد المحرم صومه إجماعًا. وقد شق عصا المسلمين المحرم شقها إجماعًا، وصدق فيه أنه ممن ورد فيهم:"وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرأْيِهِ". فالله أرجو التوفيق والسداد لي ولجميع المسلمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
باب الذكاة
(1)
الذَّكَاةُ قَطْعُ مُمَيِّزٍ يُنَاكَحُ (2)، تَمَامَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْن، مِنَ الْمُقَدَّمِ (3)، بِلَا رَفْعٍ قَبْلَ التَّمَامِ (4)، وَفِي النَّحْرِ طَعْنٌ بِلَبَّةٍ (5)، وشُهِّرَ أيْضًا الاكْتِفَاءُ بِنِصْفِ الْحُلْقُومِ والْوَدَجَيْنِ.
(1)
قوله: باب الذكاة، الذكاة اسم مصدر بمعنى المصدر. يقال: ذكَّى الشاة. تذكية، أي ذبحها. فهو من باب فعل - مضعف العين - فمصدره تفعيل، لكنه معتل اللام؛ فتحذف لام التفعيل منه ويعوض عنها التاء، فيصير مصدره على تفعلة. قال ابن مالك:
وزكّه تزكية وأجملا
…
وغير ذي ثلاثة مقيسُ
. . . . . . . الخ
…
مصدره كقدس التقديس
محل الشاهد منه قوله: وزكّه تزكية، والإِسم من هذا الفعل الذكاة، والمذبوح ذكيٌّ، فهو فعيل بمعنى مفعول.
وهذا الباب هو أول الربع الثاني من المختصر. قال الحطاب: وافتتحه بكتاب الذكاة، ثم بكتاب الضحايا لأنهما كالتتمة لكتاب الحج؛ لأن المحرم يطلب بذبح هديه أو نحره، فهو محتاج إلى معرفة كيفية الذكاة. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله الذكاة قطع مميز يناكح، يعني أن الذكاة التي هي السبب الشرعي لإِباحة أكل لحم الحيوان المباح هي أربعة أقسام منها الذبح، وهو قطع اشترط فيه شروطًا منها: أهلية الذابح لذلك؛ بأن يكون عاقلًا، ليصح منه قصد التذكية، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". الحديث، وأن يكون مسلمًا أو كتابيًا، وذلك قصده بقوله: يناكح؛ أي يجوز لنا نكاح أنثاه؛ لأن الكتابي يجوز أكل ذبيحته، بدليل قوله تعالى في المائدة:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(1)
الآية. قال البخاري: قال ابن عباس: طعامهم: ذبائحهم. =
(1)
سورة المائدة: 5.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: تمام الحلقوم، أي من الحيوان المقدور عليه، والحلقوم الوهدة التي تربط أصل العنق بالرأس. قال ابن مفلح الحنبلي: ولا يجوز في غير ذلك إجماعًا. قال عمر: النحر في اللبة والحلق لمن قدر. احتج به أحمد. وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بُدَيل بن ورقاء يصيح في فجاج منى
(1)
: ألا إنَّ الذكاة في الحلق واللبة. رواه الدارقطني بإسناد جيد. قال: وأما حديث أبي العشراء عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أما تكون الذكاة في الحلق واللبة؟. قال:"لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأجْزَأَكَ". رواه أحمد، وقال: أبو العشراء ليس بمعروف، وحديثه غلط. وقال البخاري: في حديثه واسمه، وسماعه من أبيه نظر. وقال المجد في أحكامه: هذا فيما لم يقدر عليه. وقال ابن مفلح: واختص الذبح بالمحل المذكور، لأنه مجمع العروق فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة، ويسرع زهوق الروح، فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان. انتهى منه بتصرف.
وقوله: والودجين، يعني العرقين اللذين في صفحتي العنق، يتصل بهما أكثر عروق البدن، ويتصلان بالدماغ. ودليل قطعهما ما استدل به ابن مفلح الحنبلي في المبدع، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد، ولا تفري الأوداج. رواه أبو داود. وقال سعيد: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس قال: إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل. إسناده حسن. انتهى منه.
وقوله: من المقدم، هذا الشرط لا نص فيه فهو بمحض الاجتهاد. قالوا: لأن من ذبح من القفا يقطع النخاع في الرقبة، قبل أن يصل إلى موضع الذبح، فيكون بفعله ذلك قد قتل البهيمة. بقطع نخاعها، قبل أن يذكيها في موضع ذكاتها. والله تعالى أعلم وأحكم.
(4)
وقوله: بلا رفع قبل التمام، قد قيدوه بأنه بحيث لو تركها بعد رفع يده لا تعيش؛ لإِنفاذ مقتلها. والله تعالى أعلم. غير أن إطلاقهم هنا مشكل ولا دليل عليه، ولأنه قد يضطر لرفع يده ليحد الشفرة، أو لغلبة المذبوح له ونحو ذلك، وعلى كل حال فالسبيل إلى ذلك محض الاجتهاد. والله الموفق.
وقوله: وشهر أيضًا الاكتفاء بنصف الحلقوم والودجين، في المواق ما نصه: الكافي: وينبغي أن =
(1)
في النسخة التي بيدي من ابن مفلح: في فجاج بيتنا، ولعل الصواب ما أثبته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تكون الغلصمة إلى الرأس، فإن لم تكن فلا بأس. ونقل البرزلي عن ابن عرفة أن الفتوى بتونس منذ مائة عام بجواز أكل المغلصمة، وبهذا كان يفتي أشياخنا أيضًا. انتهى منه بلفظه.
قال الصنعاني: وعن مالك يشترط قطع الحلقوم والودجين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا أنْهَرَ الدَّمَ". وإنهاره: إجراؤه؛ وذلك يكون بقطع الأوداج لأنها مجرى الدم. ا. هـ. منه.
ولهذا قال في المختصر: وشهر أيضًا لاكتفاء بنصف الحلقوم والودجين؛ لأن المقصود إنهار الدم، وهو حاصل بفريها ولو لم يكمل قطعها. وحيث حصل إنهار الدم، وذكر اسم الله، جاز أكل الذبيحة؛ لحديث رافع بن خديج المتفق عليه:"مَا أنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ". الحديث. وبالله تعالى التوفيق.
(5)
وقوله: وفي النحر طعن بلبة، اللبة: هي الحفرة التي في الصدر في أصل العنق. قالوا. ويجزئ من النحر ما أنهر الدم؛ لما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه قال: حدثنا ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن غلامًا من بني حارثة كان يرعى لقحة لنا، فأتاها الموت وليس معه ما يذكيها به، فأخذ وتدًا فنحرها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم. فأمره بأكلها. ا. هـ. منه. وفي رواية لأبي داود: فأخذ وتدًا فوجأها به في لبتها حتى أهريق دمها، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها.
حاصل الأمر أنه يشترط في الآلة التي تجري الذكاة بها شرطان حسب منطوق النص: أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، وأن لا تكون سنًا ولا ظفرًا؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا أَوْ ظُفُرًا". متفق عليه. يعني سواء كان حديدًا أو حجرًا أو خشبًا أو غير ذلك. وأنه لا يجوز الذبح في غير الحلق واللبة بالإِجماع. قال ابن قدامة: وقد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللُّبَّةِ". أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة، وقد تقدم قريبًا. والله الموفق.
وقال ابن قدامة: وقال أحمد: الذكاة في الحلق واللبة، واحتج بحديث عمر، وهو ما رواه سعيد والأثرم بإسنادهما عن الفرافصة، قال: كنا عند عمر فنادى: إن النحر في اللبة والحلق لمن قدر.
قلت: وهو في مصنف ابن أبي شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون أنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي معرور، عن أبي الفرافصة، الحديث. =
وَإنْ سَامِرِيًّا أوْ مَجُوسِيًّا تَنصَّرَ، وَذَبَحَ لِنَفْسِهِ مُسْتَحَلَّهُ، وَإنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ (1) إنْ لَمْ يَغِبْ، لَا صَبِيٍّ ارْتَدَّ، وَذِبْحٍ لِصَنَمٍ، أوْ غَيْرِ حِلٍّ لَهُ - إنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا - وإلَّا كُرِهَ، كجزارَتِهِ، وَبَيْعٍ، وَإجَارَةٍ لِعيدِهِ، وَشِرَاءِ ذِبْحِهِ، وتَسَلُّفِ ثَمَنِ خَمْرٍ، وَبَيْعٍ بِهِ، لا أخذِهِ قَضَاءً، وشَحْمِ يَهُودِيٍّ، وذِبْحٍ لِصَلِيبٍ أوْ عِيسَى، وقَبُولِ مُتَصَدَّقٍ بِهِ لِذلِكَ، وذكاة خُنْثَى وخَصِيٍّ وَفَاسِقٍ. وَفِي ذَبْحِ كِتَابِيٍّ لِمُسْلِمٍ
= تنبيه: ينبغي حمل حديث أبي العشراء: "لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأجْزَأَكَ". أنه وارد فيما لم يقدر عليه من هذه الأنعام، وذلك على فرض جواز الاحتجاج به، فقد تقدم لك كلام الإِمامين أحمد بن حنبل والبخاري فيه. وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه: الدليل على صحة ذكاة المرأة - وبذلك قال جمهور علماء الأمة - هو ما أخرجه البخاري وغيره من حديث كعب بن مالك أن جارية لهم - وفي رواية ابن أبي شيبة. أن جويرية لهم سوداء - ذبحت شاة بمروة. وفي رواية أخرى للحديث: بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها. ا. هـ. وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: وإن سامريًا، يعني صنفًا من اليهود ينكرون البعث. قال جواهر الإِكليل: انكروا نبوة ما عدا موسى وهارون ويوشع بن نون من أنبياء بني إسرائيل، ويزعمون أن بيدهم توراة فيها أمور بدلها أحبار اليهود، ولا يرون لبيت المقدس حرمة، وينكرون الميعاد الجسماني، ويحرمون الخروج من جبال نابلس.
وقوله: أو مجوسيًا تنصر، المجوس قوم يعبدون النار ويزعمون أن للعالم إلهين؛ نور وظلمة، فالنور عندهم إله الخير، والظلمة إله الشر. ويعتقدون تاثير النجوم وأنها فعالة. يعني أن من كان هذا اعتقاده إن انتقل عنه إلى النصرانية أو اليهودية أكلت ذبيحته لأنه صار كتابيًا. والله تعالى يقول:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(1)
.
وقوله: وذبح لنفسه مستحله، احترز به عن ذبحه لمسلم، فسيأتي الكلام عليه، وكان ذبحه =
(1)
سورة المائدة: 5.
قَوْلَانِ. وَجَرْحُ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ (1) وَحْشِيًّا، وَإِنْ تَأَنَّسَ، عَجَزَ عَنْهُ إلَّا بِعُسْرٍ،
= واقعًا لما يراه حلالًا في شرعه، فإن ذبح لنفسه ما يعتقد حرمته عليه لم يجز أكله؛ كأن يذبح ذات ظفر وهو يهودي. والله تعالى يقول:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} . الآية.
وقوله: إن ثبت بشرعنا، قال الحطاب: كذي ظفر. قال ابن عرفة عن الباجي: هي الإِبل وحمر الوحش والنعام، والإِوز، وما ليس بمشقوق الخف، ولا منفرج القائمة. ا. هـ. وقال الثعالبي في تفسير قوله تعالى:{كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} يريد به الإِبل والنعام، والإِوز، ونحوه من الحيوان الذي هو منفرج الأصابع وله ظفر. وقال في الشحوم: هي الثروب، وشحم الكلى، وما كان شحمها خالصًا خارجًا عن الاستثناء الذي في الآية في قوله تعالى:{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}
(1)
. قال: يريد ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب ونحوه. قال السدي: الأليات مما حملت ظهورهما. والحوايا: ما تحوى في البطن واستدار؛ وهي المصارين والحشوة ونحوها. انتهى. منه.
قال المواق: قيل يجوز الشحم لأن الذكاة لا تبعض.
وقوله: وذبح لصليب أو عيسى، قال ابن المواز: كرهه مالك لأنه خاف أن يكون داخلًا في عموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ}
(2)
. ولم يستطع تحريمه لدخوله في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(3)
. أما ما ذبح لصنم فإنه لم تتردد في تحريمه؛ لدخوله بدون خلاف فيما أهل به لغير الله. ا. هـ. الحطاب.
تنبيه: ذبيحة الصبي المميز تؤكل عندنا إن أطاق الذبح وعرفه وكذلك صيده؛ فالذكاة معتبرة شرعًا من الذكر والأنثى، ومن البالغ والصبي المميز المطيق. ومن الحر والعبد، وسواء كان مسلمًا أو كتابيًا بالشروط المتقدمة. هذا إذا كان المذكى مذبوحًا أو منحورًا، وأما إذا كانت الذكاة عقرًا فهي
(1)
وجرح مسلم مميز وحشيًا. فخرج بالتقييد هنا جرح الكافر فإنه لا يؤكل عند مالك لدليل قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
(4)
. الآية.
ولقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}
(5)
. ففي المدونة: يؤكل ما ذبحه أهل الكتاب ولا =
(1)
سورة الأنعام: 146.
(2)
سورة البقرة: 173.
(3)
سورة المائدة: 5.
(4)
سورة المائدة: 4.
(5)
سورة المائدة: 94.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يؤكل ما صادوه لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}
(1)
. قال علماؤنا: وافترق صيد الكتابي عن ذبحه ونحره؛ لأن في الصيد نوعًا من التعبد وللوقوف أيضًا مع الإسناد في الآية، فإنه تعالى قال في صدر الآية الكريمة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
(2)
. فخرج عنهم أهل الكتاب. وخالف الجمهور في ذلك. قال ابن قدامة في المغني: وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم. قال ذلك عطاء، والليث، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدًا حرم صيد أهل الكتاب إلا مالكًا، فإنه أباح ذبائحهم وحرم صيدهم. ا. هـ. منه. ودليل إباحة صيدهم عند الجمهور قوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(3)
. وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما أباحت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه.
قال القرطبي في تفسيره: وهذا الجواب بناءً على أن الصيد ليس مشروعًا عند أهل الكتاب، فلا يكون من طعامهم، فأما إن كان مشروعًا عندهم في دينهم، فإنه يلزمنا أكله لتناول اللفظ له حينئذ، لأنه من طعامهم. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
قلت: وهذا أول الكلام على الصيد، والأصل في إباحة الصيد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكتاب فقد قال تعالى في سورة المائدة:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}
(4)
. وقال تعالى في المائدة أيضًا: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
(5)
. وقال تعالى في سورة المائدة أيضًا: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(6)
. فقوله: الجوارح، جمع جارحة، لأنها تجرح الصيد، أي تكسبه. ومن ذلك الاستعمال قوله تعالى في الأنعام:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}
(7)
. أي ويعلم ما كسبتم بالنهار. وقوله: مكلبين، جمع مكلب، وهو الذي يسلط الكلاب على الصيد. =
(1)
و
(2)
سورة المائدة: 94.
(3)
سورة المائدة: 5.
(4)
سورة المائدة: 96.
(5)
سورة المائدة: 2.
(6)
سورة المائدة: 4.
(7)
سورة الأنعام: 60.
لَا نَعَمٍ شَرَدَ أوْ تَرَدَّى بِكَهُوَّةٍ (1)، بِسِلَاحٍ مُحَدَّدٍ (2)، وَحَيَوَانٍ عُلِّمَ (3)، بإرْسَالٍ مِنْ يَدِهِ بلَا ظُهُورِ تَرْكٍ، وَلَوْ تَعَدَّدَ مَصِيدُهُ أوْ أكَلَ (4) أَوْ لَمْ يُرَ بِغَارٍ أوْ غَيْضَةٍ، أوْ لَمْ يَظُنَّ نَوْعَهُ مِنَ المبَاحِ،
= وأما السنة، فقد جاء في حديث عدي بن حاتم المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ، وإذَا خَالَطَ كلَابًا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا، فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ، فَلَا تَأكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أيُّهَا قَتَلَ. وَإذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ".
وقوله: وإن وحشيًا تأنس، يعني أن الوحشي إذا تأنس ثم توحش، فإنه يرجع إلى أصله ويؤكل بالعقر. قال في المدونة وما دجنَ من الوحش ثم ندَّ واستوحش، أكل بما يؤكل به الصيد من الرمي وغيره. ا. هـ. الحطاب.
(1)
وقوله: لا نعم شرد أو تردَّى بكهوة، فقد قال في المدونة: والإِنسية لا تؤكل بما يؤكل به الوحشي من العقر والرمي. ا. هـ.
قلت: في الحديث المتفق عليه من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوعٌ، وأصبنا إبلًا وغنمًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأمر بالقدور فكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فندَّ منها بعير، وكان في القوم خيلٌ يسيرةٌ، فطلبوه، فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لهذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هكَذَا". قال الإِمام أحمد: ولعل مالكًا لم يبلغه حديث رافع بن خديج. قال ابن مفلح الحنبلي: إن الاعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله، بدليل أن الوحشي إذا قدر عليه وجبت ذكاته في الحلق واللبة، فكذلك الأهلي إذا توحش.
قلت: وكذلك إذا تردى في هوة، ولم يقدر على ذبحه في الحلق أو اللبة، صار كالصيد إذا جرحه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في أي موضع أمكنه، فقتله بنية الذكاة حل أكله. روي ذلك عن عليٍّ وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وقال به أكثر العلماء، وقد تقدم أن العلماء حملوا حديث أبي العُشَراء على فرض جواز الاحتجاج به على الضرورة، وقد بوب البخاري لذلك: باب ما ندَّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش.
(2)
وقوله بسلاح محدد، لدليل حديث رافع بن خديج المتفق عليه، وفيه قال رافع بن خديج: يا رسول الله، إنا لنرجو - أو نخاف - أن نلقى العدوَّ غدًا، وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟. فقال:"مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذلِكَ. أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ". ومن هذا الحديث أخذ الجمهور أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلة الذكاة، ما عدا السنَّ والظفر. وعلى هذا تواترت الآثار وقال به فقهاء الأمصار؛ فالآلة يشترط فيها أن تكون محددة تقطع، أو تخرق بحدها لا بثقلها، وأن لا تكون سنًا ولا ظُفُرًا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء جاز به الذبح، سواء كان حديدًا أو حجرًا أو بلطة أو خشبًا؛ وذلك لحديث رافع المتقدم ذكره. قال القرطبي: وفي مصنف أبي داود: أنذبح بالمروة وشقة العصا؟. قال: "أَعْجِلْ وَأَرِنْ، مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ والظُّفُرَ وسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ". قال: والحديث أخرجه مسلم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالليطة والشَّطِير والظُّرَرِ، فحلٌ ذكيٌّ. ا. هـ. قال: والليطة: فلقة القصبة، ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير: فلقة العود، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبًا دقيقًا. والظُّرَر: فلقة الحجر، يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر. وعكسه الشظاظ، ينحر به، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وحيوان معلم، قال الحطاب: قال في المدونة: والمعلم من كلب أو بازي هو الذي إذا زجر انزجر، وإذا أرسل أطاع. ثم قال: والفهد وجميع السباع إذا علمت فهي كالكلب. قلت: فجميع سباع الطير إذا علمت أهي كالبازي؟. قال: لا أدري ما مسألتك، ولكن ما علم من البزاة والعقبان والزمامجة والشدانقات والصقور وشبهها لا بأس بها عند مالك. انتهى. ا. هـ. منه.
قلت: ودليل الذكاة بحيوان معلم قد تقدم فيه حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه المتفق عليه: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمَسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ". الحديث. قال البغوي: والتعليم أن يوجد فيه ثلاث شرائط: إذا أُشْليَ استشلى، وإذا زجر انزجر، وإذا أخذ الصيد أمسك ولم يأكل. فإذا فعل ذلك مرارًا - وأقلها ثلاث مرات - كان معلمًا يحل بعد ذلك ما قتله.
وقوله: بإرسال بيده، قال الحطاب: قال في المدونة: ولو أثار صيدًا فأشلي عليه وهو مطلق، فانشلى وصاد من غير أن يرسله من يده، فإنه يؤكل ما صاده. قاله مالك ثم رجع فقال: لا يؤكل حتى يطلقه من يده مرسلًا له مشليًا. ا. هـ. محل الغرض منه.
قلت: والدليل إلى جانب ما رجع إليه مالك؛ من أن الإِرسال من جهة الصائد شرط، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم:"إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ" قال البغوي: ولو خرج الكلب بنفسه فأخذ صيدًا وقتله لا يكون حلالًا. أجمعت الأمة على ذلك لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}
(1)
.
(4)
وقوله: أو أكل، عاطفًا على ما يجوز أكله، دليله ما أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: حدثنا أبو بكر قال: نا حفص بن غياث عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كل وإن أكل. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبد الله بن نمير ووكيع عن ابن أبي ذئب عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن حميد بن مالك قال: سألت سعد بن أبي وقاص قلت: إن لنا كلابًا ضواري نرسلها على الصيد فتأكل وتقطع. فقال: وإن لم يبق إلا بعضه. ثم ساق ابن أبي شيبة إسنادًا بذلك عن كل من سعيد بن المسيب، وأبي هريرة، وابن عمر. وأيضًا فقد روى أبو داود والإِمام أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ". وبذلك يقول سعد بن أبي وقاص، وسلمان، وأبو هريرة، وابن عمر. حكاه عنهم الإِمام أحمد، وبه قال مالك، وهو رواية عن الشافعي، وذلك أخذًا بظاهر قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
(2)
. وحملًا للنهي الوارد في حديث عدي بن حاتم على الكراهة جمعًا بين الأدلة. قالوا: لأن عديًا لما كان ممن وسع الله عليهم، نهاه عن أكل ما أكل منه الكلب، خشية أن لا يكون أخذه لصائده، وأبو ثعلبة الخشني محتاج، فأمره بالأكل مما أمسك وإن أكل. والله تعالى أعلم.
(1)
سورة المائدة: 3.
(2)
سورة المائدة: 6.
أوْ ظهَرَ خِلَافُهُ، لَا إنْ ظَنَّهُ حَرَامًا، أوْ أخَذَ غَيْرَ مُرْسَلٍ عَلَيْهِ (1)، أوْ لَمْ يَتَحَقَّقِ المُبِيحَ فِي شِرْكَةِ غَيْرٍ كَمَاءٍ، أوْ ضُرِبَ بِمَسْمُومٍ أوْ كَلْبِ مَجُوسِيٍّ، أَوْ بِنَهْشِهِ مَا قَدَرَ عَلَى خَلَاصِهِ مِنْهُ، أوْ أغْرىَ فِي الْوَسَطِ، أوْ تَرَاخَى فِي اتِّبَاعِهِ إلَّا أن يَتَحَقَّقَ
(1)
وقوله: أو أخذ غير مرسل عليه: ذكره في نسق ما لا يجوز أكله، غير أن مصنف ابن أبي شيبة جاء فيه ما يلي: الرجل يرسل كلبه على صيد فيأخذ غيره؛ حدثنا أبو بكر قال: نا عبد الأعلى عن يونس عن الحسن، في رجل أرسل كلبه على صيد فيأخذ غيره، قال: لا بأس به. وحدثنا أبو بكر، نا حفص عن حجاج عن عطاء، قال: سألته عن الرجل يرمي الصيد فيصيب غيره؟. قال: يأكل. وحدثني أبو بكر قال: نا هشيم عن يونس عن الحسن في رجل رمى صيدًا وسمى عليه فأصاب غيره؟. قال: لا بأس. وحدثنا أبو بكر، نا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم مثله. ا. هـ.
قلت: والذي درج عليه المصنف هو المذهب عند أصحابنا على الرغم من هذه الآثار.
وقوله: ولم يتحقق المبيح في شركة غير كماء، دليله حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي تقدم، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم:"وَإِنْ وَقعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ".
وقوله: أو كلب مجوسي، فهو في الاشتراك في القتل مع كلب المسلم مثل وقوعه في الماء؛ لأن حديث عدي المتقدم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا وَقَتَلْنَ فَلَا تَأْكُلْ". قال البغوي: وفيه دليل على أنه إذا اشترك في الذبح من تحل ذبيحته ومن لا تحل ذبيحته - مثل أن يشترك مسلم ومجوسي، أو أرسل مسلم ومجوسي كلبًا، أو سهمًا على صيد فأصاباه وقتله - إنه يكون حرامًا. وإن أرسل كل منهما سهمًا أو كلبًا فأصاباه معًا، فحرام. ا. هـ. منه.
وقوله: أو بنهشه ما قدر على خلاصه منه، دليله رواية من حديث عدي بن حاتم المتفق عليه:"فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ". قال أهل العلم: إن الكلب إذا أخذ صيدًا فأدركه صاحبه حيًا، لا يحل ما لم يذبحه بقطع الحلق واللبة، فإن فرط في ذبحه حتى مات فلا يحل؛ لقوله تعالى في المائدة:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}
(1)
. والله ولي التوفيق.
وقوله: أوْ بَاتَ، قد اختلف أهل العلم في ذلك؛ فذهب أكثرهم إلى أنه حلال إن بات ووجده ليس به إلا أثر سهمه؛ وذلك لحديث عدي بن حاتم، قال صلى الله عليه وسلم فيه: "وَإِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ =
(1)
سورة المائدة: 3.
أنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ، أوْ حَمَلَ الآلَةَ مَعَ غَيْرٍ، أوْ بِخُرْجٍ، أوْ بَاتَ، أوْ صَدَمَ أوْ عَضَّ بِلَا جُرْحٍ، أوْ قَصَدَ مَا وَجَدَ، أوْ أرْسَلَ ثَانِيًا بَعْدَ مَسْكِ أوَّلَ وَقَتلَ، أو اضْطَرَبَ فأرْسَلَ وَلَمْ يُرَ، إلَّا أنْ يَنْوِيَ الْمُضْطَرَبَ وَغَيْرَه فتأويلَانِ، وَوَجَبَ نيتُهَا (1)، وتَسْمِيَةٌ إنْ ذَكَرَ (2)، وَنَحْرُ إِبلٍ وَذَبْحُ غَيْرِهِ إنْ قَدَرَ، وَجَازَا للضَّرُورَةِ (3).
= يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ". وقال مالك ومن وافقه: إن وجد من يومه أكله، وإلا فلا. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "كُلْ مَا أَصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ". قالوا: ما أصميت معناه ما قتلته وأنت تراه، وما أنميت، معناه ما غاب عنك مقتله. وهذا الحديث كما أخرجه البغوي في شرح السنة. قال شعيب: أخرجه البيهقي من طريقين، موقوفًا عليه، وهو صحيح، وأخرجه الطبراني في معجمه بسند مرفوع فيه متروك.
وقوله: أو صدم أو عض بلا جرح، يعني أنه لا يحل - والحالة هذه - لأنه صار وقيذًا، والله جل وعلا يقول:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ}
(1)
. الآية. قال القرطبي: والوقذ شدة الضرب. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله ووجبت نيتها: يعني أن نية الذكاة واجبة وجوبًا مطلقًا غير مقيد بذكر ولا بغيره. وحكى الحطاب الإِجماع على وجوب نيتها؛ وذلك واضح لأن الذكاة عمل من الأعمال، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئ مَا نَوَى".
(2)
وقوله: وتسمية إن ذكر، في المواق: من المدونة: وقال مالك: لا بد من التسمية عند الرمي، وعند إرسال الجوارح، وعند الذبح لقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(2)
. وإن نسي التسمية في ذلك كله أكل وسمى الله.
قال ابن القاسم: وإن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل. ا. هـ. منه.
قال ابن الجزي الكلبي في تفسير: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(3)
. القصد بهذا الأمر إباحة ما ذكر اسم الله عليه، والنهي عما ذبح للنصب وغيرها، وعن الميتة، وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(4)
. وقد استدل =
(1)
سورة المائدة: 3.
(2)
سورة المائدة: 4.
(3)
سورة الأنعام: 118.
(4)
سورة الأنعام: 121.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بذلك من أوجب التسمية على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها. ا. هـ. منه.
قال الخرقي: وإن ترك التسمية على الذبيحة عمدًا لم تؤكل، وإن تركها ساهيًا أكلت. قال ابن قدامة: وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه، عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد وربيعة، واحتجوا بقول ابن عباس: من نسي التسمية فلا بأس. وبما روى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ". قال: ولأنه قول من سمينا ولم نعرف لهم مخالفًا من الصحابة، وقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(1)
. في الأنعام، محمول على ما تركت التسمية عليه عمدًا؛ بدليل قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} . والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق. ا. هـ. منه. بتصرف قليل.
قلت: وقد يستأنس لرفع الحرج في نسيان التسمية بقوله صلى الله عليه وسلم المأثور: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" الحديث، أىِ المؤاخذة بهما. وأيضًا جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
(2)
. قال الله تعالى: قد فعلت. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: ونحر إبل وذبح غيره إن قدر، وجاز للضرورة إلا البقر فيندب الذبح، قال المواق: من المدونة، قال مالك: لا يذبح ما ينحر ولا ينحر ما يذبح خلا البقر، فإن النحر والذبح فيها جائز، واستحب مالك فيها الذبح. قال مالك: والغنم تذبح ولا تنحر، والإِبل تنحر ولا تذبح، فإن نحرت الغنم أو ذبحت الإِبل من غير ضرورة لم تؤكل. وقال أشهب تؤكل. ا. هـ. منه. قال ابن مفلح الحنبلي: ونقل الميموني: إن ابن عباس وابن عمر قالا: النحر في اللبة، والذبح في الحلق، والنحر والذبح في البقر واحد. قال: والمستحب أن ينحر البعير، ويذبح ما سواه بغير خلاف لقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(3)
. ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
(4)
. قال: وأمر
(1)
سورة الأنعام: 121.
(2)
سورة البقرة: 286.
(3)
سورة الكوثر: 2.
(4)
سورة البقرة: 67.
إلَّا الْبَقَرَ فَيُنْدَبُ الذَّبْحُ؛ كالْحَدِيدِ وَإحْدَادُهُ، وَقِيَامُ إِبِلٍ، وضَجْعُ ذِبْحٍ عَلَى أيْسَرَ وَتَوَجُّهُهُ، وإيضَاحُ المَحَلِّ، وَفَرْىُ ودَجَيْ صَيْدٍ أُنْفذَ مَقْتَلُهُ (1).
= النبي صلى الله عليه وسلم بالنحر لأن أغلب ماشية قومه الإِبل. وأمر بنو إسرائيل بالذبح لأن غالب ماشيتهم البقر. قال: ولأنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن، وذبح كبشين أملحين بيده. متفق عليه. ا. هـ. منه.
قلت: الذي هو أولى بالصواب أن يكون هذا التفصيل على الاستحباب، كما تبين لك أنه عمل النبي صلى الله عليه وسلم. وأن الوقوف معه؛ وأنه لا يجزئ غيره، مذهب ظاهري. وقد نسب ابن قدامة ذلك إلى أهل الظاهر. فالذي يقتضيه الدليل أنه إذا ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح، جاز. قال ابن قدامة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "امْرُرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ". وقالت أسماء: نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة. وعن عائشة رضي الله عنها: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة. قال: ولأنه ذكاه في محل الذكاة، فجاز أكله كالحيوان الآخر. ا. هـ. منه والله الموفق.
(1)
وقوله: كالحديد وإحداده، هو من تمام هذا الباب، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". رواه مسلم عن شداد بن أوس. قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ" الحديث. فذكره. قال القرطبي: قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها؛ فلا يصرعها بعنف، ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإِباحة والقربة، وتوجيهها إلى القبلة، والإِجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها وتركها حتى تبرد، والاعتراف لله تعالى بالمنة والشكر له بالنعمة، بأنه سخر لنا ما لوشاء سلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء حرمه علينا. ا. هـ. منه.
وقوله: وقيام إبل وضجع ذبح على أيسر وتوجيهه، وإيضاح المحل، قال المواق: في كتاب محمد: السنة أخذ الشاة برفق؛ يضجعها على شقها الأيسر للقبلة؛ رأسها مشرق، يأخذه بيده اليسرى جلد حلقها من اللحي الأسفل، فيمده لتبين البشرة، فيضع السكين حيث الجوزة في الرأس، ثم يسمي الله ويمر السكين مرًّا مجهزًا من غير ترديد، فيرفع يده بدون نخع إلى أن قال: من المدونة: قال ابن القاسم: من السنة توجيه الذبيحة إلى القبلة، فإن لم يفعل أكلت، وبئس ما صنع. وقال ابن مفلح: ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة. قال ابن عمر وابن سيرين؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما =
وَفِي جَوَازِ الذَّبْحِ بِالْعَظْمِ وَالسِّنِّ، أوْ إنِ انْفَصَلَا أوْ بِالْعَظْمِ وَمَنْعِهِمَا خِلَافٌ (1). وَحَرُمَ اصْطِيَادُ مَأْكُولٍ لا بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ (2).
= ضحى وجه أضحيته إلى القبلة وقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}
(1)
.
تنبيه: يكره للذابح أن يحد السكين والحيوان يبصره، لأن عمر رأى رجلًا وضع رجله على شاة وهو يحد السكين، فضربه حتى أفلتت الشاة. ويكره ذبح شاة وأخرى تنظر إليك، ويكره سلخ الشاة قبل أن تبرد وتزهق نفسها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا تَعْجَلُوا الْأنْفُسَ قَبْلَ أَنْ تُزْهَقَ". ضعيف. رواه الدارقطني. وعن عمر معناه: لأن فيه تعذيبًا للحيوان.
(1)
وقوله: وفي جواز الذبح بالعظم والسن ألخ. الحديث المتفق عليه عن رافع بن خديج، وقد تقدمت الإشارة إليه مرارًا، فيه ما نصه:"مَا أنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْس السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذلِكَ؛ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحبشَةِ". قال البغوي: أما السن والظفر فلا يقع بهما الذكاة. وفي تعليله صلى الله عليه وسلم السن بأنه عظم، دليل على أن القوم كان متقررًا عندهم أن الذكاة لا تحصل بشيء من العظام، وهو قول أكثر أهل العلم، سواء كان السن والعظم بائنين عن الإِنسان، وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك: إن ذكى بالعظم فمر مرًا أجزأه. وعلل النهي عنه بأنه لأن الغالب من أمر العظم أنه لا يقطع المذابح، ولا يمور فيها مور الحديد. ا. هـ. منه بتصرف.
وقال ابن قدامة: وأما العظم غير السن، فمقتضى إطلاق قول أحمد والشافعي وأبي ثور، إباحة الذبح به. وهو قول مالك وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وحرم اصطياد مأكول إلا بنية الذكاة، هو لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْر حَقِّهَا، سَأَلَهُ اللهُ عَنْ قَتْلِهِ". قيل: يا رسول الله، وما حقها؟. قال:"أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا، وَلَا يَقْطَعْ رَأْسَهَا فَيَرمِيَ بِهَا". رواه البغوي، والإِمام أحمد، والشافعي، والدارمي، والطيالسي، والنسائي، والحاكم في المستدرك، كلهم من طريق ابن عيينة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
سورة الأنعام: 79.
إلَّا بِكَخِنْزِيرٍ فَيَجُوزُ، كَذَكَاةِ مَالَا يُؤْكَلُ إن أَيسَ مِنْهُ، وَكُرِهَ ذَبْحٌ بِدَوْرِ حُفْرَةٍ وَسَلْخٌ أوْ قَطْعٌ قَبْلَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِ مُضَحٍّ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ. وَتَعَمُّدُ إِبَانة رَأسٍ (1)، وتُؤُوِّلَتْ أيضًا عَلى عَدَمِ الأكْلِ إنْ قَصَدَهُ أوَّلًا، وَدَونَ نِصْفٍ أُبينَ مَيْتَةٌ إلَّا الرأسَ.
وَمَلَكَ الصَّيْدَ الْمُبَادِرُ، وَإنْ تَنَازَعَ قَادِرُونَ فَبَيْنَهُمْ، وَإِنْ نَدَّ وَلَوْ مِنْ مُشْتَرٍ فَلِلثَّانِي، لَا إِنْ تَأنَّسَ وَلَمْ يَتَوَحَّشْ. واشْتَرَكَ طَارِدٌ مَعَ ذِي حِبَالَةٍ قَصَدَهَا، وَلَوْلَاهُمَا لَمْ يَقَعْ بِحَسَبِ فِعْلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَأيسَ مِنْهُ فَلِرَبِّهَا، وعلى تَحْقِيقٍ بِغَيْرِهَا فَلَهُ كالدَّار إلَّا أن لا يَطْرُدَهُ لَهَا فَلِرَبِّهَا، وَضَمِنَ مَارٌّ أمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ وَتَرَكَ (2). كَتَرْكِ تَخْلِيصِ مُسْتَهْلَكٍ مِنْ نَفْسٍ أوْ مَالٍ بِيَدِهِ أو شَهَادَتِهِ أوْ بِإِمْسَاكِ وَثيقَةٍ أوْ تَقْطِيعِهَا، وَفِي قَتْلِ شاهِدَيْ حَقٍّ تَرَدُّدٌ، وَتَرْكِ مُوَاسَاةٍ وَجَبَتْ بِخَيْطٍ لِجَائِفَةٍ، وَفَضْلِ طَعَامٍ
(1)
وقوله: وتعمد إبانة رأس. قال المواق: من المدونة: من ذبح فرامت يده حتى بان الرأس أكلت ما لم يتعمد. قال ابن القاسم: ولو تعمد ذلك وبدأ في قطعه بالحلقوم والأوداج أكلت، لأنها كذبيحة ذكيت ثم عجل قطع رأسها قبل أن تموت. ا. هـ. منه. وفي البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن الفَرْس في الذبيحة. قال أبو عبيدة: الفرس هو النخع، يقال منه: فرست الشاة ونخعتها. وذلك أن ينتهي الذابح إلى النخاع، وهو عظم بالرقبة. ويقال أيضًا: بل هو الذي يكون في الصلب شبيه بالمخ. ا. هـ. منه.
قلت: وقد تقدم النهي عن القطع من الذبيحة قبل أن تموت؛ ففي الحديث: "لَا تَعْجَلُوا الْأنْفُسَ حَتَّى تُزْهَقَ". ولعل كراهة إبانة الرأس من هذا القبيل. وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: وضمن مار أمكنته ذكاته وترك، إلى قوله: وله الثمن إن وجد، هذه الفروع مبنية على قاعدة أصولية، هي تقريرهم أن الترك فعل يكلف صاحبه بموجبه؛ لأن التكليف لا يقع إلا بالأفعال. وعقدها شيخ مشائخنا الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في مراقي السعود بقوله: =
أوْ شَرَابٍ لِمُضْطَرٍّ، وَعُمُدٍ، وخَشَبٍ فَيَقَعَ الجِدَارُ، وَلَهُ الثَّمَنُ إنْ وُجِدَ، وَأُكِلَ
= ولا يكلف بغير الفعل
…
باعث الأنبيا ورب الفضل
فكفنا بالنهي مطلوب النبي
…
والكف فعل في صحيح المذهب
له فروع ذكرت في المنهج
…
وسردها من بعد ذا البيت بجي
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما
…
وعَمَدٍ، رسم شهادةٍ وما
عَطَّلَ نَاظر وذو الرهن كذا
…
مفرط في العلف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعلم
…
وليّها وشبهها مما علم
وهذه القاعدة التي تبنى عليها هذه الفروع خلافية، وبنيت على شطرها المرجح وهي قولهم: من قدر على إيصال نفع لغيره فلم يفعل، هل يعد تركه ذلك فعلًا يكلف بموجبه أو لا؟. وعقدها الشيخ على الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
وهل كمن فعل تارك كمَنْ
…
له بنفع قدرة لكن كمَنْ
فقول الناظم من شرب، يعني به من عنده فضل شراب، فمنعه من مضطر حتى مات عطشًا، فهل يضمن ديته أو لا؟. بناء على هذه القاعدة. وقوله: أو خيط، يريد به من عنده خيط حرير، فطلبه من به جائفة. يريد أن يخيطها به، فمنعه منه حتى مات بسببها، فهل يضمن ديته أو لا؟. وقوله: ذكاةٍ، يريد به من مر على صيد لم ينفذ مقتله، وأمكنته ذكاته فلم يفعل حتى مات، فهل يضمنه أو لا؟. ومن عنده فضل ماء، ولجاره زرع يخاف عليه، فلم يمكنه من سقيه حتى تلف، فهل يضمنه أو لا؟. ومن عنده عُمُد، فطلبها صاحب جدار خاف سقوطه، فلم يفعل حتى سقط الجدار، فهل يضمن بناء على أن الترك فعل، أو لا؟. ومن أمسك وثيقة حق لشخص حتى تلف حقه ذلك. فهل يضمن أو لا؟. ومن عطل كراء الرهن، والحال أن كراءه ذوبال، هل يضمن أو لا؟. ومن دفعت له دابة وعلفها، فقيل له: علّفها واسقها. فلم يفعل حتى ماتت، هل يضمن أو لا؟. فكل هذه الفروع مبنية على هذا الأصل. وقد مشى المصنف على شطرها الراجح؛ وهو أن الترك فعل يكلف بموجبه. وقد تقدم لك ما قرره شيخنا سيدي عبد الله العلوي في مراقي السعود. ا. هـ.
وقول الناظم: وكالتي ردت بعيب ألخ. يشير به إلى امرأة تزوجها رجل فردها بالعيب، فوجد أن =
المُذَكَّى وإِنْ أُيسَ مِنْ حَيَاتِهِ بِتَحَرُّكٍ قَويٍّ مُطْلَقًا وَسَيْلِ دَمٍ إنْ صَحَّتْ (1)، إلَّا المَوْقُوذَةَ وَمَا مَعَهَا المنْفُوذَةَ المَقَاتِلِ؛ بِقَطْعِ نُخَاعٍ ونَثْرِ دِمَاغٍ وحُشْوَةٍ وَفَرْي وَدَجٍ
= وليها - الذي استلم الصداق - صار معدمًا أو فقد فلم يوجد، فهل يرجع الزوج عليها هي بالصداق أو لا؟. قال شيخنا محمد الأمين بن أحمد زيدان: وإيضاح ذلك أنها كانت عالمة بالعيب، فتركت الإِعلام به، فعلى أن الترك فعل يكلف صاحبه بموجبه، رجع عليها بالصداق الذي استلمه وليها. وهذه القاعدة أصلها قوله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}
(1)
. وقول المصنف قبل: وملك الصيد المبادر يريد به - والله أعلم - إن الصيد الذي لم يسبق عليه ملك لأحد، يكون ملكًا لمن بادر وضع اليد عليه، وإن رآه غيره قبله. وفي مثل وضع اليد أن يسد عليه حجرة مثلًا، ويذهب ليأتي بما يستعين به عليه، فيجيء أحد ويفتح الغرفة ويأخذه. فهو لمن سد عليه الباب أولًا. ومثله الصيد الواقع في الحبالة بدون طرد من أحد.
وقوله: وإن ندّ ولو من مشتر فللثاني، يعني أن الصيد إذا هرب ممن صاده أولًا - من غير اختياره - بل ولو ند من شخص اشتراه ممن صاده أو من غيره، فاصطاده آخر، فهو للصائد الثاني إذا لم يكن تأنس عند الأول، فإن كان تأنس عند الأول فهو له، وعليه إعطاء الثاني أجرة تحصيله.
وقوله: واشترك طارد مع ذي حبالة قصدها ألخ. يريد به - والله أعلم - أن صاحب الصيد الذي يطارده بقصد إيقاعه في حبالة آخر، ولولا طرد المطارد والحبالة معًا، لم يقع هذا الصيد لأي منهما، يكون شركة بينهما بحسب فعلهما، بالرجوع في ذلك إلى أهل المعرفة. وهذه الفروع بمحض الاجتهاد. والله أعلم بدليلها. وهو ولي التوفيق.
(1)
وقوله: وأُكِلَ المذكى وإن أيس من حياته بتحرك قوي، قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن يحيى بن حبان، عن أبي مرة - مولى عقيل بن أبي طالب - قال: رجعت إلى أهلي - وقد كان لهم شاة - فإذا هي ميتة، فذبحتها فتحركت، فأتيت أبا هريرة فذكرت ذلك له، فأمرني بأكلها. ا. هـ. وحدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير في الذبيحة قال: إذا مصعت بذنبها، أو طرفت بعينها، أو تحركت فقد حلت. ا. هـ. وحدثنا عباد =
(1)
سورة الفرقان: 30.
وثَقْبِ مُصْرَانٍ، وفِي شَقِّ الوَدَجِ قَوْلَانِ، وَفِيهَا أكْلُ مَا دُقَّ عُنُقُهُ، أوْ مَا عُلِمَ أنَّهُ لَا يَعِيشُ إنْ لَمْ يَنْخَعْهَا (1).
= ابن العوام، عن حجاج عن عطاء. قال: إذا ذكيت فحركت ذنبًا أو طرفًا أو رجلًا فهي ذكية. ا. هـ.
وأخرج ابن أبي شيبة أسانيد بذلك عن الحسن، وعامر بن عبدة، وعلي، والضحاك، وسعيد بن جبير. والله ولي التوفيق.
وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: إذا ذبحتها فمصعت ذنبها أو تحركت فحسبك. وذكر عبد الرزاق بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا قال: إذا ضربت بذنبها أو برجلها، أو طرفت بعينها فهي ذكي.
وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال لي: الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منها، قال: إذا ذكيتها وعينها تطرف، أو قائمة من قوائمها فلا بأس بها.
وروى البيهقي بسنده عن زيد عن ثابت قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شاة نيب فيها الذئب فأدركت وبها حياة فذكيت؟. فامر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها.
قال البيهقي: ويذكر عن الزهري عن ابن المسيب أنه كان يقول: الذكاة: العين تطرف والذنب يتحرك والرجل تركض. قال: وبمعناه قل عبيد بن عمير، وطاوس، وقتادة. وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: وفيها أكل ما دق عنقه أو علم أنه لا يعيش إن لم ينخعها، قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع عند قول المقنع: وكل ما وجد فيه سبب الموت كالمنخنقة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إذا أدرك ذكاتها، وفيها حياة مستقرة أكثر من حركة المذبوح، حلت. قال: لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}
(1)
. ولحديث جارية كعب، ولما روى سعيد: حدثنا سفيان، حدثني الزبير بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال: أتيت ابن عباس فسمعته يقول في شاة وقع قصبها - أي أمعاؤها بالأرض - فأدركها فذبحها بحجر: يلقي ما أصاب الأرض ويأكل سائرها. وسواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال ابن قدامة بعد أن ذكر: وسواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب. ولعموم الآية أيضًا. ا. هـ. وبالله التوفيق.
(1)
سورة المائدة: 3.
وَذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، إنْ تَمَّ بِشَعَرٍ (1)، وإنْ خَرَجَ حَيًّا ذُكِّيَ (2) إلَّا أنْ يُبَادَرَ فَيَفُوتَ، وَذُكِّيَ المُزْلَقُ إنْ حَيَّ مِثْلُهُ (3)، وافْتَقَرَ نَحْوُ الْجَرادِ لَهَا بِمَا يَمُوتُ بِهِ، ولَوْ لَمْ يُعَجِّلْ كَقَطْعِ جَنَاحٍ (4).
(1)
وقوله: وذكاة الجنين بذكاة أمه إن تم بشعر، أخرج البغوي بسنده من حديث أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله، تنحر الناقة، وتذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنُلقيه أم نأكله؟ قال:"كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ". قال البغوي: هذا حديث حسن. وأبو الوداك اسمه جبر بن نوف. قال شعيب معلقًا: هذا حديث صحيح بطرقه وشواهده. أخرجه أبو داود، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي أيوب، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبي الدرداء، وأبي أمامة. انظر تخريجها في نصب الراية ج 4/ ص 189 - 191.
قال البغوي: وفي هذا الحديث دليل على أن السنة في الإِبل النحر، وفي البقر والشاة الذبح. وفيه أن من ذبح حيوانًا، فخرج من بطنها جنين ميت يكون حلالًا.
وقوله إن تم بشعر، هو لما روي عن ابن عمر قال: إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها في ذكاتها، إذا تم خلقه ونبت شعره. رواه البغوي في شرح السنة. وهو في مصنف عبد الرزاق عن ابن عمر: إذا خرج الجنين ميتًا وقد أشعر أو وبَّر، فذكاته ذكاة أمه. وسنده صحيح. وأخرج عبد الرزاق أيضًا. عن ابن عيينة عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. قال شعيب: وسنده صحيح. ا. هـ.
(2)
وقوله: وإن خرج حيًا ذكي، أخرج في الموطإ: عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها في ذكاتها، إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، فإذا خرج من بطن أمه ذبح حتى يخرج الدم من جوفه. ا. هـ.
(3)
وقوله: وذكي المزلق أن حمي مثله، هو لما روي عن ابن القاسم؛ في بقرة أزلقت ولدها، فإنه ينظر، فإن كان مثل ذلك يحيى ويعيش، لم يكن بأكله بأس إذا ذكي، وإن كان مثله لا يعيش، لم يؤكل وإن ذكي. ا. هـ. المواق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: وافتقر نحو الجراد لما يموت ولو لم يعجل، قال المواق: من المدونة، أرأيت دواب الأرض كلها خشاشها، وعقاربها، ودودها وحياتها وشبهه؟. قال: قال مالك لا بأس بأكل الحيات، إذا ذكيت في موضع ذكاتها، إن احتاج إليها، ولم أسمع منه في هوام الأرض شيئًا إلا أنه قال في خشاشها: إن مات في طعام أو ماء فلا يفسده، وما لا يفسدهما فلا بأس بأكله إذا ذكي كالجراد. قال مالك: ولا يؤكل ميتة الجراد ولا ما مات منه في الغرائر بعد أخذه حيًا، ولا يؤكل منه إلا ما قطف رأسه أو قلي أو شوي حيًا، وإن لم يقطع رأسه فهو حلال. قيل: أفتطرح في النار وهي حية؟. قال: لا بأس بذلك وهو ذكاته. قال ابن القاسم: ولو قطعت أرجله وأجنحته فمات لذلك لم يؤكل. ا. هـ. منه. قلت: والقول بعدم أكل الجراد إذا مات بغير سبب هو رواية عن الإمام أحمد. وهو قول الإمام مالك. ويروى أيضًا عن سعيد بن المسيب، وهذا القول منهم اجتهاد مقدوح فيه، بما ورد نصًا عنه صلى الله عليه وسلم:"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ". الحديث ولم يفصل، لذلك فإن ميتة الجراد مباحة بهذا النص. والله ولي التوفيق.
كتاب الأطعمة
بَابُ في المباح
الْمُبَاحُ طَعَامٌ طَاهِرٌ (1)، والْبَحْرِيُّ وإنْ مَيْتًا (2)، وَطَيْرٌ وَلَوْ جَلَّالَةً وَذَا مِخْلَبٍ (3)،
(1)
قوله: المباح طعام طاهر، هذا يشمل كل ما كانت العرب تسميه طيبًا، مما لم ينص على تحريمه، فكل ما كانت العرب تستطيبه فهو حلال لقوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}
(1)
. يعني ما يستطيبونه. ولقوله تعالى في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
(2)
وكل ما استخبثته العرب فهو حرام؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(3)
. على أن الإِمام مالكًا أخذ من آية المائدة أن الحلال كل ما لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة، وعند الشافعي؛ الحلال المستلذ والحرام المستخبث بدليل آية الأعراف، فإذا ثبت أن كل المستخبثات حرام، دخل مثل الحشرات: كالديدان والجعلان، وبنات وردان، والخنافس، والفأر، والعقارب والحيات - خلافًا لما ثبت عن الإمام وابن أبي ليلى والأوزاعي - في هذا كله. والحجة عندهم في إباحته منطوق قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}
(4)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ". الحديث.
قلت: وقد أناط المذهب الإِباحة حال الاختيار أكلًا وشربًا بالطهارة، وقد تقدم بيان الطاهر في الفصل الأول من المختصر؛ فكل طاهر مما لا يحتاج إلى ذكاة من جميع الأطعمة المعتادة فأكله جائز، ولا يخفاك الدليل مما تقدم بيانه. والله الموفق.
(2)
وقوله: والبحري وإن ميتًا، أي والبحري وإن وجد طافيًا ميتًا بنفسه؛ لما رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجه، وابن خزيمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر فقال:"هُوَ الْحِلُّ مَاؤُه الطَّهُورُ مَيْتَتُهُ". وروى =
(1)
و
(3)
سورة الأعراف: 157.
(2)
سورة المائدة: 4.
(4)
سورة الأنعام: 145.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُحِلَّ لَكُمْ مَيْتَتَانِ ودَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطُّحَالُ". وقد روى هذا الحديث سليمان بن بلال - أحد الأثبات - عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفًا، وصحح الموقوف أبو زرعة الرازي وأبو حاتم. قال ابن حجر في التلخيص: الرواية الموقوفة هي في حكم المرفوع؛ لأن الصحابي إذا قال: أحل لنا، وحرم علينا كذا، أو أمرنا ونحو ذلك كان في معنى المرفوع. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: وطير ولو جلّالةً وذا مخلب، قال الحطاب قال في المصباح: الجلالة البقرة التي تتبع النجاسات. قال ابن عبد السلام: والفقهاء استعملوها في كل حيوان يستعمل النجاسة. وقال ابن الأثير في غريب الحديث: الجلالة الحيوان الذي يأكل العذرة. والجلة: البعر. فوضع موضع العذرة. وفي الحديث نهي عن لبن الجلالة. واختلف في الحيوان يصيب النجاسة؛ هل تنقله عن حكمه قبل أن يصيبها؟. فقيل: لا، بل هو على حكمه في الأصل؛ في أسآرها وأعراقها ولحومها وألبانها وأبوالها. وقيل: تنقله، وجميع ذلك نجس.
قلت: والأصل في الاختلاف - في عرقها ولبنها وبولها - راجع إلى قاعدة خلافية هي قولهم: هل انقلاب أعراض النجاسة له تأثير في الأحكام أو لا يؤثر؟. وقد عقدها الشيخ علي الزقاق في المنهج بقوله:
وهل يؤثر انقلاب كعرق
…
ولبنٍ، بَوْلٍ، وتفصيل أحَقّ
قالوا: وبه جرى الخلاف في بول، ولبن، وعرق، ولحم، وبيض الجلالة وفي عرق السكران، وفي لبن المرأة الشاربة، وفي الزرع يسقى بالماء النجس، والنحلة تأكل النجس، والخمر إذا تحجرت أو خللت. قالوا: والمختار في ذلك أن يكون فيه تفصيل؛ فما استحال من ذلك مثلًا إلى صلاح، فهو طاهر كاللبن والبيض، وما استحال منه إلى فساد كالروث والبول فهو نجس. والله الموفق.
وقول المصنف: وطير، قال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله؛ كالرخام والعقبان والنسور والأحدية والغربان، وجميع سباع الطير وغير سباعها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكلها، قال: ولو جلالة. ابن المواز: لا بأس بأكل الدجاج التي تأكل النتن. ومن المدونة: لا بأس بأكل الجلالة من الإِبل والبقر والغنم، كالطير التي تأكل الجيف. وقال ابن بشير: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المذهب أن الطير كله مباح؛ ذو المخلب وغيره. ا. هـ. منه.
قلت: وكيف لنا بحديث ابن عباس عند مسلم. قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وهو عند ابن أبي شيبة قال: حدثنا هشيم بن أبي بشر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: نهي عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير، قال وحدثنا هاشم بن القاسم، عن عكرمة، عن عمارة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطَير.
ولا يخفى على أحد أن الإِمام ومن وافقه؛ كالليث، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد، يحتجون في إباحة ذي المخلب من الطير بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}
(1)
. وأمثالها في النحل والبقرة. قالوا: لا يسعنا أن نعمد إلى هذا الحصر للمحرمات الذي تكرر نزوله بمكة في الأنعام والنحل، وفي المدينة في البقرة، فنطرحه لخبر آحاد. ويمكن الجمع بين الدليلين بأن يحمل ما ورد في الحديث من النهي على الكراهة للتنزيه، وأن تترك الآيات على ظاهرها وعلى عمومها، غير أنه لا يمكن إبقاء الغراب والحدأة في هذا العموم - حسب ما أراه - وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهما من الفواسق قال:"خَمْسٌ مِنَ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، والعَقْرَبُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة. وورد نحو هذا عن عائشة في صحيح مسلم والنسائي وابن ماجه بلفظ: "الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْحُدَيَّاتُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ". ومثله لأحمد عن ابن عباس. فهذه الفواسق محرمة الأكل، والنبي صلى الله عليه وسلم أباح قتلها في الحرم. ومعلوم أنه لا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: من يأكل الغراب؟. وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقًا.
وعلى كل حال، فإن من أدلة المذهب على أن الطير كله حلال، ما روى ابن أبي شيبة قال: حدثنا عباد عن حجاج أنه كان لا يرى بالطير كله بأسًا، إلا إن تقذر منه شيئًا. وحدثنا عباد عن حجاج عمن سمع إبراهيم، مثله. وحدثنا وكيع عن أبي مكين عن عكرمة قال: ما لم يحرم عليك فهو لك حلال. انتهى وبالله تعالى التوفيق.
(1)
سورة الأنعام: 145.
وَنَعَمٌ (1)، وَوَحْشٌ لَمْ يَفْتَرِسْ؛ كَيَرْبُوعٍ (2)، وَخُلْدٍ وَوَبْرٍ، وَأرْنَبٍ (3)، وقُنفُذٍ، وَضُرْبُوبٍ، وَحَيَّةٍ أُمِنَ سُمُّهَا وخَشَاشُ أرْضٍ (4).
(1)
ونعم، يعني به الأزواج الثمانية المذكورة في قوله تعالى:{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}
(1)
الآيات من الأنعام.
وقال بعضهم: بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء، وبقر الوحش، والحمر الوحشية وغير ذلك. قال الطبري وذكره غيره عن السدي والرُّبيِّع، وقتادة، والضحاك، قال: فكأنه قال: أحلت لكم الأنعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الأزواج الثمانية، وما انضاف إليها من سائر الحيوان، يقال له أنعام بمجموعه معها. ا. هـ. من القرطبي.
(2)
وقوله: ووحشي لم يفترس كيربوع، يعني به الغزال مثلًا وحمر الوحش وبقره، وسيأتي حكم الوحش المفترس. وأما اليربوع، فقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا ابن مبارك عن معمر، عن هشام عن أبيه قال: لا بأس بأكل اليربوع. وحدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن هشام عن أبيه قال: لا بأس به. وحدثنا زيد بن حباب عن حماد بن سلمة، عن قتادة عن ابن عباس قال: لا بأس باليربوع والخلد. قال المواق: هو فأر أعمى يكون بالصحراء. والوبْر، قال: دويبة صغيرة أصغر من السنور وأكبر من اليربوع. والضربوب، حيوان ذو شوك قريب من خلقة الشاة. والقنفذ - بضم القاف وفتحها - دويبة أكبر من الفأر؛ كلها شوك إلا رأسها وبطنها ويديها ورجليها. ودليل حلّية هذه المذكورات، ما روي عن ابن عباس أنه قال: أحل الله حلالًا. وحرم حرامًا، وسكت عن أشياء، فما سكت عنه فهو عفو عنه. أخرجه ابن أبي شيبة. وقد أخرج البيهقي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فتلا:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}
(2)
. الآية. قال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبِيثَاتِ". فقال فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال. قال البيهقي: هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإِسناد وهو إسناد فيه ضعف. ا. هـ. =
(1)
سورة الأنعام 142 - 144.
(2)
سورة الأنعام 145.
وَعَصِيرٌ، وفُقَّاعٌ، وَسُوبيَا، وعَقِيدٌ أُمِنَ سُكْرُهُ (1)، ولِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ، غَيْرَ
= (3) وقوله: وأرنب، هي دويبة قدر الهدهد؛ في أذنيها طول، ورجلاها أطول من يديها. روى البيهقي في السنن بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنبًا بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة، فذبحها وبعث بوركيها وفخذيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها. قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن أبي الوليد، وأخرجه مسلم من أوجه أخرى عن شعبة نحو حديث أبي الوليد، ورواه عفان عن شعبة، قال فيه: قلت: أكلها؟. قال: قبلها. والله الموفق.
(4)
وقوله: وحية أمن سمها وخشاش أرض، قال الحطاب: في المدونة، في أول كتاب الذبائح: وإذا ذكيت الحيات في موضع ذكاتها فلا بأس بأكلها لمن احتاج إليها، ولا بأس بأكل خشاش الأرض وهوامها، وذكاة ذلك كذكاة الجراد.
قلت: لا يجوز أكل السم بحال من الأحوال لأنه ضار بالجسم، والقاعدة المسلمة أن أصل كل ما يضر المنع، قالوا: كأكل السموم وأكل المحروق، علمًا بأنه تقدم حديث:"خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَم". ولفظه عند أبي داود عن أبي هريرة: "خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" .. ولو كانت الحية من الصيد المباح لم يبح قتلها لأن الله تعالى يقول: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
(1)
.
(1)
وقوله: وعصير وفقاع، وسوبيا وعقيد أمن سكره، العصير: معصور ماء العنب أول عصره. والفقاع: شراب يتخذ من القمح والتمر. والسوبيا: شراب يميل إلى الحموضة بما يضاف إليه من عجوة وغيرها. والعقيد: هو ماء العنب يغلى على النار حتى ينعقد ويذهب إسكاره، ويسمى بالرُّب الصامت. أي يجوز شرب ما أمن سكره من هذه الأشياء. والدليل على إباحة شرب مالا يسكر من الأنبذة الحديث المتفق على صحته، أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد السَّاعديُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمهم - وهي العروس - قال: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. أنقعت له تمرات من الليل، فلما أكل سقته إيَّاه. ا. هـ. =
(1)
سورة المائدة: 95.
آدَمِيٍّ وَخَمْرٍ إِلَّا لِغُصَّةٍ، وقَدَّمَ الميتَ عَلَى خِنْزِيرٍ (1)،
= وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح الشراب كله؛ الماء والنبيذ، والعسل، واللبن. ا. هـ.
وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث عائشة عن طريق محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي قالت: كنت أنْبِذُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء له؛ ننبذه غدوة فيشربه عشاء، وننبذه عشاء فيشربه غدوة. ا. هـ. وبالله التوفيق.
(1)
وقوله: وللضرورة ما يسد ألخ. دليله قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(1)
. الآية. قال المواق: ونص الموطإ: قال مالك: من أحسن ما سمعت في الرجل يضطر إلى الميتة، أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها، فإن وجد عنها غنى طرحها، قال أبو عمر: حجة مالك أن المضطر ليس ممن حرمت عليه الميتة، فإذا كانت حلالًا له أكل منها ما شاء، حتى يجد غيرها فتحرم عليه. ا. هـ.
وقوله: وقدم الميتة على خنزير، لأنها محرمة لعارض ولأن حرمته أصلية. واختلف العلماء في العاصي المتلبس بالمعصية؛ هل يرخص له في أكل الميتة أو لا؟. حجة من نفى قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}
(2)
. الآية. وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}
(3)
. الآية. وأجاب القائلون بأنه يستفيد، بان المراد بالآية غير باغ في نفس الضرورة، بأن يتجانف ويميل في الباطن لشهوته، ويتمسك في الظاهر بالضرورة.
قلت: قد عقد الشيخ علي الزقاق هذه القاعدة في المنهج بقوله:
وهَلْ تَعَدَّى رُخْصَةُ مَحَلَّهَا
…
عَلَيْهِ كَالنَّجَسِ هَلْ أبْطَلَهَا
مَعْصِيَةٌ كَسَفَرٍ لُبْسٍ وَهَلْ
…
كَذَا كَرَاهَةٌ تَردُّدٌ نُقِلٌ
قال شيخ مشائخنا الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني هنا: والأصح عدم الترخيص =
(1)
سورة الأنعام 119.
(2)
سورة البقرة: 173.
(3)
سورة المائدة: 3.
وَصَيْدٍ لِمُحْرِمٍ لَا لَحْمِهِ، وَطَعَامَ غَيْرٍ إنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهِ (1). وَالْمُحَرَّمُ النَّجِسُ (2) وَخِنْزِيرٌ (3) وَبَغْلٌ وَفَرَسٌ وَحِمَارٌ وَلَوْ وَحْشِيًّا دَجَنَ (4).
للعاصي ما لم يتب، إلا في تناول الميتة حفظًا للنفس، بل إن ترك الأكل معصية. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وصيد لمحرم لا لحمه، وطعام غيرٍ إن لم يخف القطع وقاتل عليه، يريد به - والله أعلم - أن المضطر يقدم أكل الميتة - إذا كان محرمًا - على قتل صيد تيسر له، لكنه إن وجد لحم صيد قتله غيره قدمه على الميتة، وقدم عليها طعام الغير إن وجده وأمن رذيله من قطع أو ضرب. وقال أنه يجوز له أن يقاتل صاحب الطعام عليه، بعد أن يعلمه باضطراره، وكان صاحبه لا يحتاجه. وهذه فروع مسلمة طريقها الاجتهاد. وبالله التوفيق.
(2)
وقوله: والمحرم النجس، أي لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(1)
. ولهذه الآية قال بعض العلماء بحرمة كل ما تستخبثه النفس؛ فحرموا لذلك الديدان والجعلان، وبنات وردان، والخنافس، والفأر، والوزغ، والحرباء، والجراذين والعقارب، والحيات. وعلى هذا الجمهور أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
قلت: وهو الصواب إن شاء الله، بدليل الآية آنفة الذكر. والله الموفق.
(3)
وخنزير، إجماع المسلمين على ذلك لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}
(2)
. وتكررذلك في النحل والبقرة، فهو حرام أصالة، لا يحل بوجه من الوجوه.
قلت: وقد أخبرني سيد المختار بن يحيى بن المصطلف - عضو المجلس الوطني الفرنسي، عن بعض أقاليمها ما وراء البحار - أخبرني هذا الأخ على وجه الإِستفتاء، أثناء مقامي بباريس؛ أن أحد النواب الموريتانيين من إحدى العوائل المعتبرة لدى المستعمر، أفتاه أن لحم الخنزير إنما حرم بسبب وجود الدودة الشريطية (LATENIA) في لحمه؛ وذلك لخطورتها على الصحة. لا جرم لما كانت الأفران الكهربائية متوفرة، وهي أحيانًا تصل إلى أكثر من ألف وحدة حرارية، لم يبق على الجسم خطر بعد ذلك من الدودة الشريطية، ولذلك يقول هذا المفتري أنه يجوز أكله - والعياذ بالله - فأجبته بأن هذا =
(1)
سورة الأعراف: 157.
(2)
سورة المائدة: 3.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= افتراء وجرأة على الله، وأن هذا الملعون خبيث الأصل، وأن حرمته أصلية، وليس تحريمه بعارض، وأنه لا يستحله إلا كافر بالله تعالى، مكذب لكتاب الله، ولقد أعرضت عن ذكر هذا المفتري باسمه، طمعًا مني أن يكون تاب من هفوته هذه، ولعله. وبالله التوفيق.
(4)
وقوله: وبغل وفرس وحمار، أما الحمار فهو محرم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه. قال ابن عبد البر: وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الحمر الأهلية عليٌّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي، وروي ذلك عن هؤلاء بأسانيد صحاح حسان. قال: وما روي عن غالب بن الحر
(1)
، لا يعرج على مثله مع ما عارضه، ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهم في مجاعتهم، وقد بين علة تحريمها المطلق بأنها تأكل العذرات. قال عبد الله بن أبي أوفى: حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبتة من أجل أنها تأكل العذرة. متفق عليه. ا. هـ. مغني ابن قدامة.
قلت: وقول ابن عبد البر وما روي عن غالب بن الحر، يشير به إلى ما أخرجه أبو داود في سننه بسنده عن غالب بن الحر، قال: أصابتنا سنة، فقلت: يا رسول الله، أصابتنا سنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية. فقال:"أَطْعِمْ أهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ، إِنَّمَا حَرَّمْتُهَا مِنْ أجْلِ جَوَّالِي الْقَرْيَةِ". هذا لفظ حديث غالب بن الحر، ويظهر، بوضوح، من لفظه ما ذكره ابن عبد البر من احتمال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهم من أجل المجاعة التي حلت بهم، ألا ترى إلى قوله: وقد حرمت لحوم الحمر الأهلية، فالأمر في نظري على ما ذكره ابن عبد البر عليه رحمة الله. والله الموفق.
وقوله: وبَغْلٌ، قال ابن قدامة في المغني: والبغال حرام عند كل من حرم الحمر الأهلية؛ لأنها متولدة منها، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم، إلى أن قال: وقال قتادة: ما البغل إلا شيء من الحمار. وعن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. ا. هـ. منه. =
(1)
وقيل غالب بن أبجر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: ذبحنا يوم خيبر .. الحديث. ولنستجلب هنا حديث المقدام بن معدي كرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمير - وإن كان ضعيف الإِسناد - لنزيد به ما استجلبناه لتحريم لحوم البغال، وسوف نعرج عليه لإِظهار عجره وبجره، عند الكلام على تحريم لحوم الخيل. وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: ولو وحشيًا دجن، قال المواق، من المدونة قال مالك: وإذا دجن حمار الوحش، وصار يعمل عليه لم يؤكل. وقال ابن القاسم: لا بأس بأكله. ا. هـ. منه.
قلت: الذي يؤيده النظر ما ذهب إليه ابن القاسم؛ لأن حمار الوحش صيد مباح بلا خلاف، فلا يخرجه التأنس عن أصله، وهل إذا توحش الأهلي يخرج عن أصله ويحل أكله؟!. فقد نقل ابن حبيب عن مالك أنه لا يؤكل. وهو الصواب. والله الموفق.
وقوله رحمه الله: وَفَرَسٌ، دليل الإِمام مالك على حرمة لحوم الخيل، استنباط من آية النحل وهي قوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
(1)
. مع قوله تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
(2)
. الآية. قال: فذكر الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، وذكر الأنعام للركوب والأكل. قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت. وقال بذلك مع الإِمام، الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأبو عبيد للإستنباط المتقدم، ولما روي عن المقدام بن معدي كرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل والبغال، والحمير، وقد تقدم هذا الحديث قريبًا. وقد أخرجه أبو داود في الأطعمة، وابن ماجه في الذبائح، والنسائي، وأحمد، والدارقطني، وإسناده ضعيف. قال البيهقي: هذا إسناد مضطرب، ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات. أخبرنا أبو بكر بن محمد، وساق البيهقي سندًا إلى البخاري، قال: صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب الكندي الشامي عن أبيه روى ثور وسليمان بن سليم فيه نظر. ا. هـ. وفي سياق هذا الحديث عند أحمد والدارقطني ما يشهد بضعفه، فقد جاء فيه أن خالد بن الوليد شهد خيبر، وذلك خطأ، فإنه رضي الله عنه لم يسلم إلا بعد خيبر على الصحيح. =
(1)
سورة النحل: 8.
(2)
سورة غافر: 79.
وَالْمَكْرُوهُ: سَبُعٌ، وضَبُعٌ، وَثَعْلَبٌ، وذِئْبٌ، وَهِرٌّ وإنْ وَحْشِيًّا (1)، وَفِيلٌ وَكَلْبُ مَاءٍ وَخِنْزِيرُهُ (2)، وَشَرَابُ خَلِيطَيْن (3)، وَنَبْدٌ بِكَدُبَّاءَ (4)، وَفِي كُرْهِ الْقِرْدِ والطِّينِ ومَنْعِهِ قَوْلَانِ (5).
= فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن الاستنباط من فحوى الآيتين الكريمتين مقدوح فيه بالقادح المسمى بفساد الاعتبار، الذي قد نوهنا عنه مرارًا في هذا الكتاب المبارك؛ وذلك بوجود نصوص صريحة في الموضوع الذي وقع فيه الاجتهاد، ذلك أنه روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخَّص في لحوم الخيل. متفق عليه.
وروي عن أسماء رضي الله عنها: ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا - ونحن بالمدينة - فأكلناه. متفق عليه. أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع. وأخرجه مسلم.
قال ابن قدامة: وأباح لحوم الخيل أحمد. وبه يقول ابن سيرين، وروى ذلك ابن الزبير والحسن، وعطاء، والأسود بن يزيد. وبه قال حماد بن زيد، والليث، وابن المبارك، والشافعي، وأبو ثور. قال سعيد بن جبير: ما أكلت شيئًا من مَعْرَفَةِ برذَون. قال البغوي: وأباحه شريح، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق.
قال ابن قدامة: وأما الآية فإنما يتعلقون بدليل خطابها، وهم لا يقولون به، وحديث خالد ليس له إسناد جيد. قال أحمد: وفيه رجلان لا يعرفان، يرويه ثور عن رجل غير معروف، وقال: لا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: والمكروه سبع، قال المواق: من المدونة: قال مالك: لا أحب أكل السبع ولا الثعلب، ولا الذئب ولا الهر الوحشي ولا الإِنسي ولا شيئًا من السباع. وروى العراقيون من المالكية عن مالك أن السباع أكلها على الكراهة من غير تمييز ولا تفصيل، وهو ظاهر المدونة. وقال ابن حبيب: لم يختلف المدنيون في تحريم لحوم السباع العادية: الأسد، والنمر، والذئب، والكلب. وأما غير العادية: كالثعلب والضبع والهر الوحشي والإِنسي فمكروهة دون تحريم. قاله مالك وابن الماجشون. ا. هـ. منه.
قال الحطاب: قال الشيخ أبو عمر ابن عبد البر: الصحيح تحريم الكلاب والسباع العادية، وهو مذهب الموطإ. قال: ولم أر في المذهب من نقل إباحة الكلاب. اهـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: وكيف تصور إباحة أكل الكلب وهو نجس العين أصالة؟!. وهل تفيد ذكاة النجس المحرم؟!. فقد تقدم الكلام على نجاسة الكلب عند قول المختصر: وندب غسل إناء ماء ويراق، لا طعام، وبينا هناك أن الذي يفيد النص الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الكلب نجس، وإذا تقررت نجاسته، استجلبنا على عدم إباحته قوله تعالى في الأعراف:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(1)
. والله تعالى ولي التوفيق.
وقد قدمنا في الكلام على قول المختصر: وطيرٌ ولو جلالة وذا مخلب، أن الإِمام مالكًا ومن وافقه، احتجوا على إباحة ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير بقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
(2)
. وأمثال هذه الآية في النحل والبقرة. قالوا: لا يسعنا أن نعمد إلى هذا الحصر المتكرر في مكة وفي المدينة للمحرمات فنطرحه، ونقدم عليه أخبار آحاد ظنية المتن ظنية الدلالة، غير أننا بدلًا من طرح أحد الدليلين، فقد أعملناهما معًا؛ بحمل النهي الوارد في السنة على كراهة التنزيه، وترك الآيات المبيحة على عموماتها. والله تعالى الموفق.
أمَّا الضَّبُعُ، فإن الذي يؤيده الدليل من السنة إباحته؛ فقد روي عن جابر أنه سئل عن الضبع: أصيد هي؟. قال: نعم. قيل: أتؤكل؟. قال: نعم. قيل: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال: نعم. ا. هـ. هذا حديث أخرجه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الشافعي والبغوي، وهذا اللفظ له. والمذهب حرمة الضبع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهي من السباع، فتدخل في عموم النهي. قلت: وهذا اجتهاد في محل النص. قالوا: ولحديث: "وَمَنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ؟ ". وهذا حديث غير صالح للاحتجاج به كما في تلخيص الحبير. وقال الترمذي: هذا الحديث ليس إسناده بالقوي. ا. هـ.
(2)
وقوله: وفيل، قال ابن قدامة: الفيل محرم، قال أحمد: ليس من أطعمة المسلمين. وقال الحسن: هو مسخ. وكرهه أبو حنيفة والشافعي. قال: ومن الدليل على حرمته كونه ذا ناب، =
(1)
سورة الأعراف: 157.
(2)
سورة الأنعام: 145.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومن أكبرها نابًا، وإنه مستخبث، والآية تقول:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(1)
. وهو عند أصحابنا داخل في دليل ذي الناب وذي المخلب المتقدمين.
وقوله: وكلب ماء وخنزيره، لا يخفى على أحد أن البحري مباح مطلقًا، غير أن خلقة هذا الحيوان البحري، لما كانت تشبه في الصورة خبيثًا من هذين المذكورين، كره مالك وأصحابه أكله تنزيهًا وسدًا للذريعة.
قلت: ويكفي من وقف على هذا الفرع ليقتنع ببطلان ما ينسب إلى أصحابنا من إباحة الكلب. ولله در شيخ التتائي الذي قال: يؤدب من نسب ذلك إلى مالك. قاله في جواهر الإِكليل. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: وشراب خليطين، روى معبد بن كعب عن أمه - وكانت قد صلت القبلتين - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وقال:"أَنْبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ" هذا الحديث رواه البغوي والشافعي، وفي سنده ابن إسحاق وهو مدلس. لكن عبد الله بن أبي قتادة روى عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة. وهذا الحديث متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم، وبهذا الحديث ذهب جماعة إلى تحريم الخليطين، وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرًا، منهم عطاء، وطاوس، وبه قال مالك، وأحمد وإسحاق وقالوا: من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فيه فهو آثم بجهة واحدة، وإن كان مشتدًا فبجهتين: شرب الخليطين والسكر. قال البغوي: وروي عن جابر أنه قال: البسر والتمر إن خلطا خمر. ا. هـ.
وقال آخرون إذا لم يكن مشتدًا فلا بأس بشربه. محتجين بما روي عن صفية بنت عطية، عن عائشة قالت: كنت آخذ قصبة من تمر، وقصبة من زبيب، فألقيه في إناء، فأمرسه، ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود. وفي سنده أبو بحر، عبد الرحمن بن عثمان البكراوي، وهو ضعيف. ا. هـ.
(4)
وقوله: ونبذ بكدباء، هو للحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ في الدُّبَّاء، والمزفَّت، والمقَيَّر، والحنتمة، والنقير، وقال:"كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". قال
(1)
سورة الأعراف 157.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= العلماء: إنما نهى عن هذه الأوعية لأنها أوعية متينة، ولها ضراوة يشتد بها النبيذ، ولا يشعر بذلك صاحبها، فيكون على غرر من شربها، بخلاف غير المربوب من أسقية الأدَمِ، فهو جلد رقيق إذا اشتد فيه النبيذ تقطع وانشق، فلا يخفى على صاحبه أمره.
واختلف العلماء في بقاء هذا النهي ونسخه؛ فذهب إلى بقائه وعدم نسخه ابن عمر وابن عباس. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق. وذهب قوم إلى أنه منسوخ بحديث بريدة الأسلمي عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتكُمْ عَنِ الْأشْرِبَةِ إِلَّا فِي ظُرُوفِ الْأدَمِ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا". وعن جابر عند مسلم أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء، فإن لم يكن، فتور من حجارة. ا. هـ.
من آداب الطعام
إن من آداب الطعام التسمية في أوله وحمد لله في آخره. أما التسمية في أوله فقد روي عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصفحة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ". فما زالت تلك طعمتي. متفق عليه.
وقد جاءت السنة بالتسمية في أول الطعام، وأنه يبارك فيه لذلك؛ روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام في ستة من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ، فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُمْ". رواه الترمذي في الشمائل وقال: حديث حسن صحيح.
وجاءت السنة بأن من نسي التسمية في أول الطعام، يتداركها في آخر الطعام؛ فقد روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أحَدُكُمْ، فَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ عَلَى طَعَامِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود.
وأما حمد الله في آخر الطعام؛ فقد روي عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول: "الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مُوَدَّعٍ، ولَا مُسْتَغْنىً عَنْهُ، رَبَّنَا". رواه الترمذي والبخاري. وله لفظ آخر عن أبي أمامة وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأكْلَةَ، أَوْ يَشْرَبُ الشُّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا". ومن آداب الطعام الأكل باليمين، وأكل المرء مما يليه من الإِناء، لحديث عمر بن أبي سلمة المتفق عليه والذي تقدم آنفًا.
ولا بأس بغسل اليدين قبل الطعام، والسنة غسلهما بعده لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فقدم إليه الطعام، فقالوا: ألَا نأتيك بوَضُوء؟. قال: "إِنَّمَا أُمِرْتُ بالْوُضُوءِ إذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ". أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود. قال البغوي: قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري يكره غسل اليدين قبل الطعام. ا. هـ. وقيل إنما كره سفيان ذلك لأنه من زيّ الأعاجم. عزا ذلك شعيب إلى تهذيب السنن. ا. هـ.
ولا ينبغي لأحد أن يأكل أو يشرب بشماله. لحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ". أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ومن السنة عدم الأكل والإِنسان مُتَّكِئٌ؛ وهو المعتدل المتهيء للاستكثار من الطعام؛ لحديث أبي جحيفة عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا آكُلُ مُتَّكِئًا". وروي عنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الإِنسان يعتمد على يده اليسرى. قال شعيب: نسبه في فتح الباري ج 9/ ص 472 إلى ابن عدي بسند ضعيف. ا. هـ
ومن سنة الآكل أن لا يعيب طعامًا لحديث أبي هريرة المتفق عليه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قطُّ، إن اشتهاهُ أكله، وإِلَّا تركهُ، ويستحب نهش اللحم لحديث أبي هريرة عند الترمذي قال: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع. وكانت تعجبه فنهش منها. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وعن عبد الله بن الحارث عند الترمذي قال: زوجني أبي، فدعا أناسًا فيهم صفوان بن أمية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انْهَشُوا اللَّحْمَ نَهْشًا فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ". وهذا على سبيل التواضع وطرح الكبر، وأما القطع بالسكين فهو مباح لحديث عمرو بن أبي أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها، ثم قام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فصلى ولم يتوضَّأ. وهذا الحديث متفق عليه.
ومن آداب الطعام عدم الأكل من وسط القصعة، لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُتِيَ بقصعة من ثريد فقال:"كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ في وَسَطِهَا". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.
ومن آداب الأكل، لعق الأصابع، لما روي عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ. ا. هـ. أخرجه مسلم.
وعن كعب بن مالك قال: كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَلَا يمسح يده حتى يَلْعَقَهَا. أخرجه مسلم أيضًا.
وعن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا". متفق عليه.
ومن آداب الطعام، أنه إذا سقطت من الآكل لقمة، يستحب له أن يميط عنها الأذى ويأكلها؛ لما روي عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَان بِهَا مِنْ أَذىً، ثُمَّ لْيأكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا للِشَّيْطَانِ، فإذا فَرَغَ، فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
ومن آداب الأكل إسلات القصعة، وذلك لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإسلات القصعة وقال:"إِنَّهُ لَا يُدْرَى فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ". رواه مسلم.
وعن أم عاصم وهي أم ولد سنان بن سلمة الهذلي قالت: دخل علينا رجل من هذيل يقال له نُبيْشَةُ الخير، ونَحن نأكل في قصعة، فقال لنا: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَكَلَ فِي قَصْعَةٍ ثُمَّ لَحِسَهَا، اسْتَغَفَرَتْ لَهُ الْقَصْعَةُ". قال البغوي: حديث غريب لا يعرف إلا من حديث المعلى بن راشد الهذلي أبو اليمان، قال شعيب: أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. ا. هـ.
ويكره أن يبيت المرء ويده فيها غَمَرٌ؛ لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بَاتَ فِي يَدِهِ غَمَرٌ، لَمْ يغْسِلْهُ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ". أخرجه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وحسنه المنذري، وصححه ابن حبان. قال شعيب: وفي فتح الباري أن سنده صحيح على شرط مسلم. ا. هـ.
ويستحب لأهل البيت أن يكون في بيتهم التمر، لما روي عن عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ، أوْ جَاعَ أَهْلُهُ". قالها مرتين أو ثلاثًا. وهذا حديث صحيح رواه مسلم.
ومن آداب أكل التمر كراهة أن يقرن الآكل بين تمرتين؛ وذلك لما روي عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعًا حتى يستأذن أصحابه. ا. هـ. متفق عليه.
ويستحب كيل الطعام؛ لما رواه المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ". رواه البخاري.
الضيافة وإكرام الضيف
قال البغوي: إكرام الضيف تعجيل قراه، والقيام بنفسه عليه، وطلاقة الوجه، يعني البشاشة وإظهارها في وجهه.
وعن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. جَائِزَتُهُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ". متفق عليه.
قيل: ويحتمل أن تكون جائزته بقدر ما يجوز به المسافر من الزاد، من منهل إلى منهل. وعن جابر أنه قال: هلاك الرجل أن يدخل عليه الرجل من إخوانه، فيحتقر ما في بيته أن يقدمه له، وهلاك القوم أن يحتقروا ما قدم إليهم. ا. هـ. البغوي. وقيل للأوزاعي: ما إكرام الضيف؟. قال: بشاشة الوجه.
وللضيف حق على مضيفه. قال مجاهد في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ}
(1)
. =
(1)
سورة النساء: 143.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الآية: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يضيفه، ولا يقريه، فلا بأس أن يقول: لم يضيفني، ولم يقرني. أخرجه الطبري. قالوا: والأولى حمل الآية على عمومها، فيدخل فيها من لم يقر، أو أسيء قراه، أو نيل بظلم في نفسه، أو ماله، أو عرضه.
وعن عقبة بن عامر أنه قال: قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا، فننزل بالقوم، فلا يقروننا فما ترى؟. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ". متفق عليه، وظاهر هذا الحديث يدل على أن قرى الضيف واجب. وهو مذهب الليث. وقال الإِمام أحمد: قرى الضيف واجب على أهل البادية دون القرى. وقال الجمهور: الضيافة سنة مؤكدة. وأجابوا عن الحديث بأنه محمول على المضطرين - أحسن ما قيل فيه - وقيل فيه غير ذلك، غير أن أبا داود أخرج من حديث المقدام بن معدي كرب مرفوعًا:"لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ مَحْرُومًا، كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ". وإسناده صحيح. قال ابن حجر في تلخيص الحبير: إسناده على شرط الصحيح.
ويستحب للضيف إذا فرغ من الأكل أن يدعو لصاحب الطعام، ففي أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة، فجاءه بخبز وزيت، فأكل، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائمُون، وأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ". قال شعيب: وإسناده صحيح. ا. هـ.
ويستحب الأكل بثلاث أصابع، لما روى كعب بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلعقها. رواه الإِمام أحمد. وروي عن أحمد أنه أكل خبيصًا بكفه كلها. وروي عن عبد الله بن بريدة أنه كان ينهى بناته أن يأكلن بثلاث أصابع وقال: لا تشبَّهن بالرجال.
ويستحب للرجل عدم القيام عن السفرة، وعدم رفع اليد حتى يرفع القوم؛ لما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُمْ رَجُلٌ حَتَّى تُرْفَعَ، ولَا يَرْفَعْ يَدَهُ وَإِنْ شَبعَ، حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ. فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَليسَهُ فَيَقْبِضَ يَدَهُ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةٌ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا بأس أن يدخر الرجل لأهله قوت سنتهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت السنة.
(5)
وقوله وفي كره القرد والطين ومنعه قولان؛ أما القرد، فقد نقل الحطاب: أجمع أهل العلم أن لحم القرد لا يؤكل. ونقل الجزولي عن ابن يونس: ثمن القرد حرام كاقتنائه. وقال في المتيطية في باب البيوع: ما لا يصح ملكه لا يصح بيعه بإجماع؛ كالحر، والخنزير، والقرد، والدم، والميتة وما أشبه ذلك. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال ابن قدامة في المغني: لا يباح القرد. وكرهه عمر، وعطاء، ومجاهد، ومكحول، والحسن، ولم يجيزوا بيعه. وقال ابن عبد البر: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافًا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه؛ وروي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحم القرد، ولأنه سبع فيدخل في الخبر، وهو مسخ أيضًا فيدخل في الخبائث المحرمة. ا. هـ. منه بلفظه.
وأما الطين، فقال الحطاب: القول بمنع الطين نقل تشهيره في المدخل. وذكر ابن عرفة عن ابن الماجشون التحريم، ولم يحك غيره. ا. هـ. منه.
قلت: والقاعدة الفقهية أن أصل كل ما يضر البدن حرام. قال شيخنا في مراقي السعود:
وأصل كل ما يضر المنع
والله الموفق
الضَّحَايَا والْعَقِيقَةِ
باب:
سُنَّ لِحُرٍّ غَيْرِ حَاجٍّ بِمِنىً ضَحِيَّةٌ لَا تُجْحِفُ (1)،
باب في الضحايا: جمع أضحية - بضم الهمزة وتشديد الياء، وسمع كسر همزتها - وتجمع أيضًا على أضاحي - بتشديد الياء - ويقال: الضحية - بفتح الضاد المشددة - وتجمع على ضحايا، ويقال أيضًا: أضاح جمع أضحاة. ويقال في جمعها: أضاحي أيضًا.
قالوا: سميت بذلك لأنها تذبح يوم الأضحى وقت الضحى، وسمي يوم الأضحى من أجل الصلاة في ذلك الوقت. والضحاء - بالمد - اسم للشمس، يقال: ضحى الرجل إذا تعرض للشمس. ومنه قول ابن أبي ربيعة:
رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت
…
فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}
(1)
. الآية.
(1)
قوله: سن لحر غير حاج بمنى ضحية لا تجحف، قال المواق: من المدونة، قال مالك: الأضحية سنة واجبة، لا ينبغي تركها لقادر عليها من أحرار المسلمين إلا الحاج، فليست عليهم أضحية، وإن كان من سكان منى. ومن لم يشهد الموسم من أهل مكة وغيرها فهم في ضحاياهم. وفي الحطاب: وقال الشيخ زروق في شرح قول الرسالة: والأضحية سنة واجبة. يعني أنها سنة يجب العمل بها. لو اتفق أهل بلد على تركها قوتلوا لامتناعهم عنها. قال: وما ذكر هو كذلك في التلقين، والكافي، والمعلم، والمقدمات. ا. هـ. منه.
قلت: الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإِجماع؛ فأما الكتاب، فقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
(2)
. قال بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد. وأما السنة، فقد روى أنس قال: ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. متفق عليه. وأما الإِجماع، فقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.
وأما حكمها: فقد ذكر ابن قدامة في المغني عن ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، =
(1)
سورة طه: 119.
(2)
سورة الكوثر: 2.
وَإِنْ يَتِيمًا (1)، بِجَذَعِ ضَأْنٍ، وَثَنِيِّ مَعْزٍ، وَبَقَرٍ وَإِبِلٍ ذِي سَنَةٍ وثَلَاثٍ،
= والليث، وأبي حنيفة أنهم يقولون: هي واجبة، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". وعن مَحْنِفِ ابن عُلَيْم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةً وعَتِيرةً". فأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد وابن ماجه. وأما حديث مَحْنِف فهو لأحمد والبيهقي وأصحاب السنن الأربعة.
قال: وأكثر أهل العلم يرون أنها سنة مؤكدة. روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم. وبه قال سويد بن غفلة، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، واحتجوا بما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ". وفي رواية: "الْوَتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أرَادَ أنْ يُضَحِّيَ فَدَخَلَ الْعَشْرُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ وَلَا بَشَرَتِهِ شيئًا". رواه مسلم. ا. هـ. منه.
والَّذِي في الموطإ: قال مالك: "الضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَا أُحِبُّ لِأحَدٍ مِمَّنْ قَوِيَ عَلَى ثَمَنِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا". ا. هـ. ولعلهم حملوا الأحاديث الدالة على الوجوب، على تأكيد الاستحباب، مثل ما ورد في غسل الجمعة:"وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ". أخرجه مالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ومثل ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا". أصله في الشيخين.
وقوله: لا تجحف، قال ابن بشير: لا يؤمر بها من تجحف بماله. قاله المواق. ولعل ذلك لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ" الحديث. فإن فحواه أن من لم تكن له سعة غير مطالب بها. وأيضًا فإن قول مالك: وما أحب لأحد ممن قدر على ثمنها أن يتركها. يفيد بفحواه أيضًا أن من لم يقو على ثمنها غير مطالب بها. والله الموفق.
(1)
قوله: وإِنْ يتيمًا، قال المواق: وسئل مالك عن اليتيم يكون له ثلاثون دينارًا أيُضَحِّي عنه وليه بالشاة، بنصف دينار ونحوه؟. قال: نعم، ورزقه على الله.
قلت: لم أقف على أمر تعبدي بالتضحية عن اليتيم من ماله، وأما القياس فإنه يدل على عدم ذلك؛ لأنها إن كانت واجبة، فالصبي ليس من أهل الخطاب حتى يبلغ، وإن كانت تطوعًا، فأحرى =
وَخَمْسٍ (1)، بِلَا شِرْكٍ إِلَّا فِي الْأجْرِ، وإنْ أكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، إنْ سَكَنَ مَعَهُ وقَرُبَ لَهُ وَأنْفَقَ عَلَيْهِ وَإنْ تَبَرُّعًا (2).
= أن يتطوع غيره من ماله، اللهم إلا إذا كان الإمام يرى أنها حق واجب في المال كالزكاة. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
بجذع ضأن وثنيِّ معز وبقر وإبل؛ ذي سنة وثلاث وخمس، أخرج مسلم بن الحجاج في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ". ففي هذا الحديث دليل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة، وإنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، قال شيخنا في أضواء البيان: ما عليه جمهور أهل العلم - منهم المذاهب الأربعة وغيرهم - أنه لا يجزئ في الأضحية الجذع إِلَّا من الضأن خاصَّة، ومن غير الضأن، وهو المعز، والإِبل والبقر، لا يجزئ إلا الثني فما فوق. والذكر والأنثى سواء في الهدايا والأضاحي. وذكر شيخنا أن الجذع من الضأن يجزئ ضحية، ولو لم يعذر غيره، بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإِمام أحمد والترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ - أَو نِعْمَتْ - الْأضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ". وذكر أحاديث أخرى تدل على ذلك. ا. هـ. منه. والمذهب أن المجزئ في الأضحية: جذع الضأن وثني الماعز والبقر والإِبل. وإن الجذع من الضأن ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز ما أكمل سنة ودخل في الثانية دخولًا بينًا، وثني البقر ابن ثلاث سنين، وثني الإبل ابن خمس سنين، والذكورة والأنوثة وصفي طردي هنا. والله الموفق.
(2)
وقوله: بلا شرك إلا في الأجر، قال في الموطإ: وأحسن ما سمعت في البدنة والبقرة والشاة؛ أن الرجل ينحر عنه وعن أهل بيته البدنة، ويذبح البقرة والشاة الواحدة، هو يملكها ويذبحها عنهم ويشركهم فيها، أمَّا أن يشتري النفر البدنة أو البقرة أو الشاة؛ يشتركون فيها في النسك والضحايا، فيخرج كل إنسان منهم حصة من ثمنها، ويكون له حصة من لحمها، فإن ذلك يكره، وإنما سمعنا الحديث أنه لا يشترك في النسك وإنما يكون عن أهل البيت الواحد. وعن مالك عن ابن شهاب أنه قال: ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته إلا بدنة واحدة، أو بقرة واحدة. قال مالك: لا أدري أيتهما قال ابن شهاب. ا. هـ. =
وَإنْ جَمَّاءَ وَمُقْعَدَةً لِشَحْمٍ، ومَكْسُورَةَ قَرْنٍ (1)، لَا إِنْ أدْمَى كَبَيِّنِ مَرَضٍ وَجَرَبٍ، وَبَشَمٍ، وجُنُونٍ وَهُزَالٍ، وَعَرَجٍ وَعَوَرٍ، وفَائِتِ جُزْءٍ غَيْرِ خِصْيَةٍ، وصَمْعَاءَ جِدًّا (2).
= قال ابن قدامة في المغني: لا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بقرة أو بدنة. نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وإسحاق. وروي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة. قال صالح: قلت لأبي: يُضَحَّى بالشاة عن أهل البيت؟. قال: نعم، لا بأس، ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين؛ فقرب أحدهما فقال:"بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ هذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ". وقرب الآخر فقال: "بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ هذَا مِنْكَ لَكَ عَمَّنْ وَحَّدَكَ مِنْ أُمَّتِي". ا. هـ. منه. وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس. وروى ابن ماجه عن أبي أيوب قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته؛ فيأكلون ويطعمون الناس.
وقوله: إن سكن معه وقرب له وأنفق عليه وإن تبرعًا، قال المواق: قال مالك: يعني بأهل بيته أهل نفقته، قليلًا كانوا أو كثيرًا. زاد محمد عن مالك: وولده ووالديه الفقيرين. قال ابن حبيب: وله أن يدخل معه في أضحيته من بلغ من ولده، وإن كان غنيًا، وأخاه وابن أخيه وقريبه إن كانوا في نفقته وأهل بيته، فأباح ذلك بثلاثة أسباب: القرابة والمساكنة، والإِنفاق عليه. قال محمد: وله أن يدخل زوجته في أضحيته لأن الزوجية آكد القرابة. قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}
(1)
. وقال مالك: وليس على الرجل أن يضحي عن زوجته إلا أن يشاء بخلاف الفطرة. قلت: ولعل هذا يتأولون به ما جاء في الحديث: "عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ". والله الموفق.
(1)
وقوله: وإن جماء، لا خلاف في إجزاء التضحية بالجماء خلقة؛ لأن ذلك لا يعد نقصًا فيها، غير أن القرناء أفضل منها، فإن كانت جماء لاستئصال قرنيها من غير إدماء، اختلف ابن حبيب وابن المواز في جواز التضحية بها، ومناط الخلاف بينهما: هل يعد ذلك نقصًا فيها؟. أما التي أقعدها الشحم ولا عيب فيها، فماذا ينتقد فيها؟. وأما التي كسر قرنها من غير إدماء، قال المواق: من المدونة: يجزئ في الهدايا والضحايا المكسورة القرن إلا أن يكون يدمى، فلا يجوز لأنه مرض.
(2)
وقوله: لا إن أدمى كبيّن مرض ألخ. من المواق: قال ابن يونس: نهى صلى الله عليه وسلم عن المريضة =
(1)
سورة الروم: 21.
وذِي أُمٍّ وَحْشِيَّةٍ، وَبَتْرَاءَ وَبَكْمَاءَ، وبَخْرَاءَ، ويابِسَةِ ضَرْعٍ، ومَشْقُوقَةِ أُذُنٍ، ومَكْسُورةِ سِنٍّ لِغَيْرِ إثْغَارٍ أوْ كِبَرٍ، وذَاهِبَةِ ثُلُثِ ذَنَبٍ، لَا أُذنٍ، مِنْ ذَبْحِ الإِمَامِ لِآخِرِ الثَّالِثَ. وَهَلْ هُوَ العَبَّاسِيُّ أوْ إمَامُ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ (1)، وَلَا يُراعَى قَدْرُهُ فِي غَيْرِ
البين مرضها. ولأن المرض يفسد اللحم ويضر بمن يأكله. ومن المدونة: قال مالك: لا تجزئ المريضة البين مرضها، ولا الحمرة وهي البشمة؛ يريد الذي أصابها التخمة من الأكل؛ لأن ذلك مرضًا بها. قال: وكذلك الجربة إن كان ذلك مرضًا لها. ولا تجزئ ذات الدبرة الكبيرة.
قلت: والعلة في النهي عن كل هذه المنهيات؛ إلى قوله وذاهبة ثلث ذنب، هو النقص فإنه لا ينبغي أن يعمد إلى ناقصة فيتقرب بها إلى الله تعالى؛ وذلك لقوله عز وجل:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
(1)
. الآية. ولقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
(2)
الآية. فإنها تدل على ما سيذكره من الأنداب وبالله تعالى التوفيق.
وفي حديث رواه النسائي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا شرقاء. ا. هـ.
(1)
وقوله: من ذبْح الإِمام لآخر الثالث، هو بيان منه رحمه الله لوقت الذبح. وفي المواق: من المدونة، قال مالك: الأيام التي يضحى فيها: يوم النحر ويومان بعده إلى غروب الشمس من اليوم الثالث، فقد انقضى الذبح وفات. ولا يضحَّى بليل في شيء من هذه الأيام. قال مالك: ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر. قال ابن المواز: ووقت الذبح منه بعد صلاة العيد، وبعد ذبح الإمام بيده.
وفي الموطإ ما نصه: النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإِمام: حدثني يحيى عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار أن أبا برة بن نيار ذبح ضحية قبل أن يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعود بضحية أخرى. وأخرج في الموطإ مثله عن عباد بن تميم أنه وقع لعويمر بن أشقر. وعلى هذا مذهب مالك، والحسن، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وإسحاق. وهو ظاهر الرواية عن أحمد. قالوا: لما روي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ =
(1)
سورة البقرة: 267.
(2)
سورة الحج: 32.
الأوَّلِ، وَأعَادَ سَابِقُهُ إلَّا الْمُتَحَرِّيَ أقْرَبَ إمَامٍ، كَأَنْ لَمْ يُبْرِزْهَا، وَتَوَانَى بِلَا عُذْرٍ، قَدْرَهُ، وَبِهِ، انْتُظِرَ لِلزَّوَالِ، وَالنَّهَارُ شَرْطٌ (1)، وَنُدِبَ إبْرَازُهَا، وجَيِّدٌ، وسَالِمٌ وغَيْرُ خَرْقَاءَ وشَرْقَاءَ ومُقَابَلَةٌ، ومَدَابَرَةٌ، وَسَمِينٌ،
= صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى". متفق عليه. وفي لفظ:"إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ. قَبْلَ الصَّلَاةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأهْلِهِ وَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ". متفق عليه. ا. هـ. بواسطة نقل ابن قدامة.
وآخر وقت الذبح هو غروب شمس ثاني أيام التشريق. وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وبه أخذ مالك وأحمد، وأبي حنيفة، والثوري.
وقال الشافعي، وبه قال عطاء والحسن: آخره آخر أيام التشريق؛ لما روي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَيَّامُ منىً كُلُّهَا مَنْحَرٌ". انظر مغني ابن قدامة.
وقوله: وهل هو العباسي أو إمام الصلاة خلاف؛ لما كانت الخلافة العباسية بقيت إلى أيامه، أصابته غفلة الصالحين فظن أنها باقية. فقال: وهل الإمام الذي لا يجوز الذبح قبل ذبحه، هو إمام الطاعة ذو السلطان - وهو ما يعنيه بالعباسي - أو إمام الصلاة؟. قال الحطاب: وجزم ابن رشد في نوازله بأن المعتبر إمام الصلاة الذي صلى بهم صلاة العيد، فمن ذبح منهم قبل أن يذبح إمامه لم يجزه. والله أعلم.
(1)
وقوله: والنهار شرط، قد تقدم قول المدونة: ولا يضحى بليل في شيء من هذه الأيام. وروي هذا القول عن عطاء، وهو المذهب عند أحمد، ودليله فحوى قوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(1)
.
وقال المتأخرون من أصحاب مذهب أحمد، وقال الشافعي، وأبو حنيفة: إن الذبح يجوز ليلًا. وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: وندب إبرازها، قال المواق: من المدونة قال مالك: والشأن أن يخرج الإِمام أضحيته إلى المصلى. قال ابن المواز: ولو أن غير الإِمام ذبح أضحيته في المصلى بعد ذبح الإِمام جاز، وقد فعله =
(1)
سورة الحج: 28.
وَذَكَرٌ وأقْرَنُ وأبْيَضُ، وفَحْلٌ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخصِيُّ أسْمَنَ (1)، وَضَأْنٌ ثُمَّ مَعْزٌ مُطْلَقًا، ثُمَّ هَلْ بَقَرٌ - وهُوَ الْأظْهَرُ - أَوْ إبِلٌ؟. خِلَافٌ (2). وَتَرْكُ حَلْقٍ وقَلْمٍ لِمُضَحٍّ عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ (3).
= ابن عمر، قال الباجي: ولأنها من القرب المسنونة العامة، فالأفضل إظهارها لأن فيه إحياء سننها. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وجيد وسالم، إلى قوله: وفحل إن لم يكن الخصي أسمن، هذه الأوصاف كلها للمبالغة في تعظيم هذه الشعيرة عملًا بقوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
(1)
. ولأن ذلك أعظم لأجرها. قالوا: والأفضل في الأضحية من الغنم ما في لونه بياض؛ لما رواه أحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَمُ عَفْرَاءَ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ". وروي عن أبي هريرة: "دَمُ بَيْضَاءَ أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ". قالوا: ولأنه لون أضحية النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. انظر المغني.
(2)
وقوله: وضأن ثم معز مطلقًا، ثم هل بقر - وهو الأظهر - أو إبل خلاف، قال المواق: قال مالك: فحول الضأن في الضحايا أفضل من إناثها، وإناثها أفضل من فحول المعز، وفحول المعز أفضل من إناثها. قال ابن شعبان: وإناثها أفضل من ذكور الإِبل، ثم ذكور البقر ثم إناثها. وقال عبد الوهاب: البقر أفضل من الإِبل. انتهى منه.
وحجة مالك على أفضلية التضحية بالغنم من الإِبل فعله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في السنة أنه كان يضحي بالغنم، لا بالإِبل ولا بالبقر، فقد جاءت أحاديث صحيحة بأنه كان يضحي بالغنم. منها ما ورد في الصحيحين، أنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين. ومنها ما ثبت في الصحيح؛ أنه ضحى بكبش أقرن؛ يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد. قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم ما كان ليضحي - مكررًا ذلك عامًا بعد عام - إلا بما هو الأفضل في الأضحية، فلو كانت التضحية بالإِبل والبقر أفضل لفعل ذلك الأفضل صلى الله عليه وسلم. =
(1)
سورة الحج: 32.
وَضَحِيَّةٌ عَلَى صَدَقَةٍ وَعِتْقٍ (1)، وَذَبْحُهَا بِيَدِهِ وَلِلْوَارِثِ إنْفَاذُهَا، وَجَمْعُ أكْلٍ
= قال شيخنا في أضواء البيان: ودليل الجمهور ظاهر، لكن دليل مالك أخص في محل النزاع لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم. والخير كله في اتباعه في أقواله وأفعاله؛ وما جاء عنه من تفضيل البدنة ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، لم يأت في خصوص الأضحية، والله تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(1)
. ا. هـ. بلفظه.
(3)
وقوله: وترك حلق وقلم في عشر ذي الحجة، وهو المذهب عند الشافعي، ورواية عن بعض أصحاب أحمد؛ فقد حملوا النهي الوارد في حديث أم سلمة رضي الله عنها على الكراهة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّي". رواه مسلم. وذلك بدليل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي. متفق عليه.
(1)
وقوله: وضحية على صدقة وعتق، هو قول ربيعة وأبي الزناد والإِمام أحمد، ويستدل له بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها، وأيضًا بما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ الْنَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللهِ عز وجل مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ عز وجل بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا". رواه ابن ماجه. قالوا: ولو قدمت الصدقة على الأضحية لأدى ذلك إلى إماتة سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وذبحها بيده، دليل استحبابه فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضَع رجله على صفاحهما. أخرجه مسلم عن أنس، وقد نحر ست بدن بيده، ونحر من بدنه التي أهداها في حجة الوداع ثلاثًا وستين بدنة بيده ولأنه فعل قربة، فالأولى مباشرته من الاستنابة فيه، فإن أناب من يذبح عنه جاز ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم، لأنه أناب عليًا لينحر باقي بدنه بعد أن نحر هو منها ثلاثًا وستين.
ويستحب لمن أناب على ذبح أضحيته أن يحضر ذبحها؛ لما روي من حديث ابن عباس: =
(1)
سورة الأحزاب: 21.
وصدَقَةٍ وإعْطَاءٍ بِلَا حَدٍّ (1). والْيَوْمُ الأوَّلُ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ أوَّلِ الثَّالِثِ عَلَى آخر الثَّانِي تَرَدُّدٌ.
وَذَبْحُ وَلَدٍ خَرَجَ قَبْلَ الذَّبْحِ (2)، وبَعْدَهُ جُزْءٌ، وكُرِهَ جَزُّ صُوفِهَا قَبْلَهُ إنْ لَمْ يَنبُتْ لِلذَّبحْ، وَلَمْ يَنْوِهِ حِينَ أخْذِهَا، وَبَيْعُهُ، وَشُرْبُ لَبَنٍ،
= " وَاحْضُرُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمْ لِأنَّهُ يُغْفَرُ لَكُمْ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا". وروى البزار عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "احْضُرِي أُضْحِيَّتَكِ يُغْفَرْ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا". ا. هـ. انظر المغني.
(1)
وقوله: وجمع أكل وصدقة وإعطاء بلا حد، في المواق: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، أن ليس في الضحايا والنذر والتطوع قسم موصوف ولا حد معلوم. ا. هـ. غير أنه ورد عن ابن عباس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وُيطْعِمُ أَهْلَ بَيْتِهِ الثُّلُثَ، وَيُطْعِمُ فَقَرَاء جِيرَانِهِ الثُّلُثَ، وَيَتَصَّدَّقُ عَلَى السُّؤَّالِ بِالثُّلُثِ". قال في المغني: رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال: حديث حسن ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر، ولم نعرف لهم مخالفًا من الصحابة، فكان إجماعًا، ولأن الله تعالى قال:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . قال: والقانع: السائل. يقال: قنع قُنوعًا، إذا سأل، وقنع قناعة، إذا رضي. قال الشَّماخُ:
كَمالُ المرء يُصْلِحه فيُغْنِي
…
مَفَاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ
قال: والمعتر: الذي يعتريك. أي يتعرض لك لتطعمه فلا يسأل. ا. هـ. منه.
وقوله: واليوم الأول أفضل ألخ، قال الحطاب: يعني أن اليوم الأول أفضل من اليوم الثاني، وقيل: أول الثاني أفضل من آخر الأول. وهو قول مالك في الواضحة، بل صرح بكراهته بعد الزوال. وعلى كل فليس هناك نص. والله تعالى أعلم وأحكم.
(2)
وقوله: وذبح ولد خرج قبل الذبح، قال الحطَّاب: قال في المدونة: وإذا ولدت الأضحية فحسن أن يذبح ولدها معها، وإن تركه لم يكن عليه واجبًا؛ لأن عليه بدل أمه إن هلكت. قال ابن القاسم: ثم عرضتها عليه فقال: امح واترك إن ذبحه معها فحسن. ا. هـ.
فائدة: قال الحطاب هنا: وهذه إحدى محوات المدونة. وذكر أن لها أربع محوات: هذه، والثانية: إذا حلف لا يكسو امرأته، فافتك لها ثيابها من رهن. قال مالك، أولًا: يحنث. ثم أمر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بمحوه وقال: لا يحنث. والثانية: نكاح المريض إذا صح، كان مالك يقول: يفسخ. ثم أمر بمحو الفسخ. والرابعة: من سرق ولا يمين له، أو له يمين شلاء، فقال مالك: تقطع رجله اليمنى. ثم أمر بمحوه وقال: تقطع يده اليسرى. قال: قاله في التوضيح. ونظمها بعضهم فقال:
المحو في الأيمان والأضاحي
…
وفي كتاب القطع والنكاح اهـ
ومما جاء دليلًا على ذبح ولد الأضحية معها، ما رواه سعيد بن منصور، يرفعه إلى علي رضي الله عنه أن رجلًا سأله فقال: يا أمير المؤمنين، إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها وضعت هذا العجل؟. فقال علي: لا تحلبها إلا فضلًا عن تيسير ولدها - أي إلا ما زاد عن حاجة ولدها - فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة. ا. هـ. المغني.
وقوله: وكره جز صوفها قبله، أي قبل الذبح، المواق: من المدونة: قال مالك: لا يجز صوف الأضحية قبل الذبح. قال ابن المواز: إلا في الوقت البعيد الذي ينبت فيه مثله قبل الذبح. وسمع ابن القاسم: وله أن يجزه بعد الذبح.
قال ابن قدامة: فإن كان جزه أنفع لها؛ مثل أن يكون في زمن الربيع؛ تخف بجزه وتسمن، جاز جزه، ويتصدق به، وإن كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح، أو كان بقاؤه أنفع لها؛ لكونه يقيها الحر والبرد، لم يجز له أخذه، كما أنه ليس له أخذ بعض أجزائها. ا. هـ. المغني.
وقوله: وشرب لبن، قال الحطاب: يعني أنه يكره له شرب لبن الأضحية؛ يريد، وإن لم يكن لها ولد، قال في المدونة: ولم أسمع من مالك في لبنها شيئًا إلا ما أخبرتك أنه كره لبن الهدي. وقد روي في الحديث: "لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْهُ بَعْدَ رِيِّ فَصِيلِهَا". فإن لم يكن للضحية ولد، فأرى ألا يشربه إلا أن يضر بها بقاؤه، فليحلبه وليتصدق به، ولو أكله لم أرَ عليه شيئًا، وإنما أنهاه عنه كما أنهاه عن جز صوفها قبل ذبحها. ا. هـ. منه.
قلت: وقد تقدم حديث علي رضي الله عنه في شرب لبن الأضحية، وأيضًا فإن اللبن متولد من علفها وغذائها وصاحبها قائم به، فيجوز صرفه إليه من جهة النظر، لأن المرتهن إذا علف الرهن =
وَإطْعَامُ كَافِرٍ، وَهَلْ إنْ بُعِثَ له، أوْ ولَوْ فِي عِيَالِهِ؟. تَرَدُّدٌ. والتَّغَالِي فِيهَا وَفِعْلُهَا عَنْ مَيِّتٍ، كَعَتِيرَةٍ، وإبْدَالُهَا بِدُونٍ، وَإنْ لاخْتِلَاطٍ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَجَازَ أخْذُ الْعِوَضِ إنِ اخْتَلَطَتْ بَعْدَهُ عَلَى الأحْسَنِ، وَصَحَّ إِنابَةٌ بِلَفْظٍ، إنْ أسْلَمَ، وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ، أوْ نَوَى عَنْ نَفْسِه أوْ بِعَادَةٍ كقَريبٍ وإلَّا فَتردُّدٌ. لَا إنْ غَلِطَ فَلَا تُجْزئٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمُنِعَ البَيْعُ وإنْ ذَبَحَ قَبْلَ الإِمَامِ، أوْ تَعَيَّبَتْ حَالَةَ الذَّبْحِ أوْ قَبْلَهُ، أوْ ذَبَحَ مَعِيبًا جَهْلًا، والإِجَارَةُ والْبَدَلُ إلَّا لِمُتَصَدَّقٍ عَلَيْهِ، وفُسِخَتْ، وَتُصُدِّقَ بِالْعِوضِ فِي الفَوْتِ إنْ لَمْ يَتَوَلَّ غَيْرٌ بِلَا إذْنٍ، وصَرْفٍ فِيمَا لَا يَلْزَمُهُ كأرْشِ عَيْبٍ لَا يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ.
= كان له أن يحلب ويركب. والله تعالى الموفق.
وقوله: وإطعام كافر، قال المواق نقلًا عن ابن المواز: كره مالك أن يطعم من لحم أضحيته جاره النصراني، أو الظئر النصرانية عنده. وسئل مالك عن النصرانية تكون ظئرًا للرجل، فيضحي، فتريد أن تأخذ فروة أضحية ابنها؟. فقال: لا بأس بذلك أن توهب لها الفروة وتطعم من اللحم. قال ابن القاسم: ورجع مالك فقال: لا خير فيه. والأول أحب قوليه إليَّ.
وقوله: والتغالي فيها، قالوا: لأنه يؤدي إلى المباهاة. قال اللخمي: يستحب استفراهها لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الرِّقَابِ أَغْلَاهَا". ونقل الجوزي بسنده عن بعض التابعين، أنه كان لا يماكس في ثمن الأضحية ويقول: يماكس في شيء ويتقرب به إلى الله؟. ا. هـ. المواق.
وقوله: وفعلها عن ميت، في الحطاب: قال في التوضيح: وقال مالك في الموازية: ولا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين. قال: وإنما كره أن يضحي عن الميت لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف. وأيضًا فإن المقصود بذلك غالبًا المباهاة والمفاخرة. ا. هـ.
ومحل كراهة التضحية عن الميت، إذا لم يعدَّها الميت، أما إذا كان أعدها ومات قبل ذبحها، فقد تقدم في النص أنه يستحب للوارث تنفيذها. ا. هـ.
وقوله: كعتيرة، الحطاب: قال مالك: العتيرة شاة كانت تذبح في رجب يتبررون بها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - كانت في الجاهلية - وقد كانت في الإِسلام ولكن ليس الناس عليها، يعني كانت في الإِسلام معمولًا بها كالضحايا، فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بعرفة:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ كُلَّ عَامٍ أُضْحِيَّةً وَعَتِيرَةً. هَلْ تَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ؟. قال: هِيَ النَّاسُ يَقُول النَّاسُ الرَّجَبِيَّةُ".
قال: وقوله ولكن ليس عليها الناس اليوم، يريد أنها نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ". والفرع: أنهم كانوا في الجاهلية يذبحون أول ولد تلده الناقة أو الشاة؛ يأكلون ويطعمون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لما سئل عنه: "أَنْ تَدَعَهُ حَتَّى يَكُونَ شَعَرِيًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَنْحَرَهُ فَيَلْصَحِقُ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ وَتُكْفِئُ إِنَاءَكَ، وَتُوَلِّهُ نَاقَتَكَ".
قال الحطاب: وقد اختلف في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ". فقيل: إن ذلك نهي عنهما فلا بر في فعلهما. وقيل: إن ذلك نسخ للوجوب؛ فبقي المرء مخيرًا فيهما بين الفعل والترك. واحتج من ذهب إلى هذا بما روى الحارث بن عمر التيمي أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال: فقلت يا رسول الله، الفرائع والعتائر؟. قال:"مَنْ شَاءَ أَفْرَعَ وَمَنْ شَاءَ أَعْتَرَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفْرِعْ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُعْتِرْ". وبما روى لقيط بن عامر، من حديث وكيع أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: إنا كنا نذبح ذبائح في رجب فنطعم من جاءنا؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا بَأْسَ". قال وكيع: لا أدعها أبدًا إلى أن قال: وذكر ابن العربي في العارضة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَسَخَ الْأضْحَى كُلَّ ذبْحٍ، وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ، وَالزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ". ا. هـ. الحطاب بتصرف.
وقوله: وإبدالها بدون، من المدونة: قال ابن القاسم: من اشترى أضحية وأراد أن يبدلها، قال مالك: لا يبدلها إلا بخير منها. فإن باعها؟. قال ابن القاسم: إن لم يجد بالثمن شاة فليرد عليه من عنده حتى يشتري مثلها.
وقوله: ومنع البيع إن ذبح قبل الإمام ألخ. قال ابن المواز عن مالك: من اشترى أضحية فقام عليه غريمه، فله بيعها عليه في دينه، ولو ضحى بها لم تبع. ومن المدونة، قيل لابن القاسم: فجلد الأضحية وصوفها وشعرها، هل يشتري به متاعًا للبيت؟. قال مالك: لا يبيعه ولا يشتري به شيئًا، ولا يبدل جلدها بمثله ولا بخلافه، ولكن يتصدق به. قال: ولا يعطى الجزار على جزره الهدايا والضحايا =
وَإِنَّمَا تَجِبُ بالنَّذْرِ والذَّبْحِ، فَلَا تُجْزِئُ إنْ تَعَيَّبَتْ قَبْلَهُ، وَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ؛ كَحَبْسِهَا حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ، إلَّا أَنَّ هذَا آثِمٌ. ولِلْوَارثِ الْقَسْمُ ولَوْ ذُبِحَتْ، لَا بَيْعٌ بَعْدَهُ فِي دَيْنٍ، وَنُدِبَ ذَبْحُ وَاحِدَةٍ تُجْزئُ ضَحِيَّةً في سَابِعِ الْوِلَادَةِ (1) نَهَارًا، وألْغِيَ
= والنسك من لحومها ولا من جلودها شيئًا. قال الباجي: وهل يجوز له بيع لحم الشاة التي ذبحها قبل الصلاة؟. الظاهر أن ذلك لا يجوز للحديث: "هِيَ خَيْرُ نُسُكٍ".
قلت: وهذه فروع بالاجتهاد لم يرد في أكثرها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.
تنبيه: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: "بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ". وفي حديث أنس: كان إذا ذبح كبر وسمى. قال ابن قدامة: ولا نعلم في استحباب هذا خلافًا. قال: وإن زاد فقال: اللهم هذا منك وإليك، اللهم تقبل مني، أو من فلان فحسن. وبذلك قال أكثر أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بكبش له ليذبحه، فأضجعه ثم قال:"اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ضَحَّى". رواه مسلم. وفي حديث جابر - أخرجه أبو يعلى بسند حسن - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ". ثم ذبح. قال ابن قدامة: وهذا نص لا يعرج على خلافه. ا. هـ.
الكلام على العقيقة
قال أبو عبيد: الأصل في العقيقة الشعر الذي على المولود. وجمعها عقائق. ومن ذلك قول امرئ القيس:
يا هند لا تنكحي بُوَّهةً
…
عليه عقيقته أحسَبا
ثم إن العرب أطلقت العقيقة على الذبيحة التي تذبح عند حلق شعر المولود، من باب المجاز المرسل، علاقته السببية. ثم شاع هذا الاستعمال حتى صار حقيقة عرفية، فلا يفهم من العقيقة عند الإِطلاق إلا الذبيحة.
وقال قوم: العقيقة فعيلة من العق وهو الذبح. ووجه ذلك أن العق أصله القطع، ومنه سمي العاق لوالديه لقطعه لهما، والذبح قطع الحلقوم والودجين وهو وجيه.
(1)
وقوله: وندب ذبح واحدة تجزئ ضحية في سابع الولادة، قال ابن قدامة: والعقيقة سنة في قول عامة أهل العلم منهم: ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وفقهاء التابعين، وأئمة الأمصار، إلَّا =
يَوْمُهَا إنْ سُبِقَ بِالْفَجْرِ، والتَّصَدُّقُ بِزنَةِ شعَرِهِ، وجاز كَسْرُ عِظامِهَا، وَكُرِهَ عَمَلُهَا وَلِيمَةً، ولَطْخُهُ بِدَمِهَا وخِتَانُه يَوْمَهَا.
= أصحاب الرأي قالوا: هي من أمر الجاهلية. قال: روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى فِيهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعن أبي هريرة مثله. قال أحمد: إسناده جيد.
ومن أدلة استحباب العقيقة ما روي أن أبا الزناد كان يقول: العقيقة من أمر الناس، كانوا يكرهون تركه. وقال أحمد: العقيقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عقَّ عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه بعده.
وقوله: ندب ذبح واحدة، هو مذهب مالك وابن عمر، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما شاة واحدة، لذلك قال ابن عمر: شاة عن الغلام وعن الجارية، لما رواه أبو داود: عق عن الحسن شاة وعن الحسين شاة. ا. هـ.
وقال ابن عباس، وعائشة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لحديث أم كرز أنها سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول:"عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَلَا بَأْسَ أنْ تَكُونَ ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا". رواه سعيد وأبو داود، قالوا: ولأن العقيقة تجري مجرى الأضحية، فإن الأفضل الذكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش، وضحى بكبشين أقرنين.
وقوله: والتصدق بزنة شعره، هو لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن:"احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعَرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَاْلأوْفَاضِ". يعني بالأوفاض أهل الصفة. رواه أحمد. وروى سعيد في سننه عن محمد بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش، وأنه تصدق بوزن شعورهما ورِقًا، وأن فاطمة كانت إذا ولدت ولدًا حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورِقًا. ا. هـ.
تنبيه: وإن سماه في يوم ولادته جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وُلِدَ اللَّيْلَةَ لِي غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إبْرَاهِيمَ". ولأنه سمى الغلام الذي جاءه به أنس بن مالك فحنكه وسماه عبد الله. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيه: ويستحب للوالد تحسين اسم ولده، لأنه صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال:"إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ". وقال عليه السلام: "أَحَبُّ الْأسْمَاءِ عَلَى اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمنِ". وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: "أَحَبُّ الْأسْمَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَسْمَاءُ الْأنْبِيَاءِ". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَسَمُوا بِإِسْمِي وَلَا تَكَنُوا بِكُنْيَتِي". رواه أحمد.
وقوله: وكره لطخه بدمها، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وابن المنذر، خلافًا لقتادة والحسن، ودليل الجمهور قول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ فَهَرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأذَى". رواه أبو داود. قالوا: وحيث إن الدم أذى، فإن هذا الحديث يقتضي أن لا يمس دمًا.
وروى يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ وَلَا يُمَسَّ رَأْسُهُ بِدَمٍ" قال مهنا: ذكرت هذا الحديث لأحمد فقال: ما أظرفه. ورواه ابن ماجه ولم يقل عن أبيه؛ قالوا: ولأن هذا تنجيس له فلا يشرع، كلطخه بغيره من النجاسات. ا. هـ. المغني.
تنبيه: يستحب للوالد أن يؤذن في أذن ابنه حين يولد؛ لما روى عبد الله بن رافع عن أمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذَّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ولد له ولد، أخذه في خرقة فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وسماه. ا. هـ.
ويستحب أن يهنأ والد المولود فيقال له: بورك في الموهوب، وشكرت الواهب. وبلغ أشده، ورزقت بره. روي ذلك عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.
ويستحب أن يذهب بالمولود إلى صالح يحنكه. لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحنك أولاد الأنصار التمر، روى أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد، قال:"هَلْ مَعَكَ تَمْرٌ"؟. فناولته تمرات، فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتملظ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حَبُّ الْأنْصَارِ التَّمْرُ". وسماه عبد الله. ا. هـ. المغني.
وقول المختصر: تجزئ ضحية، لما أخرجه مالك في الموطإ: فمن عق عن ولده فإنما هي بمنزلة النسك. والضحايا لا يجوز فيها: عوراء، ولا عجفاء، ولا مكسورة، ولا مريضة، ولا يباع من لحمها شيء، ولا جلدها. ويكسر عظامها، ويأكل أهلها من لحمها، ويتصدقون منها. ولا يمس الصبي بشيء من دمها. ا. هـ. منه.
كِتَابُ الْأيْمَانِ
(1)
الْيَمينُ تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ بِذِكْر اسْمِ اللهِ أوْ صِفَتِهِ: كَبِاللهِ، وهَا اللهِ، وَأيْمُ اللهِ، وَحَقِّ اللهِ، والْعَزِيزِ، وَعَظَمَتِهِ، وَجَلَالِهِ، وإرَادَتِهِ، وَكَفَالَتِهِ، وَكَلَامِهِ، والْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ (2).
كتاب الأيمان
(1)
نقل المواق عن ابن شاس، قال: فيه ثلاثة أبواب: الأول في نفس اليمين. والثاني، في الاستثناء والكفارة. والثالث فيما يقتضي البر والحنث. ا. هـ.
والأيمان جمع يمين؛ وهي مشتقة أو مأخوذة من اليمين التي هي العضو؛ ذلك أن العرب كانوا إذا حلف أحدهم وضع يمينه في يمين صاحبه، فلذلك سميا الحلف يمينًا. كذا عزاه الحطاب للذخيرة، وقال: وقيل: اليمين القوة؛ فسمي العضو يمينًا لوفور قوته بالنسبة لليسار. قال: ومنه قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
(1)
. أي بالقوة. قال: ولما كان الحلف يقوي الخبر وجودًا وعدمًا، سمي يمينًا. ا. هـ. منه بتصرف.
قال المواق: والأيمان ثلاثة:
ممنوعة: وهي الأيمان بالمخلوقات كقوله: والنبي: والكعبة، والآباء. فمن حلف بها فليستغفر الله، ولا كفارة عليه.
وجائزة: وهي اليمين بأسماء الله تعالى كقوله: واللهِ، والرحمنِ، والعزيزِ. وكل يمين بالذات فجائزة، وإن اختلفت الأسماء.
ومختلف فيها: وهي اليمين بصفة الله، بعزته وقدرته، والمشهور في المذهب الجواز، وإن كفارتها كفارة يمين بالله تعالى. ا. هـ. منه.
(2)
قوله: اليمين تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله ألخ. أي اليمين الموجبة للكفارة هي أن يقصد بها تحقيق شيء غير معلوم الثبوت، ماضيًا كان أو مستقبلًا، منفيًا كان أو مثبتًا، ممكنًا =
(1)
سورة الحاقة: 45.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كان أو مستحيلًا. فالقسم عبارة عن العقد على النفس بحق من له حق، غير أنه لما كان لا حق على الحقيقة إلا لله تعالى، امتنعت اليمين بغير الله؛ لأن ما سواه باطل. وحكم اليمين بالله تعالى الجواز. وقال ابن حجر في شرح البخاري في كتاب الإِيمان في باب أحب الدين إلى الله أدومه: فيه جواز الحلف من غير استحلاف، وقد يستحب إذا كان فيه تفخيم أمر من أمور الدين، أو حث عليها، أو تنفير من محذور. ا. هـ. بنقل الحطاب، قال: وفي المدخل: وتكثير الحلف لغير ضرورة من البدع الحادثة بعد السلف رضي الله عنهم، بل كان بعضهم يتوقى أن يذكر اسم الله إلا على سبيل الذكر حتى إنهم إذا اضطروا إلى الدعاء إلى من أحسن إليهم مكافأة له يقولون: جزيت خيرًا. ا. هـ. منه.
والدليل على عدم جواز الحلف بغير الله، ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ". وحديث عمر بن الخطاب عند الصحيحين وغيرهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه - وهو في ركب - وهو يحلف بأبيه فقال: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَسْكُتْ". هذا لفظ أبي داود.
وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب، وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
وأخرج أبو داود قال: سمع ابن عمر رجلًا يحلف: لا والكعبة. فقال ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ". وفي الموطإ عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يسير في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
قال العلماء: والسر في النهي عن الحلف بغير الله هو أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، وإنما العظمة حقيقة لله وحده لا شريك له، فلا يضاهى به غيره. =
وَإنْ قَالَ: أرَدْتُ: وَثِقْتُ بِاللهِ، ثُمَّ ابْتَدَأتُ لَأفْعَلَنَّ دُيِّنَ (1)، لَا بِسَبْقِ لِسَانِهِ، وَكَعِزَّةِ اللهِ، وَأمَانَتِهِ وعهده، وعَلَى عَهْدُ اللهِ، إلَّا أنْ يُرِيدَ المَخْلُوقَ، وَكَأحْلِفُ وأُقْسِمُ وأَشْهَدُ - إنْ نَوىَ - بِاللهِ وَأعْزِمُ - إِنْ قَالَ - بِاللهِ، وفِي: أُعَاهِدُ اللهَ قَوْلَانِ، لَا بِلَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، أوْ أُعْطِيكَ عَهْدًا، وعَزَمْتُ عَلَيْكَ بِاللهِ وَحَاشَ لِلَّهِ، ومَعَاذَ اللهُ، واللهُ رَاعٍ أوْ كَفِيلٌ، والنَّبيِّ والْكَعْبَةِ، وكَالْخَلْقِ وَالإِمَاتَةِ أوْ هُوَ يَهُودِيٌّ.
= قلت: لذلك، فإن أي حلف بغير الله لا تنعقد به اليمين، ولا تلزم الكفارة به، ولا يلزم صاحبه إلا الاستغفار، والتوبة إلى الله من تعظيم غير الله. والله الموفق.
وقوله: وأيم الله. يقال: أيمُنُ الله، وأيمُ الله، ومُنُ الله وَمُ اللهِ. ا. هـ. الحطاب.
وقال في الصحاح: وأيمن الله اسم وضع للقسم هكذا - بضم الميم والنون - وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين.
قال ولم يجئ في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها. وقيل: ألف قطع. وهو جمع يمين. انظر الحطاب.
(1)
وقوله: وإن قال: أردت: وثقت بالله، ثم ابتدأت لأفعلن. دين؛ لأن المدار على النية، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
غير أن قول المصنف بعد هذا: لا بسبق لسانه إلى اليمين فتلزمه اليمين، قالوا: لعدم احتياج اليمين إلى النية، لا بد أن فيه تناقضًا بعض الشيء، لأنه إن كان يدين في المسألة الأولى لكون المدار على النية، لا بد أن يكون غير مؤاخذ بالكفارة في سبق لسانه؛ لعدم وجود النية أيضًا كما هو رأي اللخمي، كما ذكره المواق.
وقوله: وكعزة الله وأمانته وعهده - إلا أن يريد المخلوق - قال ابن المواز: نحن نكره اليمين بأمانة الله، فإن حلف بها فعليه الكفارة مثل العهد والذمة. قال أشهب: إن حلف بأمانة الله - التي هي صفة من صفاته - فهي يمين، وإن حلف بأمانة الله، التي بين العباد، فلا شيء =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عليه. وكذلك قال في عزة الله التي هي الصفة، وأما العزة التي جعلها الله في خلقه فلا شيء عليه. وكذلك تكلم سحنون في قوله سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}
(1)
. قال: إنها العزة التي هي غير صفة خلقها الله في خلقه. انتهى من المواق.
تنبيه: يجب على من حلف على شيء أن يبر في يمينه؛ بأن يقوم بالوفاء بذلك، فإن لم يفعل وجب عليه ما يقوم مقام ذلك وهو الكفارة.
أما إبرار قسم من حلف عليك، فهو مستحب مع عدم المعارض الشرعي، فإن وجد معارض شرعي عمل بمقتضاه، كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أَصْبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا". فقال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني، فقال:"لَا تُقْسِمْ". ولم يخبره. ا. هـ. الحطاب.
تنبيه: قال النووي في الأذكار: يكره منع من سأل بالله وتشفع به، روينا في سنن النسائي بأسانيد الصحيحين عن أبي عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنَ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا اللهَ لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ".
ويكره أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة، لما في سنن أبي داود، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يُسْألُ بوَجْه اللهِ إلَّا الجَنَّةُ".
وفي الترغيب والترهيب من حديث أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ، مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا". رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، إلا شيخه يحيى بن عثمان بن صالح، وهو ثقة. انتهى بنقل الحطاب.
ولقد جاء في الحديث النهي عن الحلف بالأمانة؛ ففي أبي داود ما نصه: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا الوليد بن ثعلبة الطائي، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِالْأمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا".
(1)
سورة الصافات: 180.
وَغَمُوسٍ بِأنْ شَكَّ أوْ ظَنَّ وَحَلَفَ بِلَا تَبَيُّنِ صِدْقٍ (1)، وَلْيَسْتَغْفِر اللهَ، وَإِنْ قَصَدَ - بِكَالعُزَّى - التَّعْظِيمَ فَكُفْرٌ (2)، وَلَا لَغْوَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَظَهَرَ نَفْيُهُ (3)، وَلَمْ
(1)
وقوله: وغموس بأن شك أو ظن وحلف بلا تبين صدق، من المدونة: قال مالك: الغموس الحلف على تعمد الكذب، أو على غير يقين، وهو أعظم من أن تكفره الكفارة لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(1)
. ا. هـ. المواق.
وقال مالك في الموطإ: فأما الذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه آثم، ويحلف على الكذب، وهو يعلم ليرضي به أحدًا، أو ليعتذر به إلى معتذر إليه، أو ليقتطع به مالًا، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة. ا. هـ. منه.
وفي أبي داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام بن حسان. عن محمد بن سيرين، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ مَصْبُورَةٍ كَاذِبًا فَلْيَتبَوَّأْ بِوَجْهِهِ مَقْعَدَهُ منَ النَّارِ".
وأخرج أبو داود: باب فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد: حدثنا محمد بن عيسى وهناد بن السري، المعنى، قالا: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ".
(2)
وقوله: وإن قصد - بكالعزى - التعظيم فكفر، هذا لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بَالنِّيَّات وَإِنَّمَا لِكلِّ امْرِئ مَا نَوَى". وفي الحديث عند أبي داود، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ".
(3)
وقوله: ولا لغو على ما يعتقده فظهر نفيه، قال في الموطإ: اللغو في اليمين، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: لغو اليمين قول الإِنسان: والله لا والله. قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا أن اللغو حلف الإِنسان على =
(1)
سورة آل عمران: 77.
يُفِدْ فِي غَيْرِ اللَّهِ؛ كَالاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللهُ - إِنْ قَصَدَهُ - كَإِلَّا أنْ يَشَاءَ اللهُ، أوْ يُريدَ، أو يقضيَ عَلَى الأظْهَرِ،
وَأَفَادَ بِكَإِلَّا فِي الْجَمِيعِ إن اتَّصَلَ، إلَّا لِعَارِضٍ، وَنَوَى الاسْتِثْنَاءَ وقَصَدَ ونَطَق بِهِ، وَإنْ سِرًّا بِحَرَكَةِ لسَانٍ (1).
= الشيء؛ يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو. ا. هـ.
وفي أبي داود: باب لغو اليمين: حدثنا حميد بن مسعدة الشامي، ثنا حسان، يعني ابن إبراهيم، ثنا إبراهيم، يعني الصانع عن عطاء في اللغو في اليمين قال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِىِ بَيْتِهِ كَلَّا وَاللهِ وَبَلَى وَاللهِ". ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ولم يفد في غير الله كالاستثناء: بإن شاء الله، قال في المدونة: لا لغو في طلاق ولا في مشي أو صدقة، وإنما يكون اللغو والاستثناء والكفارة في اليمين بالله، أو بشيء من أسمائه أو صفته، أو نذر لا مخرج له، وكذلك في العهد والميثاق. وفي المدونة أيضًا: وقال مالك: من قال: لله عليَّ المشي إلى مكة، إِلَّا أن يبدو لي، أو أرى خيرًا من ذلك. فعليه المشي، ولا ينفعه استثناؤه. ا. هـ. المواق.
قلت: يريبني عده عليَّ المشي إلى مكة. في الأيمان؛ لأن اليمين الشرعية لا تكون إلا باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته العلية، والنذر لا يكون إلا فيما ندب إلى فعله الشارع وطلبه طلبًا غير جازم. قال في المختصر: وإنما يلزم فيما ندب، فإذا تقرر ذلك، أشكل عده لهذه الصيغة في الأيمان؛ لأنها لا يتناولها تعريفه للنذر الذي يجب الوفاء به، وذلك على ما مشى عليه في المختصر في باب الحج؛ حيث عد الركوب في الحج في المستحبات، فتبين أن المشي في الحج غير مستحب حتى يلزم نذره، وغير غني أن يقال: إن هذه الصيغة ليست من الأيمان في شيء؛ لما عرفت من أن اليمين هي تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته.
هذا، ولا يرد استشكالي هذا على من يرى أفضلية المشي في الحج. والله الموفق.
(1)
وقوله: وأفاد بكإلا في الجميع إن اتصل ألخ. في أبي داود: باب الاستثناء في اليمين، حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: =
إلَّا أنْ يَعْزِلَ فِي يَمِينِهِ أوَّلًا كَالزَّوْجَةِ فِي: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَهِيَ الْمُحَاشَاةُ (1).
= " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَقَدِ اسْتَثْنَى". وحدثنا عيسى ومسدد، وهذا حديثه، قالا: ثنا عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى، فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حِنْثٍ".
وقوله: إن اتصل، فقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: إذا حلف ثم استثنى على أثر ذلك، عند ذلك، كأنه يقول: ما لم يقطع اليمين ويتركه. وأخرج عبد الرزاق عن الثوري قال: إن اتصل الكلام فله استثناؤه، وإن قَطَعه وسكت ثم استثنى فلا استثناء له، والناس عليه.
وأخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال: ثنياه ما لم يكن بين ذلك كلام، إذا اتصل.
قلت: وقوله قبل: ولم يفد في غير الله، يرد عليه ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في الرجل يقول: امرأته طالق إن شاء الله، إن لم أفعل كذا وكذا. ثم لا يفعله، قال: لا تطلق امرأته ولا كفارة عليه. قال معمر: قال ذلك حماد. ا. هـ.
قلت: وبه قال طاوس، والشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأي والإِمام القرطبي من المالكية، وهو الذي يؤيده الدليل.
وقوله: ونوى الاستثناء وقصد، هو لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
وقوله: ونطق به وإن سرًا بحركة لسان، هو لما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن إبراهيم قال: إذا استثنى في نفسه فليس بشيء، حتى يظهره بلسانه. ا. هـ. وأخرج عبد الرزاق أيضًا قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن، قال: إذا حرك لسانه أجزأ عنه في الاستثناء. ا. هـ.
(1)
وقوله: إلا أن يعزل في يمينه أولًا، أي ابتداء قبل شروعه في اليمين، فتكفي النية وحدها دون حركة اللسان، لأن المحاشاة بالنية فقط، وذلك ما دعاه أن يقول: إلا أن يعزل الحالف شيئًا بنيته في يمينه، أي يخرجه عن يمينه، ثم يصدرها على سوى ذلك الذي أخرجه بنيته من غير =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لفظ، فإن ذلك الإِخراج بالنية هو المعروف عند الفقهاء بالمحاشاة، وهو عندهم من العام الذي أريد به الخصوص؛ لأن عمومه لم يرد، لا تناولًا ولا حكمًا، بخلاف العام الذي يخصصه الاستثناء؛ فإنه عام مخصوص؛ لأن عمومه مراد تناولًا لا حكمًا، لقرينة التخصيص. لكن تمثيل المصنف هنا للمحاشاة بقوله: كالزوجة في الحلف بالحلال على حرام، فيه مأخذ عليه - عليه رحمة الله - وهو نفس المأخذ عليه في قوله فيما بعد: وتحريم الحلال في غير الزوجة والأمة لغو، ذلك أنه إخراج بدون دليل، وليس لأحد أن يفعله، وسوف أعطي هذه المسألة عناية أبحثها بإذن الله تعالى على ضوء الكتاب والسنة، لعل الله يوفقني لما فيه القول الفصل في ذلك. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
اعلم أولًا أنه لا يوجد نص صريح من كتاب الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة يتعين الرجوع إليه، وذلك هو ما أدَّى إلى هذا القيل والقال فيه، وسبب الاختلاف فيه بين علماء الأمة. غير أننا - ولله الحمد - لم نترك هملًا عند الاختلاف، فقد وضع الله تعالى لنا قانونًا نرجع إليه وجوبًا في اختلافاتنا، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}
(1)
. وإذا امتثلنا ذلك - ولا بد لنا - وجدنا أنه لا نص يصرح في الموضوع من الكتاب ولا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أننا نجد عمومات قرآنية تشمل الزوجة والأمة قطعًا؛ فقد قال تعالى في سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(2)
. والزوجة من الطيبات ومما أحل الله، وقد نهى الله تعالى أن يوصف ما أحل الله بالحرام، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}
(3)
. الآية. وقال تبارك وتعالى في سورة يونس: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
(4)
. إن منطوق هذه الآيات =
(1)
سورة النساء: 59.
(2)
سورة المائدة: 87.
(3)
سورة النحل: 116.
(4)
سورة يونس: 59.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= القرآنية قاطع على أن ما لم يحرمه الله ليس لأحد أن يحرمه، وأنه لا يصير حرامًا بتحريم أحد، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله عليه: هو عليَّ حرام. وإنما امتنع عن مارية رضي الله عنها ليمين تقدمت لإِرضاء حفصة، فقال لها:"وَاللهِ لَا أَقْرَبُهَا بَعْدَ الْيَوْمِ". فعاتبه الله تعالى على ذلك بقول عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
. الآية. فقد أخرج الدارقطني في سبب نزولها، عن ابن عباس، عن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها، فقالت له: تدخلها بيتي؟!. ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: "لَا تَذْكُرِي هذَا لِعَائِشَةَ فَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ قَرُبْتُها". قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟!. فحلف لها أن لا يقربها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا تَذْكُرِيهِ لِأحَدٍ". فذكرته لعائشة فآلى لا يدخل على نسائه شهرًا، فاعتزلهن تسعًا وعشرين ليلة، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
(2)
. الآية. ا. هـ. بنقل القرطبي.
أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين؟. يعني أقدمْ على ما أحل الله لك وكفر عن يمينك. والعجب من مسارعة المفتين اليوم إلى التحريم والتحليل على خلاف سنة السلف الصالح. قال القرطبي: أسند الدارمي أبو محمد في مسنده، أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش. قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون كذا، وكانوا يستحبون كذا. وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام. ولكن كانوا يقولون: إياكم وكذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا. ومعنى هذا أن التحريم والتحليل إنما هو لله تعالى، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري تعالى يخبر عن ذلك. قال: وكذلك كان يفعل مالك اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى. قال: فإن قيل: قد قال فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام. أنها حرام، ويكون ثلاثًا. فالجواب: إن مالكًا لما سمع عليَّ بن أبي طالب يقول: إنها حرام. اقتدى به. ا. هـ. منه. قلت: وستقف بإذن الله فيما بعد
(1)
سورة التحريم: 1.
(2)
سورة التحريم: 1.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على عدم صحة نسبة ذلك لعلي رضي الله عنه بإسناد الإِمامين أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني.
والحاصل أن الزوجة والأمة من المباح الطيب، بكتاب الله تعالى، وأن قوله تعالى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
(1)
. يشملهما تناولًا، لذلك فإن إخراجهما من هذا العموم، يحتاج إلى مخصص منفصل ثابت من الكتاب أو السنة، ولا يوجد ذلك. فإن قال أصحابنا: لقد أباح الله له أن يحرمهما عليه، فيتناولهما لفظ التحريم. فالجواب: إنه أباح له ذلك بألفاظ تعبدية، لا ينبغي العدول عنها وهي، عند أصحابنا مادة الطاء، واللام، والقاف، في الزوجة. وثبت أنه أبغض الحلال على الله، هذا بالنسبة للزوجة، لا تنفصم عصمتها ما دامت تؤمن بالله واليوم الآخر بدون ذلك، وأما بالنسبة للأمة فإن تحريمها العتق، لا يحرمها عليه من الألفاظ سوى ذلك. ومعلوم أن الأمور التعبدية قاصرة عن القياس عليها.
فإذا تقرر ذلك، فهاك بعض ما ورد في حكم المسألة، من فتيا الصحابة والتابعين فمن دونهم: فقد ذكر القرطبي فيمن قال لزوجته: أنت عليَّ حرام. قال: هي يمين يكفّرها. أفتى بذلك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. وقال به الأوزاعي. وهو مقتضى الآية. يعني قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
(2)
. الآية. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(3)
. الآية. يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد حرم جاريته، فقال الله تعالى:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
(4)
. إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
(5)
. فكفر عن يمينه. وصيَّر الحرام يمينًا. خرجه الدارقطني. ا. هـ. بنقل القرطبي.
وأفتى الشعبي في ذلك، ومسروق، وربيعة شيخ مالك، وأبو سلمة، وأصبغ، قالوا: لا =
(1)
سورة المائدة: 87.
(2)
و
(4)
و
(5)
سورة التحريم: 1، 2.
(3)
سورة الأحزاب: 21.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شيء على من قال ذلك، هو كتحريم الماء والطعام. واستدلوا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
(1)
. قالوا: والزوجة من الطيبات، ومما أحل الله، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}
(2)
. وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حرامًا. ا. هـ. بنقل القرطبي.
وقال الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق: في المسألة كفارة الظهار. وبه أفتى عثمان رضي الله عنه.
قلت: وقد نصر القول بأنها ظهار، شيخنا في أضواء البيان، في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}
(3)
. في المسألة الرابعة، قال: وقد دلت آية الظهار هذه على أن أقيس الأقوال وأقربها لظاهر القرآن قول من قال: إن تحريم الزوجة ظهار، تلزم فيه كفارة الظهار، وليس بطلاق. وإيضاح ذلك أن قوله: أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي. معناه: أنت علي حرام. وقد صرح القرآن بلزوم الكفارة في قوله: أنت علي كظهر أمي. ولا يخفى أن: أنتِ عليَّ حرام. مثلها في المعنى كما ترى.
قال: وأقرب الأقوال بعد هذا لظاهر القرآن، القول بكفارة اليمين والاستغفار؛ لقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
(4)
. بعد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(5)
ا. هـ. منه.
قلت: وقد كنت سألته أيام دراستي للتفسير عن هذا الموضوع، وعن رأيه في ترجيح هذه الأقوال التي سردها أبو عبد الله القرطبي عند كلامه على هذه الآية، فذكر لي أن أجراها على الدليل عنده، هو القول بأن في المسألة كفارة ظهار، كما قرره بعد في الأضواء، وأن أجراها على القواعد الفقهية كونها تحسب طلقة واحدة بائنة، لا يملك الرجوع فيها إلا بعقد جديد برضاها وبرضا وليها، حملًا للفظ التحريم على أول ما صدقه، جريًا على ما عقده في مراقي السعود بقوله: =
(1)
سورة المائدة: 87.
(2)
سورة النحل: 116.
(3)
سورة الأحزاب: 4.
(4)
سورة التحريم: 2.
(5)
سورة التحريم: 1.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والأخذ بالأول لا بالآخر
…
منحتم في مقتضى الأوامر
وما سواه ساقط أو مستحب
…
لذاك الاطمئنان والدلك انجلب
فذكرت له أنه يبدو لي - على قصوري - أن أجرى هذه الأقوال على ظاهر القرآن، هو اعتبار لزوم كفارة يمين في المسألة، بدليل آية التحريم واستطراد سبب نزولها، فذكر لي أنه لو لم يختلف المفسرون والمحدثون في سبب نزول هذه الآية، لتعين القول بأن في المسألة كفارة يمين، غير أن المحدثين - وبطرق أصح - ذكروا أن سبب نزول الآية ما ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلًا. قالت: فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافيرًا؟. فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال:"بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنَ أَعُودَ لَهُ". فنزل قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . الآيات. قال الشيخ: ولولا هذا الخلاف في سبب النزول لما كان في المسألة إلا كفارة اليمين. غير أنه يبدو لي - على قصوري وسعة علمه - أنه لا مانع من تعدد سبب النزول، فعوتب صلى الله عليه وسلم على عزمه على ترك العسل، وعلى عزمه على ترك مارية رضي الله عنها، فتكون الآية نصًا في الموضوع، وأما القول بكفارة الظهار فلا يخفى أنه بقياس: أنت علي حرام، على: أنت علي كظهر أمي. وقد وقفت آنفًا على ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس في أنها كفارة يمين، وها أنا أنقل لك ما وقفت عليه من الآثار الواردة في هذا الموضوع:
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الرجل يقول لامرأته: أنت عليَّ حرام؟. قال: يمين. ثم تلا {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} الآية. قلت: وإن كان أراد الطلاق؟. قال: قد علم مكان الطلاق. قال: وإن قال: أنت عليَّ كالدم أو كلحم الخنزير، فهو كقوله: أنت عليَّ حرام.
وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. قال: إن قال: هي علي كالدم أو كلحم الخنزير، فهي كقوله: هي علي حرام. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني داود بن أبي هند، عن ابن المسيب قال: هي يمين. وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير وأيوب، عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: هي يمين. وهذا الحديث أخرجه البيهقي عن طريق الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة. وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيم، عن خالد عن عكرمة. وأخرجه عن طريق جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا: في الحرام يمين. ا. هـ. الأعظمي في التعليق.
وأخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن عبد الكريم أن عمر بن الخطاب وابن عباس قالا: هي يمين. وأخرج عبد الرزاق: سمعت عمر بن راشد يحدث عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: هي يمين. قال: وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(1)
. قال الأعظمي: والأثر أخرجه الشيخان من طريق معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير.
وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: إن قال: كل الحلال عليَّ حرام فهي يمين. وكان قتادة يفتي به.
عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن سليمان عن الشعبي أن مسروقًا قال: ما أبالي أحرمتها أو حرمت جفنة من ثريد. وعن عبد الرزاق عن ابن جريج. قال: أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: ما أبالي أحرمتها أو حرمت ماء النهر.
عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن مسلم عن الشعبي قال: إن قال: أنت عليَّ حرام. فهي أهون عليَّ من نعلي. وعن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: سمعته يقول: أنا أعلمكم بما قال عليٌّ في الحرام، قال: لا آمرك أن تقدِّم، ولا آمرك أن تؤخِّر.
وفي مصنف ابن أبي شيبة المتوفي سنة 235 هـ. ما نصه: حدثنا أبو بكر قال: نا عبد الله ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن عمر، قال: الحرام يمين. وحدثنا أبو بكر قال: نا ابن =
(1)
سورة الأحزاب: 21.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن عمر مثله. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبد الأعلى، عن سعيد، عن مطر، عن عطاء، عن عائشة قالت: يمين. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبد الأعلى عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنهم قالوا: الحرام يمين. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبد الأعلى، عن سعيد، عن مطر، عن أبي سلمة قال: ما أبالي إياها حرمت أو قرابًا. وحدثنا أبو بكر، نا الثقفي عن برد، عن مكحول وسليمان بن يسار قالا: الحرام يمين.
وحدثنا أبو بكر قال: نا علي بن مسهر، عن إسماعيل، عن الشعبي عن مسروق قال: ما أبالي حرمتها أو حرمت جفنة من ثريد. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبد الرحيم بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك أن أبا بكر، وعمر، وابن مسعود قالوا: من قال لامرأته: هي عليَّ حرام، فليست عليه بحرام، وعليه كفارة يمين. وحدثنا أبو بكر قال: نا عبدة بن سليمان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: إذا قال الرجل لامرأته أنت علي حرام، فليس بشيء. وحدثنا أبو بكر قال: نا يعلى بن إسماعيل قال: قال عامر: زعم أناس أن عليًا كان يجعلها عليه حرامًا حتى تنكح زوجًا غيره، والله ما قالها عليّ قط، ولا أنا أعلم بها من الذي قالها، إنما قال: ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليه، إن شاء فليتقدم وإن شاء فليتأخر. ا. هـ. منه.
قلت: هذه الآثار كلها والفتاوى فيمن قال: أنت عليَّ حرام، فما بال من يقول: عليَّ الحرام؟. إن قلت: نذر. قلنا: إنما يلزم فيما ندب دون ما أبيح فقط، فكيف تلزمونه في معصية الله؟. أخرج أبو داود: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأبلي، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِى اللهَ فَلَا يَعْصِهِ". ا. هـ. وإن قلت: هو يمين. قلنا: إنها لا تلزم إلا باسم الله أو صفاته العلية، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالًا لأحد يحلف بغير الله. قال:"مَنْ كَانَ حَالِفًا فلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ". فلم يجعل للحالف قسيمًا ثانيًا حتى نلزم صاحبه به، وإذا كان الحالف تعمده على غير ما عليه أمرنا، قلنا: هو رَدٌّ على صاحبه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه:"مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". =
وَفِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ، واليمين، والْكَفارَة.، والمُنْعَقِدَةِ عَلَى بِرٍّ - بإِنْ فَعَلْتُ، ولَا فَعَلْتُ - أو حِنْثٍ - بلأَفْعَلَنَّ أوْ إِنْ لَمْ أفْعَلْ، إنْ لَمْ يُؤجِّلْ - إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلٍّ مُدٌّ، ونُدِبَ بِغَيْرِ المَدِينَةِ زِيَادَةُ ثُلُثِهِ أوْ نِصْفهِ، أوْ رطْلَانِ خُبْزًا بأُدْمٍ كَشِبَعِهِمْ (1)،
= فأين إذًا مستند هؤلاء المفتين الذين يحرمون على المرء زوجته بموجبه؟. أين مستند هؤلاء الذين يسارعون بفتواهم إلى النار؟. قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}
(1)
. فليتق الله هؤلاء، وليجعلوا هذه الآية نصب أعينهم فإنها نعم الوازع. والله حسبنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
(1)
وقوله: وفي النذر المبهم واليمين والكفارة ألخ. نقل الحطاب: قال أبو الحسن: قال ابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". قال: ولما في مسلم: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". قال في التوضيح: ولا يمكن حمله على نذر يمين، لأنه لو كان نذر طاعة، لزم أن يأتي بالطاعة التي نذر، فتعين حمله على ما لا مخرج له. ا. هـ. منه. وفي المدونة: ومن قال: عليَّ يمين إن فعلت كذا. ولا نية له، فعليه كفارة يمين كقوله: عليَّ نذر أو عهد. ا. هـ.
تنبيه: الحنث في اليمين مباح، والحلف بالله مباح. قال في الجواهر: ولا يحرم الحنث باليمين، ولكن الأولى أن لا يحنث؛ إلا أن يكون الخير في الحنث. ا. هـ. من الحطاب، قال بعضهم:
الحنث في اليمين لا نحرمه
…
لكنَّ الأوْلى في اليمن عدمه
قلت: قد يكون الأولى الصواب الحنث؛ إذا رأى أن غير ما حلف عليه خير مما حلف عليه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي وَاللهِ إنْ شَاءَ اللهُ، لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ". رواه أبو داود عن سليمان بن حرب. ثنا حماد، ثنا غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحديث. =
(1)
سورة الإِسراء: 36.
أوْ كِسْوَتُهُمْ؛ لِلرَّجُلِ ثَوْبٌ ولِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ، وَلَوْ غَيْرَ وَسَطِ أهْلِهِ، والرَّضِيعُ كَالْكَبِيرِ فِيهِمَا، أوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالظِّهَارِ، ثُمَّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ، ولَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةٌ، ومُكَرَّرٌ لمِسْكِينٍ، وناقِصٌ؛ كَعِشْرينَ لِكُلٍّ نِصْفٌ إلَّا أنْ يُكَمِّلَ. وَهَلْ إن
= وفي الحطاب أن اليمين المنعقدة على بر، هي التي يكون الحالف فيها بأثر يمينه موافقًا لما كان عليه من البراءة الأصلية، وإن اليمين المنعقدة على حنث، هي ما يكون الحالف فيها مخالفًا لما كان عليه في البراءة الأصلية.
قال الحطاب في الذي يوافق ما كان عليه في البراءة الأصلية: إنه هو الذي لا يطالب في بر يمينه بفعل يفعله، بخلاف صيغة الحنث؛ فإنه يطلب في بر يمينه بأن يأتي بما حلف عليه، وإلا فلا يمكن أن يكون الحالف موافقًا لما كان عليه في البراءة الأصلية؛ لأنه قبل اليمين لا حرج عليه في الفعل أو الترك بخلاف حاله بعد اليمين، فإنه إن فعل ما حلف على تركه حنث. ا. هـ. منه. واعلم أن الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام: قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفارة فيهما. خرج الدارقطني في سننه قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عيثر عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الأيمان أربعة: يمينان يكفَّران ويمينان لا يكفَّران؛ فاليمينان اللذان يكفران: فالرجل يحلف: والله لا أفعل كذا وكذا فيفعله. والرجل يقول: والله لأفعلنَّ كذا وكذا فلا يفعل. واليمينان اللذان لا يكفران؛ فالرجل يحلف: والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل. والرجل يحلف: لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله. ا. هـ بنقل القرطبي.
وقوله: إطعام عشرة مساكين لكل مد، أصل ذلك قوله تعالى في المائدة:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(1)
.
قال القرطبي: لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج إليهم، يدفع إليهم =
(1)
سورة المائدة: 89.
بَقِيَ؟. تَأويلَانِ. وَلَهُ نَزْعُهُ إنْ بَيَّنَ بالقُرْعَةِ، وَجَازَ لِثَانِيَةٍ إنْ أخْرَجَ وَإلَّا كُرِهَ، وَإنْ كَيَمِينٍ وَظِهَارٍ، وأجْزَأتْ قَبْلَ حِنْثِهِ، وَوَجَبَتْ بِهِ إنْ لَمْ يُكْرَهْ بِبِرٍّ.
= حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}
(1)
. قال ابن الماجشون من أصحابنا وفاقًا لأبي حنيفة: لو غدَّاهم وعشاهم جاز لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}
(2)
. قال: فبأي وجه أطعمه دخل في الآية.
وقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
(3)
. قال القرطبي: هو هنا منزلة بين منزلتين، ونصفًا بين طرفين. ومنه الحديث:"خَيْرُ الْأمُورِ أَوْسَطُهَا".
وقوله: لكل مد: هو الإِطعام عند مالك، إن كان بالمدينة. وبذلك قال مالك والشافعي وأهل المدينة. قال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين، أعطوا مُدًّا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئًا عنهم. قال القرطبي: وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وبه قال عطاء بن أبي رباح.
قال: وقال ابن القاسم: إذا كان بغيرها أجزأه المد. وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأفْتى أشهب وثلث، قال: وقال أبو حنيفة: يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعًا، محتجًا بحديث عبد الله بن ثعلبة بن صُعير عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فأمر بصدقة الفطر؛ صاعٍ من تمر، أو صاع من شعير عن كل رأس، أو صاع بر بين اثنين. قال: به أخذ سفيان، وابن المبارك، وروي عن عليّ وعمر، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب. وهو قول عامة فقهاء العراق؛ محتجين أيضًا بما رواه ابن عباس قال: كَفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من:{أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
(4)
. خرجه ابن ماجه في سننه. ا. هـ. بنقل القرطبي.
تنبيه: قال ابن العربي: يخرج الرجل مما يأكل هو، وقد زلت جماعة من العلماء فقالوا: يخرج مما يأكل الناس لا مما يأكل هو، وهذا سهوٌ بيِّنٌ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، صَاعًا مِنْ
(1)
سورة الأنعام: 14.
(2)
سورة الإنسان: 8.
(3)
و
(4)
سورة المائدة 89.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شَعِيرٍ". ففصَّل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لا خفاء فيه. ا. هـ. من القرطبي بتصرف.
تنبيه: خير الله سبحانه وتعالى بين الخلال الثلاث، وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه الأفضل لغلبة الحاجة إليه، ولا خلاف أن كفارة اليمين على التخيير. قال ابن العربي: والذي عندي أن تكون بحسب الحال فإن علمت محتاجًا كان الطعام أفضل. ا. هـ.
وقوله: ومكرر لمسكين، يعني أنه لا يجوز عند أصحابنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد. وبه قال الشافعي - خلافًا لأبي حنيفة - قال: يجزئه ذلك لأن المقصود بالآية التعريف بقدر ما يطعم، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه، ودليل أصحابنا نص الآية على العشرة، فلا يجوز العدول عنه، وأيضًا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يومًا واحدًا، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك تعالى ودعائه، فيغفر للمكفر بسبب ذلك. ا. هـ.
وقوله: أو كسوتهم للرجل ثوبٌ وللمرأة درع وخمار، قال القرطبي: والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد، فأما في حق النساء فأقل ما يجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار. قال ابن العربي: ما كان أحرصني على أن يقال: إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد، كما أن عليه طعامًا يشبعه من الجوع. ا. هـ. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه أمر أن يكسى عنه ثوبين ثوبين. وبه قال الحسن وابن سيرين. قال القرطبي: وهذا معنى ما اختاره ابن العربي. والله أعلم.
تنبيه: لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة عند أصحابنا وعند الشافعي، خلافًا لأبي حنيفة الذي يقول: تجزئ القيمة في الزكاة، فكيف في الكفارة؟!. قال ابن العربي: وعمدته أن الغرض سد الخلة ورفع الحاجة، فالقيمة تجزئ فيه. قلنا: إن نظرتم إلى سدِّ الخلة فأين العبادة؟!. وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع؟!.
وقوله: والرضيع كالكبير فيهما: هو فيه تبع لما قاله ابن القاسم في العتبية: تكسى الصغيرة كسوة كبيرة، والصغير كسوة كبير قياسًا على الطعام. ا. هـ. بنقل القرطبي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقوله: أو عتق رقبة كالظهار، لقوله تعالى:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
(1)
. ولا يجوز عند أصحابنا إلا عتق رقبة مؤمنة؛ لأنها قربة واجبة، فلا يكون الكافر محلًا لها، قياسًا على الزكاة. وأيضًا لحمل المطلق هنا على المقيد في كفارة القتل خطأ؛ قال في مراقي السعود:
وحمل مطلق على ذاك وجب
…
إن فيهما اتحد حكم والسبب
ولا يجوز عتق إلا رقبة كاملة ليس فيها شرك لغيره، ولا عتق بعض، ولا عتق إلى أجل، ولا كتابة ولا تدبير، ولا أم ولد، ولا من يعتق عليه، ولا رقبة هرمة؛ سليمة غير معيبة، ودليلنا على عدم إجزاء المشتركة. قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وبعض الرقبة ليس رقبة، وإنما قلنا: لا يكون فيها عقد عتق؛ لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم، وإنما اشترطنا أن تكون سليمة لقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . فإن الإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة، والعمياء ناقصة، وأيضًا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَءًا مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ مِنْها، حَتَّى الفرج بالفرج". وهذا نص في الموضوع.
وقوله ثم صيام ثلاثة أيام، بدليل قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}
(2)
. أي فمن لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة؛ من الإطعام، أو الكسوة، أو عتق الرقبة، بالإِجماع على أنه لا يكفر بالصوم، إلا في حالة عدم إحدى هذه الخصال الثلاث، وعدمها يعتبر بوجهين؛ إمَّا بمغيب ماله عنه، وإما بعدم مال عنده أصلًا، وقد قالوا في:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} قيل: من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته وليس عنده فضل يطعمه. وبه قال الشافعي، واختاره الطبري، وهو مذهب مالك وأصحابه، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم، وقال أحمد وإسحاق: إذا كان عنده قوت يومه وليلته أطعم ما فضل عنه.
تنبيه: لا يجب تتابع هذا الصوم عند أصحابنا، وأحد قولي الشافعي؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص، وقد عدما. وقال أبو حنيفة - وهو الرواية الأخرى عن الشافعي، واختاره المزني - يجب تتابعه قياسًا على كفارة الظهار، واعتبارًا بقراءة ابن مسعود: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. ا. هـ. =
(1)
سورة المائدة: 89.
(2)
سورة المائدة: 89.
وفِي: عَلَيَّ أشَدُّ مَا أَخَذَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، بَتُّ مَنْ يَمْلِكُ، وعِتْقُهُ، وصَدَقَةٌ بِثُلُثِهِ، وَمَشْيٌ بِحَجٍّ وَكَفَّارَةٌ، وَزيدَ في: الأيْمَانُ تَلْزَمُنِي. صَوْمُ سَنَةٍ إن اعْتِيدِ حَلِفٌ بِهِ، وفِي لزُومِ شَهْرَيْ ظِهَارٍ تَردُّدٌ (1)، وتَحْرِيمُ الْحَلَالِ فِي غَيْرِ الزوجَة والأمَة لَغْوٌ، وَتَكَرَّرَتْ إنْ قَصَدَ تَكَرُّرَ الحِنْثِ، أوْ كَانَ الْعُرْفُ كَعَدَمِ تَركِ الْوِتْرِ، أو نَوىَ كفَّارَاتٍ، أوْ قَالَ: لَا ولَا. أوْ حَلَفَ أنْ لَا يَحْنَثَ، أوْ بِالقُرْآنِ، والْمَصْحَفِ، والكِتَابِ، أوْ دَلَّ لَفْظُهُ بِجَمْعٍ، أوْ: بِكُلَّمَا، أوَ مَهْمَا. لَا: مَتَى مَا، وَوَاللَّهِ ثُمَّ واللَّهِ. وإنْ قصده.
= تنبيه: قد اتفق أهل العلم أن كفارة اليمين تلزم الحر المسلم، واختلفوا في العبد؛ فقد قال الشافعي، وسفيان الثوري وأصحاب الرأي: ليس عليه الصوم. واختلف فيه قول مالك؛ روى ابن نافع عنه أنه قال: لا يكفر العبد بالعتق. وحكى ابن قاسم أنه قال: إن أطعم وكسا بإذن سيده مما هو بالبين، وفي نفسي منه شيء. ا. هـ. القرطبي.
(1)
وقوله: وفي: عليَّ أشد ما أخذ أحد على أحد إلى قوله: وفي لزوم شهري ظهار تردد، نقل الباجي عن ابن وهب أن من قال: عليَّ أشد ما أخذ أحد على أحد. فيه يمين بالله. قال: ووجهه أنه لا يمين أعظم من اليمين بالله تعالى، ولا إثم أعظم من إثم من اجترأ على الحنث فيها. وما مشى عليه المصنف هو فتوى ابن القاسم، وفي رأي أنه تأباه سماحة الإسلام، ورفع الحرج في الدين. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(1)
. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(2)
. ولا ينقضي عجبي من قول المصنف - عليه رحمة الله -: وزيد في: الأيمان تلزمني. صوم سنة إن اعتيد حلف به، وصدق الله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(3)
. إنه من المعلوم أن الأيمان جمع يمين، وقد تقدم منه تعريف اليمين؛ بأنه تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته، ويعلم أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ =
(1)
سورة البقرة: 185.
(2)
سورة الحج: 78.
(3)
سورة النساء: 82.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أوْ ليَصْمُتْ". فكيف إقحامه لصوم السنة حتى تشمله لفظ الأيمان؟. ثم كيف تقييده بجريان العادة بالحلف به؟. وهل يجوز الحلف بغير الله؟. بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أو لِيَصْمُتْ". وهل إذا اعتيد حلف بلفظ لم تأذن السنة بالحلف به، يسوغ الاعتياد ارتكاب تلك المخالفة؟. فلله در صاحب التلخيص حيث يقول:
وجامع الأيمان ما قال خليل
…
فيه من الأحكام خالٍ من دليل
وقد نقل المواق عن ابن عرفة قال: في الأيمان اللازمة اضطراب. قال الأبهري وأبو عمر: لا شيء فيها إلا الاستغفار. وعنه كفارة يمين. وقال الطرطوشي: فيها ثلاث كفارات بالله. ا. هـ. منه.
ونقل الحطاب عن البرزلي في مسائل الأيمان، عن ابن الحاج فيمن حلف بأيمان المسلمين تلزمه؛ إنه يلزمه ما يلزم في الأيمان اللازمة. قال البرزلي: قلت: أمَّا إلزامه - يعني ابن الحاج - في أيمان المسلمين ما يلزم في الأيمان اللازمة، فقد رأيت لابن علوان - أحد المفتين بتونس - أنه لا يلزمه فيها إلا ثلاث كفارات، لأن أيمان المسلمين الجارية الجائزة هي الأيمان بالله. ا. هـ. منه.
مع أن الحلف بالمشي، وإن قال بلزومه مالك وأبو حنيفة، فقد قال الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور: فيه كفارة يمين. وقال ابن عبد البر من أصحابنا: أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل. وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين، وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد، وذكر له أنه قول الليث بن سعد. والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة، إلا بالمشي لمن قدر عليه. وهو قول مالك. وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد: لا شيء عليه.
وأمَّا الحلف بالصدقة بالمال، وإن قال مالك: يلزم إخراج ثلثه، فقد قال الشافعي: عليه كفارة يمين. وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وهو مروي عن عمر، وعائشة رضي الله عنهما. وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شيء عليه.
وأمَّا الحلف بالعتق، وإن قال مالك والشافعي وغيرهما: يلزمه عتق من حلف بعتقه، فقد =
والْقُرآنِ، والتَّوْراةِ، والْإِنْجِيلِ، ولَا كَلَّمَهُ غَدًا وبَعْدَهُ ثُمَّ غَدًا، وخَصَّصَتْ نِيَّةُ الْحَالِفِ وقَيَّدَتْ إنْ نَافَتْ وسَاوَتْ في اللَّهِ وغَيْرِهَا، كَطلَاقٍ، كَكَوْنِها مَعَهُ فِي: لَا يَتَزَوَّجُ حَيَاتَهَا. كَأَنْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ لَفْظِهِ؛ كَسَمْنِ ضَأنٍ فِي: لَا آكُلُ سَمْنًا. أوْ: لَا أُكَلِّمُهُ. وكَتوكِيلِهِ فِي: لَا يَبيعُهُ،
= روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة أنه يكفر كفارة يمين، ولا يلزمه العتق. وقال عطاء: يلزمه أن يتصدق بشيء. ا. هـ. انظر القرطبي جـ 6/ ص 284/ 285.
وقوله: وتحريم الحلال في غير الزوجة والأمة لغو، فقد أشبعنا الكلام عليه في الكلام على المحاشاة، فليرجع إليه من شاء.
وقوله: وخصصت نية الحالف وقيدت أالخ. هذا ابتداء منه رحمه الله في الكلام على مقتضيات البر والحنث، وهي هنا خمسة أمور ذكرها المصنف، منها: النية، والبساط، والعرف القولي، والمقصد اللغوي، والمقصد الشرعي. فبدأ الكلام على النية. فقال: وخصصت نية الحالف ألخ. يعني أن نية الحالف تخصص لفظ العام، أي تقصره على بعض أفراده، والعام لفظ يستغرق الصالح له بلا حصر، أي يشمل جميع ما يصلح له دفعة واحدة، فخرج بقيد بلا حصر أسماء الأعداد، فإنها تستغرق ما تصلح له دفعة مع حصره، فهي نص في معناها فلا تقبل التخصيص بالنية ونحوها. فلو قال مثلًا له: عليَّ عشرة. وقال: نويت تسعة مثلًا، فلا تقبل نيته لكنها تقبل التخصيص بالاستثناء نحو: له علي عشرة إلا تسعة. ونحو: طالق ثلاثًا لا اثنتين. فمعنى تخصيص العام: إذا هو قصره على بعض أفراده زمانًا أو مكانًا أو صفة، كأن تقول مثلًا: والله لا أكلم زيدًا، ناويًا في الليل، أو في المسجد، أو حال كونه جاهلًا. وللعام صيغ تفيده كثيرة معلومة في محلها.
وقوله: وقيدت، أي نية الحالف تصرف لفظة المطلق إلى بعض أفراده التي يحتملها على البدلية. والمطلق: هو ما دل على الماهية من حيث هي هي، فإن دل اللفظ على الماهية بإضافة وصف لها زائد على الماهية، كان ذلك الوصف هو القيد، كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . في مواضع لكنه ذكر في موضع آخر: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . فالإِيمان هنا وصف زائد على الرقبة =
أوْ لَا يَضْرِبُهُ إلَّا لِمُرافَعَةٍ وَبينَةٍ أوْ إقْرَارٍ فِي طَلَاقٍ وعِتْقٍ فَقَطْ، أوْ اسْتُحْلِفَ مُطْلَقًا فِي وثيقَةِ حَقٍّ لَا إرَادَةِ مَيِّتَةٍ، أوْ كَذِبٍ فِي: طَالِقٌ أوْ حُرَّةٌ أوْ حَرَامٌ، وَإنْ بَفَتْوى، ثُمَّ بِسَاطُ يَمِينِهِ، ثُمَّ عُرْفٌ قَوْليٌّ ثُمَّ مَقْصَدٌ لُغَويٌّ ثُمَّ شَرْعيٌّ، وحَنَثَ - إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا بِسَاطٌ - بِفَوْتِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لمَانِعٍ شَرْعيٍّ، أوْ سَرِقَةٍ، لَا بِكَمَوْتِ حَمَامٍ فِي: لَيَذْبَحَنَّهُ.
= قيدت به.
وقوله: إن نافت. أصله نافيت، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فوجب قلبها ألفًا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين؛ ومعناه أن شرط النية المخصصة أن تكون منافية -أي مخالفة - لمقتضى اللفظ؛ بمعنى أن يكون لفظ الحالف يقتضي ثبوت الحكم لصور، والنية تريد نفي ذلك الحكم عن تلك الصور؛ لأن شرط المخصص منافاة حكم الخاص لحكم العام.
وقوله: وساوت: أي ومن شرط النية المقيدة للمطلق مساوية، بأن يكون لفظ الحالف يحتمل ما نواه وغيره على السواء فتقبل نيته في تقييد المطلق؛ كأن تقول: أحد عبديَّ حر. ويريد سالمًا مثلًا. أو أن يقول: والله لا أركب جملًا. ويريد أبيض. ونحو ذلك. ودليل هذه النصوص من المختصر، مداره على حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه:"إِنَّما الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
وقوله: ثم بساط - بكسر الموحدة - وهو السبب الحامل على اليمين، يعني أنه إن فقدت النية، ولم يضبطها الحالف، وكانت اليمين مما ينوى فيها، فإنه ينتقل إلى تخصيص العام، وتقييد المطلق بالبساط، وإنما يعدل إليه لكونه مظنة النية. ومثلوا له بمن حلف لا يشرب ماء لرجل، بسبب أنه امتنَّ عليه بما يأخذه منه، فإنه يحنث ولو بخيط يخيط به.
وقوله: ثم عرف قولي: يعني أنه إذا فقدت النية والبساط، توصل إلى مراد الحالف من لفظه. والمشهور أنه يحمل على العرف القولي؛ لأنه غالب قصد الحالف، لأن كل متكلم بلغة يجب حمل كلامه على المعنى الذي يستعمل أهل تلك اللغة فيه ذلك اللفظ، كأن يكون عرف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أهل بلده أن يستعملوا لفظ الدابة على الحمار، فإن يحلف لا ركب دابة، وعدمت النية والبساط، حمل لفظه على العرف القولي، فيحنث بركوب الحمار.
وقوله: ثم مقصد لغوي، يعني أنه إن فقدت النية، والبساط، والعرف القولي، حمل اللفظ على ما يقتضيه لغة. قالوا: وهذا في المظنون، وأمَّا في مثل قوله له: والله لأرينك النجوم في النهار. فإنه لا خلاف في حمل مثل ذلك على ما يقتضيه من المبالغة، دون الحقيقة. والله أعلم.
وقوله: ثم شرعي، يعني أنه إذا فقد الأربعة المتقدمة، حمل اللفظ على ما يقتضيه شرعًا. قال الحطاب: وهذا إنما يصح إذا كان المتكلم صاحب الشرع، وكذلك إن كان الحالف على شيء من الشرعيات، مثل أن تقول: والله لأصلينَّ. أو: لا أصلي. فهذا يحمل على الصلاة الشرعية. وهكذا.
قلت: أنظر أين يقع هذا الترتيب في محامل اللفظ، الذي جاء به هنا في اليمين؟. من قول مراقي السعود في كتاب القرآن ومباحث الألفاظ:
واللفظ محمول على الشرعي
…
إن لم يكن فمطلق العرفيِّ
فاللغوي على الجلي ......
وقوله: وبدوام ركوبه ولبسه في: لا أركب وألبس. هذا الفرع بناه على شرط القاعدة الفقهية المعروفة التي هي: هل الدوام على الشيء كابتدائه أو لا؟. وعقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وهل دوامٌ كابتدا كمن حلف
…
أو صحَّ أو أحدث والَّذْ لم يقف الخ
يعني أنه يبنى على هذه القاعدة فروع منها: من حلف: لا أدخل الدار. وهو فيها، هل يحنث إن لم يبادر الخروج منها؟. أو لا يحنث ما دام فيها؟. ومن حلف لا يركب دابة، وهو راكب عليها، فهل يحنث إن لم يبادر النزول عنها، أو لا يحنث ما دام راكبًا عليها؟. ومن حلف لا يلبس ثوبًا، وهو لابسه حال يمينه، فهل يحنث إن لم يبادر إلى فسخه؟. أو لا يحنث ما دام لابسه؟. وقد مشى المصنف هنا على الشطر الأول من القاعدة. وهو: إن الدوام كالابتداء؛ فيحنث بدوام فعله الذي حلف لا يفعله وهو متلبس به. =
وبِعَزْمِهِ عَلَى ضِدِّهِ، وبِالنِّسْيَانِ إنْ أطْلَقَ، وبِالبَعْضِ، عَكْسُ البِرِّ، وبسويق أوْ لَبَنٍ فِي: لَا آكُلُ. لَا ماءٍ ولا بِتَسَحُّرٍ فِي: لا أتَعَشَّى، وذَواقٍ لَمْ يَصِلْ جَوْفَهُ، وبِوُجُودِ أكْثَرَ فِي: لَيْسَ مَعِي غَيْرُهِ، لِمُتَسَلِّفٍ، لَا أقَلَّ، وبِدَوامِ رُكُوبِهِ ولُبْسِهِ فِي: لَا أرْكَبُ وألْبَسُ لَا فِي كَدُخُولٍ، وبِدَابَّةِ عَبْدِهِ فِي دَابَّتِهِ، وَبِجَمْعِ الأَسْواطِ. فِي: لَأضْرِبَنَّهُ كَذا. وبِلَحْمِ الْحُوتِ وَبْيضِهِ، وعَسَلِ الرَّطْبِ فِي
= وقوله: وبجمع الأسواط في: لأضربنه كذا، تبع فيه مذهب المدونة ونص ما فيها: أرأيت لو أن رجلًا حلف ليضربن عبده مائة سوط، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة؟. قال مالك: لا يجزئه ذلك، ولا يخرجه من يمينه.
قلت: قال الله تعالى في سورة ص: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}
(1)
. قال ابن الجزي الكلبي في تفسير هذه الآية: الضغث: القبضة من القضبان، وكان أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برئ من مرضه، وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان، وقوله لها: إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض. فأمره أن يأخذ ضغثًا فيه مائة قضيب، فيضربها به ضربة واحدة، فيبر في يمينه. وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في حد رجل زنى وكان مريضًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق من نخلة فيه شماريخ مائة، فضرب به ضربة واحدة. ذكر ذلك أبو داود والنسائي. وأخذ به بعض العلماء، ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير عند الكلام على هذه الآية ما نصه: وهل ذلك خاص له أم لا؟. فيه قولان: أحدهما أنه عام، وبه قال ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي ليلى. والثاني: أنه خاص لأيوب. قاله مجاهد. واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط، فجمعها كلها وضربه بها ضربة واحدة، فقال مالك والليث بن سعد: لَا يَبر. وبه قال أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد منها، فقد بَرَّ. واحتجوا بعموم قصة أيوب عليه الصلاة والسلام. ا. هـ. منه بلفظه. =
(1)
سورة ص: 44.
مُطْلَقِهَا، وبِكَعْكٍ وخَشْكِنَانٍ وهَرِيسَةٍ وإطْرِيَةٍ فِي خُبْزٍ لَا عَكْسِهِ، وبِضَأْنٍ وَمَعْزٍ وَدِيَكَةٍ ودَجَاجَةٍ فِي غَنَمٍ ودَجَاجٍ لَا بأَحَدِهِمَا فِي آخَرَ، وَبِسَمْنٍ اسْتُهْلِكَ فِي سَوِيقٍ، وبزعْفَرانٍ فِي طَعَامٍ، لَا بِكَخَلٍّ طُبِخَ، وباسترخَاءٍ لَهَا فِي: لَا قَبَّلْتُكِ. أوْ: قَبَّلْتِني، وبِفِرَارِ غرِيمِهِ فِي: لَا فَارَقْتُكَ، أوْ فَارَقْتَنِي إلَّا بِحَقِّي، وَلَوْ لَمْ يُفَرِّطْ وَإِنْ أحَالَهُ، وِبالشَّحْمِ فِي اللَّحْمِ لَا الْعَكْسِ،
= وقد نسب القرطبي القول - بأنه عام للناس - لمجاهد الذي ذكر ابن الجوزي عنه القول بالخصوص، وقال: ذكره ابن العربي، وذكر عنه أيضًا لقول بخصوص هذا الحكم لأيوب عن عطاء، الذي ذكر ابن الجوزي عنه القول بأن هذا الحكم عام، وقال القرطبي: وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك الحكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة برَّ. وروي نحوه عن الشافعي، وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المُقْعَدِ الذي حملت منه الوليدة، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة. وقال القشيري: قيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم؟. فقال: ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع. قال: وروى أبو زيد عن ابن القاسم، عن مالك: من حلف ليضربن عبده مائة، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبرَّ. قال بعض علمائنا: يريد مالك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(1)
. أي أن ذلك منسوخ بشرعنا. ا. هـ. منه.
قلت - وعلى الله توكلت: إن الذي تقتضيه الأصول، العمل بهذا الحكم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والقول بالخصوصية لأيوب لا بد فيه من دليل، فالخصوصية لا تثبت بالاحتمال. وإنما قلت بعموم هذا الحكم جريًا على أصول مذهب الإمام الأصبحي؛ لأنها قضية جرت في شرع من قبلنا، ومعلوم أن مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟. ذات طرفين وواسطة؛ طرفها الأول، شرع من قبلنا فيه شرع لنا بلا خلاف؛ وهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، ونص لنا في شرعنا أنه شرع لنا كما كان شرعًا لهم؛ مثل الصوم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(2)
. ومثل القصاص. وطرفها الثاني، شرع من قبلنا فيه =
(1)
سورة المائدة: 48.
(2)
سورة البقرة: 183.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ليس شرعًا لنا قطعًا؛ وهو ما لم يثبت بشرعنا أصلًا أنه كان شرعًا لهم، ولو ادعوا أنه كان شرعًا لهم، وما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، إلا أنه نص لنا في شرعنا أنه ليس شرعًا لنا؛ مثل قتل النفس توبة من الذنب، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
(1)
. ومثل ما ثبت أنهم كانوا يقرضون النجاسة بالمقراض. فإن مثل هذه الآصار قد وضع عنا بدليل قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}
(2)
. الآية. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلا: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
(3)
. الآية، قال الله تعالى:"قَدْ فَعَلْتُ".
أمَّا الواسطة فهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، ولم ينص لنا في شرعنا على أنه شرع لنا، ولا على عدم ذلك. وقد جرى الخلاف في مثل ذلك، ومنه مسألتنا هذه التي هي موضع البحث، فقال مالك وأحمد وأبو حنيفة: شرع من قبلنا. - والحالة هذه - شرع لنا، بدليل قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
(4)
. وبدليل قوله تعالى؛ بعد أن ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
(5)
. قالوا: ولم تذكر لنا قصصهم إلا للإِعتبار بها، وفائدة الإِعتبار العمل:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(6)
.
وخالف الشافعي عليه رحمة الله محتجًا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(7)
. ومجيبًا عن آية الأنعام بأنه إنما أمر بالإِقتداء بهم في التوحيد، فهو المقصود بالهدى بقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وقال: إن الدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} . كذلك المراد به التوحيد.
وقد يخفى على الفطن الصواب؛ إذْ خفي على أبي عبد الله القرطبي حتى قال: قال علماؤنا يريد مالكًا في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . وهي الآية التي يحتج بها =
(1)
سورة البقرة: 54
(2)
سورة الأعراف: 157.
(3)
سورة البقرة: 286.
(4)
سورة الشورى: 13.
(5)
سورة الأنعام: 90.
(6)
سورة يوسف: 111.
(7)
سورة المائدة: 48.
وَبَفَرْعٍ فِي: لَا آكُلُ مِنْ كَهذَا الطَّلْعِ، أوْ هذَا الطَّلْعَ، أوْ طَلْعًا إلَّا نَبِيذَ زَبيبٍ، وَمَرَقَةَ لَحْمٍ أوْ شَحْمِهِ، وخُبْزَ قَمْحٍ، وعَصِيرَ عِنَبٍ، وَبِمَا أنْبَتَتِ الحِنْطَةُ - إنْ نَوَى المَنَّ - لَا لِرَدَاءةٍ أوْ لِسُوءِ صَنْعَةِ طَعَامٍ، وبالْحَمَّامِ فِي الْبَيْتِ، أوْ دَارِ جَارِه، أوْ بَيْتِ شَعَرٍ كَحَبْسٍ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، لَا بِمَسْجِدٍ، وَبِدُخُولِهِ عَلَيْهِ مَيِّتًا فِي بَيْتٍ يَمْلِكُهُ، لَا بِدُخُولِ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْوِ الْمُجَامَعَةَ، وَبِتَكْفِينِهِ فِي: لَا
= الشافعي على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا. وقد أجاب الجمهور عن احتجاجه بها بأن المراد بهذه، نسخ بعض ما في شريعة هذا وزيادة في شريعة الآخر ما لم يشرع في الأخرى، كما أجابوا عن تخصيص الهدى والدين في الآيتين بالتوحيد. ودعوى ذلك، بما أخرجه البخاري في صحيحه عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في ص؟. فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو نص صحيح صريح على أن سجود التلاوة داخل في قوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وسجود التلاوة فرع شرعي قطعًا.
والحاصل أن هذا الفرع يلزم القول ببقائه جريًا على أصول الجمهور. علمًا بأن الشافعي رحمه الله، يقول ببقائه خلافًا لقواعده. ولعل ذلك لورود النص من السنة على أنه شرع لنا؛ فقد أخرج أبو داود قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضْنَى، فعاد جلدةً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت عليَّ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. ا. هـ. بنقل القرطبي.
فهذا الحديث وإن تكلم في سنده، فقد أخذ به الشافعي، ولا يأخذ به إلا وهو صالح =
نَفَعَهُ حَيَاتَهُ. وبأكْلٍ مِنْ تَركَتِهِ قَبْلَ قَسْمِهَا في: لَا أَكلْتُ طَعَامَهُ. إنْ أوصَى أوْ كَانَ مَدِينًا، وبِكتَابٍ إنْ وَصَلَ أوْ رَسُولٍ في: لَا كَلَّمَهُ. وَلَمْ يُنَوِّ فِي الكِتَابِ فِي الْعِتْقِ والطَّلَاقِ، وبالإِشارة له وَبِكَلَامِهِ وَلَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ لَا قِرَاءَتِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ قِرَاءَةِ أحَدٍ عَلَيْهِ بِلَا إذْنٍ، ولَا بِسَلَامِهِ عَلَيْهِ بِصَلَاةٍ، وَلا كِتَابِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَوْ قَرأَ عَلَى الأَصْوَبِ وَالْمُخْتَارِ، وَبِسَلَامِهِ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أنَّه غيره. أو في جَمَاعَةٍ إِلَّا أنْ يُحَاشِيَهُ.
وَبِفَتْحٍ عَلَيْهِ وَبِلَا عِلْمِ إذْنِهِ في: لَا تَخْرُجِي إلَّا بِإذْنِي. وبِعَدَمِ عِلْمِهِ فِي: لا أُعَلِّمَنَّهُ وَإنْ بِرَسُولٍ. وهل إلَّا أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ عَلِمَ؟. تَأْوِيلَانِ، أو عَلِمَ والٍ ثانٍ في حَلِفِهِ لأوَّلَ فِي نَظَرٍ. وَبِمَرْهُونٍ في: لا ثَوْبَ لي. وَبِالْهِبَةِ والصَّدَقَة فِي: لَا أعَارَهُ. وَبالْعَكْسِ، وَنُوِّيَ إلَّا فِي صَدَقَةٍ عَنْ هِبَةٍ، وببَقَاءٍ ولَوْ لَيْلًا فِي: لَا سَكَنْتُ، لَا فِي: لأنْتَقِلَنَّ. ولَا بِخَزْنٍ وانْتَقَل فِي: لَا سَاكَنَهُ - عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ أوْ ضَرَبَا جِدَارًا وَلَوْ جَريدًا - بِهذِهِ الدَّارِ، وبالزِّيارَةِ إنْ قَصَدَ التنَحِّيَ، لَا لِدُخُولِ عِيَالٍ إنْ لَمْ يُكْثِرْهَا نَهَارًا ويَبِتْ بِلَا مَرَضٍ. وسَافَرَ الْقَصْرَ فِي: لأُسَافِرنَّ. ومَكَثَ
للإحتجاج به، وذلك ما دعاه رحمه الله، إلى ترك أصله هنا؛ لأنه لا يرى أن شرع من قبلنا شرع لنا، فكيف لا نعمل نحن بهذا الفرع، وقواعدنا تقتضي أن نأخذ به، لو لم تكن مؤيدة بالدليل، الذي هو الحديث آنف الذكر؟. هذا، والله حسبنا ونعم الوكيل.
أما بقية كتاب اليمين فكلها تحقيق مناط فيما يرجع إلى نية الحالف، أو إلى بساطه، أو إلى العرف القولي، أو المقصد اللغوي أو الشرعي. ومعلوم أن ما يدور حول النية دليل مأخذه:"إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". وقد تقدم ذكره مرارًا، فهو إحدى أمهات الفقه.
كل هذه المسائل تحقيقات مناط كما قدمت، تحوم حول النية، وبساط اليمين، والمقاصد؛ القولية، واللغوية، والشرعية. =
نِصْفَ شَهَرٍ ونُدِبَ كَمَاله؛ كَأنْتَقِلَنَّ وَلَوْ بِإِبْقَاءِ رَحْلِهِ، لا بِكَمسْمَارٍ. وهَلْ إنْ نَوى عَدَمَ عَوْدهِ تَرَدُّدٌ. وباسْتِحْقَاقِ بَعْضِهِ أوْ عَيْبِهِ بَعْدَ الأجَلِ، وبَيعٍ فَاسِدٍ فَاتَ قَبْلَهُ إنْ لَمْ تَفِ، كأنْ لَمْ يَفُتْ على المُخْتَارِ. وبِهِبَتهِ لَهُ، أوْ دَفْعِ قَرِيبٍ عَنْهُ، وَإنْ مِنْ مَالِهِ. أوْ شَهَادَة بيِّنَةٍ بِالْقَضَاءِ، إلا بِدَفْعِهِ ثُمَّ أخْذِهِ، لَا إنْ جُنَّ ودفع الحاكم، وَإنْ لَمْ يَدْفَعْ فَقَوْلَانِ وبِعَدَمِ قَضَاءٍ فِي غَدٍ فِي: لَأقْضِيَنَّك غَدًا يَوْمَ الجُمُعَةِ. ولَيْسَ هو، لَا إن قَضَى قبله. بِخِلافِ: لآكُلَنَّهُ. ولَا إنْ بَاعَهُ بِهِ عَرْضًا وبَرَّ إن غَابَ بِقَضَاءِ وَكِيلِ تَقَاضٍ أوْ مُفَوَّضٍ، وهَل ثَمَّ وَكيلُ ضَيْعَةٍ أوْ إنْ عُدِمَ الحَاكِمُ وعَلَيهِ الأكثَرُ؟. تأويلان. وبرئ في الْحَاكِمِ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ جَوْرَهُ، وإلَّا برَّ كَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُمْ، ولَهُ يَومٌ ولَيْلَةٌ فِىِ رَأسِ الشَّهْرِ أو عند رَأسِهِ، أوْ إذَا اسْتَهَلَّ، أوْ إلى رَمَضانَ، أوْ لاسْتِهْلَالِهِ شَعَبانُ، وبِجَعْلِ ثَوْبٍ قَباءً أوْ عِمَامَةً فِي: لَا ألْبَسُهُ. لَا إنْ كَرهَهُ لِضِيقِهِ وَلا وَضَعَهُ عَلَى فَرْجِهِ، وبدُخُولِهِ مِنْ بَابٍ غُيِّرَ
= وقوله: وفي بره في: لأَطَأَنَّهَا. فوَطِئَهَا حائضًا، جرى الخلاف فيه على شطري القاعدة الفقهية: هل المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا، أو لا؟. وقد عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
هَلْ غَالِبٌ أَوْ ما بِشَرْعٍ قَدْ عُدِمْ
…
أَوْ ضِدُّهُ كما بِتَحْقِيقٍ عُلِمْ
كالسُّؤْرِ وَالصَّيْدِ وَكَالْوَطِءِ رُعَافْ
…
تَيَمُّمٍ وَكَإِمَامٍ واصْطِراف
ومحل الشاهد في البيت الثاني هو قوله: وكالوطء؛ أي ومما يبنى على هذه القاعدة من الفروع من حلف ليطأن زوجته، فوطئها وهي حائض، أو صائمة، هل يبر يمينه بناء على أنه فعل؟. أو هو لا يزال على حنث لأن فعله ذلك لا وجود له شرعًا؛ لأن الشرع لم يأذن فيه، والمعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا.
وحيث تقل المسائل المدللة في هذا الباب المنصرم، فإن المصنف ركز فيه على جمع نظائر يراها أمثلة لما قرره من مقتضيات البر والحنث الخمسة، فصار كلما أتى بالباء يعني به: ويقع =
فِي: لَا أدْخُلُهُ. إنْ لَمْ يَكْرَهْ ضِيقَهُ. وبِقِيامِهِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَبِمُكْتَرىً فِي: لَا أدْخُلُ لفُلَانٍ بَيْتًا. وبأكْلٍ مِنْ وَلَدٍ دَفَعَ لَهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ، وَإنْ لَمْ يَعْلَمْ إنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وبالْكَلَامِ أبَدًا فِي: لَا كَلَّمَهُ الأيَّامَ أو الشُّهُورَ. وَثَلَاثَةٌ فِي كَأيَّام. وَهَلْ كَذلِكَ فِي: لأهْجُرَنَّهُ، أوْ شَهْرٌ قَوْلَانِ. وسَنَةٌ فِي: حِينٍ وزَمَانٍ وعَصْرٍ ودَهْرٍ بِمَا يُفْسَخُ. أَوْ بِغَيرِ نِسَائِهِ فِي: لأَتَزَوَّجَنَّ. وَبِضَمَانِ الْوَجْهِ فِي: لَا أتَكَفَّلُ. إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَ الغُرْمِ. وَبِهِ لو كِيلٍ فِي: لَا أَضْمَنُ لَهُ إنْ كان مِنْ ناحِيَتِهِ. وَهَلْ إنْ عَلِمَ؟. تَأويلَانِ. وبِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُهُ قَالَهُ لِغَيْري، فِي: لَيُسِرَّنَّهُ. وبِاذْهَبِي الآن. إثْرَ: لَا كَلَّمْتُكِ حَتَّى تَفْعَلِي. ولَيْسَ قَوْلُهُ: لَا أبَالِي. بَدْءًا لِقَوْلٍ آخَرَ: لَا كَلَّمْتُكَ حَتَّى تَبْدَأَنِي. وبالإِقَالَةِ فِي: لَا تَرَكَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا إنْ لَمْ تَفِ. لَا إنْ أخَّرَ الثَّمَنَ عَلَى الْمُخْتَارِ. ولَا إنْ دَفَنَ مَالًا فَلَمْ يَجِدْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَكَانَهُ فِي:
= الحنث بكذا، وكلما أتى بـ: لا. يعني به: لا يقع الحنث إن فعل كذا، إلى أن أتى على نهاية الباب. ولذلك رأيت أن آتي ببعض ما ورد في السنة من أدلة اليمين، فأقول، وبالله تعالى توفيقي، ناقلًا بعض كلام البغوي في شرح السنة أولًا:
قال رحمه الله: اليمين إنما تنعقد بالله، أو باسم من أسماء الله، أو بصفة من صفات ذاته. واليمين به أن يقول: والذي لا إله غيره. والذي أعبده. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ.
واليمين بأسمائه كقوله: واللهِ، والرحمنِ، والرحيمِ، والخالق، والبارئ، والرازق، والربِّ، والعزيز، والسميع، والبصير، وفالق الإِصباح. قال ابن عمر: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ". فهذا كله يمين، سواء أراد المرء به اليمين، أو أطلق، أو أراد غير اليمين.
واليمين بصفات الذات لازمة كقوله: وعظمةِ الله، وجلالِ الله، وعزةِ الله، وقدرةِ الله، وكبرياءِ الله، وعلمِ الله، وكلامِ الله، فهذا كله يمين. سواء أراد به اليمين أو أطلق. قال: وكذا =
أخَذْتِهِ. وبِتَرْكِهَا عَالِمًا فِي: لَا خَرَجْتِ إلَّا بإذْنِي. لا إنْ أذِنَ لأمْرٍ فَزادَتْ بِلَا علْمٍ. وبِعَوْدِهِ لَهَا بَعْدُ بِمِلكِ آخَرَ فِي: لَا سَكَنْتُ هذِهِ الدَّارَ، أوْ دَارَ فُلَانٍ هذِهِ إنْ لَمْ يَنْوِ، مَا دَامَتْ لَهُ، لَا دَارَ فُلَانٍ وَلا إِنْ خَرِبَتْ وصَارَتْ طَرِيقًا، إنْ لَمْ يأمُرْ بِهِ، وفِي: لَا بَاعَ مِنْهُ، أوْ لَهُ. بالوَكيلِ إنْ كَانَ مِنْ ناحِيَتِهِ، وإنْ قَالَ حِينَ البَيْعِ: أنَا حَلَفْتُ. فَقَالَ: هُو لِي: ثُمَّ صَحَّ أنَّه ابْتاعَ لَهُ حَنِثَ وَلَزِمَ الْبَيْعُ، أجَزأ تَأخِيرُ الْوارِثِ فِي: إلَّا أنْ تُؤخِّرَني، لَا فِي دُخولَ دَارٍ، وتأخِيرُ وَصِيٍّ النَّظَرِ، ولَا دَيْنَ وَتَأخِيرُ غَرِيمٍ إنْ أحَاطَ وأبْرَأ، وَفِي بِرِّهِ فِي: لأَطَأنَّهَا. فَوَطِئَهَا حائضًا، وفي: لَتَأكُلِنَّهَا. فَخَطَفَتْهَا هِرَّةٌ، فَشَقَّ جَوْفَهَا، وَأُكِلَتْ. أوْ بَعْدَ فَسَادِهَا قَوْلانِ، إلَّا أنْ تتَوانَى. وفيهَا الحِنْثُ بأحَدِهِمَا فِي: لَا كَسَوْتُهَا. ونيتُهُ الجَمْعُ اسْتُشْكِلَ.
= لو قال: وأيمُ الله، أو لعمرُ الله، فهو يمين إن أراد به اليمين أو أطلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم في زيد بن حارثة:"وأيْمُ اللهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقًا بِالْأمَارَةِ". وإن أراد غير اليمين فليس بيمين. وكذلك جميع صفات الذات، ولو قال: عليَّ عهد الله وميثاقه. فليس بيمين إلا أن يريد به اليمين. وكذلك لو قال: شهدت بالله، أو أشهد بالله، أو عزمت بالله، أو أعزم بالله، فلا يكون يمينًا إلا أن يريده. ولو قال: أقسمت بالله، أو حلفت بالله، أو أقسم بالله، أو أحلف بالله، فإن أراد بالأول إخبارًا عن يمين في الماضي، أو أراد بالثاني وعد يمين في المستقبل، فليس بيمين، وإن أراد بهما يمينًا في الوقت فهو يمين، وإن أطلق، ففيه قولان. قال: وقال إبراهيم: كان أصحابنا ينهوننا - ونحن غلمان - أن نحلف بالشهادة، والعهد، قال: ولو قال: وخلْقِ الله، ورزْقِ الله، فليس بيمين. قال الشافعي: ومن حلف بغير الله فهو يمين مكروهة، وأخشى أن تكون معصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ ان تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ". فإن قيل: أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته؟. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}
(1)
. وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
(2)
. وقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ}
(3)
. فالجواب، إن فيه إضمارًا هو: ورب السماء، ورب الشمس، كما جاء مصرحًا به في موضع آخر، قال عز وجل:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}
(4)
. وقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}
(5)
.
قلت: بل القول الفصل في ذلك أن لله أن يقسم بما شاء كيف يشاء، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أو لِيَصْمُتْ".
قال: فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي الذي سأله عن الإِسلام، قال بعد ما بيّن له: لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال عليه السلام: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"؟! فالجواب: إن تلك كلمة جرت على لسانه، على عادة العرب في الكلام الجاري على ألسنتها، لا على قصد القسم، بل كانت تستعملها كثيرًا في خطابها، تؤكد بها الكلام لا على وجه التعظيم، والنهي إنما وقع إذا كان ذلك واقعًا على وجه التوقير والتعظيم له، فالحالف بالله يقصد بذكر الله سبحانه وتعالى في يمينه التعظيم، ومعلوم أنه لا يحلف بأبي الغير لقصد التعظيم والتوقير. وقيل: فيه إضمار معناه، ورب أبيه، كما سبق في تأويل الآية، وإنما نهاهم عنه لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في أيمانهم، وإنما كانوا يحلفون تعظيمًا لأبائهم. والله أعلم.
قال: وروي عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلًا يقول: لا، والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أو أشْرَكَ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وروي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِالْأمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا". أخرجه أبو داود، وأحمد وإسناده صحيح كما قال شعيب. ومن حديث متفق عليه عن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وَمَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ". قال البغوي: ذهب جماعة من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن من قال: إن
(1)
سورة البروج: 1.
(2)
سورة الشمس: 1.
(3)
سورة الفجر: 1.
(4)
سورة المعارج: 40.
(5)
سورة الذاريات: 23.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فعل كذا فهو يهودي أو نصراني، أو بريء عن الإِسلام، ففعل، قالوا: عليه كفارة يمين. وبه قال النخعي، والأوزاعي، والثوري. وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق.
وقال قوم: قد أتى هذا على أمر عظيم ولا كفارة عليه. وهو قول أهل المدينة. وبه أخذ مالك، والشافعي، وأبو عبيد، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة:"مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلفِهِ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى: فَلْيَقُلْ: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ". وهو من حديث متفق عليه.
وروي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الإِسْلَامِ، فَإنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وإنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الإِسْلَامِ سَالِمًا". أخرجه أبو داود في الأَيمان والنذور، وابن ماجه في الكفارات. قال شعيب: وإسناده لا بأس به.
تنبيه: اليمين مكروهة إلا فيما فيه لله طاعة. قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا}
(1)
. أي لا تجعلوا الله مانعًا لكم عن البر؛ فإن حلف على ترك مستحب أو على فعل مكروه، فالأفضل له أن يحنث نفسه، ويكفّر، وإلا فحفظ اليمين أولى. قال تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}
(2)
. أي احفظوها بعد ما حلفتم من الحنث. وقيل معناه: لا تحلفوا. وهذا قول الجمهور.
وقال قوم: من حلف على معصية وجب عليه الحنث، ولا كفارة عليه. يروى ذلك عن سعيد بن جبير. ودليل هذا القول ما أخرجه أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: نزل بنا أضياف، وكان أبو بكر يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فقال: لا أرجعن إليك حتى تنتهي من ضيافة هؤلاء ومن قراهم. فأتاهم بقراهم فقالوا: لا نطعمه حتى يأتي أبو بكر. فجاء فقال: ما فعل أضيافكم؟. أفرغتم من قراهم؟. قالوا: لا. قلت: قد أتيتهم بقراهم فأبوا وقالوا: والله لا نطعمه حتى يجيء. فقالوا: صدق، قد أتانا به فأبينا حتى تجيء. قال: فما =
(1)
سورة البقرة: 224.
(2)
سورة المائدة: 89.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= منعكم؟. قالوا: مكانك. قال: والله لا أطعمه الليلة. قال: فقالوا: ونحن والله لا نطعمه حتى تطعمه. قال: ما رأيت في الشر كالليلة قط. قال: قربوا طعامكم. قال: فقرب طعامهم. فقال: بسم الله، فطعم وطعموا، فأخبرت أنه أصبح فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع وصنعوا. قال:"بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَصْدَقُهُمْ". وفي رواية أخرى لأبي داود زيادة: ولم يبلغني كفارة. ا. هـ.
النَّذْرُ
(1)
فصل:
النَّذْرُ الْتِزَامُ (2) مُسْلِمٍ كُلِّفَ (3) - وَلَوْ غَضْبَانَ (4) - وَإنْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي، أوْ أرَى خَيْرًا مِنْهُ.
فصل في النذر
(1)
قوله: فصل في النذر، قال المواق: كتاب النذر والنظر في أركان النذر وأحكامه. أما أركانه فهي: الملتزِم، والملتزَم، وصيغة الالتزام. وأما أحكامه فالملتزمات أنواع: الصوم، والحج، وإتيان المساجد، والضحايا، والهدايا.
(2)
وقوله: النذر التزام، أي هو عبارة عن التزام المرء وإيجابه على نفسه فعل قربة لم تكن واجبة قبل ذلك عليه. أو أن يوجب على نفسه ترك أمر لم يكن تركه واجبًا عليه. مثل أن يلزم نفسه صلاة شفعتي الضحى، أو يلزم نفسه عدم الكلام بعد صلاة الصبح إلى حلول النفل؛ لأنه إنما يلزم بالنذر فعل الطاعة المستحبة، كما لا يلزم بالنذر إلا ما يستحب تركه، وذلك لحديث:"مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ".
(3)
وقوله: مسلم مكلف، المواق: يشترط للنذر التكليف والإِسلام. قال ابن عرفة: قال ابن رشد: أداء ما التزمه الكافر بعد إسلامه عندنا مندوب.
قلت: فقد ثبت في الحديث أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فأمره بالوفاء بنذره. وقد تقدم لفظه وتخريجه في باب الاعتكاف. ولله الحمد.
(4)
وقوله: ولو غضبان، في المواق: قال ابن بشير: إن التزام الطاعات يلزم عندنا - كان على وجه الرضا أو على سبيل اللجاج - وهذا هو المشهور. وقد حكى الأشياخ أنهم وقفوا على قولة لابن القاسم علقت أنه ما كان من هذا القبيل على سبيل اللجاج والحرج، تكفي فيه كفارة يمين، وهذا أحد أقوال الشافعي. =
بِخِلَافِ: إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَبِمَشِيئَتِهِ. وإنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ (1). كَلِلَّهِ عَلَيَّ، أوْ عَليَّ ضَحِيَّةٌ. ونُدِبَ الْمُطْلَقُ وَكُرِهَ الْمُكَرَّرُ (2)، وفِي كُرْهِ الْمُعَلَّقِ تَرَدُّدٌ. وَلَزِمَ البَدَنَةُ
= قال: وكان من لقيناه من الشيوخ يميل إلى هذا المذهب، ويعدونه نذرًا في معصية، فلا يلزمه الوفاء به.
قال: وقد تقدم عن الشيخ ابن لب هذا المعنى في الصوم، وأن كفارة ذلك كفارة يمين. ورشحه ابن عبد البر قائلًا: الحالف بالطاعة عند اللجاج والغضب، عن قصد العبادة بمعزل. وقد قال مالك للقائل لناقته: أنت بدنة: أزَجْرَهَا قصدت؟. قال: نعم، قال: لا شيء عليك. قال ابن رشد لأنه لم يقصد القربة.
وقوله: ولو قال: إلا أن يبدو لي أو أرى خيرًا منه، قال في المدونة: من قال عليَّ المشي إلى بيت الله، إلا أن يبدو لي. أو إلا أن أرى خيرًا من ذلك. فعليه المشي ولا ينفعه استثناؤه؛ يريد إلا أن يضمن يمينه بفعل، فينفعه قوله: إلا أن يبدو لي؛ يريد إلا أن يبدو لي في الفعل. قال المواق: وقد رشح ابن يونس أن قوله: إلا أن يبدو لي. كقوله: إلا أن يشاء فلان. وهذا لا شيء عليه حتى يشاء فلان، فكذلك إذا لم يشأ هو. ا. هـ.
(1)
وقوله: وإنما يلزم فيما ندب، في المواق: إن قال: لله عليَّ إن فعلت كذا. فعليَّ طلاق زوجتي، وعتق أمتي. ففعل، فبين الزوجة والأمة فرق؛ فإن الطلاق لا يلزمه لأنه غير قربة، ويؤمر بعتق الأمة ولا يجبر على ذلك. نقل ذلك من النوادر من سماع عيسى. قال: قال ابن رشد: النذر المستحب هو المطلق؛ الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليه فيما مضى أو لغير سبب، وذلك أن يقول الرجل: لله عليَّ كذا وكذا. أو لله عليَّ نذر أن أفعل كذا. أو نذر أن لا أفعل كذا.
(2)
وقوله: وندب المطلق وكره المكرر، قال الحطاب: النذر ثلاثة أقسام: مستحب؛ وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكرًا لله تعالى على ما كان ومضى. ا. هـ. ومن المدونة: من نذر صوم كل خميس يأتي، لزمه، فإن أفطر منه خميسًا متعمدًا قضاه. وكره مالك أن ينذر صوم يوم بعينه.
وقوله: وفي كره المعلق تردد، نقل المواق عن الباجي: لا خلاف في جواز النذر، وأما =
بِنَذْرِهَا، فإنْ عَجَزَ فَبَقَرَةٌ. ثُمَّ سَبْعُ شِيَاهٍ لَا غَيْرُ. وَصِيامٌ بِثَغْرٍ، وثُلُثُهُ حِينَ يَمِينِهِ، إلَّا أنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِي بِمَالِي فِي سَبِيلِ اللهِ؛ وَهُوَ الجِهَادُ والرِّبَاطُ بِمَحَلٍّ خِيفَ، وأنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ.
= حديث النهي عنه، وأنه يستخرج به من البخيل، فإنما معناه أن ينذر لأمر من أمور الدنيا. قال الحطَّاب: قال في التلقين. ويلزم عند وجود شرطه، سواء كان شرطه مباحًا أو محظورًا أو طاعة أو معصية، كان فعلًا للناذر أو لغيره من العباد، أو من فعل الله تعالى. ا. هـ.
قال القرطبي: ورد في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لَا تَنْذرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ شَيْئًا". قال القرطبي: محل النهي أن يقول: إن شفى الله مريضي فعليَّ عتق أو صدقة ونحوه؛ ووجهه أنه لما وقف فعل القربة على حصول غرض عاجل، ظهر أنه لم تتمحض فيه نية التقرب إلى الله تعالى، بل سلك سبيل المعاوضات، وهذا حال البخيل الذي لا يخرج من ماله إلا بعوض عاجل أكثر منه، ثم ينضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله يفعل ذلك الغرض لأجل النذر، وإليهما الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ شَيْئًا". فالأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صراح. وإذا تقرر هذا، فهل النهي محمول على التحريم أو على الكراهة؟. فالمعروف من مذاهب العلماء الكراهة. قال الحطاب: والذي يظهر لي التحريم، في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرمًا، وتكون الكراهة في حق من لم يعتقد ذلك. ا. هـ. منه
قلت: فأين الصفة التي قرر الحطاب تحريمها من النذر، لرجل غني جدًا، اعتادت العامة النذر له، معتقدين أنه لا ينذر له في شيء إلا حصل، وشاع الأمر حتى فوض المذكور جباة يجبون له نذوره، بمستندات عليها صورهم الشمسية، وكثيرًا ما يعترضون المسافرين عندما تتوقف السيارات لدى مركز من مراكز الشرطة أو الجمارك، قائلين: من عنده شيء من نذر فلان؟. إن هذه الصورة في نظري مفسدة لعقيدة العوام، وتتنافى كل التنافي مع قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
. الآية. إن النذر عبادة، وإن صرفها لمخلوق لا يخفى على موحد ما فيه. والعياذ بالله. =
(1)
سورة الأنعام: 162.
إلَّا لِمُتَصَدَّقٍ بِهِ على مُعَيَّنٍ فَالْجَمِيعُ، وكَرَّرَ إنْ أخْرَجَ وإلَّا فَقَولَانِ. وما سمَّى وإنْ مُعَيَّنًا أتَى عَلى الجَمِيعِ. وبَعْثُ فَرسٍ وسِلَاحٍ لِمَحَلِّهِ إنْ وَصَلَ، وإنْ لَمْ يَصِلْ بِيعَ وعُوِّضَ كَهَدْيٍ ولَوْ مَعِيبًا عَلَى الأصَحِّ، ولَهُ فِيهِ إذَا بِيعَ الإِبْدَالُ بِالأفْضَلِ، وإنْ كَانَ كَثَوْبٍ بِيعَ وَكُرهَ بَعْثُهُ وأهْدِيَ بِهِ. وهَل اخْتُلِفَ هَلْ يُقَوِّمُه أوْ لَا؟. أو نَدْبًا، أو التَّقْوِيمُ إذَا كَانَ بِيَمِينٍ؟. تأويلاتٌ.
وقوله: ولزم البدنة بنذرها، فإن عجز فبقرة، ثم سبع شياه؛ فقد روى مالك، عن عمرو بن عبيد الأنصاري أنه سأل سعيد بن المسيب عن بدنة جعلتها امرأة عليها، فقال سعيد: البدن من الإِبل، ومحل البدن البيت العتيق، إلا أن تكون سمت مكانًا من الأرض، فلتنحرها حيث سمت، فإن لم تجد بدنة فبقرة، فإن لم تجد بقرة فعشرًا من الغنم. ثم جئت سالم بن عبد الله فسألته فقال: مثل ما قال سعيد، غير أنه قال: فإن لم تجد بقرة فسبعًا من الغنم. ثم جئت خارجة بن زيد فقال مثل ما قال سالم، ثم جئت عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، فقال مثل ما قال سالم. ا. هـ. شرح السنة للبغوي.
وقوله: وثلثه حين يمينه ألخ. فقد تقدم الكلام على الحلف بالصدقة بالمال، على الكلام على قول المتشدق: عليه أشد ما أخذ أحد على أحد، فأغنى عن إعادته هنا. والحمد لله.
ودليل مالك في لزوم الثلث فيمن جعل ماله صدقة، قضية أبي لبابة بن عبد المنذر، حين تاب الله عليه من هفوته في بني قريظة، قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من جميع مالي في سبيل الله. فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار عليه بأن يتصدق بثلثه. ا. هـ.
وقوله: وبعث فرس وسلاح لمحله وإن لم يصل بيع وعوض، ذكر في المدونة قال مالك: من جعل عبده صدقة، أو في سبيل الله، في يمين فحنث ولا مال ولا غيره، ففي الصدقة يبيعه ويتصدق بثمنه، وفي السبيل يدفع ثمنه إلى من يغزو عنه من موضعه إن وجد، وإن لم يجد فليبعث بثمنه، وإن كان فرسًا أو سلاحًا أو شيئًا من آلات الحرب، جعله في السبيل في يمين فحنث، أو في غير يمين، فليبعث بثمنه فيجعل في مثل المبيع من كراع أو سلاح أو غيره، بخلاف البقر الهدي، تباع إذا لم تبلغ؛ فيجوز أن يشتري بثمنها إبلًا، لأن ذلك كله للأكل، وهذا تختلف =
فَإنْ عَجَزَ عُوِّضَ الأدْنَى، ثُمَّ لِخَزَنَةِ الْكَعْبَةِ، يُصْرَفُ فِيهَا إن احْتَاجَتْ وَإِلَّا تُصُدِّقَ بِهِ. وأعْظَمَ مَالِكٌ أنْ يَشْرَكَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ؛ لأنَّهَا ولَايَةٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام، والْمَشْيُ لِمَسْجِدِ مَكَّةَ وَلَوْ لِصَلَاةٍ، وخَرَجَ مَنْ بِهَا وَأتَى بِعُمْرَةٍ، كَمَكَّةَ أو الْبَيتِ أوْ جُزئِهِ لَا غَيْرُ، إنْ لَمْ يَنْوِ نُسُكًا مِنْ حَيْثُ نَوَى، وإلَّا حَلَفَ، أوْ مِثْلِهِ إنْ حَنِثَ بِهِ، وتَعَيَّنَ مَحَلٌّ اعْتِيدَ، وَرَكِبَ فِي الْمَنْهَلِ، ولِحَاجَةٍ كَطريقٍ قُرْبَى اعْتِيدَتْ، وبَحْرًا اضْطُرَّ لَهُ لَا اعْتيدَ، عَلَى الأرْجَح.
= منافعه. ا. هـ. من المواق.
وقوله: ثم لخزنة الكعبة، يصرف فيها إن احتاجت، وإلا تصدق به، يعني به أنه إن عجز ثمن ما لا يهدي، عن قيمة أدنى الهدي وهو الشاة، يدفع ذلك المال لخزنة الكعبة، يصرف فيها إن احتاجت إليه. وإن لم يحتج إليه فيتصدق به. قال في المدونة: وإن لم يبلغ ثمن هدي وأدناه شاة، أو فضل منه ما لا يبلغ ذلك قال مالك: يبعثه إلى خزنة الكعبة ينفق عليها. وقال ابن القاسم: أحب إليَّ أن يتصدق به حيث شاء. قالوا: لأن الكعبة لن تكون في حاجته. قال مالك: فالكعبة لا تنقض فتبنى، ولا يكسوها إلا الملوك، ويأتيها من الطيب ما فيه كفاية. قال: ومكانسها خوص لا تساوي إلا ما لا بال له، فلم يبق إلَّا أن تأكله الحجبة، وليس ذلك من قصد صاحب النذر في شيء.
لطيفة: ذكر الحطاب هنا نبذة تتعلق بحجبة بيت الله الحرام، نختصرها فيما يلي طلبًا للفائدة إن شاء الله، وإن كانت ليست من النذر في شيء وإنما جاءت استطرادًا لذكر الخزنة. قال: الخزنة جمع خازن. وخزنة الكعبة بنو شيبة، يقال لهم: خزنة، وحجبة. ومهنتهم يقال لها: حجابة، وسدانة، وخزانة.
قال المحب الطبري: الحجابة منصب بني شيبة، ولّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، كما ولى عمه العباس السقاية رضي الله عنه. وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح قال لعثمان بن طلحة: "ائْتِ بِالْمِفْتَاحِ". فأتاه به، ثم دفعه إلى عثمان فيما بعد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال: "خُذُوهَا يَا بَنِي أَبِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ". ثم ذكر الحطاب بحثًا في أن هؤلاء درجوا أو أنهم باقون رجح فيه بقاءهم إلى أيامه وقال: إنه كان في سنة تسعمائة وأربعين هجرية. بل قال: إن في الحديث المتقدم إشارة إلى أن هذه العائلة باقية، لقوله صلى الله عليه وسلم:"خَالِدَةً تَالِدَةً" فقد قال أهل العلم: لا يجوز نزع السدانة منهم. بل أعظم مالك أن يشرك غيرهم معهم لأنها ولاية ولاها إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المحب الطبري: هذا إذا حافظوا على حرمة البيت، ولازموا في خدمته الأدب، أما إذا لم يحفظوا حرمته، فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته.
قال: وربما نزع البليد بقوله صلى الله عليه وسلم: "وَكُلُوا بِالْمَعْرُوفِ". فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، وأنه من أشنع البدع وأقبح الفواحش. وهذه اللفظة إن صحت، يستدل بها على إقامة الحرمة لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف، وإنما الإِشارة - والله أعلم - إلى ما يقصدون به من البر والصلة على وجه التبرر فلهم أخذه لا محالة، أو إلى ما يأخذونه من بيت المال على ما يتولونه من خدمته والقيام بمصالحه فلا يحل لهم من ذلك إلا بقدر ما يستحقونه.
ونقل الحطاب قال: وما ذكره المحب الطبري من أنهم يمنعون من هتك حرمته، هو الحق الذي لا شك فيه، لا كما يعتقده بعض الجهلة من أنه لا ولاية لأحد عليهم، وأنهم يفعلون في البيت الشريف ما شاؤُوا، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، وإنما المحرم نزع المفتاح منهم، وأما إجراء الأحكام الشرعية عليهم، ومنعهم مما فيه انتهاك لحرمة البيت أو قلة أدب، فهذا واجب لا يخالف فيه أحد من المسلمين، وما ذكره من تحريم أخذ الأجرة على فتح البيت أيضًا ظاهر لا يشك فيه، ووجهه أن أخذ الأجرة إنما يجوز على ما يختص الإِنسان بمنفعته والانتفاع به، والبيت لا يختص به أحد دون أحد، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على فتحه، وإنما لهم الولاية على فتحه وإغلاقه في الأوقات التي جرت العادة بفتحه فيها، ولا يجوز لهم إغلاقه ومنع الناس منه دائمًا. والله أعلم. ا. هـ. منه.
قلت: وهذا ما جعل أولياء الأمور اليوم يجعلون لرئاسة شئون الحرمين الإشراف على ذلك - والله =
لِتَمَامِ الإِفَاضَةِ وَسَعْيِهَا، وَرَجَعَ وَأهْدَى إنْ رَكِبَ كَثيرًا بِحَسَبِ الْمَسَافَةِ أو الْمَنَاسِكَ وَالإِفَاضَةَ؛ نَحْوُ المِصْرِيِّ قَابِلًا فَيَمْشِي مَا رَكِبَ فِي مِثْلِ المُعَيَّنِ، وإلَّا فَلَهُ المُخَالَفَةُ إنْ ظَنَّ أوَّلًا القُدْرَةَ، وإلَّا مَشَى مَقْدُورَهُ وَرَكِبَ وأهْدَى فَقَطْ؛ كأنْ قَلَّ وَلَوْ قَادِرًا كَالإِفَاضَةِ فَقَطْ، وَكَعَامٍ عُيِّنَ ولْيَقْضِهِ أوْ لَمْ يَقْدِرْ، وَكَإفْرِيقِيٍّ، وكَأن فَرَّقَهُ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، وفِي لُزُومِ الجمِيعِ بِمَشْيِ عَقَبَةٍ ورُكُوبِ أخْرَى تأويلان.
= تعالى أعلم - فإن هذه الرئاسة لا توكل إلا إلى عالم من علماء المسلمين المعروفين. وبالله تعالى التوفيق.
وقال الحطاب: ولقد جرت عادة الشيْبيين بتقديم الأكبر منهم فالأكبر في السن، في كون المفتاح عنده. بل الظاهر أن ذلك كان من أول الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إلى عثمان بن طلحة مع وجود عمه شيبة بن عثمان، ولما مات عثمان ولي شيبة المفتاح، قال: والظاهر أنهم يقضى لهم بذلك، فإن كان الأكبر غير مرضي، وأين المرضي منهم اليوم، قال: فيجعل معه من يشرف على تصرفاته. ا. هـ. بتصرف.
ونقل الحطاب عن الفاكهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المفتاح من عثمان فتح الكعبة بيده، وقد كانوا يقولون: لا يفتح الكعبة إلا الحجبة. وذكر الفاكهي أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع المفتاح إلى عثمان كان مضطبعًا عليه رداؤه مغيبًا له، ودفعه إليه من وراء الثوب وقال:"غَيِّبُوهُ". قال الزهري: ولذلك يغيب المفتاح. قال: ولذلك - والله أعلم - يرخون ستر الباب حين فتحه وحين إغلاقه. ا. هـ.
وقوله: والمشي لمسجد مكة ألخ. روي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُهادي بين اثنين، فقال:"مَا هذَا"؟. قالوا: نذر أن يمشي إلى البيت. فقال: "إِنَّ اللهَ عز وجل لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هذَا نَفْسَهُ". ثم أمره فركب.
هذا الحديث أخرجه البغوي في شرح السنة واللفظ له، وهو في البخاري وفي مسلم.
قال البغوي: أخرجه محمد عن ابن سلام، وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر، كلاهما عن مروان الفزاري عن حميد عن ثابت عن أنس. =
والْهَدْيُ واجب إلَّا فِيمَنْ شَهِدَ الْمَنَاسِكَ فَنَدْبٌ، ولَوْ مَشى الْجَمِيعَ، وَلَوْ أفْسَدَ أتَمَّه وَمَشَى فِي قَضَائِهِ مِنَ المِيقَاتِ، وإنْ فَاتَهُ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ وركبَ فِي قَضَائِهِ، وَإنْ حَجَّ نَاوِيًا نَذْرَهُ وَفَرْضَهُ مُفْرِدًا أوْ قَارِنًا أجْزَأ عَنِ النَّذْرِ، وَهَلْ إنْ لَمْ يَنْذُرْ حجًا؟. تأويلان.
= وروي عن عكرمة عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقيل: إنها لا تطيق ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِتْركَبْ وَلْتَهْدِ بَدَنَةً". ويروى: "وَلْتَهْدِ هَدْيًا" قال شعيب: أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي. ا. هـ.
وعن عقبة بن عامر الجهني أن أخته نذرت أن تَمْشِيَ إلى البيت حافية غير مختمرة، فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مُرْ أُخْتَكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ، ولْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ". الحديث أخرجه البغوي واللفظ له. وهو في أبي داود، والنسائي، والترمذي وحسنه.
قال البغوي: نذرها ترك الاختمار معصية لأن ستر الرأس واجب على المرأة، فلم ينعقد فيه نذرها، وكذلك الحفاء. ولو نذر رجل أن يحج حافيًا، فلا يلزم الحفاء أيضًا لما فيه من إتعاب الجسد. قال: ولو نذر أن يحج ماشيًا يلزمه المشي إلا أن يعجز، فيركب من حيث عجز، ويلزمه المشي من دويرة أهله - وقيل: من الميقات - وإذا ركب لعجز هل يلزمه شيء أو لا؟. اختلف أهل العلم في ذلك؛ فذهب أكثرهم إلى أن عليه دم شاة، وهو قول مالك، وأظهر قولي الشافعي وأصحهما. وقيل: لا يجب عليه شيء إلا على وجه الاحتياط؛ لحديث أنس أنه أمره بالركوب مطلقًا، ولم يأمره بفدية، وحيث أمر فللاستحباب كما روي:"وَلْتَهْدِ بَدَنَةً". ا. هـ. منه بتصرف.
قال البغوي: ولو نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام، يلزمه أن يأتيه ماشيًا حاجًا، أو معتمرًا؛ كما لو صرح بالحج أو العمرة. وعليه المشي في الحج حتى تحل له النساء عقدًا ووطءًا وهو بعد التحللين، وفي العمرة حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق. وكذلك لو نوى إتيان بيت الله الحرام، فعليه الحج أو العمرة، غير أنه لا يلزمه المشي. وكذلك لو نذر أن يأتي موضعًا من الحرم وسماه، وفيه قول آخر: أنه لا يلزمه الحج والعمرة إذا نذر المشي إليه، وإتيانه إذا لم يصرح بواحد منهما، بل إذا أتاه فحج أو اعتمر أو اعتكف في المسجد الحرام، أو صلى فيه =
وَعَلَى الصَّرُورَة جَعْلُهُ فِي عُمْرةٍ، ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْفَوْرِ، وَعَجَّلَ الإِحْرَامَ فِي: أنَا مُحْرِمٌ، أوْ: أحْرِمُ. إنْ قَيَّدَ بِيَوْمِ كَذَا كالعُمْرةِ، مُطْلِقًا إنْ لَمْ يَعْدَمْ صَحَابَةً. لا الْحَجِّ والمَشْيِ فَلِأشْهُرِهِ إنْ وَصَلَ، وإلَّا فَمِنْ حَيْثُ يَصِلُ عَلَى الأظْهَرِ، ولَا يَلْزَمُ فِي: مَالِي فِي الكَعْبَةِ، أوْ بَابِهَا، أوْ كُلُّ مَا أكْتَسِبُهُ، أوْ هَدْيٌ لِغَيْر مَكَّةَ، أوْ مَالُ غَيْرٍ. إنْ لَمْ يُرِدْ إِنْ مَلكَهُ. أوْ: عَلَيَّ نَحْرُ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا، إنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْهَدْي، أوْ يَنْوِهِ، أوْ يَذْكُرْ مَقَامَ إبْراهِيمَ، والْأحَبُّ حِينئِذٍ - كَنَذْرِ
= ركعتين، خرج من نذره قال: ولو نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأقصى يلزمه، على أصح القولين؛ كما لو نذر إتيان المسجد الحرام ثم إذا أتاه يعتكف فيه، أو يصلي، أو إذا أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قبره صلى الله عليه وسلم. قال: وفيه قول آخر أنه لا يلزمه الإِتيان، كما لو نذر أن يأتي مسجدًا آخر، سوى هذه المساجد الثلاثة، لا يلزمه الإِتيان لا خلاف فيه، بخلاف المسجد الحرام، لأنه مخصوص من بين سائر المساجد بوجوب المصير إليه بأصل الشرع للحج أو العمرة. والأول أصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذه المساجد الثلاثة من بين سائر المساجد في قوله:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ؛ مَسْجِدِي هذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأقْصَى". أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا لو نذر المرء أن يصلي في مسجد من هذه المساجد الثلاثة، لزمه النذر والوفاء به، لمزية الصلاة فيها على غيرها.
قلت: وفي هذا الحديث دلالة اقتضاء واجبة التقدير، لتوقف صدق الكلام على تقديرها، والمقام مقام وجوب الصدق، لأن المتكلم بهذا الحديث:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(1)
. وتقدير الكلام: لا تشد الرحال - إلى مسجد للصلاة فيه - إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى. أي وذلك لمزية الصلاة فيها على غيرها، كما يبينه قوله صلى الله عليه وسلم:"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". ولذلك فقد قال العلماء أن من نذر أن يصلي في موضع غير هذه الثلاثة، لا يلزمه شيء لعدم تفاوت =
(1)
سورة النجم: 3، 4.
الْهَدْي - بَدَنَةٌ ثُمَّ بَقَرَةٌ، كَنَذْرِ الحَفَاءِ أوْ حَمْلَ فُلَانٍ إنْ نَوَى التَّعَبَ وإلَّا رَكِبَ وحَجَّ بِهِ بِلَا هَدْي. ولَغَا: عَليَّ المَسِيرُ والذَّهَابُ والرُّكُوبُ لمَكَّةَ، ومُطْلَقُ المَشْيِ وَمَشْيٌ لِمَسْجِدٍ، وإنْ لا اعْتِكَافٍ، إلَّا الْقريبَ جِدًّا فَقَوْلَانِ، تَحْتَمِلُهُمَا، وَمَشْيٌ لِلْمَدِينةِ، أوْ إيلِيَاءَ، إنْ لَمْ يَنْو صَلَاةً بِمَسْجِدَيْهِمَا، أوْ يُسَمِّهِمَا فَيَرْكَبُ. وَهَلْ إنْ كَانَ بِبَعْضِهَا، أوْ إلَّا لِكَوْنِهِ بأفْضَلَ؟. خِلَافٌ. والمدينَةُ أفْضلُ، ثُمَّ مَكَّةُ.
= الصلاة حينئذ، وحتى أنهم قرروا أنه لو نذر أن يصلي في المفضول من هذه المساجد وهو في الفاضل أثناء نذره، خرج من نذره بالصلاة في المكان الذي هو فيه. واستدلوا بما رواه عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين. قال:"صَلِّ ههُنَا". ثم عاد عليه فقال: "صَلِّ ههُنَا". ثم عاد عليه فقال: "شَأْنُكَ إِذًا". أخرجه أبو داود، وإسناده قوي.
ومعلوم في فن الأصول في مباحث الألفاظ في الكلام على المنطوق غير الصريح أن منه الدلالات الثلاث: دلالة الاقتضاء، ودلالة الإِشارة ودلالة الإِيماء والتنبيه. قال في مراقي السعود:
. . . . . والمنطوق هلْ
…
ما ليس بالصريح فيه قد دخل
وهو دلالة اقتضاء إِن يدل
…
لفظ على ما دونه لا يستقل
دلالة اللزوم مثل ذات
…
إشارة كذاك الإِيماءات
. . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . الخ
لذلك، فقد يجب تقدير هذا اللفظ، الذي يتوقف عليه صدق الكلام هنا، والمقام مقام وجوب الصدق، تمامًا مثل ما وجب تقديره في جوابه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين حين قال: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟. قال: "كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَقَعْ". فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك. فعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ"؟. قالوا: نعم يا رسول الله. الحديث. فوجب تقدير الاقتضاء هنا لتوقف صدق الكلام عليه، والمقام مقام صدق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قالوا: يجب تقدير - في ظنِّي. ومن الاقتضاء تقدير صحيحة في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}
(1)
. قالوا: وكان ابن عباس يقرؤها: كل سفينة صحيحة صالحة.
وإذا لم نقدر هذا الاقتضاء، فكيف جوابنا عن قوله صلى الله عليه وسلم:"يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلا يَجِدُونَ أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ"؟. وكيف جوابنا عن شده هو صلى الله عليه وسلم الرحال غازيًا في سبيل الله؟. وشد أصحابه الرحال كذلك في سراياه؟. وكيف جوابنا عن قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
(2)
.
والحاصل أن حديث: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ". وارد بفضل هذه المساجد على غيرها من المساجد، لأنه لا مضاعفة للأجور إلا فيها، وأنه لا تفاوت للصلاة بغيرها، فالصلاة في مسجد من مساجد الرياض مثلًا، أو من مساجد بغداد، أو أي مدينة من مدائن المسلمين، لا تفاوت بينها في الفضيلة، بحيث يطلب الناذر بنذره حصوله على ذلك الأجر، لذلك فإن من نذر أن يصلي بواحد من المساجد غير الثلاثة، تحلل من نذره بالصلاة في أي مكان من الأرض، بخلاف ما لو نذر الصلاة في واحد من هذه الثلاثة، لو وجب عليه الوفاء بنذره ما لم يكن نذر الصلاة في المفضول منها، حالة وجوده في الفاضل، كما تقدم الكلام عليه آنفًا. وبالله تعالى التوفيق.
تتمة: لا ينعقد النذر في المعصية، ولا يلزمه فيه شيء؛ كمن نذر أن يصوم يوم العيد، ومن نذر نحر ولد. ذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر، وبه أخذ مالك والشافعي. وقال آخرون: تلزم فيه كفارة يمين، وبه أخذ أحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، واستدلوا بأن امرأة أتت إلى ابن عباس فقالت: إني نذرت أن أنحر ولدي، فقال: لا تنحري ولدك، وكفري عن يمينك. أخرجه مالك في الموطإ. واستدلوا بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". أخرجه أبو داود والبغوي، والترمذي وغيرهم. أما أصحابنا والشافعية فإن من أدلتهم حديث عمران بن حصين؛ أن قومًا أغاروا فأصابوا امرأة من =
(1)
سورة الكهف: 79.
(2)
سورة المزمل: 20.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأنصار، وناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت المرأة والناقة عندهم، ثم انفلتت المرأة، فركبت الناقة، فأتت المدينة، فعرفت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت لئن أنجاني الله عليها لأنحرنَّها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا أَنْ نَجَّاكِ اللهُ عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرِيهَا. لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ". وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته. وهذا الحديث رواه مسلم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة.
واعلم أن النذر على الرغم مما ورد في ذمه، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؛ كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ النَّذْرَ لا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شَيْئًا لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَلكِنَّ النَّذْرَ يَوَافِقُ الْقَدَرَ، فَيَخْرُجُ بِذلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ". متفق عليه. وكحديثه الآخر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَنْذُرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا وإنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ". متفق عليه أيضًا. فإن الله تعالى قد أنزل في كتابه العزيز الثناء على قوم يوفون بنذورهم، قال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}
(1)
. وأخرجه الدارمي في سننه بسنده عن ابن عباس، أن امرأة نذرت أن تحج، فماتت، فجاء أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ"؟. قال: نعم. قال: "فَاقْضُوا النَّذْرَ فَالنَّذْرُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ".
وفي الموطإ والبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِى اللهَ فَلَا يَعْصِهِ". وقد نقل البغوي عن الخطابي قال: معنى نهيه عن النذر إنما هو التأكيد لأمره، وتحذير من التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل، لكان إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذا صار معصية، وإنما وجه الحديث أنه أعلمهم أن ذلك أمر لا يجلب لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرف عنهم ضرًا، ولا يرد شيئًا قضاه الله، فكأنه يقول: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدره الله لكم، أو تصرفون عن أنفسكم شيئًا جرى القضاء به عليكم، وإذا فعلتم ذلك فاخرجوا منه بالوفاء، فإن الذي تنذرونه يلزمكم. قال: هذا معنى الحديث ووجهه. وقد أجمع المسلمون على وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يكن معصية. ا. هـ. منه. والله الموفق. =
(1)
سورة الإنسان: 7.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقول المصنف: والمدينة أفضل ثم مكة، وفي بعض النسخ زيادة ثم إيلياء، قال في جواهر الإِكليل: والمدينة المنورة بأنواره صلى الله عليه وسلم أفضل من مكة المشرفة، ثم يلي مكة في الفضل إيلياء. قال: ويدل على ما رواه الدارقطني والطبراني من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه: "الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ". نقله في الجامع الصغير، وقال ابن وهب وابن حبيب: مكة أفضل. قال ابن عرفة: ومسجده صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام أفضل من مسجد إيلياء، ثم يلي المدينة في الفضل مكة المشرفة، ثم يلي مكة في الفضل بيت المقدس - أعاده الله دار إسلام، وطهره من أدران اليهود - فهو أفضل ولو من المساجد المنسوبة له صلى الله عليه وسلم كمسجد قباء، ومسجد الفتح، ومسجد العيد، ومسجد ذي الحليفة، ا. هـ. منه بتصرف.
وقال الحطاب هنا ما نصه: هذا هو المشهور، وقيل: مكة أفضل من المدينة بعد إجماع الكل أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض. قال: وقال السمهودي في تاريخ المدينة: نقل عياض وقبله أبو الوليد الباجي وغيرهما الإِجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة على الكعبة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها أفضل من العرش. قال: وقال النووي: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أي ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة. وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا فيهما، والخلاف فيما عدا الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقًا. ا. هـ. منه.
وقال الدسوقي: والمدينة أفضل؛ أي لما رواه الطبراني والدارقطني من حديث رافع بن خديج: "الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ". نقله في الجامع الصغير. قال: وحيث كانت المدينة أفضل، فيكون الثواب المترتب على العمل في مسجدها من صلاة أو اعتكاف، أكثر من الثواب المترتب على العمل في مسجد مكة. قال عليش في التعليق: في عدة أحاديث في الجامع الصغير التصريح بخلافه؛ منها ما رواه البيهقي في شعب الإِيمان، عن أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرهِ مِائَةُ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةِ".
قال عليش: قالوا: هذه ميزة نظير فضل الصلاة في منى يوم التروية ونحوه، على الصلاة في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مكة. والله أعلم. ا. هـ. الدسوقي ج 2/ ص 173.
هذا، وقد ورد في فضل المدينة وحب النبي صلى الله عليه وسلم إياها ودعائه لها أحاديث كثيرة، منها: حديث أنس بن مالك المتفق عليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال:"هذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا".
ومنها حديث أنس أيضًا عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدرات المدينة، أوْضَعَ راحلته، وإن كان على دابة حرَّكها من حُبِّها.
ومنها حديث أبي هريرة عند مسلم والموطإ أنه قال: كان الناس إذا رأوْا أول الثمر جاؤُوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا. اللَّهُمَّ إِنَّ ابْرَاهيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهُ مَعَهُ". ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر.
ومنها حديث سفيان بن أبي زهير عند البخاري ومسلم والموطإ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
ومنها، حديث أبي هريرة عند مسلم والترمذي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأواءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيامَةِ أَو شَهِيدًا".
ومنها الحديث المتفق عليه: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرَزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرَزُ الْحَيَّة إِلَى جُحْرِهَا". ومنها، حديث ابن عمر عند البغوي والترمذي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنِّي أشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا".
من أدلة مالك على فضل المدينة مذهب عمر، ففي الموطإ أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه - قدم المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فقرب مجلسه وقال: أهلًا بصاحب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رسول الله. فلما انصرف الرجل قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا الذي يقول: مكة أفضل من المدينة. فقال: ردوه عليّ. فلببه ورفع الدرة على رأسه وقال: أأنت القائل مكة أفضل من المدينة؟. فقال الرجل: أنا القائل مكة حرم الله وأمنه وفيها بيته. فأعادها عمر عليه ثلاثًا وهو يجيب بمثل جوابه الأول. فأرسله. ووجه الاستدلال به هو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان ليرفع الدرة على أحد إلا إذا قال أو فعل منكرًا، لا سيما إذا كان واحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أدلة مالك على أن المدينة أفضل حديثه في الموطإ عن يحيى بن سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا وقبر يحفر بالمدينة، فاطلع رجل في القبر فقال: بئس مضجع المؤمن: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَ مَا قُلْتَ". فقال الرجل: إني لم أرد هذا يا رسول الله، إنما أردت القتل في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا مِثْلَ لِلقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَا عَلَى الْأرْضِ بُقْعَةٌ هِيَ أحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْري بِهَا مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ". يعني المدينة. ا. هـ.
وعلى كل حال فهما فضليان، ولكل منهما أدلة تفضيلها، حرسهما الله تعالى، وأرجع بيت المقدس دار إسلام.
وقدمًا قال بعض الأفاضل: إنهما عينان في وجه واحد. ومن لطيف المنقول عن الإِمام مالك أنه كان يباحثه أحد أضرابه في التفضيل بين المكتين، وقال: هما عينان في وجه واحد. فقال مالك: إن كانتا عينين فالمدينة اليمنى. وبالله تعالى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كِتابُ الْجهَادِ
(1)
الْجِهَادُ - فِي أَهَمِّ جِهَةٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَإنْ خَافَ مُحَارِبًا، كَزِيارَةِ الْكَعْبَةِ - فَرْضُ كِفَايةٍ (2) - وَلَوْ مَعَ وَالٍ جَائِرٍ (3) - عَلَى كُلِّ حُرٍّ ذَكَرٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ (4)؛ كَالْقِيامِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، والفَتْوَى، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْإِمَامَةِ والأمر بِالْمَعْرُوفِ، والْحِرَفِ المُهِمَّةِ، وَردِّ السَّلَامِ، وتَجْهِيزِ المَيِّتِ وَفَكِّ الْأسِيرِ (5).
الجهاد
(1)
الجهاد: أصله في اللغة التعب والمشقة؛ فهو مأخوذ من الجهد. وإذا فإنه في الشرع المبالغة في إتعاب النفس في سبيل الله وهو أربعة أقسام:
الأول: جهاد بالقلب؛ وحقيقته أن يجاهد الشيطان، والنفس، عن الشهوات والمحرمات.
الثاني: جهاد باللسان؛ وهو حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه.
الثالث: جهاد باليد؛ أن يزجر ذوو الأمر أهل المناكر عن المنكر، بالأدب والضرب، بما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك. قالوا: ومن هذا الباب إقامة الحدود الشرعية.
والرابع: جهاد بالسيف؛ وهو قتال المشركين لتكون كلمة الله هي العليا.
فكل من أتعب نفسه في سبيل الله، في مسألة من هذه المسائل، فقد جاهد في سبيل الله. إلا أن الجهاد إذا أطلق انصرف أولًا وقبل كل شيء على مجاهدة الكفار بالسيف؛ وهو أن يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا به من الكفر إلى الإسلام، لا على أن تكون الغلبة له، ولا للذود عن الوطن؛ كما جاهد قزمان الظفري، فقد جاء عنه أنه قال لقتادة بن النعمان - وهو يجود بنفسه: والله ما قاتلنا عن دين، ولكن لئلا تطأ قريش سعفنا. ومعلوم قوله صلى الله عليه وسلم في قزمان:"هذَا إِلَى النَّارِ".
قال المواق: فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ابتغاء ثواب الله، فإذا عقد نيته على هذا فلا تضره الخطرات التي تقع في القلب إن شاء الله، وذلك لحديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= معاذ، قال: يا رسول الله، ليس في بيت سلمة إلا مقاتل؛ منهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابًا، فأَيُّ هؤلاء الشهيد؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَا مُعَاذُ، مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هذِهِ الْخِصَالِ وَأَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ".
وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيخفيه، فيطلع عليه الناس، فيسره؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَهُ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ".
(2)
وقوله: الجهاد فرض كفاية، دليله ما أخرجه أبو داود قال: باب في نسخ نفير العامة بالخاصة، ثم ساق سنده إلى عكرمة عن ابن عباس قال:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
(1)
. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ - إلى قوله - يَعْمَلُونَ}
(2)
. نسختها الآية التي تليها: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
(3)
.
قال الحطاب: قال أبو عمر في الكافي: فرض على الإِمام إغزاء طائفة للعدو في كل سنة، يخرج هو بها أو من يثق به. وفرض على الناس في أموالهم وأنفسهم الخروج المذكور، لا خروجهم كافة. والنافلة منه إخراج طائفة بعد أخرى، وبعث السرايا وقت الغرة والفرصة. وعلى الإِمام رعي النصفة في المناوبة بين الناس. ا. هـ. منه.
وقال المواق: قال ابن بشير: الجهاد فرض كفاية إذا كان يكفي فيه قيام طائفة من المسلمين ولم يعين الإِمام أحدًا. ا. هـ. منه.
وقوله: كزيارة الكعبة، يعني به إقامة موسم الحج، وليس المراد زيارتها لطواف فقط أو عمرة. وقد أفرد المصنف زيارة الكعبة عن نظائرها الآتية؛ لمشاركة زيارة الكعبة الجهاد في الوجوب كل سنة، وتنبيها على أنه لا يسقطها خوف المحاربين. قال في جواهر الإِكليل عليه ما مر من قوله: وأمن على نفس ومال، لأنه شرط في فرض العين، وما هنا في فرض الكفاية، أي يخاطب الناس بقتال المحارب، وإقامة الموسم، ففرض الكفاية على الناس كافة لا على أهل قطر فقط. ا. هـ. منه بتصرف. =
(1)
سورة التوبة: 39.
(2)
و
(3)
سورة التوبة: 120 - 122.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فائدة: فإن قيل: كيف يتوجه غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من تخلف عن غزوة تبوك، وقد تقرر أن الجهاد فرض على الكفاية؟. فالجواب ما قاله السهيلي في الروض الأنف في حديث الثلاثة الذين خلفوا: إن الجهاد كان بالنسبة للأنصار فرض عين، وعلى ذلك بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون تخلفهم كبيرة. انظر الحطاب.
قلت: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عزم على كافة المسلمين الحاضرين بالخروج لهذه الغزوة فيكون التخلف عنها كبيرة لخلاف أمره صلى الله عليه وسلم. والله الموفق.
(3)
وقوله: ولو مع وال جائر، قال مالك في المدونة: يقاتل العدو مع كل بر وفاجر من الولاة. ورجع عن كراهة ذلك لما كان من زمن عمر، وما صنع الروم بغارتهم على الإِسلام وقال: لا بأس بالجهاد معهم، ولو ترك لكان ضررًا على الإِسلام. قال ابن حبيب: سمعت أهل العلم يقولون: لا بأس بالغزو معهم، وإن لم يضعوا الخمس موضعه، ولم يوفوا بعهد، وإن عملوا ما عملوا. قال: وقاله الصحابة حين أدركوا من الظلم فكلهم قال: اغْزُ معهم على حظك من الآخرة، ولا تفعل ما يفعلون من فساد وخيانة. ا. هـ. بنقل المواق.
(4)
وقوله: على كل حر ذكر مكلف قادر، يريد به - والله تعالى أعلم - أن الجهاد وجوبَه له ستة شروط لا يجب حتى تتوفر، فإذا انخرم واحد منها سقط وجوبه. وهي: الإِسلام، والحرية، والذكورة، والبلوغ، والعقل، والاستطاعة بصحة البدن وما يحتاج إليه من المال. قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ". الحديث. ومنهم الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق. وأما النساء، فقد قال تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}
(2)
. الآية. وأما العبد فإنه لا يجد ما ينفق والله تعالى يقول: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}
(3)
. الآية.
(5)
وقوله: كالقيام بعلوم الشرع ألخ. جمع المصنف هنا نظائر من فروض الكفاية، لكن قبل أن نتكلم عليها بالتفصيل، لننتهز الفرصة لنبين لطالب العلم الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، فإن ذلك مما يحتاج إليه طلبة العلم. =
(1)
سورة التوبة: 91.
(2)
و
(3)
سورة الأحزاب: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إعلم أن الأفعال قسمان: قسم تتكرر المصلحة بتكرره، وقسم لا تتكرر المصلحة بتكرره. فإن الذي تتكرر المصلحة بتكرره، شرعه صاحب الشرع على كل نفس تكثيرًا للمصلحة بتكرره؛ فهو فرض العين، ومثاله: صلاة الظهر فإن مصلحتها الخضوع لله تعالى وتعظيمه، ومناجاته جل وعلا، والتذلل له، والتفهم لخطابه، والتأدب بآدابه، وهذه المصلحة تكثر كلما تكررت الصلاة.
وأما الذي لا تتكرر المصلحة بتكرره، فقد شرعه صاحب الشرع على الكفاية، نفيًا للعبث في الأفعال. ومثاله: إنقاذ الغريق من البحر، فإن النازل في الماء بعد انتشال الغريق لا يحصل له أية فائدة، وإذًا، فإن مصلحة هذا النزول إلى الماء لا تتكرر بتكرره، وفعل ما ليس فيه مصلحة عبث، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن من فروض الكفاية القيام بعلوم الشرع، يعني طلب العلم والنفقة في الدين، إلا ما لا يسع الإِنسان جهله؛ من صفة الوضوء والصلاة والصوم والزكاة، إن كان ممن تجب عليهم الزكاة، فإن معرفة ذلك على الإِنسان من فروض العين. قالوا: ومن كانت فيه أهلية الإِمامة والاجتهاد فطلب العلم واجب في حقه قال المواق: وسئل مالك: أواجب طلب العلم؟. فقال: أما على كل الناس فلا.
ومن ذلك: الفتوى، فهي من فروض الكفاية على المتأهلين، إذا كان السؤال عن الأمر المهم المحتاج إلى بيانه، وجب الجواب كما يجب السؤال. قال شيخ مشائخنا الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني: وتتعين على المفتي الفتوى بأربعة شروط: كون السائل سأل عن واقعة دينية يخاف فواتها، وانفرد المفتي، ومعرفته الجواب الصحيح عن اجتهاد أو عن تقليد، فإن انخرم واحد منها كان الجواب فرض كفاية. ا. هـ.
ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}
(1)
. الآية. فهو فرض إسلامي على الكفاية، إذا توفرت شروط وجوبه. قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب إن أمن الآمر على نفسه وظن فائدة، وعلم أن الذي يأمر به معروف، وأن الذي ينهى عنه منكر قال تعالى: {قُلْ =
(1)
سورة العصر: 3.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}
(1)
. الآية. وليس على الآمر بالمعروف التجسُّسُ، واقتحام بيوت الناس بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده. قال مالك: ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عصوا كانوا شهودًا على من عصى. ا. هـ.
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون ذلك منه بالحكمة أخذًا بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}
(2)
. الآية، نقل المواق أن ابن هرمز مر على بعض الأقدار، فأنكر عليه وقوفه مع امرأة على الطريق. فقال ذلك الرجل لعبيده: طؤُوا بطنه. ففعلوا حتى حمل إلى منزله، فعاده الناس، وفيهم مالك بن أنس، فجعل يشكو والناس يدعون له ومالك ساكت، ثم تكلم فقال: إن هذا لم يكن لك؛ نأتي الرجل من أهل القدر؛ على باب داره ومعه حشمه ومواليه. فقال ابن هرمز: فتراني أني أخطأت؟. فقال مالك: أي والله. ا. هـ. منه.
ومن دواعي قبول قول الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن لا يُرى حيث نهى، وأن لا يفقد حيث أمر، فإن ذلك أدعى أن يقبل منه ما يقول؛ لقوله تبارك وتعالى حكاية عن عبده الصالح شعيب عليه الصلاة والسلام:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}
(3)
. الآية.
ومن دواعي قبول قوله كذلك: صبره على ما يصله من الأذى في سبيل دعوته إلى الله تعالى، عملًا بقوله تعالى عن عبده الصالح لقمان عليه السلام:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
(4)
. الآية. ومن فروض الكفاية، القيام بالحرف المهمة التي تتعلق بها المصالح الدنيوية؛ كالحرث والغزل والنسج ونحو ذلك، فإن فاعل ذلك إن نوى به ابتغاء وجه الله، أعطي أجره. ومن فروض الكفاية رد السلام، وابتداؤه سنة، وإذا سلم واحد على الجماعة أجزأ عنها رد الواحد منها. ومن فروض الكفاية تجهيز الميت، وقد تقدم الكلام عليه في الجنائز. ومنها فك الأسير، =
(1)
سورة يوسف: 108.
(2)
سورة النحل: 125.
(3)
سورة هود: 88.
(4)
سورة لقمان: 17.
وَتَعَيَّنَ بِفَجْءِ الْعَدُوِّ، وَإنْ عَلَى امرأةٍ (1)، وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا، وبِتَعْيِينِ الإِمَامِ (2).
= وسيأتي مزيد كلام عليه إن شاء الله.
قلت: قد نظم علي الزقاق فروض الكفاية بالعد، بعد أن ذكر تعريف فرض الكفاية، والفرق بينه وبين فرض العين فقال:
وفرض عينٍ الذي تكررا
…
نفعٌ به، غيرٌ كفائِيٌّ يرى
في زُرْ، وجاهد قم بشرع، واشهدِ
…
واقْضِ وأُمْ، وأْمر بعُرْفٍ وارْدُد
سَلامًا افْتِ، واحْتَرِفْ وادْرأْ وَمُنْ .. مَيْتًا وَرَابِطْ، افْدِ، أوثِقْ تؤْتَمَنْ
(1)
وقوله: وتعين بفجء العدو وإن على امرأة، قال أبو عمر: يتعين على كل أحد إن حل العدو بدار الإِسلام محاربًا لهم؛ فيخرج إليه أهل تلك الدار خفافًا وثقالًا، شبابًا وشيوخًا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج؛ من مقاتل أو مكتر. وإن عجز أهل تلك البلاد عن القيام بعدوهم، كان على من جاورهم أن يخرجوا، على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، وكذلك من علم أيضًا بضعفهم وإمكانياتهم لزمه أيضًا الخروج، ذلك أن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم. ا. هـ بنقل المواق.
وإذا قاتلت المرأة وقاتل العبد والصبي أسهم لهم حينئذ في الغنيمة؛ لأن الغنيمة لمن شهد الوقعة. أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهو في سنن البيهقي، وبهذا القول أخذ مالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي وقال: من دخل الدرب أسهم له.
قلت: وأما قتال النساء - إن دهم العدو - فقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قاتلت أم عمارة - نسيبة بنت كعب الأنصارية - وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. وثبت أيضًا من سنة المسلمين؛ فقد ثبت أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام رضي الله عنها قتلت - يوم مرج الصفر - سبعة من المشركين بعمود الفسطاط الذي أعرس بها فيه زوجها الشهيد ذلك اليوم خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، انظر الإِصابة لابن حجر.
(2)
وقوله: وبتعيين الإِمام، يريد به - والله أعلم - أن الحج فرض كفاية في حق من يعينه =
وَسَقَطَ بِمَرَضٍ، وَصِبًا، وجُنُونٍ، وَعَمىً، وعَرَجٍ، وأنُوثَةٍ، وعَجْزٍ عَنْ مُحْتَاجٍ لَهُ وَرِقٍّ (1)، وَدَيْنٍ حَلَّ، كَوَالِديْنِ فِي فَرْضِ كِفَايَةٍ (2).
بِبَحْرٍ أوْ خَطَرٍ، لَا جَدٍّ (3)، والْكَافِرُ كَغَيْرِهِ فِي غَيْرِهِ (4)، ودُعُوا للإِسْلَامِ، ثُمَّ
= الإِمام في السرية، أما من يعينه الإِمام للغزو، فإنه يجب عليه الخروج.
(1)
وقوله: وسقط بمرض ألخ، يريد به - والله أعلم - أن الجهاد ساقط عن هؤلاء، ولو فاجأ العدو بيضة المسلمين، ويظهر في الكلام عدم استقامة نوعًا ما؛ ذلك أن الصبي والأعمى والأعرج والمجنون، لم يجب الجهاد عليهم أولًا حتى يسقط عنهم، وأما المرأة والرقيق فقد تقدم أن الجهاد في حقهما واجب إذا دوهمت بيضة المسلمين.
(2)
وقوله: وديْن حلّ، أي والحال أنه قادر على الوفاء به. قال سحنون: ومن عليه دين قد حل، وعنده به قضاء، فلا ينفر ولا يرابط، ولا يعتمر، ولا يسافر حتى يقضي دينه، وإن كان دين لم يحل، أو لا وفاء له به، فإن له أن ينفر. ا. هـ. المواق.
وقوله: كوالدين في فرض كفاية، يريد به - والله أعلم - أن كل فرض كفاية منع من أدائه أحد الوالدين أو كلاهما، يسقط وليس عليه فعله دون إذنهما، فإذا كان الولد يريد أداء فرض عين أمضاه على الرغم منهما. قال تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}
(1)
. الآية.
(3)
وقوله: لا جدٍّ، قال سحنون: بر الجدة والجد واجب، وليسا كالأبوين، أحب أن يسترضيهما ليأذنا له في الجهاد، فإن أبيا فله أن يخرج، ولا شيء عليه في عم ولا عمة، ومن له إخوة وأخوات وعمة أو عمات، إن كان هو القائم عليهم، ويخاف ضيعتهم بخروجه، فمقامه أفضل، وإلا فخروجه. ا. هـ. المواق. والله تعالى أعلم بمستنده في ذلك.
(4)
وقوله: والكافر كغيره في غيره، تقريره، أن الوالد الكافر كالوالد المسلم؛ في ترك كل فرض كفاية غير الجهاد، أما الجهاد فلا يتركه لوالديه الكافرين، لاتهام الوالد الكافر بمنعه ولده منه توهينًا للإِسلام. لكن في المواق تقييد كلام المصنف؛ بعلمه أن منعهما له من الجهاد لكراهتهما =
(1)
سورة لقمان: 15.
جِزيَةٍ بِمَحَلٍّ يُؤْمَنُ، وَإِلَّا قَوتِلُوا وقُتِلُوا (1)، إلَّا المَرْأَةَ إلَّا فِي مُقَاتَلَتِهَا، والصَّبيَّ والمَعْتُوهَ؛ كَشَيخٍ فَانٍ، وَزمِنٍ، وَأعْمَى، ورَاهِبٍ مُنْعَزِلٍ بِدَيرٍ أوْ صَوْمَعَةٍ، بِلَا رأي، وتُرِكَ لَهُمُ الكِفَايَةُ فَقَطْ، واسْتَغْفَرَ قَاتِلُهُمْ (2)؛
= إعانة المسلمين، فإن كان لشفقتهما عليه فقط سقط عنه الجهاد. والله أعلم.
(1)
وقوله: ودعوا للإِسلام ألخ، دليل ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع من حديث بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سَرِيَّة أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال:"إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَعْلِمْهُمْ أنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَعلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَ أَعْرابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلَّا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ". الحديث، وهو في البغوي وهذا لفظه، وأخرجه أبو داود في الجهاد: باب دعاء المشركين.
وبهذا الحديث أخذ إمام دار الهجرة؛ أنه لا يقاتل المشركون، إلا بعد دعوتهم إلى الإِسلام، ويؤذنوا أيضًا بالقتال.
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: إنما الدعوة استحباب، ويجوز قتالهم قبل ذلك، لأن الدعوة بلغتهم، واستدلوا بقتل ابن أبي الحقيق، وبما اتفق عليه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح، فإذا سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار.
وبما اتفق عليه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون.
وبما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأسامة: "أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ". رواه أبو داود وابن ماجه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قالوا: وأما من لم تبلغه الدعوة من الكفار، ممن بعدت داره ونأى محله، فإنه لا يقاتل حتى يدعى إلى الإِسلام، فإن قتل منهم واحد قبل الدعوة، وجبت فيه الكفارة والدية. وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: وقتلوا إلا المرأة إلا في مقاتلتها، قال المواق: ولو قال إلا المرأة والصبي إلا في مقاتلتهما لكان أبين. قال ابن عرفة: يقتل كل مقاتل حال قتاله: ولو كان شيخًا كبيرًا. وفي الحطاب، قال الرجراجي: إذا غنم من العدو ذوي القوة من الرجال فالإِمام مخير فيهم في خمسة أشياء: القتل، أو الجزية، أو الفداء، أو المن، أو الاسترقاق. وأما النساء، فإن كففن أذاهن عن المسلمين ولزمن قعر بيوتهن، فلا خلاف في تحريم قتلهن - وإن شعرن في مدح القتال وذم الفرار - فإن قاتلن وباشرن القتال، فلا خلاف في جواز قتلهن في حين القتال في المسايفة؛ لوجود المعنى المبيح لقتلهن. وكذلك يباح قتلهن بعد الأسر إذا قَتلْن؛ فإن رمين بالحجارة ولم يظهرن النكاية، ولا قتلن أحدًا، فلا يقتلن بعد الأسر اتفاقًا. قال: والمراهق كالنساء في جميع ما ذكر. واختلف فيه إذا أنبت ولم يحتلم. وفي مسلم والبغوي من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: "أُغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنَ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَليدًا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا. وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ مَدِينَةٍ أَوْ أَهْلَ حِصْنٍ، فَادْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ شَهِدُوا أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلَهُمْ مَا لَكُمْ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْكُمْ، فَإِنْ أَبوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ يُعْطُونَكُمْ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ". قال البغوي: هذا حديث صحيح. أخرجه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة.
قلت: وقد صحت الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قتل فيمن قتل من بني قريظة، المرأة التي رضخت أحد أصحابه بحجر دحرجته عليه من فوت الحصن. وفي ذلك الدليل على أنها إن قَتلت قُتلت ولو بعد الأسر. والله الموفق.
قال البغوي: واختلفوا في الشيوخ، والزمنى، والعميان، والرهبان؛ فذهب قوم إلى أنهم لا =
كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَإنْ حِيزُوا فَقِيمَتُهُمْ، والرَّاهِبُ والرَّاهِبَةُ حُرَّانِ، بِقَطْعِ مَاءٍ وآلَةٍ، وَبِنَارٍ إنْ لَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهَا، وَلَمْ يكُنْ فِيهِمْ مُسْلِمٌ وَإنْ بِسُفُنٍ، وبِالْحِصْنِ بِغَيْرِ تَحْرِيقٍ وتَغْريقٍ، مَعَ ذُرِّيَّةٍ، وإنْ تَتَرَّسُوا بِذُرِّيَّةٍ تُرِكُوا إلَّا لِخَوْفٍ، وَبِمُسْلِمٍ لَمْ
= يقتلون. وهو قول مالك، والثوري، والأوزاعي، وأصحاب الرأي وروي عن الصديق أنه نهى عن قتلهم. قال: وذهب الشافعي في أظهر قوليه إلى أنهم يقتلون.
قلت: فإن كان هؤلاء ممن يستعان برأيهم في الحرب قتلوا. انظر المواق هنا.
وقوله: وترك لهم الكفاية فقط. قال في المدونة: يترك للرهبان من أموالهم ما يعيشون به، ولا تؤخذ كلها فيموتون. قال سحنون: والشيخ الكبير مثل الراهب فيما يترك له من العيش والكسوة.
وقوله: واستغفر قاتلهم، أي لأنه قتل ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله؛ هذا إذا كان قتله في دار الحرب، قبل أن يصير في المغنم، وإلا فعليه جعل قيمة من قتل في المغنم. ا. هـ. كما يفيده قوله فيما بعد. وإن حيزوا فقيمتهم.
قلت: وما ذهب إليه مالك ومن وافقه؛ من النهي عن قتل هؤلاء أجرى على الدليل، أما بالنسبة للنساء والصبيان، فلا خلاف فيه إلا إذا قاتلوا؛ فقد أخرج مالك في الموطإ وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. قال البغوي: والعمل على هذا عند أهل العلم إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل.
وأما بالنسبة للراهب والهرم ونحو ذلك فقد أخرج في الموطإ عن مالك أن أبا بكر رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان: ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم، فدعهم وما زعموا وستجد قومًا فحصوا من أواسط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرنَّ شاة ولا بعيرًا إلَّا لمأكلة، ولا تغرقنَّ نخلًا ولا تحرقنَّه، ولا تَغْلُلْ، ولا تجبُنْ. ا. هـ. =
يُقْصَدِ التُّرْسُ إنْ لَمْ يُخَفْ عَلَى أَكْثَرِ المُسْلِمِينَ، وَحَرُمَ نَبْلٌ سُمَّ، واسْتِعَانَةٌ بِمُشْرِكٍ (1) إلَّا لِخِدْمَةٍ، وإرْسَالُ مُصْحَفٍ لَهُمْ، وسَفَرٌ بِهِ لأرْضِهِمْ، كَمَرْأَةٍ إلَّا فِي جَيْشٍ آمِنٍ (2)، وَفِرَارٌ إنْ بَلَغَ المُسْلِمُونَ النَّصْفَ وَلَمْ يَبْلُغُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا إلَّا تَحَرُّفًا وتَحَيُّزًا إنْ خِيفَ (3)، والمُثْلَةُ (4)، وحَمْلُ رَأسٍ لِبَلَدٍ أوْ والٍ، وخِيانَةُ أسِيرٍ ائتُمِنَ طَائعًا وَلَوْ عَلى نَفْسِهِ،
= (1) وقوله: واستعانة بمشرك إلا لخدمة، من المدونة، قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". ولا بأس أن يكونوا نواتية وخدمة. قال ابن رشد: ولا بأس أن يستعار منهم السلاح.
قال المواق: لعله مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَاتِلُوا مَعَنَا أَوْ أَعِيرُونَا سِلَاحَكُمْ". قال أبو عمر: حديث: "لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْركٍ". مختلف في إسناده.
قلت: أما استعارة السلاح؛ فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم استعار أدراعًا وسلاحًا محمولًا من صفوان بن أمية رضي الله عنه، لما فتح الله عليه مكة وخرج به إلى الطائف. وأما حديث:"لَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْركٍ". فقد ذكره الواقدي في غزوة بدر الكبرى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ العقيق، عرف خبيب بن يساف وقيس بن محرث - وكانا خرجا كافرين - فردهما من العقيق وقال:"إِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِمُشْركٍ". ولعل هذا هو الوجه الذي قال فيه أبو عمر أنه متكلم في سنده؛ لما في رواية الواقدي. والله الموفق.
أما الاستعانة بالكافر في الخدمة، فلا خلاف في جوازها، ولا دليل على ذلك أوضح من استعانته صلى الله عليه وسلم بحرِّيته في الهجرة عبد الله بن الأريقط الدؤلي. ولا عطر بعد عروس. وبالله تعالى التوفيق.
(2)
وقوله: وإرسال مصحف لهم وسفر به لأرضهم، كامرأة، إلا في جيش آمن، قال الحطاب نقلًا عن ابن عبد السلام قال: وأجاز مالك وأبو حنيفة والشافعي أن يقرأ عليهم القرآن، وأن يبعث إليهم بالكتاب، فيه آيات من القرآن قال: والأحاديث كثيرة قال: وسيقول المؤلف: واحتجاج عليهم بقرآن، وبعث كتاب فيه كآية. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: ويستدل له بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر مع دحية بن خليفة، وفيه قوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
(1)
. الآية وهو نص البخاري.
وأما السفر بالمرأة إلى أرضهم، قال ابن القاسم في المدونة: لا يخرج النساء إلى دار الحرب إلا أن يكون ذلك في عسكر عظيم، فلا يخاف عليهم، أما الخروج بهن في الجيش الغازي فقد ثبت في السنة الصحيحة؛ ففي الحديث المتفق عليه عن الرُّبيِّع بنت مُعَوَّذٍ قالت: كنا نَغْزُو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم، ونَخدمُهُم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة. ا. هـ.
وأخرج مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهُم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.
(3)
وقوله: وفرار إن بلغ المسلمون النصف، دليل منع الفرار على المقاتلين في سبيل الله قوله تعالى في الأنفال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
(2)
.
ودليل وجوب مصابرة الواحد من المسلمين اثنين من المشركين قوله تعالى في سورة الأنفال أيضًا: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
(3)
.
وقوله: ولم يبلغوا اثني عشر ألفًا، قال جواهر الإِكليل: إذا بلغ المسلمون اثني عشر ألفًا حرم الفرار ولو بلغ الكافرون ما بلغوا، ما لم تختلف كلمة المسلمين. قال: وذلك لخبر: لن يغلب اثنا عشر من قلة، إلا أن تختلف كلمتهم. قال المواق: أنكر سحنون قول العراقيين: لا يفر أكثر من اثني عشر ألفًا من عدو ولو كثروا قال: وقد عزا ابن رشد قول العراقيين لأكثر أهل العلم، وقال به وما ذكر إنكار سحنون أصلًا. ا. هـ.
(4)
وقوله: والمثلة، أي والمثلة محرمة في السنة المجمع عليها. وهذا بعد الظفر، وأما قبل =
(1)
سورة آل عمران: 64.
(2)
سورة الأنفال: 16، 17.
(3)
سورة الأنفال: 66.
وَالْغُلُولُ، وأدِّبَ إنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ (1). وجَازَ أخْذُ مُحْتَاجٍ نَعْلًا وحِزَامًا وإبْرَةً وطَعَامًا (2)، وإنْ نَعَمًا وعَلَفًا؛ كَثَوْبٍ وسِلَاحٍ ودَابَّةٍ لِيُرَدَّ، وَرَدَّ الْفَضْلَ وَإنْ كَثُرْ، فَإنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ، ومَضَت المُبَادَلَةُ بَيْنَهُمْ، وببَلَدِهِمْ إقَامَةُ الحَدِّ، وتَخْريبٌ، وَقَطْعُ نَخْلٍ، وَحَرْقٌ إنْ أنْكَى أوْ لَمْ تُرْجَ، والظَّاهِرُ أنَّهُ مَنْدُوبٌ كَعَكْسِهِ، وَوْطءُ أسِيرٍ زَوْجَةً أوْ أمَةً سَلِمَتَا، وَذَبْحُ حَيوانٍ وَعَرْقَبَتُهُ وَأُجْهِزَ عَلَيْهِ، وَفِي النَّحْلِ - إنْ كَثُرَتْ وَلَمْ يُقْصَدْ عَسَلُهَا - روايتَانِ.
= الظفر قلنا: قتل الكافر بأي مثلة أمكننا. وقد جاء في السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب، حين قال له: دعني أنزع ثنايا سهيل بن عمرو؛ يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا بعدها. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا أُمَثِّلُ فَيُمَثِّلُ اللهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(1)
وقوله: والْغُلُول، وأدِّبَ إن ظهر عليه، قال الحطاب: قال في التمهيد: أجمع العلماء على أن على الغال أن يرد ما غل لصاحب المقسم، إن وجد السبيل إلى ذلك، وإنه إن فعل ذلك فهو توبة له وخروج عن ذنبه. وقد ورد في الغلول قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(1)
. الآية.
وقوله: يغل - بالبناء للفاعل - معناه، أن يخون. يقال: غَلَّ يَغُلُّ غُلُولًا: إذا سرق من الغنيمة. ومن قرأ يُغَلَّ بالبناء للمجهول معناه: وما كان لنبي أن يُخَانَ. ونهى صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخونوه. وقيل: معناه أن يُخَوَّنَ؛ أي أن ينسب إلى الخيانة. قال البغوي: وسميت الخيانة غلولًا لأن الأيدي مغلولة منها؛ أي ممنوعة منها.
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه، أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلَّا الأموال، والثياب، والمتاع، قال: فوجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد وَهَبَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا أسود يقال له: مِدْعَمٌ، فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءهُ سهم عائر فأصابه فقتله، فقال
(1)
سورة آل عمران: 161.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الناس: هنيئًا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا". فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو بشراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ. أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
وفي البغوي، وأحمد، والترمذي، والدارمي، وابن ماجه، من حديث ثوبان: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْغُلُولِ، وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ".
وقوله: وأدب إن ظهر عليه، أصله ما روي في عقوبة الغال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ". رواه الترمذي وقال: حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ورواه أبو داود، وفي سنده رجل ضعيف، فذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي إلى حمل هذا الحديث - إن ثبت - على الزجر والوعيد دون الإِيجاب، وقالوا: يعزر على سوء فعله.
(2)
وقوله: وجاز أخذ محتاج نعلًا وحزامًا وإبرة وطعامًا، قال البغوي اتفق أهل العلم على أنه إذا كان في الغنيمة طعام، يجوز للغزاة أكله قبل القسمة على قدر الحاجة، ما داموا في دار الحرب، وأنه لا يخمَّسُ في جملة ما يخمَّسُ من الغنيمة، فهو مخصوص بالسنة كالسب للقاتل، ورخص أكثر أهل العلم في علف الدواب، ورأوه في معنى الطعام للحاجة إليه. وقال مالك: أرى الإِبل، والبقر، والغنم، بمنزلة الطعام، يؤكل منها إذا دخلوا أرض العدو. وقال الشافعي: إن أكل فوق الحاجة أدَّى ثمنه في المغنم، وكذلك إن شرب شيئًا من الأدوية، والأشربة التي تجري مجرى الأقوات. وقد ورد في أصل ذلك ما روي في الصحيح؛ فقد أخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: كُنَّا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه. ا. هـ.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابًا من شحم يوم خيبر، قال: فَالْتَزَمْتُهُ، فقُلتُ: لَا أُعْطِي اليومَ أحدًا من هذا شيْئًا. قال: فَالتَفَتُّ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّمًا. ا. هـ.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي سعيد الخدري قال: لم نعد أن فتحت خيبر، فوقعنا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم، والناس جياعٌ، فأكلنا منها أكلًا شديدًا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح فقال:"مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ". فقال الناس: حُرِّمَتْ. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحلَّ اللهُ لِي، وَلكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا".
وقوله: كثوب وسلاح ودابة لترد، في المدونة، قال مالك: وللرجل أن يأخذ من المغنم دابة يقاتل عليها، أو يركبها إلى بلده إن احتاجها، ثم يردها إلى الغنيمة. قال ابن القاسم: فإن كانت الغنيمة قسمت، باعها وتصدق بثمنها، وكذلك إن احتاج إلى سلاح يقاتل به، أو ثياب من الغنيمة يلبسها حتى يرجع إلى أهله، وذلك بمنزلة الدابة. ا. هـ. بنقل المواق.
قلت: هذه الفتوى من الإِمام، قد ورد في السنة ما تخالفه؛ فقد أخرج البغوي من حديث رويفع بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم حنين:"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". وقال شعيب في التعليق: أخرجه أحمد وأبو داود، والدارمي، وإسناده قوي. ا. هـ. فلم يبق إلا أن نحسن الظن بالإِمام فنقول: إما أنه لم يبلغه هذا، وإمَّا أنه بلغه فاطلع على علة فيه لم يطلع عليها غيره، وهو الثبت والطود الشامخ. عليه رحمة الله. والله الموفق.
وقوله: ورد الفضل إن كثر فإن تعذر تصدق به، قال مالك: إذا خرج إلى بلده ومعه فضلة طعام، أكله إن كان يسيرًا، ويتصدق بالكثير. قال اللخمي والباجي: إنما يتصدق به إن افترق الجيش، وإلا رده للقسم. ونحو هذا لأبي عمر. ا. هـ. المواق.
وقوله: ومضت المبادلة بينهم، في المدونة، وقال مالك: إذا أخذ هذا عسلًا، وهذا لحمًا، وهذا طعامًا فيبدلونه، ويمنع أحدهم صاحبه حتى يبادله، فلا بأس به، وكذلك العلف. وقال مالك: ومن أخذ طعامًا فأكل منه ثم استغنى عنه، فليعطه إلى صاحبه بغير بيع ولا قرض. قال ابن القاسم: فإن أقرضه فلا شيء على المستقرض. ا. هـ. من المواق.
وقوله: وببلدهم إقامة الحد، في المدونة: إن سرق مسلم من حربي دخل إلينا بأمان قطع، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإن سرق الحربي وقد دخل بأمان قطع. ويقيم أمير الجيش الحدود ببلد الحرب على أهل الجيش في السرقة وغيرها، وذلك أقوى على الحق. ا. هـ. المواق.
وقوله: وتخريب، وقطع نخل، وحرق إن أنكى أو لم ترج، والظاهر أنه مندوب كعكسه، في المواق ما نصه: قال ابن رشد: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بني النضير، وروي أنهم لما قطعوا بعضًا وتركوا بعضًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لهم أجر فيما قطعوا؟. وهل عليهم وزر فيما تركوا؟. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا}
(1)
. الآية، فهي دالة على إباحة القطع، وأن لا حرج في الترك قال: وتوقف مالك في الأفضل من ذلك. والأظهر أن القطع أفضل من الترك؛ لما فيه من إذلال العدو وإصغارهم ونكايتهم، وقد قال تعالى:{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا}
(2)
. الآية. إلا أن يكون بلدًا يرجى أن يصير للمسلمين، فيكون التوقف عن القطع أفضل، بدليل نهي أبي بكر جيوشه إلى الشام عن ذلك، لما علم أن المسلمين سيفتحونها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وَتُفْتَحُ الشَّامُ" إلى قوله: "وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانَوا يَعْلَمُونَ". ا. هـ. منه بلفظه.
وقوله: ووطء أسير زوجة أو أمة سلمتا، قال ابن القاسم: للأسير وطء زوجته وأمته المأسورتين معه، إن أمن من وطئهما العدو، وإنما أكرهه خوف بقاء ذريته بأرض الحرب، ولو ترك وطء الأمة كان أحب إليَّ؛ لأن العدو قد ملكها ملكًا لو أسلم عليها لم تنزع منه بخلاف الحرة. ا. هـ. المواق.
وقوله: وذبح حيوان وعرقبته وأجهز عليه، عبارته في التوضيح: إذا عجز المسلمون عن حمل مال الكفار، أو عن حمل بعض متاعهم، فإنهم يتلفونه لئلا ينتفع به العدو، سواء الحيوان وغيره على المشهور المعروف، ثم إنهم اختلفوا فيما يتلف به الحيوان؛ فالمصريون - وإياهم تبع المصنف - يرون إتلافه بأي طريقة كانت ذبحًا أو عرقبة أو أن يجهز عليه. وكره المدنيون من أصحاب مالك ذبحها وعرقبتها، وقالوا: يجهز عليها. أي الأنعام. ولا نص في الموضوع. والله أعلم. =
(1)
سورة الحشر: 5.
(2)
سورة التوبة: 120.
وَحُرِقَ إنْ أكَلُوا الْمَيْتَةَ كمَتَاعٍ عُجِزَ عَنْ حَمْلِهِ، وَجَعْلُ الدِّيوانِ، وَجُعْلٌ مِنْ قَاعِدٍ لِمَنْ يَخْرُجُ عَنْهُ إنْ كَانَا بِديوانٍ، وَرَفْعُ صَوْتِ مُرَابِطٍ بِالتَّكْبِيرِ وَكُرِهِ التَّطْرِيبُ، وقتلُ عَيْنٍ وَإِنْ أمِّنَ، والمُسْلِمُ كالزِّنْدِيقِ وقَبُولُ الإِمَامِ هَدِيَّتَهُمْ، وَهِيَ لَهُ إنْ كَانَتْ
= وقوله: وحرق إن أكلوا الميتة، يريد به - والله أعلم - أن العدو إن كان ممن يأكل الميتة، حرقت الحيوانات لئلا ينتفعوا بها.
وقوله: وجعل ديوان، الديوان: كشف أسماء المعدين لقتال العدو بعطاء، وأول من دون الدواوين عمر بن الخطاب. نقل المواق عن الأوزاعي قال: أوقف عمر بن الخطاب الفيء وخراج الأراضين للمجاهدين، ففرض للمقاتلة والعيال والذرية، فصار سنة لمن بعده. ا. هـ. منه.
وفي البغوي من حديث عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن عليّ، أن عمر بن الخطاب لما دوَّن الدواوين قال: بِمَ ترون أن أبدأ؟. فقيل له: ابدأ بالأقرب فالأقرب بك: قال: بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وجُعل من قاعد لمن يخرج عنه إن كانا بديوان، قال البغوي: اختلف أهل العلم في جواز أخذ الجعل على الجهاد، فرخص في ذلك الزهري ومالك، وأصحاب الرأي، واستدلوا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْغَازِي أَجْرُهُ وللْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي". رواه البغوي، وأخرجه أحمد، وأبو داود قال شعيب: وإسناده صحيح. وكره الشافعي أن يغزو الرجل بجعل، قال: فإن أخذه فعليه رده.
وفي المواق عن مجاهد أنه قال لابن عمر: أريد الغزو. فقال: إني أريد أن أعينك بطائفة من مالي قلت: قد أوسع الله عليَّ. قال: إن غناك لك. وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه. ا. هـ. منه.
وقوله: ورفْع صوت مرابط بالتكبير وكره التطريب، قال في المدونة: لا بأس بالتكبير في الرباط، والحرس على البحر، ورفع الصوت به بالليل والنهار، وأنكر التطريب. وقال في المدخل: يستحب للمرابطين - إذا صلوا الخمس - أن يكبروا جهرًا؛ يرفعون أصواتهم ليرهبوا العدو. ا. هـ بنقل المواق في الأول، والحطاب في الأخير. =
مِنْ بَعْضٍ لِكقَرابَةٍ، وفَيْءٌ إنْ كَانَتْ مِنَ الطَّاغِيةِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ، وَقِتَالُ رومٍ وَتُرْكٍ، واحْتِجَاجٌ عَلَيْهمْ بِقُرْآنٍ، وبَعْثُ كِتَابٍ فِيهِ كَالآيَةِ، وَإقْدامُ الرَّجُلِ عَلَى كَثيرٍ، إنْ لَمْ يَكُنْ لِيُظْهِرَ شَجَاعَةٍ على الأظْهَرِ، وانْتِقَالٌ مِنْ مَوْتٍ لِآخَرَ، وَوَجَبَ
= وقوله: وقتل عين وإن أمن، يعني بالعين الجاسوس. وحكمه إن كان كافرًا حربيًا القتل. حكى النووي في شرح مسلم الإِجماع على ذلك. وإن كان معاهدًا؛ فإن مالكًا يرى أنه صار بتجسسه ناقضًا للعهد، فيجوز قتله، وإن رأى الإمام استرقاقه فعل. ودليل جواز قتل الجاسوس، حديث إياس بن سلمة بن الأكوع عند البخاري ومسلم واللفظ له، قال سلمة: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه، ثم انتزع طلقًا من حقبه، فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم، وجعل ينظر؛ وفينا ضعفة، ورقة في الظهر، وبعضنا مشاة، إذا خرج يشتد، فأتى جمله فاطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه، فأثاره، فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء، قال سلمة: وخرجت اشتد، فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى صرت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبتيه في الأرض، اخترطت سيفي، فضربت رأس الرجل، فندر، ثم جئت بالجمل أقوده؛ عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال:"مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ"؟. قالوا: ابن الأكوع قال: "لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ". ا. هـ.
وقوله: والمسلم كالزنديق، في المواق، وسئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يؤخذ، وقد كاتب الروم، وأخبرهم خبر المسلمين. فقال: ما سمعت فيه بشيء، وأرى فيه اجتهاد الإِمام. وقال ابن القاسم: أرى أن تضرب عنقه.
قال ابن رشد: قول ابن القاسم هذا صحيح؛ لأنه أضر بالمسلمين من المحارب.
قلت: ولعل المسألة تكون ذات تفصيل؛ فإن من فعل ذلك وهو على ثبات من دينه، ولكن لأجل غرض دنيوي، وأبدى عذرًا ظاهرًا، والحال أنه لم يكن من أهل الريب، يقبل عذره، كما كان الحال في قضية حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. فإن اختل شيء من ذلك، فهو عين للمشركين يسعى بالفساد في الأرض، يجري فيه ما تقدم من أقوال الأئمة. وبالله تعالى التوفيق. =
إنْ رَجَا حَيَاةً أوْ طُولَهَا، كَالنَّظَرِ فِي الأسْرى بِقَتْلٍ، أوْ مَنٍّ، أوْ فِدَاءٍ، أوْ جِزْيَةٍ، أوْ اسْتِرقَاقٍ، ولا يَمْنَعُهُ حَمْلٌ بِمُسْلِمٍ، وَرُقَّ إنْ حَمَلَتْ بِهِ بِكُفْرٍ، والْوَفَاءُ بِمَا فَتَحَ لَنَا بِهِ بَعْضُهُمْ.
وبأمَانِ الإِمَامِ مُطْلَقًا (1)؛ كَالْمُبَارِزِ مَعَ قِرْنِهِ، وإنْ أعِينَ بإذْنِهِ قُتِلَ مَعَهُ، وَلِمَنْ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ لِمِثْلهَا إذا فَرَغَ مِنْ قِرْنِهِ الإِعَانَةُ، وأُجْبِرُوا عَلَى حُكْمِ مَنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ؛ إنْ كَانَ عَدْلًا وَعَرَفَ الْمَصْلَحَةَ، وإلَّا نَظَر الإِمَامُ، كَتأمِينِ غَيْرِهِ إقْلِيمًا، وإلَّا فَهَلْ يَجُوزُ؟. وَعَلَيْهِ الأكْثَرُ، أوْ يُمْضَى مِنْ مُؤمِّنٍ مُمَيِّزٍ وَلَوْ صَغيرًا،
= وقوله: كالنظر في الأسرى بقتل، أو مَنٍّ، أو فداء أو جزية أو استرقاق، قال ابن رشد: ذهب مالك وجمهور أهل العلم أن الإِمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء؛ فإما أن يَقتُل، وإما أن يأسر ويستعبد، وإما أن يعتق، وإما أن يأخذ فيه فداء، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية. وإنما يقع هذا التخيير على حسب ما هو أصلح للمسلمين، لا بحكم الهوى.
قال تعالى في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
(1)
. الآية. وقد فعل صلى الله عليه وسلم فيما وقفت عليه - أنه قتل النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط صبرًا، ومَنَّ على أبي عزة الجمحي - الشاعر الخبيث الذي غدر - وأمكنه الله منه يوم حمراء الأسد فقتله. ومنَّ على ثمالة بن أُثال، سيد بني حنيفة رضي الله عنه. وعقد الذمة وضرب الجزية على أكيدر بن عبد الملك، ملك دومة الجندل، لما أتاه به خالد بن الوليد أسيرًا. وأخذ الفدية من أسرى بدر. واسترق بنت أم قرفة الفزارية؛ أعطاها لخاله يستولدها. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: وبأمان الإِمام مطلقًا، قال ابن بشير بنقل المواق عنه: لا خلاف بين أئمة المسلمين أن لأمير الجيش أن يعطي الأمان مطلقًا أو مقيدًا ولا ينبغي أن يكون ذلك إلا بالنظر إلى ما فيه مصلحة المسلمين.
(1)
سورة محمد: 4.
أو امْرأَةً أو رقًّا أو خَارجًا على الإِمَامِ، لَا ذِميًّا أوْ خائفًا مِنْهُمْ؟. تأويلان. وسقط القَتْلُ وَلَوْ بَعْدَ الفَتْحِ، بِلَفْظٍ أوْ إشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّ، وإنْ ظَنَّهُ حَرْبيٌّ فَجَاءَ، أوْ نَهَى النَّاسَ عَنْهُ فَعَصَوْا، أوْ نَسُوا، أوْ جَهِلُوا، أوْ جَهلَ إِسْلَامَهُ لا إمْضَاءَهُ، أُمْضِيَ، أوْ رُدَّ لِمَحَلِّهِ، وإنْ أخِذَ مُقْبِلًا بأرْضِهِمْ وقال: جِئْتُ أطْلُبُ الأمَانَ. أوْ بأرْضِنَا، وقال: ظَنَنْتُ أنَّكُمْ لَا تَعْرِضُونَ لِتَاجِرٍ. أوْ بَيْنَهُمَا، رُدَّ لِمَأْمَنِهِ، وإنْ قَامَتْ قَرينَةٌ فَعَلَيْهَا، وإنْ رُدَّ بِرِيحٍ فَعَلَى أمَانِهِ حتى يصل، وإنْ مَاتَ عِنْدَنَا فَمَالُهُ
= وأما الأفراد من المؤمنين فإن أمانهم نافذ، إن كان لأفراد محصورين، وسواء في ذلك الرجل والمرأة والعبد، خلافًا لأبي حنيفة في العبد قال: لأنه لم يكن مأذونًا في الجهاد؛ وذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ". أخرجه البغوي، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه.
وقد أمنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع، فنادت والناس في صلاة الصبح: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، لكِنْ لَا يَقْرَبُكِ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكِ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب حموين لها يوم الفتح، فقال صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أمَّ هَانِئٍ". وهو حديث في الموطإ والبخاري ومسلم والبغوي، ولفظه من حديث أبي مرة، مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه سمعها تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فقالت: فسلمت، وقال:"مَنْ هذِهِ". فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئ". فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات؛ ملتحفًا في ثوب واحد ثم انصرف، فقلت له: يا رسول الله، زعم ابن أمِّي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلًا أجرتُه؛ فلان بن هبيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قَدْ أجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئ". وذلك ضحى. قال البغوي: هذا الحديث متفق على صحته. ا. هـ. وكل هذه التفاصيل التي ذكرت في الأمان، دليلها:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}
(1)
. الآية. =
(1)
سورة النحل: 91.
فَيْءٌ، إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَارِثٌ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى التَّجْهِيزِ، ولِقَاتِلِهِ إنْ أُسِرَ ثُمَّ قُتِلَ، وإلَّا أرْسِلَ مَعَ دِيَتِهِ لوارثه كَوَدِيعَتهِ. وَهَلْ وَإنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكةٍ أوْ فَيْءٌ؟. قَوْلَانِ. وَكُرِهَ لِغَيْر الْمَالِكِ اشْتِراءُ سِلَعِهِ، وفَاتَتْ بِهِ وبِهِبَتِهِمْ لَهَا، وانْتُزِعَ ما سُرِقَ، ثُمَّ عِيدَ بِهِ لِبَلَدِنَا عَلَى الأظْهَرِ، لَا أحْرَارٌ مُسْلِمُونَ قَدِمُوا بِهِمْ، وملك بإسْلَامِهِ غَيْرَ الحُرِّ المُسْلِمِ. وَفُدِيَتْ أمُّ الْوَلَدِ، وَعُتِقَ المُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِ سَيِّدِهِ، ومُعْتَقٌ لأجَلٍ بَعْدَه ولَا يُتَّبَعُونَ بِشَيْءٍ، ولَا خِيارَ لِلْوَارِثِ، وَحُدَّ زَانٍ وسَارِقٌ إن حِيزَ المَغْنَمُ (1)، وَوُقِفَتِ الأرْضُ؛ كَمِصْرَ والشَامِ والعِرَاقِ (2)، وَخُمِّسَ غَيْرُهَا إنْ أوجِفَ عَلَيْهِ (3).
= (1) وقوله: وحدّ زان وسارق إن حيز المغنم، هذا قول ابن القاسم وأشهب، والذي يؤيده الدليل عدم حدّهما لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِدْرَؤُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ". وهذا زنى بمن له فيها شبهة ملك، على القول بأن الغنيمة تملك بالفتح، ومعلوم أن العلماء اختلفوا في ذلك؛ هل تملك الغنيمة بالفتح، أو هي تملك بالقسم؟. كما عقده على الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
. . . . . . . هل ما غُنِمْ
…
يُمْلَكُ بالفتح أو إن كان قسم
(2)
وقوله: ووقفت الأرض كمصر والشام والعراق، قال المواق. نقلًا عن ابن شاس: أراضي الكفار المأخوذة بالاستيلاء قهرًا عنوة تكون وقفًا. قال في جواهر الإِكليل: ووقفت. أي حبست الأرض غير الموات؛ وهي الصالحة للزراعة. أي صارت وقفًا على مصالح المسلمين بمجرد الاستيلاء عليها، بلا صيغة من الإِمام.
قلت: وقد نزع الإِمام بهذا الفرع إلى سنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بها من بعده بقوله: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". ففي البخاري: حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الرحمن، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال عمر رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. قال العيني في عمدة القاري على البخاري: واحتج عمر رضي الله عنه في ترك قسمة الأرض بقوله =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}
(1)
. الآية قال عمر: هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد منهم إلا وله في هذا المال حق، حتى الراعي بعدي. وقال أبو عبيد: وإلى هذه الآية ذهب عليّ ومعاذ رضي الله تعالى عنهما. وأشار عمر بإقرار الأرض لمن يأتي بعده.
قال: وقد اختلف العلماء في حكم الأرض، قال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرض ثلاثة أحكام: أرض أسلم أهلها عليها؛ فهي لهم ملك؛ وهي أرض عشر لا شيء فيها غيره. وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم؛ فهم على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه. وأرض أخذت عنوة؛ وهي التي اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم: سبيلهم سبيل الغنيمة؛ فيكون أربعة أخماسها حصصًا بين الذين افتتحوها خاصة، والخمس الباقي لمن سمى الله. قال ابن المنذر: وهذا قول الشافعي، وأبي ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو بن العاص حين افتتح مصر.
قال أبو عبيد: بل حكمها والنظر فيها إلى الإِمام؛ فإن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فذلك له. وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد فذلك له. وهو قول أبي حنيفة، وصاحبيه، والثوري فيما حكاه الطحاوي، وقال مالك: يجتهد فيها الإِمام، وقال في القنية: العمل في أرض العنوة على فعل عمر رضي الله تعالى عنه أن لا تقسم وتقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر في قسم الأرض بالشام، فقال: اللهم اكفنيهم. فما أتى الحول وقد بقي منهم أحد. ا. هـ. منه.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على هذا الحديث في كتاب الحرث والمزارعة: تأول عمر قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}
(2)
. فرأى أن للآخرين أسوة بالأولين، فخشي - لو قسم ما يفتح - أن تكمل الفتوح فلا يبقى لمن يجيء بعد ذلك حظ في الخراج، فرأى أن توقف الأرض المفتوحة عنوة، ويضرب عليها خراج يدوم نفعه للمسلمين. قال: وقد اختلف =
(1)
سورة الحشر: 7 - 10.
(2)
سورة الحشر: 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نظر العلماء في قسمة الأرض المفتوحة عنوة على قولين شهيرين - كذا قال - قال: وفي المسألة أقوال أشهرها ثلاثة: فعنْ مالك: تصير وقفًا بنفس الفتح. وعن أبي حنيفة والثوري: يتخير الإِمام بين قسمتها ووقفيتها. وعن الشافعي، يلزمه قسمتها إلَّا أن يرضى بوقفيتها مَنْ غَنمها. قال: وسيأتي بقية كلام عليه في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى.
قلت: ذلك هو قوله في الكلام على نفس الحديث في كتاب فرض الخمس ما نصه: ووجه أخذه من الترجمة، أن عمر في هذا الحديث أيضًا قد صرح بما يدل على هذا الأثر، يعني "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ". إلا أنه عارض عنده حسن النظر لآخر المسلمين، فيما يتعلق بالأرض خاصة، فوقفها على المسلمين، وضرب عليها الخراج الذي يجمع لمصلحتهم، وتأول قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}
(1)
الآية. وروى أبو عبيد في كتاب الأموال، من طريق ابن إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر، أنه أراد أن يقسم السواد، فشاور في ذلك، فقال له عليٌّ: دعهم يكونوا مادة للمسلمين. فتركهم. ومن طريق عبد الله بن أبي قيس أن عمر أراد قسمة الأرض فقال له معاذ: إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم يبتدرون، فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ويأتي القوم يسدون من الإِسلام مسدًّا فلا يجدون شيئًا، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم، فاقتضى رأي عمر تأخير قسم الأرض، وضرب الخراج عليها للغانمين ولمن يجيء بعدهم، فبقي ما عدا ذلك على اختصاص الغانمين به - وبه قال الجمهور - إلى أن قال: قال ابن المنير: وجه احتجاج عمر بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أن الواو عاطفة فيحصل اشتراك من ذكر في الإِستحقاق، والجملة في قوله تعالى:{يَقُولُونَ} في موضع الحال؛ فهي كالشرط للإِستحقاق. والمعنى أنهم يستحقون في حالة الإِستغفار. قال: ولو أعربناها بأنها استئنافية؛ للزم أن كل من جاء بعدهم يكون مستغفرًا لهم، والواقع بخلافه، فتعين الأول. ا. هـ. منه.
وواضح من تفسير ابن جزي الكلبي جعل قوله تعالى: {يَقُولُونَ} في موضع الحال، قال: وقيل: يعني من جاء بعد الصحابة؛ وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة. وعلى هذا حملها =
(1)
سورة الحشر 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مالك فقال: إن من قال في أحد الصحابة قول سوء، فلا حظ له في الغنيمة والفيء؛ لأن الله وصف الذين جاؤُوا بعد الصحابة بأنهم يقولون:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}
(1)
. فمن قال ضد ذلك، فقد خرج عن الذين وصفهم الله به. ا. هـ. منه.
وقال ابن كثير في تفسيره: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
(1)
. هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء؛ وهم المهاجرون، والأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان. كما قال في آية براءة:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
(2)
. فالتابعون لهم بإحسان؛ هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة. الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أي قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} أي بغضًا وحسدًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
قال: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: إن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . ا. هـ. منه.
قال في جواهر الإِكليل: وأما الموات فللإِمام تمليكها لمن شاء. ومثل الأرض الصالحة للزراعة، الدور في الحكم. وقيل: الدور للغانمين. وقيل: يخير الإِمام في وقفها وقسمها. وعلى الأول لا يؤخذ لها كراء بخلاف أرض الزراعة. قال القرافي بعد ذكر الخلاف في دور مكة: المشهور منع كرائها لفتحها عنوة، إلى أن قال: والقاعدة المتفق عليها أن مسائل الخلاف إن
(1)
سورة الحشر: 10.
(2)
سورة التوبة: 100.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= اتصل ببعض أقوالها قضاء حاكم، تعين ذلك القول وارتفع الخلاف؛ فإذا قضى حاكم بثبوت ذلك في أرض العنوة، ارتفع الخلاف وتعين ما حكم به، وهذا يطرد في مكة ومصر وغيرهما. ا. هـ. منه
(3)
وقوله: وخمس غيرها إن أوجف عليه، الإِيجاف: سرعة السير. وقوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}
(1)
. أي شديدة الاضطراب. يريد المصنف؛ أن غير الأرض يخمس خمسة أقسام متساوية من سائر أموال الحربيين - مثليات كانت أو مقومات - يجعل خمس منها في بيت المال، والأخماس الأربعة للغانمين إن أوجف؛ أي قوتل عليه بخيل أو ركاب، أما ما انجلى عنه أهله دون قتال، فذلك عندنا لا يخمس ويصرف في مصالح المسلمين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيما أخذ من بني النضير، وعلى هذا أكثر أهل العلم. قالوا: إن الفيء لا يخمس. والفيء هو ما صار إلى المسلمين من أموال الكفار من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وإلى ذلك ذهب عمر رضي الله عنه. قال الزهري: قال عمر: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ}
(2)
. هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة؛ قرى عربية فدك وكذا وكذا. {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
(3)
. و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}
(4)
. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
(5)
. و {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}
(6)
. فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق، إلا بعض من تملكون من أرقائكم. قال البغوي: فذهب عمر إلى أن هذه الآيات منسوقة بعضها على بعض، وأن جملة الفيء لجميع المسلمين يصرفها الإِمام إلى مصالحهم على ما يراه من الترتيب. وهو قول أكثر أهل الفتوى. ا. هـ. منه.
وقوله عن القرافي في دور مكة: المشهور منع كرائها لفتحها عنوة. التحقيق إن شاء الله، أن =
(1)
سورة النازعات: 8.
(2)
سورة الحشر: 6.
(3)
سورة الحشر: 7.
(4)
سورة الحشر: 8.
(5)
سورة الحشر: 9.
(6)
سورة الحشر: 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مكة فتحت عنوة ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها، فردَّها عليهم ولم يقسمها. وقد منَّ عليهم بأنفسهم حيث قال لهم - وهم مقهورون، تحيط بهم خيل الله، تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون - قال صلى الله عليه وسلم:"يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا تُظُنُّونَ أنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ"؟. قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. قال صلى الله عليه وسلم:"اذْهَبُوا فَأنْتُمُ الطُّلَقَاءُ". فهل يطلق إلا من أسر؟. وهل يخالف أحد في أن مسلمة الفتح كانوا يعرفون بالطلقاء لقول رسول الله لهم: "اذْهَبُوا فَأنْتُمُ الطُّلَقَاءُ".
وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَبَا هُرَيْرَةَ ادْعُ لِي الْأنْصَارَ". قال: فدعونهم فجاؤا يهرولون. فقال: "يَا مَعْشَر الْأنْصَارِ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ"؟. قالوا: نعم!. قال: "انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أنْ تَحْصُدُوهُمْ حَصْدًا".
وقال: "مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا". قال: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه. الحديث. وكونها فتحت عنوة هو ما ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأبو عبيد ورواية عن أحمد بن حنبل.
وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحًا، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم بذل لهم الأمان بقوله: "مَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ". ولكن. فهل ألقوا السلاح كلهم فأمنوا؟. أو هل أغلقوا أبوابهم جميعهم فأمنوا؟. وكيف يتفق دخولها صلحًا مع لباسه المغفر وهو يطوف بالبيت؟. صلوات الله وسلامه عليه. فالحق أنه صلى الله عليه وسلم دخلها مقاتلًا مستحلًا وقال: "إنَّمَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ". أما القول بمنع بيع دورها وكرائها؛ فللقول بأنها حرة كالمساجد. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: لا يحل بالبيع دور مكة ولا كراؤها. ا. هـ.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن ابن جريج قال: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم. وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن تبوّب دور مكة؛ لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوَّبَ داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر في ذلك. فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرءًا تاجرًا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان ظهري. قال: فذلك إذًا.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن منصور، عن مجاهد، أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا؛ لينزل البادي حيث شاء. قال: وأخبرني منصور عن مجاهد قال: نهى عن إجارة بيوت مكة، وبيع رباعها. قال: وأخبرني معمر، وأخبرني بعض أهل مكة، قال: لقد استخلف معاوية وما لدار بمكة باب. قال معمر: وأخبرني من سمع عطاء يقول: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
(1)
. قال: ينزلون حيث شاؤوا.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قرأت كتابًا من عمر بن عبد العزيز إلى عبد العزيز بن عبد الله يأمره أن لا يكرى بمكة شيء. وأخرج الحاكم والدارقطني عن إسماعيل بن إبراهيم عن مهاجر عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَكَّةُ مُنَاخٌ؛ لَا يُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤاجَرُ بُيُوتُهَا". قال شعيب: وإسماعيل بن إبراهيم ضعيف. وأخرجه الحاكم أيضًا عن أبي حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"مَكَّةُ حَرَامٌ. وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا". قال شعيب: وعبيد الله بن أبي زياد فيه ضعف خفيف.
وفي المغني لابن قدامة ج 4/ ص 261: روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة: "لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُكْرَى بُيُوتُهَا". رواه الأثرم بإسناده. وأخرج أبو عبيد في الأموال، من حديث وكيع عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو قال: من أكل من أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم.
وفي شرح السنة للبغوي: وقال أحمد بن حنبل: إني لأتوقى الكراء، أما الشراء فقد اشترى عمر دارًا للسجن. وقال إسحاق: بيعها وشراؤها وإجارتها مكروه، ولكن الشراء أهون. ا. هـ.
قلت: الذي يظهر من هذا البحث أن ما كان منها من دور مملوكة ذلك اليوم، فهو لأصحابه بكامل التصرف، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منَّ عليهم بأنفسهم وأموالهم؛ فرد عليهم دورهم ولم يقسمها - وله ذلك - وأما ما لم يكن مملوكًا ذلك اليوم، فليس لأحد ملكه ولا بيعه ولا إجارته. قال البغوي: قال أبو عبيد: إن مكة فتحت عنوة، ثم منَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها، وكان هذا خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، ليس لأحد من الأئمة أن يفعل ذلك في شيء =
(1)
سورة الحج: 25.
فَخَراجُهَا والخُمُسُ والجزْيةُ لآلِهِ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ لِلمَصَالِح (1). وبُدِئَ بِمَنْ فِيهِمُ الْمَالُ، وَنُقِلَ لِلأْحْوَجِ الأكْثَرِ (2)، ونَفَّلَ مِنْهُ السَّلَبَ لِمَصْلَحَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ إِنْ لَمْ يَنْقَضِ الْقِتَالُ. مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ السَّلَبُ (3)، ومَضَى إِنْ لمْ يُبْطِلْهُ قَبْلَ المَغْنَمِ، ولْلمُسْلِمِ فَقَطْ سَلَبٌ اعْتِيدَ، لَا سِوَارٌ وصَلِيبٌ وعَيْنٌ ودَابَّةٌ، وإنْ لَمْ
من البلدان غيرها وذلك لأنها مسجد لجماعة المسلمين، وهي مناخ من سبق، وأجور بيوتها لا تطيب، ولا تباع رباعها، وليس هذا لغيرها من البلدان. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: فخراجها والخمس والجزية لآله عليه الصلاة والسلام ثم للمصالح. قال المواق نقلًا عن ابن عرفة: الفيء ما سوى الغنيمة، والمختص فيها خراج الأرض، والجزية، وما افتتح من أرض بصلح، وخمس الغنيمة والركاز. قال: وما صولح عليه أهل الحرب، وما أخذ من تجارهم. قال مالك: والخمس والفيء سواء يجعلان في بيت المال، ويعطي الإِمام أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الاجتهاد، ولا يعطون من الزكاة. قال ابن حبيب: لما كثر المال دون عمر للعطاء ديوانًا، ففاضل فيه بين الناس وقال: ابدؤوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله. فآل محمد صلى الله عليه وسلم الذين لهم الأسبقية في الفيء والخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لحديث جبير بن مطعم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحدًا من بني عبد شمس، ولا بني نوفل شيئًا، أخرجه الشافعي، وأخرجه البخاري في المغازي وفي الجهاد. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمَّا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هكَذَا". وشبك بين أصابعه. هكذا لفظ البغوي "شيء" بدون فاء، والذي تقتضيه القواعد العربية مجيء فاء بأولها أي "فشيء". وذلك لما عقده ابن مالك بقوله:
أما كمهما يك من شيء وفا
…
لتلو تلوها وجوبًا ألفا
لذلك فإن لفظ الحديث في نظري هو: "أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَشَيءٌ وَاحِدٌ". والله تعالى أعلم. وهذا الحديث أخرجه البغوي وأبو داود وابن ماجه، والنسائي وأخرجه البخاري من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب. كذا قال شعيب.
وفي هذا دليل على ثبوت سهم ذوي القربى من خمس الغنيمة، كما قال الله تعالى: {فَأَنَّ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}
(1)
. وقد اختلف أهل العلم في بقاء سهم ذوي القربى بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم؛ فذهب جماعة إلى أنه ثابت. منهم: مالك والشافعي. خلافًا لمذهب أبي حنيفة؛ فإن الخمس يقسم عندهم على ثلاثة أصناف فقط: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
واحتج الجمهور على أنه باق بحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيت عليَّ بن أبي طالب عند أحجار الزيت فقلت له: بابي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟. فقال عليٌّ: أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماسٌ، وما كان فقد أوفاناه. وأما عمر فلم يزل يعطينا حتى جاءه مال السوس والأهواز - أو قال: الأهواز، أو قال: فارس. شك الراوي - فقال في المسلمين خَلَّةٌ، فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين، حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه. الحديث، وقد رواه الشافعي وأبو داود، والبغوي. وقال: فيه دليل على أن سهم ذوي القربى باق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخلفاء أعطوهم عوضًا عن الصدقة، وتحريم الصدقة عليهم باق، فليكن سهمهم باقيًا؛ ولأنه عطاء باسم القرابة، والقرابة باقية كالميراث. قال الشافعي: ولا يفضل فيه فقير على غني، ويعطى منه الرجل سهمين والمرأة سهمًا. ا. هـ. منه بتصرف. وبعد إخراج حق ذوي القربى، بدأ الإِمام بمصالح المسلمين؛ يبدأ بالمقاتلة، ثم بالأهم فالأهم. وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا الفيء فقال: ما أنا أحق بهذ الفيء منكم، وما أحد منا أحق به من أحد، إلا أننا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل وقَدمُهُ، والرجل وبلاؤُه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته. رواه البغوي وأبو داود. وكان عمر يفضل بالسابقة والنسب، فكان يفضل أقران ابنه على ابنه. ويقول: هاجر بك أبوك. وكان يفضل عائشة على حفصة ويقول: إنها كانت أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكِ، وأبوها كان أحب إليه من أبيك.
وروى نافع عن ابن عمر قال: فرض عمر لأسامة بن زيد أكثر مما فرض لي، فقلت: إنما هجرتي وهجرة أسامة واحدة. قال: إن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وإنه كان أحبَّ
(1)
سورة الأنفال: 41.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وإنما هاجر بك أبوك. أخرجه البخاري.
(2)
وقوله بدئ بمن فيهم المال ونقل للأحوج الأكثر، أي يبدأ بالبلد الذي جبي منه المال. قال في المدونة: فإن كان في غير ذلك البلد من هو أشد منهم حاجة أعطى البلد الذي فيهم المال من ذلك، ونقل الأكثر إلى البلد المحتاج، كما فعل عمر أعوام الرمادة. ا. هـ. بنقل المواق.
وقوله: ونفل منه السلب لمصلحة. النفل - بفتح الفاء وسكونها - هو زيادة على السهم، أو هبة لمن ليس من أهل السهم، يفضله الإِمام لرأي يراه مما يؤديه إليه اجتهاده. وفي المدونة قال ابن القاسم: من قتل قتيلًا فهل يكون له سلبه؟. قال: قال مالك: لم يبلغني أن ذلك كان إلا يوم حنين، وإنما ذلك إلى الإِمام يجتهد فيه. ا. هـ. المواق.
(3)
وقوله: ولم يجز - إن لم ينقض القتال - من قتل قتيلًا فله سلبه. ففي المدونة، قال ابن القاسم: لا يجوز عند مالك نفل قبل الغنيمة، ويجوز النفل في أول المغنم وفي آخره على وجه الاجتهاد. قال اللخمي: النفل جائز ومكروه؛ فالجائز ما كان بعد القتال، والمكروه ما كان قبلُ. يقول والي الجيش مثلًا: من قتل فلانًا فله سلبه. أو من جاء بشيء من العين فله ربعه. قال: هذا ممنوع ابتداؤه؛ لأنه قتال للدنيا، ولأنه يؤدي إلى التحامل على القتال. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا تقدموا جماجم الرجال إلى الحصون، فلمسلم أستبقيه أحب إليَّ من حصن أفتحه.
قلت: قد ورد في الحديث عن أبي قتادة الأنصاري أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه، فضربته على حبل عاتقه ضربة قطعت الدرع. قال: واقبل عليَّ فضمَّني ضَمَّة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقلت له: ما بال الناس؟. قال: أمر الله. قال: ثم إن الناس رجعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". قال أبو قتادة: فقمت، ثم قلت: مَنْ يَشْهَدُ لي؟. ثُمَّ جَلَسْتُ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ قتيلًا لَه عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ". قال أبو قتادة: فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟. ثم جلست. ثم قال ذلك الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟. فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضِهِ عنه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا، هالله إذًا لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صَدَق فَأَعْطِهِ إيَّاهُ". قال أبو قتادة: فأعطانيه، فبعت الدرع، فابتعت به مخرفًا في بني سَلمَةَ، فإنَّه لأول مال تأثَّلْتهُ في الإِسلام. هذا لفظ البغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته. أخرجه البخاري ومسلم كلاهما بالسند إلى مالك. وقد اختلف أهل العلم في السلب: فالمذهب عند أصحابنا ما تقدم؛ من أنه إذا نادى الإِمام أن من قتل قتيلًا فله سلبه، كان له ذلك على وجه التنفيل، ولا يستحقه بدون ذلك. وإلى هذا ذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي.
وقال أحمد بن حنبل إنما يستحق السلب من قتل قرنه في المبارزة دون غيرها.
وقال قوم - منهم الشافعي - أن جميع سلب المقتول لقاتله، وإن لم يكن إلا نادى به. ولا يخمس السلب عند هؤلاء. ويشترط الشافعي أن يكون الكافر قتل مقبلًا لا مدبرًا فارًا.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن السلب الذي يستحقه القاتل، هو كل ما كان على المقتول من ثوب، سلاح، ومنطقة، وفرسه الذي هو راكبه، أو ممسكه. هكذا قال الشافعي. وقال الأوزاعي: له فرسه الذي قاتل عليه، وسلاحه، وسرجه، ومنطقته، وخاتمه، وما كان في سرجه وسلاحه من حليه، ولا يكون له الهميان ولا الدراهم والدنانير التي لا يتزين بها للحرب، بل هي غنيمة. والمذهب عندنا أن السلب هو المعتاد لبس المقاتل له دون غير المعتاد، مما يلبسه عظماء الروم؛ من التيجان والصلبان والإِسورة ونحو ذلك.
وأما النفل فهو اسم لزيادة يعطيها الإِمام بعض الجيش على القدر المستحق. ومنه سميت النافلة لما زاد على الفرائض من الصلوات. وهو جائز شرعًا بدليل الحديث المتفق عليه، عن ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش.
واختلفوا من أي شيء يخرج النفل؟. قال قوم: هو من الخمس، وقالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه من ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ".
وقال قوم: هو من الغنيمة بعد إخراج الخمس لما روى أبو داود بإسناد صحيح: روى حبيب بن سلمة الفهري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الثلث بعد الخمس.
يَسْمَعْ أوْ تَعَدَّدَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَتيلًا وَإلَّا فالأولُ. وَلَمْ يَكُنْ لِكَمَرْأَةٍ إنْ لَمْ تُقَاتِلْ (1) كالإِمَامِ إنْ لَمْ يَقُلْ: مِنْكُمْ. أوْ يَخُصَّ نَفْسَهُ، وَلَهُ البَغْلَةُ إنْ قَالَ: عَلَى بَغْلٍ، لَا إنْ كَانَتْ بِيَدِ غُلَامِهِ وَقَسَمَ الأرْبَعَةَ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ، كتاجِرٍ وَأجِيرٍ، إنْ قَاتَلا أوْ خَرَجَا بِنيَّةِ غَزْوٍ (2)، لَا ضِدَّهُمْ وَلَوْ قَاتَلُوا (3). إلَّا الصَّبي فَفِيهِ
= وقال قوم: هو من أصل الغنيمة قبل التخميس؛ لما روى نافع عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد، فخرجت معها، فأصبنا نعمًا كثيرًا، فنفلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرًا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا، ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرًا. أخرجه أبو داود في الجهاد. ا. هـ.
وقال مالك: أمر ذلك إلى اجتهاد الإِمام، سواء أعطاه من أول الغنيمة أو آخرها. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
وقوله: ولم يكن لكامرأة إن لم تقاتل، يريد به - والله أعلم - أن قول الإِمام: من قتل قتيلًا فله سلبه. يكون نافذًا إذا قتل ما يجوز له قتله، وليس له سلب من قتل ممن لا يجوز له قتله؛ من امرأة أو صبي أو زمن أو راهب. إلا أن يقاتل هؤلاء، فإن قاتلوا كان له سلبهم لجواز قتلهم حينئذ. والله أعلم.
(2)
وقوله: وقسم الأربعة لحر مسلم عاقل بالغ حاضر كتاجر وأجير إن قاتلا أو خرجا بنية غزو، يريد به - والله أعلم - أن من كملت فيه هذه الصفات استحق الغنيمة وهي: الإِسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والصحة. قيل: وحضور الواقعة فعلًا، أما التاجر والأجير، فإنه لا يسهم لهما في الغنيمة إلا إذا قاتلا، أو كانا خرجا أصلًا بنية الغزو، فإنه يسهم لهما وإن لم يقاتلا. ففي المدونة أن الأجير والتاجر إذا قاتل يسهم له، وإن لم يقاتل فلا يسهم له، وأما إن كان خروجه للغزو، غير أن معه تجارة، فهذا يسهم له قاتل أو لم يقاتل. انظر المواق.
(3)
وقوله: لا ضدهم ولو قاتلوا: ففي صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن يزيد بن هرمز. أن نجدة =
إنْ أجِيزَ وقَاتَلَ خِلَافٌ. وَلَا يُرْضَخُ لَهُمْ كمَيِّتٍ قَبْلَ اللِّقَاءِ وَأعْمَى وَأعْرَجَ، وأشَلَّ، ومُتَخَلفٍ لِحَاجَةٍ - إنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِالجيْشِ - وضَالٍّ بِبَلَدِنا، وَإنْ بِرِيحٍ، بِخِلَافِ بَلَدِهِمْ، ومَريضٍ شَهِدَ كَفرَسٍ رَهِيصٍ، أوْ مَرِضَ بَعْدَ أنْ أَشْرَفَ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وإلَّا فَقْولَانِ. ولِلْفَرَسِ مِثْلَا فَارِسِهِ (1) وإنْ بِسَفِينَةٍ (2)، أو بِرْذَوْنًا، وهَجينًا،
= كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس: إن ناسًا يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية، ولولا أني أخاف أن أكتم علمًا لم أكتب إليه.
كتب نجدة إليه: أما بعد، فأخبرني، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟. وهل كان يضرب لهن بسهم؟. وهل كان يقتل الصبيان؟. ومتى ينقضي يتم اليتيم؟. وعن الخمس لمن؟.
فكتب إليه ابن عباس: إنك كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟. وقد كان يغزو بهن؛ يداوين المرضى، ويحْذَيْنَ من الغنيمة. وأما السهم، فلم يضرب لهن بسهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل الولدان، فلا تقتلهم إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الصبي الذي قَتَلَ، فتميِّز بين المؤمن والكافر، فتقتل الكافر وتدع المؤمن. . . الحديث هذا اللفظ أخرجه البغوي، وقال: وأخرجه عن محمد بن حاتم عن بهز، عن جرير بن حازم عن قيس بن سعد عن يزيد بن هرمز، وقال: وسألت عن المرأة والعبد: هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس؟. وإنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم. قال البغوي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم؛ أن العبيد، والصبيان، والنسوان، إذا حضروا، القتال، يرضخ لهم ولا يسهم لهم. وقال الأوزاعي: يسهم لهم؛ لأن النبي أسهم للصبيان والنسوان بخيبر. رواه البيهقي. قال البغوي: وإسناده ضعيف لا تقوم به حجة.
ومذهب مالك أنه لا يسهم للمرأة ولا يرضخ لها.
(1)
وقوله: وللفرس مثلا فارسه وإن بسفينة، في المواق: من المدونة، قال مالك: يسهم للفرس سهمان وسهم لفارسه، وللراجل سهم. قال ابن سحنون: وما علمت أن من علماء الأمة من قال: للفرس سهم ولفارسه سهم إلا أبو حنيفة، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن علَّاق. =
وصَغيرًا يُقْدَرُ بِها عَلى الْكرِّ والْفَرِّ، ومَرِيضٍ رُجِيَ، ومُحَبَّسٍ، ومَغْصُوبٍ مِنَ الْغَنيمَةِ، أوْ مِنْ غَيْرِ الجيْشِ، ومنه لِرَبِّهِ، لَا أعْجَفَ أو كبِيرٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وبَغْلٍ، وبَعِيرٍ، وَثانٍ، وَالمُشتَرَكُ للمُقَاتِل وَدَفَعَ أجْرَ شرِيكِهِ.
= (2) وقوله: وإن بسفينة، قال ابن القاسم في المدونة: إذا لقوا العدو في البحر، ومعهم الخيل في السفن، فإنه يسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم. قال ابن رشد: لا خلاف في هذا لأنه يسهم لمن شهد القتال وإن لم يقاتل، فكذلك يسهم لفرس من شهد بفرسه وإن لم يقاتل عليه.
وقوله: أو برذونًا، قال في المدونة: قال مالك: والبراذين إن أجازها الإِمام كانت كالخيل.
وقوله: أو هجينًا أو صغيرًا، من الموطإ: قال مالك: لا أرى الهجين إلَّا من الخيل. قال ابن حبيب: الهجين الذي أبوه عربي وأمه من البراذين، قال: إذا أشبهت الخيل في القتال عليها والطلب بها أسهم لها. قال مالك: وأما صغار الخيل لا مركب فيها فلا يسهم لها. ومن المدونة: قال مالك: ولا يسهم لبغل ولا حمار ولا بعير وصاحبه راجل. ا. هـ. انظر المواق.
قلت: وفي حديث ابن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم؛ سهمًا له وسهميْن لفرسه. أخرجه البخاري ومسلم في الجهاد. قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد قالوا: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم. وخالف أبو حنيفة قال: للفارس سهمان:
تنبيه: لا يسهم إلا لفرس واحد، ولا يسهم لغير الفرس من الدواب. ا. هـ.
وَالْمُسْتَنِدُ لِلْجَيْشِ كَهُوَ، وَإلَّا فَلَهُ كَمُتَلَصِّصٍ (1). وخَمَّسَ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا عَلَى الْأصَحِّ لَا ذِمِّي وَمَنْ عَمِلَ سَرْجًا أوْ سَهْمًا. والشَّأْنُ الْقَسْمُ بِبَلَدِهِمْ (2). وَهَلْ يَبِيعُ لِيقْسِمَ قَوْلَانِ (3). وَأُفْرِدَ كُلُّ صِنْفٍ إنْ أمْكَنَ عَلَى الأرْجَحِ (4)، وأخَذَ مُعَيَّنٌ وإنْ ذِمِّيًّا مَا عُرفَ لَهُ قَبْلَهُ مَجَّانًا (5) وَحَلَفَ أنَّهُ مِلْكُهُ، وَحُمِلَ لَهُ إنْ كَانَ خَيْرًا، وَإلَّا
(1)
وقوله: والمستند للجيش كهو وإلا فله، يريد به - والله أعلم - أن المسلم الغائب عن الجيش واحدًا كان أو متعددًا، إذا كان يستند للجيش في دخوله أرض العدو، كهو: أي كالجيش في القسم؛ فيقسم الجيش عليه ما غنموه في غيبته، ويقسم على الجيش ما غنمه في غيبتهم؛ لأنه إنما توصل له بسببه وقوته. وإن لم يستند للجيش الغائب عنه ولم يتقو به؛ بأن دخل أرض الحرب وحده، فله ما غنمه يختص به دون الجيش. والله تعالى أعلم.
(2)
وقوله: والشأن القسم ببلدهم، من المدونة، قال مالك: والشأن أن تقسم الغنائم وتباع ببلد الحرب، وهم أولى برخصها، وروى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء لم يقسموا غنيمة قط إلا في دار الشرك.
(3)
وقوله: وهل يبيع ليقسم قولان، في المواق: ظاهر المدونة أن قسم الغنيمة هو بيعها وقسم ثمنها. وقال الباجي: قال محمد: إن رأى الإِمام أن يقسمها خمسة أخماس بالسوية، بأن يجعل خمسة وصفاء في كل سهم وصيف، وكذلك كل جنس حتى يعدل، ثم يسهم بينها فيخرج أحدها، والأربعة الأخماس للجيش، وإن رأى أن يبيع الجميع ويقسم الثمن فعل. قال: والأظهر قسمه ذلك دون بيع لظاهر الأحاديث. وقول ابن المسيب: كان الناس يعدلون البعير بعشرة شياه يقتضي تكرار ذلك من الصحابة، ولا نعلم مخالفًا لهم، فكان إجماعًا. انتهى من المواق.
(4)
وقوله: وأفرد كل صنف إن أمكن على الأرجح، قال ابن المواز: صفة القسمة أن يقسم كل صنف على خمسة أجزاء، فإذا اعتدلوا واجتهد في ذلك، برأي أهل البصيرة والمعرفة بالقيمة والاقتسام، كتب في ورقة: هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرع، وحيث وقع سهم الخمس كان للإِمام لا رجعة فيه لأحد، ثم يبيع الإِمام الأربعة الأخماس ويقسمها عليهم، فإن رأى بيع الجميع والخمس فعل. ا. هـ. بنقل المواق. والله أعلم.
(5)
وقوله: وأخذ معين وإن ذميًا عرف له قبله مجانًا، في المواق: روى ابن وهب أن رسول =
بِيعَ لَهُ، وَلَمْ يَمْضِ قَسْمُهُ إلَّا لِتَأَوُّلٍ عَلَى الأحْسَنِ، لَا إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، بِخِلَافِ اللُّقْطَةِ، وبيِعَتْ خِدْمَةُ مُعْتَقٍ لأجَلٍ، ومُدَبَّرٍ وكِتَابَةٌ، لَا أمُّ وَلَدٍ، ولَهُ بَعْدَهُ أخْذُهُ بِثَمَنِهِ، وبالْأوَّل إنْ تَعَدَّدَ، وأُجْبِرَ فِي أمِّ الْوَلَدِ عَلَى الثَّمَنِ، وَاتُّبِعَ بِهِ إنْ أعْدَمَ إلَّا أنْ تَمُوتَ هِيَ أوْ سَيِّدُهَا، ولَهُ فِدَاءُ مُعْتَقٍ لأجَلٍ، ومُدَبَّرٍ لِحَالِهِمَا وَتَرْكُهُمَا مُسَلِّمًا لِخِدْمَتِهِمَا، فَإنْ مَاتَ السَّيِّدُ المُدَبِّرُ قَبْلَ الاسْتيفَاءِ فَحُرٌّ، إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ، واتُّبعَ بِمَا بَقِي كَمُسْلِمٍ أوْ ذِمِّيٍّ قُسِمَا، وَلَمْ يُعْذَرَا فِي سُكُوتِهِمَا بأمْر، وَإنْ حَمَلَ بَعْضَهُ رُقَّ بَاقِيهِ، وَلا خِيارَ لِلْوارِثِ، بِخِلافَ الْجِنَايَةِ. وَإنْ أدَّى المُكَاتَبُ ثَمَنَهُ فَعَلَى
= الله صلى الله عليه وسلم قال للذي وجد بعيره في المغنم: "إِنْ وَجَدْتَهُ لَمْ يُقْسَمْ فَخُذْهُ وإنْ قُسِمَ فَأنْتَ أحَقُّ بِهِ بالثَّمَنِ إنْ أَرَدْتَهُ". وفي المدونة قال مالك: ما أحرزه المشركون من مال مسلم أو ذمي، من عرض أو غيره أو أبق إليهم ثم غنمناه. فإن عرف ربه قبل أن يقسم كان أحق به بغير شيء، وإن غاب أوقف له، وإن لم يعرف ربه بعينه، أو عرف أنه لمسلم أو ذمي خُمِّس وقسم، ثم إن جاء ربه كان أحق به بالثمن ما بلغ، ولا يجبر على فدائه، فهو مخير، فإن أراد أخذه، لم يكن لمن بيده أن يأبى عليه. ا. هـ. بنقل المواق.
وفي صحيح البخاري، وابن ماجه، والبغوي، واللفظ له من حديث ابن عمر قال: ذهبت فرس له، فأخذها العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبق عبدٌ له، فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فردَّ عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البغوي: فيه دليل على أن الكفار إذا أحرزوا أموال المسلمين، واستولوا عليها لا يملكونها، وإذا استنقذها المسلمون من أيديهم تردُّ إلى ملَّاكها، سواء كان بعد القسمة أو قبلها عند الشافعي. وقال مالك، والأوزاعي، والثوري: إن أدركه صاحبه قبل القسمة أخذه، وإن أدركه بعد القسمة كان أحق به بالقيمة. وقد تقدم لك دليل مالك في ذلك قريبًا من حديث ابن وهب.
قال البغوي: أما العبد، أو الفرس، إذا أبق، أو عاد إليهم، كان صاحبه أولى به بعد القسمة وقبلها، واتفقوا على أنهم لا يملكون بالاستيلاء رقاب أحرار المسلمين، وأمهات أولادهم، ويملك المسلمون منهم جميع ذلك. ا. هـ. منه. =
حَالِهِ، وإلَّا فَقِنٌّ أُسْلِمَ أوْ فُدِيَ. وعلى الآخِذِ إنْ عَلِمَ بِمِلْكِ مُعَيَّنٍ، تَرْكُ تَصَرُّفٍ لِيُخيِّرهُ، وإنْ تَصَرَّفَ مَضَى كالمُشْتَري مِنْ حَرْبِيٍّ بِاسْتيلَادٍ، إنْ لَمْ يَأخُذْهُ عَلَى رَدِّهِ لِرَبِّهِ، وإلَّا فقولَانِ. وفِي المؤجَّلِ تَرَدُّدٌ، وَلِمُسْلِمٍ أوْ ذِمِّيٍّ أخْذُ مَا وَهَبُوهُ بِدَارِهِمْ مَجَّانًا، وبِعِوَضٍ بِهِ إنْ لَمْ يُبَعْ، فَيَمْضِي وَلِمَالِكِهِ الثَّمَنُ أوْ الزَّائِدُ، والأحْسَنُ فِي المَفْدِيِّ مِنْ لِصٍّ أخْذُهُ بِالْفِدَاءِ، وإنْ أُسْلِمَ لِمُعَاوِضٍ مُدَبَّرٌ وَنَحْوُهُ اسْتُوفِيتْ خِدْمَتُهُ. ثُمَّ هَلْ يُتَّبَعُ إنْ عَتَقَ بِالثَّمَنِ أوْ بِمَا بَقِيَ؟. قَوْلَانِ، وَعبْدُ الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ
= تنبيه: وإذا أسلم الكافر بعد ما سبي ماله فلا يجب رده عليه، أما إذا أسلم قبل أن يقع في الأسر، فقد أحرز ماله وولده قال صلى الله عليه وسلم لصخر بن الغيلة:"إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ". أخرجه الدارمي وأبو داود. ودليل عدم وجوب رد المال إذا أسلم بعد أن سبي هو ما رواه عروة بن الزبير عن مروان والمسور بن مخرمة أنهما أخبراه أن رسول الله حين جاء وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ. وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ". وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعَ عشرة لَيْلَةً حين قفل من الطائف، فلما تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين؛ فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاؤُوا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذلِكَ فَلْيَفْعَلْ". فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ". فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا أو أذنوا. قال: هذا الذي بلغني عن سبي هوازن. ا. هـ. لفظ البغوي. والحديث في صحيح البخاري في المغازي، باب قول الله:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}
(1)
. والله ولي التوفيق.
(1)
سورة التوبة: 25.
حُرٌّ إنْ فَرَّ أوْ بَقِيَ حَتَّى غُنِمَ (1)، لَا إنْ بَعْدَ إسْلَامِ سَيِّدِهِ أوْ بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهِ، وَهَدَمَ السَّبْيُ النِّكَاحَ إلَّا أنْ تُسْبَى وتُسْلِمَ بَعْدَهُ (2)، وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ فَيْءٌ مُطْلَقًا، لَا وَلَدٌ صَغِيرٌ لِكِتَابِيَّةٍ سُبِيَتْ أوْ مُسْلِمَةٍ. وَهَلْ كبَار المُسْلِمَةِ فَيْءٌ أوْ إنْ قاتَلُوا؟. تَأويلَانِ. وولد الأمَةِ لمالكها.
(1)
وقوله: وعبد الحربي يسلم حر إن فرّ أو بقي حتى غنم، في المواق، من المدونة، قال ابن القاسم: من أسلم من عبيد الحربيين لم يزل ملك سيده عليه، إلا أن يخرج العبد إلينا، أو ندخل نحن بلادهم فلنغنمه وهو مسلم وسيده مشرك فيكون حرًا، ولا يرد لسيده إن أسلم سيده بعد ذلك.
(2)
وقوله: وهدم السبي النكاح إلا أن تسبى وتسلم بعده، مراده به - والله أعلم - أن السبي منا معشر المسلمين لزوجين كافرين يقطع النكاح بينهما، سواء سبيا معًا أو مترتبين، أو سبيت هي فقط، أو هو فقط، وعليها حينئذ الاستبراء بحيضة لأنها أمة.
قال المواق: قال ابن علَّاق: قوله السبي يهدم النكاح يشمل ثلاث صور؛ أن تسبى الزوجة وحدها ويبقى الزوج بدار الحرب، وأن يسبى الزوج أولًا ثم تسبى هي بعد ذلك، وأن يسبيا معًا. وظاهر المدونة أن السبي هدم النكاح في الصور الثلاث. ا. هـ. منه. والله تعالى أعلم.
(1)
. الآية.
قال البغوي: قوله تعالى: {عَنْ يَدٍ} . قيل: عن ذل واعتراف بأن دين الإِسلام عال على دينهم. وقيل: عن إنعام عليهم من المسلمين بقبول الجزية. وقيل: عن نقدٍ لا نسيئة. وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . الصغار هو الذل، يعني بالصاغرين أذِلَّاءَ يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس. ا. هـ.
وقال ابن جزي الكلبي في تفسيره: {عَنْ يَدٍ} . فيه تأويلان: أحدهما دفع الذمي لها بيده؛ =
(1)
سورة التوبة: 29.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك: يدًا بيد. والثاني: عن استسلام وانقياد كقولك: ألقى فلان يده. ا. هـ.
واتفقت الأمة على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتابين - وهم اليهود والنصارى - إذا لم يكونوا عربًا؛ لآية التوبة هذه، واختلفوا في أخذ الجزية من أهل الكتاب إن كانوا عربًا، والدليل إلى جانب أخذها منهم؛ لأخذه صلى الله عليه وسلم الجزية من أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل. ومذهب مالك أخذها من جميع الكفار إلا المرتد منهم. وهو مذهب الأوزاعي.
واتفقوا أيضًا على أخذ الجزية من المجوس، لثبوت أخذها منهم بالسنة؛ لحديث عمرو بن دينار أنه سمع بَجالَةَ يقول: لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذَ الجزية من المجوس، حتَّى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. رواه البغوي واللفظ له. وهو في البخاري، والأموال لأبي عبيد. ا. هـ.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه، أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ". رواه البغوي. وهو في الموطإ.
وقال الحطاب:
فائدة: قال في فتح الباري: قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الإِسلام، مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإِسلام. قال: واختلف في سنة مشروعيتها؛ فقيل في سنة ثمان، وقيل في سنة تسع. ا. هـ. منه.
الجزية
فَصْلُ:
عَقْدُ الجِزيةَ إذْنُ الإِمَامِ لِكَافِرٍ صَحَّ سِباؤُهُ، مُكَلَّفٍ، حُرٍّ، قَادِرٍ، مُخَالِطٍ، لَمْ يَعْتِقْهُ مُسْلِمٌ، سُكْنَى غَيْرِ مَكَّةَ والْمَدِينَةِ والْيَمَنِ (1). وَلَهُمُ الْاجتِيازُ (2) بِمَالٍ، لِلْعَنَوِيِّ أرْبَعَةُ دَنَانِيرَ أوْ أرْبَعُونَ دِرْهمًا فِي سَنَةٍ (3)،
(1)
قوله: عقد الجزية إذن الإِمام لكافر صح سباؤه مكلف حر قادر مخالط لم يعتقه مسلم سكنى غير مكة والمدينة واليمن، قال ابن عرفة في حد الجزية: هي ما لزم الكافر من مال لأمنه، باستقراره تحت حكم الإِسلام، وصونه. فإذا علمت ذلك، فاعلم أن عقد الذمة من الإِمام لكافر صح أسره، مكلف، فلا تؤخذ من صبي، حر؛ فلا جزية على الرقيق، قادر، على أدائها، فلا تؤخذ من العاجز عنها، مخالط لأهل دينه ولو راهب كنيسة أو شيخًا فانيًا؛ فلا تؤخذ من راهب منعزل بديره لا رأي له.
وقوله صح أسره، خرج به المرتد عن دينه، والمعاهد قبل انقضاء مدته، والراهب والراهبة الحران.
وقوله سكنى غير مكة والمدينة، مفعول قوله إذن الإِمام، أي إذن الإِمام له في سكنى غير مكة والمدينة واليمن، أي في سكنى غير جزيرة العرب، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها:"لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرةِ الْعَرَبِ". قال أبو عبيدة: وحدها ما بين حفير أبي موسى الأشعري - وهو آخر العراق - وأول الشام إلى أقصى اليمن طولًا، وعرضها ما بين تبريز وهي آخر اليمن، إلى منقطع السماوة، وهو آخر حد الشام من جهة اليمن؛ وهي آخر بلاد سبإ. وكان يخرج المسافر من هذه بلا زاد وهي مسيرة شهر وعشرين يومًا. كذا في جواهر الإِكليل. وقال البغوي: قال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عدن أبَينَ إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض؛ فمن جُدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام.
والدليل على عدم جواز سكنى المشركين لجزيرة العرب حديث جابر بن عبد الله قال: أخبرني =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا". أخرجه البغوي ومسلم في صحيحه.
(2)
وقوله: ولهم الاجتياز، قال البغوي: جملة بلاد الإِسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام: أحدها الحرم؛ فلا يجوز لكافر أن يدخل الحرم؛ ذميًا كان أو لم يكن؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
(1)
. فإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإِمام، وهو في الحرم، خرج إليه الإِمام، أو بعث إليه من يستمع منه رسالته.
والقسم الثاني: الحجاز وما في حكمه من جزيرة العرب؛ فيجوز للكافر دخولها بإذن، ولكن لا يجوز أن يقيم بها أكثر من إقامة السفر، وهي ثلاثة أيام. فإن عمر رضي الله عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرًا ثلاثة أيام.
القسم الثالث: سائر بلاد الإِسلام، فيجوز للإِمام عقد الذمة مع أهل الكتاب ليقيموا فيها، ويجوز لأهل الحرب دخولها بالأمان، والإِقامة فيها إلى انقضاء مدة الأمان. ا. هـ. منه بتصرف.
(3)
وقوله: بمال للعنوي؛ أربعة دنانير أو أربعون درهمًا في سنة، أي إذن الإِمام للكافر في سكنى بلاد الإِسلام في مقابل مال يدفعه، قدره - للذي فتحت بلاده عنوة - أربعة دنانير لأهل الذهب، وأربعون درهمًا لأهل الفضة. ودليل هذا التقدير ما روي أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام. أخرجه في الموطإ، وأخرجه أبو عبيد في الأموال من حديث أبي مسهر ويحيى بن بكير عن مالك. قال شعيب: وإسناده صحيح.
(1)
سورة التوبة: 28.
وَالظَّاهِرُ آخِرُهَا، ونُقِّصَ الفَقيرُ (1) لِوُسْعِهِ وَلَا يُزَادُ، ولِلصُّلْحِيِّ مَا شُرِطَ (2)، وَإنْ أطْلِقَ فَكَالْأوَّلِ، والظَّاهِرُ إنْ بَذَلَ الأوَّلَ حَرُمَ قِتَالُهُ مَعَ الإِهَانَةِ عِنْدَ أخْذِهَا، وَسَقَطَتَا بِالإِسْلَامِ (3) كأرْزَاقِ المُسْلِمِينَ، وإضَافَةِ المُجْتَازِ ثلاثًا لِلْظُّلْمِ، والْعَنَوِيُّ حُرٌّ وَإِنْ مَاتَ أوْ أسْلَمَ فَالأرْضُ فَقَطْ لِلْمُسْلِمينَ.
(1)
وقوله ونقص الفقير، يعني أن الفقير ان عجز عن أداء الأربعة دنانير مثلًا، أخذ منه ما يقدر عليه، ويسقط عنه ما ليس بوسعه.
وإذا علمت بأن أصل قدر الجزية اختلف فيه، وأن بعضهم ذهب إلى أن أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة، أخذًا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عند الترمذي، وأبي داود، وأحمد، والنسائي، والبغوي. ونصه بلفظ البغوي: عن معاذ بن جبل قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا، أو عِدْلَهُ مَعَافِرَ. ا. هـ. والمعافر نوع من الثياب يكون باليمن، إذا علمت ذلك زال عنك استشكال جواز النقص عن الفقير كما ذكره المصنف.
(2)
وقوله وللصلحي ما شرط، قال المواق: لا حد للجزية الصلحية، إذ لا يجبرون عليها، فإنما هي على ما يراضيهم عليه الإِمام، من قليل أو كثير، على أن يقروا في بلادهم، على دينهم، إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام الإِسلام، وتؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال البغوي: روي عن ابن عباس قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة؛ النصف في صفر، والنصف في رجب، يؤدونها إلى المسلمين. وعارية ثلاثين درعًا وثلاثين قوسًا وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون فيها. الحديث.
وفيه أيضًا: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى إيلة ثلاثمائة دينار كل سنة، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثًا، وأن لا يغشوا مسلمًا.
(3)
وقوله: وسقطتا بالإِسلام، لحديث ابن عباس عند البغوي، والترمذي، وأحمد، وأبي داود، والدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أرضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ". =
وَفِي الصُّلْحِ إنْ أُجْمِلَتْ فَلَهُمْ أرْضُهُمْ، والْوَصِيَّةُ بِمَالِهِمْ وَوَرِثُوهَا، وإنْ فُرِّقَتْ عَلَى الرِّقَابِ فِهيَ لَهُمْ، إلَّا أنْ يَمُوتَ بِلا وَارِثٍ فَلِلْمُسْلِمِينَ، وَوَصِيَّتُهُمْ في الثُّلُثِ وَإنْ فُرِّقَتْ عَلَيْهَا أوْ عَلَيْهِمَا فَلَهُمْ بَيْعُهَا، وَخَراجُهَا عَلَى الْبَائِعِ، ولِلْعَنَوِيِّ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ إِنْ شُرِطَ، وَإلَّا فَلَا؛ كَرَمِّ المَنْهَدِمِ.
ولِلِصُّلْحِيِّ الإِحْدَاثُ (1)، وبَيْعُ عَرْصَتِهَا، أوْ حَائطٍ، لَا بِبَلَدِ الإِسْلامِ إلَّا لِمَفْسَدَةٍ أعْظَمَ. وَمُنِعَ رُكُوبَ الْخَيْلِ والْبِغَالِ والسُّرُوجِ وجَادَّةَ الطَّريقِ، وأُلْزِمَ
= وتؤوّل هذا على وجهين: الأول، إن معناه أن الأرض المفتوحة صلحًا، وعلى أن تكون لأهلها، وضرب عليها خراج معلوم، فهو جزية. فإذا أسلم أهلها سقط عنهم ذلك، كما تسقط الجزية عن أنفسهم، بخلاف ما إذا كان وقع الصلح على أن الأرض للمسلمين، فإنهم إذا أسلموا لا يسقط الخراج عمن يزرعها لأنه أجرة الأرض.
الوجه الثاني: هو أن الذميَّ إذا تم عليه الحول، فأسلم قبل أداء جزية ذلك الحول، تسقط عنه تلك الجزية، وهو محل خلاف؛ ذهب أكثرهم إلى سقوطها. وروي ذلك عن عمر. وقال الشافعي: لا تسقط بالإِسلام ولا بالموت؛ لأنه دين حل عليه أجله كسائر الديون.
(1)
وقوله: وللصلحي الإِحداث، قال الحطاب: في المدونة في كتاب الجعل والإِجارة: ولهم أن يحدثوها - أي الكنائس - في بلد صولحوا عليها. انتهى.
قال ابن عرفة: ويجوز لهم الإِحداث بأرض الصلح إن لم يكن بها معهم مسلمون، وإلا ففي جوازه قولان: القول بالجواز لابن القاسم، والقول بالمنع لابن الماجشون قائلًا: ويمنعون من رمّ قديمها إلا أن يكون شرطًا فيوفى. قال المواق: وتبين بهذا أن للصلحي الإِحداث - كرمّ المنهدم - على قول ابن القاسم. ا. هـ.
لطيفة: حكى الحطاب عن المتيطي أن الوليد بن عبد الملك هدم كنيسة للروم، كان أبوه قد أذن لهم فيها بوجه اقتضى ذلك، فكتب ملكهم إلى الوليد يقول: إن أباك قد أذن لنا في البناء لوجه اقتضى ذلك، وأنت هدمتها، فإما أن أباك كان مصيبًا وأخطأت، وإما أن تكون أصبت وأخطأ أبوك. قال: فأشكل على الوليد الجواب، وطلبه من أهل الفطنة، حتى تكلم في ذلك مع =
بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُ، وَعُزِّرَ لِتَرْكِ الزُّنَّارِ، وظُهُورِ السُّكْرِ وَمُعْتَقَدِهِ، وَبَسْطِ لِسَانِهِ، وأرِيقَتْ الخَمْرُ وَكُسِرَ الناقُوسُ، وَيَنْتَقِضُ بِقِتَالٍ، وَمَنْعِ جِزْيَةٍ، وتَمَرُّدٍ على الأحْكَامِ (1) وَبِغَصْبِ حُرَّةٍ مُسْلمَةٍ (2) وغُرُورِهَا، وتَطَلُّعِهِ عَلى عَوْرَاتِ المُسْلِمِينَ، وَسَبِّ نَبِيٍّ بِمَا لَمْ يَكْفُرْ بِهِ. قَالُوا: كَلَيْسَ بنبيٍّ. أوْ: لَمْ يُرْسَلْ. أوْ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، أوْ تَقَوَّلَهُ. أوْ عِيسَى خَلَقَ مُحَمَّدًا. أوْ: مِسْكِينٌ مُحَمَّدٌ يخْبِرُكُمْ أنَّهُ فِي الْجَنَّةِ،
= الفرزدق. فقال له: الجواب ما حكاه الله في قصة سليمان وداود. قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
(1)
. الآية، فاستحسن الوليد ذلك، وأتحفه بهدية. وحاصل هذا الجواب هو أنا لا نسلم انحصار القسمة في إصابة أحدهما وخطإ الآخر، حتى تكون قضية مانعة الجمع والخلو، وذلك لجواز إصابتهما معًا؛ لنظر ورأي رآه كل منهما. ا. هـ.
(1)
وقوله: وينتقض بقتال ومنع جزية ألخ. نقل المواق عن ابن رشد قال: اتفق أصحاب مالك على اتباع قوله في أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد، ومنعوا الجزية، وخرجوا من غير عذر، أنهم يصيرون حربًا وعدوًا، فيسبون ويقتلون إلا على شروط. أشهب: وما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر؛ وذلك كالصلح ينعقد من أهل الحرب على شروط، فإذا لم يوفوا بها انتقض الصلح. ا. هـ. قال: وينقض العهد بالتمرد على الأحكام الشرعية، ومنع الجزية.
(2)
وقوله: وغصْب حرة مسلمة، فقد قتل عمر رضي الله عنه نصرانيًا اغتصب مسلمة. قال ابن حبيب: وصداقها في ماله، والولد مسلم لا أب له.
وقوله: وتطلعه على عورات المسلمين، نقل المواق عن سحنون قال: إن وجدنا بارض الإِسلام ذميًا، كاتب أهل الشرك بعورات المسلمين، قتل ليكون نكالًا لغيره.
وقوله: وسب نبي، نقل المواق عن عياض: وأما الذمي إذا صرح بسبه، أو عرض، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم. قال مالك وغيره فيمن شتم نبينا صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من الأنبياء: قتل إلا أن يسلم. ا. هـ.
(1)
سورة الأنبياء: 79.
مَالَهُ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَهُ حِينَ أكَلَتْهُ الكِلَابُ؟. وَقُتِلَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَإِنْ خَرَجَ لِدَارِ الْحَرْبِ، وَأُخِذَ اسْتُرِقَّ إِنْ لَمْ يُظْلَمْ، وَإِلَّا فَلَا؛ كَمُحَارَبَتِهِ، وإنْ ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ وحَارَبُوا، فكالمُرْتَدِّينَ. ولِلإِمَامِ الْمُهَادَنَةُ لِمصْلحَةٍ إنْ خَلَا عَنْ كَشَرْط بَقَاءِ مُسْلِمٍ (1) وَإنْ بِمَالٍ إلَّا لِخَوْفٍ وَلَا حَدَّ.
(1)
وقوله: وللإِمام المهادنة لمصلحة، ويجوز للإِمام أو نائبه فقط المهادنة؛ وهي صلح الحربي على ترك قتاله مدة، ليس هو فيها تحت حكم الإِسلام، فخرج الأمان والاستئمان. ومن شرط المهادنة خلوها من شرط فاسد؛ كشرط ترك مسلم في أيديهم. قال ابن شاس: لا يحل شرط ذلك في رجال ولا نساء، فإن وقع لم يجز ردهما. قال ابن العربي: وفعله صلى الله عليه وسلم ذلك خاص به؛ لما علم في ذلك من الحكمة وحسن العاقبة. وقال المازري: لا يهادن العدو بمال يعطى له؛ لأن ذلك عكس مصلحة أخذ الجزية منهم، إلا لضرورة التخلص من خوف استيلاء العدو على المسلمين. قال: ولو لم يكن ذلك جائزًا ما شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعطاء المشركين يوم الأحزاب. ولا حد لمدة الهدنة عند أصحابنا، فهي حسب نظر الإِمام، غير أنه يندب أن تزيد عن مدة أربعة أشهر لقوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}
(1)
. وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية مهلة أربعة أشهر.
وقوله: وإن استشعر - من قوم - خيانتهم نبذهم وأنذرهم ووجب الوفاء، قال البغوي: وإذا هادن الإِمام قومًا، فليس له أن يسير إليهم قبل انقضاء المدة، فيحل بساحتهم، حتى إذا انقضت المدة أغار عليهم، وذلك بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود في الجهاد وإسناده صحيح وأخرجه أحمد، وهو من حديث عمرو بن عنبسة.
فإن أحسَّ منهم خيانة قبل انقضاء المدة، نبذ إليهم على سواء، أي أعلمهم أنه يريد غزوهم، وإن الصلح الذي كان قد ارتفع، فيكون الفريقان في علم ذلك على سواء. فإن نقض أهل الهدنة عهدهم جاز للإِمام أن يسير إليهم على غفلة منهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. ودليل
(1)
سورة التوبة: 2.
وَنُدِبَ أنْ لَا تَزِيدَ عَلَى أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وإنِ اسْتَشْعَرَ خِيانَتَهُمْ نَبَذَهُ وَأنْذَرَهُمْ. وَوَجَب الْوَفَاءُ وإنْ بِرَدِّ رَهَائِنَ وَلَوْ أسْلَمُوا؛ كَمَنْ أسْلَمَ وَإنْ رَسُولًا إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَفُدِيَ بِالْفَيْءِ، ثُمَّ بِمَالِ المُسْلِمينَ، ثُمَّ بِمَالِهِ وَرَجَعَ بِمِثْلِ المِثْلِيِّ وقيمَة غَيْرِهِ عَلَى المليء والمُعْدِمِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ صَدَقَةً، وَلَمْ يُمْكِنِ الخَلَاصُ بِدُونِهِ إلَّا مَحْرَمًا أوْ زَوْجًا، إنْ عَرَفَهُ أوْ عَتَقَ عَلَيْهِ، إلَّا أنْ يأمُرهُ بِهِ وَيَلْتَزِمَهُ.
نبذ العهد - إن استشعر منهم الخيانة - هو قوله تعالى في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}
(1)
.
وقوله: ووجب الوفاء وإن بردّ رهائن ولو أسلموا؛ كمن أسلم وإن رسولًا إن كان ذكرًا، يريد به - والله أعلم - أن الإِمام يجب عليه الوفاء لهم بما عاهدهم عليه، وإن كان ذلك العهد برد كفار رهائن عندنا، باقين على كفرهم، بل ولو أسلموا. وهذا قول مالك وابن القاسم، خلافًا لابن حبيب، وكذا يرد إليهم من أسلم عندنا منهم ولم يكن رهنًا، ولو كان ذلك الذي أسلم رسولًا لهم أرسلوه إلينا. ومحل وجوب الوفاء برد هؤلاء، هو كونهم ذكورًا، فإن كانوا إناثًا؛ فلا ترد الإِناث المسلمات إليهم ولو شرطوا ردهن لقوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
(2)
. الآية. وأما دليل رد رسولهم إليهم ولو أسلم، هو ما روي عن أبي رافع قال: أقبلت بكتاب من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقي في قلبي حب الإِسلام، فقلت: يا رسول الله، والله لا أرجع إليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ وَلكِنْ ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ". أخرجه أبو داود. قال شعيب: وإسناده صحيح.
تنبيه: ومن دخل إلينا رسولًا منهم فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لابن النواحة:"لَوَلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ". أخرجه أحمد وأبو داود. قال شعيب: وإسناده حسن. والله الموفق.
تتمَّةٌ: في بعض آداب القادم من السفر، فإن من ذلك أن المسافر إذا طال سفره، كان من آدابه أن لا يأتي أهله ليلًا؛ وذلك للحديث المتفق عليه، من حديث جابر بن عبد الله رضى الله =
(1)
سورة الأنفال: 58.
(2)
سورة الممتحنة: 10.
وَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ فِي غَيْرِ مَا بِيَدِهِ عَلَى الْعَدَدِ، إنْ جَهِلُوا قَدْرَهُمْ، وَالْقَوْلُ لِلأسِيرِ فِي الفِدَاءِ أوْ بَعْضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ. وَجَازَ بالأسْرَى المقَاتِلَةِ وَالْخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ على الأحْسَنِ، ولا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى مُسْلِمٍ. وفي الْخَيْلِ وآلَةِ الحَرْبِ قَولان.
= عنهما. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ عَنْ أَهْلِهِ فَلَا يَأْتِي أَهْلَهُ طُرُوقًا". وفي لفظه آخر عنه رضي الله عنه، وهو متفق عليه أيضًا، قال: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا، فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمَغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ".
قلت: وقد تقدمت إشارة المختصر إلى هذا الفرع في كتاب الصلاة؛ في صلاة المسافر، وهو قوله: وندب تعجيل الأوبة والدخول ضحى، يريد بذلك الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، فقد روى أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله. كان لا يدخل إلا غدوة أو عَشيةً. متفق عليه.
ومن آداب القادم من السفر، عمل وليمة يأكل منها من حضر، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورًا أو بقرة. وقال معاذ عن شعبة: فلما قدم صرارًا أمر ببقرة، فذبحت، فأكلوا منها، رواه البخاري. قال شعيب: وصرار موضع بظاهر المدينة على ثلاث أميال منها إلى جهة المشرق.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر ضحى، دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس. متفق عليه من حديث كعب.
ومن آداب المسافر إذا همّ بالخروج في بعض شأنه، أن يخرج يوم الخميس؛ لما ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس. رواه عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه.
ويكره للمسافر السير أول الليل؛ لما رواه جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُرْسِلُوا مَواشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْعَثُ جُنودَهُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ". رواه مسلم. وفي الحديث: "عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ". رواه أبو داود، وسنده مقال، لكن صححه الحاكم، وأقره الذهبي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويستحب البكور في السفر؛ لما روى البغوي بسنده عن صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأمَّتِي فِي بُكُورِهَا". قال البغوي: وزاد بعضهم في الحديث عن هشيم: وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم في أول النهار. وهذا الحديث أخرجه الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، كلهم عن يعلى بن عطاء، عن عمارة بن حديد، عن صخر الغامدي. وعمارة بن حديد متكلم فيه.
ويكره للمسافر أن يسافر وحده؛ لما روي عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ". أخرجه البخاري، وفي الموطإ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ". هذا، وفي الباب زيادة لمن أراد الوقوف عليها بالمطولات. والله الموفق.
باب المسابقة
(1)
الْمُسَابَقَةُ بِجُعْلٍ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَبَيْنَهُمَا والسَّهْمِ (2)، إِنْ صَحَّ بَيْعُهُ. وَعُيِّنَ الْمَبْدَأُ والْغَايَةُ، والْمَرْكَبُ، والرَّامِي، وعَدَدُ الإِصابَةِ، وَنَوْعُهَا مِنْ خَزْقٍ أوْ غَيْرِهِ. وأخْرَجَهُ مُتَبَرِّعٌ أوْ أحَدُهُمَا، فإنْ سَبَقَ غَيْرُهُ أخَذَهُ، وَإِنْ سَبَقَ هُوَ فَلِمَنْ حَضَرَ، لَا إنْ أخْرَجَا لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ، ولو بِمُحَلِّلٍ يُمْكِنُ سَبْقُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ السَّهْمِ وَالْوَتَرِ، وَلَهُ مَا شَاءَ، وَلا مَعْرِفَةُ الجَرْيِ والرَّاكِبِ.
(1)
يقال السبْقُ - بسكون الباء - والسبَقُ - بفتح المهملة والموحدة - فالذي بسكون الباء هو المصدر، والذي بفتحها هو الذي يوضع لذلك. قال ابن قدامة: السبق بسكون الباء المسابقة، والسبقُ بفتحها الجعل المخرج في المسابقة.
(2)
وقوله: المسابقة بجعل في الخيل والإِبل وبينهما والسهم، نقل المواق، قال أبو عمر: جواز المسابقة مما خص من باب القمار، ومن باب تعذيب البهائم للحاجة إلى تأديبها وتدريبها. والمسابقة جائزة باتفاق على الرهان وعلى غير رهان. وهي على ثلاثة أوجه: وجه جائز اتفاقًا؛ وهو أن يُخرج أحد المتسابقين جعلًا، لا يرجع إليه بحال، ولا يخرج من سواه شيئًا، فإن سبق غير من أخرج الجعل كان الجعل للسابق، وإن سبق من أخرج الجعل كان الجعل طعمة لمن حضر، وإن كانوا جماعة كان الجعل لمن جاء سابقًا بعده منهم. ومثل هذا الوجه في الجواز إخراج الإِمام الجعل، فيجعله لمن سبق من المتسابقين، فهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم.
ووجه لا يجوز باتفاق؛ وهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين جعلًا على أنه من سبق أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه. فهذا لا يجوز باتفاق؛ لأنه من الغرر والقمار والميسر.
ووجه اختلف فيه أصحابنا؛ وهو أن يخرج كل منهما شيئًا، مثل ما يخرجه صاحبه، ويدخلان بينهما محللًا لم يخرج شيئًا، وتكافئ فرسه فرسيهما، على أن من سبق من الثلاثة أخذ الجميع. فهذا لا يراه مالك، وقد أجازه الجمهور لما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ =
ولم يُحمَل صَبِيٌّ ولَا اسْتِوَاءُ الجُعْلِ أوْ مَوْضِعُ الإِصَابَةِ أوْ تَسَاوِيهِمَا وَإِنْ عَرَضَ لِلْسَّهْمِ عَارِضٌ أو انْكَسَرَ، أو للْفَرَسِ ضَرْبُ وَجْهٍ، أَوْ نَزْعُ سَوْطٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا، بِخِلَافِ تَضيِيعِ السَّوْطِ أوْ حَرَنِ الفَرَسِ، وجَازَ فيما عَدَاهُ مَجَّانًا، والافْتِخَارُ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَالرَّجَزُ والتَّسْمِيَةُ والصّياحُ، والأحَبُّ ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى، لَا حَدِيثُ الرَّامِي، وَلَزِمَ الْعَقْدُ كالإِجَارَةِ.
= يَسْبِقَ فَلَا بَأْسَ بِهِ". وفي بعض الروايات: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرسَيْنِ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أمِنَ أنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ".
قال القرافي: المسابقة مستثناة من ثلاث قواعد: من القمار، وتعذيب الحيوان لغير أكله، ومن حصول العوض والمعوض لشخص واحد.
(2)
وقوله: في الخيل والإِبل والسهم، قال الحطاب: لما كانت هذه الأشياء مما يستعان بها على الجهاد في سبيل الله، الذي هو الطريق إلى إظهار دين الله ونصرته، جاز لما فيه من منفعة الدين، وما يؤدي إلى عبادة، أو يستعان به في عبادة، فهو عبادة. وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتصفين من الرجال بأوصاف الكمال، إذْ بالناس حاجة إليه، فقال:"مَنْ رَكِبَ وَعَامَ وَخَطَّ وَخَاطَ وَرَمَى بالسِّهَامِ فَذلِكَ نِعْمَ الْغُلَامُ". وقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُوهُ الْمُؤْمِنُ فَهُو بَاطِلٌ إِلَّا لَهْوَهُ بِفَرَسِهِ أَوْ قَوْسِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ". ا. هـ. من الحطاب. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَو خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ". قال البغوي: هذا حديث صحيح. وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت، من الحيفاء إلى ثنية الوداع، وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وكان عبد الله فيمن سابق بها. متفق عليه.
وعن أنس بن مالك قال: كانت العضباء لا تُسبقُ، فجاء أعرابي على قَعُودٍ فسابقها فسبقها، فاشْتَدَّ ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْتَفِع مِنَ الدُّنْيا شَيْءٌ إِلَّا وَضَعَهُ". أخرجه البغوي في صحيحه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما الرمي، ففي صحيح مسلم، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
(1)
. الآية. "أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ". أخرجه في بلوغ المرام وقال: رواه مسلم. وقد أفاد هذا الحديث تفسير القوة في الآية بالرمي بالسهام؛ لأن ذلك هو الرمي المعتاد في عصر النبوة.
قلت: وإذا كان العلة في استحباب الرمي بالسهم إعداد القوة للجهاد في سبيل الله، فإنه - بتحقيق المناط - يشمل الرمي بالبنادق للتدريب على الجهاد، وإعداد النفس لذلك. فيؤخذ من الحديث شرعية التدريب على الرمي بالبنادق الخفيفة والرشاشة، بل وعلى الإِصابة في المدافع الثقيلة، وعلى استعمال الدبابات الثقيلة، وعلى الطائرات المقاتلة الاعتراضية والهجومية، وعلى استعمال وسائل الدفاع الجوية، والتدريب على إصابة الأهداف بالقذائف، سواء كانت أرض - جو، أو كانت أرض - أرض أو كانت جو - جو. لكنه مع الأسف قل من يتدرب على ذلك اليوم ممن يلاحظ التعبد به. والله المستعان. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وروى الدارقطني بسنده في صفة المسابقة حديثًا عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"يَا عَلِيُّ قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ هذِهِ السَّبْقَةَ بَيْنَ النَّاسِ". فخرج علي رضي الله عنه، فدعا سراقة بن مالك، فقال: يا سراقة، إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت الميطان، فصُفَّ الخيل ثم نادِ ثلاثًا: هل من مصلح للجام؟. أو حامل لغلام؟. أو طارح لجل؟. فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثًا، ثم خلها عند الثالثة، يسعد الله بسبقه ما شاء من خلقه. فكان علي يقعد عند منتهى الغاية، ويخط خطًا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط، طرفه بين إبهامي أرجلهما، وتمر الخيل بين الرجلين، ويقول لهما: إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه يطرف أذنيه، أو أذن أو عذار، فاجعلوا السبقة له، فإن شككتما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من أصغر الثنتين. ولا جلَبَ ولا جنب، ولا شغار في الإِسلام. قال ابن قدامة: وهذا الأدب الذي ذكره في هذا الحديث، في ابتداء الإِرسال وانتهاء الغاية، من أحسن ما قيل في هذا. وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قضية أمره =
(1)
سورة الأنفال: 60.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوضها إليه، فينبغي أن يتبع ويعمل بها.
فائدة: وهذه أسماء خيل الحلبة: الأول هو المُجَلِّي - والثاني: المُصَلِّي. والثالث: التَّالي. والرابع: النَّازِعُ. والخامس: المُرْتاحُ. والسادس: الحَظِيُّ. والسابع: الْعَاطِفُ. والثامن: المؤمِّلُ. والتاسع: اللِّطِيمُ. والعاشر: السُّكَيْتُ، والأخير: الْفِشْكِلُ.
لطيفة: يحكى أن أسماء بنت عميس لما تزوجها عليٌّ رضي الله عنه ومعلوم أنها كانت قبله تحت أبي بكر رضي الله عنه، فولدت منه محمد بن أبي بكر. وكانت قبل ذلك تحت جعفر بن أبي طالب، فولدت منه محمدًا وعبد الله وعونًا، فلما تزوجها علي رضي الله عن الجميع - قالت له: إن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار. فقال علي لابنيها: إن أمَّكم فَشْكَلَتْنِي. يريد: جعلتني آخر خيل الحلبة. وقد احتج بهذه الحكاية من يقول: أن هذه الأوصاف ليست خاصة بخيل الحلبة. ومعلوم أن أسماء بنت عميس ولدت لعلي يحيى بن علي رضي الله عن الجميع.
تنبيه: قال ابن قدامة في المغني: يشترط لصحة المسابقة في الرمي شروط: منها أن يكون عدد الرِّشْق معلومًا - يريد عدد الرمي - لأنه لو كان ذلك مجهولًا لأفضى إلى الخلاف. ومنها أن يكون عدد الإِصابة معلومًا؛ بأن يتفق الجميع بأن من أصاب خمس مرات من عشرين مثلًا. ومنها: أن يتفق المتسابقان أو المتسابقون، على أن أي واحد فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين مثلًا من عشرين طلقة فقد سبق.
والرابعة: في وصف الإِصابة؛ كأن يتفقا على أن تكون الإِصابة قرطسة، وأن الحوابي لا تعد إصابة. يقال قرطس: إذا أصاب الهدف مباشرة. ويقال حوابي: إذا وقع بين يدي الهدف، ثم وثب إليه.
والخامس: في وصف الهدف والاتفاق على حجمه ونوعه، ويسمى هدفًا، وغرضًا، ويسمى أيضًا شَارة.
والسادس: معرفة البعث والاتفاق على قدره، ومهما اتفقا عليه جاز.
والسابع: تعيين المشاركين في المسابقة من الرماة، فلا يصح مع الإِبهام، لأن الغرض معرفة حذف الرامي بعينه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الثامن: أن تكون المسابقة معقودة على الإِصابة، لا على بعد الرمية، لأن الغرض من الرمي إما قتل العدو أو جرحه، أو الصيد أو نحو ذلك.
قال: والمناضلة على ثلاثة أضرب:
الأول يُسمى المبادرة، وهو أن يقولا: من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية مثلًا هو السابق، فأيهما سبق إليها هو السابق. وإن أصاب كل منهما خمسًا من عشرة فقد سبق كل منهما ولا حاجة إلى إتمام الرشق.
الثاني: أن يقولا: أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين رمية فقد سبق. ويسمى هذا الضرب منها المفاضلة.
والضرب الثالث أن يقولا: أينا أصاب خمسًا من عشرين، فهو السابق. فمتى أصاب أحدهما خمسًا من العشرين، ولم يصبها الآخر، فالأول السابق. وهذه هي المحاطة، ويلزم فيها إتمام الرشق ما دام في إتمامه فائدة. فهذه نبذة مختصرة من أحكام المناضلة، وهي المسابقة في الرمي. ومن أراد الوقوف على أكثر من ذلك فليرجع إلى مغني ابن قدامة. والله الموفق.
* * * * *
هنا انتهى الجزء الثاني من مواهب الجليل من أدلة خليل، ويليه بإذن الله تعالى الجزء الثالث أوله كتاب النكاح: باب خُصّ النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى ألخ. . والله حسبنا ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه.